سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : [قم]: الجماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامی ، 1412ق. = 1370 -

فروست : موسسه النش ر الاسلامی التابعه لجماعه المدرسین بقم المشرفه ؛ 390 ، 391.

شابک : دوره 964-470-396-0 : ؛ 28000 ریال : ج.1 964-470-716-8 : ؛ 45000 ریال (ج.1، چاپ دوم)

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : ج.1 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : کتابنامه.

شناسه افزوده : جامعه مدرسین حوزه علمیه قم. دفترانتشارات اسلامی

رده بندی کنگره : BP22/9 /س 2س 9 1370

رده بندی دیویی : 297/93

شماره کتابشناسی ملی : م 71-1146

الجزء الاول

[المقدمات]

[مقدمة الناشر]

بسم اللّه الرحمن الرحيم لم تزل السيرة المحمّدية العطرة في جميع أبعادها موضع اهتمام الامة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الاسلام العظيم، و منذ الأيام الأولى من البعثة النبوية الشريفة.

و لا غرو فقد كان الرسول الأكرم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجسد بسيرته المثلى قيم الدين و يمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن، و يعكس بمواقفه الرشيدة و بإدارته الحكيمة لشؤون الامة طريقة الاسلام في إداره دفة الحياة.

هذا مضافا إلى أنه كان القدوة التي أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها، و اقتفاء أثرها، كما أنه كان الظاهرة الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع و الانسانية الشفافة و العاطفة الصادقة و الرحمة و اللطف، و غيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الاسلام الاولى إليه و تتعطش إلى مثله.

من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل حركات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سكناته، و يتأمّلون في جميع أعماله و تصرّفاته فاذا رأوا منه خلقا بادروا إلى تكراره في سلوكهم، و اذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم، و عمدوا

في المال إلى تسجيل كل صغيرة و كبيرة في هذا المجال، و ضبط كل دقيقة و جليلة في هذا الصعيد.

و فعلا كانت هذه السيرة الطيّبة العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين، و هي سرّ تقدّمهم، و هي رمز عظمتهم و سموّهم، و علوّ شأنهم و شأوهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:4

و لا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم قادرة على أن تكون ضوء المسيرة، و مشعل الطريق، و منهج العمل و مفتاح الانتصار في معركتنا ضدّ قوى الشرّ و الطغيان.

و حيث إن امورا أقحمت في هذه السيرة، كما أنّ تطور الزمن و كيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة تتناول البعد الذاتي و الرساليّ و السياسيّ و القياديّ و العسكريّ لسيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله بالتحقيق و التحليل، و تتناسب مع حاجة العصر و لغته، لهذا رأت مؤسسة النشر الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة و للمسلمين عامة هذه الدراسة القيامة في سيرة خاتم الأنبياء محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا تسأمها بكثير من هذه المواصفات.

و الدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الذي عرف في الأوساط الاسلامية بتحقيقاته العميقة في الكتاب و السنّة و العقيدة و التاريخ.

و في الوقت الذي تقوم به المؤسسة- و للّه الحمد- بطبع هذه الدراسة القيامة و نشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها و امتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من تعريبها و استخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له و لسماحة الشيخ المحاضر و لها المزيد من التوفيق، كما و تدعو المولى عزّ و علا أن يتقبّل منا جميعا و أن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم و آله الأطهار عليهم السّلام

في يوم الحشر إنه خير موفّق و معين.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:5

[مقدمة المترجم]

السيرة المحمّدية مدرسة الأجيال

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» القرآن الكريم

النبيّ الأكرم «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله اسوة للمسلمين ... اسوة يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم: الفردية و الاجتماعية، و السياسية ... اسوة إلى الأبد ... في كل زمان و مكان، في كل عصر و مصر، لجميع المسلمين من كل لون و لغة.

و لكن كيف يتأسّى المسلمون- في مختلف الأجيال و الأدوار- برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كيف يقتدون بسيرته المثلى، و يهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلّا إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها، و تفاصيلها، و في جميع مجالاتها و نواحيها، مدوّنة مسجّلة، بل و محلّلة تحليلا دقيقا و عميقا.

من هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوّن، مشفوع بالتحليل الدقيق، و الدراسة الموضوعية لشخصية و سيرة سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله في كافة مجالاتها الشخصية و الرسالية و السياسية و العسكرية.

حقا إن في حياة رسول الإسلام العظيم «محمّد بن عبد اللّه» صلّى اللّه عليه و آله- كما هو واضح لمن تتبع و تصفح- امورا دقيقة، و لكن بالغة العظمة في مداليلها و معانيها، بالغة الأهميّة في معطياتها و دروسها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:6

فرسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء، و رسالته و شريعته خاتمة الرسالات و الشرائع و نهضته هي النهضة الكبرى التي مهّد لها الأنبياء السابقون، و قد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة جديدة في حياة البشرية، و غيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييرا جذريا، و أسست حضارة كبرى لا تزال أمواجها- رغم مرور أربعة عشر قرنا-

حية نابضة، فاعلة، تهز الضمائر، و تتفاعل مع العقول.

و لهذا فإنّ السيرة المحمّدية مشحونة بالمناهج و الدروس، زاخرة بالبصائر و العبر، بقدر ما هي مليئة بالدقائق و الحقائق، و اللطائف و الاسرار.

حقا إن حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن، و كلما تقدمت العلوم و المعارف، و تطورات الحياة، و انفتحت أمام البشرية آفاق جديدة في شتى الأصعدة و المجالات.

و لا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا بسيطا و مهمّة سهلة، و خاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاولى من تصحيف او تحريف او تشويه للحقائق، او تغيير للامور.

فان هذه المهمة تحتاج- في ما تحتاج إليه- إلى ثلاثة أشياء أساسية:

1- عقلية متفتحة، متدبرة، نافذة متأنية.

2- جهود كبيرة، و تتبع واسع، و تمييز للصحيح عن السقيم، و الدخيل عن الاصيل.

3- معرفة بجوانب تتصل بالسيرة المحمّدية اتصالا وثيقا كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة، و مفيدة للسيرة المحمّدية المباركة، صورة تتفق مع روح القرآن، و تلتقي مع الواقع، و تصلح للاتساء، و الاقتداء، و الاهتداء و الاقتفاء.

و لقد توفرت هذه الشروط- و للّه الحمد- في استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني، حفظه اللّه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:7

فهو المعروف بسلسلته القرآنية «مفاهيم القرآن» التي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز، و إلمام قليل النظير بمفاهيمه.

كما عرف بأعماله الفكرية الناضجة المتنوعة الكاشفة عن عقلية متفتحة، واعية و معاصرة.

و لهذا كان خير من قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمّدية الطاهرة العبقة، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر: العقلية المتفتحة،

و المعرفة الواسعة بالقرآن الكريم و خاصة في ما يتّصل بالرّسول الأكرم، إلى جانب التتبع الواسع و الاستقصاء الكبير لمواقع العبرة و الاسوة في حياة خاتم الأنبياء و سيّد المرسلين.

و لا أجدني- في هذا التقديم العابر- بحاجة إلى ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية و حياة رسول الإسلام، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتى لا يفوته شي ء ممّا لا يفوّت، و سيقف بنفسه أيضا على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد، و روعة ما ضمّنت من تحليل، و أهمية ما احتوته من حقائق.

و في الختام اسأل اللّه العلي القدير ان يتقبل منا جميعا هذا الجهد، و يجعله ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، انه خير معين.

قم جعفر الهادي 30 شعبان 1409 هجرية

سيد المرسلين ،ج 1،ص:9

مقدّمة المحاضر
التاريخ في أعظم حماساته

* مختبر «الحياة» العظيم.

* «لقد عمّرت مع أولهم الى آخرهم!».

* حياة العظماء، و الخالدين.

* عند ما يلتقى العالم الحاضر بالعالم الغابر.

* التاريخ بين التسجيل

* أخطاء المستشرقين العجيبة.

(1) يحاول الإنسان دائما أن ينظر إلى كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس، و إن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي، لأنّ أوثق المعلومات لديه هي تلك التي تتألف من هذه «المعلومات الحسية» و لهذا فإن المسائل التي تحظى بأدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطا اكبر من ثقة الانسان، و تصديقه.

و على هذا الاساس عمد العالم اليوم الى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية، و يعكف العلماء في هذه المختبرات على دراسة و تحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص و طريقة معينة.

و لكن هل يمكن- ترى- أن تدخل المسائل و القضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، و تخضع

للمجهر و الميكرسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلا؛ هل يمكن أن نعرف عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:10

الاختلاف و التشرذم في المجتمع الواحد، و ما يصيب شعبا من الشعوب أو أمة من الامم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييم ما تنتهي إليه جهود المستعمرين، أو ما يؤول إليه الظلم و الحيف، من خلال تجربة حسية؟

أم هل يمكن الوقوف على نتائج «الاختلاف الطبقيّ»، و «التمييز العنصريّ» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

(1) في الاجابة على كل هذه الاسئلة يجب أن نقول: كلا مع الاسف.

و ذلك لأنّه لا توجد للقضايا الاجتماعية- رغم أهميتها القصوى- مثل هذه المختبرات، و حتى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل و تقييم و دراسة القضايا الاجتماعية، فان إنشاءها و إيجادها يكلّف نفقات باهضة، و تستدعي جهودا عظيمة.

و لكنّ الأمر الذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئا يسمى ب: «تاريخ الماضين» و الذي يشرح لنا ما كان عليه البشر- أفرادا و جماعات- طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الارض، كما و يعكس مختلف الذكريات و الخواطر عنهم، من انتصارات و هزائم،.

و نجاحات و انتكاسات، و يوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الامم و الشعوب من حوادث مرة او حلوة.

إنّ التاريخ يذكر لنا: كيف وجدت الحضارات المشرقة و المدنيات العظمى في العالم، و كيف سلكت- بعد مدة- طريق السقوط و الانقراض، حتى أنها قد محيت عن صفحة الوجود بالمرّة، و اصبحت خبرا بعد أثر، و بالتالي ما هي العوامل التي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين و تاريخهم يحتفظ لنا في

صفحاته بقسط كبير و مهمّ جدا من هذه الحوادث، و لهذا صح أن يقال: «التاريخ مختبر الحياة العظيم»، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية، و دراستها و استخلاص النتائج و العبر المفيدة منها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:11

(1) و إنّ من حسن الحظ أننا لم نكن أول من حطّ قدمه على هذا الكوكب، فهذه الارض بسهولها و شعابها العريضة، و تلك السماء بنجومها و كواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الارض من قبلنا، و شهدتا افراحهم و اتراحهم، همومهم و غمومهم، حروبهم، و مصالحاتهم، و كل ما رافق و اكتنف حياتهم من حبّ و بغض و ظلمات و أنوار، و ارتقاء و هبوط، إلى غير ذلك من شئون و شجون الحياة البشرية التي يزخر بها تاريخ الشعوب و الاقوام و الامم.

صحيح أنهم قد اختلفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، و غابوا جميعا- أشخاصا و أسرارا- في بحر من النسيان و انسدل عليهم الستار، إلّا أن قسطا ملفتا للنظر و جملة يعتد بها من تلك الامور إما أنها قد دوّنت بأيدي أصحابها، أولا تزال طبقات الارض و بطون التلال تحتفظ بها في ثناياها و طياتها، كما و لا تزال ذات الاطلال الصامتة- في ظاهرها- تشكل أضخم متحف، و اغنى معرض، و اكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ و يحكي وقائعه و أحداثه، و يشرح رموزه و أسراره.

إنّ مطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الامم الغابرة في الكتب، او في الاطلال العظيمة، أو في ما يعثر عليه المنقّبون في بطون التلال، و ثنايا الارض تعلّمنا امورا كثيرة، و تضيف إلى عمرنا عمرا جديدا و زمنا اضافيا، لا يستهان به و ذلك بما تقدم لنا من الخبرة و

العبرة، و الهدى و البصيرة.

أ ليست حصيلة العمر ما هي إلّا ما استفاده المرء من تجارب؟ أ لا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟

(2) و لقد اشار الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في وصية لولده الى هذه الحقيقة حيث قال:

«أي بنيّ! إنّي و إن لم اكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم و فكّرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأنّي بما انتهى إليّ من امورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم» «1».

______________________________

(1). نهج البلاغة، قسم الرسائل. رقم 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:12

(1) و لكنّ المؤسف أن كتب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة الى العبر و الدروس الاجتماعية المفيدة، لأن هذه المصنفات لم تدوّن لأجل هذا الغرض، و لهذا اغفل فيها- في الاغلب- كل ما هو مؤثر في كشف الحقائق التاريخية، و إبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوعة و الوقائع المختلفة، و بالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب و الدراسات ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلّ الرموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري، و اعتنت- بدلا عن ذلك- بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثير من المؤرّخين لتدوين و تسجيل القضايا التاريخية، تارة بهدف التسلية و اخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم او طوائفهم، و اظهار تفوقها على الاقوام و الطوائف الاخرى، و ثالثة بدافع الحب و البغض، او التعصب لهذا أو ذاك و لهذا عجزت هذه المؤلفات و الكتب عن حل أية مشكلة، و تبديد أية حيرة، بل هي تزيد المرء ضلالا إلى ضلال، و حيرة الى حيرة!

و لكن رغم كل هذا يستطيع اولو النباهة و البصيرة، و اصحاب الفهم و التحقيق ان يتوصلوا- من خلال

مطالعة هذه المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب و نقائص، و مع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة- إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار و خلفيات القضايا و الامور المتعلقة بالشعوب الماضية، تماما كما يفعل الطبيب الحاذق، او القاضي البارع الذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة، التوصّل إلى اكتشاف نوع «المرض» أو حالة «المتهم» الحقيقية، و ما يعاني منه في واقعه النفسي.

(2) إنّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك التي تعكس لنا حياة العظماء و سيرة الرجال الخالدين، و تبحث عنها بصدق و امانة و موضوعية.

إنّ لحياتهم أمواجا خاصة، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقا، و كذلك كان كل ما يرتبط بهم، و من ذلك تاريخهم، إنه شي ء عظيم يستحق التأمّل و التدبر، فهو يتسم بلمعان يلفت الأنظار، و يخلب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:13

الالباب و إنّه غني بالعظات و العبر، زاخر بالبصائر و الدروس و الى درجة لا توصف.

إنهم معجزة الخليقة بلا ريب، و إن حياتهم لهي- في الحقيقية- ملحمة التاريخ الكبرى، و ساحة البطولات الخالدة، و مسرح الحماسات العظمى، الحية النابضة على مر العصور، و الايام.

لقد كان اولئك العظماء يعيشون في الاغلب على خط الثورات و التغييرات الاجتماعية الاول (و بعبارة أصح) كانت الثورات و التحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم و تتجسد في مواقفهم، و لهذا كانوا يشكلون- في واقع الأمر- حلقة الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة، و كانت حياتهم الحافلة بالاحداث شاهدة للألوان المختلفة و المشاهد المثيرة المتنوعة.

(1) و على رأس اولئك الرجال التاريخيين و العظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانه لم تتسم حياة أحد- من حيث

و فرة الاحداث، و عظمة الأمواج، كما اتسمت به حياته صلّى اللّه عليه و آله و لا اتصفت شخصية بمثل ما اتصف به ذلك النبي العظيم.

فلم يستطع احد سواه أن يؤثّر في بيئته، ثم في جميع العالم، و ينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة و السعة التي حصلت له صلى اللّه عليه و آله.

و لم يوجد أيّ واحد منهم قط من مجتمعة المنحطّ المتخلّف، حضارة بتلك العظمة و الشموخ، كما فعله رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله- و تلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق و الغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة و حياة هذا الإنسان العظيم، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير، و أن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع و منتهى الفائدة.

إن مشاهد عجيبة مثل الأيام الاولى من بناء الكعبة المعظمة، و استيطان اسلاف النبي الكريم «مكة» و هجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم، و الاحداث و الملابسات المرافقة لمولد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:14

كما و إن مشاهد محزنة مثل وفاة «عبد اللّه» و «آمنة» والدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

و مشاهد عظيمة و مهيبة و حافلة بالاسرار مثل الايام الاولى من نزول الوحي، و ما جرى في جبل «حراء» و ما تبعه من مواقف الاستقامة و المقاومة التي ابداها و اتخذها رسول اللّه و اصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاما، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة، و مكافحة الوثنية و الجاهلية.

و كذا مشاهد مثيرة و ساخنة و حماسية مثل وقائع السنة الاولى من الهجرة المباركة و ما عقبتها من حوادث و مواقف.

(1) و لقد الّفت حول حياة رسول

الإسلام أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتب و رسائل و دراسات كثيرة بحيث لو أتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة و ضخمة.

و يمكن القول- بشكل قاطع- بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ و المؤرخين و المفكرين العالميين الكبار، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون و الباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات و المصنفات، و الرسائل و الكتب، كما حصل لرسول الإسلام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) إلّا أن أكثر هذه الكتب و المؤلفات تعاني من أحد إشكالين: إما أن الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث، أو النصوص التاريخية، من دون أن يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها، و دراسة خلفياتها و نتائجها، و إصدار الحكم اللازم فيها، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية و اسبابها، و ثمارها و معطياتها كذلك.

أو أن المؤلّف- في بعضها الآخر- عمد إلى طائفة من الآراء الحدسية، و الاجتهادات الباطلة، العارية عن الدليل و اثبتها في مؤلّفه على أنها الحكم الحق،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:15

و خلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث، و من ثم اخرج كتابه ذاك الى الجمهور المتعطش الى تاريخ الإسلام، على أنّه التاريخ المحقّق، الممخّص.

(1) إن الإشكال الذي يرد على الطائفة الاولى هو: أن الهدف من التاريخ ليس هو مجرّد تسجيل الحوادث التاريخية و ضبطها و تدوينها، إنما هو كتابة صفحات التاريخ، و قضاياه و أحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها، و إبراز عللها و اسبابها، و ثمارها و نتائجها، و التاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا، و مثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تدوّن- أو أنه قلّما دوّنت- حول أعظم

قادة البشر، محمّد صلّى اللّه عليه و آله فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث، او القيام باي تحليل للوقائع، بحجة الحفاظ على اصول الحوادث و نصوصها.

(2) في حين أنّ هذا العذر، و هذه الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف، لأنه كان في مقدور اولئك المؤرخين- للحفاظ على ما ذكروه- أن يؤلفوا نوعين من الكتب، نوعا يختص بسرد الوقائع و النصوص التاريخية على ما هي عليه من دون ابداء رأي، او تحليل و دراسة، و نوعا آخر يعتني بذكر الحوادث و القضايا التاريخية مع تحليلها و دراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل و الرأي.

(3) على كل حال قلما نجد بين قدماء الكتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمّدية الطاهرة بهذه الصورة، و قلما يوجد هناك كتاب يتناول حياة خاتم الأنبياء و سيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لا بدّ من القول بان السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حرمت من مثل هذا النمط من التأليف و الكتابة، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية التي وقعت على مر العصور الإسلامية فهي إدراجات في الكتب من دون دراسة موضوعية و تقييم دقيق.

(4) نعم إن أول من فتح هذا الطريق على وجه عامة المؤلفين و الكتاب هو:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:16

العلامة المغربي «ابن خالدون» «1» فقد أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خالدون نمط التاريخ التحليلي بنحو من الانحاء.

(1) و أما الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي و إن الفت على نمط التاريخ التحليلي و اتسمت بصفة التحقيق و الدراسة و لكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع و الاستقصاء، أو أنه

اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة و غير الصحيحة، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة، و أكثر مؤلفات المستشرقين- التي لم تكتب في الأغلب بهدف التوصل الى الحقيقة- من هذا النمط، و من هذه القماشة.

و لقد دأب في هذه الدراسة- بعد ملاحظة هذه الاشكالات- على ان يقدم إلى القراء جهد امكانه كتابا يخلو عن عيوب و نقائص كلتا الطائفتين.

(2)

مزايا هذا الكتاب:

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب، و استعراض امتيازاته في مقدمته، فذلك أمر ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة، إلّا انه إلفاتا لنظر القارئ نشير الى مزيتين هامتين هما:

(3) أولا: أنّنا عمدنا في هذا الكتاب الى تناول و بيان الحوادث و الوقائع المهمة التي تنطوي على قدر، اكبر من الفائدة، و العبرة، و أعرضنا صفحا عن ذكر الاحداث الجزئية، و الوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم إننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصيلة، و الأولية، التي دوّنت في القرون الإسلامية المشرقة الاولى، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر التي ذكرت الحادثة

______________________________

(1) هو القاضي عبد الرحمن بن محمّد الحضرمي المالكي المتوفى عام 808 هج، و مقدمته و تاريخه- على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل معدود ان من الكتب الجيدة المفيدة، و هما مبتكران في نوعهما.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:17

بصورة اكثر تفصيلا و دقة.

و ربما يظن بعض القرّاء الكرام أننا اكتفينا في نقل الحوادث و الوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى الصفحة (أي الهامش) في حين أن الواقع هو غير هذا، فنحن قد راجعنا حتى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت، اكثر المصادر الأصيلة المعروفة،

و بعد التحقق و التشبث منها لخصناها و ذكرناها في هذا الكتاب.

و لو أننا أشرنا- في جميع الحوادث و الوقائع- الى جميع المصادر التي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب، و هو أمر من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء، فلكي لا يحسّ القرّاء بأيّ تعب أو ملل من جانب، و لأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب و أصالة أبحاثه و إتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر و تجنبنا تحشيدها بتلك الصورة المملّة.

(1) و أما المزية الثانية: فإننا أشرنا- ضمن الدراسات اللازمة- إلى الاعتراضات و الاشكالات، بل و أحيانا إلى مواطن الاساءة التي قام بها المستشرقون المغرضون و أجبنا على جميع الانتقادات و الاعتراضات غير المبرّرة و غير الصحيحة بأجوبة مقنعة و قاطعة و صحيحة، و جرّدناهم من الاسلحة التي شهروها في وجه الإسلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يقول المثل، و تلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

و على هذا الاساس عمدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة (في المسائل المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة و المؤرخين السنة) مع ذكر المصادر و الشواهد التاريخية الواضحة و المبرهنة عليه، و أزحنا كل ما يدور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال، و يستهدف إنكار صحته و حقانيته.

إننا إذ نقدّم هذه الدراسة التحليليّة لشخصية و حياة خاتم الأنبياء محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين و خاصة المثقفين و الشّباب منهم بوجه خاصّ، و يتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنّية و التأمل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:18

و التدبر، و نأمل أن يستطيع شبابنا

المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته و حياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمه و يستوحيه من سيرة و حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله، في هذه الحقبة البالغة الخطورة. و اللّه وليّ التوفيق.

جعفر السبحاني 26/ جمادى الآخرة/ 1392

سيد المرسلين ،ج 1،ص:19

سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم

اشارة

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه و نشأته و صفاته و خصاله، و بشارات الأنبياء السابقين به و عصمته و اميّته و رسالته و خاتميته و جهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته، و الخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه و ما يتوجب على المؤمنين تجاهه في حياته و بعد وفاته، و ما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته و عترته، و لكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية و السيرة المحمّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:20

في مقدمة هذا الكتاب.

* وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. (آل عمران/ 144).

* مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. (الفتح/ 29).

* وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. (الصف/ 6).

* ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. (الضحى/ 4/ 8).

* أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.

(الانشراح/ 1- 4).

* وَ إِذْ

أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. (آل عمران/ 81).

* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. (الأعراف/ 157).

* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. (البقرة/ 146).

* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. (الأنعام/ 20).

* فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

(الأعراف/ 158).

* هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (الجمعة/ 2).

* وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. (النساء/ 113).

* وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.

(العنكبوت/ 48).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:21

* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. (العلق/ 1- 5).

* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَ

هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. (النجم/ 2- 17).

* وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ. (الحاقة/ 44- 47).

* وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ. (يس/ 69).

* وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ.

(الصافات/ 36- 37).

* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. (الحاقة/ 40).

* وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. (التكوير/ 24).

* سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. (الاعلى/ 6).

* فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (البقرة/ 137).

* وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. (المائدة/ 67).

* وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. (التوبة/ 74).

* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. (الحجر/ 95).

* وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. (الاسراء/ 73- 74).

* أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. (الزمر/ 36).

* وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا. (الطور/ 48).

* تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (آل عمران/ 108).

* اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ. (العنكبوت/ 45).

* وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. (الاحزاب/ 2).

* وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. (الشعراء/ 214).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:22

*

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. (الحجر/ 94).

* قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. (الحج/ 49).

* وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (المؤمنون/ 73).

* تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. (الفرقان/ 1).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. (الفرقان/ 56).

* وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ. (الأنفال/ 33).

* لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. (التوبة/ 128).

* بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. (التوبة/ 128).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. (الأنبياء/ 107).

* إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ. (الحج/ 67).

* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. (الشعراء/ 193).

* إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ. (البقرة/ 119).

* كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. (البقرة/ 151).

* لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. (آل عمران/ 164).

* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. (الفتح/ 28- 29).

* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً.

(الاحزاب/ 46).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً. (سبأ/ 28).

* قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ. (سبأ/ 46).

* فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. (الذاريات/ 50).

*

وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. (النساء/ 78).

* وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. (النساء/ 113).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:23

* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. (النساء/ 163).

* لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.

(النساء/ 166).

* ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ. (الاحزاب/ 40).

* قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. (الاعراف/ 158).

* وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (يونس/ 65).

* فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ. (هود/ 12).

* وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. (هود/ 120).

* وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.

(الرعد/ 32).

* لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. (الحجر/ 88).

* وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. (الحجر/- 99).

* وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. (النحل/- 128).

* فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً. (الكهف/ 6).

* فَاصْبِرْ عَلى ما

يَقُولُونَ. (طه/ 130).

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.

(الحجّ/ 42- 44).

* وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً. (الفرقان/ 31).

* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. (الشعراء/ 3).

* وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. (النحل/ 127).

* فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. (الروم/ 60).

* وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ. (لقمان/ 23).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:24

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. (فاطر/ 4).

* سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. (الأسراء/ 1).

* فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ. (فاطر/ 8).

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ. (فاطر/ 25).

* فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ. (يس/ 76).

* وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. (الصافات/ 171- 172).

* وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ.

(الصافات/ 173- 175).

* وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. (الصافات/ 178- 179).

* فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. (ص/ 17).

* أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. (الزمر/ 36).

* فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. (المؤمن/ 55).

* وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ

مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. (الانعام/ 52).

* وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.

(الكهف/ 28).

* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُ ونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. (النور/ 62- 63).

* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:25

حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. (الاحزاب/ 53).

* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ

أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(الحجرات/ 1- 5).

* وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ.

(الحجرات/ 7).

* وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. (القلم/ 4).

* وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. (الحجر/ 88).

* وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. (الشعراء/ 215).

* لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.

(التوبة/ 129).

* فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

(آل عمران/ 159).

* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.

(الاحزاب/ 21).

* قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(آل عمران/ 31).

* فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. (النساء/ 65).

* إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً.

(الاحزاب/ 56).

* إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. (الكوثر/ 1- 2).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:26

* إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (الاحزاب/ 33). «1»

______________________________

(1) و لقد بحث سماحة الاستاذ العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني صاحب هذه المحاضرات حول جميع هذه الآيات و نظائرها في دراسة عميقة

و شاملة في الجزء السابع من موسوعته «مفاهيم القرآن».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:27

(1)

1 شبه الجزيرة العربية

اشارة

أو مهد الحضارة الإسلامية الجزيرة العربيّة هي في الحقيقة شبه جزيرة كبيرة و تقع في الجنوب الغربي من آسيا، و تبلغ مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة إيران، و ستة أضعاف فرنسا، و عشرة أضعاف إيطاليا، و ثمانين ضعف سويسرة.

و يحدّ شبه الجزيرة- هذا الذي هو اشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الاضلاع- من الشمال فلسطين و صحراء الشام، و من المشرق الحيرة و دجلة و الفرات و الخليج الفارسي، و من الجنوب المحيط الهندي و خليج عمان، و من المغرب البحر الأحمر.

و على هذا يحاصر هذه الجزيرة من المغرب و الجنوب البحر، و من الشمال و الشرق الصحراء، و الخليج.

(2) و قد جرت العادة بتقسيم هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة اقسام:

1- القسم الشمالي و الغربي و يسمى بالحجاز.

2- القسم المركزي و الشرقي و يسمى بصحراء العرب.

3- القسم الجنوبي و يسمى باليمن.

و تشكّل داخل شبه الجزيرة هذا صحاري كبيرة، و مناطق شاسعة رملية حارّة، و غير قابلة للسكنى تقريبا، و من جملة هذه الصحاري صحراء «بادية

سيد المرسلين ،ج 1،ص:28

سماوة» التي تسمى اليوم بصحراء «النفوذ» و صحراء اخرى واسعة الاطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يطلق عليها اليوم اسم «الربع الخالي» و قد كان يسمى قسم من هذا الصحاري سابقا بالأحقاف، و يسمى القسم الآخر بالدهناء.

(1) و على أثر هذه الصحاري تشكل ثلث مساحة شبه الجزيرة هذا أراضي خالية من الماء و العشب و غير قابلة للسكنى، اللهم إلّا بعض ما يحصل من المياه، بسبب تساقط الامطار، في قلب الصحاري فيتجمع حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت، و يرعون فيها ابلهم و انعامهم ردحا

قليلا من الزمن.

و أمّا حالة المناخ في شبه الجزيرة العربية، فالهواء في الصحاري و الأراضي المركزية (الوسطى) حار و جاف جدا، و في السواحل مرطوب، و في بعض النقاط معتدل، و بسبب رداءة الطقس هذه لا يتجاوز عدد سكانه خمسة عشر مليون نسمة.

(2) و توجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال تمتد من الجنوب الى الشمال، و يقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 مترا.

و قد كانت معادن الذهب و الفضة و الاحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة هذا منذ القديم، و كان سكانها يعتنون- من بين الأنعام و الحيوانات- بتربية الابل و الفرس اكثر من غيرهما، و من بين الطيور بالحمام و النعامة اكثر من الطيور الاخرى.

بيد أن اكبر مصدر للثروة في الجزيرة العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط.

و تعتبر مدينة «الظهران» الذي يسميه الاوربيون بالدهران المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة، و يقع هذا البلد في ناحية الاحساء التي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على حدود الخليج الفارسي.

(3) و لكي يتعرف القارئ الكريم على الأوضاع في شبه الجزيرة العربية هذا بنحو اكثر تفصيلا فاننا نعمد إلى شرح الاقسام الثلاثة المذكورة:

(4) 1- «الحجاز» و هي المنطقة التي تشكل القسم الشمالي و الغربي من الجزيرة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:29

العربية و تمتد أراضيها على ساحل البحر الاحمر ابتداء من فلسطين و حتى حدود اليمن.

و الحجاز بعد هذا منطقة جبلية، و ذات صحار قاحلة، و اراض حجرية، و صخرية، يكثر فيها الحصى.

و لقد كانت هذه المنطقة- في التاريخ- اكثر شهرة من غيرها، و من المعلوم أنّ هذه الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية و الدينية، فهي الآن تضمّ بين جوانحها بيت اللّه الحرام «الكعبة المعظمة»، قبلة

ملايين المسلمين، و مهوى افئدتهم.

و قد كانت البقعة التي تقوم عليها بنية «الكعبة المعظمة» تحظى منذ سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب و غيرهم، و لهذا حرّموا القتال حول الكعبة تعظيما لها، حتى إذا جاء الإسلام أقرّ للكعبة و لما حولها، مثل ذلك الاحترام، و التعظيم أيضا.

و من أهمّ مدن الحجاز: «مكة» و «المدينة» و «الطائف»، و كان للحجاز منذ القديم ميناءان هما: ميناء «جدة» الذي يستخدمه أهل مكة، و ميناء «ينبع» الذي يستخدمه أهل المدينة، في سدّ الكثير من احتياجاتهم و يقع هذان الميناءان على ساحل «البحر الاحمر».

(1)

مكة المعظمة:
اشارة

و هي من أشهر مدن العالم و أكثر المدن الحجازية سكانا، و ترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300 مترا.

و اذ تقع مدينة «مكة» بين سلسلتين من الجبال لذلك فانها لا ترى من بعيد، و يقطنها اليوم حوالي (150) ألفا من السكان.

(2)

تاريخ مكة:

يبدأ تاريخ «مكة المكرمة» من زمن النبي إبراهيم الخليل عليه السّلام، فقد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:30

أسكن هذا النبي ولده «اسماعيل» مع أمه «هاجر» في ارض مكة، فنشأ اسماعيل هناك، و تزوج من القبائل التي سكنت على مقربة من تلك المنطقة.

ثم إن إبراهيم عليه السّلام بنى و بأمر من اللّه تعالى البيت الحرام «الكعبة».

و تقول بعض الروايات الصحيحة إن الكعبة بنيت على يد النبيّ نوح عليه السّلام و أن ابراهيم عليه السّلام جدّد بناءها.

و هكذا نشأت و بعد هذا تأسست مدينة مكة.

و تتكون نواحي «مكة» من أراض سبخة شديدة الملوحة بحيث لا تكون قابلة للزراعة اصلا، حتى أن بعض المستشرقين يذهب إلى أنه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها الجغرافية و المحيطية و الطبيعية مثل هذه المنطقة.

(1)

المدينة المنوّرة:

و هي مدينة تقع في شمال مكة و تبعد عنها ب: 90 فرسخا تقريبا، و تحيط بها بساتين و مزارع و نخيل وافرة، و أرضها أكثر صلاحية لغرس الاشجار و الزرع.

و كانت المدينة المنورة تسمى قبل الإسلام ب «يثرب»، و بعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله سمّيت بمدينة الرسول، ثم اطلقت عليها لفظة «المدينة» مجردة تخفيفا.

و يحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا أول من سكن هذه الديار، ثم خلف العمالقة طائفة اليهود، و الأوس و الخزرج الذين سمّي المسلمون منهم بالأنصار في ما بعد.

(2) هذا و قد سلمنت الحجاز- على عكس سائر المناطق- من طمع الطامعين و غزو الغزاة و الفاتحين، و لم نشاهد فيها أي شي ء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين آنذاك قبل الإسلام: الروم و الفرس، و ذلك لأنها إذ كانت تتألّف من أراض قاحلة مجدبة غير قابلة للسكنى و العيش لم

تحظ باهتمام أحد من اولئك الفاتحين حتى يفكر في تسيير العساكر، و تحبيش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل آلاف المشاكل التي تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:31

خالي الوفاض صفر اليدين.

(1) و للوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها «ديودرس».

عند ما دخل ديمتريوس القائد اليوناني الكبير «بطرا» (و هي مدينة قديمة من مدن الحجاز) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبه سكان تلك المدينة قائلين:

لما ذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس و نحن من سكان الصحارى التي لا تسدّ فيها خلّة، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فرارا من العبودية. اقبل هدايانا، و ارجع الى حيث كنت، سنكون من أوفى الاصدقاء لك، و لكنك اذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة، و رأيت عجزك عن اكراهنا على تبديل طرق حياتنا التي تعوّدناها منذ نعومة أظفارنا، و إذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحدا ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير التي ألفناها.

هنا لك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم و ان يرضى بالمآب «1».

(2) 2- المنطقة الوسطى و الشرقية، التي تسمى ب «صحراء العرب» و منطقة «نجد» التي هي جزء من هذه المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قرى صغيرة معدودة.

و لقد أصبحت الرياض التي اتخذها السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.

(3) 3- المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، و التي تسمى ب «اليمن» و تمتد طولا من الشمال الى الجنوب حوالي (750) كيلومترا و من الغرب الى الشرق حوالى (400) كيلومترا.

و تقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل مربع تقريبا، و لكنها كانت- قبل ذلك- أوسع من هذا القدر، و قد كان قسم منها

(و هو عدن) خلال النصف الاول من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني، و من هنا ينتهي شمالا الى نجد، و جنوبا الى عدن، و غربا الى البحر الأحمر و شرقا الى صحراء الربع

______________________________

(1) حضارة العرب: تأليف غوستاف لوبون ص 91- 92 ترجمة عادل و عبتر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:32

الخالي «1».

(1) و من مدن اليمن المعروفة مدينة «صنعاء» التاريخية العريقة، و من موانئها المشهورة ميناء «الحديدة» التي تقع على البحر الأحمر.

و منطقة اليمن من اكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة و بركة، و لها تاريخ مشرق و عريق في المدنية و الحضارة، فقد كانت اليمن مقرا لملوك تبّع، الذين حكموا اليمن سنينا مديدة و كانت اليمن قبل الإسلام مركزا تجاريا مهما، و كانت في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب، و الفضة، و الحديد، و النحاس، و كانت تصدر الى خارج البلاد.

(2) و لا تزال اثار الحضارة اليمنية القديمة باقية الى الآن.

و لقد قام أهل اليمن الاذكياء باقامة أبنية و عمارات عالية و جميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة، و الاجهزة المعقدة.

كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع، إلّا أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ ما رسمه حكماء اليمن و رجالهم من انظمة و قوانين للحكم و ادارة البلاد آنذاك.

و لقد سبقوا الآخرين في الزراعة و الفلاحة، و قد نظموا لإحياء الأراضي و زراعتها، نظاما دقيقا للريّ طبقوا بنوده بدقة، و لهذا كانت بلادهم تعدّ- آنذاك- من البلدان الراقية المتقدمة من هذه الناحية.

(3) فها هو «غوستاف لوبون» المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا:

إنّ بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم «2».

(4) و يكتب الادريسيّ المؤرخ المعروف الذي كان

يعيش في القرن الثاني عشر حول «صنعاء» قائلا: كانت صنعاء مقر ملوك اليمن، و عاصمة جزيرة العرب، و انه كان لملوكها قصر متين شهير و كانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة

______________________________

(1) لقد انقسمت اليمن مؤخرا الى يمن شمالية و اخرى جنوبية لكل واحد منها نظام حكم خاصّ و حكومة خاصّة.

(2) حضارة العرب: ص 94.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:33

المنحوتة «1».

(1) هذه الآثار العجيبة التي عثر عليها المستشرقون و علماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة و ذلك في مختلف نواحيها مثل «مأرب» و «صنعاء» و «بلقيس».

ففي مدينة مأرب (و هي مدينة سبأ المعروفة) كانت تقوم قصور ضخمة و صروح عالية ذوات أبواب و سقوف مزينة بالذهب، و كانت تحتوي على أوان و صحون من الذهب و الفضة، و أسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن و الفلز «2».

و من آثار «مأرب» التاريخية السدّ المعروف باسم ذلك البلد و الذي لا تزال اطلاله باقية، و هو السدّ الذي تهدّم بسبب السيل الذي وصفه القرآن الكريم بالعرم.

فقد جاء في سورة سبأ الآية 15- 19 قوله تعالى:

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ. وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ

صَبَّارٍ شَكُورٍ» «3».

______________________________

(1) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب، ص 55.

(2) حضارة العرب: ص 94.

(3) للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديما و حديثا، راجع الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:35

(1)

2 العرب قبل الإسلام

اشارة

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع الى المصادر التالية:

1- التوراة على ما فيها من تحريفات.

2- كتابات اليونانيين و الروميين في القرون الوسطى.

3- الكتابات التاريخية التي كتبها علماء الإسلام و مؤلفوه.

4- الآثار القديمة التي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم و التي استطاعت عن أن تكشف النقاب عن طائفة لا يستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.

إلّا انه مع وجود كل هذه المصادر و المراجع لا تزال هناك نقاط كثيرة عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.

و لكن حيث أنّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب، و الهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصة و الواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين اسلاميين اساسيين هما:

1- القرآن الكريم.

2- ما ورد عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:36

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحات و نصوص صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال و الاوضاع و الاخلاق في جميع الاصعدة و الابعاد، و سنشير إلى أبرز هذه النصوص و نقف عندها بعض الشي ء، و لكننا نستعرض قبل ذلك شيئا من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول:

(1) إن من المسلّم أن شبه الجزيرة العربية كان منذ أقدم العصور موطنا لقبائل

كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام، و في ثنايا الاحداث، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعّبت عنها أفخاذ و فروع تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة.

و هذه القبائل الامّ هي:

(2) 1- العرب البائدة: و إنما سميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها و تمردها، و هلكت شيئا فشيئا، و لم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد!

و لعلهم كانوا هم المعنيون بقوم «عاد» و «ثمود» الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم مرارا.

(3) 2- القحطانيّون: و هم أبناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في «اليمن» و سائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية و يسمّون بالعرب الاصلاء، و هم اليمنيون اليوم، و منهم قبائل الأوس و الخزرج و هما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.

و قد كان للقحطانيين حكومات كثيرة، كما كانت لهم جهود كبرى في تعمير أرض اليمن و احيائها، و قد تركوا من ورائهم حضارات و مدنيّات لا يستهان بها.

و توجد الآن كتابات تقرأ بصورة علمية توضح إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين و كل ما يقال عن مدنيّة العرب و حضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة و خاصة من سكن منهم ارض اليمن.

(4) 3- العدنانيون: و هم أبناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليه السّلام،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:37

و سوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الابحاث القادمة. و خلاصة ذلك: أن إبراهيم الخليل عليه السّلام امران يسكن ولده الرضيع اسماعيل مع زوجته «هاجر» أم اسماعيل في ارض مكة، فخرج بهما ابراهيم عليه السّلام من «فلسطين» و هبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي عن الماء و العشب «مكة» ثم ان يد العناية الالهية

امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة، و جادت عليها بعين «زمزم» الذي جلب الرواء و الحياة الى تلك المنطقة القاحلة الضامئة.

ثم تزوج إسماعيل من قبيلة «جرهم» التي خيّمت بالقرب من مكة، و اصاب من هذا الزواج عددا كبيرا من الابناء، و الاحفاد، و أحفاد الاحفاد كان من جملتهم «عدنان» الذي ينتهي نسبه الى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء و الجدود.

ثم تشعّبت ذرية إسماعيل الى بطون و أفخاذ، و عشائر و قبائل عديدة، كان من بينها قبيلة قريش التي حظيت بشهرة اكبر، و منها عشيرة بني هاشم التي انحدر منها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما ستعرف ذلك بالتفصيل، عما قريب.

(1)

أخلاق العرب و تقاليدهم العامة:

و المراد منها هو الأخلاق و الآداب الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك.

المجتمع، و قد سادت بعض هذه الاخلاق و العادات و التقاليد في المجتمع العربي عامة.

و يمكن تلخيص ما كان العرب يتمتعون به من أخلاق و صفات حسنة عامة في ما يلي:

لقد كان العرب زمن الجاهلية و بخاصة ولد «عدنان» أسخياء بالطبع، يكرمون الضيف، و قلّما يخونون في الامانة، لا يغتفرون نقض العهود، و لا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق، يضحون في سبيل المعتقد، و يتحلون بالصراحة الكاملة، و ربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع، و ذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار و القصائد الطوال، و الخطب المفصلة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:38

هذا الى جانب براعتهم في فن الشعر و الخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم و الى جانب انهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة و الجرأة، و المهارة في الفروسية و الرمي.

يرون الفرار و الادبار في الحرب عارا لازما، و صفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم.

(1) و لكن في مقابل ذلك كله

كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم، و تنسي كل فضيلة.

و لو لا تلك الكوة المباركة التي فتحت عليهم من عالم الغيب، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع و اليقين.

يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، و لم تسطع أشعتها الباعثة على الحياة، على عقولهم و قلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين أي أثر، و لتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اخرى!

(2) لقد حوّل فقدان القيادة الرشيدة، و غياب الثقافة الصحيحة حياة العرب، من جانب، و انتشار الفساد و الفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مزرية حتى أن صفحات التاريخ تروي لنا أخبارا و قصصا مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاما، و بعضها الآخر مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة و دوافع تافهة جدا.

لقد أدى عدم سيادة النظام و القانون على الحياة العربية، و عدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع، توقف البغاة و المتمردين عند حدودهم، إلى أن يعيش العرب- آنذاك- في صورة القبائل الرحّل، و يرحلوا في كل سنة الى منطقة معينة من الصحراء التماسا للعشب و الماء لانفسهم و لا نعامهم، فاذا عثروا على ماء و عشب أو شي ء من آثار الحياة نزلوا عنده، و أنزلوا رحالهم بجواره، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماسا لحياة اكثر بركة، و عطاء، و أوفر خصبا و أمنا.

(3) هذه الحيرة و هذا الضياع و عدم الاستقرار كان ناتجا من أمرين:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:39

الأوّل: سوء الاوضاع الجغرافية و رداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية، و خاصة من حيث الماء و المناخ و المراعي.

و الآخر: الحروب و المصادمات الدموية الكثيرة، و اضطراب الأحوال الاجتماعية،

التي كانت تلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم و الرحيل عن الأوطان و مغادرتها، و عدم الاستقرار في منطقة معينة.

(1)

هل كان للعرب حضارة قبل الإسلام؟

يستنتج مؤلف كتاب «حضارة العرب» من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.

فالقصور الصخمة التي أقاموها في مختلف نقاط و مناطق الجزيرة العربية، و العلاقات التجارية التي كانت لهم مع أرقى شعوب الأرض، شواهد قوية على تمدنهم و حضارتهم الغابرة، لأن قوما أنشئوا لمدن العظيمة- قبل الرومان بقرون كثيرة- و كانت علاقاتهم بارقى و اكبر شعوب الأرض وثيقة، لا يمكن عدهم همجا، و شعبا بلا حضارة.

ثم إنه يستدل- في موضع آخر من كتابه- على حضارة العرب الغابرة بآدابهم و وحدة و كمال لغتهم اذ يقول:

«و لو كان التاريخ صامتا إزاء حضارة لقطعنا- مع ذلك- بوجودها قبل ظهور «محمّد» بزمن طويل، و يكفي لتمثّلها أن نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة و لغة راقية.

و الحق أنّ الآداب و اللغة من الامور التي لا تأتي عفوا، و هي تتخذ دليلا على ماض طويل، و ينشأ عن اتّصال امة بأرقى الامم اقتباسها لما عند هذه الامم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك».

(2) و قد خصص المؤلف المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة و عظيمة للعرب قبل الإسلام معتمدا في ذلك على ثلاث امور:

1- وجود لغة راقية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:40

2- وجود علاقات مع الامم الراقية.

3- وجود قصور و أبنية ضخمة، و فخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان المعروفان «هيردوتس» و «ارتميدور» اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون، و قدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي «1».

(1) لا كلام في أنه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعض حضارات، و لكن الأدلة التي

استند إليها المؤلف المذكور لا يمكن ان تكون شاهدا و دليلا على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبدا.

صحيح أن تكامل اللغة يسير جنبا الى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة، و لكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة و غير مرتبطة باللغات الاخرى اي العبرانية و السريانية و الآشورية و الكلدانية، لأن جميع هذه اللغات- حسب ما يؤيده و يؤكده المتخصصون في علم اللغات- كانت ذات يوم- متحدة الأصل، و قد تشعبت من لغة واحدة، و في هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية، و بعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها.

(2) كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات تجارية مع الامم و الشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة و المدنية إلّا أنه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات، أم إن اكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.

و من جهة اخرى فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز و هما: «الحيرة و غسان» و بين حكومتي «الفرس» و «الروم» لا يدل أبدا على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متصفة بالعمالة، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الاوربية و مع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات و لا أية مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية.

______________________________

(1) حضارة العرب: 78- 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:41

(1) طبعا لا يمكن إنكار حضارة «سبأ و مأرب اليمن» العجيبة لأنه مضافا إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة، و ما نقل عن «هيردوتس» و غيره، كتب المؤرخ المعروف «المسعودي» عن مأرب يقول: إن

أرض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن و أثراها و أغدقها، و اكثرها جنانا و غيطانا و أفسحها مروجا، بين بنيان و جسد مقيم و شجر موصوف و مساكب للماء متكاثفة، و أنهار متفرقة، و كانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال، و في العرض مثل ذلك، و انّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي الى آخرها لا يرى جهة الشمس، و لا يفارقه الظل لاستتار الارض بالعمارة و الشجر و استيلائها عليها و احاطتها بها، فكان أهلها في اطيب عيش و ارفهه، و أهنا حال و ارغده، و في نهاية الخصب و طيب الهواء و صفاء الفضاء، و تدفّق المياه و قوة الشوكة، و اجتماع الكلمة، و نهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد، و اذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض» «1».

(2) و خلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية و خاصة منطقة الحجاز التي لم تذق طعم الحضارة أبدا، حتى أن «غوستاف لوبون» نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول: «ان جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، و إن عظماء الفاتحين من مصريين و أغارقة و رومان و فرس و غيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئا من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها» «2»

و على فرض صحة كل ما قيل عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز، إبان طلوع الإسلام، و بزوغ شمسه، و هي حقيقة يصرح بها القرآن

الكريم اذ يقول تعالى: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» «3».

______________________________

(1) مروج الذهب: ج 2 ص 161 و 162.

(2) حضارة العرب: ص 93.

(3) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:42

و ينبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا- كما وعدنا بذلك- فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب و أوضاعهم بدقة متناهية و بشمولية ما وراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن:
اشارة

إن القرآن يكشف إجمالا عن أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى قوم لم يبعث إليها احد قبله اذ يقول: «وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» «1».

و يقول في آية اخرى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» «2».

و من المعلوم أن المقصود في هاتين الآيتين و نظائرهما هم قريش و القبائل القريبة إليها.

على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي و أحواله هو قول اللّه تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «3».

فإنّ هذه الآية تصوّر حياة العرب تصويرا مرعبا، اذ تصوّرهم اولا و كأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية، و الضلال و الشقاء فلا ينقذهم شي ء من قعر التردي و السقوط الّا التمسّك بحبل اللّه، حبل الإيمان و القرآن.

و تصوّرهم ثانيا و كأنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه و يهووا في نيرانه، و ليست تلك النار إلّا نيران العداوات و الحروب التي لو لم يقض عليها الإسلام بتعاليمه

لأحرقت حياة العرب جميعا.

هذه هي صورة سريعة عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل و سقوط.

و امّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاخرى التي

______________________________

(1) القصص: 46.

(2) السجدة: 3.

(3) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:43

تعرضت لذكر عادات العرب و أخلاقهم، و أفعالهم و تقاليدهم، بصورة مفصلة، و ها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات و الاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتصف المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام و شاعت فيه أخلاق و عادات من أبرزها ما يلي:

1- الشرك في العبادة:

صحيح أن العرب في الجاهلية كانت- كما يكشف القرآن ذلك لنا- موحّدة في جملة من الامور و المجالات كالخالقية و التدبير و الذات «1» إلّا أنهم كانوا- في الأكثر- مشركين في العبادة، بل قد ذهبوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطّ المستويات في اتّخاذ المعبودات و الوثنية.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ» «2».

و قوله تعالى: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» «3».

و غير ذلك من الآيات التي تشير إلى ما كان يعبده الجاهليّون من أوثان و أصنام و مبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط، و اسفاف و انحراف في هذا المجال.

2- إنكار المعاد:

كان المشركون و الجاهليون يرفضون الاعتراف بالمعاد الذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة. في عالم آخر للحساب و الجزاء، و يصفون من يخبر عن ذلك

______________________________

(1) نعم يستفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاه نادر بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة و الدهر يقول اللّه تعالى: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (الجاثية 24).

(2) الأنعام: 100.

(3) النجم: 19 و 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:44

اليوم بالجنون او الكذب على اللّه!!

يقول تعالى: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ» «1».

3- هيمنة الخرافات:

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئة بالخرافات التي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام أربعة ذكرها القرآن منددا بهذه البدعة اذ قال: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» «2».

أمّا (البحيرة) بوزن فعيلة بمعنى مفعولة من البحر و هو الشق، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها انثى- و قيل ذكر- بحروا اذنها و شقوها ليكون ذلك علامة و تركوها ترعى، و لا يستعملها أحد في شي ء.

و أمّا (السائبة) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطنا- و قيل عشرة- فهي تهمل و لا تركب. و لا تمنع عن ماء، و لا يشرب لبنها إلا ضيف.

و أمّا (الوصيلة) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة او بمعنى مفعولة

فهي الشاة تنتج سبعة أبطن او تنتج عناقين عناقين.

و أمّا (الحامي) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفحل من الإبل الذي يستخدم للقاح الأناث، فاذا ولد من ظهره عشرة أبطن قالوا: حمي ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و مرعى «3»

و الظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام

______________________________

(1) سبأ: 7 و 8.

(2) المائدة: 103.

(3) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 252 و 253 في تفسير الآية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:45

و الشكر لما وهب أصحابها من النعم و البركات، غير أن هذا العمل- كان في حقيقته- نوعا من الإيذاء و الإضرار بهذه الحيوانات، لأنهم كانوا يهملونها و يحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها، و تقاسي من الحرمان، مضافا إلى ما كان يصيبها من التلف و الضياع، و ما يلحق ثروتهم و النعم التي و هبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر و الخسارة.

و الأسوأ من كل ذلك أنهم- كما يستفاد من ذيل الآية- كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات و هذا المنع و الحظر إلى اللّه سبحانه و تعالى، اذ يقول سبحانه:

«وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» و قد أعلم اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم من هذه الاشياء شيئا، و أنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

و قد أشار القرآن إلى هذه الخرافات التي كانت تكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع اذ يقول: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «1».

4- الفساد الاخلاقي:

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق و قد أشار القرآن الكريم الى اثنين من أبرز وسائل الفساد و مظاهره هما:

القمار (الذي كانوا يسمّونه بالميسر و انما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيسر و سهولة من غير كدّ و لا تعب) و الخمر.

و قد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام و اعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر و شربه، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.

يقول القرآن في هذا الصعيد: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» «2».

و قد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة

______________________________

(1) الأعراف: 157 و راجع المحبر ص 330- 332.

(2) البقرة: 219.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:46

التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم، حتى اصبحت السمة البارزة لحياتهم و أصبح التغنّي بالخمرة، و وصفها الطابع الغالب لآدابهم، و اللون البارز الذي يصبغ قصائدهم و اشعارهم.

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربيّ قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر، و مزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعا، حيث عدّ منها الزنا، و اللواط، و القذف، و إكراه الفتيات على البغاء و ما شاكل ذلك «1».

5- وأد البنات و إقبارهن:

و يشير القرآن الكريم أيضا إلى عادة جاهلية سيئة اخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة و هي دفن البنت حية.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة و هذا العمل اللالساني و نهى عنه بشدة في اربعة مواضع، إذ قال تعالى: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» «2». و قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» «3».

و قد اتى جد «الفرزدق» «صعصعة بن ناجية بن عقال» رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و عدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين و ثمانين موؤدة في الجاهلية، و أنقذهنّ من الموت المحتّم باشترائهنّ من آبائهن بأمواله.

و قد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدّه للموءودات في كثير من شعره اذ قال:

و منّا الذي منع الوائدات و أحيا الوئيد فلم يوأد «4»

______________________________

(1) راجع للوقوف على ذلك سورة النساء: 15 و 16. و سورة النور: 2 و 3 و غيرها. و راجع المحبر:

ص 340.

(2) التكوير: 8 و 9.

(3) الإسراء: 31.

(4) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 45 و 46.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:47

6- تصوراتهم الخرافية حول الملائكة:

و ممّا أشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث و أنهن بنات اللّه، اذ يقول تعالى:

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «1».

7- كيفية الانتفاع من الانعام:

إذا كانت العرب الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفا و تجتنب عن استعمال ألبانها و شعورها و أصوافها. إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم، و الميتة و الخنزير، و تأكل من الحيوانات و الأنعام التي تقتلها بصورة قاسية، و بالتعذيب و الأذى، و ربما كانت تعتبر ذلك نوعا من العبادة، و يعرف ذلك من الآية التالية التي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم، و تحرّم تناولها، اذ يقول سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» «2».

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل:

1- الميتة.

2- الدم.

3- لحم الخنزير.

4- ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

5- التي تموت خنقا، و هي المنخنقة.

______________________________

(1) الصافّات: 149- 154.

(2) المائدة: 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:48

6- التي تضرب حتى تموت، و هي الموقوذة.

7- التي تقع من مكان عال فتموت و هي المتردية.

8- التي تموت نطحا من حيوان آخر و هي النطيحة.

9- ما افترسه سبع إلا اذا ذكي قبل موته.

10- و ما ذبح أمام الاصنام.

8- الاستقسام بالازلام:

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام، و الأزلام جمع (زلم) بوزن (شرف) و هي عيدان و سهام تستخد في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار معيرا ثم يذبحونه، ثم يكتبون على سبعة منها أسهما مختلفة من الواحد الى السبعة و لا يكتبون على ثلاثة منها شيئا، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اخرى، كل واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما

خرج له من السهم، و هكذا يقتسمون الذبيحة بينهم «1»، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» لأنّه ضرب من القمار الذي ينطوي على مفاسد الميسر و القمار.

9- النسي ء:

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم (و هي أربعة المحرم و رجب و ذو القعدة و ذو الحجة) فكانوا يتحرجون فيها من القتال، و جرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم و اسماعيل عليهما السّلام.

الّا أن سدنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمدون أحيانا، و لقاء مبالغ يأخذونها، أو جريا مع أهوائهم، الى تأخير الاشهر الحرم، و هو الأمر الذي عبّر

______________________________

(1) راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب: ج 3 ص 62 و 63، و المحبر: ص 332- 335.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:49

عنه القرآن الكريم بالنسي ء ثمّ نهى عنه و عدّه كفرا اذ قال: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» «1».

و قد ذكرت كتب التاريخ و السير كيفية النسي ء و تأخير الأشهر الحرم، الذي كان يتم بصور مختلفة منها: أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة و القتال و لم تطق تأخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا و اموال، تجويز الغارة و القتال في شهر محرم، و تحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (و هي اربعة). و هذا هو معنى قوله تعالى: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» و كانوا إذا أحلّوا القتال و الغارة في المحرم من سنة حرّموه

في المحرم من السنة التالية، و هذا هو معنى قوله تعالى:

«يُحِلُّونَهُ عاماً، وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً».

10- الربا:

و ممّا يشير إليه القرآن الكريم من المفاسد الشائعة، و الأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام: «الربا» الذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

و قد حارب القرآن الكريم هذه العادة المقيتة، و هذا الفساد الاقتصادي حربا شعواء، إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ» «2».

و العجيب أنهم كانوا يبرّرون هذا العمل اللاإنساني بقولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» «3» فاذا كان البيع حلالا و هو اخذ و عطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا، فإنه أخذ و عطاء أيضا، مع أن «الرّبا» من ابشع صور الاستغلال، و قد ردّ

______________________________

(1) التوبة: 37.

(2) البقرة: 278 و 279.

(3) البقرة: 5/ 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:50

سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» «1» ففي البيع و الشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبدا و إنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائما، و لهذا تنمو المؤسسات الربوية، و يعظم رصيدها، و ثروتها يوما بعد يوم فيما يزداد الطرف الآخر بؤسا و فقرا، و لا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدّ جوعته، و يقيم اوده، لا اكثر، كل ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل.

صور من الوضع الجاهلي

ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي أشار إليها القرآن الكريم، و أما التاريخ فملي ء بالصور و القصص التي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية و سقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي و

الجهات.

و إليك في ما يلي نماذج و صور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصح المصادر و اوثقها:

(1) و ها نحن نقدم قصة «أسعد بن زرارة» التي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز، فقد قدم «أسعد بن زرارة» و «ذكوان بن عبد قيس»- و هما من الأوس و كان بين الاوس و الخزرج حرب قد بقوافيها دهرا طويلا، و كانوا لا يضعون السلاح لا بالليل و لا بالنهار، و كان آخر حرب بينهم «يوم بعاث» و قد انتصر فيها الأوس على الخزرج- مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس، و كان اسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال: انه كان بيننا و بين قومنا حرب و قد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: إن لنا شغلا لا نتفرّغ لشي ء. قال سعد: و ما شغلكم و أنتم في حرمكم و أمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا و أفسد

______________________________

(1) البقرة: 275.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:51

شبّاننا، و فرّق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفا، و أعظمنا بيتا.

(1) و كان أسعد و ذكوان، و جميع الاوس و الخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير و قريظة و قينقاع، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب، فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، و إنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع

منه و لا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه، و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في شعب أبي طالب، فقال له «أسعد»:

فكيف أصنع و أنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضع في اذنيك القطن، فدخل «أسعد» المسجد و قد حشا اذنيه بالقطن، (2) فطاف بالبيت و رسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني؟ أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتى ارجع الى قومي فاخبرهم، (3) ثم أخذ القطن من اذنيه و رمى به، و قال لرسول اللّه: أنعم صباحا، فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأسه إليه و قال: قد أبدلنا اللّه به ما هو احسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم، قال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد؟ قال: إلى شهادة ألّا إله إلّا اللّه، و اني رسول اللّه، و أدعوكم الى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» «1».

______________________________

(1) الأنعام: 151 و 152.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:52

(1) فلما سمع «أسعد» هذا قال له: أشهد أن لا إله

إلّا اللّه، و أنك رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت و أمي ... «1».

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة و واسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية التي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية، و لهذا تلا رسول اللّه الآيات التي تشير إلى هذه الادواء و الأمراض ليلفت نظر «سعد» إلى أهداف رسالته الكبرى.

(2)

العقيدة و الدين في الجزيرة العربية:

عند ما رفع «إبراهيم الخليل» لواء التوحيد في البيئة الحجازية، و أعاد بناء الكعبة المعظمة و رفع قواعدها بمعونة ابنه «اسماعيل»، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم، الّا انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد و يبسط لواءه على الجميع، و يؤلف صفوفا متراصة، و جبهة عريضة قوية من الموحدين، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحا للوثنية و لعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب و القمر، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان «بنو مليح» من خزاعة يعبدون الجن و كانت «حمير» تعبد الشمس، و «كنانة» تعبد القمر، و «تميم» الدبران، و «لخم» و «جذام» المشتري، و «طي» سهيلا، و «قيس» الشعرى، و «أسد» عطاردا.

(3) أما الدهماء و الذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون- مضافا إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة- ثلاثمائة و ستين صنما، و كانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.

و قد دخلت عبادة الأصنام و الأوثان في مكة بعد «إبراهيم الخليل»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 8 و 9، اعلام

الورى: ص 35- 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:53

عليه السّلام على يد «عمرو بن لحي»، و لكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة التي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الأمر شفعاء إلى اللّه و وسطاء بينه و بينهم، و لكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتى صاروا يعتقدون شيئا فشيئا بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة، و أنها بالتالي آلهة و أرباب.

(1) و كانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، و لكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط، و لأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام و الأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشئون لها أماكن و بيوت خاصة، و كانت سدانة هذه البيوت و المعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أما الاصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم و ليلة، فاذا أراد احدهم السفر كان آخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضا.

و كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، و اتخذه ربّا و جعل ثلاثة أثافيّ لقدره، و إذا ارتحل تركه.

(2) و كان من شغف أهل مكة و حبّهم للكعبة و الحرم أنه كان لا يسافر منهم أحد إلّا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، و حبا له فحيثما حلّوا نصبوه و طافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، و يمكن أن تكون هذه هي «الأنصاب» التي فسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة و تقابلها الأوثان، و هي الاحجار المنحوتة:

على هيئة خاصة، و أما «الأصنام» فهي المعمولة من خشب أو ذهب أو فضة على صورة انسان.

(3) لقد بلغ خضوع العرب أمام الاصنام و

الأوثان حدا عجيبا جدا، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسب رضاها بتقديم القرابين إليها، و كانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام و رءوسها بدماء تلك الهدايا، و كانوا يستشيرونها في مهام امورهم، و جلائل شئونهم، فاذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدّوا له و معرفة عاقبته أخير هو أم شر استقسم لهم أمين القداح بقدحي

سيد المرسلين ،ج 1،ص:54

(الأمر و النهي) و هي قطع كتب على بعضها (افعل) و على بعضها الآخر (لا تفعل) فيمدّ أمين القداح يده و يجيل القداح و يخرج واحدا فان طلع الآمر فعل أو الناهي ترك.

(1) و خلاصة القول، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، و قد تفشّت فيهم في مظاهر متنوعة و متعددة، و كانت الكعبة المعظمة- في الحقيقة- محطّ أصنام العرب الجاهلية و آلهتهم المنحوتة، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم، و بلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنما في مختلف الاشكال و الهيئات و الصور، بل كان النصارى أيضا قد نقشوا على جدران البيت و أعمدته صورا لمريم و المسيح و الملائكة، و قصّة ابراهيم.

و كان من جملة تلك الأصنام: «اللات» و «العزّى» و «مناة» التي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه و يختص عبادتها بقريش.

و كانت «اللات» تعتبر أمّ الآلهة، و كان موضعها بالقرب من «الطائف» و كانت من الحجر الابيض، و أما «مناة» فكانت في عقيدتهم إلهة المصير و ربّة الموت و الاجل و كان موضعها بين «مكة» و «المدينة».

(2) و لقد اصطحب «ابو سفيان» معه يوم «احد»: «اللات» و «العزّى».

و يروى انه مرض ذات يوم «أبو احيحة» و هو رجل من بني أميّة، مرضه الذي مات فيه، فدخل

عليه ابو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا ابا احيحة؟ أمن الموت تبكي و لا بد منه؟ قال: لا و لكنى اخاف ان لا تعبد العزى بعدي! قال ابو لهب: و اللّه ما عبدت حياتك (اي لأجلك) و لا تترك عبادتها بعدك لموتك!! فقال أبو احيحة: الآن علمت ان لي خليفة «1».

(3) و لم تكن هذه هي كل الأصنام التي كانت تعظّمها و تعبدها العرب بل كانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و حولها و كان اعظمها «هبل»، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنما خاصا بها

______________________________

(1) الأصنام للكلبي: ص 23.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:55

مضافا إلى صنم القبيلة و كانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، و الشمس، و القمر، و الحجر، و الخشب، و التراب، و التمر، و التماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، و الهيكل، و الاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظّمة عند العرب، يتقربون عندها بالذبائح و يقرّبون لها القرابين، و جرت عادة بعض القبائل آنذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصا في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها، و تقبر جسده على مقربة من المذبح.

(1) هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن أرض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحا للاصنام و مستودعا ضخما للاوثان، و كيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها و ازقتها و صحاريها و حتى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت الى مخزن للنصب المؤلّهة، و التماثيل المعبودة، و يتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الذي اسلم و راح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء و

العدّ، اذ قال:

أ ربّا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسّمت الامور

عزلت اللات و العزى جميعاكذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عزّى أدين و لا ابنتيهاو لا صنمي بني عمرو أزور

و لا غنما أزور و كان ربّالنا في الدهر إذ حلمي يسير

و لكن أعبد الرحمن ربّي ليغفر ذنبي الربّ الغفور «1» و قد حدثت بسبب الاختلاف و التعددية في عبادة الاصنام و الاوثان المؤلّهة السخيفة الباطلة، تناقضات، و صراعات، و حروب و مناحرات، قد جرت بالتالي- ويلات و ماس و خسائر مادية و معنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالة. سيد المرسلين ج 1 55 العقيدة و الدين في الجزيرة العربية: ..... ص : 52

____________________________________________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 249 و جاء البصير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:56

(1)

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت:

و عن مصير الإنسان و حالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب و نظرتهم تتلخص في ما يلي:

عند ما يموت الانسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب «الهامّة و الصدى» ثم يبقى هذا الطائر قريبا من جسد الميت ينوح نوحا مقرحا و موحشا، و عند ما يوارى الميت يبقى هذا الطائر مقيما عند قبره إلى الابد!

و ربما وقف على جدار منزل الميت أحيانا لتسقّط أخبار عائلته و الاطلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك:

سلّط الموت و المنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام و إذا كان المرء قد مات بموتة غير طبيعية كما لو قتل- مثلا- فإن ذلك الحيوان ينادي باستمرار: «اسقوني ... اسقوني» اي اسقوني بسفك دم القاتل و اراقته؛ و لا يسكن عن هذا النواح و النداء الخاص الا بعد الانتقام و الثأر من قاتله.

قال احدهم في ذلك:

فيا ربّ إن

أهلك و لم تروها متى بليلي امت لا قبر أعطش من قبري «1»

(2) من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ و يعلم جيدا كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام و تاريخهم ما بعد الإسلام ما هو الّا تاريخان على طرفي نقيض:

فذلك تاريخ جاهلية، و وثنية و إجرام، و هذا تاريخ علم و وحدانية و انسانية و ايمان، و شتان ما بين وأد البنات، و بين رعاية الايتام، و بين السلب و النهب و الاغارة و بين المواساة و الايثار، و بين عبادة الاوثان و الاصنام الصماء العمياء

______________________________

(1) بلوغ الارب. ج 2 ص 311 و 312.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:57

و التقرب الى اللّه الواحد القادر.

(1)

الآداب مرآة آداب الشعوب و نفسياتها:

المخلّفات الفكرية و الثقافية، و ما يتركه أي شعب من الشعوب من قصص و حكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية و الأخلاقية، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعر و القصة، و الخطبة و الحكاية، و المثل و الكناية مرآة صادقة تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة، و تعتبر خير مقياس لتمدّنها، و حضارتها، و أفكارها و نفسياتها، تماما كما تحكي اللوحات الفنية عن حياة عائلة، أو منظر طبيعي جميل، أو اجتماعات صاخبة، أو مشاهد قتالية.

إن القصائد و الأمثال العربية التي كانت رائجة آنذاك تستطيع- قبل كل شي ء- أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم و نمط حياتهم و سلوكهم، و لهذا السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى الى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية و الأدبية و الثقافية لذلك الشعب سواء أ كان شعرا أم نثرا، أمثالا أم حكما، قصصا أم أساطير.

و من حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا و سجلوا باتقان ما اثر من العرب

ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اتيح لهم ذلك.

(2) و قد كان ابو تمام «حبيب بن اويس» (المتوفى عام 231 هجرية) و الذي يعتبر من كبار أدباء الشيعة، و له قصائد رائعة في مدح آل الرسول، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية، حيث جمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جدا من الشعر الجاهلي مفصلة في عشرة ابواب هي:

1- الحماسة.

2- المراثي.

3- الادب.

4- النسيب.

5- الهجاء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:58

6- الاضافات.

7- الصفات.

8- السير.

9- الملح.

10- مذمة النساء.

و قد تناول هذا الديوان التاريخي القيم عدد كبير من أدباء المسلمين و علمائهم بشرح ابياته، و تفسير غوامضها، و بيان اغراضها، و مقاصدها.

كما ترجم أصل الديوان إلى لغات اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب «معجم المطبوعات» «1».

(1)

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية:

إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان، و أقوى دليل على أنها كانت تعيش- في ظل ذلك العهد- في أسوأ الحالات و أشد الظروف و اتعسها.

هذا مضافا إلى أن الآيات القرآنية التي تنزلت و هي تشجب بعنف معاملة الجاهليين للعنصر النسائي، و قسوتهم على الأنثى، هي الاخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي و التدهور السلوكي الذي انحدروا إليه في هذا المجال.

إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» «2» أي ليسأل يوم القيامة عن البنات اللاتي وئدن و هنّ أحياء.

إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث- في الحقيقة- عن عادة وأد البنات بمرارة، و يشجبها بشدة حتى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر- في الآخرة- بدون حساب شديد، و سؤال خاص.

______________________________

(1) معجم المطبوعات: ص 297، و قد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول: «الحماسة» فسمي ديوان الحماسة

(2)

التكوير: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:59

حقا انه لأمر يكشف عن مدى القسوة التي كان عليها قلوب تلك الجماعة.

إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير، و لا يحسّ معها بوخز الوجدان، انه لا يعود يسمع معها حتى صراخ بنته الجميلة البريئة، و استغاثاتها المؤلمة و هي ترى بام عينيها حفيرتها، و تحس بيدي والدها القاسي، و هو يدفعها إلى تلك الحفرة و يدفنها حية!

إنها قسوة تكشف عن أسوأ و أحطّ درجات الانحطاط الخلقي، و التقهقر الإنساني.

(1) و بنو تميم هي أول قبيلة أقدمت على هذه الجريمة النكراء، و كان السبب أن «بني تميم» امتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة التي كانت عليهم إلى الملك، فجرّد إليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشا كبيرا لضرب هذا التمرد، و انتصر على «بني تميم» في المال و غنم منهم الغنائم و سبى منهم الفتيات و النساء، فوفدت وفود «بني تميم» على النعمان بن المنذر و كلّموه في الذراري و النساء، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك الى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها ردّت عليه، فاختلفن في الخيار، فاختار بعضهنّ العودة الى الاهل و الآباء، و اختارت بنت لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف و الاختيار غيظ والدها العجوز «قيس بن عاصم» فنذر من ذلك الحين أن يدس كل بنت تولد له. و هكذا سنّ لقومه الوأد، و اخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاء لغيرتهم و ظلّوا يمارسونها اعواما متمادية «1».

و إليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال:

(2) قيل لما وفد «قيس بن عاصم» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأله بعض الانصار عما يتحدث به في

الموؤدات، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلّا وأدها، قال:

كنت اخاف العار و ما رحمت منهن إلّا بنيّة كانت ولدتها امها و أنا في سفر، فدفعتها الى أخواتها، و قدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل، فاخبرت أنها

______________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 42 و 43.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:60

ولدت ولدا ميتا، و كتمت حالها، حتى مضت على ذلك سنون، و كبرت الصبية، و ينعت، فزارت امها ذات يوم، فدخلت فرأيتها و قد ضفرت شعرها و جعلت في قرونها جدادا و نظمت عليها و دعا، و البستها قلادة من جزع فقلت لها: من هذه الصبية؟ و قد اعجبني جمالها فبكت امها، و قالت: هذه ابنتك، فامسكت عنها حتى غفلت امها ثم اخرجتها يوما فحفرت لها حفرة و جعلتها فيها و هي تقول:

يا ابت ما تصنع؟ اخبرني بحقك!! و جعلت اقلّب عليها التراب، و هي تقول: أنت مغط عليّ بهذا التراب، أنت تاركي وحدي، و منصرف عني، و جعلت اقذف عليها ختى واريتها، و انقطع صوتها، فتلك حسرتها في قلبي، فدمعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إن هذه لقسوة، و من لا يرحم لا يرحم» «1».

و قد ذكر ابن الاثير في كتابه «اسد الغابة» في مادة: قيس: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله سأل قيسا عن عدد البنات اللاتي وأدهنّ في الجاهلية: فاجاب قيس بانه وأد اثنتي عشرة بنتا له «2».

و روي عن ابن عباس أنه قال: كانت الحامل اذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فاذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة و اذا ولدت ولدا حبسته «3».

(1)

المرأة و مكانتها الاجتماعية عند العرب:

كانت المرأة عندهم تباع و تشترى

كالمتاع، و كانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة و الفردية، حتى حق الارث.

و قد كان المثقفون من العرب يعدّون النساء من الحيوانات، و لهذا كانوا يعتبرونهن جزء من أثاث البيت و يعاملونهن معاملة الرياش و الفراش حتى سار

______________________________

(1) حياة محمّد: تأليف محمّد علي سالمين، ص 24 و 25.

(2) راجع اسد الغابة: ج 4 ص 220، و جاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتا.

(3) بلوغ الارب: ج 3 ص 43.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:61

فيهم المثل المعروف: «و انما امّهات الناس اوعية».

كما أنهم غالبا ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر تارة، و دفعا للعار و الشنان تارة اخرى.

و قد كان هذا القتل يتمّ إما بذبحهن أو إلقائهنّ من شاهق، أو إغراقهنّ في الماء، أو الدفن و هن أحياء كما سبق.

(1) و قد تعرض القرآن الكريم- الذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتاب و المصدر التاريخي العلمي الوحيد الذي لم تنله يد التحريف- تعرّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» «1».

هذا و المؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية، حيث لم يكن يستند الى اي قانون، و لم يخضع لأيّ واحد من النظم المعقولة، بل كان وضعا عديم النظير في ذلك الزمان، فلم يكن لعدد الزوجات- مثلا- حد معلوم، او قاعدة ثابتة.

كما انهم كلما أرادوا التخلص من مهر الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة، حتى تتخلى

هي بنفسها عن حقها، و كان اقترافها لأيّ عمل مناف للعفة هو الآخر سببا لسقوط حقها في المهر بالمرة.

(2) و لطالما استغلّ بعض الاشخاص هذا القانون الجائر للتخلص من مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!!

و من قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها، أو وفاته و ربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحدا بعد واحد، فقد كان الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه، فان كان يحبّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها، و إن لم يكن يريد التزوج بها تزوّج بها بعض اخوته بمهر

______________________________

(1) النحل: 58 و 59.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:62

جديد «1».

و قد ابطل الإسلام هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا» «2».

و قد ذكرت كتب التاريخ و السيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم.

كما ذكرت تلك الكتب انواعا اخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة التي أبطلها الإسلام «3».

ثم إن المطلّقة لم يكن لها الحق- في زمن الجاهلية- في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذن لها الزوج الأول الذي كان غالبا ما يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن.

و ربما منع اولياؤها من أن تتزوج بزوجها الأول الذي طلّقها، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيت به و رغبت فيه، أو أن تتزوج بمن أرادت و احبّت- بعد انقضاء العدّة- أصلا، حميّة جاهلية.

و كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها، تماما كما يرث ما خلّف من أمتعة المنزل، زاعما بانه أحق بها من غيره، فيعضلها (يمنعها من الزواج) او

تردّ إليه صداقها، و في رواية؛ إن كانت جميلة تزوجها، و ان كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، و قد نهى اللّه تعالى عن ذلك، و أبطل تلك العادات اذ قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» «4».

______________________________

(1) المحبر: ص 326 و 327.

(2) النساء: 22، و كانوا يسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن، و كان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية «نكاح المقت» و يسمى الولد منه: مقتيّ. (راجع بلوغ الارب: ج 2 ص 53 و مجمع البيان للطبرسي: ج 3 ص 26).

(3) المحبر: 337- 340.

(4) البقرة: 232.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:63

و قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» «1».

و قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» «2».

و خلاصة القول؛ إن المرأة كانت في العهد الجاهليّ بشرّ حال، و يكفي لتلخيص ما قلناه انه لما خطب احدهم الى رجل ابنته، و ذكر له المهر و الصداق قال: إنّي و إن سيق إليّ المهر ألف و عبدان (اي عبيد و مماليك) و ذود (و هو من الابل من الثلاث الى العشر) عشر، أحبّ أصهاري إليّ القبر و قال شاعرهم، في ذلك.

لكلّ أبي بنت يراعي شئونهاثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها و خدر يكنهاو قبر يواريها و أفضلها القبر «3» كما ان العرب كانت مصفقة و

متفقة على توريث البنين دون البنات «4».

(1)

مقارنة بسيطة:

و لو لاحظت أيها القارئ الكريم الحقوق التي قررها الإسلام في مجال (المرأة) لاذعنت- حقا- بأن هذه الاحكام و المقررات و هذه الخطوات المؤثرة التي خطاها النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في سبيل اصلاح حقوق المرأة، و تحسين اوضاعها، هي بذاتها شاهد حق، و دليل صدق على حقانيّته، و صدق ارتباطه بعالم الوحي.

فاية رعاية و لطف بالمرأة و حقوقها و أي اهتمام بشأنها و كرامتها أعلى و اكثر من ان يوصي النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله مضافا الى ما جاء في آيات و احاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة و توصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن و احترامهن في

______________________________

(1) النساء: 19.

(2) البقرة: 231.

(3) بلوغ الارب: ج 2 ص 9.

(4) المحبر: ص 236.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:64

خطبته الشهيرة في (حجة الوداع) بالمرأة، و يؤكد على ذلك اشد تأكيد انه يقول صلّى اللّه عليه و آله:

«أيها النّاس إنّ لنسائكم عليكم حقا، و لكم عليهنّ حقا ... فاتقوا اللّه في النّساء و استوصوا بهنّ خيرا، فانهنّ عندكم عبوان ... أطعموهنّ ممّا تأكلون، و ألبسوهنّ ممّا تلبسون» «1».

(1)

العرب و الرّوح القتالية:

من الناحية النفسية يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص، الموصوف بالطمع الشديد، الفويّ التعلق بالماديات.

لقد كانوا ينظرون الى كل شي ء من زاوية منافعه و مردوداته المادية، كما أنهم كانوا دائما يرون لأنفسهم فضيلة و ميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حبا شديدا، و لذلك كانوا يكرهون كل شي ء يقيّد حريتهم.

(2) يقول ابن خالدون عنهم: «إنهم (اي العرب الجاهلية) بطبيعة التوحّش الذي فيهم اهل انتهاب و عيث، ينتهبون ما قدروا عليه ... و كان ذلك عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، و عدم الانقياد

للسياسة و هذه الطبيعة منافية للعمران و مناقضة له».

و يضيف قائلا: «فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، و ان رزقهم في ظلال رماحهم و ليس عندهم في أخذ اموال الناس حدّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم الى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه» «2».

لقد كانت الاغارة و كان النهب و القتال من العادات المستحكمة عند القوم، و من الطبائع الثانوية في نفوسهم، و قد بلغ ولعهم و شغفهم بكل ذلك و نروعهم

______________________________

(1) وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شي ء طفيف من الاختلاف، راجع تحف العقول:

ص 33 و 34.

(2) مقدّمة ابن خالدون: ص 149.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:65

الشديد إليه، أن أحدهم- كما يقال- سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن سمع منه وصف الجنة و ما فيها من نعيم: و هل فيها قتال؟

و لما سمع الجواب بالنفي قال: اذن لا خير فيها!!

اجل لقد سجل التاريخ للعرب ما يقرب من (1700) وقعة و حربا، امتد أمد بعضها الى مائة سنة أو اكثر، يعني أن أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب، و تستمر في قتال الخصم، و ربّ حرب دامية طويلة الأمد اندلعت بسبب قضيّة تافهة «1».

(1) لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأن الدم لا يغسله إلا الدم، و قضية «الشنفري» التي هي اشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى «العصبية الجاهلية» التي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يهان على يد رجل من «بني سلامان» فيعزم على الانتقام منه، و ذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة، و بعد التربّص الطويل يغتال تسعا و تسعين، و يبقى مشرّدا حتى تغتاله جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته- بعد مقتله- فعلتها، اذ تتسبّب بعد مرور سنين- في قتل

رجل من قبيلة- «بني سلامان» و بذلك يكتمل العدد الذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة، و ذلك عند ما يمر رجل من «بني سلامان» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة «شنفرة» على ذلك الرجل فتصيبه في رجله بشدة، فيموت بما لحقه من ألم و جراحة «2».

______________________________

(1) العرب قبل الإسلام: ص 319 و 320، هذا و تعتبر حرب داحس و الغبراء من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام، و قد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس و الغبراء (و هو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس) و فرسين آخرين (لحذيفة الغدر) انتهى الى التنازع في السباق و ازداد التنافر بين المتسابقين و انجرّ الى طعن أحدهما الآخر، و أن تتهيأ على اثر ذلك مقدمات حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين و حلفائهما استمرت من عام 568 م الى عام 608 م و موت كثيرين.

(راجع تاريخ العرب و آدابهم ص 47 و الكامل لابن الأثير: ج 1 ص 204).

(2) تاريخ العرب: ج 1 ص 111، و راجع أيضا بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 145 و 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:66

(1) و لقد بلغ انس العرب الجاهلية بالقتال و سفك الدماء أن جعلوا القتل و السفك للدماء من مفاخر الرجال!!

و يبدو ذلك جليا لمن يقرأ قصائدهم الملحمية التي تفوح منها رائحة الدم، و يخيّم عليها شبح الموت، تلك القصائد التي يمدح فيها الشاعر نفسه او قبيلته بما أراقوه من دماء!!، و ما ازهقوه من ارواح و ما سبوه من نساء!!، و أيتموه من أطفال!!

و نجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصاب قبيلته من نكسة و ذل و هزيمة

في ميدان القتال، اذ يقول:

فليت لي بهمو قوما إذا ركبواشنّوا الإغارة ركبانا و فرسانا و يصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» «1».

(2)

الاخلاق العامة في المجتمع الجاهلي العربي:

و مهما يكن من امر فان عوامل مختلفة كالجهل و ضيق ذات اليد، و جشوبة العيش، و عدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية، و حالة البداوة الموجبة للتوحش، و الكسل و البطالة و غير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حوّلت جوّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم، حتى أن امورا يندى لها الجبين قد اخذت طريقها الى حياة تلك الجماعة و راحت تتخذ شيئا فشيئا صفة العادات المتعارفة!!

لقد كانت الغارات و عمليات النهب، و القمار، و الربا، و الاسر، و السبي من الأعمال و الممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية، و كان شرب الخمر و معاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم، و لقد ترسّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم الى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم، و حتى أن

______________________________

(1) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:67

شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة و وصفها و كانت الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن، و قد نصبت عليها رايات.

فها هو شاعرهم يقول:

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمةتروّي عظامي بعد موتى عروقها

و لا تدفنني في الفلاة فإنّني أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها «1» لقد بلغت معاقرة الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة «التجارة» تعادل في عرفهم بيع الخمور، و الاتجار بها.

(1) و لقد كانت الأخلاق تفسر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة و المروءة و الغيرة، و لكنهم كانوا

يقصدون من «الشجاعة» القدرة على الإغارة و سفك الدماء، و كثرة عدد القتلى في الحروب!! كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات حتى أن هذا العمل الوحشيّ كان يعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة، و كانوا يرون الوفاء و الوحدة في نصرة الحليف حقا أو باطلا، و هكذا فان اكثر القصص التي نقلت عن شجاعتهم و شغفهم بالحرية كانت الشجاعة و الشغف بالحرية فيها تتلخص و تتجسّد في الاغارة و الانتقام.

انهم كانوا يعشقون- في حياتهم- المرأة و الخمرة و الحرب ليس غير.

(2)

النزوع الى الخرافة و الاساطير في المجتمع الجاهلي:

و لقد بيّن القرآن الكريم اهداف البعثة المحمّدية المقدسة بعبارات موجزة، و ممّا يلفت النظر- اكثر من أيّ شي ء- ما ذكره تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الاهداف و الغايات العليا إذ قال: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «2».

______________________________

(1) تفسير مفاتيح الغيب: ج 2 ص 262 طبعة مصر 1305.

(2) الأعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:68

(1) فلا بدّ أن نعرف ما ذا كانت تلك الأغلال و السلاسل التي كانت عرب الجاهلية ترزح تحتها حتى قبيل بزوغ فجر الإسلام؟

لا ريب أنّها لم تكن من جنس الأغلال و السلاسل الحديدية، و لم يكن المقصود منها ذلك أبدا، فما ذا كانت إذن يا ترى؟

أجل إن المقصود من هذه الاغلال هي الأوهام و الخرافات التي كانت تقيّد العقل العربي عن الحركة، و تعيقه عن النمو و التقدم، و لا شك أن مثل هذه السلاسل و الأغلال التي تقيّد الفكر البشري و تمنعه من التحليق و التسامي، اثقل بكثير من الاغلال و القيود الحديدية و اضرّ على الإنسان منها بدرجات و مراتب، لأنّ الأغلال الحديديّة توضع عن الأيدي و الأرجل بعد مضي زمان، و يتحرر

الإنسان منها، بعد حين، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّأة من الأوهام و الخرافات، و قد زالت عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح و آلام.

(2) أما السلاسل و الاغلال الفكرية (و نعني بها الاوهام و الاباطيل و الخرافات) التي قد تهيمن على عقل الإنسان و تكبّل شعوره فانها طالما رافقت الإنسان الى لحظة وفاته، و اعاقته عن المسير و الانطلاق، دون ان يستطيع التحرر منها، و التخلص من آثارها، و تبعاتها، اللهم اذا استعان على ذلك بالتفكير السليم، و الهداية الصحيحة.

فبالتفكير السليم و في ضوء العقل البعيد عن أيّ و هم و خيال يمكنه التخلص من تلك الاغلال و القيود الثقيلة، و أما بدون ذلك فإن أي سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

(3) إن من أكبر مفاخر نبي الإسلام أنه كافح الخرافات، و أعلن حربا شعواء على الأساطير، و دعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام و التخيلات، و قال: لقد جئت لاخذ بساعد العقل البشري، و أشد عضده، و احارب الخرافه مهما كان مصدرها. و كيفما كان لونها و أيّا كانت غايتها، حتى لو خدمت أهدافي، و ساعدت على تحقيق مقاصدي المقدسة.

إنّ ساسة العالم الذين لا تهمهم إلّا إرساء قواعد حكمهم و سلطانهم على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:69

الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة، و الاستفادة من اية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتى أنهم لا يتأخرون عن التذرع بترويج الخرافات و الأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم، أو البقاء فيها ما امكنهم ذلك. و لو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين و منطقيين فانهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات و الأوهام و الاساطير التي لا تنسجم مع اي مقياس عقلي

بحجة الحفاظ على التراث القومي، او احترام راي اكثرية الشعب، او ما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

(1) و لكنّ رسول الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية التي كانت تلحق الضرر به، و بمجتمعه، بل كان يكافح و يحارب بجميع قواه كل اسطورة أو خرافة شعبية او فكرة فاسدة باطلة، تخدم غرضه، و تساعد على تحقيق التقدم في دعوته و يسعى إلى أن يجعل الناس يعشقون الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات، و يكونوا صحايا الاساطير و الأوهام، و إليك واحدا من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

لمّا مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو ابنه الوحيد، حزن عليه النبي حزنا شديدا فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار، و اتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضا، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع (العربي) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم و اعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا: انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه، فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر و قال: «أيّها الناس انّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره، و مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته، فاذا انكسفا، أو أحدهما صلّوا».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف و هي ما تسمى بصلاة الآيات «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 91 ص 155.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:70

(1) ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة و ان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس، و تخدم بالتالي غرضه، و تساعد على انتشار دعوته، و تقدمها، إلا أنه صلّى اللّه عليه و آله رفض أن يحصل

على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق.

على أن محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للخرافات و الاساطير التي كانت نموذجا بارزا من محاربته للوثنية، و تأليه المخلوقات و عبادتها، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته، حتى يوم كان صبيا يدرج، فانه كان يحارب الاوهام و الخرافات، و يعارضها في ذلك السن أيضا.

تقول حليمة السعدية مرضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما تمّ له (اي لمحمّد) ثلاث سنين قال لي يوما: «يا امّاه مالي لا أرى أخويّ بالنّهار»؟

قلت له: يا بنيّ إنهما يرعيان غنيمات، قال: «فما لي لا أخرج معهما»؟ قلت له:

تحبّ ذلك؟ قال: نعم.

فلما أصبح دهّنته و كحّلته و علّقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية (و هي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه)، فنزعها، و قال لي: «مهلا يا اماه فإنّ معي من يحفظني» «1».

(2)

الخرافات في عقائد العرب الجاهلية:

كانت عقائد جميع الامم و الشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات و الأساطير.

فالاساطير اليونانية و الساسانية كانت تخيّم على افكار الشعوب التي كانت تعدّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب و المجتمعات.

على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود و الى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة، و لم تستطع الحضارة الراهنة أن تزيلها من حياة الناس و معتقداتهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 392.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:71

إن تنامي الخرافة «يرتبط ارتباطا وثيقا بالمستوى العلمي و الثقافي في كل مجتمع، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفا من الناحية الثقافية و العلمية تزداد نسبة وجود الخرافة و مقدار نفوذها في عقول الناس و نفوسهم.

(1) لقد سجل التاريخ

عن سكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة و كبيرة من الاوهام و الخرافات، و قد جمع السيّد محمود الآلوسي اكثرها في كتابه «بلوغ الارب في معرفة احوال العرب»، مرفقا كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية و غيرها «1».

و من يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات التي كانت تملأ العقل العربي الجاهلي آنذاك و تعشعش في نفوسهم، و قد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب و الامم الاخرى.

و لقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية، و لهذا اجتهد النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بكل طاقاته في محو و ازالة آثار الجاهلية التي لم تكن سوى تلك الأوهام و الاساطير و الخرافات.

فعند ما وجّه «معاذ بن جبل» الى اليمن اوصاه بقوله:

«و امت أمر الجاهليّة إلّا ما سنّه الإسلام و أظهر أمر الإسلام كلّه صغيره و كبيره» «2».

(2) لقد وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولهم ترزح تحت الافكار و المعتقدات الخرافية ردحا طويلا من الزمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار و الاوهام الجاهلية اذ قال: «كلّ ماثرة في الجاهليّة تحت قدميّ» «3».

______________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 286- 369.

(2) تحف العقول: ص 25.

(3) السيرة النبوية: ج 3 ص 412.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:72

(1)

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي:
اشارة

و للوقوف على مدى أهمية التعاليم الإسلامية و قيمتها نلفت نظر القارئ الكريم الى نماذج من هذه الخرافات، و من أراد التوسع راجع المصدر المذكور.

(2)

1- الاستسقاء باشعال النيران:

كانت العرب إذا أجدبت، و أمسكت السماء عنهم، و أرادوا أن يستمطروا عمدوا الى السلع و العشر (و هما أشجار سريعة الاشتعال) فحزموهما، و عقدوهما في أذناب البقر، و أضرموا فيها النيران و أصعدوها في جبل وعر، و اتبعوها يدعون اللّه تعالى، و يستسقونه، و انما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... و كانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الاخرى، و كانت هذه الثيران و الابقار اذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بان ذلك هو الرعد!!! و قد قال شاعرهم في ذلك:

يا (كحل) قد أثقلت أذناب البقربسلع يعقد فيها و عشر

فهل تجودين ببرق أو مطر؟ (3)

2- ضرب الثور اذا عافت البقر:

كانوا إذا أوردوا البقر فتمتنع من شرب الماء، ضربوا الثور ليقتحم الماء، بعده و يقولون: إن الجنّ تصدّ البقر عن الماء، و أن الشيطان يركب قرني الثور، و لا يدع البقر تشرب الماء، و لذلك كانوا يضربون وجه الثور.

و قد قال في هذا شاعرهم:

كذاك الثور يضرب بالهراوى إذا ما عافت البقر الظماء و قال آخر:

فإني إذا كالثور يضرب جنبه إذا لم يعف شريا و عافت صواحبه «1»

______________________________

(1) عافت أي كرهت شرب الماء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:73

و قال ثالث:

فلا تجعلوها كالبقير و فحلهايكسّر ضربا و هو للورد طائع

و ما ذنبه إن لم ترد بقراته و قد فاجأتها عند ذاك الشرائع

(1)

3- كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيم:

اذا كان يصيب الإبل مرض او قرح في مشافرها و اطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكووا مشفره و عضده و فخذه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهب العرّ و القرح و المرض عن إبلهم السقيمة، و لا يعرف سبب ذلك.

و قد احتمل البعض أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعرّ الذي أصاب غيرها، أو أنه نوع من المعالجة العلمية، و لكن لما ذا ترى كانوا يعمدون إلى بعير واحد من بين كل تلك الابل، فلا بد من القول بأن هذا الفعل كان ضربا من الاعمال الخرافية التي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

و قد قال شاعرهم عن ذلك:

و كلّفتني ذنب امرئ و تركته كدى العرّ يكوى غيره و هو راتع و قال آخر:

كمن يكوي الصحيح يروم برآبه من كل جرباء الإهاب و قال ثالث:

فالزمتني ذنبا و غيري جرّه حنا نيل لا تكون الصحيح بأجربا

(2)

4- حبس ناقة عند القبر اذا مات كريم:

إذا مات منهم كريم عقلوا ناقته او بعيره عند القبر الذي دفن فيه ذلك الكريم، فعكسوا عنقها، و أداروا رأسها الى مؤخّرها و تركوها في حفيرة لا تطعم و لا تسقى حتى تموت، و ربما احرقت بعد موتها و ربما سلخت و ملئ جلدها ثماما، و كانوا يزعمون أن من مات و لم يبل عليه (اي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:74

حشر ماشيا، و من كانت له بلية (اي ناقة عقلت هكذا) حشر راكبا على بليّته.

و قد قال أحدهم في هذا الصدد:

اذا متّ فادفنّي بحرّاء ما بهاسوى الأصرخين أو يفوّز راكب

فإن أنت لم تعقر عليّ مطيّتي فلا قام في مال لك الدهر حالب و قال آخر و هو يوصي ولده بان يفعلوا له

ذلك:

أ بنيّ لا تنس البليّة إنهالأبيك يوم نشوره مركوب

(1)

5- عقر الإبل على القبور:

كانوا إذا مات أحدهم ضربوا قوائم بعير بالسيف عند قبره، و قيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته و ينحره للاضياف.

و قد ابطلت الشريعة المقدسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث «لا عقر في الإسلام».

و قد قال أحدهم حول العقر هذا:

قل للقوافل و الغزاة اذا غزواو الباكرين و للمجدّ الرائح

إن الشجاعة و السماحة ضمّناقبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الجلاد و كل طرف سابع

و أنضح جوانب قبره بدمائهافلقد يكون اخادم و ذبائح

6- نهيق الرجل إذا اراد دخول القرية (التعشير):

(2) و من خرافاتهم أن الرجل منهم كان إذا اراد دخول قرية فخاف وباءها او جنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنهق نهيق الحمار، ثم علّق عليه كعب ارنب كأنّ ذلك عوذة له، و رقية من الوباء و الجن و يسمون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم:

و لا ينفع التعشير أن حمّ واقع و لا زعزع يغني و لا كعب ارنب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:75

و قال الآخر:

لعمري إن عشّرت من خيفة الردى نهاق حمير أنني لجزوع

7- تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي:

(1) فقد كان الرجل منهم اذا ضلّ في فلاة قلب قميصه و صفق بيديه، كأنه يومئ بهما الى انسان مهتدى.

قال أعرابي في ذلك:

قلبت ثيابي و الظنون تجول بي و يرمي برجلي نحو كل سبيل

فلأيا بلائي ما عرفت حليلتي و أبصرت قصدا لم يصب بدليل

8- الرتم:

(2) و ذلك أن الرجل منهم كان اذا سافر عمد الى خيط فعقده في غصن شجرة او في ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإن وجده بحاله علم ان زوجته لم تخنه و ان لم يجده أو وجده محلولا قال: قد خانتني. و ذلك العقد يسمى «الرتم».

قال شاعرهم في ذلك:

خانته لما رأت شيبا بمفرقه و غرّه حلفها و العقد للرتم و قال الآخر:

لا تحسبنّ رتائما عقدنّهاتنبيك عنها باليقين الصادق و قال ثالث:

يعلل عمرو بالرتائم قلبه و في الحيّ ظبيّ قد أحلّت محارقه

فما نفعت تلك الوصايا و لا جنت عليه سوى ما لا يحبّ رتائمه

9- وطي المرأة القتيل الشريف لبقاء ولدها:

فقد كانت العرب تقول: ان المرأة المقلاة و هي التي لا يعيش لها ولد، إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:76

قال احدهم:

تظلّ مقاليت النساء يطأنه يقلن أ لا يلقى على المرء مئزر

10- طرح السنّ نحو الشمس اذا سقطت:

(1) و من تخيّلات العرب و خرافاتهم أن الغلام منهم اذا سقطت له سن أخذها بين السبابة و الابهام و استقبل الشمس اذا طلعت و قذف بها و قال: يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها و لتجر في ظلمها إياتك، او تقول إياؤك، و هما جميعا شعاع الشمس.

قال احدهم و هو يصف ثغر معشوقته:

سقته إياة الشمس إلّا لثاته أسفّ و لم تكرم عليه باثمد أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها.

هذا و قد أشار شاعرهم الى هذا الخيال (او قل الخرافة المذكورة) اذ قال:

شادن يحلو إذا ما ابتسمت عن أقاح كاقاح الرمل غر

بدلته الشمس من منبته بردا أبيض مصقول الاثر

11- تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون:

و من تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون، و تعرّض الارواح الخبيثة له نجّسوه بتعليق الاقذار كخرقة الحيض و عظام الموتى قالوا:

و أنفع من ذلك أن تعلّق عليه طامت عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك. و انشدوا في ذلك:

فلو أن عندي جارتين و راقياو علّق أنجاسا عليّ المعلق و قالت امرأة و قد نجّست ولدها فلم ينفعه ذلك و مات:

نجّسته لا ينفع التنجيس و الموت لا تفوته النفوس

12- دم الرئيس يشفي:

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:77

قال الشاعر:

بناة مكارم و اساة جرح دماؤهم من الكلب الشفاء و قال آخر:

أحلامكم لسقام الجهل شافيةكما دماؤكم تشفي من الكلب

13- شق البرقع و الرداء يوجب الحب المتقابل:

و من أوهامهم و تخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا احب امرأة و احبّته فشق برقعها و شقّت رداءه صلح حبهما و دام، فان لم يفعلا ذلك فسد حبهما، قال في ذلك احدهم:

و كم شققنا من رداء محبّرو من برقع عن طفلة غير عانس

اذا شق برد شق بالبرد برقع دواليك حتى كلّنا غير لابس

نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى و الف الهوى يغوى بهذي الوساوس

(1)

14- معالجة المرضى بالامور العجيبة:

و من مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه و نادى بين بيوت الحيّ: الحلأ الحلأ، الطعام الطعام، فتلقي له النساء كسر الخبز، و اقطاع التمر و اللحم في المنخل ثم يلقي ذلك للكلاب فتأكله، فيبرأ من المرض فان أكل صبيّ من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة او لقمة أو لحمة بثرت شفته.

فقد رويت عن امرأة أنها انشدت:

ألا حلأ في شفة مشقوقه فقد قضى منخلنا حقوقه و من أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم، و ظنّوا أنّ به مسّا من الجن لانه قتل حية، أو يربوعا، أو قنفذا، عملوا جمالا من طين و جعلوا عليها جوالق و ملأوها حنطة و شعيرا و تمرا، و جعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس و باتوا ليلتهم تلك، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك

سيد المرسلين ،ج 1،ص:78

الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها و ان رأوها قد تساقطت و تبدّد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية و استدلوا على شفاء المريض و فرحوا و ضربوا الدفّ.

قال بعضهم:

قالوا و قد طال عنائي و السقم احمل الى الجن جمالات و ضمّ

فقد فعلت و السقام لم يرم فبالذي يملك

برئي اعتصم و قال آخر:

فيا ليت أن الجن جازوا حمالتي و زحزح عني ما عناني من السقم

اعلّل قلبي بالّذي يزعمونه فيا ليتني عوفيت في ذلك الزعم و من مذاهبهم في هذا المجال أن الرجل منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء (و هو مرض جلدي) عالجها بالريق.

قال احدهم:

يا عجبا لهذه الفليقةهل تذهبّن القوباء الريقة

15- خرافات في مجال الغائب:

كانوا إذا غمّ عليهم أمر الغائب و لم يعرفوا له خبرا جاءوا إلى بئر عادية (أي مظلمة بعيدة القعر) أو جاءوا إلى حصن قديم و نادوا فيه: يا فلان أو يا أبا فلان (ثلاث مرات)، و يزعمون انه إن كان ميتا لم يسمعوا صوتا، و إن كان حيا سمعوا صوتا ربّما توهموه و هما، أو سمعوه من الصدى فبنوا عليه عقيدتهم، قال بعضهم في ذلك:

دعوت أبا المغوار في الحفر دعوةفما آض صوتي بالذي كنت داعيا «1»

أظن أبا المغوار في قصر مظلم تجرّ عليه الذاريات السوافيا و قال آخر:

و كم ناديته و الليل ساج بعاديّ البئار فما أجابا

______________________________

(1) آض أي عاد و رجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:79

و من ذلك أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال: (أرى من احبّه) فإن كان غائبا توقع قدومه، و إن كان بعيدا توقّع قربه، و قال أحدهم:

إذا اختلجت عيني أقول لعلّهافتاة بني عمرو بها العين تلمع و قال آخر:

إذا اختلجت عيني تيقّنت إنّني أراك و إن كان المزار بعيدا و كانوا إذا لا يحبّون لمسافر أن يعود إليهم أوقدوا نارا خلفه و يقولون في دعائهم «أبعده اللّه و أسحقه و أوقد نارا إثره» قال بعضهم:

صحوت و أوقدت للجهل ناراورد عليك الصباما استعارا

16- عقائدهم العجيبة في الجنّ و تأثيره:

كانت العرب في الجاهلية تعتقد في الجن و تأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقادات عجيبة و في غاية الغرابة.

فتارة تستعيذ بالجن، و قد استعاذ رجل منهم و معه ولد فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي من شرّ ما فيه من الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي

و عن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانه في القرآن: «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» «1».

و من ذلك اعتقادهم

بهتاف الجن. و لهم في هذا المجال أساطير خرافية مذكورة في محلّها.

و من هذا القبيل اعتقادهم بالغول، فقد كانت تزعم العرب في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات (و هي من جنس الشياطين) تتراءى للناس، و تغول تغولا اي تتلوّن تلونا فتضلّهم عن الطريق، و تهلكهم، و من هذا القبيل أيضا اعتقادهم بالسعالي!!

______________________________

(1) الجن: 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:80

و قد قال أحدهم في ذلك:

و ساحرة عينيّ لو أنّ عينهارأت ما الاقيه من الهول جنّات

أبيت و سعلاة و غول بقفرةإذا الليل و أرى الجن فيه أرنت

17- تشاءمهم بالحيوانات و الطيور و الاشياء:

و من مذاهبهم الخرافية تشاءمهم بأشياء كثيرة و حالات عديدة:

فمن ذلك؛ تشاءمهم بالعطاس.

و تشاءمهم بالغراب حتى قالوا: فلان أشأم من غراب البين، و لهم في هذا المجال أبيات شعرية كثيرة منها قول أحدهم:

ليت الغراب غداة ينعب دائباكان الغراب مقطّع الأوداج و كذا تشاءمهم و تطيّرهم بالثور المكسور القرن و الثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات و الأوهام و الخرافات و الاساطير، و الاعتقادات العجيبة، و التصورات الغريبة التي تزخز بها كتب التاريخ المخصصة لبيان أحوال العرب قبل الإسلام و حتى ابان قيام الحضارة الإسلامية.

(1)

مكافحة الإسلام لهذه الخرافات:

و لقد كافح الإسلام جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة، و اساليب متنوعة.

أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونه بالحيوانات (2) فمضافا إلى أنّ أيّ شي ء من هذه الأعمال لا ينسجم مع العقل و المنطق و العلم لأن المطر و الغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران، و ضرب الثيران لا يؤثر في البقر، كما لا ينفع كيّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة، و تعتبر هذه الاعمال نوعا من تعذيب الحيوانات و قد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات و ايذائها، باي شكل كان.

(3) فقد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «للدّابة على صاحبها ستّ خصال:

1- يبدأ بعلفها إذا نزل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:81

2- و يعرض عليها الماء إذا مرّ به.

3- و لا يضرب وجهها فإنها تسبّح بحمد ربّها.

4- و لا يقف على ظهرها إلا في سبيل اللّه عزّ و جلّ.

5- و لا يحمّلها فوق طاقتها.

6- و لا يكلّفها من المشي إلا ما تطيق «1».

كما روي أنه نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أن توسم البهائم في وجهها، و أن تضرب في وجوهها فانها تسبّح

بحمد ربها.

و من هنا ندرك ان التعاليم في مجال الرفق بالحيوان، و حمايته، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.

و اما بالنسبة الى التمائم و الأشياء التي كانت تعلّقها العرب على أعناق و صدور رجالها، و أولادها، من الأحجار و الخرز، و عظام الموتى، و معالجة المرضى و المصابين و غيرهم بها أحيانا فقد حاربها الإسلام، بعد أن أبطلها كما ابطل الافاعيل التي سبق أن ذكرناها قبل هذا.

فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سألوه عن الرّقى و القلائد التي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن التداوي بالعقاقير و الأدوية قائلين يا رسول اللّه: أ نتداوى؟

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تداووا فإنّ اللّه لم يضع داء إلا وضع له دواء» «2».

بل نجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر سعد بن أبي وقاص عند ما اصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسه عند طبيب إذ قال له لما عاده و عرف بحاله: «إنك رجل مفود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبّب» «3».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 286، و راجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية: ص 130- 159 أيضا.

(2) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 178.

(3) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 179.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:82

(1) هذا مضافا إلى أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة التي لا تنفع و لا تضرّ أبدا، و ها نحن نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث:

1- يقول أحدهم: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بابن لي قد اعلقت

عليه من العذرة (و هي قلادة سحرية جاهلية) فقال: علام تدغرن أولادكنّ بهذا العلاق، عليكنّ بهذا العود الهنديّ» و كان صلّى اللّه عليه و آله يقصد عصارة هذا العود «1».

2- روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام أنه قال: «إنّ كثيرا من التمائم شرك» «2».

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياءه الكرام- بارشادهم الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير و الأدوية و ما أعطوه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان: «طبّ النبي» و «طب الرضا» و ... و- قد وجهوا ضربة قوية اخرى إلى تلك الأوهام و التخيّلات، و الخرافات و الاساطير التي كان يعاني منها المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام «3».

و أما الغول، و الطيرة، و التشاؤم، و الهامّة و النوء فقد حاربها النبي بصراحة اذ قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا هامّة و لا نوء و لا طيرة، و لا غول» «4».

و قال (ص) «العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت» «5».

______________________________

(1) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 184.

(2) سفينة البحار: ج 1 مادة رقي.

(3) و قد فتح المحدّثون من الفريقين أبوابا خاصّا لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضا.

(4) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية، قال مؤلف التاج: الهامّة طائر أو البوم إذا سقط في مكان تشاءم أهله، أو دابّة تخرج من رأس القتيل أو من دمه فلا تزال تصيح حتى يؤخذ بثاره، و النوء نجم يأتي بالمطر و آخر يأتي بالريح (حسب عقيدة الجاهلية)!!

(5) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 201. قال

مؤلّف التاج العيافة زجر الطّير و التفاؤل بأسمائها و أصواتها كالتفاؤل بالعقاب على العقاب، و بالغراب على الغربة، و بالهدهد على الهدى، و كذا بأفعالها، و كيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطير و تثيره فما اخذ منها ذات اليمين تبركوا به-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:83

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا أنه قال: «إنّ الرقى و التمائم و التوله شرك» «1».

و عن أحدهم قال: قلت يا رسول اللّه امورا كنّا نصنعها في الجاهلية، كنّا نأتي الكهّان، قال: فلا تأتوا الكهان، قلت: كنّا نتطيّر قال: ذاك شي ء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدّنكم».

إن وجود النهي الشديد و المكرّر في الأحاديث الكثيرة عن الطيرة و التشاؤم، و الزجر و العيافة و التمائم و التولة و الهامّة و النوء و الغول، و الكهانة، و ايذاء الحيوانات و كيهنّ، و تعذيبهن، و ما شابه ذلك يدل بوضوح و قوة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها، و نزوعهم إليها و هو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «2» فأيّة سلاسل و أغلال أثقل و أسوأ عاقبة و أشدّ وطئة، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة و الوهم، و سلاسل التخيلات و الاساطير؟!!

(1)

أوضاع العرب الاجتماعية قبيل ظهور الإسلام:

إن اولى خطوة خطاها البشر باتّجاه النمط الاجتماعي كانت عند ما أقبل على تأسيس و إقامة الحياة القبلية، فالقبيلة تتكون من اجتماع عدة عوائل و اسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى و النسب تحت زعامة شيخ القبيلة، و بهذا يتحقق

______________________________

- و تيمّنوا و ما تياسر منها تشاء موابه (كما في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 212

تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب).

و «الطرق»: الضرب بالحصى (للاستدلال على امور غيبيّة باعتقاد الجاهليين). و الجبت هو الباطل.

(1) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 203. قال مؤلّف الجامع: «التولة»: نوع من السحر يحبّب الرجل إلى زوجته، و هو من عمل المشركين (أي في الجاهلية).

(2) سورة الأعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:84

أبسط نمط من أنماط الحياة الاجتماعية.

(1) و قد كانت الحياة العربية- آنذاك- من هذا القبيل، فكل مجموعة من العوائل المترابطة نسبيا تتجمع في شكل قبيلة، و تشكل بذلك مجتمعا صغيرا يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة و زعيمها، و لقد كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية، و الوشيجة النسبية، و كانت هذه القبائل تختلف في عاداتها و رسومها، و تقاليدها و أعرافها، اختلافا كبيرا، و إذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزنا و لا قيمة، و لا تعترف لهم باي حق أو حرمة.

و لهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين و قتلهم، و نهب أموالهم، و سلب ممتلكاتهم و سبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة، اللّهم إلّا أن يكون بين القبيلة، و القبيلة الاخرى حلف أو معاهدة.

هذا من جانب.

و من جانب آخر كانت القبيلة التي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اخرى ترى من حقها أن تردّ الصاع صاعين، فتقتل كل أفراد القبيلة المغيرة، لأن الدّم- في نظرهم- لا يغسله الا الدّم!!!

و لقد تبدلت أخلاقية العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف، بل تحوّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلفة و النظام العشائري الضيّق هذا، إلى حكومة عالميّة، و استطاع رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة أمّة واحدة.

(2) و

لا شك أن تأليف امة واحدة من قبائل و جماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر و التنازع، و التخاصم و التقاتل، و التهاجم و الإغارة في ما بينها، و استمرأت سفك الدماء، و إزهاق الارواح، و ذلك في مدة قصيرة، عمل عظيم جدا، و معجزة اجتماعية لا نظير لها، لأن مثل هذا التحوّل العظيم إذا اريد له أن يتمّ عبر التحوّلات و التطورات العاديّة لاحتاج الى تربية طويلة الامد، و وسائل لا تحصى كثرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:85

(1) يقول «توماس كارليل» في هذا الصدد: لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، و أحيى به منها امة خاملة لا يسمع لها صوت و لا يحسّ فيها حركة، حتى صار الخمول شهرة و الغموض نباهة و الضعة رفعة و الضعف قوة، و الشرارة حريقا، و شمل نوره الأنحاء و عمّ ضوؤه الأرجاء ما هو إلا قرن بعد إعلان هذا الدين حتى أصبح للعرب (المسلمين) قدم في الهند و اخرى في الاندلس «1».

و الى هذه الحقيقة يشير أيضا مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير «رينان» قائلا: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ و الثقافي و الدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمّة فاتحة مبدعة و لم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الاولى من الميلاد، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ» «2».

(2) أجل إن هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة، و لم تمتلك أية تعاليم و قوانين، و أنظمة و آداب قبل مجي ء الإسلام، لقد كانت محرومة من جميع المقومات الاجتماعية التي توجب التقدم و الرقي، و لهذا لم يكن من المتوقع

ابدا ان تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد و العظمة، و لا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة الى عالم الانسانية الواسع، و افق الحضارة الرحيب بمثل هذه السرعة التي وصلت إليه، و الزمن القصير الذي انتقلت فيه.

إنّ مثل الشعوب و الامم البشرية مثل المباني و العمارات تماما.

فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج الى موادّ إنشائية قوية معدّة باتقان و محضّرة باحكام حتى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ، و المؤسس بعناية و هندسة متقنة من الوقوف في وجه الأعاصير، و الأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيان كل امة رشيدة من الامم إلى اسس و قواعد محكمة (و هي الأصول و الآداب الكاملة، و الأخلاق الإنسانية العالية) لتستطيع من البقاء و التقدم.

______________________________

(1) الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام: ص 38، و الإسلام العلم و الحديث: ص 33.

(2) حضارة العرب: ص 87.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:86

(1) و لهذا السبب لا بد من التأمل في أمر و سرّ هذه الظاهرة العجيبة و لا بد أن نتساءل:

كيف تحقق ذلك التطور العظيم، و ذلك التحول العميق للعرب الجاهلية، و من اين نشأ؟؟

كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة، متعادية، متناحرة، متباغضة، في ما بينها، بعيدة عن النظم الاجتماعية، بمثل هذا السرعة الى أمّة متآلفة متآخية متعاونة متسالمة متحابة، و تشكل دولة قوية كيانا سياسيا شامخا أوجب أن تخضع لها دول العالم و شعوبه، و تطيعها، و تحترم مبادئها و اخلاقها و آدابها آنذاك.

(2) حقا لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلما ذا لم تستطع عرب اليمن الذين كانوا يمتلكون شيئا كبيرا من الثقافة و الحضارة، و الذين عاشوا الانظمة الملكية سنينا عديدة، بل و ربّت في

احضانها ملوكا و قادة كبارا، أن تصل الى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة، و تقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.

لما ذا لم تستطع العرب الغساسنة الذين كانوا يجاورون بلاد الشام المتحضرة، و يعيشون تحت ظلّ حضارة «الروم» أن يصلوا الى هذه الدرجة من الرشد؟

(3) لما ذا لم تستطع عرب الحيرة الذين كانوا- و إلى الامس القريب- يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي و التقدم؟ و حتى لو وصلوا الى هذه الدرجة من التقدم و حققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمرا يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى، و يتغذون منها، و لكن الذي يثير الدهشة، و العجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة، و يرثوا الحضارة الإسلامية العظمى و هم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية، و لم يكن لهم عهد بأيّ تاريخ حضاريّ مشرق، بل كانوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوهم و التخيّل، و يسيرون في ظلمات الخرافات و الأساطير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:87

(1)

دول الحيرة و غسّان:

على العموم كانت المناطق ذات المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي: «ايران»، «الروم»، «و الحبشة».

فالشرق و الشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية «ايران».

و الشمال الغربي كان تابعا للروم.

و المناطق المركزية و الجنوب كانت تحت نفوذ «الحبشة».

و على أثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة، و ما كان بينها من نزاع و تنافس دائمين ظهرت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة، و شبه مستقلة كان كل واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها.

و قد كانت دول «غسان»، و «الحيرة» «و كنده» من هذه

الدول شبه المستقلة و شبه المتمدنة، و كانت كل واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك: «ايران»، «الروم»، «الحبشة».

(2) الحيرة: يتبيّن من الآثار و الأخبار أنه هاجرت- في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد- بعض الطوائف العربية، و ذلك في نهايات الحكم الأشكناني، إلى الأراضي المجاورة للفرات، و سيطروا على قسم من أراضي العراق، و قد أوجدت هذه الجماعة المهاجرة القرى و القلاع هناك، شيئا فشيئا، و أحدثت المدن التي من أهمّها: «الحيرة» التي كانت تقع على حافة صحراء بالقرب من مدينة الكوفة الحالية.

و قد كانت هذه المدينة- و كما يظهر من اسمها- في بداية أمرها قلعة (لأن الحيرة تعني في اللغة السريانية: الدير و ما يشبهه) يسكنها العرب ثم تطورت شيئا فشيئا الى مدينة.

(3) و قد ساعد مناخها الجميل، و المياه الوافرة التي تأتي إليها من الفرات، و جودة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:88

الأحوال الطبيعية الاخرى إلى أن تجتذب إليها أصحاب الصحراء، و سكان البوادي، و القفار، كما و استطاعت هذه المدينة و بفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها و مدنيتها ما أفاض عليها لونا من الحضارة و المدنية، و قد بنيت بالقرب من «الحيرة» قصور مثل «الخورنق» الذي أضاف إلى هذه المدينة جمالا و بهاء خاصّين، و قد تعرّف العرب الساكنون في هذه المنطقة على الخط و الكتابة، و يمكن ان تكون الكتابة و القراءة قد سرتا منها الى بقية مناطق الحجاز و مدنها «1».

(1) و لقد كان ملوك «الحيرة» و أمراؤها من اللخميين العرب يؤيّدون من قبل الدولة الإيرانية بقوة، و سبّب هذا التأييد، و الحماية الايرانية لأمراء الحيرة و ملوكها كان يكمن في أن ملوك إيران- آنذاك- كانوا يريدون أن تكون الحيرة سدّا،

و حاجزا بينهم و بين عرب البادية، يدفعون بهم خطر الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.

و لقد سجّل التاريخ أسماء هؤلاء الأمراء؛ و قد نظم «حمزة الاصفهاني» فهرستا بأسمائهم، و جدولا بأعمارهم و مدد حكوماتهم، و من كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين «2».

و مهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة، و كان آخر ملوك هذه السلسلة هو «النعمان بن المنذر» صاحب القصة التاريخية التي تتضمن خلعه من الحكم، و قتله بواسطة الملك الايراني: «خسرو برويز» «3».

(2) غسّان: في أوائل القرن الخامس أو اوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي- أقصى نقاط الجزيرة العربية- و في جوار الإمبراطوريّة الروميّة، و أسسوا دولة الغساسنة، و قد كانت هذه الدولة

______________________________

(1) فتوح البلدان للبلاذري: ص 457.

(2) سنيّ ملوك الأرض: ص 73- 76.

(3) الأخبار الطوال: ص 109.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:89

تحت حماية الروم، و كان ملوكها ينصبون من جانب إمبراطوريات «قسطنطينية» مباشرة، تماما كما كان ملوك «الحيرة» ينصبون من جانب ملوك ايران.

و لقد كانت دولة الغساسنة متحضرة نوعا ما، و حيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى «دمشق» و مجاورة ل: «بصرى» مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اخرى، لذلك تأثرت بحضارة الروم تأثرا كبيرا و بالغا.

و لقد كان الغساسنة متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم و بين ملوك الحيرة اللخميين العرب و الايرانيين من الاختلاف و النزاع، و لقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الأمراء و الملوك تباعا.

(1)

الدين في أرض الحجاز:

لقد كان الدين الرائج في الحجاز هو الوثنية، و عبادة الاصنام.

نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن

في يثرب (المدينة فيما بعد) و خيبر، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية و هم سكّان نجران، البلد الحدودي لليمن و الحجاز.

و كان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز (إي الشام حاليا) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم و خضوعها للسيادة الرومية.

و لو أننا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلّا الوثنية في أشكال مختلفة، و اعتقادات متنوعة، اللّهم إلّا بضع افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يسمّون بالاحناف كانوا على دين التوحيد، و كان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا جدّا «1».

(2) فمنذ زمن النبي «إبراهيم» الخليل و ابنه «اسماعيل» عليهما السّلام دخل

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 122 و 123.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:90

التوحيد، و دخلت بعض التعاليم الأخلاقية و الدينية إلى أرض الحجاز، و كان الحج و أداء مناسكه احتراما للكعبة الشريفة هو أحد هذه التعاليم و السنن التي دخلت مع «الخليل» إلى هذه المنطقة، ثم إن رجلا من قبيلة «خزاعة» يسمى «عمرو بن لحي» الذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد، و ذلك عند ما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوما من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش و المنظر يعبدونها، و يؤلّهونها، فقال لهم:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أ فلا تعطونني منها صنما فاسير به إلى أرض العرب فيعبدوه فأعطوه صنما، و هكذا استحب عملهم، و جلب معه الى مكة صنما جميل النقش و النحت يدعى «هبل» فنصبه و دعا الناس إلى عبادته،

و تعظيمه.

و هكذا دخلت الوثنية إلى «مكة» المكرمة، و اصبحت عبادة الاوثان و الاصنام عبادة رائجة في تلك الديار «1».

(1) و اشهر اصنام العرب هي:

1- هبل و كانت أعظم اصنام العرب التي في جوف الكعبة.

2- اساف.

3- نائلة و كانت هي و اساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.

4- اللات و كانت لثقيف بالطائف.

5- العزّى و كانت بنخلة الشامية، و كانت لقريش و بني كنانة.

6- منات و كانت للاوس و الخزرج و من ذهب مذهبهم من أهل يثرب.

7- عميانس و كان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم و حروثهم.

8- سعد.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 78- 81، و العمالقة هم طائفة من العرب عاشوا و سادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:91

9- ذو الخلصة و كانت لدوس و خثعم و بجيلة.

10- مناف «1».

و لقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب علاوة على الأصنام الاخرى غير المعروفة التي كانت تختصّ بطائفة دون اخرى، أو بعائلة دون عائلة.

(1)

العلم و الثقافة في الحجاز:

كان أهل الحجاز يوصفون بالاميّين، و الاميّ هو من لم يتعلم القراءة و الكتابة فهو كمن ولدته أمه، أو هو باق في عدم العلم بالقراءة و الكتابة على الحالة التي ولد فيها من أمه.

و لأجل أن نعرف مدى ما كان عليه العلم و الثقافة عند العرب من القيامة يكفي أن نعلم بأن عدد الذين كانوا يعرفون القراءة و الكتابة بين قريش الى ما قبل ظهور الإسلام لم يكن يتجاوز (17) شخصا في مكة و (11) نفرا فقط من بين الأوس و الخزرج في المدينة «2».

إذا لاحظنا هذا التخلف و الانحطاط في مجال العلم و الثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتضح لنا مدى تأثير الإسلام، و ادركنا عظمة التعاليم الإسلامية في جميع

الحقول الاعتقادية و الاقتصادية و الأخلاقية و الثقافية، و لا بدّ في تقييم الحضارات أن نطالع و ندرس الحلقة السابقة، ثم نقيم الحلقة التالية في ضوء ذلك، و في هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية «3».

______________________________

(1) راجع الأصنام للكلبي، و المحبر: ص 315- 319.

(2) فتوح البلدان: ص 457- 459.

(3) للوقوف على معلومات أوسع و اكثر حول عقائد مختلفة طوائف المجتمع العربي الجاهلي، و ثقافتها و تقاليدها راجع الكتابين التاليين:

ألف: «بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب» تأليف السيد محمود الآلوسي المتوفى عام 1270 هجري قمري.

باء: «المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام» تأليف الاستاذ جواد علي، و هذا الكتاب اخرج في (10) مجلدات، و قد بحث فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:92

الإمام عليّ يصف العهد الجاهليّ:

و قد وصف الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام تلك الحالة في خطبه، و حيث أنه عاصر ذروة ذلك الوضع المأساوي و وصفه وصفا دقيقا لذلك ينبغي أن نقف عند كلامه قليلا ليتبين لنا جيدا ما كان عليه العرب إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة:

قال عليه السّلام في الخطبة (الثانية) من نهج البلاغة:

«... و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالدين المشهور و العلم المأثور و الكتاب المسطور و النّور الساطع، و الضياء اللامع، و الأمر الصادع إزاحة للشبهات و احتجاجا بالبيّنات و تحذيرا بالآيات، و تخويفا بالمثلات «1» و الناس في فتن انجذم «2» فيها حبل الدّين، و تزعزعت سواري «3» اليقين و اختلف النجر «4»، و تشتّت الأمر وضاق المخرج، و عمي المصدر فالهدى خامل، و العمى شامل، عصي الرّحمن و نصر الشيطان و خذل الإيمان فانهارت دعائمه، و تنكّرت معالمه و درست «5» سبله و

عفت شركه «6» أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، و وردوا مناهله «7» بهم سارت أعلامه، و قام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها «8» و وطئتهم بأظلافها «9» و قامت على سنابكها «10» فهم فيها تئهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار و شرّ جيران نومهم سهود و كحلهم دموع بأرض عالمها ملجم و جاهلها مكرم.

و قال في الخطبة (التاسعة و الثمانين) أيضا:

«أرسله صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم و اعتزام «11» من الفتن و انتشار من الامور و تلظّ «12» من الحروب و الدّنيا

______________________________

(1) المثلات: العقوبات.

(2) انجذم: انقطع.

(3) السواري: الدعائم.

(4) النجر: الأصل.

(5) درست: انطمست.

(6) الشرك: الطرق.

(7) المنهل: مورد النهر.

(8) الخف: هو للبعير كالقدم للإنسان.

(9) الظلف: للبقر و الشاة كالخفّ للبعير و القدم للإنسان.

(10) السنابك: طرف الحافر.

(11) اعتزم الفرس: اذا مرّ جامحا.

(12) تلظّ: تلهّب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:93

كاسفة النّور ظاهرة الغرور على حين اصفرار من ورقها و إياس من ثمرها و اغورار «1» من مائها قد درست منار الهدى و ظهرت أعلام الرّدى فهي متجهّمة «2» لأهلها عابسة في وجه طالبها ثمرها الفتنة و طعامها الجيفة «3» و شعارها الخوف و دثارها السيف».

و قال في الخطبة (السادسة و العشرين): «إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين و أمينا على التّنزيل و انتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار منيخون «4» بين حجارة خشن «5» و حيّات صمّ «6» تشربون الكدر و تأكلون الجشب «7» و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم الأصنام فيكم منصوبة و الآثام بكم معصوبة «8»».

و قال عليه السّلام في الخطبة (الثالثة و الثلاثين): «إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم و ليس احد من العرب يقرأ كتابا و لا يدّعي نبوة فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم «9» و بلّغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم «10» و اطمأنّت صفاتهم».

و قال في الخطبة (الخامسة و التسعين) أيضا:

«... بعثه صلّى اللّه عليه و آله و النّاس ضلال في حيرة و حاطبون في فتنة قد استهوتهم الأهواء و استزلّتهم الكبرياء و استخفّتهم «11» الجاهليّة الجهلاء حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل فبالغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النّصيحة و مضى على الطّريقة و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة».

و قال عليه السّلام في الخطبة (السادسة و التسعين) أيضا:

«... مستقرّه خير مستقرّ و منبته أشرف منبت في معادن الكرامة و مماهد «12» السّلامة قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار و ثنّيت إليه أزمّة الأبصار دفن

______________________________

(1) اغورار الماء: ذهابه.

(2) تجهّمه: استقبله بوجه كريه.

(3) إشارة الى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار.

(4) منيخون: مقيمون.

(5) الخشن: جمع خشناء من الخشونة.

(6) الصمّ: التي لا تسمع لعدم انزجارها بالاصوات.

(7) الجشب: الطعام الغليظ.

(8) معصوبة: مشدودة.

(9) بوّأهم محلّهم: أنزلهم منزلتهم.

(10) القناة: العود كناية عن القوة.

(11) استخفّتهم: طيّشتهم.

(12) الممهد: ما يبسط فيه الفراش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:94

اللّه به الضّغائن و أطفأ به الثّوائر «1» ألّف به إخوانا و فرّق به أقرانا اعزّ به الذّلة و أذلّ به العزّة كلامه بيان و صمته لسان».

و قال عليه السّلام في الخطبة (151) أيضا:

«... أضاءت به صلّى اللّه عليه و آله البلاد بعد الضّلالة المظلمة و الجهالة الغالبة و الجفوة الجافية و النّاس يستحلّون الحريم و يستذلّون الحكيم يحيون على فترة «2» و يموتون على كفرة».

و قال في الخطبة (198): «... ثمّ إنّ اللّه سبحانه

بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحقّ حين دنا من الدّنيا الانقطاع و أقبل من الآخرة الاطّلاع «3» و اظلمت بهجتها بعد إشراق و قامت بأهلها على ساق و خشن منها مهاد «4» و أزف «5» منها قياد في انقطاع من مدّتها و اقتراب من أشراطها «6» و تصرّم «7» من أهلها و انفصام «8» من حلقتها و انتشار «9» من سببها و عفاء «10» من أعلامها و تكشّف من عوراتها و قصر من طولها».

و قال عليه السّلام في الخطبة (213): «ارسله بالضّياء و قدّمه في الاصطفاء فرتق «11» به المفاتق «12» و ساور «13» به المغالب و ذلّل به الصّعوبة و سهّل به الحزونة «14» حتّى سرّح الضّلال عن يمين و شمال».

و قال في الخطبة (191): «و اشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعيه و النّاس يضربون في غمرة «15» و يموجون في حيرة قد قادتهم أزمّة الحين «16» و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين» «17».

______________________________

(1) الثائرة: العداوة.

(2) على فترة: على خلوّ من الشرائع.

(3) الاطّلاع: الإتيان.

(4) خشونة المهاد: كناية عن شدّة آلام الدنيا.

(5) ازف: قرب.

(6) الشرط: العلامة.

(7) التصرّم: التقطّع.

(8) الانفصام: الانقطاع.

(9) انتشار الأسباب: تبدّدها حتى لا تضبط.

(10) عفاء الأعلام: اندراسها.

(11) رتق: سدّ به الفتق.

(12) المفاتق: مواضع الفتق.

(13) ساور: ثاوب.

(14) الحزونة: غلظ في الارض.-

(15) الغمرة: الماء الكثير.

(16) الحين: الهلاك.

(17) الرين: التغطيه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:95

فاطمة الزهراء تصف الوضع الجاهلي:

و قد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العهد الجاهلي بمثل ذلك اذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر و المسلمين «1»:

«فبلّغ (اي رسول اللّه) بالرّسالة صادعا بالنّذارة «2» مائلا على مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم «3» آخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل

ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة يكسر الأصنام و ينكث الهام «4» حتى انهزم الجمع و ولّوا الدّبر حتى تفرّى الليل عن صبحه و اسفر الحق عن محظه «5» و نطق زعيم الدين و خرست شقاشق «6» الشّياطين و أطاح وشيظ «7» النّفاق و انحلّت عقد الكفر و الشّقاق و فهتم بكلمة الاخلاص في نفر من البيض الخماص و كنتم على شفا حفرة من النّار مذقة «8» الشّارب و نهزة «9» الطامع و قبسة العجلان «10» و موطئ الأقدام تشربون الطرق «11» و تقتاتون القدّ «12» و الورق أذلّة خاسئين تخافون ان يتخطّفكم النّاس من حولكم فأنقذكم اللّه تعالى بمحمّد بعد اللّتيّا و الّتي بعد أن مني ببهم «13» الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب «14» كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه، أو نجم «15» قرن الشّيطان أو فغرت «16» فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها «17» فلا ينكفى ء «18» حتّى يطأ صماخها بأخمصه».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد و بلاغات النساء و غيرهما.

(2) النذار: الأنذار.

(3) الثبج: الكاهل.

(4) الهامة: الرأس.

(5) المحض: الخالص.

(6) الشقشقة: شي ء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.

(7) الوشيظ: الأتباع و الخدم.

(8) المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء.

(9) النهزة: الفرصة.

(10) قبسة العجلان: الشعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل.

(11) الطرق: الماء الذي خوضته الابل و بوّلت فيه.

(12) القد: قطعة جلد غير مدبوغ.

(13) البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى.

(14) المارد: العاتي.

(15) نجم: طلع.

(16) فغرت: فتحت.

(17) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.

(18) ينكفئ: يرجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:96

جعفر بن ابي طالب يصف العهد الجاهلي:

و يشهد بذلك أيضا ما قاله جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عند ما أراد مبعوثا قريش استعادتهما

إلى مكة:

أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهليّة، نعبد الاصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسي ء الجوار و يأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث اللّه إلينا رسولا منّا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا الى اللّه لنوحّده و نعبده، و نخلع ما كنّا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكفّ عن المحارم و الدّماء، و نهانا عن الفواحش و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات، و أمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصّلاة و الزّكاة و الصيام قالت: فعدّد عليه امور الاسلام حتى قال:

و صدّقناه، و آمنّا به و اتّبعناه على ما جاء به من اللّه فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئا و حرّمنا ما حرّم علينا و أحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا و فتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى، و أن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 335 و 336. و الحديث عن أمّ سلمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:97

(1)

3 إمبراطوريّتا الروم و إيران إبّان عهد الرّسالة

اشارة

للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية المباركة التي تحققت على يدي النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ارساله من جانب اللّه تعالى و قيمتها، تكتسب دراسة بيئتين اجتماعيّتين اهمية قصوى، و تانك البيئتان هما:

1- بيئة نزول القرآن الكريم، أي البيئة التي ظهر فيها الإسلام، و ترعرع و نمى.

2- البيئة العالمية (خارج الجزيرة العربية)، و يعرف ذلك بدراسة عقائد الناس و أفكارهم في اكثر

مناطق العالم- يومذاك- مدنية و حضاره، و مطالعة آدابهم و أخلاقهم و تقاليدهم، و أعرافهم، و مدنيّاتهم التي كانت تعتبر أفضل لأفكار و المدنيّات، و أرقى الحضارات، و الأوضاع آنذاك.

و لقد كانت بيئتا: الامبراطورية الرومانية، و الإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم- كما يدلنا التاريخ على ذلك. و لا بدّ استكمالا لهذا البحث من دراسة الأوضاع في هاتين الإمبراطوريتين، في مناطقها، و من نواحيها المختلفة، لنقف من هذا الطريق على قيمة الحضارة التي اتى بها الإسلام، و نعرف ذلك بوجه أفضل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:98

أوضاع الروم ابان عهد الرسالة:
اشارة

(1) ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوء من أوضاع منافستها «ايران» فالحروب الداخلية من جانب و المعارك الخارجية المستمرة مع «ايران» و صراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على منطقة «ارمينية» و غيرها كل ذلك كان يهي ء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة يضع حدا لمآسيهم و محنهم.

و لقد كان للاختلافات و المنازعات الطائفية و المذهبية نصيب الاكبر و الأوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات، و المنازعات.

فالحرب لم تتوقف أبدا بين الوثنيين و المسيحيين و لم تنطفئ شرارتها يوما أبدا.

فكان إذا غلب رجال الكنيسة على دست الحكم و أخذوا بمقاليده ما رسوا أشدّ أنواع الضغط و الاضطهاد بحقّ خصومهم و منافسيهم الأمر الذي كان يساعد على إيجاد أقلية ناقمة من جهة، كما و يمكن اعتبار ذلك عاملا مساعدا من جهة اخرى على تهنئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية، و تقبلها.

لقد كان حرمان طوائف كثيره و مختلفة ناشئا من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة و مواقفهم المتزمتة.

هذا مضافا إلى أن اختلاف القساوسة و الرهبان النصارى فيما بينهم من جهة، و تعدّد المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الامبراطورية

الرومانية و جرّها إلى الضعف و الوهن المتزائد يوما بعد يوم.

(2) هذا بغضّ النظر عن أن البيض و الصفر من سكّان الشمال و المشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من اوربة، و ربما ألحق أحدهما بالآخر خسائر فادحة و باهضة في الصراعات و المصادمات التي كانت تقع بينهما. و كان هذا هو نفسه السبب في أن تنقسم الامبراطورية الرومية الى معسكرين: المعسكر (او القسم الشرقي) و المعسكر (او القسم الغربي).

و يعتقد المؤرخون أن أوضاع الروم السياسية، و الاجتماعية و الاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة، و متدهورة جدا، حتى أنهم لا يرون في غلبة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:99

الروم و تفوّقها على إيران شاهدا على قدرتها العسكرية، و تفوّقها النظامي، بل يرون أن هزيمة إيران كانت بسبب الفوضى التي كان سائدة آنذاك في جهاز الحكم الايراني.

إن هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربّعان على عرش السيادة و السياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى، و الهرج و المرج، و من البديهيّ أنّ مثل هذه الأوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير و الظمأ الشديد إلى دين صحيح يضع حدّا و نهاية لتلك الحالة، و يعيد تنظيم حياتهم.

(1)

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي:

المتعارف أن يعمد جماعة من البطّالين و الفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا و المسائل الخاوية و النقاش حولها بهدف التوصّل إلى أغراض فاسدة، فيستهلكون بذلك أوقات الناس، و يهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم.

و هي حالة لها مصاديق كثيرة و شواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق، و لسنا بصدد التوسّع فيه فعلا.

و قد كانت «الروم» تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة اكثر من اي مكان آخر. سيد المرسلين ج 1 99 ظاهرة

الجدل العقيم في المجتمع الرومي: ..... ص : 99

د كان ملوك الروم و رجال الحكم و السياسة تبعا لمذاهب دينية كنسيّة- يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعتين و مشيئتين، و لكن طائفة اخرى من النصارى و هم «اليعقوبية» كانوا يقولون بانه: ذو طبيعة و مشيئة واحدة.

و قد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها، و الجدل الواهي حولها ضربة شديدة الى وحدة الروم و من ثم استقلالها، و احدثت في صفوفها انشقاقا عميقا حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر الى الدفاع عن معتقداتها، و لذلك كانت تضطهد معارضيها، و تلاحقهم و هذا الاضطهاد و الضغط الروحيّ سبّب في لجوء البعض الى الدولة الايرانية، كما كان هؤلاء هم الذين تركوا المقاومة عند

سيد المرسلين ،ج 1،ص:100

مواجهة الجيش الإسلامي، و القوا السلاح، و استقبلوا جنود الإسلام بالاحضان.

(1) كانت الروم تمرّ آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاوربية الوسطى التي ينقل عنها «فلاماريون» الفلكيّ الشهير القضايا التالية التي تدل على المستوى الفكريّ و الثقافيّ لاوربة في القرون الوسطى:

لقد كان كتاب «المجموعة اللاهوتية» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، و قد بقي هذا الكتاب يدرّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي و معترف به.

و قد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة التي يمكنها ان تستقر على رأس إبرة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى و العين اليمنى للاب الخالد؟! الى غير ذلك من القضايا التافهة!!

(2) إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة، كانت تعاني كذلك من النزاعات و الاختلافات الداخلية- التي كانت- على الاغلب- تتصف بالصبغة المذهبية و الطائفية- و كانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية، و تزيدها قربا إليها يوما بعد

يوم.

و لما رأى اليهود (و هي الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائما) تصاعد الاضطهاد و الضغط الذي يمارسه الامبراطور المسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك النظام، فاحتلت مدينة انطاكية ذات مرة، و مثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا اذنه، و جدعوا أنفه، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة، و قتلت اليهود في انطاكية في مذبحة عامة.

و قد تكرّرت هذه الجرائم الفضيعة و هذه المذابح، و المذابح الانتقامية المضادة بين اليهود و النصارى عدة مرات، و ربما سرت موجة الروح الانتقامية أحيانا الى خارج البلاد، فمثلا اشترى اليهود من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رءوسهم انتقاما و تشفيا.

(3) من هذا يستطيع القارئ الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيئ و المتردّي الذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام، و يذعن- مع

سيد المرسلين ،ج 1،ص:101

المذعنين- بأن التعاليم الإسلامية الرفيعة التي انقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبدا وليدة الفكر البشريّ و ان نسيم الوحدة، الناعشة، و نغمة السلام التي يهدف إليه الإسلام و يسعى إلى تحقيقه و اقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلا الغيب، اذ كيف يمكن القول بأن الإسلام الذي يعترف حتى للحيوانات بحق العيش و الحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوة و الوحشية، و ناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام و التشفي.

لقد أبطل الإسلام جميع تلك المجادلات العقيمة و المناقشات التافهة حول مشيئة عيسى و شخصيته، و قال في نعته و وصفه:

«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» «1».

إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول «الروح» و «المسيح» و

دمه، و شخصيته، و حقيقته، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة، و احياء السجايا و الملكات الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات، الفارغة، و المذابح الفضيعة.

(1)

أوضاع إيران إبان عهد الرسالة:
اشارة

إن ما دفعنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهور الإسلام و بعثة الرسول الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (611 ميلادية) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز (590- 628 م)، و في عهد «خسرو برويز» هذا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة (الجمعة 16 جولاي 622)، و صارت هذه الواقعة مبدأ للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأيام كانت الدولتان العظيمتان (الروم الشرقية و ايران

______________________________

(1) المائدة: 75.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:102

الساسانية) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضر، و لم تزل هاتان الدولتان في نزاع مستمر و صراع دائم على مناطق النفوذ حتى بعد ظهور الإسلام.

(1) فقد بدأت حروب ايران و الروم الطويلة من عهد السلطان الايراني أنوشيروان (531- 589 م) و استمرّت الى عهد الملك «خسرو برويز» و استغرقت اربعا و عشرين عاما من الزمان «1».

و قد سبب تحمل «ايران» و «الروم» للخسائر الكبرى، في الارواح و الثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين، و تعطيل و شلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلّا شبح دولتين لا اكثر.

و لكي نقف على الوضع العام في ايران آنذاك من جهاته المختلفة، و ابعاده المتنوعة و بصورة أفضل، يجب ان نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات التي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم «انوشيروان» و حتى بداية دخول المسلمين في ايران.

(2)

البذخ و الترف في البلاط الساساني:

كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم عموما بالبذخ و الترف، و التشريفات الطويلة العريضة، و كان البلاط الساساني الفخم جدا يخلب ببريقه، بريق العيون، و يسحر الافئدة و العقول.

و كان للايرانيين في عهد الساسانيين لواء يعرف ب: «درفش كاوياني» اي العلم الكاوياني

نسبة إلى كاوه و هو بطل قومي إيراني اسطوري، و قد كانوا يحملونه معهم في الحروب، او ينصبونه فوق قصورهم اثناء احتفالات الساسانيين الكبرى، و قد كان هذا اللواء موشحا و مزينا بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية- حسب قول بعض الكتاب: «000/ 200/ 1» درهما (او ما يعادل

______________________________

(1) تاريخ علوم و ادبيات در ايران ص 3 و 4 و ايران در زمان ساسانيان ص 267 (باللغة الفارسية).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:103

000/ 30 پوند).

(1) و قد بلغت مجموعة المجوهرات و الاشياء الثمينة و التصاوير و الرسوم المحيرة للعقول التي كانت تكتضّ بها قصور الساسانيين من حيث الاهمية و القيامة حدا سحرت العيون و خلبت الالباب.

و لو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور، و ما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء و الكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك القصور، و هي السجّادة التي كانت تدعى بالفارسية ب «بهارستان كسرى» و هو بساط كانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب و تعاطي الخمر فرشوه، و شربوا عليه فكأنهم في رياض و كان هذا البساط ستينا في ستين أرضه بذهب و وشيه بفصوص، و ثمره بجوهر و ورقه بحرير» «1»!!

و قيل أيضا أن هذا البساط كان مائة و خمسين ذراعا في سبعين ذراع و كان منسوجا من خيوط الذهب و المجوهرات الغالية جدا!!

و قد كان «خسرو برويز» أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف، و البذخ، و اتخاذ الزينة، و قد بلغت عدد نسائه و جواريه عدة آلاف.

(2) يقول حمزة الاصفهاني في كتاب «سنيّ ملوك الارض» واصفا حالة الترف و البذخ التي كان

يعيشها كسرى برويز: ثلاثة آلاف امرأة، و اثنا عشر.

و جاء في تاريخ الطبري: أن «كسرى «2» برويز» كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحد من الملوك، و كان أرغب الناس في الجواهر و الأواني «3».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 130.

و جاء في تاريخ الطبري: كانت هذه السجّادة ستين ذراعا في ستين ذرعا، بساطا واحدا مقدار جريب فيه طرق كالصور، و فصوص كالأنهار و خلال ذلك كالدّير و في حافاته كالأرض المزروعة و الأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، و نواره بالذهب و الفضّة!!

(2) سنيّ ملوك الأرض و الأنبياء: ص 420.

(3) تاريخ الطبري: ج 1 ص 616.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:104

(1)

الوضع الاجتماعي في ايران:

لم يكن الوضع الاجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبدا، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الذي كان سائدا في ايران منذ زمن بعيد اشدّه و اقوى درجاته، و أسوأ حالاته في العهد الاختلاف الساساني.

فطبقة النبلاء و الكهنة كانت تتميز على بقية الطبقات تميزا كاملا، فهم يختصون بجميع المناصب الاجتماعية الحساسة و العليا، بينما حرم الكسبة و المزارعون و بقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية، و لم يكن لهم من واجب و دور في النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة و المشاركة في الحروب.

(2) يكتب أحد الكتّاب الإيرانيين و هو الاستاذ سعيد نفيسى في هذا الصعيد قائلا:

ان ما كان يثير روح النفاق بين الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جدا الذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب، و كان لها جذور في العهود و الحضارات السابقة، و لكنها بلغت ذروتها في العهد الساساني بالذات!!

ففي الدرجة الاولى كان للعائلات السبع من النبلاء، ثم للطبقات الخمس امتيازات خاصة حرمت

منها عامة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة- تقريبا في تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني، كان يقارب عدد نفوسه مائة و أربعين مليونا في حين لا يبلغ عدد كل واحد من تلك العائلات الممتازة و المتميّزة في شئونها مائة ألف شخص، فيكون مجموعها سبع مائة ألف «1».

و إذا افترضنا أنّ حراس الحدود و أمراءهم و الملاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشي ء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضا سبع مائة ألف أيضا فيكون حق التملك و المالكية حينئذ خاصا بمليون و نصف من مجموع مائة

______________________________

(1) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 6- 24 (باللغة الفارسية).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:105

و اربعين مليونا، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي التي تملك، و أما الآخرون و هم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساسا و أصلا.

(1) لقد كان الكسبة و الفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق، و الامتيازات و لكنّهم كانوا يتحمّلون نفقات حياة البذخ و الرفاهية التي كان يرفل فيها النبلاء و الأشراف و الطبقات العليا، لا يأملون خيرا وراء استمرار هذه الاوضاع، و دوامها، و لهذا كثيرا ما كان المزارعون و الفلاحون و الطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم، و مزارعهم و يلجئون إلى الأديرة فرارا من الضرائب الباهضة و الاتاوات القاصمة للظهور، المبددة للثروات «1».

يقول مؤلف كتاب «ايران في عهد الملوك الساسانيين» «2».

إن حروب إيران- الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان (531- 589 م).

و خلاصة القول أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتها عن 5/ 1% (واحد و نصف بالمائة) من مجموع الشعب كل شي ء بينما كان اكثر

من (89%) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماما كالعبيد.

(2)

حقّ التعلّم خاص بالطبقات الممتازة!!:

في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء و البيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعلم، بينما كان عامة جماهير الشعب، و الطبقات الوسطى و الدنيا محرومين من تحصيل العلوم و اكتسابها.

و قد كانت هذه المنقصة بادية و واضحة في عصور ايران التاريخية جدا بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم و دواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من ان

______________________________

(1) ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 70 و 71.

(2) إيران في عهد الساسانيين: ص 424.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:106

الهدف من تلك الملاحم و الدواوين كان هو الحماسة، و التفاخر بالبطولات و تحبيش العواطف، بعد مدح الملوك و الأمراء.

(1) فها هو «الفردوسي» «1» الشاعر الملحمي الفارسي المعروف، بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته (و هي الملحمة الشعرية التي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه.

و قد وقعت هذه القصة في زمن «أنوشيروان»، أي في الوقت الذي كانت الامبراطورية الساسانية تمرّ فيه بعهدها الذهبي.

و هذه القصة تشهد بأن اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضا كانت محرومة من حق التعلم، و ممنوعة عن اكتساب الثقافة.

(2) يقول الفردوسي: لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني- في حربه مع الروم- بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب و فضة.

و مع أن السلطة في عهد «انوشيروان» كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهّر ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا بالمجاعة و قلة العتاد، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات، و الى ظهور الفوضى في الجنود، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك

الإيراني «أنوشيروان».

و التخوف من مضاعفات هذه الحالة، و آثاره السيئة في قتاله للروم، و لذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك «بزرجمهر» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج، ثم امره بالتوجه إلى منطقة «مازندران» و جمع الاموال اللازمة من سكانها.

(3) و لكن «بزرجمهر» حذّر الملك من مغيّة هذا العمل، و أضاف بأن هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن «انوشيروان» اقتراحه و أمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على

______________________________

(1) راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر: الموسوعة العربية الميسرة: ص 1286.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:107

التوفيرسل الوزير مندوبين له الى المدن الإيرانية ليكلم التجار و اصحاب الثروة في الأمر.

(1) فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الّا انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جدا ان يتعلم.

فاستحقر الوزير شرطه و وعده بالانجاز، و السماح لولده بالتعلم و تحصيل العلم، ثم عرض الأمر على الملك انوشيروان و هو يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء و طلبه الصغير اذا ما قيس بما سيعطيه من اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة.

و لكن الملك استشاط غضبا لهذا الطلب، و نهر الوزير قائلا: دع هذا، ما أسوأ ما تطلبه، ان هذا لا يمكن ان يكون، لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقيّ المتبع، فينفرط بذلك عقد الدولة، و يكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه، و شره اكثر من خيره.

(2) ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان اذ يقول ناظما ذلك في ابيات «1»:

و إذا اصبح ابن الحذّاء عالما كاتبا عارفا فعند ما يجلس ولدنا على مسند

الحكم و السلطنة و احتاج الى كاتب، فانه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء- الكاتب- (و هو من عامة الشعب و من ابناء الطبقة الدنيا و في حين جرت عادتنا الى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف و النبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا)!!!

و إذا حصل ابن الحذّاء و بائع الاحذية على العلم و المعرفة أعاره العلم و المعرفة حينئذ عيونا بصيرة، و آذانا سميعة فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه،

______________________________

(1) و إليك هذه الأبيات باللغة الفارسية:

چو بازارگان بچه گردد دبيرهنرمند و با دانش و ياد گير

چو فرزند ما برنشند به تخت دبيرى ببايدش پيروز بخت

هنر بايد از مرد موزه فروش سپارد بدو چشم بينا و گوش

بدست خردمند مرد نژادنماند جز از حسرت و سرد باد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:108

و يسمع ما يجب أن لا يسمعه، و حينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة و التأسف «1».

(1) و هكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضا طلبه و يعود الحذاء خائبا و هو يتوسل بما يتوسل به المستضعفون و المحرومون المظلومون و هو الدعاء و الضراعة الى اللّه في الليل و في هذا قال الفردوسي: عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء الى اللّه و شكا إليه الملك طالبا عدالته «2».

و العجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل و هو الذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه و سلطانه و هي المشكلة الثقافية، بل تسبب في أن يصاب الشعب الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية و غيرها.

فقد وأد و دفن في القبور احياء ما يقرب من ثمانين الف انسان (أو مائة الف كما قيل) في

حادثة واحدة، و هي فتنة مزدك، حتى أنه ظنّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة و هو لا يعلم أنها لم تستأصل لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبّب دون السبب، و تكافح المجرم لا الجرم.

(2) لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي، و الاختلاف الطبقيّ، و احتكار الثروة، و المنصب على أيدي طبقة خاصّة و حرمان الاكثرية الساحقة من الشعب و غير ذلك من المفاسد و كان عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الامور ليأتي على المشكلة من أساسها، و لكنه بدل ذلك كان يريد- بالقهر و القمع و في ظلّ الحراب و السياط- أن يظهر الناس انفسهم بمظهر الراضي و عن السلطة، الموافق على تصرفاتها، و أحوالها و أوضاعها السيئة!!!

و من هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) راجع شاهنامه (باللغة الفارسية) و تاريخ اجتماعي ايران: ص 618.

(2)

فرستاده برگشت و شد با درم دل كفشگر زان درم پر ز غم

شب آمد، غمى شد ز گفتار شاه خروش جرس خواست از بارگاه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:109

الذي قال فيه: «ولدت في زمن الملك العادل» و يقصد به انوشيروان «1».

(1)

صفحة سوداء من جرائم خسرو برويز:

و من جرائم الملك خسرو برويز و مظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير «بزرجمهر» الذي خدم البلاط الشاهنشاهي الايرانيّ ثلاثة عشر عاما و كان ذلك موجبا لشهرته في البلاد و حسن صيته بين الناس.

فقد عمد هذا الملك الى سجن الوزير المذكور، و النكاية به، و قد كتب الى الوزير المسجون رسالة يقول فيها: إنّ حظّك من العلم و المعرفة أنه عرضك للقتل!!

فاجابه «بزرجمهر» بقوله: «فقد انتفعت بعلمي ما دام قد حالفنى الحظ، و حيث

عاكسني الآن، فانّني أصبر و أنتفع بصبري، فإذا فاتني فعل خير كثير فانني سعيد لأنّني لم أرتكب كذلك شرّا كثيرا و اذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس، فلا ابالي بما أنا فيه».

(2) و لما بلغت هذه الرسالة الى الملك «برويز» استشاط غضبا، و أمر بقطع شفتي الوزير، و جدع أنفه، و عند ما عرف الوزير بهذا الأمر الظالم قال: أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا.

فسأله خسرو برويز: و لما ذا؟ فقال: لأنهما وصفتاك عند العامة و الخاصة بما لا تستحق من الأوصاف، و اعطتاك ما ليس فيك من الخصال، فامالتا إليك القلوب، و رغّبتا فيك النفوس، و الافئدة، و اشاعتا عنك أمجادا لم تستحقها، يا أسوأ الملوك و أظلم الحكام، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي، و صدقي، و اخلاصي، و سلامتي، فمن بعد هذا يأمل في عدلك، و من بعد هذا يثق بقولك؟!

______________________________

(1) راجع في هذا المجال: تذكرة الموضوعات لابن الجوزي، اللئالي المصوغة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، و كذا مجمع الزوائد للهيثمي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:110

(1) فازداد «خسرو برويز» لسماع هذه الكلمات الساخنة غضبا على غضب، و أمر من فوره بقتل الوزير، فضرب عنقه في التوّ «1».

و تلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زورا بالعادل مع اقرب مقربيه، و اكثر معاونيه إخلاصا، و وفاء له فكيف كانت ترى معاملته مع سائر أفراد الرعية و بقية أفراد الشعب؟؟

(2)

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين:

لقد اتخذ الحكام الساسانيّون في عهودهم و حكوماتهم سياسة خشنة قاسية، و قد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف و العنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة و أتاوات باهضة قاصمة للظهور، و لهذا السبب كان

عامة الشعب الايراني غير راضين على حكمهم و سيرتهم، و لكنهم خوفا على نفوسهم، ما كانوا يتمكنون من الاعلان عن استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر و الرأي، و العارفين بالامور شأن و لا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبداد لدى الحكام الساسانيين حدا لم يستطع معه أحد من إظهار رأيه، و لم يجرا احد على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسروبرويز حدا عجيبا وصفه الثعالبي بقوله:

قيل لخسرو برويز (كسرى) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال، فأمر الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله، فاننا يكفينا شي ء منه، فليؤتى برأسه فحسب «2».

______________________________

(1) يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم (ج 6، ص 257- 260).

(2) ايران در عهد ساسانيان: ص 318.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:111

(1)

الفوضى في الحكومة الساسانية:

و ممّا يجب ان لا نغافل عن ذكره هو ما تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادارية، و تفاقم الهرج و المرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع و النزاع و نشب التنافس الحاد بين الأمراء، و الاعيان و قادة الجيش في ذلك العهد و ذهب كل فريق يختار أميرا من أبناء العائلة المالكة، و يقوم بتصفية الطائفة الاخرى التي اختارت أميرا آخر.

و عند ما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضعف و الانقسام.

و ممّا يدل على ذلك تعاقب ما يقرب من (14) ملكا على مسند الحكم و السلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك «خسرو برويز» و جلوس شيرويه مجلسه و حتى آخر ملك من ملوك بني ساسان.

(2) و هذا يعني أن حكومة

إيران انتقلت خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد الى يد اخرى (14 مرة)!! و من الواضح ما يلحق بآية دولة و مملكة تتعرض ل (14) انقلاب يقتل فيه ملك، و يحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة.

فقد كان كل حاكم يتسلّم زمام الحكم و يستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل و اغتيال كل من كان يطمع في العرش، و لا يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضروريا، فكان الأب يقتل ابنه، و الابن يقتل أباه، و ربما يقتل الاخ إخوته، و الزوجة زوجها و هكذا ...

فقد قتل «شيرويه» أباه «1» للحصول على مقعد الحكم و السلطان، كما أباد اربعين شخصا من أبناء الملك «خسرو برويز» اي إخوته!! «2».

(3) و كان «شهربراز» يقتل كل من لا يثق به، و قد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الأمراء الساسانيين ممّن كان قد تسنّم عرش السلطان

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 296.

(2) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 15- 19.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:112

و الملوكية قبله، رجلا كان ذلك أم امرأة، صغيرا كان أم كبيرا، لكيلا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

و صفوة القول: أن الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حدا بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال و الصبيان و النساء على اريكه الحكم، ثم يثورون عليهم و يقتلونهم بعد ايام أو أشهر و يحلون محلّهم أشخاصا آخرين!!

و على هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط و الانحلال و سائرة نحو التمزق و الفناء.

(1)

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين:

لقد كان أهم عامل للفوضى التي كانت تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني

هو الاختلاف في المعتقدات الدينية التي كانت سائدة آنذاك.

فحيث أن «اردشير بن بابك» مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد (و هو رجل دين زردشتي) و قيّما على بيت ناز و قد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين آبائه في ايران.

و في عهد الساسانيين كان الدين الرسمي و الشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي، و لما كانت السلالة الساسانية قد توصلت الى الحكم بواسطة الموابدة- كما أسلفنا- لذلك كان الموابدة و القيمون على بيوت النار (و نعني بهم رجال الدين الزرادشتي) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة، و أشد الاجنحة نفوذا في المجتمع الإيراني آنذاك.

(2) و لقد كان الحكام الساسانيّون دائما ممّن رشحهم للحكم الموابدة و رجال الدين الزردشتي المجوسي، و لذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم، و لو أن أحدا منهم خالف الموابدة عارضوه أشدّ المعارضة، و سحبوا عنه تأييدهم و دعمهم، و لهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة، و العناية بهم اكثر من غيرهم من الطبقات، و قد تسبّبت عناية اولئك الملوك بالموابدة و حمايتهم لهم في تزايد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:113

عددهم، يوما بعد يوم.

و قد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم، و تقوية مواقعهم في السلطان و لذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار، (و هي معابد المجوس) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة.

(1) فقد كتب المؤرخون يقولون: ان «خسرو برويز» شيّد بيتا للنار عظيما و وكل به (12 الف) هيربد (و هو منصب خاص و رتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية)

لينشدوا فيه الاناشيد الدينية، و يؤدوا الطقوس و الشعائر المجوسية!! «1».

و على هذا الاساس كان الدين المجوس دين البلاط، و كان رجاله في خدمة الملوك.

هذا و قد اجتهد الموابدة- بكل ما في وسعهم- في إبقاء الطبقات الكادحة و المحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من الركود و الجمود و حالة عدم الاحساس بالآلام و الرضا بالأمر الواقع.

و لقد تسببت الصلاحيات الواسعة و الحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي و النفور منه، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من عقيدة و دين.

يقول مؤلف كتاب «تاريخ اجتماعي ايران» و قد سعى الشعب الإيراني- في المال- الى ان يتخلص من ضغوط الاشراف و الموابدة و اضطهادهم، و لهذا ظهر بين الزردشتيين في قبال الدين الرسمي «المزدية الزردشتية» الذي كان دين البلاط كما عرفنا، و كان يدعى: بهدين (اى الدين الافضل) مذهبان آخران «2».

(2) اجل و بسبب ضغوط الاشراف و تشددات الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر، و قد حاول «مزدك» و من قبله «ماني» ان يوجدا بأنفسهما تحولا في الاوضاع الدينية و في العقائد و المؤسسات،

______________________________

(1) تاريخ تمدن ساساني: ج 1 ص 1 (بالفارسية).

(2) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:114

ألّا أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل «1».

(1) فحوالي سنة (497 ميلادية) قام «مزدك»، و ألغى المالكية الانحصارية (الخاصة)، و نسخ عادة تعدد الزوجات، و نظام الحريم و كان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية، و قد لقيت أفكاره هذه تأييدا قويا من قبل الطبقات المحرومة المسحوفة التي فجرت بقيادة «مزدك» ثورة كبرى، و انقلابا هائلا في المجتمع الإيراني.

و لقد

كانت هذه الثورات و الانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة، الممتوجه لهم من قبل اللّه خالقهم و بارئهم.

و لقد قوبل مذهب «مزدك» باعتراض شديد من قبل الموابدة، و امراء الجيش، و جرّ إلى فتنة كبيرة، و الى تردي الاوضاع في ايران آنذاك.

كما ان المذهب الزردشتي قد فقد- في أواخر العهد الساساني- حقيقته بصورة كاملة، و وصل الأمر بعبادة النار و تقديسها إلى درجة أنهم كانوا يحرّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار و لهيبها بمجاورتها لها.

و بكلمة واحدة؛ لقد كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات و الأساطير، و قد أعطت حقائق هذا الدين- في هذا العهد- مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء، و الطقوس الفارغة، التي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتا لمواقعهم، و دعما لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

(2) لقد بلغت سيطرة الخرافات و الاساطير البعيدة عن العقل و المنطق على هذه العقيدة، و رسوخها في هذا الدين حدا أقلق حتى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضا، و قد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس و الشعائر الزردشتية الجوفاء، فتخلى عنها.

______________________________

(1) المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية، فقد اخترع ماني من مسلك قومي و آخر اجنبي مذهبا جديدا ثالثا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:115

هذا من جانب

(1) و من جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك «أنوشيروان» فما بعد طريق التفكير، و التأمل، و التحقيق، و ممّا قد قوّى هذا الأمر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية و المعتقدات المسيحية و غيرها من العقائد و الاديان و ما تحقق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية و الهندية، و غيرها إلى

الوسط الإيراني، و تسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني، و لذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات و الاساطير التي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى.

و على أية حال فان الفساد الذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت، و تطرق الخرافات و الاساطير الواهية الكثيرة الى المعتقدات الزردشتية تسبّب في حصول مزيد من التشتت و الاختلاف و التشرذم في آراء الشعب الإيراني و عقيدته.

و مع ظهور هذا الاختلاف و على أثر انتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك و التردد لدى الطبقة المفكرة و المثقفة، و سرت منهم إلى بقية الاصناف و الفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب ثقتها و ايمانها القطعي، و اعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات.

و هكذا استشرى الهرج و المرج و عمّت الفوضى و اللادينية كل مناطق ايران و المجتمع الإيراني، كما رسم «برزويه» الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجا كاملا عن الاختلاف الاعتقادي و التشرذم الفكري، و بالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني، في مقدمة «كليلة و دمنة».

(2)

الحروب الإيرانية الرومية:

لقد انقذ «بزرجمهر»- الوزير الإيراني الشهير الذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة «انوشيروان» و كان موصوفا بالتدبير و الكفاءة العالية- ايران من الاخطار التي احدقت بها في اكثر الاحايين، و لكن علاقته بالسلطان

سيد المرسلين ،ج 1،ص:116

(انوشيروان) كانت تتأثر احيانا بسعاية الساعين و وشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قرارا بحبسه و سجنه.

(1) و قد أوغر هؤلاء السعاة و الواشون أنفسهم صدر «انوشيروان» ضد امبراطور الروم، و ألّبوه عليه، و شجّعوه على توسيع رقعة نفوذه، و توسيع حدود بلاده و اضعاف سيطرة منافسه الخطير، متجاهلا وثيقة «الصلح الخالد» التي عقدها مع

الروم و اتفق فيها الجانبان على عدم التعرض بعضهم لبعض.

و أدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم، و اشتعلت على اثرها نيران الحرب، و استطاع جنود. ايران ان يفتحوا سورية (و قد كانت مستعمرة رومية) في مدة قصيرة تقريبا، و حرق انطاكية و نهب آسيا الصغرى.

و بعد عشرين عاما من القتال و سفك الدّماء، و الكرّ و الفر بين الروم و ايران و بعد أن فقد الجانبان قدراتهم و طاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة، و بعد الخسائر العظيمة التي تحمّلهما الطرفان اضطرّا الى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية، و حدّدوا حدود بلادهما، و مناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل (عشرين الف) دينار الى دولة ايران.

(2) و من الواضح الذي لا يخفى و لا يحتاج الى البيان أن حروبا طويلة الآمد تدور رحاها بعيدا عن مركز الدولة من شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة و التبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب، و صناعته و توجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية، لا تزول آثارها إلّا بعد زمان طويل خاصة مع ملاحظة الوسائل و الأدوات في تلك العصور.

و مهما يكن فان هذه الحروب، و هذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فان آثار هذه المعارك لم تزل بعد إلّا و قد نشبت حرب اخرى دامت سبعة اعوام فان «تي باريوس» امبراطور الروم بعد ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

و في الأثناء- و قبل ان يتضح موقف الطرفين و موقعهما في تلك المعارك من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:117

الهزيمة أو الانتصار- مات «انوشيروان» و خلفه في إدارة البلاد ابنه «خسرو برويز».

(1) و قد حمل هذا

الأخير على الروم أيضا، و ذلك عام (614) بحجج معينة، و فتح في أول حملة من حملاته: بلاد الشام و فلسطين و إفريقية و نهب اورشليم، و أحرق كنيسة القيامة و مزار السيّد المسيح (عليه السّلام) و هدم المدن، و دمرها.

و قد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين الف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة التي كان فيها العالم المتحضر آنذاك يحترق- في نيران الحروب و الظلم، بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرسالة الاسلامية، و بلغ نداؤه المحيي للنفوس و العقول سمع البشرية، و قام يدعو الناس إلى الصلح و السلم، و الى النظم و الامن.

(2) و لقد أدّى انهزام الروميين المتدينين، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار، عبدة النار، الى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث، و يحدّثوا (و يمنّوا) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب، و انطلقوا يرد دون هذه الامنية أمام المسلمين و هم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم، و زعزعة إيمانهم، الأمر الذي أقلق المسلمين.

و لم يتخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موقفا تجاه هذه الظاهرة انتظارا لما سينزل به عليه الوحي الى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الاولى من سورة الروم التي تقول: «الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» «1».

(3) و قد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام (627 ميلادية) حيث

______________________________

(1) الروم: 1-

6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:118

استولى «هرقل» على «نينوى» في حملة واحدة.

و على أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق و الساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية اخرى لتجميع القوى، و التهيؤ لشن حملات جديدة، و خوض حروب و معارك اخرى و لكن حيث أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نور التوحيد و تنتعش نفوس الروميين و الفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة، و اشعته الهادية، لذلك لم يلبث أن قتل «خسرو برويز» على يدي ابنه «شيرويه» الذي لم يدم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر، ثم سادت ايران بعد «شيرويه» فوضى شاملة خلال اربعة اشهر، حيث تناوب على مسند الحكم حكام و امراء عديدون أربعة منهم من النساء، إلى أن أنهى الجيش الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الاوضاع، و وضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الذي استمرّ خمسين عاما و الذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:119

(1)

4 أسلاف رسول الإسلام (ص)

اشارة

(2)

1- بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السّلام
اشارة

إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السّلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السّلام، و حيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين و بعض أسلاف النبيّ العظام نصيب هامّ في تاريخ العرب و الإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصّة أنّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطا كاملا- كحلقات سلسلة واحدة- بالحوادث السابقة، او المقارنة لبزوغ الإسلام.

(3) فعلى سبيل المثال تعتبر كفالة «عبد المطلب» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته له، و جهود «ابي طالب» و دفاعه الطويل عن النبيّ، و عظمة الهاشميين و سموّ مقامهم و اخلافهم، و جذور معاداة الأمويين لهم، الاسس و القواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي، و لهذا كان لا بدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الابحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ «إبراهيم الخليل» عليه السّلام نقاطا مشرقة و بارزة جدا.

فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد و اقتلاع جذور الوثنية ممّا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:120

لا ينسى.

و هكذا حواره اللطيف و الزاخر بالمعاني مع عبدة النجوم و الكواكب في عصره و الذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا، افضل و اسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة و بغاة الحق.

(1)

مولد إبراهيم:

لقد ولد بطل التوحيد في بيئة مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، و عبادة البشر ... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب و نجوم.

لقد ولد حامل لواء التوحيد: «إبراهيم الخليل» عليه السّلام في «بابل» الذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع، و يذكرون حولها قصصا و امورا كثيرة تنبئ عن عظمتها و أهمية حضارتها،

فيقول «هيرودتس» المؤرخ المعروف- مثلا-: لقد كانت بابل بنية بشكل مربّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة (120 فرسخا) و محيطه (480 فرسخا) «1».

إنّ هذا الكلام مهما كان مبالغا فيه إلّا أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار، إذا ما ضمّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

(2) غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم و من مناظرها الجميلة، و قصورها الرائعة، إلّا تلّا من التراب في منطقة بين «دجلة» و «الفرات»، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة، اللّهم الا عند ما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحيانا، بحثا عن آثار تلك المدينة، و يستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها و سكانها.

لقد فتح رائد التوحيد و مرسي اركانه «إبراهيم الخليل» عليه السّلام عينيه

______________________________

(1) قاموس الكتاب المقدّس، مادّة بابل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:121

في دولة «نمرود بن كنعان».

و كان نمرود هذا رغم أنه يعبد الصنم يدّعي الالوهيّة و يأمر الناس بعبادته.

(1) و قد يبد و هذا الأمر عجيبا جدا فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم و مع ذلك يدّعي الالوهية في الوقت نفسه، إلّا أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن «فرعون مصر»، و ذلك عند ما هزّ النبي موسى بن عمران عليه السّلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ، و حجته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون و ملأوه على هذا الأمر، و خاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين:

«أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» «1».

(2) و من الواضح جدّا أن «فرعون» كان يدعي الالوهية فهو الذي كان يقول:

«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» «2» و هو القائل: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «3» و لكنه كان

في الوقت نفسه عابد صنم و وثنيا.

بيد أنّ هذه الازدواجية ليست بأمر غريب عند الوثنيين، و لا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخص نفسه وثنيا يعبد الصنم، و مع ذلك يدّعي أنه إله و يدعو الناس إلى عبادته فيكون الها معبودا، يعبد الها أعلى منه، لأن المقصود من المعبود و الاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق و يمتلك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا و التاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها و مع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبودا أو معبودات اخرى.

(3) إن أكبر وسيلة توسّل بها «نمرود» قي هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة و المنجمين الذين كانوا يعدّون الطبقة العالمة و المثقّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوع هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة و غير الواعية من الناس.

هذا مضافا إلى أنه كان يناصر «نمرود» بعض من ينتسب إلى «الخليل»

______________________________

(1) الأعراف: 127.

(2) النازعات: 24.

(3) القصص: 38.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:122

عليه السّلام بوشيجة القربى مثل «آزر» الذي كان يصنع التماثيل، و كان عارفا بأحوال النجوم و الفلك أيضا، و كان هذا هو الآخر أحد العراقيل التي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته، لأنه مضافا إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه أيضا.

(1) لقد كان نمرود غارقا في عالم خيالي عند ما دقّ المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر و قالوا له: سوف تنهار حكومتك، و يتهاوى عرشك و سلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة، الأمر الذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره: و هل ولد هذا الرجل؟ فقيل له: لا، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره

بعزل الرجال عن النساء (و ذلك في الليلة التي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه السّلام عدو نمرود، و هادم ملكه، و مزيل سلطانه و هي الليلة التي حددها و تكهن بها المنجمون و الكهنة من انصار نمرود) و مع ذلك كان جلاوزة «نمرود» يقتلون كل وليد ذكر، و كان على القوابل ان يسجّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.

و لقد اتفق أن انعقدت نطفة «الخليل» في نفس الليلة التي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال، و ازواجهم.

لقد حملت أم إبراهيم به كما حملت أمّ موسى به، و امضت فترة حملها في خفاء و تستر، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز الى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظا عليه، و راحت تتفقده بين حين و آخر من الليل و النهار، قدر المستطاع.

و قد أرضى هذا الاسلوب الظالم «نمرودا» و أراح باله بمرور الزمن، اذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه، و هادم سلطانه، و تخلص منه.

(2) لقد قضى «إبراهيم» عليه السّلام ثلاثة عشر عاما في ذلك الغار الذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته أمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاما، و دخل «إبراهيم» في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده و انكروه «1».

______________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 535.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:123

(1) لقد خرج «إبراهيم» من الغار، مؤمنا باللّه بفطرته، و قوّى توحيده الفطري، بمشاهدة الأرض و السماء، و النظر في سطوع الكواكب و النجوم و التأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو و حركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه السّلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال

الكواكب و عظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما راى جماعة اخرى أحطّ فكريّا من سابقتها يعبدون اصناما منحوتة، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف و الجماعات الضالة اذ رأى رجلا يستغل جهل الناس و غبائهم و يدعي الالوهية و يفرض عليهم عبادته و الخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه السّلام يرى أنّ عليه أن يهيّى ء نفسه لخوض المعركة في هذه الجبهات الثلاث المختلفة، و قد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ «إبراهيم» عليه السّلام في هذه الاصعدة و الجبهات الثلاث و سننقل لك في ما يأتي و باختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

(2)

إبراهيم و مكافحته للوثنية:

كانت ظلمات الوثنية قد خيّمت على منطقة بابل (موضع ولادة الخليل) برمتها.

فالآلهة المدّعاة، و المعبودات (السماوية و الارضية) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة و السلطة، و بعضها الآخر وسيلة الزلفى و التقرب الى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.

و حيث أن طريقة الأنبياء في هداية البشرية و ارشادهم هي الاستدلال بالبراهين، و الاحتجاج بالمنطق، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس و عقولهم، و يبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان و اليقين. و مثل هده الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف او بالنار و الحديد. لهذا يبدءون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إن علينا أن نفرق بين الحكومات التي يريد الأنبياء تأسيسها، و حكومة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:124

الفراعنة و النماردة.

(1) ان هدف الطائفة الثانية هو: الرئاسة و الزعامة، و الحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم، و ان تلاشت و تهاوت من بعدهم.

و لكن الأنبياء و الرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات و ماثلة في جميع الاوقات، في الخلوة

و الجلوة، في وقت الضعف، و في وقت القوة، في حياتهم و بعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان، و هذا الهدف لا يتحقق ابدا عن طريق القوة و استخدام العنف و القهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة و البرهان.

(2) لقد بدأ النبي «إبراهيم» عمله بمكافحة ما كان عليه أقرباؤه الذين كان في طليعتهم و على رأسهم «آزر» و هو الوثنية و عبادة الاصنام، و لكنه لم ينته من هذه المعركة و لم يحرز انتصارا كاملا في هذه الجبهة بعد إلّا و واجه عليه السّلام جبهة اخرى، و كانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم و الثقافة. لان هذه الجماعة- على خلاف أقرباء إبراهيم قد نبذت عبادة الأوثان و الأصنام «1»، و المعبودات الارضية الحقيرة، و توجهت بعبادتها و تقديسها الى الكواكب و النجوم و الاجرام السماوية.

و لقد بيّن «الخليل» عليه السّلام في حواره العقائدي مع عبّاد الاجرام السماوية، و مكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية و العلمية التي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، و ذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال الى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء، و رواد الفلسفة و الكلام.

و الأهم من ذلك- في هذا المجال- أن القرآن الكريم نقل أدلة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام باهتمام خاص و عناية بالغة و لهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا، و هذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

______________________________

(1) ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السّلام مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:125

حوار الخليل مع عبدة الكواكب:

(1) ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السّلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء- و

هو ينوي هداية الناس- و بقي ينظر الى النجوم و الكواكب من أول الغروب من تلك الليلة الى الغروب من الليلة التالية، و خلال هذه الساعات الأربع و العشرين حاور و جادل ثلاث فرق، من عبدة النجوم و ابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة، و براهين متقنة قوية.

فعند ما أقبل الليل و خيّم الظلام على كل مكان و هو يخفي كل مظاهر الوجود و معالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكب «الزهرة» من جانب الافق و هو يتلألأ.

فقال إبراهيم لعباد هذا الكوكب- و هو يتظاهر بموافقتهم جلبا لهم، و مقدمة للدخول معهم في حوار-: «هذا ربي».

و عند ما افل ذلك الكوكب و غاب عن الانظار قال: «لا احب الآفلين».

و بمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، و اظهر خواءها و فسادها.

(2) ثمّ إنه عليه السّلام نظر الى كوكب القمر المنير الذي يسحر القلوب بنوره وضوئه، فقال- متظاهرا بموافقة عبدة القمر-: «هذا ربي» ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضا، عند ما امتدت يد القدرة المطلقة و لملمت أشعة القمر من عالم الطبيعة، و عندها اتّخذ ابراهيم عليه السّلام هيئة الباحث عن الحقيقة و من دون أن يصدم تلك الفرق المشركة و يجرح مشاعرها اذ قال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» «1» لأن القمر قد أفل أيضا كما أفل سابقه فهو كغيره أسير نظام علويّ لا يتخلف، و ما كان كذلك لا يمكن ان يعدّ ربا يعبد، و يتوجه إليه بالتقديس و التضرع.

(3) و لما ولّى الليل و أدبر، و اكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب

______________________________

(1) الأنعام: 77.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:126

الظلام، و بثت خيوطها الذهبية على الوهاد و السهول، و التفت عبدة الشمس

الى معبودهم، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعا لقواعد الجدل و المناظرة و لكن افول الشمس و غروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها أيضا بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرأ «الخليل» عليه السّلام من عبادتها بصراحة.

و عندئذ أعرض عليه السّلام عن تلك الطوائف الثلاث و قال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1».

لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليه السّلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية، و منها الإنسان، قد انيطت إلى الاجرام السماوية و فوضت إليها!!

(1) و هذا الكلام يفيد أن الخليل عليه السّلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية:

1- اثبات الصانع (الخالق).

2- توحيد الذات و أنه واحد غير متعدد.

3- التوحيد في الخالقية، و أنه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه السّلام على التوحيد في «الربوبية» و «التدبير» و ادارة الكون، و انه لا مدبّر و لا مربي للموجودات الأرضية إلّا اللّه سبحانه و تعالى، و من هنا فانه عليه السّلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال: «وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات و الأرض ...» و هو يعني ان خالق السماوات و الأرض هو نفسه مدبرها و ربها، و انه لم يفوّض أي شي ء من تدبير الكون،- لا كله و لا بعضه- الى الاجرام السماوية، فتكون النتيجة: أن الخالق و المدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه و المدبر شي ء آخر.

(2) و لقد وقع المفسرون، و الباحثون في معارف القرآن في خطأ، و التباس عند التعرض لمنطق «إبراهيم» عليه السّلام و شرح حواره هذا، حيث تصوروا أن الخليل عليه السّلام قصد نفي «ألوهية» هذه الأجرام يعني الالوهية التي تعتقد بها

______________________________

(1) الأنعام: 79.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:127

جميع شعوب

الأرض و يكون هذا الكون الصاخب آية وجوده.

(1) بينما تصوّر فريق آخر ان «إبراهيم» كان يقصد نفي «الخالقية» عن هذه الأجرام السماوية، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائنا كامل الوجود و الصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه السّلام- بعد التسليم بوجود إله واجب الوجود، و توحيده، و وحدانية الخالق- البحث في قسم آخر من التوحيد، الا و هو التوحيد «الربوبي»، و بالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسه مدبر ذلك الكون أيضا، و عبارة: «وجّهت وجهي ...» أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة «الربّ» و «الربوبية» في صعيد الاجرام كالقمر و الزهرة و الشمس «1».

(2) هذا و استكمالا للبحث الحاضر لا بدّ من توضيح برهان النبيّ «ابراهيم» عليه السّلام.

لقد استدل «ابراهيم» في جميع المراحل الثلاث بافول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية و بخاصة الإنسان.

و هنا ينطرح سؤال: لما ذا يعتبر افول هذه الاجرام شاهدا على عدم مدبّريتها؟

إن هذا الموضوع يمكن بيانه بصور مختلفة، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.

ان تفسير منطق «الخليل» عليه السّلام و اسلوبه في إبطال مدبّريه الاجرام السماوية و ربوبيّتها بأشكال و صور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعادا مختلفة و أن كل بعد منها يناسب طائفة من الناس.

______________________________

(1) لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا «معالم التوحيد في القرآن الكريم» و أثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية، و أن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية، و هي غير المراتب

الاحرى للتوحيد، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:128

(1) و إليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال:

(2) الف: إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول الى مرحلة الكمال و لا بدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباط قريب مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفا على أحوالها، غير منفصل عنها، و لا غريب عليها.

و لكن كيف يستطيع الكائن الذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية و يحرم ذلك الفرد من فيضه و بركته، ان يكون ربا للموجودات الأرضية و مدبرا لها؟!

من هنا يكون افول النجم، و غروبه، الذي هو علامة غربته و انقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأرضية ربّا آخر، منزها عن تلك النقيصة عاريا عن ذلك العيب.

(3) باء: انّ طلوع الأجرام السماوية و غروبها و حركتها المنظمة دليل على أنها جميعا خاضعة لمشيئة فوقها، و انها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، و الخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات، و مثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون، أو شي ء من الظواهر الطبيعية، و أما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها فلا يدل أبدا على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

و بعبارة اخرى: إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني، و ارتباط الكائنات بعضها ببعض.

(4) جيم: ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

و حيث أن الصورة الثانية غير معقولة، و على فرض

تصورها لا معنى لأن يسير المربّي و المدبر للكون من مرحلة الكمال الى النقص و الفناء، يبقى الفرض. الاول و هو بنفسه دليل على وجود مربّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:129

من مرحلة الى مرحلة، هو- في الحقيقة- الربّ الذي يبلغ بهذه الموجودات و ما دونها إلى الكمال.

(1)

طريقة الأنبياء في الحوار و الجدال:

لقد اسلفنا في ما سبق أن «ابراهيم»- بعد خروجه من الغار- واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما:

1- الوثنيون.

2- عبدة الاجرام السماوية.

و لقد سمعنا حوار «ابراهيم» عليه السّلام و جداله مع الفريق الثاني، و علينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين و عبدة الاصنام؟

(2) إن تاريخ الأنبياء و الرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدءون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك اذ قال: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1». و بذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه و عشيرته.

و لقد سلك «الخليل» عليه السّلام نفس هذا المسلك أيضا إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.

و لقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو- مضافا إلى معلوماته في الصناعة و غيرها- كان منجما ماهرا، و ذا كلمة مسموعة و رأي مقبول في بلاط «نمرود» في كل ما يخبر به من أخبار النجوم، و كل ما يستخرجه و ما يستنبطه من الامور الفلكية و يذكره من تكهنات.

(3) لقد ادرك «ابراهيم» انه بجلبه لآزر (عمّه) يستطيع ان يسيطر على اوساط الوثنيين، و يجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم، و لهذا بادر الى منع

______________________________

(1) الشعراء: 214.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:130

عمّه آزر- و بافضل الاساليب- عن عبادة الاوثان، بيد أن

بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل «آزر» بنصائح «ابراهيم» عليه السّلام، و المهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل و على اسلوب حواره مع «آزر».

ان الامعان في الآيات التي تنقل حوار «ابراهيم» عليه السّلام مع «آزر» توضح لنا أدب الأنبياء، و اسلوبهم الرائع في الدعوة و الارشاد، و لنقف عند حوار ابراهيم و دعوته، ليتضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا».

(1) فاجابه «آزر» قائلا: «أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا».

و لكن «ابراهيم» بسعة صدره و عظمة روحه تجاهل ردّ «آزر» العنيف ذلك و أجابه قائلا: «سلام عليك سأستغفر لك ربّي» «1».

و أيّ جواب أفضل من هذا البيان و أيّ لغة ألين من هذه اللغة و احبّ الى القلب، و اكثر رحمة و لطفا.

(2)

هل كان آزر والد إبراهيم؟

ان الظاهر من الآيات المذكورة و كذا الآية (115) من سورة «التوبة» و الآية (14) من سورة الممتحنة هو: أنّ «آزر» كان والد إبراهيم عليه السّلام.

و قد كان إبراهيم يسميه أبا في حين كان «آزر» وثنيا، فكيف يصح ذلك و قد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم «محمّد»

______________________________

(1) مريم: 42- 47.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:131

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جميع الأنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى.

و لقد ذكر الشيخ

المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم «أوائل المقالات» «1» ان هذا الأمر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة أيضا.

و في هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة التي تفيد ابوّة «آزر» لإبراهيم، و ما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة (1) يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة «الأب» و ان كانت تستعمل عادة في لغة العرب في «الوالد»، إلّا أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربما استعملت- في لغة العرب و كذا في مصطلح القرآن الكريم- في:

(العمّ) أيضا. كما وقع ذلك في الآية التالية التي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم اذ يقول سبحانه:

«إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و اسماعيل و إسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون» «2»

فإنّ ممّا لا ريب فيه أن «اسماعيل» كان عما ليعقوب لا والدا له، فيعقوب هو ابن اسحاق، و اسحاق هو أخو اسماعيل.

و مع ذلك سمّى أولاد يعقوب «اسماعيل» الذي كان (عمّهم) أبا.

(2) و مع وجود هذين الاستعمالين (استعمال الاب في الوالد تارة، و في العم تارة اخرى) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية «آزر» هو العمّ أمرا واردا، و بخاصة إذا ضممنا الى ذلك قرينة قوية في المقام و هي:

اجماع العلماء الذي نقله المفيد رحمه اللّه على طهارة آباء الأنبياء و اجدادهم من رجس الشرك و الوثنية.

و لعل السبب في تسمية النبي «ابراهيم» عمّه بالأب هو أنه كان الكافل

______________________________

(1) أوائل المقالات: ص 12 باب القول في آباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2) البقرة: 133.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:132

لإبراهيم ردحا من الزمن، و من

هنا كان «ابراهيم» ينظر إليه بنظر الأب، و ينزله منزلة الوالد.

(1)

القرآن ينفي ابوّة «آزر» لإبراهيم:

و لكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين «آزر» و «ابراهيم» عليه السّلام نلفت نظر القارئ الكريم الى توضيح آيتين:

(2) 1- لقد أشرقت منطقة الحجاز بنور الايمان و الإسلام بفضل جهود النبيّ «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تضحياته الكبرى، و آمن اكثر الناس به عن رغبة و رضا، و علموا بأن عاقبة الشرك، و عبادة الاوثان و الاصنام هو الجحيم و العذاب الاليم.

إلّا أنهم رغم ابتهاجهم و سرورهم بما وفقوا له من إيمان و هداية، كانت ذكريات آبائهم و امهاتهم الذين مضوا على الشرك و الوثنية تزعج خواطرهم و تثير شفقتهم، و اسفهم.

و كان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم و يؤلمهم، و بغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستغفر لآبائهم و امهاتهم كما فعل «إبراهيم» في شأن «آزر» فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك، اذ قال سبحانه:

«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «1».

إنّ ثمت قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ «إبراهيم» و حواره مع «آزر» و وعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات،

______________________________

(1) التوبة: 113 و 114.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:133

و التبرّي منه في عهد فتوّة «إبراهيم»، و شبابه، أى عند ما كان «إبراهيم» لا يزال في مسقط

رأسه «بابل» و لم يتوجه بعد الى فلسطين و مصر و أرض الحجاز.

إننا نستنتج من هذه الآية أن «إبراهيم» قطع علاقته مع «آزر»- في أيام شبابه- بعد ما أصرّ «آزر» على كفره، و وثنيته، و لم يعد يذكره الى آخر حياته.

(1) 2- لقد دعا «إبراهيم» عليه السّلام في اخريات حياته- أي في عهد شيخوخته- و بعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى (تعمير الكعبة) و اسكان ذريته في أرض مكة القاحلة، دعا و بكل اخلاص و صدق جماعة منهم والداه، و طلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين الدعاء:

«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» «1».

إن هذه الآية تفيد بصراحة- أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة، و تشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فاذا كان مقصوده من الوالد في الدعاء المذكور هو «آزر» و انه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن «ابراهيم» كان لم يزل على صلة ب «آزر» حتى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت ردا على طلب المشركين أوضحت بأن «إبراهيم» كان قد قطع علاقاته ب «آزر» في أيّام شبابه، و تبرّأ منه، و لا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.

إن ضمّ هاتين الآيتين بعضهما الى بعض يكشف عن أنّ الذي تبرّأ منه «ابراهيم» في أيام شبابه، و قطع علاقاته معه، و اتخذه عدوا هو غير الشخص الذي بقي يذكره، و يستغفر له الى اخريات حياته «2».

(2)

إبراهيم محطّم الأصنام:

لقد حلّ موسم العيد، و خرج أهل بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام، و لقضاء فترة العيد، و إجراء مراسيمه، و قد أخلوا المدينة.

______________________________

(1) إبراهيم: 41.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص

321، و الميزان: ج 7 ص 170.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:134

و لقد كانت سوابق «إبراهيم»، و تحامله على الأصنام، و استهزاؤه بها قد أوحدت قلقا و شكا لدى أهل بابل، و لهذا طلبوا منه- و هم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم- الخروج معهم إلى الصحراء، و المشاركة في تلك المراسيم، و لكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الذي رد على طلبهم بحجة المرض اذ قال: «إنّي سقيم» و هكذا لم يشترك في عيدهم، و خروجهم و بقي في المدينة.

(1) حقا لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج و فرح للموحد و المشرك، و أمّا للمشركين فقد كان عيدا قديما عريقا يخرجون للاحتفال به، و اقامة مراسيمه و تجديد ما كان عليه الآباء و الاسلاف الى الصحراء حيث السفوح الخضراء و المزارع الجميلة.

و كان عيدا لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيدا لم يسبق له مثيل، عيدا طال انتظاره، و افرح حضوره و حلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار، و الفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك و الوثنية، و حدث هذا فعلا.

فعند ما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة، اغتنم «إبراهيم» تلك الفرصة و دخل و هو ممتلئ ايمانا و يقينا باللّه في معبدهم حيث الأصنام و الأوثان المنحوتة الخاوية، و أمامها الأطعمة الكثيرة التي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها، و قد لفتت هذه الأطعمة نظر «الخليل» عليه السّلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، و قدمها مستهزء الى تلك الاصنام قائلا: لما ذا لا تأكلون من هذه الاطعمة؟

(2) و من المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شي ء أو حركة مطلقا فكيف بالاكل.

لقد كان يخيم على

جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل و لكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعول الذي اخذ «إبراهيم» يهوي به على رءوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك، و ايديها.

لقد حطم «الخليل» عليه السّلام جميع الاصنام و تركها ركاما من الاعواد المهشمة، و المعدن المتحطم، و اذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:135

قد تحولت الى تلة في وسط المعبد.

غير ان «ابراهيم» ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء، و وضع المعول على عاتقه، و هو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطم تلك الأصنام هو ذلك الصنم الكبير، إلّا أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امرا آخرا سنبينه في ما بعد.

(1) لقد كان «إبراهيم» عليه السّلام يعلم بأنّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، و من عيدهم سيزورون المعبد، و سوف يبحثون عن علة هذه الحادثة، و أنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذا الظاهر واقعا آخر، اذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الذي لا يقدر أساسا على فعل شي ء على الاطلاق.

و في هذه الحالة سوف يستطيع «إبراهيم» عليه السّلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي، و يستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شي ء أبدا، لتوجيه السؤال التالي إليهم: اذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن اخذت الشمس تدنو الى المغيب و يقترب موعد غروبها، و تتقلص اشعتها و تنكمش من الرّوابي و السهول، أخذ الناس يؤوبون إلى المدينة أفواجا افواجا.

(2) و عند ما آن موعد العبادة، و توجّهوا إلى حيث اصنامهم، واجهوا منظرا فضيعا و امرا عجيبا لم يكونوا ليتوقّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة و حقارتها، و هو

أمر لفت نظر الجميع شيبا و شبّانا، كبارا و صغارا.

و لقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خيّم سكوت قاتل مصحوب بحنق و مضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب و قال: من الذي ارتكب هذه الجريمة، و من فعل هذا بآلهتنا؟!

سيد المرسلين ،ج 1،ص:136

و لقد كانت آراء «إبراهيم» و مواقفه السلبية السابقة ضد الاصنام و تحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن «إبراهيم» و ليس سواه هو الذي صنع ما صنع بآلهتهم و اصنامهم.

و لأجل ذلك تشكلت فورا محكمة يرأسها «نمرود» نفسه و أخذوا يحاكمون «ابراهيم» و أمه!!

(1) و لم يكن لامه من ذنب إلا أنها أخفت ابنها، و لم تعلم السلطات بوجوده ليقضوا عليه، شأنه شأن غيره من المواليد الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظا على نفسها و كيانها.

و لقد أجابت أم إبراهيم على هذا السؤال بقولها: أيها الملك فعلت هذا نظرا مني لرعيّتك، فقد رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت: إن كان هذا الذي يطلبه دفعته إليه ليقتله و بكف عن قتل أولاد الناس، و إن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا.

(2) ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه السّلام فسأله قائلا: «من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم» فقال إبراهيم: «فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون».

و قد كان «إبراهيم» عليه السّلام يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسحرية و الازدراء هدفا آخر، و هو ان «إبراهيم» عليه السّلام كان على يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا: إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه الأصنام لا تقدر على النطق، و في هذه الصورة يستطيع «إبراهيم» أن يلفت نظر السلطات

التي تحاكمه الى نقطة اساسية.

و قد حدث فعلا ما كان يتوقعه «إبراهيم» عليه السّلام لما قالوا له و قد نكسوا على رءوسهم: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فقال إبراهيم ردا على كلامهم هذا الذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام و الأوثان و تفاهة شأنها: «أ فتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم و لا يضرّكم افّ لكم و لما تعبدون من دون اللّه أ فلا تعقلون».

(3) إلّا أنّ تلك الزمرة المعاندة التي ران على قلوبها الجهل و التقليد الأعمى لم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:137

يجدوا جوابا لإبراهيم الذي أفحمهم بمنطقه الرصين الّا أن يحكموا باعدامه حرقا، فأوقدوا نارا كبيرة و ألقوا بإبراهيم عليه السّلام فيها إلّا أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليه السّلام، و حفظته من اذى تلك النار، و حولت ذلك الجحيم الذي اوجده البشر، الى جنينة خضراء نضرة اذ قال: «يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم» «1».

(1)

العبر القيامة في هذه القصة:

مع ان اليهود يعتبرون أنفسهم في مقدمة الموحّدين، لم ترد هذه القصة في توراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم، بل تفرّد القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها.

من هنا فإننا نذكر بعض النقاط المفيدة، و الدروس المهمة في هذه القصة التي يهدف القرآن من ذكرها و ذكر امثالها من قصص الأنبياء و الرسل.

______________________________

(1) و قد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات 51 الى 70 من سورة الأنبياء و ها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا:

«وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ

أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. قالُوا:

فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قالَ: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ. قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

و للوقوف على تفاصيل و خصوصيات ولادة إبراهيم عليه السّلام و تحطيمه للأصنام راجع كتاب الكامل لابن الأثير: ج 1 ص 53- 62، و بحار الأنوار: ج 12 ص 14- 55.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:138

(1) 1- إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام و بطولته الفائقة.

فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام، و محق و هدم كل مظاهر الشرك و الوثنية المقيتة لم يكن امرا خافيا على النمروديين لانه عليه السّلام كان قد أظهر شجبه لها، و اعلن عن استنكاره لعبادتها و تقديسها من خلال كلماته القادحة فيها، و استهزائه بها، فقد كان عليه السّلام يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفا ما اذا لم يتركوا عبادتها و تقديسها، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا الى

الصحراء لمراسيم العيد: «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» «1».

و لقد كان موقف الخليل عليه السّلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الصدد:

«و منها (اي و ممّا تحلّى به النبيّ ابراهيم) الشجاعة و قد كشفت (قضية) الاصنام عنه، و مقاومة الرجل الواحد الوفا من أعداء اللّه عزّ و جلّ تمام الشجاعة» «2».

(2) 2- ان ضربات «إبراهيم» القاضية و ان كانت في ظاهرها حربا مسلحة، و عنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة- كما يستفاد من ردود «إبراهيم» على أسئلة الذين حاكموه، و استجوبوه- كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فان «إبراهيم» لم يجد وسيلة لإيقاظ عقول قومه الغافية، و تنبيه فطرهم الغافلة، إلا تحطيم جميع الاصنام، و ترك كبيرها و قد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها و حيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير و فعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته، و يقول انّ هذا الصنم الكبير لا يقدر- و باعترافكم- على فعل أيّ شي ء

______________________________

(1) الأنبياء: 57.

(2) بحار الأنوار: ج 12 ص 67.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:139

مهما كان صغيرا و حقيرا فكيف تعبدونه اذن؟!

(1) و لقد استفاد «إبراهيم» من هذه العملية فعلا، و توصل الى النتيجة التي كان يتوخاها، فقد ثابوا الى نفوسهم بعد ان سمعوا كلمات «إبراهيم» عليه السّلام، و استيقظت ضمائرهم و عقولهم و وصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق و بطل ما كانوا يعبدون اذ قال تعالى: «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» «1» و هذا

بنفسه يفيد بأن سلاح الأنبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو: سلاح المنطق و الاستدلال ليس إلا، غاية الأمر أن هذا كان يؤدى في كل دورة بما يناسبها من الوسائل، و إلّا فما قيمة تحطيم عدد من الأصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ «ابراهيم الخليل» بنفسه و حياته، و بالقياس الى الاخطار التي كانت تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلا بد ان يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدف كبير و خدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس، و يستحق المرء امتداح العقل له اذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

(2) 3- لقد كان إبراهيم يعلم جيدا بأن هذا العمل سيؤدي بحياته، و سيكون فيه حتفه، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلق و اضطراب شديدان، فيتوارى عن اعين الناس، أو يترك المزاح، و السخرية بالأصنام على الأقل، و لكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش، مطمئن النفس، ثابت القدم، فهو عند ما دخل في المعبد الذي كانت فيه الأصنام تقدم بقطعة من الخبز الى الاصنام و دعاها ساخرا بها، الى الاكل، و ثم ترك الأصنام بعد اليأس منها تلّا من الخشب المهشم، و اعتبر هذا الأمر مسألة عادية لا تستأهل الوجل و الخوف، و كأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقّق و يستوجب الاعدام المحتّم.

فهو عند ما يأخذ مكانه امام هيئة القضاة يقول معرضا بالاصنام: فعله كبير الأصنام فاسئلوه و لا شك أن هذا التعريض و السخرية بالاصنام إنما هو موقف من

______________________________

(1) الأنبياء: 64.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:140

لا يوجس خيفة، و لا يشعر بوجل من عمله، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة، و استعد لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

(1) بل الأعجب من هذا

كله دراسة وضع «إبراهيم» نفسه حينما كان في المنجنيق و قد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة، و تلتهمه النار المستعرة تلك النار التي جمع اهل «بابل» لها الحطب الكثير تقربا الى آلهتهم، و كانوا يعتبرون ذلك العمل واجبا مقدسا ... تلك النار التي كان لهيبها من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه جبرئيل و اعلن عن استعداده لانقاذه و تخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له: هل لك إليّ من حاجة؟

فقال «إبراهيم»: أما إليك فلا، و أما إلى ربّ العالمين فنعم «1».

ان هذا الجواب يجسّد ايمان «إبراهيم» العظيم، و روحه الكبرى.

(2) لقد كان «نمرود» الذي جلس يراقب تلك النار من عدة فراسخ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام، و كان يحب ان يرى كيف تلتهم ألسنة النار «إبراهيم». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد اشتغل المنجنيق، و بهزّة واحدة القي بإبراهيم عليه السّلام في وسط النار غير أن مشيئة اللّه، و ارادته النافذة تدخلت فورا لتخلص خليل اللّه و نبيه العظيم، فحوّلت تلك النّار المحرقة التي أو قدتها يد البشر الى روضة خضراء و جنينة زاهرة ادهشت الجميع حتى أنّ «إبراهيم» التفت إلى «آزر» و قال- من دون ارادته-:

«يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه» «2».

(3) إن انقلاب تلك النّار الهائلة الى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للأسباب و المعطل لها متى شاء، المعطي لها آثارها، و السالب عنها ذلك، متى اراد.

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا: ص 136، و أمالي الصدوق: ص 274، و بحار الأنوار: ج 12 ص 35.

(2) تفسير البرهان: ج 3 ص 64.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:141

اجل إن اللّه الذي منح الحرارة

للنّار و الاضاءة للقمر، و الاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار و انتزاعها من تلك الاشياء و تجريدها، و لهذا صحّ وصفه بمسبب الاسباب، و معطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة و الآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لإبراهيم الحرية الكاملة في الدعوة و التبليغ، فقد قررت السلطة الحاكمة و بعد مشاورات و مداولات إبعاد «إبراهيم» و نفيه، و قد فتح هذا الأمر صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، و تهيأت بذلك اسباب رحلته الى بلاد الشام و فلسطين و مصر و ارض الحجاز.

(1)

هجرة الخليل عليه السّلام:

لقد حكمت محكمة «بابل» على «إبراهيم» بالنفي و الإبعاد من وطنه، و لهذا اضطرّ عليه السّلام ان يغادر مسقط رأسه، و يتوجه صوب فلسطين و مصر، و هناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك. البقاع و ترحيبهم الحار به و نعم بهداياهم التي كان من جملتها جارية تدعى «هاجر».

و كانت زوجته «سارة» لم ترزق بولد الى ذلك الحين، فحركت هذه الحادثة عواطفها و مشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم و لذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يرزق منها بولد، تقرّبه عينه و تزدهر به حياته.

فكان ذلك، و ولدت «هاجر» لإبراهيم ولدا ذكرا سمي باسماعيل، و لم يمض شي ء من الزمان حتى حبلت سارة هي أيضا و ولدت- بفضل اللّه و لطفه- ولدا سمي باسحاق «1».

(2) و بعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى «إبراهيم» بان يذهب بإسماعيل و أمه «هاجر» إلى جنوب الشام (أي ارض مكة) و يسكنهما هناك في واد غير معروف الى ذلك الحين ... واد لم يسكنه أحد بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 118 و 119.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:142

الذاهبة من

الشام الى اليمن، و العائدة منها الى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعا، و أما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية عن أي ساكن مقيم.

(1) لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لامرأة عاشت في ديار العمالقة و ألفت حياتهم و حضارتهم، و ترفهم و بذخهم.

فالحرارة اللاهبة و الرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

و إبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالة من التفكير و الدهشة لهذا الأمر، و لهذا فإنّه فيما كان عازما على ترك زوجته «هاجر» و ولده «إسماعيل» في ذلك الواد قال لزوجته «هاجر» و عيناه تدمعان: «إن الذي أمرني أن اضعكم في هذا المكان هو الذي يكفيكم».

ثمّ قال في ضراعة خاصة: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» «1».

و عند ما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت إليهما و قال داعيا: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

إن هذا السفرة و الهجرة و إن كانت في ظاهرها امرا صعبا، و عملية لا تطاق، إلا أن نتائجها الكبرى التي ظهرت في ما بعد أوضحت و بيّنت أهميّة هذا العمل، لأنّ بناء الكعبة، و تأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، و رفع راية التوحيد في تلك الربوع، و خلق نواة نهضة، عميقة، دينية، انبثقت على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كل

ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

______________________________

(1) البقرة: 126

(2) إبراهيم: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:143

(1)

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر «إبراهيم» عليه السّلام أرض مكة تاركا زوجته و ولده «إسماعيل» بعيون دامعة، و قلب يملئوه الرضا بقضاء اللّه و الامل بلطفه و عنايته.

فلم تمض مدة إلا و نفد ما ترك عندهما من طعام و شراب، و جف اللبن في ثديي «هاجر»، و تدهورت أحوال الرضيع «إسماعيل»، و كانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره، و هي تشاهد حال وليدها الذي قد أخذ العطش و الجوع منه مأخذا.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتى وصلت إلى جبل «الصفا» فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل «مروة»، فاسرعت إليه مهرولة، غيران الذي رأته و ظنته ماء لم يكن الّا السراب الخادع، فزادها ذلك جزعا و حزنا على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب و الاياب الى الصفا و المروة أملا في أن تجد الماء و لكن بعد هذا السعي المتكرر، و الذهاب و الاياب المتعدد بين الصفا و المروة عادت الى وليدها قانطة يائسة.

(2) كانت أنفاس الرضيع الظامئ و دقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل و اشرفت على النهاية، و لم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادرا على البكاء و لا حتى على الانين.

و لكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله و حبيبه «إبراهيم»، اذ لاحظت هاجر الماء الزلال و هو ينبع من تحت اقدام «اسماعيل».

فسرت تلك الام المضطربة- التي كانت تلاحظ وليدها و هو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته، و كانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشا، و جهدا- سرورا عظيما بمنظر الماء، و برق في عينيها بريق الحياة، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق، فشربت

من ذلك الماء العذب، و سقت منه رضيعها الظامئ، و تقشعت بلطف اللّه و عنايته و بما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس، و سحب القنوط التي تلبدت و خيمت على حياتها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:144

(1) و لقد ادى ظهور هذه العين التي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة و تحلق فوق تلك البقعة التي لم يعهد أن حلّقت عليها الطيور، و ارتادتها الحمائم، و هذا هو ما دفع بجرهم و هي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور و تحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر و يعرفا حقيقة الأمر، و بعد بحث طويل و كثير، انتهيا الى حيث حلت الرحمة الالهية، و عند ما اقتربا إلى «هاجر» و شاهدا بام عينيهما «امرأة» و «طفلا» عند عين من الماء الزلال الذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، و أخبرا كبار القبيلة بما شاهداه، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة قد إلى البقعة المباركة، و تخيم عند تلك العين لتطرد عن «هاجر» و ولدها مرارة الغربة، و وحشة الوحدة، و قد سبب نمو ذلك الوليد المبارك و رشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة، و يصاهرهم، و بذلك يحظى بحمايتهم له، و ينعم بدفاعهم و رعايتهم و محبتهم له.

فانه لم يمض زمان حتى أختار «إسماعيل» زوجة من هذه القبيلة، و لهذا ينتمي ابناء «إسماعيل» الى هذه القبيلة من جهة الام.

(2)

تجديد اللقاء:

كان إبراهيم عليه السّلام بعد أن ترك زوجته «هاجر» و ولده «إسماعيل» في ارض «مكة» بأمر اللّه، يتردد على

ولده بين فينة و اخرى.

و في احدى سفراته و لعلّها السفرة الاولى دخل «مكة» فلم يجد ولده «إسماعيل» في بيته، و كان ولده الذي أصبح رجلا قويا، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل «إبراهيم» زوجته قائلا: اين زوجك؟ فقالت: خرج يتصيّد، فقال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شي ء و ما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: «اذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:145

و ذهب إبراهيم عليه السّلام منزعجا من معاملة زوجة ابنه «إسماعيل» له و قد قال لها ما قال.

(1) و لمّا جاء إسماعيل عليه السّلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته: هل جاءك احد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا كالمستخفّة بشأنه، قال: فما ذا قال لك: قالت: قال لي أقرئي زوجك السلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها و تزوج اخرى، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة و شريكة حياة «1»

و قد يتساءل أحد: لما ذا لم يمكث إبراهيم عليه السّلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد، و قد قطع تلك المسافة الطويلة، و كيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود إليها سريعا، ففعل ذلك حتى لا يخلف. و هذا من اخلاق الأنبياء.

ثمّ إن «إبراهيم» سافر مرة اخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه، و ليا بني الكعبة التي تهدمت في طوفان «نوح»، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

(2) إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض «مكة» قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة

قبيل وفاة إبراهيم عليه السّلام، لأن إبراهيم دعا بعيد فراغه من بناء الكعبة قائلا:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» «2» على حين دعا عند نزوله مع زوجته، و ابنه إسماعيل في تلك الأرض قائلا:

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» «3».

و هذا يكشف عن ان مكة تحولت الى مدينة عامرة في حياة الخليل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 112 نقلا عن قصص الأنبياء.

(2) إبراهيم: 35.

(3) البقرة: 126.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:146

عليه السّلام، بعد ان كانت صحراء قاحلة، و واد غير ذي زرع.

(1) و لقد كان من المستحسن استكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة، و نستعرض التاريخ الاجمالى لذلك، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك و عمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز و اشهر أجداد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في التاريخ.

(2)

2- قصيّ بن كلاب:

إن أسلاف الرّسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله هم على التوالي: عبد اللّه، عبد المطّلب، هاشم، عبد مناف، قصيّ، كلاب، مرّة، كعب، لؤيّ، غالب، فهر، مالك، النضر، كنانة، خزيمة، مدركة، إلياس، مضر، نزار، معدّ، عدنان «1».

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله إلى عدنان هو ما ذكر، فلا خلاف فيه، إنما وقع الخلاف في عدد، و اسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السّلام، و لذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذ قال: «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا» «2» هذا مضافا إلى أن النبيّ نفسه كان اذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، و نهى عن ذكر من

بعده الى إسماعيل، و قد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: كذب النسّابون.

و لهذا فإننا نكتفي بذكر من اتفق عليه، و نعمد الى الحديث عن حياة كل واحد منهم.

(3) و لقد كان كل من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، و مشهورين في تاريخ

______________________________

(1) التاريخ الكامل: ج 2 ص 2- 21.

(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 105 عن مناقب ابن شهرآشوب، و كشف الغمّة: ج 1 ص 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:147

العرب، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، و لهذا فاننا نقف عند حياة «قصيّ» و من لحقه إلى والد النبيّ «عبد اللّه» و نعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده و أسلافه صلّى اللّه عليه و آله ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة «1».

(1) أمّا «قصيّ» و هو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فامّه «فاطمة» التي تزوجت برجل من بني كلاب و رزقت منه بولدين هما: «زهرة» و «قصي» إلّا أن زوج فاطمة قد توفي، و هذا الاخير لم يزل في المهد، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة، و سافرت معه الى الشام، و بقي «قصيّ» يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتى وقع خلاف بين قصيّ و قوم ربيعة، و اشتد ذلك الخلاف حتى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك امّه، و اضطرت الى إرجاعه الى «مكة».

و هكذا اتت به يد القدر إلى «مكة»، و سبّبت قابلياته الكامنة التي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة و بخاصة قريش.

و سرعان ما احتلّ قصيّ هذه المقامات العالية، و شغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة «مكة» و زعامة قريش، و سدانة الكعبة المعظمة، و صار رئيس تلك الديار دون

منازع.

و لقد ترك (قصيّ) من بعده آثارا كثيرة و عديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن و البيوت حول الكعبة المعظمة، و تأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور و حل المشاكل يدعى بدار الندوة.

و قد توفي «قصيّ» في القرن الخامس الميلادي و خلف من بعده ولدين هما:

«عبد الدار» و «عبد مناف».

(2)

3- عبد مناف:

و هو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اسمه «المغيرة» و لقبه

______________________________

(1) لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع: ج 2 ص 15- 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:148

«قمر البطحاء»، و كان أصغر من اخيه «عبد الدار» إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه، و كان شعاره التقوى، و دعوة الناس الى حسن السيرة و صلة الرحم، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه «عبد الدار» في المناصب العالية التي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما «قصيّ».

و لكن بعد وفاة هذين الأخوين وقع الخصام و التنازع بين أبنائهما على المناصب، و انتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب و المقامات، و تقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة، و زعامة دار الندوة، و يتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج و ضيافتهم و وفادتهم.

و قد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول الى زمن ظهور الإسلام «1».

(1)

4- هاشم:
اشارة

و هو الجدّ الثاني لنبي الإسلام و اسمه «عمرو» و لقبه «العلاء» و هو الذي ولد مع «عبد شمس» توأمين، و أخواه الآخران هما: «المطلب» و «نوفل».

هذا و ثمة خلاف بين أرباب السير و كتاب التاريخ في: أن هاشما و عبد شمس كانا توأمين، و أن هاشما ولد و اصبع واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة «عبد شمس» و قد نزعت بسيلان دم، فتشاءم الناس لذلك «2» يقول الحلبي في سيرته: فكانوا يقولون: سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

______________________________

(1) لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اسّست و رفع قواعدها بل حدث كل ذلك تدريجا بحكم المقتضيات و التطوّرات، و

كانت هذه المناصب التي استمرت الى زمن ظهور الإسلام عبارة عن:

1- سدانة الكعبة.

2- سقاية الحجيج.

3- رفادتهم و ضيافتهم.

4- زعامة المكيين و قيادة جيشهم. و لم يكن هذا الأخير منصبا ذا صبغة دينية.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 13.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:149

(و هم من أولاد هاشم) و بين بني أميّة (و هم من أولاد عبد شمس) «1».

(1) و كأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة و المؤسفة التي وقعت بين بني أميّة و ابناء علي عليه السّلام في حين أن تلك الحوادث الدامية التي تسببها بنو أميّة و اهرقت فيها دماء ذرية رسول اللّه و عترته الطاهرة، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين، و لكننا لا ندري لما ذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية و لم يشر إليها مطلقا؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء «عبد مناف» حسبما يستفاد من الأدب الجاهلي، و ما جاء فيه من أشعار، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم- مثلا- توفي في «غزة» و عبد شمس مات في مكة، و نوفل في ارض العراق، و المطلب في ارض اليمن «2».

(2) و كان من سجايا هاشم و اخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هلّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته، و أسند ظهره الى الكعبة المشرفة، و خطب قائلا:

«يا معشر قريش إنكم سادة العرب و أحسنها وجوها، و أعظمها احلاما (اي عقولا) و أوسط العرب (أي أشرفها) أنسابا، و أقرب العرب بالعرب أرحاما.

يا معشر قريش إنكم جيران بيت اللّه تعالى اكرمكم اللّه تعالى بولايته، و خصكم بجواره، دون بني إسماعيل، و انه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه و أحق من اكرم أضياف اللّه انتم، فاكرموا ضيفه و زوّاره، فانهم يأتون شعثا غبرا من

كل بلد على ضوامر كالقداح، فاكرموا ضيفه و زوّار بيته، فو ربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، و أنا مخرج من طيب مالي و حلاله ما لم يقطع فيه رحم، و لم يؤخذ بظلم، و لم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعل، و أسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه و تقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما، و لم يقطع فيه رحم، و لم يؤخذ غصبا» «3».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 5.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:150

(1) و لقد كانت زعامة «هاشم» و قيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي، و كان لها تأثير كبير في تحسين أوضاعهم.

و لقد سبّب كرمه و ما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة، و بالتالي ادى الى عدم احساسهم بالقحط، و آثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة و اعماله النافعة جدا لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير «غسان» من المعاهدة، الأمر الذي دفع بأخيه «عبد شمس» إلى أن يعاهد أمير الحبشة، و بأخويه الآخرين «المطلب» و «نوفل» الى ان يعاهدا أمير اليمن و ملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان، من العدوان و التعرض.

و قد أزالت هذه المعاهدات الكثير من المشاكل، و كانت وراء ازدهار التجارة في «مكة المكرمة» حتى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال «هاشم» و خطواته النافعة تأسيسه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم اذ يقول: «رحلة الشتاء و الصيف» و

هما رحلة إلى الشام، و كانت في الصيف، و رحلة الى اليمن، و كانت في الشتاء، و قد استمرت هذه السيرة حتى ما بعد ظهور الإسلام أيضا.

(2)

اميّة بن عبد شمس يحسد هاشما:

و لقد حسد «أميّة بن عبد شمس» أبن أخي هاشم عمّه «هاشما» على ما حظي به من المكانة و العظمة، و النفوذ الى قلوب الناس و جذبها نحوه بسبب خدماته و أياديه، و ما كان يقوم به من بذل و انفاق، و حاول جاهدا ان يقلده و يتشبه بهاشم في سلوكه و لكنه رغم كل ما قام به من جهود و محاولات لم يستطع أن يتشبه به و يتخذ سيرته، و كما لم يستطع بايقاعه و طعنه به ان يقلل من شأنه بل زاده رفعة و عظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب «أميّة» يزداد اشتعالا يوما بعد يوم، حتى

سيد المرسلين ،ج 1،ص:151

دفع به الى ان يدعو عمّه «هاشما» للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرئاسة و الزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن، و كانت عظمة «هاشم» و سموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه (اميّة) إلّا أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار (اميّة) بشرطين:

1- أن يعطي المغلوب خمسين من النياق سود الحدق تنحر بمكة.

2- جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

(1) و من حسن الحظّ أن ذلك الكاهن نطق بمدح «هاشم» بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال: «و القمر الباهر، و الكوكب الزاهر، و الغمام الماطر ... لقد سبق هاشم اميّة إلى الماثر» الى آخر كلامه. و هكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها و أطعمها و اضطر أمية الى الجلاء عن مكة و العيش بالشام عشر سنين «1».

و قد استمرت آثار هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاما

بعد ظهور الإسلام، و تسببت في جرائم و فجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافا الى انها تبين مبدأ العداوة بين الأمويين و الهاشميين تبيّن أيضا علل نفوذ الامويين في البيئة الشامية، و يتبين أن علاقات الأمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي التي مهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

(2)

هاشم يتزوّج ...

كانت «سلمى» بنت «عمرو الخزرجي» امرأة شريفة في قومها، قد فارقت زوجها بطلاق، و كانت لا ترضى بالزواج من أحد، ولدى عودة «هاشم» من بعض أسفاره نزل في يثرب أياما فخطبها إلى والدها، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش، و لنبله و كرمه، و رضيت بالزواج منه بشرطين: أحدهما أن لا تلد ولدها

______________________________

(1) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 10، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:152

إلّا في اهلها، و حسب هذا الاتفاق بقيت «سلمى» مع زوجها «هاشم» في مكة بعض الوقت حتى اذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت الى: «يثرب» و هناك وضعت ولدا اسموه «شيبة». و قد اشتهر في ما بعد به «عبد المطلب».

(1) و كتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشما لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه «المطلب»: يا أخي أدرك عبدك شيبة و لذلك سمّي شيبة بن هاشم: «عبد المطلب».

و قيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب، و ينتضلون بالسهام، و لما سبق أحدهم الآخرين في الرمي قال مفتخرا: «أنا ابن سيّد البطحاء» فسأله الرجل عن نسبه و ابيه فقال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة اخبر «المطلب» أخي «هاشم» بما سمعه و رآه، فاشتاق «المطلب» الى ابن أخيه فذهب الى المدينة،

و لما وقعت عيناه على ابن اخيه «شيبة» عرف شبه أخيه هاشم، و توسّم فيه ملامحه، ففاضت عيناه بالدموع، و تبادلا قبلات الشوق، و المحبة، و أراد أن ياخذه معه الى «مكة» و كانت أمه تمانع من ذلك، و لكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه الى «مكة» و اخيرا تحققت امنية العم فقد استطاع «المطلب» أن يحصل على اذن أمه، فاردفه خلفه و توجّه حدب «مكة» تدفعه رغبة طافحة الى إيصاله إلى والده هاشم.

(2) و فعلت شمس الحجاز. و اشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيّرت لون وجه شيبة و أبلت ثيابه، و لهذا ظنّ أهل «مكة» عند دخوله مع عمه «مكة» أنه غلام اقتناه «المطلب» فكان يقول بعضهم لبعض: هذا عبد المطلب، و كان المطلب ينفي هذا الأمر، و يقول: إنما هو ابن أخي هاشم و ما هو بعبدي، و لكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلته، و عرف «شيبة» بعبد المطلب «1».

و ربما يقال: أن سبب شهرته بهذا الاسم هو انه تربى و ترعرع في حجر عمّه

______________________________

(1) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 6، و تاريخ الطبري: ج 2 ص 8 و 9، السيرة الحلبية: ج 1 ص 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:153

«المطلب» و كانت العرب تسمي من يترعرع في حجر أحد و ينشأ تحت رعايته عبدا لذلك الشخص تقديرا لجهوده و تثمينا لرعايته.

(1)

5- عبد المطّلب:
اشارة

عبد المطّلب بن هاشم و هو الجدّ الأول للنبي صلّى اللّه عليه و آله كان رئيس قريش و زعيمها المعروف، و كانت له مواقف بارزة، و أعمال عظيمة في حياته، و حيث أن ما وقع من الحوادث في أيام حكمه يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الإسلام و لهذا

يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث و الوقائع. سيد المرسلين ج 1 153 5 - عبد المطلب: ..... ص : 153

شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر- في المال- ببيئته و عاداتها، و تقاليدها، التي تصبغ فكره، بصبغة خاصة، و تطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تأثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة و الشجاعة، و يصون نفسه من التلوث بشي ء من أدرانها و أقذارها.

و بطل حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لأولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة، و سطورا لامعة تنبئ عن نفسيته القوية، و شخصيته الشامخة.

(2) فان الذي يعيش ثمانين عاما في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية، و معاقرة الخمر، و الربا، و قتل الأنفس البريئة، و الفحشاء حتى ان هذه الامور كانت من العادات و التقاليد الشائعة، و لكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته، و كان ينهى عن القتل و الخمر و الفحشاء، و يمنع عن الزواج بالمحارم، و الطواف بالبيت المعظم عريانا، و كان ملتزما بالوفاء بالعهد، و اداء النذر بلغ الأمر ما بلغ، لهو- حقا- نموذج صادق من الرجال الذين يندر وجودهم، و يقال نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي، يجب ان يكون إنسانا طاهر السلوك، نقيّ الجيب منزها عن أي نوع من أنواع الانحطاط، و الفساد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:154

(1) هذا و يستفاد من بعض قصصه و كلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة، و كان يردّد دائما: «لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه، و تصيبه عقوبة ... و

اللّه ان وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، و يعاقب فيها المسي ء باساءته» «1» اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة، فاذا خرج و لم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

و لقد كان «حرب بن أميّة» من أقربائه، و كان من اعيان قريش و وجوهها أيضا، و كان يجاور يهوديا فاتفق أن وقع بينه و بين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة، و انتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من «حرب»، و لما علم «عبد المطّلب» بذلك قطع علاقته بحرب، و سعى في استحصال دية اليهودية المقتول من «حرب» و دفعها إلى اولياء القتيل، و هذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين و المظلومين و حبه للحق و العدل.

(2)

حفر زمزم:

منذ أن ظهرت عين زمزم نزل عندها قبيلة جرهم التي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة، و كانت تستفيد من مياه تلك العين، و لكن مع ازدهار أمر التجارة في «مكة»، و اقبال الناس على الشهوات و المفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين، و نضوب مائها بالمرة «2».

و يقال: أن قبيلة «جرهم» لما واجهت تهديدا من جانب قبيلة خزاعة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

(2) لا ريب أنّ تفشي الذنوب و المعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا و الكوارث و لا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب و القحط و المجاعات، و هذه الحقيقة مضافا الى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم و السنّة الشريفة، راجع سورة الاعراف؛ الآية 96.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:155

و اضطرت إلى مغادرة تلك الديار، و ايقن زعيمها «مضاض بن عمرو» بانه سرعان ما يفقد

زعامته، و يزول حكمه و سلطانه بفعل هجوم العدو، امر بان يلقى الغزالان الذهبيان، و السيوف الغالية الثمن التي كانت قد اهديت الى الكعبة، في قعر بئر زمزم، ثم يملأ البئر بالتراب و يعفى اثره إعفاء كاملا حتى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابدا، حتى اذا عادت إليه زعامته و عاد الى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين، و استفاد منه. ثم نشب القتال بين «جرهم» و «خزاعة» و اضطرت «جرهم» و كثير من ابناء اسماعيل الى مغادرة «مكة المكرمة»، و التوجه إلى ارض اليمن، و لم يرجع أحد منهم الى «مكة» ابدا.

(1) و وقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد «خزاعة» حتى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب (الجدّ الرابع لنبي الإسلام) إلى سدة الزعامة و الرئاسة، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة الى «عبد المطلب» فعزم على أن يحفر بئر «زمزم» من جديد، و لكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتى اذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهي ء هو و ولده «حارث» مقدمات ذلك.

و حيث أنه «يوجد في المجتمع دائما من يتحجّج و يجادل- بسبب سلبيته- ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد، انبرى منافسوا «عبد المطلب» إلى الاعتراض على قراره هذا و بالتالى التفرد باعادة حفر بئر زمزم، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم، و قالوا له: «إنها بئر أبينا اسماعيل، و ان لنا فيها حقا فاشركنا معك» و لكن «عبد المطلب» رفض هذا الطلب لبعض الاسباب، فقد كان «عبد المطلب» يريد ان يتفرد بحفر زمزم، و يسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع و لا منازع، و يحول بذلك دون المتاجرة به و لم يكن

ليتسنى له ذلك إلّا إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

(2) و قد آل هذا الأمر الى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا الى كاهن من كهنة العرب و عقلائهم و القبول بما يقضي به، فتوجه «عبد المطلب» و منافسوه الى ذلك الكاهن و قطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز و الشام، و في منتصف الطريق أصابهم جهد و عطش شديدان، و لمّا تيقّنوا بالهلاك، و قرب الوفاة اخذوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:156

يفكرون في كيفية الدفن اذا هلكوا و ماتوا، فاقترح «عبد المطلب» ان يبادر كل واحد إلى حفر حفرته حتى إذا أدركه الموت دفنه الآخرون فيها، فاذا استمر بهم العطش و هلكوا يكون الجميع (ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة) قد اقبروا، و لم تغد أبدانهم طعمة للوحوش و الطيور فأيّد الجميع هذا الاقتراح «1»، و احتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه، و جلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة، و عيون ذابلة، و فجأة صاح عبد المطلب: «و اللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض و نبتغي لأنفسنا لعجز» و حثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت، فركب عبد المطلب و ركب مرافقوه، و اخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين، و لم يمض شي ء حتى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم، و عادوا من حيث جاءوا و هم يقولون لعبد المطلب: «قد و اللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب، و اللّه لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا و تنازلوا له لينفرد بحفر زمزم

و يكون إليه أمره دون منازع، و لا شريك» «2».

(1) فعمد «عبد المطلب» و ولده الوحيد الحارث الى حفر البئر، و نشأ من ذلك تل هائل من التراب حول البئر، و فجأة عثر «عبد المطلب» على الغزالين المصاغين من الذهب، و السيوف المرصعة المهداة الى الكعبة، فشبّ نزاع آخر بين «قريش» و بين «عبد المطلب» على هذه الاشياء، و اعتبرت «قريش» نفسها شريكة في هذا الكنز، و تقرر ان يلجئوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة، فخرجت القرعة باسم «عبد المطلب»، و صار جميع ذلك الكنز إليه دون «قريش»، و لكن عبد المطلب خصّ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف بابا للكعبة، و علق الغزالين الذهبيّين فيها.

______________________________

(1) و لعلّ احجام الآخرين من الإدلاء بالاقتراح و هو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 1 ص 206، و السيرة النبوية: ج 1 ص 142- 147.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:157

(1)

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد و النذر:

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة، و الخصال المحبّبة.

و للمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم، فاذا عقدوا عهودا مع القبائل العربية أوثقوها بالأيمان، المغلظة المؤكدة، و التزموا بها إلى الاخير، و ربما نذروا النذور الثقيلة و اجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة و ثمن.

و لقد أحسّ «عبد المطلب» عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده، و لهذا نذر اذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قربانا للكعبة و لم يطلع احدا على نذره هذا.

(2) و لم يمض زمان الّا و بلغ عدد ابنائه عشرة، و بذلك حان أوان وفائه بنذره الذي نذر، و هو ان يذبح احدهم قربانا للكعبة.

و لا شك

ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امرا في غاية الصعوبة على عبد المطلب، و لكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الأمر فيكون من الناقضين للعهد، التاركين لاداء النذر، و من هنا قرر أن يشاور أبناءه في هذا الأمر، و بعد ان يكسب رضاهم و موافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة «1».

و تمت عملية القرعة، فاصابت «عبد اللّه» والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه، و توجّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

و لما علمت قريش رجالها و نساؤها بقصة النذر المذكور و ما آلت إليه عملية القرعة حزن الناس و الشباب خاصة لذلك حزنا شديدا و بكوا و ضجوا، و قال أحدهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

______________________________

(1) هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين و كتّاب السيرة، و هذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان «عبد المطلب» و قوّة عزمه، و صلابة إرادته، و تبين جيّدا كم كان مصرّا على الوفاء بعهوده و التزاماته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:158

(1) فاقترحت قريش على عبد المطلب بان يفدي «عبد اللّه»، و اظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك، فتحيّر «عبد المطلب» تجاه تلك المشاعر الساخنة، و الاعتراضات القوية، و راح يفكّر في عدم الوفاء بنذره، و يفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة، فقال له أحدهم: لا تفعل و انطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق «عبد المطلب» و اكابر قريش على هذا الاقتراح، و توجهوا بأجمعهم نحو «يثرب» قاصدين ذلك الكاهن، و لما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوما واحدا، و لما

كان اليوم الثاني دخلوا عليه فقال لهم: كم دية المرء عندكم؟

قالوا: عشر من الابل.

فقال: ارجعوا إلى بلادكم، و قرّبوا عشرا من الإبل و اضربوا عليها و على صاحبكم «أي عبد اللّه» القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشرا، حتى يرضى ربكم، و إن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم و نجا صاحبكم و كانت عنه فداء.

(2) فهدّأ اقتراح الكاهن لهيب المشاعر الملتهبة لدى الناس، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شابا مثل «عبد اللّه» يتشحط في دمه.

و لهذا فانهم فور عودتهم إلى «مكة» بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس و زادوا عشرا عشرا حتى اذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل، و نجا «عبد اللّه» من الذبح، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس، بيد أن «عبد المطلب» طلب أن تعاد عملية القرعة قائلا: «لا و اللّه حتى أضرب ثلاثا»، و أنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه، و لكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابل ثم تركت لا يمنع عنها انسان و لا سبع «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 153، و بحار الانوار: ج 16 ص 74، و قد نقل عن النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا ابن الذبيحين» يقصد بالأول جدّه إسماعيل عليه السّلام و الثاني أباه «عبد اللّه» الذي كاد أن ينحر و لكنه نجا من الذبح كما نجا جدّه إسماعيل عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:159

(1)

حادثة عام الفيل:
اشارة

عند ما يحدث أمر عظيم في أمّة من الامم و خاصة إذا كان ذا جذور دينية او ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما

يتحول- بفعل اعجاب الناس عامة به- الى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتبر مبدأ للتاريخ عند اليهود، و مولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى، و الهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

و هذا يعني أن كل أمّة من الامم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الذي تعتبره بداية تاريخها.

و أحيانا تتخذ الامم و الشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسيا للتاريخ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب و شعوبه، فقد اتخذت الثورة الفرنسية، و ثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا، و الاتحاد السوفياتي، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

(2) و لكن الشعوب غير المتحضرة التي لم تمتلك مثل تلك الثورات و الحركات السياسية و الدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات و التحوّلات الاجتماعية، و هذا ما حدث عند العرب و قبل الإسلام.

فانهم- بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة- اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة و المرة- كالحرب و الزلزال، و المجاعة و القحط او الحوادث غير الطبيعية، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

و لهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب، آخرها: ضجة عام الفيل و هجوم «أبرهة» على «مكة» بهدف الكعبة المشرفة، التي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ- بقية الحوادث و الوقائع اللاحقة.

و نظرا لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الذي وقع عام 570 و اتفقت فيه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:160

ولادة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله فاننا نتناول هذه القصة بالعرض و التحليل:

(1)

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة، و سوف ننقل- هنا- الآيات التي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة

ان ملك اليمن «تبان أسعد» والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب (المدينة)، و قد كانت ل «يثرب» في ذلك الوقت مكانة دينية مرموقة فقد قطنها جماعة من اليهود «1»، و بنوا فيها عددا من المعابد و الهياكل، فأكرم اليهود مقدم ملك اليمن، و دعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين، و المشركين العرب.

و لقد تركت دعوتهم و ما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير و اختار اليهودية، و اجتهد في بثها و نشرها. ثم ملك من بعده ابنه «ذو نواس» الذي جدّ في بث اليهودية و التحق به جماعة خوفا.

بيد أن اهل نجران الذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم و ترك المسيحية و اعتناق اليهودية، و قاوموا «ذي نواس» مقاومة شديدة، فشق ذلك على ملك اليمن، و اغضبه فتوجه احد قادته الى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعسكر هذا الجيش على مشارف نجران، و احتفر قائده خندقا كبيرا، و اوقد فيه نارا عظيمة، و هدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

و لكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية و اعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى، و استقبلوا الموت حرقا، و غدوا طعمة للنيران.

(2) يقول المؤرخ الإسلاميّ «ابن الاثير الجزري» بعد ذكر هذه القصة: لما قتل

______________________________

(1) وفاء الوفا: ج 1 ص 157، و السيرة النبوية: ج 1 ص 21 و 22.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:161

«ذو نواس» من قتل في الاخدود لاجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له «دوس» فقدم على «قيصر» فاستنصره على «ذي نواس» و جنوده و اخبره بما فعل بهم، فقال له

قيصر: بعدت بلادك عنا، و لكن سأكتب الى النجاشي ملك الحبشة و هو على هذا الدين و قريب منكم، فكتب قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصره، فارسل معه ملك الحبشة سبعين ألفا، و أمّر عليهم رجلا يقال له «أرياط» و في جنوده «ابرهة الأشرم» فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، و جمع «ذو نواس» جنوده فاجتمعوا و كتب الى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم الى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم، فلم يجيبوه، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة، و سيطر الاحباش على ارض اليمن، و جعل «أبرهة» اميرا عليها من قبل «النجاشي» بعد مقتل «ارياط» على يد «أبرهة» في صراع على السلطة «1».

و هذه القصة هي التي تعرف في القرآن الكريم بقصة «اصحاب الاخدود» و قد جاء ذكرها في سورة البروج اذ يقول اللّه تعالى: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» «2».

و قد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة «3».

(1) ثم ان «ابرهة» الذي اسكره الانتصار و الغلبة على منافسه، و تمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّبا الى ملك الحبشة، و ارضاء له ثم كتب كتابا الى «النجاشي» ملك الحبشة يقول فيه: «إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، و لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 260- 263، و السيرة النبوية: ج 1 ص 31- 37.

(2) البروج: 4- 9.

(3) راجع مجمع

البيان: ج 5 ص 464- 466.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:162

(1) و قد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم، الى درجة أن امرأة من قبيلة «بني افقم» تسللت ذات ليلة الى تلك الكنيسة و أحدثت فيها، فأثار هذا العمل الذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة «أبرهة» و احتقارهم لها، غضب «أبرهة»، هذا من جانب و من جانب آخر كان «ابرهة» كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب، و حنقهم عليه، و احتقارهم لكنيسته، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة و هدمها، فسيّر لذلك جيشا عظيما، و قدّم أمامه الفيلة المقاتلة، و خرج متوجها صوب مكة و هو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلما عرف زعماء العرب بغايته، و ادركوا خطورة ذلك العمل و ايقنوا بان استقلال العرب و سيادتهم تتعرض لخطر السقوط، لم يمنعهم ما عاهدوه من قوة «ابرهة» و انتصاراته بل خرج بعضهم الى حربه فقاتلوه بكل شجاعة و بسالة مدفوعين بدافع الغيرة و الحفاظ على الشرف المهدّد بالخطر.

(2) فقد خرج «ذو نفر» و هو من أشراف أهل اليمن و ملوكهم، و دعا قومه و من أجابه من سائر العرب الى حرب «أبرهة» و لكن سرعان ما تغلّب «ابرهة» عليه بجيشه الكبير، ثم خرج له بعد ذلك «نفيل بن حبيب» و بقي يقاتله مدة طويلة فهزمه «ابرهة» و اخذ له اسيرا، فطلب «نفيل» العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه، فدلّه نفيل حتى الطائف، و اوكل الدلالة على بقية الطريق الى شخص آخر يدعى «ابو رغال» فدلّه أبو رغال على الطريق حتى أرض «المغمّس» و

هي منطقة قريبة من «مكة» فنزل «أبرهة» و جيشه بالمغمّس، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة- على عادته- الى ضواحي «مكة» فاستولى على أموال قريش من الإبل و الغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، ثم أمر رجلا آخر يدعى «حناطة» ليدخل «مكة» و يبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله، و هو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة، و قال له: سل عن سيد اهل هذا البلد و شريفها، ثم قل له: ان الملك يقول لك: «إني لم آت لحربكم، انما جئت لهدم هذا البيت، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:163

دمائكم» فإن هو لم يرد حربي فأتني به.

(1) فدخل «حناطة» مكة و لما سأل عن سيد قريش و شريفها، و قد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر «ابرهة» و ما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.

فدلّوه على بيت «عبد المطلب»، و لما دخل على «عبد المطلب» أبلغه مقالة «أبرهة» فقال له عبد المطلب: «و اللّه ما نريد حربه، و ما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام، و بيت خليله إبراهيم عليه السّلام، فان يمنعه منه فهو بيته و حرمه، و ان يخلي بينه و بينه فو اللّه ما عندنا دفع عنه»؟

فسرّ «حناطة» رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب و مقالته التي كانت تحكي عن قوة ايمانه، و عن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه الى «أبرهة»، قائلا:

فانطلق معي إليه، فانه قد امرني ان آتيه بك.

(2)

عبد المطّلب يذهب الى معسكر أبرهة:

فتوجه عبد المطلب هو و جماعة من ولده إلى معسكر ابرهة، فاعجب «أبرهة» بوقار رئيس قريش و هيبته إعجابا شديدا، و بهر به حتى أنه نزل

له من تخته اجلالا، و اخذ بيده، و اجلسه الى جنبه، فسأله عن طريق مترجمه متأدبا: ما الذي اتى به و ما ذا يريد؟ فاجابه عبد المطلب قائلا: حاجتي أن يردّ الملك عليّ مائتي بعير أصابها لي.

فقال «أبرهة» لترجمانه: قل له: قد كنت اعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أ تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، و تترك بيتا هو دينك و دين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، و ان للبيت ربا سيمنعه، فقال «أبرهة» مغترا بنفسه: ما كان ليمتنع مني.

ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:164

(1)

انتظار قريش:

و لقد انتظرت قريش عودة «عبد المطلب» من معسكر «أبرهة» بفارغ الصبر لتعرف نتيجة ما دار بينه و بين أبرهة، و عند ما عاد «عبد المطلب» اخبرهم الخبر، و امرهم بالخروج معه من مكة، و التحرز في رءوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا الى الشعاب، و الجبال، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش الى الكعبة و اخذ بحلقة بابها يدعون اللّه و يستنصرونه على أبرهة و جنده و قال «عبد المطلب» مناجيا اللّه سبحانه: «اللّهم أنت أنيس المستوحشين و لا وحشة معك فالبيت، بيتك و الحرم حرمك و الدار دارك و نحن جيرانك تمنع عنه ما تشاء و رب الدار أولى بالدار» ثم قال:

لا همّ إن «1» العبد يمنع رحله فامنع حلالك «2»

لا يغلبنّ صليبهم و محالهم عدوا محالك «3» و قال أيضا:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهمو حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكاامنعهم أن يخربوا فناكا ثم انه ترك حلقة الباب، و لجأ الى الجبل لينظروا ما

سيجري.

(2) و في الصباح و عند ما كان «أبرهة» و جنده يستعدون للتوجه الى «مكة»، و اذا بأسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار، حجر في منقاره، و حجرين في رجليه، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رءوس الجند، و تركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود «ابرهة» بتلك الاحجار بامر اللّه، فكانت لا تصيب منهم أحدا إلّا تحطم راسه، و تمزق لحم بدنه، و هوى صريعا،

______________________________

(1) لاهم أصلها: اللّهم و العرب تحذف الالف و اللام و تكتفي بما بقي.

(2) الحلال جمع حلة و هي جماعة البيوت.

(3) المحال: القوّة و الشدّة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:165

و هلك من توه، فاصابت واحدة من تلك الاحجار رأس «ابرهة» نفسه فارتعدت فرائصه و ايقن بغضب اللّه و سخطه عليه، فنظر الى جنوده و هم أشلاء مبثوثون هنا و هناك على الأرض كورق الشجر في فصل الخريف، فصاح بمن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأ و العودة الى اليمن، من حيث أتوا، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين، غير أن هذه البقية قد هلكت شيئا فشيئا في أثناء الطريق حتى أن أبرهة نفسه بعد أن لم يصل الى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحم بدنه، و سقطت اعضاؤه و جوارحه و مات بصورة عجيبة.

(1) و قد دوّى صوت هذه الواقعة العجيبة و الرهيبة في العالم آنذاك، و قد ذكرها القرآن الكريم في سورة الفيل اذ يقول تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ».

و ما

ذكرناه هنا- في هذه الصفحات- ليس هو في الحقيقة إلّا خلاصة ما ورد في كتب التاريخ الإسلامي، و صرح به القرآن الكريم «1».

و استكمالا لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ «محمّد عبده» و العلامة المعروف الدكتور «هيكل» وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

(2)

كلمة حول المعجزة:

لقد أوجد التقدم العلميّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية و الفضائية، و ما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات، ضجة عجيبة في الغرب، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجرد تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية، و لم يكن لها اية صلة بالمعتقدات الدينية

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 43- 62، و الكامل في التاريخ: ج 1 ص 260- 262، و بحار الأنوار: ج 5 ص 130- 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:166

فإنّ هذا التحول و التطور و تلك الكشوف أوجدت شكا عجيبا لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف و المعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!

(1) و السرّ في ذلك هو أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة، التي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدة طويلة من الزمان، قد اصبحت اليوم عرضة للبطلان و السقوط تحت مطارق التجربة و بواسطة الاختبارات العلميّة، و التحقيقات المختبرية، فلم يعد- بعد هذا- مجال للقول بفرضية الافلاك التسعة التي طلع بها «بطلميوس»، و لا بفرضية مركزية الارض، و لا غيرها من عشرات الفرضيات، فقالوا في أنفسهم: و من أين ترى لا تكون بقية المعلومات و المعارف الدينية من هذا القبيل؟!

و قد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة الى جميع المعتقدات و المعارف الدينية و نمى بشكل قويّ في فترة قصيرة، و عمّ

الاوساط العلمية كأيّ مرض!!

(2) هذا مضافا إلى أنّ محاكم التفتيش و تشدّد الكنيسة و أربابها كان لها النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها، و اطرادها، لأن الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب و الاضطهاد القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس، و تعارض مقرّرات الكنيسة!!

و ممّا لا يخفى أنّ مثل هذه الضغوط، و هذا الاضطهاد و التعجرف ما كان ليمرّ من دون حدوث ردة فعل، و قد كان من المتوقع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين، بسبب سوء تصرف الكنيسة، و سوء معاملتهم لهم خاصة، و للناس عامة.

(3) و قد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلم خطوة، و اطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية، و اكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية، و العلل الطبيعية لكثير من الحوادث و الظواهر المادية، و كذا علل الأمراض، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية، و ما يدور حول المبدأ و المعاد و الافعال الخارقة للعادة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:167

كمعاجز الأنبياء، و ازداد عدد المنكرين لها و الشاكين فيها، و المترددين في قبولها يوما بعد يوم!!

(1) لقد تسبّب الغرور العلميّ الذي أصيب به العلماء في الغرب في أن ينظر بعض اولئك العلماء الى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء و التحقير، و أن يمتنعوا حتى عن التحدث في المعاجز التي يخبر بها التوراة و الانجيل، و يعتبروا عصى موسى عليه السّلام، و يده البيضاء، و نفخة المسيح عليه السّلام التي كانت تشفي المرضى و تحيي الموتى من الأساطير، و راحوا يتساءلون- في عجب و استنكار-:

و هل يمكن أن تتحول قطعة من الخشب اليابس إلى أفعى، أو ثعبان، أو

هل يمكن ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟

(2) لقد تصور العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية، أنهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم، و وقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية و الظواهر الكونية، و من هنا تصوّروا أنه لا توجد أية علاقة بين قطعة الخشب و الثعبان، او بين جملة من الدعاء و التفاتة من بشر و عودة الروح الى الموتى، و لهذا أخذوا ينظرون الى هذه الامور بعين الشك و الترديد، و ربما بعين الانكار و الرفض المطلق!!

و قد سرى هذا النوع من التفكير الى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من غيرهم، مع بعض التعديل في ذلك الموقف، و شي ء من الاختلاف في النظرة المذكورة، و لهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع و الحوادث التاريخية و العلمية من هذا النوع، و السرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل و اكثر من غيرهم هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم، و من هذه المنطقة سرت بعض النظريات و الآراء الغربية الى البلاد الإسلامية الاخرى.

(3) لقد اختار هؤلاء طريقا خاصا قصدوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز، و الاحاديث القطعية و مكانتها من جهة، و كسب نظر العلماء الماديين الطيعيين الى انفسهم من جهة اخرى، أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه و بين القوانين العلمية الطبيعية و تطبيقه عليها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:168

(1) لقد وجد هؤلاء من جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات و الخوارق التي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة، لأن العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة و الثعبان، و من جهة اخرى كان القبول

بالنظريات التي لا يمكن إثباتها بالحسّ و التجربة أمرا في غاية الصعوبة لهم.

و لهذا السبب، و في خضمّ الصراع بين هذين العاملين: العلم و العقيدة، اختار هؤلاء الكتاب و العلماء نهجا يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع، و التنازع، فيحافظون على ظواهر القرآن و الأحاديث من جانب، و يتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر، و يتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز و جميع خوارق العادة التي جرت على أيدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو و كأنها امور طبيعية، و بهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم و الاحاديث القطعية المسلّمة، و لم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث و يتعارض مع معطياته.

(2) و نحن هنا نذكر من باب النموذج و المثال: التفسير الذي ذكره العلامة المصري المعروف «محمّد عبده» لقصة اصحاب الفيل و ما جرى لهم:

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل:

«فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، و ان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات، فاذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح التي تنتهي بافساد الجسم و تساقط لحمه، و أن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، و أن هذا الحيوان الصغير- الذي يسمونه الآن بالميكروب- لا يخرج عنها» «1».

______________________________

(1) راجع تفسير في ظلال القرآن: ج 30 ص 251.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:169

(1) و قال أحد الكتاب مؤيدا هذا الاتجاه بقوله: «إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير، و يشمل الذباب و

البعوض أيضا»

و لا بدّ- قبل دراسة هذه الأقوال- أن نستعرض مرة اخرى الآيات النازلة في اصحاب «الفيل».

يقول اللّه تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ».

إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش أبرهة اصيب بالغضب و السخط الالهي، و ان هلاكه و فناءه كان بهذه الأحجار التي حملتها تلك الطيور، و ألقت بها على رءوس الجند و أبدانهم.

إن الأمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أن موتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية (الصغيرة الحقيرة في ظاهرها، القوية الهدامة بفعلها و أثرها).

و على هذا فانّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه و حمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعي.

(2)

نقاط تقتضي التأمل في التفسير المذكور:

(3) 1- إنّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمرا طبيعيا، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لا بد من تفسيرها بالعوامل و الاسباب الغيبية، لأنه مع فرض أن هلاك الجند و تلاشي أجسادهم تم بواسطة ميكروب: «الحصبة» و «الجدري»، و لكن من الذي ارشد تلك الطيور الى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة و الجدري، فتوجهت بصورة مجتمعة الى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحبّ و الطعام، ثم كيف بعد حمل تلك الأحجار بمناقيرها و أرجلها حلّقت فوق معسكر «أبرهة» و رجمت جنده كما لو أنّها جيش منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمرا عاديا، و حدثا طبيعيا؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:170

ترى لو أننا فسّرنا طرفا من هذه الحادثة العظيمة و العجيبة بالعوامل الغيبية، و بارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أية حاجة

الى أن نفسّر جانبا من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف، و نركض وراء التوجيهات الباردة، لنجعلها امرا مقبولا.

(1) 2- إنّ الكائنات الدقيقة، او ما يسمى الآن ب «الميكروب» لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان، و ليست بصديقة لهذا أو ذاك، و مع ذلك كيف توجهت الى جنود «ابرهة» و قتلتهم دون غيرهم، و كيف نسيت المكيّين بالمرة؟!

انّ التاريخ المدوّن يثبت لنا أن جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند «ابرهة» و لم يلحق فيها: أيّ أذى- إطلاقا- بقريش، و غيرهم من سكان الجزيرة العربية، في حين أن الحصبة و الجدريّ من الأمراض المعدية، التي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح و غيرها من منطقة إلى اخرى، و ربما تهلك اهل قطر باجمعهم.

فهل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثا طبيعيا عاديا؟!

(2) 3- ان اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب، يضفي على هذا الادعاء مزيدا من الإبهام، و يجعله أقرب الى البطلان.

فتارة يقولون: انّه ميكروب الوباء و تارة اخرى يقولون: انّه داء الحصبة و الجدري، في حين اننا لم نجد مستندا صحيحا لهذا الخلاف، و مبررا وجيها لهذا الاختلاف، اللّهم إلّا ما احتمله «عكرمة» من بين المفسرين، و عكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء و الّا لما ذهب «ابن الاثير». من بين المؤرخين و ارباب السير الى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف، و القيل، ثم عاد فردّ هذا القول فورا «1».

و الأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلف كتاب «حياة محمّد» الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير، عند ذكر قصة الفيل.

______________________________

(1) الكامل: ج 1 ص 263.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:171

(1) فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل، و مع أنه

اتى بقول اللّه تعالى «و أرسل عليهم طيرا أبابيل» قال عن هلاك جنود أبرهة: «و لعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، و أصابت العدوى أبرهة نفسه» «1» فاذا كان الذي جاء بهذا الميكروب هو الريح، فلما ذا حلّقت طيور الأبابيل على رءوس جيش أبرهة، و ألقت بالأحجار الصغيرة على رءوسهم و دون غيرهم، و أي أثر كان لهذه الاحجار في هلاك أولئك الجنود و موتهم؟

فالحق هو: أن لا يتبع هذا النمط من التفكير، و أن لا نسعى لتفسير معجزات الأنبياء- الكبرى بمثل هذه التأويلات و التفسيرات، بل إن طريق المعجزات و الإعجاز أساسا يختلف عن طريق العلوم الطبيعية التي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية، و لهذا يجب علينا أن لا نعمد- ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية، و ليست لديهم أية معرفة بهذا النوع من القضايا- الى التنازل عن أسسنا الدينية المسلّمة، في حين لا توجد أية حاجة ملزمة إلى مثل ذلك التنازل و الاعتذار!.

(2)

نقطتان هامّتان:

و هنا لا بد من أن نذكّر بنقطتين هنا:

(3) الاولى: يجب ان لا يظن أحد- خطأ- أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسن الناس، و تنسبه الى الأنبياء العظام، أو إلى عباد اللّه الكرام، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل و ربما اتّسم بطابع الخرافة في بعض الاحيان و الموارد.

بل مقصودنا هو: أن نثبت- و طبقا للمصادر الصحيحة و القطعية المتوفرة- أن الأنبياء كانوا يقومون- لاثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة- بأعمال خارقة للعادة، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف، تعجز العلوم الطبيعية الرائجة عن

______________________________

(1) حياة محمّد لمحمّد حسين هيكل: ص 102 و

103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:172

إدراك عللها، و أسبابها.

فهدفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

(1) الثانية: إننا لا نقول مطلقا: أنّ وجود المعجزة هو تخصيص لقانون العلية العامّ، بل اننا في الوقت الذي نحترم فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأن لجميع حوادث هذا العالم عللا خاصة و اسبابا معينة، و أنه من المستحيل أن يوجد شي ء بعد عدمه من دون علة، بيد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر و الوقائع (أي المعاجز) عللا غير طبيعية، و ان هذه العلل ميسّرة و متاحة لأنبياء اللّه و رسله و الرجال الإلهيين خاصة، و ليس في مقدور أحد- لم يستطع لا عن طريق الحس و لا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل- أن يتنكّر لها، و ينكرها، بل ان جميع الاعمال الخارقة التي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة، و لو أنها خضعت للتفسير و التوجيه لخرجت عن كونها معجزة، و لم يصدق في حقها عنوان الاعجاز.

و لكي نقف على حقيقة هذا الأمر، و نعرف مدى بطلان المذهب المذكور (مذهب تفسير الخوارق و المعاجز بالتفسير المادي و المألوف المحض) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز و نبحث في مدى علاقتها بقانون العلية العام.

(2)

بحث علميّ حول المعجزة في خمس نقاط:
اشارة

إن الحديث العلميّ عن المعجزة لا بدّ أن يتركّز على عدة نقاط أساسية هي:

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟

2- هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة؟

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟

4- كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة؟

5- كيف و بما ذا نميز المعجزة عن الخوارق الاخرى؟

إنّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة، و بيان مدى بطلان الاتجاه المذكور

نعني: تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:173

على أننا- نظرا لضيق المجال- سنختصر الجواب على هذه الأسئلة، و على من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام و العقيدة.

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟

لقد عرّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها و أكملها هو: انّ المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالدعوى، و التحدّي، مع عدم المعارضة، و مطابقة الدعوى «1».

و يعني الشرط الأول (أي كون المعجزة أمرا خارقا للعادة) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتما، فلا يمكن صدورها من دون علة، و هذا الكون مشحون بالعلل التي يكتشفها البشر شيئا فشيئا و تدريجا عبر وسائله العادية أو العلميّة، و لكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية و لهذا فهي كغيرها مرتبطة بعلة، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب و التحقيقات العلمية، و لا يمكن تفسيرها و تبريرها بالعلل العادية أو بما يكتشفه العلم من العلل لمثل هذه الحوادث، و المقصود من خرق العادة هو أن تقع المعجزة على خلاف ما عهدناه و تعوّدنا عليه في الظواهر الاخرى و عللها، مثل إشفاء المرضى من دون علاج و دواء كما هو المعهود، و اخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، و تحويل العصا الى أفعى من دون تبييض و تفريخ و توالد و تناسل، بل بمسح من يد، أو بعبارة من لسان، او بضرب من عصا!!

من هنا نكتشف أن كل ظاهرة يقف الناس العاديّون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها و أسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه

______________________________

(1) راجع للوقوف على هذا التعريف: كشف المراد

في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلّي شرحا و المحقق نصير الدين الطوسي متنا: ص 218، و أيضا شرح تجريد الاعتقاد للعلامة القوشجي:

ص 465.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:174

الصورة لم يقع أي شي ء على خلاف العادة، و المألوف ليدل على مزية في الأنبياء.

فان مثل هذه الظاهرة التي يكون لها علة عادية يعرفها جميع الناس، أو سبب علمي خاص يعرفها علماء و متخصّصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميع الناس، فلا يكون حينئذ معجزة.

و لا يعني هذا- و كما اسلفنا- أنّ المعجزة لا تنتهي الى أية علة، أصلا، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة و غير عادية، و لمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.

و يقصد من الشرط الثاني (أي كون الاعجاز مقرونا بالدعوى) أن يدّعي صاحب المعجزة النبوة و السفارة من جانب اللّه تعالى، و يأتي بالمعجزة دليلا على صحة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمر الخارق للعادة معجزة بل يطلق عليه في الاصطلاح الديني لفظ «الكرامة» كما كان لمريم بنت عمران التي كلما دخل عليها زكريا المحراب و جد عندها رزقا فاذا سألها من أين لها ذلك؟

قالت: هو من عند اللّه «1».

و يعني الشرط الثالث أن يكون الاعجاز مقرونا بدعوة الناس الى الإتيان بمثله، و عجز الناس عن هذه المعارضة، و عدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقا إذ في هذه الصورة يتضح أنّ النبي يعتمد على قوة إلهية غير متناهية، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.

و اما الشرط الرابع فيعني أن الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازيا، و يستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ، إذا وافق الأمر الواقع ما يدعي أنه قادر

على الإتيان به.

فلو قال: سأجعل هذا البئر الجاف الفارغ من الماء، يفيض بالماء باشارة اعجازية، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقا، و أما إذا قال: سأجعل هذا

______________________________

(1) راجع سورة آل عمران: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:175

الماء القليل الموجود في البئر يفيض ماء، بالإعجاز، و لكن جفّ ذلك البئر على عكس ما قال، لم يكن ذلك إعجازا، بل كان تكذيبا لمدعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يقال حول تعريف المعجزة و الاعجاز و هو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

2- هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة؟
اشارة

و بهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال و هو أن يقال: إن قانون العليّة (أي: ارتباط كل معلول حادث بعلة) ممّا ارتكز عليه الذهن البشري و قبله العلم و الفلسفة، و لذلك فاننا نلاحظ: كلّما وقف الإنسان على ظاهرة مهما كانت- بحث عن علّتها فورا فاذا رأى حية- مثلا- عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذا العلل و لا تمرّ بمثل هذه المقدمات و المراحل و التفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أ ليس هذا هدم، أو تخصيص لذلك القانون العقليّ المسلّم العام؟

فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلّا الّذين يحصرون العلل و العلاقات بين الاشياء في العلل و العلاقات المادية الطبيعية.

و لكن الحق هو أنّ أيّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل:

1- العلة العادية التي تخضع للتجربة.

2- العلة غير العادية التي لا يعرفها الناس و لم تكن متعارفة و لا تخضع للتجربة

العلمية.

و هذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرة في هذا العالم بدون علة.

و توضيح هذا أن أصل وجود الحية و نبوع الماء من الصخرة و تكلم الطفل- مثلا- أمر ممكن، و لا يعدّ من المحالات، لأنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبدا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:176

نعم أنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق، و العلة- سواء في المعاجز أو غيرها- يمكن أن تكون إحدى الامور التالية:

أ- العلة الطبيعية العادية

و هي ما ألفناها و أعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب- العلة الطبيعية غير العادية و غير المعروفة

و هذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل، و طريقان للتحقق و الوجود أحدهما معروف و معلوم، و الآخر مجهول و غير معلوم، و الأنبياء بحكم اتصالهم بالعلم و القدرة الالهية، يمكن أن يقفوا على هذا النوع من العلل- عن طريق الوحي- و يوجدوا الظاهرة.

ج- تأثير النفوس و الارواح:

فانّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأنبياء و نفوسهم القوية، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلّغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفراد العاديّون، و ذلك بفضل الرياضات النفسية التي يخضعون لها. و هو ما يسمى باليوجا أحيانا، و قد كتبت حوله كتب و دراسات «1».

و قد أشار الى هذا جملة من علماء الإسلام و فلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول:

«لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية تكون بقوتها كأنها نفس العالم فيطيعها العنصر طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفس- تجردا و تشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوة و تأثيرا في ما دونها.

و إذا صار مجرد التصوّر و التوهم سببا لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة، و تعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير و في هيوليّ العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوة شوقية، و اهتزاز علوي للنفس

______________________________

(1) راجع كتاب الطاقة الانسانية لأحمد حسين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:177

و محبة إلهية لها، فيؤثر نفسه في إصلاحها، و إهلاك ما يضرّها و يفسدها» «1».

د- العلل المجردة عن المادة:

فيمكن ان تكون للظواهر علل مجردة عن المادة كالملائكة، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية، او تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

و الملائكة مظاهر القدرة الالهية في الكون، و هي التي تدبّر امور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» «2» و هي بالتالي جنود اللّه في السماوات و الأرض «وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ» «3».

فلا بد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة الى أحد هذه العوامل الاربعة، و لا يمكن أبدا حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة

كما تصور منكروا الاعجاز، بل يمكن أن تكون كل واحدة من هذه العلل سببا لحدوث الظاهرة الطبيعية، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نبادر- فورا- إلى تصوّر أنها ناشئة من غير علة.

و يجب ارجاع معاجز الأنبياء الى إحدى الطرق الاخيرة، و القول بأن الأنبياء استخدموا- في ايقاع الخوارق و المعاجز- إما العلل المادية غير المعروفة للعرف، و العلم، و أما نفوسهم القوية التي حصلت لهم بفعل الجهاد الروحيّ العظيم و الرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما و يمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل و العوامل الغيبية المدبّرة للكون بامر اللّه و مشيئته.

إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يتصوّر، و لا يهدم الاعجاز القوانين العقلية المسلّمة.

______________________________

(1) راجع المبدأ و المعاد: ص 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي، و شرح المنظومة للحكيم السبزواري: ص 327 قال السبزواري ناظما:

يطيعه العنصر طاعة الجسدللنفس فالكل كجسمه يعدّ

(2) النازعات: 5.

(3) الفتح: 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:178

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها أيّة علل مادية معروفة او غير معروفة، في حين لا يصح هذا السلب الكلي، اذ ما اكثر الخوارق التي تنشأ عن امور عادية و عبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعند ما يرقد مرتاض هندي ليمرّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك امورا مادية كثيرة دخلت في هذا الأمر الخارق مثل: وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص، و المكان الخاص، و مثل جسم المرتاض، و ما كنة الحراثة.

فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور

هذا العمل الخارق.

و هكذا عند ما تنقلب عصا الكليم عليه السّلام إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شي ء مادي و هكذا الحال في غيره من الموارد.

و لهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل و الامور المادية في ظهور الامور غير العادية، و ننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

و هذه هي اكثر النظريات اعتدالا في هذا المجال.

و في مقابل ذلك التفريط «1» أفرط آخرون اذ قالوا: ان جميع المعاجز و الخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.

و حتى ما يقوم به المرتاضون يعود الى هذه العوامل الطبيعية التي لا يعرفها و لا يقف عليها حتى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين، لأن العوامل الطبيعية على نوعين: المعروفة و غير المعروفة، و الناس يستفيدون في حياتهم اليومية- في الأغلب- من القسم الاول، بينما يستخدم الأنبياء و المرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة التي وقفوا عليها و ادركوها دون غيرهم.

______________________________

(1) أي حصر علل الخوارق و المعاجز في العوامل المجرّدة و نفي تأثير العلل الماديّة على نحو الاطلاق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:179

و السبب في وصفنا هذه النظرية بالافراط و التطرّف هو عدم وجود دليل لا ثباته، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي، أو انه لارضاء الماديين، و النافين لما لا يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة و آثارها و علاقاتها و خواصها، و حيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين، و يضادّ اتجاههم و تصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز و الخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة و غير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعا للماديين، و ارضاء

لهم فقالوا: ان جميع الخوارق و المعاجز ناشئة من علل طبيعية و مادية على الإطلاق، غاية ما في الأمر أنها علل غير معروفة، شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

و نحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال و بقعة الإمكان، لعدم الدليل لا على طبقها و لا على خلافها.

4- كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعا و كذبا، و استثمارا للناس، مستغلّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب، و انجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد و الايمان من جانب آخر.

فكيف و بما ذا يميّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة ادّعاء النبوة.

و إنما تدلّ المعجزة على صدق ادّعاء النبوّة، و ارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّد الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة، لأن في تزويد الكاذب تغريرا للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.

و الى هذا أشار الإمام جعفر الصادق عليه السّلام بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه و رسله:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:180

«ليكون دليلا على صدق من أتى به، و المعجزة علامة للّه لا يعطيها إلا انبياءه و رسله، و حججه، ليعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب» «1».

5- بما ذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شكّ في أنّ السحرة و المرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب و الدهشة حتى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصل إليها البشر.

فكيف يمكن اذن أن نميّز بين المعاجز و تلك الخوارق و العجائب؟

إن التمييز بين هذه و تلك يمكن أن يتم اذا لا حظنا العلائم الفارقة بين المعجزة و غير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة، كاعمال السحرة و المرتاضين (اصحاب اليوجا) و نظائرهم.

و هذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية:

1- إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين و السحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم و التحصيل عند اساتذة تلك العلوم، و ذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم

و التلمّذ أبدا، و التاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

2- إن أفعال السحرة و المرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة و المقابلة بأمثالها، و ربما بما هو اقوى منها، على عكس الإعجاز، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض و تقابل بمثلها ابدا.

3- المرتاضون و السحرة لا يتحدّون أحدا بأفعالهم و لا يطلبون معارضة أحد لهم و إلا لافتضحوا و كبتوا.

بينما يتحدى الأنبياء و الرسل بمعاجزهم جميع الناس و يدعونهم لمعارضتهم

______________________________

(1) علل الشرائع: ج 1 ص 122.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:181

و الاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا، و استطاعوا.

فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» «1».

و ذلك لأن أفعال السحرة الخارقة مهما كانت فانها تستند الى الطاقة البشرية المحدودة، و لا تتجاوزها بينما يعتمد الأنبياء و الرسل العنصر الغبي، و الإرادة الإلهية.

4- إن أفعال السحرة و المرتاضين الخارقة للعادة امور محدودة و مقتصرة على ما تعلّموها و تمرنوا عليها، بينما لا تكون معاجز الأنبياء و الرسل مقتصرة على امور خاصة، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم، طبعا حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز «2».

فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية، و المقترحة، و معاجز المسيح عليه السّلام المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.

5- إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائما دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية و غايات إلهية سامية و بالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ و المعاد، و الأخلاق الفاضلة فيما لا يهدف المرتاضون و السحرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة، و نيل مكاسب مادية رخيصة.

هذا مضافا إلى أن الأنبياء و

الرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة و المرتاضين

______________________________

(1) الاسراء: 88.

(2) مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقليا كرؤية اللّه، و مثل أن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من تخيل و أعناب و بيت من ذهب، لأنّ هذه الامور لا تكون دليلا على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيرا من الناس يملكون هذه و ليسوا مع ذلك بأنبياء.

و أن لا يكون المقترحون من ذوي اللجاج و العناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل و الاستهزاء و التنزّه. و أن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان ينزّل عليهم نارا من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضا للغرض.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:182

في نفسيّتهم العالية، و أخلاقهم الفاضلة و تاريخهم المشرق، و صفاتهم النبيلة على العكس من السحرة و المرتاضين.

هذه هي أهمّ العلامات الفارقة بين المعاجز التي تدل على نبوة الأنبياء، و الخوارق التي يقوم بها المرتاضون و السحرة.

و بعد أن تبيّن كل هذا اتضح أنّ الخوارق الالهية التي هي من مقولة المعاجز أيضا تختلف عن الامور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الامور المادية المعروفة، بل ربما تكون مستندة الى العلل المجرّدة، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل: «قصة الفيل» التي أهلك اللّه تعالى فيها جيش «أبرهة» العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث «1».

و لهذا عدل «سيد قطب» عن رأيه الذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الامور، اذ قال:

ان الطريق الأمثال في

فهم القرآن و تفسيره أن ينفض الانسان من ذهنه كل تصوّر سابق، و أن يواجه القرآن بغير مقرّرات تصوّرية أو عقلية أو شعورية سابقة، و أن يا بني مقرّراته كلها حسبما يصور القرآن و الحديث حقائق هذا الوجود، و من ثم لا يحاكم القرآن و الحديث لغير القرآن، و لا ينفي شيئا يثبته القرآن و لا يؤوله، و لا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله، و ما عدا المثبت و المنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله و تجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن ... و هم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم و تصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود «2».

______________________________

(1) أي الاستاذ الشيخ محمّد عبده و الاستاذ محمّد حسين هيكل.

(2) و هنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام ما نصّه «و ما ابرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلّفاتي-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:183

فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، و يعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل الى شي ء منها فهم مضحكون حقا! فالعلم لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه و التي يستخدمها في تجاربه، و هذا لا ينفي وجودها طبعا! فضلا عن أن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم- عن طريق العلم ذاته- أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليس فيه سمة الادعاء، و لا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مدّعو العلم، و مدّعو التفكير العلمي، ممن ينكرون حقائق الديانات

و حقائق المجهول «1».

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقدا لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل التي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة:

و يرى الذين يميلون الى تضييق نطاق الخوارق و الغيبيات، و الى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري و الحصبة اقرب و اولى، و ان الطير تكون هي: الذباب و البعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.

ثم ينقل كلام الاستاذ «عبده» الذي ذكرناه بنصه مع قوله: هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، و ما عدا ذلك فهو ممّا لا يصح قبوله إلّا بتأويل إن صحت روايته، و ممّا تعظم به القدرة ان يؤخذ من استعز بالفيل- و هو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسما- و يهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر و لا يدرك بالبصر حيث ساقه القدر لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر و اعجب و أبهر.

______________________________

- و في الأجزاء الاولى من هذه الظلال قد انسقت الى شي ء من هذا و ارجو أن أتداركه في الطبعة التالية اذا وفق اللّه».

(1) في ظلال القرآن: ج 29 ص 151- 153.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:184

ثم يقول: و نحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام- صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم- أدلّ على قدرة، و لا اولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، و من حيث الدلالة على قدرة اللّه، و تدبيره، و يستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت، فأهلكت قوما أراد اللّه اهلاكهم، أو أن تكون سنة اللّه قد جرت بغير المألوف للبشر،

و غير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ثم يقول: لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت «1» أمرا، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس و أمنا و ليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احد من خارجها و لا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها، و يجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال، ليضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته و غيرته عليها.

فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجي ء الحادث غير مألوف و لا معهود بكل مقوماته و بكل اجزائه، و لا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته و بملابساته مفرد فذ.

و بخاصة ان المألوف في الجدري و الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش و قائده فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا، و أنملة انملة، و لا يشق الصدر عن القلب!!

ثم ان «سيد قطب» يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي، و المدرسة العقلية التي كان الاستاذ «عبده» على رأسها، و ضغط الفتنة بالعلم التي تركت آثارها في تلك المدرسة، و نحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة، و إشعارا بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين و مفاهيمه و مقرراته عن الأحداث الكونية و التاريخية و الانسانية

______________________________

(1) أي الكعبة المشرّفة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:185

و الغيبية «1».

هذا و يجد ربنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا لهذا البحث و تأكيدا لمعجزته هذا الحدث.

قال صاحب المجمع: و كان هذا من

اعظم المعجزات القاهرات، و الآيات الباهرات في ذلك الزمان، اظهره اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته، و فيه ارهاص لنبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله لأنه ولد في ذلك العام، و فيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة و الملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شي ء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع و غيره كما نسبوا الصيحة و الريح العقيم و الخسف و غيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية، إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجار معدّة مهيّأة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهم دون من سواهم فترميهم بها حتى تهلكهم، و تدمّر عليهم، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم و لا يشك من له مسكة عن عقل و لب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب و مذلّل الصعاب، و ليس لأحد أن ينكر هذا لأن نبينا صلّى اللّه عليه و آله لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به و صدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه، و اعتنائهم بالردّ عليه و كانوا قريبي عهد بأصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة و أصل لانكروه، و جحدوه، و أنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، و موت قصيّ بن كعب و غير ذلك.

و قد اكثر الشعراء ذكر الفيل و نظّموه و نقلته الرواة عنهم فمن ذلك ما قاله (اميّة) بن ابي الصلت:

إن آيات ربّنا بيّنات ما يماري فيهنّ إلا الكفور

حبس الفيل بالمغمّس حتى ظلّ يحبو كأنه معقور

______________________________

(1) في ظلال القرآن: ج 30 ص 251- 255.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:186

و قال عبد اللّه

بن عمرو بن مخزوم:

أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمّس

من بعد ما همّ بشي ء مبلس حبسته في هيئة المكركس «1» و قال ابن قيس الرقيات في قصيدة:

و استهلّت عليهم الطير بالجندل حتى كأنّه مرجوم «2» (1) ما ذا بعد هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة و تحطّم جيشه و هلاكهم، و بالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة، و أعداء قريش، أن يتعاظم شأن المكيّين، و شأن الكعبة الشريفة في نظر العرب، فلا يجرأ أحد- بعد ذلك- في أن يحدّث نفسه بغزو مكة، و الإغارة على قريش، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة المعظمة صرح التوحيد الشامخ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم: إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك احتراما لبيته و تعظيما لشأن قريش، و قلّما كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط، اي من دون أن يكون لمكانة قريش و منزلتهم و شأنهم دخل في ذلك، و يشهد بذلك أن قريشا تعرضت مرارا لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يصابوا بمثل ما اصيب به جند «ابرهة» الذي قصد الكعبة بالذات و يواجهوا ما واجهه، من الردع و الكبت.

(2) إنّ هذا الفتح و الظفر الذي نالته قريش من دون تعب و نصب، و من دون إراقة أية دماء من أبنائها، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة، فقد زادت من غرورهم و حميّتهم، و عنجهيتهم، و اعتزازهم بعنصرهم، فأخذوا يفكرون في تحديد شئون الآخرين، و التقليل من وزنهم، اعتقادا منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم الى أن يتصوّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأصنام (الثلاثمائة و الستين) فهم وحدهم الذين تحبّهم

______________________________

(1) المنكّس.

(2)

تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج 10 ص 543 في تفسير سورة الفيل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:187

تلك الاصنام، و تحميهم و تدافع عنهم!!

(1) و لأجل هذا تمادوا في لهوهم، و لعبهم، و توسعوا في ممارسة اللذة و الترف حتى أنهم أظهروا ولعا شديدا بالخمر، فكانوا يحتسونها في كل مناسبة، و ربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، و أقاموا مجالس سمرهم و أنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية، و الحجرية، التي كان لكل قبيلة من العرب بينها صنم أو اكثر، و يقضون فيها اسعد لحظات حياتهم- حسب تصوّرهم، و هم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار و قصص حول «مناذرة» الحيرة و «غساسنة» الشام و قبائل اليمن، و هم يتصورون أن هذه الحياة الحلوة اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام و الاوثان، فهي التي جعلت عامة العرب تخضع لقريش، و جعلت قريشا افضل من جميع العرب!!

(2)

أوهام قريش تتفاقم!!

إنّ أخطر ما يمرّ به إنسان في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل، ردحا من الزمن و يحس لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه و يستأثر بكل شي ء في الوجود و لا يرى لغيره من أبناء نوعه و جنسه من البشر اي حق في الحياة، و لا أيّ شأن و قيمة تذكر، و ذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار و الاستعلاء، و الاحساس بالتفوق، و الغطرسة.

و هذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش «ابرهة» و هلاكه، و هلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم- و بهدف إثبات تفوقها و عظمتها للآخرين-، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لانهم كانوا يقولون: ان جميع العرب محتاجون الى معبدنا، و قد رأى العرب

عامة كيف اعتنى بنا آلهة الكعبة، خاصة، و كيف حمتنا من الاعداء!!

(3) و من هنا بدأت قريش تضيّق على كل من يدخل مكة من أهل الحل للعمرة او الحج، و تتعامل معهم بخشونة بالغة، و ديكتاتورية شديدة ففرضت على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:188

كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاما من خارج الحرم، و لا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم، و يأكل منه، و أن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية، أو يطوف عريانا بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها و اقتناؤها، و من كان يرفض الخضوع لهذا الأمر، من رؤساء القبائل و زعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه- بعد انتهائه من الطواف- و يلقيها جانبا، و لا يحق لأحد ان يمسها أبدا لا صاحبها و لا غيرها «1».

(1) اما النساء فكان يجب عليهن اذا أردن الطواف أن يطفن عراة على كل حال، و ان يضعن خرقة على رءوسهن و يردّدن البيت التالي في اثناء الطواف:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و بعد هذا اليوم لا احلّه ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو مسيحي- بعد هزيمة «ابرهة» الذي كان هو أيضا مسيحيا- أن يدخل مكة إلّا أن يكون أجيرا لمكيّ، و حتى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شي ء من أمر دينه و من أمر كتابه.

لقد بلغت النخوة و العصبية بقريش حدا جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج التي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

(2) لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة «2» كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة، و الافاضة منها مع أن آباءهم (من

ولد إسماعيل) كانوا يقرّون أنها من المشاعر و الحج، و كانت هيبة قريش و عظمتها الظاهرية رهن- برمتها- بوجود الكعبة بين ظهرانيها، و بوظائف الحج و مناسكه هذه، اذ كان يجب على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع و هذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك، إذ لو لم يكن في هذه النقطة من الأرض أي مطاف أو مشعر لما رغب احد حتى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام و ليال.

______________________________

(1) و كانت تسمّى عندهم «اللّقى».

(2) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 266.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:189

لقد كان ظهور مثل هذا الفساد الاخلاقي و هذا الموقف المتعصّب من الآخرين أمرا لا بدّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لا بد أن تغرق في الفساد و الانحراف حتى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ و نهضة جذرية.

إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي و الترف و الانحراف كان يهي ء الارضية و يعدّها لظهور مصلح عالمي، أكثر فاكثر.

و لهذا لم يكن غريبا أن يغضب «أبو سفيان» فرعون مكة و طاغيتها على «ورقة بن نوفل» حكيم العرب الذي تنصر في اخريات حياته و اطلع على ما في الانجيل، كلما تحدّث عن اللّه و الأنبياء و يقول له: «لا حاجة الى مثل هذا الاله و هذا النبي، تكفينا عناية اصنامنا»!!

(1)

عبد اللّه والد النبيّ:
اشارة

يوم فدى «عبد المطلب» ولده «عبد اللّه» بمائة من الابل نحرها، و أطعم الناس في سبيل اللّه، لم يكن يمض من عمر «عبد اللّه» اكثر من اربعة عشر ربيعا، و قد تسبّبت هذه الواقعة في أن يكتسب «عبد اللّه» شهرة خاصة بين عشيرته مضافا الى شهرته الكبرى بين قريش، و أن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه:

«عبد المطلب» بنحو خاص،

لأن ما يكلّف الانسان غاليا، و يتحمل في سبيله عناء اكثر لا بدّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر، و يحبّه محبة تفوق المتعارف.

و من هنا كان «عبد اللّه» يتمتع باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته و أفراد عائلته و أقربائه.

(2) ثم إن «عبد اللّه» يوم كان يتوجه برفقة والده إلى المذبح كان يعاني من مشاعر و أحاسيس متناقضة و متضادة، فهو من جانب كان يكنّ لوالده احتراما كبيرا و حبا شديدا، و لهذا لم يكن يجد بدا من طاعته، و الانصياع لمطلبه، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق، و اضطراب شديدين على حياته التي كان يرى كيف تعبث بها يد القدر، و تكاد تقضي عليها كما يقضي الخريف على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:190

أوراق الشجر.

(1) كما أن «عبد المطلب» نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان: قوة الايمان و العقيدة من جانب، و قوة العاطفة و المحبة الأبوية من جانب آخر، و قد أوجدت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثارا مرّة يصعب زوالها، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة التي ذكرناها و نجا «عبد اللّه» من الموت المحقق فكر «عبد المطلب» فورا في ان يغسل عن قلب «عبد اللّه» تلك المرارة القاسية بزواج «عبد اللّه» بآمنة، و بذلك يقوّي من عرى حياته التي بلغت درجة الانصرام، بأقوى السبل، و أمتن الوسائل.

و من هنا توجّه «عبد المطلب» الى بيت «وهب بن عبد مناف»- فور رجوعه من المذبح آخذا بيد ولده عبد اللّه- و عقد لولده على «آمنة بنت وهب» التي كانت تعرف بالعفة، و الطهر، و النجابة، و الكمال.

كما أنه عقد لنفسه- في ذات المجلس- على «دلالة» ابنة عم آمنة، و رزق منها «حمزة» عمّ

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المشابه له في السن «1».

(2) غير أن الاستاذ المؤرخ «عبد الوهاب النجار» المدرس بقسم التخصص في الازهر الذي صحح «التاريخ الكامل» لابن الاثير، و علّق عليه بملاحظات و هوامش مفيدة شكك في صحة هذه الرواية، و استغربها، و قال: لا أظن أنه يصح شي ء في هذه الرواية، إذ المعقول أن يتريث «عبد المطلب» بعد ذلك المجهود المضني حتى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه «2».

و لكنّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور لو نظر إلى المسألة من غير هذه الزاوية لسهل عليه التصديق بهذه الرواية.

ثم أن «عبد المطّلب» عيّن موعدا للزفاف، و عند حلول ذلك الموعد تمّت مراسم الزفاف في بيت «آمنة» طبقا لما كان متعارفا عليه في قريش، و لبث

______________________________

(1) تاريخ الطبرى: ج 2 ص 7 و المذكور في هذا المصدر «هالة».

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4 قسم الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:191

«عبد اللّه» مع «آمنة» ردحا من الزمن حتى سافر الى الشام للتجارة، و عند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف.

(1)

دور الأيادي المشبوهة في تاريخ الإسلام:

لا شك أنّ التاريخ سجّل في صفحاته كل ما يتعلق بالشعوب و الاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة، كقصص للعبرة و العظة.

و لكن الحب و البغض تارة و التساهل و البدعة تارة اخرى وحب اظهار المقدرة و ابراز القوة الأدبية تارة ثالثة و غير ذلك من العوامل و الاسباب عملت عملها فتدخلت- في جميع الأدوار و العصور- في صياغة التاريخ، و خلطت الغث بالسمين و الحقيقة بالخرافة، و تلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ الذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة و استقامة، و لذلك يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل، و الصدق

عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية، و الممارسة الكاملة للتاريخ. و لقد كان للعوامل المذكورة تأثير أيضا في تدوين التاريخ الإسلامي، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال، بل و ربما عمد بعض الاصدقاء- بهدف تعظيم شأن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله- الى نسبة بعض الامور التي يظهر عليها آثار الاختلاق و الافتعال إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو منها براء.

(2) فقد جاء في التاريخ أن نور النبوّة كان يسطع في جبين «عبد اللّه» والد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دائما «1»، كما نقرأ أن «عبد المطلب» كان يأخذ بيد ولده «عبد اللّه» في سنين الجدب و القحط، و يصعد الجبل و يستسقي متوسّلا الى اللّه بالنور الذي كان بيّنا في جبين «عبد اللّه» «2» فهذا هو ما كتبه و سجّله كثير من علماء الشيعة و السنة في مؤلفاتهم، و نحن لا نملك أي دليل على عدم صحته.

و لكن هذه القصة وقعت أساسا لبعض الاساطير التي لا يمكن ان نقبل بها مطلقا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 39.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:192

و إليك فيما يأتي ما الحق بهذه القضية التاريخية الثابتة.

(1)

قصّة فاطمة الخثعميّة:
اشارة

و «فاطمة» هذه هي أخت «ورقة بن نوفل» الذي كان من حكماء العرب و كهّانهم، و كان له معرفة كبيرة بالإنجيل. و قد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب.

و كانت «فاطمة» اخت «ورقة» قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد «اسماعيل»، و لهذا ظلّت تنتظر، و تبحث.

و ذات

يوم و عند ما كان «عبد المطلب» متوجها الى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله و منصرفه من المذبح و هو آخذ بيد «عبد اللّه»، شاهدت «فاطمة الخثعمية»- التي كانت تقف على مقربة من منزلها- النور الساطع من جبين «عبد اللّه»، و الذي كانت تنتظره مدة طويلة و تبحث عنه بشوق، فقالت: اين تذهب يا عبد اللّه؟ لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع عليّ الآن.

فقال: أنا مع أبي و لا استطيع خلافه و فراقه!! «1».

ثم تزوج «عبد اللّه» بآمنة في نفس ذلك اليوم، و قضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة «الخثعمية» التي عرضت نفسها عليه، و أبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، و لكن «الخثعمية» قالت له: ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النور الذي كان معك أمس!! «2».

(2) و قيل: إنه لمّا عرضت تلك المرأة «الخثعمية» على «عبد اللّه» ما عرضت أجابها «عبد اللّه» بالبداهة ببيتين من الشعر هما:

أمّا الحرام فالممات دونه و الحلّ لا حل فاستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه و دينه

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 5.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 156 النصّ و الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:193

و لكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة، و اقامته عندها حتى دعته نفسه إلى ان يأتي الخثعمية، و عرض نفسه عليها قائلا: هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت:

لقد رأيت في وجهك نورا فاردت ان يكون لي فأبى اللّه الّا أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟

قال: زوّجني أبي «آمنة بنت وهب»!! «1».

(1)

علائم الاختلاق في هذه القصة!

لقد غفل مختلق هذه القصة عن امور كثيرة عند صياعته لها، و لم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول- مثلا- بان «فاطمة» صادفت «عبد

اللّه» ذات يوم في زقاق من الأزقة، أو سوق من الاسواق، و شاهدت نور النبيّ ساطعا من طلعته فكفرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان من الممكن التصديق بهذه القصة، بيد أن نص القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية:

(2) 1- ان هذه القصة تفيد أنّ المرأة «الخثعمية» عند ما عرضت نفسها على «عبد اللّه»، كان يد «عبد اللّه» في يد والده «عبد المطلب»، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسها عليه و تبين مطلوبها له و يدور بينهما ما يدور، و لا يحس عليهما عبد المطلب؟!

ثم لم تستح من عظيم قريش «عبد المطلب» الذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شي ء حتى مقتل ولده و ذبحه.

و لو قلنا أن مطلبها كان حلالا مشروعا فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللّذين ردّ بهما «عبد اللّه» طلبها.

(3) 2- و الأصعب من ذلك قصة عبد اللّه نفسه. فان ولدا مثل «عبد اللّه» يحترم والده الى درجة الاستعداد لأن يذبح وفاء لنذر والده، كيف يمكن أن يتفوّه في

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 7، و الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:194

حضرة والده بما نقل عنه؟!

ترى أ يمكن لشاب نجا لتوّه من السيف و الذبح، و لا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة، أو يبدي استعداده و رضاه القلبيّ لذلك لو لا وجود والده معه؟!!

ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف، لا تقدّر الاحوال، و لا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها، أو أنّ مختلق هذه القصة غفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

(1) ثم إن ممّا يفضح هذه القصة و يظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية

لها، فان عبد اللّه- كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر و قال ما حاصله بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الذي يأتي على دين الرجل و شرفه، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء، و الرغبات الرخيصة الفاسدة، و الحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال، و تدفعه غريزته الجنسية إلى أن يبادر الى بيت المرأة الخثعمية.

إنّ ما جاء به «عبد اللّه» دعوة تلك المرأة، و ما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة، و الإباء، لخير دليل على طهارة «عبد اللّه» و عفته، و تقواه، و ترفعه عن الآثام و الادران، و ابتعاده عن الانجاس و الادناس.

و قد علّق الاستاذ العلامة «النجار» على هذه الاسطورة بقوله: «ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في الساعة التي تزوج فيها، و دخل فيها على امرأته».

و لكن الاستاذ «النجار» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين «عبد اللّه» حيث قال معقبا على كلامه السابق: «و لكنها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها و رسول اللّه غني عن هذا كله» «1».

فان ذلك ممّا رواه جميع المؤرخين بلا استثناء، فلا داعى و لا وجه للتشكيك فيه!

______________________________

(1) هامش الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:195

طهارة النبيّ من دنس الآباء و عهر الامهات:

و ينبغي هنا- و بالمناسبة- ان نشير الى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله ألا و هي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء و دناءتهم و عهر الامّهات و فسادهن فلا يكون في اجداده وجدّاته سفاح، و زنا.

و هذا ممّا اتفق عليه المسلمون، بعد ان دلّ عليه

العقل اذ لو لم يكن النبيّ منزها عن دناءة الآباء و عهر الامّهات لتنفر عنه الطباع و لم يرغب احد في متابعته، و الانقياد لاوامره و نواهيه.

و لقد صرح رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله بذلك في احاديث رواها السنة و الشيعة.

فقد جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«نقلت من الاصلاب الطاهرة الى الارحام الطاهرة نكاحا لا سفاحا» «1».

و جاء أيضا انه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة الى الأرحام الطاهرة» «2».

و قال الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام:

«و أشهد انّ محمّدا عبده و رسوله و سيّد عباده كلما نسخ اللّه الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه عاهر، و لا ضرب فيه فاجر» «3»

و قال الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى:

«وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»: «4»

«في أصلاب النبيّين، نبي بعد نبي، حتى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم» «5».

و قد صرح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر، و اشترطوه في النبيّ.

______________________________

(1) كنز الفوائد: ج 1 ص 164.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 43.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 215 طبعة عبده.

(4) الشعراء: 219.

(5) تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:196

قال المحقق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد: و يجب في النبيّ العصمة ... و عدم السهو، و كل ما ينفّر عنه من دناءة الآباء و عهر الامّهات ... «1».

و قد وافقه على هذا العلامة القوشجي الاشعري في شرح التجريد «2».

و قال العلامة المتكلم المقداد السيوري في اللوامع الالهية: و يجب أن لا يكون مولودا من الزنا و لا في آبائه دنيّ

و لا عاهر «3».

(1)

وفاة عبد اللّه في «يثرب»:

لقد بدأ «عبد اللّه» بالزواج فصلا جديدا في حياته، و أضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة و الكمال هي زوجته الطاهرة «آمنة» و بعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية- و بصحبة قافلة- الى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراس الرحيل، و تحركت القافلة التجارية و فيها عبد اللّه، و بدأت رحلتها من «مكة» صوب الشام، و هي مشدودة بمئات القلوب و الافئدة.

و كانت «آمنة» تمر في هذه الايام بفترة الحمل، فقد حملت من زوجها «عبد اللّه».

و بعد مضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكة بوادر القافلة التجارية و هي عائدة من رحلتها، و خرج جمع كبير من أهل مكة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.

ها هو والد «عبد اللّه» ينتظر- في المنتظرين- ابنه «عبد اللّه»، كما ان عيون عروسة ولده «آمنة» هي الاخرى تدور هنا و هناك تتصفح الوجوه و تبحث عن زوجها الحبيب «عبد اللّه» فى شوق لا يوصف.

______________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.

(2) راجع: شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد: ص 359.

(3) اللوامع الإلهية: ص 311.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:197

(1) و لكن و مع الأسف لا يجدان أثرا من «عبد اللّه» بين رجال القافلة!!

و بعد التحقيق يتبين أن «عبد اللّه» قد تمرّض أثناء عودته في يثرب، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا، فاذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في «مكة».

و كان من الطبيعي أن يغتم هذان المنتظران «عبد المطلب و آمنة» لهذا النبأ، و تعلو وجهيهما آثار الحزن، و القلق و تنحدر من عيونهما دموع الأسى و الاسف.

فأمر «عبد المطّلب» اكبر ولده: «الحارث» إلى أن يتوجّه الى «يثرب»، و يصطحب معه «عبد

اللّه» الى مكة.

و لكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه: «عبد اللّه» قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد، فعاد الحارث الى مكة، فاخبر والده «عبد المطلب»، و كذا زوجته العزيزة «آمنة» بذلك، و لم يخلف «عبد اللّه» من المال سوى خمسة من الابل، و قطيع من الغنم، و جارية تدعى «أم أيمن» صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 7 و 8، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 50.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:199

(1)

5 مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

كانت سحب الجاهلية الداكنة تغطّي سماء الجزيرة العربية، و تمحي الاعمال القبيحة و الممارسات الظالمة، و الحروب الدامية، و النهب و السلب، و وأد البنات، و قتل الاولاد، كل فضيلة أخلاقية. في البيئة العربية و كان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم و بين الموت الّا غشاء رقيق و مسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس السعادة و الحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، و ذلك عند ما اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و بهذا تهيأت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحه تحت ظلام الجهل، و التخلف، و طالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الّا و ملأ نور هذا الوليد المبارك ارجاء العالم و اسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة.

(2)

فترة الطفولة في حياة العظماء:

ان جميع الفصول في حياة العظماء جديرة بالتأمل، و قمينة بالمطالعة، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة، و السموّ بحيث تشمل جميع فصول حياته

سيد المرسلين ،ج 1،ص:200

بدء من الطفولة، بل و فترة الرضاع فتكون حياته و شخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إن جميع الأدوار، و الفترات في حياة العظماء، و النوابغ و قادة المجتمعات البشرية، و روّاد الحضارات الانسانية و بناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة و حساسة و على مواطن توجب الاعجاب.

إن صفحات تاريخهم و حياتهم منذ اللحظة التي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الامهات، و حتى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيرا ما نقرأ عن اولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنها كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة، و المعجزة.

و لو سهل علينا التصديق بهذا الأمر

في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الأنبياء و الرسل أسهل من ذلك بكثير، و كثير.

(1) إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السّلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته: ان مئات من الاطفال قتلوا و ذبحوا بامر من فرعون ذلك العصر منعا من ولادة موسى و نشوئه.

و لكن ارادة اللّه شاءت ان يولد الكليم، و ظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين و لهذا لم يعجز اعداؤه عن القضاء عليه او إلحاق الاذى به فحسب، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي».

ثمّ يقول: «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ» «1».

______________________________

(1) طه: 37- 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:201

(1) ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة المسيح، و يصور طفولته و نشأته بشكل أعجب اذ يقول:

«وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا

الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» «1».

(2) فإذا كان أتباع القرآن و التوراة و الانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولى العزم لموسى و عيسى عليهما السّلام، و يقرون بصدقها، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام، و نتعجب من الحوادث العجيبة التي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك، و نعتبرها امورا سطحية لا تدل على شي ء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية و في كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة

______________________________

(1) مريم: 16- 33.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:202

يوم ولادة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله مثل: ارتجاس إيوان كسرى، و سقوط اربع عشرة شرفة منه، و انخماد نار فارس التي كانت تعبد، و انجفاف بحيرة ساوة، و تساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، و خروج نور معه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، و الرؤيا المخيفة التي رآها انوشيروان و مؤبدوه، و ولادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مختونا مقطوع السرّة، و هو يقول: «اللّه اكبر، و الحمد للّه كثيرا، سبحان اللّه بكرة و أصيلا».

و قد وردت جميع هذه الامور في المصادر التاريخية الأولى، و الجوامع الحديثية المعتبرة «1».

(1) و مع ملاحظة ما ورد في حق موسى و عيسى و نقلنا بعضه هنا، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا: ما ذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

و في الاجابة على هذا السؤال يجب ان نقول:

إن هذه الحوادث الخارقة و العجيبة كانت تهدف إلى أمرين:

(2) الأول- أن تدفع بالجبابرة، و الوثنيين و عبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم: لما ذا انطفأت نيرانهم التي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السدنة و الكهنة؟

لما ذا سبّبت هزة خفيفة في ارتجاس ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان، و لم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شي ء؟

لما ذا تهاوت الاصنام المنصوبة في الكعبة و حولها، و انكبّت على وجوهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم يصبها شي ء ابدا؟

لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد ... عصر انتهاء فترة الوثنية و زوال مظاهر السلطة الشيطانية

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 5، بحار الأنوار: ج 15 ص 248- 331، السيرة الحلبية: ج 1 ص 67- 78 و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:203

و اندحارها؟

الثاني: ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم، و انه ليس وليدا عاديا، فهو كغيره من الأنبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة، و الوقائع الغريبة،

كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الأنبياء- كما عرفت- و تخبر بها تواريخ الشعوب و الملل المسيحية و اليهودية.

(1) و اساسا لا يلزم ان تكون تلك الحوادث سببا للعبرة و وسيلة للاتعاظ يوم وقوعها، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين، ثم يعتبر بها الناس بعد أعوام عديدة، و قد كانت حوادث الميلاد النبويّ من هذه المقولة، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية، و الظلم، و الانحراف الاخلاقي حتى قمة رءوسهم، و عشعشت الجهالة و الغافلة في اعماقهم حتى النخاع.

إن الذين عاشوا في عصر الرسالة، أو من اتى من بعدهم عند ما يسمعون نداء رجل نهض- بكل قواه- ضدّ الوثنية، و الظلم، ثم يطالعون سوابقه، و يلاحظون الى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة التي تتلاءم مع دعوته، فانهم و لا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلا على صحة دعواه، و صدق مقاله فيصدّقونه، و ينضوون تحت لوائه.

إن وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الأنبياء مثل «إبراهيم» و «موسى» و «المسيح» و «محمّد» صلّى اللّه عليه و عليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر رسالتهم و نبوتهم، فهي جميعا تنبع من اللطف الإلهي، و تتحقق لهداية البشرية، و جذبها إلى دعوة سفرائه و رسله.

(2)

في أيّ يوم ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

لقد اتّفق عامّة كتّاب السيرة على أن ولادة النبيّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحل الى ربه عام (632) ميلادية عن (62)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:204

أو (63) عاما، و على هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة

(570) ميلادية تقريبا.

كما أنّ اكثر المحدثين و المؤرخين يتفقون على أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في شهر ربيع الأول.

انما وقع الخلاف في يوم ميلاده، و المشهور بين محدثي الشيعة أنه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر.

و المشهور بين أهل السنة أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر «1».

(1)

أيّ هذين القولين هو الصحيح؟

ان من المؤسف جدا أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و وفاته بل مواليد و وفيات اكثر قادتنا و ائمتنا لمثل هذا الارتباك، و ان لا تكون اوقاتها و تواريخها محددة معلومة على وجه التحقيق و اليقين!.

و لقد تسبب هذا الارتباك في أن لا تستند اكثر احتفالاتنا و ماتمنا إلى تاريخ قطعي، في حين نجد أن علماء الإسلام كانوا يهتمون- عادة- بتسجيل الوقائع التي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص و عناية كبيرة، و لكننا لا ندري ما الذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة و وفياتهم على نحو دقيق، و صورة قطعية؟!

على أن مثل هذه المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السّلام، فان اي مؤرخ لو أراد أن يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات و أراد أن يلمّ بكل تفاصيلها و دقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء او اقرباء تلك الشخصية التي يزمع ترجمتها و الكتابة عنها.

______________________________

(1) و قد ذكر المقريزي في «الامتاع» ص 3 جميع الاقوال المذكورة في يوم ميلاد النبي و شهره و عامه، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:205

(1) و لقد مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم و خلّف من بعده ذرية و قربى و هم الذين يطلق عليهم اهل البيت.

و اهل بيته يقولون: لو كان صحيحا و حقا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبونا وجدنا، و قد نشأنا في بيته و ترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم كذا و توفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم و رأيهم، و نختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين، و قديما قالوا: أهل البيت ادرى بما في البيت؟ «1».

(2)

فترة الحمل:

المعروف أن النور النبوي الشريف استقر في رحم آمنة- الطاهر في أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من شهر ذي الحجة «2»، و لكن هذا الأمر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الأول، اذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل «آمنة» به صلّى اللّه عليه و آله إما ثلاثة أشهر و اما سنة و ثلاثة اشهر، و كلا الأمرين خارجان عن الموازين العادية في الحمل، كما أنه لم يعدّه احد من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «3».

(3) و لقد عالج المحقق الكبير الشهيد الثاني (911- 966 ه) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال:

إن ذلك مبنيّ على النسي ء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، و قد نهى اللّه تعالى عنه، و قال: «إنّما النسي ء زيادة في الكفر».

و توضيح هذا هو أن أبناء «إسماعيل» كانوا تبعا لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة، و لكنهم رأوا- في ما بعد- أن يحجّوا في كل شهر عامين

______________________________

(1) و من هنا لا بد من

الاعتراف بان ما ينقله و يكتبه الامامية من تفاصيل تتعلق بحياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي أقرب من غيرها الى الحقيقة لأنها مأخوذة عن اقربائه و ابنائه عليهم السّلام.

(2) الكافي: ج 1 ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وفاته.

(3) قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يسم قائله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:206

يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين و في المحرم عامين و في صفر عامين و هكذا.

و هذا يعني أن الحج يعود كل اربعة و عشرين سنة في موضعه الطبيعي (اي شهر ذي الحجة).

(1) و قد جرى العرب المشركون على هذه الطريقة حتى صادفت أيام الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك السنة حجة الوداع، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة (التي تسمى بالنسي ء بمعنى تأخير الحج عن موضعه و موعده) فقال: «ألا و إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السّماوات و الأرض السّنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة و ذو الحجة، و محرّم، و رجب الذي بين جمادي و شعبان» «1».

و قد أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك أن الأشهر الحرم رجعت الى مواضعها، و عاد الحج الى ذي الحجة و بطل النسي ء.

و نزل في هذه المناسبة قول اللّه تعالى: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» «2».

(2) من هنا تنتقل أيام التشريق كل سنتين من مواضعها، على ما عرفت، و حينئذ لا منافاة بين القول بأن نور

النبيّ انتقل إلى رحم أمه «آمنة بنت وهب» في أيام التشريق، و بين ما اجمع عليه عامة المؤرخين من أنه ولد في شهر ربيع الأول. و انما تكون المنافاة بين هذين الأمرين إذا كان المراد من أيام التشريق هو اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصة، و لكن قلنا أن ايام التشريق كانت تنتقل من شهر الى آخر باستمرار، فيلزم أن يكون عام حمل امّه به، و عام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى، و حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في شهر ربيع الأول فتكون مدة حمل «آمنة» به عشرة أشهر تقريبا.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 29.

(2) التوبة: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:207

(1)

مؤاخذات و إشكالات على هذا البيان:

إن النتيجة التي توصّل إليها المرحوم «الشهيد الثاني» ليست صحيحة، كما أن المعنى الذي ذكره للنسي ء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد، و اما الآخرون فقد فسّروه بنحو آخر فلا يكون التفسير الذي مرّ قويا، و ذلك:

(2) اوّلا: لأن «مكة» كانت مركزا لجميع الاجتماعات كما كانت معبدا للعرب جميعا، و لا يخفى أنّ تغيير الحج في كل سنتين مرة واحدة من شأنه أن بسبب الالتباس لدى الناس و يوقعهم في الخطأ و الاشتباه، و بالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم، و تلك العبادة الجماعية الى خطر الزوال.

و لهذا يستبعد ان ترضى قريش و المكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم و افتخارهم للتغيير و التبدل الذي من عواقبه ان يتعرض وقته و موعده للنسيان، فيذهب ذلك الاجتماع، و يزول من الاساس.

(3) ثانيا: إذا أخضعنا ما قاله «الشهيد الثاني» لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون ايام التشريق و الحج في

السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادى الاولى في حين أن امير المؤمنين عليّا عليه السّلام كلّف في هذه السنة بالذات بأن يقرأ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج، و المفسرون و المحدثون متفقون على أنه عليه السّلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة «1».

(4) ثالثا: ان النسي ء يعني أنّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الاغلب، على النهب و الغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب، في الاشهر الحرم الثلاث (و هي ذو القعدة و ذو الحجة، و المحرم) لهذا ربما طلبوا من سدنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم، ثم يتركون

______________________________

(1) و لقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج 15 ص 253 بهذه المحاسبة، و ان لم يشر الى الإشكال الذي أوردناه فليراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:208

الحرب في شهر صفر، و هذا هو معنى النسي ء فلم يكن نسي ء و تأخير للشهر الحرام في غير شهر محرّم، و في الآية نفسها اشارة الى هذا المطلب: «يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما».

و الذي نراه في حل هذه المشكلة هو: أن العرب كانوا يحجّون في وقتين: أحدهما شهر ذي الحجة، و الثاني شهر رجب، و قد كانوا يؤدّون كل مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء، فيمكن أن يكون المقصود من حمل «آمنة» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الاول كانت مدة حمل «آمنة» به ثمانية أشهر و اياما.

الاحتفال بذكرى المولد النبوي:

و ينبغي ان يحتفل

المسلمون جميعا بمولد النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة التي كانت مبدأ الخير و البركة، و منشأ السعادة و الكرامة للبشرية جمعاء، و أية مناسبة احرى بالاحتفال و الاحتفاء من هذه المناسبة؟

على ان اقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أمر مطلوب و محبوب في الشريعة المقدسة.

فقد قال اللّه تعالى:

«فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

و عزّر بمعنى كرّم و بجّل كما في اللغة «2» و هو لا يختص بزمان دون زمان، فعلى المسلمين في كل وقت و زمان ان يعظّموا شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يكرّمونه، سواء في حياته أو بعد مماته، لما له من فضل عظيم على الناس، و لما

______________________________

(1) الأعراف: 157.

(2) راجع مفردات الراغب: مادّة عزر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:209

له من منزلة عند اللّه تعالى.

كيف لا و الاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة، و سجاياه النبيلة، و الاشادة بشرفه و فضله و هى امور مدحه القرآن الكريم بها اذ قال سبحانه: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1» و قال تعالى أيضا: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «2» و غير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فان الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي يتحقق بذكر صفاته و أخلاقه و الاشادة به خير مصداق لرفع ذكره، الذي فعله اللّه بنحو ما.

و لو كان رفع ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أمرا غير جائز و لا صحيح، بل فعلا قبيحا لما فعله

اللّه، فيكفي في حسنه و صحته بل و مشروعيته و مطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلّى اللّه عليه و آله.

و هل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اظهار السرور و الشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض اذ يقول:

«الذكريات التي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم و تعظيمهم» «3».

و الحال ان العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك و الكفر ليس إلّا الخضوع لمن يعتقد بالوهيته و تعظيمه بهذه النية «4» و اين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده و الابتهاج بمقدمه و الشكر للّه على ولادته.

ثم ان تعظيم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينطلق من كونه عبدا مطيعا للّه تعالى، ادى رسالته بصدق و اخلاص، و جسّد بسلوكه و سيرته كل مكارم الاخلاق أصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية، و شكر للّه على منّه، و اظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلّا.

و الزعم بانه محرّم لكونه بدعة، او لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات

______________________________

(1) القلم: 4.

(2) الانشراح: 4.

(3) فتح المجيد: ص 154، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

(4) راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد: ص 404- 440.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:210

و محرمات كالرقص و الغناء فهو مرفوض، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجردا عن المحرمات و المنكرات.

ان الاحتفاء و الاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى، و امر بتكريمه، و حث على احترامه و حبه، و مودته، و انه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك

الموهبة العظيمة، و تلك العطيّة المباركة حيث منّ سبحانه على البشرية عامة و على المسلمين خاصة بأن شرف الارض بمولود عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته و خلقه، و اشرقت بنور رسالته و دعوته، فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه، و أي شكر اجمل و افضل من الاحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر فضائله، و مناقبه، للتعرف عليها، و الاقتداء بها، و تشديد الحب له بسببها، و الابتهال الى اللّه في يوم ميلاده، و طلب التوفيق الالهي لمتابعته، و السير على نهجه، و الدفاع عن رسالته، و الذبّ دون دينه، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا و لقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبويّ و أنشئوا القصائد الرائعة في مدحه، و ذكر خصاله و مكارم اخلاقه، و اظهروا السرور بمولده و الشكر للّه تعالى بلطفه، و تفضله به صلّى اللّه عليه و آله على البشرية.

قال الإمام الديار بكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السّلام و يعملون الولائم، و يتصدقون في لياليه بانواع الصدقات و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرات و يعتنون بقراءة مولده الكريم، و يظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم «1».

أجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا بمقدم نبيهم الكريم و لا يعبئوا بما قاله البعض حيث قال: «الذكريات التي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من

______________________________

(1) تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: ج 1 ص 223 نقلا عن المواهب اللدنية: ج 1 ص 27 للقسطلاني. سيد المرسلين ج 1 211 الاحتفال بذكرى المولد النبوي: ..... ص : 208

سيد المرسلين ،ج 1،ص:211

العبادة لهم و تعظيمهم»

«1».

فهذا القول مغالطة صريحة، ان لم يكن نابعا عن الغافلة و الجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال و اقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ «2».

(1)

مراسم تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

حلّ اليوم السابع من الميلاد المبارك، فعقّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكرا للّه تعالى و دعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الذي حضره عامة قريش لتسمية النبيّ، و سمّاه «محمّدا»، و عند ما سألوه عما حمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك «محمّدا» و هو اسم لم يعرفه العرب إلا نادرا أجاب قائلا: أردت أن يحمد في السماء و الأرض «3».

و الى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله:

فشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود و هذا محمّد «4» و من المسلّم أن هذا الاختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي، لأن اسم «محمّد» و إن كان موجودا عند العرب إلّا أنه قلّ من كان قد تسمى بهذا الاسم، فحسب ما استقصاه بعض المؤرخين لم يتسم به الى ذلك اليوم من العرب إلّا ستة عشر شخصا كما يقول شاعرهم:

إن الذين سموا باسم محمدمن قبل خير الخلق ضعف ثمان «5» و لا يخفى أن ندرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه، و حيث أن الكتب السماوية كانت قد أخبرت عن اسم النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و صفاته، و علائمه الروحية و الجسمية، لذلك يجب أن تكون علائمه صلّى اللّه عليه و آله واضحة جدا جدا

______________________________

(1) هوامش الفتح المجيد.

(2) راجع للتوسّع: معالم التوحيد في القرآن الكريم.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 78 و 79.

(4) بحار الأنوار: ج 16 ص 120، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 78 و 79.

(5)

السيرة الحلبية: ج 1 ص 82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:212

حتى لا يتطرق إليها التباس أو اشتباه، و قد كان من علائمه صلّى اللّه عليه و آله اسمه الشريف، فيجب أن تكون مصاديقها قليلة جدا حتى يزيل ذلك أي عروض للشك و الترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله خاصة إذا ضمّت إليه بقية أوصافه و علائمه، و خصوصياته.

(1)

خطأ المستشرقين:

لقد ذكر القرآن الكريم اسمين او عدة أسماء للنبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله.

ففي سورة آل عمران و محمّد و الأحزاب و الفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 «1» سماه «محمّدا» «2».

و في سورة الصف الآية 6 «3» دعاه «أحمد».

و العلة في تسميته بهذين الاسمين أن امّه «آمنة» سمّته «أحمدا» قبل أن يسميه جده، كما هو مذكور في التاريخ.

و على هذا فان ما ذكره بعض المستشرقين- في معرض الاعتراض- بأن الإنجيل- حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6- بشّر بنبي اسمه «أحمد» لا «محمّد» كلام لا اساس له و لا مبرر، لأن القرآن الكريم الذي سمى نبيّنا ب: «أحمد» سماه في عدة مواضع ب: «محمّد» فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو: القرآن الكريم، فان القرآن سمّاه بكلا الاسمين، في موضع باسم

______________________________

(1) يعتقد البعض أنّ هذا ليس اسما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل هو من الحروف المقطعة في القرآن.

(2) قال تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

و قال تعالى: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ».

و قال سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ

اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ».

و قال عزّ و جلّ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».

(3) اذ قال سبحانه: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:213

«محمّد»، و في موضع آخر باسم «احمد».

(1)

«أحمد» كان من أسماء النبيّ المشهورة:

كلّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعى باسمين في الناس منذ صغره أحدهما:

«محمّد» الذي سمّاه به جده «عبد المطلب»، و الآخر «أحمد» الذي سمته به أمه «آمنة».

و هذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي، و قد روى المؤرخون هذا الأمر، و يمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية «1».

و لقد أنشأ عمّه «أبو طالب»- الذي انيطت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال اثنين و أربعين عاما بكل حرص و رغبة، و لم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما استطاع من غال و رخيص أنشأ في ابن أخيه أبياتا سمّاه في بعضها «محمّد» و في بعضها الآخر «أحمد»، و هذا يكشف عن انه صلّى اللّه عليه و آله كان معروفا آنذاك بكلا الاسمين.

(2) و إليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات التي سمى فيها «أبو طالب» النبي باسم احمد:

1-

إن يكن ما أتى به أحمد اليوم سناء و كان في الحشر دينا 2-

و قوله لأحمد أنت امرؤخلوف الحديث ضعيف النسب 3-

و إن كان أحمد قد جاءهم بحق و لم يأتهم بالكذب 4-

أرادوا قتل أحمد ظالموه و ليس بقتلهم فيهم زعيم 5-

ألا إنّ خير الناس نفسا و والداإذا عدّ سادات البرية أحمد 6-

فلسنا و بيت اللّه نسلم أحمدالعزّاء من عض الزمان و لا كرب «2» و قد سمى «أبو

طالب» النبي صلّى اللّه عليه و آله في أبيات اخرى بأحمد

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 82 و 83.

(2) ديوان أبي طالب عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:214

أيضا قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين و المحدثين و نسبوها الى أبي طالب و لكنها غير موجودة في ديوانه «1».

كما و أنه قد سمّاه غير ابي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهرا بهذا الاسم في ذلك الزمان، و تلك الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر و الاحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا:

قال حسان بن ثابت في رثائه للنبي صلّى اللّه عليه و آله:

مفجعة قد شفّها فقد أحمدفظلّت لآلاء الرسول تعدّد

أطالت وقوفا تذرف العين جهدهاعلى طلل القبر الذي فيه أحمد «2» و قال في رثائه أيضا:

صلّى الا له و من يحيق بعرشه و الطّيبون على المبارك احمد «3» و قال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار:

فمن كان أو يكون كأحمدنظام الحق او نكال لملحد «4»

و قال حسّان و هو يذكر معجزة من معاجز النبي صلّى اللّه عليه و آله:

ففي كفّ أحمد قد سبّحت عيون من الماء يوم الظمأ «5» و قال كعب بن مالك:

فهذا نبيّ اللّه أحمد سبّحت صغار الحصى في كفّه بالترنّم «6» و قال «ورقة بن نوفل» يوم أخبرته خديجة بنزول الوحي على النبي صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) مثل قوله:

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمدو أحببته حب الحبيب المواصل

زعمت قريش أن أحمد ساحركذبت و ربّ الراقصات إلى الحرم راجع ديوان أبي طالب، و سيرة ابن هشام: ج 1 ص 272، و شرح النهج لابن ابي الحديد: ج 14 ص 79 و غيرها.

(2) ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 667 و 666، و ابن سعد في

طبقاته: ج 2 ص 323.

(3) ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 667 و 666، و ابن سعد في طبقاته: ج 2 ص 323.

(4) شاعر عهد الرسالة: تحقيق محمّد عزت نصر اللّه.

(5) بحار الأنوار: ج 16 ص 413 و 415.

(6) بحار الأنوار: ج 16 ص 413 و 415.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:215 فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي حديثك إيانا فاحمد مرسل «1» و قالت عاتكة بنت عبد المطلب ترثي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يا عين جودي ما بقيت بعبرةسحّا على خير البرية أحمد «2» و قال العباس في مناسبة تزويج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بخديجة:

أحمد سيّد الورى خير ماش و راكب «3»

(1)

فترة الرّضاع في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله:

لم يرتضع وليد قريش المبارك «محمّد» من امّه سوى ثلاثة أيام، ثم حظيت بفخر إرضاعه- بعد ذلك- امرأتان هما:

(2) 1- «ثويبة» مولاة «أبي لهب»، و قد أرضعته أربعة أشهر فقط، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و زوجته الوفية: «خديجة بنت خويلد» يقدّران هذا العمل لها حتى آخر لحظات حياتها «4».

و «ثويبة» هذه كانت قد أرضعت قبل ذلك «حمزة» عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و «أبا سلمة بن عبد اللّه المخزومي» أيضا فكانوا إخوة من الرضاعة «5».

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد مبعثه، من يشتريها من «أبي لهب» ليعتقها فابى «6».

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرمها كلما دخلت عليه، و كان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبر وفاتها عند منصرفه من وقعة «خيبر» فسأل عن ابنها فقيل: مات قبلها، فسأل عن قرابتها، فقيل: لم يبق منهم أحد «7».

(3) 2- «حليمة السعدية» بنت ابي ذؤيب التي كانت من قبيلة سعد

بن بكر بن هوازن، و كان أولادها عبارة عن: «عبد اللّه»، «أنيسة»، «شيماء»، و قد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 195.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 326.

(3) بحار الأنوار: ج 16 ص 72.

(4) تاريخ الخميس في احوال انفس نفيس: ج 1 ص 222.

(5) السيرة النبوية: ج 3 ص 96.

(6) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 271.

(7) تاريخ الخميس: ج 1 ص 222- 225 نقلا عن سيرة مغلطاي و غيره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:216

قامت آخر أولادها و هي «الشيماء» بحضانة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا:

و قد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كنّ يعشن في البوادي لينشئوا في تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها، و قلة رطوبتها، و عذوبة مائها ببنية قوية، هذا مضافا إلى صيانتهم عن خطر الوباء الذي كان يهدد الأطفال في «مكة»، و لأن ذلك كان له مدخل عظيم، و تأثير بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

(1) و كانت مراضع بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب، فقد كانت نساء هذه القبيلة التي كانت تسكن حوالي «مكة» و نواحي الحرم يأتين «مكة» في كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء و يذهبن بهم إلى بلادهنّ حتى تتم الرضاعة.

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد «مكة» يلتمسن الرضعاء في سنة جدب و قحط، و لهذا كنّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف «مكة» و اعيانها.

(2) و يقول بعض المؤرخين: أنه لم تقبل أيّة واحدة من تلك المراضع أن تأخذ «محمّدا» بسبب يتمه، و قد كان اغلبهن يردن أن تأخذن من يكون

له أب حيّ حتى يغدق عليهنّ بالمساعدات و الصّلات، و حتى «حليمة» هي الاخرى أبت أخذه، و لكنّها أيضا لم تحصل على طفل لهزال جسمها، فاضطرت الى أن تأخذ حفيد «عبد المطلب» و قالت لزوجها: و اللّه لأذهبنّ الى ذلك اليتيم فلآخذنّه، فقال لها زوجها: لا عليك ان تفعلي، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة.

و لقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا، فمنذ أن أبدت «حليمة» استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل مجالات حياتها. «1»

(3) إن القسم الأول من هذه القصة ليس سوى اسطورة، لأن مكانة البيت

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 162 و 163.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:217

الهاشمي الرفيعة، و شخصية رجل عرف بكمال الجود و الاحسان، و بعون المحتاجين و المحرومين كانت سببا في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ «محمّد» فحسب، بل يتنازعن على اخذه و لهذا لا يكون هذا القسم من التاريخ سوى اسطورة تكذبها الحقائق.

و اما علة عدم اعطاءه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى غير «حليمة» من المرضعات فهي: أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تلكم المرضعات، و لم يزل كذلك حتى قبل ثدي «حليمة السعدية»، فسرّ بذلك «عبد المطلب» و أهله سرورا عظيما، بعد أن حزنهم امتناعه عنهنّ قبل ذلك «1».

قالت «حليمة»: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت، فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت: حليمة، فتبسّم «عبد المطلب» و قال: بخ بخ سعد و حلم، خصلتان فيهما خير الدهر، و عز الأبد «2».

نظرة الإسلام في تأثير الرضاع:

و هنا ينبغي بالمناسبة أن نشير الى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلام العلم الحديث في الكشف عن آثار اللبن في تكوين

الإنسان الخلقي و النفسيّ و العضوي سلبا و إيجابا.

و لهذا حثّ الإسلام على استرضاع الام، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات و نهى عن استرضاع اليهودية و المجوسية و النصرانية و المجنونة منعا من انتقال طباعهن إلى الطفل عن طريق الوليد.

و استكمالا لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث التي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة:

1- قال امير المؤمنين علي عليه السّلام:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 342 و 343.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:218

«تخيّروا للرضاع كما تخيّرون للنّكاح فان الرّضاع يغيّر الطباع» «1».

2- و عنه عليه السّلام أيضا:

«انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشبّ عليه» «2».

3- عن الإمام ابي جعفر الباقر عليه السّلام انه قال:

«لا تسترضعوا الحمقاء فان اللبن يعدي، و إن الغلام ينزع إلى اللبن ...» «3».

4- و عنه عليه السّلام أيضا:

«استرضع لولدك بلبن الحسان و إيّاك و القباح فإنّ اللبن قد يعدي» «4».

5- و عن علي عليه السّلام انه قال:

«ما من لبن يرضع به الصبيّ أعظم بركة عليه من لبن امّه» «5».

______________________________

(1) قرب الأسناد: ص 45.

(2) فروع الكافي: ج 2 ص 93.

(3) وسائل الشيعة: ج 15 ص 188.

(4) التهذيب: ج 2 ص 280.

(5) روضة المتّقين: ج 8 ص 554.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:219

(1)

6 فترة الطفولة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من بداية طفولته و أوان صباه و إلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة التي تعدّ بأجمعها من كراماته صلّى اللّه عليه و آله و تدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

(2) و ينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث الى طائفتين:

(3)

1- الماديّون، و جماعة من المستشرقين:

فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة، و يعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية، و ينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية، لا يهتمون بهذه الحوادث و لا يعيرونها أية أهمية، لامتناع و استحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية، و لهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال، و ممّا نسجته اوهام التابعين لذلك الدين، او الطريقة.

و قد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم- حسب الظاهر- في عداد الموحّدين، و المؤمنين باللّه، و بما بعد الطبيعة من عوالم الغيب، إلّا أنهم- لضعف إيمانهم و بسبب غرورهم العلمي، و غلبة النزعة المادية على أفكارهم و أذهانهم- اتبعوا- لدى تحليلهم لهذه الحوادث- المنهج الماديّ، فنحن

سيد المرسلين ،ج 1،ص:220

نقرأ في كتاباتهم مرارا و تكرارا زعمهم بان النبوة ما هي إلّا نبوغ بشريّ، و أن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيّرة!!

(1) و لا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري و افرازات الذهن الانساني، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في: مباحث «النبوّة العامة» انّ النبوة عطية إلهية، و موهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات و الارتباطات المعنوية،

و مصدر لمناهج الأنبياء و برامجهم، ليست أبدا وليدة نبوغهم الإنساني، و لا نسيجة فكرهم البشري، و ليس لها مصدر إلّا الإلهام من الغيب، و لكن عند ما ينظر المستشرق المسيحي الى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي و يريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاسس العلمية التي كشف عنها التجربة ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي، و ربما انكرها من الاساس.

(2) 2- المؤمنون باللّه: الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته و خواصه يخضع لتدبير عالم آخر، و أن ذلك العالم (اي عالم التجرد و ما وراء الطبيعة) هو المنظم لهذه الطبيعة، و هو المدبر لهذا الكون المادي.

و بعبارة اخرى إن عالم المادة ليس عالما مسيّبا، مستقلا عن غيره، و ان جميع الانظمة و القوانين الطبيعية و العلمية مسبّبة عن تأثيرات موجودات عليا، و بخاصة ناشئة عن إرادة اللّه الخالق، الذي اعطى للمادة وجودها، و أوجد القوانين و العلاقات الصحيحة بين أجزائها، و بنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنّ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية، و اذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات، و الروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم و أكّده، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست امورا لا تقبل التغيير، و التبدل.

فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه- إذا أراد- أن يغيّر تلك القوانين لغايات خاصة، و ليس في مقدوره ذلك فقط، بل فعل ذلك في جملة من الموارد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:221

لأهداف عليا.

(1) و بعبارة اخرى: إنّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل، بل إنّ علتها غير طبيعيّة، و افتقاد العلة الطبيعية (و خاصة العلة الطبيعية غير المعروفة) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

و الخلاصة؛ إن

قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدّلها، و تغيّرها بارادة بارئها و خالقها.

إنهم يقولون: إنّ جميع خوارق العادة، و جميع أفعال الأنبياء العجيبة التي تتصف بصفة الاعجاز، و الخارجة عن اطار القوانين الطبيعية، تتحقق من هذه الزاوية.

إنّ هذا الفريق من الناس لا يسمحون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة، و الكرامات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، و الأحاديث، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة، أو يشكّوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية، و القوانين العلمية.

(2) و ها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد، أو الاستبعاد:

(3) 1- لقد نقل المؤرخون عن «حليمة السعدية» قولها بأنها لمّا تكفّلت إرضاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرادت أن ترضعه في محضر امّها، ففتحت جيبها و أخرجت ثديها الايسر، و أخذت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوضعته في حجرها، و وضعت ثديها في فمه، فترك النبي صلّى اللّه عليه و آله ثديها، و مال إلى ثديها الأيمن، فاخذت «حليمة» ثديها الأيمن من يد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وضعت ثديها الأيسر في فمه و ذلك أنّ ثديها الأيمن كان جهاما (أي خاليا من اللبن و لم يكن يدرّ به)، و خافت «حليمة» أن النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا مصّ الثدي و لم يجد فيه شيئا لا يأخذ- بعده- الأيسر. و لكن النبيّ أصرّ على أخذ الثدي الأيمن، فلمّا مصّ صلّى اللّه عليه و آله الأيمن امتلأ فانفتح حتى ملأ شدقيه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:222

فادهش

الجميع ذلك «1».

(1) 2- و تقول «حليمة» أيضا: إن البوادي أجدبت و حملنا الجهد على دخول البلد، فدخلت مكة مع نساء بني سعد فأخذت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعرفنا به البركة و الزيادة في معاشنا و رياشنا حتى أثرينا، و كثرت مواشينا، و أموالنا «2».

إنّ من المسلم أنّ حكم الماديين، او من يحذو حذوهم و يتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي اذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية، نجدهم يبادرون الى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال، و من ولائد الاوهام، و اما اذا كانوا اكثر تأدبا لقالوا: إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى أمثال هذه المعاجز.

و نحن نقول: لا نقاش في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله غني عن هذه المعاجز إلّا أن عدم الحاجة شي ء، و الحكم بصحة هذه الامور او بطلانها شي ء آخر.

و أما المؤمن باللّه الذي يردّ النظام الطبيعي، إلى مشيئة اللّه خالق الكون و ارادته العليا، و يعتقد بأن كل الحركات و الظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه (الذرة) الى اكبر موجوداته (المجرة) يجري تحت تدبيره، و نظارته، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث و التأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام، و أمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضا قاطعا.

(2) و لقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول «مريم» أمّ عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عند ما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول:

«... أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ

رُطَباً جَنِيًّا» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 345 و 346.

(2) المناقب لابن شهر اشوب: ج 1 ص 24.

(3) مريم: 24 و 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:223

إنه و ان كان الفرق بين «مريم» و «حليمة» شاسعا و كبيرا من حيث الملكات الفاضلة و المكانة، و المنزلة، إلّا أن منزلة «مريم» عليها السّلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي، ففي المقام استوجب نفس مقام الوليد العظيم، و مكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السّلام امور اخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة، و تقاها و طهرها البالغ كانت بحيث أن «زكريا» كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، فاذا سألها: من أين لك هذا قالت: هو من عند اللّه؟ «1».

و على هذا الأساس يجب أن لا نتردّد و لا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات، أو نستبعدها.

(1)

خمسة أعوام في الصحراء:

أمضى وليد «عبد المطلب» في قبيلة «بني سعد» مدة خمسة أعوام، بلغ فيها أشده.

و خلال هذه المدة اخذته «حليمة» إلى امّه مرتين أو ثلاث، و قد سلّمته إلى أمه في آخر مرة.

و كانت المرّة الاولى من تلك المرات عند فطامه، و لهذا السبب أتت به صلّى اللّه عليه و آله «حليمة» الى مكة و لكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها، و كان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابها معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد أصبح مبعث خير و رخاء، و بركة في منطقتها، و قد دفع شيوع مرض الوباء في «مكة» إلى ان تقبل امّه الكريمة بهذا الطلب «2».

(2) و أما المرة الثانية من تلك المرات فكانت عند ما قدم جماعة من نصارى

______________________________

(1) «... وَ كَفَّلَها

زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا، الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». (آل عمران: 37).

(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 401.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:224

الحبشة الى الحجاز، فوقع نظرهم على محمّد صلّى اللّه عليه و آله في «بني سعد»، و وجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السّلام، و لهذا عزموا على أخذه غيلة الى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيما، لينالوا شرف احتضانه و يذهبوا بفخره «1».

(1) و لا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذكرت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم التي قرءوها و درسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» «2».

ثمّ انّ في هذا الصعيد آيات أخر صرّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح، و من غير إبهام، و أن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 167.

(2) الصف: 6.

(3) «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ».

(الأعراف: 157).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:225

(1)

7 العودة إلى أحضان العائلة

اشارة

لقد خلقت يد القدرة الالهية كل فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين، فهناك من خلق لاكتساب العلم و المعرفة، و هناك من خلق للاختراع و الاكتشاف، و ثالث خلق للسعي و العمل، و بعض للتدبير

و السياسة و فريق للتدريس و التربية و هكذا.

و إن المربّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نصب أحد في عمل من الاعمال و لا يعهدون إليه مسئولية من المسئوليات إلّا بعد اختبار سليقته و مواهبه، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، اذ في غير هذه الحالة يتعرّض المجتمع لضررين كبيرين: احدهما: أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به، و الثاني: ان يبقى العمل الذي قام به ناقصا، مبتورا.

(2) و قد قيل في المثل: لكل انسان موهبة، و السعيد هو من اكتشف تلكم المواهب، و اصابها.

و قد ذكروا أن استاذا كان ينصح تلميذا له كسولا، و يعدّد له مضارّ الكسل و التواني، و يصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم، و ضيّع ربيع حياته في البطالة و الغافلة.

و بينما الاستاذ ينصح تلميذه- و هو يسمع مواعظ استاذه- رأى تلميذه يرسم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:226

بقطعة من الجص صورة على المنضدة، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يخلق للدرس و تحصيل العلم، بل خلقته يد القدرة للرسم، فطلب منه أن يصطحب أباه الى المدرسة في اليوم القادم، ثم قال لوالد الصبيّ: إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم، و التحصيل فانه يمتلك ذوقا رفيعا في الرسم، و رغبة كبيرة في التصوير.

و قبل الوالد نصيحة المعلّم هذه و لم يمض زمان طويل إلّا و برع الصبي و غدى قمة في هذا الفن، بعد أن تابع هوايته بشغف و أكثر من ممارستها.

(1) إن فترة الطفولة و الصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم، و يتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم، و أفكارهم و ردودهم، لأن حركات الطفل و

أقواله الجميلة و الحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب و قابليات و صفات لو توفّرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة، و أحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و أقواله و أفعاله الى وقت البعثة المباركة توقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلّى اللّه عليه و آله و توضح لنا أهدافه العليا، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلّى اللّه عليه و آله فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته و تاريخه إلى يوم مبعثه الشريف، و إعلانه عن نبوّته و قيادته للمجتمع، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم، و بالتالي عن هذه الحقيقة و هي أن هذه الشخصية خلقت لأيّ عمل، و أن ادّعاء الرسالة و القيادة له هل ينسجم مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تؤيّد تفاصيل حياته خلال أربعين سنة قبل الرسالة، و هل تؤيّد أفعاله و اقواله، و بالتالي: سلوكه مع الناس و معاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

(2) من هنا نعمد الى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيامها و سنواتها الاولى.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:227

لقد حافظت مرضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليه خمس سنوات، و قامت في هذه المدة برعاية شئونه خير قيام، و بالغت في كفالته و العناية به، و في خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون، حتى انه صلّى اللّه عليه و آله كان يفتخر بذلك في ما بعد اذ كان يقول:

أنا أعربكم (اي أفصحكم) ... و ارضعت في بني سعد» «1».

ثم ان «حليمة» جاءت به إلى «مكة»،

و بقي عند امّه الحنون ردحا من الزمن، و في كفالة جده العظيم: «عبد المطلب» ردحا آخر منه، و كان هو السلوة الوحيدة لاقاربه و البقية الباقية من أبيه: «عبد اللّه» «2».

(1)

سفرة إلى يثرب:

منذ أن فقدت كنّة «عبد المطلب» و عروس ابنها: «آمنة» زوجها الشاب الكريم: «عبد اللّه» باتت تترقب الفرص لتذهب إلى «يثرب» و تزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب، و تزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

و ذات مرة فكّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت، و أن ولدها «محمّدا» قد كبر، و يمكنه أن يشاركها في حزنها، فتهيأت هي و أمّ ايمن للسفر، و اتجهت نحو يثرب برفقة «محمّد»، و لبثت هناك شهرا.

و لقد انطوت (و بالاحرى حملت) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش «محمّد» لأنه صلّى اللّه عليه و آله راى فيها و لأوّل مرة البيت الذي توفي فيه والده العزيز، و دفن «3» و كانت والدته قد حدّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

و كانت لا تزال سحابة الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اخرى، و غشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته من مكة فقد امّه

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 89.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 167.

(3) كان البيت الذي يضمّ قبر «عبد اللّه» عليه السّلام لا يزال موجودا حتى قبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر، و لكنه ازيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:228

العزيزة في اثناء الطريق في منطقه تدعى ب «الابواء» «1».

(1) إن هذه الحادثة قد عزّزت مكانة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله في عشيرته اكثر فأكثر، و جعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم، فهو الزهرة الوحيدة من تلك

الجنينة المباركة، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده «عبد المطلب» و لهذا كان يحبّه اكثر من أبنائه، بل و يؤثره عليهم جميعا.

و من ذلك أنه كان يمدّ في فناء الكعبة المعظمة بساط لزعيم قريش «عبد المطلب» فيجلس هو عليه و يتحلّق حوله وجوه قريش و سادتها و أولاده فإذا وقعت عيناه على بقية عبد اللّه «محمّد» أمر بأن يفرّج له حتى يتقدم نحوه ثم يجلسه الى جنبه على ذلك البساط المخصوص به «2».

(2) ان القرآن الكريم يذكّر النبي صلّى اللّه عليه و آله بفترة يتمه و يقول: «أ لم يجدك يتيما فآوى».

إن الحكمة وراء يتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح، و لكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا، و المزعجة احيانا اخرى لم يك خاليا عن حكمة معقولة و مصلحة رشيدة، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشرى و معلمه، و إمام الانسانية و هاديها- و قبل ان يتسلم مهامه، و يزاول مسئولياته العظمى و يبدأ قيادته- حلو الحياة و مرّها، و يجرّب سراء العيش و ضرّاءه، حتى تتهيّأ لديه تلك الروح الكبرى الصبورة الصامدة، و يدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب و دروسا، و يعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد و المصاعب، و المشاق و المتاعب التي كانت تنتظره في المستقبل.

(3) و ربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيّه طاعة لأحد، و لهذا أنشأه حرا خليا من كل قيد، منذ الايام الاولى من حياته، يصنع نفسه بنفسه و يقيّض لها موجبات الرشد، و اسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغه ليس نبوغا بشريا عاديا

و مألوفا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 105.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 168.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:229

و انه لم يكن لوالديه اي دخل فيه و في مصيره، و بالتالي فان عظمته الباهرة نابعة من مصدر الوحي، و ليست من العوامل العادية و الاسباب المأنوسة المتعارفة.

(1)

وفاة عبد المطّلب:

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار، و تستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة موجّهة ضرباتها القوية لروحه، و نفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة و سنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمعزل عن هذه السنة المعروفة و هذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوفاة والديه بعد حتى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اكثر من ثمان سنوات إلا و فقد جدّه العظيم «عبد المطلب»، و قد اعتصرت وفاة «عبد المطلب» قلب رسول اللّه ألما و حزنا، و كان لها وقع شديد على نفسه المباركة، حتى أنه بكى لفقده بكاء شديدا و ظلّت دموعه تجري من أجله إلى أن وري في لحده، و لم ينس ذكره ابدا!! «1».

(2)

كفالة أبي طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

سيكون لنا حديث مفصّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص «2» و سنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالوثائق و الأدلة القاطعة، و لكنّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

______________________________

(1) كتب اليعقوبي في تاريخه: ج 2 ص 10 و 11 من تاريخه حول سيرة عبد المطلب، و أنه كان موحّدا لا وثنيا، و ذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

(2) في حوادث السنة العاشرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:230

صلّى اللّه عليه و آله.

لقد تكفّل أبو طالب- و لأسباب خاصة- رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تقبل تحمّل هذه المسئولية بفخر و اعتزاز، و لأنّ أبا طالب- مضافا الى العلل المشار إليها- كان أخا لوالد النبي من أمّ واحدة أيضا «1»

كما أنّه كان معروفا بجوده و كرمه، و من هنا أوكل «عبد المطلب» أمر كفالة النبي صلّى اللّه عليه و آله حفيده، إليه، و سوف نقص عليك تدريجا سطورا ذهبية من تاريخه، تمثل شاهد صدق على خدماته القيامة، و أياديه الجليلة.

يقولون: إن النبي شارك و هو في العاشرة من عمره جنبا إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب «2» و حيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحرم لذلك سمّيت بحرب «الفجار» و قد وردت تفاصيل حروب «الفجار» في التاريخ بشكل مسهب.

(1)

سفرة إلى الشام:

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش الى الشام كل سنة مرة واحدة

فعزم «ابو طالب» على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة، و عالج مشكلة ابن اخيه «محمّد» الذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في خراسة جماعة من الرجال، و لكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد «محمّدا» و قد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم «ابي طالب»، فاحدثت ملامح «محمّد» الكئيبة طوفانا من المساعر العاطفية في قلب «أبي طالب» بحيث اضطرته إلى أن يرضى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 179، و امهما هي فاطمة المخزومية.

(2) لقد كتب اليعقوبي في تاريخه: ج 1 ص 15 طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضا، لأنه كان ظلما و عدوانا، و قطيعة رحم و استحلالا للشهر للحرام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:231

بمشقة اصطحاب «محمّد» في تلك الرحلة «1».

(1) لقد كانت سفرة النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه التي قام بها بصحبة عمّه و كافله «ابي طالب» في الثانية

عشرة من عمره، من اجمل و أطرف أسفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنه صلّى اللّه عليه و آله عبر فيها على: «مدين» و «وادي القرى» و «ديار ثمود» و اطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

و لم تكن قافلة قريش التجارية قد وصلت إلى مقصدها حتى حدثت في منطقة تدعى «بصرى» قضية غيرت برنامج «ابي طالب» و تسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة و القفول الى مكة.

(2) و إليك فيما يلي مجمل هذه القضية:

كان يسكن في «بصرى» من نواحي الشام راهب مسيحي يدعى «بحيرا» يتعبّد في صومعته، يحترمه النصارى في تلك الديار.

و كانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت و تبركت بالحضور عنده.

و قد اتفق أن التقى هذا الراهب قافلة قريش التي كان فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلفت نظره شخصية «محمّد»، و راح يحدق في ملامحه، و كانت نظراته هذه تحمل سرا عميقا ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد و بعد دقائق من

______________________________

(1) و يذكر «أبو طالب» في ابيات له قصّة هذه السفرة و ما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات:

إنّ ابن آمنة النبي محمّداعندي يفوق منازل الأولاد

لما تعلّق بالزمام رحمته و العيس قد قلّصن بالازواد

فارفضّ من عينيّ دمع ذارف مثل الجمان مفرّق الأفراد

راعيت فيه قرابة موصولةو حفظت فيه وصية الأجداد

و أمرته بالسير بين عمومةبيض الوجوه مصالت أنجاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوالاقوا على شرك من المرصاد

حبرا فاخبرهم حديثا صادقاعنه و ردّ معاشر الحسّاد (تاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 269- 272 و ديوان ابى طالب: ص 33- 35).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:232

النظرات الفاحصة، و التحديق في وجه النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله خرج عن صمته و انبرى سائلا: انشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فأشار جماعة منهم الى «أبي طالب» و قالوا: هذا وليّه.

فقال «أبو طالب»: إنه ابن أخي، سلني عمّا بدا لك.

(1) فقال «بحيرا»: إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتبنا و ما روينا عن آبائنا، هذا سيّد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه رحمة للعالمين. احذر عليه اليهود لئن رأوه و عرفوا منه ما أعرف ليقصدنّ قتله «1».

هذا و قد اتفق اكثر المؤرخين على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يتعدّ تلك المنطقة، و ليس من الواضح أن عمه «أبا طالب» بعثه الى مكة مع أحد، (و يستبعد أن يكون عمه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا)، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة، و انثنى عن مواصلة سفره الى الشام «2».

و ربما قيل أنه تابع- بحذر شديد- سفره الى الشام مع ابن اخيه «محمّد».

(2)

اكذوبة المستشرقين:

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين و غلطاتهم بل و ربما أكاذيبهم، و اتهاماتهم الباطلة، و شبههم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أيّ مدى يحاول هذا الفريق إرباك أذهان البسطاء من الناس، و بلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الذي تم- في بصرى- بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و الراهب «بحيرا» لم تكن سوى قضيه بسيطة، و حادثة عابرة و قصيرة، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بأيدي هذه الزمرة (المستشرقون) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

______________________________

(1) روى تاريخ الطبري: ج 2 ص 32 و 33، و السيرة النبوية: ج 1 ص 180- 183 هذه القصّة بتفصيل أكبر و قد اختصرناها هنا

تمشيا مع حجم هذا الكتاب.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 182 و 183.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:233

ما أظهره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاما، و استطاع بها أن يحيي بها تلك الامة الميّتة قد تلقاها من الراهب «بحيرا» في هذه السنفرة. و يقولون: إن «محمّدا» بما تمتع به من قوة ذاكرة، و صفاء نفس و دقة فكر، و عظمة روح وهبته اياها يد القدر، أخذ من الراهب «بحيرى» في لقائه به، قصص الأنبياء السالفين و الاقوام البائدة مثل عاد و ثمود، و كثيرا من تعاليمه الحيوية.

(1) و لا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم و لا ينسجم مع حياته صلّى اللّه عليه و آله، بل و تكذبه الموازين العقلية، و إليك بعض الشواهد على هذا:

(2) 1- لقد كان «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله باجماع المؤرخين اميّا، لم يتعلم القراءة و الكتابة، و كان عند سفره الى الشام، و لقائه ب «بحيرا» لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد، فهل يصدّق العقل- و الحال هذه- أن يستطيع صبي لم يدرس و لم يتعلّم القراءة و الكتابة و لم يتجاوز ربيعة الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من «التوراة» و «الإنجيل»، ثم يعرضها- في سن الاربعين- على الناس بعنوان الوحي الالهيّ و الشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية، بل ربما يكون من الامور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الاستعداد البشري.

(3) 2- إن مدة هذا اللقاء كان أقل بكثير من أن يستطيع محمّد صلّى اللّه عليه و آله في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب «التوراة» و «الانجيل»، لأن هذه الرحلة كانت

رحلة تجارية و لم يستغرق الذهاب و الاياب و الاقامة اكثر من أربعة أشهر، لأن قريشا كانت تقوم في كل سنة برحلتين، في الصيف إلى «اليمن»، و في الشتاء إلى «الشام»، و مع هذا لا يظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر، و لا يستطيع اكبر علماء العالم و اذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جدا محتويات دينك الكتابين، فضلا عن صبي لم يدرس، و لم يتعلم القراءة و الكتابة من احد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:234

هذا مضافا إلى أنه لم يكن يصاحب صلّى اللّه عليه و آله ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الذي وقع اتّفاقا في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

(1) 3- إن النص التاريخي يشهد بأن «ابا طالب» كان ينوي اصطحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الشام، و لم يكن مقصده الأصلي «بصرى» بل إن «بصرى» كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحيانا، و لفترة جدا قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة، و يشتغل بتحصيل علوم «التوراة» و «الانجيل» و معارفهما؟ سواء قلنا بأن «ابا طالب» أخذه معه الى الشام، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد الى مكة؟!

و على كل حال فان مقصد القافلة و مقصد «ابي طالب» لم يكن «بصرى» ليقال: ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها، بينما اغتنم «محمّد» الفرصة و اشتغل بتحصيل معارف العهدين.

(2) 4- إذا كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد تلقى امورا و معارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين

قريش حتما، و لتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافا إلى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه ما كان يستطيع أن يدعي أمام قومه في ما بعد بأنه أمي لم يدرس كتابا، و لا تلمذ على أحد، في حين أن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله افتتح رسالته بهذا العنوان، و لم يقل أحد، يا محمّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ و لم تدرس عند احد و قد درست عند راهب «بصرى» و تلقيت منه هذه الحقائق الناصعة و أنت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وجّه مشركوا مكة جميع انواع الاتهام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته، حتى أنهم عند ما شاهدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة عند

سيد المرسلين ،ج 1،ص:235

«مروة» يجالس غلاما نصرانيا استغلوا تلك الفرصة و قالوا: لقد أخذ «محمّد» كلامه من هذا الغلام، و يروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله:

«و لقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لسان الّذي يلحدون إليه أعجميّ و هذا لسان عربيّ مبين» «1».

و لكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشا المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبدا، و هذا هو بعينه دليل قاطع و قوي على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا، و من نسج خيالهم!! (1) 5- إن قصص الأنبياء و الرسل التي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض و تتنافى مع ما جاء في التوراة و الانجيل.

فقد ذكرت قصص الأنبياء و احوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جدا، و طرحت بشكل

لا ينفق مع المعايير العلمية و العقلية مطلقا، و ان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب و بين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم و معارفة لم تتخذ من ذينك الكتابين بحال، و لو أن النبيّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد اكتسب معارفه و معلوماته حول الأنبياء و الرسل من العهدين لجاء كلامه مزيجا بالخرافات و الأوهام «2».

(2) 6- إذا كان راهب «بصرى» يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية و العلميّة التي عرضها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما ذا لم يحض هو بأي شي ء من الشهرة، لما ذا ترى لم يربّ غير «محمّد» في حين أن معبده كان مزار الناس و مقصد القوافل؟! (3) 7- يعتبر الكتاب المسيحيّون «محمّدا» صلّى اللّه عليه و آله رجلا أمينا صادقا، و الآيات القرآنية تصرح بأنه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن على علم مسبق

______________________________

(1) النحل: 103.

(2) تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم، بين ما جاء في نصوص العهدين (التوراة و الإنجيل) و قد تصدى بعض الكتاب الإسلاميين لمثل هذه المقارنة، و قد تعرضنا لها أيضا في بعض دراساتنا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:236

أصلا بقصص الأنبياء و الامم السابقين، و أن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة «القصص» الآية (44) هكذا: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ».

و جاء في سورة «هود» الآية (49) بعد نقل قصة نوح: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا».

إن هذه الآيات توضح أن

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن على علم أبدا بهذه الحوادث، و الوقائع.

و هكذا جاء في الآية (44) من سورة «آل عمران»: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ».

إن هذه الآية و غيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن طريق الوحي فقط، و هو لم يكن على علم بها مطلقا.

(1)

نظرة إجماليّة إلى التوراة الحاضرة:
اشارة

إنّ هذا الكتاب السماويّ تورّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء و المرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا، و ها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو كان قد أخذ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلما ذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل التي انطوى عليها «التوراة» و «الانجيل».

و إليك بعض ما جاء حول الأنبياء و المرسلين في «التوراة» و «الانجيل» و نقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين (العهدين، و القرآن).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:237

(1)

1- داود عليه السّلام:

جاء في التوراة: «إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ، و كانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود و سأل عن المرأة، فقال واحد: إنها امرأة اوريّا فأرسل داود رسلا و أخذها فدخلت إليه، فاضطجع معها و هي مطهّرة من طمثها ثم رجعت الى بيتها، و حبلت المرأة، فأرسلت و أخبرت داود و قالت: إني حبلى، فأرسل داود إلى يؤاب يقول: اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة «1»، و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قد مات اوريّا رجلها ندبت بعلها، و لمّا مضت المناحة أرسل داود و ضمّها إلى بيته و صارت له امرأة، و ولدت له ابنا، و امّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب»!! «2».

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود، و ترميه بالزنا، و اكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه السّلام بأفضل الاوصاف اذ يقول (في الآية 15 و 16 من سورة النمل):

«وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ ... وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ».

2- النبيّ سليمان عليه السّلام:

تقول «التوراة» عن النبيّ العظيم سليمان عليه السّلام:

1- «و داود الملك ولد سليمان من التي لاوريّا»!! «3».

أي ان سليمان النبيّ الكريم- و العياذ باللّه- هو ابن زنا!!

______________________________

(1) أي في مقدمة الجيش المحارب.

(2) العهد القديم (التوراة): صموئيل، الثاني الاصحاح الحادي عشر 3 إلى 27.

(3) إنجيل متّى: الاصحاح الأول 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:238

2- و أحبّ الملك سليمان نساء غريبة ... من الذين قال عنهم الرب لبنيّ إسرائيل: لا تدخلون إليهم، و هم لا يدخلون إليكم لأنّهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبّة، و كانت له سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه و كان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود ابيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيد ونين، و ملكوم رجس العمونيين، و عمل سليمان الشرّ في عيني الرب، و لم يتبع الرب تماما كداود أبيه، فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل»!!! «1».

إن سليمان- حسب هذه التعابير التوراتية- يعشق النساء الاجنبيات، و يتقرب إليهن بصنع أصنام لهنّ. و يعبدها معهن، و يرتكب الشرور التي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه السّلام «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً» (النمل: 16).

و يقول: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ» (الأنبياء: 81).

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه، و أصطفاه لأداء رسالاته.

3- يعقوب عليه السّلام:

إنّ «التوراة» تصف النبي العظيم يعقوب عليه السّلام بأنه رجل كذّاب مخادع، أخذ النبوة من أبيه بالمكر و الخداع، «فعند ما شاخ اسحاق و كلّت عيناه عن النظر دعا

عيسو ابنه الاكبر، و طلب منه أن يصطاد له صيدا، و يصنع له طعاما جيدا حتى يباركه، و يعطيه النبوة، و لكن يعقوب (ابن إسحاق من رفقة

______________________________

(1) التوراة: الملوك الأول الاصحاح 11 العبارات 1: 11.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:239

زوجته الأخرى) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه و تظاهر بأنه عيسو، لابسا ثياب عيسو، و قطعا من جلود جديي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعرا و كان يعقوب املس الجسد، فبارك اسحاق ابنه يعقوب و منحه النبوة، و بعد ذلك قدم عيسو من الصيد، فعرف اسحاق بانه خدع، و أن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر، فارتعد اسحاق ارتعادا عظيما جدا و قال لعيسو متأسفا: قد جاء أخوك بمكر، و أخذ بركتك»!! «1».

هذا هو حال يعقوب في لسان «التوراة» المحرفة!!

و أما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر:

«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (الأنعام: 84).

و يقول تعالى أيضا:

«وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (ص:

45- 47).

4- إبراهيم عليه السّلام:

تقول «التوراة» عن إبراهيم عليه السّلام إنّه لمّا أراد أن يدخل مصر قال لزوجته سارة: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني، و يستبقونك، قولي إنك اختي، ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك.

و كذلك فعلت سارة و اخذت إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيرا

______________________________

(1) سفر التكوين: الاصحاح السابع و العشرون: 1 الى 46، و قد ذكرنا هذه

القصّة من التوراة بتلخيص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:240

بسببها، و صار له غنم، و بقر، و حمير، و عبيد، و إماء، و اتن، و جمال، و لما عرف فرعون- في ما بعد- ان سارة زوجة ابراهيم، و ليس اخته عاتبه قائلا: لما ذا لم تخبرني إنها امرأتك، لما ذا قلت: هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي و الآن هو ذا امرأتك، خذها و اذهب» «1».

إن ابراهيم الخليل عليه السّلام في وصف التوراة رجل كذاب، يكذب و يحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف، و يعتبره أعظم الأنبياء اذ يقول عنه انه:

1- حنيف موحّد للّه: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً» (آل عمران: 67).

2- إمام الناس: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» (البقرة: 134).

3- مسلم: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» (آل عمران: 67).

4- حليم: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» (التوبة: 84).

5- امة كاملة بمفرده: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» (النحل: 120).

6- أواه يخشى اللّه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ» (التوبة: 84).

7- مصطفى: «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (ص: 48).

8- ذو قلب سليم: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الصافات: 48).

5- المسيح عليه السّلام:

إن عيسى- حسب رواية الإنجيل- يحتقر أمه، و يزدري بها، فذات يوم جاء إخوته و أمه و وقفوا خارجا و أرسلوا يدعونه، و كان الجمع جالسا حوله، فقالوا له «هو ذا امّك و إخوتك خارجا يطلبونك، فأجابهم قائلا: من أمي و إخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين و قال: ها امّي و إخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة اللّه هو أخي و اختي و امّي»!! «2»

______________________________

(1) سفر التكوين: الاصحاح الثاني عشر 1- 20.

(2) إنجيل مرقس: الاصحاح الثالث 31- 35.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:241

إنه يقول هذا الكلام عن امّه التي وصفها القرآن الكريم بأن اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين «1».

إنه

يفضّل تلاميذه الذين لم يؤموا به في قلوبهم ذرة من خردل، و الذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود «2»- كما يقول الانجيل- على أمه الصدّيقة.

كما إن الانجيل يقول: إن المسيح حوّل الماء الى الخمر في عرس «3» بل يقول إنه عليه السّلام: شرب الخمر «4»، و الحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.

هذا هو «عيسى» النبي الطاهر و حواريوه حسب رواية الانجيل!! «5».

أما القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله «الانجيل» و إليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول «المسيح» عليه السّلام.

قال اللّه تعالى: «وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة: 78).

و قال تعالى أيضا: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ» (النساء:

171)

و يكفي في عظمة المسيح عليه السّلام و علو شأنه انه عليه السّلام كلّم الناس في المهد صبيا و قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي

______________________________

(1) آل عمران: 42.

(2) انجيل متّى: الاصحاح السابع و العشرون 1- 6 انظر كيف وافق يهوذا الاسخر يوطي و هو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح، و أيضا راجع نفس السفر: الاصحاح السادس و العشرين، و راجع انجيل متّى: الاصحاح العاشر أيضا.

(3) إنجيل يوحنا: الاصحاح الثاني 1- 11.

(4) إنجيل لوقا: الاصحاح الأول 15 و غيره.

(5) على أنّ خرافات التوراة و الانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا، و للتوسع راجع: أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام، و الهدى الى دين المصطفى للعلامة البلاغي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:242

جَبَّاراً شَقِيًّا. وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ

أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (مريم: 30- 34).

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام، و الرسل العظام، و تلك هي مواقف «التوراة» و «الانجيل» المشينة، المسيئة الى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته، فكيف يعقل ان يكون القرآن الكريم مقتبسا من تلك الكتب و بينهما بعد المشرقين؟!

ثم لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد اطّلع على هذه القضايا و القصص قبل إخباره بنبوّته فلما ذا لم يرشح منها شي ء في أحاديثه قبل الرسالة و قد عاش بين قومه طويلا.

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ و الجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن يأتي لهم بقرآن غير الذي جاء به:

«قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1».

فالآية تؤكد على أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا بثا في قومه، و لم يكن تاليا لسورة من سور القرآن، أو آيا من آياته، فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة «2».

______________________________

(1) يونس: 16.

(2) للتوسّع راجع مفاهيم القرآن: ج 3 ص 321- 323.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:243

(1)

8 فترة الشباب في حياة النبيّ الاكرم

اشارة

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان، لا يرهبون أحدا، و لا يخافون شيئا، يمتلكون قوة روحية كبرى، و يتمتّعون بصبر عظيم. و إرادة قوية، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء و الجبناء و المتردّدون، و ضعاف النفوس قيادة المجتمع، و الخروج به من المازق و المشاكل، و كيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم و يحافظوا كيانهم و شخصيّتهم من عدوان هذا او ذاك؟!

إن لعظمة القائد الروحية، و لقواه البدنية و

النفسية تأثيرا عظيما و عجيبا في أتباعه و أنصاره، فعند ما اختار الإمام امير المؤمنين عليه السّلام أحد اصحابه المخلصين لولاية «مصر» كتب إلى أهل «مصر» المظلومين الذين ذاقوا الأمرين على أيدي ولاتهم السابقين كتابا ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد، الروحية و قدرته النفسية الفائقة، و إليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الذي يعكس الشروط و المواصفات الواقعية في القائد:

«أما بعد فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء (ساعات الروع، أشدّ على الفجار من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:244

سيوف اللّه، لا كليل الظبّة، و لا نابي الضريبة» «1».

(1)

رسول اللّه و قدرته الروحيّة:

لقد كانت آثار الشجاعة، و القوّة بادية في جبين عزيز قريش منذ طفولته و صباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، و قبيلة هوازن من جهة اخرى، و تدعى «حرب الفجار»، و قد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النبل.

فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كنت انبّل على أعمامي» «2».

إن مشاركته صلّى اللّه عليه و آله في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلّى اللّه عليه و آله و قدرته الروحية الكبرى، و تساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في حق النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله: «كنّا اذا أحمر البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه»

«3».

و سوف نشير- و بعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار و المشركين- إلى نظام العسكرية الاسلامية، و كيفية جهاد المسلمين و قتالهم لأعدائهم التي تمّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو في نفسه من الابحاث الشّيقة في تاريخ الإسلام.

(2)

حروب الفجار:
اشارة

إنّ الحديث بتفصيل عن هذه الوقائع و عن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الرسائل، الرقم 38.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 186، و قد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث و ضبط الكلمة «انبل» مشدّدة «انبّل»: «إذا ناولته النبل يرمي» راجع مادّة نبل.

(3) نهج البلاغة: فصل في غريب كلامه الرقم 9.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:245

خارج عن إطار هذه الدراسة، بيد أننا- مع ذلك- نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب التي شارك في إحداها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بناء على رواية بعض المؤرخين و حوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال و الاغارة، و قد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، و اضطراب امورهم، و لأجل هذا كانوا يحرّمون القتال و يتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام (هي شهر رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم) ليتسنى لهم- في هذه المدة- أن يقيموا أسواقهم، و يستغلّوها بالكسب و التجارة و البيع و الشراء «1».

(1) و لهذا كانت أسواق «عكاظ» و «مجنّة» و «ذو المجاز» تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى و تجمعات حافلة و حاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ و الصديق جنبا الى جنب، يتبايعون، و يتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبار خطباء العرب و فصحاؤهم خطبا قوية، و

أحاديث في غاية الفصاحة و البلاغة، و كان اليهود و النصارى و الوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف او وجل.

و لكن هذه الحرمة قد هتكت أربع مرات في تاريخ العرب، و تقاتلت القبائل العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، و لهذا سمّيت تلك الحروب بحروب «الفجار»، و في ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال:

(2)

الفجار الأوّل:

و وقعت الحرب فيها بين قبيلتي «كنانة» و «هوازن» و جاء في سبب نشوب

______________________________

(1) يستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: «إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات و الأرض منها أربعة حرم» أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية، و كانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعا لسنّة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:246

هذه الحرب أن رجلا يدعى «بدر بن معشر» كان قد أعدّ لنفسه مكانا في سوق «عكاظ» يحضر فيه، و يذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهرا سيفه يقول:

أنا و اللّه أعزّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجل من قبيلة اخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس و تنازعت القبيلتان، و لكنهما اصطلحتا من دون أن يقتل أحد «1».

(1)

الفجار الثّاني:

و كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من «بني عامر» و هي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك، فلم تفعل، فقام غلام منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناس، و اشتجروا حتى كاد أن يكون قتال، ثم اصطلحوا، و انفضّوا بسلام.

(2)

الفجار الثالث:

و سببه أن رجلا من «كنانة» كان عليه دين لرجل من «بني عامر»، و كان الكناني يماطل، فوقع شجار بين الرجل، و استعدى كل واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناس، و تحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال، ثم اصطلحوا.

(3)

الفجار الرابع:

و هي الحرب التي- قيل أنه- شارك فيها النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد ادّعى البعض أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يومذاك في الخامسة عشرة، او الرابعة عشرة من عمره.

______________________________

(1) و لقد كان ممّا أزاله الإسلام و محاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت، و ستعرف هذا في الابحاث القادمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:247

و قال بعض: انه كان في العشرين من عمره و حيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة «1».

(1) و قيل في سببه: أن «النعمان بن المنذر» ملك الحيرة كان يبعث الى سوق «عكاظ» في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له حتى تباع هناك، و يشتري بثمنها من أقمشة «الطائف» الجميلة المرزكشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها «عروة الرجال الهوازني» في تلك السنة، و لكن «البراض بن قيس الكناني» انزعج لمبادرة «عروة» الى ذلك، فشكاه عند «النعمان بن المنذر» و لم يجد اعتراضه و شكواه، فحسد على «عروة» حسدا شديدا، فتربّص به حتى غدر به في أثناء الطريق، و بذلك لطّخ يده بدم هوازني.

(2) و كانت قريش يومذاك حليف كنانه، و قد اتفق وقوع هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب و التجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشا بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، و لهذا عرفت قريش و حليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن، و أسرعوا في الخروج من «عكاظ»

و توجهوا نحو الحرم (و الحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة، و كانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) و لكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشا و حليفتها فورا، و ادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، و لما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت «قريش» و حليفتها فرصة الليل، و واصلت حركتها باتجاه الحرم المكي و بذلك نجت من خطر العدو.

و منذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش و حليفتها من الحرم بين الفينة و الاخرى و تقاتل هوازن، و قد شارك النبي- صلّى اللّه عليه و آله في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الذي مرّ بيانه.

و قد استمر الأمر على هذه الحال مدة أربع سنوات، حتى ان وضعت نهاية

______________________________

(1) التاريخ الكامل: ج 1 ص 358 و 359، السيرة النبوية: ج 1 ص 184 الهامش، تاريخ الخميس:

ج 1 ص 259.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:248

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن «1».

و قد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذور دينية، و حيث أن حرب «الفجار» استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلّى اللّه عليه و آله فيها وجها وجيها و هو الدفاع، خاصة انه لما سئل صلّى اللّه عليه و آله عن مشهده يومئذ فقال: «ما سرّني أنّي أشهده، إنّهم تعدّوا على قومي عرضوا (اي قريش) عليهم (اي على هوازن) أن يدفعوا إليهم البرّاض صاحبهم (اي الذي قتل عروة) فأبوا» «2».

و يحتمل أن تكون مشاركته صلّى اللّه عليه و آله في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة أربعة اعوام، و إنما سميت مع

ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحرم.

و بذلك لا يبقى مجال لأن تستبعد مشاركة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بعض أيام تلك الحرب.

(1)

حلف الفضول:

لقد كان في ما مضى ميثاق و حلف بين الجرهميين يدعى بحلف «الفضول»، و كان هذا الحلف يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين، و كان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل، و اسماؤهم- كما نقلها المؤرخ المعروف «عماد الدين ابن كثير»- هي عبارة عن:

«فضل بن فضالة»، و «فضل بن الحارث»، و «فضل بن وداعة» «3»، و حيث أن الحلف الذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحدا في الهدف (و هو الدفاع عن حقوق المظلومين» مع حلف «الفضول» لذلك سمّي هذا الاتفاق

______________________________

(1) سيره ابن هشام: ج 1 ص 184- 187، الأغاني: ج 22 ص 56- 75.

(2) الأغاني: ج 22 ص 73.

(3) البداية و النهاية: ج 1 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:249

و هذا الحلف بحلف «الفضول» أيضا.

(1) فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاما دخل رجل من «زبيد» في مكة في شهر ذي القعدة، و عرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه «العاص بن وائل»، و حبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشا، و طلب منهم أن ينصروه على العاص، و قريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار و النفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته يا للرّجال و بين الحجر و الحجر

إن الحرام لمن تمّت كرامته و لا حرام لثوب الفاجر القذر فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، و هيّجت غيرتهم، (2) فقام «الزبير بن عبد المطّلب» و عزم على نصرته،

و أيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار «عبد اللّه بن جدعان» و تحالفوا و تعاهدوا باللّه ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مشوا إلى «العاص بن وائل» فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

و قد أنشد الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعرا فقال:

إن الفضول تعاقدوا و تحالفواألّا يقيم ببطن مكّة ظالم

أمر عليه تعاقدوا و تواثقوافالجار و المعترّ فيهم سالم و قال أيضا:

حلفت لنعقدن حلفا عليهم و إن كنّا جميعا أهل دار

نسمّيه «الفضول» إذا عقدنايعزّبه الغريب لذي الجوار

و يعلم من حوالي البيت أنّااباة الضيم نمنع كلّ عار «1» (3) و قد شارك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في هذا الحلف الذي ضمن حقوق المظلومين و حياتهم، و قد نقلت عنه صلّى اللّه عليه و آله عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف و يعتزّ فيها بمشاركته فيه و ها نحن ننقل حديثين منها في

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 1 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:250

هذا المقام.

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت».

(1) كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف: «ما احبّ أنّ لي به حمر النعم».

و لقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة و احترام قويّين في المجتمع العربي و الإسلامي حتى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه و العمل بموجبه، و يدل على هذا قضية وقعت في عهد إمارة «الوليد بن عتبة» الأموي «1» على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السّلام و

بين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السّلام، و يبدو أن «الوليد» تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الإمام السبط الذي لم يرضخ لحيف قط، و لم يسكت على ظلم أبدا:

«أحلف باللّه لتنصفنّي من حقّي، أو لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ لأدعونّ بحلف الفضول» «2».

(2) فاستجاب للحسين فريق من الناس منهم «عبد اللّه بن الزبير»، و كرّر هذه العبارة و أضاف قائلا: و أنا أحلف باللّه لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينصف من حقّه أو نموت جميعا.

و بلغت كلمة الحسين السبط عليه السّلام هذه إلى رجال آخرين كالمسورة بن مخرمة بن نوفل الزهري» و «عبد الرحمن بن عثمان» فقالا مثل ما قال «ابن الزبير»، فلما بلغ ذلك «الوليد بن عتبة» أنصف الحسين عليه السّلام من حقه حتى رضي «3».

______________________________

(1) من قبل عمّه معاوية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 132.

(3) البداية و النهاية: ج 2 ص 293.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:251

(1)

9 من فترة الشباب الى مزاولة التجارة

اشارة

يحمل القادة الالهيون العظماء و أصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسئوليات كبرى، و مهام عظمى تلازم- في الأغلب- التعرض للمتاعب و المصاعب، و العذاب، و تحمل الأذى، بل و ربما التعرض للقتل و الاغتيال، و كلما كبرت الاهداف، عظمت المشاكل، و المتاعب.

و على هذا الاساس، فان نجاح القادة الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم و استقامتهم في وجه الاتهامات و المضايقات، و في وجه الأذى و العذاب، لأن الصبر و التحمل في جميع مراحل الجهاد و العمل هو الشرط الاساسيّ للوصول الى المقصود، و الى تحقيق الهدف المنشود و الغاية المطلوبة.

(2) من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو،

و ليس له ان ينسحب، أو يضعف لقلّة الاتباع و المؤيدين و بالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فيخور عزيمته، او ترخو إرادته، مهما عظمت حلق البلاء و اشتدت، و مهما تزايدت، أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأنبياء و قصصهم امورا يعسر على الانسان العاديّ هضمها، و يصعب تصوّرها.

فعن نوح النبيّ عليه السّلام نقرأ أنه دعا قومه تسعمائة و خمسين عاما، و لم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنية سوى قلة من المؤمنين و المؤيدين الذين لم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:252

يتجاوز عددهم الواحد و الثمانين، و هذا يعني أنه لم يوفق في كل اثنى عشر عاما إلا لهداية شخص واحد.

إنّ إرادة الصبر، و قوّة التحمّل، و التصبر تظهر لدى الإنسان شيئا فشيئا، فلا بدّ أن تتلاحق حوادث صعبة، و لا بد أن يمرّ المرء بنوائب مزعجة حتى تأنس روحه بالامور الثقيلة، و القضايا الصعبة.

(1) لقد قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شطرا من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري و القفار، ليكون بذلك صبورا في تربية الناس الذين سيكلّف بقيادتهم و هدايتهم، و ليستسهل كل صعب في هذا المجال.

إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الامور التي تواجه القادة، و رجال الاصلاح. و المقدرة على الإدارة هذه لا تسنح و لا تتهيّأ لأحد إلّا بعد مزاولة الامور الصعبة، و ممارسة الأعمال الشاقة، و ربما يكون قيام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله برعي الغنم من هذا الباب، و لهذا جاء في الحديث.

«ما بعث اللّه نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم ليعلّمه بذلك رعية النّاس» «1».

لقد قضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شطرا من عمره الشريف في هذا المجال، و ينقل كثير من أرباب

السير و المؤرخين هذه العبارة عنه صلّى اللّه عليه و آله:

«ما من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم» قيل: و أنت يا رسول اللّه؟

فقال: «أنا رعيتها لأهل مكّة بالقراريط» «2».

(2) إن شخصية عظيمة يفترض فيها أن تواجه- في المستقبل- أشخاصا عنودين كأبي جهل و أبي لهب، و أن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتى أنهم سجدوا لكل حجر و مدر، أفرادا لا يخضعون لأي شي ء سوى ارادة الحق و مشيئته، لا بدّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر، و تتجهز بأداة التحمل، و تتزود مسبقا بقدرة الاستقامة على طريق الهدف، و هذا لا يكون إلّا بتعويد النفس على هذه

______________________________

(1) سفينة البحار: مادّة نبأ.

(2) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 166.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:253

الصفات، و حملها على مشاق الاعمال:

(1)

سبب آخر لرعي الغنم:

و يمكن أن نذكر هنا سببا آخر أيضا و هو ان رجلا حرّ النفس و العقل كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجري في شرايينه و عروقه دماء الغيرة و الشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك الظلم و الحيف الذي كان يمارسه طغاة مكة، و عتاة قريش و زعماؤها الظالمون القساة بحق الضعفاء، و المحرومين، و كذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان و الفسوق في حرم اللّه، و عند بيته المعظم.

إن اعراض سكّان مكة عن عبادة اللّه الواحد الحق، و طوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي- بلا ريب- أسوأ و اقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم، و العاقل العالم، و اثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يقضي ردحا من الزمن في الصحاري و القفار و عند سفوح الجبال التي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن

تلك المجتمعات الفاسدة و أحوالها و أوضاعها، ليستريح (أو يتخلص) بعض الشي ء من آلامه الروحية الناشئة من رؤية تلك الأوضاع المزرية، و الأحوال المشينة.

(2) على أنّ هذا الأمر لا يعني أن للرجل المتقي أن يسكت على الفساد و الظلم، و يقرّ عليهما.

و يفرّق بين حياته و حياة الآخرين و يعتزل عنهم و يتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة، و الاحوال الشاذة، بل ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما كان مأمورا من جانب اللّه سبحانه بالسكوت و الانتظار، لانه لم تكن ظروف «البعثة» و الهداية قد توفرت و تهيأت بعد لذلك اتخذ صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا الموقف.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:254

(1)

سبب ثالث:

و لقد كان هذا العمل (أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري و القفار و عند السهول و سفوح الجبال) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من النظر في خلق السماوات و التطلع في النجوم و الكواكب و أحوالها و أوضاعها، و بالتالي الامعان في الآيات الأنفسية و الآفاقية التي هي جميعا من آيات وجود اللّه تعالى، و من مظاهر قدرته و حكمته و علمه و إرادته.

ان قلوب الأنبياء و المرسلين مع أنها منوّرة بمصابيح المعرفة المشرقة و مضاءة بأنوار الايمان و التوحيد منذ بدء فطرتها، و خلقتها، و لكنهم مع ذلك لا يرون أنفسهم في غنى عن النظر في عالم الخلق، و التفكر في الآيات الالهية، اذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان، و يبلغون اسمى درجات اليقين، و بالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات و الأرضين.

(2)

اقتراح أبي طالب:

لقد دفع وضع (محمّد) المعيشي الصعب «أبا طالب» سيد قريش و زعيمها الذي كان معروفا بالسخاء و موصوفا بالشهامة، و علو الطبع، و إباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

و من هنا اقترح على ابن أخيه «محمّد» العمل و التجارة بأموال «خديجة بنت خويلد» التي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم، و مال كثير، تستأجر الرجال في مالها أو تضاربهم اياه بشي ء تجعله لهم منه.

فقد قال أبو طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بما لها اكثر الناس و هي تبحث عن رجل أمين، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك، و فضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك.

(3) و لكن إباء

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علوّ طبعه، منعاه من الإقدام

سيد المرسلين ،ج 1،ص:255

بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّه: فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ «خديجة» بنت خويلد، ما دار بين النبيّ و عمه «أبي طالب»، فبعثت إليه فورا تقول له: إنّي دعاني الى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك و عظم أمانتك، و كرم أخلاقك، و أنا اعطيك ضعف ما اعطي رجلا من قومك و ابعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

فاخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه بذلك فقال له ابو طالب: «إنّ هذا رزق ساقه اللّه إليك» «1».

هل عمل النبي أجيرا لخديجة؟

(1) و هنا لا بدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال و هي:

هل عمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجيرا في أموال خديجة، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اخرى كالمضاربة، و ذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة؟

انّ مكانة البيت الهاشميّ، و إباء النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، و مناعة طبعه، كل تلك الامور و الخصال توجب أن يكون عمل النبي في أموال خديجة قد تمّ بالصورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، و تؤيّد هذا المطلب أمور هي:

(2) أولا: انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة و لا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل و قال:

«امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتى نسألها

ان تعطي محمّدا مالا يتّجر به «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 22، السيرة الحلبية ج 1 ص 132 و 133، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 24.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 22.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:256

(1) ثانيا: ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب تاريخه: ان النبي ما كان أجيرا لأحد قط «1».

ثالثا: ان الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة» بأن «خديجة» كانت تضارب الرجال في مالها، بشي ء تجعله لهم منه (اي من ذلك المال او من ربحه) «2».

(2) تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر الى الشام، و فيها أموال «خديجة» أيضا، في هذا الاثناء جعلت «خديجة» بعيرا قويا و شيئا من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله) و امرت غلاميها (ميسرة و ناصح) اللذين قررت ان يرافقاه صلّى اللّه عليه و آله، بان يمتثلا أوامراه، و يطيعاه، و يتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، و لا يخالفاه في شي ء «3».

و أخيرا وصلت القافلة إلى مقصدها و استفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحا، إلا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ربح اكثر من الجميع، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق «تهامة».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «مكة» بعد ذلك المكسب الكبير، و الحصول على الربح الوفير.

و لقد تسنى لفتى قريش «محمّد» أن يمرّ- للمرة الثانية في هذه السفرة- على ديار عاد و ثمود.

(3) و قد حمله الصمت الكبير الذي كان يخيّم على ديار و اطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية الى العوالم الاخرى اكثر فاكثر، هذا مضافا إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره و ذكرياته في السفرة الاولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه

«ابي طالب» هذه الصحاري نفسها و هذه القفار ذاتها، و ما كان يحظى

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 21.

(2) بحار الأنوار ج 16 ص 9 نقلا عن معالم العترة.

(3) قالت خديجة لهما: اعلما أنني قد أرسلت إليكما أمينا على أموالي و أنّه أمير قريش و سيّدها، فلا يد على يده، فإن باع لا يمنع و إن ترك لا يؤمر و ليكن كلامكما له بلطف و أدب و لا يعلو كلامكما على كلامه بحار الأنوار: ج 16 ص 29.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:257

فيها من عمه من الحدب و العناية.

(1) و عند ما اقتربت قافلة قريش إلى «مكة»، و صارت عند مشارفها، التفت «ميسرة» غلام خديجة، الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: «يا محمّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة، فاستقبل بخديجة و أبشرها بربحنا» فأخذ النبي باقتراح ميسرة، و سبق القافلة العائدة في الدخول الى مكة، و توجه نحو بيت «خديجة» بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلما رأت النبي مقبلا عليها، نزلت من منظرتها و ركضت نحوه و استقبلته، و أدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما ربحوا، ببيان جميل، و كلام بليغ، فسرت «خديجة» بذلك سرورا عظيما، ثم قدم «ميسرة» في الأثر، و دخل عليها، و أخبرها بكل ما رآه و شاهده من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك السفرة من الكرامة و الخير، و الخلق العظيم، و الخصال الكريمة، و من الامور التي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلّى اللّه عليه و آله، و سمو خصاله «1»، و من جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع

بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل تلاح و جدال في بيع قال له ذلك الرجل: احلف باللات و العزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حلفت بهما قط، و إني لأمرّ فاعرض عنهما «2».

(2) و حدثها أيضا بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحا فقال راهب كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة-: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال: «هو نبيّ و هو آخر الأنبياء، إنه هو هو و منزّل الانجيل، و قد قرأت عنه بشائر كثيرة» «3».

______________________________

(1) الخرائج: ص 186، بحار الأنوار: ج 16 ص 5.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 130 و في بحار الأنوار: ج 16 ص 18: انه صلّى اللّه عليه و آله قال:

إليك عني ثكلتك امّك فما تكلّمت العرب بكلمة اثقل عليّ من هذه الكلمة.

(3) بحار الأنوار: ج 16 ص 18، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 130، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 24 و 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:258

(1)

خديجة زوجة الرّسول الاولى:
اشارة

حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الاقتصادية و وضعه المالي يحسد عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، و لم يكن شغله على النحو الذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، و تمكينه من اختيار زوجة و شريكة حياة و تكوين عائلة، من جانب آخر.

و لكن هذه السفرة إلى الشام و بخاصة على نحو الوكالة و المضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت و الى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي و تقوية بنيته المالية.

و لقد اعجبت

«خديجة» بعظمة فتى قريش و سموّ أخلاقه، و مقدرته التجارية حتى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديرا له، و اعجابا به، و لكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه «أبي طالب» و قدّم كل ما أخذه من «خديجة» الى عمه «أبي طالب» ليوسّع به على أهله.

(2) ففرح «أبو طالب» بما عاين من ابن اخيه، و بقية أبيه «عبد المطلب»، و أخيه «عبد اللّه» و اغرورقت عيناه بالدموع، و سرّ بما حقق من نجاح و ما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سرورا كبيرا، و استعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما و يتاجر، و راحلتين يصلح بهما شأنه، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة و مال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عزما قاطعا على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة و يكوّن اسرة، و لكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» التي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج التي تقدم بها كبار الاثرياء و الشخصيات القرشية مثل «عاقبة بن أبي معيط»، و «أبو جهل» و «أبو سفيان» للزواج بها؟؟!، و ما ذا كانت العلل التي جمعت هذين الشخصين غير المشابهين، من حيث مستوى الحياة، و الثراء؟ و كيف ظهرت تلك الرابطة القوية، و تلك العلاقة المعنويّة العميقة، و الالفة و المحبة بينهما إلى درجة أنّ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:259

«خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لينفقها في نشر الإسلام، و إعلاء كلمة الحق، و إرساء قواعد التوحيد، و بث الدين الجديد، و أصبحت تلك الدار المفخمة التي كانت تزينها الكراسي المرصّعة،

و الستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، و الإيرانية، ملجأ للمسلمين، و ملتقى لانصار الرسالة؟!!

(1) لا بدّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فان من المسلّم و البديهيّ أن هذا النوع من الفداء، و التفاني و الإيثار لم يكن ثابتا ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية و طاهرة.

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئا من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش و فتاها الامين «محمّد» و طهره، و حبها الشديد لعفته و كرم أخلاقه، و لهذا قال النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في حقها:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة ...» «1».

إنها أول امرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام: في خطبته التي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة:

«لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه و خديجة و أنا ثالثهما» «2».

(2) و يكتب «ابن الأثير» قائلا: إنّ عفيف الكندي كان امرأ تاجرا قدم مكة أيام الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراة تصلّي معه، ثم خرج غلام فقام يصلي معه، فمضى يسأل العباس عمّ النبيّ عن هؤلاء، و عن هذا الدين، فقال العباس:

______________________________

(1) خصال الصدوق: ج 1 ص 96 و غيره.

(2) الكامل: ج 2 ص 37، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي: ج 13 ص 197- 201.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:260

هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله، و هذه امرأته خديجة آمنت به، و هذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، و أيم اللّه ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على هذا الدين إلّا

هؤلاء الثلاثة «1».

و ينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

خديجة في أحاديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله:

لقد اكتسبت «خديجة» بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية، و تفانيها في سبيل الاسلام، و بسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة و سلامته، و عملها المخلص على انجاح مهمته، و مشاركتها الفعّالة، في دفع عجلة الدعوة الى الإمام، و مشاطرتها للنبي في اكثر ما تحمله من محن و أذى بصبر و استقامة وحب و رغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا و غيره مكانة سامية في الإسلام، حتى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة و أشاد بفضلها، و مكانتها و شرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات، و ذلك و لا شك ينطوي على اكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الاشادة بخديجة سلام اللّه عليها الفات نظر المرأة المسلمة الى القدوة التي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها و سلوكها في جميع المجالات و الأبعاد، و الظروف، و الحالات.

هذا مضافا إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة و هي نصف المجتمع (إن لم تكن اكثره أحيانا) من دعم جدّي للرسالة، ماديا كان أو معنويا.

و فيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة التي تعكس مكانة خديجة، و مقامها، و مدى إسهامها في نصرة الإسلام و دعم دعوته، و إرساء قواعده. سيد المرسلين ج 1 260 خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله: ..... ص : 260

عن أبي زرعة عن ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله]:

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 225 و 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:261

أتاني جبرئيل عليه السّلام فقال يا رسول اللّه هذه خديجة

قد أتتك و معها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب، فاذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها و منّي، و بشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب» «1».

2- عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، و لقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنت اسمعه يذكرها، و لقد أمره ربه عزّ و جلّ ان يبشرها ببيت من قصب في الجنة، و إن كان ليذبح الشاة ثم يهديها الى خلائلها (اي خليلاتها و صديقاتها) «2».

3- و عن عائشة أيضا قالت ما غرت على نساء النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم إلا على خديجة، و اني لم أدركها، (قالت): و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها الى اصدقاء خديجة قالت: «أي عائشة» فاغضبته يوما فقلت: خديجة!! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«اني قد رزقت حبّها» «3».

4- و من هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن و الاحتفال بهنّ:

فقد وقف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عجوز فجعل يسألها، و يتحفاها، و قال:

«ان حسن العهد من الايمان، انها كانت تأتينا أيام خديجة» «4»

5- و روي عن انس قال كان النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] إذا اتي بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة» «5»

______________________________

(1) صحيح مسلم: ج 7 ص 133، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 184 و 185 بطرق متعددة صحيحة على شرط الشيخين.

(2) صحيح مسلم: ج

7 ص 134، و مثلها في صحيح البخاري: ج 5 ص 38 و 39.

(3) صحيح مسلم: ج 7 ص 134، و مثلها في صحيح البخاري: ج 5 ص 38 و 39.

(4) شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد: ج 18، ص 108.

(5) سفينة البحار: ج 1 ص 380 (خدج).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:262

6- روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الايام فادركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك اللّه خيرا منها، فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني و كذّبني الناس و واستني في ما لها اذ حرمني الناس و رزقني اللّه منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء» قالت عائشة فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة ابدا «1».

7- عن يعلى بن المغيرة عن ابن ابي رواد قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم على خديجة في مرضها الذي ماتت فيه، فقال لها:

«يا خديجة أ تكرهين ما أرى منك، و قد يجعل اللّه في الكره خيرا كثيرا، أ ما علمت أن اللّه تعالى زوّجني معك في الجنة مريم بنت عمران، و كلثم اخت موسى و آسية امرأة فرعون ...» «2».

8- عن عكرمة عن ابن عباس قال خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربع خطط في الأرض و قال: أ تدرون ما هذا؟ قلنا: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل نساء الجنة

أربع: خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمّد، و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون» «3».

9- عن أنس جاء جبرئيل الى النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و عنده خديجة فقال: إن اللّه يقرئ خديجة السلام فقالت: إن اللّه هو السلام، و عليك السلام، و رحمة اللّه و بركاته «4».

10- عن أبي الحسن الأول (الكاظم) عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 5 ص 438، و رواها مسلم أيضا: ج 7 ص 134، و كذا البخاري: ج 5 ص 39 و قد حذفا آخرها من: فغضب حتى ... الى آخر الرواية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 347، و أسد الغابة: ج 5 ص 439.

(3) الخصال للصدوق: ج 1 ص 96، كما في بحار الأنوار: ج 16 ص 2.

(4) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 1816.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:263

اللّه عليه و آله: «إن اللّه اختار من النساء اربعا: مريم و آسية و خديجة و فاطمة» «1».

11- عن ابي اليقظان عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان و هو في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسمعته يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

«خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الايمان باللّه و بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله)» «2».

12- عن عروة قال قالت عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم: أ لا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و

آله] و سلّم، و خديجة بنت خويلد و آسية» «3».

13- عن أبي عبد اللّه (الصادق) عليه السّلام قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها و هي تقول: و اللّه يا بنت خديجة، ما ترين إلا أن لامك علينا فضلا، و أي فضل كان لها علينا؟! ما هي إلّا كبعضنا، فسمع صلّى اللّه عليه و آله مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمّد؟! قالت:

ذكرت امّي فتنقّصتها فبكيت، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. ثم قال:

«مه يا حميراء، فان اللّه تبارك و تعالى بارك في الودود الولود، و أن خديجة رحمها اللّه ولدت منّي طاهرا، و هو عبد اللّه و هو المطهّر و ولدت منّي القاسم، و فاطمة، و رقية، و أمّ كلثوم، و زينب، و أنت ممن أعقم اللّه رحمه فلم تلدي

______________________________

(1) الخصال: ج 1 ص 96، كما في البحار: ج 16 ص 2.

(2) المستدرك على الصحيحين: ح 3 ص 184- 186 و وردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم: ج 7 ص 133.

(3) المستدرك على الصحيحين: ح 3 ص 184- 186 و وردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم: ج 7 ص 133.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:264

شيئا» «1».

أجل هذه هي «خديجة بنت خويلد» شرف و عقل، و حب عميق لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وفاء و إخلاص، و تضحية بالغالي و الرخيص في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي «خديجة» أول من آمنت باللّه و رسوله، و صدّقت محمّدا فيما جاء به عن ربه، من النساء، و آزره، فكان

صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه من ردّ عليه، و تكذيب له الّا فرّج اللّه عنه بخديجة التي كانت تخفف عنه «2»، و تهوّن عليه ما يلقى من قومه، بما تمنحه من لطفها، و عطفها، و عنايتها به صلّى اللّه عليه و آله، في غاية الاخلاص و الودّ و التفاني.

و لهذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّها حبا شديدا و يجلّها و بقدرها حق قدرها «3»، و لم يفتأ يذكرها، و لم يتزوج عليها غيرها حتى رحلت وفاء لها، و احتراما لشخصها و مشاعرها، و كان يغضب إذا ذكرها احد بسوء، كيف و هي التي آمنت به اذ كفر به الناس، و صدّقته اذ كذّبه الناس، و واسته في ما لها اذ حرمه الناس.

و لهذا أيضا كان وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الذي توفي فيه ناصراه و حامياه، و رفيقا آلامه (زوجته هذه: خديجة بنت خويلد و عمه المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهما السّلام) بعام الحداد، او عام الحزن «4» و ان يلزم بيته و يقلّ الخروج «5»،

______________________________

(1) الخصال: ج 2 ص 37 و 38، كما في بحار الأنوار: ج 16، ص 3.

(2) اعلام النساء لعمر رضا كحالة: ج 1 ص 328.

(3) اعلام النساء: ج 1 ص 330.

(4) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35، و قد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال بهذه المناسبة:

«اجتمعت على هذه الامة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشدّ جزعا» المصدر نفسه، و راجع تاريخ الخميس: ج 1 ص 301 نقلا عن سيرة مغلطاى.

(5)

السيرة الحلبية: ج 1 ص 347، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس: ج 1 ص 302 و فيه إضافة: و نالت قريش منه ما لم تكن تنال.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:265

و أن ينزل صلّى اللّه عليه و آله عند دفنها في حفرتها، و يدخلها القبر بيده، في الحجون «1».

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها السّلام بعلي عليه السّلام اجتمعت نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يدخل الزهراء على (عليّ) عليه السّلام فاحدقن به و قلت:

فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ «خديجة» في الأحياء لقرّت بذلك عينها.

قالت أمّ سلمة: فلما ذكرنا «خديجة» بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: «خديجة و اين مثل خديجة، صدّقتني حين كذّبني الناس و وازرتني على دين اللّه و أعانتني عليه بمالها، إن اللّه عزّ و جلّ أمرني أن ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب (الزمرّد) لا صخب فيه و لا نصب» «2».

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا، و اكثرهنّ مالا، و احسنهن جمالا و أقواهنّ عقلا و فهما و كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدة عفافها و صيانتها «3» و يقال لها: سيدة قريش «4»، و كان لها من المكانة و المنزلة بحيث كان كل قومها و سراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها «5»، و قد خطبها- كما يحدثنا التاريخ- عظماء قريش و بذلوا لها الأموال، و ممن خطبها «عاقبة بن ابي معيط» و «الصلت بن ابي يهاب» و «ابو جهل» و «ابو سفيان» فرفضتهم جميعا، و اختارت رسول اللّه- و هي في سن

الأربعين و هو صلّى اللّه عليه و آله في الخامسة و العشرين- و هي تمتلك تلكم الثروة الطائلة، و هو صلّى اللّه عليه و آله لا يمتلك من حطام الدنيا إلّا الشي ء اليسير اليسير، رغبة في الاقتران به و لما عرفت فيه من كرم الأخلاق، و شرف النفس، و السجايا الكريمة و الصفات العالية، و هي ما كانت تبحث عنه في حياتها و تتعشقه و اذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 346.

(2) بحار الأنوار: ج 43 ص 131 نقلا عن كشف اليقين.

(3) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

(4) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

(5) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:266

أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلّى اللّه عليه و آله تلك الزوجة المطيعة الخاضعة، الوفية المخلصة، و تسارع الى قبول دعوته، و اعتناق دينه بوعي و بصيرة و ارادة منها و اختيار، و هي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر و متاعب، و تجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة و المبدأ، و تشاطر زوجها آلامه، و متاعبه، و ترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات و في سنّ الرابعة أو الخامسة و الستين. و هي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر و ثبات «1»، و دون أن يذكر عنها تبرّم او توجع.

هذا مضافا إلى أنها كانت تعامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة و النبوة، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كن ربما يثرن سخطه و غضبه، و يؤذينه في نفسه و أهله.

و إليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات،

و المؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضا، قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام:

«كنت أول من أسلم، فمكثنا بذلك ثلاث حجج و ما على الأرض خلق يصلّي و يشهد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما أتاه غيري، و غير ابنة خويلد رحمها اللّه و قد فعل» «2».

و قال محمّد بن اسحاق: كانت خديجة أول من آمن باللّه و رسوله و صدّقت بما جاء من اللّه، و وازرته على أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه، و كان لا يسمع شيئا يكرهه من ردّ عليه و تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بها اذا رجع إليها تثبّته، و تخفّف عنه، و تهوّن

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 59 قال: خديجة بنت خويلد و هي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محاصرة في الشعب.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 2 و مثله في روايات متعددة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 119 و 120.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:267

عليه امر الناس حتى ماتت رحمها اللّه «1».

و عنه أيضا: أن «خديجة بنت خويلد» و «ابا طالب» ماتا في عام واحد، فتتابع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هلاك خديجة و ابي طالب و كانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، و كان رسول اللّه يسكن إليها «2».

و قال أبو امامة ابن النقاش: ان سبق خديجة و تأثيرها في اول الإسلام و مؤازرتها و نصرتها و قيامها للّه بمالها و نفسها لم يشركها فيه احد لا عائشة و لا غيرها من امهات المؤمنين «3».

و

قد جاء في المنتقى: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما امر بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا، و أخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه، و تبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل، فسمع عليّ و خديجة بذلك فراحا يلتمسانه صلّى اللّه عليه و آله و هو جائع عطشان مرهق، و مضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي و هي تناديه بحرقة و ألم، و تبكي و تنحب، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول اللّه أ لا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ ادعها إليك فاقرأها مني السلام و قل لها: إن اللّه يقرئك السلام، و يبشّرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه و لا صخب فدعاها النبي صلّى اللّه عليه و آله و الدماء تسيل من وجهه على الارض و هو يمسحها و يردّها، و بقي رسول اللّه و صلّى اللّه عليه و آله، و علي و خديجة هناك حتى جنّ الليل فانصرفوا جميعا و دخلت به خديجة منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة و اظلّته بصخرة من فوق رأسه، و قامت في وجهه تستره ببردها و أقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فاذا جاءت من فوق راسه صخرة وقته الصخرة، و اذا رموه من تحته وقته الجدران الحيّط، و إذا رمي من بين يديه وقته خديجة رضى اللّه عنها بنفسها، و جعلت تنادي يا معشر قريش ترمى الحرّة

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 16، ص 10- 12.

(2) نفس المصدر.

(3) تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس: ج 1 ص 266.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:268

في منزلها؟

فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا عنه، و أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و غدا إلى المسجد يصلّي «1».

و لقد بلغ من خضوعها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حبّها له أنها بعد أن تم عقد زواجها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالت له صلّى اللّه عليه و آله: «إلى بيتك، فبيتي بيتك، و أنا جاريتك» «2».

و جاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: و لسبقها إلى الإسلام و حسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بغار حراء و قال له: اقرأ عليها السّلام من ربها و مني، و بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب، فقالت: هو السلام و منه السلام و على جبرئيل السلام، و عليك يا رسول اللّه السلام و رحمة اللّه و بركاته، و هذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به و ما يليق بغيره، قال ابن هشام و القصب هنا اللؤلؤ المجوف، و ابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلّى اللّه عليه و آله لما دعاها الى الايمان أجابت طوعا و لم تحوجه لرفع صوت و لا منازعة و لا نصب بل ازالت عنه كل تعب، و آنسته من كل وحشة، و هوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها التي بشرها بها ربها بالصفة المقابلة لفعلها و صورة حالها رضي اللّه عنها و اقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها، و تميزت أيضا بأنها لم تسؤه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و لم تغاضبه قط، و قد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها و بلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته «3».

افتخار اهل البيت بخديجة عليها السّلام:

و ما يدل على سمو مقامها و علو منزلتها أن اهل البيت عليهم السّلام طالما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 243

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 4 نقلا عن الخرائج و الجرائح ص 186 و 187.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 169 الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:269

افتخروا بأن خديجة منهم، و انهم من خديجة و قد كانوا يعتزون بها، و يشيدون بمكانتها:

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها و الحسن و الحسين عليهما السّلام جالسان تحت المنبر فذكر عليا عليه السّلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين عليه السّلام ليردّ عليه فأخذه الحسن بيده و أجلسه ثم قام فقال:

«أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن و أبي عليّ و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و امّك هند وجدي رسول اللّه و جدّك عتبة بن ربيعة و جدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن اللّه أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرّنا قديما و حديثا. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين «1».

و قيل: ان «الحسين» عليه السّلام ساير «أنس بن مالك» فاتى قبر خديجة فبكى ثم قال: اذهب عنّي قال «أنس»؛ فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته يقول:

يا ربّ يا ربّ أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقايشكو إلى ذي الجلال بلواه الى آخر الابيات «2».

هكذا كان اهل البيت النبوى- اقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحترمون خديجة و يكرمونها لما كان لها من شخصية عظيمة و لما اسدته الى الإسلام

و الى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على مرّ الدهور.

ان بيان و نقل الأحاديث و الروايات، و كذا الاقوال التي وردت في شأن خديجة و الحديث عن شخصيتها و مكانتها و مدى إسهامها في انجاح و نصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة، و نطاقها، لذلك نكتفي بهذه الالماعة

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16، ص 46 و 47.

(2) بحار الأنوار: ج 44 ص 193 نقلا عن عيون المحاسن.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:270

العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها إلى مجال آخر.

و لنعد إلى تبيّن الأسباب الظاهرية و الباطنية لزواجها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(1)

العلل الظاهرية و الحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

إن الإنسان الماديّ الذي ينظر الى كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي، و يفسره تفسيرا ماديا قد يتصور (و بالاحرى يظن) أن «خديجة» كانت امرأة تاجرة تهمّها تجارتها، و تنمية ثروتها، و لأنها كانت بجاجة ماسة الى رجل أمين قبل اي شي ء، لذلك وجدت ضالتها في محمّد الصادق الامين صلّى اللّه عليه و آله فتزوجت منه، بعد أن عرضت نفسها عليه و محمّد صلّى اللّه عليه و آله هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها و ثروتها، قبل بهذا العرض رغم ما كان بينه و بينها من فارق في السن كبير.

و لكن التاريخ يثبت أن ثمة أسبابا و عللا معنويّة لا مادية هي التي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش و فتاها الصادق الطاهر.

و إليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر:

(2) 1- عند ما سألت «خديجة» ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش «محمّد» فخبّرها ميسرة بما شاهد و رأى من «محمّد» في تلك السفرة، و بما سمعه من راهب الشام

حوله أحسّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم و رغبة شديدة نحوه كانت نابغه من اعجابها بمعنوية محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كريم خصاله، و عظيم أخلاقه، فقالت من دون إرادتها: «حسبك يا ميسرة؛ لقد زدتني شوقا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، اذهب فانت حر لوجه اللّه، و زوجتك و أولادك و لك عندي مائتا درهم و راحلتان» ثم خلعت عليه خلعة سنية «1».

ثم إنها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل و كان من حكماء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16، ص 52.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:271

العرب: فقال ورقة: «لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمّدا لنبيّ هذه الأمّة» «1».

(1) 2- مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما بمنزل «خديجة بنت خويلد» و هي جالسة في ملأ من نسائها و جواريها و خدمها و كان عندها حبر من أحبار اليهود، فلما مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نظر إليه ذلك الحبر و قال: يا خديجة مري من يأتي بهذا الشاب، فأرسلت إليه من أتى به، و دخل منزل «خديجة»، فقال له الحبر:

اكشف عن ظهرك فلما كشف له قال الحبر: هذا و اللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة: لو رآك عمه و أنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء و ان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود:

فقال الحبر: و من يقدر على «محمّد» هذا بسوء، هذا و حق الكليم رسول الملك العظيم في آخر الزمان، فطوبى لمن يكون له بعلا، و تكون له زوجة و أهلا فقد حازت شرف الدنيا و الآخرة.

فتعجّبت «خديجة»، و انصرف «محمّد» و قد اشتغل قلب «خديجة» بنت خويلد بحبه فقالت: أيها الحبر بم عرفت محمّدا انه نبي؟

قال:

وجدت صفاته في التوراة انه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه و امّه، و يكفله جدّه و عمه، و سوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها و أميرة عشيرتها، و أشار بيده الى خديجة فلما سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلق قلبها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلما خرج من عندها قال: اجتهدي ان لا يفوتك «محمّد» فهو الشرف في الدنيا و الآخرة «2».

(2) 3- لقد كان ورقة بن نوفل (و هو عم خديجة و كان من كهّان قريش و قد قرأ صحف «شيث» عليه السّلام و صحف «إبراهيم» عليه السّلام و قرأ التوراة و الانجيل و زبور «داود» عليه السّلام) يقول دائما: سيبعث رجل من قريش في آخر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 191، السيرة الحلبية: ج 1 ص 136.

(2) بحار الأنوار: ج 16، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:272

الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها (أو تكون سيدة قومها، و أميرة عشيرتها)، و لهذا كان يقول لها: «يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض و السماء» «1».

(1) هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين، و هي منقولة و مثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية، و هي بمجموعها تدل على العلل الحقيقة و الباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين، و نبله، و طهارته، و عظيم سجاياه و خصاله، و حبها لهذه الامور، و ليس هناك أي أثر في علل هذا الزواج لامانة «محمّد» و كونه أصلح من غيره لهذا لسبب للقيام بتجارة «خديجة».

(2)

كيف تمّت خطبة خديجة؟

من المسلّم به

أن اقتراح الزواج جاء من جانب «خديجة» نفسها أولا، حتى أن ابن هشام «2» نقل في سيرته: ان «خديجة» لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت له: «يا ابن عم أبي قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك [اي شرفك و مكانتك] في قومك، و أمانتك و حسن خلقك، و صدق حديثك» ثمّ اقترحت عليه أن تتزوج به.

و يعتقد اكثر المؤرّخين أن «نفيسة بنت عليّة» بلّغت رسالة «خديجة» إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على النحو التالي:

قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا محمّد ما يمنعك أن تتزوج ...

و لو دعيت الى الجمال و المال و الشرف و الكفاءة الّا تجيب؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فمن هي؟

فقالت. خديجة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و كيف لي بذلك، فقالت: عليّ، فذهبت الى خديجة فأخبرتها، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16، ص 21.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 189 و 190.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:273

اللّه عليه و آله بوكيلها «عمرو بن اسد» «1» لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب «2».

(1) فشاور النبي صلّى اللّه عليه و آله أعمامه و في مقدمتهم «أبو طالب»، ثم عقدوا مجلسا فخما حضره كبار وجوه قريش، و رؤساؤها فخطب «أبو طالب»، و بعد ان حمد اللّه و اثنى عليه وصف ابن أخيه محمّدا بقوله:

«ثم إن ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلّا رجح به شرفا و نبلا و فضلا و عقلا، و إن كان في المال فإن المال ظلّ زائل، و أمر حائل و عارية

مسترجعة، و له في خديجة رغبة و لها فيه رغبة، و الصّداق ما سألتم عاجله و آجله من مالي، و محمّد من قد عرفتم قرابته».

و حيث أن «ابا طالب» تعرّض في خطبته لذكر قريش، و بني هاشم و فضيلتهم، و منزلتهم بين العرب، لذلك تكلّم «ورقة بن نوفل بن اسد» الذي كان من أقارب خديجة «3» و قال في خطبة له: «لا تنكر العشيرة فضلكم، و لا يردّ أحد من الناس فخركم و شرفكم و قد رغبنا في الاتصال بحبلكم و شرفكم» «4».

ثم اجري عقد النكاح و مهرها النبي صلّى اللّه عليه و آله أربعمائة دينار و قيل أصدقها عشرين بكرة «5».

______________________________

(1) المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار و لهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد و لهذا لا يصح ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد (والد خديجة) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بداية الأمر، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 264.

(3) المعروف أنّ ورقة كان عمّا لخديجة و لكن هذا موضع نقاش لأنّ «خديجة بنت خويلد بن اسد» و ورقة بن نوفل بن اسد فيكونان أولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة و هي بنت عمّه. و لذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب «ابن عمّها» (تاريخ الخميس: ج 1 ص 282) و راجع قبله السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 203.

(4) بحار الأنوار: ج 16 ص 16، مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 30، السيرة الحلبية: ج 1 ص 139، تاريخ الخميس: ج 1 ص 264.

(5) السيرة الحلبية: ج 1 ص 139.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:274

(1)

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

المعروف المشهور أن خديجة عليها السّلام تزوجت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي في سنّ الأربعين و أنها ولدت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاما.

و ذكر البعض أقلّ من ذلك أيضا.

و ذكر أنها تزوجت قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله برجلين أوّلهما «عتيق بن عائذ» ثم من بعده ابو هالة التميمي اللذين توفي كل منهما بعيد زواجه بخديجة «1».

______________________________

(1) ربما يشكّك في أن تكون خديجة عليها السّلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأحد و هي التي امتنعت عن كل من خطبها و رام تزويجها من سادات قريش و اشرافها. راجع الاستغاثة: ج 1، ص 70.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:275

(1)

10 من الزواج الى البعثة

اشارة

تعتبر فترة الشباب من أهمّ و أخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها و كمالها، و تصبح النفس البشرية لعبة في أيدي الأهواء و يغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل، و يغطّي الظلام سماء التفكير، و تشتد حاكمية الغرائز المادية، و تتضاءل شعلة العقل، و تتراءى أمام عيون الشباب بين الحين و الآخر، و صباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

و لو ملك الإنسان- في مثل هذه الفترة- شيئا من الثروة، لتحوّلت حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية، و صحة المزاج من جهة و الامكانات المادية و المالية من جهة اخرى تتعاضدان و تغرقان المرء في بحر من الشهوات، و النزوات، و تهيّئان له عالما بعيدا عن التفكير في المستقبل.

(2) و من هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء و السعادة، و الفترة التي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مسارا معقولا، و يختار لنفسه

طريقا واضحا على أمل الحصول على الملكات الفاضلة، و النفسية الرفيعة الطاهرة التي تحفظه عن أي خطر متوقع «1». حقا إن كبح جماح

______________________________

(1) و الى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادق عليه السّلام بقوله:

إنّ الفراغ و الشباب و الجدةمفسدة للمرء أي مفسدة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:276

النفس، و زمّها و حفظها من الانزلاق في مهاوي الشهوات، و النزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير، و لو أن الانسان حرم من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيرا سيّئا، و مستقبلا في غاية البؤس و الشقاء.

(1)

فترة الشباب في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ليس من شك في ان فتى قريش «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة، و قوة بدنية عالية، و كان شجاعا قويا، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة، و فتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها و اعضائها بالشجاعة و الفروسية، هذا من جانب، و من جانب آخر كان يمتلك ثروة «خديجة» الطائلة فكانت ظروف الترف، و العيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل، و لكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدّ موائد العيش و اللذة و شارك في مجالس السهر و السمر و اللهو و اللعب. و اطلق العنان لشهوته، و فكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر، و تلك البيئة الفاسدة.

أم أنّه اختار لنفسه منهجا آخر في حياته، و استفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية، الأمر الذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.

(2) ان التاريخ ليشهد بأنه صلّى اللّه عليه و آله كان يعيش كما يعيش أي

رجل رجل عاقل لبيب و فاضل رشيد، و أنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون، بعيدا عن العبث و الترف و الضياع و الانزلاق إلى الشهوات و الانسياق وراء التوافه.

بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفورا من اللهو، و العبث، و الترف و المجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائما آثار التفكّر و التأمل، و كثيرا ما كان يلجأ الى سفوح الجبال او الكهوف و المغارات للابتعاد عن الجوّ الاجتماعي الموبوء في مكة، يلبث هناك أياما يتأمل فيها في آثار القدرة الإلهية،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:277

و في عظمة الصنع الالهي، الرائع البديع.

(1)

احاسيسه و مشاعره الإنسانية في فترة الشباب:

و لقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الانسانية و حركت عواطفه و احاسيسه، فقد رأى مقامرا قد خسر بعيره و بيته، بل بلغ الأمر به أن استرقه منافسه عشرة أعوام.

و قد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش «محمّد» بشدة، الى درجة أنّه لم يعد يحتمل البقاء في «مكة» ذلك اليوم فغادرها من فوره و ذهب الى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة و الاوضاع المأساوية، و كان يتعجب من ضعف عقول قومه، و انحطاط مداركهم.

(2) و لقد كان بيت «خديجة» قبل زواج النبي صلّى اللّه عليه و آله بها ملاذا للفقراء و كعبة لآمال المساكين و المحرومين، و بعد أن تزوج النبي صلّى اللّه عليه و آله بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أي تغيير من جهة الانفاق و البذل.

ففي سنين الجدب و القحط التي كانت تضرب مكة و ضواحيها بين الحين و الآخر ربما قدمت «حليمة

السعدية» مكة لتزور ولدها الرضاعي «محمّد» فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرمها و يحترمها، و يفرش رداءه تحت أقدامها، و يصغي لكلامها بعناية و لطف، وفاء لجميلها، و عرفانا لعواطفها و امومتها.

فقد روي أن «حليمة» قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة بعد تزوّجه خديجة، فشكت إليه جدب البلاد و هلاك المواشي فكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «خديجة» فأعطتها بعيرا و اربعين شاة، و انصرفت الى أهلها موفورة، مسرورة.

و روي أيضا انه استأذنت «حليمة» عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال:

«امّي امّي» و عمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:278

(1)

أولاد خديجة:

لا ريب في أنّ وجود الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية، و يعمّق جذورها، و يمنح الجوّ العائليّ بهاء، و رونقا، و جمالا خاصا.

و لقد أنجبت «خديجة» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستة من الأولاد اثنين من الذكور، أكبرهما «القاسم» ثم «عبد اللّه» اللّذان كانا يدعيان ب: «الطاهر» و «الطيّب» و اربعة من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد: أكبر بناته رقيّة ثم زينب ثم أمّ كلثوم، ثم فاطمة.

فأما الذكور من أولاده صلّى اللّه عليه و آله فماتوا قبل البعثة، و أما بناته فكلّهن أدركن الإسلام «1».

و رغم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قد عرف بصبره و جلده في الحوادث و النوائب فربما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خدّيه الشريفتين في موت أولاده.

و لقد بلغ به الحزن و الغم لموت ولده «إبراهيم» من زوجته مارية القبطية حدا لم يحدث لغيره من أولاده، إلّا أنّه رغم ذلك

الحزن الآخذ من قلبه مأخذا لم يفتر لسانه عن حمد اللّه و شكره حتى أن اعرابيا اعترض عليه صلّى اللّه عليه و آله لما وجده يبكى على ولده قائلا: او لم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله:

«انما هذا رحمة، و من لا يرحم لا يرحم» «2».

(2)

حدس لا أساس له من الواقع!!

لقد كتب الدكتور هيكل في كتابه: «حياة محمّد» يقول: «لا ريب أن

______________________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب: ج 1 ص 140، قرب الأسناد: 6 و 7، الخصال: ج 2 ص 37، بحار الأنوار: ج 22 ص 15- 152. و قد ذكر البعض للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله اكثر من ولدين، يراجع تاريخ الطبري: ج 2 ص 35، بحار الأنوار: ج 22 ص 166.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 151.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:279

خديجة عند موت كل واحد منهما (اي ولدي النبي: القاسم و عبد اللّه) في الجاهلية توجّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها و برها» «1».

إنّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي، و ليس هو بالتالي إلا حدس باطل، و ادّعاء فارغ ليس له من منشأ إلّا ان أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبدة أوثان، فلا بدّ ان خديجة كانت على منوالهم!!

في حين ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبغض الأصنام و الأوثان من بداية شبابه، و قد اتضح موقفه منها أكثر في سفرته الى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات و العزى: «إليك عني، فما تكلّمت العرب بكلمة أثقل عليّ من هذه».

مع ذلك كيف يمكن القول بأن امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدة حبها و شغفها بزوجها موضع شك، أن تتوجّه عند موت ولديها إلى الاصنام التي كانت

ابغض الأشياء عند زوجها، و خاصة أن حبها لزوجها «محمّد» و بل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان و معنوية، و صفات فاضلة، و ملكات اخلاقية عالية، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ، و أنه خاتم المرسلين، فكيف و الحال هذه يمكن ان يحتمل أحد أنّها- مع هذا الاعتقاد- بثت شكواها و حزنها الى الاوثان و الاصنام؟؟!

(1)

دعيّ رسول اللّه: زيد بن حارثة:

عند الحجر الاسود أعلن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن تبنيه له ...

ذلك هو زيد بن حارثة.

و كان «زيد» ممّن سباه العرب من حدود الشام، و باعوه في أسواق مكة رقيقا لأحد أقرباء «خديجة» يدعى «حكيم بن حزام»، و لكن لا يعرف كيف انتقل إلى «خديجة» في ما بعد؟

______________________________

(1) حياة محمّد: ص 128.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:280

(1) يقول هيكل في كتابه «حياة محمّد» في هذا الصدد «لقد ترك موت ولدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفس النبي أثرا عميقا حتى إذا جي ء بزيد بن حارثة يباع طلب الى «خديجة» أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه و تبناه» «1».

و لكن اكثر المؤرخين يقولون: ان «حكيم بن حزام» قد اشتراه لعمته «خديجة بنت خويلد»، و قد أحبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لذكائه و طهره، فوهبته «خديجة» له عند زواجه صلّى اللّه عليه و آله منها.

ففتش عنه والده «حارثة» حتى عرف بمكانه في مكة، فقدمها، و دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطلب منه صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خيّره بين المقام معه صلّى اللّه عليه و آله

و الرحيل الى موطنه مع أبيه، فاختار المقام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما وجد من خلقه، و حنانه، و لطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك اخرجه الى الحجر و اعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس و مسمع قائلا: «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني» «2».

(2)

بداية الخلاف بين الوثنيّين:

لقد أوجدت البعثة النبويّة خلافا و اختلافا كبيرا في أوساط قريش و فرّقت صفوفهم، غير أنّ هذا الاختلاف قد وجدت أسبابه و عوامله، و ظهرت بوادره و علائمه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعة من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب و انكروا عقائدهم الباطلة، و طالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبي العربيّ الذي يتمّ على يديه إحياء التوحيد.

و كان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يقولون:

______________________________

(1) حياة محمّد: ص 128.

(2) الاصابة: ج 1 ص 545 و 546، اسد الغابة: ج 2 ص 225 و 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:281

ليخرجنّ نبيّ فليكسرن أصنامكم «1».

(1) و كتب ابن هشام يقول: كان اليهود يقولون للعرب: إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وارم.

و كتب يقول أيضا: و كانت الاحبار من اليهود، و الرهبان من النصارى و الكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه.

هذه الكلمات تصوّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما بعث، و دعاهم اللّه، بينما احجمت اليهود عن الايمان به و برسالته و بقيت على كفرها و جحودها لنبوته التي طالما بشرت بها.

و قد نزل فيهم قوله تعالى:

«وَ

لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «2» «3».

(2)

أعمدة الوثنيّة تهتزّ:

و لقد شهد أحد أعياد قريش حادثا غريبا كان في نظر العقلاء و أصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذن باقتراب سقوط دولة الوثنيين، و انهيار صروح الوثنيّة و عبادة الأصنام، و انقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه و ينحرون له، و يعكفون عنده، فتنحّى أربعة ممن عرفوا بالعلم ناحية، و أخذوا يتحدّثون سرّا، و أخذوا ينتقدون عبادة الأوثان و الأصنام، و ما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض: و اللّه ما قومكم على شي ء، لقد أخطئوا دين أبيهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 231.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 221.

(3) البقرة: 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:282

إبراهيم!! ما حجر نطيف به لا يسمع و لا يبصر، و لا يضر و لا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ...

(1) و كان هؤلاء الأربعة هم:

1- «ورقة بن نوفل» الّذي اختار النصرانية بعد أن طالع كتبها، و اتصل بأهلها.

2- «عبيد اللّه بن جحش» الذي أسلم عند ظهور الإسلام، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.

3- «عثمان بن الحويرث» الذي قدم على قيصر ملك الروم، فتنصّر.

4- «زيد بن عمرو بن نفيل» الذي اعتزل الأوثان، و قال: اعبد رب إبراهيم «1».

(2) إن ظهور مثل هذا الاستنكار و الجحد للأوثان و الوثنية لا يعني أبدا أنّ دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت تعقيبا لدعوة هذه الجماعة، و استمرارا لها!!

كيف يمكن أن نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى،

و استندت إليه من معارف و أحكام لا تحصى، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير و تعبيرا عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟

إن الحنيفية و هي سنّة إبراهيم و دينه لم تكن قد محيت كليّا في الحجاز بعد أيام بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف (و هم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السّلام) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية، إلّا أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس، أو قيادة حركة، أو تربية أفراد على نهجهم، أو أن توجّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم و معارف و تعاليم و أحكام لشخصيّة مثل رسول الإسلام «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3) فلم ينقل عن هؤلاء سوى بعض الاعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 225.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:283

بالمعاد و اليوم الآخر، و شي ء بسيط من البرامج الأخلاقية، و حتى ما نقل عنهم من أبيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم، و ان لم يمكن نفي ذلك أيضا «1».

فهل يمكن و الحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة، و المعارف العقلية العالية، و القوانين و التشريعات المفصلة، و الانظمة الأخلاقية و السياسية و الاقتصادية الإسلامية، الشاملة الكاملة، كنتيجة لمتابعة اولئك النفر المعدود من «الأحناف» الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جل عقائدهم تتألف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه، و اليوم الآخر و قضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!

(1)

نموذج آخر عن ضعف قريش:

لم يكن يمض على عمر فتى قريش اكثر من خمس و ثلاثين عاما يوم واجه اختلافا كبيرا بين قريش، فأزال بحكمته ذلك التخاصم،

و لقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الاحترام الذي كان فتى قريش «محمّد» يحظى به لدى قريش، كما و تكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه و أمانته.

و إليك تفصيل هذه الحادثة:

انحدر سيل رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظمة «الكعبة المقدسة» فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتى الكعبة المعظمة، التي تصدّعت جدرانها تصدعا كبيرا بفعل ذلك السيل.

(2) فعزمت قريش على بحديد تلك البنية المعظمة، و لكنها تهيّبت ذلك، و ترددت في هدم الكعبة، فأقدم «الوليد بن المغيرة» و هدم ركنين منها على شي ء من الخوف، فانتظر أهل مكة أن يحل به أمر، و لكنهم لما رأوا «الوليد» لم يصبه

______________________________

(1) و لقد نقل ابن هشام في كتابه: السيرة النبوية: ج 1 ص 222- 232 طائفة من الأبيات و القصائد التوحيدية هذه؛ و التي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيد بن عمرو بن نفيل:

أ ربّا واحدا أم ألف ربّ أدين اذا تقسمت الامور؟

عزلت اللات و العزّى جميعاكذلك يفعل الجلد الصبور (البصير)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:284

غضب من الآلهة، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب قبيحا، و أنه عمل ما فيه رضى آلهتهم، فاقدموا جميعا على هدم ما تبقى من الكعبة، و اتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «مصر» في تجارة لروميّ عند ميناء «جدة» بفعل الرياح و العواصف، فعلمت بذلك قريش، و أرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة، و أوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قبطيّ محترف كان يقطن «مكة».

(1) و لما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل، و آن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش، و تنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه.

و تحالفت

قبيلة «بني عبد الدار» مع «بني عديّ» على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرهم، و عمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تأكيدا لذلك الميثاق.

من هنا تأخرت عملية البناء و توقّفت خمسة أيام بلياليها، و كاد أن تنشب بينهم حرب دامية، و ربما طويلة، فقد اجتمعت طوائف مختلفة من قريش في المسجد الحرام و هي تنتظر حادثة خطيرة، فعمد- في الأخير- شيخ من شيوخ قريش يدعى «أبو اميّة بن مغيرة المخزومي» من زعماء قريش و قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد «1» يقضي بينكم فيه» فقبلوا برأيه اجمع، فكان اول داخل عليه فتى قريش «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمّد.

(2) فقال صلّى اللّه عليه و آله: هلم إليّ ثوبا، فأخذ الحجر و وضعه فيه ثم قال:

«لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا»

ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه من الركن وضعه صلّى اللّه عليه و آله هو بيده مكانه، و بهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش، و اختلافها، و حلّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكل بحكمه.

______________________________

(1) و في رواية: أول من يدخل باب الصفا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:285

و إلى قضية التحكيم هذه يشير «هبيرة بن أبي وهب» في أبيات صوّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى، اذ قال:

تشاجرت الأحياء في فصل خطةجرت بينهم بالنحس من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبغض بعد مودّةو أوقد نارا بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدّ جدّه و لم يبق شي ء غير سلّ المهند

رضينا و قلنا العدل أول طالع يجي ء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الامين

محمّدفقلنا رضينا بالأمين محمّد

بخير قريش كلها أمس شيمةو في اليوم مع ما يحدث اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثله أعمّ و أرضى في العواقب و البد

و تلك يد منه علينا عظيمةيروب لها هذا الزمان و يعتدي «1»

(1)

أمين قريش يكفل عليّا:

أجدبت مكة و ضواحيها سنة من السنين، و قل فيها الماء، و أصابت الناس أزمة شديدة، و كان أبو طالب عليه السّلام كثير العيال، فعزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يساعد عمه أبا طالب، و يخفف عنه عب ء العيال، فانطلق الى عمه العباس و قال له: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله آخذ من بنيه رجلا و تأخذ أنت رجلا».

فكفل العباس جعفرا، و كفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام.

(2) يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 192- 199 و فروع الكافي: ج 4 ص 217 و 218، و الجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة: «يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيّبا، لا يدخل فيها مهر بغيّ، و لا بيع ربا، و لا مظلمة أحد للناس» (البداية و النهاية: ج 2 ص 301) و لا شك أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء التي بقيت بينهم و لم تمح بالمرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:286

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ «عليا» من أبيه و هو صغير في سنة اصابت قريشا و قحط نالهم، و أخذ حمزة جعفرا و أخذ العباس طالبا ليكفوا أباهم مؤونتهم و يخففوا عنهم ثقلهم،

و أخذ هو (أي ابو طالب) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«اخترت من اختار اللّه لي عليكم: عليا» «1».

إن هذه الحادثة و إن كانت في ظاهرها تعني ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقدم على هذا الأمر ليساعد عمّه أبا طالب في تلك الازمة، لكن الهدف الأعلى و الأخير كان أمرا آخر و هو أن: يتربّى علي عليه السّلام في حجر النبي، و يغتذي من مكارم اخلاقه و يتبعه في كريم افعاله.

و لقد اشار الإمام عليّ عليه السّلام نفسه الى هذا الموضوع بقوله:

«و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني إلى صدره و يكنفني في فراشه ... و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر امّه يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به» «2».

(1)

ايمان النبي و آبائه و كفلائه قبل الإسلام:

تدل الدلائل التاريخيّة، القوية، فضلا عن الأدلة العقلية و المنطقية على أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله لم يعبد غير اللّه تعالى منذ ولد من امّه، و الى أن رحل الى ربه، بل و كان كفلاؤه مثل عبد المطلب و أبي طالب مؤمنون موحّدون هم أيضا

ايمان جده عبد المطّلب:

(2) و أما عبد المطلب كفيل النبيّ الاوّل فلا ننسى أنه عند ما قصد «أبرهة» هدم

______________________________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 26، الكامل في التاريخ: ج 1 ص 37، السيرة النبوية: ج 1 ص 245- 247 باب (ذكر أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه اول ذكر أسلم).

(2) نهج البلاغة: الخطبة 192.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:287

الكعبة في جيش الفيل، نزل في جوف الليل الى الكعبة و أخذ بحلقة بابها يدعو اللّه و يقول مناجيا اللّه سبحانه.

«اللّهم أنيس المستوحشين، و لا وحشة معك فالبيت بيتك، و الحرم حرمك و الدار دارك، و نحن جيرانك، انك تمنع عنه ما تشاء، و ربّ الدّار اولى بالدّار».

ثم أنشأ يقول:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهمو حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكاامنعهموا إن يخربوا فناكا «1» و هذا يكشف بوضوح عن ايمان عبد المطلب باللّه تعالى، و توكله عليه سبحانه، و انه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب و المكاره إلى غير كهف اللّه، و لا يعرف الّا باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون بالاصنام المنصوبة حول الكعبة.

و ممّا يدل على ايمانه أيضا توسله لكشف غمته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال، و اشرفت الانفس و اجتمعت قريش لعبد المطلب، و علوا جبل ابي قبيس و معهم النبي صلّى اللّه عليه و

آله محمّد و هو غلام فتقدم عبد المطلب و قال: لاهم (اي اللّهم) هؤلاء عبيدك و إماؤك و بنو امائك، و قد نزل بنا ما ترى، و تتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف و الخف و الحافر، فاشرفت على الانفس فأذهب عنا الجدب، و ائتنا بالحياء و الخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، و في هذه الحالة تقول رقيقة:

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتناو قد عدمنا الحيا و اجلوّذ المطر إلى أن تقول:

مبارك الام يستسقى الغمام به ما في الانام له عدل و لا خطر

______________________________

(1) راجع القصة و مصادرها في ص 161 من هذا الكتاب، و لعبد المطلب مواقف اخرى مشابهة، و عديدة، راجع بصددها مفاهيم القرآن: ج 5 ص 136- 140.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:288

و الى هذه الواقعة يشير ابو طالب في قصيدة أولها:

ابونا شفيع الناس حين سقوا به من الغيث رجاس العشير بكور

و نحن- سنين المحل- قام شفيعنابمكة يدعو و المياه تغور «1» و قد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه «الملل و النحل» قال: و ممّا يدل على معرفته (أي عبد المطلب) بحال الرسالة و شرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم، و امسك السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه، ان يحضر المصطفى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فاحضره ابو طالب، و هو رضيع في قماط، فوضعه على يديه و استقبل الكعبة، و رماه الى السماء، و قال: يا رب بحق هذا الغلام، و رماه ثانيا و ثالثا و كان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا، فلم يلبث ساعة أن طبق السماء وجه السماء و أمطر، حتى خافوا على المسجد، و قال أيضا: و ببركة ذلك النور كان

عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم و البغي، و يحثهم على مكارم الاخلاق، و ينهاهم عن دنيات الامور.

و كان يقول في وصاياه: «انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم اللّه منه و تصيبه عقوبة»، الى ان هلك رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر و قال: ان وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن باحسانه و يعاقب فيها المسي ء باساءته «2».

ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه و توليه عن الاصنام و الاوثان، و التجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص، و ايمانه باللّه و عرفانه بالرسالة الخاتمة، و قداسة صاحبها، فلو لم يكن له الّا هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه، و توحيده له.

و قد اعترف المؤرخون لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي: «و رفض عبد المطلب عبادة الاوثان و الاصنام، و وحد اللّه عزّ و جلّ و وفى بالنذر، و سنّ سننا نزل القرآن باكثرها، و جاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 131- 133.

(2) الملل و النحل: ج 2 ص 248 و 249.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:289

بها، و هي الوفاء بالنذر، و مائة من الابل في الدية، و ان لا تنكح ذات محرم، و لا تؤتى البيوت من ظهورها و قطع يد السارق، و النهي عن قتل الموؤدة، و تحريم الخمر، و تحريم الزنا، و الحدّ عليه، و القرعة، و ان لا يطوف احد بالبيت عريانا، و اضافة الضيف و ان لا ينفقوا اذا حجوا الّا من طيب اموالهم، و تعظيم الاشهر الحرم، و نفي ذوات الرايات «1».

هذا و عن أم أيمن «رضي اللّه عنها» قالت: كنت

أحضن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (اي اقوم بتربيته و حفظه)، فغافلت عنه يوما فلم ادر الّا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول «يا بركة».

قلت: لبيك.

قال: أ تدرين اين وجدت ابني؟

قلت: لا ادري.

قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغافلى عن ابني، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الامة، و أنا لا آمن عليه منهم «2».

و كان عبد المطلب لا يأكل طعاما الّا يقول عليّ بابني (اي احضروه) و يجلسه بجنبه، و ربما اقعده على فخذه، و يؤثره بأطيب طعامه.

ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي طالب برسول اللّه و قال له: قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الذي تطئون، به رقاب الناس و قال له أيضا:

اوصيك يا عبد مناف بعدي بمفرد بعد ابيه فرد

فارقه و هو ضجيع المهدفكنت كالام له في الوجد

تدنيه من أحشائها و الكبدفانت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقد

«3» هذا هو عبد المطلب، و تعوده ببيت اللّه الحرام، و مواقفه بين قومه، و كلماته في

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 9 في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.

(2) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 64.

(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:290

المبدأ و المعاد و عطفه و حنانه على رسول الإسلام، و اهتمامه برسالة خاتم النبيين، و هي بمجموعها من اقوى الشواهد على توحيده، و ايمانه باللّه، و اعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله و عمه أبي طالب:

و هكذا كان حال كفيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الثاني ابو طالب عليه السّلام، فان له مواقف بارزة و كثيرة قبل البعثة النبوية، و بعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ الاباطح، و توحيده.

(1) و من تلك المواقف استسقاؤه

برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صباه:

فقد اصاب مكة قحط شديد في سنة من السنين فطلبت قريش من «أبي طالب» أن يستسقي لها فخرج و معه غلام- و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كأنه شمس دجن تجلّت عنها سحابة قتماء و حوله اغيلمة، فأخذه «أبو طالب» فألصق ظهره بالكعبة، و لاذ الغلام باصبعه (أي أشار بها إلى السماء) و ما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا و هاهنا، و أغدق، و اغدودق و انفجر له الوادي، و اخصب البادي و النادي.

ففي ذلك يقول ابو طالب- في مدح رسول اللّه-:

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل

و ميزان عدل لا يخيس شعيرةو وزّان صدق وزنه غير هائل «1» (2) و كل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخالص، و ايمانهما باللّه تعالى، و لو لم يكن لهما إلّا هذين الموقفين لكفياهما دليلا و برهانا على كونهما مؤمنين موحّدين.

______________________________

(1) شرح البخاري للقسطلاني: ج 2 ص 227، المواهب اللدنية: ج 1 ص 48، السيرة الحلبية: ج 1 ص 125، و للتوسع راجع الغدير: ج 7 ص 345 و 346، و قد ذكرنا مواقف ابي طالب الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:291

كما ان ذلك يدل أيضا على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نشأ و ترعرع و نما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه، و عبادته وحده و رفض الاصنام و الاوثان.

إيمان والدي النبي الاكرم:

لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمات و ابيات تدل على

ايمانه و من ذلك ما نقله اهل السير عند ما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال ردا عليها:

أما الحرام فالممات دونه و الحلّ لا حلّ فاستبينه

يحمي الكريم عرضه و دينه فكيف بالأمر الذي تبغينه «1» و قد روي عن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله انه قال: «لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات» و لعل فيه ايعازا إلى طهارة آبائه و امهاته من كل دنس و شرك «2».

و اما الوالدة فيكفي في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها (رضي اللّه عنها) خرجت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن خمس أو ست سنين و نزلت بالمدينة تزور أخوال جده و هم بنو عدي بن النجار و معها أم ايمن «بركة» الحبشية، فاقامت عندهم، و كان الرسول بعد الهجرة يذكر امورا حدثت في مقامه و يقول: «ان أمي نزلت في تلك الدار، و كان قوم من اليهود يختلفون و ينظرون إليّ فنظر إليّ رجل من اليهود فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر الى ظهري، و سمعته يقول: هذا نبي هذه الامة، ثم راح الى اخوانه فاخبرهم فخافت امّي عليّ فخرجنا من المدينة، فلما كانت بالابواء توفيت و دفنت فيها.

و روى ابو نعيم في دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في علتها التي ماتت بها، و محمّد عليه السّلام غلام يفع

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 46.

(2) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 58.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:292

(اي يافع) له خمس سنين عند رأسها فنظرت الى وجهه و خاطبته بقولها:

إن صحّ ما أبصرت في المنام فانت مبعوث

الى الانام

فاللّه انهاك عن الاصنام ان لا تواليها مع الاقوام ثمّ قالت: كل حي ميت و كل جديد بال، و كل كبير يفنى، و انا ميتة و ذكري باق و ولدت طهرا.

و قال الزرقاني في شرح المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها: و هذا القول منها صريح في انها كانت موحّدة اذ ذكرت دين ابراهيم عليه السّلام، و بشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه، و هل التوحيد شي ء غير هذا، فان التوحيد هو الاعتراف باللّه و انه لا شريك له، و البراءة من عبادة الاصنام «1».

و نلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه «اوائل المقالات» في هذا الصدد:

اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ و جلّ موحدون له، و احتجوا في ذلك بالقرآن و الاخبار قال اللّه عزّ و جلّ: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» «2».

ثمّ إنّ هنا سؤالين هما:

1- هل كان صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة موحّدا؟

2- بما ذا و بأيّ دين كان يتعبّد صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة؟

و إليك الحديث في هاتين الجهتين:

ايمان النبي باللّه و توحيده قبل البعثة:

إن الدلائل التاريخية- بالاضافة إلى البراهين العقلية و الكلامية- ندل على انه- صلّى اللّه عليه و آله- كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام، مؤمنا باللّه، موحّدا إياه، لم يعبد وثنا قط، و لم يسجد لصنم أبدا، و ان ذلك من المسلمات.

______________________________

(1) الاتحاف للشبراوي: ص 144 سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 57.

(2) اوائل المقالات: ص 12 و 13.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:293

و هذا الأمر و ان كان أمرا مسلما و واضحا كوضوح

الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية:

اما بغضه للأصنام و تجنبه للاوثان و ما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال:

1- جاء في حديث طويل: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لما تم له ثلاث سنين قال يوما لوالدته (لمرضعته) حليمة السعدية: مالي لا أرى أخويّ بالنهار، قالت له: يا بنيّ انّهما يرعيان غنيمات.

قال: فمالي لا أخرج معهما، قالت له: أ تحبّ ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح محمّد دهّنته (تقول حليمة) و كحّلته و علّقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانيّ، فنزعه ثم قال لأمّه:

«مهلا يا امّاه فانّ معي من يحفظني» «1».

2- روي ان «بحيرا» الراهب قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب الى الشام: يا غلام اسألك بحق اللات و العزى الا أخبرتني عما اسألك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا تسألني باللات و العزّى فو اللّه ما ابغضت شيئا بغضهما» قال الراهب:

باللّه الا أخبرتني عما أسألك عنه، قال صلّى اللّه عليه و آله: سلني عمّا بدا لك «2».

3- روي أنه قد وقع بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل تلاح في سفرته الثانية الى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة» بعد أن باع صلّى اللّه عليه و آله سلعته، فقال له الرجل: احلف باللات و العزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) المنتقى، الباب الثاني من القسم الثاني- للكازروني كما في البحار: ج 15، ص 392.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 154، السيرة النبوية: ج 1 ص 182.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:294

«ما حلفت

بهما قطّ، و إنّي لأمرّ فاعرض عنهما».

و في رواية اخرى:

«إليك عني ثكلتك امّك فما تكلمات العرب بكلمة اثقل عليّ من هذه الكلمة».

فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة: هذا و اللّه نبيّ «1».

(1) و اما عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرخون على أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يخلو بحراء كل عام أشهرا يعبد فيه اللّه تعالى.

و قد قال الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في هذا المجال:

«و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيري» «2».

حتى أن جبرئيل وافاه بالرسالة في ذلك المكان، و في تلك الحال.

و قد صرّح بهذا أصحاب الصحاح الستة أيضا اذ قالوا:

«و كان يخلو بحراء فيتحنّث فيه، و هو التعبد في الليالي ذوات العدد» «3».

كما ان الإمام امير المؤمنين عليه السّلام وصف هذا المقطع من حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

«و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره» «4».

و جاء في الأخبار انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجّ قبل البعثة حجات عديدة و كان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيدا عن أعين قريش.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: في حديث ابن أبي يعفور:

«حج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر حجّات مستترا في كلّها» «5».

و في رواية: عشرين حجة «6».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 156، بحار الأنوار: ج 16، ص 18.

(2) نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة 192.

(3) صحيح البخاري: ج 1 ص 2، صحيح مسلم باب الايمان، مسند أحمد: ج 6، الحديث 233.

(4) نهج

البلاغة: قسم الخطب الخطبة رقم 192.

(5) وسائل الشيعة: ج 8، ص 88 أبواب وجوب الحج.

(6) وسائل الشيعة: ج 8، ص 88 أبواب وجوب الحج.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:295

و السبب في هذا الاستتار هو أن قريش كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج، و العمرة، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة و ربما غيرت أشهر الحج احيانا لبعض الاعتبارات السياسية و المادية، و هو ما سمي بالنسي ء، و قد مرّ بيانه «1».

ان هذه الوقائع و غيرها- و هي ليست بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلّى اللّه عليه و آله، و توحيده، اذ كيف يمكن أن يتنكّب مثل هذه الشخصية التي نشأت و ترعرعت في ذلك البيت الطاهر، و قرن اللّه به ملكا يتولاه بالتربية و الهداية عن جادة التوحيد.

ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه و آله هو افضل من جميع الأنبياء و المرسلين بنص القرآن الكريم.

و قد صرح القرآن بان بعض الأنبياء بلغوا درجة النبوة في الصغر، أو الصبا، و نزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا: «يا يحيى خذ الكتاب بقوّة و آتيناه الحكم صبيّا» «2».

(1) ثمّ يقول عن «عيسى بن مريم» عند ما كان في المهد و كان وجوه القوم من بني إسرائيل قد استنكروا ولادته من غير أب، و طلبوا من «مريم البتول» ان توضح لهم الأمر، و تبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فأشارت الى المسيح عليه السّلام أن كلّموه و هو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى أيام معدودات؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة و قال:

«إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ

وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» «3».

لقد بيّن وليد «مريم» للناس اصول دينه و فروعه في فترة الطفولة و الرضاعة، و أعلن لهم عن توحيده و ايمانه باللّه سبحانه.

______________________________

(1) راجع الصفحة 83 و 84 من هذا الكتاب.

(2) مريم: 12.

(3) مريم: 30 و 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:296

فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم أن يكون «يحيى» و «المسيح» عليهما السّلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما، و إيمانهما منذ طفولتهما، و صباهما، و يكون أفضل الأنبياء و المرسلين، و أشرف الخلق أجمعين إلى سنّ الأربعين على غير إيمان، و توحيد، مع أنه صلّى اللّه عليه و آله كان مشتغلا بالتعبّد في جبل «حراء» عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟

و إليك بعض ما قاله المؤرخون، و العلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث:

قال ابن هشام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به اذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف به سبعا أو ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع الى بيته حتى اذا كان الشهر الذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها، و ذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى «حراء» كما كان يخرج لجواره و معه اهله حتى اذا كانت الليلة التي اكرمه اللّه فيها برسالته و رحم العباد بها جاءه جبرئيل عليه السّلام بامر اللّه تعالى «1».

و قال العلامة المجلسي: قد ورد أخبار كثيرة انه صلّى اللّه عليه و آله

كان يطوف، و انه كان يعبد اللّه في حراء، و انه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية و التحميد عند الاكل و غيره، و كيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ و المكابرة في ذلك سفسطة «2».

فايمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و توحيده قبل البعثة، اذن، أمر مسلم لا شبهة فيه، و لا غبار عليه.

و لكن بعض الكتاب من المسيحيين و من تبعهم، من المستشرقين و غيرهم، أبوا إلّا أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله فادّعوا ضلاله قبل البعثة،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 236.

(2) بحار الأنوار: ج 18، ص 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:297

و إنه كان على غير إيمان، أو توحيد، و استدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية، و أبرزها الآيات التالية:

1- «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» «1».

2- «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» «2».

3- «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

4- «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «4».

5- «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «5».

لقد استدل المستشرقون و من لفّ لفهم و من سبقهم او لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، و سلب الايمان عنه، و لكنها لا تدل على ما يريدون، و

لا جل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

الآية الاولى: الهداية بعد الضلالة

ذكر المفسرون لقوله تعالى: «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» الذي يشعر بهداية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الضلالة احتمالات عديدة، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لا ثبات ضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة و لكن الحق ان يقال: أنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:

1- الضالّ: من الضلالة ضد الهداية و الرشاد.

2- الضالّ: من ضلّ البعير اذا لم يعرف مكانه.

______________________________

(1) الضحى: 6 و 7.

(2) المدّثر: 4 و 5.

(3) الشورى: 52.

(4) يونس: 16.

(5) القصص: 86.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:298

3- الضالّ: من ضلّ الشي ء اذا ضؤل و خفى ذكره.

و تفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لاثبات ضلال النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة.

أما المعنى الأول فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» «1».

لكن الضلالة على نوعين:

النوع الأول ما تكون الضلالة فيه أمرا وجوديا في النفس يوجب ظلمة النفس و منقصتها، مثل الكفر و الشرك و النفاق، و الضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة و النقصان قال سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» «2».

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمرا عدميا، و ذلك عند ما تكون النفس فاقدة للرشاد، و عندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غير واجد للهداية من عند نفسه، و ذلك كالطفل الذي أشرف على التمييز و كاد أن يعرف الخير و الشر، و يميز بين الصلاح و الفساد فهو آنذاك ضالّ بمعنى أنه غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبل الحياة لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر و الفسق في نفسه و

روحه.

و المراد من الضالّ في قوله تعالى «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» لو كان ما يضادّ الهداية فهو يهدف الى النوع الثاني، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة و عرفك عوامل الشقاء، و هو اشارة إلى قانون الهي عام في حياة البشر انبياء و اناسا ماديين، و هو ان هداية كل إنسان بل كل ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» «3».

و على هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم التي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فاواه بعد ما صار يتيما، و أفاض عليه الهداية بعد ما كان

______________________________

(1) الفاتحة: 7.

(2) التوبة: 37.

(3) طه: 50، و راجع الآيات: 2 و 3 من سورة الأعلى و 43 من سورة الأعراف و 78 من سورة الشعراء و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:299

فاقدا لها بحسب ذاته، و بحكم طبيعته، و يعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته، و اوليات عمره و ايام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الذي تحقق باليتم، و تمّ بجده عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين، و يؤيد ذلك قول امام المتقين علي بن ابي طالب عليه السّلام: «و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره» «1».

و صفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو أن لازم كون النبي ممكنا بالذات هو كونه فاقدا في ذاته لكل كمال و جمال، مفاضا عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى

و هذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي و اين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق و العصيان؟!

ثم ان من المحتمل ان تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشي ء اذا لم يعرف مكانه» و في الحديث «الحكمة ضالّة المؤمن» اي مفقودته، لا ضدّ الهداية و الرشاد، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقا على ما نقله أهل السير و التواريخ عن ما جرى للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة، و هو صغير فمنّ اللّه عليه اذ ردّه الى جدّه، و قصته معروفة في كتب السير و التاريخ «2» و لو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك و مات عطشا أو جوعا فشملته العناية الالهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشي ء اذا خفي و غاب عن الأعين» فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره، المنسيّ اسمه لا يعرفه إلا القليل من الناس، و لا يهتدي كثير منهم إليه.

و لو كان هذا هو المقصود، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره، و عرّفه

______________________________

(1) نهج البلاغة: من الخطبة 178 و المسمّاة بالقاصعة ص 182.

(2) لاحظ السيرة الحلبية: ج 1 ص 131 و غيره، و في هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخا يطوف بالبيت و هو يقول:

يا ربّ ردّ راكبي محمّداأردده ربّي و اصطنع عندي يدا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:300

للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسيا اسمه.

و يؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا:

«أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «1».

فرفع ذكره في العالم عبارة

عن هداية الناس إليه، و رفع الحواجز بينه، و بينهم و على هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال، فكأنه قال: فوجدك ضالا، أي خاملا ذكرك، باهتا اسمك، فهدى الناس إليك، و سيّر ذكرك في البلاد.

و الى ذلك يشير الإمام الرضا عليه السّلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله:

«قال اللّه عزّ و جلّ لنبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله: «أ لم يجدك يتيما فآوى» يقول: «أ لم يجدك» وحيدا فآوى إليك الناس «و وجدك ضالّا» يعني عند قومك «فهدى» أي هداهم إلى معرفتك» «2». قال الاستاذ الشيخ محمّد عبده في هذا المجال:

لقد بغّضت إليه (أي الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) الوثنيّة من مبدأ عمره فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، و ما جاء في الكتاب من قوله: «و وجدك ضالّا فهدى» لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم حاش للّه، إنّ ذلك لهو الإفك المبين «3».

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى «و الرجز فاهجر» على وجود ارضية لعبادة الصنم

______________________________

(1) الانشراح: 1- 4.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 142.

(3) رسالة التوحيد للشيخ محمّد عبده: ص 135 و 136.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:301

و الوثن في شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بتفسير الرجز بالصنم، و الوثن، و يتضح بطلان هذا الادعاء و الاستنباط اذا أمعنا في معاني و استعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

ان الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة: العذاب، القذارة، الصنم.

و قد استعمل الرجز (بكسر الراء) في تسع موارد في القرآن الكريم، و قد اريد منه في جميعها العذاب

إلّا في مورد واحد: و هي: البقرة- 59، و الاعراف 134 (و جاءت اللفظة فيها مرتين) و 135 و 162 و الانفال- 11 و سبأ- 5 و الجاثية- 11 و العنكبوت- 34.

و جاء الرجز- بضمّ الراء- مرّة واحدة و هي الآية التي نحن بصددها هنا «1».

و هذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه الذين يزعمون بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان على غير التوحيد قبل البعثة.

و إليك بيان هذا الموضوع مفصلا:

1- ان الرجز لو كان بمعنى «العذاب» دلّت الآية على هجر ما يستلزم العذاب، فيكون الخطاب حينئذ مسوقا من باب التعليم، و من باب «اياك أعني و اسمعي يا جاره»، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نهيه عما يستلزم العذاب، و ارادة تعليم الامة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» «2». و قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «3» فكمالا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبي صلّى اللّه عليه و آله، كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

2- إن الرجز لو كان بمعنى (القذارة) و هي تنقسم الى مادية و معنوية فيحتمل ان يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من

______________________________

(1) المدّثر: 5.

(2) القصص: 86.

(3) الزمر: 65.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:302

أنّ ابا جهل جاء بشي ء قذر، و أمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ، ففعل، فأمر اللّه نبيه بتطهير ثوبه من الدنس.

و يحتمل ان تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني للفظة الرجز فتكون الآية تعليما للناس على

النمط السابق، فلا تدل على اتصاف النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بها.

3- الرجز بمعنى الصنم، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا بمعنى أنه وضع لذاك المعنى، و إنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعمّ الصنم و الخمر و الازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزا، و لأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» «1».

و لكن يجاب عن هذا أيضا بأن النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابدا للوثن بل كان مشمّرا عن ساعد الجدّ لتحطيم الاصنام و مكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على السبيل الذي أشرنا إليه، و هو توجيه الخطاب إلى النبيّ و إرادة الامة به لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير، لأنه سبحانه اذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» «3».

استدلّوا بأن ظاهر الآية نفي علمه بالقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجيا لذلك واقفا عليه.

أقول: ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله: «الّا رحمة من ربّك» حتى يتضح المقصود، و قد ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها:

1- إن «إلّا» استدراكية، و ليست استثنائية فهي بمعنى «لكنّ» لاستدراك ما بقي من المقصود، و حاصل معنى الآية: «ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك و يشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلّا أن ربّك رحمك، و انعم به عليك و اراد بك الخير»

نظير قوله سبحانه: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «4» اي و لكن رحمة من ربك خصّصك به و هذا هو المنقول

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) الميزان: ج 18 ص 80.

(3) القصص: 86.

(4) القصص: 46.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:309

عن الفراء «1».

و على هذا لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و آله اي رجاء لالقاء الكتاب إليه، و انما فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه.

و لكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّا اذا امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2- ان يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك و هو متصل لا منقطع، و لكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، و هو كما في الكشاف: «و ما القى إليك الكتاب إلّا رحمة من ربك» «2» اى لم يكن لا لقائه عليك وجه إلّا رحمة ربك، و على هذا الوجه أيضا لا يعلم انه كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله رجاء لا لقاء الكتاب عليه و ان كان الاستثناء متصلا.

و هذا الوجه بعيد أيضا لكون المستثنى منه، محذوفا مفهوما من الجملة على خلاف الظاهر و انما يصار إليه اذا لم يصحّ ارجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّن في الوجه الثالث.

3- أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله: «و ما كنت ترجو» و يكون معناه: ما كنت ترجو القاء الكتاب عليك إلّا أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلّا على هذا «3».

فيكون هنا رجاء منفيا، و رجاء مثبتا، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجودا.

و اما رجاؤه به عن طريق

الرحمة الالهية فكان موجودا فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفيّ هو الأول، و الثابت هو الثاني و هذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

و قد سبق منّا أن جملة «ما كنت» و ما اشبهه (تستعمل في نفي الامكان،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 269، مفاتيح الغيب: ج 6 ص 408.

(2) الكشاف: ج 2 ص 487 و 488.

(3) مفاتيح الغيب: ج 6 ص 498.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:310

و الشأن، و على ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجيا لأن يلقى إليك الكتاب، و تكون طرفا للوحي، و الخطاب الّا من جهة خاصة، و هي أن تقع في مظلة رحمته و موضع عنايته، فيختارك طرفا لوحيه، و مخاطبا لكلامه، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجيا لأن ينزل إليه الوحي، و يلقى إليه الكتاب، و بما انه صار مشمولا لرحمته و عنايته، و صار انسانا مثاليا، قابلا لتحمل المسئولية، و تربية الامة، كان راجيا به، و على ذلك فالنفي و الاثبات غير واردين على موضع واحد.

و بهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنه صلّى اللّه عليه و آله كان إنسانا مؤمنا موحّدا عابدا للّه ساجدا قائما بالفرائض العقلية و الشرعية مجتنبا عن المحرمات عالما بالكتاب و مؤمنا به إجمالا و راجيا لنزوله إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل، و سوقها إلى الكمال. سيد المرسلين ج 1 310 الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته ..... ص : 310

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1»، و الآية تؤكد أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا بثا

في قومه، و لم يكن تاليا لسورة من سور القرآن، أو آية من آياته و ليس هذا شي ء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي، و لم يكن قبله عالما به و اين هذا من قول المخطئة من نفي الايمان منه قبلها.

و ان اردت الاسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة، فترى فيها اقتراحين للمشركين و قد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة و عن الآخر في نفس هذه الآية و إليك نصّها: «قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

______________________________

(1) يونس: 16.

(2) يونس: 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:311

اقترح المشركون على النبي أحد الأمرين:

1- الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ على فصاحته و بلاغته.

2- تبديل بعض آياته مما فيه سبّ لآلهتهم و تنديد بعبادتهم للاوثان و الاصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بان التبديل عصيان للّه، و انه يخاف من مخالفة ربه، و لا محيص له إلّا إتباع الوحي من دون أن يزيد فيه او بنقص عنه.

و اجاب عن الأول في الآية المبحوث عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي و كلامي حتى أذهب به و آتي بآخر، بل هو كلام اللّه سبحانه و قد تعلقت مشيئته بتلاوتي، و لو لم يشأ لما تلوته عليكم و لا ادراكم به، و الدليل على ذلك أني كنت لابثا فيكم عمرا من قبل فما تكلمات بسورة أو بآية من آياته،

و لو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم به، أيام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة، المديدة.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية: إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي، فانما أنا رسول و لو شاء اللّه ان ينزل قرآنا غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم، و لا أدراكم به فاني مكثت عمرا من قبل نزوله، و لو كان ذلك إليّ و بيدي لبادرت إليه قبل ذلك و بدت من ذلك آثار و لاحت لوائحه «1».

فكيف يمكن و الحال هذه أن يكون مجانبا للإيمان باللّه و توحيده، لاهيا عن عبادته و تقديسه.

هذا و في هذا المجال حديث واسع اكتفينا منه بهذا القدر، و من أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن ص 135- 191.

و أما الكلام في الجهة الثانية و هي: أنه بما ذا و بأيّ دين كان يتعبّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، فقد وقع ذلك محطا للبحث بين العلماء، و حيث انه لا ينطوي على فائدة كبرى، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة

______________________________

(1) الميزان: ج 10 ص 26، و لاحظ المنار: ج 11 ص 320.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:312

مؤمنا، موحّدا، يعبد اللّه، فإنّه يكفي أن نعرف أنه كان صلّى اللّه عليه و آله يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى ... و بما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم، و أنه بالتالي كان مؤيدا مسدّدا، و أنه كان أفضل الخلق و اكملهم خلقا، و خلقا، و عقلا، و انه كان يعمل حسب ما يلهم سواء أ كان مطابقا لشرع ما قبله أم مخالفا و أن هاديه و قائده منذ صباه إلى

ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة «1».

______________________________

(1) و للتوسّع و الوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن:

ص 135- 191.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:313

(1)

11 بدء الوحي

اشارة

انّ التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و التي وقعت على أثره حوادث خاصة.

و يوم بعث النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله لهداية الناس، و دوّى في سمعه الشريف نداء «إنك لرسول اللّه» الصادر عن ملاك الوحي القيت على كاهله مسئولية كبرى و ثقيلة جدّا، على نمط الوظيفة الهامة التي القيت على كاهل من سبقه من الأنبياء و الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، و تجلت خطته اكثر فأكثر.

و نحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين:

1- وجوب بعث الأنبياء.

2- دور الأنبياء في اصلاح المجتمع.

لقد أودع اللّه تعالى في كيان كلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، و جهّزه- لسلوك هذا الطريق- بالوسائل المتنوعة، و الأجهزة المختلفة اللازمة.

و لنأخذ مثلا: نبتة صغيرة، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها و تعمل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:314

لتحقيق التكامل فيها.

ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، و تلبية احتياجات النبتة، و توصل العروق و القنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان و الاوراق.

إننا لو درسنا جهاز (وردة) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب و أشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

و هكذا الحال بالنسبة الى بقية الأجهزة في (الوردة) ممّا انيط إليها مسئولية الحفاظ على كائن حيّ، و ضمان رشده و نموّه،

فإنها جميعا تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل، و أفضل صورة.

و لو أننا خطونا خطوات اكثر و تقدّمنا بعض الشي ء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأحياء، لرأينا أنها جميعا و بدون استثناء مزوّدة بما يضمن بلوغها الى مرحلة الكمال المطلوب لها.

(1) و إذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول: انّ الهداية التكوينية، التي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات، و حيوان و انسان.

و يبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله:

«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» «1».

فانّه يصرّح بأن كل شي ء في هذا الكون من الذرة إلى المجرّة ينعم بهذا الفيض العامّ، و انّ اللّه تعالى بعد أن قدّر كل موجود و كائن، بيّن له طريق تكامله، و رقيّه، و هيأ لكل كائن من تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته و نموّه، و هذه هي (الهداية التكوينية العامة) السائدة على كل ارجاء الخليقة دون ما استثناء.

______________________________

(1) طه: 50.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:315

(1) و لكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، اشرف الموجودات، و افضل ما في هذه الخليقة؟! بكل تأكيد: لا.

لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة المادية، تشكل اساس حياته الواقعية، و لو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، و الحيوانات، لكفت العوامل و العناصر المادية في تكامله، و الحال أن للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما معا رمز سعادة الإنسان و رقيّه.

ان الإنسان الأول، و نعني به انسان الكهوف و الحياة البسيطة و الفطرة السليمة التي لم يطرأ على جبلته اي اعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الاجتماعيّ من التربية و

الهداية.

(2) و لكن عند ما خطى الإنسان خطوان أبعد من ذلك، و بدأ الحياة الاجتماعية، و سادت على حياته فكرة التعاون و العمل الجماعي برزت في روحه و نفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي، و غيّرت الخصال القبيحة و الافكار الخاطئة صفاته الفطرية، و بالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!

إن هذه الانحرافات حملت خالق الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذا صالحين يتولّون تربية البشر، و ليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، و التخفيف من المفاسد الناشئة- بصورة مباشرة- عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، و ليضيئوا- بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة- طريق السعادة و الخير للانسانية في جميع المجالات و الابعاد.

إذ لا نقاش في أنّ الحياة الاجتماعية و العيش بصورة جماعية مع كونه مفيدا، ينطوي على مفاسد لا تنكر، و يجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

(3) و لهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين، و هداة مرشدين يعملون- قدر الامكان- على الحدّ من الانحرافات و المفاسد، و يضعون عجلة المجتمع- بتنظيم القوانين الواضحة و الانظمة الحكيمة- على الطريق الصحيح، و يضمنون دورانها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:316

و حركتها في المسار المستقيم.

و قد يستفاد هذا الأمر- بوضوح- من قوله تعالى:

«كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» «1».

(1)

دور الأنبياء في اصلاح المجتمع:

ان الذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرد معلّمين إلهيين بعثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية و مرورا بالمتوسطة و انتهاء بالجامعة دروسا معينة و مواضيع خاصة على ايدي الاساتذة و المعلمين، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الأنبياء امورا خاصة، و يكتسبون معارف معينة، و تتكامل أخلاقهم و صفاتهم و خصالهم الاجتماعية جنبا

الى جنب مع اكتسابهم المعرفة و العلم على أيدي الأنبياء و المرسلين.

و لكننا نتصور أن مهمة الأنبياء وظيفتهم الأساسية هي (تربية) المجتمعات البشرية لا تعليمها، و ان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، و انه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، و ما لم تلفها غشاوات الجهل و الغافلة لعرفت و ادركت خلاصة الدين الإلهي، و عصارتها، في غير ابهام، و لا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار إليها قادة الإسلام العظماء.

(2) فقد قال امير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة عن هدف الأنبياء:

«أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم ... ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسيّ نعمته، و يحتجّوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول» «2».

______________________________

(1) البقرة: 213.

(2) نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة رقم 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:317

(1)

مثال واضح في المقام:

اذا قلنا: ان وظيفة الأنبياء في تربية الناس و اصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا: أن مثل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية و هدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية و الجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.

و توضيح ذلك ان النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاولى كل قابليات النمو، و الرشد، فاذا توفر لها الجو المناسب للنمو، دبّت الحياة و الحركة في كل أجزائها، و استطاعت بفعل جذورها القوية و اجهزتها المتنوعة و في الهواء الطلق، و الضوء اللازم، من أن تقطع أشواطا كبيرة من التكامل، و النمو.

(2) فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين:

1- توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة، و تخرج من حيّز

القوة إلى مرحلة الفعلية، و التحقق.

2- الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات و الآفات، و ذلك عند ما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، و تسلك طريقا ينافي تكاملها.

و من هنا فان مسئولية البستاني و وظيفته ليست هي (الإنماء) بل هي (المراقبة) و توفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة و النبتة أن تبرز كمالها الباطني.

(3) لقد خلق اللّه سبحانه البشر و أودع في كيانه طاقات متنوعة، و غرائز كثيرة، و عجن فطرته و جبلّته بالتوحيد، و حبّ معرفة اللّه، و حبّ الحق و الخير، و العدل و الانصاف، كما و أودع فيه غريزة السعي و العمل.

و عند ما تبدأ خمائر هذه الامور و بذورها الصالحة المودوعة بالعمل و التفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لبعض الانحرافات بصورة قهرية،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:318

فغريزة العمل و السعي تتخذ شيئا فشيئا صفة الحرص و الطمع، و غريزة حب السعادة و البقاء تتخذ صورة الانانية، و حب الجاه و المنصب، و يتجلى نور التوحيد و الإيمان في لباس الوثنية و عبادة الأصنام.

(1) في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه الى البشرية: (الأنبياء و الرسل) على توفير ظروف الرشد و النمو الصحيح لتلك الغرائز و تلك القوى و الطاقات في ضوء الوحي، و البرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي، و يقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، و الوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

و لقد قال امير المؤمنين في ما مرّ من كلامه: إن اللّه أخذ- في مبدأ الخلق- ميثاقا يدعى «ميثاق الفطرة».

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو: أن اللّه تعالى بخلقه و ايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، و بمزج

الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة و السجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقا فطريا بأن يتبع خصال الخير، و يأخذ بالغرائز الطيّبة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر (العين) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق، و لا يقع في البئر، فكذلك ايداع حسّ التدين، و غريزة الانجذاب الى اللّه، و حبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمنا باللّه، موحّدا إياه، عادلا، منصفا، محبا للخير و الحق.

و إن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضى ميثاق الفطرة، و بالتالي فانّ مهمّتهم الأساسية الحقيقة هو تمزيق اغشية الجهل و تبديد سحب الغافلة التي قد ترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان، و تحرم الإنسان من هدايتها.

و من هنا قالوا: إن أساس الشرائع الالهية يتألف من الامور الفطرية، التي فطر الإنسان عليها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:319

(1) و كأنّ صرح الكيان الإنساني (جبل) اختفت بين ثنايا صخوره و في بطونه احجار كريمة كثيرة و معادن ذهبيه ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اودعت فيه فضائل و علوم، و معارف و خصال، و اخلاق متنوعة.

فعند ما يغور الأنبياء و المهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا و ذواتنا و هم يعلمون جيدا أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات و السجايا النبيلة و المشاعر و الاحاسيس الطيبة، و يعملون على اعادة نفوسنا- بتعاليم الدين و برامجه- الى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، و يسمّعوننا نداء ضمائرنا، و يلفتونها إلى الصفات، و الى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الأنبياء، و ذلك هو عملهم الاساسي، و هذا هو دورهم في اصلاح النوع

الإنساني، أفرادا و جماعات.

(2)

أمين قريش في غار حراء:

يقع جبل «حراء» في شمال «مكة» و يستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.

و يتألف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية سوداء، لا يرى فيها أيّ أثر للحياة أبدا.

و يوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه و لكن عبر تلك الصخور، و يرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، و بينما تضي ء الشمس قسما منه، تغرق نواح اخرى منه في ظلمة دائمة.

و لكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، و قضى ساعات بل و أياما و أشهرا في رحابه ... ذكريات يتشوق الناس- و حتى هذا الساعة- الى سماعها من ذلك الغار، و لذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسرونه عما جرى فيها عند وقوع حادثة: «الوحي» العظيمة و ليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا جرت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:320

حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.

(1) و يتحدث ذلك الغار هو الآخر إليهم بلسان الحال و يقول: هاهنا المكان الذي كان يتعبد فيه عزيز قريش و فتاها الصادق الامين.

و هاهنا قضى ليالي و أياما عديدة و طويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة اللّه، و التأمل في الكون، و في آثار قدرة اللّه و عظمته.

أجل، لقد اختار محمّد صلّى اللّه عليه و آله ذلك المكان البعيد عن صحيح الحياة، للعبادة و التحنث، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه، و ربما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحيانا اخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع

إلى منزلها، تعرف أنه قد ذهب إلى «غار حراء» و أنه هناك مشتغل بالعبادة و التحنث و الاعتكاف. و كانت كلّما أرسلت إليه أحدا وجده في ذلك المكان مستغرقا في التأمل و التفكير، او مشتغلا بالعبادة و التحنث.

(2) لقد كان صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يبلغ مقام النبوة، و يبعث بالرسالة يفكر- اكثر شي ء- في أمرين:

1- كان يفكر في ملكوت السماوات و الارض، و يرى في ملامح كل واحد من الكائنات التي يشاهدها نور الخالق العظيم، و قدرته، و عظمته و علمه، و قد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل الى قلبه و عقله النور الالهيّ المقدس.

2- كان يفكر في المسئولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله.

إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق و انحطاط عريض، لم يكن في نظره و تقديره بالأمر المحال الممتنع. و لكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمرا خاليا من العناء و المشاكل، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع المكّي و ما يراه من ترف قريش، و كيفيّة رفع كل ذلك و اصلاحه.

لقد كان صلّى اللّه عليه و آله حزينا لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة، و العبادة للأصنام الخاوية الباطلة، و لطالما

سيد المرسلين ،ج 1،ص:321

شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه، و ملامح وجهه الشريف، و لكن لما لم يكن مأذونا بالافصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد، و منعهم عن تلك الانحرافات.

(1)

بدء الوحي:

لقد امر اللّه ملكا من ملائكته بأن ينزل على امين قريش و هو في غار حراء و يتلو على

مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية و السعادة، معلنا بذلك تتويجه بالنبوة، و نصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك الملك «جبرئيل»، و كان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.

و لا ريب أن ملاقاة الملك و مواجهته أمر كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، و ما لم يكن محمّد صلّى اللّه عليه و آله يمتلك روحا عظيمة، و نفسية قوية لم يكن قادرا قط على تحمّل ثقل النبوة، و ملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، و تلك النفس العظيمة و قد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، و التأمّل العميق الدائم، الى جانب العناية الالهية.

و لقد روى أصحاب السير و التاريخ انه رأى رؤى عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بيّن واضح وضوح النهار «1».

و لقد كانت ألذّ الساعات و أحبها عنده بعد كل فترة، تلك الساعات التي يخلو فيها بنفسه، و يتعبّد فيها بعيدا عن الناس.

و لقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتى أتاه- في يوم معين- ملك عظيم بلوح نصبه أمامه و قال له: «اقرأ»، و حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله كان اميا لم يدرس أجاب الملك بقوله: «ما أنا بقارئ».

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم ص 22، بحار الأنوار: ج 18 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:322

(1) فاحتضنه ذلك الملك، و عصره عصرة شديدة، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.

فعصره الملك ثانية عصرة شديدة و تكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات التي تشكل- في الحقيقة- ديباجة كتاب

السعادة البشرية، و اساس رقيها.

لقد قرأ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله تعالى:

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» «1».

و بعد أن انتهى جبرئيل من أداء مهمته التي كلّف بها من جانب اللّه تعالى، و بلّغ الى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جبل حراء، و توجه نحو منزل خديجة «2».

و لقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اجمالا، و بيّنت و بشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة و الكتابة، و العلم و المعرفة، و استخدام القلم.

(2)

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين:

لقد تسبّب التقدم العظيم و المتزائد الذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم و ادراك القضايا المعنوية و الخارجة عن اطار العلوم الطبيعية و بالتالي أدى الى تحديد و تضييق آفاق الفكر عندهم.

فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي، و انه ليس في الوجود من شي ء سوى المادة و ان كل ما لا يمكن تفسيره و تبريره بالقوانين و القواعد المادية فهو أمر باطل، و من نسج الخيال!!

______________________________

(1) العلق: 1- 5.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 236 و 237.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:323

(1) إن هذا الفريق- لتسرعه في اصدار الحكم في الامور المتعلقة- بالغيب و قضايا ما وراء الطبيعة، و حصر أدوات المعرفة بالحس و التجربة- انكروا عالم الوحي، بحجة أنّ الحسّ و التجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، و لا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، و مجهر الاختبار أنكروها بالمرة، و كانت النتيجة

أن أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ و التجربة) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم و لحقائقه أبدا!

إنّ هذا النمط من التفكير نمط جدّ ضيق و محدود، مضافا الى انه يتسم بالغرور و الغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجلة فجّة!!

فما دامت هذه الحقائق التي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل إليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك و المعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!!

(2) ان الذي لا شك فيه هو: ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاخرى لما فوق الطبيعة، و لو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب، بعيدا عن الأغراض و العصبيّات، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين و الالهيين في أقرب وقت، و أين يرتفع هذا الاختلاف الذي قسّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.

(3) لقد اقام المؤمنون الموحّدون عشرات الأدلة و البراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، و اثبتوا بأنّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، و ان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة و بواطنها لدليل قاطع، و برهان ساطع على وجود مبدع هذا النظام، و أن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ، من ذراته الى مجراته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، و لا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابدا أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، و مبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:324

(1) و هذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله عشرات الكتب و الدراسات.

و حيث ان (برهان

النظم) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم و مداركهم، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها، و سلك كل واحد من العلماء طريقا معينا و خاصا لتقريره، و بيانه، كما و درست الأدلة و البراهين الاخرى التي لا تتسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، و المؤلفات الفلسفية و الكلاميّة بصورة مفصلة و مبسوطة.

إنّ للعلماء الالهيين بيانات و أدلة في مجال (الروح المجردة)، و عوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا:

(2)

الروح المجردة:

إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة التي استقطبت اهتمام العلماء و شغلت بالهم بشدة.

فهناك فريق- ممّن اعتاد أن يخضع كل شي ء لمبضع التشريح- ينكر وجود (الروح)، و يكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي، و العاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

و وجود «الروح» و النفس غير المادية (اي المجردة المستقلة عن المادة) من القضايا التي عولجت و دورست من قبل المؤمنين باللّه، و المعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، و عميقة.

فهم أقاموا شواهد عديدة على وجود هذا الكائن (غير الماديّ) و هي أدلة و براهين لو تمّ التعرّف عليها و النقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين- في هذا المجال- من قواعد و اسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اخرى مشابهة مثل (الملائكة) و (الوحي) و (الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الذي شيدوه و مهدوه و برهنوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:325

عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة، المتقنة «1».

(1)

ظاهرة الوحي عند الماديّين:

يعتبر الاعتقاد بالوحي أساسا لجميع الرسالات، و الأديان السماوية، و تقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أن الذي يوحى إليه يمتلك روحا قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة، أو بواسطة ملك من الملائكة.

و يلخص العلماء المختصّون تعريفهم للوحي على النحو التالي: «الوحي تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية و العلم و لكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر».

و لكن الماديين- كما قلنا- لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، و ادراك هذه الظاهرة على حالها، و صورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم و نظرتهم إلى الامور و الكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي- التي هي كما

اسلفنا من قضايا الغيب و من عوالم ما فوق الطبيعة- مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.

و إليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية:

أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي:

1- قالوا: الوحي هي القدرة الفكرية، و النفسية و العقلية التي تحصل للإنسان بسبب التمرينات و الرياضات الروحية التي على اثرها تنفتح عليه أبواب من الغيب، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود «2».

فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع- على غرار ما يفعل المرتاضون- و إقبالهم

______________________________

(1) و لقد جاء تفصيل هذه البراهين و الأدلّة في الكتب الفلسفية مثل: «الإشارات» و «الأسفار».

و لقد اشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب (اللّه خالق الكون) فراجع.

(2) و هم الذي يمارسون عملية اليوجا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:326

على الرياضة الروحية يحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، و الكائنات الخفية على غيرهم.

و الجواب على هذه النظرية هو: أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطئون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يعهد من نبيّ أنه أخطأ في إخباراته، و إنباءاته.

هذا اولا و ثانيا: ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو: عرض الافعال العجيبة على الناس و ربما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية و قيادتها إلى ذرى الكمال و التقدم.

و ثالثا: ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يعرف إلى الآن أن أحدا منهم طلع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل و شامل للحياة البشرية الفردية و الاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما امروا به و هم على إيمان كامل، و يقين ثابت منه، هذا الى جانب أنهم يحملون الى البشرية برامج اجتماعية و حيوية جامعة

الاطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع إليها كل فضيلة و كل خير تعرفه المجتمعات الى الآن.

و رابعا: انّ أعمال المرتاضين و ما تحصل لهم من قوى و ينفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقات الأنبياء و آفاق علومهم، و أبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن أبدا تفسير و تعليل ظاهرة (الوحي) و ما يحصل للرسل و الأنبياء على اثره من امور تتخطى حدود العالم المادي المحدود، بالرياضة الروحية التي يمارسها المرتاضون و ما يحصل لهم على أثرها من امور.

2- قالوا: انّ (الوحي) نوع من النبوغ، او أنه ناشئ من النبوغ، و أن الأنبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر.

و قد شرحوا نظريتهم هذه قائلين: بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:327

صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع الى أفكار و قيم رفيعة و دعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، و السير على هديها، لتحقيق الخير و العدالة، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية الى سعادتها، فكل ما طرحوه من أفكار، و كل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين او القانون ليست- في الحقيقة- سوى نتيجة ما تمتعوا به من نبوغ، و فكر خارق، و لا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.

و قالوا: و ان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ امور ابرزها:

الحبّ، التعرض للظلم الطويل، الطفولة و ما يكتنفها من ضعف و عجز، الوحدة، السكوت، التربية الاولى، و العيش في صورة الأقلية و ما يرافقها من ظروف اجتماعية غير مؤاتية.

فان جميع هذه الامور أو بعضها تدفع بالشخص الى الانطوائية، و التفكير و التأمل، للاهتداء الى مخرج من المشاكل و الصعوبات، و مخلص من الظروف الصعبة، و

الأحوال الشاقة.

و يجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سلفا فهم حصروا الأشياء في المادة و الامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيرا ماديّا، غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير و التعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) التي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية و الفلسفية، و يرجع إليها أعظم القوانين و البرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تأثيرا في تقوية عملية «التفكير» لدى الانسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة النبوغ لديه، إلّا أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الأمر نبيّا خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه التي أتى بها طوال أربعة عشر قرنا.

نبيا لم تزل ما جاء به من معارف عقلية و فلسفية، و قوانين ترتبط بعالم الطبيعة و بالنظام الاجتماعي و آداب السلوك تحافظ على قوتها، و عمقها و أصالتها و لمعانها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:328

كل المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري و العقلي من تقدم، في المعارف و العلوم.

هذا مضافا الى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر و اصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى و ليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، التي تفسر النبوة بالنبوغ.

لنقرأ معا الآية التي يقول اللّه تعالى فيها حاكيا عن رسول الإسلام محمّد صلّى اللّه عليه و آله:

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» «1».

أو يقول سبحانه:

«إِنْ هُوَ إِلَّا س" وَحْيٌ" يُوحى» «2».

3- يقولون: إن الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي و ايحاؤها لما ينفعه و ينفع قومه المعاصرين له، إليه.

و ربما

قالوا: إنّ معلومات «محمّد» و أفكاره و آماله ولّدت لديه إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على محيلته السامية، و انعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك و ماثلا له و هو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

و توضيح هذه النظرية هو: ان لكل إنسان شخصيتين:

1- الشخصية الظاهرة العادية و هي التي تخضع للحواس الخمس و تعمل بها.

2- الشخصية الباطنية و هي التي تعمل عند ما تتعطل الحواس، و يتعطل الشعور الظاهري:

و هذه الشخصية هي التي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني التي لا تخضع لارادته كالكبد و القلب، و المعدة و غيرها، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ثم قالوا: و هذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس، فان المنوّم

______________________________

(1) الأنعام: 50.

(2) النجم: 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:329

مغناطيسيا يظهر بمظهر من العقل الراجح، و الفكر الثاقب و النظر البعيد، و يقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

و قد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم و تجاربهم إلى: ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية، و إن ما يتوصّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جدا، و ما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية و فعاليتها.

فقالوا: و ان هذه الشخصية هي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحيا من اللّه، و قد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاما عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم، و تهديه الى خير الطرق

لهداية نفسه و ترقية امته «1».

و لكن هذه النظرية هي الاخرى تنبع من الغرور العلميّ الذي أصاب هذا النمط من العلماء الّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي، و هو لا شك ينشأ من علمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق الى كشفه و التنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل و لكن كيف و على أيّ أساس حقّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة (الوحي الالهيّ) و النبوة بهذا الأمر؟

هذا أولا و ثانيا: انّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين القلقين، و السكارى، و المصابين بالهزيمة و النكسة، لأن نافذة (اللاوعي) عند غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية و همومها، و لا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط و الفعالية، كما

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي: ج 10 مادّة وحي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:330

هو العكس عند المتعبين و السكارى و المرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعي) مكانه للاوعي، و تترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

و لذلك نجد بين آلاف العلماء و المفكرين مفكرا أو عالما واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة او نظرية معينة من دون سابق تفكير او استدلال قائم على الشعور.

و خلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الانسانية قضية نادرة جدا، و هي لا تحدث إلّا في ظروف خاصة مثل: المنامات و الاحلام و غيرها من التحولات الحياتية التي تقلل من توجّه الانسان الى العالم الخارجيّ و تصرف التفاته و توجّهه الى الشخصية الباطنية.

و لكن هذه الحالة

و هذه الشرائط (أي الغافلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للانبياء قط.

فالنبي الأكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان طوال (23 سنة) و هي أعوام الرسالة، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية.

و التبليغية و قضايا الدعوة و القيادة كانت تهيمن على كل توجهه و اهتمامه و تملأ.

عقله و روحه و نفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال و الجهاد، و هذا يعني انه كان مشدودا بروحه و عقله كله إلى تلك الامور.

و ثالثا: ان هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الأنبياء، لو كان هؤلاء الأنبياء أفرادا متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه الحالات و الظروف مهّدت لانقطاعهم- عليهم السّلام- عن هموم الحياة، و قضاياها، و بالتالي مهّدت لفعالية الشخصية الباطنية و عملها.

و لكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بانهم كانوا- طيلة حياتهم الرسالية- رجالا مجاهدين، لا يهمهم إلّا اصلاح المجتمعات و قيادة الجماعات و حل المشكلات الاجتماعية، و رفع مستويات الناس معنويا و فكريا و كانوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:331

يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم و لا ملل، و لا تعب و لا نصب.

فكيف يمكن القول و الحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم و اوحت إليهم بحقائق و قيم و افكار؟

إن تفسير (الوحي الالهي) الذي يلقى الى الأنبياء و يكشف لهم عن أدق الحقائق و ارفعها، و أعظم المناهج و اكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة، أو بعبارة اخرى: حصر الوجود في المادة، و من هنا حاولوا إلباس كل شي ء حتى الامور المعنوية و الغيبية:

اللباس الماديّ، و اغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، و

عمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتى لظاهرة (الوحي) التي لا تقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافا إلى أن تفسير (الوحي الالهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، و خاصة في شأن رسول الإسلام «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يواجه اشكالات و مؤاخذات اخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير!!

و إنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله هي: أنّ هذه النظرية ليست رأيا جديدا و تهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.

(1) فان نظرية «الشخصية الباطنية، و الوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة و متقدمة لتهمة (الجنون و الصرع) التي كان يرمي بها العرب الجاهليّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون: ان ما يقوله «محمّد» و ما يتكلم به ليس إلا أفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، و انّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة التي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه و لا اختيار!!

(2) لنستمع الى القرآن الكريم و هو ينقل عنهم هذا الاتهام:

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:332

(1) و لكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله:

«وَ النَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى. وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» «1».

ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاما رائعا و بديعا هذه المزعمة (أي مقولة أن القرآن وليد الخيال لدى محمّد)، و يردّ الأمر إلى الوحي الالهي، و التوجيه الربانيّ العلويّ.

إن نظرية الوحي النفسيّ و تجلّي الشخصية الباطنية التي طلع بها الماديون في عصرنا ما هي في

الحقيقة إلّا غطاء لمزعمة المشركين و تهمة الجنون، و الخيال التي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الاسلامية و معارضوها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك التهمة التي يذكرها القرآن الكريم بقوله:

«وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» «2».

(2) و هي تهمة كان يوجهها المعارضون دائما إلى المصلحين و أصحاب الرسالات «3» و قد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، و تبلورت في نظرية:

«الوحي النفسيّ، و تجلّي الشخصيّة الباطنية». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم و التصورات الباطلة حول عمليّة الوحي و مسألة النبوّة و يرد على نسبة الكهانة و ما شابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الذي يشبه نسبة الجنون إليه صلّى اللّه عليه و آله، اذ يقول تعالى:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ. مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. فَأَيْنَ

______________________________

(1) النجم: 1- 5.

(2) الحجر: 6، و أيضا راجع الآيات التالية: سبأ: 8، الصافّات: 36، الدخان: 14، الطور: 29، القلم: 2، التكوير: 22.

(3) اذ يقول القرآن في هذا الصدد: «كذلك ما أتى الّذين من قبلهم من رسول إلّا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون» (الذاريات: 52 و 53).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:333

تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» «1».

بهذا البيان تبيّن بطلان هذا التفسير و جميع التفاسير الاخرى التي تحاول إعطاء (الوحي) طابعا ماديا مألوفا، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، و نحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحق في هذا المجال، ممّا

يؤيّد الواقع و العقل و الدين:

ظاهرة الوحي في منظار العقل و الدين:

لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من «الجهل» ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئا فشيئا، الى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسان بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ و الفكري يهتدي الى الحقائق الخارجة عن مجال الحس و اللمس، فيغدو عقلانيا استدلاليّا، و يقف على طائفة من الحقائق الكليّة و القوانين العلمية.

و ربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحاب نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام و من خلال بصيرة خاصة على حقائق و امور لا يهتدى إليها حتى عن طريق الاستدلال و البرهنة!

و من هنا قسّم العلماء ادراك البشر الى ثلاثة أنواع: «إدراك العامّة» «إدراك المفكرين و أرباب الاستدلال» «إدراك العرفاء و اصحاب البصائر و النفوس الكبرى».

و كأنّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس، و المفكرين يستعينون بالاستدلال و البرهنة، و أصحاب البصائر و المعرفة بالإلهام و الاشراق و بالفيض عليهم من العالم الأعلى.

______________________________

(1) التكوير: 20- 28.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:334

ان النوابغ في مجال الأخلاق، و ان عقول العلماء الخلاقة، و أفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد و تشهد بأن ما يحصلون عليه، و ما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي إلّا شرارات مضيئة و ملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها و بلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال و البرهنة و التأمل.

(1)

قنوات المعرفة الثلاث:

من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول الى مقاصده؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالبا، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني، و لا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودون قلة تكاملت عقولهم، و

تسامت أرواحهم. و هي كالتالي:

(2) 1- الطريق التجريبي و الحسي، و المقصود منه ذلك القسم من الإدراكات و المعلومات الواردة الى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات، و المشمومات و المطعومات و غيرها ممّا يستقرّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.

و قد استطاع البشر اليوم، و بفضل اختراع التلسكوبات و الميكروسكوبات و اجهزة التلفاز و الراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية و يمهّد لمزيد من سيطرتها على البعيد و القريب.

(3) 2- الطريق التعقّلي الاستدلالي: فان المفكرين يتوصّلون الى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير و التأمل و تشغيل جهاز العقل، و إقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة، و بذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة و الكمال العلمي.

إنّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة، و المسائل الفلسفية، و المعارف المرتبطة بصفات اللّه و أفعاله سبحانه و القضايا المطروحة في علم العقيدة و الأديان ناشئ برمّته من جهاز العقل، و حركته، و ناتج من عملية التفكير، و الاستدلال المذكورة.

(4) 3- طريق الإلهام: و هذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، و هو فوق نطاق

سيد المرسلين ،ج 1،ص:335

الحس و التعقل.

إنه نوع جديد من المعرفة و نمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالا من وجهة نظر العلم و ان كان يصعب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقا غير حسي و لا تعقّلي.

و أما من جهة الأصول العلمية فلا مجال لإنكاره، و لا مبرّر لعدّه من المحالات.

(1) إن طريق التعرّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن- في منهج الماديّين، و أصحاب النزعة المادية- ينحصر في قناتين لا أكثر، و هما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك- حسب نظرة

الأديان و الشرائع الكبرى و حسب نظرة الفلاسفة و العرفاء الالهيين- قناة ثالثة أيضا.

بل إنّ هذا الطريق الثالث- كما أسلفنا في مسألة الوحي- أكثر واقعية، و أقوى أسسا، و أوسع آفاقا عند من يدّعون الرسالة، و النبوة من جانب اللّه سبحانه، و إن نفوس اولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء و طراوة بفضل هذا الطريق، و في ضوء هذه القناة.

(2) و كلّما حصل ارتباط بين اللّه، و بين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص القيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية، و إعمال الفكر، و استخدام جهاز العقل.

و هذا النوع من الإلقاء يسمى حينا بالالهام، و بالاشراق حينا آخر.

و لكن كلما نتج من ارتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة و الأنظمة و البرامج الشاملة اطلق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، و سمّي الآتي بها (ملك الوحي) و الآخذ لها (نبيّا).

هذا و قد يوجب الإلهام الثقة و الاطمئنان للملهم إليه، و لكنّه لا يمكن أن يكون مبعث الاطمئنان و الثقة عند الآخرين «1».

______________________________

(1) و انما قلنا «قد» أي يمكن أن يوجب الاطمئنان و لم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الالهامات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:336

من هنا اعتبر العلماء «الوحي» الطريق المطمئنة الوحيدة الى المعرفة العامة ... الوحي الذي ينزل على الأنبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة، من المعجزة و غيرها.

(1)

أنواع الوحي و اصنافه:

إن في مقدور الروح الانسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة، و نحن هنا نشير الى هذه الطرق التي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام و ائمته، باختصار:

1- تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الالهام، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق

حكم (العلو البديهية) التي لا يتطرق إليها أي ريب و شك.

2- و قد يسمع عبارات و كلمات من جسم معين (كالجبل و الشجرة) كسماع موسى عليه السّلام كلام اللّه من الشجرة.

3- و ربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

4- و قد ينزل عليه ملك من جانب اللّه بكلام خاص.

و قد نزل القرآن الكريم على النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله من هذا الطريق، و قد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «1».

(2)

أساطير مختلفة:
اشارة

لقد كتب المؤرخون و الكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية، و ضبطوا كل

______________________________

- ليست معلومة و واضحة، و لا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية و الفجائية التي لا تستند الى اصول معلومة.

و بعبارة اخرى: يجب الفصل و التمييز بين الإلهامات الرحمانية و الإلقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية و الشرعية.

(1) الشعراء: 193- 195، و قد اشير في سورة الشورى الآية 51 الى هذه الطرق الأربع جميعها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:337

ما جل أو دقّ في هذا المجال، و ربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة و الأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم، و كتاباتهم.

غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة، و اهتم اتباعه و أصحابه و محبّوه بكل شاردة و واردة في حياته الشريفة.

إنّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شي ء- مهما صغر- من حياة النبيّ الاعظم صلّى اللّه عليه و آله و سيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات و التفاصيل في هذا المجال، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم و شخصيته العظيمة،

الطاهرة.

و مثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.

من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغافل عن مبدأ (الحذر و الاحتياط) في تحليله لحوادثها، و قضاياها، فلا يغافل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات و قصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

و إليك بقية ما جرى في واقعة نزول (الوحي) في حراء:

(1)

بقية حادثة نزول الوحي:

استنارت نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و روحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، و تعلّم كل ما ألقى عليه ملك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، و انتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفا حرفا، و كلمة كلمة.

و قد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:

يا محمّد ... أنت رسول اللّه ... و أنا جبرئيل.

و قيل: انه صلّى اللّه عليه و آله سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء و قد اضطرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لهذين الحدثين، اضطرب لعظمة المسئولية الكبرى التي القيت على كاهله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:338

(1) و كان هذا الاضطراب طبيعيا بعض الشي ء، و هو لا ينافي بالمرة يقينه صلّى اللّه عليه و آله، و إيمانه بصدق ما انزل عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة و السموّ و القوة و الصلابة، و مهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب، و بالعوالم الرّوحانية العليا فانّها عند ما تواجه لأول مرّة ملكا لم تره من قبل، و ذلك في مثل المكان الذي التقى النبي (فوق الجبل) لا بدّ أن يحصل لها مثل هذا الاضطراب، و لهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ما بعد.

ثم إن الاضطراب و التعب الشديد

قد تسبّبا في أن يتوجه النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت «خديجة» عليها السّلام، و عند ما دخل بيتها و وجدت على ملامحه آثار الاضطراب و التفكير سألته عن ما جرى له، فحدّثها بكل ما سمع و رأى و قصّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها، فعظّمت «خديجة» سلام اللّه عليها، أمره، ودعت له، و قالت: أبشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا.

ثم إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يشعر بالجهد و التعب قال لزوجته الوفيّة «خديجة»: دثّريني ... دثّريني.

فدثّرته، فنام بعض الشي ء.

(2)

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل:

لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن «ورقة» و قلنا أنّه كان ممن تنصّر و قرأ الكتب و سمع من أهل التوراة و الانجيل و كان ابن عم خديجة.

فعند ما سمعت «خديجة» زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله ما سمعته منه انطلقت إلى «ورقة» لتخبّره بما سمعته من زوجها الكريم، و شرحت له كل شي ء من ما جرى له مع جبرئيل.

فقال «ورقة» في جواب ابنة عمه: إن ابن عمّك لصادق ... و إن هذا لبدء النبوة، و إنه ليأتيه الناموس الاكبر (أي الرسالة و النبوة) «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 195.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:339

(1) إن ما ذكرناه الى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة التي وصلت إلينا، و التي دوّنت في جميع الكتب.

بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة امورا لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه و رسله العظام، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناه إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلّى اللّه عليه و آله.

و ما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية، أو أنّ

علينا تأويله بنوع من التأويل.

(2) و إنا لنعجب قبل كل شي ء من المفكّر المصريّ الدكتور «هيكل» كيف سمح لنفسه و هو الذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الاساطير الى التاريخ النبويّ، و قال: بأنّ هناك من دسّ في السيرة النبوية، عن عداوة أو جهل، بعض الاكاذيب.

و لكنه مع ذلك ينقل هنا امورا لا أساس لها من الصحّة أبدا، في حين اعطى فريق من علماء الشيعة- كالمرحوم الطبرسي- ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

(3) و إليك في ما يلي بعض هذه الاساطير و القضايا المختلفة (على أنها لم تكن جديرة بالاشارة أبدا لو لا أن بعض المحبّين الجهلاء، و الأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم، و كرروها في دراساتهم.

(4) 1- قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما دخل منزل خديجة، كان يفكّر في نفسه: لعلّ بصره خدعته، أو انه كاهن، او فيه جنون!!

و لكن لمّا قالت له خديجة: «إنّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد اللّه، إنك تصدق الحديث، و تؤدّي الأمانة، و تصل الرحم» اطمأنّ، و زال عنه الشك و التردّد، و ألقى على «خديجة» نظر شكر و مودة، ثم طلب أن يزمّل، فزمّل فنام!! «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 195، حياة محمّد: ص 134.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:340

(1) 2- يقول الطبري و غيره من مؤرخي السيرة: ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما سمع نداء يقول: «يا محمّد أنت رسول اللّه» أصابه خوف شديد حتى أنه همّ بأن يطرح نفسه من أعلى الجبل، فتبدى له (ملك الوحي) و منعه عن ذلك!!!

(2) 3- ثم إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم، فرأى «ورقة بن

نوفل» و شرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل، فقال له ورقة:

«و الذي نفسي بيده، إنّك لنبيّ هذه الامة، و قد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى و لتكذبنّه، و لتوذينّه و لتخرجنّه و لتقاتلنه» فأحس «محمّد» بأن ورقة يصدّقه، فاطمأن «1».

(3)

بطلان هذه المزاعم:

إن الذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الاساس، و قد دسّت في التاريخ و التفسير عن قصد و هدف، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

و ذلك:

(4) أولا: لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين و سيرهم.

إنّ القرآن الكريم قصّ علينا قضاياهم، و سيرهم، و قد وردت في هذا المجال روايات و أخبار كثيرة.

و إننا لا نجد أي أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم.

إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول (الوحي) على «موسى» بشكل كامل و يبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه السّلام و لا يذكر أي شي ء من الخوف، و الارتعاش، و الوحشة و الفزع، بحيث يحدّث نفسه بالانتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف و الفزع في مجال «موسى» كانت متوفرة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 238.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:341

أكثر، لأنه سمع في ليلة ظلماء و هو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبي مرسل.

و لكن موسى- كما يصرّح القرآن الكريم، بهذه الحقيقة- حافظ على هدوئه، و سكونه، و عند ما خاطبه اللّه تعالى بقوله: «أن ألق عصاك» القاها من فوره، و كان خوفه من ناحية العصى التي تبدّلت إلى ثعبان مخيف، لا من جهة الايحاء إليه.

فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول: كان «موسى» لحظة الوحي إليه مطمئنا هادئا ساكنا، و لكن أفضل الأنبياء

و المرسلين اضطرب عند سماع كلام الملك، و فزع الى درجة فكّر في طرح نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أن روح محمّد صلّى اللّه عليه و آله ما لم تكن مهيّأة من جميع الجهات و بصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ (النبوة) لا يمكن أن يمن عليه الرب الحكيم بمنصب النبوّة، و يختاره لمقام الرسالة، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرسل، و ارسال الأنبياء هو هداية الناس و ارشادهم.

و من كان كذلك من حيث ضعف الروح و وهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالانتحار خوفا «1» و فزعا كيف يمكن ان ينفذ الى نفوس الناس و يؤثر فيهم؟!

(1) ثانيا: كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادر من جانب اللّه، فطلب من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيرا له لأنه أفصح منه قولا «2» بينما لا يطمئن سيد المرسلين و خاتمهم؟!

(2) ثالثا: لقد كان «ورقة» مسيحيّا حتما، و لكنه عند ما أراد أن يزيل عن «محمّد» الشك و الاضطراب ذكر نبوّة «موسى» عليه السّلام و قال: قد جاءك الناموس الذي جاء موسى «3».

______________________________

(1) كما نقل هيكل في كتابه: «حياة محمّد».

(2) طه: 29.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 238 و قد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة عن المنتقى. و لكنه بلفظة-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:342

أ لا يدلّ هذا على أنّ ثمّة يدا إسرائيليّه وراء هذه الحبكة هي التي صاغت هذه القصة و اختلقتها في غفلة عما كان يدين به «ورقة» بطل القصة؟!

(1) كل هذا بغضّ النظر عن أن مثل هذه الامور تتنافى و العظمة التي نعهدها من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا تنسجم معها أبدا،

و يبدو أن كاتب «حياة محمّد» أدرك الى درجة ما خرافية هذه القصة و لذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة: «كما يقولون».

و قد حارب أئمة الشيعة هذه الاساطير بكل قوة، و أبطلوها برمتها.

فعند ما يسأل زرارة الإمام الصادق عليه السّلام مثلا: كيف لم يخف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما يأتيه من قبل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان:

قال الإمام عليه السّلام: «إنّ اللّه إذا اتخذ عبدا و رسولا، أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل اللّه عزّ و جلّ مثل الذي يراه بعينه» «1».

و يقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره، في هذا الصدد:

«إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلّا بالبراهين النيّرة و الآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شي ء سواها و لا يفزع، و لا يفرق» «2».

______________________________

- «عيسى» أيضا و لكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري و سيرة ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.

(1) بحار الأنوار: ح 18 ص 262 و في الكافي: ج 1 ص 271 نظيره.

(2) مجمع البيان: ج 10 ص 384.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:343

(1)

12 متى نزل الوحي أولا؟

اشارة

لقد تعرّض يوم مبعث رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله للاختلاف من حيث التعيين و التحديد فهو مثل يوم ولادته و يوم وفاته صلّى اللّه عليه و آله غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين و كتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث بالرسالة في السابع و العشرين من شهر رجب، و أن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسه.

[الرأي المشهور بين علماء السنة و استدلالهم]

بينما اشتهر عند علماء السنّة أن رسول الإسلام قد اوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كلّف «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه تعالى بهداية الناس، و بعث بالرسالة.

(2) و لما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته الصادقين، و تعتقد بصحة ما يرونه و يقولون به اتباعا لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم، في حديث الثقلين: «إنهما لن يفترقا» فانهم اتبعوا- في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف- القول المأثور- بنقل صحيح- عن عترة النبي المطهرين في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:344

هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول و عترته الطاهرة أن عظيم هذا البيت و سيّده (أي النبيّ) قد بعث في السابع و العشرين من شهر رجب، و هم في ذلك حجة.

و لهذا لا يمكن الشك و التردد في صحة هذا القول و ثبوته «1».

(1) نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، و حيث أن يوم بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، و القرآن عليه، لهذا يجب

القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم: اي شهر رمضان المبارك.

و إليك فيما يأتي الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:

1- «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» «2».

2- «حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «3» و تلك الليلة هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «4».

(2)

ما أجاب به علماء الشيعة:
اشارة

و لقد أجاب محدّثو الشيعة و مفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:

(3)

الجواب الأوّل:

إن الآيات المذكورة إنّما تدلّ على أن القرآن نزل في شهر رمضان و بالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، و لكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 189.

(2) البقرة: 185.

(3) الدخان: 1- 3.

(4) القدر: 1 و 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:345

الآيات، و أنها أين نزلت؟ و هي بالتالي لا تدل أبدا و مطلقا على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجا.

و الآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ الى البيت المعمور «1».

و على هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السابع و العشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

(1) و يؤيّد هذا الرأي قول اللّه تعالى في سورة الدخان: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فانّ هذه الآية- بحكم رجوع الضمير فيها الى الكتاب- تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة (في شهر رمضان)، و لا بدّ ان يكون هذا النزول غير ذلك النزول الذي تحقق في يوم المبعث الشريف، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر.

و خلاصة الكلام هي ان الآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الذي نزلت فيه بضع آيات

أيضا كان في ذلك الشهر نفسه، لأنّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

و في هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».

و قد روى علماء الشيعة و السنة روايات و أخبارا بهذا المضمون، و بخاصة

______________________________

(1) للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:346

الاستاذ الأزهري محمّد عبد العظيم الزرقاني الذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه «1».

(1)

الجواب الثاني:

و هو أمتن الاجوبة و الردود على هذا القول.

فقد بذل الاستاذ الطباطبائي جهدا كبيرا لتوضيحه و بيانه في كتابه القيم؛ و إليك خلاصته:

يقول العلامة الطباطبائي: إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأن للقرآن مضافا الى وجوده التدريجي، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك «2».

و حيث أنّ النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقراءته حتى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجا اذ يقول تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «3».

و خلاصة هذا الجواب هي: أنّ للقرآن الكريم وجودا جميعا علميا واقعيا و هو الذي نزل على الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله مرة واحدة في شهر رمضان، و آخر وجودا تدريجيا كان بدء نزوله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يوم

المبعث، و استمرّ تنزله الى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

(2)

الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن و البعثة

إن للوحي- كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي اجمالا- مراتب

______________________________

(1) مناهل العرفان في علوم القرآن: ج 1 ص 37.

(2) الميزان: ج 2 ص 14- 16.

(3) طه: 114.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:347

و مراحل، يتمثل أول مراتبه في الرؤيا الصادقة التي رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و المرتبة الاخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك.

و آخر تلك المراتب هو أن يسمع النبي كلام اللّه من ملك يبصره و يراه، و يتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الاخرى.

و حيث أن النفس الانسانية لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمّل مراتب (الوحي) جميعها دفعة واحدة بل لا بدّ أن يتحملها تدريجا، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع و العشرون من شهر رجب) النداء السماويّ الذي يخبره بأنه رسول اللّه، فقط و لم تنزل في مثل هذا اليوم أيّة آية قط، و قد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

(1) و خلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتما.

و على هذا الاساس ما المانع من ان يبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر رجب، و ينزل القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

ان هذه الاجابة و إن كانت لا توافق كثيرا من النصوص التاريخية (لأن كثيرا من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في

يوم المبعث نفسه) إلّا أن هناك- مع ذلك- روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للنداء الغيبيّ، و لم تذكر شيئا عن نزول قرآن أو آيات، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:

في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملكا يقول له: يا محمّد إنّك لرسول اللّه، و جاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء، فقط، و لم تذكر شيئا عن مشاهدة الملك.

و للمزيد من التوضيح، و التوسع يراجع «البحار» في هذا المجال «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 184 و 190 و 193 و 253، الكافي: ج 2 ص 460، تفسير العيّاشي: ج 1،-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:348

على أن هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة التي تقول بأن مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان في شهر رجب، و كان نزول القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية التي استغرقت ثلاثة أعوام.

الأنبياء و البشارة برسول اللّه:

و ينبغي- استكمالا لهذا الفصل من التاريخ النبوي- ان نلفت نظر القارئ الكريم الى ان الرسالة المحمّدية المباركة، ممّا بشر به جميع الأنبياء المتقدمين زمنيا على خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك اذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

و هذه الآية و إن كانت تكشف عن أصل عام و كلّي و هو: وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق، إلّا أن المصداق الأتمّ لها هو

رسول الإسلام الكريم.

فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الأنبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يدعوا أتباعهم إلى تصديقه و اتباعه و نصرته.

روى الفخر الرازي عن امير المؤمنين علي عليه السّلام:

«إن اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السّلام و من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام إلّا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد و هو حي ليؤمننّ به و لينصرنه» «2».

و ممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل الكتاب إلى بيان ما قرءوه و وجدوه في

______________________________

- ص 80، و هذا الجواب لا ينسجم فقط مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.

(1) آل عمران: 81.

(2) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 507.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:349

كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان و إليك فيما يأتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر:

1- قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» «1».

2- قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «2».

3- و قال تعالى:

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «3».

4- و قال سبحانه:

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ

عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «4».

ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان السيد المسيح (عليه السّلام) اخبر عن رسول الإسلام و رسالته اذ يقول تعالى:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ

______________________________

(1) آل عمران: 187.

(2) البقرة: 174.

(3) البقرة: 146.

(4) الاعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:350

بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

كما يتحدث القرآن الكريم عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله عند ما بعث و قد كانوا من قبل يخبرون عنه و يطلبون النصر به على اعدائهم اذ قال سبحانه:

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «2».

بل و يخبرنا القرآن الكريم بأنّ إبراهيم عليه السّلام يوم أحلّ زوجته و ولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا:

«رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «3».

و قد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ يصفه القرآن الكريم بقوله:

«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «4».

محمّد خاتم الأنبياء:

و استكمالا لهذا البحث ينبغي أيضا أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نبوته

و هي مسألة الخاتمية.

فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاتم النبيّين، و شريعته خاتمة الشرائع، فلا نبيّ بعده، و لا رسالة بعد رسالته.

______________________________

(1) الصف: 6.

(2) البقرة: 89.

(3) البقرة: 129.

(4) آل عمران: 164.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:351

و ها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال:

1- قال تعالى:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» «1».

2- قال سبحانه:

«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» «2».

3- و قال سبحانه:

«وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» «3».

4- و قال تعالى:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» «4».

و الآيات الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله عامة و عالمية و أبدية لأنه في غير هذه الحالة و في غير هذه الصورة لن يكون نبيا للناس كافة، و للعالمين جميعا. و لن يكون نذيرا لقومه و لمن بلغه نداؤه.

هذا و قد صرّح النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع و هو الصادق المصدّق.

فعن ابي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ارسلت إلى الناس كافة و بي ختم النبيّون» «5».

______________________________

(1) الأحزاب: 40.

(2) الفرقان: 1.

(3) الانعام: 19.

(4) سبأ: 28.

(5) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 128.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:353

(1)

13 ما سبقني أحد

أوّل من آمن بالنبيّ من الرجال و النّساء:
اشارة

لقد انتشر الإسلام في العالم بصورة تدريجية، و يوصف الذين بادروا الى الإيمان بالرسالة الإسلامية و المساعدة على نشرها قبل غيرهم ب «السابقين».

و قد كان السبق الى الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صدر الإسلام معيارا للفضل

و لهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة، و نتعرف على من سبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال، و من النساء.

(2)

من النساء: «خديجة»

إن من المسلّم به تاريخيا أن «خديجة» كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يخالف في هذا احد «1»، و نحن هنا ننقل مستندا تاريخيا مهما واحدا ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مكتفين به رعاية للاختصار.

تقول عائشة: ما غرت على نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا على «خديجة» و إنّي لم ادركها، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يكاد يخرج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:354

من البيت حتى يذكر «خديجة» فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الايام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّا عجوزا فقد أبدلك اللّه خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال:

«لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني اذ كذّبني النّاس، و واستني في مالها اذ حرمني الناس و رزقني اللّه منا اولادا اذ حرمني أولاد الناس» «1».

(1) و ممّا يدل أيضا على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كل نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي، و نزول القرآن، لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما انحدر من غار «حراء» و اخبر زوجته «خديجة» بما جرى له واجه- رأسا- ايمان زوجته به و قبولها لكلامه، و تصديقها برسالته، تصريحا و تلويحا.

هذا مضافا الى أنها كانت قد سمعت من قبل أخبارا تتعلق بنبوّته و مستقبل رسالته من كهنة العرب و

أهل الكتاب، و هذه الأخبار و امانة فتى قريش و صدقه الذي اشتهر به هي التي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ (محمّد).

(2)

أقدم الرجال اسلاما: «عليّ»
اشارة

إن المشهور المقارب للمتفق عليه بين المؤرخين، سنة و شيعة، هو أن «عليا» كان اول من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الرجال.

و نرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالا أخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضا.

فمثلا يقال: إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه و ابنه بالتبني، أو أبو بكر كان أول من أسلم،

[الدلائل التأريخية و النصوص الدالة على أسبقية الإمام علي]
اشارة

و لكن دلائل عديدة (نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار) تشهد على خلاف هذين القولين.

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 7 ص 134، صحيح البخاري: ج 5 ص 39، اسد الغابة لابن الأثير الجزري:

ج 5 ص 428، بحار الأنوار: ج 16 ص 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:355

و إليك بعض هذه الدلائل:

(1)

1- عليّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقى علي عليه السّلام تربيته في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نشأ و ترعرع في بيته منذ طفولته، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يجتهد في تربيته و العناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرخين و كتّاب السيرة بالاتفاق: إنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة (قبل بعثة النبي) و كان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس عمّه، و كان من أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله، آخذ من بنيه رجلا و تأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى اتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه (إلى ان قال:) فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا فضمّه إليه، و أخذ العباس جعفرا فضمّه إليه فلم يزل علي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى بعثه اللّه تبارك و تعالى نبيا فاتبعه علي رضي اللّه عنه و آمن به و صدقه «1».

(2) في هذه الصورة يجب أن نقول بأنّ عليا عليه السّلام انتقل إلى بيت النبيّ و هو دون الثامنة، لأنّ الغرض من أخذ النبي إيّاه

من أبيه «أبي طالب» هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة (أبي طالب)، و من الواضح أنّ صبيّا في مثل هذا السنّ (دون الثامنة) مضافا إلى أنّ فصله عن والديه أمر في غاية الصعوبة، لن يكون لأخذه و تكفّله أي أثر هامّ في وضع أبيه «أبي طالب» المعيشيّ.

و على هذا يجب أن نفترض له عليه السّلام عمرا يكون لأخذه فيه من قبل النبيّ تأثيرا معتدا به في وضع أبيه الاقتصادي و المعيشي.

______________________________

(1) السيرة النبويّة: ج 1 ص 246، البداية و النهاية: ج 2 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:356

فكيف يمكن القول- و الحال هذه- أن أباعد عن البيت النبويّ مثل «زيد بن حارثة» و غيره اطّلعوا على أسرار الوحي، بينما جهل ابن عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و اقرب الناس إليه، و الذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلّى اللّه عليه و آله و ما نزل عليه.

(1) إنّ غرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تربية الإمام عليّ و تكفّله إياه كان الى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات، و لم يكن ثمة شي ء أحبّ الى رسول اللّه من أن يهدي أحدا إلى الصراط المستقيم، فكيف يمكن أن يقال- و الحال هذه- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حرم ابن عمّه الذي كان يتمتع بذكاء باهر و ضمير يقظ، من هذه النعمة الكبرى.

إن من الأفضل أن نسمع هذا الأمر من لسان «علي» نفسه، فقد بيّن عليه السّلام في الخطبة القاصعة منزلته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قربه إليه هكذا:

«و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة، و المنزلة

الخصيصة، وضعني في حجره و أنا وليد، يضمّني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه (عرقه) ... و لقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل إثر امّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه، و خديجة و أنا ثالثهما أرى نور الوحي و الرّسالة و أشمّ ريح النبوة» «1».

(2) و جاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحاق قال: كان اول ذكر آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى معه و صدّق بما جاءه من عند اللّه «علي بن ابي طالب» عليه السّلام و هو يومئذ ابن عشر سنين، و كان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب عليه السّلام انه كان في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) نهج البلاغة: ج 2 ص 182، و في هذه الخطبة نفسها يقول: اللّهمّ إني أوّل من أناب و سمع و اجاب لم يسبقني إلّا رسول اللّه بالصلاة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:357

قبل الإسلام «1».

(1)

2- عليّ و خديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ:

ينقل ابن الاثير في «اسد الغابة»، و ابن حجر في «الإصابة» عند ترجمة «عفيف الكندي» و كثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه، بأنه قال:

كنت امرأ تاجرا فقدمت «منى» أيام الحج، و كان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا فأتيته أبتاع منه و أبيعه، قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي، و خرج غلام يصلّي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين، إنّ هذا الدين ما ندري

به؟ فقال: هذا محمّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله و أن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه، و هذه امرأته «خديجة بنت خويلد» آمنت به و هذا الغلام ابن عمه «علي بن أبي طالب» آمن به قال عفيف: فليتني كنت رابعهم «2».

و هذه الواقعة ينقلها و يرويها حتى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ و كتابتها، و في امكان القارئ الكريم ان يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.

(2)

3- أنا الصدّيق الأكبر:

تلاحظ هذه العبارة و نظائرها كثيرا، في خطب الإمام عليّ عليه السّلام و كلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة:

«أنا عبد اللّه، و أخو رسول اللّه، و أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، و لقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، و أنا أوّل من

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 57.

(2) الإصابة: ج 2 ص 480، تاريخ الطبري: ج 2 ص 57. الكامل: ج 2 ص 37 و 38، اعلام الورى:

ص 25، اسد الغابة: ج 3 ص 414.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:358

صلّى معه» «1».

(1)

4- أوّلكم إسلاما: علي

و لقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بتعابير متنوعة قال فيها:

«أوّلكم واردا عليّ الحوض، أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب» «2».

و عند ما يدرس المنصف المحايد هذه الأحاديث، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام، و تقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمّدية، و لا يختار القولين الآخرين اللّذين لا يذهب إليهما إلّا الأقليّة.

فإنّ ما يناهز الستين شخصا من الصحابة و التابعين يؤيدون القول الأول (أي أن عليّا أول القوم إسلاما و أقدمهم أيمانا) و حتى الطبريّ نفسه الذي شكّك في هذا القول، و اكتفى بنقله دون اختياره و تأكيده، روى في ج 2 ص 60 بأن «ابن سعد» سأل اباه قائلا: أ كان أبو بكر أولكم إسلاما، فقال: لا و لقد أسلم قبله اكثر من خمسين.

و من غريب الأمر ان مؤرخا كبيرا كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ص 334 من كتابه «البداية و النهاية» حديثا صحيحا بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين و أنّه أوّل من اسلم و صلّى ثمّ أردفه بقوله: و هذا

لا يصح: من أي وجه كان روي عنه، و قد ورد في أنّه أوّل من أسلم من هذه الأمّة أحاديث كثيرة لا يصح منها شي ء ... إلخ.

و قد تصدى العلامة المحقق الاميني رحمه اللّه للردّ على هذا المقال بالتفصيل و نظرا لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني و ما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.

______________________________

(1) خصائص النسائي: ص 3 و سنن ابن ماجه: ج 1 ص 57، مستدرك الحاكم: ج 1 ص 112، تاريخ الطبري: ج 2 ص 56 و غيرها. سيد المرسلين ج 1 358 4 - أولكم إسلاما: علي ..... ص : 358

(2) يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير: ج 3 ص 220.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:359

يقول العلامة الاميني:

نسائل هذا الرّجل لم لا يصح شي ء منها من أيّ وجه كان؟! و الطرق صحيحة، و الرّجال نقات، و الحفّاظ حكموا بصحّته، و أرباب السير أطبقوا عليه، و كان من المتسالم عليه بين الصّحابة الأوّلين و التابعين لهم بإحسان.

و نحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (أعاذنا اللّه عن مثلها) و تخفى عليه جليّة الحال فيهمنا ذكر نزر ممّا يدلّ على المدّعى و إن لم يسعنا ايراد كثير منه روما للاختصار.

النصوص النبوية:

1- قال صلّى اللّه عليه و آله: أوّلكم واردا- ورودا- على الحوض أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب.

أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 و صحّحه م- و الخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 و يوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

و في لفظ: أوّل هذه الأمّة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ

بن أبي طالب، رضي اللّه عنه. السيرة الحلبيّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيّة.

و في لفظ: أوّل الناس ورودا على الحوض أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب مناقب الفقيه ابن المغازلي. مناقب الخوارزمي.

2- قال صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: زوّجتك خير أمّتي أعلمهم علما، و أفضلهم حلما و أوّلهم سلما. راجع ما مرّ ص 95.

3- قال صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: إنّه لأوّل أصحابي إسلاما. أو: أقدم أمّتي سلما. حديث صحيح راجع ص 95

4- أخذ صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ، فقال: إنّ هذا أوّل من آمن بي، و هذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، و هذا الصدّيق الأكبر. راجع الجزء الثاني

سيد المرسلين ،ج 1،ص:360

ص 313، 314.

5- عن أبي أيوب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد صلّت الملائكة عليّ و على علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي و ليس معنا احد يصلّي غيرنا.

مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين م- أسد الغابة 4: 18 و مناقب الخوارزمي و فيه: و لم ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح ابن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.

6- ابن عبّاس قال قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اوّل من صلّى معي عليّ. فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.

7- معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ! اخصمك بالنبوّة و لا نبوّة بعدي، و تخصم الناس بسبع و لا يجاحدك فيه أحد من قريش، أنت أوّلهم ايمانا باللّه، و أوفاهم بعهد اللّه، و أقومهم بأمر اللّه. الحديث.

(حلية الأولياء 1

ص 66).

8- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلّي- و ضرب بين كتفيه-: يا عليّ لك سبع خصال لا يحاجّك فيهنّ أحد يوم القيامة؛ أنت أوّل المؤمنين باللّه ايمانا، و أوفاهم بعهد اللّه، و أقومهم بأمر اللّه. الحديث. (حلية الأولياء 1 ص 66).

9- من حديث أبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّه قال لعليّ عليه السّلام: هذا أوّل من آمن بي و صدّقني و صلّى معي. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

10- إنّ أبا بكر و عمر خطبا فاطمة فردّهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لم أومر بذلك. فخطبها عليّ فزوّجه إيّاها و قال لها: زوّجتك أقدم الأمّة إسلاما. روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس و أمّ أيمن و ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 257.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:361

كلمات امير المؤمنين عليه السّلام:

1- قال عليه السّلام: أنا عبد اللّه، و أخو رسول اللّه، و أنا الصّديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفتري، و لقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، و أنا أوّل من صلّى معه.

إسناده من طريق ابن أبي شيبة و النسائي و ابن ماجة و الحاكم و الطبري «1» صحيح رجاله ثقات، راجع الجزء الثاني من كتابنا 314.

2- قال عليه السّلام: أنا أوّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

3- قال عليه السّلام: أنا أوّل من أسلم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه الخطيب

البغدادي في تاريخه 4 ص 233.

4- قال عليه السّلام أنا أوّل من صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه أحمد، و الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» و قال: رجاله رجال الصحيح غير حبّة العرني و قد وثق. و أخرجه أبو عمرو في الإستيعاب 2 ص 458.

و ابن قتيبة في «المعارف» ص 74 من طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليه السّلام. و الإسناد صحيح رجاله ثقات.

5- قال عليه السّلام أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين. الرّياض النضرة 2 من 158.

6- قال عليه السّلام: عبدت اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة. مستدرك الحاكم 3 ص 112.

7- قال عليه السّلام: عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليّا يقول:

صلّيت قبل النّاس سبع سنين، و كنّا نسجد و لا نركع، و أوّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

______________________________

(1) في تاريخه 2 ص 213.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:362

8- قال عليه السّلام: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة خمس سنين. الإستيعاب 2 ص 448. الرّياض النضرة 2 ص 158. السيرة الحلبيّة 1 ص 288.

9- قال عليه السّلام: آمنت قبل الناس سبع سنين. خصائص النسائي ص 3.

10- قال عليه السّلام: ما أعرف أحدا من هذه الأمّة عبد اللّه بعد نبينا غيري، عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة تسع سنين. خصائص النسائي ص 3.

11- من خطبة له عليه السّلام يوم صفّين: و ابن عمّ نبيّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربّكم، و يعمل بسنّة نبيّكم صلّى اللّه عليه، فلا سواء من

صلّى قبل كلّ ذكر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه. كتاب نصر ص 355.

شرح ابن أبي الحديد 1 ص 503.

12- قال عليه السّلام: اللهمّ لا أعرف عبدا من هذا الأمّة عبدك قبلي غير نبيّك [قاله ثلاث مرّات] ثمّ قال: لقد صلّيت قبل أن يصلّي الناس. و في لفظ:

قبل أن يصلّي أحد. أخرجه أحمد، أبو يعلى، البزّاز، الطبراني، الهيثمي في المجمع 9 ص 102. و قال: إسناده حسن. شيخ الإسلام الجويني في الفرائد الباب 48.

13- من كتاب له عليه السّلام كتبه إلى معاوية: انّ أولى النّاس بأمر هذه الأمّة قديما و حديثا أقربها من رسول اللّه، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، و أوّلها إسلاما، و أفضلها جهادا. كتاب صفّين لابن مزاحم ص 168 ط مصر.

14- في حديث عنه عليه السّلام: لا و اللّه إن كنت أوّل من صدّق به فلا أكون أوّل من كذب عليه. المحاسن و المساوئ 1 ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 ص 218.

15- قال عليه السّلام: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و أسلمت يوم الثلاثاء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:363

مجمع الزوائد 9 ص 102. تاريخ القرماني 1 ص 215. الصواعق 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين 148.

16- من كتاب كتبه عليه السّلام إلى معاوية: انّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لمّا دعا إلى الإيمان باللّه و التوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به؟ و صدّق بما جاء به، فلبثنا أحوالا مجرّمة (أي كاملة) و ما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا. كتاب صفّين لابن مزاحم ص 100.

17- قال عليه السّلام يوم صفّين مخاطبا أصحاب معاوية: و يحكم أنا أوّل من

دعا إلى كتاب اللّه، و أوّل من أجاب إليه. كتاب نصر 561.

18- قالت معاذة بنت عبد اللّه العدويّة: سمعت عليّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، و أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر. راجع الجزء الثاني ص 314.

19- قال عليه السّلام في خطبة خطبها في معسكر صفّين: أ تعلمون أنّ اللّه فضّل في كتابه السابق على المسبوق، و أنه لم يسبقني اللّه و رسوله أحد من الأمّة؟! قالوا: نعم. راجع الجزء الأوّل ص 195.

20- قال عليه السّلام صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين قبل أن يصلّي معه أحد من النّاس. أخرجه أحمد باسنادين.

21- قال عليه السّلام يوم الشورى في حديث أسلفناه: أمنكم أحد وحّد اللّه قبلي؟ قالوا: لا. أمنكم أحد صلّى القبلتين غيري؟ قالوا: لا. راجع ج 1 ص 159- 163، و هذه الفقرة من الحديث عدّها ابن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرّوايات.

22- مرّ في الجزء الثاني ص 25 في أبيات له عليه السّلام كتبها إلى معاوية:

سبقتكم إلى الإسلام طرّاغلاما ما بلغت أوان حلمي 23- ذكر ابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص 11 له عليه السّلام:

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي به ربيت و سبطاه هما ولدي

صدّقته و جميع النّاس في بهم من الضّلالة و الإشراك و النكد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:364

قال: قال جابر: سمعت عليّا ينشد بهذا و رسول اللّه يسمع: فتبسّم رسول اللّه و قال: صدقت يا علي؟

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السّلام:

24- من خطبة للإمام الحسن عليه السّلام في مجلس معاوية قوله: أنشدكم اللّه أيّها الرّهط؟ أ تعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين

كلتيهما؟

و أنت يا معاوية بهما كافر، تراها ضلالة، و تعبد اللات و العزّى غواية؛ و أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّه بايع البيعتين كلتيهما: بيعة الفتح و بيعة الرضوان؟ و أنت يا معاوية بإحداهما كافر، و باخرى ناكث. و أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّه أوّل الناس ايمانا؟! و إنّك يا معاوية و أباك من المؤلّفة قلوبهم. شرح ابن أبي الحديد 2 ص 101.

25- و في خطبة له عليه السّلام مرّت في ج 1 ص 198: فلمّا بعث اللّه محمّد للنبوّة، و اختاره للرّسالة، و أنزل عليه كتابه ثمّ أمره بالدعاء إلى اللّه، فكان أبي أوّل من استجاب للّه و لرسوله، و أوّل من آمن و صدّق اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و قد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيّه المرسل: «أ فمن كان على بيّنة من ربّه و يتلوه شاهد منه» فجدّي الّذي على بيّنة من ربّه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه.

رأي الصحابة و التابعين في أوّل من أسلم

1- أنس بن مالك قال: نبّئ (بعث) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و أسلم عليّ يوم الثّلاثاء. و في لفظ له: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء.

أخرجه الترمذي في جامعه 2 ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. ابن عبد البرّ في الإستيعاب 3 ص 32. ابن الأثير في جامع الأصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الجويني في فرائد السمطين الباب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:365

47. و أوعز إليه العراقي في التقريب 1 ص 85. و يوجد في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258. تذكرة السبط 63. السراج المنير شرح الجامع الصغير

2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241.

2- بريدة الأسلمي قال: اوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء. أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 112 و صحّحه هو و أقرّه الذهبي.

3- زيد بن أرقم قال: أوّل من أسلم مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الطبري بإسنادين صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4 ص 368.

مستدرك الحاكم 4 ص 336 و صحّحه هو و أقرّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

4- زيد بن أرقم قال: أوّل من صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ.

أخرجه أحمد و الطبراني كما في مجمع الهيثمي 9 ص 103 و قال: رجال أحمد رجال الصحيحين. أبو عمرو في الإستيعاب 2 ص 459.

5- زيد بن أرقم قال: أوّل من آمن باللّه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ص 459.

6- عبد اللّه بن عبّاس قال: أوّل من صلّى عليّ.

جامع الترمذي 2 ص 215. تاريخ الطبري 2 ص 241 بإسناد صحيح.

الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

7- عبد اللّه بن عبّاس قال: لعليّ أربع خصال ليست لأحد: هو أوّل عربيّ، و أعجميّ صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. مستدرك الحاكم 3 ص 111. الإستيعاب 2 ص 457.

8- عبد اللّه بن عبّاس قال مجاهد: إنّه قال: أوّل من ركع مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية: و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و اركعوا مع الراكعين. تذكرة السبط 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:366

9- عبد اللّه بن عبّاس قال في

خطبة له: إنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طعام أهل الشام أعوانا على عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه و صهره و أوّل ذكر صلّى معه.

كتاب صفّين لابن مزاحم 360. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175.

10- عبد اللّه بن عبّاس قال: فرض اللّه تعالى الاستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى: «ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان». فكلّ من أسلم بعد عليّ فهو يستغفر لعليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

11- عبد اللّه بن عبّاس قال: أوّل من أسلم عليّ بن أبي طالب.

الإستيعاب 2 ص 458. مجمع الزوائد 9 ص 102.

12- عبد اللّه بن عبّاس قال: كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما.

الإستيعاب 2 ص 457 و قال: قال أبو عمرو رضي اللّه عنه: هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحّته و ثقة نقلته. و صحّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242.

13- كان ابن عبّاس بمكّة يحدّث على شفير زمزم و نحن عنده فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا بن عبّاس؟ إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنّهم يتبرّءون من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه و يلعنونه. فقال: بل لعنهم اللّه في الدنيا و الآخرة و أعدّ لهم عذابا مهينا. أ لبعد قرابته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ و إنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين ايمانا باللّه و رسوله؟ و أوّل من صلّى و ركع و عمل بأعمال البرّ؟ قال الشامي: انّهم و اللّه ما ينكرون قرابته و سابقته غير انّهم يزعمون أنّه قتل الناس. الحديث.

المحاسن و المساوئ للبيهقي 1 ص 30.

14- عفيف قال: جئت في الجاهليّة إلى مكّة و أنا اريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها و عطرها فأتيت العبّاس بن عبد المطلب و كان رجلا تاجرا فأنا عنده جالس

سيد المرسلين ،ج 1،ص:367

حيث أنظر إلى الكعبة و قد حلقت الشمس في السّماء فارتفعت و ذهبت إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السّماء ثمّ قام مستقبل الكعبة ثمّ لم البث إلّا يسيرا حتّى جاء غلام فقام على يمينه، ثمّ لم يلبث إلّا يسيرا حتّى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة، فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة، فسجد الشابّ فسجد الغلام و المرأة فقلت: يا عبّاس؟ أمر عظيم. قال العبّاس: أمر عظيم، أ تدري من هذا الشابّ؟ قلت: لا. قال: هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي. أ تدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي. أ تدري من هذه المرأة؟

هذه خديجة بنت خويلد زوجته، انّ ابن أخي هذا أخبرني انّ ربّه ربّ السماء و الأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، و لا و اللّه ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

خصايص النسائي 3. تاريخ الطبري 2 ص 21. الرّياض النضرة 2 ص 158.

الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93. الكامل لابن الاثير 2 ص 22.

السيرة الحلبيّة 1 ص 288.

15- سلمان الفارسي قال: أوّل هذه الأمّة ورودا على نبيّها الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

الإستيعاب 2 ص 457. مجمع الزوائد 9 ص 102 و قال: رجاله ثقات.

و عدّه الإسكافي في رسالته على العثمانيّة. و أبو عمرو في الإستيعاب. و العراقيّ في شرح التقريب 1 ص 85. و

القسطلاني في المواهب 1 ص 45 ممّن روى أنّ عليّا أوّل من أسلم.

16- أبو رافع قال: صلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوّل يوم الاثنين و صلّت خديجة آخره و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء من الغد.

أخرجه الطبراني كما في شرح المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92.

و تجده و سابقه في الرّياض النضرة 2 ص 158. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

17- أبو رافع قال: مكث عليّ يصلّي مستخفيا سبع سنين و أشهرا قبل أن يصلّى أحد. أخرجه الطبراني. الهيثمي في المجمع 9 ص 103. الجويني في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:368

الفرائد ب 47.

18- أبو ذر الغفاري، عدّ ممّن روى انّ عليّ بن أبي طالب أوّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. التقريب و شرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

19- خباب بن الأرت قال: رأيت عليّا يصلّي قبل الناس مع النبيّ و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ. رسالة الإسكافي. و عدّ ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. و المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

20- المقداد بن عمرو الكندي، ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم كما في الإستيعاب 2 ص 456. و التقريب و شرحه 1 ص 85. و المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

21- جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء. الطبري 2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258، و عدّه أبو عمرو و العراقيّ و القسطلاني ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم.

22- أبو سعيد الخدري روى إنّ عليّ بن أبي طالب أوّل من

أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. شرح التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

23- حذيفة بن اليمان قال: كنّا نعبد الحجارة و نشرب الخمر و عليّ من أبناء أربع عشرة سعة قائم يصلّي مع النبيّ ليلا و نهارا، و قريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يذبّ عنه إلّا عليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

24- عمر بن الخطّاب قال عبد اللّه بن عبّاس: سمعت عمرو عنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر: أمّا علي فسمعت رسول اللّه: يقول فيه ثلاث خصال، لوددت أن تكون لي واحدة منهنّ، و كانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا و أبو عبيدة و أبو بكر و جماعة من أصحابه إذ ضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على منكب عليّ رضي اللّه عنه فقال له: يا عليّ؟ أنت أوّل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:369

المؤمنين ايمانا، و أوّل المسلمين إسلاما، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

رسالة الإسكافي. مناقب الخوارزمي. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

25- عبد اللّه بن مسعود قال: أوّل حديث علمته من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي (و ذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226) رسالة الإسكافي.

26- أبو أيّوب الأنصاري، أخرج الطبراني عنه انّه قال: أوّل الناس إسلاما عليّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242.

27- أبو مرازم يعلى بن مرّة، عدّة الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال: إنّ عليّا اوّل الناس إسلاما.

28- هاشم بن عتبة المرقال قال: أنت يا أمير المؤمنين! أقرب الناس من رسول اللّه رحما، و أفضل الناس سابقة

و قدما. كتاب نصر 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.

29- في كلام لهاشم بن عتبة يوم صفّين: انّ صاحبنا هو أوّل من صلّى مع رسول اللّه، و أفقهه في دين اللّه، و أولاه برسول اللّه.

كتاب نصر 403. تاريخ الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. و قال هاشم يوم صفّين:

مع ابن عمّ أحمد المعلّى فيه الرّسول بالهدى استهلا

أوّل من صدّقه و صلّى فجاهد الكفّار حتّى أبلى «1» 30- مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له: معنا ابن عم نبيّنا و سيف من سيوف اللّه عليّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتّى كان شيخا لم يكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة، فقيه في دين اللّه، عالم بحدود اللّه.

كتاب نصر 268. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1

______________________________

(1) كتاب صفين لابن مزاحم: 371 ط مصر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:370

ص 183.

31- عديّ بن حاتم قال في خطبة له مخاطبا معاوية: ندعوك إلى أفضل الأمّة سابقة، و أحسنها في الإسلام آثارا.

كتاب نصر 221. تاريخ الطبري 6 ص 2. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 344. و في لفظ ابن الأثير في الكامل 3 ص 124: انّ ابن عمّك سيد المسلمين أفضلها سابقة.

32- عديّ بن حاتم قال في خطبة اخرى له: إن كان له «لعليّ» عليكم فضل فليس لكم مثله فسلّموا و إلّا فنازعوا عليه، و اللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب و السنّة؟ انّه لأعلم الناس بهما. و لئن كان إلى الإسلام؟ إنّه لأخو نبي اللّه و الرأس في الإسلام. الإمامة و السياسة 1 ص 103.

33- محمّد بن الحنفيّة قال سالم بن أبي الجعد قلت له:

أبو بكر كان أوّلهم إسلاما؟! قال: لا. الاستيعاب 2 ص 458. إذا ثبت أنّ أبا بكر لم يكن أوّل الناس إسلاما فعليّ عليه السّلام هو المتعيّن سبق إسلامه.

34- طارق بن شهاب الأحمسي في كلام له: ثمّ قلت: ادع عليّا و هو أوّل المؤمنين ايمانا باللّه و ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه، هذا أعظم، الحديث. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 76.

35- عبد اللّه بن هاشم المرقال قال في خطبة له: يا أيّها النّاس! انّ هاشما جاهد في طاعة ابن عمّ رسول اللّه، و أوّل من آمن به؛ و أفقههم في دين اللّه.

كتاب نصر 405.

36- عبد اللّه بن حجل قال: يا أمير المؤمنين! أنت أوّلنا ايمانا، و آخرنا بنبيّ اللّه عهدا. الإمامة و السياسة 1 ص 103، كتاب نصر.

37- أبو عمرة بشير بن محصن قال في جمع من أصحاب علي و معاوية: إنّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل و الدين و السابقة في الإسلام و القرابة من رسول اللّه. كتاب نصر 210.

38- عبد اللّه بن خباب بن الأرت قال ابن قتيبة: إنّ الخارجة الّتي خرجت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:371

على عليّ بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له فعبروا إليه الفرات فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين و أوّل المسلمين ايمانا باللّه و رسوله. قالوا:

فما اسمك؟ قال: و أنا عبد اللّه بن خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. الإمامة و السياسة 1 ص 122.

39- عبد اللّه بن بريدة قال: أوّل الرجال إسلاما عليّ بن أبي طالب

ثمّ الرهط الثلاث: أبو ذر و بريدة و ابن عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمّد بن إسحاق المدني في الجزء الأوّل من المغازي.

40- محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية كتابا منه: فكان أوّل من أجاب و أناب، و صدّق و وافق، و أسلم و سلم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب- الى أن قال-: أوّل الناس إسلاما، و أصدق الناس نيّة- إلى قوله- يا لك الويل! تعدل نفسك بعليّ و هو وارث رسول اللّه و وصيّه و أبو ولده، و أوّل الناس له اتّباعا، و آخرهم به عهدا، يخبره بسرّه، و يشركه في أمره. نصر في كتاب صفّين 133.

41- عمرو بن الحمق قال لعلي: أحببتك لخصال خمس: انّك ابن عمّ رسول اللّه، و أوّل من آمن به. و في لفظ: و أسبق النّاس إلى الإسلام، أبو الذريّة التي بقيت فينا من رسول اللّه، و أعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد.

كتاب صفّين 115. جمهرة الخطب 1 ص 149.

42- سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في صفّين بقوله «1»:

هذا عليّ و ابن عمّ المصطفى أوّل من أجابه ممّن دعا

هذا الإمام لا يبالي من غوى

43- عبد اللّه بن أبي سفيان قال مجيبا الوليد «2»

و إنّ وليّ الأمر بعد محمّدعليّ و في كلّ المواطن صاحبه

______________________________

(1) شرح النهج لابن ابي الحديد: ج 13 ص 232 و فيه «أول من أجابه فيما روى».

(2) رسالة الاسكافي، و ذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية ص 48 للفضل بن العبّاس.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:372 وصيّ رسول اللّه حقّا و صنوه و أوّل من صلّى و من لان جانبه 44- خزيمة بن ثابت الأنصاري عدّه العراقي في شرح التقريب 1 ص 85، و الزرقاني في شرح المواهب

1 ص 242 ممّن قال بأنّ عليّا أوّل الناس إسلاما.

و قالا: أنشد المرزبان له في عليّ:

أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعلم النّاس بالقرآن و السنن و ذكر له الإسكافي في رسالته كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259:

وصيّ رسول اللّه من دون أهله و فارسه مذ كان في سالف الزمن

و أوّل من صلّى من الناس كلّهم سوى خيرة النسوان و اللّه ذو المنن و ذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114، و ذكر قبلهما:

إذا نحن بايعنا عليّا فحسبناأبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وجدناه أولى النّاس بالنّاس أنّه أطبّ قريش بالكتاب و بالسنن «1» 45- كعب بن زهير، ذكر الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242. من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين عليه السّلام:

إنّ عليّا لميمون نقيبته بالصّالحات من الأفعال مشهور

صهر النبيّ و خير النّاس كلّهم فكلّ من رامه بالفخر مفخور

صلّى الصلاة مع الامّي أوّلهم قبل العباد و ربّ الناس مكفور «2» 46- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، ذكر جمع من الأعلام له أبيات و ذكرها آخرون لغيره و هي:

ما كنت أحسب انّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أ ليس أوّل من صلّى لقبلتهم؟!و أعلم النّاس بالآيات و السنن؟!

و آخر النّاس عهدا بالنبيّ؟و من جبريل عون له في الغسل و الكفن؟

______________________________

(1) و لهذه الابيات بقية توجد في الفصول المختارة 2 ص 67.

(2) في النسخة تصحيف ذكرناها صحيحة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:373 من فيه ما فيهم ما تمترون به؟!و ليس في القوم ما فيه من الحسن

ما ذا الذي ردّكم عنه؟! فنعلمه ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتن و ذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوّلين منها و نسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن اميّة بن عبد شمس حين

بويع أبو بكر. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259.

47- الفضل بن أبي لهب قال ردّا على قصيدة الوليد بن عاقبة:

ألا انّ خير النّاس بعد محمّدمهيمنه التالية في العرف و النكر

و خيرته في خيبر و رسوله بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

و أوّل من صلّى صنو نبيّه و أوّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليّ الخير من ذا يفوقه؟!أبو حسن حلف القرابة و الصهر 48- مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبد المطلب قال:

رأيت عليّا لا يلبّث قرنه إذا ما دعاه حاسرا أو مسربلا

فهذا و في الإسلام أوّل مسلم و أوّل. من صلّى و صام و هلّلا 49- أبو الأسود الدؤلي يهدّد طلحة و الزبير بقوله:

و إنّ عليّا لكم مصحريماثله الأسد الأسود

أما انّه أوّل العابدين بمكّة و اللّه لا يعبد «1» 50- جندب بن زهير كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا عليّ و الهدى حقّا معه يا ربّ فاحفظه و لا تضيّعه

فإنّه يخشاك ربّي فارفعه نحن نصرناه على من نازعه

صهر النبيّ المصطفى قد طاوعه أوّل من بايعه و تابعه «2» 51- زفر بن يزيد «3» بن حذيفة الأسدي قال:

فحوطوا عليّا فانصروه فإنّه وصيّ و في الإسلام أوّل أوّل

______________________________

(1) رسالة الاسكافي كما شرح ابن ابي الحديد: 2 ص 259.

(2) كتاب نصر بن مزاحم: 453.

(3) في بعض المصادر: زفير بن زيد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:374 و إن تخذلوه و الحوادث جمّةفليس لكم عن أرضكم متحوّل «1» 52- النجاشي بن الحارث بن كعب قال:

فقل للمضلّل من وائل و من جعل الغثّ يوما سمينا

جعلت ابن هند و أشياعه نظير عليّ أ ما تستحونا؟!

إلى أوّل النّاس بعد الرسول أجاب النبيّ من العالمينا

و صهر الرّسول و من مثله إذا كان يوم يشيب القرونا؟! «2» 53- جرير بن عبد اللّه البجلي قال:

فصلّى الإله على أحمدرسول المليك

تمام النعم

و صلّى على الطهر من بعده خليفتنا القائم المدّعم

عليّا عنيت وصيّ النبيّ يجالد عنه غواة الامم

له الفضل و السبق و المكرمات و بيت النبوّة لا المهتضم 54- عبد اللّه بن حكيم التميمي قال:

دعانا الزبير إلى بيعةو طلحة من بعد أن أثقلا

فقلنا: صفقنا بايماننافإن شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليّا على بيعةو إسلامه فيكم أوّلا 55- عبد الرحمن بن حنبل [جعل] الجمحي حليف بني الجمح قال:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظةعلى الدين معروف العفاف موفّقا

عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجداصدوقا و للجبّار قدما مصدّقا

أبا حسن فارضوا به و تبايعوافليس كمن فيه يرى العيب منطقا

عليّ وصيّ المصطفى و وزيره و أوّل من صلّى لذي العرش و اتّقى «3» 56- أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال: أوّل من أسلم من الرّجال عليّ ابن أبي طالب و هو ابن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي

______________________________

(1) رسالة الاسكافي كما في شرح ابن ابي الحديد: 3 ص 259.

(2) كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 66.

(3) كفاية الطالب الحافظ الكنجى: 48.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:375

الحديد 3 ص 260.

57- أبو سعيد الحسن البصري قال: عليّ أوّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد عن عبد الرّزاق عن معمر عن قتادة عنه. و رواه الإسكافي في رسالته عن عبد الرّزاق كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

و قال الحجّاج للحسن و عنده جماعة من التابعين و ذكر عليّ بن أبي طالب:

ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول؟ هو: أوّل من صلّى إلى القبلة، و أجاب دعوة رسول اللّه. و انّ لعليّ منزلة من ربّه و قرابة من رسوله، و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردّها أحد. فغضب الحجّاج غضبا شديدا و قام عن سريره فدخل بعض البيوت.

و

قال رجل للحسن: ما لنا لا نراك تثني على عليّ و تقرّظه؟ قال كيف؟! و سيف الحجّاج يقطر دما، انّه أوّل من أسلم، و حسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

58- الإمام محمّد بن عليّ الباقر قال: أوّل من آمن باللّه عليّ بن أبي طالب و هو ابن إحدى عشرة سنة. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

59- قتادة بن دعامة الأكمة البصري قال: عليّ أوّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد كما سمعت، و القسطلاني عدّه ممّن قال به في المواهب 1 ص 45، و أقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242.

60- محمّد بن مسلم المعروف بابن شهاب «1» عدّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45، و أقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242 من القائلين بأنّ عليّا أوّل من أسلم.

61- أبو عبد اللّه محمّد بن المكندر المدني قال: علي اوّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

62- أبو حازم سلمة بن دينار المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

______________________________

(1) نسبة الى جد جده.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:376

63- أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرّحمن المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

64- أبو النضر محمّد بن السائب الكلبي قال: عليّ أوّل من أسلم، أسلم و هو ابن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

65- محمّد بن اسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى معه و صدّقه بما جاءه من عند

اللّه عليّ بن أبي طالب و هو يومئذ ابن عشر سنين «1» و كان ممّا أنعم اللّه به على عليّ بن أبي طالب انّه كان في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الإسلام.

و قال: و ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا حضرت الصّلاة خرج إلى شعاب مكّة و خرج معه عليّ بن أبي طالب، مستخفيا من عمّه أبي طالب و جميع أعمامه و سائر قومه فيصلّيان الصّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا، ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصلّيان فقال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث.

تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة ابن هشام 1 ص 264، 265. سيرة ابن سيّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيّة 1 ص 287.

66- جنيد بن عبد الرّحمن قال: أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلّيت الجمعة ثمّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخ يقال له: أبو شيبة القاصّ يقصّ على الناس، فرغّب فرغبنا، و خوّف فبكينا، فلمّا انقضى حديثه قال: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليه السّلام فالتفت إليّ من على يميني فقلت له: فمن أبو تراب؟ فقال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه، و زوج ابنته، و أوّل النّاس إسلاما، و أبو الحسن و الحسين. فقلت: ما أصاب هذا القاصّ؟! فقمت إليه و كان ذا وفرة فأخذت و فرته بيدي و جعلت ألطم وجهه

______________________________

(1) في الكامل لابن الاثير: 2 ص

32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:377

و أبطح برأسه الحائط، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي و ساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبد الملك و أبو شيبة يقدمني فصاح يا أمير المؤمنين؟ قاصّك و قاصّ آبائك و أجدادك أتى إليه اليوم أمر عظيم. قال:

من فعل لك؟ فقال: هذا. فالتفت إليّ هشام و عنده أشراف النّاس فقال:

يا أبا يحيى؟ متى قدمت؟ فقلت: أمس و أنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة فصلّيت و خرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائم يقصّ فجلست إليه فقر أ فسمعنا، فرغّب من رغّب، و خوّف من خوّف؛ و دعا فأمّنا، و قال في آخر كلامه: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب، فسألت من أبو تراب؟

فقيل: عليّ بن أبي طالب، أوّل الناس إسلاما، و ابن عم رسول اللّه، و أبو الحسن و الحسين، و زوج بنت رسول اللّه. فو اللّه يا أمير المؤمنين؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر و لعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الذي أحللت، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه و زوج ابنته؟! فقال هشام: بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.

هذه جملة من النصوص النبويّة، و الكلم المأثورة عن أمير المؤمنين و الصحابة و التابعين في أنّ عليّا أوّل من أسلم: و هي تربو على مائة كلمة، أضف إليها ما مرّج 2 ص 276 من أنّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الأمّة. و اشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنّه صلوات اللّه عليه صدّيق هذه الامة، و هو الصدّيق الاكبر.

فهل تجد عندئذ مساغا لمكابرة ابن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة و قوله:

و قد ورد في أنّه أوّل من أسلم. إلخ؟!؟! فإذا لا يصحّ مثل هذه فما الّذي يصحّ؟

و إن كان لا يصحّ شي ء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها؟! كلا، إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.

و أنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم و النصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة، و يعتمد في إثبات أيّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل و المقاطيع و الآحاد، و نقل المجاهيل و أفناء الناس «1».

______________________________

(1) الغدير: ج 3 ص 219- 239.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:378

(1)

مناظرة بين المأمون و اسحاق [في إسلام علي ع]:

و لقد دارت بين المأمون العباسي و إسحاق و هو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه «العقد الفريد» نذكر هنا خلاصته:

قال المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث اللّه رسوله؟

ابن إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أ ليس السبق الى الإسلام؟

ابن إسحاق: نعم.

المأمون: اقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول: «و السابقون السابقون اولئك المقرّبون» إنّما عني من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليّا إلى الإسلام؟

ابن إسحاق: إنّ عليا أسلم و هو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكم و أبو بكر أسلم و هو مستكمل يجوز عليه الحكم.

(2) و هنا أمسك المأمون بزمام الكلام و قال:

أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما من اللّه؟

قال إسحاق: بل دعاه رسول اللّه الى الإسلام.

قال المأمون: يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه الى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلّف ذلك من نفسه؟

ثمّ قال: يا اسحاق لا تنسب رسول اللّه إلى تكلّف

فإن اللّه يقول: «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ».

فإذا دعاه بأمر اللّه و ليس من صفة الجبّار- جلّ ذكره- أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم، أ فتراه في قياس قولك يا إسحاق؟ أن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم قد تكلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دعاء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:379

الصبيان ما لا يطيقون «1».

و على هذا الاساس يجب اعتبار ايمان علي عليه السّلام ايمانا صحيحا ثابتا لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهمية و قيمة بل هو افضل مصداق لقوله تعالى:

«وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»، هو الإمام علي بن أبي طالب.

(1)

قضيّة «انقطاع الوحي»:
اشارة

لقد أضاءت روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نفسه الشريفة و استنارت بنور الوحي، و دفعه ذلك الى التأمّل و التفكير في الوظيفة الكبرى و الثقيلة التي جعلها اللّه على كاهله، و خاصة عند ما خاطبه اللّه تعالى بقوله:

«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» «2».

و هنا طرح المؤرخون و بخاصّة الطبريّ الّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم «انقطاع الوحي» فقالوا: إن رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملك و سمع منه الآيات الاولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزول خطاب آخر من جانب اللّه تعالى، و لكن دون جدوى، فهو لم ير ذلك الملك الجميل بعد ذلك، و لا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اخرى على غرار ما رأى و سمع في بدء نزول الوحي.

(2) و لو كان لانقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة (الذي ادّعاه هؤلاء) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلّا.

و قد تعلّقت المشيئة الالهية اساسا بأن ينزل الوحي على رسول اللّه تدريجا، لا دفعة واحدة و ذلك

لمصالح معينة، و حيث أن الأمر في بدء الوحي كان على أوّله و في بدايته، لذلك لم ينزل الوحي الالهي بعد المرة الاولى فورا، و لكن حمل هذا على «انقطاع الوحي» و لم يكن لا انقطاع الوحي و لا أية مسألة اخرى من

______________________________

(1) العقد الفريد: ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية و ج 5 ص 94 طبعة لجنة التأليف القاهرة.

(2) المدثر: 1- 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:380

هذا القبيل.

(1) و حيث أن هذه المسألة قد تذرّع بها الكتاب المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض. الاهتمام ليتضح أن ما ادّعي من انقطاع الوحي، قضية فارغة عن الحقيقة و لذلك لا صحّة لتطبيق الآيات القرآنية عليها.

و لتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ و نقله في تاريخه، ثم نعمد بعد ذلك الى نقده.

يكتب الطبري في هذه الصدد قائلا: لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جزع جزعا شديدا قالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فانزل اللّه عزّ و جلّ قوله: «وَ الضُّحى. وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى. وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «1».

و لقد أوجد نزول هذه الآيات سرورا عظيما لدى خديجة عليها السّلام، و علمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة «2».

(2)

اسطورة و ليس تاريخا!

إنّ ذاكرة التاريخ تحفظ و تتذكر جيّدا تاريخ حياة السيدة خديجة.

إن خديجة التي كانت أخلاق محمّد الفاضلة و خصاله المجيدة، و

افعاله الحميدة ماثلة امام عينيها و التي كانت تؤمن بعدل ربّها كيف يجوز ان تسي ء الظن باللّه تعالى و بنبيه الكريم، العظيم الشأن؟

إنّ مقام النبوّة و منصب الرسالة، و السفارة الالهية لا يعطى إلّا لمن يملك طائفة من الصفات النبيلة و الخصال الرفيعة، و ما لم يتصف شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. هذه الصفات العليا، و ما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة

______________________________

(1) الضحى: 1- 11.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 48.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:381

و المواصفات المعينة لم يمنح له ذلك المنصب قط. و تقع العصمة و السكينة القلبية، و الاعتماد و التوكل في طليعة هذه الخصال و المواصفات، و مع هذه الأوصاف و الخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.

و لقد قال العلماء: إن المسيرة التكاملية عند الأنبياء تبدأ من فترة الطفولة و الصبا، فان الغشاوات و الحجب تبدأ تتساقط و تنقشع الواحدة تلو الاخرى منذ ذلك الوقت، و يستمر ذلك حتى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدّ الكمال فلا يشكّون في شي ء يرونه أو يسمعونه أبدا، و من حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك و الحيرة و التردّد الى قلبه و عقله مطلقا.

(1) إنّ آيات سورة «الضحى» و خاصة عبارة «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا من هو قائلها؟ و كم تركت هذه العبارة من تأثير في نفسية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و روحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟

و ذهب بعض المفسّرين إلى أن قائلها هم بعض المشركين، و لهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء

الوحي، لأنه لا أحد غير «علي» و «خديجة» كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه، و يعيّره بانقطاع عنه بعد ذلك، فإن أمر المبعث و الرسالة- كما سنقول ذلك فيما بعد- بقي خافيا على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماما، فهو لم يكن مكلّفا بابلاغ رسالته إلى عامة الناس، إلى أن نزل قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر» الذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

(2)

إختلاف المؤرخين في مسألة «انقطاع الوحي»:
اشارة

لم يرد في القرآن الكريم أي ذكر مطلقا لمسألة (انقطاع الوحي) بل لم ترد به إشارة أيضا، إنما نلاحظها في كتب السيرة و التفسير فقط، و يختلف كتّاب السيرة و المؤرّخون في علة (انقطاع الوحي) هذا، و مدته اختلافا كبيرا يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها، و ها نحن نشير إليها بشكل ما:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:382

(1) 1- ان اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اصحاب الكهف، و عن الروح، و عن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة و السّلام: سأخبركم غدا، و لم يستثن، فاحتبس عنه الوحي «1».

بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي و مطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود و احبارهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله عن طريق قريش و سؤالهم اياه حول هذه الامور الثلاثة، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم نوجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الامور الثلاثة «2».

(2) 2- قالت خولة و هي امرأة كانت تخدم رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله أن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما لا ينزل عليه الوحي، فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جرو ميّت فأخذته و القته خلف الجدار فأنزل اللّه تعالى هذه السورة و لما نزل جبرئيل سأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن التأخر فقال: «أ ما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة» «3».

(3) 3- إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، ما لك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال:

«و كيف ينزل عليّ و أنتم لا تقصّون أظفاركم و لا تأخذون من شواربكم»؟ «4» فنزل جبرئيل بهذه السورة.

(4) 4- اهدى عثمان الى النبي صلّى اللّه عليه و آله عنقود عنب و قيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلّى اللّه عليه و آله ثانيا ثم عاد السائل فأعطاه و هكذا ثلاث مرات فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملاطفا لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت

______________________________

(1) روح المعاني: ج 30 ص 157، السيرة الحلبية: ج 1 ص 310 و 311.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 300 و 301.

(3) تفسير القرطبي: ج 10 ص 83 و 71، السيرة الحلبية: ج 1 ص 349.

(4) نفس المصدر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:383

السورة «1».

(1) 5- إن جروا لأحد نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه «2».

(2) 6- إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما سأل جبرئيل عن تأخّر الوحي قال جبرئيل، لا املك من نفسي شيئا إنّما

أنا عبد مأمور «3».

ثم ان هناك أقوالا اخرى يمكن الحصول عليها من مراجعة التفاسير «4».

و لكن الطبريّ نقل وجها آخر تمسك به المغرضون و المرضى من الكتّاب و اعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد حادثة (حراء) فقالت خديجة للنبي صلّى اللّه عليه و آله: ما أرى ربّك إلّا قد قلاك!!

فنزل الوحي يقول:

«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» «5».

(3) و ممّا يدلّ على أهداف هذا النوع من الكتّاب، المريضة، أو عدم تتبّعهم و استقصائهم، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال، و استندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي لم ير في حياته أي أثر للشك و الحيرة مطلقا.

(4) و إننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال و تفاهته:

(5) 1- لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا صادقا و عميقا، فهى التي وفت لزوجها حتى النفس الأخير،

______________________________

(1) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 157.

(2) غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري: ج 30 ص 108.

(3) تفسير ابو الفتوح الرازي: ج 12 ص 108.

(4) مجمع البيان: ج 10 تفسير سورة و الضحى.

(5) تفسير الطبري: ج 30 ص 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:384

و وقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه، و كانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاما من حياتها الزوجية، و لم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها إلا التقوى و الطهر و لم تلمس منه إلا كرم الصفات و نبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين

له صلّى اللّه عليه و آله من أول يوم و كانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه و عشرتها اياه صلّى اللّه عليه و آله فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية، مع زوجها بغليظ القول، و توجه له مثل هذه الكلمة غير المهذّبة، بل و الجارحة؟؟!

(1) 2- إنّ آية: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» لا تدل على أن «خديجة» قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنّ مثل هذا الكلام قد وجّه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا من هو القائل، و لما ذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوما.

(2) 3- إن ناقل هذه الرواية يصف «خديجة» تارة بأنها طمأنت النبيّ، و سكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الانتحار، و لكنه يصفها تارة اخرى بانها قالت له: بأن اللّه عاداه و قلاه، أ لا ينبغي هنا أن نقول: «كن ذكورا ثم أكذب»؟!

(3) 4- إذا كان الوحي قد انقطع بعد حادثة جبل (حراء) و نزول بضع آيات من سورة «العلق» إلى أن نزلت سورة «الضحى»، يتوجب- في هذه الصورة- ان تكون سورة «الضحى» ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السور في حين أنّ تاريخ نزول الآيات و السور القرآنية يفيد أنها السورة الحادية عشرة من سور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي:

1- العلق.

2- القلم.

3- المزّمّل.

4- المدّثّر.

5- تبّت (المسد).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:385

6- التكوير.

7- الاعلى.

8- الانشراح.

9- و العصر.

10- و الفجر.

11- و الضحى «1».

نعم انفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى- في تاريخه- «2» السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول، و حتى هذا الرأي لا

ينسجم مع القصة المذكورة (انقطاع الوحي).

(1)

الاختلاف في مدة انقطاع الوحي:

لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير و الأقوال التالية هي:

4 أيّام.

12 يوما.

15 يوما.

19 يوما.

25 يوما.

40 يوما.

و لكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي و توقفه لم يكن حدثا استثنائيا، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية، منجّمة إذ يقول تعالى:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» «3».

______________________________

(1) تاريخ القرآن للزنجاني: ص 58.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 33.

(3) الاسراء: 106.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:386

و يكشف القرآن النقاب- في موضع آخر- عن سرّ نزول القرآن تدريجا إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» «1».

(1) و مع ملاحظة طريقة نزول الآيات و السور القرآنية هذه يجب أن لا يتوقع نزول الآيات كل يوم و كلّ ساعة، و أن ينزل جبرئيل على النبيّ على الدّوام، و يأتي إليه بالآيات دون انقطاع، بل إن الآيات القرآنية كانت تنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فواصل زمنية مختلفة وفقا للاحتياجات، و بحسب الأسئلة المطروحة على النبي، و لأسرار اخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام «2».

و في الحقيقة لم يكن هناك ما يسمى بانقطاع الوحي، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري، و المتلاحق للوحي.

______________________________

(1) الفرقان: 32.

(2) راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية: ص 122- 124.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:387

(1)

14 الدعوة السرّيّة و دعوة الأقربين

اشارة

استمرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعو إلى دينه سرّا مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عمد إلى بناء الكوادر و

اعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس، فإنّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجب أن لا يجهر بدعوته و لا يعلن عن رسالته، و يكتفي بالاتصالات الفردية السّرية و يدعو اشخاصا معينين إلى دينه.

و قد كانت هذه الدعوة السرّية هي السبب في أن ينجذب الى الدّين الإسلامي جماعة من الناس، و تواجه دعوته صلّى اللّه عليه و آله منهم بالقبول، (2) و قد سجّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في هذه الفترة من عهد الرسالة، و تاريخ الإسلام، و إليك بعضهم:

1- السيدة خديجة بنت خويلد (زوجة النبي).

2- علي بن أبي طالب عليه السّلام.

3- زيد بن حارثة.

4- الزبير بن العوام.

5- عبد الرحمن بن عوف.

6- سعد بن أبي وقاص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:388

7- طلحة بن عبيد اللّه.

8- أبو عبيدة الجراح.

9- أبو سلمة.

10- الأرقم بن أبي الارقم.

11- عثمان بن مظعون.

12- قدامة بن مظعون.

13- عبد اللّه بن مظعون.

14- عبيدة بن الحارث.

15- سعيد بن زيد.

16- خباب بن الأرتّ.

17- أبو بكر بن أبي قحافة.

18- عثمان بن عفان.

و غيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي، و آمنوا بنبوته في هذه الفترة «1».

(1) و لقد كان أقطاب قريش و أسيادها منهمكين- طيلة هذه الاعوام الثلاثة- في لهوهم و مجونهم، و مع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشي ء عن دعوة النبيّ السرّية إلّا أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فعل تجاهها، و لم يقوموا بشي ء ضدّها.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذه السنوات التي تعتبر فترة صباغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيدا عن أنظار قريش.

و اتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يصلّون

في شعب من شعاب مكة، و استنكروا عملهم هذا، و أدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم و بين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي «سعد بن أبي وقاص» احد المسلمين، و من هنا قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتخاذ بيت «الأرقم بن أبي الأرقم» محلا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 245 و 262.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:389

للعبادة بدل شعاب مكّة، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ و العبادة بحريّة و أمان، بعيدا عن أعين المشركين «1».

و لقد كان «عمّار بن ياسر» و «صهيب بن سنان» الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك البيت «2».

(1)

دعوة الأقربين:
اشارة

يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة و المشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى- عادة- من بدايات صغيرة و نقاط محددة، فإذا حقّقوا نجاحا في هذه البدايات بادروا الى توسيع نطاق نشاطهم فورا، و هكذا جنبا الى جنب مع النجاحات التي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل، و يجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح، و التكامل لما هم يصدده.

و لقد سأل أحد الشخصيات زعيما في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة: ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الاجتماعية و ما هو الأمر الذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلا: ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق، فنحن دائما نخطّط لمشاريع كبرى و نبدأ من مكان صغير، و بعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل، و اذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اسلوب عملنا، و عدلنا إلى طريقة اخرى، و بدأنا بعمل آخر.

(2) أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحة العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير، و تبدءون

من نقطة واسعة، و تحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقا مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 61.

(2) هذا البيت كان عند جبل الصفا، و كان معروفا إلى مدة ب: دار الخيزران» اسد الغابة: ج 4 ص 44، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 192، السيرة الحلبية: ج 1 ص 283.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:390

منتصف الطريق إلّا بتحمل خسائر كبرى فادحة.

(1) هذا مضافا إلى أن أنفسكم كأنها قد عجنت بالعجلة و لذلك تودّون قطف ثمار جهودكم و نتيجة عملكم في الحال دون ما صبر و ترقّب و انتظار، و هذه هي بنفسها طريقة تفكير اجتماعيّة خاطئة، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طرق مسدودة كثيرة و غريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

و لكن الذي نتصوره و نعتقده نحن هو: أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق و لا بالغرب، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس، فانهم يعتمدون هذا الاسلوب لانجاح مهامّهم، و تحقيق مقاصدهم.

و لقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلّى اللّه عليه و آله هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهده على الدعوة السرّيّة إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجّل، و كان يعرض دينه على كل من وجده أهلا للدعوة، و مستعدّا من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف الى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها (لواء التوحيد) جميع أفراد البشرية، إلّا أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتى إلى أقاربه، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا و صالحا للدعوة، و مستعدّا لقبول الدّين، حتى انّه استطاع

في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقا من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه و قبلوا دعوته.

(2) و قد كان زعماء قريش- كما اسلفنا- منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة و الهوى و كان فرعون «مكة» و طاغيتها: «أبو سفيان» و جماعته كلما سمعوا بالدّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء و قالوا لانفسهم: إنّها أيّام و تنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فورا تماما كما انطفأت من قبل دعوة «ورقة» و «اميّة» (اللّذين أخذا يحبّذان الى العرب التوجه نحو المسيحية و نبذ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل و التوراة) و بالتالي لن يمرّ زمان حتى ينسى هذا الأمر، و يغدو خبرا بعد أثر، بل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:391

لا شي ء يذكر.

بهذا التصوّر، و بهذه العقليّة واجهت زعامة «مكة» دعوة النبي في البداية، (1) و لهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الاحترام، و يراعون معه قواعد الأدب و السلوك، و كان النبيّ هو أيضا لا يتعرض لأصنامهم و آلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء و لا يتناولها بالنقد و الاعتراض بصورة علنية، بل كان مركّزا جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص و هدايتهم إلى دينه الحنيف.

و لكن منذ أن بدأ النبيّ دعوة الأقربين و أخذ ينتقد و ثنيّتهم، و يذكر أوثانهم بسوء و يعترض على تصرفاتهم الإنسانية أصبح حديث الألسن. و منذ ذلك اليوم أيضا بدأت يقظة قريش، و عرفوا أمر محمّد يختلف عن أمر «ورقة» و «اميّة» اختلافا بينا و ان المبين الدعوتين فرقا كبيرا، و لهذا بدأت المعارضة و المخالفة السرّية و العلنية، لدعوة النبيّ.

و قد بدأ النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

(2) على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة التي يراد لها ان تترك أثرا في جميع شئون الناس و كل مناحي حياتهم، و تغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شي ء إلى قوتين:

1- قوة البيان، بأن يستطيع الداعية و المصلح بيان الحقائق التي جاء بها من أفكاره الخاصة، أو ما تلقّاه عن طريق آخر الى الناس باسلوب جذاب، يأسر القلوب، و يسحر العقول.

2- القوة الدفاعية التي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء و الخصوم، و في غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة و يفشل المصلح في خطاه الاولى.

(3) و لقد كان البيان لدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أعلى مرتبة من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:392

الكمال فكان قادرا كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة و البلاغة. و لكنه كان يفتقر في الأيام الاولى من دعوته إلى عنصر (القوة الثانية)، أي (القوة الدفاعية)، الرادعة الحامية، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصا، و ذلك في الظروف السرّية الشديدة، و لا ريب ان تلك القلة القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسئولية الدفاع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و حماية رسالته.

من هنا عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و بهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة و تشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة الى عامة الناس، ليتمكّن من هذا الطريق أن يزيل النقص من جهة عدم وجود القوة الثانية، و يكوّن منهم سياجا

قويا يحفظه، و يحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى و الرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته، و لم يقبلوا دعوته.

(1) هذا مضافا إلى انه صلّى اللّه عليه و آله كان يعتقد ان أي إصلاح و تغيير لا بد أن يبدأ من إصلاح الداخل و تغييره، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه و أقربائه و ردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبدا أن تؤثر في الأجانب و الأبعدين، لأنّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة، و يشيرون إلى أفعال أبنائه و عشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1».

كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله:

«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «2».

______________________________

(1) الشعراء: 214.

(2) الحجر: 94 و 95.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:393

(1)

كيفيّة دعوة الأقربين:

كانت طريقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة و ذكيّة جدّا، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر.

فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى: «و انذر عشيرتك الاقربين» و كذا الأغلبية القريبة للاجماع من المؤرخين أن اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينذر عشيرته الأقربين و يدعوهم إلى دينه و رسالته فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب الذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يعدّ طعاما و لبنا، ثم دعا صلّى اللّه عليه و آله خمسا و أربعين رجلا من سراة بني هاشم و وجوههم، و عزم على أن يبوح

لضيوفه و يكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلّا أنه- و للأسف- ما أن انتهوا من الطعام حتى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأن يطرح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موضوع رسالته عليهم، فانفض المجلس دون تحقيق هذا الغرض.

(2) و لما كان من غد أمر النبيّ عليا عليه السّلام باعداد الطّعام و اللّبن ثانية، و كرّر دعوة تلك الجماعة، إلى ضيافة اخرى، و بعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:

«إنّ الرائد لا يكذب أهله و اللّه الّذي لا إله إلا هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة و إلى النّاس عامّة و اللّه لتموتنّ كما تنامون و لتبعثنّ كما تستيقظون و لتحاسبنّ بما تعملون و إنها الجنّة أبدا و النّار أبدا».

ثم قال:

«يا بني عبد المطّلب انّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، انّي قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه عزّ و جلّ أن ادعوكم إليه فأيّكم يؤمن بي و يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و

سيد المرسلين ،ج 1،ص:394

وصيّي و خليفتي فيكم»؟

(1) و لما بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه النقطة- و بينما أمسك القوم و سكتوا عن آخرهم اذ كان كل واحد منهم يفكّر في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، و ما يكتنفه من أخطار- قام «عليّ» عليه السّلام فجأة، و هو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، و قال و هو يكسر بكلماته الشجاعة- جدار الصمت و الذهول-:

أنا يا رسول

اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه».

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية و ثالثة و في كل مرة يحجم القوم عن تلبية مطلبه، و يقوم «عليّ» و يعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ، و يأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده و التفت الى الحاضرين من عشيرته الاقربين و قال:

«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له، و أطيعوا».

فقام القوم يضحكون، و يقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع و جعله عليك أميرا» «1».

إن ما كتبناه هو- في الحقيقة- خلاصة لحديث مفصّل رواه اكثر المفسرين و المؤرخين بعبارات مختلفة، و لم يشكّك في صحّته أحد، بل اعتبروه من مسلّمات التاريخ، الا «ابن تيمية» الذي اتخذ موقفا خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين.

(2)

خيانة تاريخيّة و جناية أدبيّة!!

إن تحريف الحقائق و قلبها، أو إخفاء الوقائع لهو حقا من أوضح مصاديق

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 62 و 63، تاريخ الكامل: ج 2 ص 40 و 41، مسند أحمد: ج 1 ص 111، و شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 13 ص 210 و 211.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:395

الخيانة و الجناية.

و لقد سلك فريق من الكتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح، و أسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة و التاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق، من الاعتبار، و هم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال و الغموض.

إلّا أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انقضاء الزّمن، و تكامل العلم، و دفع بفريق من أهل التحقيق و الإنصاف الى أن يمزقوا

بأطراف اقلامهم حجب الزيف و التحريف و يظهروا الوقائع و الحقائق على حقيقتها.

(1) و إليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات:

1- لقد ذكر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى عام 310 ه) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصّل و على النحو الذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنه حرّف في تفسيره «1» و كتم، فهو عند تفسير قوله تعالى: «و أنذر عشيرتك الأقربين» يذكر كلّ ما ذكره في تاريخه، و لكنّه يغيّر و يبدّل في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث يقول: «على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي»، فهو يكتب في تفسيره هكذا: «على أن يكون كذا و كذا».

و لا ريب انّ في تغيير عبارة «أخي و وصيّي و خليفتي عليكم (أو فيكم) إلى:

«كذا و كذا» غرضا مريضا، و هو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

(2) على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل غيّر حتى في الجملة التي تعقبتها و هي قوله صلّى اللّه عليه و آله بعد أن قام عليّ عليه السّلام للمرة الثالثة و أعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم و سكوتهم: «إن هذا أخي و وصيّي و خليفتي» حيث أبدلها بعبارة:

«إنّ هذا أخي و كذا و كذا»!!!

إن على المؤرخ أن يكون حرا و شهما في كتابة الحقائق و روايتها، فيثبتها

______________________________

(1) تفسير الطبري: ج 19 ص 74.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:396

و يرويها كما هي، بكل شجاعة، وحيدة.

و لا ريب ان الذي دفع بالطبريّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل و التغيير هو تعصّبه المذهبي، فهو لا يعتبر الإمام عليّا خليفة رسول اللّه بلا فصل، و حيث أن تينك الكلمتين:

«خليفتي و وصيّي» تصرّحان بخلافة «عليّ» للنبيّ و وصايته بلا فصل لذلك يغيّر و يبدّل حتى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضا.

(1) 2- و لقد فعل ابن كثير (المتوفى عام 732) نظير هذا في تاريخه «1» و كذا في تفسيره (ج 3 ص 351) و سلك نفس الطريق الذي سلكه- من قبل- سلفه الطبري ضاربا عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

و نحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبدا، لأنه قد اعتمد- في رواياته التاريخية، في تاريخه و تفسيره معا- تاريخ الطبري، لا تفسيره، و لا شك أنّه قد مرّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ، و لكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ- في هذه الحادثة- و عمد- بصورة غير متوقعة- الى نقل رواية التفسير!!!

(2) 3- و الأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه- في عصرنا الحاضر- وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور «هيكل» في كتابه «حياة محمّد»، و فتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

و العجب ان «هيكل» هاجم- في مقدمته- جماعة المستشرقين بشدة و انتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية، و اختلافهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو:

(3) أولا: نقل الواقعة المذكورة (دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة) في الطبعة الاولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة و مقتضبة جدا و اكتفى من الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط و هي: قول النبي مخاطبا

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 2 ص 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:397

الحضور في ذلك اليوم: «من يؤازرني يكون أخي و وصيّي و خليفتي» بينما حذف بالمرة الجملة التي قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي

بعد أن قام للمرة الثانية و أعلن موازرته للنبيّ و هي قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي»!!!

(1) ثانيا: انّه خطى في الطبعات الثانية و الثالثة و الرابعة، خطوة أبعد حيث حذف كلتا الجملتين معا و بهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. و قيمة كتابه، كدراسة تاريخية!!

(2)

النبوّة و الإمامة توأمان:

إن الاعلان عن وصاية عليّ عليه السّلام و خلافته في مطلع عهد الرسالة و بداية أمر النبوّة يفيد- بقوة و وضوح- انّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصلين، ففي اليوم الّذي يعلن فيه رسول اللّه عن رسالته و نبوّته، يعيّن خليفته و وصيّه من بعده، و هذا يشهد- بجلاء- بأن النبوّة و الإمامة يشكّلان قاعدة واحدة، و أن هذين المنصبين إن هما الّا كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شي ء.

كما أن هذه الحادثة تكشف- من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية التي كان يتحلّى بها الإمام امير المؤمنين «عليّ بن ابي طالب» عليه السّلام، حيث قام- في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدهاة و السادة المجرّبون عن قبول دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا و تهيّبا- و أعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ، و استعداده للتضحية في سبيل دينه و رسالته و هو آنذاك غلام في ربيعه الثالث أو الخامس عشر، و ما حابى أعداء الرسالة و لا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة و الزعماء المتخوّفون على مصالحهم و مراكزهم آنذاك!!!

(3) صحيح ان «عليّا» عليه السّلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّا إلّا أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأت قلبه لتقبّل الحقائق التي تردّد شيوخ القوم في قبولها، بل عجزوا عن دركها و فهمها!!

و لقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق

الكلام في هذا المجال اذ قال:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:398

فهل يكلّف عمل الطعام، و دعاء القوم صغير غير مميّز، وغر غير عاقل، و هل يؤتمن على سرّ النبوة طفل ... و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلّا عاقل لبيب، و هل يضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده في يده، و يعطيه صفقة يمينه بالاخوة و الوصيّة، و الخلافة، الا و هو أهل لذلك، بالغ حدّ التكليف، محتمل لولاية اللّه، و عداوة أعدائه، و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه و لم يلصق بأشكاله، و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه، و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته، و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته بل ما رأيناه إلا ماضيا على اسلامه، مصمما في أمره، محققا لقوله بفعله، قد صدّق اسلامه بعفافه و زهده، و لصق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بين جميع من حضرته فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته «1».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 13 ص 215 و 295.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:399

(1)

15 الدعوة العامّة

اشارة

كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرية الاقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاولى من عمر الدعوة أن يهدي- من خلال الاتصالات السرية- مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام و لكنّه دعا هذه المرّة و بصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد.

فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا و نادى بصوت عال:

يا صباحاه (و هي كلمة كانت العرب تطلقها كلّما أحسّت بخطر، أو بلغها نبأ مرعب فكانت هذه الكلمة

بمثابة جرس الخطر) «1» فلفت نداء النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة و قالوا له:

مالك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟

______________________________

(1) قال الجزري في النهاية: ج 2 ص 271: صعد النبي صلّى اللّه عليه و آله على الصفا و قال:

يا صباحاه؛ هذه كلمة يقولها المستغيث، و أصلها إذا صاحوا للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح و يسمّون يوم الغارة يوم الصباح، فكأن القائل: يا صباحاه يقول: قد غشينا العدو.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:400

قالوا: بلى.

قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ثم قال: إنما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف: وا صباحاه «1».

و لقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشي ء، قبل هذا و لكنها تملّكها الخوف هذه المرة، و هي تسمع ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فورا إذ قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تبّا لك، أ لهذا دعوتنا؟، و تفرّق على أثرها الناس.

(1)

الثبات و الاستقامة على طريق الهدف:

إن نجاح أيّ شخص مرهون بأمرين:

الأول: الايمان بالهدف.

و الثاني: الاستقامة و الثبات و السعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنّ الإيمان هو المحرّك الباطني و القوة الخفية التي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية التي يتوخاها، و تسهّل عليه الصعاب، و تدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده، لأن شخصا كهذا يعتقد اعتقادا قويّا بأنّ سعادته، و مجده يتوقّفان على ذلك.

و بعبارة اخرى: إذا آمن انسان بأن سعادته و مجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف،

متجاوزا كل الصعاب، و متحديا كل المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلا سيستسهل شربه.

و الغوّاص الذي يعتقد اعتقادا جازما بأن ثمّة دررا غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دون ما خوف أو وجل، ليخرج منها بعد

______________________________

(1) السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:401

دقائق ظافرا بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكّ في عمله، أو يعتقد بعدم فائدته، فانّه لن يقدم عليه قط و اذا ما أقدم فان عمله سيكون حينئذ مقرونا بالجهد و العناء.

فقوة الإيمان اذن هي التي تذلّل كل مشكل، و تسهّل كلّ صعب.

غير أنه لا ريب في أنّ الوصول إلى الهدف لا يخلو من مشكلات و موانع، فلا بدّ من السعي لرفع تلك الموانع، و إزالة تلكم المشكلات.

و قد قيل قديما: أنّ مع كل وردة أشواك، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا و قد بيّن القرآن الكريم هذه المسألة (و هي ان رمز السعادة هو: الإيمان بالهدف و الثبات في طريق تحقيقه) في جملة قصيرة اذ قال:

«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» «1».

(1)

ثبات النبي صلّى اللّه عليه و آله و صبره:

لقد أدّت اتّصالات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخاصّة. قبل الدعوة العامة، و جهوده الكبرى بعد الجهر بالدعوة، إلى ظهور و تكوين صفّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر، و الوثنية.

فالّذين دخلوا سرّا في حوزة الإسلام و الإيمان قبل الدعوة العامّة تعرّفوا على المسلمين الجدد الذين لبّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة، و شكّل القدامى و الجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة،

و كان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر و الشرك و الوثنية، أربكها و جعلها تشعر بالخطر.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة و القضاء عليها كان أمرا سهلا لقريش، و لكنّ الذي أرعب قريشا و منعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنّ أفراد هذه

______________________________

(1) فصّلت: 30.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:402

الجماعة، و عناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة، ليمكن مواجهتها و ضربها بكلّ قوة، بل انتمى من كل قبيلة إلى الإسلام، عدد من الأفراد، و من هنا لم يكن اتّخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمرا سهلا و بسيطا.

(1) من هنا قرّر سادة قريش و كبراؤها- بعد تداول الأمر في ما بينهم- أن يبدءوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة، و محرّك هذا الحزب، و الداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء و التطميع تارة و يمنعوا من انتشار دينه بالتهديد و الايذاء تارة اخرى.

و قد كان هذا هو برنامج قريش و موقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات و هي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية، الى ان قررت بالتالى قتله، و لكنه استطاع ان يبطل مؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.

(2) و لقد كان «أبو طالب» آنذاك زعيم بني هاشم و رئيسها المطلق، و كان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة، شجاعا، كريما، و كان بيته ملجأ دافئا للمحرومين و المستضعفين، و ملاذا أمينا للفقراء و الأيتام، و كان يتمتع في المجتمع العربي- علاوة على رئاسة مكة و بعض مناصب الكعبة- بمكانة كبرى و منزلة عظيمة، و حيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاة جدّه «عبد المطلب»، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية

«1» عنده و قالوا له:

«يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، و عاب ديننا، و سفّه أحلامنا و ضلّل آباءنا، فأمّا أن تكفّه عنّا، و إما أن تخلّي بيننا و بينه».

(3) و لكن «أبا طالب» قال لهم قولا رفيقا و ردّهم ردّا جميلا حكيما، فانصرفوا عنه.

بيد أنّ نفوذ الإسلام و انتشاره كان يتزايد باستمرار، و كانت جاذبيّة الدّين المحمّدي، و بيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك، فيترك اثره في الناس،

______________________________

(1) ادرج ابن هشام في سيرته: ج 1 ص 264 و 265 اسماءهم بالتفصيل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:403

و خاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيج على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعرض دينه عليهم، فكانت أحاديثه الجذّابة، و كلماته البليغة، و دينه المحبّب تؤثر في قلوب كثير منهم، فيميلون إلى الإسلام و يقبلون دعوة الرسول.

(1) و هنا أدرك طغاة مكة و فراعنتها أن «محمّدا» قد بدأ يفتح له مكانا في قلوب جميع القبائل، و أصبح له انصار و أتباع في كثير منها، ممّا دفعهم مرّة اخرى إلى الحضور عند «أبي طالب» حاميه الوحيد، و تذكيره بالإشارة و التصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين و عقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام و انتشاره فقالوا له أجمع:

يا أبا طالب، إن لك سنّا، و شرفا، و منزلة فينا، و إنّا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنّا، و إنا و اللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا، حتى تكفه عنّا، أو ننازله و إيّاك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

(2) فأدرك حامي الرّسول الوحيد- بذكائه و فطنته- أنّ عليه أن يصبر أمام جماعة ترى وجودها، و

مصالحها في خطر، من هنا عمد إلى مسالمتهم و ملاطفتهم، و وعد بأن يبلغ ابن اخيه «محمّد» كلامهم. و قد كان هذا محاولة من «أبي طالب» لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة و إطفاء نائرتهم، و تهدئة خواطرهم، ليتمّ معالجة هذه المشكلة- بعد ذلك- بطريقة أصح، و أفضل.

و لهذا أقبل- بعد خروج تلك الجماعة من عنده- على ابن اخيه، و ذكر له ما قال له القوم، و هو يريد- بذلك ضمنا- اختبار إيمان «محمّد» بهدفه، فكان الردّ العظيم، و الجواب الخالد الذي يعتبر من أسطع و ألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر «محمّد» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش:

«يا عمّ، و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه، أو اهلك فيه، ما تركته».

ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بدموع الشوق و الحب للهدف، و قام و ذهب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:404

من عند عمه.

و كان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثر عجيب في نفس زعيم مكة و سيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه، و أظهر له استعداده الكامل للوقوف الى جانبه، و الحدب عليه رغم كل المخاطر، و المتاعب التي كانت تكمن له اذ قال:

«اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو اللّه لا اسلمك لشي ء أبدا».

(1)

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة:

لقد أقلق انتشار الإسلام المتزائد قريشا، و دفعها إلى التفكير في حيلة، فاجتمع أشرافها و سادتها للتشاور مرّة اخرى و قالوا:

لعل كفالة أبي طالب لمحمّد هي التي تدفعه إلى الدفاع عنه و حمايته و الوقوف الى جانبه في دعوته، فكيف لو مشوا إليه بأجمل فتيان مكة، و طلبوا منه أن يأخذه بدل «محمّد» و

يسلّمه إليهم ليروا فيه رأيهم، و لهذا مشوا الى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له:

يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش و أجمله، فخذه فلك عقله و نصره، و اتخذه ولدا فهو لك، و أسلم إلينا ابن أخيك هذا، الّذي فرّق جماعة قومك، و سفّه أحلامهم فنقتله، فانما هو رجل برجل!!

فأجابهم أبو طالب و هو مستاء من هذه المساومة الظالمة:

«هذا و اللّه لبئس ما تسومونني! أ تعطوني ابنكم أغذوه لكم، و اعطيكم ابني تقتلونه، هذا و اللّه ما لا يكون أبدا».

فقال «المطعم بن عدي بن نوفل»: و اللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.

فأجابه أبو طالب قائلا: و اللّه ما أنصفوني و لكنّك قد أجمعت خذلاني، و مظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 67 و 68، السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 266 و 267.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:405

(1)

قريش تحاول تطميع رسول اللّه!

و لما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء «أبي طالب» بخذلان ابن اخيه «محمّد»، فهو و إن كان لا يتظاهر بالإسلام، إلّا أنه يكنّ لابن أخيه، ودّا عميقا، و محبة كبرى من هنا قرّروا بأن يتركوا مفاوضة، إلّا أنهم فكّروا في خطة اخرى و هي أن يحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب، و الهدايا، و الأموال و الفتيات الجميلات، و لهذا مشوا الى بيت «أبي طالب» و دخلوا عليه و محمّد جالس إلى جنبه فتكلّم متكلّمهم و قال: يا محمّد انا بعثنا إليك لنكلّمك، فانا و اللّه لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و

عيبت الدين، و سببت الآلهة، و سفهت الاحلام، و فرقت الجماعة و لم يبق امر قبيح الّا أتيته فيما بيننا و بينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثر مالا، و ان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك و نشرّفك علينا، و ان كان هذا الذي ياتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.

(2) فقال ابو طالب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، يزعمون انك تشتم آلهتهم و تقول و تقول؟

فتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا عم أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب و تؤدي إليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته، و لقوله فقال القوم كلمة واحدة: نعم و أبيك عشرا.

قالوا: فما هي، فقال أبو طالب: و أي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال: «لا إله الّا اللّه».

فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك الفريق الذي يأمل في صرف النبي صلّى اللّه عليه و آله عن هدفه، و لهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم و هم يقولون: «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشى ء عجاب» «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 303، تاريخ الطبري: ج 2 ص 65 و 66.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:406

(1)

نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين:

يوم صدع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما امر، و جهر بدعوته للناس و أيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من اقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول: «و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه ما تركته» بدأ في الحقيقة واحدا من

أشدّ فصول حياته، و اكثرها متاعب و مصاعب، لأن قريشا كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته و تحترمه، و تسيطر على أعصابها، و لكنها عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرّت إلى تغيير نهجها و اسلوبها معه لتقف دون انتشار دينه مهما كلّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسّلوا بسلاح الاستهزاء و السخرية، و الإيذاء و التهديد، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته «1».

و لا يخفى أن المصلح الذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر و التحمل، أمام جميع المشكلات و المتاعب، و المكاره و الشدائد ليتغلب عليها شيئا فشيئا، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.

و نحن هنا نورد طرفا من أذى قريش لرسول اللّه و أتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ثباته، و استقامته على طريق الدعوة.

(2) و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتمتع- مضافا إلى العامل الروحي و المعنويّ الباطني الذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان و الصبر و الاستقامة و الثبات- بعامل خارجيّ تولّى حراسته و حمايته و ذلك حماية بني هاشم، و على رأسهم أبو طالب له صلّى اللّه عليه و آله، لأنه عند ما عرف «ابو طالب» بعزم قريش القاطع على إيذاء ابن أخيه (محمّد) دعا بني هاشم عامة، و طلب منهم جميعا حماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و القيام دونه، فلبّوا نداء سيّدهم، و أجابوه

______________________________

(1) راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ و المسلمين المحبر: ص 157 و 161.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:407

إلى ما دعاهم من حماية

رسول اللّه و حراسته بعض بدافع الايمان و آخر بدافع الرحم، الّا «أبو لهب» و رجلان آخران انضموا الى اعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر- مع ذلك- على صيانته صلّى اللّه عليه و آله من بعض الحوادث المرّة، لأنّ قريشا ألحقت به الأذى، و أنزلت به مكروها، كلما وجدته وحيدا بعيدا عن أعين حماته.

و إليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى:

(1) 1- مرّ «أبو جهل» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند الصفا، فاذاه و شتمه و نال منه ببعض ما يكره من العيب لدينه، و التضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث «حمزة بن عبد المطلب» رضي اللّه عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، و كان صاحب قنص يرميه و يخرج له، و كان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، و كان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلّا وقف و سلّم و تحدّث معهم، و كان أعز فتى في قريش، و أشدّ شكيمة. سيد المرسلين ج 1 407 نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين: ..... ص : 406

2) فلما مرّ بالمولاة، و قد رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة (و تلك هي كنيته) لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمّد آنفا من أبي الحكم بن هشام (و تعنى أبا جهل): وجده هاهنا جالسا فاذاه

و سبّه، و بلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه و لم يكلمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فغضب «حمزة» لذلك، فخرج يسعى و لم يقف على أحد معدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فاقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجّه شجة منكرة، ثم قال: «أ تشتمه و أنا على دينه أقول ما يقول. فردّ ذلك عليّ أن استطعت».

فقامت رجال من بني مخزوم إلى «حمزة» لينصروا «أبا جهل» فقال أبو جهل:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:408

دعوا أبا عمارة فاني قد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا «1». و بهذا منع «أبو جهل» الذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار و قتال.

(1) إنّ التاريخ الثابت و المسلّم يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس و قوة بين صفوف المسلمين مثل «حمزة» الذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثر كبير في حفظ الإسلام، و الحفاظ على حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دعم جماعة المسلمين، و تقوية جناحهم، فهذا ابن الاثير «2» يقول عن حمزة: لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد عزّ و امتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّر في إعداد خطط اخرى لمواجهة قضية الإسلام و المسلمين، سنذكرها في المستقبل.

(2) هذا و يرى بعض المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي «3» على أن ردود فعل إسلام «أبي بكر» و «عمر» و أثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام «حمزة»، و انّ الدين قوي جانبه باسلام هذين الرجلين، و كسب المسلمون بذلك القوة و الحريّة

في العمل و التحرك، و الحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية و دعم الإسلام، إلّا أنه لا يمكن- القول بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام «حمزة»، فإن «حمزة» ما ان سمع بأن قريشا أساءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّا و توجه، من دون أن يعرّج على أحد، إلى المسي ء و انتقم منه في الحال أشدّ انتقام، و لم يجرأ أحد على الوقوف في وجهه و منع المسي ء منه، و من غضبه و انتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن «أبي بكر» امرا يكشف عن أن «أبا بكر» يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادرا على حماية نفسه، و لا على الدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. (3) و إليك نصّ الواقعة:

مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم على جماعة من قريش و هم جلوس عند الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، و أحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 291 و 292، تاريخ الطبري: ج 2 ص 72.

(2) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 56.

(3) البداية و النهاية: ج 2 ص 26 و 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:409

كذا و كذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم و دينهم فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه (و هم يقصدون قتله) فقام «أبو بكر» دونه و هو يبكي و يقول: أ تقتلون رجلا يقول ربّي اللّه؟

فانصرفوا عنه (و لم يقتلوه لأمر رأوه)، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى منزله، و رجع «أبو

بكر» يومئذ و قد صدعوا فرق رأسه «1».

(1) إن هذه الرواية التاريخية اذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنها تدل قبل أي شي ء على عجزه و ضعفه.

إنه يدلّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدنية و روحية، و لا أية مكانة اجتماعية ترهب، و حيث أنّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينطوي- في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد- لذلك تركوا رسول اللّه، و وجّهوا ضربتهم إلى رفيقه و صدعوا فرق رأسه.

و لو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين و قايست بين موقف «حمزة» الشجاع و موقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنّ عزة الإسلام و قوة المسلمين، و تعزيز موقفهم، و خوف الكفار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟

(2) هذا و ستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام «عمر». و سترى بأنّ إسلامه- كاسلام صديقه- لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، و أنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.

فيوم أسلم «عمر» كاد أن يقتل لو لا «العاص بن وائل السهمي» لأنه هو الذي خاطب الذين قصدوا قتل «عمر» قائلا: رجل اختار لنفسه أمرا فما ذا تريدون منه؟ أ ترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا، خلّوا عن الرجل» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 289 و 290، و قد ذكر الطبري في تاريخه: ج 2 ص 72 قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 349.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:410

إن هذه العبارة التي قالها «العاص» لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد- بوضوح- أن الخوف من قبيلة

«عمر» هو الذي كان وراء تركهم إياه و عدم قتله، و قد كان دفاع القبائل عن أبنائها سنة فطرية و عادة متعارفة يومذاك و كان يتساوى فيها الكبير و الصغير، و الشريف و الوضيع.

أجل إن بني هاشم هم كانوا- في الواقع- الحصن الحقيقي للمسلمين، و قد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله «أبو طالب» و ذووه، و إلّا فانّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف بالدفاع عن الإسلام و جماعة المسلمين ليقال: أن المسلمين اعتزوا بهم؟

(1)

أبو جهل يكمن لرسول اللّه:

لقد أغضب تقدم الإسلام المطرد قريشا بشدة فلم يمرّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش الى صفوف المسلمين و لأجل هذا راح مرجل الغضب و الحنق على النبي صلّى اللّه عليه و آله يغلي في نفوسهم، فهذا فرعون مكة «أبو جهل» يقول لقريش في مجلس من مجالسهم: يا معشر قريش إن محمّدا قد أبي إلّا ما ترون من عيب ديننا، و شتم آبائنا، و تسفيه أحلامنا، و شتم آلهتنا، و إني اعاهد اللّه لأجلسنّ له غدا بحجر ما اطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه.

(2) فلما كان من غد أخذ «أبو جهل» حجرا كما وصف ثم جلس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتظره، و غدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عادته و وقف للصلاة بين الركن اليمانيّ و الحجر الأسود، و غدت تلك الجماعة من قريش فجلست في أنديتها تنتظر ما ابو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحتمل «أبو جهل» الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع

منهزما منتقعا لونه، مرعوبا و قذف الحجر من يده، فقامت إليه رجال من قريش و قالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف و الرعب: قمت إليه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:411

لأفعل به ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه ما لا رأيت مثله حياتي، فتركته!! «1».

إنه ليس من شك في أنّ قوة غيبيّة أدركت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة، و صوّرت ذلك المنظر الرهيب و حفظت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما وعده تعالى وعدا لا خلف فيه اذ قال: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «2».

(1) و هناك نماذج كثيرة من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سجّلها التاريخ في صفحاته، و قد عقد «ابن الأثير» «3» فصلا خاصّا لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الألدّاء، في مكّة، و بيّن أنواع ما كانوا يؤذون به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلّا أمثلة على ذلك، فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يواجه في كل يوم نوعا خاصا من الأذى، و المضايقة.

فقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يطوف ذات يوم فشتمه «عاقبة بن أبي معيط» و ألقى عمامته في عنقه، و جرّه من المسجد، فأخذوه من يده، خوفا من بني هاشم «4».

ابو لهب يؤذي رسول اللّه:

(2) و لقد تعرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأذى لا مثيل له من جانب عمه «أبي لهب» و زوجته «أم جميل» و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجاورهم، فلم

يألوا جهدا في إزعاجه و إيذائه فكم من مرّة و مرة ألقيا الرماد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 298 و 299.

(2) الحجر: 95.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 47 كما و عقد المجلسي رحمه اللّه في البحار: ج 18 بابا خاصا بعنوان:

«باب المبعث و اظهار الدعوة و ما لقي صلّى اللّه عليه و آله من القوم» راجع من صفحة 148 الى صفحة 243

(4) السيرة الحلبية: ج 1 ص 293 نظيره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:412

و التراب على رأسه الشريف و تيابه. و كم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريفه، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

و لا شك ان معارضة انسباء النبي و اقربائه لدعوته المباركة، و ايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاما لنفسه الشريفة، و اشد وقعا عليها، حتى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن و يسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة اذ يقول:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» «1».

صبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استقامته:

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يواجه كل ذلك الأذى و ما شابهه من التحججات التي سنشير إليها بصبر عظيم، و ثبات تتعجب منه الجبال الشماء، و ذلك اولا إيمانا منه برسالته.

(1)

إيذاء المسلمين و تعذيبهم!
اشارة

يرجع تقدم الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها: ثبات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و ثبات اتباعه و أنصاره.

و لقد تعرّفنا- في ما سبق- على أمثلة و نماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر و صبره، و استقامته في ما لقي من أذى و مضايقة.

على أن ثبات أنصاره و اتباعه الذين آمنوا في مكّة (مركز الحكومة الوثنية آنذاك) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب و يستحق الاحترام. و سنذكر صمودهم و ثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله.

و أمّا هنا فنسلّط الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب و كانوا يعيشون في المحيط المكي

______________________________

(1) المسد: 1- 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:413

حيث لم يكن ملجأ لهم يلجئون إليه، و هاجروا منه لأغراض الدعوة و التبليغ بعد أن تحملوا شيئا كثيرا من الإيذاء و التعذيب على أيدي المشركين و الوثنيين القساة.

(1)

1- بلال الحبشي:

كان أبواه ممّن اسروا في الجاهلية و جي ء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم الى مكة.

و أما بلال الذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقد كان غلاما ل «اميّة بن خلف» الذي كان من أشدّ أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و حيث أنّ عشيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تولّت الدفاع عنه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته و لم يمكن لاميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمد الى تعذيب غلامه بلال الذي أسلم، أمام الناس، بأشد أنواع الأذى و التعذيب انتقاما، و تشفيا.

فقد كان يطرح بلالا عاريا على الأحجار و الصخور الملتهبة في الهاجرة، و يضع

صخرة على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، و تعبد اللّات و العزّى، فيقول و هو في ذلك البلاء و المحنة الشديدة: أحد أحد «1».

(2) و لقد أثار ثبات هذا الغلام الأسود و جلده و صبره على أذى سيّده، إعجاب الآخرين، حتى أن «ورقة بن نوفل» مرّ عليه و هو يعذّب بذلك و هو يقول: أحد أحد، أقبل على «اميّة» و من يصنع به ذلك من «بني جمح» فيقول: احلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لاتخذنّه حنانا (أي لأجعلنّ قبره متبرّكا و مزارا) «2».

و ربما زاد «اميّة» من تعذيبه لبلال فربط حبلا بعنقه و ترك الصبيان يديرون به في الازقة و السكك «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 317 و 318.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 318.

(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 233.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:414

و قد اسر «اميّة» و ابنه في معركة «بدر» و كانا أول من اسرا من المشركين، و لم يوافق بعض المسلمين على قتلهما و لكن بلالا قال: «رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا». و أدّى إصرار بلال على قتلهما إلى قتل اميّة و ابنه جزاء أعمالهما الظالمة.

(1)

2- آل ياسر رمز الصمود و المقاومة!

كان «عمار» و والده من السابقين الى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتقى بأصحابه و يدعو الى الإسلام في بيت «الارقم بن أبي الارقم»، و عند ما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم و تعذيبهم و لم يألوا جهدا في ذلك أبدا.

فقد كان المشركون يخرجون «عمارا» و اباه «ياسر» و امّه «سمية» في وقت الظهيرة الى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة

الشمس الحارقة، و فوق الرّمال الملتهبة و الصخور المتّقدة كأنّها الجمرات.

و قد تكرّر هذا العذاب مرّات عديدة حتى أودى بحياة «ياسر» فقضى نحبّه على تلك الحال.

و قد خاشنت زوجته «سميّة» أبا جهل و كلمته في زوجها بغليظ القول، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت- هي الاخرى- نحبّها، و كانا أول شهيدين في الإسلام «1».

و قد آلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما شاهده من حالهما و هما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهما و لولديهما «عمّار» و هو يصبّرهم، و الدموع تنحدر على خدّيه:

«صبرا آل ياسر فانّ موعدكم الجنة» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 241 و السيرة الحلبية: ج 1 ص 300، السيرة الدحلانية بهامش السيرة.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 300، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 238 و 239.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:415

(1) و بعد أن قضى والدا «عمّار» نحبهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب «عمّار» و إيذائه و التنكيل به، و أخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا، و هم يقصدون قتله، و إلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلّى اللّه عليه و آله، فاضطر الى أن يعطيهم ما يريدون و يظهر الرجوع عن الإسلام، إبقاء على نفسه، و تقيّة منهم فتركوه، و انصرفوا عن قتله، و لكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام و تأثّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يبكي، فقال له النبيّ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان قال:

ان عادوا فعد، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ

كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» «1» «2».

(2) هذا و روي أنّ أبا جهل حينما قصد تعذيب «آل ياسر» و كانوا أضعف من بمكة أمر بسوط و نار ثم سحبوا عمارا و أبويه على الأرض، فكان يكوي بطرف السيف و الخنجر المحمى بالنار المشتعلة أبدانهم، و يضربهم بالسوط ضربا شديدا.

و قد تكرّر هذا العمل القاسي كثيرا حتى استشهد «ياسر» و زوجته «سميّة» على أثر ذلك التعذيب المرير، و لكن دون أن يفتئا حتى النفس الآخر عن مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاشادة بدينه.

و لقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا- رغم عدائهم للإسلام و مشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول- على تخليص «عمار» الجريح المنهك عذابا من براثن «أبي جهل» ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.

(3)

3- عبد اللّه بن مسعود:

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السري في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش، في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئا إذ قالوا: و اللّه ما سمعت قريش

______________________________

(1) النحل: 105 و 106.

(2) الدّر المنثور: ج 4 ص 132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:416

هذا القرآن يجهر لها قط فمن رجل يسمعهموه؟

فأبدى «ابن مسعود» استعداده للقيام بهذه العملية الجريئة، و تلاوة القرآن على مسامع قريش في المسجد الحرام بصوت عال.

فقالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال: دعوني فان اللّه سيمنعني.

ثم غدا «ابن مسعود» حتى أتى المقام في وقت الضحى و قريش في انديتها حتى قام عند المقام ثم قرأ: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» رافعا بها صوته، «الرّحمن علّم القرآن» و هكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.

فارعبت

عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش، و لكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعا و جعلوا يضربونه في وجهه، و جعل هو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغ ثم عاد إلى اصحابه و قد ادمي وجهه و جسمه، و هو مسرور لإسماع قريش كتاب اللّه تعالى و آياته المباركة «1».

إنّ الّذين صمدوا في أشد الأيام و أصعبها في مطلع عهد البعثة من المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم إلّا أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.

(1)

4- أبو ذر: أوّل المجاهدين بالإسلام

كان «أبو ذر» رابع أو خامس من أسلم «2»، و على هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاولى من بزوغ شمس الإسلام و طلوع فجره، فإذن هو من السابقين إلى الإسلام.

و قد صرح القرآن الكريم بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 314.

(2) اسد الغابة: ج 1 ص 301، الإصابة: ج 4 ص 64، الإستيعاب: ج 4 ص 62.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:417

بعثته و بالتالي فإن للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة، و مقاما لا يضاهى إذ قال تعالى:

«السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «1».

و قال تعالى فيهم أيضا.

«وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «2».

و قال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة و فضلهم، و مكانتهم المعنوية المتفوقة على من أسلم بعد اعتزاز الإسلام، و اشتداد أمره، و قيام دولته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ

بَعْدُ وَ قاتَلُوا ...» «3».

أجل هذه هي مكانة السابقين في الإسلام و كان «ابو ذر» منهم.

هذا مضافا إلى أنّه يعدّ أول من نادى بالإسلام على رءوس الأشهاد و في الملأ من قريش.

(1) فيوم اسلم «أبو ذر» كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو الناس إلى الإسلام سرّا، و لم تتهيّأ بعد ظروف الجهر بالدعوة إلى هذا الدّين، فانّ أتباع الإسلام و المؤمنين به لم يتجاوز عددهم في ذلك اليوم عدّد الأصابع هم: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خمسة ممن آمنوا به، و قبلوا دعوته، و مع ملاحظة هذه الاعتبارات و الظروف لم يكن بدّ- حسب الظاهر- من أن يخفي «أبو ذر» إسلامه، و يعود إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحد في مكة.

و لكنّ روح «أبي ذر» الطافحة بالإيمان و الحماس أبت ذلك، و كأنه قد خلق لينهض في كل زمان و مكان ضدّ الظلم و الطغيان، و يرفع عقيدته في وجه

______________________________

(1) الوافقة: 10- 11.

(2) التوبة: 100.

(3) الحديد: 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:418

الباطل و أهله، و يكافح الانحراف و الاعوجاج أيّا كان مصدره، و صاحبه. و أيّ باطل اكبر من أن يطأطئ الناس أمام أصنام مصنوعة من الحجر، و يخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرّ و لا تنفع، و لا تعطي و لا تمنع، و يسجدوا لها و يتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع «أبي ذر» أن يتحمّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

(1) من هنا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن مكث في مكة قليلا و قرأ شيئا من القرآن: يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال: ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري.

فقال له: و

الذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال: اني اخاف عليك أن تقتل.

قال: لا بد منه و إن قتلت.

ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله «1».

(2) إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش و شركها، و قد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة و لا نصير، و لا قوم و لا قريب.

و قد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتى قام إليه رجال قريش، و هجموا عليه من كل جانب و ضربوه بشدة حتى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت- بطريقة لطيفة- و قال: قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار و طريقكم على غفار، فتريدون ان يقطع الطريق، فأمسكوا عنه.

و نجحت محاولة «العباس» الانقاذية، و كفّت قريش عن ابي ذر.

______________________________

(1) حلية الأولياء: ج 1 ص 158 و 159، الطبقات الكبرى: ج 4 ص 225، الاستيعاب: ج 4 ص 63، الاصابة: ج 4 ص 64، الدّرجات الرفيعة: ص 228.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:419

و لكن أبا ذر الشاب الشجاع، و الطافح بالحيوية و الحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتى صرع، فأكب عليه العباس، و قال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.

(1) و لا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبو ذر من مخالف المشركين في اغلب الظن، و لكن أبا ذر لم يكن بذلك الرجل الذي يتراجع عن هدفه بسرعة، و لهذا بدأ جهاده

من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت، و تدعو ساف و نائلة (و هما صنمان لقريش) و تسألهما ان يقضيا لها حاجاتها، فانزعج أبو ذر من جهل تلك المرأة، و لكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران و لا ينفعان بل و لا يشعران قال: أنكحى أحدهما الآخر. فغضبت المرأة لقول ابي ذر في الصنمين، و تعلقت به و قالت: أنت صابئ، فجاء فتية من قريش فضربوه، و جاء ناس من بنى بكر فانقذوه منهم «1».

(2)

قبيلة غفار تعتنق الإسلام:

لقد أدرك رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله قابليات تلميذه و ناصره الجديد، و صلابته الخارقة في مكافحة الباطل، و لكن حيث ان الوقت لم يكن يحن بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يلحق بقومه، و يدعوهم إلى الإسلام، قائلا له: «الحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني».

فعاد ابو ذر إلى قومه، و أخذ يدعوهم الى الإسلام و يكلمهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يدعوهم الى نبذ الاصنام و عبادة اللّه الواحد، و التخلق بالاخلاق الرغيبة.

(3) فاسلم أبواه، أولا، ثم اسلم نصف رجال قبيلته «غفار» ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي الى المدينة، ثم تبعتها قبيلة «أسلم» حيث وقدوا على

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 4 ص 223.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:420

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اعتنقوا الإسلام.

ثم التحق ابو ذر بعد معركة بدر و احد برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة و أقام فيها «1».

و ربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتخذ طابع التهديد و الترهيب و ممارسة الضغط النفسي و الاقتصادي و الاجتماعي.

فقد

كان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف و منعة أنّبه و أخزاه، و قال له: تركت دين أبيك و هو خير منك، لنسفّهنّ حلمك، و لنفيلنّ رأيك، و لنضعنّ شرفك.

و إن كان تاجرا قال له: لنكسدنّ تجارتك، و لنهلكنّ مالك.

و إن كان ضعيفا ضربه، و أغرى به «2».

و روي أيضا أن «خبّاب بن الارت» صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قينا بمكة يعمل السيوف و كان قد باع من «العاص بن وائل» سيوفا صنعها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال يا خبّاب: أ ليس يزعم «محمّد» صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب و فضه أو ثياب أو خدم، قال خبّاب: بلى، قال: فأنظرني الى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع الى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك فو اللّه لا تكون و صاحبك يا خبّاب اشرّ عند اللّه مني!! «3».

(1)

أعداء النبي الألدّاء:

إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خصومه الالدّاء، و مواقفهم دورا هاما في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي التي وقعت

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 4 ص 221 و 222 و 226، الدرجات الرفيعة: ص 225 و 226 و ص 229 و 230.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 320.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 357.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:421

بعد الهجرة النبوية.

و نحن نكتفي هنا بادراج اسماء طائفة منهم و نذكر شيئا من خصوصياتهم.

(1) 1- «أبو لهب»: عم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد كان جارا له صلّى اللّه عليه و آله، و هو الّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و ايذاء المسلمين.

(2) 2- «الأسود بن عبد يغوث» و كان أحد المستهزئين و كان إذا وجد مسلما فقيرا لا يحميه أحد قال مستهزءا: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى!! «1».

و لم يمهله أجله ليرى بام عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى و قيصر، و وطئوا عرشهما.

(3) 3- «الوليد بن المغيرة» شيخ قريش و حكيمها الذي كان يملك ثروة هائلة، و سوف نتحدث عنه و عن موقفه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفصل القادم.

(4) 4- «اميّة» و «ابيّ» ابنا خلف، و قد مشى «ابى» هذا بعظم رميم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي و قال: أ تزعم أن ربك يحيي هذا بعد ما ترى (أو بعد ما رمّ)؟ فنزل قول اللّه تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» «2».

و قد قتل ابنا خلف هذان في بدر.

(5) 5- «أبو الحكم بن هشام» الذي سماه المسلمون لعناده و تعصّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل، و قد قتل هو الآخر في بدر أيضا.

(6) 6- «العاص بن وائل» و هو والد «عمرو بن العاص»، و هو الذي وصف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأبتر.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 318.

(2) بحار الأنوار. ج 18 ص 202، السيرة النبوية: ج 1 ص 361 و 362.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:422

(1) 7- «عاقبة بن أبي معيط» الذي كان من ألدّ اعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أشدّ خصومه بغضا له صلّى اللّه عليه و آله، و كان لا يألو جهدا في مضايقة المسلمين و لا يترك فرصة

تمرّدون إيذائهم! «1».

هؤلاء هم بعض أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المبالغين في معاداته، و هناك غيرهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم كاملة في مؤلفاتهم، و قد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

(2)

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام:

لقد كان إسلام كل واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله نابعا من سبب معيّن.

فربّما أدّت حادثة صغيرة إلى أن يعتنق فرد أو فريق الإسلام، و ينضمّوا إلى صفوف المسلمين.

و قد اتّسم السبب الذي آل الى إسلام عمر- من بين جميع تلكم الاسباب و العلل- بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.

على أن التسلسل التاريخي، و التنظيم الوقائعي لاحداث الإسلام و ان كان يقتضى منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله الى الحبشة، إلّا أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي و كيفية اسلامهم و مواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.

(3) يقول ابن هشام: كان اسلام عمر- في ما بلغني- أن اخته بنت الخطاب و كانت عند «سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل» و كانت قد أسلمت و أسلم بعلها «سعيد بن زيد»، و هما مستخفيان باسلامهما من عمر (و هؤلاء هم كل من اسلم من آل الخطاب) و كان خبّاب بن الأرت يختلف الى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن.

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 47 و 51، و راجع أيضا: أسد الغابة، و الاصابة و الاستيعاب و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:423

و كان «عمر» الذي كانت بينه و بين المسلمين علاقات جدا سيئة «1» قد أزعجه ما أصاب المجتمع المكي من تشتّت و فرقة، و ما لحق

بقريش من المتاعب أثر ظهور الإسلام، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الفتك به.

فخرج يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رهطا من أصحابه و قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا و هم قريب من أربعين ما بين رجال و نساء، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه «حمزة» بن عبد المطلب و «ابو بكر» و «علي بن ابي طالب» في رجال من المسلمين يحفظونه و يحرسونه.

يقول «نعيم بن عبد اللّه» و قد كان صديقا حميما لعمر: لقيت عمرا و هو متوشح سيفا و يريد مكانا فقلت له: أين تريد يا عمر؟

فقال: اريد محمّدا هذا الصابئ الذي فرّق في أمر قريش، و سفّه أحلامها و عاب دينها، و سبّ آلهتها، فأقتله.

فقال له نعيم: و اللّه لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر، أ ترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمّدا! أ فلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرهم؟

قال: و أي أهل بيتي؟

قال: ختنك و ابن عمك «سعيد بن زيد» و اختك «فاطمة بنت الخطاب» فقد و اللّه أسلما، و تابعا محمّدا على دينه فعليك بهما.

فأغضب هذا النبأ عمر بشدة فانصرف عن الهدف الذي كان يرمى إليه و عاد من توّه إلى بيت اخته، فدخل على اخته و ختنه و عندهما «خبّاب بن الأرت» معه صحيفة فيها سورة «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ «عمر» تغيّب «خبّاب» في مخدع لهم، أو في بعض البيت، و اخفت «فاطمة بنت

______________________________

(1) راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 342- 346.

سيد

المرسلين ،ج 1،ص:424

الخطاب» الصحيفة، و كان «عمر» قد سمع حين دنا الى البيت قراءة «خبّاب» عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة «1» التي سمعت؟

قالا له: ما سمعت شيئا.

قال: بلى و اللّه، لقد اخبرت أنكما تابعتما محمّدا على دينه.

و بطش بختنه «سعيد بن زيد» فقامت إليه اخته «فاطمة بنت الخطاب» لتكفّه عن زوجها فضربها فشجّها.

فلما فعل ذلك قالت له اخته و ختنه: نعم قد اسلمنا و آمنّا باللّه و رسوله، فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى «عمر» ما باخته من الدّم ندم على ما صنع، فارعوى و رجع، و قال لاخته: اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمّد؟.

فلما قال ذلك قالت له اخته: إنّا نخشاك عليها. قال: لا تخافي و حلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها، إليها.

فلما قال ذلك طمعت في اسلامه، فقالت: يا أخي، إنك نجس على شركك و انّه لا يمسّها إلّا الطاهر، فقام «عمر» فاغتسل، فأعطته الصحيفة و فيها آيات من سورة «طه» هي:

طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلّا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممّن خلق الأرض و السماوات العلى. الرّحمن على العرش استوى. له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى. و إن تجهر بالقول فانّه يعلم السرّ و أخفى «2».

و لقد تركت هذه الآيات المحكمة الفصيحة البليغة تأثيرا شديدا في نفس عمر فقال: ما احسن هذا الكلام؟

و قرر الرجل، الذي كان قبل ثوان عدوّ الإسلام الأول، أن يغيّر موقفه،

______________________________

(1) الهينمة صوت كلام لا يفهم.

(2) طه: 1- 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:425

فتوجه من توّه إلى البيت الذي ذكر له أنّ فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعة من

أصحابه و هو متوشح سيفه، فضرب عليهم الباب، فلمّا سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو فزع و أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بما رأى، فقال حمزة: فائذن له، فان جاء يريد خيرا بذلناه له، و إن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ائذن له، فأذن له الرجل، و نهض إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته (و هو موضع شد الإزار) أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذه شديدة، و قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب فو اللّه ما أرى تنتهي حتى ينزل اللّه بك قارعة؟!

فقال عمر: يا رسول اللّه جئتك لاؤمن باللّه و برسوله و بما جاء من عند اللّه.

و هكذا اسلم «عمر» عند رسول اللّه و أصحابه و انضوى إلى صفوف المسلمين.

ثم ان ابن هشام روى رواية اخرى في كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 343- 346.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:427

(1)

16 رأي قريش في القرآن

اشارة

ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني أمر خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروك إلى الكتب الاعتقادية و الكلامية.

و لكن الأبحاث التاريخيّة تهدينا الى أن القرآن الكريم كان من أكبر و أقوى اسلحة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بحيث خضع أمام فصاحته البالغة و حلاوة كلماته و قوة آياته، و عباراته، اساتذة الفصاحة و البلاغة و امراء البيان و الكلام، و عمالقة الكتابة و الخطابة. و اعترفوا برمّتهم، و

قضّهم و قضيضهم بأنّ القرآن الذي جاء به محمّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة و البلاغة، و أنّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر و لم يعهد له التاريخ الانساني نظيرا.

فلقد كانت جاذبيّة «القرآن الكريم» و تأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه، و ربما انهارت قواه، فبقي مدة طويلة، لا يقوى على حراك، و لا يملك فعل شي ء.

و فيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال:

(2)

حكم الوليد في القرآن:

كان «الوليد بن المغيرة» ممن يرجع إليه العرب لحل الكثير من مشاكلها،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:428

و كان ذا سنّ، و ثروة كبيرة فيهم.

و عند ما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام و انتشاره في القبائل مشى فريق منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا الأمر الذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية، و طلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم و قالوا: هل هو سحر أم كهانة أم حديث قد حاكه بنفسه.

فاستنظرهم «الوليد» ليعطي رأيه فيه بعد أن يسمع شيئا من القرآن، فأتى الى الحجر حيث كان يجلس النبيّ، و يتلو القرآن، فقال: يا محمّد أنشدني شعرك.

(1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما هو بشعر، و لكنّه كلام اللّه الذي به بعث انبياءه و رسله.

فقال: اتل عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فلما سمع: الرحمن، استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمن؟

قال. لا، و لكني أدعو إلى اللّه و هو الرحمن الرحيم ثم افتتح سورة «حم السجدة» فلما بلغ إلى قوله تعالى:

«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ».

و سمعه الوليد، فاقشعر جلده، و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، ثم قام و مضى إلى بيته و لم يرجع

الى قريش.

فقالت قريش: يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمّد، أ ما تراه لم يرجع إلينا و قد قبل قوله، و مضى إلى منزله.

فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا و غدا عليه ابو جهل فقال: يا عم نكّست رءوسنا و فضحتنا.

قال: و ما ذاك يا ابن أخي؟

قال: صبوت الى دين محمّد.

قال: ما صبوت و اني على دين قومي و آبائي، و لكني سمعت كلاما صعبا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:429

تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل: أشعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطب هي؟

قال: لا و ان الخطب كلام متصل، و هذا كلام منثور، لا يشبه بعضه بعضا، له طلاوة.

قال: فكأنه هي؟

قال: لا.

قال: فما هو؟

قال: دعني افكر فيه.

فلما كان من الغد، قالوا: يا ابا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه فيه:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَ بَنِينَ شُهُوداً» الى قوله: «عليها تسعة عشر» «1» «2».

(1)

نموذج آخر [من حكم البلغاء في شأن القرآن]:

كان «عتبة بن ربيعة» من كبراء قريش و اشرافها، و يوم أسلم «حمزة» و أصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون و يكثرون اغتمّت قريش كلّها، و خشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة و هو جالس في نادي قريش يوما، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش أ لا أقوم الى «محمّد» فاكلّمه و أعرض عليه امورا لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء و يكف عنا؟

______________________________

(1) المدثر: 11- 30.

(2) بحار الأنوار: ج 17 ص 211 و 212، إعلام الورى بأعلام الورى: ص 41 و 42.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:430

فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه.

(1) فقام إليه «عتبة»

حتى جلس الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال:

يا ابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة و المكان في النسب، و انك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم و سفهت به أحلامهم، و عبت به آلهتهم، و دينهم، و كفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك امورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قل يا أبا الوليد اسمع.

قال: يا ابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر ما لا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثرنا مالا، و ان كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لانقطع أمرا دونك، و إن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، و إن كان هذا الذي يأتيك رئيّا (و هو ما يتراءى للناس من الجنّ) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، حتى إذا فرغ «عتبة»، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستمع منه قال: أ قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم قال: فاسمع منّي؛ قال: افعل، قال:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» «1».

ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه «عتبة» أنصت لها و ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه و بقي على هذه مدة من الزمن صامتا

و كأنه قد سلب قدرة النطق، ثم انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى السجدة فسجد ثم قال.

«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت و ذاك».

______________________________

(1) فصلت: 1- 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:431

(1) فقام «عتبة» الى أصحابه و قد تغيّرت ملامحه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!! فلما جلس إليهم قالوا:

ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي اني قد سمعت قولا و اللّه ما سمعت مثله قط، و اللّه ما هو بالشعر، و لا بالسحر، و لا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي، و خلّوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه فاعتزلوه، فو اللّه ليكوننّ لقوله هذا الذي سمعت منه نبأ عظيم، فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، و ان يظهر على العرب فملكه ملككم، و عزه عزّكم، و كنتم أسعد الناس به.

فانزعجت قريش من مقالة «عتبة» هذا و سخرت به و قالت: سحرك و اللّه يا أبا الوليد بلسانه!!

قال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم «1».

هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ، في القرآن الكريم.

على أن هناك أمثلة و نماذج اخرى كثيرة في هذا المجال.

(2)

تحججات قريش العجيبة:

اجتمع «عتبة بن ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة» و «أبو سفيان بن حرب»، و «النضر بن الحارث»، و «أبو البختري»، و «الوليد بن المغيرة»، و «ابو جهل» و «العاص بن وائل» و غيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا الى «محمّد» فكلّموه، و خاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه؛ فجاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريعا و هو يظن أن قد بدا لهم فيما كلّمهم فيه بداء

و انهم قد غيّروا مواقفهم، و كان يحبّ رشدهم و هدايتهم حتى جلس إليهم.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 293 و 294.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:432

فقالوا له: يا محمّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، و انّا و اللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدّين، و شتمت الآلهة ... و مضوا يعددون أمورا من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه امورا ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكيا عن لسانهم:

«و قالوا لن نؤمن لك حتى 1- تفجر لنا من الأرض ينبوعا.

2- أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا.

3- أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.

4- أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

5- أو يكون لك بيت من زخرف.

6- أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه»!!

(1) و حيث أنّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لمطالب قريش حيث قال: «قل سبحان اللّه ربّي هل كنت إلا بشرا رسولا» قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات و العلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش و مقترحاتهم.

الجواب: إنّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف و زمان، فإن للاعجاز شروطا خاصة لم تتوفر في هذه الاقتراحات، و هذه الشروط هي:

(2) أولا: أن لا تكون المعجزة من الامور المستحيلة التي لا يمكن تحقّقها، فإنّ مثل هذه الامور خارجة عن إطار القدرة، و لا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى و لا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقا.

و على هذا الأساس إذا طلب الناس من النبيّ

أمرا محالا، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:433

(1) و هذا الشرط لم يكن متوفرا في بعض مقترحات المشركين المذكورة (المقترح الرابع) فانهم طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يأتي لهم باللّه سبحانه و تعالى ليقابلوه وجها لوجه، و يروه جهرة و من قريب، و رؤية اللّه تعالى امر محال، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدودا بالزمان و المكان، و أن يكون جسما و ذلون و صورة و هو تعالى منزه عن المادّة و لوازم المادية.

بل حتى مقترحهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (لا أن تسقط قطعة من الصخر على رءوسهم و تقتلهم) فان ذلك هو أيضا من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية العالم، و النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضا كما يدل عليه قولهم:

«كما زعمت».

إنّ انهدام المنظومة الشمسيّة و تبعثر النجوم و تساقطها و إن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال، و لكنّه- حسب المشيئة الإلهية الحكمية و إرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري، و يصل إلى مرحلة الكمال- يعدّ محالا، و لا يمكن أن يفعل حكيم خلاف ما يقتضيه هدفه و غايته.

(2) ثانيا: حيث أنّ الغاية المنشودة من اقتراح و طلب الإعجاز هو أن يستدلّ به على صدق دعوى النبيّ، و صحة انتسابه الى اللّه، و بالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بالعالم ما فوق الطبيعة، لذلك فان أيّ اقتراح و مطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ النبي

طلبهم و ياتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب، فحينئذ لا معنى و لا موجب لأن يقوم النبيّ بما لا يرتبط بشئونه و لا يخدم هدفه.

و قد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع، و ذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض، أو أن تكون له جنّة من نخيل و عنب، أو أن يكون له بيت من زخرف و ذهب، فان مثل هذه الامور لا تدل على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتلكون واحدة من هذه الأشياء و ليسوا مع ذلك بأنبياء، بل ربما يملكون اكثر من ذلك، و مع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان فضلا عن النبوة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:434

فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة، و لا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمرا لغوا و عبثا تعالى عنه مقام النبوّة، و جلّت عنه منزلة الأنبياء.

(1) و قد يقال: إن هذه الاشياء «1» لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية، و لكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة و لا متعارفة كانت و لا شك من المعاجز الالهية، و دلت على صدق النبي و صحة دعواه.

و لكنّ الظاهر أن هذه فكرة باطلة لان المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبي صاحب مال و ثروة، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيّ اللّه و رسوله فقيرا لا يملك شيئا من الثروة المال، و كانوا يعتقدون انّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول و حول، و لذلك قالوا مستغربين و مستنكرين:

«وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «2»؟!!

أي لما ذا لم ينزل

هذا القرآن على رجل ثريّ من مكة أو الطائف.

و ممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن يملك النبي مثل هذه الامور بأي طريق كان، و لو بالطريق العاديّ أنهم كانوا يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» «3».

(2) و بعبارة اخرى: كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستانا أو بيتا من ذهب فاننا لن نؤمن لك!!

و لو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم: ما لم يكن «لك» بيت من زخرف، فاننا نؤمن بك بل كان يكفى أن يقولوا: إذا لم تحدث و توجد بيتا و جنّة فاننا لن نؤمن لك.

______________________________

(1) أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع و الجنة و البيت من ذهب.

(2) الزخرف: 31.

(3) الاسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:435

أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم: «تفجّر لنا من الأرض ينبوعا» فان مقصودهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعا لينتفعوا به، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

(1) ثالثا: ان المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ و صدق مقاله، و الإيمان بمنصبه، و الاعتقاد بمقامه، و على هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكون الاتيان له بالإعجاز سببا لإيمانه بالنبيّ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة و تلبية اقتراحه أمرا مستحسنا، و غير مقبوح عقلا.

أما إذا كان المقترحون. يقترحون عنادا و لجاجا، أو يطلبون ما يطلبونه لهوا و تسلية كما يفعل الناس مع السحرة و المرتاضين فان منزلة الأنبياء أجلّ- حينئذ- من أن يلبيّ مثل هذه المقترحات، و يستجيب لمثل هذه المطالب، و قد كانت بعض اقتراحات المشركين من هذا النمط.

فان مطالبتهم بأن يصعد النبيّ الى السماء، أو أن ينزل

من السماء كتابا يقرءونه لم يكن بهدف اكتشاف الحقيقة لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول الى الحقيقة فلما ذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده الى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمّ أمرا آخر إلى عروجه و صعوده (و هو أن ينزّل معه كتابا)!!

(2) ثم انه يستفاد من آيات اخرى، غير هاتين الآيتين أيضا، أنهم كانوا سيعاندون، و يصرون على كفرهم حتى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى:

«وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

فمن غير المستبعد أن يكون الكتاب المنزّل في قرطاس إشارة إلى اقتراح المشركين الذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء اي قولهم: «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» «2» فقال اللّه سبحانه: حتّى لو

______________________________

(1) الانعام: 7.

(2) الأسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:436

فعلنا لهم ذلك لكفروا، و احجموا عن الإيمان.

(1) رابعا: إنّ طلب المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيان بها الإيمان بالرسالة و الانضمام الى صفوف المؤمنين، فاذا كانت نتيجة المعجزة هي إباء المقترحين استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة، و انتفاء فائدتها.

فاذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبدا مع هدف الإعجاز و هو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

(2) و بالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة و هي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله- على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزه لرسول الإسلام- لم يصف نفسه بالعجز و عدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» «1» أمرين:

(3) 1- تنزيه

اللّه، فهو بقوله: «سبحان ربّي» نزّه اللّه تعالى عن كل عجز و نقص كما نزّهه عن الرؤية و وصفه بالقدرة على كل شي ء ممكن.

(4) 2- محدوديّة قدرة النبيّ، إذ بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «هل كنت إلا بشرا رسولا» أفاد بأنه امرئ مأمور لا أكثر و أنه مطيع لأمر اللّه و إرادته فهو يأتي بما يريد ربّه، و الأمر إلى اللّه كله، و ليس للنبيّ أن يلبّي أي طلب و اقتراح بارادته.

و بعبارة اخرى: ان الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز و الرؤية على كلمتي: «البشر و الرسول» و الهدف هو انه: إذا أنتم قد طلبتم هذه الامور منّي من جهة إنني بشر، كان طلبكم هذا طلبا غير صحيح، لأن هذه الامور تحتاج إلى قدرة إلهية.

و إن طلبتموها منّي من جهة اني نبيّ رسول فان النبي و الرسول ما هو إلّا إمرئ مأمور يفعل ما ياذن به اللّه، و ليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.

______________________________

(1) الأسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:437

و بهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلّ على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و كان ممّا تحججت به قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّهم قالوا:

لو كان محمّدا نبيّا لشغلته النبوة عن النساء و لأمكنه جمع الآيات (اي لأتته الآيات دفعة واحدة) و لأمكنه منع الموت عن أقاربه و لما مات أبو طالب و خديجة فنزل قوله تعالى:

«وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا

اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ».

و بذلك ردّ عليهم «1» «2».

(1)

الدوافع وراء معاداة قريش و عنادهم:
اشارة

هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام، لأن المرء قد يسائل نفسه: لما ذا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمين و لم تعهد منه انحرافا أو خطأ قط و كانت تسمع كلامه الفصيح البليغ الذي يأسر القلوب، و ربما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إن لهذا التمرد و المعارضة الى علة او علل عديدة هي:

(2)

1- حسدهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لقد عارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خالفه فريق ممن عارضه بسبب

______________________________

(1) الرعد: 38- 40.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 17 عن المناقب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:438

حسدهم له، فقد كانوا يتمنّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب، و صاحب هذه المنزلة.

فقد قال المفسّرون عند قوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «1» أن «الوليد بن المغيرة» قال: أ ينزّل على محمّد و اترك و أنا كبير قريش و سيّدها و يترك «ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي» سيد ثقيف و نحن عظيما القريتين فأنزل اللّه تعالى فيه الآية «2».

و روى انه قال: و اللّه لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأنّني اكبر منك سنا و أكثر منك مالا «3».

(1) و كان «اميّة بن أبي الصلت» من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يتمنى كثيرا أن ينال هو هذا المقام و يخطى بهذا المنصب العظيم، و لم يتبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى آخر حياته، و كان يؤلّب الناس عليه.

و قد سأل «الاخنس بن شريق»- و هو

من أعداء رسول اللّه- أبا جهل يوما:

يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعت من «محمّد»؟

فقال: ما ذا سمعت، تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، و حملوا فحملنا، و أعطوا فأعطينا حتى إذا تجاذبنا على الركب، و كنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك مثل هذه، و اللّه لا نؤمن به أبدا و لا نصدّقه «4».

هذه النماذج تظهر الحسد الذي كان يحول بين زعماء قريش و ساداتها و بين اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تصديقه، فعتوا على اللّه و تركوا أمره عيانا، و لجّوا فيما هم عليه من الكفر، و هناك نماذج و أمثلة اخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجها هنا.

______________________________

(1) الزخرف: 31.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 361.

(3) بحار الأنوار: ج 18 ص 235.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 315 و 316.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:439

(1)

2- معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم:

و كان لهذا العامل الأثر الاكبر في عتو قريش و معارضتها لدعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله لأنهم كانوا أصحاب لهو و لعب، و فسق و مجون، و مثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو، دون ان يقيّدهم شي ء من الحدود و القيود، وجدوا دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله تخالف عادتهم القديمة، و كان ترك مثل تلك العادة التي تتفق مع أهوائهم و رغباتهم النفسيّة أمرا يلازم النصب و العناء و الجهد.

(2)

3- الخوف من عقوبات اليوم الآخر:

إن سماع آيات العذاب التي تنذر الفسقة و الظالمين و توعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم، و أقلق نفوسهم بشدة.

فعند ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة و أوضاعه، و قضاياه في الاجتماعات و الاماكن العامة، كان يحدث بذلك ضجة كبرى في أوساطهم، فيهدم مجالس لهوهم، و انسهم.

إنّ العربي الذي كان يسلّح نفسه بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أي خطر محتمل، و يعمد الى ممارسة القرعة و يتعاطى الانصاب و الازلام ليحصل على لقمة عيشه، و يتفأل بالأحجار، و يتطيّر و يتشاءم بالطيور و يستدلّ بحالاتها على حوادث وقعت أو تقع، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه «محمّد» من عذاب و عقاب!!

من هنا كانوا يحاربون النبي صلّى اللّه عليه و آله و يخالفونه حتى لا يسمعوا وعده و وعيده.

و إليك بعض الآيات التي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش:

«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ. وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» «1».

______________________________

(1) عبس: 33- 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:440

و بينما

كانوا يمدّون موائد اللهو و الشراب في ظلال الكعبة و يحتسون كئوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية:

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ». «1»

فتلقي في نفوسهم رعبا عجيبا، و ينتابهم الاضطراب الشديد حتى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانبا و يتملكهم خوف شديد لم يعرفوا له مثيلا.

(1)

4- الخوف من القبائل العربية المشركة:

قال «الحارث بن نوفل بن عبد مناف» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انا لنعلم أنّ قولك حق و لكن يمنعنا أن نتبع الهدى و نؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (إن تركنا الوثنية التي تدين بها و يعتبروننا سدنة لأوثانها) و لا طاقة لنا بها. فنزل قوله تعالى يرد عليهم:

«وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» «2» «3».

و هكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العرب من الوثنية و الشرك أحد الاسباب لعتوهم و إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

(2)

طائفة من اعتراضات المشركين:

و ربما اعترض المشركون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قائلين: إن هذه الارض ليست بأرض الأنبياء، و إنما ارض الأنبياء الشام فات الشام «4».

و كان اكثر المشركين يقولون- و ذلك بوحي من اليهود- لما ذا لا ينزل القرآن على «محمّد» دفعة واحدة كالتوراة و الانجيل فحكى القرآن الكريم اعتراضهم

______________________________

(1) النساء: 56.

(2) القصص: 57.

(3) بحار الأنوار: ج 18 ص 236.

(4) بحار الأنوار: ج 18 ص 198.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:441

هذا بنصه اذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً».

ثم قال تعالى ردّا على اعتراضهم هذا:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» «1».

إن القرآن يهتم بهذا الاعتراض، و يوضح مسألة «النزول التدريجي» للقرآن الكريم و يقطع الطريق على المستشرقين المغرضين و من حذى حذوهم، بمنطقه المحكم، و بيانه القويّ.

و ها نحن نعمد هنا الى إعطاء شي ء من التوضيح لهذه المسألة أيضا:

(1)

القرآن و النزول التدريجيّ:

إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن و كذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم و سوره نزلت تدريجا.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة، و المدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات التي تتحدث عن مكافحة الشرك و الوثنية و دعوة الناس الى اللّه الواحد، و الإيمان باليوم الآخر مكيّة، بينما تكون الآيات التي تدور حول الأحكام و تحثّ على الجهاد و القتال مدنيّة، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجّها الى المشركين عبدة الاوثان الذين كانوا ينكرون توحيد اللّه، و اليوم الآخر، فهنا تكون الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

(2) في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه، و الى جماعة اليهود و النصارى، و كان الجهاد و القتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو

الأعمال المهمّة التي بدأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و واصلها في هذه البيئة، من هنا تكون الآيات التي تتضمن الحديث حول الاحكام و الفروع و القوانين، و يدور

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:442

الحديث فيها أيضا حول عقائد اليهود و النصارى و مواقفهم و تتضمن الحثّ- كذلك- على الجهاد و القتال و التضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه و إعزاز دينه، آيات مدنيّة.

(1) إنّ كثيرا من الآيات ترتبط ارتباطا وثيقا بالحوادث التي وقعت في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه الحوادث هي التي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوف عليها موجبا لفهم مفاد الآية، و اتّضاح مفادها، فان وقوع هذه الحوادث كان سببا لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاخرى نزلت جوابا على أسئلة الناس، و لرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

و البعض الآخر منها نزلت لبيان المعارف و الأحكام الالهية.

و لهذه الاسباب يمكن القول بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تدريجا لتدرّج موجبات النزول.

و قد صرّح القرآن و الكريم بهذا الأمر أيضا في بعض المواضع اذ قال:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» «1».

(2) و هنا ينطرح هذا السؤال و هو: لما ذا لم تنزل آيات القرآن كلها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، و دفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة و الإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديدا بل طرحه أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و معارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضا حيث كانوا يقولون:

«لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» «2».

(3) و يمكن تقرير و شرح هذا

الاعتراض على نحوين:

(4) 1- إذا كان الإسلام دينا إلهيا، و كان القرآن كتابا سماويا منزلا من جانب اللّه على رسوله، فلا بدّ أن يكون دينا كاملا، و مثل هذا الدين الكامل

______________________________

(1) الاسراء: 106.

(2) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:443

يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة من دون تدرّج و لا توقف في نزول الآيات، اذ لا مبرّر و لا داعي لأن ينزل دين كامل من جميع الجهات، مكمّل من حيث الأصول و الفروع و التشريعات و الواجبات و السنن، على نحو التدريج في 23 عاما، و لمناسبات مختلفة.

و حيث أن القرآن نزل منجّما، و بصورة متفرقة متناثرة، و عقيب طائفة من الأسئلة، أو وقوع حوادث و طروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الأصول و الفروع، و هو يتدرّج في التكامل و مثل هذا الدين الناقص الذي يسير نحو كماله خطوة خطوة و بالتدريج لا يصح أن يوصف بالدين الالهيّ.

(1) 2- إن آيات القرآن و التاريخ القطعي و المسلّم للتوراة و الإنجيل و الزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اعطيت إلى المرسين بها في ألواح مكتوبة مدوّنة، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار، كأن ينزل القرآن على «محمّد» في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

و حيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط، و لم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها، لذا يمكن القول بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح، و الذي يتلخص في أنه لما ذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، بل نزلت هذه الآيات عليه صلّى اللّه عليه و آله في فواصل زمنية متفاوتة، و بمناسبات و حسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

(2)

الأسرار المنطقيّة للنزول التدريجي للقرآن:
اشارة

و لقد كشف القرآن القناع- في معرض الردّ على اعتراض المشركين هذا- عن حكم و أسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

و إليك توضيح هذا القسم الذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضة قصيرة:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:444

(1) 1- إن الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يتحمّل مسئوليات كبرى، و ان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكل و متاعب باهضة و صعبة، و لا ريب أن تلك المشاكل و المتاعب توجب الكلل، و انخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروح التي يتمتع بها الشخص عظيمة، و قويّة، في مثل هذه الحالة يكون تجديد الارتباط بالعالم الأعلى، و تكرّر نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثا على تجدّد النشاط، و عاملا قويا في بثّ القوة و الحماس و المعنوية الفاعلة في نفس النبيّ و روحه، و بالتالي فان العناية و المحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه و رسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله من جانبه تعالى.

و قد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى اذ قال:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» «1».

(2) 2- و يمكن ان تكون الجملة المذكورة ناظرة الى جهة اخرى و هي: ان المصالح التربوية و التعليمية تقتضي أن يتنزل القرآن الكريم على نحو التدريج و يلقى الى الناس على هذا الشكل أيضا و ذلك لان النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله معلّم الامة، و طبيبها الروحي الذي بعث الى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم، و هدايتهم و معالجة أمراضهم و أدوائهم الاجتماعية و الخلقيّة،

و الفكرية، و كلّف بأن يطبّق هذه الوصفات في حياتهم العملية، و مثل هذا يتطلب التدرّج لينفع الدواء- حينئذ- و تنجع المعالجة.

إن أفضل و أنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية، و أن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية، و يعطي لما يلقيه من معلومات، صبغة تحقيقية، و يتجنّب بشدة اتّصاف أفكاره و آراءه بالطابع النظريّ البحت.

(3) فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة و الاسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حرم النتائج المتوخّاة و الغايات

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:445

المطلوبة من تعليم الطبّ، بشكل كامل.

أما إذا قرن الاستاذ درسه النظري بالإرشاد العمليّ و طبّق ما ألقاه و بيّنه من أفكار و معلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن، و يساعد الطلبة على فهم افضل للمواد التي درسوها في هذا المجال.

فلو أنّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملة واحدة (و الحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج الى كثير منها) كان القرآن- حينئذ- فاقدا لهذه المزية التربوية الهامة التي أشرنا إليها قريبا في مثال تدريس الطب.

(1) ان بيان الآيات التي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة الى اخذها و تعلّمها، لا يترك التأثير الباهر في القلوب، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس التي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمّنها الأحكام و الأصول و الفروع التي يحتاجون إليها فانه لا شكّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن و أقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخ اكبر في نفوسهم، و سيظهر الناس من انفسهم استعدادا اكبر لاخذ ألفاظها و

معانيها، و فوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم، و عندئذ تتحقق المقولة التربوية التي أشرنا إليها في ما سبق و هي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات اتّخذت طابعا عمليا، و لم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

(2) و لكن يبقى هنا سؤال آخر و هو: إذا كان نزول القرآن قد تحقّق على نحو التدريج و تبعا للاحتياجات و الحوادث المختلفة، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات و الروابط بين الآيات و السور، و هذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم و حفظ معارفها لتبعثرها، و تباعد أزمنتها و غياب علاقاتها، و لكن لو نزل القرآن جملة واحدة و تلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لروعيت الروابط و العلاقات بين قضايا الوحي و لتضاعفت رغبة الناس و استعدادهم لأخذها و حفظها؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:446

(1) و لقد أجاب القرآن الكريم أيضا على هذا السؤال إذ قال: صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعا لطائفة من المقتضيات و الموجبات إلّا أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابدا من ترابط مطالبه، و ارتباط مواضيعه بعضها ببعض، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات انسجاما و ترابطا خاصا يمكن الإنسان من تعلمها و ضبطها و حفظها إذا أعطى الموضوع قليلا من الاهتمام إذ قال تعالى:

«وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» «1».

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاما معينا و ترتيبا خاصا.

أسرار اخرى لنزول القرآن تدريجا:

(2) 3- لقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فترة رسالته و نبوّته فئات مختلفة من الناس: كالوثنيين، و اليهود و المسيحيين الذين كان لكل فئة منهم دينا خاصا، و عقائد و تصورات خاصة حول المبدأ و المعاد، و

غيرهما من المعارف العقلية.

و قد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح و بيان عقائد هذه الفئات (و إن لم يكن مطلوبا و مقترحا من قبلهم) و يقيم الأدلة و البراهين على بطلانها، و زيفها، هذا من جانب.

و من جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة، و أوقات مختلفة، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحي الالهي تدريجا، و في الأوقات المختلفة، و يتصدى لبيان بطلان تلك العقائد و التصورات و يجيب على شبهات المخالفين، اعتراضاتهم.

(3) و ربما كانت توجب هذه المواجهات العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعض الاسئلة امتحانا و اختيارا له و كان على النبيّ أن

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:447

يجيب عليها، و حيث أن هذه الاسئلة كانت تطرح في أوقات مختلفة، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحي الالهي في الأوقات و الأزمنة المختلفة، و على نحو التدريج.

هذا مضافا الى أن حياة النبي نفسها كان حياة ثورة، و وقائع، و كان النبي يواجه باستمرار أحداثا و قضايا يجب توضيح حكمها، و بيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.

و ربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادث و امورا يرجعون فيها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها و يسألونه عما يجب اتّخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث و ما يشابهها.

و حيث أن هذه الحوادث، و ما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات مختلفة، و بمرور الزمن، لذلك لم يكن بد أيضا من ان ينزل الوحي الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل.

و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه النقاط، و

إلى نقاط اخرى غيرها في قوله تعالى:

«وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً» «1».

(1) 4- إن للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كل ذلك سرا آخر، و علة اخرى غفلوا عنها، ألا و هي: هداية الناس و توجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب، و أن القرآن ليس الّا كتابا سماويا، و وحيا إلهيا لا غير، و لا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ، لأن القرآن نزل خلال (23 عاما) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث و الوقائع المسرة و المحزنة، المقرونة بالنصر و الهزيمة، و النجاح و الإخفاق، و لا شكّ أن هذه الحالات المختلفة، و الاحاسيس و المشاعر المتنوعة المتباينة، تترك أثرا عميقا في نفس الإنسان، و روحه و عقله، و لا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد، و بنبرة واحدة، في حالتين

______________________________

(1) الفرقان: 33.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:448

نفسيّتين متضادتين، فالكلام الصادر في حال الفرح و الابتهاج و المسرة من اللسان او القلم، يختلف من حيث الفصاحة و البلاغة و جمال اللفظ و عمق المعنى اختلافا بارزا عن الكلام الصادر في حال الحزن و التعب، و الاخفاق، و الهزيمة.

(1) بينما لا يوجد أي شي ء من الاختلاف من حيث الألفاظ و المعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يمر بحالات مختلفة من الحزن و السرور و الاخفاق و الانتصار و السرّاء و الضرّاء، و العسر و الرخاء، و الجهد و النشاط، بل نجد تلك الآيات على نمط و نسق واحد من القوة و الفصاحة و البلاغة، و جمال اللفظ و عمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلغ ما بلغ

أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره، و كأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أي شي ء من التفاوت و الاختلاف، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها و آخرها كأولها.

و لعلّ الآية التالية التي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن اذ تقول:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» «1» اشارة الى هذا السرّ.

إنّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف و التناقض بين مفاهيم الآيات و مفاداتها، و مقاصدها، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد و تنزهه من جميع انواع الاختلاف و التناقض الذي هو من لوازم العمل و الانتاج البشري.

______________________________

(1) النساء: 82.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:449

(1)

17 الى الحبشة

الهجرة الاولى

تعتبر هجرة فريق من المسلمين الى أرض الحبشة دليلا بارزا على إيمانهم و اخلاصهم العميق لدينهم، و لربهم و ذلك لأن فريقا من الرجال و النساء يقررون- و بهدف الحفاظ على عقيدتهم و التخلص من أذى قريش و مضايقتها و الحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية و يعبدون اللّه الواحد- مغادرة (مكة)، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عاليا في أية نقطة من نقاطها، و لا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل، و بعيدا عن الارهاب، و يفكرون، و يفكرون، و أخيرا يقودهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذه المسألة، و يطلبوا في ذلك رأي النبي الذي يقوم دينه على مبدأ: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» «1».

(2) لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيدا، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم، و كان الفتيان الهاشميون يحمونه و يحفظونه

______________________________

(1) العنكبوت: 56.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:450

من كل اذى، و لكن الذين آمنوا به من الإماء و العبيد، و من ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الذي كانوا يشكلون عددا كبيرا من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب و الايذاء و المضايقة من قريش التي لم تأل جهدا، و لم تدخر وسعا، و لم تفوّت فرصة و لا وسيلة لالحاق العنت و الأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا يستطيع صلّى اللّه عليه و آله منعهم من ذلك.

و قد كان زعماء كل قبيلة يعمدون- للمنع من نشوب أيّ صدام بين القبائل- الى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم، و ايذائه و التنكيل به، و قد مرت عليك نماذج و امثلة من أذى قريش و تعذيبها القاسي للمسلمين.

(1) لهذه الأسباب عند ما طلب أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فانّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد و هي أرض صدق حتى يجعل اللّه لكم فرجا ممّا أنتم فيه» «1».

أجل ان مجتمعا صالحا يتسلّم زمام الأمر فيه رجل صالح عادل نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة الى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم، و هو ما كان يريده و يتمناه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوّ من الطمأنينة و الامن.

و لقد كان لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أثر قوى في نفوسهم تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد

فيها اللّه في أمان، بحيث لم يمض زمان إلّا و قد شدّت رحالها و غادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب (المشركين) مشاة و ركبانا، متجهة نحو جدّة، للسفر عبر مينائها الى ارض الحبشة.

و كان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصا بينهم أربعة من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 321، تاريخ الطبري: ج 2 ص 70، و بحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:451

النسوة المسلمات «1».

(1) و الآن يجب أن نرى لما ذا لم يذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للمسلمين مناطق اخرى للهجرة إليها، و انما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية و غيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة الى المناطق العربية التي كان سكانها من المشركين و الوثنيين قاطبة كان أمرا محفوفا بالخطر، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء و تعصبا لدين الآباء (الوثنيّة).

و كذلك المناطق التي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ و طائفي، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرف ثالث في حلبة الصراع، هذا مضافا إلى أن ذينك الفريقين (اليهود و النصارى) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساسا، فكيف يمكن الهجرة الى مناطقهم و التعايش معهم؟!

(2) أما «اليمن» فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، و لم تكن السلطات الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع «اليمن»، لما عرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الاسلامية الى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلّى اللّه عليه و

آله الى «خسرو برويز» كتب الى عامله على اليمن فورا «احمل إليّ هذا الذي يذكر أنه نبيّ، و بدأ اسمه قبل اسمي، و دعاني إلى غير ديني» «2»!!.

و كذلك كانت «الحيرة» تحت الاستعمار و النفوذ الايرانيّ كاليمن.

(3) و أمّا «الشام» فقد كانت بعيدة عن «مكة المكرمة»، هذا مضافا الى ان «اليمن» و «الشام» كانتا سوقين لقريش، و كانت تربط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط و علاقات وثيقة، فاذا كان المسلمون يلجئون إليها اخرجوا منهما

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 70.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:452

بطلب من قريش، تماما كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب، و لكنه رفض طلبهم.

(1) و قد كانت الرحلة البحرية- في تلك الآونة- و بخاصة برفقة النساء و الاطفال رحلة شاقة جدا، من هنا كانت هذه الهجرة، و ترك الحياة و المعيشة في الوطن دليلا قويا على إخلاص اولئك المهاجرين لدينهم و عمق ايمانهم به، و صدقه.

و لقد كان ميناء «جدة» آنذاك ميناء تجاريا عامرا كما هو عليه الآن، و من حسن الاتفاق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت الى هذا الميناء في الوقت الذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اهبة الاقلاع، و التوجه نحو الحبشة، فبادر المسلمون إلى ركوبها و السفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم و القبض عليهم، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

و كان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه «1».

و لما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعة من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين و أعادتهم الى مكة فورا، و لكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ «جدة» قبل أن يدركهم الطلب «2».

(2) و من الواضح أن

ملاحقة مثل هذه الثلة التي لم تلجأ إلى أرض الغير إلّا لأجل الحفاظ على عقيدتها و الفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش و عنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل و الوطن، و اغمضوا الطرف عن المال، و التجارة، و خرجوا يطلبون أرضا نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية، و مع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة و جبابرتها و طغاتها!!

اجل ان رؤساء «دار الندوة» بمكة و اقطابها كانوا يعلمون جيدا أسرار هذه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 321- 323.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:453

الهجرة و آثارها من خلال بعض القرائن، و المؤشرات و لذلك كانوا يرددون فيما بينهم امورا سنذكرها في ما بعد.

هذا و الجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي الى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية الى الحبشة:

(1) ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اخرى، و كان في مقدمة المهاجرين هذه المرة «جعفر بن أبي طالب». ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحرّية، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم و أولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من ولد في أرض الحبشة لهم، و الّا كان العدد اكثر من هذا الرقم.

و لقد وجد المسلمون المهاجرون ارض الحبشة كما وصفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم: منطقة عامرة، و بيئة آمنة حرّة، تصلح لأن يعبد فيها اللّه تعالى بحرية و أمان.

تقول «أمّ سلمة» التي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

في ما بعد، عن تلك الارض: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، و عبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، و لا نسمع شيئا نكرهه.

كما أنه يستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، انهم أمنوا بأرض الحبشة، و حمدوا جوار النجاشي، و عبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحدا.

(2) و نحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوّلة أنشأها «عبد اللّه بن الحارث» في هذا الصدد:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:454 يا راكبا بلّغن عنّي مغلغلة «1»من كان يرجو بلاغ اللّه و الدّين

كلّ امرئ من عباد اللّه مضطهدببطن مكّة مقهور و مفتون

أنّا وجدنا بلاد اللّه واسعةتنجي من الذلّ و المخزاة و الهون

فلا تقيموا على ذلّ الحياة و خزي في الممات و عيب غير مأمون «2» و يقول ابن الاثير: و كان مسيرهم (الى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة و هي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان و شهر رمضان و قدموا في شوال سنة خمس من النبوة، و كان سبب قدومهم الى النبي صلّى اللّه عليه و آله انه بلغهم ان قريشا اسلمت فعاد منهم قوم و تخلّف قوم «3».

هذا و يمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام «4».

(1)

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين:

عند ما بلغ قريشا و زعماء «مكة» ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن و حرية، و ما حصلوا عليه من حسن الجوار و الطمأنينة و الراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد و الغيظ في قلوبهم، و توجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، و كانت الزعامة المكية تتخوف من أن يجد

أنصار الإسلام و اتباعه منفذا إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش و ملكهم، و يميّلوا قلبه نحو الإسلام، و يكسبوا تاييده للمسلمين، فيؤول الأمر إلى أن يعبّئ جيشا كبيرا للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية، و عندها تكون الكارثة.

(2) فاجتمع أقطاب «دار الندوة» مرة اخرى للتشاور في الأمر، فاستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ و وزرائه و قواده هدايا

______________________________

(1) المغلغة: الرسالة ترسل من بلد الى بلد.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 351- 353.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 52 و 53.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 354- 362.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:455

مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي تم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهمونهم عنده بالسفاهة و الجهل، و ابتداع دين جديد منكر، و الارتداد عن دين الآباء و الاجداد!!

(1) و لكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه و يصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدهما في ما بعد من دهاقنة السياسة و هما: «عمرو بن العاص»، و «عبد اللّه بن ابي ربيعة» و قال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفدا قريش حتى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

و هناك في الحبشة دفعا الى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه و وزرائه هديته، و قالا لكل بطريق منهم:

إنه قد ضوى «1» إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، و لم يدخلوا

في دينكم، و جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا انتم، و قد بعثنا إلى الملك لنكلّمه في أمرهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم فاذا كلّمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، و لا يكلّمهم، فان قومهم أبصر بهم، و اعلم بما عابوا عليهم».

(2) فابدى اولئك البطارقة و القادة و الوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

و لما كان من غد دخلا على النجاشي و قدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له:

أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم و لم

______________________________

(1) ضوى أيّ لجأ و أتى ليلا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:456

يدخلوا في دينك، و جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت، و قد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردّهم إليهم، فهم أبصر بهم و اعلم بما عابوا عليهم و عاتبوهم فيه.

و ما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلّا و قالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أبصر بهم، و أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليرداهم الى بلادهم و قومهم.

(1) فغضب النجاشيّ و كان رجلا حكيما عادلا و قال: لاها اللّه، إذن لا اسلمهم إليهما، و لا يكاد قوم جاوروني، و نزلوا بلادي و اختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، و رددتهم الى قومهم، و ان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما و احسنت جوارهم ما جاوروني.

ثم ارسل الى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجرين الى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم، فحضروا عنده، و كانوا قد قرّروا أن يكون

متكلّمهم و خطيبهم: «جعفر بن أبي طالب» و قد قلق بعض المسلمين لما قد سيقوله «جعفر» عند الملك، و بما ذا سيكلّمه و يجيبه، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر: أقول و اللّه ما علّمنا، و ما امرنا به نبينا صلّى اللّه عليه و آله كائنا في ذلك ما هو كائن.

(2) فالتفت النجاشي الى «جعفر» و سأله قائلا:

ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، و لم تدخلوا (به) في ديني و لا في دين أحد من هذه الملل؟

فقال جعفر بن ابي طالب:

«أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الارحام، و نسي ء الجوار، و يأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه، و أمانته و عفافه، فدعانا الى اللّه لنوحّده و نعبده، و نخلع ما كنّا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:457

الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات. و أمرنا أن نعبد اللّه وحده، لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام فصدّقناه و آمنّا به، و اتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئا، و حرّمنا ما حرّم علينا، و أحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، و فتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى، و ان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا و ظلمونا و ضيّقوا علينا، و

حالوا بيننا و بين ديننا، خرجنا إلى بلادك، و اخترناك على من سواك، و رغبنا في جوارك، و رجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك».

(1) فأثّرت كلمات جعفر البليغة، و حديثه العذب تأثيرا عجيبا في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدموع، و قال: لجعفر هل معك ممّا جاء به عن اللّه من شي ء؟

فقال جعفر: نعم فقال له النجاشيّ: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم، و استمرّ في قراءته، و بذلك بيّن نظرة الإسلام إلى «مريم» عليها السّلام و طهارة جيبها، و الى مكانة المسيح عليه السّلام، و عظمة شأنه، و جليل مقامه، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته بالدموع و بكت اساقفته «1» حتى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم و المسيح عليهما السّلام.

و بعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي:

«إن هذا و الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة» و هو يقصد أن القرآن و الإنجيل كلام اللّه و أنهما شي ء واحد.

ثم التفت الى موفدي قريش و قال لهما بنبرة قوية: انطلقا فلا و اللّه لا اسلّمهم إليكما و لا يكادون، فخرجا من عنده.

______________________________

(1) الاساقفه؛ جمع اسقف: علماء النصارى. سيد المرسلين ج 1 458 قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين: ..... ص : 454

سيد المرسلين ،ج 1،ص:458

(1) و عند المساء تكلم «عمرو بن العاص»- و كان امرأ خدّاعا ماكرا- مع رفيقه «عبد اللّه بن ربيعة» في الأمر، و قال له: و اللّه لآتينّه غدا عنهم بما استأصل به حضراءهم (و هو يعني أنه سيأتي بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة) و لاخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. (أي على خلاف ما يعتقد النصارى في

المسيح).

فنهاه «عبد اللّه» عن ذلك و قال: لا تفعل، فانّ لهم أرحاما، و ان كانوا خالفونا، و لم ينفع نهي عبد اللّه له.

(2) و لمّا كان من الغد دخلا على النجاشيّ مرة اخرى فقال له «عمرو» متظاهرا هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى و هي دين الملك و اهله، و منتقدا رأي المسلمين.

أيها الملك، إنهم يقولون في «عيسى بن مريم» قولا عظيما. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشي إليهم ليسألهم عنه، و هو الملك المحنّك الذي لا يأخذ الامور على ظواهرها، و من غير تحقيق و دراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السّلام فاتفقوا أن يكون «جعفر» متكلمهم و خطيبهم و عند ما سألوه عما سيجيب به الملك قال: أقول و اللّه ما قال اللّه، و ما جاءنا به نبينا.

(3) فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب: ما ذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى اللّه عليه و آله: هو عبد اللّه و رسوله و روحه و كلمته القاها الى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر و رضي به و قال: هذا و اللّه هو الحق، و اللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلت

و لكنّ حاشيته لم ترض بهذا الكلام و لم تقبل بما قاله الملك، و لكنّه لم يعبأ بهم، و أيّد مقالة المسلمين، و منحهم الحرية الكاملة، و الأمان الكامل قائلا لهم:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:459

اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، ما احب أنّ لي دبرا من ذهب و إني آذيت رجلا منكم.

و ردّ على موفدي قريش هداياهما قائلا لهما: «ردّوا عليهما

هداياهما فلا حاجة لي بها، فو اللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فاخذ الرشوة فيه، و ما أطاع الناس فيّ فاطيعهم فيه».

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردودا عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة «1».

و ينبغي ان نسجّل هنا موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين، و نصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل «ابو طالب» أبياتا للنجاشيّ يحثّه على الدفع عن المهاجرين و حسن جوارهم و تلك الابيات هي:

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفرو عمرو و اعداء العدو: الأقارب؟

و هل نالت افعال «2» النجاشيّ جعفراو أصحابه أو عاق ذلك شاغب؟

تعلّم، أبيت اللعن، انك ماجدكريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلّم بان اللّه زادك بسطةو أسباب خير كلّها بك لازب

و أنك فيض ذو سجال غزيرةينال الاعادي نفعها و الاقارب «3»

(1)

العودة من الحبشة:

قلنا في ما مضى أنّ المجموعة الاولى من المهاجرين رجعت من الحبشة الى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة و انضوائها تحت راية الإسلام. حتى إذا دنوا من «مكة» بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلام اهل مكة كان باطلا،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 338، إمتاع الاسماع: ص 21 بحار الأنوار: ج 18 ص 414 و 415.

(2) إحسان.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 333 و 334.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:460

فلم يدخل منهم الى «مكة» إلّا قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاءوا.

(1) و كان ممن دخل «مكة» بجوار «عثمان بن مظعون» الذي دخلها بجوار «الوليد بن المغيرة» «1» و لكنه كان يشاهد ما فيه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من البلاء، و العذاب و هو يغدو و يروح في امان فتألّم

لذلك و لم تطق نفسه تحمّل هذا الفرق و قال: و اللّه إن غدوّي و رواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، و أصحابي و أهل ديني يلقون من البلاء و الأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي. فمشى الى «الوليد بن المغيرة» و ردّ عليه جواره ليواسي المسلمين و يشاركهم في آلامهم و متاعبهم و قال: يا أبا عبد شمس وفت ذمّتك، قد رددت إليك جوارك.

قال: لم يا ابن أخي؟ لعلّه آذاك أحد من قومي؟

قال: لا و لكني أرضى بجوار اللّه و لا اريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له: إذن فاردد عليّ جوارى علانية كما أجرتك علانية.

(2) فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال «الوليد» مخاطبا من حضر من قريش: هذا عثمان قد جاء يردّ عليّ جواري.

قال: صدق، قد وجدته وفيّا كريم الجوار و لكنّي قد احببت أن لا استجير بغير اللّه، فقد رددت عليه جواره «2».

ثم لم يمض شي ء من الوقت حتى دخل المسجد «لبيد» و كان شاعرا متكلّما بارزا من شعراء العرب و متكلّميها و وقف في مجلس من قريش ينشدهم و «عثمان بن مظعون» جالس معهم فقال من جملة ما قال شعرا:

ألّا كل شي ء ما خلا اللّه باطل

فقال عثمان بن مظعون: صدقت فقال: لبيد:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 369.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 370.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:461 و كل نعيم لا محالة زائل

(1) قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول فاستثقل «لبيد» تكذيب عثمان و تحدّيه له في ذلك الجمع فقال: يا معشر قريش و اللّه ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجل من القوم: إنّ هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن

في نفسك من قوله.

فردّ عليه «عثمان» حتى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها (و اصابها)، و الوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما و اللّه يا ابن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة (و هو يريد أنك لو بقيت في ذمتي و جواري لما اصابك ما أصابك).

فقال عثمان رادّا عليه: بل و اللّه إن عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب اختها في اللّه، و اني لفي جوار من هو أعزّ منك، و أقدر يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال ابن مظعون: لا «1».

و كانت هذه صورة رائعة من صور كثيرة لصمود المسلمين، و تفانيهم في سبيل العقيدة، و إصرارهم على النهج الذي اختاروه، و مواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

(2)

وفد مسيحيّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة:

قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، مبعوثين من قبل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة، و التعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد، فجلسوا إليه، و كلّموه و سألوه عن مسائل، و رجال من قريش فيهم «أبو جهل» في أنديتهم حول الكعبة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 370 و 371.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:462

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عما أرادوا دعاهم- صلّى اللّه عليه و آله- إلى اللّه عزّ و جلّ و تلا عليهم آيات من القرآن الكريم، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عند ما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له و آمنوا به

و صدّقوه، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصف في كتابهم (الانجيل) من أمره.

فلما قاموا عنه، و رأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله «ابو جهل» فقال للنصارى الذين اسلموا معترضا و موبّخا: خيّبكم اللّه من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم و صدّقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم.

فأجابه اولئك بقولهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، و لكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا «1».

و بذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الذي كان يبغي- كسحابة داكنة- حجب أشعة الشمس المشرقة، و حالوا دون وقوع صدام.

(1)

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق:

لقد أيقظ وفد نصارى الحبشة الى مكة و ما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا و دفعهم الى تكوين وفد يتألف من: «النضر بن الحارث» و «عاقبة بن ابي معيط» و غيرهما و إرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

فقال أحبار اليهود لمبعوثي قريش: سلوا محمّدا عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، و ان لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه:

1- عن فتية ذهبوا في الدهر الأول (يعنون بهم أصحاب الكهف) ما كان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 390 و 393 و قد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 الى 55 من سورة القصص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:463

من امرهم، فانه قد كان لهم حديث عجيب.

2- و عن رجل طوّاف (يعنون به ذا القرنين) قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبؤه و خبره؟

3- و عن الروح ما هي؟

(1) فاذا أخبركم

بذلك فاتبعوه، فانه نبيّ، و ان لم يفعل، فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فعاد وفد قريش الى «مكة» و لما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انتظر في ذلك وحيا «1».

ثم نزل الوحي يحمل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

و قد ورد الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

و اجيب على السؤالين الآخرين عن أصحاب «الكهف» و ذي القرنين بتفصيل في سورة «الكهف» ضمن الآيات 9- 28 و الآيات 73- 93.

و قد وردت تفصيلات هذه الإجابات التي أجاب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أسئلتهم في كتب التفسير.

و لا بدّ هنا من أن نذكّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة و هي أنّ المراد من «الرّوح» في سؤال القوم ليس هو الرّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين، (بقرينة أنّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة: هم اليهود و كانوا يكرهون الروح الامين، و يعادونه)، و هو أمر مبحوث في محلّه من كتب التفسير.

______________________________

(1) السيرة النبويّة: ج 1 ص 300- 302.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:465

(1)

18 الأسلحة الصديئة و الاساليب الفاشلة

اشارة

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين و أهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يثنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المضيّ في مواصلة دعوته، و ذلك بتطميعه بالمال و الجاه و ما شابه ذلك، و لكن لم يحصلوا من ذلك على شي ء، فقد خيّب ذلك الرجل المجاهد ظنونهم فيه، و بدّد آمالهم

في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية: «و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلت» و هو يعني ان تمليكه العالم كله لا يثنيه عن هدفه و لا يصرفه عن تحقيق ما ندب إليه، و ارسل به.

(2) فعمدوا الى سلاح آخر هو التهديد و الأذى، و التنكيل به و باصحابه و انصاره، و لكنهم واجهوا صموده و صمود أنصاره و اصحابه، و ثباتهم الذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان، و خيبة المشركين و هزيمتهم.

و قد بلغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن، و ترك الأهل و العيال، و الهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم إلى اللّه، و سعيا وراء نشره و بثه في غير الجزيرة من الآفاق.

و لكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجبهات و الميادين

سيد المرسلين ،ج 1،ص:466

و عجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية، و فشل جميع الأسلحة التي استخدموها للقضاء على الدين الجديد و أهله، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

(1) و هذا السلاح هو سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لانه صحيح أن ايذاء و تعذيب جماعة المؤمنين في «مكة» تمنع غيرهم من سكان «مكّة» من الانضواء إلى الإسلام إلّا ان الحجيج الذين كانوا يسافرون الى مكة في الأشهر الحرم و كانوا يلتقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوّ من الأمن و الطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثّرون بدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتزعزع اعتقادهم بالأوثان على الأقل، إن لم يؤمنوا بدينه، و لم يستجيبوا

لدعوته، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام و انباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى مواطنهم، و مناطقهم و كان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه، و أنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية، و كان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجّه إلى صرح الوثنية في مكة، و عاملا قويا في انتشار عقيدة التوحيد، و سطوع أمره.

من هنا اتخذ سادة قريش اسلوبا آخر، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام، و اتساع رقعته، و قطع علاقة المجتمع العربي به.

و إليك فيما ياتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب، و هذه الخطة:

(2)

1- الاتّهامات الباطلة:
اشارة

يمكن التعرف على شخصية أي واحد و تقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم و سباب، و ما يكيلون له من اتهامات و نسب، فان العدو يسعى دائما الى أن يتهم خصمه بنوع من انواع التهم ليضلّ الناس، و يصرفهم عنه، و ليتمكن بما يحوكه حوله من أراجيف و أباطيل الحط من شأنه في المجتمع و اسقاطه من الانظار و الأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائما إلى ان ينسب إلى منافسه ما يصدّقه و لو فئة خاصة من الناس على الاقل، و يوجب شكّهم في صدقه، و يتجنب تلك النسب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:467

التي لا تصدّق في شأنه، و لا تناسب اخلاقه و افعاله المعروفة عنه، و لا تمسه بشكل من الأشكال، لأنه سوف لا يجني في هذه الحالة إلا عكس ما يقصد، و خلاف ما يريد.

(1) و من هنا يستطيع المؤرخ المحقق أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه، و على مكانته الاجتماعية، و أخلاقه و سجاياه و لو من خلال ما ينسبه الأعداء إليه، و ما يكيلون له من أكاذيب و افتراءات، و نسب باطلة و

اتهامات، لأنّ العدوّ الذي لا يخاف أحدا لا يقصّر في كيل كلّ تهمة تنفعه و تخدم غرضه إلى الطرف الآخر، و يستخدم هذا السلاح (أيّ سلاح الدعاية) ما استطاع، و ما ساعدته معرفته بالظروف، و درايته بالفرص.

فاذا لم ينسب إليه أيّ شي ء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه، و نقاء صفحته، و تنزّه شخصيته عن تلك النسب، و لأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها و لم يصدّقها في شأنه.

و لو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشا مع ما كانت تكنّ من عداء، و تحمل من حقد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور، و أن تحطّ من شأن مؤسسه و بانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح، و تستخدمه كاملا.

(2) فقد كانت تفكّر في نفسها: ما ذا تقول في حق رسول اللّه؟ و ما ذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية و ها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟! «1» كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري و الانسياق وراء الشهوة و اللّذة؟ و كيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ الى درجة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 62.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:468

ما، و بقي معها حتى لحظة انعقاد هذه الشورى في «دار الندوة» بهدف الدعاية ضدّه، و لم يعهد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

(1) و بالتالي بما ذا تتهم محمّدا الصادق الأمين، الطاهر العفيف، و أية تهمة ترى يمكن أن تصدّق

في حقه، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه و لو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيّر سادة «دار الندوة» و أقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقرّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش و يطلبوا رأيه فيه، و هو «الوليد بن المغيرة» و كان ذا سنّ فيهم، و مكانة، فقال لهم:

يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم و ان وفود العرب ستقدم عليكم فيه، و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأيا واحدا، و لا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، و يرد قولكم بعضه بعضا.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل و أقم لنا رأيا نقول به.

قال: بل أنتم قولوا أسمع.

(2) قالوا: نقول كاهن.

قال: لا و اللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن و لا سجعة.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بخنقه، و لا تخالجه، و لا وسوسته.

قالوا: فنقول: ساحر.

فقال: ما هو بساحر لقد رأينا السحّار و سحرهم فما هو بنفثهم و لا عقدهم.

و هكذا تحيّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أخيرا اتفقوا على أن يقولوا: أنه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء و ابيه و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته و بين المرء و عشيرته.

و يدلّ عليه ما أوجده من الخلاف و الانشقاق و التفرّق بين أهل مكة الّذين

سيد المرسلين ،ج 1،ص:469

كان يضرب بهم المثل في الوحدة و الاتفاق «1».

(1) و قد ذكر المفسّرون في تفسير سورة «المدثر» هذه القصة بنحو آخر فقالوا:

لمّا

انزل على رسول اللّه «حم تنزيل الكتاب ...» قام الى المسجد و «الوليد بن المغيرة» قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيرا شديدا فانطلق إلى منزله، و لم يخرج منه أيّاما، فسخرت منه قريش و قالت: صبأ- و اللّه- الوليد ثم مشى رجال من قريش إليه و سألوه رأيه في قرآن محمّد، و اقترح كل واحد منهم أمرا، و لكنه رد عليها بالنفي جميعا فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر «الوليد» في نفسه ثم قال: ما هو إلّا ساحر أ ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله، و ولده و مواليه، فهو ساحر و ما يقوله سحر يؤثر «2».

و يرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَ بَنِينَ شُهُوداً. وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... (الى قوله:) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» «3».

(2)

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يعتبر اتّصاف النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلم و اشتهاره بين الناس بالصدق و الامانة و غيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلّمات التاريخ.

و هو بالتالي أمر اعترف به حتى أعداؤه الالدّاء، فقد دانوا بفضله، و أقرّوا

______________________________

(1) السيرة النبوّية: ج 1 ص 270.

(2) مجمع البيان: ج 10 ص 386 و 387.

(3) المدثر: من 11-

51.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:470

بأخلاقه الكريمة و سجاياه النبيلة، دون تلكؤ، و لا إبطاء.

و قد كان من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه «الصادق» «الامين» و كانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى «1» حتى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده، و استمر هذا الأمر حتى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

(1) و حيث أن دعوته صلّى اللّه عليه و آله قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب التي توجب سوء الظنّ به، و من ثم إفشال دعوته، و حيث أنهم كانوا يعلمون أن النسب الاخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزنا، لأنها امور بسيطة في نظرهم، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون، و الزعم بان ما يقوله و يقرؤه ما هو إلّا من نسج الخيال، و من أثر الجنون الذي لا يتنافى مع الزهد، و الأمانة، و ذلك تكذيبا لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة، و اتخذت وسائل عديدة و ماكرة لترويجها و بثّها بين الناس.

و من شدّة مكرهم و مراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك، و الترديد اذ يقولون:

«أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» «2».

(2) و هذه هي بعينها الحيلة الشيطانية التي يتوسّل بها و يتستر وراءها أعداء الحقيقة دائما عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام، و إسقاط خطواتهم و أفكارهم من الاعتبار، و الحطّ من شأنها و أهميتها.

و يشير القرآن أيضا إلى أنّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصا بالمعارضين في عهد الرسالة المحمّدية، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضا يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل، و الأنبياء إذ يقول عنهم:

______________________________

(1) بحار الأنوار:

ج 19 ص 62 عن عبيد اللّه بن ابي رافع: كانت قريش تدعو محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الجاهلية الامين و كانت تستودعه و تستحفظه أموالها و أمتعتها، و كذلك كل من كان يقدم مكة من العرب في الموسم، و جاءته النبوة و الرسالة و الأمر كذلك.

(2) سبأ: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:471

«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» «1».

(1) و تحدّث الاناجيل الحاضرة هي الاخرى عن ان المسيح عليه السّلام عند ما وعظ اليهود قالوا: إنّ فيه شيطانا، فهو يهذي فلما ذا تسمعون إليه؟! «2»

و من المسلّم و البديهي أنّ قريشا لو كان في مقدورها أن تتهم رسول اللّه الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله بغير هذا الاتهام و تنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك، و لكن حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية، و سوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ و غير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئا من تلك النسب القبيحة، الذميمة.

لقد كانت «قريش» مستعدة لأن تستخدم أي شي ء- مهما صغر- ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى «جبر» عند المروة، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلّى اللّه عليه و آله فورا فقالوا: و اللّه ما يعلّم محمّدا كثيرا ممّا يأتي به الا «جبر» النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريم بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» «3».

«وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ»

«4».

2- القرآن يرد على جميع الاتهامات:
اشارة

و ربما نسبوا إليه صلّى اللّه عليه و آله الكهانة، و الكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن «5» أو الشياطين و يتلقى منهم اخبارا حول الماضي و المستقبل،

______________________________

(1) الذاريات: 52 و 53.

(2) انجيل يوحنا: الفصل 10 الفقرة 20، و الفصل 7 الفقرة 48 و 52.

(3) النحل: 103.

(4) الدخان: 13 و 14.

(5) الجن كائن من الكائنات و مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى و قد اخبر به القرآن الكريم في مواضع-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:472

و كان هذا موجودا قبل الإسلام كما ترويه كتب السير و التواريخ «1».

و قد رد القرآن الكريم على هذه المقالة و هذا الزعم اذ قال تعالى:

«وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» «2» كما ردّ أيضا تهمة السحر، و الكذب و الافتراء و الشعر إذ قال تعالى و هو يصف المتهمين تارة بالكفر و اخرى بالظلم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» «3».

و قال تعالى: «وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» «4»

و قال سبحانه متعجبا منهم: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» «5».

و قال تعالى: «وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» «6».

و قال سبحانه: «وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» «7».

و قال عزّ و جلّ: «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ» «8».

و قال تعالى: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «9».

و قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» «10».

و قال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً» «11».

و قال سبحانه: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» «12».

و قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ

بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» «13».

و قال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ» «14».

و ربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» «15».

______________________________

- عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

(1) راجع: بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 269 باب علم الكهانة و العرافة.

(2) الحاقة: 42.

(3) ص: 4.

(4) الفرقان: 8.

(5) الشعراء: 153.

(6) الحجر: 6.

(7) التكوير: 22.

(8) الطور: 29.

(9) النحل: 101.

(10) هود: 13.

(11) الفرقان: 4.

(12) سبأ: 8.

(13) الطور: 30.

(14) يس: 69.

(15) الأنبياء: 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:473

و هكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام و التشويش على الشخصية المحمّدية و الرسالة الإسلامية كل مذهب، فمرة وصفوه بانه كاهن و اخرى بانه ساحر و ثالثة بانه مسحور، و رابعة بانه مجنون و خامسة بانه معلّم و سادسة بانه كذاب و سابعة بانه مفتري و ثامنة بانه مفترى او مجنون على سبيل الترديد و تاسعة بانه شاعر و عاشرة بان ما يقوله ما هو الّا أضغاث احلام.

(1)

فكرة معارضة القرآن:

لم يجد استخدام سلاح الاتهام ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفعا، و لم تأت بالثمار التي كان يتوخاها المشركون منه، لأن الناس كانوا يدركون بفطنتهم و فراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة، و أنهم لم يسمعوا كلاما حلوا، و حديثا عذبا مثله.

ان لكلماته من العمق و العذوبة بحيث يتقبّلها كل قلب، و تسكن إليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالجنون و بأنّ ما يقوله إن هو الّا من نسج الخيال، و نتائج الجنون، شيئا، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظنا منهم بأنّ تنفيذه

سيصرف الناس عنه، و عن الاستماع إلى كتابه، ألا و هو: معارضة القرآن الكريم.

(2) فعمدت إلى «النضر بن الحارث» و كان من شياطين قريش، و ممّن كان يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ينصب له العداوة، و كان قد قضى شطرا من حياته في الحيرة بالعراق و تعلّم بها أحاديث ملوك الفرس و احاديث «رستم» و «إسفنديار» و قصصهم، و حكاياتهم، و أساطيرهم، و طلبوا منه أن يجمع الناس و يقص عليهم من تلكم الأساطير و الحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجلسا فذكّر الناس فيه باللّه، و حذر قومه ما أصاب من قبلهم من الامم من نقمة اللّه، خلفه «النضر» في مجلسه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:474

اذا قام صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: أنا و اللّه يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلمّ إليّ، فأنا احدّثكم أحسن من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و «رستم» و «اسفنديار» ثم يقول:

بما ذا محمّد أحسن حديثا مني و ما حديثه إلّا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها؟ «1».

(1) و قد كانت هذه الخطة حمقاء جدا إلى درجة أنها لم تدم إلّا عدة ايام لا اكثر حتى أن قريشا سأمت من أحاديث «النضر» و سرعان ما تفرّقت عنه.

و قد نزل في هذا الشأن آيات هي:

«وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2».

تحججات صبيانيّة و جاهليّة:

و ربما جسّدوا معارضتهم للدعوة المحمّدية في صورة تحججات و مجادلات جاهليّة و ماخذ سخيفة اخذوها

على رسول اللّه و رسالته، تنم عن تكبر و جهل، و عناد و لجاج طبعوا عليه.

و ها نحن نذكر ابرزها:

أ- لما ذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم:

«لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «3».

ب- لما ذا لم يرسل إليهم ملائكة و لما ذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم:

«وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 300 و 358.

(2) الفرقان: 5 و 6.

(3) الزخرف: 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:475

رسولا» «1».

و قال تعالى حاكيا عنهم أيضا:

«وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» «2».

ج- انّه يدعو الى خلاف ما كان عليه الآباء، من الدين و العقيدة و السلوك؟

يقول عنهم سبحانه:

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» «3».

د- تبديل الآلهة باله واحد.

قال اللّه عنهم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» «4».

ه- القول بحشر الاجساد و تجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم:

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «5»

و- لما ذا ليس عنده مثل ما كان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا، و قد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم:

فلمّا جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لو لا اوتي مثل ما اوتي موسى» «6».

ز- لما ذا ليس معه ملك يرى و يشاهد و يحضر معه

في كل مقام و مشهد.

قال تعالى:

«وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» «7».

______________________________

(1) الاسراء: 94.

(2) الفرقان: 7.

(3) المائدة: 104.

(4) ص: 4 و 5.

(5) السجدة: 10.

(6) القصص: 48.

(7) الانعام: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:476

مقترحات عجيبة و مطاليب غريبة:

و كان المشركون اذا نفذت تحججاتهم و اعتراضاتهم الواهية، و قوبلوا بردود قوية و قاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سياق معارضتهم لدعوته و نورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله من قومه:

لقد اقترحوا عليه:

1- ان يعبد اصنامهم سنة و يعبدوا إلهه سنة اخرى و جعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة «الكافرون»:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ».

2- تبديل القرآن، فقد دفع نقد القرآن الكريم للوثنية، و الازراء على الاصنام، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان و الازدراء بالاصنام، و ابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا:

«وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» «1».

فردّ اللّه عليهم بقوله:

«قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

3- مطاليب مادية عجيبة!!

______________________________

(1) يونس: 15.

(2) يونس: 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:477

و قد عمدوا- بسبب عنادهم و عتوهم- الى المطالبة بامور لا ترتبط بهداية الناس، مثل مطالبته بان يفجر لهم

ينابيع، او يسقط السماء على رءوسهم قطعا، أو يصعد إلى السماء، أو يأتي باللّه سبحانه و تعالى، أو غير ذلك من الاقتراحات و المطالب التي كانت إما مستحيلة في نفسها او تناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكيا عنهم ذلك:

«وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ» «1».

صبر النبيّ و استقامته و ثباته:

و لقد قابل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كل هذه التحججات الايذائية و ما طرح من الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم و ثبات هائل، ايمانا منه بدعوته، و حرصا على ابلاغ رسالته، و بفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد:

1- «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» «2».

2- «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» «3».

3- «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» «4».

4- «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» «5».

5- «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» «6».

6- «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» «7».

______________________________

(1) الاسراء: 90- 93.

(2) الاحقاف: 35.

(3) يونس: 109.

(4) النحل: 127.

(5) الكهف: 28.

(6) القلم: 48.

(7) المزمل: 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:478

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن:
اشارة

و بالمناسبة لا بد أن نذكر أن المشركين و من حذى حذوهم من الكفار و المعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمعاجز و آيات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج و العناد، و إلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز، فقداتى رسول اللّه بآيات و معاجز كثيرة اخرى غير القرآن، كان كل واحد منها يكفى للاقتناع برسالته، و الايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير الى أبرز هذه المعاجز و هي:

1- شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يشق لهم القمر نصفين حتى يؤمنوا به، فلمّا فعل ذلك لهم باذن اللّه كفروا به و قالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى:

«اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» «1».

2- المعراج

ان العروج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية، و قد نطق بها القرآن بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «2».

______________________________

(1) القمر: 1 و 2.

(2) الاسراء: 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:479

3- مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع من خرج بهم إلى المباهلة، و احجام النصارى عن مباهلته، معجزة اخرى من معاجزه صلّى اللّه عليه و آله و قد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية اذ قال:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» «1».

و ستأتي قصّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4- الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبر عن امور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه:

«وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» «2».

هذا و قد أخبرت الاخبار و الأحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

______________________________

(1) آل عمران: 61.

(2) آل عمران: 49، و قد اشار القرآن الكريم إلى موارد اخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين: قال تعالى:

«الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» (الروم: 1- 4).

و اخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ ... الخ».

و أخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه:

«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (القمر: 45).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:480

و من هذه المعاجز ما ذكره الإمام امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- كما في نهج البلاغة- حول سؤال المشركين من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قلع شجرة بعروقها و جذورها و لما فعل ذلك و قال يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه و اليوم الآخر، و تعلمين

أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ باذن اللّه».

فانقلعت بعروقها و لها دوّي عجيب و وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنهم كذّبوا و قالوا ساحر كذاب، علوا و استكبارا.

و قد صرح الإمام في كلامه هذا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبرهم بانهم لا يؤمنون و ان ظهرت لهم المعجزة التي طلبوها، و ان فيهم من يطرح في القليب (في معركة بدر) و ان منهم من يحزّب الأحزاب (لمعركة الخندق) «1».

(1)

اصرار النبيّ على هداية قريش:

بل كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحرص على هدايتهم و ارشادهم و ايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين و قائدهم يعلم جيدا بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الّا أمر نابع من تقليد الآباء، و الجدود، أو اتباع أسياد القبيلة و كبرائها، و هو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس و اسس في عقولهم و نفوسهم.

من هنا فانّ أيّ انقلاب يحصل و يحدث في اوساط السادة و الكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

(2) من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ «الوليد بن المغيرة» الذي أصبح ابنه «خالد» في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ و المشاركين في الفتوح الاسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمّدية، لأنّه كان أسنّ من في قريش و اكثرهم نفوذا، و أعلاهم مكانة، و أقواهم شخصية، و كان يدعى حكيم العرب، و كانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الخطب الرقم 192.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:481

(1) و قد كلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في ذلك و قد طمع في اسلامه، فبينا هو في ذلك

إذ مرّ به «ابن أمّ مكتوم»، فكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جعل يستقرئه القرآن فشقّ ذلك منه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أضجره، و ذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر «الوليد». و ما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابسا و تركه، فنزل قوله تعالى:

«عَبَسَ وَ تَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ» «1» «2».

و قد فنّد علماء الشيعة و محقّقوهم هذه الرواية التاريخية، و استبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي امتدحه ربّ العالمين بالخلق العظيم، و وصفه بالرأفة بالمؤمنين، و قالوا: ليس في الآيات ما يدل على أن الذي عبس و تولّى هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن المراد رجل من بني اميّة، فإنّه عبس و تولّى عند ما حضر «ابن أمّ مكتوم» الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخا له «3».

(2)

3- تحريم استماع القرآن
اشارة

كانت البرامج الواسعة التي دبرها الوثنيّون في «مكة» لمكافحة الاسلام، و الحيلولة دون انتشاره بين القبائل و الجماعات، تنفّذ الواحدة تلو الأخرى، و لكن دون جدوى، و دون ان يكسب اصحابها من ورائها أي نجاح، و اية نتائج على

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 363- 364.

(2) عبس: 1- 11.

(3) مجمع البيان: ج 10 ص 437، و قد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد 20 من تفسير الميزان عند

تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة، و شكل بديع، و اثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا ينافي ذلك توجّه الخطاب في «و ما يدريك» إليه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:482

المستوى المطلوب، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كل مرة، و لا يجني المشركون منها سوى الخيبة و الفشل، و سوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد ما رسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن و لكن لم يحالفهم التوفيق الكامل في ذلك، فقد وجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اكثر ثباتا و استقامة في طريقه و أشدّ إصرارا على هدفه، و كانوا يرون بام أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر و متزايد، يوما بعد يوم.

(1) و لهذا قرّر سادة قريش و زعماء «مكة» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن.

و لكي تتحقق خطتهم هذه و تلبس ثوب الوجود بثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة و مداخلها ليمنعوا من يفد إليها للحج او التجارة من الاتصال بمحمّد، و منعه بكل صورة ممكنة، عن الاستماع الى القرآن، و أعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» «1».

(2) لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد القى رعبا عجيبا في نفوس الاعداء و اقضّ مضاجعهم.

و كان اشراف قريش و أسيادها يرون بام أعينهم كيف أنّ اعدى أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (و هو أبو جهل) عند ما مشى إليه ليستهزئ به، و يسخر منه، ما ان سمع آيات من القرآن، إلّا و فقد السيطرة

على نفسه، و لان قلبه، و أصبح من أصحابه و مؤيديه الأقوياء، و لهذا لم يكن أمام اولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعا باتا، و يحرموا التحدث الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحريما قاطعا «2».

و لهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعض ما يتلوه من القرآن و هو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم، فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع «3».

______________________________

(1) فصّلت: 26.

(2) السيرة النبوية: ح 1 ص 313 و 314.

(3) السيرة النبوية: ح 1 ص 313 و 314.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:483

(1)

واضعوا القرار ينقضون قرارهم!!

و لكن من الطريف العجيب أن نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن، و كانوا يعدون كل من يتجاهل قرار (تحريم الاستماع الى القرآن) مخالفا يتعرض للملاحقه و العقاب، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم و انضمّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن، يستمعون إليه في الخفاء!

و إليك بعض ما جرى في هذا الصعيد:

خرج «أبو سفيان» و «أبو جهل» و «الاخنس» ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، و كل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، و قال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال

بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثالثة اخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى اذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا «1».

(2)

4- منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه
اشارة

بعد خطة (تحريم الاستماع الى القرآن) بدءوا بتنفيذ خطة اخرى و هو منع كل قريب و بعيد ممّن رغبوا في الإسلام و قدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ، و على ما اتى به من كتاب و دين، من الاتصال بالنبي صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 1 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:484

فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء و يبادروا الى منعه من الاتصال برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الايمان برسالته، بشتى الحيل و الاساليب.

و إليك نموذجين حييّن من هذا الأمر.

(1)

1- «الاعشى»:

و كان من شعراء العهد الجاهلي البارزين، و كانت قصائده تتناقلها مجالس السمر القرشية، و تتغنى بها محافل انسهم.

و قد بلغ «الاعشى» في كبره نبأ ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من التوحيد و من تعاليم الاسلام العظيمة، و كان يعيش في منطقة نائية عن مكة، حيث لم تصل إليها أشعة الرسالة الاسلامية على وجه التفصيل بعد، و لكن ما قد سمع به من تعاليم الاسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجا خاصا و حرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم خرج الى مكة ليهديها إليه صلّى اللّه عليه و آله و هو في نفس الوقت يريد الاسلام.

و رغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتها 24 بيتا، و لكنها تعدّ من أفضل و افصح ما قيل من الشعر في الاسلام، و في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العهد النبوي و يوجد نصّها الكامل في ديوان «الأعشى» و قد قال فيها و هو يذكر

بعض تعاليم الاسلام:

نبيّا يرى ما لا يرون و ذكره أغار لعمري في البلاد و أنجدا

فاياك و الميتات لا تقربنّهاو لا تأخذن سهما حديدا لتفصدا

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه و لا تعبد الأوثان و اللّه فاعبدا

و لا تقربنّ حرّة كان سرّهاعليك حراما فانكحن أو تأبّدا

و ذا الرحم القربى فلا تقطعنّه لعاقبة، و لا الاسير المقيّدا

و سبّح على حين العشيات و الضحى و لا تحمد الشيطان و اللّه فاحمدا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:485

(1) فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه جواسيس قريش و رجالها فسألوه عن أمره و قصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليسلم، و حيث أنهم كانوا يعرفون بأن «الاعشى» رجل يحب النساء و الخمر حبّا كبيرا لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الاسلام، فقالوا له: يا أبا بصير (و هي كنية الاعشى) إنه يحرم الزنا.

فقال الاعشى: و اللّه ذلك لأمر مالي فيه من ارب.

فقالوا له: يا أبا بصير فانّه يحرّم الخمر.

فقال الأعشى- و قد صدم بهذا الخبر- أمّا هذه فو اللّه في النفس منها لعلالات، و لكني منصرف فاتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاسلم!! فانصرف فمات في عامه ذلك، و لم يعد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

(2)

2- الطفيل بن عمرو الدوسيّ:

و هو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان، صاحب النفوذ و الكلمة المسموعة في قبيلة.

يروى انه قدم «مكة» و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بها، و كانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيسلم.

و من البديهي أن اسلام رجل مثله كان ممّا يشق على قريش جدّا و لهذا مشى إليه رجال منهم و قالوا له- محذرين ايّاه من رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله-:

يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، و هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد اعضل بنا، و قد فرّق جماعتنا، و شتّت أمرنا، و إنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل و بين ابيه، و بين الرجل و بين اخيه، و بين الرجل و بين زوجته، و إنا نخشى عليك و على قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه، و لا تسمعنّ منه شيئا.

ففعلت تحذيرات قريش فعلتها في نفس الطفيل و هم يكرّرونها عليه بقوة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 386- 388.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:486

و إصرار، حتى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شيئا، و لا يكلّمه، و حشّى اذنه- حين غدى الى المسجد للطواف- قطنا، خوفا من أن يبلغه شي ء من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو لا يريد ان يسمعه!!!

(1) يقول الطفيل: فغدوت الى المسجد فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائم يصلي عند الكعبة، فقمت منه قريبا فسمعت كلاما حسنا من غير اختيار مني فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، و اللّه اني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسنا قبلته، و ان كان قبيحا تركته؟

فمكثت حتى انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيته فاتّبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمّد إن قومك قد قالوا لي كذا و كذا للذي قالوا، فو اللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سردت اذني بكرسف لئلا اسمع قولك ثم ابى اللّه إلّا أن يسمعني قولك فسمعته قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك،

فعرض عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاسلام، و تلا عليّ القرآن، فلا و اللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه، و لا أمرا أعدل منه، فأسلمت و شهدت شهادة الحق.

ثم قلت: يا نبيّ اللّه إني امرؤ مطاع في قومي و أنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الاسلام.

(2) ثم يكتب ابن هشام قائلا: إن الطفيل لم يزل بارض «دوس» يدعوهم الى الاسلام حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة و مضى «بدر» و «احد» و «الخندق» فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمن أسلم معه من قومه و هم سبعون او ثمانون بيتا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر فلحقوا جميعا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر، و بقي مع النبيّ حتى قبض صلّى اللّه عليه و آله ثم سار مع المسلمين- في زمن الخلفاء إلى «اليمامة» و شارك في معركتها و قتل فيها «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 1 ص 382- 385.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:487

(1)

19 اسطورة الغرانيق

اشارة

قد يكون بين القرّاء من يودّ التعرف على اسطورة «الغرانيق» التي رواها بعض مؤرّخي السنّة و معرفة جذورها كما يودّ التعرف على الأيادي الخفية التي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة، و أمثالها من الأكاذيب، و المفتريات.

كان اليهود و بخاصّة أحبارهم و لا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

و قد عمد فريق منهم- مثل «كعب الاحبار» و غيره- ممّن تظاهروا باعتناق الاسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب و جعل الأخبار المفتراة على لسان الأنبياء «1».

و لقد أدرج بعض المؤلفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم و جعلوها في عداد الحديث و التاريخ الصحيح من دون تمحيصها و التحقيق فيها، ثقة

بكل من أظهر الاسلام، و تظاهر بالإيمان، و انضم إلى صفوف المسلمين!!

و لكنّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث و الاخبار، و المنقولات و النصوص و بخاصة بعد أن توفّرت لديهم- بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد و الضوابط الكفيلة بتمييز

______________________________

(1) و هي التي يطلق عليها الاسرائيليات و قد الّفت في هذا المجال بعض الكتب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:488

الحسن عن القبيح، و الصحيح عن السقيم، و فرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة، و الروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدّم أمرا صحيحا مقطوعا بسلامته، و يرويه في كتابه من دون دراسة و تحقيق، و تمحيص و تقييم.

(1)

ما هي اسطورة الغرانيق؟!

يقولون: إن «الأسود بن المطلب» و «الوليد بن المغيرة» و «أميّة بن خلف» و «العاص بن وائل» و هم من زعماء قريش و اسيادها قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

يا محمّد هلم فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد فنشترك نحن و أنت في الأمر!!

و قالوا ذلك رفعا للاختلاف، و تضييقا لشقّة الخلاف فأنزل اللّه سبحانه سورة الكافرين التي امر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم:

«لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ».

و مع ذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرغب في أن يساوم قريشا و يجاريهم و كان يقول في نفسه: ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

و ذات يوم و بينما كان صلّى اللّه عليه و آله يتلو القرآن عند الكعبة و يقرأ سورة «النجم» فلما بلغ قوله تعالى:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى. وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى».

أجرى الشيطان على لسانه

الجملتين التاليتين:

«تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» «1».

(2) فقرأهما من دون اختيار، و قرأ ما بعدها من الآيات، و لمّا بلغ آية السجدة سجد هو و من حضر في المسجد من المسلمين و المشركين أمام الاصنام، إلّا

______________________________

(1) النجم: 19 و 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:489

«الوليد» الذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

و فرح المشركون، و ارتفعت نداءاتهم يقولون: لقد ذكر «محمّد» آلهتنا بخير.

و انتشر نبأ هذه المصالحة و التقارب بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المشركين، المهاجرين الى الحبشة، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة، و لكنّهم ما أن كانوا على مشارف «مكة» إلّا و عرفوا بأن الأمر تغير ثانية، و أن ملك الوحي نزل على النبيّ و أمره مرة اخرى بمخالفة الاصنام و مجاهدة الكفار و المشركين، و أخبره بأن الشيطان هو الّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه، و انه لم يقله و أنه ليس من «الوحي» في شي ء أبدا.

و عندئذ نزلت الآيات (52- 54) من سورة «الحج» التي يقول اللّه تعالى فيها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

هذه هي خلاصة اسطورة «الغرانيق» التي أوردها «الطبري» في تاريخه «1» و يذكرها و يردّدها المستشرقون المغرضون بشي ء كبير من التطويل و التفصيل!!

(1)

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة

لنفترض أن «محمّدا» لم يكن نبيا مرسلا و

لكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه و حنكته، و فطنته و عقله.

فهل لعاقل فطن، محنّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

ان الذكيّ اللبيب الذي يجد انصاره يتكاثرون و يتزايدون يوما بعد يوم

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 85 و 76.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:490

و تقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرق صفوف أعدائه و مناوئيه و يتناقص معارضوه و خصومه، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب ان يسي ء الجميع ظنهم به، و يشك الصديق و العدو في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن رجلا ترك جميع الأموال و المناصب التي عرضتها قريش عليه، في سبيل دينه الحنيف، و عقيدته التوحيد أن يصبح مرة اخرى من دعاة الشرك، و مروّجي الوثنية؟؟!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة و المصلحين فكيف برسول اللّه و نبيّه العظيم.

(1)

رأي العقل في هذه القصة:

(2) 1- إن العقل يحكم بان المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى الى البشرية لهدايتها و ارشادها، و تزكيتها و تعليمها مصونون عن أي خطأ و زلل بقوة (العصمة) التي اوتوها، اذ لو تعرض مثل هؤلاء الى الخطأ و الزلل في امور الدين لزالت ثقة الناس بهم و بكلامهم.

يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه القصص، و بين هذا الأصل العقائديّ المنطقي و نعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهنة متشابهات التاريخ و معضلاته.

إنّ من المسلّم أن عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت تمنعه و تحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

(3) 2- إن هذه الاسطورة تقوم أساسا على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمّته التي ألقاها اللّه سبحانه عليه، و قد شقّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه،

فكان يبحث عن مخلص من هذا الوضع المتعب، يكون طريقا- حسب تصوره- إلى إصلاح وضعهم!!

و لكن العقل يقضي بأن على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور، و أن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك، فلا يحدّثوا أنفسهم بالتهرّب من المسئولية و ترك الساحة مطلقا، مهما اشتدّت الظروف، و تأزّمت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:491

الأحوال.

بينما لو صحّت هذه الرواية- الاسطورة لكانت دليلا على أنّ بطل حديثنا قد فقد عنان الصبر و أفلت منه زمام الثبات و الاستقامة و انه بالتالي تعب و ملّ، و ضني و كلّ، و هو أمر لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليم في حق الأنبياء، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من مستقبله أبدا.

إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ بخاطره و باله أنّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة، اذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم، بأن لا يتسرّب الى القرآن أي شي ء من الباطل إذ قال:

«لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» «1».

كما وعده أيضا بأن يصونه عبر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّئ اذ قال سبحانه:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «2».

(1) و مع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يسرّب الى القرآن شيئا باطلا، و يصبح القرآن الذي تقوم معارفه و تعاليمه على أساس معاداة الوثنية و محاربتها داعيا الى الوثنية؟؟!!

إنه لأمر عجيب جدا أن يفتري مختلق هذه الاسطورة أمرا ضدّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآن قبل هذا المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى:

«وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» «3».

فكيف يترك اللّه نبيّه- و قد وعده بهذا الوعد- من دون حفيظ، و يسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه و عقله و لسانه؟؟

إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من يكون مؤمنا بنبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و رسالته.

______________________________

(1) فصّلت: 42.

(2) الحجر: 9.

(3) النجم: 3 و 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:492

و اما المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته، و يعمدون الى شرح و نقل و ترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه و رسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل، فلا بدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

(1)

تكذيب القصّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه السورة، و كبار قريش و اكثرهم من عمالقة الكلام، و أبطال الفصاحة و البلاغة العربية حضور في المسجد و منهم «الوليد بن المغيرة، متكلم العرب و منطقيها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء و حصافة العقل و النباهة، و قد سمعوا جميعا هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمع المؤسس للفصاحة و البلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقدا دقيقا؟

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم، و قد تضمنت الآيات السابقة عليهما، و اللاحقة لهما على شتم آلهتهم و تفنيدها، و الازدراء بها بصورة صارخة و صريحة؟!

(2) كيف تصور مختلق هذه الأكذوبة الفاضحة، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية و آباءها و نقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة و البلاغة بلا منازع، و الذين كانوا أعرف من غير هم باشارات تلك اللغة، و كناياتها (فضلا عن تصريحاتها).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم، و غفلوا عما سبقها و لحقها من الذمّ لها

و الطعن الصارخ فيها؟

إنه لا يمكن قط أن نخدع العاديّين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوّل يذم عقائدهم و سلوكهم فكيف بمن عرف باللب، و الحصافة، و الحكمة و الذكاء؟

(3) و ها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام و نترك أصفارا (و فراغا) في مكان

سيد المرسلين ،ج 1،ص:493

الجملتين اللتين ادّعي اضافتهما، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينك الجملتين مكان بين هذه الآيات (التي وردت في ذمّ الاصنام و القدح فيها):

و إليك هذه الآيات:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى. وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ... «1» أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» «2».

ثم هل يسمح إنسان عاديّ لنفسه أن يكفّ عن معاداة نبيّ هاجم عقائده طيلة عشرة اعوام، و هدر استقلاله و كيانه، و جرّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه، و شتم آلهته، لعبارات متناقضة و كلام خليط من الذّم الكبير و المدح العابر.

(1)

دليل لغويّ على تفنيد هذه الاسطورة
اشارة

يقول العلامة الجليل الشيخ محمّد عبده: لم يستعمل لفظ الغرانيق في الآلهة أبدا لا في اللغة و لا في الشعر العربي «3».

و «غرنوق» و «غرنيق» اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل، و لا ينطبق أي واحد من هذه المعاني على الآلهة

و قد اعتبر احد المستشرقين يدعى «السير وليم مويير» قصة «الغرانيق» هذه من مسلّمات التاريخ و استدل لها بقوله: لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمّد قريشا فعادوا إلى مكة.

إن المسلمين الذين هاجروا إلى تلك الأرض و كانوا يعيشون في أمن و طمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم

يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذوبهم.

فاذن لا بدّ أنّ «محمّدا» قد تذرّع بشي ء لمصالحة قريش، و التقرّب إليها،

______________________________

(1) مكان الجملتين المزعومتين: تلك الغرانيق ... الى آخرها.

(2) النجم: 19- 23.

(3) نقله عنه القاسمي في تفسيره: ج 12 ص 55- 56.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:494

و هذا الشي ء هو قصة الغرانيق»!! «1».

(1) و لكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم:

(2) أولا: لما ذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتما.

إن النفعيين و ذوي الأهواء و الأغراض يسعون دائما إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق ما رب خاصّة لهم، فما الذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة الى «مكة». و قد صدق بعض اولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن، بينما لم ينخذع الآخرون بها و بقوا في الحبشة و لم يعودوا الى مكة؟؟

(3) ثانيا: لنفترض أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يريد أن يصالح قريشا، فهل يكون الطريق إلى السلام و المصالحة منحصرا في افتعال هاتين الجملتين.

أ لم يكن إعطاء مجرّد وعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافيا لتهدئة خواطرهم، و اجتذابهم قلوبهم نحوه؟

و على كلّ حال فان عودة المهاجرين لا يكون دليلا على صحّة هذه الاسطورة كما أن المصالحة، و التقارب غير متوقفين على النطق بهاتين الجملتين.

و الأعجب من هذا أن البعض تصوّر أن الآيات (52- 54 من سورة الحج) قد نزلت في قصة الغرانيق.

(4) و حيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين و مرتكبي جريمة التحريف في التاريخ، فاننا نعمدهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات، و نبين

للقارئ بأنها تنظر إلى امر آخر، و لا ترتبط بهذه القصة بتاتا.

و ها هو نصّ الآيات المشار إليها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ، وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

______________________________

(1) راجع حياة محمّد: ص 165 و 166.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:495

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

و الآن يجب أن نبين مفاد الآيات و لنبدأ بالآية الاولى:

انّ الآية الاولى تذكّر بثلاثة امور هي:

1- انّ الأنبياء و الرسل يتمنون.

2- انّ الشيطان يتدخّل في تمنياتهم.

3- انّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

و بتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد الآية و المراد منها.

و إليك توضيح تلكم النقاط الثلاث:

(1)

1- ما هو المقصود من تمني الأنبياء و الرسل

لقد كان الأنبياء و الرسل يحبّون هداية اممهم، و نشر دينهم و تعاليمهم فيها، و كانوا يدبّرون امورا و يخطّطون خططا لتحقيق أهدافهم هذه، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب و المصاعب، و يثبتون في جميع المشكلات و المحن.

و لم يكن رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مستثنى عن هذه القاعدة، فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يخطط لتحقيق أهدافه كثيرا، و يهيّئ مقدمات و يبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى».

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى و لنشرح الآن النقطة الثانية.

(2)

2- ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إن تدخّل الشيطان يمكن أن يتم على نحوين:

(3) 1- أن يوجد الشك و الترديد في عزم الأنبياء، و يوحي إليهم بأنّ هناك

سيد المرسلين ،ج 1،ص:496

عوائق كثيرة تحول بينهم و بين أهدافهم، و لذلك لن يحرزوا نجاحا في تحقيق تلك الأهداف.

(1) 2- بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر و هيّئوا له مقدّماته، و ظهرت منهم أمارات تدل على أنهم مقدمون على تنفيذه فعلا أقام الشيطان و من تبعه من شياطين الانس العراقيل و الموانع في طريقهم، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

(2) أما الاحتمال الأول فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاخرى و لا مع الآية اللاحقة.

(3) أمّا من جهة الآيات الاخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا سلطان للشياطين على أولياء اللّه و عباده الصالحين (و لو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم، و أهدافهم) إذ يقول:

«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» «1». و يقول أيضا:

«إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» «2».

إن هذه الآيات، و الآيات الاخرى التي تنفي سلطان

الشيطان على أولياء اللّه و عباده الصالحين، و تأثيره في قلوبهم و نفوسهم لخير شاهد و أفضل دليل على أنّ المقصود من تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء ليس بمعنى إضعاف عزيمتهم، و إرادتهم و تكبير الموانع و العراقيل في نظرهم.

(4) أمّا من جهة الآيات المبحوثة فان الآية الثانية و الثالثة تفسّر و تشرح علّة التدخّل على النحو الآتي:

إننا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس: الفريق الأول: الّذين في قلوبهم مرض، و الفريق الثاني: الذين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر.

يعني أنّ تدخّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضدّهم و ضدّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل و معارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه يزيد من ثباتهم و صمودهم.

______________________________

(1) الحجر: 42، الاسراء: 65.

(2) النحل: 99.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:497

و ان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات الأنبياء، مثل هذين الاثرين المختلفين (أي يحمل فريقا على المخالفة و فريقا آخر على الثبات و الصمود) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني، يعني ان التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم، و إلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم، و خلق الموانع و العراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء و قلوبهم و يضعفون ارادتهم و عزمهم.

إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء و الرسل.

و الآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخل.

(1)

3- ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟

اذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس و تأليبهم ضد الأنبياء ليمنعوا الأنبياء و الرسل من التقدم في أهدافهم، فان محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه- حينئذ- يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن أنبيائه و رسله كيد الشيطان ليتضح الحق

للمؤمنين، و يكون اختبارا لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية اخرى:

«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «1».

و خلاصة القول: أن القرآن يخبر- في هذه الآيات- عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء و هي:

إن تمنّي التقدم في الأهداف و تمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الأنبياء دائما.

ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان و أتباعه من شياطين الإنس و الجنّ، و ذلك بايجاد الموانع و العقبات في طريق الأنبياء و الرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الإلهي الغيبيّ بمحو و فسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الأنبياء المعرقلة لتحقيق أمانيّهم.

و هذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة التي جرت في جميع الامم السالفة.

______________________________

(1) غافر: 51.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:498

(1) إن تاريخ الأنبياء و الرسل و قصصهم من نوح و إبراهيم و أنبياء بني إسرائيل و بخاصّة موسى و عيسى عليهما السّلام، و تاريخ حياة الرّسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله خير شاهد على هذا المطلب.

و ينبغي استكمالا لهذا البحث أن نقول: و لأجل ما ورد على هذه القصة الاسطورية من مؤاخذات رفضها و فنّدها بعض المحققين من أهل السنة اذ قال بعد ذكرها على النحو الذي ادرجها الطبري في تاريخه و أرسله ارسال المسلّمات:

«و أهل الأصول يدفعون هذا الحديث بالحجة.

و من صحّحه قال فيه أقوالا:

منها: ان الشيطان قال ذلك و أذاعه و الرسول عليه الصلاة و السّلام لم ينطق به.

(و ذكر وجوها اخرى ثم قال:) و الحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته «1».

______________________________

(1) راجع هوامش السيرة النبويّة: ج 1 ص 364.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:499

(1)

20 الحصار الاقتصادي و الاجتماعي

اشارة

إن أبسط وسيلة و أسهلها لضرب الأقليات في أي مجتمع، و القضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية التي

تقوم أساسا على اتحاد الأكثرية و اتفاقها على مقاطعة الأقليّه المتمرّدة.

إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة مختلفة، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح، و تتوجه نحو الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس و الأموال، و ازالة العشرات من الموانع و السواتر، و هو أمر لا يقدم عليه القادة المحنّكون إلّا بعد توفّر كل مستلزمات المواجهة و اتخاذ جميع التدابير اللازمة، و الاستعداد الكامل، و بالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة إليها، و تنحصر الحيلة في القتال.

(2) و لكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على مثل هذه الامور، بل تحتاج الى أمر واحد و هو اتفاق الاكثرية. سيد المرسلين ج 1 499 20 الحصار الاقتصادي و الاجتماعي ..... ص : 499

نى أن يتفق من يعنيهم الأمر و لهم عقيدة واحدة و يتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كل صلاتهم و علاقاتهم بالأقليّة المعارضة، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم و يوقفوا الاتصال العائليّ بهم، و لا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية و لا يتعاونوا معهم في امورهم الشخصيّة أيضا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:500

(1) في مثل هذه الحالة تضيق الأرض على الأقلية بما رحبت و تغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق و صغير، و يصيرون عرضة للانهيار و السقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما تستسلم- في هذه الحالة- و تؤوب من منتصف الطريق، و تطيع إرادة الأكثرية.

و لكن أقلية كهذه لا بد أن تكون ممّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ و لا يكون لانفصالها. عن الاكثرية طابع اصولي مبدئيّ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما

شاكل ذلك.

فان مثل هذه الاقلية اذا أحسّت بخطر جدّي، أو واجهت العذاب و السجن و الحصار ستتراجع عن مخالفتها و تعود إلى طاعة الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقّتة على اللذة الاحتمالية، لأنها لم تنطلق من دوافع ايمانية اصيلة، و لم يكن المحرك لها محركا روحيا معنويا.

و لكن الجماعة التي يقوم خلافها للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس، لن تنصاع أبدا لمثل هذه الضغوط، و لن تنثني أمام هذه الرياح و العواصف، و لا يزيدها ضغط الحصار الّا صلابة و قوة، و إصرارا و عنادا، و تردّ جميع ضربات العدوّ بالصبر و الاستقامة.

إن صفحات التاريخ البشريّ تشهد بأن أقوى العوامل لثبات كل أقليّة و صمودها في وجه الأكثرية هو: قوة الايمان، و عامل الاعتقاد، الذي ربما يؤدّي رسالة الثبات و المقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

و لنا على هذا عشرات بل و مئات الأمثلة من التاريخ الغابر و الحاضر.

قريش تحاصر النبيّ و المسلمين اقتصاديا و اجتماعيا
اشارة

(2) لقد شقّ على قريش انتشار الإسلام المتزائد و أزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة و لهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:501

فان اسلام شخصيات ذات أهمية و مكانة كبرى مثل جمزة، و كذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الاسلام، و حرية العمل و التحرك التي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة، كل ذلك زاد من حيرة، و اضطراب الزعامة الجاهلية في مكة، التي زادها حيرة، و انزعاجا، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام و المسلمين، و عدم حصولها على أية نتائج تذكر!!

(1) من هنا فكرت في خطة جديدة، و هي ان تفرض حصارا اقتصاديا قويا على النبيّ و المسلمين تقطع به

كل الشرايين الحيوية للمسلمين، و بذلك تحدّ من سرعة انتشار الاسلام و تقف دون نفوذه، و بالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية، و أنصاره.

[قريش و الصحيفة القاطعة]

و لهذا اجتمع زعماء قريش في «دار الندوة» و وقّعوا ميثاقا كتبه «منصور بن عكرمة» و علّقوه في جوف الكعبة، و تحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتى الموت.

و نص هذا العقد على الامور التالية:

1- أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يبيعوهم شيئا.

2- ان لا ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم.

3- أن لا يؤاكلوهم و لا يكلّموهم.

4- ان يكونوا يدا واحدة على «محمّد» و انصاره.

(2) و قد وقعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كل الشخصيات البارزة في قريش إلّا «مطعم بن عدي» و أعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة و إصرار.

فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب عليه السّلام بذلك جمع بني هاشم و بني المطلب و حمّلهم مسئولية الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحفاظ على حياته و سلامته، و أمرهم بالخروج من مكة و بدخول شعب كائن بين جبال مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية، و السقائف البسيطة جدا، و السكنى في ذلك الشعب بعيدا عن المجتمع المكّي المشرك.

و عمد الى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة و الحراسة تحسبا لأي

سيد المرسلين ،ج 1،ص:502

هجوم مباغت تقوم به قريش «1».

(1) و قد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة، و بلغ الجهد بالمحاصرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع و الضر، و بلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الّا انها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب و الرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة

طوال اليوم، و ربما تناصف اثنان تمرة واحدة، و لم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الّا في الاشهر الحرم حيث يسود الأمن كل انحاء الجزيرة العربية.

فاذا حلّ الموسم كانت بنو هاشم تخرج من الشعب فيشترون و يبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يستغلّ هو أيضا تلك المواسم في نشر دينه، و الدعوة الى ما أتى به.

و كانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي و أنصاره و تمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتى في هذه المواسم، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع و الشراء فاذا وجدوا مسلما يريد أن يبتاع شيئا اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

(2) و كان «أبو لهب» اكثر الناس اصرارا على هذا العمل، فقد كان ينادي في الأسواق: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمّد حتى لا يدركوا معكم شيئا فقد علمتم مالي و وفاء ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الرجل المسلم إلى اطفاله و هم يتضاغون من الجوع و ليس في يديه شي ء يطعمهم به، و يغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 350، و تاريخ الطبري: ج 2 ص 78، و قد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاولى من السنة السابعة للبعثة و عند ما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمّدانبيا كموسى خطّ في أول الكتب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:503

اشتروا من الطعام و اللباس!! «1».

و كان «الوليد بن المغيرة» ينادي: أيّما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرهم إلى الاسواق فيشترونها

فيغلونها عليهم.

(1)

وضع بني هاشم المأساوي في الشعب

لقد بلغ الجهد و الجوع بالمحاصرين في الشعب حدّا جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط و ورق السمر حتى أن «سعد بن أبي وقاص» يقول: لقد جعت حتى أني وطئت ذات ليلة على شي ء رطب فوضعته في فمي و بلعته، و ما أدري ما هو الى الآن «2».

هذا و قد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شي ء إلّا سرا و مستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أن «حكيم بن حزام» (ابن اخ خديجة) و «أبو العاص بن الربيع» و «هشام بن عمرو» كانوا يسرّبون الى «بني هاشم» في الشعب سرّا و في أواسط الليل تحت جنح الظلام، فكان الواحد منهم يحمل قمحا و تمرا على بعير و يأتي به إلى باب الشعب ثم يصيح بها فتدخل الشعب و يأكله بنو هاشم.

و ربما صادفهم بعض جواسيس قريش، فهمّوا بقتله، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

(2) فقد روي أن «حكيم بن حزام» خرج يوما و معه انسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة بنت خويلد (زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت معه الشعب طيلة أعوام الحصار) إذ لقيه «أبو جهل» فقال له: تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ و اللّه لا تبرح أنت و لا طعامك حتى أفضحك عند قريش بمكة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 337 الهوامش.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 337 الهوامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:504

فقال له أبو البختريّ- و كان من أعداء الاسلام هو أيضا-: تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟

فأبى «ابو جهل» أن يدعه إلا أن يأخذه إلى قريش، فقام إليه

«ابو البختري» بساق بعير فضربه و وطأه وطئا شديدا «1».

(1) و خلاصة القول؛ أن قريشا بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من تبعه حتى أن من كان يدخل «مكة» من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئا و من باع منهم شيئا انتهبوا ماله، و كان «أبو جهل»، و «العاص بن وائل» و «النضر بن الحارث بن كلدة»، و «عاقبة بن أبي معيط» يخرجون إلى الطرقات التي تدخل «مكة» فمن رأوه معه ميرة و طعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئا، و يحذرون إن باع شيئا منهم نهبوا ماله.

كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم و آذوهم و اشتدّ البلاء عليهم، و أبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء.

و لكن لم يستطع كل ذلك أن يفتّ في عضد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يقلل من إصراره و ثباته على الطريق، و لا من اصرار أتباعه و ثباتهم و إيمانهم.

و أخيرا تركت صرخات أطفال بني هاشم في الشعب من الجوع و العري و الجهد و الضر، و أوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة، و ذلك الميثاق المشؤوم، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة و صاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال.

(2) فمشى «هشام بن عمرو» الى «زهير بن أبي أميّة» (و كان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته) و قال له و هو يحثه على نقض الصحيفة: يا زهير أ قد رضيت أن تأكل الطعام، و تلبس الثياب، و تنكح النساء، و أخوالك حيث قد علمت لا يباعون و لا يبتاع منهم، و لا ينكحون و لا

ينكح إليهم؟

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 354، هذا و يشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل، و في أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى، بل كان بدافع الربح الاكثر لما تبت- حسب قوله- من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:505

أمّا إني أحلف باللّه أن لو كانوا أخوال أبي الحكم (أي أبي جهل) ثم دعوته الى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا؟

فقال زهير: ويحك يا هشام فما ذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد و اللّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلا.

قال فمن هو؟ قال: أنا.

(1) قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى «المطعم بن عدي» فقال له:

يا مطعم أ قد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، و أنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما و اللّه لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا؟

قال: و يحك! فما ذا أصنع؟ انما أنا رجل واحد.

قال: قد وجدت ثانيا.

قال: من هو؟ قال: أنا.

قال: أبغنا ثالثا.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أميّة.

قال: أبغنا رابعا.

(2) فذهب إلى «البختري بن هشام» فقال له نحوا ممّا قال للمطعم بن عدي، فقال: و هل من أحد يعين على هذا؟

قال: نعم.

قال: من هو؟

قال: «زهير بن أبي أميّة» و «المطعم بن عديّ» و أنا معك.

فقال: ابغنا خامسا.

فذهب إلى «زمعة بن الأسود بن المطلب» فكلّمه و ذكر له قرابتهم و حقّهم فقال له: و هل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:506

قال: نعم ... ثم سمّى له القوم الذين وعده بالمساعدة على

نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة.

فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد و يعلنوا مخالفتهم لتلك الصحيفة.

(1) فلمّا أصبحوا غدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل «زهير بن أبي اميّة» على الناس و قال:

يا أهل مكة أ نأكل الطعام و نلبس الثياب، و بنو هاشم هلكى لا يباع لهم و لا يبتاع منهم؟ و اللّه لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل و كان في ناحية المسجد: كذبت و اللّه لا تشقّ.

فانتصر زمعة لزهير و ردّ على أبي جهل قائلا: أنت و اللّه أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت.

و قال أبو البختري من ناحية مؤيدا موقف زميله: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، و لا نقرّ به.

و قال المطعم بن عدي: صدقتما و كذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللّه منها، و ممّا كتب فيها.

و قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

فأحسّ أبو جهل بأنّ ذلك كان أمرا مبيّتا مدبّرا من قبل فقال:

هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان.

و كان أبو طالب- حسب بعض الروايات التاريخية- جالسا ذلك اليوم في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد (الأرضة) «1» قد أكلتها، إلّا «باسمك اللّهم» التي صدّرت بها تلك الصحيفة و هي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودها و رسائلها.

فلما رأى «أبو طالب» ذلك رجع الى الشعب و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) و هي دودة بيضاء شبه النملة و هي آفة كل شي ء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة: ارض

سيد المرسلين ،ج 1،ص:507

و آله بما جرى، و عاد المحاصرون في الشعب إلى منازلهم مرة اخرى بعد المشورة مع «أبي طالب».

(1) و يروي طائفة

من المؤرخين أنّ «خديجة» و «أبا طالب» أنفقا أموالهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

و فجأة نزل ملك الوحي «جبرئيل» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشعب، و أخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست (أو اكلت) جميع ما فيها من قطيعة و ظلم و تركت جملة «باسمك اللّهم» فأخبر رسول اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط «الأرضة» على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو للّه إلّا أثبتته فيها، و نفت منه الظلم و القطيعة و البهتان.

فقال أبو طالب: إذن لا يدخل عليك أحد «1».

(2) ثم قام و لبس ثيابه، و مشى هو و رسول اللّه و شخص آخر حتى دخلوا المسجد على قريش و هم مجتمعون فيه، فلما دنا أبو طالب منهم قاموا إليه و عظّموه، و تباشروا و ظنّوا أن الحصر و البلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه، فقالوا له: قد آن لك ان تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم و جماعتكم (أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك).

فقال أبو طالب: و اللّه ما جئت لهذا، و لكنّ ابن أخي أخبرنى و لم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم و ظلم و جور و ترك اسم اللّه، فهلم صحيفتكم فان كان حقا فاتقوا اللّه و ارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم و الجور و قطيعة الرّحم.

و إن كان باطلا دفعته إليكم فان شئتم قتلتموه، و إن شئتم استحييتموه.

فقالوا: رضينا، و تعاقدوا على ذلك.

______________________________

(1) و إنّما اتخذ مثل هذا الاجراء حتى لا يفشوا

ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة، و يكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:508

ثم بعثوا إلى الصحيفة و أنزلوها من الكعبة، و عليها أربعون خاتما.

فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرف واحد إلّا «باسمك اللّهمّ»، كما اخبرهم بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) غير أنّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شرا و عنادا و رجع بنو هاشم مرّة اخرى إلى الشعب و بقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن و لم يمكنهم الرجوع الى منازلهم بمكة إلّا بعد أن نقضها هشام.

و قد قال «أبو طالب» في مدح هذا (أي نقض الصحيفة القاطعة و النفر الذين قاموا بنقضها) قصيدة مطوّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بحريّنا «1» صنع ربّناعلى نأيهم و اللّه بالناس أرود «2»

فيخبرهم أنّ الصحيفة مزّقت و ان كلّ ما لم يرضه اللّه مفسد «3» (2) هذه أمثلة و نماذج من ردود الفعل الظالمة و المواقف المناوئة التي اتخذتها قريش تجاه الدعوة المحمدية.

على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الذي ذكرناه تماما، و لكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب و خاصّة أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

(3) كما أنّ أذى قريش و ردود فعلها ضدّ الاسلام و المسلمين و ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كان هناك أساليب اخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلّى اللّه عليه و

آله بالأبتر.

فقد كان «العاص بن وائل السهمي» إذا ذكر رسول اللّه قال: دعوه، فانّما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره و استرحتم منه.

______________________________

(1) يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.

(2) أي أرفق.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 377- 380 و قد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:509

فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر التي يقول فيها:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

و قد أخبر بها اللّه نبيّه بأنه سيهبه ذريّة كثيرة «1».

و لقد كتب العلّامة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة «2»: المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني اميّة في الدنيا أحد يعبأ به.

و وجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده و قال: ان محمّدا ابتر فان مات مات ذكره، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول: ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة، و هي و إن كانت واحدة و قليلة، و لكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيرا.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 393 و جميع التفاسير.

(2) مفاتيح الغيب: الجزء الثلاثون سورة الكوثر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:511

(1)

21 وفاة أبي طالب و خديجة الكبرى

اشارة

في الوقت الذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن «القطيف» يضمّ بين جدرانه شابا حر الضمير شجاعا مقداما لم يكن له من ذنب إلا أنه الّف كتابا باسم «أبو طالب مؤمن قريش» يتناول إسلام «أبي طالب» و إيمانه و إخلاصه مثبتا كل ذلك من مصادر أهل السنّة «1».

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز- و في عصر

يتسم بحرّية التفكير البيان و الاعتقاد- بأن يتراجع عن كلامه، و حيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة و يقين، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.

و قد نجا هذا الفتى الشجاع و الكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة و خفّضت عقوبته الى الحبس المؤبّد، الذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اخرى الى عقوبة الجلد ثمانين جلدة!!.

(2) و هو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير، المجهول اذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر و يطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن

______________________________

(1) و الكتاب يقع في 340 صفحة طبع بحجم الوزيري و طبع في بيروت مرارا و قدّم عليه الأديب اللبناني المعروف «بولس سلامة» صاحب ملحمة الغدير و ملاحم اخرى.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:512

عقوبته، بل و الافراج عنه نهائيا.

و إما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البري ء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زورا و قهرا على أرض الحجار «1» «2»

(1) لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة و أيضا بفضل صمود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و ثباتهم العظيم. و خرج النبيّ و أنصاره من «شعب أبي طالب» بعد ثلاث سنوات من النفي و العذاب و عادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرءوس.

و عاد التعامل الاقتصادي مع المسلمين الى ما كان عليه قبل الحصار، و كانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش و الانفراج شيئا فشيئا، و اذا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفاجأ بحادث مؤلم مرّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثرا سيّئا في نفوس المسلمين و بخاصة المستضعفين منهم.

و

لقد كان هذا الأثر عظيما جدا بحيث لا يمكن قياسه بشي ء بالنظر الى تلك الظروف الحساسة، و ذلك لأن نمو أية عقيدة و فكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين: أحدهما: حرية التعبير، و الآخر: القوة الدفاعية التي تحمي أصحاب تلك العقيدة و الفكرة ضدّ حملات الخصوم التي لا ترحم.

و لقد كان المسلمون- آنذاك- يتمتعون بحرية البيان و التعبير، و لكنهم افتقدوا- بسبب الحادث المفاجئ المذكور العامل الجوهري و المصيري الثاني يعني:

حامي الاسلام و المدافع الوحيد عنه الذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة

______________________________

(1) لقد سمّيت أراضي «الحجاز» و «نجد» و «تهامة» باسم عائلة واحدة هي آل سعود، و اخيرا حملت هذه المنطقة التي كانت تعرف و حتى إلى ما يقرب من قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية. يا له من استئثار و جرأة على المقدسات!!

(2) و اخيرا نجا هذا الشاب المؤمن و المجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة و مفكّريهم المتضافرة و الواسعة النطاق و اخلي سبيله و قد زار- للاعراب عن شكره- مدينة قم المقدّسة و قد التقينا به أيضا كما زار اماكن اخرى لنفس الغرض.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:513

و حرم المسلمون بوفاته من حمايته و دفاعه، و وقايته.

(1) أجل لقد فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاميه العظيم الذي تولى مهمة كفالته و الدفاع عنه، و المحافظة على حياته بصدق و اخلاص و جدّ و رغبة و كان يقيه بنفسه و ذويه و يؤثره على نفسه و أولاده و ينفق عليه من ماله حتى كبر و صار له مال و طول منذ أن كان صلّى اللّه عليه و آله في السنة الثامنة من عمره و حتى يوم وفاة ذلك

الحامي العظيم، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمسين من عمره.

لقد فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شخصية خاطبها عبد المطلب عند وفاته بالشعر قائلا:

اوصيك يا عبد مناف بعدي بموحد بعد أبيه فرد فأجابه أبو طالب قائلا: يا أبه لا توصينّ بمحمّد فانه ابني و ابن أخي «1».

(2) و لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تذكر في اللحظة التي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرق الموت جميع الحوادث الحلوة و المرة و قال في نفسه:

(3) 1- إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرءوف الذي ظلّ يحرسه بالليل و النهار طيلة سنوات الحصار في الشعب، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطر من الليل و يضجعه في موضع آخر و يضجع مكانه ولده «علي بن أبي طالب» حتى لا تغتاله قريش بعد أن رصد و امكانه، و كمنوا له، و كان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده «علي» و يقيني به حتى إذا قال له «علي» ليلة:

«يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة».

فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور:

______________________________

(1) عمدة الطالب: ص 6 و فيه بواحد، المناقب: ج 1 ص 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:514 اصبرن يا بنيّ فالصبر أحجى كلّ حيّ مصيره لشعوب

قد بلوناك و البلاء شديدلفداء النجيب و ابن النجيب فأجابه «عليّ» بكلام اكثر حلاوة و عمقا قائلا:

أ تأمرني بالصّبر في نصر أحمد؟و و اللّه ما قلت الّذي قلت جازعا

و لكنّني أحببت أن تر نصرتي و تعلم أنّي لم أزل لك طائعا «1» (1) 2- إن هذا الجثمان الذي

فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الذي شرّد هو و ذووه، و عرّض نفسه و أهله للبلاء و المحنة بسبب الحصار لأجلي، و أمر بأن يحرسونني ليل نهار، تاركا زعامته و سيادته، و كلّ شئونه للحفاظ عليّ و الإبقاء على رسالتي و أرسل إلى قريش رسالة قوّية أعلن فيها عن وقوفه إلى جانبي و انه لن يسلمني و يخذلني ما دام حيّا إذ قال:

فلا تحسبونا خاذلين محمّدالذي غربة منّا و لا متقرّب

ستمنعه منّا يد هاشميّةو مركبها في الناس أخشن مركب «2» بعد أن تحقق موت «ابي طالب» ارتفع الصراخ و النحيب من منازله و بيوته، و اجتمع حول بيته العدوّ و الصديق، و القريب و البعيد، و اشترك الجميع في مراسم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به، و قرّحها الحزن عليه.

و هل ترى تنتهي آثار و ردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل «ابي طالب» الذي كان زعيم قريش، و سيد عشيرته بمثل هذه السرعة، و البساطة؟

كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا.

(2)

نماذج من مشاعر أبي طالب
اشارة

ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادلها

______________________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب: ج 1 ص 64، الحجّة: ص 70، بحار الأنوار: ج 19 ص 1- 19.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 4 ..

سيد المرسلين ،ج 1،ص:515

الأشخاص و عواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدور اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال، و لهذا سرعان ما يذهب الحماس و ينطفئ شعلة الحبّ، و يتضاءل لهيب العاطفة في كيانهم حتى تزول بالمرّة و لا يبقى منها شي ء أبدا لعدم ثبات هذه الدوافع.

(1) و لكنّ المشاعر و العواطف التي تنبع من أواصر

الايمان بفضائل شخص ما و كمالاته الروحية و المعنوية لا تنمحي و لا تتلاشى بسرعة.

و قد كانت مودة «أبي طالب» لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و حبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعين.

فقد كان «أبو طالب» يؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و يرى فيه من جانب الانسان الكامل، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني، و من جانب آخر كان «محمّد» ابن أخيه، و قد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن و الأخ.

لقد كانت لصفات «محمّد» و خصاله المعنوية و الأخلاقية، و طهره مكانة كبرى في قلب عمّه «أبي طالب» إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إلى المصلّى، و يستسقي به أي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفع عن الناس القحط و الجدب و ينزّل عليهم الغيث، فكانت دعونه تستجاب من دون تأخير.

(2) فقد نقل كثير من المؤرخين الحادثة التالية:

قحط الناس في «مكة» و حواليها سنة من السنين، و منعت السماء و الأرض بركاتهما عنهم بشكل عجيب، فمشت قريش بعيون باكية إلى «أبي طالب» تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم، و ان يذهب الى المصلى و يدعو ربّه لينزّل عليهم المطر و ينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج «أبو طالب» و قد اخذ بيد غلام كأنه شمس دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة و رفع وجهه نحو السماء و قال: يا رب هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا، دائما هاطلا.

(3) و يكتب المؤرخون ان السماء كانت صافيه لا غيم فيها أبدا ساعة استسقى «أبو طالب» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن ما ان فرغ «أبو طالب» من دعائه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:516

إلّا و أقبلت السحاب في الحال، و غطّت سماء

«مكة» و ما حولها من المناطق القريبة إليها، و ارعدت السماء و أبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية، و روّت القريب و البعيد، و سرّ به الجميع و رضوا «1».

و قد اشار «أبو طالب» في لاميّته المعروفة الى هذه الحادثة.

(1) و قد أنشأ «أبو طالب» تلك القصيدة في أحلك الظروف و اشدّها، يوم زادت قريش من ضغوطها على حامي الرسول صلّى اللّه عليه و آله ليسلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليها.

و قد ذكّر فيها «أبو طالب» فريشا بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الاسلام و كيف أنها امطرت ببركته، بعد قحط طويل، و جدب مهلك، كاد يبيد الحرث و الضرع، و ذلك عند ما يقول:

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل و قد نقل «ابن هشام» في سيرته «2» أربعة و تسعين بيتا من هذه القصيدة، فيما أورد «ابن كثير» الشامى في تاريخه «3» اثنين و تسعين بيتا فقط.

و هي قصيدة في منتهى الروعة و العذوبة، و في غاية القوة و الجمال، و تفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع التي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها، و يعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر و النظم.

(2) و قد أورد «ابو هفان العبدي» الجامع لديوان «أبي طالب» مائة و واحدة و عشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان، و يمكن ان تكون كل تلك القصيدة و تمامها.

و نحن نورد هنا أبياتا متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصورة صريحة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 2 و

3، السيرة الحلبية: ج 1 ص 111- 116، الملل و النحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء و الملل: ج 3 ص 225.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

(3) البداية و النهاية: ج 3 ص 52- 57.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:517 كذبتم و بيت اللّه نبزى محمّداو لما نطاعن دونه و نناظل «1»

و نسلمه حتّى نصرّع دونه و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمدو إخوته دأب المحبّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلهاو زينا لمن والاه ربّ المشاكل «2»

فمن مثله في الناس أي مؤمّل إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حليم رشيد عادل غير طائش يوالي إلها ليس عنه بغافل

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا و لا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا احمد في ارومةتقصّر عنه سورة المنظاول «3»

حدبت بنفسي دونه و حميته و دافعت عنه بالذّرا و الكلاكل «4»

فأيّده ربّ العباد بنصره و أظهر دينا حقّه غير باطل «5» (1)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض اكثر من اثني عشر ربيعا من عمر «محمّد» بعد، عند ما أراد «أبو طالب» التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

و عند ما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل، أخذ «محمّد» فجأة بزمام الناقة التي كان يركبها عمّه و كافله «أبو طالب» بينما اغرورقت عيناه صلّى اللّه عليه و آله بالدموع و قال:

«يا عمّ إلى من تكلني، لا أب لي و لا أم»؟.

هذا المشهد المؤثر و بخاصة عند ما رأى «أبو طالب» عيني محمّد و قد اغرورقت بالدموع، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون، فانحدرت عبرات العطف من عينيه و قرر من فوره و من دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه «محمّدا» معه في هذه الرحلة، و مع أنه لم يحسب لهذا الأمر-

من قبل-

______________________________

(1) اي نغلب عليه.

(2) المشاكل: العظيمات من الامور.

(3) السورة: الشدة و البطش.

(4) الذرا: جمع ذروة و هي اعلى ظهر البعير.

(5) راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:518

أي حساب، فان «أبا طالب» قبل بان يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا، فحمله معه على ناقته، و بقي يفكر في أمره، و يدبّر شأنه، و يحافظ عليه طوال تلك الرحلة، و شهد منه اثناء الطريق كرامات و خوارق، و قد أنشأ في ذلك قصيدة موجودة في ديوان أبي طالب، و مطلع هذه القصيدة هو:

إنّ ابن آمنة النبيّ محمّداعندي يفوق منازل الأولاد «1»

(1)

الدفاع عن حوزة العقيدة و الايمان

ليست هناك قوة تساعد على الثبات و المقاومة، و الصمود و الاستقامة، مثل قوة الايمان، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الانسان في ميدان الحياة، فهو الذي يهضم في نفسه كل الآلام و المتاعب، و يدفع بالمرء الى المضي قدما في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة، حتى و لو كلفه ذلك التعرض للموت.

إنّ الجنديّ المسلّح بقوة الإيمان منتصر لا محالة.

إن الجنديّ الذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لا بدّ أن يحرز النصر.

إن على الجندي- قبل أن يسلّح نفسه بسلاح العصر- أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف، و يضي ء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة، و حبّها، و يجب أن يكون جهاده و صلحه من أجل العقيدة و الدفاع عن حوزتها، و كيانها.

(2) إنّ أفكارنا و عقائدنا نابعة من روحنا، و في الحقيقة انّ فكر الانسان وليد عقله، فكما أنّ الانسان يحب ولده الجسماني حبّا شديدا كذلك يحب أفكاره التي هي ولائد عقله و روحه، بل إن حبّ الانسان لعقيدته اكثر من حبّه

______________________________

(1) ديوان أبي طالب:

ص 33- 35، تاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 269- 272، الروض الآنف: ج 1 ص 120.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:519

لأولاده الجسمانيّين، و لهذا فهو يدافع عن عقائده حتى الموت، و يغضي- في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة و الحفاظ عليها- عن كل شي ء، بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.

(1) إنّ حب المرء للمال و المنصب حبّ محدود، فهو ينساق مع هذا الحبّ ما دام لم يهدّد حياته خطر الموت الحقيقي، و لكنّه مستعد لأن يمضي- في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة- الى حدّ الموت، و يؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة، و يرى الحياة الحقيقية و الواقعية في وجود الرجال المجاهدين، و هو يردد:

«إنما الحياة عقيدة و جهاد» «1».

و لنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا (و نعني به المدافع الوحيد عن الاسلام و حامي الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة) فما ذا كان دافعه الى هذا الأمر، و ما الذي كان يحركه في هذا السبيل؟ و أي شي ء كان وراء مضيه في هذا الطريق الى حافة العدم، و الغض عن النفس و النفيس، و المقام، و القبيلة و غير ذلك و التضحية بكل ذلك في سبيل «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

إن من المتيقّن أن دافعه الى ذلك لم يكن المحرك الماديّ، و بالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه، و حمايته، و الحدب عليه، كسب أمر مادي كتحصيل مال و ثروة، لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له يومئذ مال، و لا ثروه.

(2) و كما أن مقصود «أبي طالب» لم يكن أيضا تحصيل مقام، و أحراز مكانه اجتماعية لأنه

كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب و اهمها، فقد كانت له رئاسة «مكة» و البطحاء، بل هو فقد منصبه و شخصيته الممتازة و مكانته المنقولة بسبب دفاعه عن «محمّد»، و عدم الاستجابة لقومه في تسليمه إليهم، و التخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد استوجب سخط زعماء عليه، و استياءهم من موقفه، و خروجهم عن طاعته، و دفعهم الى التمادي

______________________________

(1) المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب «الأنا» فيها في التوحيد و الايمان باللّه اذ هنا يصدق قوله:

قف عند رأيك و اجتهدإنّ الحياة عقيدة و جهاد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:520

في معاداة «بني هاشم» و «أبي طالب» و الثورة عليهم!!

(1)

تصوّر باطل [عن مشاعر أبي طالب تجاه النبي ص]

ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب «أبي طالب» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التضحية في سبيله بالنفس و النفيس كانت هي: علاقة القربى، و وشيجة الرحم، أو بتعبير آخر: إن التعصب القبلىّ، و العصبية القومية هو الذي دفع بأبي طالب إلى ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.

و لكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير، و يتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تستطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحدا إلى أن يضحي بنفسه في أحد أقربائه الى هذه الدرجة من التضحية و المفاداة، بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه، و يكون مستعدا لأن يتقطّع ولده بالسيوف إربا إربا دون ابن أخيه.

إن العصبيات القبائلية و العائلية و ان كانت تدفع بالانسان حتى الى حافة الموت، و لكن لا معنى لان تختص، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية و القبلية الشديدة بفرد واحد، و شخص خاص معيّن من

أفراد العائلة و القبيلة، في حين نجد «أبا طالب» قد قام بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد، و فرد معين (أي النبيّ)، و لا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء «عبد المطلب» و «هاشم» و أحفادهما و من ينتمي إليهم بوشيجة القربى و رابطة الرحم.

(2)

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

و على هذا الأساس فانّ المحرّك و الدافع الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمرا ماديا و لا الجاه و المنصب، أو التعصب القومي، و العائلي، بل كان أمرا معنويا و أن ضغوطا العدوّ و قوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية و ذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعتبر «محمّدا» مظهرا كاملا للفضيلة و الانسانية، و يعتبر دينه أفضل برنامج

سيد المرسلين ،ج 1،ص:521

للسعادة، و حيث أنه كان يحبّ الحقيقة، و يعشق الكمال و الحقّ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق و الحقيقة، و ينصرهما بكل وجوده، و بكل قواه.

(1) و هذا المعنى هو المستفاد من قصائد «أبي طالب» و أشعاره، فهو يصرح بأن «محمّدا» رسول كموسى و عيسى إذ يقول:

ليعلم خيار النّاس أنّ محمّدانبيّا كموسى و المسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به فكلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم «1» و يقول في قصيدة اخرى:

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب «2» هذا و تعتبر ابياته التي سبق أن أشرنا إليها و المئات من أمثالها مما جاء ذكره في ديوان أبي طالب، و في ثنايا التاريخ و التفسير و الحديث شواهد حيّة و قوية على أن محرك «أبي طالب» الواقعي و دافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله كان هو اعتقاده الخالص، و اسلامه الواقعي و لم يكن له أي دافع آخر سوى الايمان و العقيدة.

و نحن هنا نكشف النقاب عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته بعد اضطلاعه بعب ء الرسالة، و نترك لك أيها القاري بأن تدقّق في مثل هذه المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك: هل تنبع مثل هذه التضحية، و مثل هذا التفاني، و الفداء إلّا من الايمان و الاعتقاد؟؟

(2)

لمحات من تضحيات أبي طالب

اجتمع أسياد قريش و اشرافها في بيت أبي طالب و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاضر، و تبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 37، الحجّة: ص 56- 57، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 623 و 624.

(2) مجمع البيان: ج 7 ص 36، و قد نقل ابن هشام في السيرة النبوية: ج 1 ص 352 و 353 خمسة عشر بيتا من هذه القصيدة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:522

و دينه و ما خلق من مشكلات في مكة، و حاول القرشيون اثناء النبيّ عن دعوته و عمله و لكن دون جدوى فلما يئسوا من الحصول على النتيجة التي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت «أبي طالب»، قال «عاقبة ابن أبي معيط» غاضبا مهددا: لا نعود إليه أبدا، و ما خير من أن نغتال محمّدا!!

(1) فغضب «أبو طالب» من هذه الكلمة، و لكنه ما ذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه، و في بيته.

و اتفق أن خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البيت في ذلك اليوم و لم يعد، و جاء «أبو طالب» و عمومته الى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانا من بني هاشم

و بني المطلب، ثم قال- و هو يظن ان قريشا كادت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم، فليجلس الى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية- يعنى أبا جهل- فانه لم يغب عن شر ان كان محمّد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفا.

فقال أبو طالب: لا ادخل بيتي أبدا حتى أراه.

(2) فخرج زيد سريعا حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في بيت عند الصفا و معه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي: اين كنت؟ أ كنت في خير؟ قال: نعم، قال:

ادخل بيتك، فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخذ بيده فوقف على اندية قريش و معه الفتيان الهاشميون و المطلبيون فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟

قالوا: لا، فاخبرهم الخبر، و قال للفتيان اكشفوا عما في ايديكم، فكشفوا، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال: و اللّه لو قتلتموه ما بقيت منكم أحدا حتى نتفانى نحن و انتم، فانكسر القوم و كان اشدّهم انكسارا أبو جهل «1»

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 168، الطرائف: ص 85.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:523

(1) لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات و غيرها من تاريخ «أبي طالب»، و درست حياته لرأيت كيف ان «أبا طالب» ظلّ طوال اثنين و أربعين

سنة بأيامها و لياليها يحدب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يدافع عنه، و يحاميه، و بخاصة في السنوات العشر الاخيرة من حياته التي صادفت بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعوته، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحرص على حياته، و حماية هدفه اكثر مما يتصور.

و لقد كان العامل الوحيد الذي دفعه الى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو: عمق الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قوة الاعتقاد الخالص برسالته.

و لو أننا ضممنا إلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز «عليّ» لأدركنا مغزى البيتين اللذين انشدهما «ابن ابي الحديد» المعتزلي الشافعي إذ قال:

و لو لا أبو طالب و ابنه لما مثل الدّين شخصا و قاما

فذاك بمكّة آوى و حامى و هذا بيثرب جسّ الحماما «1»

(2)

قضيّة ذات بواعث سياسيّة:

ليس من ريب في أنه لو ثبت عشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على اسلام «أبي طالب» و إيمانه بالرسالة المحمّدية، لغيره ممّن هو بعيد عن قضايا السياسة، و خارج عن دائرة الحقد و البغض لا تفق الجميع سنة و شيعة على إسلامه و إيمانه، و لكن كيف ذهب فريق الى تكفير «أبي طالب» مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتى أنّ فريقا من الكتاب ذهب إلى ان بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه.

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 84 يقول ابن أبي الحديد: صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في اسلام أبي طالب، و بعثه إليّ، و سألني ان اكتب عليه بخطي نظما او نثرا اشهد فيه بصحة ذلك، و بوثاقة الأدلة عليه (إلى ان قال)

فكتب على ظاهر المجلد هذه الابيات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:524

(1) بينما توقّف في هذا الأمر، و ذهب أفراد معدودون من علماء السنة الى الحكم باسلامه و ايمانه، و منهم «زيني دحلان» مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.

و لكن الانصاف هو ان يقال: أن الهدف من طرح هذه المسألة و التوقف في ايمان «أبي طالب» أو تكفيره لم يكن إلّا الطعن في أبنائه، و بخاصة أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام.

و لقد جرّ بعض كتّاب السنّة- لتبرير تكفير أبي طالب- هذه المسألة الى غير ابي طالب و وسع دائرة التكفير هذه حتى شملت آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا حيث ذهب إلى أن أبوي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ماتا كافرين أيضا.

و نحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مخالف لاجماع الامامية و الزيدية، و كذا جماعة من علماء السنة، و محقّقيهم، إنما الكلام هو حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الوحيد و المدافع عنه بلا منازع.

(2)

الأدلّة على إيمان أبي طالب
اشارة

إن التعرّف على عقيدة أحد، و معرفة نمط تفكيره، يمكن عن ثلاث طرق هي:

1- دراسة ما ترك من آثار علميّة و أدبية.

2- اسلوب عمله، و تصرفاته في المجتمع.

3- رأي أقربائه، و أصدقائه غير المغرضين فيه.

و نحن نستطيع أن نتعرّف على إيمان «أبي طالب» و عقيدته من خلال هذه الطرق.

فان أشعار «أبي طالب» تدل بجلاء لا لبس فيه على ايمانه و إخلاصه، و كذا تكون خدماته القيامة في السنوات العشر الاخيرة من عمره شاهدا قويا على إيمانه العميق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:525

كما و أنّ رأي أقربائه المنصفين متفق على أنّ «أبا طالب» كان مسلما مؤمنا و

لم يقل أحد من أقربائه، في حقه بغير هذا أبدا.

و إليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل:

(1)

1- آثار أبي طالب العلميّة و الأدبية

نحن نختار هنا من بين قصائد «أبي طالب» المطوّلة، بعض الأبيات التي تثبت ايمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اعتقاده بالاسلام، في غير ابهام.

1-

ليعلم خيار النّاس أنّ محمّدانبيّ كموسى و المسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به فكلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم «1» 2-

تمنيتمو أن تقتلوه و إنّماأمانيّكم هذي كأحلام نائم

نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه و من قال لا يقرع بها سنّ نادم «2» 3-

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدارسولا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و أنّ عليه في العباد محبةو لا حيف في من خصّه اللّه بالحبّ «3» 4-

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتّى اوسّد في التّراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةو ابشر بذاك و قرّ منك عيونا

و دعوتني و علمت أنّك ناصح و لقد دعوت و كنت ثمّ أمينا

و لقد علمت بأن دين محمّدمن خير أديان البرّية بنا «4» 5-

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب على نبيّ كموسى أو كذي النون «5» 6-

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا و لا يعني بقول الأباطل

فايّده ربّ العباد بنصره و اظهر دينا حقّه غير باطل «6»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 37، الحجة: ص 57، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 623.

(2) ديوان أبي طالب: ص 32، السيرة النبوية: ج 1 ص 353.

(3) ديوان أبي طالب: ص 32، السيرة النبوية: ج 1 ص 353.

(4) تاريخ ابن كثير: ج 3 ص 42.

(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 74، ديوان أبي طالب: ص 173.

(6) السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:526

إن كلّ واحدة

من هذه المقطوعات الشعريّة التي تشكل قسما صغيرا من قصائد مفصّلة لأبي طالب، تشهد بايمانه بدين ابن اخيه «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و خلاصة القول: أنّ بيتا واحدا من هذه الأبيات كاف في اثبات ايمان صاحبها و قائلها، و لو أنّ أحدا قالها و هو خارج عن فلك الصراعات السياسية، و بعيد عن دوائر التعصبات و الأغراض لحكم الجميع- بالاتفاق- باسلام قائلها و ايمانه الخالص العميق.

و لكن لما كان «أبو طالب» هو قائلها، و كانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية و العباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل «أبي طالب» من هنا أبى فريق من الناس أن يثبتوا مثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام.

هذا من جانب.

و من جانب آخر فانّ أبا طالب والد «علي» الذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام، و تستغل كل الوسائل للحط من شأنه، كان إسلام أبيه و إيمانه بالرسالة المحمدية يعدّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أن كفر آباء الخلفاء و شركهم يعدّ مثلبة توجب الحط من شأنهم، و قيمتهم.

و على كل حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلّ هذه الأشعار و الأقوال، و المواقف الصادقة، بل لم يكتفوا بذلك، فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره، و شركه!!!

(2)

الطريق الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب

إنّ الطريق الثاني للبرهنة و التدليل على إيمان «أبي طالب» هو مواقفه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كيفية دفاعه و ذبه عنه و حمايته له، و حدبه عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.

ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها ان تكون المرآة الصادقة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:527

التي

تعكس فكر «أبي طالب» و عقيدته و ما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة و الرسول، و اخلاص للّه تعالى.

لقد كان «أبو طالب» هو ذلكم الشخصية التي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة، و اصطحبه معه الى الشام في الرحلة التجارية التي سبق ذكرها، رغم الموانع الكثيرة، و فقدان الوسائل اللازمة، و رغم ما ترتب على اصطحابه معه من متاعب.

(1) إن ايمانه بابن أخيه كان عميقا إلى درجة أنه أخذه الى المصلّى و استسقى به، مقسما به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه، و يرسل رحمته عليهم، فيستجيب اللّه دعاءه، و ينزل عليهم غيثا وافرا ممرعا، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.

إنه ذلك الرجل الذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحظة واحدة، فهو الذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي و الاجتماعي الصعب، مؤثرا العيش في الشعب و في شغاف الجبال و الوديان القاحلة على زعامة قريش، و رئاسة مكة الى ان أعيته تلك المحن و المتاعب ففقد بذلك صحته، و انحرف بذلك مزاجه، و توفّي متأثرا بتلك المتاعب و المصاعب، و المشاق و المحن بعد نقض الصحيفة، و انتهاء الحصار، و العودة إلى المنازل بأيام معدودة!!

لقد كان إيمان «أبي طالب» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قويا و راسخا الى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل و الاغتيال ليبقى «محمّد» و لا يمسّه من أعدائه أيّ سوء، فكان يضجع ولده عليا في موضعه، حتى إذا أرادوا اغتياله لا يصيبه شي ء و هذا يعني أنه كان يقيه بنفسه و بأولاده.

و فوق هذا كلّه

استعدّ في يوم من الأيام لأن يقتل كل زعماء قريش و أسيادها انتقاما لمحمّد، و كان من الطبيعي أن يقتل في هذه العملية بنو هاشم كلّهم أيضا «1».

______________________________

(1) راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:528

(1)

وصية أبي طالب عند وفاته

و عند وفاته قال لأولاده:

«اوصيكم بمحمّد خيرا فانّه الأمين في قريش و هو الجامع لكلّ ما اوصيكم به، و قد جاء بأمر قبله الجنان، و انكره اللسان مخافة الشنئان، و أيم اللّه لكأنّي انظر الى صعاليك العرب، و أهل البرّ في الاطراف، و المستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، و صدّقوا كلمته، و عظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش و صناديدها أذنابا، و دورها خرابا، و ضعفاؤها أربابا، و اذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، و أبعدهم منه أحظاهم عنده ..».

(2) ثم ختم وصيته هذه بقوله:

يا معشر قريش كونوا له ولاة، و لحزبه حماة، و اللّه لا يسلك أحد منكم سبيله الارشد، و لا يأخذ أحد بهديه الّا سعد «1».

نحن لا نشك في أن «أبا طالب» كان صادقا في امنيّته هذه لأن خدماته الكبرى و تضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله، كما كان صادقا في الوعد الذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عند ما جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعمامه و عشيرته الأقربين و دعاهم الى الاسلام فقال له أبو طالب:

«اخرج يا ابن أخي فانّك الرفيع كعبا، و المنيع حزبا، و الأعلى أبا.

و اللّه لا يسلقك لسان الا سلقته ألسن حداد، و اجتذبته سيوف حداد.

و اللّه لتذلنّ لك العرب ذلّ البهم لحاضنها» «2».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 351 و 352.

(2) الطرائف تأليف

السيد ابن طاوس: ص 85 نقلا عن كتاب غاية السئول في مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:529

[3- شهادات أقرباء أبي طالب من أهل البيت]

(1) آخر الطرق لاثبات ايمان أبي طالب و يحسن بنا أخيرا ان نسأل عن أبي طالب و عن ايمانه و اخلاصه، اقاربه غير المغرضين لأن «أهل البيت ادرى بما في البيت».

(2) 1- لما مات أبو طالب جاء عليّ عليه السلام الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاذنه بموته، فتوجع توجعا عظيما، و حزن حزنا شديدا، ثم قال له امض فتولّ غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو محمول على رءوس الرجال: قال: «وصلتك رحم يا عم، و جزيت خيرا فلقد ربّيت و كفلت صغيرا، و نصرت و آزرت كبيرا».

ثم تبعه الى حضرته، فوقف عليه فقال:

«أما و اللّه لاستغفرنّ لك، و لأشفعنّ فيك شفاعة يعجب لها الثقلان» «1».

(3) 2- روي ان علي بن الحسين عليهما السلام سئل عن ايمان أبي طالب. فقال:

«وا عجبا! ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر، و قد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الاسلام، و لم تزل تحت أبي طالب حتّى مات» «2».

(4) 3- روي عن علي بن محمّد الباقر عليهما السلام أنه قال:

«لو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان، و إيمان هذا الخلق في الكفّة الاخرى لرجح إيمانه».

ثم قال:

«أ لم تعلموا أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد اللّه و أبيه» «3».

(5) 4- قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام:

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 76.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي

الحديد: ج 14 ص 69.

(3) المصدر السابق: ص 68.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:530

«إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان، و أظهروا الشرك فاتاهم اللّه اجرهم مرّتين، و أن أبا طالب أسرّ الإيمان، و أظهر الشرك، فاتاه اللّه أجره مرّتين» «1».

(1)

رأي علماء الشيعة في أبي طالب

و لقد اتفق علماء الاماميّة و الزيديّة تبعا لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على: أن «أبا طالب» كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يخرج من الدنيا إلّا بقلب يفيض إيمانا بالاسلام، و إخلاصا للّه تعالى، و حبّا للمسلمين، و قد الّفت في هذا المجال كتب و رسائل، و دراسات عديدة، يمكن الوقوف عليها لمن اراد و لمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ص 402- 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف، أو ج 7 ص 330- 409 طبعة لبنان.

نظرة إلى حديث «الضحضاح»
اشارة

و استكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري «2»، و مسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري، عبد الملك بن عمير، عبد العزيز بن محمّد الدراوردي حديثا نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال عن أبي طالب رحمه اللّه:

«وجدته في غمرات من النّار فأخرجته إلى ضحضاح».

«لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه» «3».

إنّ هذه الرواية و ان كانت تكذبها عشرات الأحاديث و الروايات الاسلامية،

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 1 ص 448.

(2) صحيح البخاري: ج 1 ص 33 و 34 من ابواب المناقب.

(3) صحيح المسلم: كتاب الايمان.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:531

و الدلائل القاطعة الساطعة، و تثبت بطلانها و تفاهتها، و لكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

1- ضعف أسناد هذه الرواية
اشارة

إنّ رواة هذه الرواية- كما اسلفنا- هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري و عبد الملك بن عمير و عبد العزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحدا واحدا- في ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند اهل السنة- عنهم:

الف: سفيان بن سعيد الثوري

قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي- و هو من علماء الرجال عند اهل السنة- في سفيان الثوري: كان يدلّس عن الضعفاء «1».

إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، و على روايته عن الضعفاء أو المجهولين، و هو وصف يسقطه عن درجة الاعتبار.

باء: عبد الملك بن عمير

قال عنه الذهبيّ المذكور: طال عمره و ساء حفظه قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر حفظه، و قال أحمد: ضعيف يغلط، و قال ابن معين: مخلط و قال ابن خراش:

كان شعبة لا يرضاه، و ذكر الكوسج عن احمد بن حنبل: انه ضعيف جدا «2»

فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان عبد الملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه:

1- سيئ الحفظ.

2- ضعيف.

3- كثير الغلط.

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: ج 2 ص 169.

(2) المصدر السابق ج 2 ص 660.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:532

4- مخلط.

و من الواضح ان كل واحدة من الصفات و الحالات المذكورة كافية لأن تبطل الأحاديث التي يرويها عبد الملك بن عمير، و الحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.

جيم: عبد العزيز بن محمد الدراوردي

و لقد وصفه علماء الرجال عند اهل السنة بالنسيان، و قلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.

فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل «1».

و قال أبو حاتم عنه: لا يحتجّ به «2».

و قال أبو زرعة أيضا: سيئ الحفظ «3». و من مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، الى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

2- نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب و السنة
اشارة

لقد نسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح و بهذا خفّف عنه العذاب، أو أنه صلّى اللّه عليه و آله تمنى أن يشفع له، فيخفّف اللّه عنه العذاب، على حين نفى القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما و نفيا شفاعة احد في حقهم.

و على هذا الاساس فلو كان ابو طالب كافرا، لم يجز للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يخفف عنه العذاب او يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء.

و بهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.

و إليك فيما يأتي ادلة ما قلناه من الكتاب و السنة:

______________________________

(1) المصدر السابق ص 634.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:533

الف: القرآن الكريم

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» «1».

ب: السنة النبوية

ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضا الشفاعة للكفار، و نذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث:

1- روى أبو ذر الغفاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«اعطيت الشفاعة و هي نائلة من امتي من لا يشرك باللّه شيئا» «2».

2- روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«و شفاعتي لمن شهد أن لا إله الا اللّه مخلصا، و أنّ محمّدا رسول اللّه يصدّق لسانه قلبه، و قلبه لسانه» «3».

إن الآيات و الروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافرا.

و نتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند و الطريق، و لا من جهة المتن و النص، و لا يمكن الاستدلال به.

و بهذا ينهار أقوى حصن يتمسك به البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم.

______________________________

(1) فاطر: 36.

(2) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 433.

(3) المصدر السابق: ص 437.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:535

(1) (2)

22- المعراج في نظر القرآن و السنة و التاريخ

اشارة

كان الليل يخيم على الافق، و يسود الظلام على كان مكان.

فقد حان الأوان لان ترقد جميع الاحياء في مساكنها، و تستريح في جحورها و أعشاشها، و تغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط و الحركة و السعي.

فذلك قانون الطبيعة في كلّ ليل و نهار.

و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.

فهو صلّى اللّه عليه و آله مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضا.

و لكنه فجأة سمع صوتا مألوفا مأنوسا له، و كان ذلك هو صوت أمين الوحي «جبرئيل» و هو يخبره

بأن أمامه الليلة سفرا بعيدا و رحلة طويلة، و انه سيرافقه في هذه الرحلة الى مختلف نقاط الكون، و سيسافر على متن دابة فضائية تدعى «البراق».

(3) لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب «1» «أم هاني»، و توجه على متن تلك الدابة إلى «بيت

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 395 و 396، السيرة النبويّة: ج 1 ص 396- 402.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:536

المقدس» في الأردن و فلسطين و الذي يسمى «المسجد الأقصى» أيضا، و هبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جدا، و زار مواضع عديدة من ذلك المسجد، و تفقّد «بيت لحم» مسقط رأس «السيد المسيح» و منازل الأنبياء و آثارهم و محاريبهم، و صلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.

(1) ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى، و شاهد النجوم و الكواكب، و اطّلع على نظام العالم العلوي، و تحدث مع ارواح الأنبياء، و الملائكة السماويين، و اطّلع على مراكز الرحمة و العذاب (الجنة و النار) «1» و رأى درجات أهل الجنة، و أشباح أهل النار عن كثب، و بالتالي تعرف على أسرار الوجود، و رموز الطبيعة، و وقف على سعة الكون، و آثار القدرة الالهيّة المطلقة، ثم واصل رحلته حتى بلغ إلى سدرة المنتهى «2»، فوجدها مسربلة بالعظمة المتناهية و الجلال العظيم و عندها انتهى برنامج رحلته صلّى اللّه عليه و آله، فامر بأن يعود من حيث أتى، فعاد صلّى اللّه عليه و آله و مرّ في عودته على بيت المقدس ثانية، ثم توجّه منه الى «مكة»، و مرّ خلال الطريق على

قافلة تجارية لقريش و قد ضلّ بعير لهم في البيداء و كانوا يبحثون عنه، ثم وجد في رحلهم قعبا مملوء من الماء فشرب منه و صبّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. و ترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت «أم هاني» قبيل طلوع الفجر، و أخبرها بالخبر قبل أي أحد، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.

(2) فاستبعد السامعون قصة المعراج و الحركة السريعة هذه، و اعتبروه أمرا محالا و انكرته، و فشا هذا الخبر في جميع الأوساط و غضب بسببه أشراف قريش و ساداتهم اكثر من غيرهم.

و كعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة و قالوا: هذا و اللّه الأمر البيّن

______________________________

(1) مجمع البيان: سورة الاسراء ج 6 ص 395.

(2) لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:537

(العجيب المنكر) و اللّه إن العير لتطّرد شهرا من مكة الى الشام مدبرة، و شهرا مقبلة، أ فيذهب ذلك «محمّد» في ليلة واحدة؟

(1) و قالوا: إن صدقت فصف لنا بيت المقدس، فإن فينا من شاهده.

فلم يصف لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به و فعله و رآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى «مكّة» و قال: و آية ذلك أنّي مررت على بعير بني فلان بوادي كذا و كذا، و قد ضلّ لهم بعير و قد همّوا في طلبه، و شربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء و ثم غطّيت عليها كما كان، ثم مررت على بعير فلان و قد نفّرت لهم ناقة و انكسرت يدها.

فقالت قريش: أخبرنا عن عير قريش.

فقال صلّى اللّه عليه و

آله: إنّها الآن في التنعيم (و هو مبدأ الحرم) يتقدمها جمل أورق (أبيض مائل الى السواد) عليه غرارتان و ستدخل الآن مكة.

فغضبت قريش من هذه الأخبار القاطعة و قالت: سنعلمنّ الآن صدقه أو كذبه.

ثم لم تمض لحظات إلّا و طلعت العير عليهم، و حدّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ضياع بعير لهم في الطريق و همّهم في طلبه، و أنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه و لما رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه و لكن لم يجدوا فيه ماء.

هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير، و التاريخ، و الحديث حول المعراج.

و إذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلّا أن يراجع بحار الأنوار باب «المعراج» «1».

(2)

هل للمعراج جذور قرآنية؟

لقد جاء ذكر «المعراج» النبوي و سيرة العجيب صلّى اللّه عليه و آله في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 283- 410.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:538

العالم العلوي، و الفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح و صريح كما و اشير إليها في سور اخرى أيضا.

و نحن نكتفي هنا باستعراض الآيات التي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة، و نقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة فيها:

يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «1».

(1) و يستفاد من ظاهر هذه الآية امور:

(2) 1- لكي نعلم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يطو تلك المسافات، و لم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية، بل تسنى له كل ذلك بقوة غيبيّة، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة

في زمن قصير جدا بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله: «سبحان الّذي» و هو اشارة الى تنزيه اللّه عن كلّ نقص و عيب.

و لم يكتف بذلك بل وصف نفسه بوضوح بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة و المسيّر فيها اذ قال: «أسرى» أي إنّ اللّه تعالى هو الذي سرى برسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أخذه إلى تلك الرحلة.

و هذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية، و حسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها، إنما تحققت بقدرة اللّه و عنايته الربوبية الخاصة.

(3) 2- إن هذه الرحلة تحققت برمّتها خلال الليل، و يستفاد هذا المطلب- علاوة على كلمة ليلا- من كلمة «أسرى» أيضا لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا.

(4) 3- مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «أمّ هاني» ابنة أبي طالب، فإن الآية صرّحت بأنها تمّت من المسجد الحرام، و لعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر

______________________________

(1) الاسراء: 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:539

كل مكة حرما إلهيا، و من هنا كان كل مكان من مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم و المسجد الحرام، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، و مكّة و الحرم كلها مسجد، فصحّ أن يقول: «من المسجد الحرام».

و تذهب بعض الروايات إلى أنّ المعراج كان من نفس المسجد الحرام.

ثم إنّ هذه الآية و ان كانت تصرّح بأنّ المعراج بدأ من «المسجد الحرام» و انتهى ب: «المسجد الأقصى» إلّا أن ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله رحلة اخرى إلى العالم العلوي لأنّ هذه الآية تبيّن فقط قسما من هذه الرحلة، و أما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع

سورة: «النجم».

(1) 4- إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرج بجسمه و روحه معا، لا بالروح فقط.

و يدلّ على ذلك قوله تعالى «بعبده» الذي يستعمل في «الجسم و الروح معا» و لو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول: «بروحه».

(2) 5- إنّ الغرض من هذا السير العظيم و هذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على مراتب الوجود، و اطلاعه على الكون العظيم، و هذا ما سنشرحه فيما بعد.

و أما السورة الاخرى التي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح و صراحة هي سورة: «النجم».

و الآيات التي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما قال لقريش: «رأيت جبرئيل أوّل ما اوحي إليّ على صورته التي خلق عليها» جادلته قريش في ذلك، فنزلت الآيات التالية تجيب على اعتراضهم:

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» «1».

______________________________

(1) النجم: 12- 18.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:540

(1)

أحاديث المعراج:

روى المفسرون و المحدّثون أخبارا و روايات كثيرة حول معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما شاهده في هذه الرحلة العظيمة، ليست برمتها صحيحة مسلّمة مقطوعا بها.

و لقد قسّم المفسر الشيعي الكبير المرحوم «العلامة الطبرسيّ» هذه الاخبار إلى أصناف أربعة اذ قال:

(2) و تنقسم جملتها إلى أربعة اوجه:

(3) أحدها: ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به، و احاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج.

(4) و ثانيها: ما ورد في ذلك مما تجوّزه العقول و لا تأباه الأصول مثل طوافه في السماء و رؤيته أرواح الأنبياء و تحدّثه

معهم و رؤيته للجنة و النار، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته، دون منامه.

(5) و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول، إلّا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق و الدليل. مثل أنّه رأى أهل الجنة و أهل النار و تحدّث معهما الذي يجب أن يؤوّل فيحمل على انه: رأى أشباحهم و صورهم و صفاتهم.

(6) و رابعها: ما لا يصح ظاهره و لا يمكن تأويله، و هي ما الصق و الحق بهذه الحادثة من الأساطير و الخرافات، مثل ما روي من أنه صلّى اللّه عليه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه و قعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه، و نحو ذلك ممّا ممّا يوجب ظاهره التشبيه و التجسيم و اللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه، فالأولى أن لا نقبله «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 395.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:541

(1)

متى وقعت هذه الحادثة؟

مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات، إلّا أنها تعرضت للاختلاف- مع ذلك- من بعض الجهات و منها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان: «ابن اسحاق» و «ابن هشام» أنها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

و ذهب المؤرخ الكبير «البيهقي» إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

و ذهب آخرون إلى أنها وقعت في أوائل البعثة، بينما قال فريق رابع: أنها وقعت في أواسطها.

و ربّما يقال في الجمع بين هذه الأقوال: أنه كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معارج متعددة.

و لكنّنا نعتقد أنّ المعراج الذي فرضت فيه الصلاة وقعت بعد وفاة أبي طالب عليه السلام في السنة العاشرة

قطعا.

لأنّ من مسلّمات الحديث و التاريخ أن اللّه تعالى أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج أن تصلّي أمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ يوم و ليلة خمس صلوات.

(2) كما أنه يستفاد من ثنايا التاريخ أيضا أن الصلاة لم تفرض ما دام أبو طالب عليه السلام على قيد الحياة بل فرضت بعد وفاته، لأنّه حضر عنده- ساعة وفاته- سراة قريش و أسيادها، و طلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه «محمّد» و يمنعه من فعله، فيعطونه- في قبال ذلك- ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك المجلس: نعم كلمة واحدة تعطونيها: «تقولون لا إله إلّا اللّه و تخلعون ما تعبدون من دونه» «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 417.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:542

(1) لقد طلب منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا الأمر و لم يطلب منهم شيئا آخر كالصلاة و غيرها من الفروع أبدا، و هذا هو بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتى ذلك اليوم، و إلّا كان الإيمان المجرّد عن العمل، و الصلاة مفروضة، لا فائدة فيه.

و أما أنه لم يذكر شيئا عن نبوّته و رسالته فلأنّ الاعتراف بوحدانية اللّه بأمره و طلبه صلّى اللّه عليه و آله اعتراف ضمنيّ برسالته و نبوّته، و في الحقيقة انّ التلفّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين و اقرارين: الإقرار باللّه الواحد، و الإقرار بنبوّة رسول الاسلام.

(2) هذا مضافا إلى أن كتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل «الطفيل بن عمرو الدوسي» الذي أسلم قبل الهجرة «1» بأعوام اكتفى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالشهادتين، و لم يجر اي حديث

عن الصلاة ابدا.

ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه الحادثة (المعراج) التي فرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

و الذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيرا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان محصورا في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة و حتى السنة العاشرة، و لم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد (مثل الصلاة) عليهم.

(3) و أما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين و التي كانت هي بنفسها مانعا من فرض الصلاة على المسلمين، كان المسلمون قلة معدودين، و لم يكن نور الايمان، و اصول الاسلام، قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد، و لذلك يكون من المستبعد أن يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

و أمّا ما ورد في بعض الأخبار و الروايات من ان الإمام عليا عليه السلام

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 383.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:543

صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات، و استمر على ذلك بعدها أيضا فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت، المشروطة بشروط خاصة، بل كانت تلك الصلوات عبارة عن عبادة خاصة غير محدودة «1»، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة و العبادات غير الواجبة.

(1)

هل كان المعراج جسمانيا؟

لقد وقع النقاش و الكلام في كيفية معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنه كان روحانيا أو جسمانيا و روحانيا معا، و قيل في ذلك كلام كثير.

و مع أن القرآن الكريم و الأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلّى اللّه عليه و آله كان جسمانيا «2»، فقد اوردت في المقام بعض الإشكالات و الاعتراضات التي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة، و بالتالي

دفعتهم الى ارتكاب التأويل، و الزعم بأن معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان روحانيا، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء: ان روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي التي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى!!

و ذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات و القضايا تمّت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عالم الرؤيا، فكل ما رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو فعله من الطواف و اللقاء و الصلاة كانت رؤيا و رؤيا الأنبياء صادقة!!

(2) على أن أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال و النظريات أبدا، لأنّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء و الصلاة و الاذان يراجع الكافي: ج 3 ص 482- 489.

(2) لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعىّ المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع: ج 6 ص 395.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:544

اللّه عليه و آله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة الطويلة البعيدة، و طاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدة و هبّت لتكذيبه حقيقة، الى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش و اوساطها آنذاك.

و لو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المنام و الرؤيا لما كان لتكذيب قريش و انزعاجها و استنكارها معنى، اذ لا موجب للنزاع لو كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّي فعلت تلك الامور، و رأيت كل تلك المشاهد في

الرؤيا و المنام، اذ هو على كل حال رؤيا، و كل شي ء- حتى الامور المحالة او المستبعدة جدا- ممكن في عالم الرؤيا.

و من هنا لا قيمة للقول الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا.

و لكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريين (مثل فريد وجدي) هذا الرأي و سعى في تقويته و تبريره، و نحن نحبذ ان نتركه، و ان لا نناقش فيه «1».

(1)

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟
اشارة

لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع و حلّ بعض الاعتراضات و الاشكالات الواردة على المعراج الجسماني، إلى تأويل الآيات و الأحاديث، و اعتبر المعراج النبوي معراجا روحانيا، لا غير.

و المقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه و مصنوعاته، و مشاهدة جلاله و جماله و الاستغراق في ذكر الحق، و التفكر فيه، و بالتالي التخلص من القيود و الاغلال المادية، و العلائق الدنيوية، و العبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية و القلبية التي يحصل بعد طيّها نوع من القرب الخاص الذي لا يمكن وصفه.

(2) فاذا كان المراد من (المعراج الروحانيّ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين: ج 6 ص 329 مادة عرج.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:545

الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من مختصات رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بل كان أكثر الأنبياء، و كثير من الأولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة، على حين أن القرآن الكريم يعتبر (المعراج) من خصائص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به صلّى اللّه عليه و آله.

هذا مضافا الى ان مثل هذه الحالة (اعني التفكر في عظمة الخالق و الاستغراق في التوجه الى الحق) كانت

تتكرر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كل ليلة «1»، و الحال ان (المعراج) الذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيّنة.

(1) إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل هذا الموقف من (المعراج)، و آل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف «بطلميوس» التي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق و الغرب طيلة ألفي سنة بالكامل، و التي الّف حولها مئات الكتب، و كانت تعدّ حتى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية و هي على نحو الاجمال كالتالي:

(2) إن الاجسام في هذا العالم على نوعين: أجسام عنصرية، و اجسام فلكية.

و الجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة: «الماء، و التراب، و الهواء، و النار».

و أوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب و هي مركز العالم، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء، و تأتي بعد كل هذه الثلاثة كرة النار، و كل من هذه الكرات محيطة بالاخرى، و هنا (اي و عند كرة النار) تنتهي الكرات، و تبدأ الاجسام الفلكية.

(3) و المقصود من الأجسام الفلكيّة هي الافلاك التسعة التي تقع الواحدة فوق الاخرى و تحيط الواحدة بالاخرى على هيئة قشور البصل، و هي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها و هي غير قابلة للاختراق و الالتئام (اي الشق

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة: ج 7 كتاب صوم الوصال، ص 388 قال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لست كأحدكم، أني اظل عند ربّي فيطعمني و يسقيني».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:546

و الالتحام) و الفصل و الوصل و لا يستطيع أيّ شي ء من اختراقها و التحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزما لأن ينطلق النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله من مركز العالم و يصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابرا الكرات العنصرية الأربع، و مخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس و فرضيّته الفلكية.

و على هذا لا مناص من أن نعتقد بأن المعراج النبويّ كان معراجا روحانيا، اي ان روحه صلّى اللّه عليه و آله هي التي عرجت حتى لا يمنع أيّ جسم من عبورها و سيرها و صعودها الى النقطة المطلوبة و الغاية المرسومة.

(1)

الجواب:

ان هذا الكلام كان مقبولا و ذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس و فرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط العلمية و كان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية، و تأويل صريح القرآن و نصوص الروايات.

أما الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها، و ظهر للجميع بطلانها، و لم يعد أحد يتحدث عنها، إلّا من باب ما يسمى بتاريخ العلوم.

فاليوم و بالنظر الى كل هذه الأجهزة الفلكية و الآلات الفضائية الدقيقة، و التلسكوبات العملاقة، و هبوط المركبات الفضائية المتعددة على سطح القمر و المريخ، و عملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

(2) فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة و الفلك المتّصل كقشرة البصل إلّا جزء من الاساطير.

فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية و أجهزة الرصد الدقيقة و العيون

سيد المرسلين ،ج 1،ص:547

المسلحة من رؤية، تلك العوالم التي حاكها و صنعها بطلميوس بقوة خياله، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة، و اعتبار.

(1)

نغمة شاذة:

و لقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية «1» «الشيخ احمد الاحسائي» في «الرسالة القطيفية» بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين (القائلين بروحانية المعراج النبوي و القائلين بجسمانيته) حيث قال:

ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرج ببدنه البرزخي (الهورقليائي) «2» ثم استدل لذلك بقوله:

ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة من المراتب المذكورة ما فيها، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من الهواء، و اذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها و اذا رجع أخذ

ماله من كرة النار، و اذا وصل الى كرة الهواء أخذ ماله من الهواء.

و من هنا فانّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما عرج الى السماء القى في كل كرة واحدا من تلك العناصر الأربعة في كرته، و عرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

و مثل هذا البدن لا يمكن ان يكون بدنا عنصريا، فليس هو الا البدن البرزخي (الذي أسماه الهورقليائي) لا غير «3».

______________________________

(1) لا شك أن هذه الفرقة و امثالها من الفرق المبتدعة هي من صنائع الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه، و من حسن الحظ أن انتشار الوعى بين أبناء الامة الإسلامية حدّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصبحت على ابواب الاندثار و الانقراض نهائيا.

(2) و هو البدن البرزخي الذي يشبه البدن الذي يفعل به الانسان الافعال المختلفة في عالم النوم و الرؤيا و يقوم بكل نوع من انواع النشاط.

(3) تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم التي طبعت عام 1273.

و مع هذا التصريح يدّعي البعض- للتستر على خطأ الشيخ و زلته هذه- بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان جسمانيا عنصريا، و أنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:548

و بهذا- حسب تصوّره- أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني، و في نفس الوقت تخلّص من اشكال «خرق الافلاك و التحامها» لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خرق و انفصال في جدار الفلك.

(1) و لكن هذه النظرية- كما هو واضح لكلّ عالم متحرّ للحقيقة، بعيد عن العصبية- واضحة البطلان كسابقتها (نظرية المعراج الروحاني)، فمضافا الى انها مخالفة للقرآن و ظاهر الأحاديث، لأنّه- كما أسلفنا- لو عرضنا آية المعراج

(من سورة الاسراء) على أيّ عارف باللغة، مهما كانت و طلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال: ان مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الذي عبّر عنه القرآن بلفظ العبد، في قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ»، و ليس الهورقليائي الذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ، و لا يعرف أمثاله في ذلك اليوم اساسا، في حين أنهم كانوا هم المخاطبون في آية المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم.

هذا مضافا الى أنّ ما دفع بالشيخ الى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ، و قد كذبها و فندها كل فلكييّ العالم اليوم، و أعلنوا عن سخافتها.

فلا يجوز لنا أن نقلّد تلك الفرضية تقليدا أعمى.

و اذا ما رأينا بعض القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسنا الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة و أمثالها امكن إعذارهم، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك.

اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العملية

(2)

المعراج و قوانين العلم الحديث:
اشارة

قد يتصور فريق من الناس أن القوانين الطبيعية و العلمية الحاضرة لا تتلاءم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:549

مع معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذلك لأنه:

(1) 1- يقول العلم الحديث: إنّ الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض، و بعبارة اخرى ابطال مفعولها.

فان (الكرة) التي نقذفها إلى الأعلى تعود مرة ثانية الى الأرض بفعل الجاذبية و مهما كرّرنا قذف الكرة الى الأعلى فانها تعود و ترجع الى الأرض أيضا.

فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة الى الأعلى الى الأرض ثانية بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف الى جعل

سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000/ 25 ميلا في الساعة.

و على هذا فان معنى المعراج هو ان يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد خرج من محيط جاذبية الأرض، و اصبح في حالة انعدام الوزن.

و لكن ينطرح هنا سؤال و هو: كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة، و هل البدن الطبيعي يتحمل مثل هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي و الوسائل اللازمة، التي تصون الجسم من التبعثر و الذوبان بفعل السرعة الفائقة.

(2) 2- إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيدا عن سطح الأرض، بمعنى اننا كلما ذهبنا صعدا إلى الطبقات العليا و ابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ، حتى يغدو غير قابل للاستنشاق، و ربما نصل اذا واصلنا الصعود إلى الأعلى الى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرة، فكيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد طي تلك المسافة الطويلة و البعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟! سيد المرسلين ج 1 549 المعراج و قوانين العلم الحديث: ..... ص : 548

3) 3- إنّ الاشعة الفضائية، و الاحجار السماوية و الشهب الكثيرة المتطائرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادته، و أفنته، و لكنها عند ما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى و تصبح كالبودر و لا تصل إلى الأرض، فيكون

سيد المرسلين ،ج 1،ص:550

الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

و مع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يصون نفسه من تلك الاشعة الفضائية، و الاحجار السماوية؟!

(1) 4- إذا قلّ ضغط

الهواء على جسم الانسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء، لا يوجد في الطبقات العليا من الجوّ، فكيف استطاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

(2) 5- إنّ سرعة الحركة التي سار بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة التي يسير بها النور و مع العلم بأنّ سرعة النور هي 000/ 30 كيلومترا في الثانية، و مع العلم أيضا أنه ثبت في العلم الحديث أنه لا يستطيع أيّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور، فكيف استطاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور، و مع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

(3)

جوابنا:

و جوابنا هو: أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات و الاشكالات ما ذكرناه آنفا.

و لكننا نقول في جواب هذا الفريق متسائلين: ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية.

هل تريدون القول بأن السير في العوالم العليا أمر غير ممكن، و ممتنع ذاتا و بالتالي أنه أمر محال.

فاننا نقول- حينئذ- في الجواب على ذلك بان الجهود و التحقيقات العلمية التي بذلها علماء الفضاء في الشرق و الغرب قد جعلت هذا الأمر- و لحسن الحظ- أمرا ممكنا، و عاديا، لأن مع اطلاق أوّل قمر اصطناعي عام (1957 م) الى السماء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:551

و الذي اسماه علماء الفضاء ب «اسپوتنيك» اتضح أنه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ، كما أن إرسال السفن الفضائيّة الحاملة الروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنّ ما كان يعدّه البشر مانعا

من الصعود الى الأعلى في الفضاء، قد أصبح قابلا لرفعه و إزالته، و التخلّص منه بيد العلم و التكنولوجيا.

(1) إن البشر استطاع بأدواته و آلاته العلمية و التكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب و النيازك المتطائرة في الجوّ و مشكلة الاشعة الفضائية، و مشكلة انعدام الغاز اللازم للتنفس و .. و .. و ها هو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ و ان العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة و العيش في إحدى الكرات السماوية و السفر إلى إحدى الكواكب كالقمر و المريخ بسهولة كبرى! «1»

إنّ هذه الأحداث العلمية و هذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهد قويّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مائة بالمائة، و ليس من الامور المستحيلة.

و اذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة و تكنولوجية، و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات و طاف

______________________________

(1) بعد اطلاق الاقمار و السفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل عام 1961 بدأ الضابط الروسي (27 سنة) جاجارين رحلته الفضائية في سفينة فضائية، و كان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية، و ابتعدت سفينته 302 كيلو مترا عن سطح الأرض، و دارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة و نصف.

و بعد ذلك أقدمت أمريكا و الاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزو القمر حتى حطّت «أپولو» الحاملة ل 11 رائدا فضائيا على سطح القمر لأوّل مرّة، و كان هذا أوّل

مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر.

و قد تكررت تجربة هذا البرمانج الفضائي فيما بعد مرات و مرات، و كانت ناجحة على الاغلب.

و كل هذه الجهود و النتائج تكشف عن أن هبوط الانسان على سطح الكرات و الكواكب أمر ممكن، و ما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته النافذة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:552

على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلة نقل من هذا القبيل؟!

(1) فاننا نقول في معرض الاجابة على اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث التي سبقت منا حول معاجز الأنبياء و خصوصا بحثنا المفصّل حول حادثة عام الفيل و هلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة، لأنه من المسلّم أنّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات و الآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعله بعناية اللّه تعالى، و إقداره و بدون الأسباب الظاهرية و الخارجية.

لقد عرج رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله الى السماء بعناية و باقدار اللّه الذي خلق الوجود كله، و أقام هذا النظام البديع برمته، فهو الذي أعطى للأرض جاذبيتها، و أعطى للشمس أشعتها و أوجد مختلف طبقات الهواء، و أنواع الغازات في الجوّ، و متى أراد أخذها و انتزاعها منها، أو كبح جماحها، و ردّ عاديتها.

(2) فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ العناية الإلهيّة فانّ من المسلّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة، و ارادته الغالبة، و هي طوع إرادته، و السماوات و الأرض مطويّات بيمينه و الجميع في قبضته و رهن اشارته دائما و أبدا، و في كل حين و أوان.

و على هذا فما ذا يمنع من أن يعمل اللّه الذي

منح للأرض جاذبيتها، و للأجرام السماوية أشعتها، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة و من دون الاسباب الظاهرية، من مركز الجاذبية الأرضيّة، و يصونه من أخطار الاشعة الكونية، و أن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات التي ينعدم فيها الهواء، و هذا هو معنى قولهم: «إنّ اللّه مسبّب الأسباب و معطّل الأسباب».

ان أمر المعجزة يختلف و يفترق أساسا عن أمر العلل الطبيعية و القدرة البشرية.

(3) و نحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة، فاذا كنّا لا نقدر

سيد المرسلين ،ج 1،ص:553

على شي ء من دون الأسباب لم يصح أن نقول: ان القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الاسباب الطبيعية أيضا.

إنّ إحياء الموتى، و قلب العصا إلى ثعبان، و إبقاء يونس حيّا في بطن الحوت، في قعر البحار، مما صدّقته جميع الكتب السماوية و نقلته إلينا لا تقلّ إشكالا و لا تختلف جوابا عن قصة المعراج النبوي.

و خلاصة القول: ان جميع العلل الطبيعية و الموانع الخارجية مسخّرة للّه تعالى خاضعة لارادته، مطيعة لأمره و ارادته يمكن تعلّقها بكلّ شي ء إلّا بالأمر المحال، و أما غير ذلك أي ما يكون ممكنا بالذات مهما كان، فانّه قابل لأن يتحقق في طل ارادة اللّه و مشيئته سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أن حديثنا هذا موجّه الى من آمن باللّه، و عرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى، و بالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شي ء.

(1)

الهدف من المعراج:

لقد بيّنت الأحاديث- بعد الآيات- الغرض من المعراج و إليك طائفة من هذه الأحاديث.

1- يقول ثابت بن دينار سألت الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن اللّه

جلّ جلاله هل يوصف بمكان فقال: «تعالى اللّه عن ذلك».

قلت: فلم أسرى بنبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى السماء؟

قال: «ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه».

2- و قال يونس بن عبد الرحمن قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام لأيّ علة عرج اللّه بنبيّه إلى السماء و منها إلى «سدرة المنتهى»، و منها إلى «حجب النور» و خاطبه و ناجاه هناك و اللّه لا يوصف بمكان؟ «1».

فقال عليه السلام: «إنّ اللّه لا يوصف بمكان و لا يجري عليه زمان، و لكنّه

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 55، البحار: ج 18 ص 347 و 348، تفسير البرهان: ج 2 ص 400.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:554

عز و جل أراد ان يشرّف به ملائكته، و سكان سماواته، و يكرّمهم بمشاهدته، و يريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، و ليس ذلك على ما يقوله المشبّهون سبحان اللّه تعالى عمّا يصفون» «1».

أجل يجب أن يكون لرسول الاسلام و خاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم و مثل هذه المنزلة السامقة، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين، و التي أصبحت تفكر في الهبوط على «المريخ» و «الزهرة» و غيرها من الانجم البعيدة:

بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة، و انّ ربّي قد منّ عليّ و عرّفني على نظام السماوات و الأرض، و أطلعني بقدرته و بعنايته على أسرار الوجود، و رموز الكون.

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 55، البحار: ج 18 ص 347 و 348، تفسير البرهان: ج 2 ص 400.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:555

(1)

23 سفرة إلى الطائف

اشارة

انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة و المرة، فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين

في سبيله، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب و سيدهم، و المدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الاسلامية، و الذابّ بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية، و الشخصية الاولى في قريش اعني «أبا طالب» عليه السلام.

و لم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد إلّا و فاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة، السيدة خديجة الكبرى التي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ و آلامه الروحية «1».

لقد حامي أبو طالب و دافع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حافظ على حياته و سلامته و مكانته، و بينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الاسلام و قدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك السنة بعام الحداد، او

______________________________

(1) جاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 301 انه قيل بأن «خديجة» توفيت بعد «أبي طالب» بشهر و خمسة أيام، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ص 63 الى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب، لا بعده.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:556

الحزن «1».

و منذ أن توفّى اللّه هذين الحاميين العظيمين و المدافعين القويين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ظروفا صعبة جدا قلما واجهها من قبل.

(1) فقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ حلول السنة الحادية عشر جوّا مفعما بالعداء له، و الحقد عليه، و صارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة، و قد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة و كل امكانات الدعوة الى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد: ان «خديجة بنت خويلد» و «أبا طالب»

هلكا (اي توفيا) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المصائب بهلك خديجة و كانت له وزيرة صدق على الاسلام ... و بهلك عمّه أبي طالب و كان له عضدا، و حرزا في أمره، و منعة و ناصرا على قومه و ذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا.

و لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك التراب دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيته و التراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لها:

«لا تبكي يا بنيّة فإنّ اللّه مانع أباك».

و يقول بين ذلك:

«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب» «2».

(2) و لأجل تزايد الضغط و الكبت هذا قرر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينتقل

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 1 ص 301، السيرة الحلبية: ج 1 ص 347.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 415 و 416، بحار الأنوار: ج 19 ص 5 عن إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:557

من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.

و حيث انّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزا هامّا، لذلك رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يسافر لوحده الى الطائف، و يجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف و ساداتها و يعرض دينه عليهم

علّه يحرز نجاحا و يكسب انصارا جددا لرسالته من هذا الطريق.

و لما انتهى صلّى اللّه عليه و آله الى الطائف عمد الى نفر من قبيلة «ثقيف» هم يومئذ سادة ثقيف و اشرافهم، و جلس صلّى اللّه عليه و آله إليهم، و دعاهم إلى اللّه، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا له: لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أردّ عليك الكلام، و لئن كنت تكذب على اللّه ما ينبغي لي ان اكلمك!!

(1) فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ردّهم الصبياني أنهم يحاولون التملّص من قبول الدعوة و اعتناق الاسلام، فقام صلّى اللّه عليه و آله من عندهم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاء ثقيف فيتجرءوا عليه و يتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته و وحدته، و من ثم إيذائه، فوعدوه بالكتمان، و لكنهم- و للاسف- لم يحترموا وعدهم هذا الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم، و فجأة وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه محاطا بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه و يصيحون به حتى اجتمع الناس، و ألجئوه إلى بستان لعتبة و شيبة ابني ربيعة و هما فيه في تلك الساعة، و رجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل فجلس فيه و هو يتصبب عرقا، و قد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف و رجلاه تسيلان من الدماء، و ابنا ربيعة ينظران إليه، و يريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، و قد كانا من أثرياء

قريش، يومئذ.

(2) فلما اطمأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توجه الى ربه و ناجاه قائلا:

«اللّهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، و قلّة حيلتي، و هواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، و أنت ربّي، إلى من تكلني، إلى

سيد المرسلين ،ج 1،ص:558

بعيد يتجهّمني؟ أم إلى عدوّ ملكته امري؟

إن لم يكن بك عليّ غضب فلا ابالي، و لكن عافيتك هي أوسع لي.

أعوذ بنور وجهك الّذي اشرقت له الظّلمات، و صلح عليه أمر الدّنيا و الآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك.

لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول و لا قوّة إلّا بك» «1».

هذه الكلمات و هذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزا مكرما في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق و اخلاص و دفعوا عنه كل اذى و لكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتى يلجأ الى حائط عدوّ من اعدائه، و يجلس في ظل شجرة، مكروبا موجعا ينتظر مصيره.

(1) فلما رآه ابنا ربيعة «عتبة و شيبة» و كانا من الوثنيين و من أعداء الاسلام، و شاهدوا ما لقي من الأذى و العذاب، رقّا له فدعوا غلاما لهما نصرانيا من اهل نينوى يقال له «عداس» فقالا له: خذ قطفا من العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الى هذا الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل بالعنب حتى وضعه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه يده قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فتعجب عداس من ذلك بشدة و قال: و اللّه إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و من أهل أي البلاد أنت و ما دينك؟

قال: أنا نصراني، من أهل نينوى.

قال صلّى اللّه عليه و آله: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس: و ما يدريك ما (من) يونس بن متى؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله «2»: ذاك أخي كان نبيا و أنا نبيّ، أنا رسول اللّه،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 420.

(2) و في رواية البحار ج 19 ص 6 جملة اعتراضية هنا:- و كان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه-.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:559

و اللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

(1) فأكبّ عداس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد رأى في كلماته علائم الصدق و آيات الحق، و جعل يقبّل رأسه و يديه، و قدميه، و هما تسيلان من الدماء، و آمن به، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلّى اللّه عليه و آله إلى صاحبيه في البستان.

فتعجب ابنا ربيعة لما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب، و سألاه قائلين: ويلك يا عداس مالك قبّلت رأس هذا الرجل، و يديه و قدميه و ما ذا قال لك؟!

فاجابهما الغلام قائلا: يا سيديّ ما في الارض شي ء خير من هذا، هذا رجل صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلّا نبيّ.

فشقّ كلام عداس على ابني ربيعة، و قالا له بنبرة الناصح له: ويحك يا عداس، لا يصرفنّك هذا الرجل عن دينك، فان دينك خير من دينه!! «1»

(2)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعود إلى مكة:

انتهت ملاحقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلجوئه الى حائط ابني ربيعة، و كان عليه الآن، و بعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إلى مكة، و لكنّ عودته إلى مكة لم

تكن لتخلو عن مشاكل، لأنه قد فقد نصيره و حاميه و مدافعه الاكبر و الاوحد فكان من المحتمل جدا أن يقبض عليه المشركون و يسفكوا دمه.

فقرر صلّى اللّه عليه و آله ان يبقى في منطقة «نخلة» (و هي واد بين الطائف و مكة) بعض الوقت.

لقد كان يريد أن يرسل أحدا إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتى يدخل مكة بجوار، و لكنه صلّى اللّه عليه و آله لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك «نخلة» إلى حراء، و هناك التقى رجلا خزاعيا و طلب منه أن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 419- 421، بحار الأنوار: ج 19 ص 6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:560

يأتي «المطعم بن عدي» بمكة، و كان من الشخصيات المكية البارزة و يسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش و كيدها.

(1) فدخل الخزاعيّ مكة، و أبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبل المطعم- رغم كونه و ثنيا مشركا- ان يجير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال للخزاعي: ائته فقل له: إني قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة ليلا و نزل في بيت مطعم مباشرة، و بات ليلته هناك، و لما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا، فاصحبنا إلى البيت، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأيه فاخذ المطعم و أهل بيته السلاح و دخلوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسجد الحرام، و كان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

(2)

و كان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليكيد به، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضبا شديدا، و انصرف عن ايذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجلس المطعم و ولده و أختانه و اخوه، و طاف رسول اللّه بالبيت و صلى عنده ثم انصرف إلى منزله. «1»

و لم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 381، بحار الأنوار: ج 19 ص 7 و 8. و يستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك و ذكر لذلك ادلة و وجوها.

و لكن يمكن الاجابة على هذا بأن الاجارة كانت امرا عاديا في ذلك العصر، و لم يكن فيها ما يوجب شينا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم تستلزم منه عليه.

ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا، كتمكين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدخول بسلام الى مكة، و تمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلّا يوما أو بعض يوم و تسنّى بعده لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترتيب اوضاعه في مواجهة الاخطار التي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:561

و آله من مكة إلى المدينة، و توفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة، و لما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلّى اللّه عليه و آله إحسانه و جواره، و أنشأ حسّان بن ثابت شاعر الاسلام شعرا يمدحه فيه

تقديرا لخدمته.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتذكره كثيرا، حتى انه تذكره في واقعة «بدر» التي انهزمت فيها قريش و عادت منكسرة الى مكة بعد أن خسرت كثيرا من رجالها و اسر منها عدد كبير، فتذكر مطعم بن عدي ثمة و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لو كان مطعم بن عديّ حيا لوهبت له هؤلاء» «1».

(1)

نقطة هامة:

إنّ سفر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته و استقامته و صبره صلّى اللّه عليه و آله كما ان تذكّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة و سجاياه. الفاضلة، و خلقه العظيم.

و لكن الاهمّ من هذا و ذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيامة، و معرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئا إلّا أن اجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حماه يوما او بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دافع عنه و خدمه عمرا كاملا، و لقى في سبيله من المحن و المتاعب ما لم يلق مطعم منها و لا شيئا ضئيلا.

(2) فاذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في «بدر» تقديرا لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة، فما ذا

______________________________

(1) المغازي للواقدي: ج 1 ص 110 ثم قال الواقدي: و كانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اجارة حين رجع من الطائف، طبقات ابن سعد: ج 1 ص 210 و 212،

البداية و النهاية: ج 3 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:562

عساه أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمّه و حاميه و كافله الاكبر و الأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاما. أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الذي كفل صاحب الرسالة و قام بشئونه مدّة أربعين عاما بايامها و لياليها و دافع عنه في السنوات العشر الاخيرة و هي جلّ عمر الرسالة الاسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرّض راحته و سلامته بل حياته و حياة أبنائه لخطر الموت دفاعا عن حياض الرسالة، و حماية لصرح النبوة، مقاما عظيما و منزلة كبرى عند قائد البشرية، و معلم الانسانية، و هاديها العظيم.

كيف لا؛ و الفرق بين هذين الشخصين كبير، و البون شاسع، فمطعم رجل وثني مشرك، بينما يعتبر أبو طالب واحدا من كبار الشخصيات الاسلامية العظيمة بلا جدال.

(1)

الدعوة في أسواق العرب:

كانت العرب تجتمع- في مواسم الحج- في نقاط مختلفة مثل: «عكاظ» و «المجنة» و «ذي المجاز»، و كان الشعراء و الخطباء العرب البارعون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة و يلهون فريقا من الناس بما يلقونه عليهم من خطب و قصائد تدور في الأغلب حول الحرب و القتال، و التفاخر، و العشق.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شأن كل الأنبياء و المرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة- كغيرها- لا بلاغ رسالة ربه الى الناس، و لم يكن لاحد منعه او الكيد به لحرمة القتال و الجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كان صلّى اللّه عليه و آله اذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع و خاطب الناس قائلا:

«قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا و تملكوا بها العرب و تذلّ لكم

العجم، و إذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنّة» «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 216.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:563

(1)

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج:

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية و اشرافها، و يقف على منازلهم منزلا منزلا، و يعرض دينه عليهم، و يدعوهم إلى اللّه و يخبرهم أنه نبيّ مرسل «1».

و ربما مشى خلفه عمّه «أبو لهب» فاذا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و ما دعا به قال أبو لهب فورا للناس: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات و العزى من أعناقكم، إلى ما جاء به من البدعة و الضلالة، فلا تطيعوه و لا تسمعوا منه.

(2) و قد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاسلام، و عرض عليهم نفسه، فقبلوا أن يعتنقوا الاسلام إلّا أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا: أ رأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك اللّه على من خالفك أ يكون لنا الأمر من بعدك؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء».

فرفضوا اعتناق الاسلام و الإيمان باللّه و رسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رجعوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجّ معهم و كان ذا بصيرة و فهم فحدّثوه بما جرى بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى ان نمنعه «2» و نقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه و وبّخهم على رفضهم لدعوة الرسول

و قال:

______________________________

(1) قال ابن هشام: كان صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم و شرف إلّا تصدّى له فدعاه الى اللّه و عرض عليه ما عنده.

(2) أي نحميه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:564

يا بني عامر و الذي نفس فلان بيده ما تقوّلها اسماعيلي قط «1»، و إنّها لحق، فاين رأيكم كان عنكم؟! «2»

ان هذه القضية التاريخية تفيد- في ما تفيد- بان مسألة الخلافة و الامامة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر تنصيصي، تعييني، لا انتخابي، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعود إلى اللّه تعالى، و لا خيار للناس فيه، و انما عليهم الطاعة و الرضا.

______________________________

(1) أي ما ادعى النبوة كاذبا احد من بني اسماعيل.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 424 و 425.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:565

(1)

24 بيعة العقبة

اشارة

كان (وادي القرى) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن الى الشام، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل واديا طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة، و كانت المناطق الواقعة على طول هذا الوادي مناطق خضراء، و من هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب: يثرب و التي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

و قد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا: «الاوس و الخزرج» اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن (من القحطانيين).

(2) و كان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة: «بنو قريظة» و «بنو النضير» و «و بنو قينقاع» الذين كانوا قد هاجروا إليها من شمال شبه الجزيرة العربية و استوطنوها.

و كان يقدم الى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج، و كان النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله يلتقي بهم في تلك المواسم، و يجري معهم اتصالات.

و قد مهدت بعض هذه اللقاءات للهجرة، و صارت سببا لتمركز قوى الاسلام المتفرقة، في تلك النقطة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:566

(1) على ان كثيرا من تلك الاتصالات و ان لم تثمر و لم تنطو على أية فائدة فعلية إلّا أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب- لدى عودتهم- انباء ظهور النبيّ الجديد و ينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة، و يلفتوا نظر الناس في تلك الديار الى مثل هذا الأمر المهم و الخطير.

و لهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات و الاتصالات التي تمت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة و الثانية عشرة و الثالثة عشرة من البعثة لتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى يثرب، و تمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

(2) 1- كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم و شرف تصدى له، و دعاه الى الاسلام و عرض عليه ما عنده.

و قد قدم مرة «سويد بن الصامت» فتصدى له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سمع به فدعاه الى اللّه و الى الاسلام فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما الذي معك.

قال: مجلة لقمان يعني حكمة لقمان-.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اعرضها على فعرضها عليه. فقال له: إن هذا الكلام حسن، و الذي معي أفضل من هذا. قرآن انزله اللّه عليّ هو

هدى و نور.

ثم تلا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القرآن و دعاه الى الاسلام، فقال سويد إنّ هذا قول حسن و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين، و كان قتله قبل يوم بعاث «1» «2».

______________________________

(1) بعاث موضع كانت فيه حرب بين الاوس و الخزرج.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 425- 427.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:567

(1) 2- قدم «انس بن رافع» مكّة و معه فتية من بني عبد الاشهل فيهم «ياس بن معاذ» أيضا، يلتمسون الحلف و النصرة على قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتاهم و جلس إليهم و قال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟

فقالوا له: و ما ذاك؟

قال: «أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم الى أن يعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا و أنزل عليّ الكتاب» ثم ذكر لهم الاسلام، و تلا عليهم القرآن.

فقال إياس بن معاذ و كان غلاما حدثا شهما: أي قوم هذا و اللّه خير مما جئتم له.

فقد أدرك جيّدا أن دين التوحيد يكفل كلّ حاجاتهم فهو دين شامل مبارك لأنه سيصهر الجميع في بوتقة الاخوّة الواحدة فتزول عندئذ أسباب العداء و القتال، و بذلك ينهي كل مظاهر الحرب و التنازع، و كلّ مظاهر الفساد و التخريب فهو أفضل من طلب المساعدة العسكرية من قريش التي جاءوا من أجلها الى مكة، فامن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته «انس بن رافع» و استئذانه، و لهذا غضب أنس و أخذ حفنة من تراب البطحاء و ضرب بها

وجه إياس و قال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت اياس و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم و انصرفوا الى المدينة، و كانت وقعة بعاث بين الأوس و الخزرج و لم يلبث اياس ان هلك، و قد سمعه قوم حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى و يكبّره و يحمده و يسبّحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلما، و لقد استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سمع «1».

(2)

وقعة بعاث:
اشارة

كانت وقعة بعاث من الحروب التاريخية بين الأوس و الخزرج، ففي هذه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 427 و 428.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:568

الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم، و أحرقوا نخيل الخزرجيين، ثم وقعت بعد ذلك حروب و مصالحات بينهم.

و لم يشترك «عبد اللّه بن ابيّ» و هو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين، و كاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب، و تحمّل الخسائر الثقيلة، و لهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّا لجميع أشكال العمليات العسكرية، و الغزو و الاقتتال، و الثأر و الانتقام، و أصرّت القبيلتان على «عبد اللّه بن ابي» بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه، بل و أعدوا له تاجا يتوّجونه به، حتى يصبح أميرا في وقت معيّن، و لكن هذا المشروع تعرض للانهيار و السقوط و واجهت الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الاسلام، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة بستة اشخاص من رجال الخزرج و دعاهم الى الاسلام فآمنوا به، و لبّوا دعوته.

(1)

تفصيل الحادث:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الانصار و كانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم: أمن موالي اليهود؟ و هل لكم حلف معهم.

قالوا: نعم.

قال: أ فلا تجلسون أكلّمكم؟

قالوا: بلى.

فجلسوا معه، فدعاهم إلى اللّه عزّ و جلّ و عرض عليهم الاسلام و تلا عليهم القرآن، فاحدثت كلمات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نفوسهم أثرا عجيبا، و ممّا ساعد على ذلك أن

يهودا كانوا معهم في بلادهم، و كانوا أهل كتاب و علم، و كانوا هم أهل شرك و أصحاب أوثان، و كان اليهود قد غزوهم في بلادهم،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:569

فكانوا إذا وقع بينهم نزاع و كان بينهم شي ء قال اليهود لهم: إن نبيا مبعوث الآن، قد اظلّ (او أطلّ) زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد و إرم، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشر التوحيد، و تنتهي على يديه حكومة الوثنية و الشرك، قد قرب ظهوره.

(1) فلما كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اولئك النفر، و دعاهم إلى اللّه، قال بعضهم لبعض يا قوم: تعلّموا و اللّه إنه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

فاجابوه فيما دعاهم إليه، بان صدّقوه و قبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام، و قالوا: إنا قد تركنا قومنا، و لا قوم بينهم من العداوة و الشر مثل ما بينهم، فعسى أن يجمعهم اللّه بك، فستقدم عليهم فندعوهم الى أمرك، و نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك «1».

(2)

بيعة العقبة الاولى:

لقد أثّرت دعوة هؤلاء الستة، الجادة في يثرب تأثيرا حسنا حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يترب و اعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلما كان العام المقبل (أي السنة الثانية عشرة من البعثة) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب، فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعقبة، و انعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.

و ابرز هؤلاء الرجال هم: أسعد بن زرارة، و عبادة بن الصامت، و كان نص هذه البيعة- بعد الاعتراف- بالاسلام و الايمان باللّه و رسوله هو:

بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا نشرك

باللّه شيئا، و لا نسرق، و لا نزني، و لا نقتل أولادنا، و لا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا و لا نعصيه في معروف.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 86، و السيرة النبوية: ج 1 ص 427 و 428، بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:570

(1) فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن وفيتم فلكم الجنة، و ان غشّيتم من ذلك شيئا فامركم إلى اللّه عزّ و جل إن شاء عذّب، و ان شاء غفر.

و هذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون و كتّاب السيرة ببيعة النساء، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو «1».

و عاد هؤلاء النفر الى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان، مترعة بمحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعمدوا الى نشر الاسلام، و كتبوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث لهم من يعلّمهم الاسلام و القرآن، فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهم «مصعب بن عمير» و أمره بان يقرّ أهم القرآن، و يعلمهم الاسلام، و يفقّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

و استطاع هذا المبلّغ القدير، و هذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب و الحكيم، و تبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يؤمّهم، و يصلي بهم «2».

(2)

بيعة العقبة الثانية:

لقد أحدث تقدم الاسلام في يثرب هيجانا كبيرا و شوقا عجيبا في نفوس المسلمين من أهلها، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ، ليقدموا مكة، و يلتقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كثب، و يظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما

يطلب منهم من خدمة و عمل، و ليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكمّ و من حيث الكيف.

و أخيرا حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلة كبيرة من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفرا فيهم ثلاث و سبعون من المسلمين من بينهم امرأتان، و الباقي إما راغبون في الاسلام، و اما غير مكترث به، حتى قدموا مكّة، و التقوا برسول اللّه

______________________________

(1) و التي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 434، بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:571

صلّى اللّه عليه و آله فواعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعقبة للبيعة اذا قال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

(1) فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجة و هي التي واعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها باللقاء، و نام الناس حضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع عمّه «العباس بن عبد المطلب» قبل الجميع، و خرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم، و مضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم، حتى اجتمعوا في الشعب عند العقبة، و لما استقرّ المجلس بالجميع، كان أوّل متكلم هو: العباس بن عبد المطلب فقال واصفا منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا معشر الخزرج- و كانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها و أوسها- إنّ محمّدا منّا حيث قد علمتم، و قد منعناه من قومنا، فهو في عزّ من قومه، و منعة في بلده، و إنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم، و اللحوق بكم، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، و

مانعوه ممّن خالفه فأنتم و ما تحملتم من ذلك، و إن كنتم ترون أنكم مسلموه و خاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه فانه في عزّ و منعة من قومه و بلده.

فقال الحضور: قد سمعنا ما قلت فتكلّم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك و لربك ما أحببت.

فتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتلا القرآن و دعا إلى اللّه و رغّب في الاسلام، ثم قال: ابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم.

(2) فقام البراء بن معرور و أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: نعم و الذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه ازرنا «1» فبايعنا يا رسول اللّه فنحن و اللّه

______________________________

(1) الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه، و لهذا فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار و رضاهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:572

ابناء الحروب و اهل الحلقة (اي السلاح) ورثناها كابرا عن كابر.

فدب في الحضور حماس و سرور عظيم و تعالت الاصوات و الندءات من الخزرجيين و التي كانت تعبيرا عن شدة حماسهم، و سرورهم لهذا الأمر، فقال العباس و هو آخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و في هذا الاثناء نهض «البراء بن معرور» و «أبو الهيثم بن التيهان» و «أسعد بن زرارة» من مواضعهم و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم بايعه بقية القوم جميعا.

و قد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه إن

بيننا و بين الرجال (اي اليهود) حبالا (و علاقات) و إنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه، أن ترجع إلى قومك و تدعنا؟

فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: «بل الدم الدم، و الهدم الهدم احارب من حاربتم و اسالم من سالمتم» يعني أنه سيبقى على العهد، و لا يتركهم و كانت العرب تقول عند عقد الحلف: دمي دمك، و هدمي هدمك، و هي كناية عن البقاء على العهد و احترام الميثاق و الحلف.

(2) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: اخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم «1».

فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا فقال صلّى اللّه عليه و آله لأولئك النقباء: انتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم و أنا كفيل على قومي (يعني المسلمين) فابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم».

فقالوا: نعم و بايعوه على ذلك.

و كان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس و قد ضبطت أسماؤهم و خصوصياتهم في التاريخ.

______________________________

(1) المحبر: ص 268- 274.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:573

و بعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يهاجر إليهم في الوقت المناسب، ثم ارفض الجمع و عاد القوم إلى رحالهم «1».

(1)

أوضاع المسلمين بعد بيعة العقبة:

و الآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الذي يطرح نفسه هنا و هو:

ما الذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الاسلام إلى ان يستجيبوا لنداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و يأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله من القرابة القريبة؟!

و كيف تركت تلك اللقاءات المعدودة القصيرة بأهل يثرب آثارا تفوق الآثار التي تركتها الدعوة المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاما في مكة؟!

إن علة هذا التقدم يمكن اختصارها و حصرها في أمرين:

(2) أوّلا: أن اليثربيّين جاوروا اليهود سنينا عديدة و طويلة قبل الاسلام، و كثيرا ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم و أنديتهم عن النبيّ العربيّ الذي يظهر، و يأتي بدين جديد.

حتى أن اليهود كانوا يقولون: للوثنيين إنّ هذا النبيّ سيقيم دين اليهود و ينشره، و يمحي الوثنية و يقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلمات أثرا عجيبا في نفوس أهل يثرب، و هيّأت قلوبهم لقبول الدين الذي كان بخبر عنه يهود و ينتظرونه، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأوّل مرّة، بادروا الى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 25 و 26، السيرة النبوية: ج 1 ص 441- 450، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 221- 223.

و في رواية اخرى في البحار: ج 19 ص 47، كما اخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا و قد كان هذا العمل النبوي حكيما جدا لان عامة الناس لا يمكن التعويل و الاتكال على التزاماتهم بل لا بد من الاعتماد- ضمنا- على رموز المجتمع و مفاتيحه و هم وجوه القوم و سراتهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:574

الايمان به من غير إبطال و لا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض: و اللّه إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

(1) و من هنا فان مما يأخذه القرآن على اليهود هو: أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ، و تبشرون الناس بانه سيظهر، و انهم قرءوا أوصافه و علائمه في التوراة،

فلما ذا رفضوا الإيمان به لمّا جاء صلّى اللّه عليه و آله.

يقول تعالى:

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «1».

(2) ثانيا: إنّ العامل الأخير الذي يمكن اعتباره دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين و سرعة إقبالهم على الإسلام و تقبّلهم لدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو التعب و الارهاق الذي كان اهل يثرب قد اصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم و التي استمرّت مائة و عشرين عاما و التي انهكتهم و كادت أن تذهب بما تبقّى من رمقهم، و جعلتهم يملّون الحياة، و يفقدون كلّ أمل في تحسّن الأحوال و الاوضاع.

و إن مطالعة وقعة «بعاث» و هي- حرب وقعت بين الأوس و الخزرج- وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجه الواقعي الذي كان عليه سكان تلك الديار.

(3) ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على يد الخزرجيين، فهربوا الى «نجد»، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك، فغضب «الحضير» سيد الأوس، لذلك غضبا شديدا، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه و غضبه، و ترجّل عن فرسه و صاح بقومه قائلا:

و اللّه لا أقوم من مكاني هذا حتى اقتل!! فأوقد صمود «الحضير» و ثباته نار الحمية و الغيرة و اشعل روح الشهامة و البسالة في قومه، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الأمر، فقاتلوا أعداءهم مستميتين، و المستميت منتصر لا محالة، فانتصر

______________________________

(1) البقرة: 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:575

الأوسويون المغلوبون، هذه المرة، و هزموا الخزرج هزيمة نكراء و احرقت مزارعهم و نزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!! «1».

(1) ثم تتابعت الحروب و المصالحات بعد ذلك، و كانت القبيلتان تتحملان في

كل مرة خسائر كبرى، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل التي حوّلت حياتهم الى حياة مضنية متعبة جدا.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما، و كانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه، من الحالة السيئة، و تفتشان عن نافذة أمل، و مخرج من تلك المشاكل.

و لهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم المنشودة عند ما التقوا- و لاول مرّة- رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعوا منه ما سمعوا، فتمنّوا أن يضعوا به حدا لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له: عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رجل أعزّ منك.

كانت هذه هي بعض الأسباب التي دعت اليثربيين إلى تقبّل الاسلام بشوق و رغبة و حماس.

(2)

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة:

كانت قريش تغطّ في نوم عميق و كانت تتصور بانها قد حدّت من تقدم الاسلام في مكة و انه قد بدأ يتقهقر و يسير باتجاه السقوط و الاندحار، و أنه لن ينقضي زمان إلّا و تنطفئ جذوة الاسلام و تخمد شعلته، و تنمحي آثاره.

و فجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية التي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات، و أسقطت كل تصورات قريش الساذجة، و ذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثا و سبعين شخصا من اليثربيين عقدوا ليلة أمس و تحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يدافعوا عنه كما

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 417 و 418.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:576

يدافعون عن أبنائهم و أهليهم.

(1) فأحدث هذا النبأ خوفا عجيبا في قلوب قادة قريش و سادة مكة المشركين المتغطرسين، لانهم أخذوا يقولون مع أنفسهم: لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية، و انه يخشى أن يجمع

المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها، و يعملون معا على نشر دينهم، و بث عقيدتهم، و حينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطرا جديا، يهدّدها في الصميم.

و لهذا بادرت قريش إلى الاتصال بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة و قالوا لهم:

يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، و تبايعونه على حربنا، إنه و اللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا و بينهم، منكم.

فحلف المشركون من أهل يثرب لقريش أنه ما كان من هذا شي ء، و ما علموه، و قد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمّ خمسمائة شخص، تسلّل منهم ثلاث و سبعون فقط الى العقبة و بقية الناس نيام لا يعلمون بشي ء.

(2) فأتت قريش إلى «عبد اللّه بن ابيّ بن سلول» فسألوه عمّا جرى في ليلة العقبة، فأنكر ذلك و قال: إنّ هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا (أي يعملوه من دون مشورتي) و ما علمته كان، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث.

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفشوا أمرهم، و انكشاف سرهم، و لهذا قال بعضهم لبعض: ما دمنا لم نعرف بعد فلنخرج من مكة فورا قبل ان يظفر المشركون بنا، و لهذا أسرعوا في الخروج من مكة و التوجّه الى المدينة، فزاد ذلك من سوء ظن قريش و عزّزت شكوكهم حول البيعة، و عرفوا بانه قد كان، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين، و لكنهم لم يتنبهوا لذلك إلّا بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة، و المكيين، و لم تظفر قريش

إلّا بسعد بن عبادة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:577

(1) غير أن ابن هشام يرى بأنّهم ظفروا بنفرين هما: «سعد بن عبادة» و «المنذر بن عمر»، و كان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

و أما «المنذر» فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

و أما «سعد» فقد أخذوه، و ربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، و يجذبونه بجمّته «1» و كان ذا شعر كثير.

يقول سعد:

فو اللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش فيهم رجل وضي ء أبيض، طويل القامة، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.

قال: فلما دنى منّي رفع يده فلكمني لكمة شديدة.

فقلت في نفسي: لا و اللّه، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال: فو اللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليّ رجل كان معهم، فقال:

ويحك أما بينك و بين أحد من قريش جوار و لا عهد؟

قلت: بلى كنت اجير لجبير بن مطعم بن عدي تجارة، و أمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

فذهب ذلك الرجل الى مطعم و أخبره بما فيه سعد بن عبادة من الحال، و أنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال مطعم: صدق و اللّه إنه كان ليجير لنا تجارة، و يمنعهم أن يظلموا ببلده ثم أسرع إلى سعد و خلّصه من أيديهم.

و كان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة، فعزموا على أن يعودوا إلى مكة و يخلّصوه من أيدي المشركين، و بينما هم كذلك إذ بدى لهم «سعد» من بعيد، و أخبرهم بما جرى عليه «2».

(2)

تأثير الاسلام و نفوذه المعنوي:

يصر المستشرقون على أن انتشار الاسلام و نفوذه في المجتمعات تمّ بواسطة

______________________________

(1) مجتمع شعر الرأس.

(2) السيرة النبوية: ج

1 ص 449 و 450.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:578

السيف و في ظلّ استخدام القوّة.

اما بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

و نحن نذكر هنا للمثال حادثة وقعت قبل الهجرة، و نلفت إليها نظر القارئ الكريم، فان دراستها و التعمق فيها يثبت بجلاء ان انتشار الاسلام و نفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعا من جاذبيته التي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه و عن تعاليمه المحببة إليه.

و إليك الحادثة بنصها:

(1) قرر مصعب بن عمير المبلّغ و الداعية الاسلامي المعروف الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة، ذات يوم أن يدعو هو و اسعد أشراف المدينة و ساداتها الى الاسلام بالمنطق و الدليل فدخلا حائطا «1» من حوائط المدينة فجلسا هناك و اجتمع إليهما رجال ممن اسلم، و كان سعد بن معاذ و اسيد بن حضير و هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضا.

فقال سعد لا سيد: جرّد حربتك و قل لهذين (يعني مصعبا و اسعد) ما ذا جاء بهما الى ديارنا يسفهان ضعفاءنا، و لو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي، لكفيتك ذلك.

(2) ففعل اسيد ذلك و قال لمصعب ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا و راح يشتمهما فقال له مصعب داعية الاسلام الحكيم، و المتكلم البليغ الذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو تجلس فتسمع، فان رضيت أمرا قبلته، و ان كرهته كفّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفت ثم ركّز حربته و جلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعب بالاسلام، و قرأ عليه شيئا من القرآن، فأثّرت آيات القرآن و ما قاله مصعب من

المواعظ البليغة في نفسه حتى عرف ذلك في إشراق وجهه، و انفراج اساريره، و شوقه فقال: ما احسن هذا الكلام و اجمله؟! كيف تصنعون إذا اردتم أن تدخلوا

______________________________

(1) بستانا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:579

في هذا الدين؟ فقال مصعب و سعد له: تغتسل فتطهر و تغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.

(1) فقام اسيد بن حضير الذي حضر لقتل مصعب و سعد من عندهما مبتهجا مسرورا فاغتسل و طهر ثوبيه و تشهّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما: ان ورائي رجلا إن أتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه و سأرسله إليكما الآن، ثم اخذ حربته و انصرف الى سعد بن معاذ الذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظر إليه سعد و قومه و هم جالسون في ناديهم قال:

أحلف باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟

(2) قال: كلّمت الرجلين، فو اللّه ما رأيت بهما بأسا، و قد نهيتهما، فقالا: نفعل ما احببت، فغضب سعد لذلك غضبا شديدا، و أخذ الحربة من اسيد، ثم خرج الى مصعب و اسعد ليقتلهما، فلما رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتما مهددا اياهما، و لكن مصعبا و زميله قابلاه بمثل ما قابلا به سابقه اسيد، و جرى له ما جرى له، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها، و خضع لمنطقه القوي، و بيانه الساحر، و ندم على ما قصد فعله، و قال لمصعب نفس ما قاله اسيد و اعتنق الاسلام و اغتسل و تطهر و صلى ثم رجع الى قومه و قال لهم: يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا

و افضلنا رأيا و ايمننا نقيبة.

قال: فان كلام رجالكم و نسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا باللّه و برسوله فالحمد للّه الذي اكرمنا بذلك.

فلم يمس في دار بني عبد الاشهل رجل و لا امرأة إلّا مسلما أو مسلمة، و هكذا أسلم كلّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصبحوا من الدعاة إلى الاسلام و المدافعين عن عقيدة التوحيد، لا بمنطق القوة انما بقوة المنطق «1».

______________________________

(1) إعلام الورى: ص 59، بحار الأنوار: ج 19 ص 10 و 11، السيرة النبوية: ج 1 ص 436 و 437.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:580

(1) ان في التاريخ الاسلامي نماذج كثيرة من هذا القبيل تدل على بطلان و تفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الاسلام و انتشاره، فان العامل المعتمد في جميع هذه الموارد لم يكن المال و التطميع، و لا السلاح و التهديد، كما ادعى المستشرقون، و ان الذين اسلموا في هذه الحوادث و الوقائع لا هم رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء، انما كان السبب الوحيد هو: منطق الداعية الاسلامي القويّ و بيانه الساحر الجذاب، فهو الذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب، خلال دقائق معدودة، لا في نفس شخص واحد فحسب، بل ربما في نفوس قبيلة بكاملها.

اجل انه المنطق القوي و الكلام المبرهن و الحجة البالغة لا سواها.

(2)

مخاوف قريش المتزايدة:

لقد ايقظت حماية اليثربيين للمسلمين قريشا من غفلتها و نومها العميق مرة اخرى، و كانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها و اضطهادها و مضايقتها لهم من جديد، و تهيأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الاسلام و نفوذه

و تقدمه في الجزيرة العربية، و بلغ ذلك الاذى مبلغا عظيما.

فشكى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط و أذى، و استأذنوه في الهجرة الى مكان فاستمهلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اياما ثم قال:

«لقد اخبرت بدار هجرتكم و هي يثرب فمن اراد الخروج فليخرج إليها» «1».

و بعد الاذن بالهجرة من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ المسلمون يخرجون من مكة، و يتوجهون الى المدينة شيئا فشيئا و بحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:581

(1) و لم يكن قد مضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا و فطن زعماء قريش لسرها، و خطرها عليهم فاخذوا يمنعون من أي تنقل و سفر يقوم به المسلمون، و قرروا ان يعيدوا الى مكة كل من وجدوه في اثناء الطريق، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة و له زوجة قرشية و يمنعوها عنه، و لكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل، بل و كان يقتصر اذاهم على الحبس و التعذيب و لا يتعداهما.

و لكن هذه المحاولات التي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة الى المدينة لم تثمر لحسن الحظ [1].

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش و اللحاق بزملائهم و اخوانهم في يثرب حتى انه لم يبق في مكة من المسلمين إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السلام و عدد قليل من المسجونين، أو المرضى من المسلمين.

(2) و قد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش، و ضاعف من قلقها،

و لهذا اجتمع كل رؤساء القبائل المكية في «دار الندوة» اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الاسلام و طرحت في ذلك المجلس خطط متنوعة، و اقترحت امور كثيرة لتحقيق هذه الغاية و لكنها فشلت برمتها بتدبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حكمته، و سياسته الدقيقة.

و أخيرا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من «مكة» إلى «المدينة» في شهر ربيع الاوّل سنة 14 من البعثة.

اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين و سيطرتهم و اصبحوا حيرى لا يدرون ما ذا يفعلون، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الاسلام، و اتساع رقعته، قد باءت بالفشل.

(3) لقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالهجرة الى المدينة و الالتحاق

سيد المرسلين ،ج 1،ص:582

بالانصار و قال لهم: «إنّ اللّه قد جعل لكم دارا و إخوانا تأمنون بها» «1» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 26.

(2) لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة، و قد حاولنا ذكر كل ما كان معلوما مشهورا من تواريخها، و لكن لا يمكن اعتبار تواريخ كل تلك الحوادث امورا مقطوعا بها، من هنا ذكرنا الحوادث المثبتة في الفصل 24 من دون ادراج تواريخ لها في الاغلب و لكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:583

(1)

25 قصّة الهجرة

حوادث السنة الاولى من الهجرة
اشارة

كان زعماء قريش و رؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في «دار الندوة» لحل المشاكل و معالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها و تداول الرأي فيها، و من خلال

تضافر الجهود على حلها، و رفعها أو دفعها.

و في السنوات: الثانية عشرة، و الثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطرا كبيرا جدّيا، فقد حصل المسلمون على مركز هام، و قاعدة صلبة في يثرب، و تعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الدفاع عنه، و كل هذا كان من علامات و مظاهر ذلك التهديد الخطير، الذي بات يهدد كيان المشركين و الوثنيين و الزعامة القرشية.

(2) و في شهر ربيع الاوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي و أبو بكر و جماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، و كان هؤلاء على أبواب الهجرة و مغادرة مكة الى المدينة اتخذت قريش فجأة قرارا قاطعا و حاسما و خطيرا جدا في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في «دار الندوة» حضرها رؤساء قريش

سيد المرسلين ،ج 1،ص:584

و زعماؤها و بدأ متكلمهم «1» يتحدث عن تجمع القوى و العناصر الاسلامية و تمركزها في المدينة و البيعة التي تمت بين الخزرجيين و الأوسيين و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم اضاف قائلا:

(1) يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين، و يكرموننا، و نحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا «محمّد بن عبد اللّه» فكنّا نسمّيه (الأمين) لصلاحه، و سكونه، و صدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادّعى

أنه رسول اللّه، و أن أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شبّاننا، و فرق جماعتنا، فلم يرد علينا شي ء أعظم من هذا، و قد رأيت فيه رأيا، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله، فان طلبت بنو هاشم بدمه «2» اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجل مجهول حضر ذلك المجلس و وصف نفسه بانه نجدي: ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فانه اذا قتل محمّد تعصّب بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب و تتفانوا.

(2) فقال أبو البختري: نلقيه في بيت و نلقي إليه قوته حتى يأتيه ريب المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرة اخرى: و هذا رأي أخبث من الآخر، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فاذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم، و اجتمعوا عليكم فاخرجوه.

فقال ثالث: نخرجه من بلادنا و نتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، أو قال نرحّل بعيرا صعبا و نوثّق محمّدا عليه كتافا، ثم نضرب البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطّعه بين الصخور و الجبال إربا إربا.

(3) فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضا قائلا: أ رأيتم إن خلص به

______________________________

(1) و روي انه كان المتكلم: أبو جهل.

(2) و في رواية: بديته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:585

البعير سالما إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه و طلاقة لسانه، فصبأ «1» القوم إليه، و استجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرنّ حينئذ إليكم الكتائب و الجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد و من كان قبلكم.

فتحيّروا و ساد الصمت ذلك المجلس، و فجأة قال أبو جهل (و على رواية:

قال ذلك الشيخ النجدي): ليس

هناك من رأي إلّا أن تعمدوا الى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قويا ثم تسلّحوه حساما عضبا و ليهجموا عليه معا بالليل و يقطعوه إربا إربا فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعا فلا تستطيع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميع هذا الرأي، و اتفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة و تقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل و ساد الظلام كل مكان «2».

(1)

الإمدادات الغيبية و العنايات الالهية:

لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورون أن رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله المدعومة من قبل اللّه تعالى و المؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل و المكائد، و الخطط و المؤامرات، و لم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ- كغيره من الأنبياء- يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي، و ان اليد التي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاما في وجه الاعاصير و الرياح، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة، و تعطيل هذه المؤامرة أيضا.

يقول المفسرون: بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي «جبرئيل»، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ

______________________________

(1) صبأ فلان: أي خرج من دين إلى دين غيره و كانت العرب تسمّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الاسلام و تسمي المسلمين: الصباة. و هو جمع الصابئ.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 227 و 228 السيرة النبوية: ج 1 ص 480- 482.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:586

قرأ عليه قول اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ

الْماكِرِينَ» «1».

(1) و عندئذ امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة من مكة إلى المدينة، و لكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين و بالنظر الى المراقبة الدقيقة التي كانوا يقومون بها لجميع التحركات، لم يكن بالأمر السهل و خاصة بالنظر الى بعد المسافة بين مكة و المدينة.

فاذا لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جدا أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق و يقبضوا عليه و يسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل الى أتباعه و أصحابه.

و لقد ذكر المفسرون و المؤرخون صورا مختلفة لكيفية خروجه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هجرته و الاختلاف الذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين و المؤرخين في خصوصيات و تفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيره في غيره من الوقائع.

و قد استطاع مؤلف «السيرة الحلبية» أن يوفّق الى درجة ما، بين المنقولات و المرويات المختلفة ببيان خاص، و لكنه لم يوفّق لازالة التناقض و الاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.

(2) على أنّ الموضوع الجدير بالاهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة و السنة نقل كيفية هجرة النبيّ، و خروجه من منزله، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خلاصه إلى عامل الاعجاز، و بالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة، و المعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات الاحترازية، و التحسبات، و التدابير الحكيمة، و إن إرادة اللّه تعالى تعلّقت بان ينجّي نبيّه

______________________________

(1) الانفال: 30، ليثبتوك أي ليسجنوك.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:587

الكريم،

عن طريق الأسباب العادية المألوفة، و ليس عن طريق التدخّل الغيبيّ و إعمال قدرته تعالى الغيبية.

و يدل على هذا المطلب أنّ النبيّ توسل بالعلل الطبيعية، و الوسائل و الأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، و اختفاء رسول اللّه في الغار و غير ذلك مما سيأتي ذكره)، و بهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و تخلّص من أيدي اعدائه، العازمين على إراقة دمه.

(1)

ملك الوحي يخبر رسول اللّه:

لقد اخبر ملك الوحي «جبرئيل» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخطة قريش المشؤومة لاغتياله و امره بالهجرة، و تقرر- بغية إفشال عملية الملاحقة- ان يبيت شخص في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتصوّر المشركون أنّ النبيّ لا يزال في منزله، و لم يخرج بعد، و بالتالي يركّزوا كلّ اهتمامهم على محاصرة البيت، و ينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة، و نواحيها.

و لقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اغتنام الفرصة و الخروج من مكة، و الاختفاء في مكان ما من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، و يبغون قتله.

(2) و الآن يجب أن نرى من الذي تطوّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فدى النبيّ بنفسه، و وقاه بحياته؟

ستقولون حتما: إن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فدى النبيّ بنفسه، و وقاه بحياته؟

ستقولون حتما: إن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقي من بدء بعثته و الى ذلك الحين يذب عنه، هو الذي يتعيّن أن

يضحّي بنفسه في هذا السبيل، و يقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، و هذا المضحّي بحياته و نفسه، هو «عليّ» ليس سواه احد، انه تقدير صحيح، و حدس مصيب.

فليس غير «علي» يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:588

و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السلام:

«يا عليّ إنّ قريشا اجتمعت على المكر بي و قتلي، و إنّه اوحي إليّ عن ربّي أن اهجر دار قومي، فنم على فراشي و التحف ببردي الحضرميّ لتخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل و صانع؟؟

فقال علي عليه السلام: أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكا مسرورا و أهوى إلى الأرض ساجدا، شكرا لما أنبأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سلامته، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

امض لما امرت فداك سمعي و بصري و سويداء قلبي، و مرني بما شئت اكن فيه كمسرّتك، واقع فيه بحيث مرادك، و إن توفيقي إلّا باللّه.

(1) ثم رقد عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشتمل ببرده الحضرمي الاخضر، و لما مضى شطر من الليل حاصر رصد قريش- و هم اربعون رجلا- بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد جرّدوا سيوفهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين و الآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مضجعه، فيظنون أنّ النائم في الفراش هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2) و هنا أراد النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداء بيته صلّى اللّه عليه و آله من كل جانب، و يراقبون كلّ شي ء، و من جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى و ارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ايدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتى بلغ الى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «1» و خرج من باب البيت دون ان يشعر به رصد قريش المكلّفون بقتله، و ذهب الى المكان الذي كان من المقرر ان يختبئ

______________________________

(1) يس: 9.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:589

فيه على النحو الذي سيأتي تفصيله.

و أما كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يخترق الحصار البشري المشدّد الذي ضرب على بيته، و يتجاوز رصد قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيدا.

إلّا أنه يستفاد من رواية نقلها المفسر الشيعي المعروف المرحوم علي بن ابراهيم في تفسيره: قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ان رجال قريش كانوا نياما ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد عرف بتدبيرهم و مؤامرتهم.

(1) و لكن يصرّح غيره من المؤرّخين و كتّاب السيرة «1» بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانوا يقظين حتى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خرج من البيت عن طريق الاعجاز و الكرامة من دون ان يروه و يحسوا به.

إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع

شك، و لكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمرا قطعيا و هي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان عارفا بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، و كان قد دبّر و رسم لنجاته خطة طبيعية عادية، و لم يكن في الأمر اي اعجاز.

لقد كان يريد صلّى اللّه عليه و آله باضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية و القنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز و الكرامة.

(2) و على هذا كان في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يتحسب لمسألة المحاصرة و الطوق الذي كان سيضرب على بيته من أوائل الليل، و ذلك بمغادرة

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 228، تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:590

بيته قبل المحاصرة و قبل الغروب.

و لكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في البيت حتى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون ادّعاء هذا الموضوع (و هو خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، و قبل غروب الشمس «1».

(1)

اقتحام الاعداء لبيت الوحي:

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي و بيت الرسالة و باتت تنتظر لحظة الإذن في اقتحامه، و الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فراشه و ضربه و تقطيعه بالسيوف إربا إربا!

و قد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل و قبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك و قال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه

بالليل، فإنّ في الدار صبيانا و نساء من بني هاشم، و لا نأمن أن تقع يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

و ربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتى يروا أن قاتله جماعة و ليس واحدا.

(2) و انقشع الظلام شيئا فشيئا، و انفجر الصبح، و دبّ في المشركين شوق غريب، مع اقتراب ساعة الصفر، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريبا، و بينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بينما هم يهمّون بأخذ من كان راقدا في الفراش بسيوفهم، إذا بهم يواجهون عليا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 29.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:591

عليه السلام يثب في وجوههم و هو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأخضر، و قال لهم في منتهى الطمأنينة و الشجاعة: ما شأنكم؟ و ما ذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب: أين محمّد؟

فقال عليه السلام: اجعلتموني عليه رقيبا؟!

(1) فغضب القوم غضبا شديدا، و كاد الغيظ يخنقهم، فقد ندموا على انتظارهم انفجار الصبح و حمّلوا أبا لهب الذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة و تفويت الفرصة، فاقبلوا عليه يلومونه و يوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة، و وجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم، و حيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة، أو أنه لا يزال في طريق المدينة، لذلك أقدموا فورا على العمل على ترتيب أمر

ملاحقته و القبض عليه.

(2)

النبيّ في غار ثور:

ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمضى هو و أبو بكر ليلة الهجرة و ليلتين اخريين بعدها في غار ثور الذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة «1».

و ليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة و المرافقة و لما ذا، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر في الطريق، فاصطحبه معه الى غار ثور.

______________________________

(1) حيث ان الطريق المؤدي الى المدينة تقع في شمال مكة، فاختبأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في منطقة مقابلة أي في اسفل مكة، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:592

و روى فريق آخر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معا في منتصف الليل إلى غار ثور «1».

و قال فريق ثالث: أن أبا بكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ و كان صلّى اللّه عليه و آله قد خرج من قبل فأرشده «عليّ» إلى مخبأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و على كل حال فان كثيرا من المؤرخين يعدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة و مناقبه، و يذكرون هذه الفضيلة و يتحدثون عنها بكثير من الاسهاب و الاطناب، و بمزيد من الاكبار و الاعجاب.

(1)

قريش تفتش عن النبيّ:

لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها، فقد بادرت إلى بث العيون و الجواسيس في طرقات مكة، و مراقبة مداخلها و مخارجها مراقبة شديدة، و بعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان، و في طريق مكة- المدينة خاصة.

و من جانب آخر جعلت مائة ابل لمن

ياخذ نبي اللّه، و يردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

و عمد جماعة من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه و التفتيش عنه في شمال مكة، حيث الطريق المؤدي الى المدينة، على حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قد اختبأ- كما قلنا- في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

و تصدت مجموعة اخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رفيقه!!

و كان الذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال هذه قدم محمّد، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد و من معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء، أو دخلا تحت الأرض، فان بباب هذا الغار- كما ترون عليه- نسج

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:593

العنكبوت و القبجة حاضنة على بيضها بباب الغار «1»، فلم يدخلوا الغار.

و لقد استمرت هذه المحاولات بحثا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أيام بلياليها و لكن دون جدوى، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش و كفوا عن الملاحقة.

(1)

التفاني في سبيل الحق:

ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفان في سبيل الحق، و الحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق و عشقوه بكل وجودهم و كيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شي ء من أشياء الدنيا و يضحّون بالنفس و المال و الشخصية، و يستخدمون كل طاقاتهم المادية و المعنوية في سبيل خدمة الحق، و احيائه، و اقامته هم و لا شك من عشاق

الحق و الحقيقة الصادقين.

انهم يرون كما لهم و سعادتهم في هدفهم، و هذا هو الذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، و العيش الموقت، و يلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

(2) إنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك الليلة الرهيبة لنموذج بارز من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق، و العشق الصادق للحقيقة، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلّا حبّ «عليّ» لبقاء الاسلام الذي يكفل سعادة المجتمع، و يضمن ازدهار الحياة، لا غير.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 229 تاريخ الخميس ج 1 ص 327- 328 و غيرها، و لقد ذكر عامه المؤرخين هذه الكرامة هنا، و لا ينبغي- نظرا لما ذكرناه في قصة الفيل و هلاك أبرهة و جنده بواسطة الابابيل، تأويل مثل هذا الكرامات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:594

إن لهذه التضحية و التفاني من القيامة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، و وصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فان الآية التالية نزلت- حسب رواية اكثر المفسرين- في هذا المورد:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» «1».

(1) ان عظمة هذه الفضيلة و اهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الاسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام و إلى أن يصفوا بها عليا بالفداء و البذل و الايثار، و إلى ان يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير و التاريخ إليها «2».

إنّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبدا فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع و التعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق

أشعة الحقيقة الساطعة حجب الاوهام، و تخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة و بخاصة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة و يخفى حقائقه بوضع الاكاذيب، و لكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحا.

(2) فقد عمد «سمرة بن جندب» الذي ادرك عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم انضمّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية باصرار أن يرقى المنبر و يكذّب نزول هذه الآية في شأن

______________________________

(1) البقرة: 207.

(2) مسند أحمد: ج 1 ص 87، و كنز العمال: ج 6 ص 407، و قد نقل كتاب الغدير: ج 2 ص 47- 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن عليّ عليه السلام على نحو التفصيل، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:595

علي عليه السلام، و يقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، و يأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى، و هذا الاختلاق الفضيع الذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا العرض و لكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ اربعمائة ألف درهم. فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسودا بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل و ذلك عند ما رقى المنبر و فعل ما طلب منه معاوية «1».

(1) و قبل السامعون البسطاء قوله، و لم يخطر ببال أحد منهم أبدا ان (عبد الرحمن بن

ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد ولد بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

و لكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، و لا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية و تعرض أهلها و انصارها للحوادث، و اندثرت آثار الاختلاق و الافتعال الذي وقع في عهده المشؤوم، و طلعت شمس الحقيقة و الواقع من وراء حجب الجهل و الافتراء مرة اخرى، و اعترف اغلب المفسرين الأجلّة «2» و المحدّثين الافاضل- في العصور و الادوار المختلفة، بأن الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه السلام و مفاداته النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنفسه «3».

______________________________

(1) لا حظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 73.

(2) شرح نهج البلاغة: ج 13 ص 262، و لقد أعطى ابن أبي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

(3) سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية، و لم يكتف سمرة بتحريف الحقائق و قلبها بما ذكرناه، بل أضاف الى ذلك- حسب رواية ابن ابي الحديد- أمرا آخر أيضا اذ قال:

و نزل في شأن «عليّ» قول اللّه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» (البقرة: 204).

و من جرائم هذا الرجل انه قتل يوم ولّي البصرة على عهد زياد بن أبيه في العراق ثمانية آلاف-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:596

(1)

كلام من ابن تيمية:
اشارة

احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة، تعود إليه اكثر معتقدات الوهابيين، و أفكارهم.

و لابن تيمية هذا آراء و مواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلّى اللّه

عليه و آله و أمير المؤمنين، و عامة أهل بيت النبوة، و قد صرح باكثر آرائه و معتقداته هذه في كتابه «منهاج السنة».

و قد دفعت عقائده المنحرفة و آراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إلى تكفيره، و التبرّي منه.

و لابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ «1»

و من المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج و الجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، و من دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره و معتقداته و هم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف و كذّبه بل و كفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا و إليك خلاصة رأيه في فضيلة «المبيت».

(2) يقول: ان مبيت «عليّ» في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تعدّ

______________________________

- ممّن كانوا يحبون أهل البيت و يوالونهم و عند ما سأله معاوية: هل تخاف ان تكون قد قتلت أحدا بريئا؟

أجاب قائلا: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت!!

هذا و مخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

و سمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الذي رد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طلبه بأن يراعي حقّ جاره في قضية النخلة مرارا فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له: «إنك رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار في الاسلام» و لمزيد التوضيح راجع كتب الحديث و التراجم و التاريخ.

(1) راجع السيرة الحلبية: ج 2 ص 263 و سبعة الجاحظ في العثمانية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:597

فضيلة لأن عليّا عرف من طريقين بانه لن يصيبه شي ء في تلك الليلة:

الأوّل إخبار رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله الصادق المصدّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة: «نم في فراشي فإنه لا يخلص إليك شي ء تكرهه»!!.

الثاني: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّفه بردّ الودائع و أداء الامانات التي اودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلى أصحابها.

فعلم- من ذلك- أنه لن يقتل و الا لكلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآخرين بها.

فعرف «عليّ» من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذى في هذه العمليّة و انه سيوفّق لأداء ما كلّفه به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

الجواب:

و قبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا: إن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه السلام لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايمانا عاديا، و إما أن كان إيمانا قويا جدّا، و كانت جميع اقوال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إخباراته لديه- في ضوء ايمانه- كالنهار في وضوحه.

(2) و على الفرض الاوّل لم يكن لعليّ يقين بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (و لا شك أن عليّا ليس منهم حتما) يقين من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حتى لو قبلوا به في الظاهر، فانهم سيساورهم القلق، و لا يفارقهم الاضطراب، و اذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فانه سيبقون فريسة الخوف و الوجل و ستمرّ في نفوسهم احتمالات كثيرة حول مال الأمر و مصيره، و سيتمثل أمامهم شيح الموت المرعب في كل لحظة و آن.

و على هذا الفرض لا بد أن يقال: بأنّ عليّا عليه السلام لم

يقدم على هذا الأمر الخطير إلّا و هو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنه بات و هو يتيقن

سيد المرسلين ،ج 1،ص:598

النجاة و السلامة.

(1) و أما بناء على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى و اعظم، لأن ايمان الرجل يجب ان يبلغ من القوة و الكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ و بين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

و لا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعاد لها شي ء.

و نتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما قال له: نم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروه أن ينام في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقلب واثق بالسلامة، و نفس مطمئنّة الى النجاة، و من دون أن يخالج نفسه أقل احتمال للخطر.

و لو كان مراد ابن تيمية من قوله: ان عليّا كان واثقا من سلامته، لأن الصادق المصدّق أخبره بذلك هو: إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام فقد اثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة، و أعلى منقبة، و هي كمال الايمان و الثقة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي و إليك الجواب التفصيلي:

(2)

الجواب التفصيلي:

فنقول عن الدليل الأول: إن عبارة «لا يخلص إليك شي ء تكرهه» لم ينقلها بعض أرباب السيرة و رجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد «1».

نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630 «2»، و الطبري المتوفى عام 310 «3» هذه العبارة و كأنّما قد اخذاها عن ابن هشام في سيرته «4» التي نقل فيها تلك العبارة

______________________________

(1) مثل مؤلّف الطبقات الكبرى:

ج 1 ص 227 و 228 المولود عام 168 و المتوفى عام 230، و كذا المقريزي في امتاع الاسماع، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.

(2) التاريخ الكامل: ج 2 ص 72.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 99.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 483.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:599

بالصورة المتقدمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري و ابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماما.

هذا مضافا إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

(1) و لقد نقل شيخ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا و دقة، و ذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط، الّا أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة، فانه رحمه اللّه يصرّح بان عليّا عليه السلام انطلق هو و «هند بن أبي هالة» ابن خديجة و ربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتى دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ:

«إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ» «1».

(2) و هذه الجملة تشبه الجملة التي ذكرها ابن هشام و الطبري و ابن الأثير، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالها لعليّ عليه السلام مطمئنا إياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، و ليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول:

فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك

الليلة الرهيبة) نموذجا من بذله و تفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصاو من طاف بالبيت العتيق و بالحجر

محمّد لما خاف أن يمكروا به فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر

و بت اراعي منهم ما يسوؤني و قد وطّنت نفسي على القتل و الأسر

و بات رسول اللّه في الغار آمناهناك و في حفظ الاله و في ستر «2»

______________________________

(1) الأمالي: ج 2 ص 84.

(2) المصدر السابق و غيره، هذا مضافا إلى أنّ الإمام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مرارا بهذه القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الاسلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:600

(1) و مع هذه العبارات الصريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الذي تدل قرائن كثيرة على خطأه، و يحتمل، احتمالا قويا، بأن اشتباهه و خطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق، و حيث أنه (و نعي ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملا ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها و أنها قيلت في الليلة الثانية او الثالثة، في نظره، و روى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!!

و يؤيد رأينا هذا أيضا الحديث المعروف الذي رواه كثير من علماء السنة و الشيعة و هو: أن اللّه أوحى إلى جبرئيل و ميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما و جعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فابكما يؤثر أخاه.

و كلاهما كره الموت، فاوحى اللّه إليهما: عبد اي أ لا كنتما مثل وليي «عليّ» آخيت بينه و بين «محمّد» نبيي فاثره بالحياة على نفسه؟ أو قال: قد على فراشه يقيه بمهجته.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض

و حراسة عليّ و حفظه من عدوه «1».

(2) و اما الدليل الثاني الذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّا كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له بأداء الامانات و الودائع إلى أهلها، التي كانت تكشف عن ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم بأنه لن يصل إليه مكروه، و لهذا امره بردّ الودائع و الامانات إلى أصحابها.

و لكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلّ لهذه المشكلة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح و كامل.

و إليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب و قضية المبيت:

و ينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبد الكريم الخطيب حول

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 39 نقلا عن احياء العلوم للغزالي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:601

مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: لقد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا ليلة الهجرة، و طلب إليه أن يبيت في المكان الذي اعتاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله ان يبيت فيه، و ان يتغطى بالبرد الحضرميّ الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتغطى به حتى اذا نظر ناظر من قريش الى الدار رأى كأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نائم في مكانه مغطى بالبرد الذي يتغطى به، و هذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة اذا نظر إليه في مجرى الاحداث التي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة و اشارات دالة على ان هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمرا عارضا بل هو عن حكمة لها آثارها- الى ان قال- انه اذا غاب

شخص الرسول كان علي هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه و تمثّل شخصه و تقوم مقامه، حين نظرنا إلى عليّ و هو في برد الرسول و في مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خلف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و القائم مقامه «1».

(1)

بقية قصة هجرة النبيّ:

انتهت المراحل الاولى لنجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف الليل الى غار ثور، و اختبأ فيه، و بذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوال هذا الوقت مطمئنا لا يحسّ في نفسه بأيّ قلق أو اضطراب، حتى انه طمأن رفيق سفره عند ما وجده مضطربا في تلك اللحظات الحساسة بقوله:

«لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» «2».

و بقي هناك ثلاث ليال محروسا بعين اللّه تعالى و مشمولا بعنايته و لطفه،

______________________________

(1) راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة ص 103- 105 ملخّصا.

(2) التوبة: 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:602

و كان يتردّد عليه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الاثناء علي عليه السلام و هند ابن ابي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، و عبد اللّه بن أبي بكر و عامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الاثير. كان عبد اللّه بن أبي بكر يتسمّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا، و كان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، و كان اذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم «1».

(1) يقول الشيخ الطوسي في أماليه: عند ما دخل علي عليه السلام و هند على رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله في الغار (بعد ليلة الهجرة) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا أن يبتاع بعيرين له و لصاحبه، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي و لك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما الى يثرب.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إني لا آخذهما و لا أحدهما إلّا بالثمن. ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام فدفع إليه. ثمن البعيرين «2».

و كان من جملة وصايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلىّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهرا و ذلك بأن يقيم صارخا بالابطح غدوة و عشيا: ألا من كان له قبل محمّد أمانة او وديعة فليأت فلنؤد إليه أمانته «3».

(2) ثم أوصاه صلّى اللّه عليه و آله بالفواطم (و الفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحبيبة لديه، و الأثيرة عنده، و فاطمة بنت أسد أمّ عليّ عليه السلام و فاطمة بنت الزبير و من يريد الهجرة معه من بني هاشم)، و أمره بترتيب أمر ترحيلهم معه الى يثرب و تهيئة ما يحتاجون إليه من زاد و راحلة.

و هنا قال صلّى اللّه عليه و آله عبارته التي تذرّع بها ابن تيمية في دليله

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 73 مع تصرف.

(2) أمالي الشيخ: ح 2 ص 82. سيد المرسلين ج 1 602 بقية قصة هجرة النبي: ..... ص : 601

(3) الكامل: ج 2 ص 73، السيرة الحلبية: ج 2 ص 53.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:603

الأول: «انهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بامر تكرهه حتى تقدم عليّ».

(1) فالملاحظ للقارئ هو أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنما قال هذه العبارة عند ما أمره باداء أمانته، و ذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

أي انه أمر عليا بذلك، و قال له تلك العبارة و هو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته: «وصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في احدى الليالي و هو بالغار عليا رضي اللّه عنه بحفظ ذمته و اداء امانته ظاهرا على اعين الناس» «1».

و ثم ينقل عن مؤلف كتاب «الدر» ما يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من لغار.

و خلاصة القول: انه مع رواية شيخ جليل من مشايخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع و الامانات صدر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، و نعمد إلى الهاء العامة بالتوافه، و أما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهره بأن جميع وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة (ليلة المبيت) فقابل للتفسير و التوجيه، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع، و لم يكن لظرف صدور هذه الوصايا و الأوامر و وقت بيانها اهمية عندهم.

(2)

الخروج من الغار:

هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاث رواحل و دليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة، و يدلّهم الدليل على طريقها و أرسل كل ذلك إلى الغار.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:604

و لما سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رغاء البعير او نداء الدليل نزل هو و صاحبه من الغار

و ركبا البعيرين و توجها من أسفل مكة إلى «يثرب» سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، و قد جاء ذكر المنازل التي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام «1» و في الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير «2».

(1)

صفحة التاريخ الاولى:

اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان، و لملمت الشمس أشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها الى الوجه الآخر منها.

و عاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة و ضواحيها بحثا عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، الى بيوتهم و منازلهم متعبين مرهقين، و قد يئسوا من الظفر بالجائزة (و هي مائة من الإبل) التي وضعتها سادة قريش جائزة لمن يأخذ محمّدا أو يدل على مكانه، و اعيد فتح طريق مكة- المدينة التي اغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- «3».

و في هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل و مقدارا من الطعام، الى مسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفيقه و هما في الغار و قد كان يقول بصوت خافت: لا بد ان نتخد من ظلام هذا الليل سترا، و نسرع في الخروج من حدود المكيّين، و نختار طريقا يقلّ سالكوه و لا يهتدي إليه أحد.

و يبدأ تاريخ المسلمين من العام الذي تضمّن تلك الليلة بالضبط، و جعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام و بذلك يحددون تاريخه و زمان حدوثه.

______________________________

(1) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 491.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 75.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 104.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:605

(1)

لما ذا أصبح العام الهجري مبدأ للتاريخ:

إن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، و قد جاء الى البشرية بما تتضمنه بشريعة موسى و عيسى عليهما السلام و لكن بصورة أكمل و بصيغة تطابق و تتمشى مع جميع الظروف و الأوضاع.

و مع أن السيد المسيح عليه السلام و ميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلّا

أنّ ميلاده عليه السلام لم يتخذ لديهم مبدأ للتاريخ، و التوقيت.

و كانت العرب قد جعلت عام الفيل «1» مبدأ لتاريخها، و كانت تقيس حوادثها و امورها إليه فترة من الزمن، و مع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قد ولد في ذلك العام نفسه، إلّا أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان و الاسلام

و لاجل هذا أيضا لم يتخذوا عام البعثة مبدأ لتاريخ المسلمين أيضا لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إذن فلم يكن في اي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبررا قويا لاتخاذه مبدأ للتوقيت و التاريخ، إذ لا بد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة الأهمية.

و لكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصارا عظيما و باهرا، و قد اسست فيه حكومة مستقلة و تخلّص المسلمون من التشرذم و التبعثر، و تمركزت قواهم و عناصرهم في نقطة واحدة، و بيئة حرة لا أثر فيها للكبت و الاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأ لتاريخهم، و اخذوا يقيسون إليه- و حتى الآن- كل ما يحدث و يقع من خير و شر، لتحديد تاريخ وقوعه.

من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة الف و اربعمائة و تسعة اعوام.

______________________________

(1) و هو العام الذي سيّر فيه أبرهة جيشا لهدم الكعبة تتقدمه الفيلة. راجع المحبّر: ص 5- 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:606

(1)

من الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ؟

على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله مبدأ للتاريخ باقتراح و تأييد من الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام و امر بأن تؤرخ الدواوين، و الرسائل و العهود و ما شابه ذلك بذلك التاريخ، فان الامعان في مراسلات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مكاتباته التي هي مدرجة في الأغلب في كتب التاريخ و السيرة و الحديث و السنة، و كذا غير ذلك من الادلة التي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو نفسه أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدإ للتاريخ،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:609

و كان يؤرّخ رسائله، و كتبه إلى امراء العرب، و زعماء القبائل و غيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).

و ها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ، ثم نعمد بعد ذلك الى استعراض الدلائل الاخرى على هذا الأمر، و نحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اخرى غير ما سنذكره هنا- أيضا- لم نقف عليها.

(1)

نماذج من رسائل النبيّ المؤرخة:
اشارة

(2) 1- طلب سلمان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يكتب له و لأخيه (ماه بنداذ) و لأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا و أملى عليه امورا، و كتبها علي عليه السلام ثم جاء في آخر تلك الوصية:

«و كتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجب سنة تسع من الهجرة» «1».

(3) 2- أدرج المؤرخ الشهير «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان» نصّ معاهدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع يهود «المقنا» و ذكر أن مصريا رأى نص هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق و كان قد استنسخها، فقر أهالي.

ثم

نقل البلاذري نص تلك المعاهدة و قد جاء في نهايتها:

«و ليس عليكم امير الامن انفسكم أو من اهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم و كتب علي بن أبو طالب في سنة تسع» «2» و مع أن «أبا طالب» يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام «أبي طالب» لكونه مضافا إليه فقد كتب: «علي بن أبو طالب» و لكن مع ذلك ذكر المحققون ان قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب و الرفع و الجرّ) ب:

«أبو» و تكتبها كذلك أيضا، و قد صرح الاصمعيّ بهذا من بين الادباء.

و يقول البروفيسور «محمّد حميد اللّه» مؤلف كتاب «الوثائق السياسية»: اني

______________________________

(1) اخبار اصفهان تأليف ابي نعيم: ج 1 ص 52 و 53.

(2) فتوح البلدان: ص 72.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:610

لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة التي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «أنا علي بن أبو طالب» «1».

(1) 3- جاء في معاهدة الصلح التي نظمها «خالد بن الوليد» لاهل دمشق، و نص فيها على احترام دمائهم، و اموالهم و كنائسهم: «و كتب سنة ثلاث عشرة» «2».

و كلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.

فما يدعيه البعض من ان التاريخ الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد و تأييد من الإمام علي عليه السلام غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة او السابعة عشرة من الهجرة، و الحال ان هذه المعاهدة قد نظّمت و دوّنت و ارخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.

(2) 4- ان كتاب الصلح الذي كتبه الإمام عليه عليه السلام بأمر رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله لنصارى نجران مؤرّخ بالسنة الهجرية الخامسة.

فقد جاء في هذه الرسالة:

«و أمر عليا ان يكتب فيه انه كتب لخمس من الهجرة» «3».

ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله هو واضع التاريخ الهجري و مؤسسة الاوّل و هو الذي أمر عليا عليه السلام بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله.

(3) 5- جاء في مقدمة الصحيفة السجادية: قال جبرئيل و هو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تدور رحى الاسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر، ثم تدور رحى الاسلام على رأس خمس و ثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمسا، ثم لا بد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها» «4».

______________________________

(1) مكاتب الرسول: ص 289 نقلا عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض، و كذا الوثائق السياسية.

(2) الاموال: طبعة مصر ص 297.

(3) التراتيب الادارية: ج 1 ص 181 نقلا عن السيوطي.

(4) مقدمة الصحيفة السجادية، سفينة البحار: ج 2 ص 641.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:611

(1) 6- يروي المحدثون الاسلاميّون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لام سلمة:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يقتل حسين بن علي على رأس ستين من مهاجري» «1».

(2) 7- قال أنس بن مالك: «حدثنا أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا تأتي مائة سنة من الهجرة و منكم عين تطرف» «2».

(3) 8- أرخ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ايام حياته الحوادث الاسلامية بهجرته فقالوا: وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلا كانوا يقولون:

حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة في شهر شعبان ستة

عشر شهرا او سبعة عشر شهرا او ثمانية عشر شهرا «3».

على رأس ثمانية عشر شهرا فرض صوم شهر رمضان «4».

و قال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس أربعة و خمسين شهرا «5».

و قال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء: خرجت في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة و قدمت لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة و خمسين شهرا «6».

إنّ هذا النوع من تاريخ الحوادث و الوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا الى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة

______________________________

(1) مجمع الزوائد: ج 9 ص 190.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 367.

(3) نفس المصدر: ج 1 ص 368.

(4) المغازي: ج 2 ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.

(5) المغازي: ج 2 ص 531.

(6) المغازي: ج 2 ص 534.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:612

أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بان يورّخ الكتاب الذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.

(1) 9- نقل المحدثون الاسلاميون عن الزهري قوله: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما قدم المدينة مهاجرا أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (اي شهر قدومه المدينة) «1».

(2) 10- روى «الحاكم» عن «ابن عباس» ابن التاريخ الهجري بدأ من السنة التي قدم فيها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة «2».

إن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد

الاسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول. و انه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنا لك أن هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدّ بالأشهر ثم حل العدّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.

(3)

سؤال:

و يمكن ان يسأل سائل: اذا كان حقا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو مؤسس التاريخ الهجري و واضعه الاوّل فما ذا نفعل بالخبر الذي رواه كثير من المحدثين و المؤرخين.

فانهم يقولون: رفع رجل إلى عمر صكا مكتوبا على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر: اي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟

ثم جمع الناس (أي أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) فقال: ضعوا للناس شيئا يعرفون به حلول ديونهم ... فيقال: ان بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك.

______________________________

(1) فتح الباري: ج 7 ص 208، تاريخ الطبري: ج 2 ص 288 طبعة دار المعارف.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 13 و 14 و قد صححه على شرط مسلم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:613

و منهم من قال: ارخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضا.

و قال آخرون: أرّخوا من مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قال آخرون: أرخوا من مبعثه. و اشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرخ من هجرية الى المدينة لظهوره على كل أحد، فانه أظهر من المولد و المبعث، فاستحسن عمر ذلك و الصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1)

الجواب:

إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة التي وصفت الرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله بكونه واضع التاريخ الهجري و مؤسسة الأول.

هذا مضافا إلى أنه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله قد تعرّض للترك،

و فقد رسميته بمرور الزمن و قلة الحاجة إلى التاريخ و لكن جدّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتساع نطاق العلاقات و اعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.

(2)

التذكير بنقطتين:

(3) 1- لا نجد في الاقتراحات التي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدأ للتاريخ.

و العلة هي: أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 7 ص 73 و 74، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 74، الكبير لابن الاثير: ج 1 ص 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:614

المسيحيين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية، فهو لم يكن رائجا قبل ذلك.

(1) 2- ان البلاد و الاقطار الاسلامية بحاجة اليوم إلى الوحدة و الاتفاق اكثر من اي زمن مضى.

و من مظاهر تلك الوحدة هو السعى للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري.

و من هنا يتوجب على الاقطار الاسلامية ان تقيم كل روابطها، و علاقاتها على أساس التاريخ الهجري، شمسيا كان أو قمريا.

و ان هذا الأمر بحاجة الى مؤتمر إسلامي كبير يشترك فيه كبار الشخصيات الفكرية الاسلامية من أجل توحيد التاريخ، و دراسة السبل الكفيلة بالوصول الى هذا الأمر، و التخلّص من التبعية الغربية في التاريخ.

ان من المؤسف جدا أن تتجاهل بعض الدول الاسلامية و العربية التاريخ الهجري و تعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ، حتى أن شيخ الجامع الازهر الذي يشكل قمة القيادة الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي، و لا يذكر الى جانبه التاريخ الهجري على الأقل!! «1»

(2)

مؤامرة الطاغوت:

و كانت ايران من الاقطار الاسلامية التي حافظت بشدة على التاريخ الهجري، و اعتمدته في اعمالها، و لكن في المؤامرة التي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 ه استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي و اعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلق بدل التاريخ الهجري الاصيل!!

و لقد تصوّر الطاغوت الأرعن أنه

يستطيع بحذف التاريخ الهجري، و استبداله

______________________________

(1) و قد رأيت أنا شخصيا رسالة من شيخ الجامع الأزهر الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم و عليها التاريخ الميلادي فحسب!!

سيد المرسلين ،ج 1،ص:615

بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة، و سلطانه المنخور، و نظامه الظالم المهترئ، مدة أطول، و لكن العناية الالهية، و همة الشعب الإيراني المسلم العالية، و قيادة الاستاذ الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء، و آل الأمر إلى اسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة و اقامة حكومة الجهورية الاسلامية على انقاض الحكم الملكي المباد، و احلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. و الحمد للّه «1».

(1)

برنامج الرحلة في حادث الهجرة:

لقد كان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يقطع- للوصول الى المدينة- ما يقرب من اربعمائة كيلومترا، و لا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطة صحيحة، لضمان السلامة، خاصة و انهم كانوا يخافون من ان يقوم الأعراب الذين كانوا ربما يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم، و لهذا كانوا يسيرون ليلا و يستريحون نهارا.

و يبدو أن شخصا شاهد النبيّ و من معه في أثناء الطريق فرجع إلى مكة و أخبر قريشا بذلك فخرج «سراقة بن مالك بن جعشم» يطلبهم طمعا في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد صرف قريشا عن ملاحقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك ليتفرد بها. «2»

(2) يقول ابن الاثير: تبعهم سراقة فلحقهم فقال أبو بكر: يا رسول اللّه ادركنا الطلب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تحزن إنّ اللّه معنا».

ثم قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم اكفني شرّ سراقة بما شئت» فجمح به فرسه و طرحه أرضا.

______________________________

(1) يستخدم في ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي و هو ينفع لمعرفة الفصول و ما شاكل ذلك.

(2) التاريخ الكامل: ج 2 ص 105.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:616

فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس: يا محمّد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي.

و ان احتجت الى ظهر (اي مركوب) أو لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا حاجة لي في مالك. «1».

(1) و روى المجلسي ان سراقة قال: فسلني حاجة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ردّ عنّا من يطلبنا من قريش.

فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد، و أنا اكفيكم هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن و الطائف.

و هكذا ما كان يمرّ باحد إلّا و صرفه عن البحث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذا الطريق بمثل هذا الكلام.

(2) ثم إن كتّاب السيرة من الشيعة و السنّة يذكرون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كرامات كثيرة في طريق مكة- المدينة و نحن ندرج واحدة بعضها:

مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الطريق على خيمة أمّ معبد و كانت امرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها و طلبوا منها تمرا و لحما أو لبنا يشترون.

فقالت: ما يحضرني شي ء و كانت أغنامها قد اصيبت بالهزال بسبب الجدب، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلّى اللّه عليه و

آله لها: ما هذه الشاة يا أمّ معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد من الغنم فقال: هل بها من لبن؟.

قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أ تأذنين ان أحلبها؟

______________________________

(1) يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل: ج 2 ص 105، و المجلسي في البحار: ج 19 ص 75- 88 القصة كما نقلناها هنا، و لكن مؤلف حياة محمّد يقول: ان سراقة تطيّر لما كبابه فرسه و القي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالّته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:617

قالت: نعم ان رأيت بها حلبا فاحلبها.

(1) فدعا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فمسح بيده ضرعها، و سمّى اللّه عز و جل، و دعا لها في شاتها قائلا: اللّهم بارك لها في شاتها فدرّت لبنا كثيرا بفضل دعائه صلّى اللّه عليه و آله، فطلب إناء و حلبها، فسقاها أولا حتى روّيت ثم سقى أصحابه حتى رووا و شرب هو آخرهم، و قال:

«ساقي القوم آخرهم شربا».

ثم حلب الشاة مرة ثانية فغادره عندها، و ثم ارتحلوا عنها إلى المدينة. «1»

و قد ذكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة و التاريخ، و هو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه، لأن الدعاء أحد الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة، و شأنها شأن غيرها من الكرامات التي ورد ذكرها في الكتب الدينية و صدقته التجربة «2».

(2)

النزول في قرية قباء:

تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد الى مكة و كانت مساكن «بني عمرو بن عرف» و مركزهم.

و لقد وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه إلى قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين، و نزل على «كلثوم بن الهرم» و هو شيخ من

بني عمرو و كان ثمة جمع كبير من المهاجرين و الانصار ينتظرون قدومه، و يستخبرون وروده.

و لقد لبث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قباء إلى آخر أيام الاسبوع، و قد خط في هذا الفترة مسجدا لقبيلة «بني عمرو بن عوف»، و نصب قبلته «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 75.

(2) بحار الأنوار: ج 18 ص 43 و ج 19 ص 99- 103، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 230 و 231، تاريخ الخميس: ج 1 ص 333، أسد الغابة: ج 1 ص 377.

(3) تاريخ الخميس: ج 1 ص 338.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:618

و كان البعض ممن رافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينتظر ابن عمه عليا.

و يقول: فما أنا بداخلها حتى يقدم ابن امّي و أخي، و ابنتي (يعني عليّا و فاطمة عليهما السلام) «1».

(1) و أقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بايامها، حتى أدّى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الودائع التي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكة و نادى قائلا:

«من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدّ إليه أمانته».

فكان يأتيه من له امانة او وديعة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يذكر علامتها و يأخذها فلما فرغ عليه السلام من اداء الامانات و الودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمه فاطمة بنت اسد، و فاطمة بنت الزبير و آخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك الساعة، و توجه بهم نحو المدينة

ليلا سالكا بها طريقا في «ذي طوى».

(2) كتب الشيخ الطوسي في أماليه في هذا الصدد يقول: إن جواسيس قريش عرفت بسفر علي مع تلك الجماعة، فخرجوا لملاحقتهم، لغرض اعادتهم الى مكة، فادركوهم في منطقة «ضجنان».

و وقع بين رجال قريش و بين علي عليه السلام تلاح و تناوش، و أخذ و ردّ، و دنا الرجال من النسوة، و المطايا ليثوروها فحال عليّ عليه السلام بينهم، و بينها، و لم يجد عليه السلام طريقا إلّا أن يدافع عن حرم الاسلام و المسلمين، فشدّ عليهم بسيفه شدّة الأسد الغضب و الليث الغيور و هو يقول مرتجزا:

خلّوا سبيل الجاهد المجاهدآليت لا أعبد غير الواحد

______________________________

(1) الفصول المهمة لابن صباغ المالكي: ص 35 دون ان يذكر اسما، و أمالي الشيخ الطوسي: ج 2 ص 83.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:619

(1) فلما وجدوا ما به من الجدّ و الغضب خافوه و تفرّقوا عنه و قالوا- بنبرة الخائف المتضرع-: احبس عنّا نفسك يا ابن أبي طالب، فقال عليه السلام:

«فإنّي منطلق إلى ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيثرب فمن سرّه ان افري لحمه و اهريق دمه فليتبعني، و ليدن مني».

فتركه القوم و عادوا من حيث أتوا، و واصل الركب رحلته باتجاه المدينة.

يقول ابن الاثير: قدم «علي» المدينة و قد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ادعوا لي عليّا، قيل: لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اعتنقه و بكى رحمة لما بقدميه من الورم «1».

و لقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، و التحق به علي عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه «2»، و يؤيد هذا القول ما

ذكره الطبري في تاريخه اذ كتب يقول: و اقام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال و أيامها حتى أدى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم الودائع التي كانت عنده الى الناس «3».

(2)

المدينة تهبّ لقدوم النبيّ:

و لقد كان يوم دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما عظيما جدا، و مشهودا.

فكم ترى ستكون عظيمة فرحة الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ ثلاث سنوات، و ظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم و وكلائهم إليه، و يذكرون اسمه المقدس، و يصلّون عليه في صلواتهم كل يوم، إذا سمعوا أن

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 106.

(2) إمتاع الأسماع: ص 48 و على هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاولى من الهجرة، و قد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين و دخل غار ثور و بقي ماكثا فيه ثلاثة أيام، و خرج منه ليلة الخميس اول ربيع الاول و توجه نحو المدينة و وصل قباء في الثاني عشر منه راجع تاريخ الخميس: ج 1 ص 337- 338.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:620

قائدهم ذلك الذي طال انتظارهم اياه، و اشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا اياما، و سيقدم إليهم و يدخل مدينتهم بعد ايام؟ و كم سيكون مبلغ ابتهاجهم، و أي ابتهاج ترى سيعم كل صغير و كبير؟

إنه حقا لأمر يعجز القلم عن بيانه، و يكل اللسان عن وصفه.

(1) و لقد كان لفتية الأنصار و شبابهم الضامئين إلى الاسلام الحنيف برنامج رائع و عظيم، فقد

كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من ادران الوثنية الى كل صنم في المدينة كان يقدّس و يعبد فاحرقوه و كسّروه، و قد كان كل شريف في بيته صنم يمسحه و يطيّبه، و لكل بطن من الأوس و الخزرج صنم في بيت لجماعة يكرّمونه و يطيّبونه، و يجعلون عليه منديلا و يذبحون له «1».

و لا بأس في أن نذكر نموذجا من هذا العمل الجليل الذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية:

لما قدم من بايع من الأنصار في العقبة الثانية الى المدينة اظهروا الاسلام بها و في قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين الشرك و عبادة الأوثان منهم «عمرو بن الجموح» و كان من سادات بني سلمة و شريفا من أشرافهم و كان ابنه «معاذ» بن عمرو قد شهد بيعة العقبة.

(2) و كان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له: مناة، كما كانت الاشراف يصنعون، تتخذه إلها تعظّمه و تطهّره، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، و ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه و يطرحونه في بعض حفر بني سلمة و مزابلها، و فيها فضلات الناس و عذرها منكّسا على رأسه!!

فاذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله و طهّره و طيّبه. ثم قال للصنم: أما و اللّه لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينّه!

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 107.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:621

فاذا أمسى و نام عمرو عدوا عليه ثانية ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولا.

فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى و الوسخ فيغسله و

يطهّره و يطيّبه، ثم يعدون عليه إذا امسى فيفعلون به مثل ذلك.

(1) فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله و طهّره و طيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إنّي و اللّه ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، و دافع عن نفسك فهذا السيف معك.

فلما أمسى و نام عمرو عدوا على ذلك الصنم فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميّتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس و فضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب، ميّت، فلما رآه و أبصر شأنه و كلّمه من اسلم من رجال قومه فاسلم، و هجر الوثنية و الأوثان و حسن إسلامه.

فقال حين أسلم و عرف من اللّه ما عرف و هو يذكر صنمه ذلك، و ما أبصر من شأنه و يشكر اللّه تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى و الضلالة:

و اللّه لو كنت إلها لم تكن أنت و كلب وسط بئر في قرن

افّ لملقاك إلها مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن

فالحمد للّه العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديّان الدين

هو الّذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن

بأحمد المهدي النبيّ المرتهن

«1»

النبيّ يدخل المدينة:

(2) بعد أن التحق علي عليه السلام و من معه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قباء توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة و لما انحدر من ثنية الوداع (و

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 4 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:622

هي منطقة قريبة من المدينة) و حط قدمه على تراب يثرب استقبله

الناس رجالا و نساء، كبارا و صغارا، استقبالا عظيما و رحّبوا به اعظم ترحيب، و ردّد المرحّبون أنا شيد الترحيب التالية:

طلع البدر علينامن ثنيات الوداع

وجب الشكر عليناما دعا للّه داع

أيّها المبعوث فيناجئت بالأمر المطاع (1) و كانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده و أصرّت عليه بأن ينزل في قباء و قالوا: أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ و الجلد، و الحلقة (أي السلاح) و المنعة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقبل.

و بلغ الأوس و الخزرج خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح و أقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيّ من أحياء الانصار إلّا وثبوا في وجهه و أخذوا بزمام ناقته و أصرّوا عليه بأن ينزل عليهم هذا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: خلّوا سبيلها فانها مأمورة.

و اخيرا لما انتهت ناقته- و كان صلّى اللّه عليه و آله قد أرخى زمامها- إلى باب المسجد الذي هو اليوم، و لم يكن مسجدا إنما كان أرضا واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما: سهل و سهيل و كانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب «ابي أيوب» خالد بن زيد «1» الانصاري الذي كان على مقربة من تلك الأرض.

فاغتنمت أم أبي ايوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحلّته و أدخلته منزلها، بينما اجتمع عليه الناس و يسألونه أن ينزل عليهم.

فلما أكثروا عليه، و تنازعوا في أخذه قال صلّى اللّه عليه و آله أين الرحل؟؟

فقالوا: يخوف أم أيوب قد ادخلته في بيتها.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «المرء مع رحله» و

أخذ اسعد بن زرارة بزمام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 108 و لكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ الى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:623

الناقة فحوّلها الى منزله «1».

(1)

أصل النفاق و منشؤه:

كانت الأوس و الخزرج قد اتفقتا على أن تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول (رئيس المنافقين و كبيرهم) عليهم، و ذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة و تؤمن به و تعتنق الاسلام، و لكن هذا القرار الغي بعد اتصال الأوس و الخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من هنا حنق عبد اللّه بن ابي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اضمر له العداوة منذ ذلك الحين، و لم يؤمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى آخر حياته، بل كان ينافق باسلامه.

و لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و شاهد عبد اللّه بن ابي ذلك الاستقبال و الترحيب العظيمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي قام بهما الأوس و الخزرج، شق عليه ذلك جدا، و لم يستطع اخفاء حنقه و غضبه، وحده و عداوته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله!

فعند ما انتهى صلّى اللّه عليه و آله إلى عبد اللّه بن ابي- و قد أرخى صلّى اللّه عليه و آله زمام ناقته لتبرك حيث تريد، أخذ عبد اللّه كمّه و وضعه على أنفه، و قد ثارت الغبرة بسبب الزحام و قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنبرة الحانق الغاضب: يا هذا اذهب إلى الّذين غرّوك و خدعوك و أتوا بك، فانزل عليهم، و لا تغشنا في ديارنا!!

(2) فقام سعد بن عبادة-

و قد خشي أن يسوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا الموقف الوقح الشرير فقال: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شي ء، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملّكه علينا، و هو يرى الآن أنّك قد سلبته أمرا قد كان أشرف عليه «2».

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 1 ص 341.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 108.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:624

(1) هذا و يتفق عامة المؤرخين و كتّاب السيرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل يثرب يوم الجمعة، و صلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، و كانت هذه اوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الاسلام فخطب في هذه الجمعة و هي أوّل خطبة خطبها في المدينة، و قد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة التي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظا و معنى من قبل، أثرا عميقا و طيّبا في قلوبهم و نفوسهم.

و قد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته «1» كما أدرجها المجلسي في بحاره «2» أيضا.

غير أن عبارات و مضامين الخطبة التي نقلها ابن هشام و اثبتها في سيرته تختلف عما رواها و اثبتها المجلسي، و للاطلاع على ذلك يراجع المصدران المذكوران.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 500 و 501.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:625

الفهارس

اشارة

1- فهرس الآيات القرآنية

2- فهرس الأحاديث الشريفة

3- فهرس الأشعار

4- فهرس الأعلام

5- فهرس القبائل و الامم

6- فهرس الكنى و الألقاب

7- فهرس الوقائع و الأيام

8- فهرس الأماكن و البلدان

9- فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

10- فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة

11- فهرس المواضيع

سيد المرسلين ،ج 1،ص:627

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة- 2 الآية رقمها الصفحة

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ/ 78/ 241

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ/ 89/ 281 و 350

رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً/ 126/ 142 و 145

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا/ 129/ 350

إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي/ 133/ 131

إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً/ 134/ 240

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ/ 143/ 308

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ/ 146/ 349

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ/ 174/ 349

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ/ 185/ 344

قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ/ 189/ 606

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ/ 204/ 595

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً/ 213/ 316

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ/ 219/ 45

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ/ 231/ 63

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ/ 233/ 62

قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا/ 275/ 49

وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ/ 275/ 50

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا/ 278 و 279/ 49

سيد المرسلين ،ج 1،ص:628

آل عمران- 3 وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ/ 37/ 223

يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ/ 42/ 241

وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ/ 49/ 479

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ/ 61/ 479

وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً/ 67/ 240

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ/ 81/ 348

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ/ 145/ 355

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً/ 153/ 42

وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا

حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ/ 153/ 66

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ/ 164/ 350

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ/ 187/ 349

النساء- 4 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ/ 19/ 63

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ/ 22/ 69

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها/ 56/ 441

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً/ 82/ 449

إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ/ 171/ 241

المائدة- 5 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ/ 3/ 47

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ/ 45/ 475

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ/ 75/ 101

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ/ 90/ 302

ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا .../ 103/ 44

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ/ 104/ 475

الأنعام- 6 وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ/ 7/ 436

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ/ 8/ 475

سيد المرسلين ،ج 1،ص:629

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ/ 19/ 351

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ/ 50/ 328

لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي/ 77/ 121

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ/ 79/ 125

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ .../ 84/ 239

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ/ 100/ 43

الأعراف- 7 وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ/ 127/ 121

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ/ 157/ 45 و 67 و 83

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ/ 157/ 224

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ/ 157/ 258

الأنفال- 8 وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا/ 30/ 586

التوبة- 9 إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً/ 36/ 245

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ/ 37/ 49 و 256

لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا/ 40/ 601

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ/ 84/ 240

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ/

100/ 419

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً/ 122/ 355

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ/ 113- 114/ 132

يونس- 10 وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ .../ 15/ 310 و 476

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ/ 16/ 242 و 300 و 297

هود- 11 أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ/ 13/ 472

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ/ 49/ 356

سيد المرسلين ،ج 1،ص:630

الرعد- 13 وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ/ 38- 40/ 438

إبراهيم- 14 رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً/ 35/ 145

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ/ 37/ 142

الحجر- 15 وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ/ 6/ 472 و 332

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ/ 9/ 491

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ/ 42/ 496

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ/ 94/ 392

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ/ 95/ 413

النحل- 16 وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا/ 58 و 59/ 6

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا/ 99/ 496

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ/ 103/ 235 و 471

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ .../ 105 و 106/ 417

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ/ 120/ 240

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ/ 127/ 477

الإسراء- 17 سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا/ 1/ 478 و 538 و 548

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ/ 88/ 181

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ/ 90 و 93/ 433 و 435 و 436 و 477

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ/ 385/ 443

الكهف- 18 وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ/ 28/ 477

مريم- 19 يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ/ 12/ 295

سيد المرسلين ،ج 1،ص:631

وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا .../

14 و 15/ 242

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ .../ 16- 33/ 201 و 222 و 295

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ/ 42- 47/ 130

طه- 20 طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى .../ 1- 8/ 426

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى .../ 37- 40/ 200

رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ .../ 50/ 314

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ .../ 114/ 346

الأنبياء- 21 بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ/ 5/ 331

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ .../ 51- 70/ 37

وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ/ 57/ 138

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا/ 64/ 139

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً/ 81/ 238

الفرقان- 25 تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ .../ 1/ 351

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ .../ 4- 6/ 303- 304 و 472

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها .../ 5- 6/ 474

وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ/ 7/ 475

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً/ 32/ 443

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ/ 32/ 442 و 445

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا/ 32/ 441

الشعراء- 26 قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ/ 153/ 472

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ/ 193- 195/ 336

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ/ 214/ 128 و 392

وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ/ 219/ 195

سيد المرسلين ،ج 1،ص:632

النمل- 27 وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً/ 15/ 238

القصص- 28 وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي/ 38/ 121

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ/ 46/ 308

وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ/ 46/ 42

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ/ 86/ 297 و 308

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ/ 86/ 301

الأحزاب- 33 ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ/ 40/ 351

سبأ- 34 وَ قالَ الَّذِينَ

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ/ 7 و 8/ 44

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ/ 15/ 33

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ/ 28/ 351

فاطر- 35 وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ/ 36/ 533

يس- 36 وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ... فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ/ 9/ 588

ص- 38 وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ .../ 5 و 6/ 475

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ .../ 45- 46/ 239

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ/ 48/ 240

فصّلت- 41 حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .../ 1- 5/ 431

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا/ 30/ 453

الفتح- 48 وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ/ 4/ 177

سيد المرسلين ،ج 1،ص:633

الطور- 52 فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ/ 29/ 472

النجم- 53 وَ النَّجْمِ إِذا هَوى .../ 1- 5/ 332

وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ... إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ/ 3 و 4/ 49

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى/ 4/ 328

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى ... وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى/ 19 و 20/ 43 و 493

أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى/ 12، 18/ 539

الصف- 61 وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ/ 6/ 379

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ/ 48/ 475

القلم- 68 وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ/ 4/ 259

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ/ 48/ 477

الحاقة- 69 وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ .../ 42/ 472

المزمّل- 73 فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ/ 10/ 477

المدثر- 74 يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ/ 1 و 3/ 379

وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ/ 4- 5/ 297

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ/ 5/ 301

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .../ 11- 30/ 430

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .../ 11- 51/ 469

سيد المرسلين ،ج 1،ص:634

النازعات- 79 فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً/ 5/

177

أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى/ 24/ 121

عبس- 80 عَبَسَ وَ تَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى .../ 1- 11/ 481

التكوير- 81 وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ/ 8/ 58

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ .../ 20- 28/ 332

البروج- 85 قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ/ 4- 9/ 161

الضحى- 93 وَ الضُّحى وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى .../ 1- 11/ 380

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .../ 6- 7/ 297

وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى .../ 8/ 298

الانشراح- 94 أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ/ 1- 4/ 300

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ/ 4/ 209

العلق- 96 اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .../ 1- 5/ 322

القدر- 97 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ/ 1- 3/ 344

الفيل- 105 أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ .../ 1- 5/ 165

الكوثر- 108 إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ/ 1- 4/ 509

سيد المرسلين ،ج 1،ص:635

الكافرون- 109 قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ/ 476

المسد- 111 تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ .../ 1- 5/ 414

سيد المرسلين ،ج 1،ص:636

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث القائل الصفحة آمنت قبل الناس بسبع سنين/ (علي)/ 362

أ تعلمون أنّ اللّه فضّل في كتابه السابق .../ (علي)/ 363

اجتمعت على هذه الامة مصيبتان .../ (النبي)/ 364

أخذ اللّه على الوحي ميثاقهم .../ (علي)/ 316

أ رأيتكم إن اخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم/ (النبي)/ 401

أرسله على حين فترة من الرسل/ (علي)/ 92

أرسله بالضياء و قدمه في الاصطفاء/ (علي)/ 94

ارسلت إلى الناس كافّة/ (النبي) 351

استرضع لولدك بلبن الحسان/ (الباقر)/ 218

أسلمت قبل ان يسلم الناس بسبع سنين/ (علي)/ 316

اضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة/ (علي)/ 94

اعطيت الشفاعة و هي نائلة من امتي من لا يشرك/ (النبي)/ 533

أفضل نساء امتي اربع ../ (النبي)/ 259

العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت .../ (النبي)/ 82

اللهم أنيس المستوحشين/ (النبي)/ 287

اللهم لا أعرف عبدا من هذه الامة عبدك

.../ (علي)/ 362

اللهم اكفني شرّ سراقة بما شئت/ (النبي)/ 615

اللهم بارك لها في شاتها/ (النبي)/ 617

إلى شهادة ان لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 51

سيد المرسلين ،ج 1،ص:637

الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء/ (النبي)/ 563

أما و اللّه لاستغفرنّ لك و لأشفعن فيك شفاعة/ (النبي)/ 529

أمنكم أحد أسلم مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

أنا أوّل رجل أسلم مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

أنا اول من اسلم مع النبي (علي) 361

أنا اول من صلّى مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

انا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم الى .../ (النبي)/ 567

انا الصديق الاكبر آمنت قبل ان يؤمن ابو بكر/ (علي)/ 361

انتم على قومكم بما فيكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم/ (النبي)/ 572

أنشدكم اللّه أيها الرهط أ تعلمون أنّ .../ (علي)/ 364

أنا عبد اللّه و اخو رسول اللّه/ (علي)/ 357

أنا عبد اللّه و اخو رسول اللّه و انا الصديق الاكبر/ (علي)/ 361

انا يا رسول اللّه اكون وزيرك على ما بعثك اللّه/ (علي)/ 395

انظروا من يرضع أولادكم/ (علي)/ 218

انّ أولى الناس بامر هذه قديما و حديثا/ (علي)/ 362

ان كثيرا من التمائم شرك/ (النبي)/ 82

إنّ اللّه بعث محمّدا نذيرا للعالمين/ (النبي)/ 348

انّ اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السّلام و من بعده/ (النبي)/ 348

انّ الرائد لا يكذب أهله/ (النبي)/ 394

إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف/ (الصادق)/ 530

إنّ محمّدا (ص) لما دعا إلى الايمان و التوحيد/ (علي)/ 363

إنّ اللّه لا يوصف بمكان و لا يجري عليه زمان/ (الكاظم)/ 553

إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم/ (النبي)/ 398

أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي اللّه/ (علي)/ 588

أوّلكم واردا عليّ الحوض اولكم اسلاما/ (النبي)/ 358

سيد المرسلين ،ج 1،ص:638

أي بني اني و ان لم اكن عمّرت عمر من .../

(علي)/ 11

أيّها الذاكر عليا انا الحسن بن علي/ (الحسن)/ 269

أيّها الناس ان الشمس و القمر آيتان/ (النبي)/ 69

ثم إن اللّه سبحانه بعث محمّدا/ (علي)/ 94

حجّ رسول اللّه (ص) عشر حجات/ (الصادق)/ 294

زوّجتك خير امتي اعلمهم علما/ (النبي)/ 359

صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة/ (النبي)/ 416

صليت مع رسول اللّه ثلاث سنين قبل أن .../ (علي)/ 363

عبدت اللّه مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

عبدت اللّه قبل ان يعبده أحد من هذه الامة/ (علي)/ 362

فاني منطلق إلى ابن عمي رسول اللّه/ (علي)/ 619

فبلغ بالرسالة صادعا بالنذارة/ (الزهراء)/ 95

فلما بعث اللّه محمّدا للنبوة و اختاره للرسالة/ (علي)/ 364

في أصلاب النبيين نبي بعد نبي/ (الصادق)/ 195

قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا .../ (النبي)/ 562

كنا اذا احمرّ البأس اتقينا برسول/ (علي)/ 244

لا تبكي يا بنيّة فان اللّه مانع اباك/ (النبي)/ 556

لا تسترضعوا الحمقاء/ (الباقر)/ 218

لا و اللّه ان كنت أول من صدّق به/ (علي)/ 362

لا و اللّه ما ابدلني اللّه خيرا منها/ (النبي)/ 262

للدابة على صاحبها ست خصال/ (النبي)/ 80

لقد صلّت الملائكة عليّ، و على عليّ/ (النبي)/ 360

لم أومر بذلك (قالها النبي في جواب من خطب فاطمة)/ (النبي)/ 360

لم يكن معي من الرجال غيره/ (علي)/ 360

لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت .../ (النبي)/ 561

لو وضع ايمان ابي طالب في كفة ميزان .../ (الباقر)/ 529

سيد المرسلين ،ج 1،ص:639

ما أعرف أحدا من هذه الامة عبد اللّه بعد نبينا غيري/ (علي)/ 362

ما من لبن يرضع به الصبي اعظم بركة من لبن أمه/ (علي)/ 218

ما من نبي إلا و قد رعى الغنم/ (النبي)/ 252

مستقره خير مستقر/ (علي)/ 93

من يؤازرني يكون أخي و وصيي و خليفتي/ (النبي)/ 398

مهلا يا أماه فان معي من يحفظني/ (النبي)/ 293

موعدكم العقبة

في الليلة الوسطى/ (النبي)/ 571

نم في فراشي فانه لا يخلص إليك شي ء/ (النبي)/ 571

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله/ (علي)/ 92

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله ابتعثه و الناس .../ (علي)/ 94

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله و سيد عباده/ (علي)/ 195

و شفاعتي لمن شهد ان لا إله إلّا اللّه مخلصا/ (النبي)/ 533

و كيف ينزل عليّ و انتم لا تقصّون أظافركم/ (النبي)/ 382

و لقد قرن اللّه به من لدن كان فطيما ملكا/ (علي)/ 294

و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه/ (علي)/ 286

يا اماه لا ارى اخويّ في النهار/ (النبي)/ 70

يا حميراء ان اللّه تبارك و تعالى بارك في .../ (النبي)/ 263

يا علي أخصمك بالنبوة و لا نبوة بعدي/ (النبي)/ 360

يا علي ان قريشا اجتمعت على المكر بي .../ (النبي)/ 588

يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيه احد/ (النبي)/ 360

يا عم و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر .../ (النبي)/ 405

سيد المرسلين ،ج 1،ص:640

(3) فهرس الأشعار

سيد المرسلين ج 1 640 (3) فهرس الأشعار ..... ص : 640

لامكم لسهام الجهل شافية 77

أبني لا تنس البليّة إنها 74

أبونا شفيع الناس حين سقوا به 288

اذا اختلجت عيني أقول لعلها 79

اذا اختلجت عيني تيقنت انني 79

اذا متّ فادفني بحرّاء ما بها 74

اذا متّ فادفني الى جنب كرمة 67

أربا واحدا أم ألف رب 55، 283

اصبرن يا بنيّ فالصبر احجى 514

ألا ان خير الناس بعد محمّد 373

ألا حلأ في شقه مشقوقة 77

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر 460

ألا هل اتى بحريّنا صنع ربنا 508

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمّدا 521

أ ليس أول من صلى لقبلتكم 372

اما الحرام فالممات دونه 291

انا اخو المصطفى لا شك في نسبي 363، 292

أنت

الجليل ربنا لم تدنس 185

إن صح ما أبصرت في المنام 185

سيد المرسلين ،ج 1،ص:641

أنّ آيات ربنا بينات 185

إن ابن آمنة النبي محمّد 72، 518

انّ عليا لميمون نقيبته 372

إنّ الفراغ و الشباب و الجدة 275

إنّ الفضول تعاقدوا و تحالفوا 249

ان الذين سموا باسم محمّد 211

اوصيك يا عبد مناف بعدي 289

ان يكن ما اتى به احمد اليوم 213

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا 287

بناة مكارم و اساة جرح 77

تشاجرت الاحياء في فصل خطة 285

تظل مقاليت النساء يطأنه 76

حلفت لنعقدن حلفا عليهم 249

خانته لما رأت شيبا بمفرقه 75

خلوا سبيل الجاهد المجاهد 618

دعانا الزبير الى بيعة 374

دعوت ابا المغوار في الحضر دعوة 78

رأيت عليّا لا يلبّث قرنه 372

سبقتكم الى الاسلام طرا 363

سقته اباة الشمس إلا لثاثة 76

سلط الموت و المنون عليه 56

شادن يحلو اذا ما ابتسمت 76

صحوت و اوقدت للجهل نارا 79

صلى الإله و من يحيق بعرشه 214

طلع البدر علينا 622

فالزمتني ذنبا و غيري جرّه 73

سيد المرسلين ،ج 1،ص:642

فاني اذا كالثور يضرب جنبه 72

فان يك حقا يا خديجة فاعلمي 215

فحوطوا عليا فانصروه فانه 373

فشق له من اسمه ليجلّه 211

فصلّى الاله على أحمد 374

ففي كف احمد قد سبّحت 214

فقل للمضل من وائل 374

فلا تحسبونا خاذلين محمدا 514

فلا تجعلوها كالبقير و فحلها 73

فليت لي بهمو قوما اذا ركبوا 66

فلو ان عندي جارتين و راقيا 76

فهذا نبي اللّه أحمد سبّحت 214

فيا رب ان اهلك و لم تروها متى 56

فيا ليت ان الجن جازوا حمالتي 78

قالوا و قد طال عنائي و السقم 78

قد استعذنا بعظيم الوادي 79

قلبت ثيابي و الظنون تجول بي 75

قل للقوافل و الغزاة إذا غزوا 74

قف عند رأيك و اجتهد 519

كذاك الثور يضرب بالهراوى 72

كذبتم و بيت اللّه نبزى محمّدا 517

كمن يكوي الصحيح

يروم برء 73

لا تحسبن رثائما عقّدتها 75

لعمري ان عشرت من خيفة الردى 75

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد 214

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة 374

سيد المرسلين ،ج 1،ص:643

لكل ابي بنت يراعى شئونها 63

ليت الغراب غداة ينعب دائبا 80

ليعلم خيار الناس ان محمّدا 521

ما كنت احسب ان الأمر منصرف 372

مع ابن عم احمد المعلى 269

مفجعة قد شفها فقد أحمد 214

من فيه ما فيهم ما تمترون به 373

نبيا يرى ما لا يرون و ذكره 484

نجسته لا ينفع التنجيس 76

هذا علي و ابن عم المصطفى 371

هذا علي و الهدى حقا معه 373

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه 290، 516

و إن عليا لكم مصحر 373

و ساحرة عينيّ لو أنّ عينها 80

و ان ولى الأمر من بعد محمّد 371

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى 599

و اللّه لو كنت الها لم تكن و لا ينفع التعشير ان حمّ واقع 74

و لو لا أبو طالب و ابنه 533

و كلّفتني ذنب امرئ و تركته 73

و كم شققنا من رداء محبّر 77

و كم ناديته و الليل ساج 78

وصي رسول اللّه من دون أهله 372

يا آل فهر لمظلوم بضاعته 249

يا راكبا بلغن عني مغلغلة 455

يا رب يا رب أنت مولاه 269

سيد المرسلين ،ج 1،ص:644

يا رب لا أرجو لهم سواكا 287

يا رب ردّ راكبي محمّدا 299

يا عجبا لهذه الفليقة 78

يا كحل قد اثقلت اذناب البقر 72

سيد المرسلين ،ج 1،ص:645

(4) فهرس الأعلام

(أ) آپولو 551.

آزر 122، 124، 130، 131، 132، 133، 140.

إبراهيم (الخليل) 29، 37، 48، 51، 54، 59، 89، 119، 120، 122، 123، 124، 125، 126، 127، 129، 130، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143، 144، 145، 162، 203، 239، 240، 271، 278، 282، 292، 350، 498.

ابراهيم

(بن رسول اللّه) 96.

ابراهيم بن علي الدينوري 528.

أبرهة 159، 161، 162، 163، 164، 165، 169، 170، 182، 186، 187، 188، 286، 552، 593، 605.

ابن أبي شيبة 361، 377.

ابن أبي الحديد 214، 267، 269، 360، 361، 363، 364، 365، 368، 523.

ابن اسحاق (صاحب السيرة) 356، 371، 378.

ابن الاثير 170، 259، 357، 364، 413، 455، 598، 599، 602، 604، 612، 615، 619.

ابن أمّ مكتوم 481.

ابن تيمية 395، 396، 397، 398، 600، 602.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:646

ابن حجر 357.

ابن حذيفة الاسدي 373.

ابن حنظلة 522.

ابن خالدون 16، 64.

ابن ربيعة 557، 558.

ابن الزبير 250

ابن سعد (صاحب الطبقات) 358، 561.

ابن شهر اشوب

ابن الصباغ المالكي 618.

ابن طاوس 258.

ابن طلحة (الشافعي) 363.

ابن عباس 60، 164، 265، 266، 360، 363، 365، 368، 612.

ابن عبد البر 378.

ابن كثير الشامي 410، 516.

ابن ماجة (صاحب السنن) 361.

ابن مزاحم (مؤلف وقعة صفين) 362، 363، 366.

ابن المغازلي 360.

ابن المغيرة المخزومي 284.

ابن هشام (المؤرخ) 214، 244، 250، 268، 272، 281، 283، 296، 341، 377، 416، 423، 424، 427، 455، 468، 508، 521، 541، 563، 577، 598، 599، 600، 604، 624.

ابن الوليد 431.

ابي بن خلف.

أحمد الاحسائي 547.

أحمد (اسم النبي) 212، 213، 214.

أحمد بن حنبل 531، 532.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:647

أحمد بن معين بن خراش 531.

أحمد بن عبد الحليم الحراني 596.

الاخنس بن شريق 439، 483.

أردشير بابك 112.

أرقم بن أبي الارقم 388، 416.

اريقط 603.

اساف (صنم) 90.

اسبوتنيك 551.

اسحاق المدني 371.

أسعد بن زرارة 50، 51، 52، 569، 571، 578، 623.

إسفنديار 473.

إسماعيل (النبيّ) 30، 36، 37، 48، 52، 89، 119، 131، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 149، 155، 158، 188، 192، 205، 350.

الاسكندر 613.

الأسود بن المطلب 488.

الأسود بن يغوث 423.

اسيد بن حضير 597.

إلياس (جد النبيّ) 146.

أميّة بن أبي الصلت

439.

أميّة بن خلف 390، 415، 488.

أميّة بن عبد شمس 150.

أنس بن رافع 567.

أنس بن مالك 261، 269، 364، 611.

انوشيروان 102، 105، 106، 107، 109، 115، 116، 117، 202.

اياس بن معاذ 567.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:648

(ب) بحيرى (الراهب) 231، 232، 233، 234، 275.

بدر من معشر 246.

البراء بن معرور 571.

البراق 535.

البراض بن قيس الكناني 247.

بركة 291.

بريد الاسلمي 365.

بلال الحبشي 415.

(ت) تبان اسعد 160.

توماس كارليل 85.

تيباريومس (الامبراطور) 116.

(ج) جابر بن عبد اللّه الانصاري 260، 362، 364.

جاجارين (رائد فضائي) 551.

جبر (الغلام المسيحي).

جبرئيل 261، 267، 286، 294، 321، 322، 327، 382، 383، 386، 464، 507، 535، 539، 585، 587، 600، 601.

جعفر بن أبي طالب 96، 214، 258، 285، 286، 300، 454، 457، 458، 460، 469، 493.

جعفر بن محمّد (الإمام) 179، 195، 263، 275، 294، 529.

جلال الدين الطوسي 292.

جندب بن زهير 373.

جنيد بن عبد الرحمن 376.

جواد علي (مؤلف) 91.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:649

جونس (دكتر مارسدن) 611.

(ح) الحارث بن عبد المطلب 155.

الحارث بن كلدة 18، 156، 504.

الحارث بن نوفل 441.

حبيب بن اويس 57.

الحجاج 375.

حجر بن معاذ الغفراني 622.

حذيفة الغدر 65.

حذيفة بن اليمان 263.

حرب بن اميّة 151، 154، 211، 214، 361، 373.

الحسن بن علي (الإمام) عليه السّلام 250، 269، 357، 364، 376.

الحسين بن علي (الإمام) عليه السّلام 250، 269، 377، 611.

حضير 574.

حكيم بن حزام 279، 280، 503، 504.

حكيم مولى زاذان 361.

حمزة (عم النبيّ) 190، 215، 273، 286، 409، 410، 411، 425.

حناطة 162.

حمزة الاصفهاني 88، 103.

حيدة بن معاوية العامري 299.

(خ) خالد بن الوليد 610.

خالد (حكيم العرب) 480.

خالد بن زيد 622.

خباب بن الارت 422، 425، 426.

خزيمة (جد النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:650

خزيمة بن ثابت 372.

خسرو برويز 88، 101، 102، 103، 110، 111، 113، 117، 118، 452.

الخطاب 424.

خلف 423.

الخميني (الإمام) 615.

خويلد

262، 263، 264، 266، 267، 273، 367، 383.

(د) داود (النبيّ) 237.

داود بن أبي هند 360.

ديمتريوس 31.

ديودورس 31.

(ذ) ذو نفر 162.

ذو نواس 161.

ذو الخلصة (صنم) 91.

(ر) ربيع بن الحرث 372، 557.

ربيعة 147، 376، 558، 559، 618.

رستم 471، 474.

رينان (مسيو) 85.

(ز) الزبير بين عبد المطلب 249.

زرارة بن اعين 342.

زفر بن يزيد 373.

زكريا (النبيّ) 174، 223، 295.

زمعة بن الاسود 500.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:651

زياد بن ابيه 595.

زيد بن ارقم 356، 365.

زيد بن حارثة 354، 356، 387، 522.

زيد بن عمرو بن نفيل 224، 282.

زيني دحلان (المؤرخ) 289، 524.

الزهره (كوكب) 125.

زهير بن أبي أميّة 504، 505، 506.

(س) سالم بن أبي جعد 370.

سالمين (محمّد علي) 60.

سراقة بن مالك بن جعشم 615.

سعد (صنم) 90.

سعد بن أبي وقاص 81، 387، 388، 503.

سعد بن عبادة 576، 577، 623.

سعد بن معاذ 578.

سعيد بن زيد 388، 424، 425، 426.

سعيد بن قيس الهمداني 371.

سفيان بن سعيد الثوري 530، 531.

سلامة (بولس) 511.

سلمان الفارسي 367، 609.

سلمة بن كهيل 361.

سليمان 237، 238.

سمرة بن جندب 594، 595، 596.

سويد بن صامت 566.

سهل و سهيل 622.

سهيل (كوكب) 52.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:652

سيد قطب 182، 184.

(ش) شنفرة 65.

شهر بزاز (أخ سلمان) 111.

شيبة بن ربيعة 152، 376، 557، 558.

شيث (النبيّ) 371.

شيرويه 111، 118.

(ص) الصدى (طائر خرافي) 56.

صدر الدين الشيرازي (الفيلسوف) 176.

صعصعة بن ناجية 46.

الصلت بن أبي يهاب 265.

(ط) طارق بن شهاب الاحمس 370.

طالب 51.

الطاهر (بن النبيّ) 278.

الطفيل بن عمرو الدوسي 542.

الطيب (بن النبيّ) 278.

(ع) العاص بن وائل السهمي 249، 376، 411، 412، 422، 423، 432، 488، 504، 507.

عامر بن فهيرة 602.

عبادة بن الصامت 569.

عباس بن عبد المطلب (عم النبيّ) 262، 285، 286، 355، 357، 360، 420، 421، 471.

عبد الحليم (الشيخ محمود) 614.

عبد الدار 147، 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:653

عبد الرحمن بن

حنبل الجمحي 374.

عبد الرحمن بن عثمان 250.

عبد الرحمن بن عوف 387.

عبد الرحمن بن محمّد الحضرمي المالكي (القاضي)- ابن خالدون.

عبد الرحمن بن ملجم 595.

عبد الرزاق 357.

عبد شمس 148، 149، 150، 468.

عبد اللّه (بن النبيّ) 278.

عبد اللّه (والد النبيّ) 146، 147، 157، 158، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 196، 197، 215، 227، 228، 258، 260، 277، 279، 291، 292، 357، 388، 574.

عبد اللّه بن أبي بكر 602.

عبد اللّه بن أبي بن سلول 623.

عبد اللّه بن أبي خزرج 568.

عبد اللّه بن أبي سفيان 371.

عبد اللّه بن أبي شيبة 361.

عبد اللّه بن أبي رافع 470.

عبد اللّه بن انيس 611.

عبد اللّه البجلي 374.

عبد اللّه بن برير 371.

عبد اللّه بن الحارث 554.

عبد اللّه بن حجر 370.

عبد اللّه (بن حليمة) 215.

عبد اللّه بن جحش 282.

عبد اللّه بن جدعان 249، 459.

عبد اللّه بن خبابة 370، 371.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:654

عبد اللّه بن ربيعة 456، 459.

عبد اللّه بن الزبير 250.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 186.

عبد اللّه بن مسعود 369، 417، 418.

عبد اللّه بن مظعون 388.

عبد الكريم الخطيب 600.

عبد الملك بن عمير 530، 531.

عبد المطلب (جد النبيّ) 51، 119، 146، 152، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 162، 163، 164، 189، 190، 191، 192، 193، 197، 211، 213، 215، 216، 217، 223، 227، 228، 229، 230، 249، 257، 258، 286، 287، 289، 292، 299، 353، 372، 404، 409، 420، 425، 504، 513، 555، 563، 571.

عبد مناف 146، 147، 148، 149، 152، 190، 289، 441، 513.

عبد العزيز بن محمّد الدراوردي 530، 531.

عبيدة بن الحارث 388.

عبد الوهاب النجار 190، 194.

عتبة بن ربيعة 50، 430، 432، 557، 558.

عتيق بن عائذ 247.

عثمان بن حويرث 282.

عثمان بن عفان 252، 382،

388.

عثمان بن مظعون 388، 462.

عداس 558، 559.

عدنان 146.

عدي بن حاتم 370.

عروة الرجال 247.

العزّى (صنم) 54، 55، 90، 279، 293، 415، 488، 493.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:655

عطارد 52.

عفيف الكندي 259، 357.

عاقبة بن أبي معيط 258، 265، 413، 423، 462، 504، 522.

عكرمة 170، 262.

علي بن أبي طالب 91، 149، 195، 205، 217، 218، 243، 244، 255، 260، 266، 267، 268، 285، 286، 294، 316، 354، 356، 358، 359، 360، 361، 364، 366، 367، 369، 370، 371، 372، 374، 375، 376، 377، 378، 379، 381، 387، 394، 395، 397، 398، 425، 480، 506، 513، 514، 523، 524، 526، 529، 535، 542، 583، 587، 588، 590، 593، 594، 595، 596، 597، 598، 599، 600، 601، 602، 603، 609، 610، 613، 618، 619.

علي بن الحسين السجّاد (الإمام) 55.

علي بن موسى الرضا (الإمام) 300.

علي بن إبراهيم (المفسر) 588.

عماد الدين ابن كثير 248.

عمار بن ياسر.

عمارة بن الوليد بن المغيرة 406.

عمر بن الخطاب 360، 368، 410، 412، 424، 426.

عمر رضا كحالة 427.

عمرو بن اسد 273.

عمرو بن الجموح 620، 621.

عمرو بن الحمق 371.

عمرو بن عاص 423، 456، 459.

عمرو بن لحي 53، 90.

عمرو الخزرجي 151.

عمرو العلا 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:656

عميانس (صنم) 90، 161.

عياض (القاضي) 610.

عيسى بن مريم 201، 202، 203، 204، 240، 241، 295، 342، 358، 459، 498، 521، 571، 605.

(غ) غالب 146.

الغرانيق 487، 489، 493، 494.

غسان 40، 87، 88، 89، 150.

غوستاف لوبون 41.

(ف) فضل بن أبي لهب 373.

فضل بن الحارث 248.

فضل بن فضالة 248.

فضل بن وداعة 248.

فضيل بن جندب 162.

فلاماريون 100.

فريد وجدي (محمد) 544.

فهر (جد النبيّ) 146.

(ق) القاسم (بن رسول اللّه) 263، 278.

القاصعة (الخطبة) 356.

قدامة بن مظعون 388.

القراريط 252.

قصي بن كلاب (جد النبيّ) 146، 147، 148، 155.

القمر 546،

551.

قيس بن زهير 65.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:657

قيس بن عاصم 59.

قيصر 161، 357، 423.

قتاد بن دعامة 375.

(ك) كعب (جد النبيّ) 146.

كعب بن زهير 372.

كعب الاحبار 477.

كعب بن مالك 214.

كلاب بن مرة (جد النبيّ) 146.

كنانة (جد النبيّ) 146.

كلثوم بن هرم 617.

(ل) اللات (صنم) 54، 55، 90، 279، 293، 415، 488، 493.

لؤي 146.

لبيد (الشاعر) 461، 462.

لقمان 566.

اللوح المحفوظ 345.

(م) مارسدن جونس 611.

مالك (جد النبيّ) 146.

مالك بن الحارث الاشتر 369.

مالك بن عبادة 373.

المأمون 378.

ماني 113.

ماه بنداذ (اخو سلمان) 609.

مجاهد (المفسّر) 207.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:658

محمّد بن أبي بكر 371.

محمّد بن أحمد الذهبي 531.

محمّد بن اسحاق (المؤرخ) 266، 556.

محمّد بن جرير الطبري 396.

محمّد حسنين هيكل 182، 278، 280، 339، 341، 397.

محمّد حميد اللّه (مؤلف) 609.

محمّد بن حنفية 370.

محمّد بن سلمة 611.

محمّد بن مسلم 375.

محمّد عبدة 168، 182، 183، 300.

محمّد عزت نصر اللّه 214.

محمّد المكندر المدني 371.

محمود الآلوسي 71.

محمود بن عبد الحليم 614.

مخرمة بن نوفل الزهري 250.

مدركة (جدّ النبيّ) 146.

مرّة (جدّ النبيّ) 146.

المريخ (كوكب) 546، 551.

مزدك 113، 114.

المسورة بن مخرمة

المسيح 54، 117، 167، 181، 195، 201، 222، 240، 259، 271، 296، 458، 459، 521، 525، 536، 612.

المشتري (كوكب) 52.

مصعب بن عمير 570، 578، 579.

مضاض بن عمرو الجرهمي 155.

مضر بن نزار (جدّ النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:659

المطعم بن عدي 406، 501، 505، 560، 561، 577.

المطلب 148، 150، 152، 153.

معاذ بن جبل 71، 260، 360.

معاذ بن عمرو 620.

معاوية 269، 363، 364، 370، 371، 566، 594.

معد (جد النبيّ) 146.

المغيرة (جد النبيّ) 147.

المقداد بن عمرو 368.

المقداد السيوري 196.

الملا علي القاري 610.

مناة (صنم) 54، 90، 488، 493.

مناف (صنم) 54، 91.

منذر بن عمر 577.

منصور بن عكرمة 501.

ميسرة (غلام خديجة) 256، 257، 270.

ميكائيل 600.

موسى بن جعفر (الإمام) 262، 553.

موسى (النبيّ) 121، 122،

158، 167، 181، 200، 201، 202، 203، 239، 262، 340، 341، 369، 475، 497، 521، 525، 573، 605.

(ن) نائلة (صنم) 90.

ناصح (غلام خديجة) 256.

نزار (جدّ النبيّ) 146.

نصير الدين الطوسي 196.

النضر (جدّ النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:660

النضر بن الحارث 432، 463، 473، 474.

النعمان بن المنذر 59، 88.

نعيم بن عبد اللّه 425.

نفيل بن حبيب الخثعمي 162.

النمرود بن كنعان 121، 122، 136، 138، 140.

نوح النبيّ 145، 251، 498.

نوفل بن عبد مناف 148، 149، 150.

(ه) هارون (النبيّ) 341، 369.

هاشم بن عبد مناف (جدّ النبيّ) 146، 148، 149، 150، 151، 152، 290، 369، 372.

هاشم بن عتبة 369.

هامّة 82.

هبل (صنم) 54، 90.

هبيرة بن وهب المخزومي 285.

هرودتس 40، 41، 120.

هرقل 118.

هشام بن عمرو 504.

هند بن أبي هالة 599، 602.

(و) ورقة بن نوفل 189، 192، 214، 270، 271، 273، 282، 238، 340، 341، 342، 390، 391، 415.

الوليد بن عتبة 250، 373، 481، 489.

الوليد بن المغيرة 283، 423، 428، 439، 461، 462، 468، 469، 480، 488، 491، 492، 503.

وهب بن عبد مناف 190.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:661

ويليام مويير (السير) 493.

(ي) ياسر 416، 417.

يحيى بن زكريا (النبيّ) 259، 295، 296، 377.

يزدجرد 622، 624.

يعرب بن قحطان 36.

يعقوب (النبيّ) 238، 256.

يوسف 239.

يونس بن عبد الرحمن 553.

يونس بن متى (النبيّ) 558، 559.

النساء:

آسية بنت مزاحم 262، 263.

آمنة بنت وهب 190، 191، 192، 193، 196، 197، 206، 207، 212، 213، 227، 231، 291، 454، 518.

أسماء بنت عميس 260.

أنيسة (بنت حليمة السعدية) 215.

بلقيس 33.

ثويبة 215.

حليمة السعدية 70، 215، 216، 217، 221، 222، 223، 227، 277، 293.

خديجة بنت خويلد 191، 215، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 261، 262، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 273، 274، 276، 277، 278،

279، 280، 293، 322، 338، 339، 350، 353، 354، 356، 357، 366، 367، 375، 380، 381، 383، 384، 387، 503، 507، 555، 556، 599، 601.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:662

حولة 382.

دلالة 190.

رقية (بنت رسول اللّه) 263، 278.

زينب (بنت رسول اللّه) 263، 278.

سارة (زوجة الخليل ع) 108، 141، 145، 239، 240.

سلمى (زوجة هاشم) 151، 152، 263.

سميّة (زوجه ياسر) 416، 417.

الشيماء (بنت حليمة السعدية) 215، 216.

عائشة بنت أبي بكر 261، 262، 263، 265، 267، 353.

عاتكة (بنت عبد المطلب) 215.

فاطمة بنت الخطاب 424، 425، 426.

فاطمة الخثعمية 191، 192، 193، 194.

فاطمة الزهراء (ع) (بنت رسول اللّه- ص-) 95، 265، 269، 278، 359، 360، 509، 602، 618.

فاطمة (أم قصي بن كلاب) 147.

فاطمة بنت أسد (أم عليّ بن أبي طالب) 529، 602.

فاطمة بنت الزبير 602، 618.

الفواطم 602.

مريم بنت عمران (أمّ السيد المسيح- ع-) 54، 101، 201، 222، 223، 262، 263، 295، 458، 459، 521، 525، 571.

هاجر (زوجة الخليل- ع) 37، 141، 142.

هندة 143، 144.

مارية القبطية 278.

معاذة بنت عبد اللّه العدوية 363.

نفيسة بنت عليّة 272.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:663

(5) فهرس القبائل و الامم

آل الرسول 57.

آل سعود 512.

آل ياسر 416.

اسلم (قبيلة) 283. سيد المرسلين ج 1 663 (5) فهرس القبائل و الامم ..... ص : 663

حاب الاخدود 161.

أصحاب الكهف 282.

الانصار 619.

الاوس و الخزرج 30، 50، 90، 91، 565، 566، 567، 568، 571، 574، 575، 576، 620، 622، 623.

بنو إسرائيل 295، 498، 573.

بنو إسماعيل 573.

بنو افقم 162.

بنو أميّة 54، 149، 481.

بنو بكر 421.

بنو تميم 52، 59.

بنو جمح 374، 415.

بنو سالم بن عوف 624.

بنو سعد 216، 217، 222، 223، 224، 227.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:664

بنو سلامان 65، 88.

بنو سلمة 620، 621.

بنو عامر 246، 563، 564.

بنو عبد الاشهل 567، 568، 569.

بنو عبد الدار 284.

بنو عبد مناف 505،

513.

بنو عبس 65.

بنو عدي 284، 291، 411.

بنو عمرو بن عوف 617، 622.

بنو قريظة 565.

بنو قينقاع 51، 565.

بنو كنانة 90، 146، 245.

بنو مخزوم 409.

بنو المطلب 501، 522، 563، 585.

بنو مليح 52.

بنو النضير 565.

بنو هاشم 37، 51، 153، 217، 230، 255، 273، 290، 354، 355، 394، 408، 412، 413، 440، 450، 501، 502، 503، 504، 506، 508، 520، 522، 537، 584، 585، 590، 601، 602.

تبابعة 32.

ثقيف (قبيلة) 557.

ثمود (قوم) 36، 233.

جرهم (قبيلة) 37، 154، 155.

حمير (قبيلة) 52.

خزاعة 90، 154، 155، 560، 584.

دوس (قبيلة) 161.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:665

الروم 40، 86، 87، 88، 89، 98، 99، 100، 101، 102، 105، 106، 116، 117، 118، 160.

الساسانيون 88، 102، 103، 104، 105، 106، 110، 111، 112، 115.

سعد بن بكر (قبيلة) 215.

عاد (قوم) 36، 233.

العدنانيون 113، 114، 115.

العرب البائدة 36، 37، 38.

العمالقة 30.

الغساسنة 40، 86، 87، 88، 89، 150، 187.

القحطانيون 36، 565.

قريش 37، 43، 45، 91، 96، 147، 149، 150، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 162، 163، 164، 170، 186، 189، 190، 207، 211، 214، 215، 227، 230، 231، 234، 235، 240، 244، 246، 247، 249، 253، 256، 257، 258، 259، 264، 265، 266، 267، 270، 271، 272، 273، 274، 276، 277، 280، 281، 283، 284، 285، 286، 287، 290، 295، 302، 319، 321، 354، 355، 460، 368، 381، 388، 390، 391، 402، 403، 404، 405، 406، 407، 408، 409، 410، 411، 412، 413، 417، 418، 419، 420، 421، 423، 425، 429، 430، 432، 439، 440، 450، 451، 452، 453، 455، 456، 457، 458، 460، 461، 462، 463، 464، 465، 466، 467، 469، 470، 471، 473، 474، 480، 483، 484، 485، 488،

490، 492، 493، 500، 501، 502، 503، 504، 505، 506، 507، 508، 511، 513، 514، 516، 521، 522، 527، 528، 536، 539، 541، 542، 543، 544، 555، 556، 557، 559، 560، 561، 563، 567، 575، 577، 580، 581، 583، 584، 585،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:666

587، 588، 589، 591، 592، 601، 604، 615، 616.

كنانة (قبيلة) 245، 246.

مذحج (قبيلة) 243.

المناذرة 617.

اللخميّون 88، 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:667

(6) الكنى و الألقاب

«الكنى» الرجال أبو أحيحة 54.

أبو الاسود الدؤلى 373.

أبو امامة (ابن النقاش) 267.

أبو اميّة (ابن مغيرة المخزومي) 284.

أبو أيوب (الانصاري) 360، 369، 622.

أبو البختري 432، 504، 584.

أبو بصير- اعشى بن قيس 485، 505.

أبو بكر (ابن أبي قحافة) 354، 360، 363، 368، 370، 371، 373، 378، 388، 410، 411، 418، 425، 483، 590، 592، 602.

ابو تراب (علي بن أبي طالب) 376، 377.

أبو تمام (الشاعر) 57.

أبو جعفر الاسكافي 397.

أبو جهل 258، 265، 267، 302، 358، 409، 410، 412، 415، 417، 422، 423، 429، 430، 432، 439، 462، 463، 483، 504، 505، 522، 584، 585.

أبو حاتم 531، 532.

أبو حازم 375.

أبو الحسن البكري 270.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:668

أبو حكيم 409.

أبو حنظلة 522.

أبو داود 361.

أبو ذر الغفاري 368، 371، 418، 419، 420، 421، 533.

أبو ذؤيب 215.

أبو رافع الطبراني الهيثمي 362، 365، 367، 369.

أبو رغال (ثقيف) 162.

أبو زرعة 260، 532.

أبو سعيد الخدري 360، 368، 375.

أبو سفيان 54، 189، 258، 265، 371، 373، 390، 432، 483، 537، 560.

أبو سلمة 388.

أبو طالب (عم رسول اللّه) 119، 149، 213، 214، 229، 230، 231، 232، 234، 254، 255، 258، 264، 266، 267، 273، 286، 288، 290، 293، 299، 355، 356، 371، 377، 379، 387، 394، 395، 398، 404، 405، 406، 407، 408، 412، 459، 460، 501، 506،

507، 508، 511، 512، 513، 514، 515، 516، 517، 518، 519، 520، 521، 522، 523، 524، 526، 527، 528، 529، 530، 532، 533، 541، 542، 555، 556، 561، 562، 619.

أبو العاص بن الربيع 503.

أبو عبد شمس 420، 429، 461.

أبو عبيدة (الجراح) 368، 388.

أبو عثمان 376.

أبو عمرة (بشير بن محصن) 370.

أبو عمرو (مؤلف) 365، 366، 367، 368.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:669

أبو عمرو (عامر الشعبي الكوفي) 374.

أبو عمرو (ابن قتيبة) 361.

أبو فرج الاصفهاني 285.

أبو مرازم 369.

أبو لهب 54، 215، 372، 394، 409، 413، 422، 502، 563، 590، 591.

أبو مسعود (عمرو بن عمير الثقفي) 439.

أبو مكرز 592.

أبو نضر (محمّد بن السائب الكلبي) 376.

أبو نعيم (مؤلف) 291.

أبو هالة التميمي 274.

أبو هريرة 260، 533.

أبو هفان العبدي 516.

أبو الهيثم بن التيهان 571، 572.

أبو الوليد- عتبة بن ربيعة 431.

أبو اليقظان- عمران بن عبد اللّه 263.

النساء أم أيمن 171، 191، 197، 227، 260، 289، 291، 360.

أم أيّوب (الانصارية) 622.

أم جميل بنت حرب 413، 414.

أمّ سلمة 454، 611.

أمّ كلثوم (بنت رسول اللّه) 261، 278.

أمّ معبد 616.

أم هاني (اخت علي بن أبي طالب) 535، 536، 538.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:670

«الألقاب» الاصمعي 609.

الاميني (العلامة) 358، 359، 530، 584.

البلاذري 609.

البلاغي 241.

البيهقي 541.

الترمذي 364.

الجاحظ 596.

الجنابذي 256.

الحاكم النيسابوري 612.

الحلبي 603.

الخوارزمى 360، 369.

الديار بكري 210.

ذو القرنين 382، 464.

الزرقاني 292، 246، 366.

السيوطي (جلال الدين) 369، 372.

الشبراوي (صاحب الاتحاف) 292.

الشهرستاني 288.

الشهيد الثاني 205، 207.

الطباطبائي 307، 311، 346.

الطبرسي 307، 339، 481، 540، 541.

الطبري 340، 356، 358، 361، 362، 379، 380، 383، 396، 397، 398، 488، 598، 599.

الطريحي (المؤلف) 205.

الطوسي (الشيخ) 599، 601، 603، 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:671

فخر الإسلام 241.

الفخر الرازي 307، 348، 509.

الفرزدق 46، 49.

الفردوسي (الشاعر) 106، 107، 108.

فرعون 121، 189، 200، 239، 240، 262.

القسطلاني 367، 375.

القوشجي 196.

كسرى

103، 110، 202، 357.

لكلبي 52.

المجلسي (العلامة) 296، 341، 413، 616، 624.

المسعودي (المؤرخ) 41.

المقريزي 204، 598.

النفيسي (سعيد) 104.

اليعقوبي 288، 385.

النجاشي 96، 161، 374، 375، 454، 455، 456، 457، 458، 459، 460، 493.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:672

(7) فهرس الوقائع و الأيام

احد (معركة) 486.

الأحزاب (معركة) 416، 461، 471، 480، 488.

بدر (معركة) 416، 480، 486، 561.

بعاث (يوم) 67، 574.

بيعة العقبة 575.

بيعة النساء 570.

حادثة الفيل 159، 182، 183، 185، 203، 552، 605.

حجة الوداع 64.

حلف الفضول 248، 249.

الخندق (معركة) 480، 486.

داحس و الغبراء (حرب) 65.

صفين (وقعة) 366، 369، 372.

الفجار (حروب) 244، 245، 246، 248، 273.

القرطاء (غزوة) 611.

ليلة المبيت 595، 596.

المباهلة 537، 541، 542.

المعراج 544، 545.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:673

(8) فهرس الأماكن و البلدان

آسيا 27، 116.

الابواء 228.

الاتحاد السوفيتي 159، 551.

الاحساء 28.

الاحقاف 28.

الاردن 536.

أرمينية 98.

الازهر 346، 614.

افريقية 28.

امريكا 85.

الاندلس 100.

انطاكية 27، 87، 89، 98.

اوربة 40، 100، 237.

اورشليم 7، 111.

ايران 27، 87، 89، 98.

ايطاليا 27.

بابل 120، 122، 123، 134، 140، 141.

بادية سماوة 27.

البحر الاحمر 27، 29، 31، 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:674

بحيرة ساوة 202.

البصرة 303، 367.

بصرى 231، 232، 234، 235.

بيت اللّه الحرام 289.

بيت المقدس 536، 537، 611.

بيروت 511.

تهامة (سوق) 256.

ثنية الوداع 626.

جبل أبو قيس 287.

جدّة 29، 284، 453.

الجزيرة العربية 27، 32، 36، 39، 40، 52، 54، 55، 66، 71، 85، 87، 88، 89، 97، 98، 199، 202، 280، 282، 306، 415، 520، 576، 580.

الجنة و النار 536.

الحبشة 87، 96، 150، 161، 224، 282، 291، 415، 424، 450، 451، 453، 454، 457، 460، 463، 465، 469، 493، 494، 501، 508.

الحجاز 27، 28، 29، 31، 40، 41، 50، 52، 86، 89، 90، 91، 132، 141، 142، 152، 155، 199، 224، 282، 283، 511، 512، 595.

حجر اسماعيل 144.

الحجر الاسود 284، 412.

الحديدة (ميناء) 32.

حراء (جبل/ غار) 284، 319، 320، 321، 322، 354، 382، 383.

الحيرة 27، 52، 87، 88، 89، 150، 452.

الخليج 27، 28.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:675

خليج عمان 27.

الخورنق 88.

خيبر 215.

دار الندوة 147، 148، 453، 455، 468، 501، 581، 583.

دار الخيزران 389.

دجلة 27.

دمشق 89، 376،

610.

الدهناء 28، 231.

ديار ثمود 231.

ذو المجاز (سوق) 245.

ذي طوى 618.

الربع الخالي 28.

زمزم 37، 90، 144، 154، 155، 156، 157، 363، 366.

سبأ 33.

سدرة المنتهى 536.

سويسرا 27.

الشام 27، 86، 89، 90، 117، 141، 142، 147، 150، 151، 155، 169، 187، 191، 196، 230، 231، 232، 233، 234، 256، 258، 270، 279، 293، 303، 366، 441، 452، 517، 527، 537، 565، 594.

شعب أبي طالب 512.

صحراء الشام 27.

صحراء العرب 27، 31.

صحراء النفوذ 258.

صنعاء 32، 33.

ضجنان 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:676

الظهران 28.

الطائف 29، 54، 90، 247.

العدن 31.

العراق 87، 149، 261، 365، 368، 373، 557، 559، 595.

العربية السعودية 41، 512.

العرم عسفان العقبة 569، 570، 571، 575، 576.

عكاظ (سوق) 245، 246، 247.

غار ثور 591، 592، 601، 603، 619.

غزة 149.

الفرات 27، 87، 120، 371.

فرنسا 27.

فلسطين 27، 29، 37، 117، 141، 536.

القاهرة 379.

قبا 617.

القسطنطينية 89.

القطيف 511.

قم 512.

الكعبة المعظمة 29، 30، 54، 133، 145، 155، 157، 159، 162، 164، 186، 187، 188، 202، 207، 249، 265، 283، 284، 287، 288، 290، 296، 357، 367، 404، 432، 441، 488، 501، 611.

الكوفة 88.

مازندران 106.

مأرب 33، 41.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:677

مجنة (سوق) 245.

المحيط الهندي 27.

مدين 231.

المدينة المنورة 29، 30، 36، 51، 54، 87، 88، 89، 91، 97، 101، 120، 122، 124، 135، 160، 219، 291، 382، 442، 512، 561، 565، 578، 581، 582، 583، 586، 591، 592، 604، 609، 612، 615، 616، 617، 622، 623، 624.

مراكش 596.

مروة (جبل) 143، 235.

المسجد الاقصى 536، 538، 539.

المسجد الحرام 284، 418، 538، 539، 560.

مصر 121، 141، 243.

المغمس 162.

مكة المكرمة 29، 30، 37، 50، 51، 52، 53، 54، 90، 91، 96، 101، 141، 143، 144، 145، 147، 149، 150، 151، 152، 154، 155، 162، 163، 164، 185،

187، 188، 189، 196، 197، 207، 216، 222، 223، 227، 230، 231، 234، 247، 249، 253، 256، 257، 258، 259، 276، 277، 279، 284، 285، 288، 289، 290، 303، 305، 366، 369، 376، 388، 389، 390، 391، 404، 405، 406، 413، 414، 419، 420، 421، 451، 452، 453، 455، 460، 461، 463، 464، 466، 468، 474، 481، 482، 483، 485، 489، 493، 494، 501، 502، 503، 504، 515، 519، 522، 536، 537، 539، 559، 560، 561، 562، 565، 566، 567، 569، 570، 573، 575، 576، 577، 580، 581، 583، 586، 587، 591، 592، 593، 597، 604، 608، 615، 616، 617، 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:678

نجد 31، 41.

نجران 89، 160، 610.

نينوى 118، 558.

الهند 85، 115، 265.

وادي القرى 231، 565.

يثرب 30، 152، 158، 160، 197، 277، 303، 565، 566، 569، 570، 573، 583، 602، 604، 608، 622، 624.

اليمن 27، 31، 32، 33، 36، 41، 86، 89، 142، 149، 150، 160، 161، 162، 165، 187، 233، 293، 452، 565، 595.

اليمامة 486.

اليونان 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:679

(9) المذاهب و الأديان و نظم الحكم

الآشورية 40.

الأحناف 283.

الاستشراق و المستشرقون 219، 232، 235.

الاشكناني 87.

الرياضة و المرتاضون 182، 184.

الزردشتية 112، 114، 115.

الشاهنشاهية 86، 614، 615.

العثمانية 367.

الكهانة 158.

اللاهوتية 100.

المانوية 112.

المجوسية و المجوس 112، 113، 117.

المزدكية 113، 114.

المدرسية (الفلسفة) اسكولاستيك 100.

النصرانية و النصارى 442، 445، 452، 459، 463، 479.

اليعقوبية 99.

الوهابية و الوهابيون 596.

اليهود و اليهودية 159، 291، 382، 442، 445، 452، 463، 464، 471، 475، 487، 565، 568، 569، 573، 574.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:680

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1- بحث علمي حول المعجزة 165

2- طهارة النبي (ص) من دنس الآباء و عهر الامّهات 165

3- الاحتفال بذكرى المولد النبويّ ليس شركا 208

4- خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (ص) 212

5- «أحمد» كان من أسماء النبيّ (ص) المشهورة 213

6- نظرة الاسلام في تأثير الرضاع 217

7- بحث قرآني و تاريخيّ حول كرامات فترة الطفولة عند النبي 219

8- مقايسة عابرة بين القرآن و العهدين 236

9- خديجة في احاديث الرسول و اهل بيته (ع) 258

10- بحث حول دين النبي قبل البعثة 292

11- دور الأنبياء الاساسي في اصلاح المجتمع 316

12- بحث حول الوحي في نظر الماديين و الالهيين 322

13- مناقشة الاساطير المدسوسة في قصة بدء نزول الوحي 340

14- خاتمية رسول الاسلام 353

15- النبوة و الامامة توأمان 442

16- أسرار النزول التدريجيّ للقرآن 444

17- دراسة لآيات من سورة الحج حول إلقاء الشيطان 494

18- دراسة علمية لحديث الضحضاح 530

19- المعراج و القوانين العلميّة الحديثة 548

20- لما ذا اتخذ العام الهجري مبدأ للتاريخ الاسلامي 605

سيد المرسلين ،ج 1،ص:681

11- فهرس المواضيع

1- شبه الجزيرة العربيّة أو مهد الحضارة الإسلامية 27- 33 مكة المعظمة 29

تاريخ مكّة 29

المدينة المنوّرة 30

2- العرب قبل الإسلام 35- 96 أخلاق العرب و تقاليدهم 37

هل كان للعرب حضارة؟ 39

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظور القرآن 42

1- الشرك في العبادة 43

2- إنكار المعاد 43

3- هيمنة الخرافات 44

4- الفساد الاخلاقي 45

5- وأد البنات و إقبارهنّ 46

6- تصوّراتهم الخرافيّة حول الملائكة 47

7- كيفيّة الانتفاع من الانعام 47

8- الاستقسام بالأزلام 48

9- النسي ء 48

10- الربا 49

سيد المرسلين ،ج 1،ص:682

صور من الوضع الجاهلي 50

العقيدة و الدين في الجزيرة العربية 52

عقيدة العرب حول حالة الانسان بعد الموت 56

الآداب مرآة أخلاق الشعوب و نفسياتها 57

مكانة المرأة عند العرب الجاهليين 58

المرأة و مكانتها الاجتماعية عند

العرب 60

العرب و الرّوح القتالية 64

الأخلاق العامّة في المجتمع العربي الجاهليّ 66

النزوع إلى الخرافة و الاساطير في المجتمع العربي الجاهليّ 67

الخرافات عند العرب الجاهليين 70

نماذج من الخرافات في المجتمع العربي الجاهليّ 72

1- الاستسقاء باشعال النيران 72

2- ضرب الثّور إذا عافت البقر الماء 72

3- كيّ صحيح الابل ليبرأ السقيم 73

4- حبس ناقة عند القبر إذا مات 73

5- عقر الإبل على القبور 74

6- نهيق الرجل إذا أراد دخول القرية 74

7- تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي 75

8- الرتم 75

9- وطي المرأة القتيل الشريف لبقاء ولدها 75

10- طرح السنّ نحو الشمس إذا سقطت 76

11- تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون 76

12- دم الرئيس يشفى 76

13- شق البرقع و الرداء يوجب الحب المتقابل 77

14- معالجة المرضى بالامور العجيبة 77

سيد المرسلين ،ج 1،ص:683

15- خرافات في مجال الغائب 77

16- عقائدهم العجيبة في الجن و تأثيره 79

17- تشاءمهم بالحيوانات و الطيور و الاشياء 80

مكافحة الإسلام لهذه الخرافات 80

أوضاع العرب الاجتماعية قبيل ظهور الإسلام 83

الدين في أرض الحجاز 89

العلم و الثقافة في الحجاز 91

الإمام عليّ (ع) يصف العهد الجاهلي 92

فاطمة الزهراء (ع) تصف الوضع العربي الجاهلي 95

جعفر بن أبي طالب يصف الوضع العربي الجاهلي 96

3- إمبراطوريتا الروم و إيران إبّان عهد الرّسالة 97- 118 أوضاع الروم إبّان عهد الرّسالة 98

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الروميّ 99

أوضاع ايران إبّان عهد الرّسالة 101

البذخ و الترف في البلاط الساساني 102

الوضع الاجتماعي في إيران 104

حق التعلّم خاصّ بالطبقات الممتازة 105

صفحة سوداء من جرائم خسرو برويز 109

حكم التاريخ في عهد الملوك الساسانيين 110

الفوضى في الحكومة الساسانية 111

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين 112

الحروب الإيرانية الروميّة 115

سيد المرسلين ،ج 1،ص:684

4- أسلاف رسول الإسلام (ص) 119- 198 1- بطل التوحيد: إبراهيم الخليل (ع)

119

النبي ابراهيم و مكافحته للوثنية 123

حوار الخليل مع عبّاد الكواكب 125

طريقة الأنبياء في الحوار و الجدال 129

هل كان آزر والد إبراهيم 130

القرآن ينفي ابوّة آزر لإبراهيم 132

إبراهيم محطّم الاصنام 133

العبر القيّمة في هذه القصّة 137

هجرة الخليل عليه السّلام 141

عين زمزم كيف ظهرت؟ 143

2- قصيّ بن كلاب (الجد الثاني لرسول اللّه) 146

3- عبد مناف (الجد الثالث) 147

4- هاشم (الجد الثاني) 148

اميّة يحسد هاشما! 150

هاشم يتزوّج 151

5- عبد المطلب (الجد الأول) 153

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد و النذر 157

حادثة عام الفيل 159

ما هي عوامل هذه الحادثة؟ 160

عبد المطلب يذهب إلى معسكر أبرهة 163

كلمة حول المعجزة 165

نقاط تقتضي التأمّل في تفسير حادث الفيل بالجدري 169

سيد المرسلين ،ج 1،ص:685

بحث علمي حول المعجزة في نقاط خمس: 172

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟ 173

2- هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة 175

أنواع العلل و الاسباب: 176

أ) العلة الطبيعية العادية 176

ب) العلة الطبيعية غير العادية و غير المعروفة 176

ج) تأثير النفوس و الأرواح 176

د) العلل المجرّدة عن المادة 177

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟ 178

4- كيف تدل المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟ 179

5- بما ذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟ 180

أوهام قريش تتفاقم 187

عبد اللّه والد النبيّ (ص) 189

دور الأيادي المشبوهة في تاريخ الإسلام 191

قصة فاطمة الخثعمية 192

علائم الاختلاق في هذه القصة 193

طهارة النبيّ من دنس الآباء و عهر الامهات 195

وفاة عبد اللّه (والد النبيّ) في يثرب 196

5- مولد رسول اللّه (ص) 199- 224 فترة الطفولة في حياة العظماء 199

في أيّ يوم ولد رسول اللّه (ص) 203

أيّ هذين القولين هو الصحيح؟ 204

فترة الحمل 205

سيد المرسلين ،ج 1،ص:686

نظرية في يوم المولد النبويّ و مؤاخذات عليه 207

الاحتفال بذكرى المولد النبويّ

ليس شركا 208

مراسم تسمية النبيّ (ص) 211

خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (ص) 212

أحمد كان من اسماء النبيّ المشهورة 213

فترة الرضاع في حياة النبيّ (ص) 215

نظرة الإسلام في تأثير الرضاع 217

6- فترة الطفولة في حياة النبيّ (ص) الماديون و بعض المستشرقين و كرامات عهد الطفولة 219

خمسة اعوام في ربوع الصحراء 223

7- العودة إلى احضان العائلة 225- 242 سفرة إلى يثرب 227

وفاة عبد المطلب 229

كفالة أبي طالب للنبيّ (ص) 229

سفرة إلى الشام مع أبي طالب 230

اكذوبة المستشرقين في قصة بحيرى 232

مقارنة بين القرآن و التوراة و الانجيل 236

1- النبيّ داود (ع) 237

2- النبيّ سليمان (ع) 237

3- النبيّ يعقوب (ع) 238

4- النبيّ إبراهيم (ع) 239

5- النبيّ نوح (ع) 240

سيد المرسلين ،ج 1،ص:687

8- فترة الشّباب في حياة النبيّ الأكرم (ص) 243- 250 رسول اللّه (ص) و قدرته الروحية 244

حروب الفجار 244

الفجار الأول 245

الفجار الثاني 246

الفجار الثالث 246

الفجار الرابع 246

حلف الفضول 248

9- من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة 251- 274 النبيّ للغنم و أسباب ذلك 253

اقتراح أبي طالب بالتجارة لخديجة 254

هل عمل النبي اجيرا لخديجة؟ 255

خديجة زوجة الرسول الاولى 258

خديجة في أحاديث الرسول الأكرم (ص) 260

العلل الظاهرية و الحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنبيّ (ص) 270

كيف تمّت خطبة خديجة؟ 272

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ (ص) 274

10- من الزواج إلى البعثة 275- 312 فترة الشباب في حياة رسول الإسلام (ص) 276

سيد المرسلين ،ج 1،ص:688

أحاسيسه و مشاعره الانسانيّة في فترة الشّباب 277

أولاد خديجة 278

حدس لا أساس له من الواقع في شأن خديجة 278

دعيّ رسول اللّه: زيد بن حارثة 279

بداية الخلاف في صفوف الوثنيين 280

أعمدة الوثنية تهتزّ 281

نموذج آخر من ضعف قريش 283

أمين قريش يكفل عليّا 285

إيمان النبيّ و آبائه و كفلائه قبل الإسلام 286

إيمان جدّه

عبد المطلب 286

إيمان كفيله و عمه أبي طالب 290

إيمان والدي النبيّ الأكرم 291

إيمان النبيّ باللّه و توحيده قبل البعثة 292

مناقشة الآيات التي استدل بها النافون لايمان النبيّ 292

الآية الاولى: الهداية بعد الضلال 297

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز 300

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب و الايمان 302

تفسير هذه الآية باخرى 306

الآية الرابعة: عدم رجائه القاء الكتاب إليه 308

الآية الخامسة: قوله تعالى: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ» 310

11- بدء الوحي 313- 342 دور الأنبياء الأساسي في إصلاح المجتمع 317

مثل واضح في المقام 317

سيد المرسلين ،ج 1،ص:689

أمين قريش في غار حراء 319

بدء الوحي 321

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين 322

الروح المجرّدة 324

ظاهرة الوحي عند الماديّين 325

أبرز التحليلات المادية لظاهرة الدين 325

ظاهرة الوحي في منظار العقل و الدين 333

قنوات المعرفة الثلاثة: التجربة، العقل، الالهام 334

انواع الوحي من المنظور القرآني 336

اساطير مختلفة حول حال النبيّ عند نزول الوحي 336

بقية قصّة نزول الوحي الأوّل 337

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل 338

بطلان هذه المزاعم و الاساطير 340

12- متى نزل الوحي أوّلا؟

343- 352 الرأي المشهور بين علماء السنة و استدلالهم 343

ردود الشيعة على هذا الرأي 344

الجواب الأول (التفريق بين النزول الدفعي و التدريجي) 346

الجواب الثاني (نزول حقيقة القرآن في رمضان على قلب النبيّ ص) 346

الجواب الثالث (التفكيك بين مبدأ نزول القرآن و البعثة) 346

الأنبياء و التبشير برسول اللّه (ص) محمّد خاتم الأنبياء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:690

13- ما سبقني أحد 353- 386 من هو أول من آمن بالنبيّ (ص) من الرّجال و النّساء؟ 353

من النساء: خديجة 353

أقدم الرجال إسلاما: عليّ بن أبي طالب 354

الدلائل التاريخية و النصوص الدالة على اسبقية الإمام علي 354

علي تربّى في حجر النبيّ الأكرم (ص) 355

علي و خديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ 357

«أنا الصدّيق

الأكبر» 357 سيد المرسلين ج 1 690 11 - فهرس المواضيع ..... ص : 681

أوّلكم إسلاما علي» 358

النصوص النبويّة الاخرى 359

كلمات أمير المؤمنين (ع) 361

كلمات الإمام السبط الحسن (ع) 364

رأي الصّحابة و التابعين في أوّل من أسلم 364

مناظرة بين المأمون و إسحاق في إسلام عليّ 378

قضيّة انقطاع الوحي 379

اسطورة و ليس تاريخا 380

اختلاف المؤرخين في مسألة انقطاع الوحي 381

14- الدعوة السرّية، دعوة الأقربين 387- 400 دعوة الاقربين 389

كيفيّة دعوة الاقربين 394

خيانة تاريخية و جناية أدبيّة 395

سيد المرسلين ،ج 1،ص:691

النبوة و الإمامة توأمان 398

15- الدعوة العامّة 401- 428 الثّبات و الاستقامة على طريق الهدف 402

ثبات النبيّ (ص) و صبره 403

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرة الثالثة 406

قريش تحاول تطميع النبيّ (ص) 407

نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين 408

أبو جهل يكمن لرسول اللّه (ص) 412

أبو لهب يؤذي رسول اللّه (ص) 413

صبر النبيّ (ص) و استقامته 414

بعض من اوذوا باشدّ الأذى: 414

1- بلال الحبشيّ 415

2- آل ياسر رمز الصّمود و المقاومة 416

3- عبد اللّه بن مسعود 417

4- أبو ذر أوّل المجاهرين بالإسلام 418

قبيلة غفار تعتنق الإسلام 421

أعداء النبيّ الألدّاء 422

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام 424

16- رأي قريش في القرآن 428- 449 حكم الوليد بن المغيرة في شأن القرآن 428

نموذج آخر من حكم البلغاء في شأن القرآن 430

سيد المرسلين ،ج 1،ص:692

تحجّجات قريش العجيبة 432

الدوافع وراء معاداة قريش و عنادهم: 438

1- حسدهم لرسول اللّه (ص) 440

2- معارضة الدعوة الاسلامية لشهواتهم 440

3- الخوف من العقاب الاخرويّ 440

4- الخوف من ردّ فعل القبائل العربية المشركة 441

طائفة من اعتراضات المشركين 441

القرآن الكريم و النزول التدريجي 442

الأسرار المنطقية للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم 444

أسرار اخرى لنزول القرآن تدريجا 447

17- الهجرة إلى الحبشة 450- 465 الهجرة الاولى إلى

الحبشة 450

الهجرة الثانية الى الحبشة 454

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين 455

العودة من الحبشة 460

وفد مسيحيّ يدخل مكّة لتقصّي الحقائق 462

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق في أمر النبيّ (ص) 463

18- الاسلحة الصديئة و الاساليب الفاشلة 466- 486 1- الاتهامات الباطلة 466

الإصرار في نسبة الجنون إلى رسول اللّه (ص) 469

سيد المرسلين ،ج 1،ص:693

2- القرآن يردّ على جميع الاتهامات 471

فكرة معارضة القرآن 473

تحجّجات صبيانية و جاهلية 474

مقترحات عجيبة و مطاليب غريبة 476

صمود النبيّ و صبره 477

معاجز النبي (ص) لم تقتصر على القرآن 478

بعض معاجز النبيّ غير القرآن 478

1- شقّ القمر 478

2- المعراج 478

3- مباهلة أهل الباطل 479

4- الإخبار بالمغيبات 479

حرص النبيّ على هداية قريش 480

3- قرار تحريم الاستماع للقرآن 481

واضعو القرار ينقضون قرارهم 483

منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه (ص) 483

1- الأعشى 484

2- الطفيل بن عمرو الدوسي 485

19- اسطورة الغرانيق 487- 498 ما هي اسطورة الغرانيق؟ 488

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة تفنّدها 489

رأي العقل في هذه القصّة الاسطورة 490

تفنيد القصة من طريق آخر 492

دليل لغويّ على تفنيد هذه الاسطورة 493

دراسة آيات من سورة الحج حول القاء الشيطان 494

سيد المرسلين ،ج 1،ص:694

ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء و الرسل؟ 495

ما هو المقصود من تدخل الشيطان و القائه؟ 495

ما هو المقصود من محو آثار التدخل و الإلقاء 497

20- الحصار الاقتصادي و الاجتماعي 499- 510 قريش تحاصر النبيّ و المسلمين اجتماعيا و اقتصاديا 500

قريش و الصحيفة القاطعة وضع بني هاشم المأساويّ في شعب أبي طالب 503

21- وفاة أبي طالب و خديجة الكبرى 511- 533 نماذج من مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (ص) 514

التغيير في برنامج السفر 517

الدفاع عن حوزة العقيدة و الإيمان 518

تصوّر باطل عن مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (ص) 520

الدافع الحقيقي

لأبي طالب 520

لمحات من تضحيات أبي طالب 521

قضيّة ذات بواعث سياسيّة 523

طرق ثلاث لإثبات إيمان أبي طالب 524

1- آثار أبي طالب العلميّة و الادبية 525

2- مواقفه من النبي و الرسالة الاسلامية 526

وصية أبي طالب عند وفاته 528

3- شهادات اقرباء أبي طالب (من أهل البيت) 529

رأي علماء الشيعة في أبي طالب 530

نظرة إلى رواية الضحضاح 530

ضعف أسناد هذه الرواية 531

سيد المرسلين ،ج 1،ص:695

الف: سفيان بن سعيد الثوريّ 531

باء: عبد الملك بن عمير 531

جيم: عبد العزيز بن محمّد الدراوردي 532

نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب و السنة 532

1- القرآن الكريم: لا مغفرة للكافر 533

2- السنة النبوية: لا شفاعة للمشرك 533

22- المعراج في القرآن و السّنة و التاريخ 535- 554 هل للمعراج جذور قرآنية؟ 537

أحاديث المعراج 540

متى وقعت هذه الحادثة؟ 541

هل كان المعراج جسمانيا؟ 543

ما هو المراد من المعراج الروحاني 544

نغمة شاذة 547

المعراج و قوانين العلم الحديث 548

الهدف من المعراج 553

23- سفرة إلى الطائف 555- 564 النبي (ص) يعود إلى مكة 559

نقطه هامة 561

الدعوة في أسواق العرب 562

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج 563

24- بيعة العقبة 565- 582 وقعة بعاث 567

تفصيل الحادثة 568

سيد المرسلين ،ج 1،ص:696

بيعة العقبة الاولى 569

بيعة العقبة الثانية 570

أوضاع المسلمين بعد بيعة العقبة 573

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة 575

تأثير الاسلام و نفوذه المعنويّ 577

مخاوف قريش المتزايدة 580

25- قصّة الهجرة النبويّة حوادث السنة الاولى من الهجرة الشريفة 583- 624 الإمدادات الغيبية و العنايات الربانية 585

ملاك الوحي يخبر رسول اللّه بمؤامرة قريش 587

اقتحام الاعداء لبيت الوحي و الرسالة 590

النبيّ في غار ثور 591

قريش تفتش عن النبيّ (ص) 592

التفاني في سبيل الحق 593

كلام من ابن تيمية في مبيت عليّ (ع) 596

الجواب التفصيلي على هذا الكلام 598

الخطيب و قضيّة المبيت 600

بقية

قصة الهجرة النبوية 601

الخروج من الغار 603

صفحة التاريخ الاسلامي الاولى 604

لما ذا أصبح عام الهجرة مبدأ للتاريخ الاسلامي 605

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة 606

من الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ الاسلامي 608

نماذج من رسائل النبيّ المؤرّخة بالعام الهجريّ 609

سيد المرسلين ،ج 1،ص:697

التذكير بنقطتين 613

مؤامرة الطاغوت 614

برنامج الرحلة في حادث الهجرة 615

النزول في قرية قباء 617

المدينة تهب لاستقبال النبيّ (ص) 619

النبيّ (ص) يدخل المدينة 621

أصل النفاق و منشأه 623

سيد المرسلين ،ج 2،ص:3

الجزء الثاني

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدمة]

مميّزات النهضة الالهية و خصائصها خصيصة «الخلود» و العمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى و الأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ:

تشبه نهضة «الأنبياء» الالهية التي قام بها رسل اللّه و سفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام، و الخرافات، و لانقاذها من جور المستكبرين و ظلم الظالمين أكثر شي ء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة، و لكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا و اتساعا، و اشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض و التحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه و نوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء و ثم منزل خديجة و بعض البيوت المتواضعة في مكة فقط، و لكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض و غربها، و دوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم (ابتداء من فرنسة و انتهاء بجدار الصين و ما وراءه) «1».

______________________________

(1) لقد كتبت هذه المقدّمة و ما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 و قد جئت إليها في مهمة استطلاعية و تبليغية اسلامية، و قد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في- بكين- العاصمة، و التقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي و بمن كان معي أشد ترحيب، و اتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر، و الآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري، و نشرا الاسلام في بكين و ما حولها، و قد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما، و خصوصياتهما بالاحرف العربية.

و هناك تذكرت حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اطلبوا العلم و لو

بالصين».

قلت في نفسي: لعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:4

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية «1» يتمتعون- من حيث الاخلاق و الفضائل الانسانية- بخصيصة الخلود و اللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع و آفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر، و كأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر، و انكشفت لنا رموز و أسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء و المرسلين، و سفراء اللّه الى البشرية.

و تتجلى هذه الحقيقة أكثر- فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات-.

و خلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا و امعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة، و حقائق جديدة عن حياتهم.

و يدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ و أصحاب السير، قديما و حديثا، حول رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و لكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به، و كلما اتسعت النظرات و ازدادت عمقا

______________________________

المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم.

و قد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره و بثه بهذه المهمة فيما سبق و أدوا ما كان عليهم. فما ذا فعلنا نحن؟

و هل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، و لا ينعموا بخيراته؟!

أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي، و من الانظمة و الايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

كان يحرص على هداية فرد واحد، و القرآن يقول: «من احياها فكأنما أحيى الناس جميعا»؟؟

هل خصصت نهضة الأنبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية، و ما حولها؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعا؟

سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاة و رعايا، حكومات و شعوبا لعلهم يتفكرون؟ (جعفر الهادي).

(1) المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا و الأخرى و ليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:5

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق، و جديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

و لقد كان تعاطي السيرة النبوية و الحديث حولها في البداية منحصرا (أو بالاحرى مقتصرا) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسموعاتهم.

و مع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اتخذت الاحاديث و السنن الاسلاميّة، و تفاصيل الحياة النبويّة، و قصص غزواته و حروبه رونقا جديدا، و أحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية، و التعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أيّام حياته من مولده إلى وفاته.

و كلما ازدادت حالات الوفاة، في أوساط الصحابة و التابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل و المصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية، اتسع الاهتمام بالسيرة و ما شابهها و تعاظمت الرغبة فيها و تزايد عطش المسلمين إلى اخذ و معرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله، و جزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

و من جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني «1»، و منعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية، التي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تدفن تحت التراب بموتهم.

و لقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي و بقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته «2»، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو:

«عمر بن عبد العزيز» فأمر- في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

______________________________

(1) تقييد العلم: ص 48- 53.

(2) لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليا عليه السلام، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين و ضبط الأحاديث، و حفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:6

و قاضيها- بكتابة احاديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا من اندراس العلم و زواله «1».

أئمة السيرة:

و من حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلّا من تدوين و كتابة الأحاديث النبويّة، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث و الوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

و لهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة، و أرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو: «عروة بن الزبير بن العوّام» الصحابي المعروف الذي توفي عام 92 أو 96 من الهجرة «2»

ثم عمد بعد جماعة في المدينة و آخرون في البصرة الى جمع و تدوين تفاصيل السيرة، و حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غزواته، و بيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

و لقد كانت هذه الكتب و

المؤلفات هي المنبع و الاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة، أو تاريخ الاسلام.

و قد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بشكل جميل و بصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي، و كان من بين من قام بجهد مشرف و مشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام 151 فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين، و من

______________________________

(1) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ج 1 ص 195 و 196.

(2) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام: ص 233.

اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي و السير في الاسلام.

فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير.

و قال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق.

و الحق انه لا الاول و لا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير و المغازي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:7

ثنايا رواياتهم و منقولاتهم و ألفها و اخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب و المؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط و دوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب «المغازي» و «فتوح الشام» المتوفى عام 207 ه «1».

و قد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام 218 ه و عرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام (أو السيرة الهشامية) و هو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي و سيرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله الموثقة.

و لو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين و تسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام، و هما:

1- محمد بن

سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام 230 ه مؤلف «الطبقات الكبرى» الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرام صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه على نحو التفصيل.

و قد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا، كما اعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2- محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 ه مؤلف كتاب «تاريخ الامم و الملوك».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب و المؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح، بل تحتاج مؤلفاتهم- كغيرها من المؤلفات، و الكتب- إلى التحقيق الواسع و التمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادق عليه السلام، و توجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج 12 ص 281 فيها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:8

و سيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. و نحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب، و الدراسات، المختلفة في أحجامها و مستوياتها، و المتنوعة في طرائقها و أساليبها، التي ألّفت حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا إنما يدل على خصيصة العمق و اللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخالدة العظيمة.

و قد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة، و لم يأل جهدا- لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل- في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة، و ان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف، و قد بيّنا عذرنا من هذا

في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

و لقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة، و ها هو الجزء الثاني و هو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة، و من اللّه التوفيق.

قم المقدّسة- الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

21 شعبان 1392 ه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:9

حوادث السنة الأولى من الهجرة «1»

اشارة

26 (1)

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة عقد ميثاق تعايش بين المسلمين و غيرهم:

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة، المبتهجة، بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين و الخزرجيين له حملته صلّى اللّه عليه و آله، على أن يعمد قبل أي شي ء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة، و للقيام بالاعمال التربوية و التثقيفية، و السياسية و العسكرية في رحابه.

كما أن عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام و لذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا اللّه و يذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام (حزب اللّه) كل اسبوع في يوم معين فيه، و يتشاوروا في

______________________________

(1) لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكة و حطّ في الباقي من شهرها الثالث (أي ربيع الاول) على أرض يثرب، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط، و تبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام (و ليس من اثنى عشر ربيع الاول).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:10

شئون الاسلام و المسلمين و مصالحهم، و ليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

(1) فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم و المعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية و غيرها.

لقد

كان يعلّم فيه كل التعاليم و المواد الدينية و العلمية، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة و الكتابة.

و قد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة «1».

(2) و ربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب و بلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية و المعايير الاسلامية بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما فعل «كعب بن زهير» إذ ألقى قصيدته المعروفة «بانت سعاد» عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، و أعطاه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله صلة جيّدة، و خلع عليه بخلعة عظيمة «2».

أو كما كان يفعل «حسان بن ثابت» الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام و المسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) راجع صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد، بقيت المدارس تبنى و تشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 503 قال أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد: بانت سعاد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:11

(1) و لقد كانت مجالس الدرس و التعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به، و عجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام و اكتساب المعارف و العلوم «1».

كما انه كانت تمارس الامور القضائية و

الفصل بين الخصومات، و اصدار الحكم على المجرمين في المسجد، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة (بكل معنى الكلمة) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يلقي خطبه الحماسية و الجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار و المشركين في المسجد.

(2) و لعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف و تعلم العلوم هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم و الدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

و أما ممارسة القضاء و القيام بالخدمات الاجتماعية، و اتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية و لا تهمه قضايا الحياة و شئون المعيشة المادية، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى، و لا يدعوهم إلى الايمان إلّا و يهتم أيضا بشئونهم المعيشية و إصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب و يغفل جانبا، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية و المعنوية معا.

(3) و لقد كان هذا التلاقي و الانسجام (بين العلم و الإيمان) محطّ اهتمام المسلمين و نصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية و المؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا و صار لها محل خاص تدرس فيه، فانهم ظلوا يبنون

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 2 ص 136.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:12

الجامعات الى جانب الجوامع و يشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة و الانسان لا يمكن أن ينفصلا، و يبتعد بعضها

عن بعض.

(1)

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ:

لقد ابتاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. و اشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية و بناه، و عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه في تشييدها أيضا. فكان صلّى اللّه عليه و آله ينقل معهم اللبن، و الحجارة، و بينما هو صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله «اسيد بن حضير» فقال: يا رسول اللّه اعطني أحمله عنك.

قال صلّى اللّه عليه و آله: لا، اذهب فاحمل غيره «1».

و بهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل و ليس رجل قول، رجل فعل و ليس رجل كلام، و كان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول:

لئن قعدنا و النبيّ يعمل فذاك منّا العمل المضلّل «2» (2) و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يردّد و هو يبني و يعمل: لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللهمّ ارحم الأنصار و المهاجرة.

و قد كان «عثمان بن عفان» ممن يهتمّ بنظافة ثيابه، و يحرص على أن يمنع عنها الغبار و التراب، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، و فيها تعريض بمن لا يعمل و يحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 112.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 496.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:13 لا يستوي من يعمر المساجدايدأب فيها قائما و قاعدا

و من يرى عن الغبار حائدا «1»

(1) و قد أغضب مفاد هذه

الابيات عثمان بن عفان، فقال لعمار مهدّدا: قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية، و اللّه إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها، و في يده عصا!!

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكلام عثمان غضب و قال:

«ما لهم و لعمّار، يدعوهم إلى الجنّة، و يدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ و أنفي ..» «2».

و كان «عمار» فتى الاسلام القوي، يحمل قدرا كبيرا من اللبن و الاحجار في بناء المسجد و لا يكتفي بحمل شي ء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه و اخلاصه فيثقله باللبن و الاحجار.

و يروى أن اصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة و عمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه و لبنة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله محبة منه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3».

(2) و ذات مرة رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم و قال: يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرته «4» و كان رجلا جعدا و هو يقول قولته التاريخية:

«ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، انما تقتلك الفئة الباغية» «5».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 496، و تاريخ الخميس: ج 1 ص 345 و السيرة الحلبية: ج 2 ص 76 و مع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان و لكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. و قال صاحب المواهب الدنية: المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون، راجع

هامش سيرة ابن هشام أيضا.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 345.

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 71، البداية و النهاية: ج 2 ص 217.

(4) اي شعر راسه.

(5) المصدران السابقان

سيد المرسلين ،ج 2،ص:14

(1) و قد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلى اللّه عليه و آله و صدق دعواه، و صحة إخباراته، فقد وقع ما أخبره كما أخبر، فقد قتل «عمّار» و هو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام، فقتله أنصار معاوية، و قد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات و أي طرف من الأطراف في الصراعات و النزاعات بانضمام عمّار إليه.

و عند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية «عليّ» عليه السلام و موقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية و مساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم و عرفوا بمقتل «عمّار» على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق و أن معاوية و جماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و من هؤلاء «خزيمة بن ثابت» الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية، و لكنّه كان متردّدا في مقاتلته، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل «عمّار» على أيدي أهل الشام، و حمل عليهم «1».

(2) و منهم «ذو الكلاع» الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل و هم تمام رجال قبيلته، مع معاوية

لمحاربة الامام عليّ عليه السلام و كان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلّا بعد أن اطمأنّ الى تأييده له، و مشاركته في قتال علي عليه السلام.

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود «عمّار» في معسكر الامام «علي».

______________________________

(1) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 385 و وقعة صفين لابن مزاحم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:15

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر، و يشوشوه عليه فقالوا: ما لعمار و لصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق و ما يبالون من الكذب.

(1) و لكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد اللّه أ ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إن عمارا تقتله الفئة الباغية»؟

فقال عمرو: أجل، و لكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع: فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. و في هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية و عمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر «علي» أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا و تمزقا فضيعا في جيش الشام، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة «1».

(2) إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة و الشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره، و اسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع (أي يقول: إنا للّه و إنا إليه راجعون)

حتى دخل على معاوية، فقال معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمّار فقال معاوية: قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية: أو نحن قتلناه انما قتله علي و أصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا (و سيوفنا) «2».

(3) و لكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام، ليس مقبولا عند اللّه تعالى قط، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص، و هو مما لا قيمة له أبدا، فان هذا

______________________________

(1) وقعة صفين: 377 و 387.

(2) مسند الامام احمد بن حنبل: ج 4 ص 198.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:16

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات و الروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين و الجناة إلى تبرير جرائمهم و فضائعهم بحجة «الاجتهاد»، و تحت غطائه.

و إليك نموذجا من هذا الأمر:

(1)

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري (ابن كثير الشامي مؤلف البداية و النهاية).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال: لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، لأنهم و ان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال و ليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران، و المخطئ له أجر واحد (ثم يقول) و أما قوله: يدعوهم الى الجنة و يدعونه الى النار فان عمّارا و أصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة و اجتماع الكلمة، و أهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، و ان يكون الناس

أوزاعا على كل قطر امام برأسه، و هذا يؤدي إلى افتراق الكلمة و اختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم و ناشئ عن مسلكهم و ان كانوا لا يقصدونه!! «1»

(2) و نحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلّا التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق و طمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة، و لكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد- رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة- الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

(3) يقول أحمد بن حنبل: دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 2 ص 218.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:17

كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد اللّه بن عمرو: ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: تقتله الفئة الباغية قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: ان أبي شكاني إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: اطع أباك ما دام حيا، و لا تعصه، فأنا معكم و لست اقاتل «1».

(1) إن اعتذار «عبد اللّه بن عمرو بن العاص» يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول: إن معاوية قاتل «عليا» في صفين اجتهادا و ايمانا، و إن أخطأ في اجتهاده، و ذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع، فهذا هو القرآن الكريم يقول:

«وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» «2».

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح، ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لهذا كان اجتهاد معاوية و عمرو بن العاص و امثالهما باطلا مرفوضا،

لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

و لو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين و المنافقين معذورين في معارضتهم، و محاربتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما لا بدّ- حينئذ- أن نقول: إن يزيد و الحجاج و أشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين، و الصالحين من المسلمين، بل و مأجورين في عملهم هذا.

(2) انتهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون من بناء المسجد، و ظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

و قد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء و المهاجرون المحرومون.

و كلّف «عبادة بن الصامت» بأن يعلّمهم الكتابة، و قراءة القرآن.

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 2 ص 164 و 165.

(2) العنكبوت: 8.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:18

(1)

التآخي؛ أو أعظم معطيات الايمان:

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد كان صلّى اللّه عليه و آله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلّا جذب القلوب و الدعوة إلى دينه، و لكنه اليوم عليه أن يعمل- كصاحب دولة محنّك- على حفظ كيانه و كيان جماعته، و لا يسمح للأعداء الداخليين و الخارجيين بالتسلّل و النفوذ في صفوفهم، و لكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى:

1- خطر قريش و عامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

2- خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة و يمتلكون ثروة كبيرة.

3- الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين و بين الأوس و الخزرج.

(2) و حيث إن المهاجرين و الانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة، و آداب السلوك، و اسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس

و الخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم و بقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة و عشرين سنة بلا انقطاع.

و مع وجود مثل هذه التناقضات و الأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية، و السياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة، غاية في الحنكة و الابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

و أما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات و أصناف جماعته فقد عالج

سيد المرسلين ،ج 2،ص:19

تلك المشكلة بحذق كبير، و تدبير رائع جدا.

(1) فقد امر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين و الأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و قال لهم:

«تآخوا في اللّه أخوين أخوين».

و قد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية، مثل «السيرة النبوية» لابن هشام «1» اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين و الأنصار.

و بهذا الاسلوب كرّس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوحدة السياسية و المعنوية بين المسلمين و قوّى اسسها و دعائمها.

و قد سببت هذه الوحدة، و هذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة و سهولة.

(2)

منقبتان عظيمتان:

و لقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة و الشيعة و محدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين، نذكرهما نحن هنا أيضا: لقد آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين و الأنصار و هو يقول: يا فلان أنت أخ لفلان.

و لما فرغ من المؤاخاة، قال له علي عليه السلام، و هو يبكي:

«يا رسول اللّه آخيت بين أصحابك و لم تؤاخ بيني و بين أحد»؟

فقال له رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و قد أخذ بيده:

«أنت أخي في الدنيا و الآخرة» «2».

(3) و قد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال:

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي:

«و الذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلّا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 504- 507.

(2) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:20

موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي، و أنت أخي و وارثي» «1».

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية «2»، و حيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة، و لا يقلّ تفاهة و بطلانا من اعتذاره و دفاعه عن معاوية و زمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه، و نترك القضاء و الحكم عليه للقارئ المنصف، و المتتبع العدل.

(1)

منقبة أخرى لعليّ عليه السلام:

فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بناء المسجد، و قد بنيت منازله و منازل أصحابه حول المسجد، و كلّ شرع منه بابا إلى المسجد، و خطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه، و شرع بابه الى المسجد و خط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه و شرع بابه إلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

و فجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

«يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه و لا يكون لأحد باب إلى المسجد إلّا لك و لعليّ عليه السلام».

(2) يقول ابن الجوزي: فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض، و ظنوا أنّ هذا الاستثناء

قد نشأ عن سبب عاطفي، فخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الناس و قال فيما قال:

«و اللّه ما أنا أمرت بذلك، و لكنّ اللّه أمر بسدّ أبوابكم و ترك باب عليّ» «3».

و خلاصة القول أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى عن طريق المؤاخاة

______________________________

(1) ينابيع المودة: ص 56، و نظيره في السيرة النبوية.

(2) البداية و النهاية: ج 2 ص 226.

(3) تذكرة الخواص: ص 46، بتصرف بسيط.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:21

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار و المهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم، و بذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

(1)

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين و يهود يثرب:

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة و خارجها و كانوا يمسكون بأزمة التجارة و الاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة و ما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب، و بالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو، و لن يتهيّأ له صلّى اللّه عليه و آله أن يفكر في أمر الوثنيين و الوثنية في شبه الجزيرة العربيّة و لا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

و بكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن و الاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

(2) و لقد قام بين يهود المدينة و المسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان اللّه، و يرفضان الأوثان، و كان اليهود يتصوّرون

أنهم يستطيعون- إذا اشتد ساعد المسلمين، و قويت شوكتهم- أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم، هذا من جانب، و من جانب كان بينهم و بين الأوس و الخزرج علاقات عريقة و مواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكرّس هذا التفاهم، و يبلوره بعقد معاهدة تعايش، و دفاع مشترك بين الأنصار و المهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا «1».

______________________________

(1) المقصود منهم يهود الأوس و الخزرج، و أما يهود بني النضير، و بني قينقاع، و بني قريظة فقد عقد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:22

و قد احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المعاهدة دين اليهود و ثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

(1) و قد أدرج كتّاب السيرة و المؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم «1».

و نظرا لأهميّتها الخاصّة، و لأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا، قويّ الدلالة، و لكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله بمبادئ الحرية و النظم و العدالة، و مبلغ مراعاته و احترامه لها في الحياة، و لأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة و نسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

(2)

أعظم معاهدة تاريخية:

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم، فلحق بهم، و جاهد معهم.

(3)

«البند الاوّل»

(4) 1- إنّهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي على الحال التي جاء الاسلام و هم عليها) يتعاقلون بينهم (أي يدفعون دية الدم) و هم يفدون عانيهم (أسيرهم) بالمعروف و القسط بين المؤمنين.

(5) 2- و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين، و هكذا بنو ساعدة و بنو الحارث، و بنو جشم، و بنو النجار، و بنو عمرو بن عوف و بنو النبيت، و بنو الأوس كلّ على ربعتهم

______________________________

- النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

(1) مثل السيرة النبوية: ج 1 ص 501.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:23

(و الحال التي جاء الاسلام و هم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول، و دفع الفدية معا لفك الأسير).

(1) 3- و إنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا (أي مثقلا بالدين و كثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل (أي دفع دية او فداء أسير).

(2) 4- و إنّ المؤمنين المتقين (يد واحدة) على من بغى منهم، او ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، و أنّ أيديهم عليه جميعا و لو كان ولد احدهم.

(3) 5- و أن لا يحالف مؤمن مولى (أي عبد) مؤمن دونه (أي دون إذنه).

(4) 6- و أن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر (أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن) و لا ينصر كافرا على مؤمن.

(5) 7- و انّ ذمة

اللّه واحدة (تشمل جميع المسلمين بلا استثناء) يجير عليهم أدناهم (فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته و احترم أمانه).

(6) 8- و إنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

(7) 9- و إنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر و الاسوة غير مظلومين، و لا متناصرين عليهم.

(8) 10- و إنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء و عدل بينهم (فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلّا بموافقة المسلمين).

(9) 11- و إنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا (أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد)، و انّ المؤمنين يبي ء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه (أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض).

(10) 12- و إنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى و أقومه.

(11) 13- و أن لا يجير مشرك (من مشركي المدينة) مالا لقريش، و لا نفسا، و لا يحول دونه على مؤمن (أي لا يمنعه من مؤمن).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:24

(1) 14- و إنّه من اعتبط مؤمنا (أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله) قتلا عن بيّنة فانّه قود به (أي يقتل بقتله قصاصا) إلّا أن يرضى وليّ المقتول.

و انّ المؤمنين عليه كافّة، و لا يحلّ لهم إلّا قيام عليه.

(2) 15- و إنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، و آمن باللّه و اليوم الآخر، أن ينصر محدثا (صاحب بدعة) و لا يؤويه و أنه من نصره، و آواه فعليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يؤخذ منه صرف و لا عدل.

(3) 16- و

إنكم مهما اختلفتم فيه من شي ء فان مرده إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(4)

«البند الثاني»

(5) 17- و إنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (و دفاعا عن المدينة).

(6) 18- و إنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين (و بنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار) لليهود دينهم و للمسلمين دينه، مواليهم و أنفسهم، إلّا من ظلم و اثم، فانه لا يوتغ (لا يهلك) الّا نفسه و أهل بيته (و السبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه و يؤيّدونه في فعله غالبا و عادة).

و المراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات و الاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود و بين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم و معتد.

(7) 19- و إنّ ليهود بني النجار، و بني الحارث و بني ساعدة، و بني جشم، و بني الأوس و بني ثعلبة، و بني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، من الحقوق و الامتيازات.

و إن جفنة بطن من ثعلبة (أي تلك القبيلة فرع من هذه)، و انّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

(8) 20- و إنّ البرّ دون الإثم (أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم).

(9) 21- و إنّ موالي ثعلبة (أي المتحالفين معهم) كأنفسهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:25

(1) 22- و إنّ بطانة يهود (أي خاصتهم) كأنفسهم.

(2) 23- و أنه لا يخرج منهم أحد (من هذه المعاهدة) إلّا باذن محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(3) 24- و إنّه لا ينحجر على ثأر جرح (اي لا يضيع دم حتى الجرح)، و ان من فتك (بأحد) فبنفسه فتك، و أهل بيته إلّا من ظلم (أي إلّا إذا كان المفتوك به ظالما).

(4)

25- و إنّ على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، و انّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة (أي أن على كل جماعة من المسلمين و اليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب).

(5) 26- و إنّ بينهم النصح و النصيحة (أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس) و البر دون الاثم.

(6) 27- و إنّه لم يأثم امروء بحليفه (أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه و أن النصر للمظلوم (لو فعل أحد ذلك).

(7) 28- و إنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة (أي أنّ داخل المدينة حرم و مأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة).

(8) 29- و إنّ الجار (و هو من يدخل في أمان أحد) كالنفس غير مضارّ و لا آثم، (فلا يجوز إلحاق ضرر به).

(9) 30- و إنّه لا تجار حرمة إلّا باذن أهلها.

(10) 31- و إنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ اللّه على اتّقى ما في هذه الصحيفة و أبرّه (أي انّه تعالى ناصر و ولي لمن التزم بهذه المعاهدة).

(11) 32- و إنّه لا تجار قريش و لا من نصرها.

(12)

«البند الثالث»

(13) 33- و إن بينهم (أي بين اليهود و المسلمين) النصر على من دهم يثرب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:26

(فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين).

(1) 34- و اذا دعوا (أي دعي المسلمون اليهود) الى صلح يصالحونه، و يلبسونه، فانهم يصالحونه و يلبسونه.

و إنّهم اذا دعوا (أي اذا دعى اليهود المسلمين) الى مثل ذلك (الصلح) فانه لهم على المؤمنين إلّا من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن

يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء، و هكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلّا إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام و يعاديه و يتآمر عليه.

(2) 35- و إنّ يهود الأوس مواليهم و أنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

(3)

«البند الرابع»

(4) 36- و إنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم و آثم. (فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة و جناية).

(5) 37- و إنّه من خرج (من المدينة) آمن، و من قعد آمن بالمدينة إلّا من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية:

«و إنّ اللّه جار لمن برّ و اتّقى، و محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» «1».

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام، و حرصه على مبدأ حرّية الفكر و الاعتقاد، و مبدا الرفاه الاجتماعي العام، و ضرورة التعاون في الامور العامة، بل و توضّح هذه المعاهدة- فوق كلّ ذلك- حدود صلاحيّات و اختيارات القائد، و مسئوليّة كلّ الموقّعين عليها، و على أمثالها.

(6) على أنه و إن لم يشترك يهود «بني قريظة» و «بني النضير» و «بني قينقاع»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 503 و 504، الاموال: ص 125- 202.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:27

في إبرام هذه المعاهدة و التوقيع عليها، بل شارك فيها يهود الأوس و الخزرج فقط، إلّا أنّ تلك الطوائف اليهودية (الثلاث) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين و زعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي:

أن لا يعينوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا على أحد من أصحابه بلسان و لا يد و لا بسلاح و

لا بكراع (أي الخيل و غيرها من المراكب) في السر و العلانية لا بليل و لا بنهار، اللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم، و سبي ذراريهم، و نسائهم، و أخذ أموالهم.

و قد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار، ثم وقع عليها «حي بن أخطب» عن قبيلة بني النضير، و «كعب بن أسد» عن بني قريظة، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع «1».

و بهذا ساد الأمن يثرب و ضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

و الآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشكلة الاولى، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة، و يقف سدّا أمام تبليغ الاسلام، فلن يوفّق لنشر هذا الدين و تطبيق أحكامه، و تعاليمه المباركة.

(1)

ممارسات اليهود الإجهاضية:

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة و أخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم، و تزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية و الاقتصادية و السياسية.

و قد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا و ضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقويته و تأييده جرّه إلى صفوفهم، و لم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 110 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:28

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود و النصارى، من هنا بدءوا بممارسة

الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم، و لكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل و لم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة و ايمانهم العميق برسول الاسلام.

(1) و قد جاءت بعض هذه المناظرات و المجادلات في سورة البقرة و سورة النساء.

و يستطيع القارئ العزيز- من خلال قراءة- آيات هاتين السورتين و التمعن فيهما أن يقف على مدى العناد و اللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام، و يحجمون عن الاعتراف به، و كانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام:

«قلوبنا غلف».

أي لا نفهم ما تقول!! «1».

(2)

اسلام عبد اللّه بن سلام:

هذه المناظرات و المجادلات و ان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلّا تعنّتا و عنادا، و لكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض و إقبالهم على الاسلام، مثل «عبد اللّه ابن سلام».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود و أحبارهم، برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد سلسلة من المناظرات و المجادلات المطولة «2».

و لم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلّا و التحق به عالم آخر من علماء

______________________________

(1) و (2) للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 530- 572، بحار الأنوار: ج 9 ص 303 فما بعد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:29

اليهود هو «المخيريق».

(1) و كان عبد اللّه بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه و ترك دينهم، من هنا طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

أن يكتم عن الناس إسلامه، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه و تقواه، و بمعرفته و صلاحه قائلا: «يا رسول اللّه إن يهود قوم بهت، و أني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك، و تغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني و عابوني».

فأدخله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض بيوته و أخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه:

«أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟».

قالوا: سيدنا و ابن سيدنا، و حبرنا و عالمنا، فخرج عليهم «عبد اللّه بن سلام» من مخبأه و قال لهم: يا معشر يهود اتّقوا اللّه و اقبلوا ما جاءكم به، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنه لرسول اللّه تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه و صفته، فاني أشهد أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أؤمن به و اصدّقه و أعرفه.

فغضب اليهود من مقالته، و قالوا له: كذبت و وقعوا فيه، و عابوه، و بهتوه «1».

(2)

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية:

لم تضعف مجادلات اليهود و اسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين و ايمانهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحسب، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية، و قيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات و المحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين و اليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى و هي التذرّع باسلوب «فرّق تسد»، لالقاء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 516.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:30

الفرقة في صفوف المسلمين.

(1) فقد رأى دهاة اليهود و ساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات، و يؤججوا نيران العداء القديم بين

الأوس و الخزرج الذي زال بفضل الاسلام، و بفضل ما أرساه من قواعد الاخوة و المساواة و المواساة و المحبة، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة و عشرين عاما متوالية، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم، و التي من شأنها ابتلاع الاخضر و اليابس و القضاء على الجميع دون ما استثناء.

(2) ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأوس و الخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم «شاس بن قيس» و هو يهودي شديد العداء للإسلام، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، فغاظه ما رأى من الفة الأوس و الخزرج، و اجتماعهم و تواددهم، و صلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث «1» و ما كان قبله و أنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا و تبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار، و إثارة لنيران الاحقاد الدفينة، و العداوات الغابرة.

(3) ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به «شاس» فتكلم القوم عند ذلك، و تنازعوا، و تفاخروا، و تواثب رجلان من القبيلتين على الركب و أخذ كل منهما يهدّد الآخر، و تفاقم النزاع، و غضب الفريقان و تصايحا، و قاما إلى السلاح و كاد أن يقع قتال و دم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة و الاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرف بمكيدة اليهود، و مؤامرتهم الخبيثة هذه، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس و الخزرج في جمع

من أصحابه المهاجرين فقال:

______________________________

(1) قد مرّ ذكر هذه الوقعة و قلنا: هو يوم اقتتلت فيه الأوس و الخزرج و كان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:31

«يا معشر المسلمين، اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام، و أكرمكم به، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة، و استنقذكم به من الكفر، و ألّف بين قلوبكم؟؟».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام و المسلمين، و كيد خبيث منهم، فندموا على ما حدث، و بكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سامعين مطيعين، و أطفأ اللّه عنهم كيد أعدائهم «1».

(1) إلّا أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ، و لم تنته بهذا، فقد اتسعت دائرة خيانتهم و جنايتهم، و نقضهم للعهد و أقاموا علاقات سرية و خاصة مع مشركي الأوس و الخزرج، و مع المنافقين و المترددين في اسلامهم و اعتقادهم، و اشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين، و في الحروب التي وقعت بين الطرفين، و كانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم و المساعدة للوثنيين، و يعملون لصالحهم!!

و قد جرت هذه النشاطات السرّية و العلنية المضادّة المعادية للاسلام و المسلمين، و هذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش، جرت إلى وقوع مصادمات و حروب دامية بين المسلمين و الطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

(2) و سيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة و الرابعة من الهجرة، و سيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما، بنقض العهد، و

معاداة الاسلام و المسلمين، و التآمر ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة، و بنصرة أعدائه، و دعم خصومه، الأمر الذي أجبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على تجاهل تلك المعاهدات الودية و الانسانية و من ثم محاربتهم، و إخراجهم من المدينة و ما حولها و القضاء على

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 555- 557.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:32

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد و البيوت و المنازل المحيطة بها، و قد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس و الخزرج، و لم يبق دار من دور الانصار إلّا أسلم أهلها، ما عدا بعض العوائل و الفروع ممن بقوا على شركهم، و لكنهم أسلموا بعد معركة بدر «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 500.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:33

(1)

حوادث السنة الثانية من الهجرة

اشارة

27

مناورات عسكرية و استعراضات حربية

اشارة

الهدف من هذا الفصل هو شرح و بيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية، و المناورات العسكرية، التي قام و أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة و استمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية، و تعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية، و عروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع، و بيان رموزها و أسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

و إليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث:

(2) 1- لم يكن يمض على إقامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو «حمزة بن عبد المطلب» و قد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية، فالتقوا قافلة قريش في «العيص» فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة، فاصطفّوا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:34

للقتال، و لكنهما تفرقا و لم يقع قتال لوساطة قام بها «مجديّ بن عمرو» الذي كان حليفا للفريقين، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة، و توجّه أبو جهل في غيره و أصحابه إلى مكة «1».

(1)

تهديد خطوط قريش التجارية
غزوة بدر:

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة و المرة، و المسرّة و المحزنة، و دخل النبيّ و أصحابه العام الثاني من الهجرة.

و السنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة و باهرة، و من أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما: تغيير القبلة و الأخرى وقعة بدر الكبرى.

و لكي

تتضح أسباب و علل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها، اذ بتحليلها و دراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى و بدايات السنة الثانية من الهجرة: بعث «الدوريات العسكرية» الى خطوط قريش التجارية «2» و الآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 222 فما بعد، بحار الأنوار: ج 19 ص 186- 190، امتاع الاسماع:

ص 51، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 77 و 78 و المغازي للواقدي: ج 1 ص 9- 19.

(2) لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة و أطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.

و قد كان ينبغي- طبقا للترتيب الموضوعي و التسلسل التاريخي- أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة و سرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة، بيد أنه لوجود مناسبة بينها و بين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.

هذا مضافا الى أن ابن هشام- تبعا لابن إسحاق- يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة و ان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاولى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:35

العسكرية.

(1) هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين و كتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر و هما لفظة: «الغزوة» و «السرّيّة» «1».

و المقصود من «الغزوة» تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشارك فيها بنفسه، و يتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من «السريّة» إرسال مجموعات عسكرية و فرق و كتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين و يوجّهها

إلى الوجهة التي يريدها.

و قد احصيت غزوات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانت (27) أو (26) غزوة.

و يعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة «خيبر» و غزوة «وادي القرى» اللتين حدثتا تباعا و من دون فاصلة غزوتين و البعض الآخر عدّهما غزوة واحدة «2».

(2) و قد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا فأحصى المؤرخون (35)، (36)، (48)، و حتى (66) سرية.

و يعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها، و لهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ، و كلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه.

و قد أحجمنا عن ذكر السرايا إلّا سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة «بدر».

و إليك بيان هذه السرايا و الغزوات و شرح تفاصيلها.

______________________________

(1) راجع المحبّر: ص 110- 116.

(2) مروج الذهب: ج 2 ص 287 و 288.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:36

(1) 2- في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول اللّه سريّة حمزة، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، و بعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل «ثنية المرة» «1».

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان، و لكن لم يكن بينهم قتال إلّا أن «سعد بن أبي وقاص» رمي يومئذ بسهم، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين و قد خرجا مع

الكفار و جعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين و الالتحاق بهم «2».

(2) 3- بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة «سعد بن أبي وقاص» على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش و رصد تحرّكاتها خارج المدينة، فخرجوا حتى بلغوا منطقة «الخرّار» و لكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة «3».

(3)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يلاحق قريشا بنفسه:

(4) 4- في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المدينة «سعد بن عبادة» و أناط إليه ادارة امورها الدينية و خرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين و الأنصار، لملاحقة ركب قريش التجاري و اعتراضه، و عقد معاهدة موادعة مع «بني ضمرة» حتى بلغ الابواء، و لكنه لم يلق أحدا من قريش، فرجع صلّى اللّه عليه و آله هو و من معه إلى المدينة «4».

(5) 5- و في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعمل صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى على المدينة: «السائب بن عثمان» أو «سعد بن معاذ» و خرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط (و هو جبل من جبال

______________________________

(1) المحبر: ص 116.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 591.

(3) المحبر: ص 116.

(4) تاريخ الخميس: ج 1 ص 363 نقلا عن ابن اسحاق.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:37

بقرب ينبع على بعد 90 كيلومترا من المدينة تقريبا) و لكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها «أميّة بن خلف» و على رأس مائة رجل من قريش، فرجع الى المدينة.

(1) 6- و في منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش

التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة، و قد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ «ذات العشيرة» و قد استعمل على مكة هذه المرّة «أبا سلمة بن عبد الأسد»، و بقي صلّى اللّه عليه و آله في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش، و لكنه لم يظفر بها، ثم وادع فيها بني مدلج و عقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص «1». سيد المرسلين ج 2 37 النبي صلى الله عليه و آله يلاحق قريشا بنفسه: ..... ص : 36

قال ابن الأثير: في هذه الغزوة (و المكان) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعته في بواط عند عين فنام علي و عمّار فوجدهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما، و حرّك عليّا فقال: قم يا أبا تراب أ لا اخبرك باشقى الناس: أحيمر ثمود عاقر الناقة، و الذي يضربك على هذه [يعني قرنه] فيخضّب هذه منها [يعني لحيته] «2».

(2) 7- بعد أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الّا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم «كرز بن جابر الفهري» على ابل أهل المدينة و مواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طلبه و قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلّى اللّه عليه و آله و من

معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة و رجبا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 598، تاريخ الخميس: ج 1 ص 363.

(2) الكامل: ج 2 ص 112 و المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 140 و 141.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:38

و شعبان «1».

(1) 8- و في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عبد اللّه بن جحش» على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية، و قد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها، و أمره أن لا ينظر فيه قائلا له:

«قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر (إي افتح) كتابي ثم امض (اي نفّذ) لما فيه».

ثم عيّن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد اللّه و رفقاؤه و ساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم فتح عبد اللّه كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قرأ ما فيه، فاذا فيه:

«إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة و الطائف على اسم اللّه و بركته فترصّد بها قريشا، و تعلّم (أي حصّل) لنا من أخبارهم و لا تكرهنّ أحدا من أصحابك «2» و امض لأمري فيمن تبعك».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر، و قد نهاني أن استكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة و يرغب فيها فلينطلق، و من كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و

من أراد الرجعة فمن الآن.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 601، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 9، و قد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.

(2) يقال إنه كان الجنود- الى حين الحرب العالمية الثانية- إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلّا عند حالات النفير العام، و العمل بمضمونها و قد سبق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:39

(1) فقال أصحابه اجمعون: نحن سامعون مطيعون للّه و لرسوله و لك فسر على بركة اللّه حيث شئت، فسار هو و من معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها «عمرو بن الحضرمي» و هي عائدة من الطائف الى مكة، فنزل المسلمون بالقرب منهم، و لكي لا يكتشفهم العدوّ، و لا يعرف بأمرهم و مهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا و أمنوا جانبهم و قالوا: عمّار لا بأس عليكم منهم.

(2) ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم: أنهم إذا تركوا القوم (أي قريشا) في تلك الليلة (و كانت آخر ليلة من شهر رجب) لدخلوا الحرم، و لم يمكن قتالهم فيه، و ان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، و أخذ ما معهم، من هنا باغتوا تلك القافلة، و رمى «واقد بن عبد اللّه» قائدها «عمرو بن الحضرمي» بسهم فقتله، و

فرّ رجاله إلّا نفرين هما: «عثمان بن عبد اللّه» و «الحكم بن كيسان» حيث أسرهما المسلمون، و عاد عبد اللّه بن جحش و أصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش و الاسيرين إلى المدينة.

(3) و لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و أخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام (رجب) انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تصرف قائد المجموعة و عدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة و قال:

«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام».

و قد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشاعت بأنّ «محمّدا» و أصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام و سفكوا فيه الدم و أخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية و أرادوا أن يثيروا فتنة، و عاب المسلمون على «عبد اللّه بن جحش و أصحابه» فعلتهم هذه. هذا من جانب و من جانب آخر وقّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الاموال و الأسيرين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:40

و ابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا و بقي ينتظر الوحي.

(1) و فجأة نزل جبرئيل بهذه الآية:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» «1».

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به و صدّكم عن المسجد الحرام، و اخراجكم منه و أنتم اهله أكبر عند اللّه من قتل من قتل منهم «و الفتنة أكبر من القتل» أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى

يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

(2) و لما نزل القرآن بهذا الأمر، و فرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف و الحيرة قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأموال، و الأسيرين و قسمها بين المسلمين، و كانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

و بعثت قريش الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش، قد اشتركا في هذه العمليّة و لكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

و هكذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلّا إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش:

«إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين، و مع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أسيري قريش.

و من حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم و رجع الآخر إلى مكة «2».

______________________________

(1) البقرة: 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 13- 18، السيرة النبوية: ج 1 ص 603- 605.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:41

(1)

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدف الاساسي من بعث و توجيه السرايا، و عقد الاتفاقيات و المعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية، و اشتداد ساعدهم، و خاصة عند ما كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يشترك بنفسه في العمليات، و يترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية، و يعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يريد بذلك إفهام

حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده، و أنه يستطيع- متى شاء- أن يشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم و طرقهم التجارية، للتهديد الجدّي.

(2) و لقد كانت التجارة أمرا حيويّا و حساسا جدا بالنسبة إلى أهل مكة، و كانت البضائع التي تنقل منها إلى الطائف و الشام تشكّل اساس الاقتصاد المكّي، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قبل العدوّ و حلفائه مثل «بني ضمرة» و «بني مدلج» فان ذلك كان يعني انهدام و انهيار حياتهم.

لقد كان الهدف من بعث تلك الدّوريات العسكرية هو: أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين، فاذا استمرّوا في معاداتهم للاسلام و للمسلمين و حالوا دون انتشار الاسلام، و الدعوة إليه، و استمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين و العجزة في مكة و اضطهادهم، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

(3) و الخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريش النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة، و التهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي، و تترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم، و تفتح الطريق لزيارة بيت اللّه الحرام، و نشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ، و المحكم أن ينفذ في القلوب، و يتجلّى نور الاسلام و يشعّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية، و ربوعها، و بخاصة منطقة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:42

الحجاز مركز الجزيرة، و قلبها النابض.

(1) فان المتكلم مهما كان قويّ المنطق، سديد البرهان و أنّ المربّي و المرشد مهما كان مخلصا مجدا فانّه لا يستطيع أن يحرز اي نجاح في تنوير العقول، و تهذيب النفوس و بث الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل، و لم تتهيأ له البيئة المطمئنّة و أجواء

الحرّية و الديمقراطية.

و لقد كان الاضطهاد و الكبت و سلب الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدّم الاسلام و سرعة انتشاره و نفوذه، و كان الطريق الى كسر هذا السدّ، و إزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها و تعريض خطوطها التجارية، للخطر، و كانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية و الاستعراضات الحربية، و العمليات الاعتراضية.

(2)

نظرية المستشرقين:

و لقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير، و تفوّهوا نتيجة ذلك بكلام يخالف القرائن و الشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون: لقد كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مصادرة أموال قريش، و السيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنّ الغارة، و قطع الطريق، و استلاب الأموال، من شيم الاعراب أهل البوادي، البعيدين عن روح الحضارة، و قيم المدنية و أخلاقها، بينما كان مسلمو يثرب عامة، أهل زرع، و فلاحة، و لم يعهد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.

و أما حروب الأوس و الخزرج فقد كان لها أسباب و علل محليّة، و قد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها، بغية إضعاف القوى و الصفوف العربية و تقويه نفسها و موقعها.

(3) و من جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:43

صلّى اللّه عليه و آله ينوون ملافاة ما خسروه، رغم أنّ ثرواتهم و ممتلكاتهم كانت قد صودرت من قبل المكيين، و يدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة «بدر» لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا و قد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث و الارساليات العسكرية

هو تحصيل و جمع المعلومات، عن العدوّ و تحركاته و خططه، و المجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالبا الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلا لا يمكنها قطع الطريق، و استلاب الاموال، و مصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عددا و أقوى عدّة من تلك السرايا، بأضعاف المرات غالبا.

(1) فاذا كان الهدف هو الحصول على المال و الثروة من هذا الطريق فلما ذا خصّت قريش بذلك، و لم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟

و لما ذا لم يمس المسلمون شيئا من أموال غير قريش.

و اذا كان الهدف هو الغارة، و قطع الطريق و استلاب الأموال، فلما ذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبعث المهاجرين فقط، و لا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالبا؟

و ربما قال هؤلاء المستشرقون: ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب و الاضطهاد و الأذى، فدفعتهم غريزة الانتقام و الثأر- بعد أن حصلوا على القوة- الى تجريد سيوفهم، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم، و ليسفكوا منهم دما!!

(2) و لكن هذا الرأي لا يقل في الضعف و الوهن و السخافة عن سابقه، لأنّ الشواهد و القرائن التاريخية الحيّة العديدة، تكذّبه و تفنّده، و توضّح- بجلاء- أن الهدف من بعث تلك السرايا و الدوريات العسكرية لم يكن أبدا القتال و الحرب، و الانتقام و سفك الدماء.

و إليك ما يدلّ على بطلان هذه النظرية:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:44

(1) أوّلا: اذا كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال و استلاب الاموال

و اخذ المغانم، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات، و يبعث كتائب- عسكرية مسلّحة، و مجهزة تجهيزا قويا، إلى سيف البحر، و شواطئه على حين نجد أنه صلّى اللّه عليه و آله بعث مع «حمزة بن أبي طالب» ثلاثين شخصا، و مع «عبيدة بن الحارث» ستين شخصا، و مع «سعد بن أبي وقاص» أفرادا معدودين لا يتجاوزون العشرة، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جدا من الفرسان، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.

فقد واجه «حمزة» ثلاثمائة، و عبيدة مائتين رجلا من قريش، و قد ضاعفت قريش من عدد المحافظين و الحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات و التحالفات التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

هذا مضافا إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث و الدوريات مكلّفين بمقاتلة العدوّ فلما ذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث و العمليات و لما ذا انصرف بعضهم لوساطة قام بها «مجدي بن عمرو» بين الطرفين؟!

(2) ثانيا: ان كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كتبه لعبد اللّه بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال، و الحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب: «انزل نخلة بين مكة و الطائف فترصّد بها قريشا و تعلم (اي حصّل) لنا من أخبارهم».

إن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنّ مهمة عبد اللّه و جماعته لم تكن القتال قط، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ و تنقلاته و تحركاته، أي مهمة استطلاعية حسب.

و اما سبب الصدام في «نخلة» و مصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس

المجموعة، و ليس بقرار و أمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:45

(1) و من هنا انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمجرد سماعه بنبإ هذا الصدام الدموي و لا مهم على فعلتهم و قال:

«ما أمرتكم بقتال».

و يؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال:

ما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقتال في الشهر الحرام، و لا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش «1».

و العلة في أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يختار لهذه الدوريات و البعوث رجالا من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع، أي أن معاهدتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه و يدافعوا عنه إذا قصده عدوّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يفرض عليهم مثل هذه المهمات، و يبقى هو في المدينة، و لكنه عند ما خرج- فيما بعد- بنفسه أخذ معه جماعة من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة و الوحدة بين المهاجرين و الأنصار، و لهذا كان رجاله في غزوة «بواط» أو «ذات العشيرة» يتكونون من الأنصار و المهاجرين.

(2) و على هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنّ بالتأمل و الامعان في ما قلناه يتضح أيضا بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه، إذ أن الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصه بل كانوا خليطا من المهاجرين و الأنصار،

و الحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية، بل كل ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو: العمل الدفاعي،

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 16.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:46

فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة.

(1) و تشهد بما نقول حادثة وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحرب، في تلك الواقعة.

هذا و السبب في تسمية أصحاب السير و التواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه (غزوة) و ان لم يقع فيها قتال و غزو، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوان واحد، و إلّا فلم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحرب و القتال، أو السيطرة على الأموال و سلبها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:47

(1)

28 تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة

لم يكن قد مضى على هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة عدة أشهر إلّا و بدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله تظهر شيئا فشيئا!!

و في الشهر السابغ عشر من الهجرة بالضبط «1» أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالأمر المؤكّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة و يتخذها من الآن فصاعدا قبلة له و للمسلمين كافة، فيتوجهون الى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصة، و إليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة عشر عاما كاملة في مكة نحو بيت المقدس.

(2) و بعد الهجرة الى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة، أي بأن يصلي الى بيت المقدس،

كما كان يفعل في مكة.

و قد كان هذا الاجراء نوعا من المحاولة لاقامة التعاون و التقارب بين الدينين

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 241 و 242، إعلام الورى باعلام الهدى: ص 71 و 72. و يقول ابن هشام في السيرة النبوية: ان القبلة صرفت عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة (السيرة النبوية: ج 1 ص 606) و يرى ابن الاثير أن ذلك حدث في منتصف شهر شعبان (الكامل: ج 2 ص 80).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:48

القديم و الجديد، و لكن تنامي قوة المسلمين و اشتداد ساعدهم أحدث رعبا كبيرا، و أوجد قلقا واسعا في أوساط اليهود القاطنين في المدينة لأن تقدّم الاسلام و المسلمين المطرد كان يدلّ على أن الدين الاسلامي سيعمّ في أقرب وقت كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، و ستتقلّص (بل تزول) في المقابل قوة اليهود و سلطانهم، و مكانتهم، من هنا نصب أحبار اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عمدوا إلى ممارسة سلسلة من الأعمال الإجهاضية و الإيذائية.

(1) لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بمختلف أنحاء الطرق و بشتى الوسائل و السبل، و المعاذير و الحجج و من جملتها التذرع بقضيّة صلاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين الى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إياه: أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون: تخالفنا يا محمّد في ديننا و تتبع قبلتنا «1».

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اغتم لذلك غما شديدا فكان يخرج من بيته في منتصف الليل و يتطلع في آفاق

السماء ينتظر من اللّه أمرا و وحيا في هذا المجال كما تفيد الآية الآتية:

«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «2».

(2) و يستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال أنه كان لتغيير القبلة مضافا إلى الردّ على دعوى اليهود سبب آخر أيضا.

و هو أن هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية التي اراد اللّه تعال بها ان يمتحن المسلمين، و يميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الايمان، المنتحلين له كذبا و نفاقا، و أن يعرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به من حوله معرفة جيدة لأن إتباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأمر الثاني الذي نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الصلاة (و هو التوجه إلى المسجد الحرام) كان علامة قوية

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 255 أو: ما درى محمّد و أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.

(2) البقرة: 144.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:49

من علامات الايمان و التسليم، و الاخلاص و الوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامة قوية من علامات النفاق و التردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك اذ يقول:

«وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» «1».

و من المسلّم أنه يمكن الوقوف على حكم اخرى لهذا الأمر (أي صرف القبلة من الشام الى الكعبة) إذا تتبعنا تاريخ الاسلام بشكل أوسع، و طالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

(1) و يمكن الاشارة الى بعض هذه الحكم مضافا الى ما ذكرناه:

(2) أولا: أن الكعبة التي رفعت قواعدها على يدي بطل التوحيد و ناشر لوائه النبيّ العظيم «ابراهيم الخليل» (عليه السلام) كانت موضع احترام و

تقديس من المجتمع العربي، فقد كان العرب يحبون الكعبة و يعظمونها غاية التعظيم على ما هم عليه من الشرك و الفساد، فكان اتخاذه قبلة من شأنه كسب رضا العرب، و استمالة قلوبهم، و ترغيبهم في الاسلام تمهيدا لاعتناق دين التوحيد و نبذ الاوثان و الاصنام.

و أيّ هدف، و أية غاية ترى أسمى و أجلّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلفون عن ركب الحضارة و المدنية، و ينتشر الاسلام بسببهم في كل أنحاء العالم.

(3) ثانيا: أن الابتعاد عن اليهود الذين لم يكن يؤمل في إذعانهم للاسلام، و ايمانهم برسالة (محمّد) ذلك اليوم كان يبدو أمرا ضروريا، لأنهم كانوا يقومون بأعمال ايذائية ضد الاسلام و المسلمين و يطلعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) البقرة: 143. و يمكن بيان هذه العلة بصورة أخرى و هي إنما أمر بالصلاة الى بيت المقدس لأن مكة و بيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأراد اللّه أن يمتحن بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. (راجع مجمع البيان: ج 1 ص 222 و 223).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:50

و آله بين الفينة و الأخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها، يظهرون بها- حسب تصورهم- أنهم يعرفون أمورا كثيرة و أنهم علماء، و بذلك يضيّعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوقت، و يشغلونه عن مهامه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحدا من مظاهر الابتعاد عن اليهود و اجتنابهم، تماما مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الذي تم لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الاسلام، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المسلمون بأن يصوموا هذا اليوم أيضا، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء و فرض مكانه صوم شهر رمضان «1».

(1) و

على كل حال فان الاسلام الذي يتفوق على جميع الأديان، يجب أن تتجلى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمر تكامله و تفوقه باديا للعيان، واضحا للجميع.

و في هذه الحالة تصوّر بعض المسلمين أن ما أتوا به من صلاة و عبادة و هم متجهين إلى بيت المقدس كان باطلا إذ قالوا: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى، أو حال من مضى من أمواتنا و هم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟!

فنزل الوحي الإلهي يقول:

«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» «2».

و مع ملاحظة هذه الاعتبارات و بينما كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد انتهى من الركعة الثانية من صلاة الظهر، نزل عليه جبرئيل، و أمره بأن يتوجه بالمصلّين معه حدب المسجد الحرام.

(2) و جاء في بعض الاخبار أنّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أداره نحو المسجد الحرام، فتبعه الرجال و النساء الذين كانوا يأتمون به في

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 273.

(2) البقرة: 143. و المراد من الايمان هنا هو العمل و هو من الموارد التي استعمل فيها لفظ الايمان و اريد به العمل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:51

المسجد «1».

فتحوّل الرجال مكان النساء و النساء مكان الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس، و آخرها الى الكعبة.

و منذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة- زاد اللّه من شرفها- قبلة مستقلة للمسلمين يتوجهون إليها في كثير من واجباتهم و شعائرهم الدينية «2».

هذا و الغريب أن اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس الى الكعبة المعظمة يفتخرون على المسلمين بأنهم يصلّون على قبلة اليهود، لما حوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة، و امروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس

أخذوا يعيبون على المسلمين التوجه إلى نقطة ما في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله:

«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

أي ان اللّه فوق الزمان و المكان، و التوجه إلى نقطة خاصة في حالة العبادة انما هو لمصالح اجتماعية خاصة فالصلاة الى الكعبة توجّه الى اللّه كالصلاة الى بيت المقدس سواء بسواء.

(1)

كرامة علمية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

و ما ينبغي الاشارة إليه هنا هو: أن العرض الجغرافي للمدينة- طبقا لمحاسبات علماء الفلك القدامى- هو 25 درجة، و طولها 75 درجة و 20 دقيقة، و لهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الباقي على حالته السابقة الى الآن في مسجده الشريف، و قد سبّب هذا الاختلاف حيرة لدى بعض المتخصصين في هذا العلم، و ربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات و تبريرات لرفع هذا الاختلاف.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 201 عن من لا يحضره الفقيه.

(2) كالصلاة و الذبح و دفن الموتى، و الدعاء و غير ذلك.

(3) البقرة: 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:52

(1) و لكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة- طبقا للمقاييس المعروفة اليوم- أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة و طول 39 درجة و 59 دقيقة «1».

و تكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماما و تنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقه فقط.

و هذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل تطبيق، و يعدّ هذا من كرامات النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله حيث توجه في حالة الصلاة «2»

من بيت المقدس الى الكعبة بصورة دقيقة و من دون أي انحراف و لا جزئي مغتفر و ذلك من دون أية محاسبة فلكيّة، و علميّة.

و قد أخذ جبرئيل بيده و حوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا «3».

______________________________

(1) تحفة الأجلّة في معرفة القبلة: ص 71 طبعة 1359.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1 ص 178.

(3) و قد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة: في أبواب القبلة ج 3 ص 215 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:53

(1)

29 معركة بدر

اشارة

معركة «بدر» من معارك الاسلام الكبرى و من حروبه البارزة، و قد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدة أفراد من المجاهدين في «بدر» أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون: و وافقنا عليه البدريون.

أجل إن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعون بالبدريين، و لم يكن هذا إلّا لاهميّة تكلم الوقعة التاريخية.

و تتضح علة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

(2) لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إلى الشام بقيادة «أبي سفيان بن حرب».

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لملاحقتها إلى «ذات العشيرة» و توقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي، و لم يعثر على تلك القافلة، و قد كان وقت عودة القافلة معلوما تقريبا، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكة في أوائل الخريف.

و

من المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المحالات هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:54

تحصيل اكبر قدر من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئا عن استعدادات العدوّ، و نقطة تمركزه و تواجده، و معنويات أفراده، فانه ربما ينهزم و ينكسر في أول مواجهة.

(1) و لقد كان من أساليب النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله الرائعة في جميع الحروب و المعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ، و مبلغ تهيّؤه و مكان تواجده، و تمركزه، و هذه مسألة تحظى و الى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية و المحلية، بل و ترصد لها ميزانيّات كبرى، و تستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر، كما هو معلوم للجميع، و كما أشرنا الى ذلك فيما سبق.

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينا له على قافلة قريش اسمه «عدي»- حسب رواية المجلسي «1»- أو «طلحة بن عبيد اللّه» و «سعيد بن زيد» حسب ما قال صاحب «حياة محمّد» نقلا عن المصادر التاريخيّة «2»، لإخباره عن مسير تلك القافلة، و عدد حرّاسها و رجالها و نوعية البضائع المحمّلة.

فلما عاد العين أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

1- بأن قافلة قريش قافلة كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة، حتى أنه ما من قرشيّ أو قرشية بمكة له مثقال فصاعدا إلّا بعث به في تلك القافلة.

2- إنّ البضائع يحملها ألف بعير و أنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3- و أنه يقودها «أبو سفيان بن حرب» في أربعين رجلا.

(2) و حيث إن أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش من هنا كان الوقت مناسبا

جدا لأن يأخذ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة، و يحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة، فاذا لجّوا و أصرّوا في مصادرة أموال المسلمين قسّم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:55

المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم و تصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم:

«هذا عير قريش (أي قافلتهم) فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ اللّه ينفلكموها» «1».

من هنا استخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة «عبد اللّه بن أمّ مكتوم» للصلاة بالناس، و القيام بالشؤون الدينية، و «أبا لبابة» للقيام بالشؤون السياسية.

ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى توقيفها و حبسها.

(1)

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران «2»:

لقد ترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة قريش، قاصدا وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين، الثامن من شهر رمضان، و قد عقد رايتين سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير، و الاخرى (و تسمى العقاب) إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.

و لقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تتألّف من اثنين و ثمانين من المهاجرين، و مائة و سبعين من الخزرج، و واحد و ستين من الأوس، و كان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 20.

(2) وادي ذفران الذي كان يمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر.

و قد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المدينة إلى ذفران و منه

إلى بدر الذي ارتحل إليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش.

و بدر كان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كلّ عام يتبايعون فيه و يتفاخرون على غرار سوق عكاظ، و كان يقع على طريق مكة و المدينة و الشام. (راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 613- 618).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:56

(1) و لقد بلغ حبّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغا عجيبا حتى أنّ فتيانا دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة، و ردّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم «1».

إن كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفيد بانه صلّى اللّه عليه و آله قد وعدهم بالرخاء و الانفراج في المعيشة و ذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش، و أخذ بضائعها، و كان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه، و هو أن قريشا كانت قد صادرت كل أموال المهاجرين المسلمين في مكة، منقولها و غير منقولها، و منعت من دخولهم مكة، و خروجهم منها.

و من الواضح أن يسمح العاقل لنفسه- أيّا كان- بأن يعامل عدوه بمثل هذه المعاملة التي عامله بها العدوّ.

(2) و أساسا يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظلموا و قهروا، الأمر الذي يذكره القرآن الكريم أيضا، و لذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوّهم و يعترضوا تجارتهم إذ يقول:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» «2».

و لقد كان أبو سفيان قد عرف- عند توجهه بالقافلة إلى الشام- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يترصد القافلة، و لهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله و رجوعه من الشام،

فكان يسأل القوافل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان إذا رأى أحدا منهم سأله: هل أحسست أحدا؟!

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 21.

و روي أنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رغبة في الجهاد في سبيل اللّه و الشهادة فكان ممن ساهم «سعد بن خيثمة» و أبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه: انه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا.

فقال خيثمة: آثرني، و قرّ مع نسائك! فابى سعد.

فقال خيثمة: إنه لا بدّ لأحدنا من أن يقيم، فاستهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر (المصدر).

(2) الحج: 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:57

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خرج مع أصحابه من المدينة، يلاحق قافلة قريش، و قد نزل في وادي ذفران.

(1) و لما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر و لم ير بدّا من أن يخبر قريشا بالخطر الذي يحدق بتجارتهم، و أموالهم، و يطلب مساعدتهم، فاستأجر رجلا يدعى «ضمضم بن عمرو الغفاري» و أمره بأن يجدع بعيره (يقطع أنفه) و يحوّل رحله، و يشقّ قميصه من قبله و دبره و يصيح الغوث! الغوث، و يخبر قريشا أنّ محمّدا تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة، و لمّا قدمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصوت: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة «1»، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه، لا أرى ان تدركوها، الغوث الغوث «2».

(2) فأثار هذا المنظر المثير، و استغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة، فتجهزوا سراعا، و تهيّأوا للخروج، و أعدّ كل صناديد قريش و رجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو

المدينة إلّا أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج، و ارسل مكانه «العاصي بن هشام» لقاء أجر قدره أربعة آلاف درهم.

و أراد «أميّة بن خلف» هو الآخر أن يتخلّف لاسباب خاصّة، فقد قيل له:

أن محمّدا يقول: لأقتلنّ أميّة بن خلف «3».

فرأى أشراف قريش و سادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش و يوهن من عزيمة الجيش، فقرروا إثارته و تحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل و هو جالس في المسجد بين ظهرانيّ قومه، بمجمرة يحملانه فيها نار و عود يتبخّر به حتى وضعاها بين يديه ثم قالا له:

«يا أميّة استجمر فإنّما أنت من النساء»!

______________________________

(1) اللطيمة: الابل التي تحمل الاقمشة و العطور، و النداء يعني: ادركوا اللطيمة ادركوها.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 81، المغازي: ج 1 ص 31، بحار الانوار: ج 19 ص 216.

(3) المغازي: ج 1 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:58

فغضب أميّة، و هاجت به الحمية، فتجهز من فوره، و خرج مع الناس «1».

و خلاصة القول أنه اوعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها و أموالها للخطر من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، فكانوا بين رجلين إما خارج أو باعث مكانه رجلا، و ما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالا لتجهيز الجيش، و أخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف و يهيّجن الرجال للقتال.

(1)

المشكلة التي كانت تواجهها قريش:

و لما اعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم و بين قبيلة «بني بكر» عداء قديما، فخافوا أن يوجهوا إليهم ضربة من الخلف، أو يحملوا على نسائهم و ذراريهم في مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

و قد كان العداء بين قريش و بني بكر يعود إلى دم سفك

بينهم في قصة ذكرها ابن هشام و غيره من كتّاب السيرة «2».

و لكن سراقة بن جعشم المدلجي- و كان من أشراف بني كنانة و هم من بني بكر- طمأنهم، و وعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشي ء يكرهونه، و لما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعا.

(2) و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية، و هبطوا في وادي ذفران، و بقوا هناك ينتظرون مرورها، و لكنه فجأة بلغه خبر جديد غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي، و فتح- في الحقيقة- فصلا جديدا في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية، و أن جيشها قد وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، و أن طوائف متعددة قد ساهمت و شاركت في تكوين هذا الجيش.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 138، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 82، المغازي: ج 1 ص 35 و 36.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 610 و 611، المغازي: ج 1 ص 38 و 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:59

(1) فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و القائد الاعلى للمسلمين نفسه أمام خيارين:

إما أن يقاتل، و لكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلّا لمصادرة أموال قريش، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير، لا من حيث العدد، و لا من حيث العدّة.

و إما أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى، و هذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة و المهابة، بفضل المناورات العسكرية، و العروض النظامية السابقة.

و بخاصة إذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل

هذا الانسحاب و اجتاح مركز الإسلام «المدينة المنورة».

فرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن لا ينسحب، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدة القليلة و العدد القليل و يقاوم حتى اللحظة الأخيرة و النفس الأخير.

(2) و الجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا من شبّان الأنصار و كان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصا.

و كانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيعة على الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته لا القتال و الحرب.

اي انهم بايعوه صلّى اللّه عليه و آله على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه و هو بينهم.

أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على مثل ذلك فما ذا يفعل القائد الأعلى للمسلمين.

إنه لم ير مناصا من استشارة الناس الذين معه، و معرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقة حل لهذه المشكلة.

(3)

النبيّ يعقد شورى عسكرية:

و هنا وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك الجماعة و قال: أشيروا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:60

عليّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر و قال: يا رسول اللّه إنّها قريش، و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، و لا ذلّت منذ عزّت و لم نخرج على أهبة الحرب!!

و هذا يعني أنه رأى من الصالح ان ينسحبوا الى المدينة، و لا يواجهوا قريشا.

فقال له رسول اللّه: اجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب، و كرّر نفس مقالة أبي بكر، فأمره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجلوس أيضا.

ثم قام «المقداد بن عمرو» و قال: يا رسول اللّه امض لما أراك

اللّه فنحن معك، و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون.

و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا، و إنا معكما مقاتلون.

فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت الى برك الغماد (و هو موضع بناحية اليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، و لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (أي النار المتقدة) و شوك الهراس (و هو شجر كبير الشوك) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيرا و دعا له به.

(1)

إخفاء الحقائق و كتمانها:

إذا كان اخفاء الحقائق، و التعتيم عليها و سترها، و التعصب الباطل أمرا مشينا من كلّ من ألّف و كتب، فإنّه و لا شك أقبح من المؤرّخ، المؤتمن على التاريخ و حقائقه.

فان على المؤرخ أن يكون مرآة صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب، و غشاوة التحريف و التبديل و الكتمان للحقائق.

و لقد ذكر ابن هشام «1» و المقريزي «2» و الطبري «3» ما وقع في الشورى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 615.

(2) إمتاع الاسماع: ص 74.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 140.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:61

العسكرية التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أدرج فيها ما قاله المقداد، و قاله سعد بن معاذ في كتبهم على وجه التفصيل، و لكنهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبو بكر و عمر و إنما قالوا: و قال فلان و أحسن، و قال فلان و احسن!!

(1) و هنا نسأل ذينك المؤرخين اذا كان ما قاله فلان و فلان حسنا أرضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما ذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام مقداد و سعد.

بلى؛ إنهما لم

يقولا إلّا ما ذكرناه قبل قليل، ليس غير. و إذا كان أولئك المؤلفون يكتمون الحقائق، فقد أظهرها الآخرون و سجلوا نص ما قاله الرجلان «1»، و لم يكن قولا حسنا و لا كلاما طيبا، بل كان كلامهما مثبطا، ينمّ عن خوف، و وحشة، فهما صوّرا قريشا قوة لا تقهر، و جيشا لا يدحر، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق، و اللحظة الخطيرة!!

و إنك أيها القارئ لتستطيع أن تعرف مدى انزعاج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مقالتهما، مما ذكره الطبري نفسه في الصفحة ذاتها، فان الشيخين كما تلاحظ، كانا أوّل من نطقا في تلك الشورى، ثم تكلّم بعدهما المقداد، و سعد بن معاذ.

(2) فان الطبري يروي عن ابن مسعود أنه قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لئن أكون أنا صاحبه احبّ إليّ مما في الارض من شي ء كان رجلا فارسا و كان

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 48، السيرة الحلبية: ج 2 ص 160، بحار الأنوار: ج 19 ص 217.

قال الواقدي: ثم قال عمر: يا رسول اللّه أنها و اللّه قريش و عزّها، و اللّه ما ذلّت منذ عزّت، و اللّه ما آمنت منذ كفرت، و اللّه لا تسلم عزّها أبدا، و لتقاتلنّك فاتّهب لذلك أهبته، و أعدّ لذلك عدّته!!!

كما جاء في صحيح مسلم: ج 5 ص 170 باب غزوة بدر و مسند أحمد: ج 3 ص 219 بطريقين انه حين بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقبال ابي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر فاعرض عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:62

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذا غضب احمارّت وجنتاه، فاتاه

المقداد على تلك الحال «1» فقال: أبشر يا رسول اللّه فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون» «2».

و لقد كان ذلك المجلس مجلس استشارة و تبادل للرأي و كان لكل أحد الحقّ في أن يدلي برأيه، و يطرح نظره على القائد الأعلى، و لكنّ مجريات الاحداث أثبتت أن مقداد كان أقرب إلى الصواب، و أكثر توفيقا في اصابة الحق من ذينك الرجلين.

و قد أشار القرآن الكريم إلى تخوف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه:

«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» «3».

و قال تعالى:

«يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» «4».

(1)

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار:

كانت الآراء التي طرحت آراء شخصيّة و فردية على العموم، و الحال أن الهدف الاساسيّ من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار، فلمّا لم يدل الأنصار برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتخذ رأيا حاسما، و تبت في أمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوله: «أشيروا عليّ أيها

______________________________

(1) أي و هو غاضب من مقاله و تثبيط من تقدماه.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 140.

(3) الانفال: 5.

(4) الانفال: 6.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:63

الناس» و هو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري و قال: و اللّه لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أجل.

(1) فقال سعد: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنا قد آمنّا بك، و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق

من عند اللّه، و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر «1» فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، و ما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.

إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه، وصل من شئت، و اقطع من شئت و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا مما تركت.

فسّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقول سعد و نشّطه ذلك، و أزال سحابة اليأس من النفوس، و أشعل ضياء الأمل في القلوب.

و لهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريّ البطل و القائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلّا و أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بالرحيل قائلا: «سيروا على بركة اللّه و ابشروا فانّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف اللّه وعده.

و اللّه لكأنّي الآن أنظر الى مصارع القوم».

و تحرك الجيش الاسلاميّ بقيادة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و نزل عند آبار «بدر» «2».

(2)

تحصيل المعلومات حول العدوّ:

مع أنّ المبادئ العسكريّة و التكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف

______________________________

(1) يقصد البحر الأحمر.

(2) المغازي للواقدي: ج 1 ص 48، السيرة النبوية: ج 1 ص 615.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:64

عما كانت عليه في العصور الغابرة اختلافا كبيرا إلّا أنّ مسألة تحصيل المعلومات حول العدوّ و معرفة أسراره العسكرية، و مدى استعداداته و مبلغ قواه التي يستخدمها، و درجة معنويات أفراده لا تزال على أهميتها و قيمتها، لم تتغير من هذه، بل ازدادت أهمية في العصر الحاضر- كما أسلفنا-.

فهي تشكل

الآن أيضا مفتاحا في الحروب، و منطلقا للانتصارات العسكرية.

(1) على أن هذه المسألة قد اتخذت اليوم صبغة التعليم و التمرين، فقد أصبح لها اليوم كتب و معاهد تتولى تعليم طرائق التجسس العسكري و اساليبه، كما و يعزي قادة المعسكر الغربي و الشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس و منظماته التي تستطيع اطلاع أصحابها على معلومات دقيقة و مفصّلة عن خطط العدو و قواه، و اماكن تمركزه و تواجده، و خطوط إمداده، و تموينه تمهيدا لإفشال تحركاته أو إجهاضها فورا.

من هنا استقر الجيش الاسلاميّ في منطقة تلائم مبادئ التستر بشكل كامل، و منع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره، كما أن فرقا مختلفة و متعددة كلّفت بتحصيل و جمع المعلومات عن قريش و قافلتها و جيشها.

(2) فكانت المعلومات التي توفرت لدى القيادة الاسلامية هي كالتالي:

الف/ انّ النبيّ نفسه ركب هو و رجل من قادة جيشه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش و عن محمّد و أصحابه و ما بلغه عنهم فأخبرهم بأن محمّد و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا، و انه إن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي كان به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ان قريشا خرجوا يوم كذا و كذا، و انه ان كان الذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي فيه قريش.

و هكذا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نقطة تواجد قريش، و استقرار قواتهم.

(3) باء/ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة «الزبير بن العوام» و «سعد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:65

بن أبي وقاص» بقيادة عليّ عليه السلام الى

ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا إبلا يستقي عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج و الآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألهما النبيّ عن قريش فقالا: هم و اللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم القوم و ما عدّتهم فقالا:

لا ندري، كثير. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم ينحرون (من الابل) كل يوم؟ قالا: يوما تسعا و يوما عشرا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القوم فيما بين التسعمائة و الألف.

ثم سألهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟

قالا: عتبة بن ربيعة، و أبو البختري بن هشام، و حكيم بن حزام و شيبة بن ربيعة و أبو جهل بن هشام و أميّة بن خلف و .. و ..

فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه و قال:

«هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1».

(1) جيم/ كلّف شخصان بالدخول الى قرية بدر و تقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا ابلهما الى تلّ قريب من الماء، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا، و كان على الماء جاريتين تستسقيان و تقول إحداهما للاخرى: إنما تأتي القافلة غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك.

فقال لها «مجدي بن عمرو الجهني»، و كان على مقربة منهما: صدقت ثم خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما سمعا فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبراه بما سمعا «2».

و الآن و بعد أن أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عارفا

بوقت ورود القافلة، و مكان تواجد قريش، معرفة دقيقة عمد إلى ترتيب المقدمات اللازمة.

______________________________

(1) و (2) السيرة النبوية: ج 1 ص 617.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:66

(1)

كيف هرب أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبو سفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين، و لهذا فانه كان يعلم جيدا بأنهم سوف يتعرضون له عند قفوله من الشام أيضا.

و لهذا عند ما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الاسلامية أراحها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين و دخل هو قرية «بدر» يتجسس، و يسأل عن أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فالتقى «مجدي بن عمرو» على ماء بدر فسأله: هل أحسست أحدا؟ (و يقصد هل رأيت أحدا من عيون محمّد و رجاله؟).

فأجابه مجدي قائلا: ما رايت أحدا انكره، إلّا أني قد رأيت راكبين قد أناخا الى هذا التلّ ثم استقيا في شنّ لهم، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فاذا فيه النوى فقال: هذه- و اللّه- علائف يثرب. هذه عيون محمّد و أصحابه، ما أرى القوم إلّا قريبا.

فرجع إلى أصحابه سريعا و حرّك القافلة من فوره، و ابتعد عن بدر و أخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر كما أنه كلّف أحدا بإخبار قريش فورا، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد و أصحابه، و أن أموالهم نجت فليرجعوا و ليتركوا محمّدا تكفيه العرب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:67

خارطة معركة بدر

دليل الخارطة:

1- القلعة 2- مدينة بدر 3- النخيل 4- مسجد العريش 5- بيوت بدر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:68

(1)

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش:

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش، و انتشر هذا النبأ بينهم بسرعة، فاغتمّ من خرج مع المسلمين يريد الحصول على شي ء من تلك الأموال، فقال اللّه تعالى تثبيتا لهم و تسكينا لقلوبهم:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ

بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» «1».

(2)

إختلاف قريش في القتال:

عند ما وافى رسول أبي سفيان قريشا و هم بالجحفة، و أبلغهم رسالة أبي سفيان و طلب منهم الرجوع إلى مكة حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

و قال بنو زهرة و الأخنس بن شريق و كانوا حلفاء على الرجوع قائلين: قد خلصت أموال سيد بني زهرة: «مخرمة بن نوفل» و انما نفرنا لنمنعه و ماله، فلا حاجة بأن نخرج في غير منفعة.

و رجع طالب (ابن أبي طالب) إلى مكة و كان قد استكره على الخروج من مكة، و ذلك بعد مشاجرة بينه و بين رجل من قريش قال له:

«و اللّه لقد عرفنا يا بني هاشم، و إن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمّد» «2».

(3) و أما أبو جهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة، و عدم الرجوع إلى مكّة خلافا لطلب أبي سفيان، قائلا:

و اللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر (الأباعر) و نطعم الطعام، و نسقي الخمر، و تعزف لنا القيان و المغنيات، و تسمع بنا العرب و بمسيرنا، و جمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا!!

______________________________

(1) الانفال: 7 و 8.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 619.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:69

(1) فحملت كلمات أبي جهل المغرية قريشا على مواصلة التقدم نحو المدينة، و نزلت في مكان مرتفع «1» خلف كثيب.

و أمطرت السماء مطرا غزيرا فأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، و منعهم من مزيد التقدم.

بينما لم يحدث المطر أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين و لم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبد الأرض حتى ثبتت أقدامهم «2».

و «بدر» منطقة واسعة يتكون

جنوبها من مكان مرتفع (العدوة القصوى) و شمالها من مكان منخفض منحدر (العدوة الدنيا) و كانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار و عيون ماء، فكان منزلا للقوافل ينزلون فيه و يستقون، و يستريحون ردحا من الزمن.

(2) و هنا تقدم «الحباب بن منذر» و كان فارسا مجربا و عسكريا محنكا باقتراح الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ قال: يا رسول اللّه أ رأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل هو الرأي و الحرب و المكيدة».

فقال: يا رسول اللّه فان هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتّى أدنى ماء من القوم، فنزله فنغوّر (أي ندفن العين) ما وراء القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربون.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقد أشرت بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب (الآبار) فغوّرت، و بنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

إن هذه الحادثة تكشف جيّدا على اهتمام رسول الإسلام بالمشاورة،

______________________________

(1) و هو ما يسمى بالعدوة القصوى.

(2) و يقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب و على أصحاب رسول اللّه رذاذا بقدر ما لبد الأرض.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:70

و احترامه لآراء الآخرين و اتساع صدره لاقتراحاتهم، و الأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج «1».

(1)

«العريش» أو غرفة القيادة:
اشارة

و قيل إن سعد بن معاذ تقدم هو الآخر بمقترح عسكري رائع و هو بناء و اقامة برج لرسول

اللّه يقود منه العمليات و يشرف على سيرها و يكون مأمنا له من كيد الاعداء فقال: يا رسول اللّه أ لا نبني لك عريشا تكون فيه، و نعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا فان أعزّنا اللّه و أظهرنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، و ان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشد لك حبا منهم، و لو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك و يجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعا له بخير، ثم بني له صلّى اللّه عليه و آله عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال و الحرب، و كان سعد و جماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!! «2».

(2)

نظرة الى مسألة «العريش»:

ان مسألة بناء العريش لرسول اللّه، و حراسة سعد بن معاذ و جماعة من فتيان الأنصار له هو مما ذكره و رواه الطبري في تاريخه نقلا عن ابن اسحاق و تبعه الآخرون في ذلك، و لكن هذه القصة لا يمكن القبول بها لاسباب هي:

(3) أوّلا: أن هذا العمل يفتّ في عضد الجنود، و يضعف من معنوياتهم القتالية لأن معناه أن القائد يفكر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكر في نجاة جنوده، و مثل هذه القيادة لا يمكنها ان تستحوذ على قلوب جنودها، و تجعلها مطيعة لأوامرها.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 620، تاريخ الطبري: ج 2 ص 144.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 145، السيرة النبوية: ج 1 ص 620.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:71

(1) ثانيا: أنّ هذه القصة تتنافى مع الاخبار القطعية التي بشر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يواجه المسلمون قريشا قال لأصحابه الذين خرجوا معه من المدينة وعدهم إحدى الطائفتين، أي إما الظفر بقافلة قريش التجارية قطعا، أو الانتصار على الجيش المكي حتما و يقينا إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» «1».

و إنما اقدم على بناء العريش لرسول اللّه- بناء على رواية الطبري- في الوقت الذي كانت قافلة قريش قد أفلتت و هربت من أيدى المسلمين، و لم يبق الّا الجماعة المسلحة التي خرجت لحماية القافلة، و كان المسلمون يعلمون- طبقا لذلك الوعد الإلهي القاطع- أنهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة:

«و يقطع دابر الكافرين» فلم يكن المجال مجال تردد و شك.

و بهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة و لزوم بناء عريش لحماية النبيّ و اعداد ابل سريعة السير عند العريش لينجو صلّى اللّه عليه و آله عليها بنفسه حديثا باطلا لا مبرّر له، و لا مسوّغ.

(2) يقول ابن سعد نقلا عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت «سيهزم الجمع و يولّون الدبر» قلت: و أي جمع يهزم و من يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يثب في الدرع وثبا و هو يقول: «سيهزم الجمع و يولّون الدبر» فعلمت ان اللّه تبارك و تعالى سيهزمهم «2».

و مع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه شي ء حول الهزيمة أو يحدثوا أنفسهم بالفرار؟

(3) ثالثا: أن

النبيّ الذي يصف الامام عليّ عليه السلام موقفه و حالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبدا و لا تلائم هذا التكتيك الذي لا يتسم

______________________________

(1) الأنفال: 7.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:72

بالشجاعة و الثبات.

يقول عليّ عليه السلام:

«كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه» «1».

فهل يفكر مثل هذه الشخصيّة التي يصفها أول تلامذة مدرسته، و أقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف، في الفرار، أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.

نحن نعتقد أن بناء العريش لم يكن إلّا من باب إعداد غرفة للعمليّات و لمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال، لأن القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرف بواقعية و اتقان، و لا يمكنها أن تقود الجنود و الحشود من منطلق الواقع القتالي و العسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش ان صحّ أصل القصة هو الإعداد و التحسب للفرار و ما شاكل ذلك.

(1)

تحرك قريش باتجاه بدر:

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ارتحلت قريش من وراء الكثيب و انحدرت إلى وادي بدر، فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها، و فخرها تحادّك و تكذّب رسولك.

اللّهمّ فنصرك الّذي وعدتني به، اللّهمّ أحنهم «2» الغداة».

(2)

قريش تتشاور في القتال:

استقرت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعدادا للمواجهة، و حيث

______________________________

(1) نهج البلاغة لعبده: الكلمات القصار الكلمة 214، و يقول السيد الرضي رضي اللّه عنه: معنى ذلك أنه اذا عظم الخوف من العدوّ، و اشتد عضاض الحرب فرع المسلمون الى قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به و يؤمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.

(2) أي اهلكهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:73

أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن عدد أفراد المسلمين و مبلغ استعداداتهم، لذلك كلفوا «عمير بن وهب الجمحيّ»- و كان فارسا ماهرا في الاحصاء و التخمين- بأن يحزر (و يقدر بالحدس) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم رجع الى قريش و قال: ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون، و لكن أمهلوني حتى انظر أ للقوم كمين، أو مدد.

فضرب في الوادي حتى أبعد و لكنه لم ير شيئا.

فرجع الى قريش ثانية و هو يحمل لهم خبرا مرعبا إذ قال: ما وجدت شيئا (أي كمينا او مددا وراء المسلمين) و لكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا «1» تحمل المنايا، نواضح «2» يثرب تحمل الموت الناقع «3»، قوم ليس معهم منعة و لا ملجأ إلّا سيوفهم.

و اللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم، فاذا اصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك

فروا رأيكم!!!

(1) و روى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال: قال عمير: و اللّه ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا، و لكني رأيت قوما لا يريدون أن يئوبوا الى أهليهم، قوما مستميتين ليست لهم منعة و لا ملجأ إلّا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف «4» «5».

و روى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال: قال عمير: ما لهم كمين و لا مدد، و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أ ما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمّظ الافاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم ما أراهم يولون حتى يقتلوا، و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم «6».

______________________________

(1) و هي جمع بلية و هي الناقة او الدابة.

(2) الابل يستقى عليها الماء.

(3) الموت الثابت البالغ في الافناء.

(4) الحجف جمع الحجفة و هي الترس.

(5) المغازي: ج 1 ص 62.

(6) بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:74

(1)

اختلاف قادة قريش في امر القتال:

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجة كبرى بين رجال قريش و سادتها و زعمائها، و انتاب الجميع خوف بالغ و رعب شديد من المسلمين.

فمشى حكيم بن حزام الى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين، فقال له: يا أبا الوليد إنّك كبير قريش و سيّدها، و المطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزل تذكر فيها بخير الى آخر الدهر، ترجع بالناس و تحمل أمر (دم) حليف عمرو بن الحضرمي، و ما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة «1» إنكم لا تطلبون من محمّد شيئا غير هذا الدم و المال؟!

(2) فاقتنع عتبة برأي حكيم، فجلس من فوره على جمله، و وقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل و

بليغ يقول: يا قوم أطيعوني و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه (يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله)، يا معاشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر، إن محمّدا له آل (أي قرابة) و ذمة و هو ابن عمكم فخلّوه و العرب، إنكم و اللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا و أصحابه شيئا، و اللّه لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا و خلّوا بين محمّد و سائر العرب، فان أصابوه فذاك الذي أردتم و ان كان غير ذلك ألفاكم و لم تعرضوا منه ما تريدون «2».

(3) و انطلق حكيم بن حزام الى أبي جهل و أخبره برأي عتبة و مقالته، هذا و أبو جهل يهين درعه، فانزعج أبو جهل من مقالة عتبة و موقفه انزعاجا شديدا و ثارت ثائرته حسدا على عتبة، و تعنتا عن الحق «3»، و بعث من فوره رجلا إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الذي قتل في غزوة عبد اللّه بن جحش بنخلة

______________________________

(1) إشارة الى ما جرى في سرية عبد اللّه بن جحش.

(2) المغازي: ج 1 ص 63، السيرة النبوية: ج 1 ص 623، بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

(3) قال صاحب المغازي: فحسده أبو جهل حين سمع خطبته و قال: ان يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة، و عتبة انطق الناس!!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:75

و قال له: هذا حليفك (عتبة) يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك، فقم و انشد خفرتك «1» و مقتل (أو دم) أخيك.

(1) فقام عامر و كشف عن رأسه، و أخذ يحثو التراب على رأسه، و صاح

مستغيثا وا عمراه وا عمراه، تحريكا للناس و إثارة لمشاعرهم.

فهاج الناس لمنظر عامر و ثارت مشاعرتهم لندبته، و أجمعوا على الحرب، و تناسوا اقتراح عتبة، و نصيحته البليغة الحكيمة لهم.

و لكن عتبة هذا الذي كان يميل الى اعتزال الجيش و ترك الحرب، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره و لبس لامة حربه و استعد لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه «2».

و هكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة، و المشاعر الثائرة الباطلة و تنطفئ شعلة الفكر، و لا يعود يضي ء لصاحبه درب المستقبل حتى أن الرجل الذي كان قبل قليل داعية السلام، و التعايش الاخوي يتحول تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي، العابر، الاحمق إلى أول مبادر الى القتال و سفك الدماء و ازهاق الارواح!!!

(2)

ما الذي حتّم القتال؟

لما أبصر الاسود بن عبد الأسد المخزومي و كان رجلا شرسا سيئ الخلق- الحوض الذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال: اعاهد اللّه لاشربن من حوضهم أو لا هدمنّه أو لأموتنّ دونه!!

ثم خرج من بين صفوف المشركين و شد حتى دنا من الحوض فاستقبله حمزة، و لما التقيا ضربه بسيفه حمزة فاطار قدمه، و هو دون الحوض فوقع على الأرض تشخب رجله دما ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه يريد ان يشرب منه أو ان

______________________________

(1) اي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم و عهدهم لك لأنه كان حليفا لهم.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 623، بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:76

يبر يمينه، فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

فتسببت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امرا مسلّما و حتميا، لانه ليس ثمة شي ء يقدر على تحريك المشاعر، و اثارة العواطف

و دفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ و الحنق على المسلمين يكاد يقتلهم، و كانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب و يفجّرون فتيلها قد حصلوا الآن على ما يريدون «1».

(1)

المبارزات الفردية أولا:

كان التقليد المتّبع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملات الجماعية.

فلما قتل الاسود المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش المعروفين من صفوف الجيش المكي و دعوا الى المبارزة.

و هؤلاء الصناديد الثلاثة هم:

1- عتبة «2».

2- شيبة.

و هما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3- الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال و يدعون الى المبارزة، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة و هم «عوف» و «معوذ» ابنا الحارث و «عبد اللّه بن رواحة».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 147 و 148.

(2) و عتبة هذا هو الذي اقترح الانسحاب و عدم القتال كما عرفت. و يروى انه لما خرج قال له حكيم بن حزام: أبا الوليد مهلا، مهلا تنهى عن شي ء و تكون أوّله!! (المغازي: ج 1 ص 67).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:77

(1) و لما عرف عتبة أنهم من رجال المدينة قال: ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قم يا عبيدة بن الحارث و قم يا حمزة، و قم يا عليّ».

فقاموا، و خرجوا للمبارزة، و لما دنوا منهم، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّف أبطال الاسلام أنفسهم و ذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة: نعم أكفاء كرام.

(2) و يرى البعض أنه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة من كان على سنّه من الكفار فبارز عليّ عليه السّلام الوليد (خال معاوية بن أبي سفيان) و بارز حمزة

(و هو أوسطهم) عتبة (جدّ معاوية لامّه) و بارز عبيدة (و هو أسنّ الثلاثة) شيبة و هو أسنّ الكفار الثلاثة.

غير أن ابن هشام يقول: بارز «حمزة» شيبة، و بارز «عبيدة» عتبة، و بارز «عليّ» الوليد بن عتبة «1».

و هذا يعني أن حمزة (الاوسط في السن) قاتل الاسنّ من الكفار.

(3)

فأيّ القولين هو الأصح؟

إن ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال:

الأوّل: إن المؤرخين كتبوا: أن عليا و حمزة قتلا خصميهما في الحال، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه «2».

الثاني: إن الامام أمير المؤمنين عليه السلام كتب في كتاب له الى معاوية:

«و عندي السيف الذي اعضضته بجدّك و خالك و أخيك في مقام

______________________________

(1) راجع لمعرفة كلا الرأيين سنن البيهقي: ج 3 ص 276.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 148، السيرة النبوية: ج 1 ص 625 قال: و كرّ حمزة و عليّ بأسيافهما على عتبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:78

واحد» «1».

(1) فمن هذا الكتاب يتضح بجلاء أن الامام عليه السلام شارك- في قتل جدّ معاوية (أي عتبة) هذا من جانب.

كما أننا نعلم من جانب آخر أن كلا من حمزة و عليا قد قتل خصمه في اللحظة الاولى من المبارزة. فاذا كان خصم حمزة هو عتبة (جدّ معاوية) لم يكن- حينئذ- أي معنى لقول الامام عليه السلام: «أنا قتلت جدك».

فلا مناص من أن نقول: إن الذي بارز حمزة هو شيبة، و أن الذي بارز عبيدة هو عتبة ليصح حينئذ أن يقال أن عليا و حمزة، ذهبا- بعد الفراغ من قتل خصميهما- الى عتبة و كرّا بأسيافهما عليه و قتلاه، ثم احتملا صاحبهما «عبيدة» و أتيا به الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و بهذا تترجح النظرية الثانية، و القاضية بعدم التكافؤ بين أسنان

كلّ من المتبارزين.

(2)

الهجوم العامّ:

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجوم العام.

فتزاحف الناس و دنا بعضهم من بعض، و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، و أن يكتفوا برمي القوم بالنبال إذا اقتربوا منهم ليمنعوا من تقدّم العدوّ.

ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من برج القيادة (العريش) و عدل صفوف أصحابه و في يده سهم يعدّل القوم. فمر بسوّاد بن غزية، و هو متقدم من الصف، فطعن في بطنه بالسهم الذي معه و قال له: استو يا سوّاد.

______________________________

(1) نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 64 و اعضضته به جعلته يعضه.

(2) ثم إن المقصود من أخ معاوية الذي أشار الامام علي في كلمته الى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 708 و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:79

(1) فقال: يا رسول اللّه أوجعتني و قد بعثك اللّه بالحق و العدل فأقدني (أي اقتصّ) لي من نفسك. فكشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن بطنه و قال:

استقد (أي أنت اقتصّ) فاعتنقه سوّاد و قبّل بطنه صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حملك على هذا؟

قال: يا رسول اللّه حضر ما ترى (من القتال) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك.

فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخير «1».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن عدّل الصفوف رجع الى غرفة العمليّات (العريش) فدخله و توجّه إلى ربه بقلب مفعم بالإيمان يناشده ما وعده

من النصر و قال في مناجاته لربه في تلك اللحظات:

«اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» «2».

و لقد سجّلت المصادر التاريخية الاسلامية تفاصيل و جزئيات الهجوم العام، الى درجة ما، إلّا أنّ من المسلّم المقطوع به أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينزل من العريش أحيانا و يحرّضهم على القتال و المقاومة. فقد قال في احدى هذه المرات:

«و الّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلّا أدخله اللّه الجنّة».

(2) و لقد كانت كلمات القائد الاعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس، فتثير الهمم، و توجد شوقا عجيبا الى الشهادة في المقاتلين المسلمين، حتى أن أحدهم و يدعى «عمير بن الحمام» أخو بني سلمة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في يده تمرات ياكلهنّ يا رسول اللّه: بخ بخ، أ فما بيني و بين أن أدخل الجنّة إلّا أن يقتلني هؤلاء.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 626

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 627، تاريخ الطبري: ج 2 ص 149.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:80

ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل «1».

ثم إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال:

«شاهت الوجوه».

ثم نفحهم بها، و أمر أصحابه، فقال: شدّوا «2».

و لم يمض وقت طويل حتى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتاب المشركين خوف و رعب شديدان، و أخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن ايمان، و اخلاص و يعلمون بأنهم ينالون السعادة قتلوا أو قتلوا، فلم يرهبوا شيئا، و ما كان يمنعهم شي ء عن التقدم و الإقبال.

(1)

رعاية الحقوق:

لقد كان

لا بدّ من رعاية الحقوق بالنسبة الى طائفتين في معسكر المشركين:

الاولى: اولئك الذين احسنوا إلى المسلمين في مكة، و دافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة التي سبق الحديث عنها.

الثانية: أولئك الذين اكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر، و كانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الاسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

مصرع أميّة بن خلف:

و لقد اسّر «اميّة بن خلف» و ابنه على يد عبد الرحمن بن عوف و اذ كان بينه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 627.

(2) المصدر السابق: ص 628، البداية و النهاية: ج 2 ص 284.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:81

و بين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو و ولده، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك، و بينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم و كان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال: أحد، أحد.

(1) فلما رآه بلال في الأسر و قد أقدم عبد الرحمن على حمايته و الذب عنه و هو يريد نجاته و ولده، صاح مستصرخا المسلمين: يا أنصار اللّه رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة و ولده من كل جانب و قطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما «1».

و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش

على المسلمين في مكة، و كان لا يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلقيه رجل من المسلمين يدعى «المجذر» فأراد أسره و استبقاءه ريثما يأخذه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليرى فيه رأيه، و لكنّه نازل المجذّر، و أبى إلّا القتال، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: و الذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلّا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته «2».

(2)

خسائر بدر في الأرواح و الاموال:

لقد قتل في معركة «بدر» من المسلمين أربعة عشر رجلا، و قتل من المشركين سبعون و اسر سبعون من أبرزهم: النضر بن الحارث، و عقبة ابن أبي معيط، و أبو

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 632.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 629 و 630 و راجع الطبقات الكبرى: ج 2 ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:82

غرة، و سهيل بن عمرو و العباس، و أبو العاص بن الربيع (صهر النبيّ) «1».

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، و قبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

و بينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجه «أبي حذيفة» ابن عتبة فاذا هو كئيب، قد تغيّر لونه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شي ء؟!

فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، ما شككت في ابي و لا في مصرعه، و لكنني كنت أعرف من أبي رأيا و حلما و فضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام، فلمّا رأيت ما أصابه و ذكرت

ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخير «2».

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم، و رغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

(1)

ما أنتم باسمع منهم:

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين و هزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم و ساداتهم و فتيانهم الشجعان و سبعين أسيرا.

و لما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب «3» وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند القليب و أخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا و يقول:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 706 و 708، المغازي: ج 1 ص 138- 173.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 640 و 641.

(3) القليب: البئر.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:83

«يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، و يا شيبة بن ربيعة، و يا اميّة بن خلف، و يا أبا جهل (و هكذا عدّد من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه أ تنادي قوما موتى؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

و كتب ابن هشام يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال يوم هذه المقالة:

«يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني و صدّقني الناس، و أخرجتموني و آواني الناس، و قاتلتموني و نصرني الناس، (ثم قال:) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟» «1».

(1)

الشعر يخلّد هذه القصة:

سيد المرسلين ج 2 83 الشعر يخلد هذه القصة: ..... ص : 83

تبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة و المسلّمة في التاريخ الاسلاميّ، فقد ذكره جميع المحدّثين و المؤرخين من الشيعة و السنة، و قد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

و قد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا

في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة و بذلك يقوي من عزيمة المسلمين و يشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات و يكرم المواقف و يخلد الامجاد و يحافظ على المفاخر و يكسبها طابعا أبديا و لهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات، و إبطال مفعول الحرب الباردة و النفسية التي يقوم بها العدوّ.

و قد طبع ديوان «حسان» لحسن الحظ، و يمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام و امجاده من خلال قصائده، و ابياته المدرجة فيه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 639، السيرة الحلبية: ج 2 ص 179 و 180 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:84

(1) و قد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول:

يناديهم رسول اللّه لمّاقذفناهم كباكب في القليب

أ لم تجدوا كلامي كان حقّاو أمر اللّه يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا و لو نطقوا لقالواصدقت و كنت ذا رأي مصيب! على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم».

(2) و ليس ثمة بيان أكثر إيضاحا و أشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لواحد واحد من أهل القليب، و مناداتهم بأسمائهم و تكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة و الرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة، و يبادر قبل التحقيق و يقول: إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

و قد نقلنا هنا نص هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة، و الدلالة على هذه الحقيقة.

و من أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه «1».

______________________________

(1) إن تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ و الحديث، و قد اشار الى هذا من بين المحدثين و المؤرخين:

صحيح البخاري: ج 5 في معركة بدر ص 76 و 77- 86 و 87، صحيح مسلم: ج 8 كتاب الجنة باب مقعد الميت ص 163، سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89 و 90، مسند الامام أحمد: ج 2 ص 131، السيرة النبوية: ج 1 ص 639، المغازي: ج 1 غزوة بدر ص 112، بحار الأنوار:

ج 19 ص 346.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:85

(1)

بعد معركة بدر:

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية و من بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس و انتهت المعركة بفرار المشركين و أسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم، هذا و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

و هنا واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخافة أن يكرّ عليه

العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر، لأنهم كانوا يحرسون القائد، و يحافظون على مقرّ القيادة.

و بينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو و لا حقوه و طاردوه يقولون: و اللّه لو لا نحن ما أصبتموه، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم «1».

(2) و لا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته و أفراده، فينفرط عقده و تتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للقضاء على هذه الآمال و المطامع المادية و بغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم و حملها، و المحافظة عليها إلى «عبد اللّه بن كعب المازني» و أمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل و الإنصاف يقضي بأن

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 98 و 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:86

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة، و كان لكل منهم دور و مسئولية فيها، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنائم بينهم- في أثناء الطريق- على قدم المساواة، و فرز لذوي الشهداء أسهما منها.

(1) و لقد أثارت طريقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تقسيم الغنائم (و ذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي) سخط «سعد بن أبي وقاص» فقال: يا رسول اللّه أ يعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«ثكلتك أمّك، و هل تنصرون إلّا بضعفائكم» «1».

و هو صلّى اللّه عليه و آله يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلّا لأجل الدفاع عن الضعفاء، و رفع الحيف عنهم، و انه صلّى اللّه عليه و آله لم يبعث إلّا لإزالة هذه الفوارق و الامتيازات الظالمة، و إلّا لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

(2) هذا و رغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس «2» للّه و لرسوله و لذي القربى و اليتامى و ابن السبيل من أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنه صلّى اللّه عليه و آله لم يخمّس غنائم «بدر» بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد، أو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتمتع باختيارات خاصة، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه و قرباه، تكثيرا لأسهم المجاهدين، و ذلك و لا ريب خطوة حكيمة جدا و خاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ «3».

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 99.

(2) الانفال: 1.

(3) و جاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر و لم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك و ذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج

سيد المرسلين ،ج 2،ص:87

(1)

قتل أسيرين في اثناء الطريق:

و لما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في «الصفراء» «1» و هي أحد المنازل على طريق بدر- المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث و كان من أعداء المسلمين الالداء.

و أمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

و هنا ينطرح سؤال و هو: إن حكم الاسلام

في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين و المجاهدين، يباعون و يشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي خاطب المسلمين في «بدر» في الأسرى الذين بأيديهم و أوصاهم بهم خيرا قائلا:

«استوصوا بالاسارى خيرا».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

(2) يقول أبو عزيز، و كان صاحب لواء في جيش قريش: كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم و عشاءهم خصّوني بالخبز، و أكلوا التمر و الخبز عندهم قليل و التمر زادهم، و ذلك لوصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّا نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ، و كانوا يحملوننا و يمشون «2»!!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة، لا أنه كان بدافع الانتقام، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر، و من مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

______________________________

إلى بدر او لقيامهم بمهمات، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.

(1) المغازي: ج 1 ص 6.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 645، المغازي: ج 1 ص 119.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:88

و المسلمين، و ضدّ الرسالة و الرسول، و كانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام، فلعله لو كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يفرج عنهم و يطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام، و المسلمين، و عملا على تخطيط الخطط، و تأليب القبائل، فلم يكن بد من تصفيتهم و

القضاء عليهم.

(1)

بشائر النبيّ الى المدينة:

كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عبد اللّه بن رواحة»، و «زيد بن حارثة» بأن يسبقاه الى المدينة، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في بدر من الانتصار الكاسح و الفتح المبين، و يخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر و الشرك كعتبة و شيبة و أبي جهل و أبي البختري و أميّة، و نبيه و منبه و .. و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا و المسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان، و اختلط السرور بانتصار النبيّ و أصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد أرعب المشركون و اليهود و المنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش، و راحوا يحاولون تكذيبه، و تفنيده حتى إذا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و دخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

(2)

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم:

كان «الحيسمان الخزاعي» أول من قدم مكة و اخبر الناس باحداث «بدر» الدامية و بمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ و على فيما بعد: كنت غلاما للعباس، و كان الاسلام قد دخلنا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:89

أهل البيت، فأسلم العباس و أسلمت أمّ الفضل و أسلمت، و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم و كان يكتم إسلامه، و كان ذا مال كثير متفرق في قومه، و كان أبو لهب قد تخلّف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللّه و

أخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوة و عزة.

و قد كنت رجلا ضعيفا و كنت أصنع السهام و النبال أنحتها في حجرة زمزم فو اللّه بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي و عندي أمّ الفضل جالسة و قد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب «1» الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس:

هذا أبو سفيان فقال أبو لهب: هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه و الناس قيام عليه فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان: و اللّه ما هو إلّا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، و يأسروننا كيف شاءوا، و أيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض، و اللّه ما تبقي شيئا و لا يقوم لها شي ء.

يقول أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك و اللّه الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة «2».

(1)

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر:

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ و غوامضه، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب، و من جانب آخر يحضر في بيعة العقبة، و يدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نصرته.

______________________________

(1) الطنب: الطرف.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 646 و 647.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:90

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه: كان العباس قد أسلم و لكنه كان يهاب قومه و يكره خلافهم و يكتم اسلامه، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء

المصالح الاسلامية ذلك، و من هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يخبره بمخططات العدو و نواياه و تحركاته و استعداداته كما فعل ذلك في معركة «احد» أيضا «1». فقد كان أول من أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتحرك قريش و خططهم و استعداداتهم.

و قد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة و فتيان قريش أكثر البيوت و العوائل في مكة، و سلبهم البهجة و الفرح، و النشاط و الحركة، و تحولت مكة برمتها الى مأتم كبير، و ناحت قريش على قتلاها «2».

(1)

المنع من النوح و البكاء في مكة:

غير أنّ أبا سفيان عمد- لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق و الغضب- الى منع النوح و البكاء على القتلى و حث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر و الانتقام من محمّد و أصحابه فقال: يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم، و لا تنح عليهم نائحة و لا يبكهم شاعر، و اظهروا الجلد و العزاء فانكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد و أصحابه .. و لعلكم تدركون ثأركم.

و لكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل، قال: و الدهن و النساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

و كان «الأسود بن المطلب» اصيب له ثلاثة من ولده: زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة، فكان يحب أن يبكي على قتلاه، و لكنه ما كان يستطيع

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 122. قال: لم تبق دار بمكة إلّا فيها نوح.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:91

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح و البكاء على القتلى.

(1) فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة

من الليل فقال لغلامه- و قد ذهب بصره و عمي-: هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام و رجع إليه فقال: إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول:

أ تبكي أن يضل لها بعيرو يمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر «1» و لكن على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص و مخزوم و رهط أبي الوليد

و بكّي ان بكيت على عقيل و بكيّ حارثا اسد الاسود «2»

(2)

القرار الأخير حول مصير الاسارى:

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قرار تاريخي عظيم و رائع هو: أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان و الصبيان من أولاد الأنصار الكتابة و القراءة كان ذلك فداؤه و خلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال «3».

و ان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله و ان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة و دفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين، و اطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع و قدم المدينة يفدي اسيره.

و عند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو (أي أسنانه

______________________________

(1) البكر: الفتى من الابل.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 648.

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 193.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:92

الامامية) و يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا امثل به فيمثل

اللّه بي و ان كنت نبيا» «1».

و تلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

(1) و قد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: زينب.

و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا و أمانة و تجارة، و قد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الجاهلية.

و لما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آمنت بناته، (و منهن زينب) كذلك و شهدن أن ما جاء به الحق، و دنّ بدينه، و ثبت أبو العاص على شركه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

و قد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش، و أسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فداء أبي العاص بن الربيع بمال و بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها (ليلة زفافها).

(2) فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجة عليها السلام و ما اسدته الى الاسلام من خدمات و قدمته من تضحيات، و بكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين و قال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، و تردوا عليها

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 649، و المغازي: ج 1 ص 107 يقول صاحب المغازي في صفحة 105 من نفس الجزء: كان عمر (رض) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:93

ما لها فافعلوا.

فقالوا: نعم يا

رسول اللّه، نفديك بأنفسنا و أموالنا.

فأطلقوه، و ردوا عليها الذي لها و بذلك احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حقوق المسلمين و ما يرجع إليهم من أموال بل أنها و اللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية، (ان صح التعبير) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب و يترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب، و يبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به، و بعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا و قدم المدينة، و ردّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد «1»

رسول الاسلام و مكافحة الامية:

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة و القراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة و التثقيف، و الوعي و النوعية، فان معرفة القراءة و الكتابة بداية التثقيف و النوعية.

و لا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة و الكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها و رعاياها- كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية و الرومية- أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء و هو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة (أي صبيانها) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه .. و ما أعظمها من خطوة ثقافية و حضارية.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 651- 659، بحار الأنوار: ج 19 ص

348 و 349.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:94

(1)

كلام لابن أبي الحديد في المقام:

يقول العلّامة ابن أبي الحديد: قرأت على (استاذي) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر، فصدّقه و قال: أ ترى أبا بكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أ ما كان يقتضي التكريم و الاحسان أن يطيّبا قلب فاطمة عليها السلام، و يستوهب لها من المسلمين (أي يستوهب فدكا من المسلمين و يردّه عليها)؟

أ تقصر منزلتها عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من منزلة زينب أختها و هي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة و لا بالارث؟

فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال: و فداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين، و قد أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم.

فقلت: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صاحب الشريعة، و الحكم حكمه، و ليس أبو بكر كذلك.

(2) فقال: ما قلت هلّا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة عليها السلام و إنما قلت: هلّا استنزل المسلمين عنه، و استوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فداء أبي العاص؟ أ تراه لو قال: هذه بنت نبيكم صلّى اللّه عليه و آله قد حضرت لطلب هذه النخلات ا فتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك.

قال: إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم، و ان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه و ان كان يوافق موازين الدين- حسب تصور القاضي- و لكنه لا يناسب شأن فاطمة و

تكريمها لمقامها و لمكانها من أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:95

و آله «1».

هذا و قد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين، فينعموا بالاسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل مما أخذ منهم و يغفر لهم ذنوبهم، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2»

و بذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى، و كشف عن نزعته الانسانية، و أيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية، و نجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة و حسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا، و عادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال:

«وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» «3».

و بذلك جمع بين الحزم و الحكمة، و اللين الحكيم و الشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر:

و لقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين، و لا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين و نصر اللّه و تأييده الغيبي إذ قال:

«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 334- 352 و لابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.

(2) و (3) الانفال: 70 و 71.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:96

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ

لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» «1».

و قال تعالى:

«قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» «2».

و قال تعالى أيضا:

«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «3».

و قوله تعالى:

«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» «4».

و قال سبحانه أيضا:

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

______________________________

(1) الانفال: 42 و 44.

(2) آل عمران: 13.

(3) الانفال: 9.

(4) الانفال: 11- 12.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:97

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» «1».

و في هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة و العدد، و بأبرز

الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين، الذين كانوا يفوقونهم في العدة و العدد و السلاح و الرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين و استقامتهم، و صبرهم و إخلاصهم.

و أبرز تلك الامدادات الغيبية هي:

1- مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا و هي أعلى الوادي و المسلمين في أسفل الوادي، و كان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا، و لكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2- إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو، و مع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية و القتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين، و لكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين، مسبقا، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع، فيتحقق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. و الى هذا اشار سبحانه بقوله:

«وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ».

3- تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين و تقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين، و لكي لا يهاب المسلمون الاعداء و يستعظموا عددهم، و إليه يشير تعالى بقوله:

«إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ».

4- تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال و إليه يشير تعالى بقوله:

______________________________

(1) آل عمران: 123- 127.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:98

«يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ».

5- الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6- النعاس الذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدد نشاطهم، و ضاعف من قوتهم.

7- نزول المطر عليهم و الذي طهّرهم من الاقذار و مكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم

من حدث، و ثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم، و قد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية 11 من سورة الانفال.

8- تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9- القاء الرعب في قلوب الكفار و الى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله: «فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب».

كما و يشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري و هو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه:

«وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» «1».

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين و ما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول:

«وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» «2».

كما و يعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي و حقيقي و هو مشاققة اللّه و رسوله إذ يقول:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» «3».

______________________________

(1) الانفال: 48.

(2) الانفال: 47.

(3) الانفال: 13.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:99

و ينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي- نوعا ما- لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحربية، و إلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين و إلى جانب تنظيم صفوفهم، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:100

(1)

30 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه «1»

اشارة

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان، و ربما تنحرف بالشاب و

تهوي به في أحضان الفساد و السقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة و لم تتح له الفرصة المناسبة، و المسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة، و الاستجابة لها بصورة صحيحة.

و ان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية و الحياء العام، و تجنيب الفرد و المجتمع مفاسد و أخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل و المرأة- تأكيدا لحكم الفطرة و تمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية- أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة و دوامها.

و قد جاء هذا التأكيد، و الحديث في الكتاب العزيز، و السنة الشريفة بمختلف الصور، و تحت مختلف العناوين:

فقد جاء في الكتاب العزيز:

«وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» «2».

______________________________

(1) كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر، راجع بحار الأنوار: ج 43 ص 79 و 111.

(2) النور: 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:101

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذا الصدد:

«تزوّجوا فانّي مكاثر بكم الامم غدا في القيامة» «1».

و قال أيضا:

«من أحب أن يلقى اللّه طاهرا مطهّرا فليلقه بزوجة» «2».

(1)

مشاكل الزواج في العصر الحاضر:

على أن مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر- و للاسف- في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال و النساء اليوم يقدمون على الزواج- غالبا- في ظروف صعبة، و أوضاع رديئة، و تنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف و الاوضاع و بسبب، ما يلابسها من مستلزمات قاسية و ثقيلة بالطلاق و الافتراق بعد سلسلة من الخلافات و المنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الانباء و الأخبار عن الجرائم الزوجية و تعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

و لكن أكثر هذه المشاكل و

المصائب تدور حول قضية واحدة، و هي أن الفتيان و الفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريق إلى المناصب الراقية الحساسة.

و البعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة و المال.

(2) و قلّما يفكر المقدمون على الزواج، و تأسيس العائلة في امور هامة و جوهرية كالعفة و الطهر، و إذا لوحظ هذا الجانب فإنما يلاحظ بصورة هامشية، لا أساسية.

و يدل على ذلك أن الشباب يتنافس غالبا على التزوج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة و الشهرة الاجتماعية و المالية، و الحال أنه يمكن أن تكون

______________________________

(1) و (2) وسائل الشيعة: ج 14 ص 3 و 6.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:102

تلك الفتيات غير متصفات بالاخلاق النبيلة، و لا يكنّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد، الجدير بالاهتمام، الصالح للاقتران به.

فما أكثرهن الفتيات الفاضلات، الطيبات هنا و هناك في زوايا المجتمع اللائي لا يهتم بهن الشباب، لفقرهنّ، و قلة ذات ايديهن. او لعدم شهرة عوائلهن.

على أن الأسوأ من ذلك كلّه ما اصبح يكلّفه الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الاعراس و حفلات القران و الزواج، الأمر الذي أصبح يرهق كاهل الزوجين، و يتعب عائلتيهما، مثل مشكلة المهور الباهضة، و ما شابه ذلك مما هو في تصاعد مستمر في بلادنا، الأمر الذي دفع بالبعض الى ترك الزواج، و اشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة، و من ثم شيوع اللاابالية، و الاباحية في المجتمعات.

(1)

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا:
اشارة

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية التي كانت و لا تزال موجودة في كل مجتمع بنسب خاصة.

و لم تكن الفترة التي عاصرها رسول الاسلام بمستثناة من هذا الأمر فقد كانت

هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلّا لمن كان من قبيلة ذات مال و شوكة، و مكانة و قوة، و يردّون كل خاطب لبناتهن يكون على غير هذه الصفة.

و قد كان الأشراف، يصرّون- تبعا لتلك العادة- على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السيدة فاطمة لانهم كانوا يتصوّرون أن النبيّ لن يتشدد في هذا الأمر، بل يكفيه أنهم ذو ثروة و مكانة اجتماعية مرموقة.

و كانوا يتصوّرون أنهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة و أباها من الامكانيات المادية، كيف لا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يتشدد في زواج ابنتيه الاوليين:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:103

زينب و رقية.

و لكنهم غفلوا عن أن هذه الفتاة (أي فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها) تختلف عن اختيها السابقين.

إنها- كما تدل عليه آية المباهلة- «1» ذات مقام رفيع، و شأن كبير.

(1) لقد أخطأ خطّاب فاطمة عليها السلام في هذا التصور، و ما كانوا يعلمون أن زوج فاطمة و قرينها لا يمكن أن يكون إلّا كفؤها في التقوى و الفضل، و الايمان و الاخلاص، فاذا كانت فاطمة- بحكم آية التطهير- معصومة من الذنب وجب أن يكون زوجها هو الآخر معصوما و الا لم يكن كفؤها المناسب.

و ليس المال و ليست الثورة ملاك هذا التكافؤ.

لقد قال الاسلام: «إذا خطب إليكم كفؤ فزوّجوه».

و يفسر هذا التكافؤ بالمماثلة و التكافؤ في الايمان و التقوى، و الطهارة و العفاف، لا في المال و الثروة «2».

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مأمورا من جانب اللّه تعالى أن يقول لكل من خطب إليه «فاطمة» من اولئك

الرجال: «أمرها بيد اللّه» و هو بهذه الاجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة ما.

(2) و لقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن زواج «فاطمة» ليس أمرا سهلا و بسيطا، و أنه ليس لمن كان من الرجال و ان بلغ من الثراء، و المكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها، فان زوج «فاطمة» ليس إلّا من يشابهها من حيث الأخلاق و الفضائل، و الصدق و الايمان، و الطهر، و الاخلاص، بل ويلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السجايا الكريمة و الصفات الرفيعة،

______________________________

(1) آل عمران: 61.

في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و الحسن و الحسين و فاطمة دون غيرها من النساء و سيأتي مفصل هذه القصة.

(2) راجع الوسائل: ج 14 ص 50- 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:104

و الخلق العظيم.

و لا تجتمع هذه الصفات و المواصفات إلّا في «علي» عليه السلام لا سواه.

و للتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على (عليّ) عليه السلام أن يخطب الى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما «1».

و كان علي عليه السلام يريد ذلك في نفسه، و يرغب إليه من كل قلبه إلّا أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

(1) فاتى علي عليه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما رآه رسول اللّه قال: ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك.

فمنع الخجل عليا من البوح بمطلبه و سكت، و أطرق برأسه الى الارض، حياء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعلك جئت تخطب فاطمة؟

فأجاب علي عليه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين علي عليه السلام، من الاخوة و الصفاء، و لما تحلّى به الجانبان من اخلاص و ودّ. و ما أروعها من ظاهرة. حقا انّ المبادئ و الانظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة الى أحد مثل هذه الحرية، المقرونة بالتقوى، و الايمان و الاخلاص.

(2) لقد وافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على طلب علي عليه السلام و قال:

«يا عليّ أنه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، و لكن على رسلك حتى أخرج إليك».

ثم دخل صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة، فذكر لها الأمر، و أن عليا عليه السلام خطبها إليه قائلا:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 93.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:105

«إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته، و فضله و اسلامه، و اني قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه، و أحبهم إليه، و قد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها، و لم ير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجهها كراهة فقام و هو يقول:

«اللّه أكبر، سكوتها إقرارها» «1».

(1) و لكن عليّا عليه السلام لم يكن يملك آنذاك إلا سيفا، و درعا فقط.

فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يبيع درعه، و يهيئ بثمنه عدة الزواج و جهاز العروس، فباع علي عليه السلام درعه، و أتى بثمنه الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سكب المال بين يديه «2».

فقبض صلّى اللّه عليه و آله قبضة الدراهم، و دعا

بلالا فأعطاه فقال:

«ابتع لفاطمة طيبا».

ثم أعطى صلّى اللّه عليه و آله بقية تلك الدراهم إلى أبي بكر و عمّار بن ياسر و أمرهما أن يبتاعا لفاطمة ما يصلحها من ثياب و أثاث البيت، و ما شاكل ذلك من احتياجات العروسين.

ففعلا ذلك و اشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان جهاز فاطمة كالتالي:

(2)

جهاز فاطمة:

1- قميص بسبعة دراهم.

2- خمار «3» بأربعة دراهم.

______________________________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) و في رواية عن عليّ عليه السلام: فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي و لا أنا أخبرته.

(3) الخمار: مقنعة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:106

3- قطيفة سوداء لا تكفي لتغطية كلّ البدن.

4- سرير مزمّل بشريط (أي مصنوع من جريد النخل و اليافه).

5- فراشان من خيش «1» مصر، حشو أحد هماليف، و حشو الآخر من صوف الغنم.

6- اربع مرافق «2» اثنان من الصوف و اثنان من الليف.

7- ستر.

8- حصير هجري.

9- رحى لليد.

10- مخضب «3» من نحاس.

11- سقاء من أدم.

12- قعب للبن.

13- شنّ «4» للماء.

14- مطهرة مزفّته «5».

15- جرّة خضراء.

16- كيزان خزف.

(1) فلما عرض المتاع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعل يقلّبه بيده و يقول:

«اللهمّ بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف» «6».

إن في مهر فاطمة امورا تدعو إلى التأمل حقا، أبرزها مقدار ذلك المهر.

فمهرها هو مهر السنّة و هو خمسمائة درهم «7».

إن هذه الزيجة- في الحقيقة- خير درس للآخرين، للفتيان و الفتيات الذين يئنون من ثقل المهر و بهاضته و ربما يئنون من قيود الزواج و شروطه.

______________________________

(1) الخيش: نسيج خشن من الكتان.

(2) المرفقة: الوسادة.

(3) المخضب: اناء للمسك و الطيب.

(4) الشنّ: القربة.

(5) مطلية بالزفت.

(6) بحار الأنوار: ج 43 ص 94، كشف الغمة: ج 1 ص 359.

(7) وسائل الشيعة: ج 5

ص 18.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:107

(1) ان البيئة الزوجية يجب أن تكون- أساسا- بيئة دف ء و حنان، بيئة اخلاص مودة.

بيئة سلام و وفاق فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية و يوفر للزوجين عيشا هانئا محببا.

أما المهور الثقيلة، و النفقات الباهضة و الجهاز المكلف فلا تؤدي إلّا إلى تعكير صفو الحياة الزوجية، و التقليل من بريق الرابطة العائلية، و بالتالي لا تضمن مستقبل الزواج و دوامه، و المحافظة عليه من الهزات.

إن أولياء الفتيات- في عصرنا الحاضر يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم و تقوية مركزهن و ضمان مستقبلهن إلى فرض سلسلة طويلة و ثقيلة من الشروط و القيود و منها المهر الباهض على العريس حنى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى و الشهوة، أو كلما سولت له نفسه ذلك، على حين أن هذا الاجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية، و دوامها بل العلاج الحقيقي و الناجع هو اصلاح الوضع الاخلاقي للشباب، و رفع مستواهم المعنوي.

يجب أن تكون بيئتنا الثقافية و الاجتماعية من الطهر و النقاوة بحيث لا يوجد في رحابها امثال هذه النوازع الشريرة عند شبابنا، و الا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة الى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

(2)

مراسم الزواج تقام ببساطة:

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام على فاطمة عليها السلام في رحاب مسجده على مرأى و مسمع من المسلمين و في جو يسوده الفرح و الابتهاج و السرور قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام هيّئ منزلا حتى تحوّل فاطمة إليه، فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقتة، و حوّلت فاطمة إلى علي عليه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل، في زفاف

جميل مبارك و قد صنع علي طعاما من لحم و تمر و سمن و اطعم المسلمون جميعا تقريبا، و ساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنات عبد المطلب و نساء

سيد المرسلين ،ج 2،ص:108

المهاجرين و الأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام اللّه عليها و ان يفرحن، و يرجزن و يكبرن و يحمدن و لا يقولن ما لا يرضى اللّه.

قال جابر: فأركبها على ناقته- و في رواية على بغلته الشهباء- و أخذ سلمان زمامها و النبيّ و حمزة و عقيل و جعفر و أهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم و نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قدامها يرجزن، فانشأت أم سلمة تقول:

سرن بعون اللّه جاراتي و اشكرنه في كل حالات

و اذكرن ما أنعم رب العلى من كشف مكروه و آفات

فقد هدانا بعد كفر و قدانعشنا رب السماوات

و سرن مع خير نساء الورى تفدى بعمات و خالات ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما دخلوا الدار أنفذ إلى علي عليه السلام ثم دعا فاطمة سلام اللّه عليها فأخذ يدها و قد علاها الاستحياء و تصبب منها العرق خجلا، بل و قد تعثرت من شدة خجلها فقال لها رسول اللّه: «أقالك اللّه العثرة» «1».

و وضعها في يده و قال:

«بارك اللّه في ابنة رسول اللّه يا علي نعم الزوجة فاطمة، و يا فاطمة نعم الزوج علي».

ثم أخذ بيده اناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة و بدنها و دعا لهما قائلا:

«اللّهم اجمع شملهما، و الّف بين قلوبهما، و اجعلهما و ذريتهما من ورثة جنة النعيم و ارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، و اجعل في ذريتهما البركة، و

اجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك، و يأمرون بما يرضيك.

اللّهم انّهما أحبّ خلقك إليّ، فاحبهما و اجعل عليهما منك حافظا، و انّي اعيذهما بك و ذريتهما من الشيطان الرجيم» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 96.

(2) بحار الأنوار: ج 43 ص 114- 118.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:109

(1) و بذلك أبدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من نفسه في تلك الليلة صفاء و اخلاصا لم يعرف له نظير حتى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حققته من تكامل و رشد.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدد لفاطمة فضائل علي كما ذكر لعلي فضائل فاطمة و انها «لو لم يخلق علي لما كان لها كفؤ» «1». ثم ذكر لهما وظائفهما و واجباتهما العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شئون و أوكل إلى علي ما هو من شئون الخارج.

و لا بدّ أن نذكر هنا قصة هامة أداء لحق فاطمة، و بيانا لمقامها.

(2) يقول أنس بن مالك: إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج الى الفجر فيقول:

«الصلاة يا أهل البيت، انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا» «2».

هذا و قد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الاسلام و أكثرها بركة و خيرا، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنبا الى جنب في وئام و وداد، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل، و الاخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

و قد أنجبا أفضل الاولاد و البنات أبرزهم: الامام الحسن و الامام الحسين عليهما السلام سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاثيران لديه، و المقربان إليه، و زينب بنت علي التي رافقت

أخاها في وقعة كربلاء الدامية و كان لها مواقف عظيمة و مشرفة في الرعاية للحق و العدل، و نصرة الاسلام، و غيرهم من الاولاد ذكورا و اناثا.

و قد بقي كلا الزوجين (علي و فاطمة) حتى آخر اللحظات عارفين بمكانة

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 2 ص 259.

(2) الدر المنثور: ج 5 ص 199.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:110

الآخر، فكلاهما من أهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و كلاهما من القربى الذين أمر بمودتهم و لهذا لم يتزوّج علي عليه السلام على الزهراء امرأة اخرى الا بعد وفاتها، كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة إلى خديجة، وفاء لحقها، و احتراما لمقامها.

لكن بعض الايادي دسّت- مع الأسف- في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين، و الحط من مكانتهما، فنسبت إليهما التنازع، و التشاجر، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ عليه السلام الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أوردت في هذه المجال روايات مختلقة، لا أساس لها من الصحة، تفندها أخلاق علي و فاطمة و تقواهما و زهدهما، و تكذّبها ما جاء في شأنهما و جلالة قدرهما من الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية.

و قد استند أعداء الاسلام التقليديين إلى امثال هذه الروايات لمسخ صورة الاسلام الحنيف و تشويه سمعة رجاله العظماء و نسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الاستاذ اميل درمنغم في كتابه الملي ء بالاباطيل: «حياة محمّد» ترجمة الاستاذ محمّد عادل زعيتر بعد ان يلصق برسول السلام تهما عجيبة و يصفه بالبدويّ الحمس، يقع في علي و فاطمة عليهما السلام!!

فتارة يقول: إن فاطمة كانت عابسة دون رقية جمالا، و دون زينب ذكاء، و إنها لم تكن ترغب

في عليّ لانها كانت تعدّ عليا دميما محدودا مع عظيم شجاعته!! و ان عليا كان غير بهيّ الوجه .. و و .. مع أنه كان تقيا شجاعا صادقا وفيا مخلصا صالحا مع توان و تردد!!

و كان إذا عاد إلى منزله من العمل بشي ء من القوت قال لزوجته فاطمة عابسا: كلي و اطعمي الاولاد!! و أن عليا كان يحرد بعد كل منافرة و يذهب لينام في المسجد و كان حموه يربّته على كتفه و يعظه و يوفّق بينه و بين فاطمة إلى حين، و ممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة و هي تبكي من لكم عليّ لها!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:111

ثم يقول: إن محمّدا- مع امتداحه قدم علي في الاسلام ارضاء لابنته- كان قليل الالتفات إليه و كان صهر النبيّ الامويان: عثمان الكريم و أبو العاصي أكثر مداراة للنبيّ من عليّ، و كان علي يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته و من عدّ النبيّ له غير قوّام بجليل الأعمال فالنبيّ و ان كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه!! «1»

إلى غير ذلك من الترهات و السخافات التي الصقها تارة إلى رسول اللّه الاكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و اخرى إلى حبيبه و ابن عمه و وصيه الامام علي بن أبي طالب عليه السلام.

إن أفضل اجابة على هذه الافتعالات هو ما كتبه العلامة الاميني حيث يقول:

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، و النسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، و تضادّ ما أصفقت عليه الامّة الإسلاميّة، و ما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبيها صلّى اللّه عليه و

آله: فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها؟! «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: ابنتي فاطمة حوراء آدميّة؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة هي الزهرة؟! «4»

أو قول أمّ أنس بن مالك؟!: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماما، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدّ الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شبها، و اللّه كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرهاو تغيب فيه و هو جثل أسحم «5»

______________________________

(1) هذه المقتطفات اخذت من كتاب حياة محمّد: ص 197- 199.

(2) تاريخ الخطيب البغدادي: ج 5 ص 86.

(3) الصواعق: ص 96، اسعاف الراغبين: ص 172 نقلا عن النسائي.

(4) نزهة المجالس: ج 2 ص 222.

(5) جثل الشعر: كثر و التف و اسود فهو جثل: سحم فهو اسحم: اسود.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:112 فكأنّها فيه نهار مشرق و كأنّه ليل عليها مظلم «1» و لقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليّة الحال.

و هل يساعد تلك التحكمات في ذكاء فاطمة و خلقها قول أمّ المؤمنين خديجة رضي اللّه عنها: كانت فاطمة تحدّث في بطن امّها، و لمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة رافعة اصبعها؟! «2».

أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحدا أشبه سمتا و دلا و هديا و حديثا برسول اللّه في قيامه و قعوده من فاطمة، و كانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها و رحّب بها، و أخذ بيدها و أجلسها في مجلسه؟! «3»

و في لفظ البيهقي في السنن ج 7 ص 101: ما رأيت أحدا أشبه كلاما و حديثا من فاطمة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحديث.

و هل توافق مخاريقه في

الامام عليّ صلوات اللّه عليه، و عدم بهاء وجهه، و عدّ فاطمة له دميما و كونه عابسا مع ما جاء في جماله البهيّ: انّه كان حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر، و كأنّ عنقه إبريق فضّة «4» ضحوك السنّ «5» فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟! «6».

و أين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!:

إذا استقبلت وجه أبي تراب رأيت البدر حار الناظرينا «7»

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 161.

(2) سيرة الملا، ذخائر العقبى: ص 45، نزهة المجالس: ج 2 ص 227.

(3) اخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخائر العقبى 40 م، و الحافظ الترمذي و حسنه، و الحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له و لابنه ج 1 ص 150، و ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 2 ص 3، و ابن طلحة في مطالب السئول: ص 7، اسعاف الراغبين: ص 171.

(4) كتاب صفين: ص 262، الاستيعاب: ج 2 ص 469، الرياض النضرة: ج 2 ص 155، نزهة المجالس: ج 2 ص 204.

(5) تهذيب الاسماء و اللغات للامام النووي.

(6) حلية الأولياء: ج 1 ص 84، تاريخ ابن عساكر: ج 7 ص 35، المحاسن و المساوى: ج 1 ص 32.

(7) تذكرة السبط: ص 104.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:113

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله فالناس أعداء له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجههاحسدا و بغضا: إنّه لدميم أو يخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني و التردّد)؟! و عليّ ذلك المتقحم في الأحوال، و الضارب في الأوساط و الأعراض في المغازي و الحروب؛ و هو الذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة و كارسة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن

بات على فراشه و فداه بنفسه، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أ ليس عليّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى: «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

و قوله تعالى: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ». «1».

فمتى خلى عليّ عن مقارعة الرجال و الذبّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصحّ أن يعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الامور؟! غير ان القول الباطل لا حدّ له و لا أمد.

و هل يتصوّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! و النبيّ يقول له: أشبهت خلقي و خلقي و أنت من شجرتي التي أنا منها «2».

و كيف يراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أفضل امّته أعظمهم حلما، و أحسنهم خلقا، و يقول: عليّ خير أمّتي أعلمهم علما و أفضلهم حلما؟! «3».

و يقول لفاطمة: إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلما، و أكثرهم علما، و أعظمهم حلما؟! «4».

______________________________

(1) راجع الجزء الثالث من «الغدير»: ص 47، 53 ط ثاني.

(2) تاريخ بغداد للخطيب: ج 11 ص 171.

(3) الطبري، الخطيب، الدولابي. كما في كنز العمال: ج 6 ص 153 و 392 و 398.

(4) مسند احمد: ج 5 ص 26، الرياض النضرة: ج 2 ص 194، ذخائر العقبى: ص 78، مجمع الزوائد:

ج 9 ص 101، 114 و صححه و وثق رجاله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:114

و يقول لها: زوّجتك أقدمهم سلما، و أحسنهم خلقا؟! «1».

يقول هذه كلّها و عشرته تلك كانت بمرأى منه و مسمع، أفك الدجّالون، كان عليّ عليه السلام كما أخبر به النبيّ الصادق الأمين.

و هل يقبل شعورك ما قذف به الرجل [فضّ اللّه فاه]

عليّا بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! و عليّ هو ذاك المقتص أثر الرسول و ملأ مسامعه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة: إنّ اللّه يغضب لغضبك، و يرضى لرضاك «2».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو آخذ بيدها: من عرف هذه فقد عرفها، و من لم يعرفها فهي بضعة منّي، هي قلبي و روحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني «3».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، و يؤذيني ما آذاها «4».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني «5».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها، و يبسطني ما يبسطها «6».

______________________________

(1) أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة: ج 2 ص 182.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 و صححه، ذخائر العقبى: ص 39، تذكرة السبط: ص 175 مقتل الخوارزمي: ج 1 ص 52، كفاية الطالب: ص 219، شرح المواهب للزرقاني: ج 3 ص 202، كنوز الدقائق للمناوي: ص 30، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل: ج 1 ص 185، كنز العمال: ج 7 ص 111 عن الحاكم و ابن النجار، تهذيب التهذيب: ج 12 ص 443، الاصابة: ج 4 ص 378، الصواعق: ص 105، الاسعاف: ص 171 عن الطبراني، ينابيع المودة: ص 173.

(3) الفصول المهمة: ص 150، نزهة المجالس: ج 2 ص 228، نور الابصار: ص 45.

(4) صحاح البخاري و مسلم و الترمذي، مسند أحمد: ج 4 ص 328، الخصائص للنسائي: ص 35، الاصابة: ج 4 ص 378.

(5) صحيح البخاري، خصائص النسائي: ص

35.

(6) مسند أحمد: ج 4 ص 323 و 332، الصواعق: ص 112.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:115

و هل يقصر امتداح النبيّ عليّا بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرّه و يكون ذلك إرضاء لابنته، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قوله لفاطمة في ذلك و كان يتأتّى الغرض به، فلما ذا كان يأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ في الملأ الصحابي تارة و يقول: إنّ هذا أوّل من آمن بي، و هذا أوّل من يصافحني يوم القيامة؟ و لما ذا كان يخاطب أصحابه اخرى بقوله: أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم اسلاما عليّ بن أبي طالب؟!

و كيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور و التابعين لهم باحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الاثارة كما يروى عن سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبد اللّه بن عبّاس، عبد اللّه بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الاشتر، عبد اللّه بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبو عمرة عديّ بن حاتم، أبو رافع، بريدة، جندب بن زهير، أمّ الخير بنت الحريش.

و هل القول بقلّة التفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنّه نفس النبيّ الطاهر؟! او جعل مودّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الطير المشويّ الصحيح المرويّ في الصحاح و المسانيد: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعائشة: إنّ عليّا أحبّ الرجال إليّ، و أكرمهم عليّ، فاعرفي له حقّه و أكرمي مثواه؟! «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أحبّ الناس إليّ من

الرجال عليّ؟! «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ خير من أتركه بعدي؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خير رجالكم عليّ بن أبي طالب، و خير

______________________________

(1) أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض: ج 2 ص 161، و ذخائر العقبى: ص 62.

(2) و في لفظ: أحب أهلي، من حديث اسامة.

(3) مواقف الايجي: ج 3 ص 276، مجمع الزوائد: ج 9 ص 113.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:116

نساءكم فاطمة بنت محمّد؟! «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: في حديث الراية المتّفق عليه: لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله؟

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي؟ «4»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّي بمنزلتي من ربّي؟ «5».

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ أحبّهم إليّ و أحبّهم إلى اللّه «6».

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ: أنا منك و أنت مني. أو: أنت منّي و أنا منك؟ «7»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّى و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ «8»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على

______________________________

(1) تاريخ بغداد للخطيب: ج 4 ص 392.

(2) تاريخ الخطيب عن جابر، كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير: ج 2

ص 16، كنز العمال: ج 6 ص 159

(3) تاريخ الخطيب البغدادي: ج 3 ص 192 عن ابن مسعود، كنز العمال: ج 6 ص 159.

(4) تاريخ الخطيب: ج 7 ص 12، الرياض النضرة: ج 2 ص 162، الصواعق: ص 75 م- الجامع الصغير للسيوطي، شرح العزيزي: ج 2 ص 417، فيض القدير: ج 4 ص 357، نور الأبصار:

ص 80، مصباح الظلام: ج 2 ص 56.

(5) الرياض النضرة: ج 2 ص 163، السيرة الحلبية: ج 3 ص 391.

(6) تاريخ الخطيب: ج 1 ص 160.

(7) مسند أحمد: ج 5 ص 204، خصائص النسائي: ص 36 و 51.

(8) مسند أحمد: ج 5 ص 356 و أخرجه جمع من الحفاظ باسناد صحيح

سيد المرسلين ،ج 2،ص:117

صحته: لا يذهب بها إلّا رجل منّي و أنا منه «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لحمك لحمي و دمك دمي و الحقّ معك؟ «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من نبيّ إلّا و له نظير في امّته و عليّ نظيري؟ «3»

أو ما صحّحه الحاكم و أخرجه الطبراني عن أمّ سلمة قالت: كان رسول اللّه إذا أغضب لم يجترئ أحد أن يكلّمه غير عليّ؟ «4»

أو قول عائشة: و اللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ و لا في الأرض امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته؟ «5»

أو قول بريدة و أبيّ: أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من النساء فاطمة و من الرجال عليّ؟! «6»

أو حديث جميع بن عمير قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت:

زوجها، إن كان ما علمت

صوّاما قوّاما؟ «7»

و كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقدّم الغير على عليّ في الالتفات إليه؟! و هو أوّل رجل اختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع

______________________________

(1) خصائص النسائي: ج 8.

(2) المحاسن و المساوى: ج 1 ص 31، كفاية الطالب: ص 135، مناقب الخوارزمي: ص 76 و 83 و 87، فرائد السمطين: في الباب 2 و 27.

(3) الرياض النضرة: ج 2 ص 164.

(4) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 130، الصواعق: ص 73، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 116.

(5) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 و صححه، العقد الفريد: ج 2 ص 275، خصائص النسائي:

ص 29، الرياض النضرة: ج 2 ص 161.

(6) خصائص النسائي: ص 29، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 155 صححه و هو و الذهبي، جامع الترمذي:

ج 2 ص 227.

(7) جامع الترمذي: ج 2 ص 227 ط هند، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 157، و جمع آخر.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:118

عليهم كما أخبر به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بقوله: إنّ اللّه اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّا، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليّ فأنكحته و اتّخذته وصيّا «1».

و بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك و الآخر زوجك «2».

و إنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: و كان صهرا النبيّ الامويّان.

إلخ: و حسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة و قعد على قبرها و دمعت عيناه فقال: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال: أراد

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحرم عثمان النزول في قبرها و قد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها و فقد منها علقا لا عوض منه لأنّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان و لم يقل: أنا. لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، و لم يشغله الهمّ بالمصيبة و انقطاع صهره من النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّا له و كان أولى به من أبي طلحة و غيره. و هذا بيّن في معنى الحديث و لعلّ النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنّه فعل فعلا حلالا غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح «3».

و ما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة، و اسر مع المشركين مرّتين، و فرّق الإسلام بينه و بين زوجته زينب بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستّ سنين، و هاجرت مسلمة و تركته لشركه، و لم ترد

______________________________

(1) اخرجه الطبراني عن أبي ايوب الأنصاري كما في اكمال كنز العمال: ج 6 ص 153، و اخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 165 عن علي الهلالي.

(2) المواقف للايجي: ص 8

(3) الروض الانف: ج 2 ص 107.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:119

قطّ بعد إسلامه كلمة تعرب عن صلته مع النبيّ و مداراته له فضلا عن مقايسته بعليّ أبي ذرّيّته و سيّد عترته.

و قد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعد العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب

العزيز، و يقذف عليّا بالتألّم من ذلك، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أصبح أتى باب عليّ و فاطمة و هو يقول: يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا. و كان لم يزل يقول: فاطمة أحبّ الناس إليّ.

و يقول: أحبّ الناس إليّ من النساء فاطمة.

و يقول: أحبّ أهلي إليّ فاطمة.

و كان عمر يقول لفاطمة: و اللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه منك «1».

و ما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعدّه لعليّ غير قوّام بجليل الأعمال. و قد وازره و ناصره و عاضده بتمام معنى الكلمة بكلّ حول و طول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفسا و أخا و وزيرا و وصيّا و خليفة و وارثا و وليّا بعده، و كان قائده الوحيد في حروبه و مغازيه، و هو ذلك الملقّب بقائد الغرّ المحجّلين وحيا من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى «2».

و ممّا يعجّب بل و يؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب، و ينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمّ الامامين الهمامين الحسن و الحسين عليهما السلام، فيسطر في كتابه «فاطمة الزهراء و الفاطميّون» «3» شيئا من هذه العبارات و المقالات التافهة التي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق و الفهم، ان يدرجها في مؤلفه.

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 150 و صححه.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 138 و صححه، الرياض النضرة: ج 2 ص 177، شمس

الاخبار:

ص 39، أسد الغابة: ج 1 ص 69، مجمع الزوائد: ج 9 ص 121.

(3) راجع ص 32 و 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:120

و لا يجاب على ما كتبه العقاد و من حذى حذوه إلا بما مرّ في كلام العلّامة و المحقق الخبير الاميني رحمه اللّه. ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت عليهم السلام.

هذا و ينبغي ان نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقاد في كتابه و مما يعتبر شهادة دامغة تفند ما بدر منه من قول غير لائق في شأن علي و الزهراء، فهو يقول: في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر و انثى.

فاذا تقدست في المسيحية مريم العذراء ففي الاسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول: من الواضح البين ان الزهراء اخذت مكانها الرفيع بين اعلام النساء في التاريخ لانها بنت نبي و زوجة امام و أم شهداء «1».

فاذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمتين الطاهرتين من قمم الاسلام الشامخة؟!

______________________________

(1) راجع: ص 51 و 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:121

(1)

31 جرائم «بني قينقاع»

اشارة

كانت معركة «بدر» بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة، فقد قتل طائفة من صناديد قريش، و اسرت اخرى و هرب الباقون بمنتهى الذل و الصغار، و انتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء و ربوع الجزيرة العربية.

و لكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب، شي ء من الهدوء و المقرون بالاضطراب و القلق. هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام و ما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

(2) و كانت مخاوف

القبائل الوثنية، و يهود يثرب الاثرياء و يهود خيبر و وادي القرى تزداد يوما بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد، و تعاظم شوكته، و اشتداد أمر حكومته الفتية، و كان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهددا بخطر جديّ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة، و أن يبلغ من القوة ذلك المبلغ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى و يكسر شوكتها العريقة!!

(3) و كان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة، و يمسكون بخيوط اقتصادها، أشدّ خوفا من غيرهم، و اكثر قلقا على مستقبل أمرهم، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة و كان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر و وادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيدا عن مركز قوة المسلمين و منطقة حاكميتهم!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:122

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات، و ممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين و القيام بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، و ذلك بنشر الأكاذيب و بثّ المعلومات الكاذبة، و اطلاق الشعارات القبيحة، و انشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين و تحقيرهم، و تخريب معنوياتهم.

و بهذا يكون اليهود قد بدءوا عمليّا بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفا، و التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معهم في إبّان قدومه المدينة.

(1) و لم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة، و استعمال السلاح، لأن ما يمكن حله بسلاح المنطق لا يحبذ أن يعالج بمنطق السلاح، و خاصة أن الرد الساخن و المسلح يؤدي إلى زعزعة الأمن و الاستقرار

في المدينة، و الحال أن المحافظة على الوحدة السياسية، و استتباب الأمن و الاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جدا و هو يواجه أعداء أشداء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الاسلام و المسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام، يومئذ.

و لهذا- و بغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع- وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم:

«يا معشر يهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة، و أسلموا، فانكم قد عرفتم انّي رسول اللّه (أو أني نبي مرسل) تجدون ذلك في كتابكم و عهد اللّه إليكم».

و هنا نزل قول اللّه تعالى:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:123

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» «1».

(1) و لكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب، بل ردوا عليه بعناد و لجاج و صلافة قائلين: يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فاصبت منهم فرصة، إنا و اللّه و لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس (أو أنّا و اللّه أصحاب الحرب، و لئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا)!! «2»

فلم تترك كلمات يهود «بني قينقاع» الجوفاء، و تشدقهم الفارغ بقوتهم و قدرتهم على القتال و المواجهة أدنى اثر في نفوس المسلمين.

و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أتم عليهم الحجة، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية،

و قد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق، و لم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم، و التخلي عن مؤامراتهم و خططهم الايذائية ضد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين و الّا ازدادوا صلافة، و كثرت اعتداءاتهم.

و لهذا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

(2)

لهيب الحرب يبدأ من شرارة:

قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات و الاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى، فيصفي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر، انطلاقا من علل و اسباب اخرى، و ليست تلك الحادثة الجزئية.

______________________________

(1) آل عمران: 12 و 13.

(2) المغازي: ج 1 ص 175 و 176.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:124

فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى و هي إحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى، و تلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال «الارشيدوق فرانسيز فريديناند» ولي عهد النمافي سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 و بعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاولى بهجوم الالمان على بلجيكا، و افرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين و جرح عشرين مليونا من البشر «1».

(1) و لقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع، وردهم الوقح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يخاطبهم بأدب ينصحهم، و كانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثوروا ضدهم، و يؤدبوهم.

و بيناهم على هذه الحال إذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء

من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

و إليك مفصل تلك الحادثة:

(2) جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّا لها أو تشتري، و كانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد رجل من يهود بني قينقاع إليها و جلس من ورائها، و هي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها، فلما قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، و شدّوا على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم القتيل المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون غضبا شديدا.

(3) و لقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع، فان قضية «الأعراض» قضية حياتية و حساسة في أي مجتمع، فهي قضية شرف، و قد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع

______________________________

(1) الموسوعة العربية الميسرة: ص 700.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:125

العربيّ خاصة بأهمية كبرى، و خاصة عند البدو الرحل منهم، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة و حالها المؤلم و اضطرابها الرجل المسلم، و أشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي و قتله.

و كان من الطبيعي أيضا أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور و يقتلوه، و يريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمرا صحيحا منطقيا يتفق مع الموازين أم لا ينطبق.

و لكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال و اجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد، و إراقة دمه، عمل

بالغ الشناعة و القبح.

من هنا تسبّب انتشار هذا الخبر (اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة) في إثارة المسلمين و نفاذ صبرهم، و دفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسما كاملا و بالتالي هدم قلعة الفساد على رءوس أصحابها القتلة.

(1) فاحس «بنو قينقاع» بخطر الموقف، و أدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم، و يواصلوا البيع و الشراء، و قد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع و الجناية الكبرى التي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة، و عادوا إلى قلاعهم المحصّنة، و تحصّنوا فيها، و كان ذلك منهم انسحابا خانعا بعد ذلك التشدّق الصلف!!

و لقد أخطئوا هذه المرة أيضا إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم، من انتقام اللّه.

و لو أنهم اعتذروا لخطئهم، و أظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين، و يحصلون على عفو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم يعرفون خلقه العظيم؛ و صفحة الكريم.

إلّا أن تحصّنهم كان آية عنادهم، و اعلانهم الحرب، و نصبهم العداء الصريح للاسلام و النبيّ و المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:126

(1) فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمحاصرتهم، و منع من دخول أيّ امداد إليهم، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار، حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب، و فقدوا القدرة على المقاومة، و رضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيهم!!

و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد و نبذ الميثاق تأديبا قاسيا، يكون عقابا لهم و عبرة لغيرهم.

و لكن «عبد اللّه بن أبي بن

سلول» الذي كان من منافقي المدينة و يتظاهر بالاسلام، أصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يحسن معاملتهم، و لا يأخذهم بما فعلوا لحلف و مودة كانت بينه و بين يهود من السابق، فانصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد، و عقوبتهم على كره منه «1» و لكن أمر بأن يجلوا من المدينة، و لا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم، و أموالهم، و دروعهم.

(2) فنزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد المسلمين بقبض أموالهم و أسلحتهم، و كلّف «عبادة بن الصامت» باجلائهم من حصونهم فعجّل عبادة في ترحيلهم و إجلائهم.

فخرجوا من المدينة و لحقوا بمنطقة تدعى «أذرعات» و هي بلد في اطراف الشام.

______________________________

(1) هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معاقبة اليهود و رسم للمسلمين منهجا في التعامل مع اليهود و النصارى إذ قال:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (المائدة: 51- 53).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:127

و باجلاء «بني قينقاع» عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.

و كانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة

بالوحدة الدينية إذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر «1».

(1)

تقارير جديدة تصل الى المدينة:

من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة، على العادة. سيد المرسلين ج 2 127 تقارير جديدة تصل الى المدينة: ..... ص : 127

هنا فان انباء أكثر المؤامرات و التحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة- و عبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين- الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافا الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى، فيرصد لها من يأتي بها أولا بأول، و لهذا كانت اكثر التحركات و المؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع و المناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها، أو التي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمن هذه المعلومات، إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خبرا مفاده أن إحدى القبائل تعد قوة، و تستعدّ للهجوم على المدينة كان صلّى اللّه عليه و آله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة، و افشال مؤامرتها، و ابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شي ء، و كان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

و إليك مختصرا عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة:

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 177، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 28 و 29.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:128

(1)

1- غزوة قرقرة الكدر «1»:

كانت المنطقة التي تتمركز فيها قبيلة «بني سلم» تدعى «الكدر».

و قد بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن القبيلة المذكورة تهيّئ، و تعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام و عاصمته (المدينة). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة

بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه و أوكل إليه إدارة المدينة في غيابه، و كان الذي استخلفه هذه المرّة «ابن أمّ مكتوم»، و خرج على رأس قوة عسكرية إلى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية إليهم تفرقوا، و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى «غالب بن عبد اللّه» إلى نفس تلك المنطقة، فوقع بينه و بينهم قتال محدود و عاد «غالب» الى المدينة ظافرا بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

(2)

2- غزوة السويق:

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذورا غريبة.

فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر «2» من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة، و يقاتل النبيّ و أصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلا، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلا من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ، و قتل أجيره، و حرّق بيتا و حرثا لهم بارشاد من كبير اليهود «سلام بن مشكم» و رأى أن يمينه قد حلّت، ثم ذهب هاربا، و خاف

______________________________

(1) قرقرة الكدر: ناحية بين المعدن و بين المدينة، (الطبقات).

(2) المغازي: ج 1 ص 182، الطبقات: ج 2 ص 30.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:129

ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فندب أصحابه فخرجوا في أثره، و جعل أبو سفيان و أصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق (و هو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل)، و هي عامة زادهم، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

(1)

3- غزوة ذي أمرّ:

بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها، و تتأهب للعدوان على المدينة المنورة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رأس أربعمائة و خمسين رجلا.

فلما سمع العدو بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم خافوا خوفا شديدا فهربوا إلى رءوس الجبال، فرارا من النبيّ و المسلمين.

فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحدا منهم، و قد غيّبوا سرحهم و ذراريهم في ذرى الجبال خوفا و فرقا.

(2) فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

«ذا أمرّ» «1» و عسكر معسكره هناك، فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناحية ليقضي حاجة، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وادي «ذي أمرّ» بينه و بين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، و ألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، و الأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور و كان سيّدها و أشجعها: قد أمكنك محمّد، و قد انفرد من أصحابه، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله.

فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على

______________________________

(1) واد بطريق فيد إلى المدينة. وفاء الوفاء: ج 2 ص 249.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:130

رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالسيف مشهورا، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستلق على قفاه.

(1) فقال بنبرة خشنة مهددة: ما يمنعك منّي اليوم؟ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب، و وقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قام به على رأسه، فقال: و من يمنعك منّي اليوم.

فقال: لا أحد.

ثم قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و اللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا.

فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: أما و اللّه لانت خير منّي.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا أحق بذلك منك.

فأتى قومه، و قصّ عليهم ما جرى له مع النبيّ، و أنّه أسلم، و دعا قومه الى

الاسلام.

(2) أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره، و يجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفا و فرقا و تحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتا و مستمرا في اسلامه بعد ذلك و أخذ يدعو قومه كما أسلفنا و هذا يدل على أنه أسلم عن طواعية و رغبة. و ان اسلامه كان لتنبّه فطرته، و يقظة وجدانه، فانّ فشله غير المتوقع، و نجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالم آخر، و عرف بأن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارتباطا بعالم آخر، و أنه مؤيّد بالتالي بقوة عليا، وراء هذا العالم المادي.

و لهذا السبب- و ليس لسواه- أسلم، و قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اسلامه، و بعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك و اعتذر إليه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:131

و قال: أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة. «1»

(1)

قريش تغيّر مسير تجارتها:

تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي و حلفائهم، و لم يعد من الممكن مواصلة التجارة و ارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها، و درست أوضاعها في ظل هذه المستجدات، و اتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رءوس أموالها و فنيت، و كان عليها أن تسلّم للمسلمين.

و ان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحا ما دامت الطريق غير آمنة، و ما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعا، و تهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد و تولّى أبو

سفيان و صفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة و ادارتها، و استخدما رجلا من بني بكر يدعى «فرات ابن حيان» ليدلّهما على الطريق.

(2) قال المقريزي في امتاع الاسماع: سمع رجل من المدينة (و هو سليط بن النعمان) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره و ما معهم من الاموال فخرج من ساعته و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير، و أفلت أعيان القوم، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، و قسّم ما بقي على أهل السريّة، و كان فيمن اسر فرات بن حيّان فأسلم «2».

______________________________

(1) المناقب: ج 1 ص 164، المغازي: ج 1 ص 194- 196.

(2) الإمتاع الاسماع: ج 1 ص 112.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:132

(1)

حوادث السنة الثالثة من الهجرة 32 الدفاع عن الحرّية

اشارة

(2)

غزوة احد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل احد:

اشارة

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث و الوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة «بدر» فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة «احد» و هما من أعظم معارك الاسلام و غزواته.

على أن غزوة «احد» لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضا غزوات اخرى «1» الى جنب طائفة من السرايا، التي اخترنا منها سرية واحدة و غزوتين فقط.

(3)

1- سرية محمّد بن مسلمة:

لقد وصل نبأ انتصار المسلمين في معركة «بدر» عن طريق رجلين من المسلمين.

و لم يكن الجيش الاسلامي الظافر قد وصل الى المدينة بعد، عند ما انزعج «كعب بن الاشرف»- الذي كانت أمه من يهود «بني النضير» و كان شاعرا قويا، و خطيبا بارعا- من الفتح الذي أصابه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون في «بدر» فقال: و اللّه لئن كان محمّد أصاب أشراف العرب و ملوك الناس (و يعني سادة قريش و صناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطن

______________________________

(1) مثل غزوة بحران و غزوة حمراء الأسد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:133

الأرض خير من ظهرها!! و بدأ يبث الأكاذيب و الشائعات في المدينة و مضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

(1) و قد كان يسي ء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قصائده حتى قبل معركة «بدر» و يحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة و جعل يحرّض قريشا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أنشد في هذا المجال أشعارا يبكي فيها أصحاب القليب من قريش و قد ذكرتها المصادر التاريخية «1».

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب «2» بنساء المسلمين

حتى آذاهم!!

و لا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التخلص منه، و كفاية المسلمين شره، و قد أوكل هذه المهمة الصعبة الى «محمد بن مسلمة».

و قد خطّط «ابن مسلمة» للتخلص من «كعب» خطة رائعة، و ألّف لتنفيذها فريقا كان من بينهم «أبو نائلة» الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب و تنفيذ الخطة المذكورة.

(2) فخرج أبو نائلة إلى كعب و جلسا يتحادثان، و يتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب- بعد ان طلب منه أن يخرج كل من كان هناك من ذويه و أهله-: إني قد جئتك في حاجة إليك اريد ذكرها لك فاكتم عني، و إني كرهت ان يسمع القوم كلامنا، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل (يعني رسول اللّه) علينا من البلاء، و حاربتنا العرب، و رمتنا عن قوس واحدة، و قطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس، و ضاع العيال، أخذنا بالصدقة و لا نجد ما نأكل.

فقال كعب: قد و اللّه كنت احدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 121- 122.

(2) راجع السيرة النبويّة: ج 2 ص 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:134

فقال أبو نائلة: إنّ معي رجالا من أصحابي على مثل رأيي، و قد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما، أو تمرا و تحسن في ذلك إلينا، و نرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

(1) فقال كعب: و ما ذا ترهنونني يا أبا نائلة، أبناءكم و نساءكم؟؟!

فقال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا و تظهر أمرنا، و لكنا نرهنك من الحلقة (أي السلاح)

ما ترضى به.

فرضي كعب بن الاشرف بذلك.

و إنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فاتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه و بين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشاء و أخبروه، فمشى معهم حتى اتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:

«امضوا على بركة اللّه و عونه اللّهم أعنهم».

(2) فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة، و كان ابن الاشرف حديث عهد بعرس، فوثب من فراشه، فأخذت امرأته بناحية ملحفته و قالت: أين تذهب، إنك رجل محارب، و لا ينزل مثلك في هذه الساعة؟؟

فقال ابن الاشرف: ميعاد، إنما هو أخي أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.

ثم قالوا له: يا ابن الاشرف: هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز (و هو موضع قرب المدينة) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه، و بينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال: ويحك ما أطيب عطرك هذا يا ابن الاشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:135

ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه و قال: اضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، و طعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، و صاح صيحة ثم وقع على الارض و لم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم و لما بلغوا «بقيع الغرقد» كبّروا، و قد قام رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله تلك الليلة يصلّي، فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرهم بالبقيع كبّر، و عرف أنهم قد قتلوه.

و بهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تناول أعراض المسلمين في أشعاره ... «1».

(1)

اغتيال مفسد آخر:

و كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء و الازعاج للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عملية فدائية جسورة على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ بصورة مفصلة «2».

و قد كانت هاتان العمليتان و امور اخرى من أسباب اندلاع معركة «احد».

و قد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

(2)

قريش تتكفل نفقات الحرب:

كانت بذور الرغبة في الانتقام و الثأر من المسلمين قد بذرت في مكة من زمان و قد ساعدت خطة المنع من البكاء و النياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 51- 56، المغازي: ج 1 ص 184- 190.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 101.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:136

كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة- المدينة- الشام، و اضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها و انزعاجها.

و لقد أجج مقتل «كعب بن الاشرف» من أوار هذا الحقد، و أوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح «صفوان بن أميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» على أبي سفيان و من كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، و قتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

(1) و لقد لقي هذا الاقتراح قبولا من أبي

سفيان و تقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشا لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة و الخسران اذ قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» «1».

و حيث إن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين و قد رأوا من كثب استقامتهم و ثباتهم في معركة «بدر» لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية و شجعانها البارزين و أبطالها المعروفين.

(2) فكلّف «عمرو بن العاص» وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يجمعوا أبطالها و صناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف و المنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين، و غزوهم و بأن يخبروهم بأن قريشا قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

و قد أثمرت نشاطات «عمرو» و رفاقه في هذا السبيل.

______________________________

(1) الانفال: 36، و راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 60، مجمع البيان: ج 2 ص 541، السيرة الحلبية: ج 2 ص 217.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:137

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعة أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالا و صناديد من بني كنانة و تهامة، فخرجت قريش و هم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل «1».

(1) و قد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، و لو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن

يشركوا نساءهم في الغزو و يخرجوهن معهم إلى القتال، و لكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، و كان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال و الصمود، و يمنعن المقاتلين من الفرار، و يذكّرن بقتلى بدر، و يشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف، و إنشاد الأشعار المثيرة للهمم و الداعية إلى الثأر و لأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، و هو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة و الحمية على العرض سببا للمقاومة و الصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد و الرقيق طمعا في العتق الذي و عدوا به إن نصروا أسيادهم و قاتلوا بين أيديهم، و ذلك مثل «وحشي» و كان غلاما حبشيا لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده: أخرج مع الناس فإن نلت محمدا أو عليّا أو حمزة فأنت عتيق «2».

و على أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشا كبيرا قويا يتألف من سبعمائة دارع، و ثلاثة آلاف فارس، و مشاة كثيرين، و قد خرجوا بعدة و سلاح كثير.

(2)

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ:

فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب «3» كتابا يضم

______________________________

(1) اختلف علماء التفسير و التاريخ كعلي بن ابراهيم و الشيخ الطبرسي في إعلام الورى، و ابن هشام و الواقدي في عدد المشركين و الكفار في هذه المعركة، و ما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 96.

(3) و كان العباس كما أسلفنا ممن أسلم و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة و لكنه ظلّ يكتم

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:138

تقريرا مفصلا عن نوايا و استعدادات قريش، و ختمه و استأجر رجلا من بني غفار و اشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام و يوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم، فقرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اطلع على ما فيه، و لكنه كتم محتواها عن أصحابه «1».

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنه قال:

كان مما منّ اللّه عزّ و جلّ على رسوله صلّى اللّه عليه و آله أنه كان لا يقرأ و لا يكتب، فلما توجّه أبو سفيان الى «احد» كتب العباس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاءه الكتاب و هو في بعض حيطان المدينة فقرأه و لم يخبر أصحابه، و أمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم «2».

(1)

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة:

تحرّك جيش قريش باتجاه المدينة، و بعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء، و هي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله السيدة «آمنة بنت وهب» فقال فتية من قريش: تعالوا ننبش قبر أم محمّد، فانّ النساء عورة، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة امّك، فان كان برّا بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة أمّة، و ان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة امّه بمال كثير إن كان بها برّا.

______________________________

ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش و رصد تحركاتهم و اخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنواياهم.

راجع السيرة الحلبية: ج 10 ص 198.

(1) المغازي: ج

1 ص 203، و يرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة و كان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أبي بن كعب فقرأها عليه، و قد روى الواقدي هذا الوجه أيضا (ج 1 ص 204) و مع أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:139

و استشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه و شجبوه بشدة و قالوا:

لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر و خزاعة (و هم أعداء قريش) موتانا «1».

(1) و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، «أنسا» و «مونسا» ابني «فضالة» للتجسس على قريش خارج المدينة، و اخباره صلّى اللّه عليه و آله بتحركاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، و انهم قد سرحوا إبلهم و خيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر «الحباب بن المنذر» هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، و ان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل احد، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد بعث الحباب سرا و قال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى قلة.

و بخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

و حيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العدو، أن يهاجموه ليلا، لذلك باتت وجوه الأوس و الخزرج (الانصار) ليلة الجمعة و عليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحرسونه، و حرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

(2)

منطقة «احد»:

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يسمى آنذاك ب «وادي القرى»، و كانت القبائل العربية من اليهود و غير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة و مستلزمات الحياة، و لهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه و قد سوّرت بأسوار من الحجارة،

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 206.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:140

و كانت يثرب مركز هذه القرى و امها و هي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول، و من ثم «المدينة» تخفيفا و اختصارا.

و كان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب و حيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمرا عسيرا و في غاية الصعوبة.

(1) من هنا عمدت قريش- عند ما وصل جيشها الى مشارف المدينة- تحاشت هذه المنطقة، و دخلت من شمال المدينة، و استقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «احد»، و قد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، و لسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، و خير ميدان للقتال و الحرب.

و قد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرء يرى فيها موانع طبيعية.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «احد».

و بقي النبي ذلك اليوم و ليلته في المدينة، و في يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عقد شورى عسكرية، و استشار قادة جيشه و أهل الخبرة و الرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، و التكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون «1».

(2)

المشاورة في كيفية الدفاع:

كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

قد امر من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الامور العسكرية و ما يشابهها و يشركهم في قراراته و خططه التي يتخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درسا كبيرا للمسلمين، و يوجد بين أصحابه و أتباعه روح الديمقراطية (الصحيحة) و تحري الحق، و الموضوعية.

______________________________

(1) لم تكن هذه هي المرة الأولى و الأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه و قد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور و الهدف منه في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:141

و لكن هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟

و ينتفع بآرائهم و نظرياتهم، و مقترحاتهم، أم لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة و رواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم و دراساتهم، و للقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو: أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بعده، و لقد كانت هذه السيرة مؤثرة جدا بحيث استخدم الخلفاء و الأمراء من بعده من اسلوب التشاور و الشورى، و كانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي عليه السلام و نظرياته السامية في الامور العسكرية، و المشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

(1)

المشاورات العسكرية:

لما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعا كبيرا من صناديد أصحابه، و قادة جيشه و جنوده و قال بصوت عال: «أشيروا عليّ» «1».

و هو يطلب بذلك من اولئك الجنود و القادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، و طريقة الدفاع عن حوزة

الاسلام و صرح التوحيد المهددة من قبل قريش و المتحالفين معهم من أحزاب الشرك، و أتباع الوثنية.

فقام «عبد اللّه بن ابي بن سلول» و كان من منافقي المدينة، و طرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، و القتال فيها على غرار حرب الشوارع. و ذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها، و يستخدموا أبراجها و سطوحها لمقاتلة العدوّ و دفعه فترمي النساء العدوّ بالأحجار من السطوح، و يقاتل الرجال أفراده في الشوارع و الأزقة قائلا: يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها، و نجعل النساء

______________________________

(1) راجع الخطبة 134 من نهج البلاغة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:142

و الذراري في هذه الصياصي و نجعل معهم الحجارة، و نشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية و ترمي المرأة و الصبي من فوق الصياصي و الآطام، و نقاتل بأسيافنا في السكك (أي الطرقات).

(1) يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط، و ما خرجنا إلى عدوّ قط إلّا أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس، و ان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.

و كان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المهاجرين و الأنصار، إلّا أن الفتيان من المسلمين و بخاصة من لم يشهد منهم بدرا و كانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة، و رفضوه بقوة و طلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، و رغبوا في الشهادة، و أحبّوا لقاء العدو.

و قالوا: إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا، و قد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، و نحن اليوم بشر كثير، قد

كنا نتمنى هذا اليوم و ندعوا اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

و قال «حمزة» بطل الاسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة «1».

(2)

الاقتراع من أجل الشهادة!!:

و قام خيثمة أبو سعد بن خيثمة- و هو شيخ يقظ البصيرة- و قال: ان قريشا مكثت حولا تجمع الجموع، و تستجلب العرب في بواديها، و من تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل و امتطوا الابل، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا، و صياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، و يصيبوا أطرافنا، و يضعوا العيون و الارصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا،

______________________________

(1) المغازي ج 1 ص 211 و بحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. و أن يتعاون معهم يهود المدينة أيضا فتكون حينئذ الضربة القاضية للاسلام و المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:143

و يجترئ علينا العرب حولنا، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا، و عسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الاخرى:

الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر، و قد كنت عليها حريصا، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت «1» ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، و قد كنت حريصا على الشهادة و قد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة و أنهارها، و هو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا.

و قد و اللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة، و قد

كبرت سني و رقّ عظمي، و أحببت لقاء ربّي فادع اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة و مرافقة سعد في الجنة!!! «2».

(1) إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة و شرف الدين، و رزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اسس الايمان باللّه و اليوم الآخر قلما تنتج جنديا فدائيا مخلصا مثل خيثمة، و من شاكله.

إن روح الفداء و التفاني و الايثار بالنفس و التضحية بالغالي و الرخيص، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق، و إعزاز التوحيد باصرار و شوق لا توجد إلّا في مدرسة الأنبياء و المرسلين، و لا تحصل الّا في ضوء تربيتهم.

و اما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب و المعارك لم يكن قط إلّا الحصول على وضع معيشي أفضل، فانّه لا يهم الجنود فيها إلّا الحفاظ على أرواحهم و حياتهم

______________________________

(1) اي اجريت القرعة بيني و بين ولدي.

(2) المغازي: ج 1 ص 212 و 213.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:144

فذلك هو أكبر هدف لديهم، و من هنا تندر عندهم روح التفاني و التضحية.

و أما في مدرسة الأنبياء فان المعارك و الحروب لا يهدف منها إلّا ابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، و عرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

(1)

حصيلة الشورى:

لقد أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برأى الاكثرية التي كانت

ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، و رجح هو صلّى اللّه عليه و آله البقاء في المدينة و قتال العدو داخلها، إذ لم يكن من الصالح- بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة، و سعد بن عباده و نظرائهم، و أصروا عليه- أن يأخذ برأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافا الى أن حرب الشوارع و المدن غير المنظم في داخل سكك المدينة و أزقتها الضيقة، و اشتراك النسوة في الأمور الدفاعية، و الجلوس في البيت، و السماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز، و الوهن، و هو أمر لا يليق بالمسلمين، و لا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة «بدر»، و هزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة و سيطرة العدوّ على مداخلها و طرقاتها، و سكوت جنود الاسلام على ذلك من شأن أن يقتل الروح القتالية، و الفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

و يمكن أن يكون «عبد اللّه بن أبيّ بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة و عدم الخروج لمجابهة العدوّ، و مواجهته بشجاعة) كان يريد- في الحقيقة- أن يوجّه ضربة الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله!!

(2)

النبيّ يلبس لامة الحرب:

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو و الدفاع، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:145

و آله بيته و لبس لامته، و قد لبس الدرع فأظهرها و حزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم و اعتم و تقلّد السيف، و خرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين و هزهم بشدة و تصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، و خشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، و قالوا معتذرين: يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك (أو: ما كان لنا أن نستكرهك و الأمر الى اللّه ثم إليك).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل» «1».

(1)

النبيّ يخرج من المدينة:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى بالناس الجمعة و خرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصدا احد، و ذلك بعد أن قال لهم:

«انظروا إلى ما أمرتكم به فاتّبعوه امضوا على بركة اللّه فلكم النصر ما صبرتم» «2».

و قد أجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة و رافع و كان راميا جيدا، ورد اسامة بن زيد و عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب «3».

ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد اللّه بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة و يخرجوا مع المسلمين، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يسمح بذلك لأسباب خاصة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 23، المغازي: ج 1 ص 214، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 38.

(2) المغازي: ج 1 ص 214.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 66.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:146

(1) و سار النبيّ و أصحابه حتى اذا كانوا بمنطقة بين المدينة و احد تسمى «الشوط» انعزل عنه «عبد اللّه بن أبي بن سلول» و عاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ برأي الفتية و

الشباب، و رفض اقتراحه و هو البقاء في المدينة.

و من هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهود و لا حزب النفاق.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى «مربع بن قيظي» و كان ضريرا، فامتنع من ذلك، و اساء بالقول الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر» «1».

(2)

جنديان فدائيان:

استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه في منطقة تدعى بالشيخين «2»، و كانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف، و تعكس إصرارا كبيرا على قتال الكفار، و مجاهدة المشركين.

و لقد كان جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل احد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتا كبيرا.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن و فيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

و لقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 65، المغازي: ج 2 ص 218.

(2) و لقد كان من عادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام، و عدّهم، و تسريح بعض العناصر الضعيفة احيانا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:147

ما كان ليتوفر إلّا في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس، ليس إلّا.

(1) و لإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن، و شاب لم يمض من عرسه إلّا ليلة واحدة!!

(2) 1-

كان «عمرو بن الجموح» رجلا شيخا أعرج شديد العرج و قد اصيب في رجله في حادثة. و كان له بنون أربعة مثل الاسود، يشهدون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشاهد، فلما كان يوم «احد» أراد ان يخرج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد أبت نفسه أن تفوته الشهادة، و أن يجلس في بيته و لا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة، و إن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله و بنوه حبسه و قالوا له: إنّ اللّه عزّ و جل قد عذرك، و لم يقتنع بمقالتهم، و أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه و الخروج معك فيه، فو اللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له:

«أمّا أنت فقد عذرك اللّه و لا جهاد عليك» «1».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لبنيه و قومه:

«لا عليكم أن لا تمنعوه، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة».

فخلّوا عنه، و خرج و هو يقول: اللهمّ ارزقني الشهادة و لا تردني الى أهلي.

و قد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة «احد» العظيمة، و من قصصها الرائعة، فقد كان يحمل- و هو على ما هو عليه من العرج- على الاعداء و يقول: «أنا و اللّه مشتاق إلى الجنّة» و ابنه يعدو في أثره حتّى قتلا جميعا «2».

______________________________

(1) لقول اللّه تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» (الفتح: 17).

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 90 و 91، المغازي: ج 1 ص 265.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:148

(1) 2- «حنظلة» و

هو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة و العشرين من عمره آنذاك. و هو ابن «أبي عامر» عدوّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي كان مصداقا لقول اللّه تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ».

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة «احد» إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان ممن يكيدون للاسلام و ممن حرّض قريشا ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير، و لم يأل جهدا في هذا السبيل.

و قد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد «ضرار» التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة و البنوة و ما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه، ما دام أبوه على باطل و هو (أي حنظلة) على الحق فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى «احد» لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته، فقد تزوج بابنة «عبد اللّه بن ابيّ بن سلول» و كان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف و العرس في الليلة التي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى «احد» في صبيحتها المنصرمة.

(2) و لكنه عند ما سمع مؤذن الجهاد، و دوّى نداؤه في اذنه بحيّر في ما يجب أن يفعله، فلم يجد مناصا من أن يستأذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس و يقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

و قد نزل في هذا الشأن- على رواية العلّامة المجلسي- قوله تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» «1».

______________________________

(1) النور: 62.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:149

فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة و دخل بها، و لما اصبح خرج من فوره و توجه إلى «احد» و هو جنب.

(1) و لكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار، و اشهدت عليه أنه قد واقعها.

فقيل لها: لم فعلت ذلك؟

قالت: رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة، فكرهت أن لا اشهد عليه.

و لما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس و سقط أبو سفيان إلى الأرض، و صاح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان، و هذا حنظلة يريد قتلي، و عدا أبو سفيان، و جرى حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه و قتله، و سقط حنظلة الى الأرض بين حمزة و عمرو بن الجموح و عبد اللّه بن حزام و جماعة من الأنصار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بين السماء و الارض بماء المزن في صحائف من ذهب» «2».

فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

و كانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول: «و منا حنظلة غسيل الملائكة».

و كان أبو سفيان يقول: حنظلة بحنظلة و يقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة و بالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر

«3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 57.

(2) و (3) اسد الغابة: ج 2 ص 59 و 60، بحار الأنوار: ج 20 ص 57 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:150

(1) إنه حقا عجيب أمر هذين العروسين (الزوجين) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما، من اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خصومه الالداء.

فعبد اللّه بن أبيّ بن سلول (والد العروس) كان رأس المنافقين في المدينة، و كان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معاديا أشد العداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد التحق بالمشركين في مكة، كما حرّض «هرقل» لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة، ثم اشترك في معركة احد ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قاتل المسلمين قتالا شديدا «1».

(2)

العسكران يصطفّان:

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية، و كان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى احد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. و قد كان في جبل احد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ و يباغت المسلمين من الخلف، و يوجّه إليهم ضربة قاضية.

و لهذا عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة، و أمّر عليهم «عبد اللّه بن جبير» و قال:

انضح الخيل عنّا بالنبل، و احموا لنا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، و الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم».

و لقد أثبتت حوادث «احد» التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكريا، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في

بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ و اخلاء ذلك الموقع الإستراتيجي، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة، و يحمل عليهم، و يوجه عليهم ضربة قوية!!

______________________________

(1) أسد الغابة: ج 2 ص 59 و 60، بحار الأنوار: ج 20 ص 57 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:151

(1) إنّ أمر النبيّ المؤكد و المشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال و قوانين الحرب، و بما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية، و عدم التقيد بأوامر القائد.

و لقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية التي قام بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد، و تعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال: «و إذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال و اللّه سميع عليم» «1».

(2)

رفع معنويات الجنود و تقوية عزائمهم:

لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليغفل في المعارك و الحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود، و ما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضا لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح، خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين، و ذلك بعد ان نظم صفوفهم و سوّاها.

فلقد كتب «الواقدي» المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي:

جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرماة خمسين رجلا على «عينين» عليهم «عبد اللّه بن جبير»، و جعل «احدا» خلف ظهره، و استقبل

المدينة، ثم جعل صلّى اللّه عليه و آله يمشى على رجليه يسوّي تلك الصفوف، و يبوّئ أصحابه

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 495، الكشاف: ج 1، ص 346- 347.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:152

للقتال يقول تقدّم يا فلان، و تأخر يا فلان، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

(1) ثم قام صلّى اللّه عليه و آله فخطب الناس فقال:

«يا أيّها الناس، أوصيكم بما أوصاني اللّه في كتابه من العمل بطاعته، و التناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر و ذخر. لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر و اليقين و الجدّ و النشاط فانّ جهاد العدوّ شديد، شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم اللّه رشده، فان اللّه مع من أطاعه، و إنّ الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، و التمسوا بذلك ما وعدكم اللّه، و عليكم بالذي أمركم به، فانّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف و التنازع و التثبيط من أمر العجز و الضعف ممّا لا يحبّ اللّه، و لا يعطي عليه النصر و لا الظفر.

و إنّه قد نفث في روعي الروح الأمين إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها، و لا ينقص منه شي ء و أن ابطأ عنها ... المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد و السلام عليكم» «1».

(2)

العدوّ ينظّم صفوفه:

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده و قسّمهم إلى ثلاثة أقسام:

الرماة، و جعلهم في الوسط، و الميمنة و استعمل عليهم خالد بن الوليد، و الميسرة، و استعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. و قدّم جماعة فيهم حملة الألوية و الرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات و

كانوا جميعا من بني عبد الدار: إنا إنما اتينا يوم بدر من اللواء، و إنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم و حافظوا عليه، أو خلوا بيننا و بينه فانا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثارا حديث العهد.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 221- 223.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:153

فشقّ هذا الكلام على «طلحة بن أبي طلحة» و كان شجاعا، و هو أوّل من حمل راية لقريش، فاندفع من فوره الى ساحة القتال، و طلب المبارزة، متحديا بذلك أبا سفيان.

(1)

الإثارة النفسيّة و إلهاب الحماس:

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفا بيده و قال:

- و هو يثير بذلك همم جنوده-.

«من يأخذ هذا السيف بحقّه»؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري، فقال: و ما حقّه يا رسول اللّه؟

قال: «أن تشرب به العدوّ حتى ينحني».

قال: أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إياه، و كان أبو دجانة رجلا شجاعا، يختال عند الحرب اذا كانت، و كان اذا أعلم، أعلم بعصابة له حمراء، فاعتصب بها علم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه، و جعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «انها لمشية يبغضها اللّه إلّا في هذا الموطن» «1».

(2) حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية، و هذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعا عن الحق و القيم، و لا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة، و حب الكمال.

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده، بل كان صلّى اللّه عليه و آله يهدف بذلك إثارة الآخرين، و إفهامهم بأن عليهم

أن يبلغوا في الشجاعة و البطولة، و الجرأة و الإقدام هذا المبلغ.

(3) يقول «الزبير بن العوّام» و هو كذلك رجل شجاع: وجدت في نفسي حين

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 66 و 67.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:154

سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السيف فمنعنيه، و أعطاه أبا دجانة و قلت:

أنا ابن صفيّة عمته، و من قريش و قد قمت إليه فسألته إياه، فاعطاه إياه و تركني! و اللّه لانظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصّب بها رأسه، فقالت الانصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، و هكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها.

فخرج و هو يقول:

أنا الّذي عاهدني خليلي و نحن بالسفح لدى النخيل

ألّا أقوم الدهر في الكيّول «1»أضرب بسيف اللّه و الرّسول فجعل لا يلقى أحدا إلّا قتله، و كان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلّا ذفّف عليه، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت اللّه أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، و ضربه أبو دجانة، فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق «هند بنت عتبه» ثم عدل السيف عنها، فقلت: اللّه و رسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال: رأيت انسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة، فأكرمت سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أضرب به امرأة «2».

(1)

القتال يبدأ:

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا، و كان من الأوس، و قد فرّ معه خمسة عشر رجلا من الأوس بسبب معارضته للاسلام.

و قد تصوّر

أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم احد تركوا نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.

______________________________

(1) الكيّول: آخر الصفوف في الحرب.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 68 و 69.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:155

قالوا: فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق. فلما سمع ردّ الأوس تركهم، و اعتزل الحرب بعد قليل «1».

(1) ثم إن هناك مواقف و تضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة احد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، و أجدرها بالاجلال تضحيات علي عليه السلام و مواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء و الراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد: تلت بدرا غزاة احد و كانت راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد أمير المؤمنين عليه السلام فيها و مما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال: حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي، قال: كانت راية قريش و لواؤها جميعا بيد قصى ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله فصارت راية قريش و غيرها الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودان و هي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر و هي البطشة الكبرى في يوم احد و كان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله مصعب بن عمير فاستشهد و وقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية و اللواء «2».

و قد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال: لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره (هو) أول عربي و عجمي صلّى مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو الذي كان لواؤه معه في كل زخف ... «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 67.

(2) الارشاد: ص 43، بحار الأنوار: ج 20 ص 80.

(3) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:156

كما عن قتادة: ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه يوم بدر و في كل مشهد «1».

(1) ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (و كان يدعى كبش الكتيبة) فبرز و نادى: يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار، و نجهزكم بأسيافنا الى الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه علي (عليه السلام) و هو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول لكم خيول و لنا نصول

فاثبت لننظر ايّنا المقتول و أيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد المسئول بصارم ليس به الفلول

ينصره القاهر و الرسول ثم تصاولا بعض الوقت قتل بعده طلحة بضربة علي (عليه السلام) القاضية.

فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي عليه السلام على التناوب فقتلا جميعا على يديه (عليه السلام).

هذا و يستفاد من كلام لعلي عليه السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

(2) فقد

قال الامام عليه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة:

«نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلّهم يأخذ اللواء، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم و هو يقول لا أقتل بسادتي إلّا محمدا، قد ازبد شدقاه، و احمرّت عيناه، فاتّقيتموه، وحدتم عنه، و خرجت إليه، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا و هو ضربتين، فقطعته بنصفين و بقيت عجزه و فخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون و يضحكون منه».

قالوا: اللهم لا «2».

______________________________

(1) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر: ج 9 ص 142.

(2) الخصال: ص 560.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:157

أجل ان قريشا كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار و قد قتلوا جميعا على يد الامام علي عليه السلام على التوالي فبرز غلامهم و قتل هو أيضا «1».

(1)

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات التي كانت تتغنّى بها «هند بنت عتبة» زوجة أبي سفيان و من كان معها من النساء في تحريض رجال قريش و حثهم على القتال و اراقة الدماء و المقاومة، و يضربن معها الدفوف و الطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر و الحرية، و الخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية و من أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني و الأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي:

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق (2) و لا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات، و يكون دافعها الى الحرب و القتال هو الجنس و اللذة، و بالتالي لا تهدف سوى

الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف اختلافا بيّنا و كبيرا عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية، و رفع مستوى الفكر، و تحرير البشرية من براثن الجهل و أسر الخضوع للاوثان.

و لا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل و سلوكه.

و لهذا لم يمض زمان طويل إلّا و وضعت قريش أسلحتها على الارض و ولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اصيبت باصابات قوية بفضل صمود و تضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ و حمزة و أبي دجانة و الزبير و ... مخلّفة وراءها غنائم

______________________________

(1) و قد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار: ج 20 ص 81- 82.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:158

و أموالا كثيرة، و أحرز المسلمون بذلك انتصارا عظيما على عدوهم القوي في تجهيزاته، الكثير في افراده «1».

(1)

الهزيمة بعد الانتصار:

قد يتساءل سائل: لما ذا انتصر المسلمون اولا؟

لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون، و لا يحدوهم في ذلك شي ء حتى لحظة الانتصار إلّا الرغبة في مرضاة اللّه، و نشر عقيدة التوحيد، و إزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

و قد يتساءل: و لما ذا انهزموا أخيرا؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين و نواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركها قريش في أرض المعركة، و فروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين، و نسوا على أثره أوامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

و إليك فيما يأتي تفصيل الحادث:

(2) لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة احد أنه كان في «جبل احد» شعب (ثغرة) و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله خمسين رجلا من الرماة بمراقبة ذلك الشعب، و حماية ظهر الجيش الاسلامي، و أمّر عليهم «عبد اللّه بن جبير»، و كان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل و يدفعوها عن المسلمين بالنبل و يمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها و لا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا، غلبوا أو غلبوا.

و فعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، و يرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّى هاربة، حتى إذا ظفر النبيّ و أصحابه، و انكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شي ء، و قد تركوا على أرض المعركة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 68، تاريخ الطبري: ج 2 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:159

غنائم و أموالا كثيرة، و قد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بذل النفس في سبيل اللّه و مضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر و يجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ و قد اغمدوا السيوف، و نزلوا عن الخيول ظنا بأن الأمر قد انتهى.

(1) فلما رأى الرماة المسئولون عن مراقبة الشعب ذلك قالوا لأنفسهم: و لم نقيم هنا من غير شي ء و قد هزم اللّه العدوّ فلنذهب و نغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم (عبد اللّه بن جبير): أ لم تعلموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لكم: احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، و إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، و إن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟

و لكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا و قالوا: لم يرد رسول اللّه هذا، و قد أذلّ اللّه المشركين و هزمهم.

و لهذا نزل أربعون

رجلا من الرماة من الجبل و دخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال و قد تركوا موضعهم الإستراتيجي في الجبل، و لم يبق مع عبد اللّه بن جبير إلّا عشرة رجال!!

(2) و هنا استغل «خالد بن الوليد» الذي كان مقاتلا شجاعا، قلّة الرماة في ثغرة الجبل، و كان قد حاول مرارا أن يتسلل منها و لكنه كان يقابل في كل مرة نبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة و بعد أن قاتل من بقي عند الثغرة و قتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل و هاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، و غافلين عما جرى فوق الجبل، و وقعوا في المسلمين ضربا بالسيوف و طعنا بالرماح، و رميا بالنبال، و رضخا بالحجارة، و هم يصيحون تقوية لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين، و عادت فلول قريش تساعد خالدا و جماعته، و أحاطوا جميعا بالمسلمين من الأمام و الخلف، و جعل المسلمون يقاتلون حتى قتل منهم سبعون رجلا.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحت تأثير المطامع المادية و تركهم ذلك المكان الإستراتيجي عسكريا و الذي اهتم به القائد الاعلى صلّى اللّه عليه و آله، و أكد بشدة على المحافظة عليه، و دفع أيّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:160

هجوم من قبل العدوّ عليه. و بذلك فتحوا الطريق- من حيث لا يشعرون- للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي، و وجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

(1) و لقد ساعد خالدا في هذا «عكرمة بن أبي جهل» الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين، و ساد

على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج و المرج، و عمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة، و لم ير المسلمون مناصا من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين، و لكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع، بل تحمّلوا- كما أسلفنا- خسائر كبرى في الأرواح، و قتل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ و من دون قصد.

و لقد صعّدت حملات خالد و عكرمة من معنويات المشركين، و نفخت فيهم روحا جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل، و دخلت ساحة المعركة ثانية، و ساعدت جماعة منهم خالدا و عكرمة و حاصروا المسلمين من كل ناحية و قتل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!

(2)

شائعة مقتل النبيّ:

و في هذا الأثناء حمل «الليثي» «1» و كان من صناديد قريش و أبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة و هو يظن أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبودلت بينهما طعنات و ضربات حتى قتل «مصعب» بضربه قاضية من الليثي، و كان المسلمون يومئذ ملثّمون، ثم صاح: قتلت محمّدا، أو قال ألا قد قتل محمد، ألا قد قتل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم و علمت قريش بذلك فسروا بذلك سرورا عظيما، و ارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي: ألا قد

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن قمئة الليثي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:161

قتل محمّد، ألا قد قتل محمّد.

(1) و لقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله و أفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عضوا، و بذلك ينال

فخرا في أوساط المشركين!!

و بقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين، ترك أثرا سيئا جدا في نفوس المسلمين، و أضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال، و لجئوا إلى الجبل فرارا بأنفسهم، و لم يثبت الّا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.

(2)

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض؟

لا يمكن أبدا أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة، و لا يمنع كونهم صحابة، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلا:

انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين و الأنصار، و قد ألقوا بايديهم «1» فقال:

ما يجلسكم؟ (اي ما يقعدكم عن القتال و المقاومة).

قالوا: قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قتل.

أو قال: حسب رواية كثير من المؤرخين:- ان كان محمد قد قتل فان ربّ محمّد لم يقتل، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقاتلوا على

______________________________

(1) اي استسلموا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:162

ما قاتل عليه رسول اللّه، و موتوا على ما مات عليه ثم قال: اللّهم إنّي اعتذر إليك مما يقوله هؤلاء، و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قتل.

(1) و يروي ابن هشام عن أنس بن مالك

(ابن أخ انس بن النضر) لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلّا اخته عرفته ببنانه «1».

و كتب الواقدي في مغازيه يقول:

حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي جهم و اسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث و هو بالشام يقول: الحمد للّه الذي هداني للاسلام، لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطاب حين جالوا و انهزموا يوم احد و ما معه أحد و أنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبت عنه و خشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه موجّها إلى الشعب «2».

و قد بلغ الانهزام و الضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال: ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!! «3».

(2)

القرآن يكشف عن بعض الحقائق:

إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل و التعصب التي اسدلت على هذه المسألة، و تفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الظفر، و النصر لا أساس له من الصحة، فان اللّه تعالى يقول في هذا الصدد:

«وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» «4».

و في امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 83 راجع تفسير المنار: ج 4 ص 102.

(2) المغازي: ج 1 ص 237.

(3) بحار الأنوار: ج 20 ص 27

(4) آل عمران: 154.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:163

المجال بالتمعن في آيات

من سورة آل عمران «1».

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوفياء لعقيدة التوحيد، متفانين في سبيله، بل كان منهم الضعيف في ايمانه و المنافق، و المتردد، و مع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء و الصالحون الأبرار قلة أيضا.

و من العجيب و المؤسف أن يسعى بعض الكتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثير من المواقف و الاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة احد، و يحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة، و مكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة، و هذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة:

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» «2».

(2) إن هذه الآية تقصد اولئك الّذين رآهم أنس بن النضر، و من شابههم من الذين تركوا ساحة المعركة، و لجئوا إلى الجبل، و جلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

و الأوضح من الآية السابقة قول اللّه تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» «3».

إن اللّه تعالى يعاتب و يوبّخ الّذين تذرّعوا- لفرارهم من المعركة- بنبإ مقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على يد العدوّ، و راحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد اللّه بن أبي اذ يقول:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ

مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «4».

______________________________

(1) الآيات: 121- 180.

(2) آل عمران: 153.

(3) و (4) آل عمران: 155 و 144.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:164

(1)

التجارب المرة:

إن في أحداث معركة «احد» و وقائعها تجارب مرة و اخرى حلوة فهذه الحوادث و الوقائع تثبت بجلاء صمود و استقامة جماعة، و ضعف و هزيمة آخرين.

كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتقياء عدولا بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل، يوم احد و عصوا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك اللحظات الخطيرة، و جرّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى، كانوا أيضا ممّن صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2) يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد: «بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد ثمانية على الموت: ثلاثة من المهاجرين علي و طلحة و الزبير، و خمسة من الأنصار» فثبتوا و هرب الآخرون «1».

و كتب العلامة أبن أبي الحديد المعتزلي أيضا: حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه اللّه في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية، و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ: حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال: سمعت اذناي، و أبصرت عيناي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول يوم احد، و قد انكشف الناس الى

الجبل و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه، سمعته يقول:

«إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه».

فما عرّج عليه واحد منهما، و مضيا!! فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.

فقلت: و ما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما. (أي اللذين تسنّما مسند الخلافة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:165

بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله)

فقلت: و يجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار، و ما شابهه من العيب، فيضطرّ القائل إلى الكناية إلّا هما.

قلت له: هذا ممنوع.

فقال: دعنا من جدلك و منعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، و أنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحا «1».

(1) كما أنّ العلّامة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضا اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم احد «2».

و ستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن امرأة مجاهدة متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى «نسيبة المازنية» دافعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد.

فقد لمّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كلامه عنها و عن موقفها العظيم يومذاك، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة، و إماطة اللثام عن الواقع، فبقدر ما نستنكر، و نقبّح فرار من فرّ، نكبر صمود من صمد و ثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة، و هذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق

أو تقتضيه أمانة النقل، و ما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.

(2)

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ:

في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين، و انفرط عقده، و في الوقت الذي تركزت فيه أن حملات المشركين من كل ناحية على رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 15 ص 23 و 24.

(2) المغازي: ج 1 ص 278 و 279.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:166

اللّه عليه و آله تعاهد خمسة أنفار من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهاية لحياة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و يقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن «1».

(1) و هؤلاء هم:

1- عبد اللّه بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

2- عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأربعة أحجار فكسر رباعيته صلّى اللّه عليه و آله، و جرح باطنها، من الجهة اليمنى.

3- ابن قميئة الليثي الذي رمى و جنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلّى اللّه عليه و آله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا و السفلى.

4- عبد اللّه بن حميد الذي قتل على يد بطل الإسلام أبي دجانة و هو يحمل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

5- ابيّ بن خلف و كان من الذين قتلوا بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه.

فهو واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما وصل صلّى اللّه عليه و آله إلى الشعب، و قد عرفه بعض أصحابه و أحاطوا به، فجعل يصيح بأعلى صوته:

يا محمّد لا نجوت ان نجوت، و حمل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لما دنا

تناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحربة من «الحارث بن الصمّة»، ثم انتفض انتفاضة شديدة و طعن «ابيّا» بالحربة في عنقه، و هو على فرسه، فجعل ابيّ يخور كما يخور الثور!

(2) و مع أن ما أصاب ابيّا من جراحة كان يبدو بسيطا، إلّا أنه تملّكه رعب و خوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه، و لم يذهب عنه الروع بكلامهم، و كان يقول: و اللات و العزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز «2» لماتوا أجمعون.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 243.

(2) كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب و هو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب (معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي: ص 508).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:167

أ ليس قال: (أي النبيّ يوم كان بمكة) أنا أقتلك إن شاء اللّه، قتلني و اللّه محمّد!!

و قد فعلت الطعنة، و كذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف (و هو موضع على ستة أميال من مكة) فيما كانت قريش قافلة من احد الى مكة «1».

(1) حقا إن هذا ينمّ عن منتهى الدناءة و الخسة في خلق قريش و موقفها، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعترف به، و تنكر أن يكون قد صدر منه كذب في قول، أو خلف في وعد، كانت تعاديه أشدّ العداء، و تمدّ نحوه يد العدوان، و تبغي مصرعه، و تسعى إلى اراقة دمه!!

كما أنه من جهة اخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و بطولته و مقدرته الروحية الكبرى، من ناحية اخرى، و ثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يدافع عن رسالته السماوية، و عن حياض عقيدته التوحيدية العظمى، و يصمد لاعداء صمود الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت و كان منه قاب قوسين أو أدنى.

و مع أنه كان صلّى اللّه عليه و آله يرى أن كل همّ المشركين و كل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه، إلّا أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه و اضطرابه، و لقد صرح المؤرخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي و نادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يا لهبل] فارجعوا في المسلمين قتلا ذريعا، و نالوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نالوا. و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله شبرا واحدا بل وقف في وجه العدوّ، و أصحابه تثوب إليه مرة طائفة و تتفرق عنه مرة، و هو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا «2».

(2) نعم غاية ما سمع من صلّى اللّه عليه و آله هو ما قاله عند ما كان يمسح الدم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 84، المغازي: ج 1 ص 251.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 131، المغازي: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:168

عن وجهه المبارك اذ قال:

«كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم و هو يدعوهم إلى اللّه؟!» «1».

إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.

(1) بينما تكشف كلمة قالها علي عليه السلام عن شجاعته صلّى اللّه عليه و آله الفائقة إذ قال:

«كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه» «2».

من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلّى اللّه

عليه و آله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه، و عن نفسه، و الى شجاعته في المعارك.

و لقد كانت ثمة علل و أسباب صانت هي الاخرى حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أن يلحقها خطر أو ضرر، الا و هو تضحية و تفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و بذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد، و هذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله و انكسرت سية قوسه، و انقطع وتره «3».

(2) على أن الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد «4»، و حتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعا غير مقطوع به من منظار علم التاريخ، و من زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين، و أرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم و مواقفهم بشي ء من التفصيل.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 102.

(2) نهج البلاغة: فصل في غريب كلامه رقم 9.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 107.

(4) شرح نهج البلاغة: ج 15 ص 20 و 21.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:169

(1)

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد:

لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافا، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا- و خلافا لتوقعات العدو الحاقد- أن يصونوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققا، و هذا هو انتصار مجدّد أصابه جند

الاسلام.

أما إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين، و إلّا فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتق عدد معدود جدا من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الاكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم، و تعريضها للخطر الجدي.

و في الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية، و بقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلة إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل اللّه و رسوله.

و إليك فيما يلي استعراضا إجماليا لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة و الدين:

(2) 1- إن أول و أبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد و التضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس و العشرين من عمره ...، هو الذي رافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سني صغره و بدايات حياته و حتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله.

إن بطل الاسلام الاكبر و ان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية و الفداء في سبيل نشر الاسلام و الدفاع عن حوزة التوحيد، و ارساء دعائمه.

و في الاساس ان هذا الانتصار المجدّد- على غرار الانتصار الأول- إنما جاء نتيجة لبسالة و بطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش و فرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:170

مقتل كل حملة اللواء على يد الامام علي عليه السلام، و بالتالي نتيجة للرعب الذي القي في قلوبهم لما رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر، الأمر الذي سلبهم القدرة على المقاومة.

(1)

إن الكتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الاسلامي بالتحليل و الدراسة، لم يعطوا عليا عليه السلام- و للأسف- حقه في هذه الموقعة، أو على الأقلّ لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرخون، و تطابقت في اثباته التواريخ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ عليه السلام و مواقفه الشجاعة و العملاقة في عداد مواقف الآخرين، و في مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ، و ذلك البطل الشجاع الذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة، و السمو.

(2) 1- يقول ابن الاثير في تاريخه «1»: كان الذي قتل أصحاب اللواء علي- قاله ابو رافع-، (قال) فلما قتلهم أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة من المشركين فقال لعليّ: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرّقهم، و قتل منهم، ثم أبصر جماعة اخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم و فرّقهم و قتل منهم، فقال جبرئيل: يا رسول اللّه هذه المواساة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنه مني و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما قال: فسمعوا صوتا:

«لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلا علي» «2».

(3) و قد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر اذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول: لما فرّ معظم أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين و قصدته كتيبة من بني كنانة، ثم من بني عبد مناة بن

______________________________

(1) الكامل: ج 2 ص 107.

(2) و مثله في تاريخ الطبري: ج 2 ص 197، ميزان الاعتدال: ج 3 ص 324، لسان الميزان: ج 4 ص 406.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:171

كنانة فيها بنو سفيان بن عويف،

و هم خالد بن ثعلب و أبو الشعثاء بن سفيان و أبو الحمراء بن سفيان و غراب بن سفيان، و انها لتقارب خمسين فارسا و هو (أي علي عليه السلام) راجل، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه، ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة و تمام العشرة منها ممن لا يعرف اسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل، ثم كتب يقول: قلت و قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين و هو من الاخبار المشهورة وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق و رايت بعضها خاليا عنها، و سألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح.

فقلت له: فما بال الصحاح (أي مثل صحيح البخاري و مسلم و ما شاكلهما) لم تشتمل عليه؟

قال: أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة؟! «1».

(1) 2- و لقد اشار الامام علي عليه السلام نفسه في كلام مفصل له مع رأس اليهود إلى هذا الموقف اذ قال:

«ذهب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عسكر بأصحابه في سد احد و اقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد و استشهد من المسلمين من استشهد، و كان ممّن بقي من الهزيمة، و بقيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مضى المهاجرون و الانصار الى منازلهم من المدينة كلّ يقول قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قتل أصحابه، ثم ضرب اللّه عزّ و جلّ وجوه المشركين، و قد جرحت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نيفا و سبعين جراحة، منها هذه، و هذه».

ثم انه عليه السلام

ألقى رداءه، و أمرّ يده على جراحاته، و قال:

«و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه إن شاء اللّه» «2».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 250 و 251.

(2) الخصال: ص 368.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:172

(1) و قد بلغ عليّ عليه السلام- حسب رواية علل الشرائع- من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد، ان انكسر سيفه، فجاء الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتل بسلاحه و قد انكسر سيفي، فأعطاه عليه السلام سيفه ذا الفقار فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال جبرئيل في حقه و في سيفه ما مرّ «1».

و قد اشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة التي نادى بها جبرئيل إذ قال:

و حدثني بعض أهل العلم ان ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم احد: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ «2».

(2) كما عد ابن هشام في سيرته «3» القتلى من المشركين في احد (22) رجلا، و قد ذكر أسماءهم واحدا واحدا و ذكر قبائلهم، و غير ذلك من خصوصياتهم، و قد قتل منهم (12) رجلا بيد علي عليه السلام، و قتل البقية بايدي المسلمين، و نحن نعرض هنا عن ذكر اسماء اولئك المقتولين رعاية للاختصار.

هذا و نحن نعترف بأننا لم نستطع بيان كل ما قام به علي عليه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنة و الشيعة و بخاصة في موسوعة بحار الأنوار.

إن ما نستفيده من مطالعة الروايات

و الأخبار الثابتة و المتعددة في هذا المجال هو انه لم يثبت أحد في معركة «احد» كما ثبت علي عليه السلام «4».

(3) 2- أبو دجانة، و هو البطل المسلم الثاني بعد الامام علي عليه السلام في الصمود، و التضحية، و البسالة و الفداء دفاعا عن حياة النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله.

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دفاعه عنه أن

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 7، بحار الانوار: ج 20 ص 71.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 100.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 127 و 128.

(4) بحار الأنوار: ج 20 ص 84.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:173

جعل من نفسه ترسا يقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من سيوف الكفار و رماحهم، و سهامهم و أحجارهم، و قد وقعت سهام كثيرة في ظهره و لكنه ظل مترسا بجسمه دون النبيّ، و بذلك حافظ على حياته الشريفة «1».

(1) و قد جاء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له يوم «احد» بعد ان فرّ و انهزم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حاصره الكفار من كل جانب يا أبا دجانة أ ما ترى قومك، قال: بلى، قال:

«الحق بقومك و أنت في حل من بيعتي، أمّا عليّ فهو أنا و أنا هو».

فبكى أبو دجانة بكاء مرا و قال:

لا و اللّه، لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك، فالى من أنصرف يا رسول اللّه الى زوجة تموت، أو ولد يموت، او دار تخرب، او مال يفنى، أو أجل قد اقترب؟

فرّق له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يزل يقاتل حتى اثخنته الجراحة و هو في وجه و

«عليّ» في وجه، فلما سقط احتمله علي عليه السلام فجاء به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوضعه عنده فقال: يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال: سيد المرسلين ج 2 173 الدفاع الموفق أو النصر المجدد: ..... ص : 169

م «2».

(2) و قد ذكر في كتب التاريخ أشخاص آخرون كعاصم بن ثابت، و سهل بن حنيف، و طلحة بن عبيد اللّه، و غيرهم ممن يبلغ- حسب بعض الكتب- 36 شخصا ادعي أنهم ثبتوا و لم يفروا، إلّا أنّ ما هو مسلم به تاريخيا هو ثبات علي عليه السلام و أبي دجانة، و حمزة و امرأة تدعى أم عامر، و أما ثبات غير هؤلاء الأربعة فامر مظنون بل و مشكوك في بعضهم.

(3) 3- حمزة بن عبد المطلب، عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان من شجعان العرب و من المعروفين ببطولاته في الاسلام، و هو الذي أصرّ على أن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 82.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 107 و 108 عن روضة الكافي: ص 318- 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:174

يخرج المسلمون من المدينة و يقاتلوا قريشا خارجها.

و لقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أذى المشركين و الوليين في اللحظات الخطيرة، و الظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكة.

و قد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدة، و ضربه ضربه شج بها رأسه في جمع من قادة قريش و لم يجرأ احد على مقابلته.

(1) لقد كان حمزة مسلما مجاهدا و بطلا فدائيا متفانيا في سبيل الاسلام، فهو الذي قتل «شيبة» و شيبة من كبار صناديد قريش و

ابطالها، في بدر كما قتل آخرين، و لم يهدف إلّا نصرة الحق، و الفضيلة، و إقرار الحرية في حياة الشعوب و الامم.

و لقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد، و قد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت «وحشيا» و هو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر بأن يحقق غرضها، و أملها كيفما استطاع، و قالت له: لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدر عليه، و أما علي فوجدته رجلا حذرا كثير الالتفات فلا أطمع فيه، و أما حمزة فاني أطمع فيه لأنه اذا غضب لم يبصر بين يديه.

(2) يقول وحشي: و لما كان يوم احد كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنوا مني، و كان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره، فو اللّه إني لأنظر إليه يهدّ الناس بسيفه هدا ما يقوم له شي ء، فهززت حربتي- و كان ماهرا في رمي الحراب- حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (و هي أسفل البطن) حتى خرجت من بين رجليه، و ذهب لينوء نحوي، فغلب، و تركته و اياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت الى العسكر فقعدت فيه، و لم يكن لي بغيره حاجة، و انما قتلته لأعتق.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:175

(1) فلما قدمت الى مكة اعتقت ثم اقمت حتى إذا افتتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة هربت الى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليسلموا تعيّت عليّ المذاهب، فقلت: ألحق بالشام أو اليمن، أو ببعض البلاد، فو

اللّه إني لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجل: ويحك إنه و اللّه ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه، و تشهّد شهادته.

فلما قال لي ذلك، خرجت حتى قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فلم يرعه إلّا بي قائما على رأسه أتشهّد بشهادة الحق، فلمّا رآني قال: أو حشي؟!

قلت: نعم يا رسول اللّه.

قال: اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدثته بما جرى له معه، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيّب عني وجهك فلا أرينّك.

(2) أجل هذه هي الروح النبويّة الكبرى، و تلك هي سعة الصدر التي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله قائد الاسلام الأعلى، و معلم البشرية الاكبر، تراه عفى عن قاتل عمه، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجة و حجة!!

يقول وحشي: فكنت أتنكّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث كان لئلّا يراني، حتى قبضه اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما خرج المسلمون الى قتال مسيلمة الكذاب خرجت معهم، و أخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلمّا التقى الناس رايت مسيلمة الكذاب قائما في يده السيف، و ما أعرفه، فتهيأت له، و تهيّأ له رجل من الأنصار من الناحية الاخرى، كلانا يريده فهزرت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت فيه، و شد عليه الأنصاري فضربه بالسيف.

هذا هو ما ادّعاه وحشي، بيد أنّ هشام قال في سيرته: بلغني أن وحشيا لم يزل يحدّ في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول: قد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 72 و 73.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:176

(1)

4- أمّ عمارة:

لا ريب أن الجهاد

الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الاسلام، و لهذا عند ما أوفدت نساء المدينة امرأة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتتحدّث معه حول الحرمان من هذه العبادة الكبرى، فجاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: يا رسول اللّه نحن نقوم بكل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم، ليجاهدوا ببال فارغ، فلم حرمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا: «إنّ حسن التبعّل يعدل ذلك كله»، و هو صلّى اللّه عليه و آله يشير إلى أن لهذا المنع أسبابه الطبيعية و الوظيفية في طبيعة المرأة و خلقتها، و ليس هو بالتالي يعني حرمانها من شي ء فان قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها و تربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه «1».

(2) بيد أن بعض النسوة المجرّبات ربما كن يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الاسلام كسقي العطاشى، و غسل ثياب المقاتلين، و تضميد الجرحى. و بذلك كنّ يقدّمن خدمة مؤثرة في نصرة المسلمين و دعمهم.

تقول أمّ عمارة (نسيبة المازنية): خرجت أول النهار الى «احد» و أنا أنظر ما يصنع الناس، و معي سقاء فيه ماء، فانتهيت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في الصحابة، و الدولة و الريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحزت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجعلت أباشر القتال و أذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسيف، و أرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح.

(تقول راوية هذا الكلام) فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت:

يا أمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

(3) قالت: أقبل ابن قميئة و قد ولّى الناس عن رسول اللّه، يصيح:

دلّوني على

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 5 ص 398.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:177

محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير و ناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، و لقد ضربته على ذاك ضربات، و لكنّ عدوّ اللّه كان عليه درعان. هذا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينظر إليّ، فنظر الى جرح على عاتقي، فصاح بأحد اولادي و قال: «امّك امّك اعصب جرحها». فعاونني عليه.

(1) ثم إنها رأت أن ابنها جرح فاقبلت إليه و معها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطت جرحه و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينظر، ثم قالت لولدها: انهض يا بني فضارب القوم.

فأعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باستقامتها و ثباتها و ايمانها و قال:

«و من يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة»؟!

و في الأثناء اقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا ضارب ابنك فاعترضت له، و حملت عليه كالأسد المغضب و ضربت ساقه فبرك.

فازداد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعجابا بشجاعتها و تبسّم حتى بدت نواجذه و قال:

«استقدت يا أمّ عمارة الحمد للّه الذي ظفّرك و أقرّ عينك من عدوّك».

(2) و عند ما نادى منادي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى حمراء الأسد، بعد معركة احد، و طلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقه جيش المشركين، شدّت عليها ثيابها و قد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك، فلما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة حمراء الاسد ما وصل الى بيته حتى أرسل إليها عبد اللّه

بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها، فسرّ النبيّ بذلك.

(3) و لقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الايمان سرور النبيّ و اعجابه فقال في حقها مشيدا بموقفها البطل و معرضا بفرار من فرّ و هروب من هرب في معركة احد:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:178

«لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان و فلان».

و كانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد بعد أن أشاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصلابتها و مواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله داعيا لها و لأهل بيتها:

«بارك اللّه عليكم من أهل بيت رحمكم اللّه. اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنّة».

(1) و قال ابن أبي الحديد معلقا على عبارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لمقام نسبية اليوم خير من مقام فلان و فلان» قلت: ليت الراوي لم يكنّ هذا الكناية، و كان يذكر من هما بأسمائهما حتى لا يترمى الظنون إلى امور مشتبهة، و من أمانة الحديث أن يذكر الحديث على وجهه و لا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين «1».

و لكننا نعتقد أن الرجلين هما من الشخصيات التي تسنمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أحجم الراوي عن التصريح بأسمائهما إما احتراما أو تقية و خوفا.

(2)

بقية واقعة «احد»:

لقد آلت تضحيات ثلة قليلة و معدودة من رجال الاسلام المتفانين و بسالتهم الى الابقاء على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حفظها من الخطر القطعي الحتمي.

و من حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوروا يومئذ أن النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله قد قتل، و مضوا يفتشون عن جسده بين القتلى، و دفعت الحملات التي كان يقوم بها أقلية من المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد ردّت على

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 265- 267، المغازي: ج 1 ص 269 و 270، بحار الأنوار: ج 20 ص 134.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:179

اعقابها بفضل ثبات علي عليه السلام و أبي دجانة و أنفار آخرين (احتمالا) و قد رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيب شائعة مقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكي لا يصرّ العدو على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتت و التفرق، و المحنة، و من هنا صعد هو و بعض أصحابه إلى الشعب في جبل احد.

(1) و في خلال ذلك سقط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين، فأخذ علي عليه السلام بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخرجه منها، و كان أوّل من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين، «كعب بن مالك» و قد رأى عينيه صلّى اللّه عليه و آله تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أنصت.

و ذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان من شأنه أن يدفع المشركين- كما قلنا- الى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم و لهذا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله كعبا بالسكوت، فسكت كعب.

و أخيرا وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى فم الشعب، و لما عرف المسلمون بحياته صلّى اللّه عليه و آله سروا بذلك و أخذوا يتجمّعون عنده، و هم يظهرون الندامة من تركه بين الاعداء، و الفرار بأنفسهم الى الجبل، و أخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به الدم عن وجهه و صبّ منه على رأسه و قال:

«اشتدّ غضب اللّه على من دمّى وجه نبيّه» «1».

(2)

العدوّ يحاول استغلال الفرصة:

في الوقت الذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 83.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:180

المعنويات اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته، فأطلق شعارات متعددة ضد عقيدة التوحيد، كان من شأنها أن تغري البسطاء، و الضعفاء في الايمان و تؤثر فيهم، و تزلزل إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد و تسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام و النكسة، و البلاء و المصيبة، ففي حالة كهذه يبلغ الضعف النفسي لدى المصاب و المنكوب حدّا يفقد معه العقل سيطرته على الانسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحق و الباطل و في هذه الصورة تصبح مسألة بثّ الدعايات السيئة و زرعها في النفوس و استثمارها مسألة بسيطة، اذ يكون الانسان في هذه الحالة أكثر تقبلا و أيسر قبولا.

من هنا عمد أبو سفيان و عكرمة فرفعا أصناما كبيرة على الايدي بعد الحاق الهزيمة بالمسلمين، و أظهروا الفرح

و السرور و أخذوا ينادون بأعلى أصواتهم- مستغلين هذه الفرصة-: «اعل هبل، اعل هبل»!!

(1) و يعنون بذلك الشعار أن الانتصار الذي أحرزه المشركون إنما هو بفضل الصنم: هبل، و بالتالي بفضل الوثنية التي تدين بها أهل مكة. و لو كان ثمة إله سواه، و كانت عقيدة التوحيد على حق لانتصر المسلمون، و لما خلص إليهم من المحنة ما خلص

فادرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمق الخطر الذي يكمن في الاسلوب الذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحساسة، و ما سيتركه ذلك من أثر سيئ في النفوس، و بخاصة الضعيفة منها. و لهذا تناسى كل أوجاعه و مصاعبه و أمر عليّا و المسلمين فورا بأن يجيبوا منادي الشرك بشعار مضاد قوي، فقال:

قولوا:

«اللّه أعلى و اجلّ، اللّه اعلى و اجلّ».

أي انّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد و تعليماته العسكرية الحكيمة.

و بيد أن أبا سفيان لم يكف عن اطلاق شعاراته، و المضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال: نحن لنا العزّى و لا عزى لكم!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:181

(1) فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان، مشابه له في الوزن و السجع فقال: قولوا:

«اللّه مولانا و لا مولى لكم».

أي اذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر و الخشب، فاننا نعتمد على اللّه الخالق، القادر و العلي الاعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثا: يوم بيوم بدر. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يجيبه المسلمون.

«لا سواء قتلانا في الجنة، و قتلاكم في النار».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة التي كان يرددها المئات، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك

أبي سفيان الذي بدأ هذه الحملة النفسية و الحرب الباردة بغية تحطيم ايمان المسلمين، و رأى كيف ارتد كيده إلى نحره و لهذا انزعج بشدة و قال: ألا إن موعدكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه، و غادروا جميعا أرض المعركة راجعين إلى مكة «1».

و كان على المسلمين الآن- و فيهم مئات الجرحى و المصابين و سبعون قتيلا- أن يصلّوا الظهر و العصر فصلى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جلوسا، و صلّوا معه جلوسا، لما أصابهم من الضعف، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدفن الشهداء، و مواراتهم الثرى عند جبل احد.

(2)

نهاية المعركة:

وضعت الحرب أوزارها، و تباعد الجانبان، و قد تحمّل المسلمون من الخسائر في الارواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون. و كان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين.

و لكنهم فوجئوا بأمر فضيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش و في طليعتهن هند

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 94.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:182

زوجة ابي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين و ارتكبن بحق الشهداء الابرار، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلا، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلا مروعا فخمشن وجوههم، و قطّعن الأنوف، و جدعن الاذان، و سملن العيون، و قطعن أصابع الأيدي و الأرجل، و المذاكير، و صنعن منها القلائد و الاساور، نكاية بالمسلمين، و اطفاء للحقد الدفين، و بذلك الحقن بهنّ و بأوليائهنّ عارا لا ينسى.

(1) فان جميع الامم و الشعوب- متفقة على أن الميت الذي لا يستطيع دفاعا عن نفسه، و لا يتوقع منه ضرر يجب احترامه، و يحرم اهانته و ان كان عدوا. و لكن

هندا زوجة أبي سفيان و من كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شر تمثيل، و صنعن مما قطّعن منها الاساور و القلائد، و بقرت «هند» بالذات صدر حمزة بطل الاسلام الفدائيّ، و أخرجت كبده، و لاكته بين أسنانها و لكنها لفظته و لم تستطع أكله.

و قد بلغ هذا العمل من القبح، و السوء أن تبرّأ منه أبو سفيان و قال: «في قتلاكم مثلة لم آمر بها» «1».

و قد عرفت هند بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الاكباد، و دعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الاكباد.

و لما أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حمزة بن عبد المطلب، ببطن الوادي و قد بقر بطنه عن كبده، و مثّل به فجدع أنفه و اذناه، حزن حزنا شديدا و غاضه تمثيلهم به فقال:

«ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا!».

(2) ثم إنّ المؤرّخين يتفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف (و ربما نسب هذا إلى النبيّ نفسه) لئن أظفرهم اللّه بالمشركين يوما أن يمثّلوا بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب أو يمثلوا بدل الواحد ثلاثين.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 244.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:183

و لم يمض زمان حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى:

«وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» «1».

(1) و لقد كشف الاسلام مرة اخرى و من خلال هذه الآية- التي تتضمن أصلا اسلاميا في مجال القضاء مسلما به- عن وجهه الانسانيّ العاطفيّ، و أظهر للجميع بأن الدين الاسلامي ليس شريعة انتقام، و ثأر، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات و الحالات النفسية هياجا و غضبا عن قانون العدالة، و الحق، و بهذا يكون

الاسلام قد راعى مبادئ العدالة و الانصاف على الدوام، و صانها من الانهيار، و السقوط.

و لقد أصرّت صفية أخت حمزة أنّ ترى جثمان أخيها، إلّا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر ابنها الزبير أن يحبسها و يصرفها عن ذلك لكي لا ترى ما بأخيها فلا تحتمل الصدمة.

فقالت صفية: قد بلغني أن قد مثّل بأخي و ذلك في اللّه، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنّ و لأصبرنّ إن شاء اللّه.

فأخبر الزبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمقالتها فقال صلّى اللّه عليه و آله: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه فصلّت عليه، و استرجعت، و استغفرت له، ثم أمر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدفن «2».

(2) حقا أن قوّة الإيمان أعظم القوى، فهي تحبس الانسان و تحفظه في أصعب الحالات، و تفيض على صاحبه حالة من السكينة و الوقار.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلى على شهداء أحد الأبرار، و أمر بدفنهم واحدا واحدا أو اثنين اثنين، و أمر بأن يدفن «عمرو بن الجموح» و «عبد اللّه بن عمرو» في قبر واحد.

______________________________

(1) النحل: 126.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 97.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:184

قائلا:

«ادفنوا هذين المتحابّين في قبر واحد» «1».

(1)

آخر ما نطق به سعد بن الربيع:

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأوفياء، و كان رجلا مؤمنا مخلصا، عظيم الوفاء و الحبّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد اصيب في «احد» اثنتا عشرة اصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجل يدعى مالك بن الدخشم فقال له: أ ما علمت أن محمدا قد قتل؟ فقال سعد: اشهد أن محمّدا قد بلّغ رسالة ربه، فقاتل أنت عن

دينك فان اللّه حيّ لا يموت «2».

ثم إنه قد مرّ عليه رجل من الانصار و هو في هذه الحال و بعد أن وضعت الحرب أوزارها فقال لسعد: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أنظر أ في الاحياء أنت أم في الأموات؟ فقال سعد: أنا في الأموات فابلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنّي السلام، و قل له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خيرا ما جزى نبيا عن امته و أبلغ قومك عنّي السلام، و قل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لاعذر لكم عند اللّه إن خلص الى نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و منكم عين تطرف.

ثم لم يبرح ذلك الانصاري حتى قضى سعد بن الربيع نحبه، فجاء الأنصاري الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما قال. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«رحم اللّه سعدا نصرنا حيّا و اوصى بنا ميتا» «3».

(2) إنّ حبّ الانسان لنفسه، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 98، بحار الأنوار: ج 20 ص 131.

(2) و (3) السيرة النبوية: ج 2 ص 95، بحار الأنوار: ج 20 ص 12.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:185

القوية المتأصلة في كيان الانسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف و هي بالتالي من القوة و الهيمنة على وجود الانسان بحيث يضحّى في سبيلها بكل شي ء.

و لكن قوة الايمان و حبّ الانسان للعقيدة، و تعشقه للمعنويات أقوى و أشدّ تأثيرا من ذلك، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بين- حسب ما تفيده النصوص التاريخية- و بين الموت في ذلك

الوقت سوى لحظات، و مع ذلك نجده ينسى نفسه، و يفكر في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين، و دوام الشريعة، و هذا هو الهدف المقدّس الذي قاتل من أجله سعد البطل، و لهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحثهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و العمل معه على تحقيق أهدافه، في ارساء دعائم التوحيد.

(1)

النبيّ يعود الى المدينة:

كانت الشمس تميل نحو المغرب و كانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون، و كان السكون و الصمت يخيم على كل مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم الى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، و يجدّدوا نشاطهم، و يضمدوا جرحاهم.

و لهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة قال صلّى اللّه عليه و آله: اصطفوا فنثني على اللّه، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال:

اللّهم لك الحمد كله، اللّهم لا قابض لما بسطت، و لا باسط لما قبضت، و لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن اضللت و لا مضلّ لمن هديت، و لا مقرّب باعدت و لا مباعد لما قرّبت.

اللّهم انّي أسألك من بركتك، و رحمتك و فضلك و عافيتك.

اللّهم انّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:186

اللّهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف و الغنى يوم الفاقة عائذا بك.

اللّهم من شرّ ما أنطيتنا و شرّ ما منعت منّا.

اللّهم توفّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الايمان، و زيّنه

في قلوبنا، و كرّه إلينا الكفر و الفسوق و العصيان، و اجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك و يصدّون عن سبيلك.

اللّهم أنزل عليهم رجسك و عذابك إله الحق. آمين «1».

و قد كان هذا العمل خطوة مهمة جدا من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوس المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة مما كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة و تقوية عزائم المسلمين، كما علّمهم أن يلجئوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه أصحابه من الانصار و المهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة المدينة.

و كانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت الى مناجات و مآتم، يرتفع منها أصوات بكاء الامهات و الازواج و البنات اللائي أصبن في رجالهنّ و أوليائهنّ، و آبائهنّ.

(1) و لما مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منازل بني عبد الاشهل و سمع ندبة النساء، و بكاءهنّ حزن و انحدرت دموعه على خديه و قال:

«لكنّ حمزة لا بواكي له» «2».

فلما عرف سعد بن معاذ و اسيد بن حضير بذلك أمرا جماعة من نسائهم بأن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكاءهنّ على حمزة خرج عليهن و هنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال:

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 162 و 163.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:187

«ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ».

و قيل لما سمع صلّى اللّه عليه و آله بكاءهنّ قال:

«رحم اللّه الأنصار، فانّ المواساة منهم ما علمت لقديمة .. مروهنّ فلينصرفن» «1».

(1)

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة:

إن للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة، و عجيبة في تاريخ الاسلام،

لأننا قلما نجد لها نظيرا في عالم المرأة اليوم.

و من تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة و العجيبة في صدر الاسلام المرأة الدينارية، التي اصيب زوجها و أخوها و أبوها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باحد.

فانّها لما نعوا لها مصرع رجالها قالت: فما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

قالوا: خيرا يا أمّ فلان، هو بحمد اللّه كما تحبّين.

قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟

فاشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (اي صغيرة) «2».

ما أعظم تلك الاستقامة، و ما أعظم ذلك الايمان الذي يجعل من الانسان طودا راسخا ثابتا في وجه العواصف و الاعاصير.

(2)

نموذج آخر من النسوة المجاهدات:

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية «عمرو بن الجموح» الذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 99، امتاع الاسماع: ج 1 ص 163 و 164.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:188

الموجب لسقوط الجهاد كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادق و المؤمن المجاهد في معركة احد، و مضى يقاتل في الصف الاول من المجاهدين، و شارك ابنه «خلّاد بن عمرو بن الجموح» و أخو زوجته «عبد اللّه بن عمرو» «1» في هذا الجهاد المقدس، و استشهدوا جميعا في تلك المعركة أيضا.

(1) فخرجت «هند» زوجته و هي بنت عمرو بن حزام، عمة جابر بن عبد اللّه الأنصاري الى «احد» و حملت أجسادهم على بعير و توجهت بها نحو المدينة، بمنتهى الجلادة، و رباطة الجأشى.

و عند ما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتل باحد خرجت النسوة، يتأكّدن من هذا النبأ، فالتقت هند ببعض نساء النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله- و هي عائدة من احد- فسألنهنّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: خيرا، أمّا رسول اللّه فصالح، و كلّ مصيبة بعده جلل، و اتخذ اللّه من المؤمنين شهداء، و قرأت قول اللّه تعالى: «وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ...»!!

(2) فسألوا: من هؤلاء؟

قالت: أخي، و ابني خلّاد، و زوجي عمرو بن الجموح!!

فقلن لها: فأين تذهبين بهم؟

قالت: إلى المدينة اقبرهم بها .. ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة:

حل .. حل في نبرة صامدة.

و مرة اخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الاسلام نموذج حيّ آخر من مشاهد الثبات و الصمود، و الاستقامة، و تجاوز المصائب، و تحمّل الآلام و الشدائد في سبيل الهدف المقدّس، و كلّ ذلك من فعل الايمان، و نتائجه.

إن المذاهب المادية لا و لن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة و الرجال المتفانين في سبيل العقيدة، بمثل هذا التفاني العظيم.

______________________________

(1) و هو عبد اللّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:189

على أن هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادية، و انما قاتلوا من أجل الهدف، و هو إعلاء كلمة الدين و اقامة صرح التوحيد، و محو الوثنية و الشرك.

(1) هذا و في بقية هذه القصة ما هو أعجب من اولها، و هو أمر، لا يمكن أن يدرك بالمقاييس المادية، و الأسس التي ينطلق منها أصحاب الاتجاه المادي في تحليل القضايا التاريخية. و انما يهضمها- فقط- من يؤمن بعالم آخر وراء العالم الماديّ الصرف، و يصدّق بتأثيره في هذا العالم، و بالتالي لا يقبل بها إلّا من يصدّق بقضية الإعجاز و المعجزة، و يذعن لها و يعترف بصحتها من

غير تلكّؤ و ابطاء.

و إليك هذه البقية:

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة برك البعير في مكانه.

فقالت النسوة التي كنّ هناك: لعلّه برك لما عليه.

فقالت هند: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، و لكنّي أراه لغير ذلك.

فزجرته ثانية، فقام، فلما وجّهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعة الى احد فاسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فانّ الجمل مأمور. هل قال (يعني: عمرو بن الجموح) شيئا؟

(2) قالت: إنّ عمرا لمّا وجّه إلى احد استقبل القبلة، و قال: اللّهم لا تردّني إلى أهلي خزيا، و ارزقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللّه لابرّه، منهم عمرو بن الجموح، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن»، ثم مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قبرهم، ثم قال: «يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعا، عمرو بن الجموح، و ابنك خلّاد، و أخوك عبد اللّه».

قالت هند: يا رسول اللّه فادع لي عسى أن يجعلني معهم «1».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 146- 148.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:190

(1) ثمّ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل بيته فلما أبصرت به بنته العزيزة «فاطمة» و رأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته (الزهراء) حتى تغسله.

و قال الاربلي المؤرخ الشيعي المعروف الذي كان يعيش في القرن السابع الهجري: كان علي يجي ء بالماء في ترسه، و فاطمة تغسل الدم و أخذ حصيرا فاحرقه وحشى به جرحه «1».

و

في الامتاع لما رأت فاطمة الدم لا يرقأ- و هي تغسله و علي يصب الماء عليها بالمجنّ- أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم و يقال: داوته بصوفة محترقة «2».

(2)

لا بدّ من ملاحقة العدو:

لقد كانت الليلة التي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم احد ليلة جدّا خطيرة و حساسة.

فالمنافقون و اليهود و أتباع عبد اللّه بن أبي قد سرّوا لما أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه سرورا كبيرا، و أظهروا القول السيئ، و قالوا: ما اصيب نبي هكذا قط.

و كان أنين الجرحى و المكلومين و بكاء الموتورين في رجالهم و نياحهم يسمع من أكثر بيوت المدينة.

و الأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون و اليهود بعملية خيانية ضد الاسلام و المسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضع العاصمة الاسلامية الثابت، و الوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بايجاد الاختلاف و التشتت على الاقل.

إن ضرر الاختلافات الداخليّة أشد بكثير من حملات العدوّ الخارجي، و ان

______________________________

(1) كشف الغمة: ج 1 ص 189.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 137 و 138.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:191

انهيار الوحدة و الانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

(1) من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يرهب العدو الداخلي، و يفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها و تماسكها و انّ أيّة خطوة أو نشاط معاد يهدّد أساس الاسلام للخطر سيسحق بشدة في اللحظة الأولى.

و لهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ (أي مشركي مكة).

فكلّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجلا بأن ينادي في

كل مناطق المدينة:

«أ لا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فانّها أنكأ للعدوّ و أبعد للسمع.

ألا لا يخرجن معنا الّا من حضر يومنا بالامس».

أو قال: «يا معشر المهاجرين و الأنصار من كانت به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة فليقم».

و انما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا ليرهب العدوّ و ليبلغهم أنه خارج في طلبهم فيظنوا به قوّة، و أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم «1».

(2) على أن لهذا التقييد، و لهذا النهي عن خروج غير الجرحى، أو من لم يشترك في احد، عللا أو حكما لا تخفى على العارفين بالسياسة، و الرموز العسكرية.

و يمكن الاشارة الى بعضها:

(3) أولا: انّ هذا التحديد، و بالتالي الاقتصار على من شارك في معركة احد هو نوع من التعريض بمن امتنع من المشاركة في تلك المعركة، و في الحقيقة هو نوع من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

(4) ثانيا: إنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة احد، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة، و انصرافهم بسرعة الى المطامع المادية، و الغفلة عن ملاحقة العدوّ في حينه تسببوا في توجيه تلكم الضربة النكراء الى الاسلام،

______________________________

(1) مجمع البيان للطبرسي: ج 2 ص 535- 541.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:192

و لذلك يجب عليهم انفسهم ملافاة تلك الخسارة، و ترميم ذلك العطب، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك، و لا يتجاهلوا أوامر القيادة، و نحن نعلم أن الانضباطية و التقيد الكامل بالاوامر هو أهم عنصر في نجاح الامور العسكرية «1».

بلغ نداء مؤذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسامع شاب من بني الاشهل كان قد شهد احدا مع رسول اللّه، فخرج هو و أخوه و هما جريحان مع

رسول اللّه لطلب العدوّ، و قد قال أحدهما للآخر: أ تفوتنا غزوة مع رسول اللّه.

و قد خرجا دون أن تكون لهما دابة يركبانها و كلاهما مصابان بجروح ثقيلة، فكان الأيسر منهما يحمل الآخر مسافة، فاذا تعب مشيا مسافة، ثم عاد الى حمله حتى انتهيا الى ما انتهى إليه المسلمون «2».

(1)

حمراء الأسد «3»:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه الى حمراء الاسد (و هي تبعد عن المدينة بثمانية أميال) و قد استخلف على المدينة «ابن أمّ مكتوم».

و هناك مرّ به «معبد بن أبي معبد الخزاعي» رئيس بني خزاعة، و كانت خزاعة مسلمهم و مشركهم يومذاك ذات علاقات طيبة جدا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و كانوا لا يخفون عن النبيّ شيئا.

فتقدم معبد رئيسهم و عزّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما أصابه، و هو يومئذ مشرك قائلا: يا محمّد أما و اللّه لقد عزّ علينا ما أصابك، و لوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد حتى لقي أبا سفيان و من معه بمنطقة تدعى بالروحاء و قد

______________________________

(1) كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بان النبيّ خرج بكل من شارك في احد لا أنه اقتصر على الجرحى، كما تصرح به بعض النصوص التاريخية.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 168، السيرة النبوية: ج 2 ص 101.

(3) لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى حمراء الاسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلة، و ذكرها البعض الآخر في ذيل معركة احد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:193

عزموا على الرجوع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه للكرة عليهم، و استئصالهم، و القضاء عليهم بالمرة.

فلما رأى أبو سفيان معبدا (و كان

معبد قد استهدف من خروجه الى أبي سفيان و جماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه) قال: ما وراءك يا معبد، و ما ذا عندك من الاخبار؟

(1) فقال معبد:- و هو يريد إرعاب قريش و صرفهم عن الرجوع الى المدينة- محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم ار مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، و ندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق و شدة الغيظ عليكم شي ء لم ار مثله قط!!

فقال أبو سفيان:- و قد أرعب بشدة من هذا النبأ- ويحك ما ذا تقول؟

قال معبد: و اللّه ما أرى ان ترتحل حتى أرى نواصيّ الخيل.

قال أبو سفيان: فو اللّه لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد: فاني أنهاك عن ذلك.

و قد تركت كلمات معبد، و وصفه لقوة المسلمين و عزمهم الشديد على توجيه ضربة الى الكفار أثرها في نفس أبي سفيان الذي تملّكه خوف شديد، دعاه إلى الانصراف عن الرجوع الى المدينة ثانية، و العزم على القفول الى مكة «1».

و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه حتى عسكروا ليلا بحمراء الاسد، فامر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، و ذهب صوت معسكرهم و نيرانهم في كل وجه، و تصور العدو أن النبيّ جاءهم في جيش عظيم، فتشاوروا حول الرجوع الى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك، فانصرفوا «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 102، امتاع الاسماع: ج 1 ص 169 و 170.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 49.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:194

(1)

لا يخدع مؤمن مرّتين:

هذا هو معنى قول النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله:

«المؤمن

لا يلدغ من جحر مرّتين».

و لقد قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الاسد على نحو الصدفة، و أراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه العفو و كان قد أسر ببدر قبل ذلك، ثم منّ عليه النبيّ و أطلق سراحه مشترطا عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ و المشاركة في قتاله، و لكنه عاد الى مكة، و شارك في قتال النبيّ مرة اخرى في احد.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لما طلب العفو ثانية:

«و اللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها و تقول: خدعت محمّدا مرتين، إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين».

ثم أمر بضرب عنقه، و ضرب عنقه «1».

(2) و أخيرا انتهت معركة احد و قد قدم المسلمون فيها سبعين، أو اربعة و سبعين، أو واحدا و ثمانين شهيدا على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين و عشرين.

و قد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الذي قرأت.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 104، نلفت نظر القارئ الكريم الى أننا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة احد و في إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسع ان يراجع المصادر التالية التي اعتمد عليها المؤلف: و هي: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 36- 49، المغازي: ج 1 ص 199- 340، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 14- 218 و ج 5 ص 60، و بحار الأنوار: ج 20 ص 14- 146، و امتاع الاسماع: ج 1

ص 113- 166، السيرة النبوية: ج 2 ص 60- 168.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:195

و قد وقعت معركة احد يوم السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة، هذا مضافا الى غزوة حمراء الاسد التي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الاسبوع نفسه، فتكون قضايا و وقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس تلك السنة.

ميلاد الامام الحسن السبط:

(1) هذا و قد ولد في هذه السنة (اي السنة الثالثة من الهجرة) سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاكبر الإمام الحسن بن علي عليه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة، و اجرى له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مراسيم ولادة خاصة ذكرها أصحاب الحديث و تجد تفصيلها في سيرة الائمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:196

(1)

حوادث السنة الرابعة من الهجرة 33

فاجعة فريق المبلّغين «1»

اشارة

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة «احد» بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أن المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر و منعوا من رجعته الى المدينة و تحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلا أن التحريكات الداخليّة و الخارجية ضدّ الاسلام بهدف القضاء على هذا الدين، و رجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة «احد».

و قد تجرّأ منافقو المدينة، و يهودها و المشركون المتواجدون في شتى النقاط البعيدة خارج المدينة على أثر ذلك، و بدءوا يحيكون المؤامرات ضدّ الاسلام و المسلمين و يجمعون الاسلحة و الرجال لشن الحروب و الغارات على المدينة.

(2) و قد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحريكات، كما و استطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة التي كانت تنوي الهجوم على المدينة و ذلك بارسال السرايا و المجموعات القوية من المجاهدين.

و في هذا الاثناء بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نبأ مفاده أن قبيلة بني أسد تنوي الهجوم على المدينة و تسخيرها، و قتل المسلمين، و نهب أموالهم، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150)

______________________________

(1) وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:197

رجلا بقيادة «أبي سلمة»

الى منطقة تجمع المتآمرين.

ثم إنه صلّى اللّه عليه و آله أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي، و يسلكوا طريقا آخر غير الطريق المتعارف، و يقيموا نهارا و يسيروا ليلا، ليعمّوا على القوم.

و قد فعل «أبو سلمة» و جماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يسيرون الليل، و يكتمون النهار، حتى وردوا المنطقة فاحاطوا ببني أسد في عماية الصبح، و قضوا على المؤامرة في مهدها، و عادوا غانمين موفورين إلى المدينة، و قد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة و ثلاثين شهرا من الهجرة «1».

(1)

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوم بافشال بارسال السرايا و المجموعات العسكرية جميع مؤامرات المتآمرين ضد الاسلام، كما أنه كان يقوم الى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية الى القبائل، و الجماعات و بذلك يجلب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الاسلامية.

و كان المبلّغون و الدعاة الذين كانوا من قراء القرآن الكريم، و من الملمين بالاحكام الاسلامية و التعاليم النبوية يبدون استعدادا عجيبا للقيام بهذه المهمّة الصعبة و لو كلّفت حياتهم فكانوا ينقلون تعاليم الاسلام إلى الناس في المناطق النائية، و الاماكن البعيدة بأوضح بيان و أوضح اسلوب.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب، و ارساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم- في الحقيقة- بوظيفتين هامتين من وظائف المنصب النبوي.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 340، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 170، و لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر أن السنة الثالثة للهجرة تنتهي عند انتهاء الشهر الرابع و الثلاثين، و تكون حوادث الشهر الخامس و الثلاثين متعلقة بالسنة الرابعة من الهجرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:198

(1)

فهو ببعثه للسرايا و المجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد، و التآمر التي كانت في مرحلة التحقق و التكوّن لكي يتسنى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن و الحرية الدعوة إلى الاسلام، و القيام بوظيفتها الاساسية ألا و هي ارساء دعائم الحكومة الاسلامية في القلوب، و تنوير الافكار، و ايقاظ العقول.

و لكن بعض القبائل المتوحّشة، و المنحطّة أخلاقيا و فكريّا كانت تتحايل على المجموعات التبليغية التي كانت تمثل القوى المعنوية للاسلام، و التي لم يكن لها هدف سوى نشر التوحيد، و اقتلاع جذور الكفر و الوثنية، و كانوا يقتلونهم بصورة فضيعة و مفجعة.

و فيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصة مجموعة من الدعاة و المبلّغين الذين لقوا هذا المصير و كان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام «1»، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد «2».

(2)

الغدر بالدعاة الى الإسلام و قتلهم:

لقد مشت جماعة من قبيلتي «عضل» و «القارة» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا- و هم يضمرون المكر- يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن فينا إسلاما فاشيا فابعث معنا نفرا من أصحابنا يقرءوننا القرآن، و يفقهوننا في الاسلام.

فرأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة التي كانت تمثل قبائل كبرى، و كما رأى المسلمون أيضا أن من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة بقيادة «مرثد بن أبي مرثد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 169، و قال في امتاع الاسماع: ج 1 ص 174 انهم سبعة اشخاص.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 55.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:199

الغنويّ» مع تلك

الجماعة إلى القبائل المذكورة.

(1) فخرج هؤلاء المبلغون و وفد القبيلتين من المدينة متوجّهين الى حيث تتواجد «عضل» و «قارة»، و لمّا كانوا بماء يسمى الرجيع تقطن عنده قبيلة تدعى «هذيل» كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة، و استصرخوا هذيلا و كمينا من رجالهم، و كانوا مائة رام و بأيديهم السيوف فاحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم و ابادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّا- و هم محاطون بتلك الجماعات المسلحة- من اللجوء الى سيوفهم و الدفاع عن أنفسهم.

و لكن العدوّ قال: ما نريد قتالكم، و ما نريد إلّا ان نصيب منكم من أهل مكة ثمنا، و لكم عهد اللّه و ميثاقه لا نقتلكم!!

(2) فنظر الدعاة بعضهم الى بعض، و قرر أكثرهم المقاومة و عدم الرضوخ لهذا العرض الغادر، و الخطة الماكرة، و قال أحدهم: إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك «1» ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الابطال، حتى قتلوا إلّا ثلاث هم: «زيد بن دثنّة»، و «خبيب بن عديّ»، و «عبد اللّه بن طارق البلويّ» فقد أغمد هؤلاء سيوفهم و سلّموا، فأخذوا و وثّقوا بأوتار قسيّهم، و لكن «عبد اللّه» ندم على فعله، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، و راح يقاتلهم حتى قتلوه رميا بالحجارة، و قد انحازوا عنه و هو يشدّ فيهم و ينفرجون عنه، و دفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين «خبيب» و «زيد» و قدموا بهما مكة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنّة فقد اشتراه «صفوان بن أميّة» و قتله ثأرا لابيه، و لقتله قصة عجيبة سطر فيها أروع آيات المقاومة و الوفاء و الاخلاص.

(3) فقد اشتراه «صفوان بن أميّة» كما أسلفنا ليقتله بأبيه، و قد حبسه صفوان في الحديد،

و كان يتهجّد بالليل و يصوم بالنهار، و لا يأكل شيئا مما اتى به من

______________________________

(1) أو قالوا: و اللّه لا نقبل من مشرك عهدا و لا عقدا أبدا (السيرة النبوية: ج 2 ص 170).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:200

الذبائح، و هو في الاسر و الحبس.

ثم إنه اخرج إلى «التنعيم» «1» ليصلب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعا، فقال: دعوني أصلّي ركعتين، فصلّى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له: يا زيد ارجع عن دينك المحدث، و اتّبع ديننا، و نرسلك فيقول: و اللّه لا افارق ديني أبدا.

(1) فقال له أبو سفيان فرعون مكة و أشدّ المتآمرين على الاسلام و مدبر أغلب الحروب ضد رسول اللّه، و المسلمين: أنشدك باللّه يا زيد أ يسرّك أن محمّدا في أيدينا مكانك و أنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة و وفاء عظيمين: ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة و اني في بيتي، و جالس في أهلي!!!

و قد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكة أبي سفيان فقال:

ما رأينا أصحاب رجل قطّ أشدّ حبّا من أصحاب محمّد بمحمّد!!

و لم تمض لحظات إلّا و صار «زيد» على خشبة الاعدام و طارت روحه الى خالقها، و مضى ذلك المسلم الوفيّ، و المؤمن الشجاع شهيد الثبات في طريق العقيدة، و الدفاع عن حياض الدين «2».

(2) و اما «خبيب» فقد حبس مدة من الزمان حتى قرّر ندوة مكة قتله، فخرجوا به الى التنعيم ليصلبوه و خرج معه النساء و الصبيان و العبيد و جماعة من أهل مكة، فقال لهم: إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما و أحسنهما ثم اقبل على القوم و قال: أما

و اللّه لو لا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه الى المدينة، و أوثقوه رباطا، ثم قالوا له: ارجع عن الاسلام، نخلّ سبيلك.

______________________________

(1) التنعيم ابتداء الحرم و منها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 172، المغازي: ج 2 ص 362، امتاع الاسماع: ج 1 ص 174 و 175.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:201

قال: لا و اللّه ما أحبّ أنّي رجعت عن الاسلام و أنّ لي ما في الأرض جميعا.

فقالوا: أمّا و اللات و العزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك!

فقال: إن قتلي في اللّه لقليل، فلمّا أبى عليهم و قد جعلوا وجهه من حيث جاء (أي نحو المدينة)، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة، فان اللّه يقول:

«فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» ثم قال: اللهم إني لا أرى إلّا وجه عدوّ، اللهم أنه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السلام عنّي فبلّغه أنت عنّي السلام.

ثم دعا على القوم و قال: اللّهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا، و لا تغادر منهم أحدا.

ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما، فأعطوا كل غلام رمحا، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه الى الكعبة، فقال: الحمد للّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه و لنبيه و للمؤمنين!!

(1) فأثارت روحانيته الكبرى، و طمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين، و هو «عقبه بن الحارث» و تملكه غضب شديد من إخلاصه للاسلام فأخذ حربته و طعن بها خبيبا طعنة قاضية، قتلته، و هو يوحّد اللّه و يشهد أن محمّدا رسول اللّه.

و يروي ابن هشام أن خبيبا أنشد قبل مقتله أبياتا عظيمة

نذكر هنا بعضها:

إلى اللّه أشكو غربتي ثمّ كربتي و ما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبّرني على ما يراد بي فقد بضّعوا لحمي و قد ياس مطمعي

و ذلك في ذات الاله و أن يشأيبارك على أوصال شلو ممزّع

و قد خيّروني الكفر و الموت دونه و قد هملت عيناي من غير مجزع

و ما بي حذار الموت أني لميّت و لكن حذاري جحم نار ملفّع

فو اللّه ما أرجو إذا متّ مسلماعلى أي جنب كان في اللّه مصرعي

فلست بمبد للعدوّ تخشعاو لا جزعا إنّي إلى اللّه مرجعي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:202

و قد أحزنت هذه الحادثة الاليمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كذا جميع المسلمين.

(1) و أنشد فيهم «حسان بن ثابت» أبياتا ذكرها ابن هشام في سيرته، كما أنه هجا هذيلا في أبيات اخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء «1».

و لقد خشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتكرر مثل هذه الجريمة النكراء، و بذلك يواجه رجال التبليغ و الدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم، و يتعرضوا لخسائر لا تجبر، و عمليات غدر و اغتيال اخرى.

و قد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن، يحرسه جماعة من المشركين حتى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بانزاله من فوق الصليب ليلا، و من ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

(2)

جريمة بئر معونة:

و في شهر صفر من السنة الرابعة و قبل أن يصل نبا مصرع الدعاة المذكورين و استشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قدم أبو براء العامري المدينة فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الاسلام فلم يسلم و لكنّه قال

للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا محمّد إني ارى أمرك حسنا، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل «نجد» فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فان هم اتبعوك فما أعز أمرك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي اخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء: لا تخف، أنا لهم جار، فابعثهم فليدعو الناس الى أمرك.

(3) فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعين رجلا من خيار المسلمين من أصحابه ممن حفظوا القرآن و عرفوا احكام الاسلام، و أمّر عليهم «المنذر بن

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 354- 362، السيرة النبوية: ج 2 ص 169.

(2) سفينة البحار: ج 1 ص 372.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:203

عمرو»، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة و هي بين أرض بني عامر و حرّة بني سليم و هم يحملون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابا إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء «نجد»، و كلّف أحد المسلمين بايصال ذلك الكتاب إلى عامر، فلما أتاه الكتاب لم ينظر فيه حتى عدا على الرجل (حامل الكتاب) فقتله، ثم استصرخ بني عامر على المبلّغين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، و قالوا: لن ننقض عهد أبي براء، و قد عقد لهم عقدا و جوارا.

(1) فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى نزلوا حيث نزل جماعة الدعاة، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم بعد أن أبدوا مقاومة كبرى، و بسالة عظيمة، و لم يكن يتوقع منهم غير ذلك.

فانّ مبعوثي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكونوا مجرد رجال فكر و علم فقط، بل كانوا رجال حروب، و أبطال معارك، و لذا

رفضوا الاستسلام للمعتدين، و اعتبروا ذلك عارا لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ، فقاتلوهم حتى استشهدوا جميعا، إلّا كعب بن زيد، فانه جرح فعاد بجراحه الى المدينة، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغدرة.

فحزن رسول اللّه و المسلمون جميعا لهاتين الحادثتين، المفجعتين اشد الحزن بل و لم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم، و بقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحا من الزمان «1»

هذا و لقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعا من نتائج النكسة التي أصابت المسلمين في «احد» و التي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين و دعاتهم غدرا و مكرا.

(2)

كيد المستشرقين و جفاؤهم:

إن المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرض له مشرك على أيدي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 183- 187 امتاع الاسماع: ج 1 ص 170- 173.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:204

المسلمين فينالون من الاسلام و المسلمين أشدّ نيل، و يصرّون على أن يؤكّدوا على أن الاسلام لم ينتشر إلّا بالسيف و القهر، التزموا صمتا عجيبا تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين، و لم ينبسوا في هذا المقام ببنت شفة أبدا، و كأن شيئا من هذا لم يقع، و كأن ما وقع لا يستأهل اهتماما و حديثا.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم و الجديد يجيز أن يقتل الدعاة و المبشرون و رجال العلم و الفكر، و التعليم و التثقيف.

إذا كان الاسلام قد تقدّم بالسيف- كما يدّعي رجال الاستشراق- فلما ذا تخاطر جماعات التبليغ و الدعوة هذه بأنفسها و تزهق أرواحها في سبيل نشر الاسلام، و الدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية، و عبر مفيدة جدا، فان

قوة الايمان لدى تلك الجماعات، و عمق تفانيها، و تضحيتها، و بسالتها تستحق إعجاب المسلمين، و اكبارهم. كما و تعتبر من أفضل الدروس و ابلغها لهم.

(1)

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين:

لقد أثارت حادثتا «الرجيع» و «بئر معونة» المفجعتان اللتان جرتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة و المبلّغين موجة من الحزن و الأسى في المسلمين و تركت أثرا مؤلما في أوساطهم.

و هنا يتساءل القارئ: لما ذا أقدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين الى «نجد» مع أنه حصل على تجربة مرّة؟! أ لم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين».

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية لأن المجموعة الثانية قد بعثت في جوار من أبي براء (عامر بن مالك بن جعفر) و الذي كان رئيسا لقبيلة بني عامر، و لم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم و لم يشتركوا في تلك الجريمة و قد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيدا لجواره، ريثما

سيد المرسلين ،ج 2،ص:205

يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

(1) لقد كانت خطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطة مدروسة و صحيحة لأن جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء، و مع أن ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء التي كانت قبيلته أيضا، ضدّ جماعة المبلّغين إلّا أن قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه، و لم يستجب لندائه أحد منهم بل قالوا:

لن يخفر جوار أبي براء. و لما أيس منهم استصرخ قبيلة اخرى لا تمتّ إلى قبيلة أبي براء بصلة، فاقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين و مقاتلتهم.

ثم إن جماعة المبلّغين المذكورة

كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة و توجهها الى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما: عمرو بن أميّة و «حارث بن الصمة» «1» ليرعيا إبل الجماعة و يحافظا عليها، و بينما كان الرجلان يقومان بواجبهما اذ أغار عليهما «عامر بن الطفيل». فقتل حارث بن الصمة، و اطلق سراح عمرو بن اميّة.

(2) فعاد عامر الى المدينة، في اثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما و أمهلهما حتى اذا ناما وثب عليهما فقتلهما، و هو يرى بأنه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر، و قد أخطأ في تصوره هذا لأن بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء و لم تنقض أمانة كما أسلفنا، و لم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلما قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره الخبر، حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك و قال لعمرو:

«بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما مني أمان و جوار، لا دفعن ديتهما».

و لكن الاجابة الاكثر وضوحا على هذا الاعتراض (او السؤال) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول: و جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خبر أهل بئر معونة، و جاءه تلك الليلة أيضا مصاب خبيب بن عديّ و مرثد بن أبي مرثد «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 168 و صاحب السيرة يرى انه المنذر بن محمد.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 52 و 53.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:206

(1)

34 غزوة «بني النضير»

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة و يهودها بانتكاسة المسلمين في معركة «أحد» كما فرحوا أيضا بمصرع رجال التبليغ و الدعوة، فرحا بالغا و باتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل و الفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنه لا

توجد أية وحدة سياسيّة و انسجام اجتماعيّ في مركز الاسلام، و عاصمة الحكومة الاسلامية، و أن في مقدور الأعداء الخارجيين أن يجهزوا على حكومة الاسلام الفتية، و يقضوا عليها بسهولة!!

و لكي يقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نوايا و دخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أن الهدف الظاهري المعلن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد «عمرو بن أميّة» كما أسلفنا، و ذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين اليهود و كذا بني عامر و غيرهم و القاضية بالتعاون معا في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

(2) فلما وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى حيث يسكن بنو النضير، و كلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية، رحبوا به ظاهرا، و وعدوا بأن يلبّوا مطلبه، ثم إنهم خاطبوه قائلين: يا أبا القاسم نعينك على ما احببت. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم، و يقضي يومه فيها، قائلين: قد آن لك أن تزورنا، و أن تأتينا، اجلس حتى نطعمك، فلم يقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتلبية مطلبهم، بل

سيد المرسلين ،ج 2،ص:207

جلس مستندا الى جدار بيت من بيوتهم و اخذ يكلمهم «1».

(1) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احسّ بشرّ من ذلك الترحيب الحارّ الذي قابلته به رجال بني النضير، و الذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافا إلى أنه صلّى اللّه عليه و آله شاهدهم و قد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون و يتهامسون الأمر الذي يدعو الى الشك، و يورث سوء الظن!!

و قد كان سوء الظن هذا

في محله، فقد قرر سادة يهود- لمّا أتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رهط قليل من أصحابه- أن يتخلصوا منه باغتياله و الغدر به على حين غفلة منه صلّى اللّه عليه و آله، فانتدبوا أحدهم و هو «عمرو بن جحاش» لتنفيذ هذه الجريمة، و ذلك بأن يعلو على البيت الذي استند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جداره فيلقى عليه صخرة تقتله.

(2) إلّا أنّ هذه المؤامرة انكشفت- و لحسن الحظ- قبل تنفيذها، إما من خلال حركات اولئك اليهود الخبثاء، المشبوهة، أو بخبر أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من السماء، كما يروي ابن هشام و الواقدي في مؤلفيهما.

فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريعا، كأنه يريد حاجة، و توجه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه، بقصده.

و بقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

و ندمت يهود على ما صنعت، و اضطربت لذلك اضطرابا شديدا، و اصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد علم بمؤامرتهم و تواطئهم، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ، و لتواطئهم القبيح، و مكرهم السيئ.

(3) و من ناحية اخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم، و لكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف، و ان ينتقم

______________________________

(1) يقول صاحب المغازي: إن النبيّ جاء بني النضير في ناديهم ج 1 ص 364.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:208

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حينئذ منهم قطعا و يقينا.

و فيما هم في هذه الحالة من الاضطراب و التحيّر قرر أصحاب

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبلوا حتى انتهوا إليه صلّى اللّه عليه و آله و عرفوا بمؤامرة اليهود إذ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم لما قالوا: يا رسول اللّه قمت و لم نشعر:

«همّت اليهود بالغدر بي، فأخبرني اللّه بذلك فقمت» «1».

(1)

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

و الآن ما ذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة التي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الاسلامية من أمن و حرية، و يحافظ جنود الاسلام على أنفسهم و أموالهم و أعراضهم، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم و أموالهم و أعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة التي كانت ترى كل آثار النبوة و دلائلها في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أعماله، و أقواله تماما على نحو ما قرأت عنه في كتبها و أسفارها، و لكنها بدل أن تردّ الجميل بالجميل و تقابل الاحسان بالاحسان، و بدل أن تحسن ضيافته و قد نزل عليهم ضيقا تتآمر لقتله غيلة و غدرا دون ما خجل و لا حياء!!

ما هو ترى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد و في هذه الحال؟

و ما ذا يجب أن يفعل المرء حتى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث، و يستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

(2) إن الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فعله.

فقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بالتهيّؤ لحربهم، و السير

إليهم،

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 57، امتاع الاسماع: ج 1 ص 178.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:209

ثم دعا محمد بن مسلمة و أمره بأن يذهب إلى بني النضير، و يبلغ سادتهم، من قبله رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي «1» الى بني النضير و قال لسادتهم:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسلني إليكم يقول:

«قد نقضتم العهد الّذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي.

اخرجوا من بلادي فقد أجّلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه».

(1) فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللهجة و الساخنة المضمون انكسارا عجيبا في يهود بني النضير، و أخذوا يتلاومون، و أخذ يحمّل كل واحد منهم الآخر مسئولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الاسلام، و يؤمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. و عمتهم حالة يرثى لها من الحيرة، و الانقطاع، فقالوا لمبعوث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجل من الاوس.

و يقصدون أنه كان بيننا و بين الأوس حلف فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة: تغيّرت القلوب.

(2) و قد كان هذا الاجراء متطابقا مع ما جاء في ميثاق التعايش الذي عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع يهود يثرب ابان دخوله المدينة، و قد وقع عليه عن اليهود بني النضير حيي بن أخطب، و قد نقلنا في ما سبق النصّ الكامل لهذا الميثاق و ها نحن ندرج هنا قسما منه ليتضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق (العهد):

«ألّا يعينوا (أي بنو النضير و بنو قريظة و بنو قينقاع) على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا

على أحد من أصحابه بلسان و لا يد و لا بسلاح و لا بكراع في السرّ و العلانية لا بليل و لا بنهار و اللّه بذلك عليهم شهيد، فان فعلوا فرسول اللّه في حل

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 366.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:210

من سفك دمائهم، و سبي ذراريهم، و نسائهم، و أخذ أموالهم» «1».

(1)

المستشرقون و دموع التماسيح:

لقد أبدى المستشرقون حزنهم و أسفهم لما جرى في هذه القضية، و ذرفوا دموع تماسيح، و أبدوا دقّة و شفقة أكثر مما تبديه والدة تجاه وليدها، على اليهود الخونة الناقضين العهد، الناكثين للايمان، و اعتبروا الإجراء الذي اتخذه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحقهم بعيدا عن روح الانصاف و سنن العدل!!

و الحق أن هذه الاعتراضات و الانتقادات لا تنبع من منطلق السعي لمعرفة الحقيقة، لأننا عند مراجعتنا لنص الميثاق الذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصورون و يصورون فاننا نعرف أن الجزاء الذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إن هناك اليوم مئات الجرائم و المظالم التي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق و الغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين الرحماء، أدعياء الدفاع عن حقوق الانسان!!!

أما عند ما يقوم رسول الاسلام بتنفيذ عقوبة- هي في الحقيقة- اقل بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحق زمرة خائنة متآمرة ناقضة للعهد تتعالى أصوات حفنة من الكتاب المدفوعين بأغراض معينة و دوافع خاصة بالاعتراض، و الانتقاد.

(2)

دور حزب النفاق أيضا:

كان خطر المنافقين- و كما أسلفنا- أكبر من خطر اليهود لأن المنافق يطعن من الخلف و تحت غطاء من الصداقة، و يتستر وراء قناع الصحبة و الزمالة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:211

و قد كان رأس هذا الحزب هو «عبد اللّه بن أبي» و «مالك بن أبي» و .. و ..

و لمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسلوا إليهم من يقول لهم: لا تخرجوا من دياركم و أموالكم،

و أقيموا في حصونكم، فان معي ألفين من قومي و غيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم و تمدكم قريظة فانه لن يخذلونكم، و يمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!

و لقد جرّات هذه الوعود بني النضير، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأغلقوا أبواب حصونهم، و أعدّوا عدة الحرب، و عزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مهما كلّف الثمن، و لا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم و ممتلكاتهم دون عوض.

(1) فنصحهم أحد كبرائهم و هو «سلام بن مشكم» و شكك في وعود عبد اللّه بن أبي، و اعتبرها وعودا جوفاء، و قال: ليس رأي ابن أبيّ بشي ء، فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا، و ذهاب أموالنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

إلّا أن «حيي بن أخطب» أبي إلّا محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حث الناس على المقاومة و الصمود، و أرسل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

إنا لا نبرح من دارنا و أموالنا فاصنع ما أنت صانع!!

(2) فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برسالة «عبد اللّه بن ابي» إلى بني النضير، و و عوده لهم، فاستخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة، و سار صلّى اللّه عليه و آله في أصحابه مكبّرا لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم و استقر في الطريق بين «بني النضير» و بين «بني قريظة» ليقطع بذلك سبيل الاتصال بين هذين الفريقين، و حاصر بني النضير ست ليال- حسب رواية ابن هشام- «1» أو خمسة عشر يوما حسب روايات آخرين، و لكن اليهود تحصنوا منه في الحصون، و

أظهروا المقاومة، و الإصرار على الامتناع، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 191، و هذا من التكتيكات العسكرية التي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:212

بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون، و إلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة ما دامت بساتينهم أعدمت، و افنيت.

(1) فتعالت نداءات اليهود تقول: يا محمّد، قد كنت تنهى عن الفساد، و تعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل و تحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» «1».

هذا من جهة و من جهة اخرى خذلهم عبد اللّه بن أبيّ، فلم يأتوهم، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح و لا رجال.

و قد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» «2».

و قد كشفت الآيات الحاضرة- إلى جانب ما ذكر- عن نفسية اليهود الجبانة، و التي انهارت أيضا بسبب معنويات المسلمين القوية حتى أنهم رغم اجتماعهم و عددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلّا من وراء

أسوار الحصون، و جدران القلاع القوية خائفين مذعورين، و مرعوبين، و هم الى جانب كل ذلك يعانون من اضطراب و قلق و تفرق كلمة في الواقع.

و أخيرا رضخ اليهود لمطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألوه أن يجليهم، و يكفّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الابل من أموالهم إلّا السلاح

______________________________

(1) الحشر: 5.

(2) الحشر: 11- 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:213

و الدروع، فرضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدر ممكن، حتى أن الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر، و سارت جماعة اخرى منهم الى الشام.

و قد خرجت تلك الزمرة الذليلة المسكينة و هم يضربون بالدفوف، و يزمّرون بالمزامير، و قد البسوا نساءهم الثياب الراقية، و حليّ الذهب، مظهرين بذلك تجلّدا ليغطوا على هزيمتهم، و يروا المسلمين أنهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!

(1)

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط:

إن ما يغنمه جنود الاسلام دون قتال و هو ما يسمى بالفي ء يعود أمره الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصة يضعه حيث يشاء و يصرفه فيما يرى من مصالح الاسلام لقوله تعالى:

«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» «1».

و قد رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن من الصالح أن يقسم المزارع و الممتلكات التي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار، لحرمانهم من ممتلكاتهم و ثروتهم في مكة بسبب الهجرة منها الى المدينة، و كانوا في الحقيقة ضيوفا على الأنصار طوال هذه المدة، و قد أيّد «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة»

هذا الرأي، و من هنا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميع تلك المزارع و الممتلكات على المهاجرين خاصّة، و لم يصب أحد من الأنصار منها شيئا الا رجلان كانا محتاجين هما: «سهل بن حنيف»، و «أبو دجانة»، الانصاريين و حصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامة، و أعطى «سعد بن معاذ» سيف

______________________________

(1) الحشر: 7.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:214

رجل من زعماء بني النضير و كان سيفا معروفا.

يقول المقريزي:

فلما غنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الانصار كلّها- الاوس و الخزرج- فحمد للّه و أثنى عليه، و ذكر الانصار و ما صنعوا بالمهاجرين و انزالهم اياهم في منازلهم، و آثرتهم على أنفسهم ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«ان أحببتم قسمت بينكم و بين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير و كان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم و أموالكم، و ان أحببتم أعطيتهم و خرجوا من دوركم»؟

فقال سعد بن عبادة و سعد بن معاذ: رضينا و سلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه، على المهاجرين دون الانصار إلّا رجلين كانا محتاجين .. الخ «1».

و قد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأول في السنة الرابعة من الهجرة و نزلت سورة الحشر في هذا الشأن، و التي جاء في مطلعها قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» «2».

هذا و

يعتقد أكثر المؤرخين المسلمين أنه لم يسفك في هذه الحادثة، أي دم، و لكن المرحوم الشيخ المفيد يكتب في ارشاده: انه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتال محدود قتل فيه عشرة من اليهود و كان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون «3».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 182 و 183.

(2) الحشر: 2.

(3) الارشاد: ص 47 و 48.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:215

و قال المقريزي: و فقد علي رضي اللّه عنه في بعض الليالي فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس «عزوك» و قد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين و كان شجاعا راميا فشدّ عليه علي رضي اللّه عنه، فقتله و فرّ اليهود «1».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 180.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:216

(1)

35 تحريم الخمر ذات الرقاع، بدر الصغرى

1- تحريم الخمر:
اشارة

كانت الخمور، و على العموم جميع المسكرات و لا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن و سلامة المجتمعات البشرية و تجر إليها أكبر الأخطار و يكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء، ذلكم هو العقل، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان و بين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره، و تكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور و المسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء، و كانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية «1».

______________________________

(1) عام 1339 هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران، و قد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي

المسكرات.

و قد كان يحبّ أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ: (آية اللّه السيد البروجردي) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور و المسكرات، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة «قم»، و بعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد، و قد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس و كنت أنا و والدي حاضرين هناك كذلك.

فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو: لما ذا حرم الاسلام المسكرات؟

فقال الامام البروجردي: يكفي أن أشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة و هي أن الخمرة تحطّم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء، و يتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:217

(1) و لقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية و متجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل، و اسلوب مدروس، و لم تكن الظروف و الاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسول الاسلام عن تحريم الخمر دفعة واحدة و من دون آية مقدمات، و ممهّدات لذلك، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي و القطعي تماما كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض، و تجذر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمط واحد، بل بدأت من مرحلة مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

(2) إنّ التمعن في هذه الآيات تكشف لنا عن كيفيّة الاسلوب النبويّ في التبليغ و الإرشاد، و الدعوة و الهداية، و ينبغي للخطباء، و الكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر و المفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية

المزمنة، و يكافحها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق و سلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع و إيقافه أوّلا على أضرار ذلك السلوك، و مفاسده، و تذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع- بذلك- الاستعداد الروحي بل و الدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية و جذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد، و الخلق الذميم، و يكون الناس هم الضمانة لا نجاح هذه المهمة. و ذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف «1».

كيف و العرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم:

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 263.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:218 اذا مت فادفني الى جنب كرمةتروّي عظامي بعد موتي عروقها «1» من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور و الاعناب- في مجتمع كان تعاطي الخمر جزء أساسيا من حياته- مخالفا للرزق الحسن، و بذلك ايقظ العقول العافية، إذ قال:

«وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً» «2».

(1) إنّ القرآن أعلن- في المرحلة الاولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر- أن اتخاذ المسكر من التمر و العنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر و العنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية: أعطت هزة ذكيّة للعقول و هيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يشدد من نبرته، و يعلن عن طريق آية اخرى أنّ النفع المادي القليل، الذي تعود به الخمر و يأتي به القمار، ليس بشي ء بالقياس الى أضرارهما الكبرى و أخطارهما العظيمة، و قد

تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» «3».

(2) و لا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع و الضرر، و كذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كاف لايجاد النفور و الاشمئزاز لدى العقلاء، و الداعين من الخمر و ما شاكلها، و شابهها.

إلّا أن جماهير الناس و عامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهيا صريحا و قاطعا عنها.

فها هو عبد الرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة و أحضر على المائدة خمرا، فأكلوا، و شربوا الخمر، ثم قاموا الى الصلاة، فأخطأ أحدهم في القراءة و هو سكران خطأ غيّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من

______________________________

(1) أي ما يسكر.

(2) النحل: 67.

(3) البقرة: 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:219

الآية، فقد تلا سورة «الكافرون»، و بدل أن يقول: «لا أعبد ما تعبدون» قرأ:

«أعبد ما تعبدون». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر، و خشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمرا عظيما!!

(1) و قد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف و حالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة، و أعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر، و قد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «1».

و لقد بلغ من تأثير هذه الآية، و فاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يطرد من حياة المسلم نهائيا.

و لكن البعض بقي

يتعاطاها حتى أنّ رجلا من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر- رغم نزول الآية الحاضرة- فلما شربوا و أسكروا حمل بعضهم على بعض، و جرح بعضهم بعضا فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقدا عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها و لهذا رفع يديه إلى السماء و قال: اللّهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر.

(2) و لا يخفى أن هذه الحوادث و الوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريما كاملا و قاطعا، من هنا نزل قوله تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2».

______________________________

(1) النساء: 43.

(2) المائدة: 90.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:220

و قد دفع هذا البيان البليغ القاطع أن يقلع عن الخمر نهائيا من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح و قاطع عنها.

و قد جاء في كتب السنة و الشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية: انتهينا يا ربّ «1»!!

(1)

وقفة عند «البيان الشافي»:

قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر، بل بقي ينتظر بيانا شافيا يكشف عن التحريم القطعي، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور و المسكرات، و قد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو: أنّ الخمر «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون» و لكن المتغربين، و هواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر، فيقولون لا بدّ أن يعلن عن هذا التحريم بلفظة:

حرام أو حرّمت،

و الّا لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها، الأسيرة لشهواتها الحرام، لا تريد في الحقيقة إلّا أن تظل عاكفة على الخمر أبدا، و من هنا تطرح مثل المعاذير و تتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء.

على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكل ما في شأن الخمر إذ قال: «و إثمهما أكبر من نفعهما» «2».

و قد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اخرى إذ قال:

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ» «3».

و بعبارة اخرى: لقد بين اللّه تعالى في آية اخرى الموضوع، و هو أن الخمر (التي تسمّى إثما أيضا) قد حرّمت.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 4 ص 143، روح المعاني: ج 7 ص 15.

(2) البقرة: 219.

(3) الاعراف: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:221

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح و التحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

(1) و في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها «رجس» و أنها نظير «الميسر»، و أنها «عمل شيطاني»، مناقض للفلاح، و سبب «للعداوة» و «البغضاء»، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها، و لا غموض، و هي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر و أنصف، و تجرّد عن الاهواء و الأغراض المريضة.

و هنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة و هي أن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع، بيئته و مجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة، و يقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة، و أجهزة الدعاية

الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق، فقد اخفقت كل خططه، أمام هذا السمّ القاتل، و الفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933- 1935 أمر معروف للجميع، و له قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها «1».

رواية مختلقة:

و من عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى:

«و لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا: «اعبد ما تعبدون» فانزل اللّه تعالى هذه الآية:

«لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي عليه السلام مثل هذه

______________________________

(1) راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 80 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:222

النسبة و هو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر «1» و هو الذي نشأ و ترعرع في احضان سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يتجنب الخمر، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها، هذا و علي عليه السلام المعروف بحكمته و فهمه و علمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن عليا عليه السلام شرب الخمر، و هناك في الجاهلية (و قبل الاسلام) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل، و يؤول بالمرء الى ما لا يحمد. سيد المرسلين ج 2 222 رواية مختلقة: ..... ص : 221

ي السيرة الحلبية كان عبد اللّه بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها و سبب ذلك أنه سكر ليلة فصار

يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

و كان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا و قال:

لا أشرب شيئا يذهب عقلي، و يضحك بي من هو أدنى مني، و يحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد «2».

و ورد عن الامام محمد الباقر عليه السلام قال: أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره فقال: لو لا أن اللّه تبارك و تعالى أخبرك ما أخبرتك:

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

و ما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

و ما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

______________________________

(1) الاحزاب: 33، راجع تفاسير الفريقين و مجاميعهم الحديثية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 130.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:223

و ما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر و لا ينفع.

فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على عاتقه و قال: «حق للّه تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة» «1».

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة و منزلة من الإمام علي عليه السلام من الخمر، و لو في العهد الجاهلي، و قبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع و الدس أبت إلّا أن تختلق رواية في المقام، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا و متنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ:

1- حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان

هو و عبد الرحمن و رجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت:

لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى.

2- حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما و شرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأكلوا و شربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد و أنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك و تعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «2».

و الروايتان- مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال- تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب، و هو مطعون في وثاقته و ديانته، و في حفظه و حديثه، و إليك ما قال عنه أئمة علم الرجال:

______________________________

(1) الدرجات الرفيعة: ص 70 نقلا عن الامالي لابن بابويه.

(2) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري: ج 5 ص 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:224

قال عنه الذهبي: عطاء بن السائب أحد علماء التابعين، تغيّر بأخرة و ساء حفظه.

قال عنه أحمد: من سمع منه قديما فهو صحيح، و من سمع منه حديثا لم يكن بشي ء.

و قال عنه يحيى بن معين: لا يحتج به.

و قال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى: حديثه ضعيف.

و قال عنه أبو حاتم: محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

و قال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

و قال ابن عليّة: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فكنا نسأله، فكان يتوهّم، فنقول له:

من؟ فيقول: اشياخنا ميسرة، و زاذان، و فلان.

و قال الحميدي، حدثنا سفيان، قال: كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت، فخلّط فيه، فاتقيته و اعتزلته.

و اضاف الذهبي: «و من مناكير عطاء ...» «1».

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال، انه سيئ الحفظ، ضعيف مخلّط له مناكير، يتوهّم، تغيّر بأخرة، و قد ظهرت آثار الوهم و سوء الحفظ و التخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن عليا عليه السلام كان مأموما في هذه القصة (كما في الرواية الاولى) و تارة يقول كان عليه السلام إماما للجماعة.

و هذه الرواية من مناكيره، و أوهامه بلا ريب، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره، شرب الخمر، و الائتمام برجل دونه في الفضل، أو إمامته للجماعة و تخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

و لنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام عن

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: ج 3 ص 70- 73.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:225

فترة صباه في كنف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية و نظائرها: قال عليه السلام:

«قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني الى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده و يشمّني عرفه، و كان يمضغ الشي ء فيلقمنيه و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل، و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن كان

فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و لقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به» «1».

هذا و أغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي عليه السلام و غيره، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

و مما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب و المفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال، و يذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل، كما فعل سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» «2»، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله، و يجوز تكراره. و بخاصة من دون تعليق و تكذيب.

(1)

غزوة ذات الرقاع:
اشارة

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة، و هذا الجهاد المقدس بالرقاع، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود، و بقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

و ربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 192.

(2) عند تفسير قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:226

الخرق، و الرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع «1».

و على كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال، و الانفجار، و بالضبط جاءت لتقضي على تحركات و استعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب و بنو ثعلبة و كلاهما من قبائل غطفان.

(1) و قد كان من دأب النبيّ و سياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة

ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية، و في أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة و الرجال لاجتياح المدينة و غزوها، فسار إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رأس مجموعة من رجاله و أصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو «2».

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية، و ما سطروه في المعارك و المواقف من قصص المقاومة و الصمود و البسالة و الاستقامة، و ما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب، و اللجوء الى رءوس الجبال، و قد خافوا ألّا يبرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يستأصلهم.

و قد صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف، التي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.

و أغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته و قواه، و ان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف، و لكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

______________________________

(1) السيرة النبوية، الهوامش: ج 2 ص 204.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 188.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:227

(1)

مواقف خالدة في هذه الغزوة:
اشارة

يروي المؤرخون و المفسرون المسلمون كابن هشام «1» و أمين الاسلام الطبرسي «2» قصصا عجيبة، و حوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أعدائه، و قد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار، و لكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود

المسلمين و اخلاصهم لدينهم.

(2)

الحرّاس الصامدون:

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال و لكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم، و استراح في شعب في أثناء الطريق، و بات ليلته هناك، ثم كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان: «عباد» و «عمار»، فقسم الرجلان الليل بينهما، فنام أحدهما و سهر الآخر يحرس الجيش، و كان الذي سهر أول الليل هو «عباد».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين، و كان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا و يعود الى محله.

و قام «عباد» يصلّي، و أقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى «عباد» سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه: نعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم، و حرسهم ففوّق له سهما و رماه به فأصاب عبادا و لكن عبّادا نزع السهم و وضعه، و ثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر، فأصابه فانتزعه و ثبت قائما فرماه بثالث فنزعه، فلما غلب عليه الدم ركع و سجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد اصبت، فجلس عمّار، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 205- 209.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 103.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:228

به،: فقال عمّار: أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال: كنت في سورة أقرأها و هي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، و لو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما انصرفت و لو أتى على نفسي «1».

و هكذا صمد هذا المسلم و استمر في صلاته غير

مبال بما اصابته من السهام.

(1)

بدر الثانية:
اشارة

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم «احد» نادى: موعدنا و موعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

و لهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم و قد مر على وقعة «احد» عام واحد.

و كان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول اللّه في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين، و اتفق أن قدم مكة في تلك الايام «نعيم بن مسعود» الذي كانت بينه و بين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة، فجاءه أبو سفيان و قال له: إنّي وعدت محمّدا و أصحابه يوم «احد» أن نلتقي نحن و هو ببدر الصفراء على رأس الحول، و قد جاء ذلك، و لا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم: ما أقدمني إلّا ما رأيت محمّدا و أصحابه يصنعون من إعداد السلاح و الكراع، و قد تجلّب إليه حلفاء الأوس، فتركت المدينة أمس و هي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان، و ضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و تقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة و يحذر المسلمين من الخروج للموعد، و يخذّلهم.

(2) و عاد «نعيم» إلى المدينة، و راح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 208، المغازي: ج 1 ص 397.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:229

و آله و يخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلّا أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرج صلّى اللّه عليه و آله في ألف و خمسمائة مقاتل من أصحابه، و قد

خرجوا ببضائع لهم، و تجارات حتى انتهوا الى «بدر» و قام السوق السنوي هناك فباعوا و اشتروا في موسم بدر و ربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس، و لكن النبيّ و أصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان و جيشه.

و قد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما و رائعا إذ أظهر قوة النبيّ و عزيمته و قوة أصحابه و عزيمتهم، و لهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الى بدر، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه، فخرج أبو سفيان و المشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران، و لكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء و القحط، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان و قال: قد و اللّه نهيتك يومئذ أن تعد القوم، و قد اجترءوا علينا، و رأوا انا قد أخلفناهم، و انما خلفنا الضعف عنهم «1».

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه:

(1) و في الثالث من شهر شعبان من هذه السنة (الرابعة من الهجرة) ولد السبط الثاني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الامام الحسين بن عليّ «2»، كما توفيت «فاطمة بنت أسد» والدة الإمام علي عليه السلام «3».

و في هذا العام بالذات أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود «4».

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 384- 390، و قد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس و الاربعين بعد الهجرة.

و تسمى هذه الغزوة «بدر الموعد».

(2) و (3) تاريخ الخميس: ج 1 ص 467.

(4) إمتاع الاسماع: ص 187، تاريخ الخميس: ج 1 ص 464.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:230

(1)

حوادث السنة الخامسة من الهجرة «1»

36 من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة «الاحزاب»، و قصة بني قريظة، و زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

و أوّل هذه الحوادث- كما عليه المؤرخون المسلمون- هو زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمرأة المذكورة.

و قد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات (4، 6، 36، الى 40) من سورة «الاحزاب»، و لا يبقى- حينئذ- مجال لأكاذيب المستشرقين و دسائسهم و مختلقاتهم الواهية.

و نحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر و الينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث و التحريف، و المسخ، و التشويه، ألا و هو القرآن الكريم، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون و من لف لفهم،

______________________________

(1) يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة و لكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية، لأن رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله كان منشغلا بغزوة «الاحزاب»، و «بني قريظة» من 24 شهر شوال من السنة الخامسة الى 19 من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا، و اذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين، و لهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:231

و نحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

(1)

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب و هو صغير من قافلة، و باعوه عبدا في سوق عكاظ، و قد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، و قد أهدته خديجة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد زواجها منه.

و لقد دفعت سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحسنة، و أخلاقه الفاضلة و سجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا شديدا، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه، و علم بوجوده عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مشي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه أن يعتقه، و يعيده إليه، ليعيده بدوره إلى أمه و يلحقه بأقربائه، فابى زيد إلّا البقاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فضّل ذلك على المضي مع أبيه، و العودة إلى وطنه، و عشيرته، و قد خيّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

(2) على أن ذلك الانجذاب و الحب كان متبادلا بين زيد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله فكما أن زيدا كان يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يحب أخلاقه و خصاله، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحب زيدا كذلك لنباهته و أدبه حتى أنه أعتقه و تبنّاه، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة، و لكي يتأكد ذلك وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و قال لقريش:

«يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني» «1».

و قد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق و المؤمن المجاهد في معركة مؤته، فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 2 ص 235 و كذا الاستيعاب و الإصابة مادة: زيد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:232

(1)

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ:

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع و فئاته، و يقارب بينها قدر الامكان، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية و التقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة و النسب، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة و السجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة و الاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة و الفقيرة.

و أي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم و تحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تحطيم هذا التقليد بأقربائه و ذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال، فقام بتزويج عتيقه «زيد بن حارثة» من شريفة من

بني هاشم و هي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة، و يعرفوا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله: «لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى» و «إنّ المؤمن كفؤ المؤمن».

(2) و لأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب، و خطبها لزيد، فلم تبد زينب و أخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم، و من ناحية اخرى كان الرد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرا صعبا و لهذا تذرّعا بعبودية «زيد» السابقة و حاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب و أخيها لطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:233

مِنْ أَمْرِهِمْ، وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» «1».

فتلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم فورا فدفع إيمان زينب و أخيها الصادق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها و رضا أخيها بهذا الزواج، فتزوّجت ابنة شريف قوم «زينب» بعتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد و بذلك طبّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة، و آدابه الانسانية الرفيعة، و حطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية،

و أكثرها تخلفا و اجحافا.

(1)

زيد يطلق زوجته:

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا، فقد آل إلى الطلاق، و الافتراق و يعزى البعض ذلك إلى نفسيّة «زينب» و سلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه، و علوّ حسبها، و بذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة و تسبب انزعاجه.

و لكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة، و عدم الالفة، فقد اتخذ أزواجا متعددة و طلقهنّ (إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها و هي في حبالته) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

و يشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحادّ، له، فان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب و قال: «أمسك عليك زوجك و اتّق اللّه» «2».

و لو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

______________________________

(1) الاحزاب: 36.

(2) الاحزاب: 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:234

و مهما يكن فقد طلق زيد زينبا و افترقا، ثم تزوج بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك.

(1)

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى:

اشارة

و لكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

و بعبارة اخرى و أكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي، و بين المتبنى.

و توضيحا لهذا الأمر نقول:

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون، و كان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه و يدعوه ابنه، و يلحقه بنسبه و تصير له

حقوق البنوة و ملحقاتها.

و لما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام و ذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية، فالوالد هو- في الحقيقة- المنشأ المادي لوجود ابنه، و يرث الولد من والده و والدته الكثير من صفاتهما الجسمية و الروحية، و بذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

(2) و على أساس هذه الوحدة الطبيعية، و وحدة الدّم يتوارث الآباء و الأبناء، و تترتب أحكام خاصة في مجال الزواج و الطلاق، و التحليل و التحريم.

و بناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية، لا يوجد أبدا باللفظ و اللسان.

و لهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة:

«وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:235

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» «1».

فلا يكون الابن المتبنى و الولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث، و الزواج و الطلاق و ما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه و يشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

(1) و من المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق و الشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول و صحيح هو نوع من العبث بعامل النسب، و هو العنصر المهم في المجتمع

السليم الصحيح.

و على هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا و مقبولا، إلّا أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي و حقوقه يعد أمرا بعيدا و غريبا جدا عن المحاسبات العلمية، و الاسس الموضوعية.

و لقد كان المجتمع العربي- كما اسلفنا- يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق، و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي و السنة الخاطئة باجراء عملي صارخ و ذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه «زيد»، و يمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول، و وضع القانون، في التأثير، و الفاعلية. و لم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

(2) لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه و مخالفته و التزوج بمطلّقة دعيّه «2» لقبحه في نظر العرب لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير، إذ قال:

______________________________

(1) الأحزاب: 4 و 5، راجع تفسير الميزان: ج 16 ص 290 و 291.

(2) الدعيّ هو الابن المتبنى و جمعه أدعياء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:236

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» «1».

(1) إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة (سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى)

و اعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام، لأن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله تزوّج بمطلّقة عتيقه و قد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

و لقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض و النقد من جانب المنافقين، و أصحاب العقول الضيّقة، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط و النوادي و أخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الرد على تلكم الافكار و الاقوال الباطلة قوله:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» «2».

(2) على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» «3».

و خلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات اللّه و لا يخاف لوم اللائمين، و كيد المنافقين، و إرجاف المرجفين.

______________________________

(1) الأحزاب: 37.

(2) الأحزاب: 40.

(3) الأحزاب: 38 و 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:237

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه و متبناه و عتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

(1)

المستشرقون و قضية تزوّج النبيّ بزينب:
اشارة

إن زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب مطلّقة زيد بن حارثة- كما لاحظت- قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو

غموض.

و لكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء و من شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي و أرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال، و نكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ و التحريف فيه.

و لا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية، و السلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم و التحقيق، فقد سعى- و لم يزل- لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة و تبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق و مدروس و هذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري، و الثقافي.

و في الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار، بل و جيشه المتقنع بقناع العلم و المعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع، و يتسلسل إلى اوساط المفكرين و المثقفين و ينفث سمومه القاتلة، و يحذر العقول، و يمهّد النفوس للاستعمار السافر، و المكشوف.

(2) و يمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب و عشّاق القلم و الثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر، و العصبيّة و التخلف و يتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية، و لكنّ كتابات المستشرقين و إخفاءهم المتعمّد و الكثير للحقائق، و تحريفهم و دسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا و الخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم و تحرّي المعرفة، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام، و لرسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:238

اللّه و المسلمين «1».

(1) و يشهد على هذه النزعة- بجلاء و وضوح- موقفهم من زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش و

ما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة، فأعطوها صبغة قصص الحب و أساطير الغرام على طريقة القصّاصين و الروائيين و ديدنهم، و عمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة و ضخّموها و نفخوا فيها و نسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

و على كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير «2» و من قبله الطبري «3» و بعض المفسّرين، و هي أنه: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد زيدا و على الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها و هي حاسرة فأعجبته!!!

و لكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون و المفسرون، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة و ليلة.

(2) إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله و فرعه من نسج الخيال، و صنع الأوهام، و انها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي و الآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير و الطبري بصراحة كاملة و قالوا: إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها و اختلقها أعداء الاسلام، و راجت في كتب المؤلفين المسلمين «4».

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة و بهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

______________________________

(1) للتاكّد الأكثر من هذا الأمر (راجع كتاب المستشرقون).

(2) و (3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 121، جامع البيان في تفسير القرآن: ج 22 ص 10.

(4) مفاتيح الغيب: ج 25 ص

212، روح المعاني: ج 22 ص 23 و 24.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:239

ابن الأثير، و الطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها و برّأوا ساحة النبيّ العظيم صلّى اللّه عليه و آله من هذه المساوئ.

و على أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ، و نعتقد أن القضية في واقعها و حقيقتها واضحة جدا، و اغنى من ان ندافع عنها.

و إليك أدلّتنا:

(1) أولا- ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل و هو (القرآن الكريم) لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة و هي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه، خاصة و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعل ذلك بأمر اللّه سبحانه و ليس بدافع من الرغبة الشخصية، و الحب الشخصي، و لم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود و النصارى و المنافقون الى نقده و تفنيده، و لأحدثوا ضجة بسبب ذلك، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تلويث سمعته.

(2) ثانيا- أن «زينب بنت جحش» هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الزواج بها قبل أن يتزوج بها «زيد» و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله يحبّ الزواج بها- و هو يعرفها طبعا- لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها، فلما ذا لم يتزوج بها؟ و لما رفض طلبها؟.

أجل، انه لم يتزوج بها و لم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:240

(1) و بعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات و أوهام جنود الاستعمار و طلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله من أمثال هذه الترّهات و النسب الرخيصة و نرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

و لا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة «التاريخ الكامل» لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال:

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة، و اختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه و على آله الصلاة و السلام، و هل يعقل: انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ و انما دسائس الزنادقة، و مبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون، فافتكروا في رواية الخبر، فاتخذوه أساسا، و أعرضوا عن كتاب اللّه و عن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

و العجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله، و كلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر، و لو عرضت كل رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه، ثم تزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا»، فاذن كان الزواج لأجل التشريع، و كان عمليّا، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:241

قال الفخر الرازي: و فيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل لبيان الشريعة بفعله، انتهى.

و نحن نعتب عليه أيضا إذ جعله اشارة و لم يجعله صريحا و بما أن روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد فالحكاية التي أوردها المؤلف نقلها كثير من المفسرين غير مفكرين بما فيها من طعن في الدين لإفادتها أن الشريعة الاسلامية عبارة عن إتباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزهت عن ذلك كله، و يرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره: و حاصل العتاب: لم قلت «امسك عليك زوجك»، و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك و هو مطابق للتلاوة، لأنّ اللّه أعلم أنه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة و السلام و لم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زوّجناكها» فلو كان الضمير محبتها و ارادة طلاقها، و نحو ذلك لأظهره جلّ و علا،

و للقصّاص في هذه القصّة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيّز القبول، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيفة التي تشبه ما أورده المؤلف (أي ابن الأثير) محذرا الناس منها و من أمثالها التي لا تروج إلّا على الحمقى و المغفلين انتهى. راجع هامش الكامل في التاريخ ج 2 ص 121. طبعة القاهرة ادارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

(1)

توضيح عبارتين:

هذا و استكمالا للبحث، و اتماما للفائدة ندرج نص الآية التي نزلت في هذا المجال، و التي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكية، و نعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما: و إليك نص الآية أولا:

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:242

و فيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان الى التوضيح:

«و تخفي في نفسك ما اللّه مبديه».

(1) فما ذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخفي في نفسه و قد أظهره اللّه و أبداه بعد كل تلك النصيحة التي نصح بها صلّى اللّه عليه و آله زيدا؟

ربما يتصوّر أحد أنّ الأمر الذي كان يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو رغبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تطليق زيد زوجته زينب أي أنه و ان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينهى زيدا في الظاهر عن تطليق زينب، إلا أنه كان في سرّه يرضى بذلك بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوجها هو.

و لا شك أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقا لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا كان يبطن مثل هذا الأمر، فلما ذا لم يبد اللّه سبحانه نيّته هذه بآيات اخرى، في

حين أنه سبحانه وعد في هذه الجملة بأن يظهر ما كان يخفيه رسول اللّه في نفسه إذ قال تعالى: «مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ»؟!

(2) و لهذا قال المفسرون: إن المقصود مما كان يخفيه هو الوحي الالهي الّذي أنزله اللّه عليه، و توضيح ذلك هو: أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأن زيدا سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ، و أنه صلّى اللّه عليه و آله سيتزوج بها من بعده لإبطال سنّة جاهلية مقيتة (و هي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ).

و من هنا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين نصيحته لزيد و نهيه عن تطليق زينب زوجته ملتفتا و منتبها إلى هذا الوحي الالهيّ أيضا، و لكنه أخفى هذا الوحي عن زيد و غيره، و لكن اللّه تعالى أخبر النبيّ في نفس تلك الجملة بأنه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قلبه، و أن الامر لن يبقى خافيا على أحد بإخفائه صلّى اللّه عليه و آله له.

و يشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم اظهر الامر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال:

«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:243

فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» «1».

فمن هذا التعقيب يستفاد أن ما كان يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الوحي الالهي، بأنه عليه أن يتزوج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنة جاهلية خاطئة.

(1) 2- و اما الجملة الثانية التي هي بحاجة الى التوضيح فهي قوله تعالى: «وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ». غير أن هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقلّ إيهاما و غموضا من

الجملة السابقة بدرجات، لأن تجاهل سنّة عريقة متجذرة في بيئة منحرفة (و هي الزواج بمطلّقة الدعيّ) يقترن- بطبيعة الحال و حتما- بحرج نفسيّ يزول و يرتفع لدى الأنبياء بتوجههم إلى الأمر الالهي ..

و اذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعاني من حرج نفسيّ شديد من هذه القضيّة فانما هو لأجل أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يتصوّر أن جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلا، لم يمر على انقطاعهم عن عاداتهم و تقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون: إن النبي ارتكب عملا سيّئا، و الحال أن الامر ليس كما يعتقدون.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد: قوله: «لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم لمّا قضوا منهن وطرا» تعليل للتزويج و بيان مصلحة للحكم. و قوله: و «كان أمر اللّه مفعولا» مشير الى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم.

و من ذلك يظهر أن الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوجها لا هواها، و حبه الشديد لها و هي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسرين، و اعتذروا بأنها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث يقوى عليه التربية الإلهية. و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس

______________________________

(1) الاحزاب: 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:244

و التشبّب بهن «1».

و لما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكدها و يزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى: «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ

كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» «2».

ففي هذه الآيات اشارة إلى:

1- أن ما قام به النبي من التزوج بزينب كان بأمر اللّه، و كان على سبيل سنّ قانون و تشريع سنة و لكن بصورة عملية، و إن ذلك القانون علم اللّه ضرورتها و قدرها و زمانها و مكانها.

2- أن زيدا ليس ابن محمّد صلّى اللّه عليه و آله انما هو متبنّاه و دعيّه بل هو ابن والده حارثة واقعا و حقيقة و ليس ذلك إلّا تقرير و تأكيد للحقيقة التي سبقت الاشارة إليها في قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ».

3- أن ما قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من التزوج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الذي يشرّعه بأمر اللّه و إذنه تعالى لتسير عليه البشرية، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض، لا أنه أمر واقع بدافع شخصي.

______________________________

(1) تفسير الميزان: ج 16 ص 343.

(2) الاحزاب:

38- 48.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:245

4- إن اللّه هو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية و ما يصلحها و هو الذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس ازواج أدعيائهم اذا ما قضوا منهن وطرا و انتهت حاجتهم منهن و اطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكل شي ء، و معرفته بالاصلح و الاوفق من النظم و الشرائع.

5- إن ما سنّه اللّه للمسلمين و ما اختاره تعالى للامة الاسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير و الخروج من الظلمات إلى النور، فعليهم ان يذكروه و يشكروه أبدا و دائما، فانه سيكون لهم لو أطاعوه و سبّحوه و ذكروه شأن في الملأ الاعلى فهو يصلي عليهم و ملائكته، و يذكرهم هناك بالخير، و انما يفعل كل هذا من منطلق الرحمة و العناية بهم.

6- أن وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في المسلمين هي (الشهادة) عليهم، فليحسنوا العمل، و هي (التبشير) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة و غفران، و (الانذار) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب و نكال، و (الدعوة الى اللّه) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية، و ذلك باذن اللّه فما هو بمبتدع، و لا بقائل من عنده شيئا.

7- ان على النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يبشّر المؤمنين المطيعين لاوامر اللّه بأن لهم فضلا كبيرا، و لا يطيع الكافرين، و المنافقين، و ألّا يحفل أذاهم له و للمؤمنين، و ان يتوكل على اللّه وحده و هو بنصره كفيل، و هو يوحي بأن المنافقين أرجفوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه القضية، ارجافا عظيما.

و كل هذه الامور توحي بأن تغيير تلك السنة الجاهلية (عدم الزواج بمطلّقة

المتبنّى) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كل هذا التعقيب، و بالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه، كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى و القبول و التسليم، و هذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة و الخطيرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:246

(1) 37

غزوة الاحزاب «1» لقد قاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات، كما و بعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو التي كانت محتملة من جانب العدو.

و إليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة:

(2) 1- غزوة دومة الجندل «2»: بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا و أنهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين و التجار، و أنهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل و يكمن النهار أخذ بعنصر الاستتار و السرية على عادته.

و لما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دومة الجندل و عرف به تلك الجماعة تفرقوا من فورهم فلم يجد صلّى اللّه عليه و آله بها أحدا، فأقام بها أيّاما و بثّ السرايا و الدوريّات و فرّقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه، و لم يصادفوا من

______________________________

(1) ذكر ابن هشام في سيرته أن هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، و حيث إن غزوة الأحزاب انتهت في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة، و طالت محاصرة المدينة شهرا واحدا لذلك يجب أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع و العشرين من شهر شوال تقريبا.

(2) المغازي: ج 1 ص 402، السيرة النبوية: ج 3 ص

213 و دومة الجندل منطقة بين دمشق و المدينة (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 44).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:247

تلك الجماعة أحدا.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني، من دون ان يقاتل «1».

(1)

2- غزوة الخندق (الأحزاب):

اشارة

أجلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق، و سيطر على قسم من أموالهم و ممتلكاتهم، و اضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب الى «خيبر» و تسكن هناك، أو تسير الى الشام.

و قد كان إجراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا متطابقا مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه و بين يهود يثرب.

و قد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير و زعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام، فقدموا مكة، و حرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إليك مفصل هذه الغزوة:

عبّأ المشركون العرب، و اليهود قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.

(2) فقد شكّلوا اتّحادا نظاميا قويا و حاصروا المدينة مدة شهر واحد، و بما أن أحزابا مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب، و ربما سمّيت بمعركة «الخندق» لأن المسلمين احتفروا خندقا حول المدينة عظيما، دفاعا عنها، و منعا للكفار عن اجتياحها.

و لقد كان زعماء بنى النضير و بنى وائل- كما أسلفنا- هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب، و المشعلون الرئيسيون لفتيلها.

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 193 و 194.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:248

فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين، و التي اضطرّوا على أثرها الى مغادرة المدينة، فسكن بعضهم خيبر، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية و دقيقة لاستئصال شأفة الاسلام، و

القضاء عليه. و انها لخطّة عجيبة حقا، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعددة و أحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلا!!

(1) كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب العديدة، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة، و هيّئوا كل ما يحتاجون إليه من حاجات و معدات!!

و كانت الخطة كالتالي: قدم جماعة من سادة بني النضير مثل «سلام بن أبي الحقيق» و «حيي بن أخطب» في نفر من بني النضير على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فلقد جئنا لخالقكم على عداوة محمّد و قتاله.

و قال حيي بن أخطب: إن محمّدا قد وتركم و وترنا و أجلانا من المدينة من ديارنا و أموالنا، و أجلا بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض، و اجمعوا حلفاءكم و غيرهم حتى نسير إليهم، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل و هم بنو قريظة، و بينهم و بين محمّد عهد و ميثاق و أنا أحملهم على نقض العهد بينهم و بين محمّد و يكونون معنا عليهم، فتأتونه انتم من فوق و هم من أسفل.

فأثّرت كلمات اليهود و ما قاله «حيي بن اخطب» في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه، و اصحابه، و استحسنوا خطتهم، و ابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قتاله. و لكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين: يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأوّل، و العلم، أخبرونا عما اصبحنا نحن فيه و محمّد، ا فديننا خير أم دين محمّد؟

(2) و يجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة (التي

كانت و لا تزال تعد نفسها حامل لواء التوحيد، الوحيد في العالم) اولئك المشركين الجهلة الذين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:249

وصفوا اليهود بالعلم و المعرفة، و طلبوا منهم حل مشكلتهم؟! «أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة: بل دينكم خير من دينه، و أنتم أولى بالحق، إنكم لتعظّمون هذا البيت، و تقومون على السقاية، و تنحرون البدن، و تعبدون ما كان عليه آباؤكم، فانتم أولى بالحق منه!!! «1».

و لقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة و صمة عار اخرى الى سجلّهم الاسود، و زادوا تاريخهم المشؤوم سوادا، و سوء.

و لقد كانت هذه الغلطة فضيعة، و قبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها، في ما بعد.

(1) فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) حول هذا الموقف المشين جدا قائلا: «كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، و الا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي و لوأدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم و كل عزيز لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام انما كانوا يحاربون أنفسهم و يناقضون تعاليم التوراة» «2».

(2) و في الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح مقاصدهم، و تحقيق مآربهم. فهم يعتقدون- بكل جدّ- أن عليهم- لتحقيق أهدافهم- التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة، و هذا هو مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» التي طرحها ميكافيلي، و بالتالي فان «الاخلاق» في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم و يحقق أغراضهم ليس إلّا.

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول:

«أَ لَمْ تَرَ

إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 217.

(2) حياة محمّد: ص 329.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:250

يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» «1».

(1) و لقد ترك كلام أدعياء العلم و الدين هؤلاء، أثرا عجيبا في نفوس المشركين و عبدة الاوثان، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية و هو تأليف جيش من قبائل متعددة لمقاتلة المسلمين و حدّدوا معهم موعدا للتوجه الى المدينة، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة و مشعلو الحرب (اليهود) من مكة بقلوب مملوءة سرورا، و غبطة، و ساروا الى نجد، ليتصلوا بقبيلة غطفان- و كانت من اعدى اعداء الاسلام- فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان: بني فزار، و بني مرّة، و بني اشجع، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر، لمدة سنة، بعد الانتصار على المسلمين، و لكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حلفاءها من بني سليم و راسلت غطفان حلفاءها من بني اسد، و دعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب، فاستجابت لهم تلك القبائل، و تحركت جميع هذه الفئات و الاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة، نحو المدينة في يوم معين و هي تبغي اجتياح مركز الاسلام، و استئصال شأفته!! «2».

(2)

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة:

منذ أن سكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة كان يبعث بجواسيسه و عيونه النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة، لتقصّي الأخبار، و مراقبة الأوضاع، و إخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولا بأول.

فقدم أحدهم

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بخروج تلك القوة

______________________________

(1) النساء: 51 و 52.

(2) المغازي: ج 2 ص 443.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:251

الكبيرة و مسيرها إلى المدينة، و بهدفها، و تاريخ خروجها، و وصولها إلى مشارف يثرب.

فرعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فورا و أخبرهم خبر عدوّهم، و شاورهم في الامر، ليستفيدوا من تجارب «احد»، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن، و القيام بالدّفاع من داخل القلاع و الحصون، و لكن هذا العمل لم يكن كافيا لأن جيش العدوّ كان كثيفا و كبيرا جدا و كان من المحتمل بقوّة أن تقوم عناصره الكثيرة، الكبيرة في عددها بهدم الحصون و القلاع، و القضاء على المسلمين، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلا.

(1) فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفا بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة: يا رسول اللّه إنّا اذا كنّا بأرض فارس، و تخوّفنا الخيل، خندقنا حولنا، فهل لك يا رسول اللّه أن تخندق؟ «1»

و في رواية اخرى أنه قال: يا رسول اللّه نحفر خندقا يكون بيننا و بينهم حجابا، فلا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة «2»، (أي محدودة).

فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعا، و كان لهذا التكتيك أثر جوهري و بارز جدا في حفظ الاسلام و صيانة المسلمين.

(2) و من الجدير بالذكر أن النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانيا و لكى يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من ناحية «احد» الى «راتج» و كان سائر

المدينة مشبك بالبنيان و النخيل لا يتمكن العدو منها، و علّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 445، تاريخ الطبري: ج 2 ص 234.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 218.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:252

الأرض.

و لكي يتم هذا الامر بنظام و سرعة جعل على كلّ عشرين خطوة، و ثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين و الانصار يحفرونه، فحملت المساحي و المعاول، و بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه و أخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، و عليّ عليه السّلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عيي «1» و هو يقول:

«لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار و المهاجرة».

(1) و قد كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام و اسلوبه، و في ذلك تنشيط الامة و تقوية لعزائمهم في مجال القيادة و اخلاق القائد، و أفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ، و على إمام الامة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم و يسعى أبدا الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال، و لهذا لما نظر الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحفر نشطوا و اجتهدوا في الحفر، و نقلوا التراب، و لما كان اليوم الثاني بكّروا في العمل، و كان ذلك النشاط العظيم عاملا في أن يندفع يهود بني قريظة أيضا إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي و الفؤوس و الأوعية الكبيرة لنقل التراب «2».

و كان المسلمون يومئذ يعانون من نقص و ضيق شديدين في المواد الغذائية، و مع ذلك كان أصحاب المكنة و الثراء من المسلمين

يمدّونهم بالطعام و غيره «3».

و ربما عرضت للمسلمين و هم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها و إزالتها، فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فأخذ معولا فكسرها و أزالها.

______________________________

(1) و جاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 489 انه (ص) كان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 311.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 312.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:253

(1) أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها- و قد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور، و كان كل عشرة يحفرون (40) ذراعا- هو (12000) ذراعا اي ما يقارب خمس كيلومترات و نصف الكيلومتر، و أما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار و عمقه خمسة أمتار أيضا.

(2)

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان:

عند ما قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجرين و الانصار جماعات جماعات، و أوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي و أراد كل أن يضمّه الى صفّه، فقال المهاجرون: سلمان منا و قالت الأنصار: سلمان منا و نحن أحق به!!

فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك:

«سلمان منّا أهل البيت» «1».

ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقى الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة و كانوا يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق، و ربما كانوا يذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أما المؤمنون الصادقون فكانوا

يعملون باستمرار، و اذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحيانا، أو جدّ لهم عذر استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأذن لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم، و قد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور في الآيات 62 و 63 اذ يقول تعالى:

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 446، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 122.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:254

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

(1)

مقاتلوا العرب و اليهود يحاصرون المدينة:

و تتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة «احد» و على مقربة من الخندق الذي كان قد تمّ انجازه قبل ستة أيام و قد كان الكفّار و من لف لفّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل «احد»، و لكنهم لم يلقوا أحدا منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى وصلوا الى الخندق، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر، فوجئوا به و قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير الفارسي الذي معه.

(2)

العدد الدقيق لقوات الطرفين:

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف، و قد استقروا خلف الخندق و سيوفهم تلمع و هي تخطف بلمعانها الابصار!

و كان عدد المشاركين في هذه الجيش من قريش وحدها- على رواية المقريزي في الامتاع- (4 آلاف) مقاتل، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

و قد التحق بهم بنو سليم- و هم من حلفاء قريش- في (700) رجل في مر الظهران و كان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل و من قبائل اخرى. مثل اشجع و بني مرة كل واحد منهما (400) مقاتل، و الباقي و هم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل، و على هذا الاساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:255

آلاف، و قد استقروا جميعا في مكان آخر.

(1) و أمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، و قد نزلوا في سفح جبل سلع و هو موضع مرتفع، مشرف على الخندق و خارجه، إشرافا كاملا بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات العدوّ و نشاطاته منه.

و قد و كل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات و نقاط العبور على الخندق و مراقبة تحركات العدوّ،

و رصد عناصره. و بذلك كان المسلمون يملكون متراسا قويا طبيعيا، و غير طبيعي، اذ أن سائر المدينة كان مشبكا بالبنيان، و النخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفار «المدينة» ما يقرب من شهر واحد، و مكثوا خلف الخندق متحيّرين، و لم يستطع أن يعبر منهم الخندق الّا أفراد معدودون، فمن كان يفكر في العبور رماه المسلمون بالحجارة، فولّى هاربا!!

و للمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة و مواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها «1».

(2)

خطر البرد، و تناقص الغذاء و العلف:

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء و كانت المدينة قد أصيبت في تلك السنة بقلة الغيث، و لذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة، و لم يكن أحد منهم يتصور أن عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد، بل كان المشركون- جميعا- يرون- بادئ الامر- أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع، على جنود الاسلام، و يجتاحون المدينة، و يستأصلون المسلمين!!

و لقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية (اليهود) هذه المشكلة بعد أيام،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 225- 228.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:256

فقد عرفوا بأن مضىّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي و قادته على مقاومة القرّ، و قلة العلف و تناقص الطعام، و من هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة، و بذلك يمهّدوا السبيل لجيش العرب لغزو المدنية، و اجتياحها من الخارج!!

(1)

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة:

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام و أمن، و كانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، احتراما كاملا.

فرأى «حييّ بن أخطب» أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب و ذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به. ليشعل بذلك حربا بين المسلمين و يهود بني قريظة و يشغل المسلمين بفتنة داخلية، و بذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

و انطلاقا من هذه الفكرة أتى «حييّ» الى حصن بني قريظة و دق عليهم الباب و عرّف نفسه، فأمر رئيس بني قريظة «كعب بن الاسد» بان

لا يفتحوا له الباب و لكنه أصر، و قال: ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك (أي خبزك) الذي في التنور تخاف أن اشاركك فيها فافتح فانّك آمن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن، ففتحوا له، فدخل مثير الحرب المشؤوم «حييّ» و قال لكعب: يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة، و هذه فزارة مع قادتها و سادتها، و هذه سليم و غيرهم، و لا يفلت محمّد و أصحابه من هذا الجمع أبدا و قد تعاقدوا و تعاهدوا الّا يرجعوا حتى يستأصلوا محمّدا و من معه، فانقض العهد بينك و بين محمّد، و لا تردّ رأيي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:257

(1) فأجابه كعب قائلا: لقد جئتني- و اللّه- بذلّ الدهر، و بسحاب يبرق و يرعد و ليس فيه شي ء، و أنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري و مالي معي، و الصبيان و النساء، اني لم أر من محمّد إلّا صدقا و وفاء فارجع عنّي، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.

و لكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعبا و يخاتله و يلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل الجامع الذي يستصعب عليه، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هيّا لذلك، فقال: أنا أخشى أن لا يقتل محمّد و تنصرف قريش إلى بلادها، فما ذا نفعل حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنه ليصيبه ما أصابه ان لم يقتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فقال كعب: دعني اشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود و شيوخهم، و خبرهم الخبر، و حيى حاضر، و قال

لهم كعب: ما ترون؟ فقالوا: أنت سيدنا، و المطاع فينا، و صاحب عهدنا و عقدنا فان نقضت نقضنا معك و إن أقمت أقمنا معك، و إن خرجت خرجنا معك.

(2) فقال «الزبير بن باطا» و كان شيخا كبيرا مجرّبا قد ذهب بصره: قد قرأت في التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّا في آخر الزمان، يكون مخرجه بمكة، و مهاجره في هذه البحيرة ... يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر فان كان هذا (أي محمّد) هو فلا يهولنّه هؤلاء و لا جمعهم، و لو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، و هذا من العرب من ولد اسماعيل، و لا يكونوا بنو اسرائيل أتباعا لولد اسماعيل أبدا، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعا و جعل فيهم النبوة و الملك، و ليس مع محمّد آية، و إنّما جمعهم جمعا و سحرهم!!

و لم يزل يقنّع بهم، و يقلّبهم عن رأيهم، و يلحّ عليهم حتى أجابوه، و رضوا بأن ينقضوا العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال: أخرجوا الكتاب الذي بينكم و بين محمّد، فأخرجوه، فأخذه و مزقه،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:258

و قال: قد وقع الأمر، فتجهّزوا و تهيّأوا للقتال، و بذلك جعلهم أمام الامر الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرّ منه!! «1»

(1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد:

بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق جواسيسه الاذكياء نقض بني قريظة للعهد، في مثل ذلك الظرف الحساس، فغمه غما شديدا. فأمر من فوره «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة»- و كانا من خيرة رجاله الشجعان و من قادة جيشه الممتازين، كما أنهما كانا رئيسي الأوس و الخزرج-

بأن يحصّلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث، و أسبابه و ملابساته، و أنه اذا كان هناك خيانة و نقض للعهد فعلا أن يخبّراه وحده فقط و لا يخبرا أحدا به و يقولا: عضل و القارة لكيلا لا يفتّ ذلك أعضاد المسلمين و لا يضعف من معنوياتهم، و أما إذا لم تكن هناك خيانة، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان، و اقتربا إلى حصن بني قريظة، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن، فشتم سعدا و شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بذلك أظهر نقضه للعهد و الميثاق فأجابه سعد- بالهام غيبي-: إنّما أنت ثعلب في جحر، لتولّينّ قريش، و ليحاصرنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لينزلنك على الصغار و الذلّ و ليضربنّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالا له: عضل و القارة. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا برفيع صوته: «اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح» «2».

و هذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 456، بحار الأنوار: ج 20 ص 222 و 223.

(2) المغازي: ج 2 ص 459.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:259

و عمق سياسته، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين، و لا يتملكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد، و هم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية، و الاحساس بروح النصر.

(1)

تجاوزات بني قريظة الاولية:

كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدءوا عملهم الخياني بالاغارة على المدينة، و إرعاب النساء و الاطفال الموجودين في البيوت و المنازل، و قد نفذت مراحل من هذه الخطة تدريجا!!

فقد أخذ بعض صناديد بني

قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم و نساؤهم بصورة مشبوهة!!

(2) تقول «صفية بنت عبد المطلب» عمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كنت في فارع، حصن حسان بن ثابت و كان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء و الصبيان، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن، و قد حاربت بنو قريظة، و قطعت ما بينها و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ليس بيننا و بينهم أحد يدفع عنا، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون في نحور عدوّهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، فقلت لحسان: إن هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، و إنّي و اللّه ما آمنه أن يدل علينا من وراءه من يهود، و قد شغل عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أصحابه، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب و اللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فلما قال لي ذلك احتجزت «1» (أي شددت وسطي) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه، إلّا أنه رجل فقال حسان: ما لي بسلبه

______________________________

(1) و في رواية: اعتجرت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:260

حاجة يا ابنة عبد المطلب!! «1».

(1) و لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما بينه و بينهم من العهد و انهم طلبوا من قريش الف رجل و من غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود، و كان ذلك في ما

كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق، فعظم بهذا الخبر البلاء و صار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق، بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله مسلمة بن أسلم و زيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة و يظهرون التكبير تحفظا على الجواري من بني قريظة «2».

(2)

الإيمان في مواجهة الكفر:

لقد خاض المشركون حروبا عديدة ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل معركة الأحزاب، و لكن العدوّ في جميع تلك المعارك و الحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة، و لم يكن من عموم الجزيرة العربية، و من عموم القبائل، أي الاسلام لم يواجه في تلك الحروب و الوقائع عدوانا شاملا من سكان الجزيرة.

و حيث إن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الاسلامية الفتيّة، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض، يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة، و يرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم، من هنا عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين، و استصرخوا أكبر قدر من القبائل و تحركوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب و الجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. و لو لا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

(3) و لهذا جلب أعداء الاسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب، و أشهر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 228.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:261

بطل من أبطالهم و رأسوه عليهم، و هو عمرو بن عبد ود العامري ليشدّوا به أزرهم، و يحققوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

و على هذا الاساس كانت معركة الأحزاب مواجهة كاملة بين كل الكفر و كلّ الايمان، و

خاصة عند ما تبارز بطل الاسلام و بطل الكفر و تواجها في ساحة القتال.

(1) و لقد كان الخندق الذي احتفره المسلمون سلفا من عوامل إخفاق المشركين، و كان العدوّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار و لكن دون جدوى، لانهم كانوا يواجهون في كل مرة سهام الحرس الذي و كلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحراسة الخندق، و رصد محاولات العدو لاجتيازه و افشالها فورا، و أيضا بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

كان الشتاء و برده القارص في تلك السنة و تناقص الطعام، و العلف يهدد جيش المشركين، و أنعامهم، و خيولهم فاستقرض حيي بن أخطب من بني قريظة عشرين بعيرا محملة شعيرا و تمرا و تبنا تقوية لقريش، و لكن دورية من المسلمين صادفتها في أثناء الطريق فصادرتها و أتوا بها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فتوسع بها أهل الخندق «1».

(2) و ذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبو سفيان الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابا يقول فيه: إني احلف باللات و العزى لقد سرت إليك في جمعنا و إنّا نريد ألّا نعود إليك أبدا حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا، و جعلت مضايق و خنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء «2».

(3) فكتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من محمّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب ... أمّا بعد فقديما غرّك باللّه الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 323.

(2) المغازي: ج 2 ص 492.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:262

إلينا في جمعكم، و انك لا تريد

أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر اللّه يحول بينك و بينه، و يجعل لنا العاقبة و ليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح، و لياتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات و العزّى و اساف، و نائلة، و هبل حتى اذكّرك ذلك» «1».

(1) و لقد وقعت إجابة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله التي كانت تنبئ عن قوة إرادته و شدة عزيمته، و تصميمه القاطع موقع السهم في قلب زعيم المشركين، و حيث إن قريش كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانّها اصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها و نفسيتها، و لكنها مع ذلك لم تكفّ عن مواصلة عدوانها.

و ذات ليلة عزم «خالد بن الوليد» على أن يعبر بجماعته الخندق و لكنه اضطرّ الى التراجع عند ما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بامرة «اسيد بن حضير» و قد كلّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقيام على شفير الخندق، و دفع المشركين و منعهم من العبور!!

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين و رفع معنوياتهم، و لهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية، و كلماته المشجعة، الحاثة على الجهاد و الاستقامة و الدفاع عن حياض العقيدة و الايمان، و الذود عن صرح الحرية، و العدل.

فقد وقف ذات يوم خطيبا في اجتماع كبير من المسلمين و قال- بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه-.

«أيّها النّاس إذا لقيتم العدوّ فاصبروا و اعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف» «2».

(2)

أبطال من العرب يعبرون الخندق:

لبس خمسة من شجعان المشركين هم: «عمرو بن عبد ود العامري»، «عكرمة

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 239 و 240.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 323.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:263

بن أبي جهل»، «هبيرة بن وهب»، «نوفل بن عبد اللّه»، و «ضرار بن الخطاب» لامة الحرب، و وقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب، و قالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم؟

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون، و لكنهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة و منع غيرهم من العبور.

و كان الموضع الذي وقف فيه اولئك الشجعان الخمسة الذي عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق و جبل سلع حيث تمركز جنود الاسلام «1».

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز، في كبرياء و غرور كبيرين، و هم يقطعون ذلك الموضع جيئة و ذهابا بخيولهم!!

(1) بيد أنّ أشجع اولئك الخمسة و أجرأهم و أعرفهم بفنون القتال و هو: «عمرو بن عبد ود العامري» تقدم، و أخذ يرتجز داعيا المسلمين الى النزال و البراز قائلا:

و لقد بححت من النداءبجمعكم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّي كذلك لم أزل متسرّعا نحو الهزاهز

إن السماحة و الشجاعة في الفتى خير الغرائز فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب، و الوجل الشديدين في معسكر المسلمين، و سكت الجميع، و لم ينبسوا ببنت شفة رهبة و خوفا منه.

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة»؟

و قد قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث مرات، و في كلّ مرة يقوم عليّ عليه السّلام و يقول: انا له يا رسول اللّه، و القوم ناكسوا رءوسهم «2» او كأنّ المسلمين يومئذ على رءوسهم الطير لمكان عمرو و شجاعته، كما يقول الواقدي «3».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 239، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 28.

(2) تاريخ الخميس: ج

1 ص 486.

(3) المغازي: ج 2 ص 470.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:264

(1) و لا بدّ أن تحلّ هذه المشكلة بيد علي عليه السلام فارس ميادين الحرب المقدام، و كان كذلك، فلما أبدى عليّ عليه السّلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه و عممه بيده، و وجّهه صوب عمرو و قد دعا له قائلا: اللّهم أعنه عليه. و قال أيضا:

«اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، و حمزة بن عبد المطلب يوم احد، و هذا أخي علي بن أبي طالب ربّ لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين» «1».

فبرز عليّ عليه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته، مبادرا إليه دون ابطاء، و هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمته الخالدة في تلك المواجهة:

«برز الإيمان كله إلى الشرك كلّه» «2» و ارتجز عليه السّلام قائلا:

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذونيّة و بصيرةو الصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن اقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز (2) و قد كان عليّ عليه السّلام مسربلا بالحديد لا يرى منه إلّا عيناه من تحت المغفر، فأراد عمرو أن يعرف من برز إليه فقال: من أنت؟

قال: أنا عليّ بن أبي طالب.

فقال عمرو: إنّي أكره أن اريق دمك، و اللّه إن أباك كان لي صديقا و نديما، ما أمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء و الأرض لا حيّ و لا ميت.

فقال عليّ عليه السّلام: لكنني ما أكره و اللّه أن أهريق دمك، و قد علم ابن

______________________________

(1) كنز الفوائد: ص 137.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 486 و 487، بحار الأنوار، ج 20

ص 215.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:265

عمي أنّك إن قتلتني دخلت الجنة، و أنت في النّار، و إن قتلتك فانت في النّار و أنا في الجنة.

فضحك عمرو و قال مستهزئا: كلتاهما لك يا عليّ، تلك إذا قسمة ضيزى.

(أي ناقصة جائرة).

(1) يقول ابن أبي الحديد: كان شيخنا أبو الخير يقول اذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع: و اللّه ما أمر عمرو بن عبد ود عليا (عليه السّلام) بالرجوع إبقاء عليه، بل خوفا منه، فقد عرف قتلاه ببدر و احد، و علم أنه إن ناهصه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء، و إنه لكاذب فيه «1».

ثم إن عليا عليه السّلام ذكّر عمرا بعهد قطعه على نفسه فقال له:

يا عمرو إنّك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحد الى واحدة من ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها و أنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو: أجل، فهاتها يا عليّ.

قال: تشهد أن لا إله الّا اللّه، و انّ محمّدا رسول اللّه، و تسلم لرب العالمين.

فقال عمرو: نحّ عني هذا.

قال عليّ عليه السّلام: فالثانية أن ترجع إلى بلادك، فان يك محمّد صادقا فأنتم أعلى به عينا و ان يك غير ذلك كفتكم ذؤبان العرب أمره.

(2) فقال عمرو في غرور عجيب: اذا تتحدّث نساء قريش بذلك، و ينشد الشعراء فيّ أشعارها اني جبنت، و رجعت على عقبي في الحرب، و خذلت قوما رأسوني عليه.

فقال له علي عليه السّلام: فالثالثة أن تنزل إليّ فانك راكب و أنا راجل، حتى انابذك.

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 19 ص 20.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:266

فقال عمرو: هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها، ثم وثب عن فرسه، و لكي يرعب

عليّا عليه السّلام عرقب قوائم فرسه على عادة العرب في الجاهلية «1».

(1)

تصاول البطلين:

و هنا بدأ تصاول شديد بين البطلين، و ارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية، و انما كان الناس يسمعون فقط صوت اصطكاك السيوف و الدروع الحديدية و غيرها، و بعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب «عمرو» «أمير المؤمنين عليا» عليه السّلام بالسيف على رأسه، فاتقاه علي عليه السّلام بالدرقة فقطعها، و شجّت الضربة رأسه ففاجأه عليّ عليه السّلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما جميعا، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فاذا عليّ عليه السّلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. و ارتفع صوت عليّ بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره، و مقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الاكبر «عمرو بن عبد ود» رعبا عجيبا في نفوس بقيه الابطال و الشجعان الذين عبروا معه الخندق، فهربوا راجعين الى معسكرهم، إلّا «نوفل» الذي سقط فرسه في الخندق، و هوى هو إلى الارض بشدة، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال: قتلة أجمل من هذا، ينزل إليّ بعضكم فأقاتله، فنزل إليه عليّ عليه السّلام فضربه حتى قتله في الخندق «2».

فهيمن الخوف و الرعب على كل أرجاء المعسكر العربي المشرك، و بهت أبو سفيان أكثر من غيره.

ثم إنه كان يتصور أن المسلمين سيمثّلون بجسد «نوفل» انتقاما لحمزة الذي

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 470 و 471.

(2) بحار الأنوار، ج 20 ص 256، تاريخ الطبري: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:267

مثل به في احد، فبعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

«هو لكم، لا ناكل ثمن الموتى» «1».

(1)

قيمة هذه الضربة:

لقد قتل عليّ عليه السّلام- حسب الظاهر- رجلا شجاعا لا أكثر، بيد أنه بضربته لعمرو و بقتله إياه أحيا- في

الحقيقة- كل من أرعبته نداءات عمرو المهدّدة، من المسلمين، و القى رعبا كبيرا في نفوس جيش قوامه (000/ 10) رجل تعاهدوا و تعاقدوا على محو الاسلام و استئصال الحكومة الاسلامية الفتية. و لو أن الانتصار كان يحالف عمرا لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى التي قام بها عليّ عليه السّلام.

و عند ما عاد عليّ عليه السّلام ظافرا منتصرا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

و قيل إنه قال:

«لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امة محمّد لرجح عملك على عملهم و ذاك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا و قد دخله ذل بقتل عمرو، و لم يبق بيت من المسلمين إلّا و قد دخله عز بقتل عمرو» «2».

و بذلك كشف عن أهمية الضربة التي أوقعها علي عليه السّلام بعمرو في تلك الواقعة.

لما ذا التنكر لهذا الموقف؟

و يحق لنا هنا أن نستغرب تنكر بعض المؤرخين أو تجاهلهم لهذا الموقف

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 20 ص 205.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 216، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:268

العظيم الذي أدى إلى هزيمة المشركين، و الاحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء، كل واحد بشكل من الاشكال و صورة من الصور:

فهذا ابن هشام رغم اسهابه في بعض الامور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل «عمرو» على يد بطل الاسلام الخالد عليّ عليه السّلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله عند مطالبة عمرو بالمنازل و المبارز، ذكر أبياتا قالها عليّ عليه في المقام ثم يشكك في نسبتها إليه عليه السّلام «1».

و هكذا ابن الاثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية و وصفه لكتابه بالكامل نجده يحاول

التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة اخرى و هو أن عليّا خرج ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو و ليس وحده.

و لكن المعلّقين على الطبعة المنيرية للكامل و التي أشرف عليها فضيلة الاستاذ عبد الوهاب النجار لم يرق لهم هذا الصنيع، و أبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش: و روى السهيلي عن ابن اسحاق أن عمرا دعا المسلمين للمبارزة و عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأمر ثلاث مرات و لا يقوم إلّا عليّ كرم اللّه وجهه، و في الثالثة قال له: انه عمرو قال: و ان كان عمرا، فنزل إليه، و قتله و كبّر فكبّر المسلمون فرحا بقتله «2».

و هذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة و لكن بالضرب على وتر آخر حيث قال ان قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في شأن عليّ عليه السّلام لما قتل عمرا: «قتل عليّ لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين» من الاحاديث الموضوعة التي لم ترد في شي ء من الكتب التي يعتمد عليها بسند ضعيف، و كيف يكون قاتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ... ثم قال: بل ان عمرو بن ود لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو، و الايحاء بأنه لم يكن شيئا، فلا يكون

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 225.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 124.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:269

لقتله أهمية.

و لكن صاحب السيرة الحلبية الذي ينقل كل هذه العبارات عن ابن تيمية يرد عليه قائلا: و يرد قوله: «ان عمرو بن ود هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة» قول الأصل: و كان عمرو بن عبد ود

قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة فلم يشهد يوم احد فلما كان يوم الخندق خرج معلما (أي جعل له علامة) ليعرف مكانه و يرى.

و يرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمسّ رأسه دهنا حتى يقتل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

و استدلاله: و كيف يكون إلى آخره، فيه نظر لان قتل هذا كان فيه نصرة للدين و خذلان الكافرين «1».

و ما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الاثير الجزء 2 الصفحة 124 و يوافق أيضا ما جاء في السيرة النبويّة الجزء 2 الصفحة 225.

(1)

مروءة عليّ عليه السّلام و شهامته:

و لقد أحجم عليّ عليه السّلام عن سلب «عمرو بن عبد ود» درعه، و كان درعا غالية الثمن ليس للعرب، درع خير منها، و قد فعل ذلك مروءة، و ترفعا، فاعترض عليه بعض، حتى أن عمر بن الخطاب قال له: هلا استلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها؟ «2».

و لما عرفت اخت عمرو بمقتله سألت عمن قتله، فاخبروها بأن عليا عليه السّلام هو الذي قتله فقالت لم يعد موته إلّا على يد كفؤ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الابطال، و بارز الاقران، و كانت منيته على يد كفؤ

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 320.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 320.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:270

كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم انشأت تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به من كان يدعى قديما بيضة البلد «1» و قد ذكر عليّ عليه السّلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال:

أ عليّ تقتحم الفوارس هكذا؟عنّي

و عنها خبّروا أصحابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّدصافي الحديد مجرّب قضاب

فصددت حين تركته متجدّلاكالجذع بين دكادك و روابي

و عففت عن أثوابه و لو انّني كنت المقطّر بزّني أثوابي «2» و الآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب و شجاعها البارز.

(1)

جيش العرب يتفرق في موقفه:

لم يكن دافع جيش العرب و من عاونهم و مالأهم من اليهود الى محاربة الاسلام واحدا، فاليهود كانوا يخشون من اتساع رقعة الحكومة الاسلامية الفتيّة، المتزائد، و اما دافع قريش فكان هو العداء القديم للاسلام و المسلمين. و أما قبائل «غطفان» و «فزارة» و غيرها من القبائل فلم يحرّكها إلّا الطمع في محاصيل «خيبر» التي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الاساس لم يكن محرّك «الأحزاب» المشاركة في جيش الشرك أمرا واحدا، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمرا ماديا، و لو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية، و خاصّة أن البرد، و قلّة الطعام، و العلف، و طول مدّة المحاصرة قد أوجدت في

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 33.

(2) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:271

نفوسهم كللا و مللا، من جهة، و عرّضت أنعامهم لخطر الهلاك و الفناء من ناحية اخرى.

(1) من هنا كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة بأن يتصلوا بهذه القبائل (الأخيرة) و يذكروا لهم بأنّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشا و عادوا إلى ديارهم، فأعدّوا عهدا و جاءوا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليمضيه، و لكنه شاور فيه سعد بن معاذ، و سعد بن عبادة قبل أن يمضيه، فقالا: يا رسول اللّه إن كان أمرا

من السماء فامض له، و ان كان أمرا لم تؤمر فيه فان الرأي عندنا هو السيف، فإنهم ما طمعوا بهذا منّا قطّ في الجاهلية أن يأخذوا تمرة، الا بشرى أو قرى، فحين أتانا اللّه تعالى بك، و أكرمنا بك، و هدانا بك نعطي الدنيّة؟ لا نعطيهم أبدا إلّا السيف؟

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مبيّنا علة إقدامه على مثل هذا الصلح:

«إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقلت ارضيهم و لا أقاتلهم، الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه، فان اللّه تعالى لن يخذل نبيّه، و لن يسلمه حتى ينجز له ما وعده» «1».

فمحى سعد بن معاذ ما في الصحيفة باذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: ليجهدوا علينا «2».

و بهذا كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن صفحة اخرى من سياسته الحكيمة، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الاحزاب باعطاء بعض التنازلات المادية (لا المعنوية) و تحييدها خطوة سياسية و عسكرية صحيحة، و رائعة، و كان مشورته مع أصحابه من الانصار (خاصة) عملا حكيما أيضا لانه استشار بذلك هممهم، و شدّ من عزائمهم، فوعدوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 223، بحار الأنوار: ج 20 ص 252.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 236 و جاء فيه انه (ص) استشار سعد بن معاذ و سعد بن عبادة خفية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:272

بالصمود و المقاومة في ذلك الظرف العصيب و عدم تقديم اية تنازلات و لهذا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ما اراد أولا، فكان مجموع هذه الخطوات عملا حكيما جدا، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة، و دراية عسكرية

عميقة.

(1)

العوامل التي فرقت كلمة «الاحزاب»:

هناك عوامل عديدة تسببت في تفرق الجيش العربي الذي زحف إلى المدينة لاجتياحها، و انقسام الاحزاب على أنفسهم، و إليك أبرزها:

(2) 1- إن أول عامل من تلك العوامل هو تكلم مبعوثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع سادة غطفان و فزارة، لأن هذه المعاهدة و إن لم توقع إلّا أنها لم تنقض، فتسبّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي، أي اجتياح المدينة و بشكل من الاشكال و ان لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظارا للتوقيع على تلك المعاهدة، و لهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الاعذار تملّصا من ذلك الطلب.

(3) 2- مصرع «عمرو بن عبد ود» فارس العرب الأكبر الذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلما قتل تملّك الجميع رعب غريب و انهارت آمالهم، و بخاصة عند ما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ عليه السّلام خوفا، و رهبة.

(4) 3- ما لعبه «نعيم بن مسعود» الذي أسلم حديثا، من دور في إلقاء روح الشك و الفرقة بين يهود بني قريظة و جيش «الاحزاب»، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع، تماما كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر، بل كان ما فعله أفضل و أكبر تأثيرا و عطاء.

فقد أتى «نعيم» هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال يا رسول اللّه؛ قد أسلمت، و إن قومي لم يعلموا باسلامي، فمرني بما شئت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:273

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا ما استطعت (أي ادخل بين القوم حتى يخذّل بعضهم بعضا). فان الحرب خدعة».

(1) فخرج نعيم حتى أتى

بني قريظة، و كان لهم نديما في الجاهليّة، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي، و خاصّة ما بيني و بينكم.

قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم.

فقال: إنّ قريشا و غطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، و ان قريشا و غطفان قد جاءوا لحرب محمّد و أصحابه، و قد ظاهرتموهم عليه، و بلدهم و أموالهم و نساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فان رأوا نهزة أصابوها، و إن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، و خلّوا بينكم و بين محمّد، و لا طاقة لكم به. إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتى تناجزوه.

فقالوا: لقد أشرت بالرأي.

(2) ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب و من معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم، و فراقي لمحمّد، و انه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه، نصحا لكم فاكتموا عني. فقالوا: نفعل.

قال: اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمّد، و قد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين، من قريش و غطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من يبقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

(3) ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي و عشيرتي، و أحب الناس إليّ، و لا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم،

قال

سيد المرسلين ،ج 2،ص:274

فاكتموا عني، قالوا: نفعل فما أمرك، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش و حذّرهم ما حذّرهم.

و هكذا أدّى «نعيم» وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرا في جيش المسلمين، و اشاع بين المسلمين أنّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم الى النبي و المسلمين.

و قد كان يقصد من اشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب و قادتهم.

(1)

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة:

و لما كانت ليلة السبت قرّر أبو سفيان ان يحسم الموقف بشكل من الأشكال فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش و غطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف و الحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّدا، و نفرغ ممّا بيننا و بينه.

فأرسل بنو قريظة إليهم: إن اليوم يوم السبت، و هو يوم لا نعمل فيه شيئا، و قد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، و لسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمّدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا، فاننا نخشى إن ضرستكم الحرب، و اشتدّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم و تتركونا، و الرجل في بلدنا و لا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش و غطفان: و اللّه إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق.

فارسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم: إنا و اللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة- حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا فان رأوا فرصة انتهزوها، و ان كان

سيد المرسلين ،ج 2،ص:275

غير ذلك أسرعوا إلى بلادهم و خلّوا بيننا

و بين محمّد. في بلدنا «1».

و هكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب و أوقع اللّه التخاذل بينهم، و تفرّقوا، و تمزق شملهم، و كان ذلك من عوامل فشل الاحزاب، و تقهقرهم و رجوعهم خائبين.

(1)

آخر العوامل لهزيمة الكفار:

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل آخر يمكن تسميته- في الحقيقة- بالامداد الغيبيّ ففرقت جماعة الاحزاب، و شتّتّ جماعتهم و ذلك العامل هو أن اللّه تعالى بعث عليهم فجأة الريح و العاصفة، و اشتدّ البرد، و كان اشتداد الريح كبيرا بحيث أكفأ قدورهم، و اقتلع خيامهم و مضاربهم، و أطفأ أضواءهم، و أوجد حريقا في الصحراء.

و هنا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حذيفة أن يعبر الخندق، و يأتيه بخبر عن أحوال المشركين و من مالأهم من الاحزاب.

يقول حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم و الريح و جنود اللّه تفعل ما تفعل بهم لا تقرّ لهم قدرا، و لا نارا و لا بناء، فسمعت أبا سفيان يقول، و قد قام في جماعة من قريش: يا معشر قريش إنكم و اللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع و الخفّ، و أخلفتنا بنو قريظة و لقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئنّ لنا قدر، و لا تقوم لنا نار، و لا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا إني مرتحل.

ثم قام إلى جمله- و هو معقول- فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فو اللّه ما أطلق مقاله إلّا و هو قائم من شدّة الدهش و الخوف!!

و لم يسفر الصبح إلّا و أسرعت قريش و غطفان عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة، و لم يبق منهم أحد هناك.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 339- 231، تاريخ الطبري: ج 2 ص 242 و

243.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:276

و هكذا انتهت معركة الاحزاب في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة «1».

القرآن الكريم و معركة الاحزاب

و لقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب (الخندق) ضمن سبع عشرة آية و ها نحن ندرجها برمتها و نشير باختصار إلى ما تضمنته من حقائق:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً

عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ سيد المرسلين ج 2 276 القرآن الكريم و معركة الاحزاب ..... ص : 276

____________________________________________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 244، امتاع الاسماع: ج 1 ص 239.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:277

الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً». «1».

و يمكن تقسيم هذه الآيات الى ثلاثة أقسام:

القسم الاول و هي الآيات التي ترسم الوضع العام للمسلمين عند ما أتتهم عساكر الاحزاب.

القسم الثاني و هي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المنافقين و ضعاف الايمان.

القسم الثالث و هي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

و إليك بيانا لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1- تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين- في الآية الاولى- بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الذي قصد استئصالهم لو لا عناية اللّه و مدده العظيم، و في هذا إشعار قوي بأن اللّه هو الذي يحمي القائمين على

دعوته و منهجه من عدوان الكافرين و المتآمرين.

2- ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة التي كان يواجهها المسلمون، فهم محاصرون من قبل الاعداء و المتواطئين معهم من كل جهة محاصرة

______________________________

(1) الأحزاب: 9- 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:278

ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الابصار هولا، و بلغ القلوب الحناجر خوفا، و ظنّ البعض أن ما أعطاهم اللّه و رسوله من الوعد بالتأييد و النصرة لم يكن صحيحا.

3- ثم تحدثت الآية الثالثة عن الابتلاء و الاختبار الذي أفرزه هذا الوضع الخطير، فقد ابتلى المسلمون في هذه الواقعة، و تملكهم خوف شديد.

4- و لكن المنافقين، و الذين في قلوبهم مرض كانوا أشد هولا و خوفا حتى أن ذلك الكرب و الهول أخرج خبيئة نفوسهم، فشككوا في وعود اللّه الصادقة، و قالوا: ما وعدنا اللّه إلّا غرورا، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

5- و لم يكتف المنافقون باشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة، و بالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. و احتجوا لذلك بالخوف على النساء و الصبيان من كيد الاعداء قائلين: «بيوتنا عورة» و هم لا يريدون إلّا الفرار جبنا و خوفا.

6- ثم تكشف الآية السادسة و السابعة عن حقيقة ما في نفوس اولئك المنافقين، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري و الصبيان، انما هو نقض العهد، و خلف الوعد و فقدان الايمان القلبي فهم اذا دخل عليهم العدوّ المدينة و طلبوا منهم الرجوع عن الاسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. و لكن اللّه سيسألهم عن العهد الذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا امام العدو، و كان عهد اللّه مسئولا».

7- ثم إن

اللّه تعالى يوبخهم- في الآية في الآيات اللاحقة- على موقفهم المتخاذل هذا، و يقول لهم: بأن الفرار و الانسحاب لن ينجيهم من الموت ان كان مقدّرا عليهم، و حتى لو عاشوا أياما فلن يعيشوها في خير و أمان.

كما و يقول لهم: بأن اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل و عرقلة لمسيرة الاسلام الصاعدة، و لا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة، من كف الايدى عن مساعدة المؤمنين، أو سلقهم بألسنتهم و تحميلهم عوامل المحنة و الشدة،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:279

حتى بعد الانتصار.

و هنا يبدو و يبرز دور المنافقين، و تظهر حالاتهم العجيبة في الحرب و السلم.

فهم يخافون خوفا شديدا، و هم يظنون باللّه ظن السوء و هم يشيعون الخوف و روح الهزيمة في الناس و هم ينسحبون و يدعون إلى الانسحاب من الصفوف و هم مستعدون في كل وقت للارتداد و الرجوع عن الاسلام الى الكفر، و هم بالتالي اشحة بخلاء، في نفوسهم كزازة على المسلمين كزازة بالجهد و كزازة بالمال و كزازة بالعواطف و المشاعر على السواء.

8- إنهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الايمان و لم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة و القوة حتى بعد ذهاب عوامل الخوف و الهول.

فهم ما يزالون يرتعشون، و يتخاذلون، و يأبون أن يصدقوا أن الاحزاب قد ذهبت و ولّت مهزومة. و يودون لو أن الاحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9- و لكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين و في مقدمتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات و الظروف.

فان هذه الجماعة المؤمنة

الصادقة لما رأت الاحزاب قالت: هذا ما وعدنا اللّه و رسوله، هذا الهول لا بد أن يجي ء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقق.

فصمدوا و صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، فجزاهم اللّه بصدقهم إذ ردّ الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرا و كفى اللّه المؤمنين القتال، و كان اللّه قويا عزيزا خلافا لما ظنه المنافقون، و توهموه.

و قد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحانا عظيما، و اختبارا دقيقا للنفوس و القلوب و هو امتحان لا بد منه حتى يتميز الصادق عن المنافق، و الموفون بعهدهم و الناقضون له.

كما أن هذه الواقعة و ما جاء حولها من الآيات كشفت عن أن وعود اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:280

صادقة و محققة اذا توفرت شرائطها، و مقدماتها، و منها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة، و الاتكال على اللّه و استمداد العون منه.

و في هذه الآيات إشارة إلى دور ما يسمى الآن بالطابور الخامس و إلى خطورة الشائعات السيئة في المجتمع، و بخاصة في ظروف الحرب.

كما أن فيها اشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات و التعامل مع فعاليات هذا الفريق الخطر.

و لقد لا حظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية و المضرة.

فقد كان يعتمد اسلوب الدعاء، و الذكر، و التشجيع، و التكبير، و ارسال الدوريات العسكرية و العمل المباشر و المشاركة الفعلية في عمليات الدفاع و الحراسة و ما شاكل ذلك ممّا ذكرناه و ممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:281

حوادث السنة الخامسة من الهجرة (1)

38 سقوط آخر أوكار الفساد و المؤامرة

اشارة

أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الاولى من هجرته الى المدينة، على تنظيم و

عقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة و ما حولها، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف، و التنازع، و الصراع الداخليّ.

و قد تعهّد الأوسيّون و الخزرجيّون، عامة و اليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة و ما حولها، و قد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق «1».

هذا من ناحية.

(2) و من ناحية اخرى عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينه و بين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر و أذى برسول اللّه و أصحابه، و لا تمدّ أعداءهم بالخيل و السلاح، و أنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحق في أن يقتلهم، و يسبي نساءهم و أبناءهم.

إلّا أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين و الصور، و تجاهلت بنوده، و مواده!

فقد قتل «بنو قينقاع» مسلما، و خطّطت «بنو النضير» لاغتيال رسول اللّه

______________________________

(1) راجع صفحة 21 من هذا الجزء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:282

صلّى اللّه عليه و آله، و أجبرهم على الجلاء من المدينة و أخرجهم من البيئة الاسلامية.

و تعاونت «بنو قريظة» مع جيش المشركين لضرب المسلمين، و طعنهم من الخلف، و الآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة:

(1) لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود «الأحزاب» أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب و الارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين، و مع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يعالج قضيّة «بني قريظة» بصورة نهائية، فأذّن مؤذّن رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و صلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين صلاة الظهر، ثم نادى منادي النبي صلّى اللّه عليه و آله في الناس:

من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلّا ببني قريظة!

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدّم «عليّ بن أبي طالب» برايته «1»، و خرج معه جنود الإسلام الشجعان، فحاصروا حصون «بني قريظة»، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون، و التحصّن في داخلها، و نشبت الحرب بين بني قريظة و المسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّ عليه السّلام بالمسلمين فالتقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الطريق و قد كره أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه و آله أذاهم و شتمهم و حاول أن يثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا: لا عليك أن تدنو

______________________________

(1) زاد المعاد: ج 2 ص 73، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 243.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:283

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبب ذلك قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حصونهم قال لهم:

«هل أخزاكم اللّه و أنزل عليكم نقمته»؟

و قد كانت ردة فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الشديدة غير متوقعة لليهود، و من هنا قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. و هم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم «1».

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحيث رجع من غير

اختيار، و سقط رداؤه من كتفه.

(1)

اليهود يتشاورون حول الموقف:

تشاور يهود بنو قريظة و هم معتصمون بحصونهم في الموقف، و قد شارك فيه «حيي بن أخطب» مثير معركة الأحزاب، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب- في معركة الاحزاب- أوزارها و ولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا و قد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات و طلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف:

(2) 1- أن يؤمنوا برسول اللّه، و يصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل، و أنه الّذي يجدونه في كتابهم، و بذلك يأمنون على دمائهم و أموالهم و نسائهم و أبنائهم.

(3) 2- أن يقتلوا أبناءهم و نساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد و أصحابه يقاتلونهم، فإذا هلكوا، هلكوا و لم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه، و إن انتصروا تزوجوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 234، تاريخ الطبري: ج 2 ص 245 و 246.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:284

من جديد، و وجدوا أبناء.

(1) 3- ان الليلة هي ليلة السبت، و انه عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد منوهم فيها، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد و أصحابه على حين غفلة.

و لكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات و قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره، و قالوا: ان نقتل أبناءنا و نساءنا فما خير العيش بعدهم، و قالوا: لا نقاتل ليلة ليلة السبت، محمّدا و أصحابه نفسد سبتنا علينا، و نحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ «1».

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة (و نعي

اليهود)، و خصالهم و أخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة، لجوجة، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كما قال زعيمهم- لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد و العتوّ، و اللجاج.

(2) و اما الاقتراح الثاني و ما دار حوله من كلام فيشهد- بجلاء- على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية، لا تعرف للرحمة و الحنان معنى، لان قتل الاطفال و النساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة و الشفقة على الأطفال و النساء، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. و لم يقل أي واحد منهم: و ما ذا جنى الاطفال و النساء حتى نقتلهم و نذبحهم، و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- تمكن منهم- لم يقتلهم، فكيف نعمد نحن (الآباء الرحماء) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 236.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:285

من غير جرم و لا جناية؟

(1) و أما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بفنون القتال، و الدفاع و كانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر و الاحتياط ليلة السبت و يومه، و خاصة في مواجهة أعداء خونة، أخوان غدر و مكر، أمثال اليهود الناقضين للعهود، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة و تقييم معركة «الاحزاب» تثبت ندرة وجود الاذكياء و الفطنين بين هذه الجماعة، و الّا لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى

أيّ واحد من طرفي الصراع (الاسلام و الشرك).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل، و يبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد، و جيش المشركين، و بهذا يبقوا محافظين على كيانهم و وجودهم، انتصر من انتصر و غلب من غلب.

(2) و لكنهم خدعوا بتسويلات «حيي بن أخطب» و وسوساته و انحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة، و هي أن يتخلوا- في النهاية- عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم، و الرضوخ لخطة «نعيم بن مسعود»، و إخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش، و ترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار، و عاد الى بلاده، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

(3) فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- فور قطع العلاقات مع قريش- عن ندامتهم على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:286

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و يعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر- في صورة انتصار المسلمين على الكفار- و لكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش، و لم يلتحقوا بالمسلمين، و لم يعتذروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

على أنه لم يكن في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يترك بني قريظة- بعد هزيمة جيش العرب- على حالهم،

و يغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم و منظم آخر لاجتياح المدينة، و يتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون- في الحقيقة- العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل، و على هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة، و حلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

(1)

خيانة أبي لبابة:

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله لهم، أن يبعث إليهم «أبا لبابة» الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف، و قد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة، فأرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال و جهش إليه النساء و الصبيان يبكون في وجهه و قالوا: يا أبا لبابة أ ترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال: نعم- و أشار بيده إلى حلقه- يريد أنهم سوف يقتلهم و لن يحقن دماءهم، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد، إلّا أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين، و مصالح الاسلام العليا، و أفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه، و لهذا ندم على فعله ندما شديدا، فخرج من حصن بني قريظة و هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:287

يرتجف و يقول: إنّي خنت اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و انطلق على وجهه، و لم يأت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و هم ينتظرون رجوعه إليهم- و ربط نفسه في

المسجد بعمود من أعمدته، و قال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّه عليّ ما صنعت!!

(1) و يقول المفسرون: فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «1».

فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خبر أبي لبابة، و كان قد استبطأه قال:

أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.

و بقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة، و كانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة، و تحلّ رباطه، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي- على رسول اللّه و هو في بيت أمّ سلمة، و الآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى:

«وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

(2) فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو مستبشر يضحك قال صلّى اللّه عليه و آله لها:

«لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه».

فقامت إليه و هو مرتبط بالجذع في المسجد و قالت له: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال: لا و اللّه حتى يكون رسول اللّه

______________________________

(1) الأنفال: 27.

(2) التوبة: 102.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:288

صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه «1».

(1) و لا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة، فقد سلبه

بكاء رجالهم و نسائهم، و صبيانهم و استغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه، و لكنّ قوة الايمان باللّه و الخشية من عذابه أكبر و أعلى من كل شي ء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب، و يعمد- لجبران تلك الخيانة- الى ما فعل من الانابة، و الاستغفار، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

(2)

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج «شأس بن قيس» اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نيابة عن بني قريظة، فطلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم و يخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع بني النضير، فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «لا، إلّا أن تنزلوا على حكمي».

فقال شأس: لك الاموال و السلاح و تحقن دماءنا، فابى النبي صلّى اللّه عليه و آله و رفض هذا الاقتراح أيضا.

و هنا يطرح السؤال التالي نفسه و هو: لما ذا رفض رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة- بعد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 237 و 238.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:289

خروجها من قبضة المسلمين- على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام و المسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير، و تعرّض المجتمع الاسلامي و الدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا، و تسبب في سفك دماء كثيرة.

(1) و لهذا لم يوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله على اقتراحات مندوب بني قريظة، و عاد شأس إلى الحصن، و اخبر قومه بمقالة رسول اللّه عليه و آله، و رفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي- و كان حليفا لهم- في حقهم.

و لهذا عمدوا الى فتح باب الحصن، و دخل عليّ عليه السّلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن و جرّدوا بني قريظة من السلاح، و حبسوهم في منازل «بني النجار» ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

(2) و حيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج و بخاصة «عبد اللّه بن ابي»، و انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله عن إهراق دمهم فيما مضى، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و ذلك منافسة للخزرج، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قاوم هذا الطلب، و قال لهم:

«أ لا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم»؟

قالوا: بلى.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذاك إلى «سعد بن معاذ» فهو يحكم فيهم.

(3) و الطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كما يروى ابن هشام «1» و الشيخ

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:290

المفيد «1»-: يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

(1)

و كان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى «رفيدة» من سهم أصابه في معركة الخندق، و كانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعود سعدا بين الحين و الآخر، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس، و حملوه على حمار و قد وطئوا له بوسادة من أدم و كان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما طلع سعد على رسول اللّه و الناس حوله صلّى اللّه عليه و آله جلوس، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قوموا إلى سيّدكم».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد، و حيّاه كل واحد منهم، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم: يهود بني قريظة، و يخلّصهم من خطر الموت و القتل قائلين: يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

و لكن سعدا حكم في ذلك المجلس- رغم كل ذلك الالحاح، و الضغط- بأن يقتل رجال اليهود، و تقسّم أموالهم، و تسبى ذراريهم و نساؤهم «2».

(2)

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه:

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي و أحاسيسه على عقله، تعرض جهاز القضاء للفوضى و الاختلال، و انتهى الى تمزق المجتمع و سقوطه،

______________________________

(1) الارشاد: ص 50 و أيضا راجع زاد المعاد: ج 2 ص 73، امتاع الاسماع: ج 1 ص 246.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 240، المغازي: ج 2 ص 510، زاد المعاد: ج 2 ص 73 و 74.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:291

و انهيار كل

شي ء، لارتباط كل شي ء بالعدالة و ارتباط العدالة بالقضاء و المؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف و المشاعر العقل سحقت مصالح الفرد و المجتمع، أو أضرت به أشدّ و أبلغ إضرار.

(1) إنّ عواطف سعد و أحاسيسه و مشاعره، و منظر صبيان و نساء بني قريظة المحزن، و أوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق و هم في الحبس، و ملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم و الرأي في بني قريظة، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية (أي عامة المسلمين) و يبرّئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقلّ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلّا أن منطق العقل، و حرية القاضي و استقلاله في الحكم و القضاء و مراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، و تصادر أموالهم، و تسبى نساؤهم و أطفالهم.

(2) و قد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية:

(3) 1- أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام، و المسلمين، و ناصروا أعداء التوحيد، و اثاروا الفتن و القلاقل، و ألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم و مصادرة أموالهم و سبي نسائهم «1».

و قد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

______________________________

(1) و لقد مرّ

عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:292

للعدالة، و لم يرتكب ظلما.

(1) 2- إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة، فترة من الزمن، و هاجمت منازل المسلمين، و لو لا مراقبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للاوضاع و حراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل و لارتكبت أسوأ الفضائع و الفجائع، و لو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين و صادروا أموالهم، و سبوا نساءهم و أطفالهم.

و من هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق و أطفالهم.

(2) 3- من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، و الذين كانت بينهم علاقات ودّ و محبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود، الجزائية في هذا المجال، فإن التوراة تنص بما يلى: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح و فتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، و يستعبد لك. و ان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. و اذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، و اما النساء و الأطفال و البهائم و كل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك» «1».

و لعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ و المقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلّا ما يقتضيه العدل و الانصاف.

(3) 4- و الذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن «سعد بن معاذ» رأى بام عينيه أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين، و اكتفى- من عقابهم- باخراجهم من المدينة، و اجلائهم

______________________________

(1) التوراة: سفر التثنية الفصل العشرون 10- 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:293

عنها و لكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة و المؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة، و أخذ يتباكى- دجلا و خداعا- على قتلى بدر، و يذرف عليهم دموع التماسيح، و لم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام و أصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، و كانت واقعة «احد» التي استشهد فيها اثنان و سبعون من خيرة أبناء الاسلام، و رجاله.

(1) و هكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة، و لكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام، و المسلمين، و كوّنوا اتحادا نظاميا بينها، و ألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الاحزاب) التي لو لا حنكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و خطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى، و لما بقي من ذلك الدين خبر و لا أثر و لقتل آلاف الناس.

(2) لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه، و يضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع، و سيثير و يؤلب قوى العرب ضد الاسلام، و

يعرّض مركز الاسلام، و محوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

و على هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة و أيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة و لواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

(3) و من المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات و الاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فان رئيس أي قوم، أو جماعة أحوج ما يكون

سيد المرسلين ،ج 2،ص:294

إلى تأييد قومه و جماعته و كسب رضاهم و دعمهم، و لا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم، و تجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم و رئيسهم، و لكن سعدا (رئيس الأوس) أدرك أن جميع هذه التوصيات و الوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل، و المنطق، على رضا قومه عنه.

هذا و إن الّذي يشهد بدقة نظر سعد، و صواب رأيه، و صحة تشخيصه و تقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما لمت نفسي في عداوتك، و لكنه من يخذل اللّه يخذل. أي لو لا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيّها الناس لا بأس بأمر اللّه، ملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل.

(1) ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد

المسلمين، فقتلت قصاصا.

و كان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه «الزبير بن باطا» شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس، فلم يقتل، و اخلي سبيل زوجته و أولاده، و اعيدت إليه أمواله، و أسلم أربعة من بني قريظة، و قسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، و اخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

و قد اعطي للفارس سهمان، و للراجل سهم واحد، و سلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أموال «الخمس» إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد و يشتري بها العتاد، و السلاح، و الخيل، و غيرها من أدوات الحرب «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبرى: ج 2 ص 250، السيرة النبوية: ج 2 ص 241، زاد المعاد: ج 2 ص 74.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:295

(1) و هكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة، و قد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26- 27 من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه:

«وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً».

و قد استشهد «سعد بن معاذ» الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه «1»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 250- 254.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:296

(1)

حوادث السنة السادسة من الهجرة

39 أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة «1»

اشارة

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلّا و قد انتهت فتنة «الاحزاب» و «بني قريظة»، و قضي عليهما بالكامل، و أصبحت المدينة و ضواحيها برمتها في قبضة المسلمين و تحت سيطرتهم، و ازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا و ثباتا، و

ساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا، و كان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو و أوضاعه، و تحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى و امكانيات.

(2) و لقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة «الاحزاب» الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل «الاحزاب».

فلقد قتل «حيي بن أخطب» الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب، في غزوة بني قريظة، و لكن رفيقه «سلّام بن أبي الحقيق» كان لا يزال يعيش في خيبر، و لا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة و تأليب «الأحزاب» مرّة اخرى ضدّ الاسلام، و خاصة أن العرب الوثنيين كانوا

______________________________

(1) يستفاد من السيرة النبوية: ج 3 ص 291 ط 1355 أن خطة اغتيال «سلّام» كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة، و لكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:297

مستعدين لشن حرب على الاسلام، و كان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

(1) على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» مجموعة من شجعان الخزرج و فوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر، الجري ء و الحاقد، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه و زوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر، فدخلوا خيبر ليلا و لم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح و استغاث بأحد، ثم تسللوا إلى غرفته و

كانت في الطابق الاعلى، فطرقوا باب حجرته، فخرجت إليهم امرأته و قالت:

من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة، ففتحت الباب و سمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم، فدخلوا في غرفته و ابتدروه و هو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم، و قضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه و مؤامراته، ثم خرجوا، و انحدروا من الدرج و اختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله، فصاحت زوجته، و استغاثت بالجيران، فأوقد اليهود النيران، و اشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة، و لكن من دون جدوى، و عند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول، و قد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر و يأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

(2) فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم و امرأته حول ابن أبي الحقيق، و في يدها المصباح تنظر في وجهه، و تحدثهم، و تقصّ عليهم ما جرى، ثم أقبلت عليه

______________________________

(1) إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق «كعب بن الأشرف» اليهودى الخطر فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين و لذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:298

تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ (أي مات) و إله يهود.

فعاد إلى رفاقه و أخبرهم بنجاح عمليّتهم و هلاك عدوّ اللّه: «سلام بن أبي الحقيق» على أيديهم، فخرجوا في تلك

الليلة من مخبأهم و عادوا إلى المدينة و أخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى «1».

(1)

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة:

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام، و انتشاره المطرد بشدة، الى البلاط الحبشي ليقطنوا و يقيموا في الحبشة فقد قالوا: الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فان ظهر «محمّد» على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد و إن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلّا خير.

و خرجت هذه الجماعة و فيهم «عمرو بن العاص» بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة، و بلاط النجاشيّ بالذات.

(2) و صادف دخولهم على «النجاشي» ورود «عمرو بن اميّة الضمري» مبعوث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب، و المهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال «عمرو بن العاص»: لو دخلت على «النجاشيّ» بالهدايا و سألته عمرو بن اميّة فاعطانيه، فضربت عنقه.

فدخل «عمرو بن العاصي» على «النجاشيّ»، و سجد له- على النحو الذي كان متبعا- فسأله النجاشيّ عن حاله، ثم قال: هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص: نعم أيها الملك، قد أهديت إليك ادما كثيرا، ثم قال: أيها

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 274 و 275.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:299

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك (و يقصد مبعوث رسول اللّه) و هو رسول عدوّ لنا، فاعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا و خيارنا.

(1) فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه، ثم قال: أ تسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله.

ويحك يا عمرو أطعني و اتبعه فانه و اللّه لعلى الحق، و ليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون و جنوده، ثم قال: أ فتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص: فقلت نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، و قد حال رأيي عما كان عليه، و كتمت أصحابي إسلامي «1».

(2)

الوقاية من تكرار التجارب المرة:

تركت حادثة «الرجيع» المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل «عضل» و «القارة» من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا و من دون رحمة، بل و سلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول اللّه و المسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين، و أحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم و أدت إلى توقف حركة الارشاد و التبليغ و الدعوة.

و لكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل- بعد الأحزاب و بني قريظة- كل العراقيل و العقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة و بعثات التبليغ الاسلامي.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 276 و 277.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:300

(1) فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة «ابن أمّ مكتوم» في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة و لم يظهر لأحد ما يقصده، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب «بني لحيان» على غفلة منهم، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب و هي منازل بني لحيان، و قد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه، و تمنعوا في رءوس الجبال.

و كان غزو المسلمين هذا، و

جبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

و استكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية، و استعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء اللّه القريب منهم و البعيد و لتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة و قد قال من قبل:

«لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم (و هو موضع بناحية الحجاز بين مكة و المدينة و هو واد أمام عسفان بثمانية أميال). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة «1».

هذا و كان جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة:

«... أعوذ باللّه من وعثاء السفر و كآبة المنقلب و سوء المنظر في الأهل و المال» «2».

(2) غزوة ذي قرد:

لم يقم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة بعد عودته من الغزوة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 279 و 280.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 254، المغازي: ج 2 ص 535، إمتاع الاسماع: ج 1 ص 259 و 260.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:301

السابقة إلّا ليالي قلائل حتى أغار «عيينة من حصن الفزاري» بمساعدة بني غطفان، على إبل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة (و هي موضع قرب المدينة من ناحية الشام) كانت مرعى أهل المدينة، و كان فيها آنذاك رجل من بني غفار، و امرأة مسلمة له، فقتلوا الرجل، و أخذوا معهم المرأة و الإبل.

(1) و كان أول

من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي و كان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه و قوسه و نبله، يريد الصيد، حتى إذا علا «ثنية الوداع» نظر إلى بعض خيول المغيرين، فصعد على تلّة سلع و صرخ مستغيثا و مستنجدا: وا صباحاه،

ثم خرج يشتد في آثار القوم (المغيرين) فجعل يردّهم بالنبل، و لكن المعتدين لاذوا بالفرار.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أول من سمع صراخ ابن الاكوع و استغاثاته، فصرخ صلّى اللّه عليه و آله هو مستغيثا: الفزع، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم «سعد بن زيد الاشهليّ» و قال له:

«اخرج في طلب القوم، حتى الحقك في الناس».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم، و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ورائهم، حتى أدركوا القوم في ذي قرد، فوقع بين المسلمين، و بين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان، و من المعتدين ثلاثة، و استنقذت المرأة، و بعض الابل المسروقة، و لكن العدوّ لجأ إلى غطفان، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة يوما و ليلة، تخويفا للعدوّ، و لم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم، و استنقاذ بقية السرح (الابل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:302

ثم رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قافلا حتى قدم المدينة «1» و كانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة «2».

(1)

النذر غير المشروع

و اقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى

قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبرته بما جرى ثم قالت: يا رسول اللّه إني قد نذرت إن نجّاني اللّه على هذه الناقة، أن أنحرها فآكل كبدها و سنامها.

فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

«بئس ما جزيتيها أن حملك اللّه عليها و نجاك ثم تنحرينها، انه لا نذر في معصية، و لا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه» «3».

و بذلك بيّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكما في مجال النذر، و هو أن النذر لا يصح في مال الغير، فلا نذر إلّا في ملك.

و القصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لطفه بأصحابه و اتباعه، حيث جابه المرأة المذكورة برفق و لطف، و بصّرها بما لها و ما عليها في منتهى التواضع و الشفقة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 255، المغازي: ج 2 ص 537 و 549.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 260 و 261.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 381- 289، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 133، امتاع الاسماع: ج 1 ص 263 قال صاحب الامتاع: و كانت الناقة هي القصواء، و القصواء اسم ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:303

حوادث السنة السادسة من الهجرة (1)

40 تمرّد بني المصطلق

اشارة

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية، و من دون خوف، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي

كان يتواجد فيها القبائل المشركة، و مصادرة أموالهم و ممتلكاتهم.

و اذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم، و كانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يقدم على شراء الاسلحة، و بعث السرايا، و المجموعات العسكرية، و لكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية، و مجموعات الارشاد و الدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة، و الاذى، بل و الاغتيال من قبل العدو، لذلك كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مضطرا بحكم العقل و الفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

(2) لقد كانت العلل و الأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله تتلخص في إحدى الامور التالية:

(3) 1- الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة، مثل معركة «بدر» و «احد» و

سيد المرسلين ،ج 2،ص:304

«الخندق».

(1) 2- تأديب و عقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين، أو قتلوا جماعات الدعوة و التبليغ في البراري و القفار النائية، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم، و تتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث (بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة) و بني لحيان.

(2) 3- افشال و احباط المؤامرات، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال و الاسلحة غزو المدينة، و اكتساح عاصمة الاسلام، و استئصال المسلمين، و كانت أكثر الحروب الصغيرة و المناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

(3)

غزوة بني المصطلق:

كان بنو المصطلق من قبائل «خزاعة» المتحالفة مع قريش.

و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها

يعدّ العدّة، و يجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة و غزوها، فقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

و لهذا أرسل أحد أصحابه و هو: «بريدة» إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم، فذهب بريدة، و دخل فيهم و تحادث- في هيئة متنكرة- مع رئيسهم و عرف بنيته، ثم عاد إلى المدينة و اخبر رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بما رآه و سمعه، و أن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى «المريسيع»، و نشبت الحرب بينهم و بين المسلمين، و لكن صمود المسلمين و بسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:305

لا يطول القتال بين المسلمين و بين «بني المصطلق» فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال، كما و قتل رجل مسلم خطأ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة و سبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق «1».

(1) هذا و ان النقاط و الدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حوادث هذه الغزوة، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

و قد شبّ في هذه المنطقة و لأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين و الأنصار، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض و هو سهم لو لا تدبير النبي صلّى اللّه عليه و آله و حكمته، الرشيدة التي أنهت كل شي ء، و ابقت على روح التآخي

بين المسلمين.

و تعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم «جهجاه بن مسعود» و هو من المهاجرين و «سنان بن وبر الجهني» و هو من الأنصار على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني- مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين-: يا معشر الأنصار، و صرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، و كاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة، و في هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام و مركزه، و يتعرض بذلك كيانهم للسقوط و الانهيار، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك قال:

«دعوها فإنها منتنة» «2».

أي أن هذا النوع من الاستغاثة و لمثل هذا الدافع ما هو إلّا من دعوى

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 260، امتاع الاسماع: ج 1 ص 195 و 196.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 290 (الهامش).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:306

الجاهلية، و قد جعل اللّه المؤمنين إخوة و حزبا واحدا، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين، و إلّا كانت جاهلية، لا قيمة لها في الإسلام «1».

و بذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها، و جنّب المسلمين أخطارها.

(1)

منافق حاول إشعال الموقف:

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف و التنازع فكيف الفريقان (القبيلتان) عن استئناف التنازع و التقاتل.

إلّا أن «عبد اللّه بن ابي» رئيس حزب المنافقين بالمدينة، و الذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام و قد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة، أظهر- في هذه الحادثة- حقده، و ضغينته على الإسلام، و قال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،

و قاسمتموهم أموالكم أما و اللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم، لقد نافرونا (أي المهاجرين) و كاثرونا في بلادنا، و اللّه ما أعدنا و جلابيب قريش إلّا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما و اللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل (و يقصد بالأذل المهاجرين)!!!

(2) فتركت كلمات «ابن ابي» أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية، أثرها في نفوسهم، و كادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة، و الاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين- أنصارا و مهاجرين- بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

و من حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

______________________________

(1) راجع هوامش السيرة النبوية: ج 2 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:307

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب و الفتنة رد على «ابن ابي» بكلمات قوية شجاعة اذ قال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغض في قومك، و محمّد في عزّ من الرحمن، و مودّة من المسلمين، و اللّه لا احبّك بعد هذا أبدا.

(1) ثم نهض و مشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره الخبر، فرده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث مرات حفظا للظاهر، قائلا: لعلّك و همت يا غلام، لعلّك غضبت عليه، لعلّه سفّه عليك.

و لكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مقالة المنافق الخبيث «عبد اللّه بن ابي»، و تحريكه للناس ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقتل «ابن ابي» قائلا: مر به عبّاد بن بشر

فليقتله «1».

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجاب عمر بقوله:

«فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه، لا» «2».

(2) و لقد مشى «عبد اللّه بن ابي» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين بلغه أنّ «زيد بن الارقم» قد بلّغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سمع منه، فحلف

______________________________

(1) تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة و بسالة، بل كان في صف المتقاعدين دائما. و لكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتله و نذكر للمثال ما يلي:

أ- هذا المورد الذي طلب فيه من رسول اللّه أن يقتل ابن أبي.

ب- طلبه من النبي بأن يقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة.

ج- طلبه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبيل فتح مكة، و غير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 202.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:308

باللّه: ما قلت ما قال، و قال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي: يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه و لم يحفظ ما قال الرجل.

(1) و لكن الامر لم ينته إلى هذا، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى

أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا، و لهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلّى اللّه عليه و آله يرتحل فيها عادة.

فجاءه «اسيد بن حضير»، و قال: يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل»؟

فقال اسيد: فأنت و اللّه يا رسول اللّه تخرجه إن شئت، هو و اللّه الذليل، و أنت العزيز، ارفق به يا رسول اللّه، فو اللّه لقد جاء اللّه بك و ان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، و أنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

(2) ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالرحيل فارتحل الناس، و سار بهم النبي صلّى اللّه عليه و آله يومهم ذاك حتى أمسى، و ليلتهم تلك حتى أصبح، من دون أن يسمح لهم بالنزول و الاستراحة، إلّا للصلاة، و سار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس و سلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة، فنزل الناس، و لم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب، و قد نسوا كل شي ء من تلك الذكريات المرّة، و كان هذا هو ما يريده النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:309

«عبد اللّه بن ابي» المنافق المفتّن «1»

(1)

صراع بين الايمان و العاطفة:

كان عبد اللّه ابن «عبد اللّه بن ابي» من فتيان الإسلام الشجعان، و من فرسانه البواسل، و كان- كما تقتضيه تعاليم الإسلام- يبر بأبيه المنافق أكثر من

غيره، و لكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ظن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيقتل أباه جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه انه قد بلغني أنك تريد قتل «عبد اللّه بن ابي»، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه، فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، و إني أخشى أن تامر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فاقتله، فأقتل (رجلا) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

(2) إن حديث هذا الفتى يعكس- في الحقيقة- أعظم تجليات الإيمان و آثاره في النفس، و الروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بأمر اللّه تعالى، و لكن ابن عبد اللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة و الابوّة و الأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه، و يسفك بالتالي دم مسلم.

و من جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن و الطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين «ابن أبي»، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان، و مقتضى العاطفة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 261 و 262، مجمع البيان: ج 10 ص 292- 295.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:310

(1) و لقد اختار عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع، يضمن

مصالح الإسلام من جهة، و يحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى، و ذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

و هذا العمل و ان كان شاقا مؤلما إلّا أن قوة الايمان باللّه و التسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة و السكون.

و لكن النبي الرحيم صلّى اللّه عليه و آله قال ردا على سؤال و اقتراح عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي:

«بل نترفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا»!!!

(2) و هذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مبلغ رحمته، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم و العتاب الحادّ إلى المنافق «عبد اللّه بن أبي»، و لحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل، و هوان ما وراءه هوان، و احتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به، و يقيم له وزنا.

لقد علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا، و أظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية، و الرشيدة.

فقد تحطم «عبد اللّه بن أبي» رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة، و لم يعد له أي دور، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه، و عفو النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه، و اغضاءه عن مساوئه.

و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار، و سقوط محله في القلوب:

«كيف ترى يا عمر، أما و اللّه لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لارعدت له

انف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».

فقال عمر: قد و اللّه علمت لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعظم بركة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:311

من أمري «1».

(1)

الزواج المبارك:

كانت «جويرية» بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد أصبتم ابنتي و هذا فداؤها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا و كذا»؟!

(2) فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آمن هو و والده به، و أسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه، و أرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى رسول اللّه و دفعت إليه ابنته «جويرية» فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبيها، فزوّجه اياها، و أصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تزوّج جويرية بنت الحارث و كان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا: أصهار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى و كانوا مائة عائلة، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 292 و 293 و في السيرة الحلبية: ج 2 ص 291: لأرغدت له أنوف، و تعني

هذه القولة النبوية الشريفة: ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد اللّه بن أبي لدافع عنه اناس حمية و عصبية، و لكنه اليوم و بعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:312

المصطلق.

و هكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا و نساء بفضل ذلك الزواج المبارك، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة، و عادوا الى قبيلتهم «1».

(1)

الفاسق يفتضح:

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة و رغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلّا حسن المعاملة و الإحسان و العفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع و عادوا إلى قبيلتهم و أهليهم.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسل إليهم «وليد بن عقبة بن أبي معيط» لجباية زكاتهم، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه و ليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول اللّه مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله، و أنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم، فطلب المسلمون غزوهم، و في الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا:

يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، و نؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّا خرجنا إليه لنقتله و و اللّه ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق و تصف الوليد بالفسق، اذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ

فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 295، امتاع الاسماع: ج 1 ص 198 و 199.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 296 و 297.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:313

(1)

41 قصة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبد اللّه بن ابي يواصل تجارته بالجواري، و الإماء و يضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا، فشكين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت إحداهن: إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدني ء: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» «1» «2».

و لقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا، أن يسي ء إلى امرأة ذات مكانة و شخصية في المجتمع الاسلامي «3»، و يتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين، و المؤمنات، و بغيا و حسدا.

______________________________

(1) النور: 33.

(2) مجمع البيان: ج 4 ص 141، الدر المنثور: ج 5 ص 46.

(3) اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا، و ستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض.

إن ما يستفاد من الآيات و الروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالا أن امرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها، و أما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك ما لا يمكن البت فيه، على وجه القطع و اليقين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:314

(1) حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة، فان العدوّ المشرك و الكافر يعمد دائما إلى إشفاء

غيظه و اطفاء غضبه و حنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد و الاوقات.

و لكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان، و يتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه، فان عداءه الباطني يتراكم و يتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

و نرى مثل هذه الحالة في عبد اللّه بن ابي.

و لقد ظهرت ذلّة «عبد اللّه بن ابي» رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق، و قد منعه ابنه من دخول المدينة، و لم يسمح له بدخولها إلّا بوساطة من النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية و السلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكف عنه ولده.

(2) إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله و يذهب غيظه، و من ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات، و ترويجها و اشاعتها ليستطيع من خلال ذلك، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع، و كذا بلبلة الرأي العام، و إشغاله بالتوافه و صرفه عن القضايا المهمة و المصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين، و ابعاد الناس عنهم.

(3)

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب:
اشارة

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة «الإفك» أن المنافقين اتهموا شخصا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:315

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا، تحقيقا لمآربهم الدنيئة، و اضرارا بالمجتمع الاسلاميّ، و قد ردّهم القرآن و شجب عملهم بشدّة قل نظيرها،

و أبطل خطتهم.

فمن هو- ترى- ذلك البري ء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين، فالاكثرون على أنها «عائشة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يرى الآخرون أنها «مارية» القبطية أم إبراهيم و زوجة رسول اللّه أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. و ها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو: «عائشة» و توضيح ما يصح و ما لا يصح في هذا المجال:

(1)

دراسة القول الأوّل:

يرى المحدّثون و المفسرون من أهل السنة أن نزول آيات «الإفك» يرتبط بعائشة، و يذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

و ها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم نستعرض آيات الإفك، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلّى اللّه عليه و آله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى «عائشة» «1» نفسها، فهي تقول:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا، فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل، فارتحل

______________________________

(1) راجع الدر المنثور: ج 5 ص 24- 34.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:316

الناس و خرجت لبعض حاجتي، و

في عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار، (أي خرز يمني) (1) فلما فرغت انسلّ من عنقي و لا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده، و قد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، و جاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير، و قد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، و هم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير و لم يشكّوا أني فيه، ثم اخذوا رأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر و ما فيه من داع و لا مجيب، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، و عرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو اللّه إني لمضطجعة (2) اذ مرّ بي صفوان السلمي (و هو من فرسان الاسلام) و قد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف و قد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال:

إنا للّه و إنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا متلففة في ثيابي. قال: ما خلّفك يرحمك اللّه. فما كلّمته، ثم قرّب البعير فقال: اركبي، و استأخر عنّي فركبت، و أخذ برأس البعير، فانطلق سريعا يطلب الناس، فو اللّه ما أدركنا الناس، و ما افتقدت حتى أصبحت، و نزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا؛ و ارتعج العسكر (أي شكوا فيّ) و و اللّه ما اعلم بشي ء من ذلك. حتى نزلت آيات «الإفك» تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن

تطبيقها مع آيات «الإفك»، و ليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و إليك الآيات التي نزلت في هذا المجال:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:317

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «1».

(1)

أبرز النقاط في آيات «الإفك»:

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم، و إليك هذه القرائن:

(2) 1- يقال: إن المراد من قوله سبحانه: «وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ» هو «عبد اللّه بن ابي» رئيس المنافقين، و كبيرهم.

(3) 2- لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ:

«عصبة» و هذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة، التي يربطها هدف واحد و تحدوها غاية واحدة و تفيد أنهم كانوا متعاونين و متعاضدين في المؤامرة و لم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلّا المنافقون.

(4) 3- ان «عبد اللّه بن ابي» بسبب منعه من الدخول إلى المدينة، بقي عند مدخل المدينة، فلمّا شاهد عائشة و هي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله اشفاء لغيظه، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة و البهتان، و قال إن زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باتت مع اجنبى في تلك الليلة و و اللّه ما نجا منهما من الإثم أحد.

______________________________

(1) النور: 11- 16.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:318

(1) 4- إنه تعالى يقول في نفس الآية (أي الحادية عشرة): «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».

و الآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين و مقاصدهم الشرّيرة و افتضحوا برمّتهم، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة، مذكورة في محلها.

(2)

الزوائد في هذه القصة:
اشارة

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم، و لا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا- نقلها عنه الآخرون في الاغلب- تعاني من إشكالين أساسيين هما:

(3)

1- منافاتها لمقام النبوة و العصمة صلّى اللّه عليه و آله:

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها:

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة (أي مرضت) و لا يبلغني من ذلك شي ء و قد انتهى الحديث الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا و لا كثيرا إلّا أنّي قد أنكرت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعض لطفه بي، و كنت إذا اشتكيت رحمني و لطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل عليّ و عندي امّي تمرضني قال: كيف تيكم، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني، فقال: لا عليك، فانتقلت إلى امّي، فقلت لامّي: يغفر اللّه لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به، و لا تذكرين لي من ذلك شيئا، فقالت: أي بنيّة هوّني

سيد المرسلين ،ج 2،ص:319

عليك الشأن فو اللّه لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلّا كثّرن، و كثر الناس عليها. «1»

(1) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاور «اسامة بن زيد» في الامر، فأثنى عليّ خيرا و قاله، ثم قال: يا رسول اللّه أهلك و لا نعلم منهم إلّا خيرا، و هذا الكذب و الباطل!!

و شاور عليّا فقال: يا رسول اللّه إن النساء لكثير، و انّك لقادر على

أن تستخلف، و سل الجارية، فانّها ستصدّقك (إي جارية عائشة) فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة ليسألها، فقالت: و اللّه ما أعلم إلّا خيرا، و ما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة، و شاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بري ء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم، و حتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير و الانقلاب في نظرته و سلوكه.

(2) إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 14 من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات و ظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى:

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ»؟!

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 6 تفسير سورة النور ص 102 و 103 و كذا الجزء 5 ص 118 السيرة النبوية:

ج 2 ص 299

سيد المرسلين ،ج 2،ص:320

«وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ»؟! «1».

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول: ان هذا العتاب الشديد و هذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا، و الحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن

نقول بأن هذا الخطاب و التوبيخ موجّهين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و رفض ما يتنافى معها.

(1)

2- سعد بن معاذ توفي قبل حادثة «الإفك»:

و يروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها: بعد أن سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة عن أمري، فقالت فيّ خيرا و صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: «من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي (أي من يؤدبه) و يقولون لرجل، و اللّه ما علمت على ذلك الرجل إلّا خيرا، و ما كان يدخل بيتا من بيوتي إلّا معي و يقولون عليه غير الحق».

فقام «سعد بن معاذ» و قال: أنا اعذرك منه يا رسول اللّه إن يك من الأوس آتك برأسه، و إن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على «سعد بن عبادة» و غضب منه، فقام و قال:

كذبت لعمر اللّه، لا تقتله و لا تقدر على قتله «2».

______________________________

(1) أي لما ذا- عند ما سمعتم بهذا الافتراء- لم تظنوا بأنفسكم خيرا و قلتم: هذا إفك، و لما ذا- عند ما سمعتم بهذا الكلام- لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.

(2) كان «سعد بن معاذ» رئيس الاوس و «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، و كانت بين هاتين-

سيد المرسلين ،ج 2،ص:321

(1) فقام اسيد بن حضير- و هو ابن عم سعد بن معاذ- و قال: كذبت و اللّه

لنقتلنّه و أنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين، و اللّه لو نعلم ما يهوى رسول اللّه من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكانه حتى آتيك برأسه، و لكني لا أدري ما يهوى رسول اللّه.

ثم تغالظوا، و قام آل الخزرج من جانب، و آل الأوس من جانب آخر، و كادوا أن يشتبكوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فأشار رسول اللّه إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا، و نزل عن المنبر فهدّأهم و خفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح، و لا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن «سعد بن معاذ» كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة «الاحزاب»، و قد وقعت حادثة «الإفك» بعد واقعة بني قريظة، و قد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه (ج 5 ص 113) في باب «معركة الاحزاب و بني قريظة»، فكيف يمكن و الحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟! «1»

(2) لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة، و قد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه «2» في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

______________________________

القبيلتين منافسة قديمة، و كان «عبد اللّه بن أبي» خزرجيا، فاعتبر «سعد بن عبادة» كلام

«سعد بن معاذ» تعريضا بالخزرج و حطا من شأنهم.

(1) نفس المصدر السابق، و الجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته «سعد بن معاذ»، و لكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 300، و هكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ: ج 2 ص 134، و لكن المغازي ذكر القصة كاملة، و اتى باسم سعد بن معاذ راجع: ج 2 ص 431.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 250.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:322

من السنة السادسة «1».

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس، و يبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

و قد فسر قوله: «الّذي تولى كبره» أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد اللّه بن ابي، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة و الخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

(1)

الرواية الاخرى في سبب النزول:

و تقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في «مارية القبطيّة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و والدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول: لما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا صلوات اللّه عليه و أمره بقتله، فذهب علي صلوات اللّه عليه و معه السيف، و كان جريح القبطي في حائط (أي بستان)، فضرب «علي» باب البستان، فأقبل جريح له ليفتح الباب، فلما رأى عليّا صلوات اللّه عليه، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السّلام على

الحائط و نزل إلى البستان، و أتبعه، و ولّى جريح مدبرا، فلما خشي أن يرهقه (أي يدركه) صعد في نخلة و صعد «علي» في أثره، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فاذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء، فانصرف عليّ عليه السّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 297، و لعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه، راجع شروح البخاري منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 8 ص 471 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:323

فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال: لا بل تثبت.

قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء.

فقال: الحمد للّه الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

و هذه الرواية التي نقلها «المحدث البحراني» في «تفسير البرهان» ج 2 ص 126- 127 و «الحويزي» في تفسير «نور الثقلين» ج 3 ص 581- 582 ضعيفة و غير مستقيمة من حيث المفاد، و هو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان و لذلك.

و من هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:324

(1)

42 رحلة سياسيّة دينيّة [قصة الحديبية]

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة و الحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أنه دخل البيت (الكعبة) و حلق رأسه، و أخذ مفتاح البيت، و عرّف مع المعرفين، فقصّ صلّى اللّه

عليه و آله هذه الرؤيا على أصحابه و تفاءل به خيرا «1».

و لم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة، و دعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها و كفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة، و لهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

و لقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي- مضافا إلى العطاء الروحاني و المعنوي- على مصالح اجتماعية و أهداف سياسية، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية، و تسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك، و ذلك:

(2) أولا: لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يخالف كل عقائد العرب، و تقاليدهم الشعبية، و الدينية حتى فريضة الحج، و العمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف و مواريثهم.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:325

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يتوجسون خيفة من دينه، و عقيدته، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استطاع في هذه المناسبة- باشتراكه، و اشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير، و أن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت اللّه الحرام، و الفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية، و تقاليدهم المذهبية، بل يعتبرها فريضة مقدسة، فهو مثل والد العرب الاكبر «إسماعيل بن إبراهيم الخليل» عليهما السّلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، و بهذا استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة «محمّد» و دعوته، و

دينه يعارض جميع شئونهم و تقاليدهم و أعرافهم الدينية، و الشعبية، و يخالفها مخالفة مطلقة، و يقلّل من خوفهم، و استيحاشهم.

(1) ثانيا: إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا، و يؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية، أمام أعين الآلاف من المشركين، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة، فسيحملون أنباء ما رأوه و شاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة، و أخلاقهم الفاضلة، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم، و بهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يبعث إليها الدعاة و المبلغين حتى ذلك الحين، و يترك هذا الأمر أثره المطلوب.

(2) ثالثا: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم و قال صلّى اللّه عليه و آله: و أمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلّا السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

و لقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين، و غيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحرّم القتال في هذه الاشهر، و يدافع بنفسه عن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:326

هذه السنّة الدينية القديمة و يدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر، و يجيز الاقتتال و سفك الدماء فيها.

(1) لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من

آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم، و أهليهم، أن يزوروا ذويهم و أقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

و أمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض- حينئذ- لخطر السقوط في العالم العربي، و سيلومهم العرب على ذلك، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة، و زيارة الكعبة المعظمة، و لا تحمل معها أيّ سلاح إلّا ما يحمله المسافر في سفره عادة، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة، و انما تقوم قريش بمجرّد سدانته، و ادارة شئونه.

(2) و هنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح، و يتضح عدوان قريش و ينكشف للجميع بطلان مواقفها، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام، و عقد تحالفات عسكرية و اتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج و الزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ هذه الجوانب و غيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة، و أحرم الف و اربعمائه «1» أو الف و ستمائة «2» أو الف و ثمانمائة «3» في «ذي الحليفة» و قلّد سبعين بدنة (بعيرا) و بهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 309.

(2) مجمع البيان: ج 2 ص 288.

(3) روضة الكافي: ص 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:327

و لقد أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

(1) و لما كان رسول اللّه بعسفان (و هي منطقة بين

الجحفة و مكة) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فعاهدوا اللّه أن لا تدخلها أبدا و هذا «خالد بن الوليد» في خيلهم (و كانوا مائتين) قد قدّموها الى كراع الغميم. (و هي موضع بين مكة و المدينة أمام عسفان بثمانية أميال).

فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعزم قريش على منعه و منع اصحابه من العمرة قال:

«يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني و بين سائر العرب، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا، و إن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، و إن لم يفعلوا قاتلوا و بهم قوة، فما تظنّ قريش، فو اللّه لا أزال اجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه به، أو تنفرد هذه السالفة «1» (أي أقتل أو أموت).

(2) ثم طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة «خالد بن الوليد».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية، فبركت هناك ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما هذا لها عادة، و لكن حبسها حابس الفيل بمكة» «2».

ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

______________________________

(1) السالفة: صفحة العنق، و كنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الّا بالموت.

(2) بحار

الانوار: ج 20 ص 329 و غيره. و قد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:328

(1) و لما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لحقت به، حتى اقتربت منه و حاصرت موكبه و رجاله فكان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش، فيسفك دماءهم، و يعبر على أجسادهم، و حينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يهدف العمرة و الزيارة بل يريد الحرب و القتال، فكان مثل هذا العمل يسي ء إلى سمعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و يضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة، و لم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك- إلّا ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح، و مع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا، و حكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

(2) و لهذا عند ما نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة قال:

«لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها» «1».

و لقد بلغ كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا مسامع الناس، و كان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا، و لهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

(3)

مندوبو قريش عند النبي صلّى اللّه عليه و آله:

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتعرفوا على مقصده

و هدفه في هذا السفر.

و كان أول أولئك المبعوثين هو: «بديل بن ورقاء الخزاعي» الذي أتى

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 270- 272.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:329

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش و سألوه: ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّا لم نجي ء لقتال أحد، و لكنّا جئنا معتمرين».

فرجعوا إلى قريش و أخبروهم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يات لقتال و إنما جاء معتمرا زائرا لبيت اللّه، و لكن قريشا لم يصدقوهم و قالوا: و إن كان جاء و لا يريد قتالا فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا، و لا تحدّث بذلك عنّا العرب.

(1) ثم بعثوا «مكرز بن حفص» فسمع من النبي صلّى اللّه عليه و آله ما سمعه سابقه، فعاد و صدّق ما أخبر بديل قريشا به، و لكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة «1» و كبير رماة العرب، لحسم الموقف، فلما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقبلا قال:

«إن هذا من قوم يتألّهون (أي يعظمون أمر اللّه) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه».

(2) فلما رأى الحليس، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، و قد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه، رجع إلى قريش، و لم يصل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعظاما لما رأى، فقال لهم: يا معشر قريش و اللّه ما على هذا حالفناكم، و لا على هذا الّذي عاقدناكم، أ يصدّ عن بيت اللّه من جاء معظما له و قد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟!،

و الذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد و ما جاء له، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد، و هكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوة و استخدام العنف معه لصده، و قد لاحظ بأم عينيه ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين لا يريدون إلّا العمرة و الزيارة لا القتال

______________________________

(1) لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه: ج 2 ص 276.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:330

و الحرب، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام و هذا التهديد على قريش و خافوا من مخالفته، فقالوا: مه، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

(1) ثمّ بعثوا أخيرا «عروة بن مسعود الثقفي» و كان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته و حكمته و خيره و كان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين، و لكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول، و أعلنت له عن ثقتها الكاملة به، و بما سيخبر به، و بأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجلس بين يديه ثم قال: يا محمّد جمعت أو شاب الناس (أي أخلاطهم) ثم جئت بهم إلى أهلك و قبيلتك، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، و أيم اللّه لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، (أو قال: أن يفرّوا عنك و يدعوك).

(2) و عند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر و كان جالسا خلف رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله: أ نحن ننكشف عنه، و ندعه؟

لقد كان «عروة» كأيّ دبلوماسيّ ماكر، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكلامه، و روغانه.

و أخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. و هنا جعل «عروة» يتناول لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ازدراء به صلّى اللّه عليه و آله، و المغيرة بن شعبة- و كان واقفا على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- يقرع يده إذا تناول لحية النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقول اكفف يدك عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة: يا محمّد من هذا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة (و يبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:331

(1) فغضب عروة و قال: «أي غدر، و هل غسلت سوءتك إلّا بالأمس» و كان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين و أصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكلام على عروة و قال له مثل ما قال لبديل و رفيقيه، و أنه لم يات يريد حربا، بل جاء يريد العمرة، و لاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه و أتباعه، قام صلّى اللّه عليه و آله و توضأ أمامه، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلّا و تسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه، فرجع إلى قريش و قال لهم: يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه، و قيصر في ملكه، و النجاشيّ في

ملكه، و إنّي و اللّه ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه، و لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشي ء قط فروا رأيكم «1».

(2)

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش:

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش، و إسماعهم الحقيقة، و أن اتهامهم لهم بالجبن و الكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به، و لهذا قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر، و أنه ليس إلّا زيارة بيت اللّه و أداء مناسك العمرة لا غير.

(3) فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى «خراش بن اميّة» فبعثه إلى قريش بمكّة و حمله على بعير يقال له «الثعلب». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 598، امتاع الاسماع: ج 1 ص 287.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:332

الزيارة و العمرة، فدخل مكة، و بلّغ سادة قريش رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و لكن قريشا- خلافا لكل الأعراف الدولية و الاجتماعية قديما و حديثا. و القاضية بحصانة السفراء و ضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي امتطاه سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة فعقروه عدوانا، و كادوا أن يقتلوا سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و لكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله.

إن هذا العمل الدني ء أثبت- بوضوح- أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

(1) و لم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغية أخذ شي ء من أمواله، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك، ارعابا للمسلمين و تخويفا لهم. و لكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا و أتى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعفا عنهم، و خلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحجارة و النبل.

و بهذا ثبت رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى أنه يحب السلام و يسعى إليه، و انه جاء معتمرا لا معتديا و لا محاربا «1».

(2)

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش:

رغم كل هذه الامور و رغم كلّ التصلّب و التعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام و المسلمين و ضد محاولات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السلميّة لم ييأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تحقيق السلام

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 278.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:333

فقد كان يريد- واقعا- أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات، و من طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش و سادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول اللّه و دعوته.

(1) و من هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلّى اللّه عليه و آله رجلا لم تخض يده في دماء قريش، و لهذا لم يصلح «علي بن أبي طالب» و لا «الزبير» و لا غير هم من فرسان الاسلام و شجعانه

الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال و أردوا فريقا منهم صرعى، لمثل هذه السفارة، و هذه المهمة.

و لهذا تقرر- بعد التأمل. انتداب «عمر بن الخطاب» لهذه المهمة، أي الذهاب الى مكة، و التحدث الى سادة قريش، و رؤسائها، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم و لا قطرة دم، و لكن «عمر» اعتذر عن تحمل هذه المسئولية، و القيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ إني أخاف قريشا على نفسي، و ليس بمكة من بني عديّ (و هم عشيرته) من يمنعني، و لكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني، «عثمان بن عفان». (لكونه أمويا بينه و بين أبي سفيان زعيم قريش قرابة) «1».

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عثمان بن عفان» فبعثه إلى «أبي سفيان» و أشراف قريش، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب، و أنه انما جاء زائرا لهذا البيت و معظما لحرمته.

(2) فخرج عثمان الى مكة، فلقيه «أبان بن سعيد بن العاص» حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانطلق «عثمان» حتى أتى أبا سفيان و أشراف قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:334

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها، و لعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأيهم.

(1)

بيعة الرضوان:

إلّا أن إبطاء مبعوث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين، خاصّة و أنه شاع أن عثمان قد قتل، فثارت ثائرة المسلمين، و استعدّوا للانتقام من قريش و عمد النبي صلّى اللّه عليه و آله أيضا إلى مخاطبتهم قائلا:

«لا نبرح حتى نناجز القوم».

و ذلك تقوية لارادة المسلمين، و تحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

و في هذه اللحظات الخطيرة، و في ما كان الخطر على الابواب، و بينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت شجرة، و أخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة و الثبات و الوفاء واحدا واحدا، و يحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا، و أن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير، و قد سمّيت هذه البيعة ببيعة «الرضوان» التي جاء ذكرها في قوله تعالى:

«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» «1».

(2) فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت اللّه المعظّم، و إمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

______________________________

(1) الفتح: 18.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:335

القتال و الحرب «1». سيد المرسلين ج 2 335 بيعة الرضوان: ..... ص : 334

بينما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الحال اذ طلع عليهم «عثمان بن عفان»، و كان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فأخبر عثمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الذي

يمنع قريشا من السماح لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام و انهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

(1)

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه:

بعثت قريش- في المرة الخامسة- «سهيل بن عمرو» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل «سهيل بن عمرو» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى «سهيل» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع، فقال و هو يحاول إثارة عواطف النبي صلّى اللّه عليه و آله و أحاسيسه:

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا و عزّنا، و قد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا و متى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف، و إنا لنذكّرك الحرم، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فما تريد»؟

______________________________

(1) و لقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو، يقول الواقدي: فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة و تشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم و خوفهم و أسرعوا إلى القضية (ج 2 ص 604). و راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 291 أيضا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:336

قال: اريد أن أكتب بيني و بينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل «1» فتدخلها، و لا تدخلها بخوف و لا فزع، و لا سلاح إلّا سلاح الراكب، السيف في القراب.

فقبل رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله بعقد مثل هذا الصلح.

(1) و هكذا أدّت مفاوضات «سهيل» مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عقد صلح شامل و واسع بين قريش و بين المسلمين.

و لقد تشدد «سهيل» في شروط هذا الصلح كثيرا، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا، و لكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح و الموادعة، لهذا كانا يستأنفان التحاور و التفاوض مرة اخرى، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

و أخيرا انتهت مفاوضات الجانبين- رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب- الى عقد وثيقة موادعة و هدنة نظّمت في نسختين و وقع عليها الجانبان.

(2) و يروي كافّة المؤرخين و أرباب السير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استدعى عليّا (عليه السّلام)، و امره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له: اكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فكتب «عليّ» ذلك فقال سهيل: لا أعرف هذا، و لكن أكتب: باسمك اللّهم!!

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اكتب: باسمك اللّهم و امح ما كتبت.

ففعل «علي» ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أكتب «هذا ما صالح عليه رسول اللّه سهيل بن عمرو».

فقال سهيل، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم و اكتب: محمّد بن عبد اللّه (أو قال: لو شهدت انك رسول اللّه لم اقاتلك.

______________________________

(1) أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:337

و لكن أكتب اسمك و اسم ابيك).

(1) و لم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمطالب «سهيل» الى هذه الدرجة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب «سهيل»، و قال لعليّ (عليه السّلام): امحها يا عليّ.

فقال عليّ (عليه السّلام) بأدب بالغ: يا رسول اللّه إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فضع يدي عليها، فمحى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده كلمة: رسول اللّه نزولا عند رغبة «سهيل» مفاوض قريش «1».

ان التسامح الذي أبداه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقع فريسة بيد الاهواء و الاغراض الشخصية و العواطف و الاحاسيس العابرة، و كان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل و لا تتغيّر بالكتابة و المحو، من هنا تسامح مع مفاوض قريش «سهيل» الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا، حفاظا على أصل الصلح. و حرصا على السلام.

(2)

التاريخ يعيد نفسه:

و لقد ابتلي علي (عليه السّلام) تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

______________________________

(1) الارشاد: ص 60، اعلام الورى: 106، بحار الأنوار: ج 20 ص 368 و قد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال: في احدى رواياته لهذه الحادثة: قال لعلى عليه السّلام: امح «رسول اللّه»، قال:

لا و اللّه لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس يحسن يكتب فكتب مكان «رسول اللّه»: محمّد.

و هكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة، و قد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن 319-

374.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:338

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فيوم امتنع علي عليه السّلام عن محو كلمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض مضطهد» «1»

(1) و لقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ عليه السّلام، حتى إذا كان يوم «صفين» و خدع أصحاب الامام عليّ عليه السّلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّا (عليه السّلام) بقيادة معاوية بن أبي سفيان و مساعدة عمرو بن العاص، و أجبروا الامام عليه السّلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح، كلّف «عبيد اللّه بن رافع» كاتب الامام من جانب الامام عليّ عليه السّلام بأن يكتب وثيقة الصلح، فكتب:

«هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي» قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات: لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

و هكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

و طال الكلام و التشاجر في هذا الموضوع، و لم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه، و لهذا لم يرضخ لهذا المطلب، و لكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب «أمير المؤمنين» من اسمه ثم قال:

«اللّه اكبر سنة بسنة».

و هو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له يوم الحديبية «2».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 138، بحار الأنوار: ج 20 ص 353.

(2) الكامل في التاريخ: ج 3 ص 162، راجع المصدر لتقف

على القصة بكاملها و لتقف على ما دار بين الامام و ابن العاص.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:339

(1)

نصّ صلح الحديبية:

و أخيرا عقدت اتّفاقية صلح و هدنة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قريش تضمنت المواد و الشروط التالية:

(2) 1- تعهّد المسلمون، و قريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، و يكف بعضهم عن بعض.

(3) 2- من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، و من جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

(4) 3- من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده (أي يتحالف معه) دخل فيه و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه.

(5) 4- انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا و لا يدخل مكة، و انما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام، لا يدخل فيها بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القرب «1».

(6) 5- أن لا يستكره أحد على ترك دينه و يعبد المسلمون اللّه بمكة علانية و بحرية، و ان يكون الاسلام ظاهرا بمكة و ان لا يؤذي أحد و لا يعيّر «2».

(7) 6- لا إسلال (سرقة) و لا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر، فلا يخونه و لا يسرق منه «3».

(8) 7- أن لا تعين قريش على محمّد و أصحابه أحدا بنفس و لا سلاح «4».

هذا هو نص وثيقة «صلح الحديبية»، و قد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 21.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 352.

(3) مجمع البيان: ج 9 ص 117 أو: «من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه

و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه و ماله».

(4) بحار الأنوار: ج 20 ص 352.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:340

التي أشرنا الى بعضها في الهامش، و قد كتبت هذه الوثيقة في نسختين، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش، و المسلمين و شهدوا عليها و اعطيت نسخة الى «سهيل بن عمرو» ممثل قريش، و تركت نسخة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

نشيد الحرية:

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ، و مع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام و الاكبار، إلّا أن النقطة التي تستحق الاهتمام و التقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح، و هي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله من هذا التمييز الصارخ، و قالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينبغي أن لا يقولوه، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام، و تفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام، و إشاعته و نشره، فانه يظهر منها- و بجلاء- مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

(2) و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين إلى قريش، دون العكس قائلا:

«من جاءهم منّا فأبعده اللّه و من جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم اللّه الاسلام من قلبه جعل

له مخرجا».

و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الذي يهرب من جماعة المسلمين و يلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه و إسلامه، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:341

لا اكراه في الدين و أما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم اللّه منه الصدق لنجاه حتما.

(1) و لقد كانت نظرية النبي صلّى اللّه عليه و آله و رأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل و المنطق السليم، و قد تجلت صوابيته و حقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد، لانه لم يمض زمن طويل إلّا و قريش- و بعد سلسلة من الحوادث المؤسفة- طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات و تخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم و بقاعه، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها، و لهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة، و قالوا: ان الاسلام انتشر بالقوة، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام، و يخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين و غير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام و حقيقة تعاليمه السامية، و مع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة، و التبليغ و الارشاد.

هذا و لقد تحالفت قبيلة خزاعة-

مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة- و كانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

(2)

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح:

كانت مقدمات الميثاق المذكور، و بنوده توحي بصورة جليّة و كاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين، فلو أن رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله قبل بامحاء كلمة «رسول اللّه» من اسمه، و بدأ الميثاق بعبارة «باسمك اللّهم» على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:342

الصلح، و اقرار الأمن في الجزيرة العربية.

و لو ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين، و يعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش و تعنته، و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يرضخ لهذا الشرط (استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط و معارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش، و حفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين) لتعطّلت عملية السلام، و لما تحقق الصلح، و لفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كل الضغوط من جهة، و تحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى، ليصل الى المقصد الأعلى و الهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراعي الرأي العام و يلاحظ حقوق هذه الجماعة، لكان «سهيل» يتسبب- بسبب تصلبه الارعن- في اشتعال نائرة الحرب.

و القصّة التالية تشهد بما نقول:

(1) حينما انتهت مفاوضات السلام، و بينما كان الامام علي (عليه السّلام) يكتب وثيقة الموادعة و الصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلّى

اللّه عليه و آله و هو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل (المفاوض) مدة طويلة.

و لم يكن لابي جندل من ذنب إلّا أنه اختار التوحيد عقيدة، و الاسلام دينا، و رفض الوثنية و الشرك و كان يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا شديدا فحبسه أبوه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:343

(1) و كان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه، فهرب من محبسه و انفلت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب، و الوديان.

فلما رأى «سهيل» ابنه أبا جندل و قد هرب من سجنه، و لجأ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قام إليه فضرب وجهه، و اخذ بتلابيبه ثم قال: يا محمّد لقد تمت القضية بيني و بينك قبل أن يأتيك هذا، و هذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

و لا شك أن كلام «سهيل» كان باطلا، و لا مبرر لطلبه، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق، و لم يوقع عليه الطرفان، و لم ينته- بالتالي- من مراحله النهائية و الأخيرة بعد، فكيف يمكن الاستناد إليه، و لهذا أجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

«إنا لم نرض (نقض) بالكتاب بعد» «1»

(2) فقال سهيل: إذا و اللّه لا اصالحك على شي ء أبدا، حتى ترده إليّ، و لم يزل يصرّ على كلامه و رفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز و حويطب من تصلب سهيل و تشدده.

ثم قاما و أخذا أبا جندل من أبيه و أدخلاه خيمة و قالا: نحن نجيره.

و لقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع، و الجدال، و

لكن إصرار سهيل على موقفه، أبطل تدبيرهما اذ قال: يا محمّد لقد لجّت القضية بيني و بينك قبل ان ياتيك هذا «2».

فاضطرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة و الصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام، و لهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده، لإعادته الى مكة، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 334.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 21 لجّت: وجبت و تمت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:344

(1) «يا أبا جندل، اصبر و احتسب، فان اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا، إنا قد عقدنا بيننا و بين القوم صلحا، و أعطيناهم على ذلك، و أعطونا عهد اللّه، و إنا لا نغدر بهم».

و انتهت جلسة المفاوضات، و تمّ التوقيع على نسختي الميثاق، و عاد سهيل و رفاقه إلى مكة، و معهم «أبو جندل» ابن سهيل في جوار مكرز و حويطب، و نحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان معه من الهدي «1» في نفس ذلك المكان و حلق فنحر جماعة من المسلمين و حلقوا «2».

(2)

تقييم عاجل لصلح الحديبية:

بعد أن فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عقد صلح الحديبية بينه و بين رءوس الشرك، و بعد أن توقف في أرض الحديبية مدة 19 يوما عاد هو و أصحابه الى المدينة، و عاد المشركون إلى مكة.

هذا و قد نشبت مشاجرات و مشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق و كتابته، بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام، و قليل منهم كان يعدّه مضرا

بمصلحة الاسلام و المسلمين.

و لقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية و تجرد، و نستعرض طرفا من تلك الاعتراضات و المجادلات لنقف على معطيات تلك العملية، و نتائجها.

ان الذي نراه هو: ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة، و انه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا،

______________________________

(1) أي الابل التي ساقها معه.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 281، بحار الأنوار: ج 20 ص 353، السيرة النبوية: ج 2 ص 318. امتاع الاسماع: ج 1 ص 394 و 395.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:345

لا شك فيه، و إليك أدلة هذا الرأي:

(1) 1- إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين، و التحريكات الداخلية و الخارجية التي أشرنا إليها في حوادث «احد» و «الاحزاب» على نحو الاختصار، لم تترك للنبي صلّى اللّه عليه و آله فرصة لنشر الاسلام بين القبائل، و في المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلّى اللّه عليه و آله يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع و العمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي و الخارجيّ يحيكها باستمرار.

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

و قد ظهر أثر هذا الهدوء و الاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة، فقد كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحديبية ألف و أربعمائة و لكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف، و كان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا

يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب، و لكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية، و أعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة و يقوموا بنشاط تبليغي و دعوة واسعة إلى الاسلام.

(2) 2- إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس و بين الاسلام، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين و يلتقون بهم، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

و لقد أثار نظم المسلمين، و اخلاصهم، و طاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين، في أوقات الصلاة خاصة، و صفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة، و خطب رسول اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:346

صلّى اللّه عليه و آله الرائعة، و اللذيذة، و آيات القرآن الكريم البليغة، و السهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

(1) هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة و شتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة، و الاتصال بذويهم و أقاربهم، و التحدث معهم في أمر الاسلام و تعاليمه المقدسة المحبّبة، و قوانينه و آدابه الرائعة، و ما جاء به من حلال و حرام.

و قد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك و الكفر كخالد بن الوليد و عمرو بن العاص بالمسلمين، و يعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة، و أن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام، و الاطّلاع على مزاياه و فضائله على تسهيل عملية فتح مكة، و انهيار صرح الوثنية فيها

من دون أيّة مقاومة من أهل مكة، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة و أقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم و أصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف و الحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

(2) 3- إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحديبية، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأن أخلاق النبي الرفيعة، و حلمه و صبره أمام تعنت قادة المشركين و تصلبهم و عتوهم، و سعيه الحثيث و حرصه الصادق على تحقيق السلام، أثبت لهم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنه صلّى اللّه عليه و آله قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة، و ناله منهم أذى كثير، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف، و الحب و الحنان على الناس.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:347

(1) لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنه صلّى اللّه عليه و آله خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام، و كيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه، و رغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مواقفه و خلقه، و أفكاره و اثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام، و داعية خير للبشرية، و أنه

حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية، لما عامل أعداءه الّا بالحسنى و اللطف، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها و هزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول:

«وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» «1».

(2) و مع ذلك أبدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسامحا كبيرا، و أعلن عن عطفه، و حنانه للمجتمع العربيّ، و بذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه، و ضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال:

«و ما كان قضية أعظم بركة منها» «2».

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و في مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا و لا مبرر له.

و قد أدرج أرباب السير و التاريخ جميع هذه الاعتراضات، كما تنقل ردّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليها، و يمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

______________________________

(1) الفتح: 22.

(2) الكافي: ج 8 ص 326.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:348

لابن هشام، و امتاع الاسماع و غيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين و بشّرتهم بالانتصار و يمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» «1».

(1)

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة:

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية، و هي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و أثارت سخطهم، و قبل بها رسول اللّه تحت إصرار من «سهيل» ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول: على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة، و لكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة، إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد أثارت هذه المادة- المجحفة في الظاهر- سخط البعض و اعتراضهم، و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لابي جندل في وقته:

«إنّ اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا».

(2) ثم إن مسلما آخر يدعى «أبو بصير» كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه و يصل الى المدينة، و قد وصلها سعيا على قدميه، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما: «أزهر» و «الأخنس» كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 263 نقلا عنن اعلام الورى، و زاد المعاد في هدى خير العباد: ج 2 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:349

و يذكّر انه بالمعاهدة و أرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه، فدفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أبا بصير» إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا:

«يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت (أي من العهد) و لا تصلح لنا في ديننا الغدر و إن اللّه جاعل لك و لمن معك من المسلمين فرجا و مخرجا»

«1».

(1) فقال أبو بصير: يا رسول اللّه تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانية:

«انطلق يا أبا بصير، فان اللّه سيجعل لك مخرجا».

ثم دفعه إلى العامريّ و صاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة (و هي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه، و وضع زاده الذي كان يحمله و جعل يتغدّى و قال لصاحبيه في لهجة الصدّيق: ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري: ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أ صارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه و كان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فجرّد أبو بصير السيف و قتل به العامريّ في اللحظة، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا، و سبق أبا بصير الى المدينة، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى لسيّده العامريّ، فبينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في أصحابه و الغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير، فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد و قال: وفت ذمّتك، و أدّى اللّه عنك، و قد أسلمتني بيد العدوّ، و قد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غادر المدينة، و نزل ناحية على ساحل البحر، على طريق قافلة قريش

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 625.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:350

إلى الشام، تسمى «العيص».

(1) و عرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر، ففرّ منهم سبعون رجلا، و انضمّوا إلى

أبي بصير و كانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب و العنت، فلا حياة و لا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية و يغيروا عليها، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

و قد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش، و سلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يطلبون منه إلغاء هذه المادة (أي المادة الثانية). بموافقة الطرفين و قد أعلنوا موافقتهم على إلغائها، و اعادة أبي بصير و جماعته إلى المدينة و الكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على إلغاء تلك المادة، و طلب من المسلمين في منطقة «العيص» القدوم الى المدينة.

و بهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن، و حبسه في القيد، و ان تقييده و حبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه، لأنه سيفرّ ذات يوم و هو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

(2)

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش:

بعد أن تم الاتفاق و التوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت «أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط» في تلك المدة، فخرج أخواها «عمارة» و «الوليد» ابنا عقبة حتى قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه و بين قريش في الحديبية، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال لهما:

«إن اللّه نقض العهد في النساء» «1».

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 631، السيرة النبوية: ج 2 ص 323.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:351

و قد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ

اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» «1».

كانت هذه قصّة «الحديبية»، و قد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ الهدوء و الأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم و زعماءه، و أن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم، و ستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

______________________________

(1) الممتحنة: 10.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:352

(1)

حوادث السنة السابعة من الهجرة

43 النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله من ناحية الجنوب (أي مكة)، و قد آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لبّى دعوته في ظل الهدوء و الأمن و الاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. و رجالها البارزين.

و اغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم و زعماء القبائل، و رجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة، فكاتبهم و وجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله و سفرائه، و قد عرض فيها عليهم رسالته و دعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة و كان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد، و في اطار التعاليم الاخلاقية و الانسانية كل البشرية.

و قد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد 19 عاما من الصراع مع قريش العاتية.

(2) و لو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات و الحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت، و لكن الحملات الظالمة و المضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة

طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام و كيان المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:353

(1) إن الرسائل التي وجّهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الامراء و السلاطين، و إلى رؤساء القبائل، و الشخصيات الدينية و السياسية البارزة داخل الجزيرة العربية و خارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة و التبليغ، و الارشاد و الهداية.

و بين أيدينا الآن نصوص 185 «1» رسالة و كتاب من مكاتيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم، إلى الإسلام، أو كتبه التي تشكّل معاهداته و مواثيقه صلّى اللّه عليه و آله التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة و قد جمعها، و ضبطها أرباب السير و كتّاب التاريخ و هي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة و التبليغ يعتمد على المنطق و البرهان، لا على السيف و القهر و على الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمن جانب قريش و حلفائها، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم و ذلك عن طريق ارسال الرسائل، أو بعث المبلغين و الدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

(2) إن نصوص هذه الرسائل، و الاشارات الموجودة في خلالها، و نصائحه التي كان يوجّهها صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس، و التسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات و إبرام المعاهدات مع الاجانب، تشكّل برمتها شواهد قاطعة، و دامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

______________________________

(1) لقد اجتهد علماء

الاسلام في جمع و احصاء رسائل النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و كتبه قدر المستطاع، و إن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال و هما:

أ- الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمّد حميد اللّه حيدرآبادي، الاستاذ بجامعة باريس.

ب- مكاتيب الرسول تأليف العلّامة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدى.

و الكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات و تحليلات أدبية، و تاريخيه و سياسية إسلامية في غاية الأهمية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:354

المشرق، بكيل الاتهامات الباطلة له، و الزعم بأن تقدّم الاسلام و انتشاره كان بفعل القهر، و بقوة السيف، و تحت عامل الفرض و الاجبار و اننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة و تقييم تلك الرسائل و الكتب و استجلاء هذه النقاط المذكورة و استخراج خطوط السياسة النبوية و معالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل و الكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

(1)

الرسالة المحمّدية كانت عالمية: «1»
اشارة

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك و الترديد، و هم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء، و في مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو «السير ويليم موير» الذي يقول: إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر و تبلور في ما بعد، و أن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب، و لم يكن «محمّد» يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

و لقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز، و حاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد- بجلاء- بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد

و الاعتقاد برسالته و قال: انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

(2) و نحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام، و أن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية، و يمكن مراجعة كتب التفسير و العقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

______________________________

(1) هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما:

أ- عالميّة الرسالة المحمّدية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:355

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية:

1- «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» «1».

2- «وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» «2».

3- «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا» «3».

4- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» «4».

(1) و الآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي: كيف تقول- مع هذه الدعوة العالمية- أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر و تبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات و نظائرها و مع وجود سفراء رسول اللّه و مبعوثيه الى المناطق النائية، و البلاد البعيدة، و إلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و خاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

(2) و العجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا: ان محمّدا لم يكن

______________________________

ب- خاتمية الرسالة المحمّدية.

و في الاولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد، و عدم عالميتها و انه صلّى اللّه عليه و آله هل كان مبعوثا لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، و للنّاس كافة، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلّى اللّه عليه و آله هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول

البعض ان دينه كان عالميا إلّا أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر و شريعة اخرى.

من هنا لا بد من البحث- في النبوة الخاصة- حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة، و قد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.

(1) سبأ: 28.

(2) القلم: 52.

(3) يس: 70.

(4) التوبة: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:356

يعرف غير الحجاز، في حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة و العشرين، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا (هو الاسكندر المقدوني) كان يريد أن يسيطر على العالم، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب و الدهشة و لكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام- و بأمر اللّه- الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم و بين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك و بوقاحة، و اعتبروه أمرا محالا.

(1)

رسل الاسلام الى المناطق النائية:
اشارة

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك و الامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال:

«أيها الناس ان اللّه قد بعثني رحمة و كافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم».

فقال أصحابه: و كيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال:

«دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي و سلم و اما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه و تثاقل».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختار ستة

أشخاص من خيرة أصحابه و كتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية، و بعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

و هكذا توجّه سفراء الهداية و رسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران، و الروم، و الحبشة، و مصر و اليمامة، و البحرين، و الحيرة، (الاردن) و سوف نقرأ معا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:357

مفصل ما احتوته رسائله صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1) و عند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع و العلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه:

إن الملوك لا يقرءون كتابا إلّا مختوما، فاتخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ خاتما من فضة، فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمّد رسول اللّه، في الاعلى لفظة الجلالة و تليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف، و ختم به الكتب.

و لم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية، و الحفاظ عليها من التزوير «2».

(2)

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية:

كانت الامبراطوريتان (الرومية و الفارسية) تقتسمان آنذاك قيادة العالم، و كانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم و ساق، و منذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران و الروم منذ عهد الهخامنشيين، و استمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني، كما كانت العراق و اليمن و شي ء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية و مستعمراتها.

و أمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي و غربي لأن «تئودوز الكبير» امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه، و من هنا ظهرت الروم الشرقية و الروم الغربية.

(3) و قد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي

و برابرة شمال اوربا، و لكن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 606، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 264، السيرة الحلبية: ج 3 ص 241- 242، بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 240 و 241.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:358

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك «القسطنطنية» و كانت تسيطر على الشام و مصر، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (1453) على يد السلطان محمّد الثاني «محمّد الفاتح»، و بذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية، و اضمحلّت نهائيا.

(1) و قد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين و محاطة بهاتين القوتين العظيمتين، و لكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة، و كان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري و القفار، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى، فقد كانت النخوة و الظلم، و الحروب التي اتسمت بها طبيعة و حياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب- كان بعيدا عن روح الحضارة و المدنية- من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم، بفضل ما أوتوا من ايمان، و إنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية و ظلمها بنور الإسلام المشرق، و لو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة و هذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر، و لم يتركوه يمتد إلى ملكهم، و يقلب كل شي ء رأسا على عقب.

(2)

رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله في أرض الروم:
اشارة

كان قيصر الرّوم قد عاهد اللّه إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس

من عاصمته: «القسطنطنية» مشيا على القدم للزيارة، شكرا للّه، و قد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران، و سار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف «دحية الكلبي» بإيصال كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى قيصر، و كان دحية قد سافر مرارا الى الشام، و كان عارفا بمناطقها و عاداتها معرفة كاملة، و كان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة، و لهذا كان جديرا بتحمل هذه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:359

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

(1) و قد توجّه إلى «القسطنطنية» رأسا بعد أن كلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايصال كتابه إلى قيصر، و لكنه ما أن وصل إلى بصرى (من مدن الشام) إلّا و بلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس و لهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى «1»: «الحارث بن أبي شمر» و اخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام، و كتب معه كتابا، و أمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، (و لعل النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة، و كون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير).

فدفعه عظيم بصرى إليه و هو يومئذ بحمص، و ذلك بان استدعى عدي بن حاتم و وجهه مع سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليوصل كتابه إلى قيصر، فذهب به إليه، و لما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية: اذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتى

يأذن لك.

فقال دحية: لا افعل هذا أبدا، و لا أسجد لغير اللّه! (أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى و انتهى و أنه لا يحق السجود إلّا للّه وحده، فكيف يمكنني ذلك و أنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟!) «2».

(2) و لقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي، و موقفه الصلب، فقال له رجل منهم: أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك، و لا تسجد له، ضع صحيفتك تجاه

______________________________

(1) كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. و كان الحارث بن أبي شمر- و بصورة عامة- جميع ملوك بني غسان، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

(2) الطبقات الكبرى، ج 1 ص 259.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:360

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل، و أخذ بنصيحته، و فعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه اجرك مرّتين.

فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين «1» و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، ألّا نعبد إلّا اللّه و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول اللّه».

(1)

قيصر يحقّق حول النبي:

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو: «احمد الموعود» الذي بشرت به الانجيل و التوراة، و لهذا قرّر

أن يحقق حول شخصيته، و يتعرف على خصوصيات حياته، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد، أو من يعرف شيئا عنه.

حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش، فأخذهم

______________________________

(1) بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف، فيقول ابن الاثير: قيل هم الخدم و الخول و قال بعض:

هم الاكّارون (أي الفلاحون) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين، و هم اطوع الناس للحاكم.

و يؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ (الكامل: ج 2 ص 145) كلمة الأكارين بدل الاريسيين و الاكار هو المزارع، و احتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:361

صاحب شرطة «قيصر» إلى بيت المقدس، فادخلهم على «قيصر» في مجلسه و حوله عظماء الروم.

فقال قيصر: أيّكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟.

فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا.

فقال قيصر: أدنوه منّي، و قرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه:

قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فان كذّبني فكذّبوه.

(1) ثم طرح قيصر على أبي سفيان الاسئلة التالية:

1- كيف نسب محمّد فيكم؟

هو فينا ذو نسب.

2- فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟

لا.

3- فهل كان في آبائه من ملك؟

لا.

4- فأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟

بل ضعفاؤهم.

5- أ يزيدون أم ينقصون؟

بل يزيدون.

6- فهل يرتدّ منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

لا.

7- فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

لا.

8- فهل يغدر؟

لا.

9- فهل قاتلتموه؟

سيد المرسلين ،ج 2،ص:362

نعم.

10- فكيف كان قتالكم ايّاه؟

الحرب بيننا و بينه سجال، ينال منّا، و ننال منه.

11- فما ذا يأمركم؟

اعبدوا اللّه وحده، و لا تشركوا به شيئا، و

اتركوا ما يقول آباؤكم، و يأمرنا بالصلاة و الصدقة و العفاف و الصلة، و يأمرنا بالوفاء بالعهد و أداء الأمانة.

(1) فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان و من معه: إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ، و قد كنت اعلم أنه خارج لم اكن أظنّه منكم، فلو أنّي أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاه، و لو كنت عنده لغسلت قدميه!!

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه و قال لعمه: قد ابتدأ بنفسه و سمّاك صاحب الروم.

فقال قيصر: و اللّه انك لضعيف الرأي. أ ترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الاكبر، و هو أحق أن يبدأ بنفسه، و لقد صدق أنا صاحب الروم، و اللّه مالكي، مالكه.

(2) قال أبو سفيان: فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الاصوات عنده، و كثر اللغط، فأمر بنا فاخرجنا قال: قلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، أنه ليخافه ملك بني الأصفر.

و روى أيضا أن أبا سفيان قال: لما سألني قيصر عن رسول اللّه جعلت ازهّد له شأنه، و اصغّر له أمره و اقول له: أيها الملك، ما يهمّك من أمره، إن شأنه دون ما يبلغك، و جعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك من شأنه «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 384- 386، تاريخ الطبري: ج 2 ص 290 و 291.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:363

(1)

أثر رسالة النبي إلى قيصر:

لم يكتف قيصر بالمعلومات التي حصلها من أبي سفيان حول رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بل كتب إلى أحد علماء الروم و أساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الاسقف: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطة

ليجسّ بها نبض قومه، و يختبرهم و يعرف ما اذا كانوا يرضون باسلامه أولا، فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح و الرشد، و ان يثبت لكم ملككم و تتبعون ما قال عيسى بن مريم.

فقالت الروم: و ما ذاك أيها الملك؟

قال: تتبعون هذا النبي العربي.

فثاروا في وجهه، و رفعوا الصليب، فلما رأى منهم ذلك يئس من اسلامهم و خافهم على نفسه و ملكه، فسكنهم ثم قال: إنما قلت لكم ما قلت اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيت منكم الذي احبّ. فسكنوا و رضوا عنه.

ثم أمر باكرام دحية، و كتب جوابا على رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و أرسله مع دحية و ارسل بهدية الى النبي صلّى اللّه عليه و آله. «1».

(2)

سفير النبيّ في البلاط الإيراني:
اشارة

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكتابه إلى البلاط الإيراني

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 259- 260، السيرة الحلبية: ج 3 ص 245- 246، الكامل في التاريخ ج 2 ص 144، بحار الأنوار: ج 20 ص 379.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:364

كان الملك الذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو «خسروا برويز» ثاني ملك بعد انوشيروان، الذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاما قبل الهجرة النبوية المباركة.

و قد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعا عديدة من الحوادث المرة و الحلوة، و كانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب، و عدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

(1) و قد امتدّ النفوذ الإيراني ذات يوم حتى شمل آسيا الصغرى، و امتدّ الى مشارف القسطنطنية، و أتى بصليب عيسى الذي كان أقدس شي ء عند النصارى إلى طيسفون (المدائن)، فطلب سلطان الروم الصلح و بعث

سفيرا من قبله الى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى، و انغماسهم في اللذة و المجون أكثر من المتعارف تسبب في أن تصبح ايران على حافة السقوط و الانهيار في أواخر العهد الساساني، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ الإيراني الواحدة تلو الاخرى، و اجتاح العدو الروميّ الاراضي الايرانية إلى الاعماق، و وصل الأمر بخسروبرويز امبراطور ايران الى أن يهرب من وجه الروم الغزاة، و قد أثار هذا الهروب الخانع و هذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك، فقتل بيد ابنه «شيرويه».

(2) و يعزي محلّلوا التاريخ القديم تخلّف إيران و ضياع قوتها إلى غرور قادتها و حكامها و ميلهم الى البذخ و الترف، و بلهنية العيش و رغد الحياة، و الزينة و اللذة. و لو كان ذلك الملك يتلقى رسالة السلام التي عرضها الاسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظل هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

و لو أن رسالة رسول الاسلام لم تترك أثرا حسنا في نفس «خسروا برويز» يومذاك فان ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها

سيد المرسلين ،ج 2،ص:365

الى البلاط الايراني، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور، المنحرفة، و أنانيته الطاغية، التي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله كما فعل «قيصر»، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنما صاح به في تلك الاثناء، و أخذ منه رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و مزّقها بوقاحة بالغة، و اسلوب بالغ في الجفاف، و سوء الادب.

و إليك تفصيل

الحادث:

(1) في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احد فرسانه الشجعان و هو «عبد اللّه بن حذافة السهمي»، الى ايران و كتب معه كتاب إلى «خسروا پرويز» ملك ايران يومذاك يدعوه فيه الى الاسلام و امره أن يدفع الكتاب الى كسرى نفسه و إليك نص هذه الرسالة:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

سلام على من اتبع الهدى و آمن باللّه و رسوله، و اشهد أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله. أدعوك بدعاية اللّه، فإني أنا رسول اللّه كافة لا نذر من كان حيّا، و يحقّ القول على الكافرين أسلم تسلم، فان أبيت فعليك اثم المجوس».

(2) فلما دخل سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله على «خسروا برويز» أمر بأن يؤخذ منه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عبد اللّه بن حذافة قال: لا حتى أدفعه إليك كما امرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم دنا و سلّم الكتاب فدعى كسرى بمترجمه ليقرأ الكتاب، فلما قرأه، فاذا فيه: من محمّد رسول اللّه الى كسرى عظيم فارس أغضبه حين بدأ رسول اللّه بنفسه، و صاح، و أخذ الكتاب، فمزّقه قبل أن يعلم ما فيه و قال: يكتب إليّ بهذا.

ثم أمر باخراج حامل الكتاب من قصره، فاخرج عبد اللّه بن حذافة السلمي، و لما رأى ذلك قعد على راحلته و سار حتى وصل إلى النبي صلّى اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:366

عليه و آله، فاخبره الخبر، فغصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من موقف كسرى فدعا عليه قائلا: اللّهم مزّق ملكه «1».

(1)

نظرية اليعقوبي:

و يختلف

ابن واضح الاخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه- مع عامة المؤرخين-: قرأ كتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم كتب كتابا إليه جعله بين سرقتي حرير و جعل فيهما مسكا، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فاخذ قبضة من المسك فشمّه، و ناوله أصحابه، و قال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، و قال: لتدخلنّ في أمري أو لآتينّك بنفسي و من معي، و أمر اللّه اسرع من ذلك. «2»

و لكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي و لا يوافقه عليه أحد من أرباب السير إلّا احمد بن حنبل الذي يقول: أهدى كسرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبل منه «3».

(2)

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن:

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكة، و كان ملوكها و حكامها ولاة منصوبين من قبل البلاط الايراني بأجمعهم، و كان الذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم و ملوكه رجل يدعى «باذان» فكتب طاغية ايران المغرور «خسرو» بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن (باذان):

بلغني أن في أرضك رجلا يتنبّأ فاستتبه، فان تاب و الّا فابعث به إليّ.

فبعث «باذان» رجلين من فرسانه يدعى أحدهما: «فيروز» و الآخر «خرخسره» و كتب معهما كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمره فيه أن

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 1 ص 66.

(3) مسند احمد بن حنبل: ج 1 ص 96.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:367

ينصرف معهما إلى كسرى أو أن يجبراه على الرجوع الى دين آبائه و ان أبى قتلوه و أرسلوا برأسه الى الملك حسب رواية ابن حجر في الاصابة.

(1) إن رسالة كسرى إلى «باذان» يكشف عن جهل هذا الحاكم، و عدم معرفته بما كان يجري

في بلاده و مستعمراته، فقد بلغ من جهله أنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الذي يدّعي النبوة «1» قد مضى على ادعائه النبوة أكثر من 19 عاما.

ثم إن الذي ادعى النبوة في منطقة نائية، و انتشر دينه، و أصبح من القوة و الشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور، و دعوته إلى دينه لا يمكن أخذه و احضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. و أن الأمر- بالتالي- لن يتم بمثل هذه السهولة، و البساطة، التي تصورها.

و على كل حال لما قدم مبعوثا «باذان» المدينة و دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدّما رسالة «باذان» إليه صلّى اللّه عليه و آله و قالا: لقد بعثنا «باذان» إليك لتنطلق معنا، فان فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك، و يكف عنك به، و إن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك و مهلك قومك و مخرب بلادك.

(2) و كانا قد دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد حلقا لحاهما و أطلقا شواربهما، فاستمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى كلامهما، و قبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الاسلام، و قد كره النظر إليهما لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما: من أمركما بهذا؟! قالا: أمرنا بهذا ربّنا (يعنيان كسرى) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لكنّ ربّي أمرني بإعفاء لحيتي و قصّ شاربي» «2».

فأرعبتهما هيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جلال محضره، بحيث أخذا

______________________________

(1) حسب تعبير كسرى.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 146.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:368

يرتجفان عند ما عرض رسول اللّه الاسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ارجعا حتّى

تأتياني غدا».

(1) و في هذه الاثناء أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر من السماء أن اللّه عزّ و جلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا و كذا و كذا لكذا، و كذا من الليل.

فلما حضر الرجلان (مبعوثا باذان) عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غد قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا و كذا من شهر كذا و كذا. بعد ما مضي من الليل كذا و كذا سلّط عليه شيرويه فقتله» «1»

و كانت الليلة التي ذكرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك و نخبر الملك (أي باذان).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«نعم أخبراه ذلك عنّي و قولا له: إن ديني و سلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، و ينتهي إلى منتهى الخفّ و الحافر، و قولا له: إن أسلمت اعطيتك ما تحت يديك، و ملكتك على قومك».

(2) ثم أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لخرخسرة منطقة (أي حراما) فيها ذهب و فضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان باليمن و اخبراه الخبر.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260، بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:369

فقال باذان: و اللّه ما هذا بكلام ملك و إني لأرى الرجل نبيا كما يقول، و لننظر ما قد قال، فلئن كان

ما قد قال حقا فانه لا ريب نبي مرسل، و إن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد فاني قد قتلت كسرى و لم اقتله الّا غضبا لفارس، لما كان استحل من قتل أشرافهم، فاذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، و انظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

و قد تسبّب كتاب «شيرويه» هذا في أن يعتنق «باذان» الاسلام هو و جميع رجال دولته و كانوا من الفرس، و كتب إلى رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يخبره بإسلامه و اسلام أعضاء حكومته «1».

(1)

سفير النبيّ في أرض مصر:
اشارة

تعتبر «مصر» مهد الحضارات و المدنيات العريقة، و مركز سلطان الفراعنة، و موضع سيادة الاقباط.

و يوم أشرقت شمس الاسلام على أرض الحجاز كانت «مصر» قد فقدت استقلالها، و قوتها، و كان المقوقس قد فوض إليه حكم «مصر» من قبل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها الى قيصر.

و كان «حاطب بن أبي بلتعة»- و كان فارسا بارعا و له قصة في تاريخ الاسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة- احد الستة الذين كلّفوا بابلاغ كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الملوك و الرؤساء يومذاك و قد أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايصال كتابه إلى المقوقس حاكم «مصر».

و إليك نص كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المقوقس:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 391.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:370

(1) «بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، فإن

تولّيت فإنّما عليك إثم القبط «و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد الّا اللّه و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» «1».

فخرج «حاطب» بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قدم «مصر»، و أراد الدخول على حاكمها، «المقوقس» علم بأنه يسكن في أحد قصوره الشامخة على ضفاف النهر، في الإسكندرية، فركب زورقا، نقله إلى قصر «المقوقس».

(2) فلما وصل «حاطب» إلى قصر «المقوقس» أكرمه و أخذ كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرأه، و فكّر في مضمونه بعض الوقت، ثم قال لسفير النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه (أي من قومه) و أخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب و كان حكيما فهيما: أ لست تشهد أن عيسى بن مريم رسول اللّه؟

فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتى رفعه اللّه إليه؟

فأعجب المقوقس- الذي لم يكن يتوقع أن يجابه بهذا المنطق القوى المفحم- برد حاطب و قال له: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم «2».

(3) فتجرأ حاطب لما رأى هذا الموقف الخاضع من ملك مصر و قال: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى (يعني فرعون) فأخذه اللّه نكال الآخرة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 249، الدر المنثور: ج 1 ص 40، أعيان الشيعة: ج 1 ص 244.

(2) اسد الغابة: ج 1 ص 362.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:371

و الاونى، فانتقم به، ثمّ انتقم منه فاعتبر بغيرك، و لا يعتبر غيرك

بك، ان هذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش، و أعداهم له اليهود، و أقربهم منه النصارى و لعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة و السلام إلّا كبشارة عيسى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل، و كل نبي أدرك قوما فهم امّته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فانت ممّن أدرك هذا النبيّ، و لسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السّلام و لكنا نأمرك به.

و هو يقصد بكلامه الأخير أن الاسلام هو الصورة الاكمل لدين المسيح.

(1) انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و المقوقس حاكم مصر إلّا أن المقوقس لم يعطه جوابا قاطعا في ذلك المجلس، فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتى يتلقى جواب كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

ثم طلب المقوقس حاطبا ذات يوم و انفرد به في قصره، و سأله عن ما جاء به رسول اللّه و إلى م يدعو؟ فقال له حاطب: إلى أن نعبد اللّه وحده، و يأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم و الليلة و يأمر بصيام رمضان، و حج البيت، و الوفاء بالعهد، و ينهى عن أكل الميتة و الدم .. و ... و ...

فقال له المقوقس: صفه لي.

قال حاطب: فوصفت فأوجزت.

فقال المقوقس: مصدّقا ما ذكره حاطب من أوصاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذه صفته، و كنت أعلم أن نبيّا قد بقي، و كنت اظن أن مخرجه بالشام و هناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب، في أرض جهد و بؤس، و القبط

لا تطاوعني في اتّباعه، و سيظهر على البلاد، و ينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه، حتى يظهروا على ما هاهنا.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 250.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:372

ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الذي دار بينه و بين حاطب عن قومه قائلا: و أنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا واحدا، و لا أحب أن يعلم بمحادثتي (أو بمحاورتي) إياك «1».

ثم إنه اكرم حاطبا مدة اقامته بمصر إكراما بالغا، و أحسن قراه، و ضيافته «2».

(1)

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ:

ثم إنّ حاكم «مصر» المقوقس دعا كاتبه العربيّ، و أمره أن يكتب كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا نصه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمّد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، و فهمت ما ذكرت فيه، و ما تدعو إليه، و قد علمت أن نبيا قد بقي، و قد كنت أظن أنه يخرج بالشام و قد أكرمت رسولك، و بعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، و بثياب، و أهديت إليك بغلة لتركبها و السلام عليك «3».

إن الاحترام الذي أبداه «المقوقس» في رسالته المذكورة، و تقديم اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على اسمه و كذا هداياه التي بعثها إلى رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و تكريم سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله كلها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله في سرّه و لكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بايمانه و إسلامه، و من الانقياد العمليّ و العلني للاسلام.

خرج «حاطب» بصحبة جماعة من الحرس المحافظين و هو يحمل الهدايا التي بعثها المقوقس

من عند المقوقس و لما وصل الى الشام أذن للمحافظين بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة، و لما قدم المدينة على رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) سيرة زيني دحلان: ج 3 ص 71.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

(3) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:373

اللّه عليه و آله سلّم إليه كتاب المقوقس و هداياه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«ضنّ بملكه، و لا بقاء لملكه» «1».

(1)

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري:

توجه المغيرة بن شعبة الذي كان معروفا بحكمه و عقله و دهائه، و الذي اصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب و دهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري، فسألهم كبير المصريين (المقوقس):

كيف خلصتم إليّ، و بيني و بينكم محمّد و أصحابه.

فقال: لصقنا بالبحر.

قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا: ما تبعه منّا رجل واحد.

قال: فكيف صنع قومه؟

قالوا: تبعه أحداثهم، و قد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال: فالى ما ذا يدعو؟

قالوا: إلى أن نعبد اللّه وحده، و نخلع ما كان يعبد آباؤنا، و يدعو إلى الصلاة، و الزكاة، و يأمر بصلة الرحم، و وفاء العهد، و تحريم الزنا، و الربا، و الخمر.

(2) فقاطعهم المقوقس قائلا: هذا نبي مرسل إلى الناس كافة، و لو أصاب القبط، و الروم لا تبعوه، و قد أمرهم بذلك عيسى، و هذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله، و ستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، و يظهر دينه إلى منتهى الخفّ و الحافر.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:374

(1) فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام و قالوا بكل صلافة و وقاحة: لو دخل الناس كلّهم معه ما دخلنا معه.

فهزّ المقوقس

رأسه ساخرا بهم و قال: أنتم في اللعب «1». بيد ان هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية لان النبي صلّى اللّه عليه و آله كاتب ملوك العالم و قادته في السنة السابعة من الهجرة، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن، و كان في الحديبية في صفوف المسلمين، حتى أنه كان بينه و بين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مر ذكرها عند استعراض قصة الصلح.

و على فرض صحة هذه الرواية لا بد من القول بأن المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

(2) و في الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الواقدي نقل نص رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة اخرى.

و لكن أسلوب الرسالة و عباراتها تدل على أن هذه الصورة لا أساس لها من الصحة، لانها تتضمن تهديدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعظيم القبط بالحرب و الغزو اذ جاء فيه: «و أمرني (أي اللّه) بالإعذار و الانذار، و مقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني» «2».

و ممّا لا شك فيه أن هذا غير صحيح لأن امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكيين فكيف يغزو «مصر» و هي منطقة نائية جدا.

هذا مضافا إلى أن صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أول دعوة له إلى الاسلام لا يتلاءم و نفسية و خلق ذلك الرجل العظيم الذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

______________________________

(1) السيرة الدحلانية: ج 3 ص 70.

(2) فتوح الشام: ج 2 ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:375

(1)

سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أرض الذكريات «الحبشة»:
اشارة

تقع «الحبشة» في آخر إفريقيا الشرقية و تبلغ مساحتها 1800 كيلومترا مربعا، و عاصمتها اليوم: أديس أبابا.

و لقد تعرّف الشرقيون على هذه الأرض قبل ظهور

الاسلام بقرن، و ذلك على أثر هجوم الجيش الايراني الذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي «انوشيروان»، و بلغ هذا التعرّف و التردد ذروته في هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة (الهجرة الأولى و الهجرة الثانية).

و يوم قرر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة، و نائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف:

«عمرو بن اميّة الضميري» بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة، و يسلّمه إلى النجاشيّ ملكها العادل الطيب.

على أن الكتاب الذي ستقرأ نصّه قريبا ليس هو الكتاب الوحيد الذي بعثه رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي، بل سبق أن كتب صلّى اللّه عليه و آله إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين، و يطلب منه فيه أن يلطف بهم، و يرعاهم، و لا يزال نصّ هذين الكتابين موجودا في المصادر التاريخية الاسلامية «1».

(2) و ربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين (الرسالة التي بعثها النبي لابلاغ دعوته العالمية، و الرسالة التي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين) فخلط بعض المؤرخين بين عبارتيهما.

و يوم قدم سفير النبي بكتاب الدعوة إلى الاسلام، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة، يعيشون في كنف

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 294.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:376

النجاشي و حمايته، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة، و هم يحملون أجمل الذكريات و الخواطر عن عدل حاكمها الطيب «النجاشي»، و لطفه، و حسن وفادته.

(1) من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تعتبر أرض الذكريات الجميلة و الخواطر الحلوة، و كانوا يمدحون حاكمها و يصفونهم بالعدل و الاستقامة. و لو اننا لا حظنا في كتاب النبي صلّى اللّه عليه و

آله إليه نوعا من اللطف، و اللين في القول فان ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسية النجاشي و خلقه و حسن موقفه.

فانك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كتبه و رسائله الاخرى إلى الملوك و الزعماء، بالعقاب الالهي إن رفضوا القبول بدعوته، و حمّلهم مسئولية شعوبهم في عبارات صريحة و قاطعة، أيّ أثر في هذا الكتاب.

(2) فقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي ما يلي:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة.

سلام عليك، أحمد اللّه الذي لا إله إلّا هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن، و أشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى، حملته من روحه، و نفخه، كما خلق آدم بيده، و إني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته، و أن تتبعني و توقن بالذي جاءني، فإني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّي أدعوك و جنودك و قد بلّغت و نصحت فاقبلوا نصيحتي و السلام على من اتبع الهدى» «1».

لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة و أرسل إليه بتحياته الشخصية، و لكنه لم يفعل هذا في كتاب غيره، فلم يرسل بتحياته الشخصية الى «كسرى» و «قيصر» و «المقوقس» حكّام إيران و الروم

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 248، إعلام الورى: ص 45 و 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:377

و مصر، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال: «السلام على من اتبع الهدى».

(1) و لكنه صلّى اللّه عليه و آله سلّم في

كتابه هذا، على النجاشي نفسه، و قال: «السلام عليك»، و بهذا خصّه دون غيره من الزعماء و الملوك باحترام و تكريم خاصّين.

و لقد أشار صلّى اللّه عليه و آله في هذا الكتاب الى جملة من صفات اللّه البارزة التي تدلّ جميعها على تنزهه سبحانه، و عظمته و جلاله.

ثم أشار إلى مسألة ألوهية المسيح (التي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ) و ردّ على ذلك باستدلال قويّ خاصّ مستلهم من القرآن الكريم. حيث قايس ولادة المسيح عليه السّلام بخلقة آدم، و أثبت ان ولادة شخص من دون أب لو كان دليلا على ألوهيّته، أو كونه ابنا للّه، لصحّ ذلك في حق آدم، الذي خلق من غير أب و لا أمّ، و لكن لا يرى أحد فيه مثل هذا الرأي.

ثم ختم صلّى اللّه عليه و آله كتابه هذا باخراج دعوته في لباس النصح و الموعظة، تجنبا من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

(2)

محاورة سفير النبيّ و حاكم الحبشة:

لما مثل سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله أمام النجاشيّ قال للنجاشي:

يا أصحمة إنّ عليّ القول، و عليك الاستماع، إنّك كأنّك في الرقّة علينا منا، و كأنّا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلّا نلناه، و لم نحفظك على شرّ قطّ إلّا أمنّاه، و قد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، و الانجيل بيننا و بينك شاهد لا يردّ، و قاض لا يجور، و في ذلك موقع الخير، و اصابة الفضل، و إلّا فأنت في هذا النبي الامّي كاليهود في عيسى بن مريم، و قد فرّق رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، و أمنك على ما خافهم عليه لخير سالف، و أجر ينتظر.

فقال النجاشي: أشهد باللّه أنه للنبي الذي

ينتظره أهل الكتاب، و إنّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:378

بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، و انه ليس الخبر كالعيان، و لكنّ أعواني من الحبشة قليل، فانظرني حتى أكثر الأعوان، و أليّن القلوب و لو استطيع أن آتيه لأتيته «1».

(1)

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ثم كتب كتابا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا نصه:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم؛ إلى محمّد رسول اللّه من النجاشي، سلام عليك يا نبي اللّه و رحمة اللّه و بركاته، الذي لا إله إلّا هو، الذي هداني إلى الإسلام.

أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه فيما ذكرت من أمر عيسى، فو ربّ السماء و الأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا «2» إنه كما قلت و قد عرفنا ما بعثت به إلينا، و قد قرّبنا ابن عمك و أصحابك، و أشهد أنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت على يديه للّه ربّ العالمين، و قد بعثت إليك يا نبيّ اللّه فان شئت أن آتيك لفعلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّي أشهد أنّ ما تقول حق و السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته» «3»

ثم إن النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك كتابين آخرين أيضا، و كان في كلّ مرة يحترم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقبّله و يضعه على عينيه.

(2)

تقييم سريع لمراسلة النبي صلّى اللّه عليه و آله قادة العالم:

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أن دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحكّام و شعوب العالم يومذاك كان أمرا خارج المألوف و عملا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 248، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 259.

(2) الثفروق: الاقماع التي تلزق بالبسر.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 294، بحار الأنوار: ج 20 ص 392.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:379

غير متعارف، و لكنّ مضيّ الزمان

أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ و مهامّه الاساسية.

(1) أولا: ان إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم، محمّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل، فلا مجال لأن يشك أحد هذا اليوم و هو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرسالة المحمّدية، فمضافا إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلا قاطعا و كبيرا على عالمية الرسالة الاسلامية.

(2) ثانيا: لقد تأثّر جميع الزعماء و الملوك و القادة الذين راسلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما عدا «خسروا برويز» ملك إيران الذي كان طاغية مستبدا متكبرا، برسائل النبي صلّى اللّه عليه و آله و دعوته، و أكرموا سفراءه.

كما أن قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الاوساط و المحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل و الكتب بمحتوياتها و مضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية، و هزّت الغافلين بشدّة، و أثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضرة، و دفعتهم إلى البحث و التحقيق حول من بشّر به التوراة و الانجيل، كما تسبب في أن يجري العلماء و الاساقفة و القساوسة غير المغرضين باتصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين، و يقيموا ارتباطا مع هذه العقيدة بشكل و آخر.

و من هنا و لأجل هذا تسابقت أفواج و فرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة التي كانت سائدة آنذاك في الايام الاخيرة لحياة رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و بعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد، و التعرف على ماهيته و منطقه.

و لقد شرحنا في الفصول الماضية و بشكل مفصّل نوع و مدى التأثير الذي تركته رسائل النبي و سفراؤه في

نفوس حكّام الرّوم و مصر و الحبشة، و ها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات التي تركتها مراسلة النبي صلّى اللّه عليه و آله لحاكم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:380

الحبشة العادل، و ملكها البار: اصحمة النجاشي.

(1) فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إلى ارسال ثلاثين رجلا من القساوسة و الاساقفة الاحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام، و نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ليروا من كثب حياته الزاهدة البسيطة، و لا يتصوروا أنه يعيش كما كان يعيش الملوك و الجبابرة في ذلك العصر.

و لما قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح عليه السّلام فبيّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم بقراءة الآية التالية:

«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

و قد كان لهذه الآيات أثر عجيب في نفوس اولئك القساوسة و الأساقفة حتى أنهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

(2) و بعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة، و أخبروا النجاشيّ بما سمعوه و شاهدوه، فبكى هو أيضا

لما سمع من اولئك الرجال «2».

و قد نقل ابن الاثير في «الكامل» و «اسد الغابة» قصة هذا الوفد بصورة اخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي باضافة قوله: «و بعثت

______________________________

(1) المائدة: 110.

(2) اعلام الورى: ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:381

إليك بابني أرمى بن الاصحم» فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة (قاصدين المدينة) في سفينة في البحر، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

و لكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي «1».

(1)

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة (بالشام):

الغساسنة فرع من قبيلة «الازد» القحطانيين الذين سكنوا «اليمن» مدة طويلة، و كانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن «اليمن» و نزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها و حكموا فيها، و انتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم و سيادتهم، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم، و انتهت حكومتهم، بعد أن حكم منهم، اثنان و ثلاثون ملكا في مناطق «الجولان»، و «اليرموك»، و «دمشق» «2».

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «شجاع بن وهب» و هو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلّى اللّه عليه و آله لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم- إلى أرض الغساسنة، و قد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك «الحارث بن أبي شمر الغساني»، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه و هو بغوطة دمشق و هو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال «قيصر» الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما

مر.

(2) و لهذا لم يستطع «شجاع» من الوصول إلى الأمير الغساني إلّا بعد انتظار دام

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 1 ص 62، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 145.

(2) راجع معجم البلدان، و مروج الذهب و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:382

ثلاثة أيام، فاستغلّ «شجاع» هذه الفرصة و صادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخلاقه و ما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة، فأثّرت كلمات «شجاع» تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ و غلبه البكاء و قال: إنّي قرأت الإنجيل و أجد صفة هذا النبي بعينه، و أنا أومن به و اصدّقه، و أخاف من «الحارث» أن يقتلني اذا عرف باسلامي و كان يكرم سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و يحسن ضيافته طوال تلك المدة، و يقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

(1) ثم لما خرج «الحارث» ذات يوم و جلس على عرشه أذن لسفير النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدخول عليه، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقرأه و كان نصّه كالتالي:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، و آمن به و صدّق، و إني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له يبقى ملكك».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب و رمى به جانبا، و قال: من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه، و لو كان باليمن جئته، عليّ بالناس.

و بهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا و تخويفا له. و لاجل أن يظهر نفسه

بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى «قيصر» يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!!

(2) و اتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى «قيصر» في الوقت الذي كان فيه «دحية الكلبي» سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر، و كان «قيصر» يحاوره، و يسأله عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن صفته و دينه، فانزعج «قيصر» من مبادرة الحاكم الغساني العجولة و كتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة «ايليا».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:383

فغيّر موقف «قيصر» الايجابي هذا موقف عميله: الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل «الناس على دين ملوكهم» فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و منحه هدايا ثمينة، و وجّهه نحو المدينة معززا مكرّما و قال له: «اقرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منّي السلام».

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال: باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات «الحارث» في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية «1».

(1)

سادس السفراء في أرض اليمن:

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة (و هي من نجد)، و هو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى «هوذة بن علي» الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام و لما قدم عليه سلّم الكتاب إليه و فيه.

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى و اعلم أن ديني سيظهر إلى

منتهى الخفّ و الحافر (أي يعمّ الشرق و الغرب) فأسلم تسلم و اجعل لك ما تحت يديك».

(2) و حيث أن ملك اليمامة (هوذة) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سليطا و كان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد و فتنة قريش لهم، و عرف بتقاليد النصارى و منطقهم، و كانت تعاليم الاسلام، و كذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته و أسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا و ذكيا و قد استطاع بما اوتي

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 255 و 256، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 261

سيد المرسلين ،ج 2،ص:384

من قوة المنطق، و الشجاعة أن يقنع بكلامه و حديثه ملك اليمامة عند ما قال له: يا هوذة أنه سوّدتك «1» أعظم حائلة (أي بالية) و ارواح في النار، و انما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به، و إني آمرك بخير مأمور به، و أنهاك عن شي ء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة اللّه، و أنهاك عن عبادة الشيطان، فان في عبادة اللّه الجنة، و في عبادة الشيطان النار، فان قبلت نلت ما رجوت و آمنت ما خفت، و ان ابيت فبيننا و بينك كشف الغطاء و هو المطّلع.

(1) كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك، و لهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي و دعوته، و كان من الملوك العقلاء.

و صادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم، فتحدث معه «هوذة»

في قضية النبي، و دعوته، و إليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف: جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف: لم لا تجيبه.

قال هوذة: ضننت بديني و أنا أملك قومي، و لئن اتبعته لا أملك.

قال: بلى و اللّه لئن اتبعته ليملّكنك، و ان الخير لك في اتباعه، و أنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريم عليه السّلام. و انه لمكتوب عندنا في الانجيل:

محمّد رسول اللّه.

(2) فتركت نصيحة الاسقف و كلماته أثرا عميقا و قويا في نفس ملك اليمامة «هوذة» فاستدعى سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و كتب إلى النبي صلّى اللّه

______________________________

(1) يقصد أنّه سوده كسرى و هو في النار.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:385

عليه و آله كتابا هذا نصه: «ما أحسن ما تدعو إليه و أجمله، و أنا شاعر قومي و خطيبهم و العرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك (أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده).

و لم يكتف «هوذة» بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزعامة «مجاعة بن مرارة» ليبلّغ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رسالته و يقول له صلّى اللّه عليه و آله: ان جعل الأمر له من بعده أسلم و سار إليه و نصره، و إلّا قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما جرى و قرأ الكتاب على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا و لا كرامة، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللهم اكفنيه» «1». سيد المرسلين ج 2 385 سادس السفراء في أرض اليمن: ..... ص : 383

1)

رسائل اخرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

هذا و ان الرسائل

و الكتب التي بعثها رسول اللّه لغير من ذكرناه من القادة و الزعماء و الشخصيات الدينية و السياسية اكثر من ما أدرجناه هنا، و قد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا و يثبتوا في كتب خاصّة صورة 29 رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار «2».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 254، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 146، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 262 و سيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.

(2) راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي، و غيره من المؤلفات في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:386

(1)

44 قلعة خيبر أو بؤرة الخطر [غزوة خيبر]

اشاره

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه، و المسلمين اكثر من قريش، و عملت بمختلف الطرق و الحيل من اجل القضاء على الاسلام و الإيقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

و لقد ابتلي يهود المدينة و ما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم و تصرّفاتهم السيئة، فقتل فريق منهم، و اجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع و بني النضير من أرض المدينة فسكنوا «خيبر» و «وادي القرى» أو نزلوا باذرعات الشام.

و كانت خيبر منطقة واسعة و خصبة تقع على بعد اثنين و ثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بنوا فيها سبع قلاع و حصون قوية لتحصنهم و تحفظهم.

و حيث إن التربة و المناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا و صالحا للزراعة جدا، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة و جمع الثروات، و تهيئة وسائل الدفاع و

القتال، و إعداد السلاح و القوة.

و كان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 36، تاريخ الطبري: ج 2 ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:387

(1) إن أكبر ذنب اقترفه يهود «خيبر» هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية و القضاء عليها، و استطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود «خيبر» أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة و استئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى و اتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق و أن عرفت في قصة «معركة الأحزاب» و لكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة و أصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق، و تقهقر و عادت أحزابه و من جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة و الخسران، و استعادت عاصمة الإسلام استقرارها و أمنها.

(2) إن خيانة، و خباثة و لؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يقضي على بؤرة المؤامرة و مركز الفساد و الخطر هذا، و أن يجرّد سكانها جميعا من السلاح، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث- ببذل الأموال الطائلة- إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين و يعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. و خاصة أن تعصّب اليهود لدينهم و معتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية، و لهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ و لا يدع يهودي واحد دينه، و معتقده!!

(3) ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على تحطيم قدرة الخيبريين و شوكتهم، و انتزاع السلاح

منهم و رصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه و رجاله، أنه راسل الملوك و السلاطين، و دعاهم جميعا و بشكل قوي الى الاسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغل «كسرى» و «قيصر» يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام و النهضة الاسلامية في مهدها، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين، و تسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:388

و الفرس في تلك العصور، و كان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان من الحكمة بل و من الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

(1) و كانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب (أي قريش) بعد صلح الحديبية، و كان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم، و لكي يمنع من وصول أيّة مساعدات و امدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل «غطفان» الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر و المتعاونين معهم في معركة «الأحزاب» نفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب و العوامل و الاعتبارات أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. و قال:

«لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخلف على المدينة «نميلة بن عبد اللّه الليثي»، و دفع راية بيضاء الى «عليّ بن أبي طالب» عليه السّلام و أمر بالتوجه إلى

خيبر، و لكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء، فأخذ يرتجز قائلا:

و اللّه لو لا اللّه ما اهتديناو لا تصدّقنا و لا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا عليناو إن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة عليناو ثبت الأقدام إن لاقينا (2) و قد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا، و أشعلوا نيران الفتنة و قد خرجنا لاطفائها، و تحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

و لقد سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع، و قال: «يرحمك اللّه» و قد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:389

(1) هذا و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره و مقصده حتى يفاجئ العدو و يباغته، و يحاصره قبل أن يستطيع فعل شي ء، هذا مضافا إلى ناحية اخرى و هي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم و يسير إليهم، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم و لا ينضم بعضهم الى بعض.

و ربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقصد منطقة الشمال (شمال المدينة) لتأديب قبائل غطفان و فزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

(2) و لكنه عند ما وصل إلى منطقة «الرجيع» عرج بجيشه صوب «خيبر» و بهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان و فزارة و يهود خيبر، فمع ان حصار خيبر طال

مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شي ء «1».

و لقد خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى خيبر ما يقرب من ألف و ستمائة مقاتل، بينهم مائتا فارس «2».

و عند ما أشرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 330.

(2) الامالى للطوسي: ص 164، يذهب ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 328 إلى ان خروج النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر كان في المحرّم، و بينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى: ج 2 ص 77 إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة، و حيث ان ارسال الرسل الى الملوك و الامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة، و خاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي بوساطة «عمرو بن أميّة» لان ذهاب رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الحبشة و عودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان، و حيث ان توجه الرسل و السفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:390

اللهمّ ربّ السماوات و ما اظللن

و ربّ الارضين و ما اقللن

و ربّ الشياطين و ما اضللن

و ربّ الرياح و ما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها، و خير ما فيها و نعوذ بك من شرها و شر أهلها و شر ما فيها».

(1) إن هذا

الدعاء و ما رافقها من حالة التضرع، و ذلك أمام أعين ألف و ستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

و سترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد فتح القلاع و الحصون اليهودية، و انتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم، و اكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم و أنفسهم، و بعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

(2)

احتلال النقاط و الطرق الحساسة ليلا:

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن: «ناعم» و «القموص» و «الكتيبة» و «النطاة»، و «شقّ» و «سطح»، و «سلالم»، و ربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن و سيّده، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة، و لرصد كل التحركات خارج الحصن، و لأجل أن ينقل الحراس و المراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:391

و قد كانت تلك البروج و الحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة و كانوا يستطيعون- عن طريق المجانيق «1» و غيرها من آلات الرمي- إبعاد أي عدو، و افشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن، و ذلك برميه بالاحجار و ما شابهها.

(1) و

قد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا، ألفان من الفرسان الشجعان و الصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام و الشراب، و الذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة و العتاد.

و كانت هذه الحصون من الإحكام و القوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا، و من أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل، فكانت تعدّ هذه الحصون- في الحقيقة- متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

و لهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط و الطرق الحساسة ليلا.

و قد تم هذا العمل بسرية و سرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

(2) و لما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم و بساتينهم و هم يحملون مساحيهم و مكاتيلهم و اذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال و قد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة و سدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم، فأفزعهم ذلك و خافوا خوفا شديدا، فأدبروا

______________________________

(1) و هي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:392

هرابا و هم يقولون: محمّد و الجيش معه. و بادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون و إحكامها، و عقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

(1) و عند ما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مساحي اليهود و مكاتيلهم و غيرها من

أدوات الهدم قال متفائلا:

«اللّه أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

و كانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال و النساء في أحد الحصون، و يجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر، و يستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج و يدافعوا عن كل قلعة و حصن بالأحجار، و يخرج الابطال الصناديد من كل حصن و يقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام، و قد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال و لهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

(2)

متاريس اليهود تتهاوى:

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية و كان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة، و لم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين و رميها من جانب العدو.

و لهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو «محمّد بن مسلمة» و قال له:

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر (الهي) امرت به فلا نتكلم فيه، و ان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول اللّه دنوت من الحصن، و إن أهل النطاة مرتفعون علينا و هو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول اللّه الى موضع بري ء من النخل و البناء حتى لا ينالنا نبلهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:393

(1) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة (الشورى) و احترام الآخرين: «بل هو الرأي، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم، بريئا من الوباء نأمن فيه

بياتهم»، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع (و هو واد بقرب خيبر) ثم رجع الى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلا فقال: وجدت لك منزلا، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود و غدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة، و كان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام «1».

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر و لكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع و الحصون حصنا تلو حصن، و حاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه، ثم محاصرة حصن آخر.

(2) و لقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا، و لكن الحصون التي كان الرعب و الخوف يسيطر على مقاتليها و حرّاسها، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة، و تسفك فيها دماء أقلّ، و يتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

(3) و ان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شي ء كبير من الجهد- كما يذهب إليه جمع من المؤرخين- هو حصن «ناعم». و لقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين، يدعى «محمود بن مسلمة» الانصارى، و جرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره، و قيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام- حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة «2» و

نقل الجرحى الخمسون إلى

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 39.

(2) اسد الغابة: ج 4 ص 334.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:394

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد «1»، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى «خيبر» لمساعدة المسلمين و تضميد الجرحى و تقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر، و قد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا، و تضحية عجيبة «2».

(1) و لقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون- بعد فتح حصن «ناعم» إلى فتح حصن «القموص» الذي كان يرأسه أبناء «أبي الحقيق»، و لقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام، و أسرت منه «صفية بنت حيي بن أخطب» التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين و ألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود و لكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم، و قد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الّا أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

(2)

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة:

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم، و رسول اللّه محاصر لبعض حصون خيبر فقال: يا رسول اللّه اعرض عليّ الاسلام، فعرضه عليه، فأسلم، و كان رسول اللّه لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام و يعرضه عليه- فلما أسلم قال: يا رسول اللّه اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم و هي

أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول اللّه

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 40.

(2) السيرة النبوية: ج 3 ص 342.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:395

صلّى اللّه عليه و آله أمام عيون المئات من جنوده الجياع:

«أخرجها من العسكر ثم صح بها و ارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّ و جلّ سيؤدّي عنك أمانتك».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها، و قد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد «1».

(1) أجل لم يكتسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقب «الامين» من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات و الظروف و هو القائل:

«ما من شي ء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر و الفاجر» «2»، و قد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار و لم يفكر و لا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة و التقوى و الصدق و الورع من معلّمهم الاكبر «محمّد» الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله.

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا، و اطلق البقية لتدخل الحصن بامان «3»، و لو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و لما رأى جوع أصحابه و تضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا:

«اللّهم انّك قد عرفت حالهم و ان ليست بهم قوة، و ان ليس بيدي شي ء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم

غناء، و أكثرها طعاما» «4».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 344 و 345. امتاع الاسماع: ج 1 ص 312- 313.

(2) مجمع البيان: عند تفسير قول اللّه تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ...».

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 335- 336.

(4) السيرة النبوية: ج 2 ص 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:396

و لم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

(1) في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام و معاركه كانت للإغارة و جمع الغنائم و مصادرة الأموال و السيطرة عليها و ان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة و الامانة، و ذلك كيد منهم للاسلام، و محاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا، و تشويهها.

و لكن النموذج المذكور هنا، و أمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن و هو في أشدّ الظروف و أصعبها و جنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع و دنوا من الهلاك، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي، بل أمره بردّها إلى صاحبه و هو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

(2)

فتح الحصون الواحد تلو الآخر:

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح، و سلالم، و لكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته- ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام، و لكنهم كانوا يعودون في كل

يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

و ذات يوم بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر و اعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر، و لكنه رجع و لم يكن فتح و كل من الامير و الجنود يلقي باللوم على الآخر، و يتهمه بالجبن و الفرار.

(3) فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم آخر «عمر بن الخطاب» على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:397

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع و لم يحقق فتحا، بل عاد- حسب ما يروي الطبري- «1» فزعا مرعوبا و هو يصف شجاعة مرحب و قوّته البالغة، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرسان الاسلام الابطال و قادة الجيش الاسلامي، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه و قال:

«لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله يفتح على يديه ليس بفرّار» أو: «كرار غير فرار» حسب نقل الطبري و الحلبي «2».

(1) و قد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة و شجاعة و تفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه و تميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش و قادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد و العظيم، و ان تصيب القرعة اسمه.

و لما بلغ عليا عليه السّلام مقالة النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه و هو في خيمته قال:

«اللهم لا معطي لما منعت و لا مانع لما أعطيت» «3».

(2) غطّى ظلام الليل كل مكان، و ذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم، و بينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل، و

يرصدون أوضاع العدوّ الغادر

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 300.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 120، السيرة الحلبية: ج 2 ص 37، السيرة النبوية: ج 3 ص 334 أمتاع الاسماع: ج 1 ص 314 و لقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له:

و ما أنس لا أنس اللّذين تقدّماو فرّهما و الفرّ قد علما حوب

و للراية العظمى و قد ذهبا بهاملابس ذلّ فوقها و جلابيب

يشلّهما من آل موسى شمر دل طويل نجاد السيف أجيد يعبوب (الغدير: ج 7 ص 201 اقتباسا من القصائد العلويات).

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:398

و تحركاته.

و عند الصباح و مع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام، و أضاءت السهل و الجبل، تجمّع قادة الجيش الاسلامي و صناديده و أبطاله و غيرهم من الرجال و فيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم، و قد تطاول لها أبو بكر و عمر «1».

(1) و لم يطل هذا الانتظار، فقد كسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدار الصمت هذا عند ما قال: «اين علي»؟!

فقيل يا رسول اللّه به رمد، و هو راقد بناحية.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ائتوني بعليّ» «2»

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب عليا عليه السّلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي، و عاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده الشريفة على عيني علي عليه السّلام و دعا له بخير، فعوفي من ساعته، و استعادت عيناه عليه السّلام سلامتها افضل ممّا

كانت بحيث لم يرمد عليه السّلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

(2) ثم دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللواء إلى عليّ عليه السّلام و دعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية و أن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية، و يعيشوا بحرية و أمان

______________________________

(1) هذه هي عبارة الطبري: ج 2 ص 300، كنز العمال: ج 6.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 28 و 29، تاريخ الخميس: ج 2 ص 49.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:399

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية «1».

و اذا رفضوا ذاك و هذا قاتلهم، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة:

«لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم» «2».

أجل إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب، و هذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت لهداية الناس لا غير.

(1)

الانتصار الكبير في خيبر:

عند ما كلّف عليّ (عليه السّلام) من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله بفتح قلعتي سلالم و الوطيح (و هما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان و وجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي)، ارتدى درعا قويا و حمل معه سيفه الخاص ذا الفقار و راح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين، و الجند خلفه، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الأرض تحت الحصن.

و لما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج

إليه كبار صناديدهم.

و كان أول من خرج إليه أخو مرحب و يدعى «الحارث» فتقدم إلى عليّ و صوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع «3».

و لكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من علي عليه السّلام.

______________________________

(1) صحيح مسلم: ج 5 ص 195، صحيح البخاري: ج 5 ص 18.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 37.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 314 قال: فانكشف المسلمون و ثبت علي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:400

(1) فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث و خرج من الحصن و هو غارق في السلاح، فقد لبس درعا يمانيا، و وضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة، و تقدم الى عليّ عليه السّلام كالفحل الصؤول يرتجز و يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب و القرن عندي بالدما مخضّب «1» فأجابه علي عليه السّلام مرتجزا و قد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه:

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرةضرغام آجام و ليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرةكليث غابات كريه المنظرة (2) و بعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف و الرماح، فألقت قعقعة السيوف و صوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين، و فجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس «مرحب» بطل اليهود قدّت خوذته نصفين و نزلت على رأسه و شقته نصفين الى أسنانه!!

و لقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع «مرحب» من أبطال اليهود و صناديدهم ففروا من فورهم، و لجئوا إلى الحصن، و بقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا، ثم لاحق الفارين منهم

حتى باب الحصن، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناول عليه السّلام بابا كان على الحصن و انتزعه من مكانه، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده و هو يقاتل حتى فتح اللّه على يديه ثم القاه من يده حين فرغ، و قد حاول ثمانية من أبطال الاسلام و منهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك «2».

______________________________

(1) يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى: ج 2 ص 332.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 94، سيرة ابن هشام: ج 2 ص 349، تاريخ الخميس: ج 2 ص 47- 50.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:401

و هكذا فتحت القلعة التي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام، في مدة قصيرة على يد بطل الاسلام الأول «علي بن أبي طالب» عليه السّلام.

(1) و يقول اليعقوبي في تاريخه: ان الباب الذي قلعه علي عليه السّلام كان من الصخر و كان طوله أربعة اذرع و عرضه ذراعين «1».

و يقول الشيخ المفيد في ارشاده بسند خاص عن امير المؤمنين قصة قلعه ذلك الباب:

«لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي فقاتلتهم به، فلما أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم، و لما قال له رجل: لقد حملت منه ثقلا قال عليه السّلام:

«ما كان إلّا مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام» «2».

و قد نقل المؤرخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا و خصوصياته و مواصفاته، و عن بطولات علي عليه السّلام في فتح هذا الحصن، و جميعها لا تتمشى و لا تتيسر مع القدرة

البشرية المتعارفة، و لا يمكن أن تصدر منها.

و يقول علي عليه السّلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كل شك و إبهام قد يعترض المرء في هذا المجال:

«ما قلعتها بقوّة بشريّة و لكن قلعتها بقوة إلهية و نفس بلقاء ربّها مطمئنة رضية» «3».

(2)

تحريف الحقائق:

لو أننا أردنا أن نلتزم بحدود الحق و الانصاف لوجب أن نقول انّ «ابن هشام» في سيرته و «الطبري» في تاريخه ذكرا قصة مبارزة علي عليه السّلام في يوم

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 46.

(2) الارشاد: ص 62- 65.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 40.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:402

خيبر بصورة مفصلة، و نقلوا تفاصيلها بصورة دقيقة، و لكنهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصة خيالية لا أساس لها و هي و ان مرحبا قتل على يدي «محمّد بن مسلمة» و قالوا: و يرى البعض أن مرحبا اليهودي قتله محمّد بن مسلمة انتقاما لأخيه الذي قتل عند فتح حصن «ناعم» على أيدي اليهود، فقد كلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال مرحب فبرز إليه، فقتله.

إن هذا الاحتمال من الوهن و البطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الاسلاميّ المسلم و المتواتر، (1) هذا مضافا إلى أن هذه الاسطورة التاريخية تعاني من اشكالات، و مؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم:

(2) 1- ان محمّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع، و البطل الصنديد الذي تؤهله شجاعته لأن يكون فاتح خيبر و قاتل بطلها الاكبر، فإن التاريخ لا يذكر عنه نموذجا بارزا من بطولته و شجاعته، إنما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله فقط بأن يغتال «كعب بن الاشرف» الذي حرّك المشركين و الهم ضد الاسلام و المسلمين بعد معركة بدر الكبرى، و

قد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئا خوفا، فأنكر عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خوفه و سأله عن سبب ذلك فقال: يا رسول اللّه قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ به أم لا؟

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة، و يتخلصوا من «كعب» الذي كان يريد إعادة القتال بين المسلمين و المشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل و قتلوا عدوّ اللّه كعبا وفق خطة خاصة و لكن «محمّد بن مسلمة» جرح أحد رفاقه من شدة الخوف و الوحشة التي اصابته، و لا شك أن صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد «خيبر» المعروفين و ينازلهم.

(3) 2- ان فاتح «خيبر» لم يقاتل مرحبا و يقتله وحده، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق

سيد المرسلين ،ج 2،ص:403

الفارّين، و نازل الذين بقوا و لم يفرّوا.

و إليك أسماء من بقوا في ساحة القتال و قاتلوا عليا عليه السّلام بعد قتله مرحبا:

1- داود بن قابوس.

2- ربيع ابن أبي الحقيق.

3- أبو البائت.

4- مرة بن مروان.

5- ياسر الخيبري.

6- ضحيج الخيبري.

و كل هؤلاء كانوا من صناديد اليهود و ابطالهم، و كانوا يقاتلون خارج حصن خيبر و يمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إن هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب عليه السّلام و هم يرتجزون في ساحة القتال و يطلبون المبارز و المناجز «1».

فمن يكون و الحال هذه فاتح «خيبر» و قاتل مرحب؟

إذا كان «محمّد بن مسلمة» فانه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين و يتجاهل

اولئك الأبطال خلف مرحب بل لا بد أن يقاتلهم، في حين اتّفقت كل السير و التواريخ على أن هؤلاء قتلوا جميعا على يد علي بن أبي طالب عليه السّلام.

(1) 3- ان هذه الاسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه صلّى اللّه عليه و آله قال في حق علي عليه السّلام:

«يفتح اللّه على يديه» مع العلم بأن المانع الاكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار، فاذا كان قاتل مرحب هو

______________________________

(1) ناسخ التواريخ: ج 2 ص 282- 286.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:404

«محمّد بن مسلمة» لزم أن يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملته هذه في حق «محمّد بن مسلمة» لا في حق «علي» عليه السّلام الذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة: «يفتح اللّه على يديه».

(1) يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف: قيل: القاتل له (اي لمرحب) علي كرم اللّه وجهه و به جزم مسلم رحمه اللّه في صحيحه. قال بعضهم: و الاخبار متواترة به و قال ابن الاثير: الصحيح الذي عليه أهل السير و الحديث أن عليا قاتله كرم اللّه وجهه «1».

و لقد وقع الطبري في تاريخه، و ابن هشام في سيرته في شي ء من الاضطراب و الفوضى و كتبا قصة هزيمة و رجوع الرجلين اللذين كلّفا قبل علي عليه السّلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتفق مع مفهوم الجملة التي قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حق علي عليه السّلام.

فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقه: «و ليس بفرّار» «2» يعني أن الذي سوف يعطيه الراية لا يفر أبدا، و مفهوم هذه الجملة

هو أن عليا عليه السّلام لا يفرّ و لا يجبن أمام العدوّ كما فر القائدان السابقان، و هذا يعني أن القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ، و أخليا الساحة، في حين أن الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين، و إنما يكتبان رجوعهما كما لو أنهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية و العسكرية على الوجه الكامل، و لكنّهما لم يوفقا للفتح «3».

(2)

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السّلام:

و نختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه عليه السّلام في خيبر:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 38، و راجع زاد المعاد: ج 2 ص 134 و 135.

(2) المغازي: ج 2 ص 653.

(3) السيرة النبوية: ج 3 ص 349.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:405

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوما فقال: ما منعك ان تسبّ أبا التراب؟

فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال:

(1) 1- سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم يقول له خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء و الصبيان؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم.

«أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبوة بعدي» «1».

(2) 2- و سمعته يقول يوم خيبر:

لاعطين الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله. قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا. فاتي به أرمد فبصق في عينه، و دفع الراية إليه، ففتح اللّه عليه «2».

(3) 3- و لما نزلت هذه الآية «فقل تعالوا ندع ابناءنا

و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل ...» دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي» «3» «4».

(4)

عوامل الانتصار:
اشارة

فتحت حصون «خيبر»، و استسلم اليهود للمسلمين بشروط خاصة، و لكن يجب أن نرى ما هي العوامل التي ادت إلى هذا الانتصار، فهذا هو في الحقيقة

______________________________

(1) و هي اشارة إلى واقعة تبوك.

(2) و هي اشارة إلى واقعة خيبر.

(3) و هي اشارة إلى قصة مباهلة النبي نصارى نجران.

(4) صحيح مسلم: ج 7 ص 120.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:406

النقاط الهامة في هذا القسم.

إن انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعود إلى عوامل يمكن الاشارة إليها على نحو الاجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

1- التخطيط العسكري و التكتيك الحربي الدقيق.

2- تحصيل المعلومات و معرفة أسرار العدو الداخلية.

3- تفاني الامام علي بن أبي طالب، و بطولته النادرة. و هنا نحن ندرس هذه الامور الثلاثة على وجه التفصيل:

(1)

1- التخطيط و التكتيك العسكري الدقيق:

لقد هبط الجيش الاسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود باصدقائهم القدامى (قبائل غطفان).

و قد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون، و لو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فان «غطفان» لما سمعت بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، و لكنهم ما أن سمعوا الشائعة التي مفادها أن أصحاب محمّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنوا انهم سيهاجمون أموالهم و أهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم، و أقاموا في أهليهم و أموالهم و خلّوا بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين «خيبر».

يقول المؤرخون: إن هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجال غطفان فظنوا أن المسلمين داهموا أهليهم «1» و لكنه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان، و الذين امروا بأن يتظاهروا بالكفر، و يبقوا في قبائلهم

حتى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 651- 653.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:407

المناسبة.

فخططوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة و كانوا في ذلك ناجحين جدا الى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى «خيبر»، و العودة إلى أهليهم و ترك اليهود و شأنهم.

و قد سبق لهذا نظير في معركة «الاحزاب» يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثها بينهم رجل من المسلمين من بني غطفان يدعى «نعيم بن مسعود»، و تفرّق على أثره جماعة الاحزاب، و انفرط عقدهم.

(1)

2- تحصيل المعلومات حول العدوّ:

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا مرارا يولي تحصيل المعلومات و معرفة أسرار العدو، أهمية كبيرة.

و لهذا بعث قبل محاصرة «خيبر» طليعة من المسلمين و أمّر عليهم «عبّاد بن بشر» و وجّههم إلى «خيبر»، فالتقوا بيهودي قرب حصون «خيبر»، و بعد التحقيق معه تبين أنه عين لليهود يتجسّس لهم الاخبار فأخذوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن أوضاع اليهود في حصون «خيبر».

فقال: أ فتؤمنني يا أبا القاسم على أن اصدقك؟ فأمّنه عباد.

فقال اليهودي: القوم مرعوبون منكم خائفون و جلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب.

ثم قال: خرجت من حصن «النطاة» من عند قوم ليس لهم نظام تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة الى «الشق» و قد رعبوا منك حتى أنّ أفئدتهم لتخفق، فاذا دخلت الحصن غدا و أنت تدخله، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن شاء اللّه، قال اليهودي إن شاء اللّه أوقفك على حصن اليهود الذي فيه منجنيق مفلكة و دبابتان و سلاح من دروع و بيض و سيوف، فانصب المنجنيق على حصن الشق و

تدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:408

يومك «1».

إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و إن لم يستخدم هذه الادوات التخريبية إلّا أن المعلومات التي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة لأنّها أوضحت نقطة الحملة غدا، و عرف النبي صلّى اللّه عليه و آله أن التغلّب على حصن «النطاة» لا يحتاج الى قوة كبيرة، و أنه لا بدّ من رعاية المزيد من الحيطة و الحذر عند فتح حصن «الشق».

(1) نموذج آخر: عند فتح إحدى القلاع أتى يهودي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها و قال- و لعلّه لتخليص نفسه-: إنك لو اقمت شهرا ما بالوا، لهم جدول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك، فان قطعت مشربهم عليهم ضجهم.

و في رواية أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يوافق على قطع الماء عن العدو «2».

و في اخرى؛ قطع عليهم مشاربهم موقتا فلم يطيقوا المقام على العطش «3».

(2)

3- تفاني امير المؤمنين:

و لقد ذكرنا تغاني علي بن أبي طالب، و بطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة، و ها نحن ننقل عبارة قالها هو عليه السّلام عن هذه المسألة:

وردنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيبر على رجال من اليهود و فرسانها من قريش و غيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح، و هم في أمنع دار و أكثر عدد، كل ينادي و يدعو و يبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى احمرّت الحدق، و دعيت إلى النزال، و أهمّت كل امرئ نفسه، و التفت بعض أصحابي إلى بعض و كل يقول:

يا أبا الحسن انهض.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 35.

(2) ناسخ التواريخ: ج 2 ص 299. المصدر السابق ص 40.

(3) الخصال: ص 369.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:409

فأنهضني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى دارهم فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته، و لا يثبت لي فارس إلّا طحنته، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّدا عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها، و أسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي و لم يكن لي فيها معاون إلّا اللّه وحده «1».

(1)

الرحمة في ساحة القتال:

عند ما افتتح حصن «القموص» سبيت «صفيّة بنت حيي بن أخطب» و امرأة اخرى، فمر بهما «بلال» على القتلى فصاحت صفية صياحا شديدا جزعة ممّا رأت، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما صنع بلال و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السنّ على القتلى؟».

فقال بلال: يا رسول اللّه ما ظننت أنك تكره ذلك، و أحببت أن ترى مصارع أهلها «2».

و لم يكتف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا القدر من تطييب خاطر «صفيّة» بل احترمها، و عيّن لها مكانا خاصا للاستراحة في المعسكر، و اختارها زوجة لنفسه، و بهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيئ الذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعامله الانساني الرفيع مع «صفية» أثرا حسنا في نفسها، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله الوفيّات المخلصات، و قد حزنت عند وفاته، و بكت له أكثر من بقية ازواجه «3».

______________________________

(1) الخصال: ص 369 باب

السبعة.

(2) المغازي: ج 2 ص 673، تاريخ الطبري: ج 3 ص 302.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 302.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:410

(1)

مصرع كنانة بن الربيع:

منذ أن أجلي «بنو النضير» عن المدينة و سكنوا «خيبر» أحدثوا صندوقا لجمع الأموال لإدارة شئونهم العامة، و لسد نفقات الحروب، و لإعطاء دية كل من كان يقتل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن هذا الكنز و هذه الأموال قد أودعت عند «كنانة بن الربيع» زوج «صفية»، فلما افتتح صلّى اللّه عليه و آله خيبر طلب الربيع و سأله عن كنز اليهود، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحبسه، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود، بمكان ذلك الكنز، و قد كان بخربة، إذ قال له يهودي إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أيام الحرب فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاخرج منها بعض ذلك الكنز، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «كنانة» عما بقي فأبي أن يؤديه أو يخبر بموضعه، فدفعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى محمّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصا لأخيه الذي قتل في وقع خيبر «محمود بن مسلمة» و الذي قتله اليهود بالقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه، و انما قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كنانة بضرب عنقه، لتواطئه ضدّ الاسلام، و كتمانه مثل هذا الأمر، و تأديبا لغيره من اليهود حتى يتورعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الاسلام و ضدّ أصحابه، و ضدّ الحكومة الاسلامية، و كان «كنانة» آخر من قتل من يهود خيبر «1».

(2)

تقسيم غنائم الحرب:

بعد افتتاح حصون «خيبر»، و تجريد العدو من كل أسلحته، و جمع الغنائم أمر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 3 ص 337، بحار الأنوار: ج 21 ص 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:411

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن

تجمع الغنائم كلها في مكان واحد، ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله رجلا بأن ينادي في الناس:

«أدّوا الخيط و المخيط، فانّ الغلول عار و شنار و نار يوم القيامة» «1».

(1) و لقد شدّد قادة الاسلام و ائمته الحقيقيون على أهميّة الامانة تشديدا بالغا حتى أنهم اعتبروا ردّ الامانة- مهما صغرت و دقت- من علائم الايمان، و الخيانة و عدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عند ما عثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رحل مسلم من المقاتلين شيئا من أموال الغنيمة لم يردّها إلى بيت المال لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عند ما استشهد، و إليك تفصيل هذه الحادثة.

لما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من خيبر و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غلام له، يقوم له بشئونه، و فيما كان ذلك يضع رحل النبي صلّى اللّه عليه و آله إذ أتاه سهم لا يعلم راميه فأصابه فقتله، فقال المسلمون:

هنيئا له الجنة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«و الّذي نفس محمّد بيده إنّ شملته «2» الآن لتحترق عليه في النار، كان قد غلّها من في ء المسلمين يوم خيبر»!!

(2) فسمع رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا الكلام فأتاه و قال:

يا رسول اللّه، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلّى اللّه عليه و آله «يقدّ لك مثلهما في النار» «3».

و هذه القصة تفضح أيضا دسائس بعض المستشرقين، لأنهم كانوا يصفون حروب الاسلام و معاركه العادلة بأنها كانت من أجل الاغارة على أموال الناس

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج باب جهاد النفس الحديث 4، المغازي: ج 2 ص 681.

(2) الشملة كساء غليظ يلتحف به.

(3) السيرة

النبوية: ج 2 ص 339، امتاع الاسماع: ج 1 ص 323 و 324.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:412

و مصادرتها كما يفعل قطاع الطرق، متجاهلين عمدا و كيدا الأهداف الإنسانية و الالهية العليا لهذه المعارك و الغزوات، و الحال أن مثل هذه الانضباطية و النظم و الورع ممّا لا يمكن تصوره في قوم همهم الاغارة و النهب و السلب.

إن قائد شعب أو قوم هذا هو همهم و هذه هي همتهم لا يمكن أبدا أن يعتبر ردّ الامانة من واجبات الدين و من علائم الايمان، كما لا يمكنه أن يربي أتباعه و أصحابه بمثل هذا التربية الرفيعة، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جدا مثل غلّ شراكي نعلين لا قيمة لهما تذكر.

(1)

قافلة من أرض الذكريات:

قبل أن يتوجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين الى «خيبر» بعث «عمرو بن أميّة» إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ، و ليطلب منه أن يهي ء المقدمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة الى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأولئك المهاجرين بعد أن جهزهم بجهاز حسن و امر لهم بكسوة، فسارت بهم حتى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

و لما علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى «خيبر» توجّهوا من فورهم الى «خيبر» فقدموا مع «جعفر بن أبي طالب» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم «خيبر» بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود و قلاعهم.

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعفر مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبّل ما بين عينيه و التزمه و قال:

«ما أدري بأيّهما أنا اسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

و في رواية اخرى قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لا أدري بأيّهما

أنا أشدّ فرحا بقدومك يا جعفر أم بفتح اللّه على أخيك خيبر».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجعفر:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:413

«يا جعفر ألّا امنحك؟ أ لا اعطيك أ لا أحبوك؟».

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة، فتشوّف الناس لذلك. فقال له:

أني اعطيك شيئا إن أنت صنعته في كل يوم كان خيرا لك من الدنيا و ما فيها».

ثم علمه صلّى اللّه عليه و آله الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار «1».

(1)

حجم الخسائر و عدد القتلى:

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصا و لكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير، و قد سجل التاريخ أسماء 93 رجلا منهم «2».

(2)

العفو بعد الانتصار:

المؤمنون باللّه و اصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه و الظفر به باللطف و الحب، و يعفون عنه و يتناسون روح الانتقام، أجل إنهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم و حنانهم و تلك هي حقيقة اثبتتها وقائع التاريخ الحية.

و كذلك فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما تغلب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة، و شملهم بعفوه، و لطفه رغم كل ما ارتكبوه في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ظلم و جناية و تأليب للعرب الوثنيين ضدّ الاسلام، و اشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الاسلامية و تستأصل المسلمين، و تقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا، و أن يترك أراضيهم

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 1 ص 129 و 130، الخصال: ج 2 ص 82 و 83، امتاع الاسماع: ج 1 ص 325.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:414

و بساتينهم بأيديهم، على أن يكون له نصف محاصيلها سنويا.

بل إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- كما يروي ابن هشام- هو الذي اقترح هذا الأمر على اليهود، و ترك لهم حرية التصرف في مزارعهم و أراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر «1».

(1) لقد كان في مقدور النبي صلّى اللّه عليه و آله، كأيّ فاتح آخر، أن يريق دمهم جميعا، أو أن يجليهم برمتهم من أراضيهم، أو يجبرهم على اعتناق الاسلام، و لكنّه- خلافا

لتصور زمرة مغرضة من المستشرقين، و طلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون و يزعمون بأن الاسلام دين القهر و القوة، و ان المسلمين أجبروا الامم و الأقوام المغلوبة على ترك عقائدها، و اعتناق الاسلام لم يفعل مثل هذا العمل قط، بل تركهم أحرارا في ممارسة شعائرهم، و البقاء على ما كانوا يعتقدونه من اصول دينهم و فروعه.

(2) و لم يحارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه يهود «خيبر» إلّا لأنّ «خيبر» قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة، و الكيد بالاسلام و المسلمين، فقد كانوا يمدّون المشركين بكل ما يريدون للقضاء على الحكومة الاسلامية الحديثة التأسيس، و لهذا اضطر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مقاتلتهم، و تجريدهم من أسلحتهم، حتى يعيشوا تحت ظل الحكومة الاسلامية بمنتهى الحرية، و يشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة، و يقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة و التآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى، اذ كانوا يسببون مشاكل كبيرة للمسلمين- في غير هذه الصورة- و يمنعون من تقدّم الاسلام و انتشاره.

(3) و أما الجزية «2» فقد كان لقاء دفاع الحكومة الاسلامية عنهم، و حمايتهم من الأعداء، و توفير الأمن لهم، إذ كان حماية أموالهم و أنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم ان المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أن ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 337.

(2) الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:415

الإسلاميّة من الضرائب الاسلامية كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود.

و النصارى إلى الحكومة الاسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجب على كلّ مسلم أن يدفع الى الحكومة الاسلامية الخمس و الزكاة و ربما توجب عليه ان يدفع شيئا من أصل ماله لسدّ نفقات و

احتياجات الحكومة الاسلامية بينما كان اليهود و النصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الاسلامية في أمن و أمان و يتمتعون بجميع الامتيازات و الحقوق الاجتماعية الفردية يدفعون إلى الحكومة الاسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون، فالجزية شي ء و الأتاوة شي ء آخر، على خلاف ما يروّجه بعض الكتاب المغرضين.

(1) و لقد كان عامل الجباية الذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتقدير حجم المحاصيل فيها، ثم تنصيفها رجلا عادلا ورعا إلى درجة أن اليهود أنفسهم أعجبوا بعدله، و اعترفوا بانصافه، و هو «عبد اللّه بن رواحة» الذي استشهد فيما بعد، في موقعة «مؤتة».

فقد كان «ابن رواحة» يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر، و ربما تصوّر اليهود أنه أخطأ في التخمين و الخرص، و خمّن أكثر ممّا هو الحق فقالوا له:

تعديت علينا!

فكان عبد اللّه يقول: إن شئتم فلكم و إن شئتم فلنا.

فتقول اليهود- معجبة بهذا الانصاف العظيم و العدل الكبير الذي كان يتحلى به مخرّص الحكومة الاسلامية-: بهذا قامت السماوات و الارض «1».

و لقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم «خيبر» على قطعة من التوراة، فطلبت اليهود من النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعيدها إليهم، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسئول بيت المال باعادتها إليهم «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 354.

(2) المغازي: ج 2 ص 680، امتاع الاسماع: ج 1 ص 323.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:416

و هذا يكشف عن احترام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للشرائع الاخرى.

(1)

سلوك اليهود المتعجرف:

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها و كيدها، بل ظلّت تخطّط- في الخفاء- للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، و

الحاق الاذى بهم.

و لنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر:

(2) 1- لما اطمأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدس سمّ إليه. فأهدت له «زينب بنت الحارث» زوجة «سلام بن مشكم اليهودي» شاة مشويّة و قد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل لها الذراع، فاكثرت فيها من السمّ، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، و معه «بشر بن البراء بن معرور» قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأما بشر فقد ابتلعها، و أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد لفظها و عرف بأنها مسمومة، و مات بشر من أكلته التي أكل ثم دعا زينبا، و قال لها: سمّمت الذراع؟ فاعترفت. فقال لها: ما حملك على ذلك، قالت: قتلت أبي و عمّي و زوجي، و نلت من قومي ما نلت فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، و ان كان نبيّا فسيخبر.

فعفا عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يلاحق من تواطئوا معها «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 337 و 338 و المغازي: ج 2 ص 677 و 678. و امتاع الاسماع: ج 1 ص 323. هذا و المعروف أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في: مرضه الذي مات فيه: إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت بخيبر، فإن النبيّ، و ان كان

لفظ-

سيد المرسلين ،ج 2،ص:417

(1) لا شك لو أن مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من القادة و الزعماء لصبغوا الارض بدماء من ظنوا أنه قصد قتلهم، أو ملأوا السجون بهم و حبسوهم، أعواما مديدة او اخضعوهم لاشد انواع التعذيب الجسدي و النفسي كما يحدّثنا بذلك التاريخ القديم و الحديث.

إن هذه المؤامرة الدنيئة التي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسيئون الظن بصفية اليهودية التي أصبحت في عداد ازواج النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فقد باتوا يتصوّرون أنها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لهذا عند ما أعرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات «أبو أيّوب الانصاري» يحرس قبّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي دخل بها بصفية ليلة عرسه بها، و بقي يطوف بالقبة حتى أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما رأى أبا أيوب قال: مالك يا أبا أيوب؟

قال: يا رسول اللّه خفت عليك من هذه المرأة، و كانت امرأة قد قتلت أباها و زوجها و قومها و كانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك. فشكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و دعا له بخير «1».

(2) 2- و النموذج الثاني من جفاء اليهود، و كيدهم حتى بعد عفو النبي عنهم، و لطفه بهم أنّ «عبد اللّه بن سهيل» الذي كلّف من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر و تقديرها و حمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتله جماعة مجهولة من

اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر و قد كسروا

______________________________

المضغة إلّا ان بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف، و أثر في جسمه المبارك حتى أودي بحياته المقدسة بعد حين.

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 339 و 340، بحار الأنوار: ج 21 ص 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:418

عنقه و ألقوه في بئر، فقدم جماعة من زعماء اليهود المدينة و دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبروه بهذه العملية الغادرة المجهول فاعلها، و تقدم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا «عبد الرحمن» اخو عبد اللّه بن سهل و ابنا عمّه و كان عبد الرحمن من أحدثهم سنا و كان صاحب الدّم فلما تكلّم قبل ابني عمّه قال رسول اللّه: الكبر الكبر (أي قدّموا الاكبر للكلام إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسنّ و هو خلق يدعو إليه الاسلام).

فذكروا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتل صاحبهم و طلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أ تسمّون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلّمه إليكم».

(1) و حمل هذا التعليم النبوي أولياء الدم على أن يجعلوا التقوى و الورع نصب أعينهم و لم يستسلموا لثورة العاطفة فقالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أ فيحلفون (أي يحلف اليهود) باللّه خمسين يمينا ما قتلوه، و لا يعلمون له قاتلا، ثم يبرءون من دمه؟».

قالوا يا رسول اللّه ما كنا لنقبل أيمان اليهود، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم.

فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى يهود خيبر كتابا فيه: انه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه (أي أعطوا ديته).

فكتبوا إليه يحلفون

باللّه ما قتلوه، و لا يعلمون له قاتلا.

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن المشكلة قد وصلت إلى طريق مسدودة وداه بنفسه من عنده مائة ناقة «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 354- 356.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:419

و هكذا اثبت النبي صلّى اللّه عليه و آله لليهود مرة اخرى بأنه ليس داعية حرب و لا طالب قتال و سفك دماء، و لو كان كغيره من الزعماء و السياسيين لاتخذ من قصة مقتل عبد اللّه ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية، المشاغبة المخلّة بالأمن «1»

إن النبي صلّى اللّه عليه و آله كما يصرّح بذلك القرآن الكريم و يصفه: نبي الرحمة، فهو لا يحتكم الى السيف ما لم يبلغ الامر مداه.

(1)

حيلة مجازة:

كان في خيبر تاجر يدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكة، و كان ممّن حضر يوم خيبر. و شاهد لطف النبي و رحمته فأسلم طائعا راغبا.

و لما فرغ المسلمون من أمر «خيبر» أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

يا رسول اللّه إن لي بمكة مالا متفرقا في تجار مكة فاذن لي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن احتال لأخذها، فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين و غيرهم في مكة.

فقدم مكة، فرآه رجال قريش اجتمعوا حوله و أخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلا: لقد هزم محمّد بخيبر هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، و قتل أصحابه قتل لم تسمعوا بمثله قط، و اسر محمّد اسرا، و قالت اليهود: لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين

______________________________

(1)

لم تنحصر تعديات اليهود و تجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا و دبّروا الحيل لالحاق الأذى و الضرر بالمسلمين، و من جملة ذلك حادث عبد اللّه بن عمر الذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب فلما عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان» فقال لصحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله من كان له حق عند اليهود فليأخذه ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم و تآمرهم المستمر. (المصدر).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:420

أظهرهم انتقاما لمن أصاب من رجالهم.

(1) ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحا شديدا، ثم قال الحجاج لهم.

أعينوني على جمع مالي بمكة و على غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأصيب من محمّد و أصحابه قبل أن يسبقني التجار الى ما هنا لك فجمعوا له ماله كاسرع ما يكون.

فلما سمع «العباس بن عبد المطلب» هذا الخبر جاء الى الحجاج و قال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به، فأشار الحجاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر، ثم التقى العباس خفية و أخبره بأنه ماكر أهل مكة، و أنّ النبي ظفر بيهود خيبر، و طلب من العباس أن يكتم ذلك حتى يغادر مكة، و ينجو بنفسه و ماله.

فلما فرغ من جميع ماله كله غادر مكة بسرعة فائقة. (2) فلما مضى على ذلك ثلاثة أيام و اطمأنّ العباس من نجاة الحجاج لبس حلة جميلة، و تعطر و أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فتعجبت قريش لذلك، و ظنت أنه فعل ذلك تجلّدا، فقالت للعباس: يا أبا الفضل هذا و اللّه التجلّد لحرّ المصيبة، قال:

كلا، و اللّه الذي حلفتم به، لقد افتتح «محمّد» خيبر، و ترك عروسا على بنت ملكهم، و أحرز أموالهم و ما فيها، و أصبحت له و لأصحابه.

فقالوا: من جاءك بالخبر.

فقال: الذي جاءكم بما جاءكم (و يعني الحجاج الذي احتال عليهم). و لقد دخل عليكم مسلما، فأخذ ماله، و انطلق ليلحق بمحمّد و أصحابه، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة و انزعجت انزعاجا شديدا، و لكن بعد فوات الأوان، و لم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على اعدائهم «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 34، زاد المعاد: ج 2 ص 140، و السيرة النبوية: ج 2 ص 345 و 346.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:421

(1)

45 قصّة فدك

اشارة

كانت «فدك» منطقة خصبة، كثيرة الخير، قرب خيبر، و هي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومترا، و كانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة التي يعتمد عليها يهود الحجاز «1».

و قد ملأت القيادة الاسلامية- بعد أن هزم اليهود في خيبر و وادي القرى و تيماء الفراغ الذي حصل في شمال المدينة- بالقوة العسكرية الاسلامية.

و لأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة التي كانت بمثابة منبع خطر، و بؤرة شغب ضدّ الاسلام، بعثت القيادة الاسلامية سفيرا الى سادة فدك و زعمائها، لمعرفة موقفهم فآثر «يوشع بن نون» الذي كان يرأس سكان تلك المنطقة، الصلح و السلام على الحرب و القتال، و تعهّد بأن يسلّم كل سنة نصف محاصيل فدك الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و أن يعيش هو و قومه من الآن تحت راية الحكومة الاسلامية، و لا يشاغب و لا يتآمر ضدّ المسلمين، على أن تتعهد الحكومة الاسلامية- في مقابل هذا المبلغ- بتوفير الأمن في المنطقة.

______________________________

(1)

راجع كتاب «مراصد الاطلاع» ج 3 ص 1020 ماده فدك.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 353، امتاع الاسماع: ج 1 ص 331، فتوح البلدان: ص 42.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:422

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال:

(1) و من الجدير بالذكر هنا أن الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب و القتال تعود ملكيتها الى عامة المسلمين و يكون إدارتها بيد القائد الأعلى للامة.

أما الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الامام من بعده خالصة، فهو يتصرف فيها كما يشاء و يرى، فله أن يهبها، و له أن يؤجّرها، و من جملة ماله أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم، و يديروا بها معيشتهم «1».

و على هذا الاساس وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدكا لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء، و قد أريد من إيهاب هذه الارض لها- كما تشهد بذلك القرائن- أمران:

(2) 1- انّ قيادة الامة كانت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما صرّح النبي بذلك مرارا، ل: «علي بن أبي طالب»، و مثل هذه المسئولية الثقيلة تحتاج و لا شك الى ميزانية كبيرة، فكان لعليّ عليه السّلام أن يصرف من أموال فدك و عائداتها اذا صارت تحت تصرفه اكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب، و يستطيع القيام بمتطلباته.

و كأنّ جهاز الخلافة- بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدرك هذه الحقيقة، و لهذا عمد منذ الايام الاولى لوفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(3) 2- لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية

النبي صلّى اللّه عليه و آله التي كان يتمثل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة الزهراء،

______________________________

(1) و قد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر و عولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان «الفي ء» «و الأنفال».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:423

و ابنيها الحسن و الحسين عليهما السّلام بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شرفه، و مكانته السامية.

و لهذا الهدف وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدكا لابنته فاطمة الزهراء عليها السّلام.

(1) يقول المفسرون و المحدّثون الشيعة و بعض علماء السنة انه لما نزل قوله تعالى:

«وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» «1».

دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابنته فاطمة و فوّض إليها فدكا «2»، و قد روى هذا الأمر ابو سعيد الخدري و هو من كبار صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و يعترف جميع المفسرين، سنة و شيعة، بان هذه الآية نزلت في حق أقرباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ابنته الزهراء اظهر و أقوى مصاديق «ذي القربى»، حتى انه كان على بن الحسين السجاد في الشام بعد واقعة كربلاء، و سأله بعض الشاميين عن نسبه، فتلا عليه السّلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه، و حيث إن مفاد الآية و المراد بها كان معلوما عند المسلمين كافة قال الشامي متعجبا: و انكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقه «3».

(2) و خلاصة القول ان ثمة اتفاقا بين علماء السنة و الشيعة في أن هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء و

ابنيها، نعم هناك خلاف في ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وهب ساعة نزول هذه الآية فدكا لابنته فاطمة، أم لا، و لقد اتفق علماء الشيعة على الشق الأول، و ذهبوا إلى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله وهب فدكا عند نزول الآية لفاطمة و وافقهم على ذلك جمع من علماء السنة.

و قد أراد المأمون العباسى (لسبب ما) اعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب

______________________________

(1) الاسراء: 26.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 411، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 268، الدر المنثور: ج 4 ص 177.

(3) الدّر المنثور: ج 4 ص 176.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:424

الى المحدث المعروف «عبد اللّه بن موسى» و طلب منه أن يرشده في هذا الامر، فكتب إليه عبد اللّه بن موسى الحديث المذكور الذي يوضح شأن نزول هذه الآية، فاعاد المأمون فدكا الى أبناء الزهراء، و ذريتها «1» فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وهب فدكا لابنته فاطمة الزهراء، و هذا أمر مسلم، و لا خلاف فيه بين ابناء الزهراء.

(1) و قد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس و شكاياتهم، فكانت أول ما أعطي له، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنه يدافع عن الزهراء، فقرأ المأمون الرسالة و بكى مدة، ثم قال: من هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخ كبير، و قال: أنا هو ذا، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء الى مجلس حوار و مناظرة بين المأمون و بين ذلك الشيخ، و أخيرا وجد المأمون نفسه مغلوبا محجوجا فأمر رئيس ديوانه بان يكتب كتاب ردّ فدك إلى ابناء الزهراء، فكتب ذلك

الكتاب، و وشحه المأمون بتوقيعه، و في هذه المناسبة قام دعبل الذي حضر ذلك المجلس و أنشأ شعرا هذا مطلعه:

أصبح وجه الزمان قد ضحكابردّ مأمون هاشم فدكا «2» (2) و ليس الشيعة بحاجة- في اثبات ان فدكا كان ملكا طلقا و خالصا للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الدلائل المذكورة، لأن الصدّيق الاكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام قد صرّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف اذ قال:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين و نعم الحكم اللّه» «3».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 411 عند تفسير قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الاسراء: 27 فتوح البلدان ص 46

(2) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 217.

(3) نهج البلاغة: الكتاب 45.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:425

(1)

قصة فدك بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

لقد حرمت ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العزيزة فاطمة من ملكها الخالص (فدك) بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأغراض سياسية خاصة، و أخرجوا عمالها من تلك الارض، فعمدت إلى إثبات حقّها و استرداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأولى كانت قرية فدك في يدها، و اليد دليل الملك، و لكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلا على كون فدك ملكها، خلافا لكلّ الموازين القضائية الاسلامية.

إذ لا يطلب من أيّ واحد له يد على شي ء (أي يكون ذلك الشي ء تحت تصرفه) أن يقيم دليلا على ملكيته لذلك الشي ء، و لكن الخلافة لم تعر ليد الزهراء على «فدك» أهمية، بل طالبتها بان تأتي بشاهد على

ملكيته.

و لهذا اضطرت فاطمة الزهراء عليها السّلام إلى ان تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامة كعليّ عليه السّلام و امرأة تدعى أمّ أيمن التي شهد لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأنها من نساء الجنة «1».

(2) و بعتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «رباح» حسب رواية البلاذري «2»، و لكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماما لشهادة هؤلاء الشهود، و حرم ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ملكها الذي وهبه اياها والدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كانت «الزهراء» و «علي» و ابناهما الحسن و الحسين عليهم السّلام مطهرين من كل رجس كما صرح بذلك قوله تعالى:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «3».

______________________________

(1) الاصابة: ج 4 ص 432.

(2) فتوح البلدان: ص 44.

(3) الاحزاب: 33، راجع كتاب: آية التطهير في احاديث الفريقين: ج 1 و 2.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:426

و لو أن هذه الآية شملت نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعا و يقينا، و لكن الخلافة تجاهلت- مع الأسف- حتى هذا الدليل، و اعتبر الخليفة ادعاءها ادعاء غير مشروع.

(1) و في المقابل يرى علماء الشيعة أن الخليفة الاول أذعن في نهاية الأمر لصحة رأى الزهراء و صحة ادّعائها و شرعيّته، و كتب كتابا يصرّح بأن فدكا ملك خالص للزهراء و أعطاها ذلك الكتاب، و لكن رفيق الخليفة و صاحبه لما صادف الزهراء في اثناء الطريق و عرف بأنها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب و اتى به الى الخليفة الاول و قال معترضا على شهادة علي عليه السّلام

و أم أيمن لها: ان عليا يجرّ إلى نفسه و أم أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه و خرقه «1».

هذا و يروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة اخرى اذ يكتب قائلا: ان ابا بكر كتب لفاطمة بفدك و دخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: ممّا ذا تنفق على المسلمين و قد حاربتك العرب كما ترى، ثم اخذ عمر الكتاب فشقه «2».

(2) ما قاله أحد متكلمي الشيعة، و هو ان أبي الحديد يقول: قلت لمتكلم من متكلمي الاماميّة يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: و هل كانت فدك إلّا نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، و ما قصد ابو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلا ألّا يتقوّى عليّ بحاصلها و غلّتها على المنازعة في الخلافة، و لهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي و سائر بني هاشم و بني المطّلب حقّهم في الخمس، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همته، و يتصاغر عند نفسه، و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرئاسة «3».

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 374.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 391.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 236.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:427

(1) و يكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضا: سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أ كانت فاطمة صادقة؟ قال:

نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاما

لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجأت إليه غدا، و ادّعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي ء، لانه يكون قد اسجل على نفسه على أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة و لا شهود. و هذا كلام صحيح، و ان كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل «1».

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأول، و بعد ان قضى علي عليه السّلام و تسلّم معاوية زمام الامر، وزع فدكا بين ثلاثة هم: (مروان بن الحكم و عمرو بن عثمان، و ابنه يزيد).

(2) و لما ولي الأمر «مروان» سيطر على فدك بصورة كاملة، و وهبها لابنه عبد العزيز، و اعطاها عبد العزيز لولده «عمر بن عبد العزيز» «2».

و حيث انه كان حاكما معتدل السيرة بين خلفاء بني أميّة لهذا فان أول بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من ايدي بني هاشم، و كانت بأيديهم حتى يوم انقرضت فيه حكومة الامويين.

(3) و قد اضطرب أمر فدك اضطرابا عجيبا ايام الخلافة العباسية، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها ابو جعفر من بني حسن، ثم ردّها محمّد المهدي ابنه، على ولد فاطمة عليها السّلام، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي و هارون أخوه، لاسباب سياسيه خاصة، حتى وصل الدور إلى المأمون فردها على الفاطميين اصحابها الشرعيين ضمن تشريفات

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 284.

(2) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 278.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:428

خاصة

و بصورة رسمية.

ثم اضطرب امر فدك من بعده أيضا فربما سلبت من أصحابها و ربما ردّت إليهم. و هكذا تراوحت بين السلب و الرد.

و لقد استغلّت فدك في عهد الامويين و العباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغلّ في أغراض اقتصادية.

فلقد كان الخلفاء في صدر الاسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية، مضافا إلى انهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي و لكن في العصور المتأخرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء و زادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك، و لهذا فان عمر بن عبد العزيز لما أعاد فدكا إلى بني فاطمة احتج عليه بنو أميّة و اعترضوا قائلين: هجّنت فعل الشيخين، و إن أبيت إلّا هذا فامسك الأصل و أقسم الغلّة «1».

(1)

فدك في محكمة التاريخ:

إن دراسة و تقييم ملفّ «فدك» تثبت بوضوح أن منع ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حقها المشروع كان عملا سياسيا بحتا، أي إنه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقا، و ان المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

و قد أوضحت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ اذ قالت:

هذا كتاب اللّه حكما عدلا و ناطقا فصلا يقول: و يرثني و يرث من آل يعقوب «2» و ورث سليمان داود «3» و بيّن عزّ و جلّ في ما وزّع من الأقساط و شرع من الفرائض و الميراث» «4».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 16 ص 278.

(2) مريم: 6.

(3) النمل: 16.

(4) الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 145.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:429

إن البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه، و الحديث الذي

رواه الخليفة وحده يوجب اطالة الكلام، و في امكان من يحبّ التوسع ان يراجع كتب التفسير المفصلة.

(1)

السيطرة على وادي القرى:

ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادة للاسلام في هذه المنطقة (خيبر) فقط بل رأى ان يتوجه الى وادي القرى التي كان يشكل مركزا آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدة أيام، حتى فتحها، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة «خيبر».

و بهذا طهرت أرض الحجاز من فتنة اليهود الاوغاد، و قد جرّدوا من اسلحتهم و وضعوا تحت حماية المسلمين و مراقبتهم الدقيقة «1».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 150.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:430

(1)

46 عمرة القضاء «1»

اشارة

كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع مكة، ثم يغادروها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة و كان عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلّا سلاح الراكب: السيف في القرب، ليس غير.

و الآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة، و آن الاوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية، و ان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم و وطنهم و مسقط رءوسهم، و رجّحوا الحياة في الغربة، و تحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

يتوجه مثل هؤلاء مرة اخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام و لقاء الاحباب و الأقرباء و تفقّد المنازل و البيوت التي ولدوا فيها و ترعرعوا في رحابها.

______________________________

(1) العمرة أعمال خاصة و مناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة و قد توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي

القعدة من السنة الهجرية السابعة. و سميت هذه العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلا عن العمرة التي منع النبيّ و المسلمون عنها في عام الحديبية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:431

(1) و لهذا عند ما أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يستعد من حرم من العمرة في العام الماضي للعمرة، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين، و اغرورقت دموع الفرح في عيونهم، فخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألفا شخص بدل ألف و ثلاثمائة و هم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

و كان بين الخارجين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع كبير من شخصيات المهاجرين و الأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

و ساق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه العمرة ستين بدنة و قد قلّدها «1»، و أحرم من مسجد المدينة و اتبعه الآخرون، و خرج ألفان و هم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكة.

و لقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال و المغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الاسلام و معنويته الرائعة.

(2) و لو قلنا: ان هذا السفر كان- في حقيقته- سفرا تبليغيا، و ان المشتركين فيه كانوا- في حقيقة الامر- طلائع التبليغ و الدعوة لما قلنا جزافا، فان آثار هذا السفر المعنوى ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم و عبادتهم و نظامهم الد أعداء الاسلام أمثال «خالد بن الوليد» بطل معركة أحد و عمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الاسلام، و أسلموا بعد قليل.

و حيث ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن آمنا من

غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه و يباغتوا أصحابه في أرض مكة، و يسفكوا دماء جماعة

______________________________

(1) البدنة الناقة تنحر بمكة و الجمع بدن و تقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلا فيعلم أنها هدي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:432

منهم و هم لا يحملون معهم إلّا سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحا للمسلمين- حسب المعاهدة- أن يأخذوا معهم سلاحا غير ذلك.

(1) من هنا عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحسبا لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلح الكامل، و أمرّ عليهم «محمّد بن مسلمة» و حملهم على مائة فرس سريع، و أمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى، و الاستقرار في منطقة «مرّا لظهران» قرب الحرم، ينتظرون ورود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقضية الفرسان المسلّحين المائتين، و استقرارهم في وادي «مرّ الظهران»، و أخبروا سادة قريش بالأمر.

(2) فبعثت قريش «مكرز بن حفص» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليكلموه في هذا الإجراء فاتى مكرز الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّمه اعتراض قريش و انه تعهّد- قبل ذلك- أن لا يدخل مكة إلّا بسلاح المسافر.

فأجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«لا ندخلها إلّا كذلك و لكن يكون هؤلاء قريبين منا».

و قد أفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكرزا بهذه العبارة بأن قريش لو استغلّت عدم حمل النبي و اصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم، و مدّوهم بالسلاح و العتاد.

فعاد «مكرز» و اخبر قريشا بما سمع من رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله فادركت قريش حنكة رسول الاسلام و بعد نظره، و حسن تقديره للامور،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:433

ففتحت أبواب مكة في وجه المسلمين، و خرج رءوس المشركين و أهلوهم و من تبعهم الى رءوس الجبال، و خلّوا مكة، و قالوا: لا ننظر إلى محمّد و لا إلى اصحابه، و لكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!! «1»

(1)

النبي يدخل مكة:

دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على راحلته القصواء و أصحابه متوشحو السيوف محدقون به يلبّون و هم ألفان، فدوّى صوتهم الموحّد بالتلبية في أرجاء مكة، و كانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال و الجمال بحيث بهرت كل سكان مكة، و سحرت قلوبهم و عطفها نحو المسلمين، و في نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين، و نظامهم، و التفافهم حول النبي قلوب المشركين، و لم يقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلبيته حتى استلم الركن.

فلما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى البيت و هو على راحلته و ابن رواحة آخذ بزمامها و قد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه على راحلته انشد عبد اللّه بن رواحة يقول:

خلّوا بني الكفّار عن سبيله إني شهدت أنه رسوله

حقا و كل الخير في سبيله نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله

و يذهل الخليل عن خليله «2»

(2) و طاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالبيت المعظم على راحلته، و هنا أمر

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 337 و 338.

(2) زاد المعاد: ج 2 ص 152.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:434

صلّى اللّه عليه و آله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن و نغم خاص؛

و ان يتبعه المسلمون:

«لا إله إلّا اللّه وحده وحده، صدق وعده، و نصر عبده و اعز جنده، و هزم الاحزاب وحده».

(1) كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين، المسجد، الكعبة، الصفا، المروة، و غيرها. و قد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزا للوثنية، و الشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين، و أتباعهم، ممّا كان يوحي بغلبة «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله على كل أرجاء الجزيرة العربية حتما و يقينا.

و لما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان الظهر، فصعد بلال الذي طالما عذّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اذّن لصلاة الظهر.

و لقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عدّت فيها الشهادة بالتوحيد و برسالة محمّد، ذنبا لا يغتفر، و جريمة لا ينجو صاحبها من العذاب، يردد و يردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلا فصلا في خشوع و روحانية بالغة.

(2) لقد أزعج أذان بلال المشركين و اعداء التوحيد، حتى قال «صفوان بن أميّة»: الحمد للّه الذين أذهب أبي قبل أن يرى هذا، و قال خالد بن اسيد:

الحمد للّه الذي أمات أبي و لم يشهد هذا اليوم، و لم يسمع هذا العبد الحبشيّ يقول ما يقول.

و اما «سهيل بن عمرو» فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.

إنهم لم ينزعجوا من صوت «بلال» بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة، و جعلتهم يعانون بسبب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:435

ذلك

من عذاب روحي شديد.

(1) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أراد السعي بين الصفا و المروة سمع بأن قريشا تحدثت بينها أن محمّدا و أصحابه في عسرة و جهد و شدة، و ان الذين هاجروا معه الى المدينة مرضى، و أنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه و إلى أصحابه، فهرول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى، و تبعه المسلمين و قد قال لهم قبل ذلك.

«رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» «1».

و ذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف و الهزال بسبب ظروف المهجر. و هذا إن دل على شي ء فانما يدل على امرين:

أولا: جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانيا: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان حذرا جدا فكان يبطل كل خطط العدو أولا بأول.

يقول صاحب زاد المعاد: أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم و قوتهم، و كان يكايدهم (أي يبطل كيدهم) بكل ما استطاع «2».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن، ثم قصّر من شعره، ثم خرج من إحرامه، و تبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت و انتهوا من مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم، ففعلوا.

(2) انتهت أعمال العمرة و نسكها، و ذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة أعوام، ليجدّدوا اللقاء بذويهم و أقربائهم بعد طول فراق، و استضافوا

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 309 و راجع نظيره في زاد

المعاد: ج 2 ص 152.

(2) زاد المعاد: ج 2 ص 152. و لنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة و سياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:436

جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم و تقديرا لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة، فأسكنوهم و اكرموهم في منازلهم و خدموهم سنينا عديدة.

(1)

النبي يغادر مكة:

تركت أحوال المسلمين و أوضاع الاسلام و جلال الموكب النبوي و عظمته أثرا بليغا و عجيبا في نفوس سكان مكة المشركين، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى و كاد ذلك أن «يفعل» فعلته، و يحدث انقلابا روحيا في تلك البيئة.

و لما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي و أصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة و يضعف تمسكهم بوثنيتهم، و يوجد علاقات المحبة بينهم و بين المسلمين، لهذا بعثوا أحدهم و هو حويطب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- بعد انقضاء المدّة المقرّرة للاقامة في مكة في المعاهدة- ليطلب منه مغادرة مكة قائلا:

انه قد انقضى اجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله من مقالة مبعوث قريش هذا، و لكن النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به، و لهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو و المسلمون مكة فورا.

(2) و لقد تأثرت «ميمونة» اخت أمّ الفضل زوجة العباس، بما شهدت من مشاعر المسلمين و روحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق عمّها العباس أنها ترغب في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» و تزوجها، و بهذا

قوّى علاقاته مع قريش.

ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي و المعنوي الذي تركه النبي و المسلمون في النفوس حتى أن النبي

______________________________

(1) حياة محمد: ص 401.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:437

صلّى اللّه عليه و آله لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم، و يصنع لهم طعاما يحضروه، أبوا امهاله خوفا من تعاظم تأثيره في النفوس، و قالوا له: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا «1».

(1) فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار و لم يبق بمكة إلى وقت الظهر، و خلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته «ميمونة» حين يمسي، فأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة و من معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين، و لاموا «ميمونة» على فعلها، و لكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدافع الرغبة في خلقه و سموّ أخلاقه.

و هكذا تحققت رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة بأنه دخل البيت، و حلق راسه، و نزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدث عن تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمنا عن فتح قريب،- هو فتح مكة- الذي تحقق في السنة الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه:

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 372، تاريخ الخميس: ج 2 ص 62- 65. سيد المرسلين

ج 2 437 النبي يغادر مكة: ..... ص : 436

(2) الفتح: 27.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:438

(1)

احداث السنة الثامنة من الهجرة

47 معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة، و استطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معا بيت اللّه المعظم و يعتمروا في أمان، و يردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش و زعماء المشركين امثال «خالد بن الوليد»، «و عمرو بن العاص» «1» و «عثمان بن طلحة»، فلم يلبثوا أن جاءوا طائعين راغبين الى المدينة، و اعتنقوا الاسلام و قطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلّا جسم من دون روح، و هيكل من دون حياة «2».

(2) و ذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.

و لكن هذا غير صحيح قطعا لأن «خالدا» كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش، و نحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة، و كان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط و لم يبق من نفوذ اليهود شي ء، و لم

______________________________

(1) لقد ذكر الواقدي في مغازيه: ج 2 ص 743 و 745 علة اسلام عمرو بصورة اخرى.

(2) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4 ص 252- 261.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:439

تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب، و لهذا فكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن يركز دعوته على سكان المناطق الحدودية للشام، و يستميل الى الاسلام قلوب اولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

(1) و لهذا الغرض وجّه «حارث بن عمير الازدي» مع كتاب

إلى «الحارث بن أبي شمر الغساني» ملك «بصرى» الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك، و كان يحكم من جانب قيصر.

فلما نزل مبعوث النبي «مؤتة» عرف به شرحبيل و كان حاكم المناطق الحدودية، فقبض عليه، و حقق معه، فاعترف له بانه يحمل كتابا من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق (الحارث الغساني)، فأمر بان يوثق و قدمه و ضرب عنقه صبرا مخالفا بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء و حصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك و غضب لمقتل رسوله بشدّة و ندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره و من قتله، و دعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل «الحارث».

(2)

حادثة أفجع من السابقة:

و اتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اخرى افجع من الأولى، أكّدت عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل و الدعوة، و قتلوا دون رحمة، و عذرا سفير النبي، و جماعة الدعوة و التبليغ و إليك مفصل الحادثة الثانية:

بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلا إلى منطقة «ذات أطلاح» من ارض الشام، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك

سيد المرسلين ،ج 2،ص:440

المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم، و رشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر، و افلت منهم رجل جريح من القتلى، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فتسبّب العدوان على دعاة الاسلام و قتلهم في ان يصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرا بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى، و وجّه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين، و مزاحمي دعاة الاسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعى «الجرف» فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الى ذلك المعسكر، و خطب في المقاتلين خطابا، هذا نصه:

«اغزوا بسم اللّه ادعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم و اكفف عنهم و الّا فقاتلوا عدوّ اللّه و عدوّكم بالشام، و ستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، و ستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، و لا تقتلنّ امرأة و لا صغيرا مرضعا و لا كبيرا فانيا، لا تغرقنّ نخلا و لا تقطعنّ شجرا، و لا تهدموا بيتا» «1».

(2) ثم قال: جعفر بن أبي طالب أمير الناس، فان قتل فزيد بن حارثة، فان اصيب زيد فعبد اللّه بن رواحة فإن اصيب عبد اللّه بن رواحة فليرتضى المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.

ثم امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف، و خرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى «ثنية الوداع» و هناك ودّعهم و كان المسلمون المشيعون يقولون: دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين، صالحين.

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 757 و 758.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:441

و لكن ابن رواحة أجابهم قائلا:

لكنّني أسأل الرحمن مغفرةو ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزةبحربة تنفذ الاحشاء و الكبدا

حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشد اللّه من غاز و قد رشدا «1».

(1) و أنت أيها القارئ الكريم يمكنك أن

تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد و حبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم ان الناس رأوا عبد اللّه بن رواحة لما ودع من ودع بكى، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما و اللّه ما بي حب الدنيا، و لا صبابة بكم و لكني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ يذكر فيها النار:

«وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» «2».

فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود «3».

(2)

خلاف حول من هو الامير الاول؟

لقد كتب بعض المؤرخين: أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالتبني، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللّه بن رواحة، و لكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش و زيدا و عبد اللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان:

(3) 1- ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى و العلم و المكانة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 60، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 128.

(2) مريم: 71.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 374.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:442

الاجتماعية جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار).

يقول ابن الاثير عنه: جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلقا و خلقا، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و عليا رضي اللّه عنه يصليان و عليّ عن يمينه، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك و صلّ عن يساره «1».

(1)

و جعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا إليها حفاظا على دينهم و عقيدتهم من الفتنة و هو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرا عليه آيات من القرآن عن المسيح عليه السّلام و أمه مريم، و اثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز، و هو الذي وفق لأن يخطب ودّ النجاشي و يكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش «2».

ان جعفرا هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم خيبر و قد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة و عانقه و ضمه و قبّل ما بين عينيه و بكى من فرط الشوق إليه و قال في حقه:

«بايهما اسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».

(2) إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّ عليه السّلام، بعد استشهاده شجاعته و بسالته، فعند ما سمع عليّ عليه السّلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية، و تقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليا، غضب عليّ عليه السّلام من هذا الامر و تذكر شجاعة عمّه حمزة و أخيه جعفر و قال:

لو أنّ عندي يا ابن حرب جعفرااو حمزة القرم الهمام الازهرا

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 1 ص 287.

(2) اسد الغابة: ترجمة جعفر بن أبي طالب، و غيره من المصادر في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:443 رأت قريش نجم ليل ظهرا «1». فهل مع هذه المواصفات و الجهات التي نقلنا قسما منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قيادة القوات إلى زيد و يجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.

(1) 2- ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام

الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى (مؤتة) كان «جعفر» و كان أمر المعاونة و الخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين، فهذا «حسان» شاعر عصر الرسالة انشد شعرا بعد أن بلغه استشهاد اولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه:

فلا يبعدن اللّه قتلى تتابعوابمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

و زيد و عبد اللّه حين تتابعواجميعا و أسباب المنية تخطر «2» فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الذي جاء ذكرهم، يعنى أن جعفرا كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد، ثم ابن رواحة.

(2) و ان اوضح الادلة على ذلك قصيدة «كعب بن مالك» في رثاء شهداء مؤتة، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول، و قد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته:

إذ يهتدون بجعفر و لوائه قدّام أوّلهم فنعم الأول «3» إن هذه القصائد الرثائية التي انشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة، و سلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا

______________________________

(1) وقعة صفين: ص 49.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 384.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 386.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:444

المطلب يخالف الحقيقة، و أن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع و أغراض سياسية لا مجال لذكرها، و بيانها هنا، و قد تبعهم في ذلك كتّاب السيرة و ادرجوه في كتبهم من دون تمحيص و تحقيق.

و العجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات و القصائد قال: ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة،

و ليس القائد الأعلى للجيش، و هو كما ترى تناقض مكشوف «1».

(1)

جيشا الروم و الاسلام يتواجهان:

كانت «الروم» قد اصيبت يومذاك- نتيجة الحروب العديدة و الطويلة مع منافستها ايران- بالفوضى، و الهرج و المرج الشديدين.

فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلّا أنهم قد بلغهم شي ء كثير عن شجاعة المسلمين و بسالتهم النابعة من إيمانهم و التي كسبوا عن طريقها أمجادا عظيمة، و كانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام و نشاطاتهم العسكرية.

و لهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجه جنود الاسلام الى ناحية الشام لتاديب عميله شرحبيل الغساني، أرسل جيشا عظيما و قويا لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددهم ثلاثة آلاف.

و قد اعدّ «شرحبيل» حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية و وجهه الى حدود الشام لإيقاف تقدم الجيش الاسلامي، و قد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى «مآب» من مدن البلقاء، و استقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 380.

(2) المغازي: ج 2 ص 760، السيرة النبوية: ج 2 ص 375.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:445

(1) و لقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود و المقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عددا بكثير عن هذا القدر نابعا من الانباء التي بلغت قادة الروم و الشام عن فتوحات المسلمين و انتصاراتهم الساحقة، و عن الوقوف على شجاعتهم و بسالتهم التي ذاع صيتها، و إلّا فان عشر هذا العدد، (أي عشرون ألف) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير، سواء من ناحية العتاد، أو من

ناحية المعرفة بفنون القتال و تكتيكاته العسكرية، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة و الطويلة التي دارت بين الروم و بين ايران، و عرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية و بسيطة في هذا المجال.

هذا مضافا إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي و الجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية و الاجهزة القتالية و وسائل النقل و ما شابه ذلك.

و فوق هذا و ذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها، و تقوم بدور المهاجم، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعا و هم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال و متطلبات الحرب.

و في مثل هذه الحالة يجب ان تكون القوة المهاجمة قوية جدا، بحيث يمكنها ملاقاة سلبيات الظروف غير المساعدة.

و مع هذا فإننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا و آثروا الصمود و القتال على الهروب و الفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم، و بهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجادا اخرى، و سطروا اسطرا اخرى في سجلّ بطولاتهم.

(2) منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة، و حجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية

سيد المرسلين ،ج 2،ص:446

فقال البعض: نكتب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنخبره الخبر، فإما يردنا و إما يزيدنا رجالا. و كاد هذا الرأى ان يلقى قبولا من المشاورين الآخرين لو لا أن «عبد اللّه بن رواحة» الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من اللّه ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا، شجعهم على الصمود و قال: «و اللّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، و

لا بكثرة سلاح، و لا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به، انطلقوا، و اللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّا فرسان، و يوم احد فرس واحد، و إنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا اللّه و وعدنا نبينا، و ليس لوعده خلف، و إما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان».

(1) فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين و بثت فيهم روح البسالة و المقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى «مشارف» و لكن جنود الاسلام تأخروا و انسحبوا قليلا لبعض العلل، و نزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش، جنود الاسلام إلى اقسام: مختلفة، و أمّر على كل قسم اميرا، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفا في حروب العرب، فكان على جعفر ان ياخذ اللواء بيده و يوجّه صفوف المقاتلين المسلمين، و يقاتل في نفس الوقت.

ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية و ثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده «جعفر» خلال القتال فقد أخذ يرتجز و يقول:

يا حبّذا الجنة و اقترابهاطيبة و باردا شرابها

و الروم روم قد دنا عذابهاكافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها «1»

(2) و لقد قاتل قائد الجيش الاعلى (جعفر) قتالا عظيما، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال و أيقن بالشهادة وثب الى الارض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:447

لا ينتفع به العدوّ و اخذ يقاتل، و هو آخذ باللواء بيمينه، فقطعت يمينه فاخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى لا يسقط لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الأرض حتى قتل و قد وجد به ثمانون جراحة او

تزيد!! «1».

فلما قتل «جعفر» أخذ الراية «زيد بن حارثة» معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.

فاخذ الراية «عبد اللّه بن رواحة» معاونه الثاني، ثم تقدّم بها و هو على فرسه، فجعل يقاتل و يرتجز، فاحسّ بالجوع أثناء القتال، و ألحّ عليه، فاتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه و يشدّ به صلبه، فلم يأكل منه شيئا حتى سمع صوت هجوم العدوّ، فالقى الطعام من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

(1)

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة:

و هنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين، فقد قتل القائد الأعلى للجيش و معاوناه و على الترتيب الذي ذكر.

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد تحسّب لهذه الحالة، و ترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم، فأخذ الراية «ثابت بن أقرم» و قال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح على «خالد بن الوليد» الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.

و لقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة و حساسة جدا، حيث قد تغلّب الخوف و الرعب على المسلمين كافة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل، فقد

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 761. و قد اثابه اللّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة و سمى في ما بعد بجعفر الطيار، راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:448

امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة، و الميمنة الى الميسرة، و تتأخر المقدمة الى مكان القلب، و يتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسلمون ذلك، و استمرّت هذه التغييرات

حتى طلوع الفجر.

(1) كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلا، و يذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعا و هم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين و قد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين و استئصالهم، بعد ان قتل خيرة قادتهم.

فلما كان الصبح و رأى العدو وجوها جديدة، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا: قد جاءهم مدد. فرعبوا و انهزموا فقاتلهم المسلمون، و قتلوا منهم مقتلة عظيمة، و قتل في هذا الاثناء أحد الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمت رهيب، فاستفاد من هذا الصمت و الأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.

إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشا عظيما منظما ثلاثة أيام، و بالتالي نجوا بأنفسهم، و كان تدبير الامر الجديد تدبيرا حكيما خلّص المسلمين من موت محتم، فعادوا سالمين إلى المدينة، و كان هذا ممّا يشكرون عليه، و يستحقون الثناء و الثناء «1».

(2)

الجنود يعودون الى المدينة:

و قبل ان يقدم جنود الاسلام من «مؤتة» المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم و انباء سيئة عن وضع الجيش، من هنا ذهب المسلمون الى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 381 و 388 و 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:449

منطقة الجرف لاستقبالهم.

و مع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكا حكيما الّا ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة و تنافي مشاعرهم و بسالتهم الذاتية و الاصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية و انتقادات جارحة و القوا بالتراب و الحجارة في وجوه المقاتلين العائدين، و قالوا: يا فرّار،

فررتم في سبيل اللّه؟

و قد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جدا الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته، و لا يظهر في الملأ، فكان الناس- إذا خرجوا- يشيرون إليهم بالاصابع و يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ «1».

و لقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية، كاشفة عن روح الشهامة و الجهاد التي أوجدها الايمان باللّه و الايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل و الشهادة في سبيل اللّه، أفضل من الانسحاب و التأخر.

(1)

اسطورة بدل التاريخ الصحيح:

حيث إن الامام علي بن أبي طالب عليه السّلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائدا آخر، و يمنحونه لقب سيف اللّه، و لم يكن ذلك إلّا خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة «مؤتة» بسيف اللّه «2»

و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 765.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 382، السيرة الحلبية: ج 2 ص 79.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:450

اخرى لما كان للبحث و النقاش مجال.

(1) و لكن الاوضاع بعد معركة «مؤتة» ما كانت توجب بل و لا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا اللقب، فهل من يرأس فريقا يسميه المسلمون الفرّار، و يحثون في وجوههم التراب يحسن أن يعطي في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل؛ لو أنّ خالدا كان مظهرا لسيف اللّه في غزوات و معارك اخرى امكن القبول بذلك، أما في

هذه العركة فلم يكن مظهرا لسيف اللّه، و لم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلّا تكتيك نظاميّ حكيم، و لما وصف هو و من معه بالفراريون، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلا: فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، و انكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين «1».

إن مختلفي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضا: قال خالد: لقد اندق يومئذ (أي يوم مؤتة) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية «2».

ان مختلق هذه الكذبة غفل تماما عن أن خالدا و جنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة و لو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلما ذا سمّاهم أهل المدينة بالفرّار؟ او لما ذا حثوا التراب في وجوههم؟ و لما وقع الناس في خالد بعينه «3»، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود، و يقربوا بين أيديهم القرابين ابتهاجا بعودتهم الظافرة و اعجابا بعملهم الجبار!!

(2)

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر:

لقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقتل ابن عمه «جعفر» بشدة

______________________________

(1) الطبقات: ج 2 ص 129، امتاع الاسماع: ج 1 ص 349.

(2) اسد الغابة: ج 2 ص 94.

(3) السيرة الحلبية: ج 3 ص 68 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:451

و لكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها، فقال لاسماء:

ايتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم و شمهم، ثم ذرفت عيناه ثم بكى، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت و بكت ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى اهله و قال:

«لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم».

و كان

كلما تذكر جعفرا و زيد بن حارثة بكى «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 54، المغازي: ج 2 ص 766 و السيرة الحلبية: ج 3 ص 68، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 351.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:452

(1)

48 غزوة ذات السلاسل

اشارة

منذ أن هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و أصبحت «المدينة» مركز الإسلام و قاعدته، و موضع تمركز المسلمين و عاصمتهم، ظلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراقب أوضاع أعداء الاسلام، و يرصد تحركاتهم، و مؤامراتهم، و كان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصّلة عن المتآمرين من المشركين و غيرهم اهتماما كبيرا، و يعمد دائما إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم- بمختلف الحجج- إلى نواحي مكة، و بثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسس أخبارهم، و التعرف على نواياهم، و تدابيرهم.

و لقد استطاع النبي صلّى اللّه عليه و آله بفضل الاطّلاع المبكّر و الدقيق على المؤامرات التي كانت تحاك ضدّه أن يفشّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يباغت العدوّ، و يحاصره قبل أن يتحرك من مكانه، عن طريق المجموعات العسكرية التي كان يقودها بنفسه، أو التي كان يؤمّر عليها أحد أركان جيشه و يوجّهها صوب مكان تجمع العدو، فيفرّقون جمعهم، و يشتتون شملهم، و يقضون على المؤامرة في مهدها، و بهذا كان الكيان الاسلامي في أمن من خطر الأعداء، و كان هذا العمل و هذا التدبير يجنّب الطرفين المزيد من إراقة الدماء، و إزهاق الأرواح.

(2) إنّ الاطّلاع المبكّر على أسرار العدوّ العسكرية، و معرفة حجم طاقاته، و مبلغ استعدادته، و اكتشاف خططه، و تكتيكاته يعدّ من العوامل الجوهرية، و المؤثرة في

سيد المرسلين ،ج 2،ص:453

الظفر و الانتصار.

فللدّول الكبرى اليوم أجهزة طويلة و عريضة، و

تشكيلات واسعة، و معقّدة لإعداد و تخريج الجواسيس البارعين، و إرسالهم إلى النقاط و المراكز المطلوب اكتشاف أسرارها، و التعرف على أوضاعها و خصوصياتها، و ترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض «1».

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من ابتكر في تاريخ الاسلام هذا العمل في صورته المنظّمة، و تبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءوا من بعده، و بخاصّة الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يستعين بجواسيس و عيون كثيرين في مجالات مختلفة، عسكرية، و إدارية.

فكان عليه السّلام إذا نصب واليا على بلد، جعل عليه عينا يراقب أعماله و تصرّفاته، و يخبر الإمام بها أوّلا بأوّل، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي، و يوبّخه على تصرفاته و انحرافاته إن بلغه شي ء من ذلك «2».

(1) و لقد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين، بالتوجّه تحت إمرة «عبد اللّه بن جحش» إلى موضع معين، و النزول فيه، للتعرف على نشاطات قريش، و مؤامراتهم.

و قد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في معركة «احد» و خروجه المبكّر من المدينة بقواه، و جنوده، و النزول في منطقة مناسبة عسكريا خارجها، و حفره المبكّر أيضا للخندق المعروف في شمال المدينة، و الذي منع العدو (جيش الأحزاب) من اقتحام المدينة المنوّرة، كل ذلك كان نابعا من معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسبقة و الدقيقة بأسرار العدوّ، و نواياه،

______________________________

(1) راجع: كتاب: المخابرات و العالم و غيره.

(2) راجع: نهج البلاغة قسم الرسائل و الكتب، رقم 33 و 45 و كتاب الغارات.

هذا و قد بحثنا موضوع الاستخبارات و التجسس في النظام

الاسلامي بصورة مسهبة في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:454

و حجم قواته، و بالأرض، و ذلك عن طريق عيونه و جواسيسه الاذكياء اللبقين، اليقظين الذين كانوا يرصدون- بدقة و باستمرار- أوضاع العدوّ، و تحركاته، و ينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد، و صيانتها من خطر السقوط.

(1) إنّ هذا التدبير الذكيّ، و الطريقة الحكيمة التي ابتكرها و أخذ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعتبر أكبر درس للمسلمين اليوم، و دائما.

و لهذا يتوجب على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكل ما يحاك- في بلاد الاسلام او في غيرها من بلاد العالم- من مؤامرات ضدّ المسلمين، و ما يدبّر من خطط لتقويض دعائم الاسلام، و يبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها، و قبل اشتعالها، و أن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله ليحصلوا على ذات النتيجة، و لا شك أنّ مثل هذا العمل لا يتيسّر من دون أجهزة مناسبة، و من دون تشكيلات خاصّة.

و لقد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة «ذات السلاسل» الذي هو موضوع بحثنا الآن، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة التي حصل عليها عن العدوّ.

و لو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أغلق على نفسه هذا الباب لتحمّل خسائر لا تجبر، و لتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الاسلامية لخطر الفشل و الإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة:

(2) لقد أبلغ العيون و عناصر المخابرات الاسلامية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن آلافا من الناس قد تحالفوا و

تعاقدوا في ما بينهم في منطقة تدعى ب: «وادي اليابس» على التوجّه إلى المدينة المنوّرة للقضاء على الاسلام بكل ما لديهم من قوة، فإمّا أن يقتلوا في هذا السبيل، أو يقتلوا «محمّدا» أو فارسه البطل الفاتح

سيد المرسلين ،ج 2،ص:455

«علي بن أبي طالب»!!

(1) و يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: «نزل جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بقصتهم، و ما تعاقدوا عليه و تواثقوا» «1».

غير أنّ شيخ الشيعة و محققهم الكبير المرحوم «الشيخ المفيد» (المتوفى عام 413 ه) يقول: بأنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل «2» للتآمر عليه، و على الاسلام، (و اضاف) بأنهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة «3».

فرأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يطلع المسلمين على هذا الأمر، فأمر مؤذنه بان ينادي: الصلاة جامعة و هي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة و استماع أمر مهمّ و ذي بال.

فعلا مؤذن النبي صلّى اللّه عليه و آله مكانا مرتفعا و نادى: الصلاة جامعة، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم رقى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المنبر و قال في ما قال:

«أيّها الناس، إنّ هذا عدوّ اللّه و عدوّكم قد عمل على أن يبيّتكم فمن لهم؟».

(2) فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر، و أمّر عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر، فتوجه أبو بكر بتلك المجموعة إلى قبيلة «بني سليم»، و لما سار بهم مسافة واجه أرضا خشنة و كانت قبيلة «بني سليم» تسكن في شعب واسع، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون ان ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنو سليم

و قاوموهم، فلم ير قائد المجموعة بدّا من الانسحاب بمجموعته و الرجوع بهم من حيث أتى!!

______________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 2 ص 334 سورة العاديات.

(2) يحتمل أن يكون وادى الرمل هو وادى اليابس نفسه. و ذلك للمناسبة بين الوصفين.

(3) الارشاد: ص 86.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:456

(1) يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: قالوا (أي بني سليم لابي بكر): ما أقدمك علينا؟

قال: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أعرض عليكم الاسلام فان تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم، و عليكم ما عليهم، و إلّا فالحرب بيننا و بينكم.

فهدّده زعماء تلك القبيلة- و هم يباهون بكثرة رجالهم و مقاتليهم- بقتله و قتل من معه، فارعب لتهديدهم و عاد بجماعته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغم أن أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذا لأوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله!!

و لقد أزعجت عودة الجيش الاسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأمر عمر بن الخطاب أن يتولى قيادة تلك المجموعة و يتوجه بها إلى «وادي اليابس»، ففعل عمر ذلك.

(2) و لكن العدوّ كان قد ازداد- هذا المرة- يقظة و تحسبا فكمن عناصره عند فم الوادي، و اختبئوا وراء الاحجار و الاشجار بحيث يرون المسلمين، و لا يراهم من المسلمين أحد.

و لهذا خرجوا على المسلمين بغتة عند ما حلّ الجيش الاسلامي بذلك الوادي، و قابلوهم ببسالة و شجاعة، فأمر قائد المجموعة الاسلامية أفراده بالانسحاب، و عاد بهم إلى المدينة مهزوما مذعورا كسابقه، فلقي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء، و الكراهية.

(3) و هنا قال عمرو بن العاص

و كان من دهاة العرب و ساسته الماكرين، و قد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام: ابعثني يا رسول اللّه إليهم، فإن الحرب خدعة، فلعلّي أخدعهم!

فانفذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع جماعة و وصّاه فلما صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه، و قتلوا من أصحابه جماعة!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:457

(1)

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية:
اشارة

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين و أحزنتهم بشدة فعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تنظيم مجموعة جديدة و اختار لقيادتها «عليّ بن أبي طالب»، و أعطاه راية.

و طلب عليّ عليه السّلام من زوجته «فاطمة» بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تأتي له بالعصابة التي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة، فتعصّب بها، فحزنت «فاطمة» لمنظر زوجها و هو يتوجه بمثل هذه الصورة إلى «وادى اليابس» للقيام بأمر خطير، و بكت إشفاقا عليه، فسلّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هدّأها، و مسح الدموع عن عينيها «1».

ثم انّه صلّى اللّه عليه و آله شيّع عليّا حتى بلغ معه مسجد الأحزاب، و عليّ راكب على فرس أبلق، و قد لبس بردين يمانيّين، و حمل رمحا هنديا بيده.

ثم توجّه عليّ عليه السّلام بأفراده نحو الهدف، إلّا أنه سلك طريقا غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ، حتى أن الذين خرجوا معه تصوّروا أنه يقصد العراق، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام حينما وجّهه لهذه المهمة:

«أرسلته كرارا غير فرّار».

إن تخصيص «عليّ» عليه السّلام بهذه الجملة يكشف عن أن القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط، بل كان انسحابهم مقرونا بالهزيمة القبيحة.

(2)

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة:

هذا و يمكن أن نلخّص عوامل انتصار الامام عليّ عليه السّلام في هذه الموقعة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 81، الارشاد: ص 87.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:458

في ثلاثة امور اساسية هي:

(1) 1- أنه عليه السّلام أخفى مسيره و وجهته على العدوّ، فلم يشعر العدوّ بوجهته و مقصده، لأنّه غيّر مسيره حتى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان البادية.

(2) 2- أنه

عليه السّلام اتّبع مبدءا هامّا من مبادئ العمل العسكري، و استخدم تكتيكا مهمّا من التكتيكات الحربية و هو: مبدأ الكتمان و التستّر، فقد كان عليه السّلام يسير بأفراده ليلا، و يكمن نهارا، يستريح خلاله.

و هكذا حتى دنا من ارض العدوّ، و قبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول و الاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة، و لكي لا يحسّ العدو بمجيئهم من جهة اخرى.

و لهذا السبب الأخير نفسه أمر عليه السّلام جنوده بان يكمّوا أفواه خيولهم حتى لا يشعر العدوّ بوجودهم بصهيلها.

و عند الفجر صلّى «عليّ» عليه السّلام بجنوده صلاة الصبح، ثم صعد بهم الجبل حتى وصل إلى القمة، ثم انحدر بهم- بسرعة فائقة- إلى الوادي حيث يسكن «بنو سليم» فاحاطوا بهم و هم نيام، فلم يستيقظوا إلّا و قد حاصرهم المسلمون، فاسروا منهم فريقا، و فرّ آخرون.

(3) 3- شجاعة «عليّ» عليه السّلام و بسالته النادرة فهو الذي قتل الشجعان الاربعة المعروفين في تلك الموقعة فارعب العدو إرعابا شديدا فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ عليه السّلام ففرّ تاركا وراءه شيئا كثيرا من الغنائم «1».

و لقد عاد بطل الاسلام الظافر إلى المدينة بفتح لا سابق له، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جماعة من أصحابه لاستقباله، و استقبال من معه من جنود الاسلام.

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفى: ص 222- 226، مجمع البيان: ج 10 ص 538.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:459

و ما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى ترجّل من فرسه فورا، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يربت على كتفه:

«اركب فانّ اللّه و رسوله عنك راضيان».

(1) و في هذه اللحظة

بالذات اغرورقت عينا «عليّ» عليه السّلام بالدموع استبشارا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأن «عليّ» عليه السّلام قولته المعروفة:

«يا عليّ لو لا أنّي اشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك» «1».

و لقد بلغت تضحية «عليّ» عليه السّلام و بسالته، و شجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات التي يقول سبحانه فيها:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً».

إن القسم بخيول الغزاة المغيرين صبحا، و المشعلين بحوافرها شرارات الفتح و الانتصار.

إنّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريم رائع لبطولات جنود الاسلام في هذه العملية الظافرة، و اكبار بروحهم القتالية العالية.

(2)

اعتراض و جواب

هذا و لقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان

______________________________

(1) الارشاد: ص 84- 86.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:460

و الأقسام في القرآن الكريم و قال ساخرا: و ما ذا يعني القسم بالخيول الضابحة، العادية، و الشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

و لقد غاب عن هذا الملحد أن القسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة إنما إشعار بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

(1) إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون- في نظر الاسلام- بمنزلة رفيعة و مكانة عالية، بل خيولهم التي تحملهم في هذا الجهاد المقدّس، و كذا الشرارات التي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة و الأهمية أيضا.

و أية قيمة- ترى- أعلى من محاربة الظالمين الجائرين، و انقاذ البشرية من براثن ظلمهم و جورهم، و من حيفهم و

عسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء و ما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات، و الوسائل مقدّسون جميعا، لأنهم يحررون- بجهادهم- الانسان من قيود الطغاة، الظالمين، و يمهّدون لحاكمية اللّه في الأرض، و اى هدف أعلى و اعظم قدسية من هذا الهدف؟

و لقد دعا القرآن الكريم المؤمنين- من خلال تقديس خيول المجاهدين و ضبحهم و عدوهم و شرارات حوافرهم- إلى العناية بالجهاد دائما، و إلى تجميع قواهم، و الاستعداد لكسر القيود التي ترزح على أيدي البشرية و أرجلها و عقولها، و الى تحطيم القلاع التي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها.

أجل؛ إن فرق التحرير و الجهاد الاسلامية لا تستحق وحدها التقديس و الاكبار بل تستحق خيولها و مراكبها، و شرارات حوافرها التقديس كذلك.

و لقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات و الطائرات فهي مقدسة أيضا، كما كانت خيول الغزاة و المجاهدين في عصر الرسالة، كما و أن أزير محركاتها، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاس الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة لأنها تحقق ذات الهدف، و نفس الغاية المقدسة و هي: تحرير الانسان من براثن الظلم و الطغيان.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:461

(1) هذا هو ملخص غزوة «ذات السلاسل» التي سجّلها و ضبطها مفسّرو الشيعة، و مؤرّخوهم، و رووها بإسناد صحيحة.

غير أن مؤرّخي أهل السنة كالطبري «1» روى هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عما ذكرناه هنا، اختلافا شاسعا.

و لا يبعد أن يكون «ذات السلاسل» اسما لغزوتين نقل كل واحد من الفريقين: «السنّة و الشيعة» واحدة منها، و اعرض عن ذكر الاخرى لأسباب خاصة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 315، السيرة الحلبية: ج 3 ص 190 و 191، و المغازي: ج 2 ص 769- 774.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:462

(1)

49 فتح مكّة

اشارة

قصة «فتح مكّة» من

قضايا التاريخ الاسلامي الجديرة بالمطالعة و التأمل، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس و عبر، و لكونها تعكس- بصدق و جلاء- أهداف رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله المقدّسة، كما تكشف عن أخلاقه العالية، و سيرته الحسنة، و اسلوبه الانساني مع الصديق، و العدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله من صدق و وفاء، كما يتبيّن صدق أصحابه، و وفاؤهم، و احترامهم لكلّ ما تعهدوا، و التزموا به للخصم في معاهدة «صلح الحديبية»، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش، و خيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح، و بالتالي نقضهم للعهد و بالتالي عدم احترامهم لأيّ شي ء من الالتزامات!!

(2) إنّ دراسة هذا الفصل تثبت لنا حنكة النبي، و حسن تدبيره، و سياسته الحكيمة في فتح أصعب و آخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر، المتصلب في شركه، و كفره، و المتمادي في عناده و تعسّفه، و كأنّ هذا الرجل الالهيّ قد أمضى شطرا من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا، فهو يخطط افضل من أي قائد محنّك قدير، للفتح، و يكون تخطيطه من الدقة و المتانة، و العمق و الحكمة، بحيث يصيب المسلمين فتحا عظيما بأقلّ قدر من المتاعب و المشاكل.

و بالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الاسلامي الوجه الانسانيّ الرحيم الذي كان يتسم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يحرص على دماء

سيد المرسلين ،ج 2،ص:463

أعداء الرسالة الالداء، و أموالهم، و يسعى إلى حفظها و صيانتها، كما لو كانوا أصدقاء لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة، و بعد مدى واسع، و رؤية مستقبليّة عميقة عن قريش، و يغفر لهم

جرائمهم و أذاهم و يصدر عفوا عامّا لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيرا في أسبابه، و علله، و في ظروفه و ملابساته.

و إليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيل فتح مكّة:

(1) لقد قرأنا في ما مضى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد في السنة السادسة معاهدة صلح مع قريش، نصّت المادة الثالثة منها على: أنّ لكل من قريش و المسلمين أن يتحالفوا مع من شاءوا من القبائل، فتحالفت «خزاعة» مع المسلمين، و تعهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم و أموالهم و أنفسهم كلما تعرّضوا لخطر، و طلبوا ذلك.

و تحالفت قبيلة «بني كنانة»- و كانوا من أعداء خزاعة التقليديين- مع قريش.

و لقد تم كل هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي، و السلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.

و لقد تعهّد الطرفان- في هذه المعاهدة- بأن لا يقوم أي واحد منهما بعمليات عسكرية و تحركات عدائية، لا ضدّ الآخر، و لا ضدّ حليف الطرف الآخر، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

و لقد انقضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة، و عاش الجانبان في هذه الفترة في سلام و رفاه، و أمن و استقرار إلى درجة أنّ المسلمين استطاعوا- بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة، أن يزوروا- بكامل

سيد المرسلين ،ج 2،ص:464

حريتهم- بيت اللّه الحرام، في مكة المكرمة، و يؤدوا مناسك العمرة أمام عيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين و هي العمرة التي سميّت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

(1) و لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر

جمادى الاولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه، إلى تخوم الشام و حدودها، لمعاقبة و تأديب المتمردين و الجناة من ولاة الروم و عمّالهم فيها، و بالضبط أولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام- الذين ابتعثهم صلّى اللّه عليه و آله للدعوة و التبليغ- من دون ذنب أو جرم.

و الجيش الاسلامي و إن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة، و يخرج منها بسلام، من دون أن تكلّفه تلك المواجهة خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش- على ما مر في قصة غزوة مؤتة- إلّا أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنود الاسلام المجاهدون، بل كانت العملية في هذه المعركة اشبه ما تكون بعملية الكرّ و الفرّ.

و قد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش و سراتها، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم (أو انعدمت) روح الفروسية و الاقدام، و روح الشجاعة و البسالة.

(2) من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن و الهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية الحديبية، فبادرت- أوّلا- إلى توزيع الاسلحة على قبيلة «بني بكر» من كنانة، و إلى تحريضهم على أن يبيّتوا «خزاعة» المتحالفين مع المسلمين، فيغيروا عليهم ليلا، و يقتلوا فريقا، و يأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريش بهذا، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة، و بذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية، و أخلّوا عمليا بالأمن و السلام، و أحلّوا الفوضى و القتال، مكان الاستقرار و الهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:465

(1) أجل، لقد حملت «بنو بكر» و من ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على «خزاعة»

ليلا، و كان بعضهم نياما، و البعض الآخر يتهجد و يعبد اللّه ليلا، فقتلوا من خزاعة جماعة، و أسروا آخرين، و غادر- منهم- فريق منازلهم تحت جنح الظلام، و لجئوا إلى مكة التي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها، و دخل الذين لجئوا إلى الحرم دار «بديل بن ورقاء» «1» و شكوا إليه ما حلّ بهم على ايدي رجال قريش، و حلفائهم من بني كنانة ليلا، من قتل و أسر و تشريد!!

(2) كما وعد المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فارسلوا رئيسهم: «عمرو بن سالم» فقدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوقف عليه و هو صلّى اللّه عليه و آله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس، و أخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك و تحريض من قريش، و أنشد أبياتا يستغيث فيها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذ قال:

يا ربّ إني ناشد محمّداحلف أبينا و أبيه الا تلدا

فانصر هداك اللّه نصرا أعتداو ادع عباد اللّه يأتوا مددا

فيهم رسول اللّه قد تجرداإن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبداإنّ قريشا اخلفوك الموعدا

و نقضوا ميثاقك المؤكّداو جعلوا لي في كداء رصدا

هم بيتونا بالوتير هجّداو قتلونا ركّعا و سجّدا و قد كان «ابن سالم» يعيد البيت الأخير و يكرّره إثارة لمشاعر المسلمين، و يكرّر عبارة: قتلنا و قد أسلمنا.

______________________________

(1) كان بديل من شخصيات «خزاعة» من ذوي السن و الشرف فيهم، و كان يعيش في مكة، و كان له من العمر آنذاك 97 عاما (أمالي الطوسي: ص 239).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:466

(1) فانزعج رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قريش لغدرها و نقضها للعهد، و وعد «خزاعة» بالنصرة، و قال:

«نصرت يا عمرو بن سالم».

و قد أفاض هذا الوعد القاطع و القوي حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة: «عمرو بن سالم» اذ قد تيقّن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سينتقم لخزاعة ممن غدروا بها و بيتوها، و فتكوا بأبنائها، و بخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة، و اشعلت شرارة هذه الفتنة، و بالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء، و لكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة، و تقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية، و القضاء عليها إلى الأبد!!

و لم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «بديل بن ورقاء» في جماعة من «خزاعة»، و أخبروه بما فعلته قريش و بنو بكر من قتل فتيان خزاعة، ثم عادوا قافلين إلى مكة.

(2)

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ:

ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة و مساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة، و أدركت للتوّ، بأنّ هذا الذي صنعته هو نقض للمدّة و العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لن يدع هذه الجريمة النكراء تمرّدون ردّ قاطع و حاسم، و لهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها «أبي سفيان بن حرب بن أميّة» إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تسكين غضبه و تاكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة، و التقى في «عسفان» بديل بن ورقاء الخزاعيّ و هو عائد من المدينة،

فسأله: هل كان في المدينة؟ و هل أخبر محمّدا بما أصاب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:467

خزاعة؟

فقال بديل: لا، و لكني سرت في بلاد كعب و خزاعة في قتيل كان بينهم، فأصلحت بينهم.

قال هذا، و واصل سيره باتجاه مكة.

(1) و لكن أبا سفيان عمد- لمعرفة ما إذا كان بديل عائدا من المدينة أولا- إلى أبعاد لإبل «بديل» و جماعته، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فايقن بأن القوم كانوا في المدينة و أنهم جاءوا محمّدا، و أخبروه بما جرى.

قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته «أم حبيبة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوته أم حبيبة عنه، فقال: يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّي؟!

قالت: بل هو فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنت رجل مشرك نجس، و لم أحبّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و في امتاع الاسماع أن ابا سفيان لما دخل على ابنته أم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فطوته دونه و قالت: أنت امرؤ نجس مشرك!

فقال: يا بنيّة! لقد أصابك بعدي شرّ.

قالت: هداني اللّه للاسلام، و أنت يا أبتي سيد قريش و كبيرها، كيف يسقط عنك دخولك في الاسلام و أنت تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر!!

قال: يا عجباه! و هذا منك أيضا! أ أترك ما كان يعبد آبائي، و اتّبع دين محمّد!؟

(2) أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة و قاد جيوشا ضد الاسلام طيلة عشرين عاما تقريبا، و كانت تربطه بام حبيبة رابطة

الابوة و البنوة الوثيقة، و لكن حيث إن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام، و نشأت في مدرسة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:468

التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جدا حتى أنها رجحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية، و ميولها الشخصية.

(1) لقد أنزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجئوها و ملاذها الوحيد في المدينة، فخرج من منزلها فورا، حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكلّمه حول تجديد العهد، و استمراره، فلم يرد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلّى اللّه عليه و آله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أن يقنعوه بتجديد ميثاق الصلح، و لكن دون جدوى.

و أخيرا دخل على «علي بن أبي طالب» و عنده فاطمة الزهراء عليها السّلام و الحسن و الحسين و هما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال: يا علي، أنك أمسّ القوم فيّ رحما، و إني جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ عليه السّلام: ويحك يا أبا سفيان، و اللّه لقد عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه.

فالتفت إلى فاطمة- و هو يحاول إثارتها عاطفيّا- فقال: يا ابنة محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

(2) و لما كانت فاطمة (عليها السّلام) تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت: ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّهما صبيان و ليس مثلهما يجير «1».

فقال أبو سفيان:

يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت عليّ، فانصحني.

فقال علي عليه السّلام: ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين

______________________________

(1) امتاع الأسماع: ج 1 ص 359.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:469

الناس (أي تعطي الأمان للمسلمين) ثم الحق بأرضك.

(1) فقال أبو سفيان: أ و ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: لا و اللّه، ما أظنّه، و لكني لا أجد لك غير هذا.

فقام أبو سفيان في المسجد، و كان يثق بصدق عليّ في نصيحته، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس.

ثم ركب بعيره، و أنطلق راجعا إلى مكّة، و أخبر سادة قريش بما صنع، و ذكر نصيحة «عليّ» إياه، فقال: إنّ عليّا نصحني أن اجير الناس، فناديت بالجوار.

فقالوا: فهل أجاز ذلك محمّد؟

قال: لا.

قالوا: ويلك و اللّه ما زاد الرجل (و يقصدون عليّا) على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، لأن النبي لم يجز أمانه، و ما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود.

ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلسا من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين، و يثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عزمه «1».

(2)

جاسوس يكتشف!

إنّ تاريخ رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يكشف عن انه صلّى اللّه عليه و آله كان يسعى دائما الى أن يقنع العدوّ بالحق، و يجعله يستسلم لمنطق الدين، و لم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ و أبادته.

ففي الكثير من الغزوات و المعارك التي شارك فيها صلّى اللّه عليه و آله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو، و إفشالها، و تشتيت شمله، و تفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالاسلام

______________________________

(1) الغازي: ج 2 ص

780- 794، السيرة النبوية: ج 2 ص 389- 397، بحار الأنوار: ج 21، ص 102.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:470

و المسلمين، فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعرف جيدا أنه لو ازيلت الموانع و رفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطق الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ، و كان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات، و يقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام، و انتشاره، لو جرّدوا من أسلحتهم، و انهيت حالة الحرب بينهم و بين الاسلام، و تركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية، و سمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة و هدايتها، و لاستجابوا لنداء الضمير، و صاروا من أنصار الاسلام، و مؤيديه المخلصين الأوفياء.

(1) و لهذا السبب كانت الجماعات و الاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة و التعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء و الصخب، تنجذب إلى الاسلام، و ترغب فيه، و تعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.

و قد تجلّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن و هو فتح مكة بصورة أكمل و أقوى، فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدرك جيّدا لو أنّه فتحت مكة، و جرّد العدوّ من السلاح و وفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت و الاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي و المناهض للاسلام بشدة، من أنصار هذا الدين، و من المجاهدين الصادقين، الساعين في نشره.

و لهذا يجب التغلب على هذا العدوّ، و كسر شوكته، و لكن يجب عدم إفنائه و إبادته، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء، و ازهاق

الارواح ما أمكن.

(2) و لأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة (الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء) استخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اسلوب مباغتة العدوّ.

فقبل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه، و يجمع قواه، و يستعدّ للمواجهة، كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحاصر العدوّ في أرضه، و يجرّده من سلاحه، و يجهض محاولته، و مؤامرته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:471

(1) على أنّ مبدأ «مباغتة العدو» إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طى الكتمان، و تمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة، بحيث لم يعرف بها العدوّ، بل لا يعرف العدو أساسا هل ينوي النبي صلّى اللّه عليه و آله الهجوم عليه، أو لا، و على فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحدا شيئا عن موعد تحرك الجيش الاسلامي، و وجهته، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ «مباغتة العدو».

و لقد أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التعبئة العامة لفتح مكة، و تحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية و ازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدم الدعوة الاسلامية، و انتشارها و توسعها، و قد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش و جواسيسهم فلا يعرفوا بشي ء عن حركة المسلمين و مقصدهم اذ قال:

«اللّهم خذ العيون و الأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها».

أو قال:

«اللّهم خذ على قريش أبصارهم، فلا يروني إلّا بغتة، و لا يسمعون بي إلّا فجأة» «1».

(2) فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة، و داخلها.

و يذكر المؤرخون جدولا تفصيليا بالطوائف و القبائل التي شاركت في هذا

الفتح العظيم، و إليك ما ذكروه:

المهاجرون: سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل و ثلاثة ألوية.

الأنصار: أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل، و ألوية كثيرة.

قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، و مائة درع، و لواءان.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 397، المغازي: ج 2 ص 796.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:472

قبيلة جهينة: ثمانمائة مع خمسين فرسا، و أربعة ألوية.

قبيلة بني كعب: خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

و كان بقية الجيش من قبائل غفار، و اشجع، و بني سليم «1».

(1) و يقول ابن هشام: كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة، و يقول بعضهم: ألف، و من بني غفار أربع مائة، و من أسلم أربع مائة، و من مزينة ألف و ثلاثة مائة نفر، و سائرهم من قريش، و الأنصار و حلفاءهم و طوائف العرب من تميم، و قيس و أسد «2».

و لتحقيق مبدأ المباغتة و الكتمان وضعت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قبل عناصر الحكومة الاسلامية، كما روقب بشدة تردّد المارة و المسافرين بواسطة الحرس «3».

و بينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بأنّ أحد البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش، يخبرهم فيه بتوجّه النبي و أصحابه إلى مكة، و أنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى «سارة»- و كانت مغنية من مغنيات مكة- لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.

(2) و لقد كانت «سارة»- كما أسلفنا- مغنية بمكة، تغنّي لأهل مكة، و ربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضا، و قد تعطّل عملها بعد معركة «بدر»، و مقتل جماعة من رجال قريش، و

دخول الحزن في كل بيوت مكة، فلم تعد تستطيع أن تغنّي و تطرب، من ناحية، و من ناحية اخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا، و لا يقيموا المآتم و المناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 800، امتاع الاسماع: ج 1 ص 364.

(2) السيرة النبوية: ج 4 ص 63.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 130. و امتاع الاسماع: ج 1 ص 361.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:473

غيضهم على «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الذين قتلوا رجالا من قريش في بدر.

(1) من هنا تركت «سارة» مكة بعد عامين و قدمت المدينة، و عند ما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمجيئها إلى المدينة سألها: هل أسلمت؟ فقالت:

لا، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و لما أتيت إلى المدينة؟ فقالت: إنّي مولاتكم، و قد أصابني جهد، و أتيتكم أتعرّض لمعروفكم «1».

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكسيت و حملت و جهّزت.

و مع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه و رحمته و لكنها خانت النبي و المسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الاسلام و المسلمين بأخذ كتاب «حاطب بن بلتعة» و اخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم، مفشية بذلك سرّا للمسلمين، تضيع- على أثره- جهود النبي صلّى اللّه عليه و آله و تفشل خطته!!

(2) و لما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الاشاوس هم علي و المقداد و الزبير، ليدركوا المرأة الخائنة، على طريق مكة و يأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشا

ممّا أجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليه.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى «روضة الخاخ» «2» فاستنزلوها، و فتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي عليه السّلام.

«إني أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا كذبنا، و لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 136، امتاع الاسماع: ج 1 ص 362 و 363.

(2) و قال ابن هشام: فادركوها بالخليقة (ج 2 ص 399).

(3) السيرة النبوية: ج 4 ص 41، و ذكر مؤلف الامتاع شخصين فقط هما الامام على و الزبير (ج 1 ص 362).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:474

(1) و لما رأت تلك المرأة هذا الجدّ من علي عليه السّلام و كانت تعرف أن عليّا لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالت: أعرض، فأعرض عليّ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فانزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفعل «حاطب» و كان من المسلمين السابقين، فدعاه من فوره و قال له عاتبا و مستفهما: يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه و برسوله أنه لم يقصد شرا، و قال: يا رسول اللّه، أما و اللّه إني لمؤمن باللّه و رسوله، ما غيّرت و لا بدّلت، و لكنّي كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل و لا عشيرة، و كان لي بين أظهرهم ولد و أهل فصانعتهم عليه!!

(2) و يستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب

المهاجرين و عوائلهم، و يؤذونهم، و لا يتركون أذاهم إلّا إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

و هذا الاعتذار و ان كان غير وجيه، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين، غير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصفح عنه، و خلى سبيله لمصالح معينة منها: سابقة «حاطب» في الإسلام.

إلّا أنّ «عمر بن الخطاب» طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يضرب عنقه، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«و ما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطّلع يوم بدر على أصحاب بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1».

و لكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر و الاثيم أنزل اللّه سبحانه قرآنا بهذا الشأن في عدة آيات اذ يقول:

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 363 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:475

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1».

النبي يتحرك باتجاه مكة:

(1) أخذا بمبدإ «المباغتة» كتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله موعد الحركة، و وجهتها، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على وجه التحديد «2».

______________________________

(1) الممتحنة: 1- 6، راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 399، مجمع البيان: ج 9 ص 269 و 270.

(2) المغازي: ج 2 ص 802، الامتاع: ج 1 ص 362 قال: و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس بالجهاز و طوى عنهم الوجه الذي يريد، فظانّ يظنّ أنه يريد الشام و ظان يظنّ ثقيفا و ظان يظن هوازن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:476

و في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوامره بالخروج، و كان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد و التهيؤ للخروج.

(1) ثم إنه استخلف على المدينة

رجلا من بني غفار يدعى «أبا رهم» ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لما كان صلّى اللّه عليه و آله بمكان يدعى «الكديد» طلب شيئا من الماء امام المسلمين، و افطر به في تلك الساعة من النهار، و امر الجند بان يفطروا اقتداء به هم أيضا.

فافطر اكثر المسلمين، و أمسك البعض و لم يفطر ظنا بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل، و اكبر أجرا، و لم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين، بان النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي أمر بالافطار في شهر رمضان في تلك الحال، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضا

فاذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائد حق و دليل سعادة فانه- في كلتا الحالتين- يريد سعادة الناس، و ينشد خيرهم، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره، و لا يطاع في نهيه.

و هذا غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر و قال عنهم: «اولئك العصاة»!! «1».

و أمرهم بأن يفطروا قائلا: «إنكم مصبحوا عدوّكم، و الفطر أقوى لكم».

(2) إنّ مثل هذا التقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلّا نوع من الانحراف عن الحق، و هو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية، المتمردة عن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و لهذا نزل فيه قرآن يلومهم، و يوبّخهم على عصيانهم إذ قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 7 ص 124، السيرة الحلبية: ج 3 ص 90، المغازي: ج 2 ص 802.

(2) الحجرات: 1.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:477

(1) هذا و قد كان «العباس بن عبد المطلب» من المسلمين الذين بقوا في مكة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتجسس له الأخبار، و يطلعه على نوايا قريش، و خططهم أوّلا بأوّل.

و قد تظاهر العباس- بعد فتح خيبر- بإسلامه، و لكنه بقي محافظا على علاقاته بسادة قريش و زعمائها، فقرّر أخيرا أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين، فغادر مكة متوجها إلى المدينة، و صادف خروجه مسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مفيدا للجانبين: (قريش و المسلمين) فلو لم يكن العباس، و نشاطاته السياسية، الذكيّة، لما تيسّر فتح مكة من دون مقاومة قريش، و من دون إراقة دماء و إزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات و الظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي، الذي سنأتي على ذكره قريبا.

(2)

العفو عند المقدرة:

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشرفة، و اخلاقه الحميدة، و صدقه و أمانته، طوال حياته من الامور الواضحة المعلومة عند أقربائه، و أبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثما، و لم يفكر في ذنب، و لم ينو الاعتداء على أحد، و لم يقل بلسانه سوءا و لا قبيحا، و لا خان في امانة، و لا افشى سرا و لا تخلف عن فضيلة.

و لهذا

استجاب لدعوته- في الايام الاولى من دعوته العامة- الاكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، و التفّوا حوله، و تحمّلوا الدفاع عنه، و دعم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:478

مواقفه.

(1) و لقد اشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، و اعتبرها دليلا على طهارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقه و نزاهته، فهو يقول: مهما كان المرء متكتّما متسترا على أعماله و أفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه و أقربائه، و لو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه، و لما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة «1».

نعم يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستجابة لدعوته، و يمكن الاشارة- في هذا المجال- بعد أبي لهب المعروف بل و المصرح بعداوته في القرآن- إلى «أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب» و «عبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة» اللذين خاصما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عارضا دعوته بشدة، و لم يكتفيا بعدم الايمان برسالته، بل منعا من انتشار الحق، و آذيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشدّ الأذى و ألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.

(2) و لقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخاه من الرضاعة، و كان يألف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، و لكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة، و بنى على مخالفته و معاداته «2».

و أما عبد اللّه بن أبي اميّة فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و ابنة عبد المطلب.

و لقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة و يلتحقا بالمسلمين.

(3) فقد خرجا قبيل الفتح من مكة، فلقيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في أثناء الطريق- و على وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب،

______________________________

(1) الأبطال: لكارليل الانجليزى.

(2) المغازي: ج 2 ص 806 و 807.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:479

و النبي قاصد مكة، فاستأذنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليدخلا عليه، و أصرّا على ذلك، فابى النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لهما.

(1) و قد وسّطا أمّ سلمة، و طلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يرضى عنهما، فكلّمته فيهما، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبى و قال:

«لا حاجة لي بهما، أما ابن عمّي فهتك عرضي و أما ابن عمّتي و صهري فهو الذي قال بمكة ما قال» «1».

و لما كان «عليّ» عليه السّلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخلاقه، و بطريقة استعطافه، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه السّلام أن يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل وجهه فيقول:

«قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» «2».

فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم:

«قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «3».

لأنه صلّى اللّه عليه و آله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.

(2) ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي

عليه السّلام و دخل من الطريق الذي بيّنه له، فعفا عنه رسول اللّه كما فعل يوسف باخوته، فانشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عما سبق منه، قال فيها:

______________________________

(1) فهو ممن اقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة امورا غير معقولة، و قد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات: 90- 93 من سورة الاسراء راجع مجمع البيان: ج 6 ص 439 و اسد الغابة: ج 5 ص 213 و 214.

(2) يوسف: 91.

(3) يوسف: 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:480 لعمرك إني يوم أحمل رايةلتغلب خيل اللات خيل محمّد

فكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين اهدى فأهتدي «1» (1) و يكتب «ابن هشام» في سيرته قائلا: قال أبو سفيان و معه ابنه، لما أعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه و أبى أن يأذن له: و اللّه ليقبلنّي، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الارض حتى أهلك عطشا و جوعا و أنت أحلم الناس مع رحمي بك» «2».

و قد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد كلّمته في أبي سفيان: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه أ لم تقل: أنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهما، و أذن لهما، فدخلا، و قبل اسلامهما «3».

(2)

تكتيك رائع لجيش الاسلام:

تقع «مرّ الظهران» على بعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة، و قد قاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه العظيم (و قوامه عشرة آلاف) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.

و مع أنّ عيون قريش و جواسيسها كانت تتجسّس الأخبار و كان هناك من يعمل لصالح قريش، و لكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن

يعرفوا شيئا عن نوايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هدفه.

و لما وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مشارف مكّة عمد- لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة و فتحها، و يتسنّى لهم تحطيم صرح الوثنية من دون إراقة الدماء- إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران

______________________________

(1) الاصابة: ج 4 ص 90، و اسد الغابة: ج 5 ص 213 و 214.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 402.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 114 و 115.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:481

فوق الجبال و التلال، و للمزيد من تخويف سكان مكة و الإظهار بمظهر القوة أمر بأن يشعل كل واحد من الجنود النار وحده، في شريط طويل على الأرض.

(1) كانت قريش و حلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة، بينما كانت النيران من جهة اخرى قد غطت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم، و لفت أنظارهم.

و في هذا الاثناء كان بعض سادة قريش ك: «أبي سفيان بن حرب» و «حكيم بن حزام» و غيرهما قد خرجا من مكة يتجسّسون الأخبار.

ففكّر «العباس بن عبد المطلب» الذي لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من منطقة الجحفة، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنود الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يقتل جمع كبير من قريش، و لهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليّ لصالح الطرفين، و يقنع قريشا بالتسليم، و عدم المقاومة.

(2) فركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله البيضاء و توجه صوب مكة ليخبر قريشا بمحاصرة مكة من قبل جنود الاسلام، و يخبرهم بكثرة عددهم،

و بمبلغ شجاعتهم و إصرارهم على تحقيق أهداف النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان و بديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانا قط و لا عسكرا، فيقول بديل: هذه و اللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ و أقلّ من ان تكون هذه نيرانها و عسكرها.

فصاح العباس بأبي سفيان و قال: يا أبا حنظلة.

فقال أبو سفيان: يا لبيك، أبو الفضل ما لك؟

فقال العباس: هذا رسول اللّه في عشرة آلاف من المسلمين.

فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية، فقال و هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:482

يرتجف، و تصطكّ اسنانه من الفزع: فما الحيلة فداك أبي و أمي؟

(1) فقال العباس: اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستأمنه لك.

فركب أبو سفيان خلف العباس، و رجع صاحباه (حكيم و بديل) إلى مكة.

و لقد كان مسعى العباس- كما ترى- في مصلحة الاسلام كله، فقد أرعب شيطان قريش، و زعيمها و عقلها المدبّر أبا سفيان، و كان موفقا في هذه الخطوة جدا بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلّا في التسليم، و إلقاء السلاح و الكفّ عن المقاومة، بل و منعه العباس من العودة إلى مكة، في نفس الليلة (ليلة فتح مكة) و أخذه معه إلى معسكر المسلمين بغية تقييده، و منعه من العودة مكة، إذ كان من المحتمل جدا أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معا خطة لمواجهة جيوش الاسلام، فيقع- حينئذ- ما لا يحمد عقباه، من سفك الدماء، و ذهاب الأنفس و

الارواح.

(2)

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي:

دخل العباس- و هو على بغلة بيضاء و قد اردف خلفه أبا سفيان- في معسكر المسلمين، و هو يقصد خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال نيران المسلمين التي أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بإشعالها، و كان كلّما مرّ بنار من نيرانهم قالوا: عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا يمنعون من مروره، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء و رأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همّ بقتله في المكان، و لكن عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أجار أبا سفيان في الحال، و منع بذلك عمر من إلحاق الأذى به، و هو في جواره.

و أخيرا وصل العباس برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فترجّلا، فاستأذن العباس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للدخول مع أبي سفيان عليه فاذن لهما، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس و عمر بين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:483

يدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حول أبي سفيان و كان عمر يقول: أبو سفيان عدوّ اللّه فلا بد أن يقتل، و لكن العباس كان يقول: يا رسول اللّه إنّي قد أجرته، فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دابر هذه المناقشة عند ما قال:

«اذهب يا عبّاس إلى رحلك، فاذا أصبحت فاتني به».

فذهب العباس بأبي سفيان إلى رحله، فبات عنده ليلته كما أمر، فلما أصبح غدى به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خيمته قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«ويحك يا أبا

سفيان؛ أ لم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلّا اللّه؟».

فقال أبو سفيان: بأبي أنت و أمي ما أحلمك، و أكرمك، و أوصلك و اللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه آله غيره، لقد أغني عنّي شيئا بعد.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه»؟

قال: بأبي أنت و أمي ما أحلمك، و أكرمك، و أوصلك، أما و اللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا!!

فغضب العباس من شك أبي سفيان، و لجاجته و عناده فقال له: ويحك، أسلم و اشهد أن لا إله الّا اللّه، و أن محمّدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك.

فشهد أبو سفيان شهادة الحق، فاسلم و دخل في عداد المسلمين.

(2) أن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوّ من الرعب و التهديد و إن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و يطلبه دينه الحنيف، و لكنّ مصالح معيّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ، و ينزاح اكبر مانع من طريق الدعوة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:484

الاسلامية، لأنّ رجالا مثل «أبي سفيان» و «أبي جهل» و «عكرمة» و «صفوان بن أميّة» و غيرهم، كانوا قد أوجدوا جوّا من الرعب و الخوف في مكة استمرّ أعواما عديدة، فلم يكن يجرأ أحد من المكيّين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام، أو يظهر رغبته في اعتناقه، و الانضواء تحت لوائه.

(1) فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ و السطحيّ مفيدا من حيث الواقع، و لكنه كان مفيدا جدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله، و للذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان و نفوذ زعامته من جماهير مكة، و بالتالي لمن كانت له علاقات قربى معه.

و مع ذلك لم يسمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمنا- و حتى مع إظهاره الاسلام- من جانبه قبل أن يتمّ فتح مكّة، و لهذا أمر صلّى اللّه عليه و آله عمّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليبصر عظمة القوات الاسلامية، و كثافتها قائلا:

«يا عبّاس احبشه بمضيق الوادي عند خطم الجبل (أي انفه) حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها».

ثم إن العباس قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا.

(2) و استجاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الطلب، و مع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الّب ضدّه طيلة عشرين عاما، و أثار في وجه دعوته الحروب و الفتن الكثيرة، و وجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام و المسلمين، فمنحه- رغم ذلك و لمصالح خاصة- مقاما، و قال كلمته التاريخية في حقه ... تلك الكلمة التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و سمو روحه، و عمق حكمته اذ قال:

«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:485

و من أغلق بابه فهو آمن.

و من دخل المسجد فهو آمن.

و من طرح السلاح فهو آمن» «1».

(1)

مكة تستسلم من دون إراقة دماء:

تقدّم جيش التوحيد العظيم نحو مكة، حتى أصبح على مقربة منها.

و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عازما على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء، و

إزهاق أرواح، و أن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

و كان من العوامل التي ساعدت على تحقيق هذه الغاية- مضافا إلى عامل التكتم و التستّر و مبدأ المباغتة- أنّ العباس عمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله توجّه إلى مكة كداعية صلح و وسيط سلام بين قريش و النبي صلّى اللّه عليه و آله فكان أن أتى بأبي سفيان الى معسكر الاسلام كما أسلفنا، و بذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان، و لم يكن في مقدور سادة قريش أن يتخذوا قرارا حاسما من دون أبي سفيان.

(2) و عند ما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الاسلام الفريدة و أظهر الاسلام، رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستفيد منه لإرعاب المشركين اكثر قدر ممكن، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بام عينيه حشود المجاهدين من المسلمين- كما أسلفنا- في وضح النهار مع كامل عدّتهم و اسلحتهم، و نظامهم و قوتهم، فيخبر قريشا بذلك، فيزيدهم خوفا و رهبة، فينصرفوا عن فكرة مقاومة الجيش الاسلامي عند دخوله الى مكة.

و فعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله فحبس أبا سفيان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 400 و 404، مجمع البيان: ج 10 ص 554- 556، المغازي: ج 2 ص 816- 818، شرح نهج البلاغة الحديدي: ج 17 ص 268.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:486

حيث أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان، و كانت بعض قطعات الجيش الاسلامي على النحو التالي:

(2) 1- كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد، و فيها لواءان، أحدهما مع «عباس بن مرداس»، و الآخر مع «المقداد».

(3) 2- فوجان

قوامهما خمسمائة مقاتل بقيادة «الزبير بن العوام» الذي كان يحمل معه لواء أسودا، و كان اكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

(4) 3- فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة «أبي ذر الغفاري» و كان لواؤه معه.

(5) 4- فوج قوامه اربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة «يزيد بن الخصيب» و معه لواؤه.

(6) 5- فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة «بشر بن سفيان» و رأيته معه.

(7) 6- كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني مزينة، فيها ثلاثة ألوية، لواء مع النعمان بن مقرن، و لواء مع بلال بن الحارث، و لواء مع عبد اللّه بن عمر.

(8) 7- كتيبة قوامها ثمانمائة مقاتل من جهينة، فيها أربعة ألوية، لواء مع «معبد بن خالد» و «سويد بن صخرة» و «رافع بن مكيث» و «عبد اللّه بن بدر».

(9) 8- فوجان قوامهما مائتا مقاتل من بني كنانة، و بني ليث و ضمرة، بقيادة «أبي واقد الليثي»، و كان لواؤهما معه.

(10) 9- فوج قوامه ثلاثمائة، مقاتل من بني أشجع، و فيها لواءان أحدهما بيد «معقل بن سنان» و الآخر مع «نعيم بن مسعود» «1».

______________________________

(1) لقد سجّل المؤرخ الاسلامي الشهير «الواقدي» عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه «المغازي»:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:487

(1) و عند ما كانت هذه القبائل و القطعات تمرّ، سأل أبو سفيان العباس عن اسمها، و خصوصياتها، فكان العباس يوضح له كل ذلك.

و الذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالا و عظمة أن قادة هذه الافواج و الكتائب كانوا اذا مرّوا على العباس و أبي سفيان كبّروا ثلاثا بأعلى أصواتهم و بشكل منظّم، و كبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد و منظم أيضا كأكبر شعار اسلامي.

و لقد كان لهذه التكبيرات الهادرة التي

كانت تدوّي في وديان مكة، و تردّدها الجبال و الوديان، أكبر الاثر في نفوس الاصدقاء و الاعداء، فكانت تزيد بهيبتها و جلالها من محبة الاصدقاء للنظام الاسلامي العظيم، بينما ترهب أعداء اللّه، و تغرقهم في خوف و رعب شديدين.

هذا و كان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة التي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا كان يسأل العباس كلما مرّت قطعة من قطعات الجيش الاسلامي: أ فيها محمّد؟ أو ما مضى بعد محمّد؟!

(2) فيقول العباس: لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله رأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة.

و بينما هما كذلك إذ طلعت كتيبة عظيمة قوامها خمسة آلاف مقاتل، فيها ألفا دارع فقط، فيها الرايات و الألوية الكثيرة، فيها المهاجرون و الانصار، مع كل بطن و قبيلة من قبائل الأنصار راية و لواء، و كانت تسمى كتيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخضراء لأن أفرادها كانوا في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، و قد ركبوا الخيول العربية الاصيلة، و الحمر من الإبل، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وسطها راكب على ناقته القصوى، و قد أحدق به كبار الشخصيات من

______________________________

- ج 3 ص 800 و 801 و ص 819 بشكل دقيق، و قد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 17 ص 270 و 271.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:488

المهاجرين و الانصار، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحدّثهم.

فارعبت عظمة هذه الكتيبة أبا سفيان، بشدة، حتى أنه قال للعباس من دون اختيار: ما لأحد بهؤلاء قبل و لا طاقة يا أبا الفضل! و اللّه

يا ابا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.

فقال له العباس- بنبرة موبّخة-: ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.

فليس هذه العظمة و الجلال من أثر الملك المادّي الدنيوي إنما هو هو فعل الرسالة الالهية، إنه جلال النبوة، و انه بالتالي من فضل اللّه عزّ و جلّ الذي أدخل الاسلام في قلوب هذه الجماهير المؤمنة، و هذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

(1)

أبو سفيان يرجع إلى مكة:

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة، فقد أرعب أبو سفيان من قوة الاسلام العسكرية الكبرى، و لهذا رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكة قبل دخول جنود الاسلام فيها، فيخبر أهلها بعظمة و قوة الجيش الاسلامي القادم إليهم، و يحذّرهم من مغبة المقاومة و المواجهة، و يدلهم على طريق الخلاص و النجاة، و هو التسليم للأمر الواقع، و القاء السلاح، و الاستسلام من دون قتال و مقاومة، و من دون قيد و شرط، لأن بمجرد تخويف أهل مكة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليتحقق هدف النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و هو الفتح من دون دماء.

(2) فدخل أبو سفيان مكة، و قد بات الناس ليلتهم في رعب شديد، و ترقّب رهيب حتى أصبحوا، و لم يكن بامكانه أن يقرّروا شيئا من دونه، فلما رأوه قادما أحاطوا به، فاخذ يشير الى ناحية المدينة، و قد اصفرّ وجهه، و انهارت قواه و صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، أو قال:

هذا محمّد في عشرة آلاف فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. و من ألقى السلاح فهو آمن، و من دخل المسجد

فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:489

على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة التي أعلنها للجوء الناس إليها حتى يأمنوا من القتل، موضعا آخر، حيث عقد لابي رويحة «عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي» لواء و أمره أن ينادي:

«من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» «1».

(1) و قد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكة بشدة حتى أنهم انصرفوا عن فكرة المقاومة، لو كانت، و أثمرت جهود العباس و مساعيه في الليلة الفائتة، و أصبح فتح مكة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي و عند من ينظر الى واقع الامور، أمرا مسلّما و قطعيا.

ففزع الناس، و تفرّقوا، و لجأ بعضهم إلى دورهم، و البعض الآخر الى المسجد، و أسدى أعدى أعداء الرسالة و نعني أبا سفيان، و نتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم، أكبر خدمة لجنود الاسلام، حيث مهّد لهم- بما أوجده في نفوس المكيين و قلوبهم من هزيمة نفسية- طريق الفتح العظيم بسلام، و من دون مشاكل تذكر، اللّهم إلا «هند» زوجة أبي سفيان التي كانت تحرّض الناس على المقاومة، و راحت تشتم زوجها و تسبّه باقذع الشتائم و السباب، و تتهمه بالجبن و الذل.

بيد أنّ الأمر كان قد قدر، و لم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة، و لم تكن تلك الكلمات و الأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

(2) و نظير هذا الذي فعلته هند، ما فعله و قام به بعض الزعماء المتطرفين مثل «صفوان بن أميّة» و عكرمة بن أبي جهل» و «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش في صلح الحديبية، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن

يعملوا على منع قوات الاسلام من دخول مكة، و انخدع بهم فريق من البسطاء و المغفلين، فشهروا السلاح في وجه أول قطعة من قطعات الجيش الاسلامي، و سدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 379.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:490

يائسة لتحقيق مآربهم.

(1)

القوات الاسلامية تدخل مكة:

و قبل ان تدخل قوات الاسلام مكة كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد دعا جميع قادة و امراء جيشه و قال لهم بانه يريد ان يفتح مكة من دون إراقة أيّة دماء، و لهذا امرهم ان لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم، إلّا أنه أمر بقتل عشرة و ان وجدوا تحت أستار الكعبة و هم: «عكرمة بن أبي جهل» و «هبار بن الاسود» و «عبد اللّه بن أبي سرح» و «مقيس بن حبابة الكندي» و «الحويرث بن نقيذ» و «عبد اللّه بن خطل» و «صفوان بن أميّة» و «وحشي بن حرب» قاتل حمزة.

و «عبد اللّه بن الزبعرى» و «حارث بن طلالة» و اربع نسوة و كان كل واحد من هؤلاء قد قتل أحدا او ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة او حرب ضدّ الاسلام و المسلمين «1».

و قد بلغ الأمراء و القادة هذا الأمر إلى جنودهم كافة، و مع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف مسبّقا بمعنويات المكيين المنهارة، و عدم قدرتهم على المقاومة، إلا أنه- مع ذلك- لم يترك جانب الاحتياط و الحذر الذي يفرضه العمل العسكري، عند دخول مكة، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

(2) فقد وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجيشه كله إلى «ذي طوى» (و هو موضع مرتفع كانت ترى منه بيوت مكة و منازلها) و هو في كتيبة قوامها

خمسة آلاف، فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منازل مكة اغرورقت عيناه بدموع الشوق و الحنين، فانحنى تواضعا للّه تعالى و شكرا، حتى رأى ما رأى من فتح اللّه، و كثرة المسلمين حتى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرجل أو يقرب منه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 410، تاريخ الخميس: ج 2 ص 90- 94 و قد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبه هذه الجماعة المهدورة دماؤها و ما آل إليه أمرهم بعد فتح مكة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:491

(1) و مراعاة لجانب الحذر و الاحتياط فرّق صلّى اللّه عليه و آله جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكة من أسفلها، و أمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها، و لم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بان تدخل من جميع المداخل و الطرق المؤدية إلى داخل مكة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الاسلامي و قطعاته و كتائبه و فرقه مكة من دون قتال و من دون ان تلقى من أهلها مقاومة، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم الّا المدخل الذي دخل منه «خالد بن الوليد» بفرقته، فقد عمد جماعة من المكيين بتحريض من «عكرمة» و «صفوان» و «سهيل» على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين، و رموا بالنبل لمنعهم من دخول مكة، و وقع قتال بين الجانبين، و لكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شي ء من القتال و المقاومة، و فرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصا «1».

(2) و مرة اخرى قام أبو سفيان و من حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الاسلام في هذه الحادثة، فانه كان لا يزال مرعوبا ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الاسلامية و قوتها و

كان يعلم ان المقاومة لا تجدي نفعا و لا تجرّ على أهل مكة إلّا الضرر، و لهذا نادى بأعلى صوته- حقنا للدماء-: يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، و من وضع السلاح فهو آمن ... فلا يدفع محمّدا شي ء، فضعوا اسلحتكم، و ادخلوا في بيوتكم، و اغلقوا عليكم أبوابكم او ادخلوا المسجد، تسلموا.

(3) فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور، و يغلقون عليهم، و يطرحون السلاح في الطرقات حتى يأخذها المسلمون، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

و لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على «ثنية أذاخر» نظر إلى لمعان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 408، و حسب المغازي: ج 2 ص 825- 826 قتل ثمان و عشرون رجلا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:492

السيوف و هي تصعد و تهبط فقال: «ما هذه البارقة؟ أ لم أنه عن القتال»؟

فقيل: يا رسول اللّه، خالد بن الوليد قوتل، و لو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «قضى اللّه خيرا».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مكة من ناحية أذاخر، و هي أعلى نقطة في مكة في موكب عظيم جليل، فضرب له قبة من أدم بالحجون (عند قبر عمّه العظيم أبي طالب) ليستريح فيها، و قد أصرّوا عليه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينزل في بعض بيوت مكة فأبى صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1)

كسر الاصنام و غسل الكعبة:

لقد استسلمت مكة التي كانت مركزا رئيسيا للشرك و الوثنية طوال أعوام عديدة و مديدة، أمام قوات التوحيد الظافرة، و سيطر جنود الاسلام على جميع نقاط تلك المدينة المقدسة.

و لقد استراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله في الخيمة التي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم انه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن اطمأنّ و اغتسل ركب راحلته «القصواء» و توجّه الى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم و الطواف به، بينما كان يحمل معه السلاح، و المغفر على رأسه، و تحيط به هالة من العظمة و الجلال، و يحدق به المهاجرون و الانصار، و قد صفّ له الناس من المسلمين و المشركين، بعض يغمره الفرح و السرور، و آخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

(2) و لما انتهى صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة فرآها و معه المسلمون تقدّم على راحلته، و لم يترجّل منها لأسباب خاصة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده، و كبّر فكبّر المسلمون لتكبيره، و رجّعوا التكبير حتى ارتجّت مكة لتكبيرهم

______________________________

(1) الامتاع: ج 1 ص 380.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:493

و دوّى صوتهم في الجبال و الوهاد، و سمعه المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد و قد بلغ من هياج المسلمين، و هم يطوفون بالبيت من شدة سرورهم جدا كاد أن يمنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الطواف بالبيت بفكر هادئ فاشار إليهم صلّى اللّه عليه و آله أن اسكتوا، فسكت الجميع بأمره، و ساد الصمت كل أرجاء المسجد الحرام، فطاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالبيت على راحلته، و قد أخذ بزمامها «محمّد بن مسلمة» و فيما احتبست الاصوات في الصدور، و اتجهت الأبصار إليه صلّى اللّه عليه و آله فوقعت عيناه الشريفتان- في الشوط الأول من طوافه- على الاصنام الكبرى «هبل» و «اساف» و «نائلة» منصوبة فوق الكعبة، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده و يقول: «جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» فيقع الصنم لوجهه.

(1) و أمر صلّى اللّه عليه و آله بهبل اكبر أصنام المشركين فحطم و كسر في مرأى من المشركين، و لقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية، و يسيطر على أفكارهم أعواما عديدة.

و لما كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان و كان ينظر إلى ذلك المشهد: يا أبا سفيان لقد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه يوم «احد» في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم.

فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.

(2) و لما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد، و الناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى «عثمان بن طلحة» يأتيه بمفتاح الكعبة، و كان عثمان يومذاك سادن الكعبة، و قد كانت السدانة تتوارث جيلا بعد جيل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمرك أن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:494

تأتي بمفتاح الكعبة، فاستجاب عثمان، إلّا أنّ امّه منعته عن ذلك، و كان المفتاح يومئذ عندها و قالت له: اعيذك باللّه أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه.

(1) فقال لها عثمان: فو اللّه لتدفعنّه إليّ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك، فسلّمته إياه. سيد المرسلين ج 2 494 كسر الاصنام و غسل الكعبة: ..... ص : 492

تح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به باب الكعبة و دخل البيت، و دخل من بعده صلّى اللّه عليه و آله اسامة بن زيد

و بلال و عثمان و سادتها، ثم أمر النبيّ باغلاق باب الكعبة، و وقف خالد بن الوليد على الباب يذبّ الناس عن الباب.

و كانت جدران الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء و الملائكة و غيرهم، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحوها جميعا، و غسلها بماء زمزم.

(2)

عليّ عليه السّلام على كتف النبيّ:

يقول المحدّثون و المؤرّخون: لقد كسرت بعض الأصنام الموضوعة في الكعبة على يد «عليّ بن أبي طالب» و ذلك عند ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام:

«اجلس».

فجلس إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منكبي ثم قال: انهض بي إلى الصنم ... فحاول أن ينهض فلم يطق.

فلما رأى النبي ضعفه تحته، قال:

«اجلس».

فجلس عليّ عليه السّلام ثم نزل النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه، ثم جلس صلّى اللّه عليه و آله ثم قال:

«يا عليّ اصعد على منكبي».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:495

(1) فصعد عليّ عليه السّلام على منكبه، ثم نهض به فالقى صنم قريش الاكبر، و كان من نحاس، ثم ألقى بقيّة الاصنام إلى الارض و حطّمها.

و قد أنشد شاعر الحلة الشهير بابن العرندس، و هو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكرها فيها هذه الفضيلة بقوله:

و صعود غارب أحمد فضل له دون القرابة و الصحابة أفضلا «1» ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بان يفتح باب الكعبة فوقف على الباب، و أخذ بعضادتى الباب فاشرف على الناس بطلعته المنيرة و محياه الجميل و قال:

«الحمد للّه الّذي صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده».

(2) و لقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده الى مسقط راسه

اذ قال: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد قل ربّي اعلم من جاء بالهدى و من هو في ضلال مبين» «2».

و قد أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له، و برهن مرة اخرى على صدقه، و صحة دعواه.

و في ما كان الصمت يخيّم على أرجاء المسجد الحرام، و في ما كانت الانفاس محتبسة في الصدور، و تجول في رءوس الحاضرين و انفسهم أفكار مختلفة، و خواطر شتى، و يتذكر أهل مكة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اتباعه من الأذى و العذاب الشديد، فتذهب بهم تصوراتهم مذاهب شتى!!

(3) إن الذي سبق لهم أن اشعلوا حروبا كثيرة ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قتلوا خيرة شبابه و أصحابه، بل و تمادوا في غيهم و عدوانهم حتى أنهم تآمروا

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 1 ص 84 باسناد صحيح، السيرة الحلبية: ج 3 ص 86. تاريخ الخميس:

ج 2 ص 86 و 87، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 367، و راجع بقية المصادر في موسوعة الغدير: ج 7 ص 10- 13.

(2) القصص: 85.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:496

لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلا، و تقطيعه بالسيوف إربا إربا، ها هم الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته، و هو صلّى اللّه عليه و آله قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

(1) إن من الطبيعي أن يتحدث أهل مكة في أنفسهم و هم يتذكّرون معاداتهم الشديدة و الطويلة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جرائمهم الكبرى بحقه، و بحق دعوته و يقول بعضهم: أنه سيقتلنا حتما، أو يقتل فريقا منا، و يحبس آخرين، و

يسبي ذريتنا و نساءنا، جزاء ما فعلنا.

و بينما كانوا- في تلك اللحظات- فريسة هذه الافكار و التصورات الشيطانية، كسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدار الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المسجد الحرام و قال سائلا:

«ما ذا تقولون ... و ما ذا تظنون؟!».

فقال أهل مكة: و قد تملّكتهم حيرة شديدة، و خوف عظيم و هم قد عرفوا رحمة النبي و رأفته، و لطفه لطفه، و خلقه العظيم: نقول خيرا، و نظن خيرا، أخ كريم، و ابن أخ كريم، و قد قدرت.

فقال رسول اللّه و نبي الرحمة صلّى اللّه عليه و آله، و قد سمع هذه العبارات العاطفية:

فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف «قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم و هو أرحم الراحمين» «1».

(2) و كان أهل مكة قد اطمأنّوا إلى عفو النبي و صفحه قبل ذلك نوعا ما عند ما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عند ما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكة من احدى مداخلها:

اليوم يوم الملحمةاليوم تسبى الحرمة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 835، بحار الأنوار: ج 21 ص 107 و 132 و الآية المذكورة هي 92 من يوسف.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:497

فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الشعار و قال ردا عليه:

«اليوم يوم المرحمة» «1» (1) كما أنه أمر- لغرض تأديب من أطلق هذا الشعار- بأخذ اللواء منه، و أعطاه إلى شخص آخر، و قيل إنّه صلّى اللّه عليه و آله عزله عن قيادة المجموعة، و أمرّ ابنه مكانه، و كان هذا الأمير هو سعد بن عبادة رئيس الخزرج.

و قد دفع هذا النوع من اللطف و الموقف الايجابي الذي لاحظه أهل مكة

المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة، خاصّة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان، أو ألقى السلاح، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كل هذه الامور كانت قد فتحت على أهل مكة بصيصا من الأمل في العفو الشامل.

(2)

النبي يعلن عن العفو العام:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن عن العفو العام عن جميع أهل مكة بقوله:

«ألا لبئس جيران النبيّ كنتم، لقد كذّبتم، و طردتم، و أخرجتم، و آذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني اذهبوا فانتم الطلقاء» «2».

(3)

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة:

ثم حان وقت صلاة الظهر، فعلا مؤذن الاسلام «بلال» الحبشي سطح الكعبة المعظمة، و رفع في الحاضرين و بصوت عال نداء التوحيد و الرسالة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 821 و 822.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 106، السيرة النبوية: ج 2 ص 412.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:498

(الأذان)، فكان كل واحد من المشركين يقول كلاما، غضبا و حنقا على بلال.

فمنهم من قال: الحمد للّه الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا البوم!!

و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء!! «1».

(1) إن هذا العجوز الخرف المعاند الذي لم يشرق في قلبه نور الإسلام حتى آخر لحظة من حياته، خلط بين مسألة الاطلاع على الغيب، و تلقّي الحقائق عن طريق الوحى، و بين مسألة التجسس الذي يعتمده جبابرة العالم و طغاته.

إن مسألة اطلاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على قضايا الغيب أمر يحصل بطرق غير عادية و لا متعارفة، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الامور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية، أو من يسمّون برجال المخابرات و الأمن.

و على كل حال فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا «عثمان بن طلحة» و ردّ إليه مفتاح الكعبة، و قال له:

«هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر و وفاء» «2».

و روي أنه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«خذوها يا بني أبي طلحة

تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلّا ظالم» «3».

(2) و لم يكن غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فإن النبي الذي بعثه اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الامانة- فيما يدعوهم إليه- و ليبلّغهم قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» من المسلّم أن يكون أول من يلتزم بهذا التعليم الالهي، فيعيد مثل تلك الامانة الكبرى إلى صاحبها.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 413.

(2) و (3) السيرة النبوية: ج 2 ص 412، المغازي: ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:499

إنه لم يكن بالذي يهضم حقوق الناس و يدوسها، في ظل ما أوتي من قوة، و يقول للناس بكل صراحة: «خذوها يا بني أبي طلحة، تالدة خالدة لا ينزعها أحد منكم إلا ظالم».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألغى جميع مناصب الكعبة التي كانت في الجاهلية إلّا ما كان نافعا للناس كالسدانة و الحجابة (و هي القيام بشئون أستار الكعبة) و سقاية الحجيج «1».

(1)

النبي يتحدث إلى أقاربه:

و لكي يعرف أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله أن وشيجة القربى التي تربطهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ترفع عن كاهلهم أيّة مسئولية من المسئوليات، بل تزيد من مسئوليتهم ألقى فيهم خطابا خاصا بيّن فيه أن رابطة القربى مع النبي صلّى اللّه عليه و آله لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الاسلامية، و يتخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة و غطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

و لقد شجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه

هذا الذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم و بني عبد المطلب، كل تمييز، و تفضيل غير صحيح، و دعا إلى لزوم العدل و مراعاة المساواة، بين جميع الطبقات اذ قال:

(2) «يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب إنّي رسول اللّه إليكم، و إنّي شفيق عليكم، لا تقولوا: إنّ محمّدا منّا، فو اللّه ما أوليائي منكم و لا من غيركم إلّا المتقون فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم و يأتي الناس يحملون الآخرة.

ألا و إني قد أعذرت فيما بيني و بينكم، و فيما بين اللّه عزّ و جلّ و بينكم و إن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21، ص 132.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:500

لي عملي و لكم عملكم» «1».

(1)

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام:
اشارة

كان الاجتماع الذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكة اجتماعا عظيما جدا.

المسلمون و المشركون، و الصديق و العدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع، و كانت تجلل هالة من عظمة الاسلام و عظمة نبيه الكريم صلّى اللّه عليه و آله رحاب ذلك المكان المبارك، و كان الصمت و الهدوء، و حالة من الانتظار و الترقب، تخيم على اجواء مكة.

لقد آن الأوان- الآن- لأن يكشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة و يوقف ذلك الحشد الهائل المتعطش على معالم رسالته العظمى، و مبادى دينه الحنيف، و بالتالي أن يكمل حديثه الذي بدأه قبل عشرين عاما و لكنّه لم يوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين، و معارضتهم، و بسبب ما أوجدوه من عقبات و عراقيل في طريقه.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابن تلك المنطقة، و تلك البيئة، و لهذا كان عارفا- تمام المعرفة- بأمراض المجتمع العربي، و أدوائه،

و علاج تلك الأدواء و دوائها.

(2) لقد كان يعرف صلّى اللّه عليه و آله علل انحطاط المجتمع المكيّ و اسباب تخلفه عن ركب الحضارة و المدنية، و عن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد.

من هنا رأى أن يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض، و أن يعالج امراض البيئة العربية بشكل كامل، و كأي طبيب حاذق، و حكيم ماهر.

و نحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيد المرسلين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:501

صلّى اللّه عليه و آله على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع التي يعالج كل واحد منها مرضا اجتماعيا خاصا من أمراض المجتمع في ذلك العصر و حتى في عصرنا الحاضر.

(1)

1- التفاخر بالنسب:

كان التفاخر بالنسب و القبيلة و العشيرة من الامراض المستحكمة المتجذرة في البيئة العربية الجاهلية، و كان من اكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة، و يتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلا:

و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة.

«أيّها الناس إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها.

ألا إنّكم من آدم، و آدم من طين.

ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه».

لقد عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه- لإفهام العالم البشري بأن ملاك الشخصية و التفوق انما هو (التقوى) و الورع فقط- إلى تصنيف الناس الى صنفين لا ثالث لهما، و اعطى الفضيلة و المنزلة لأهل التقوى و الورع خاصة.

و بهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية و الملاكات و المقاييس المصطنعة إذ قال:

«إنما الناس رجلان:

مؤمن تقي كريم على اللّه.

و فاجر

شقيّ هين على اللّه».

(2)

2- التفاضل بالقومية العربية:

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعلم جيدا أن هذه الجماعة من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:502

البشر تعتبر (العربية) و الانتساب الى العرق العربي من المفاخر الكبرى، و كانت النخوة العربية قد ترسخت في قلوب تلك الجماعة و عروقها كداء دفين و مرض مزمن، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث و تحطيم هذا الصرح الموهوم:

«إن العربية ليست بأب والد، و لكنه لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه».

و هل نجد كلاما أعمق مغزى، و أوضح مرادا، و أقوى وقعا في النفوس من هذا الكلام؟!

(1)

3- لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض:

لقد قال داعية الحرية الحقيقية، و رائد حقوق الانسان الواقعي بهدف تقوية و دعم مبدأ المساواة بين الافراد و الجماعات البشرية:

«إنّ الناس من آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، و لا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى».

و قد ألغى رسول الانسانية الاعظم بهذا البيان الصريح كل انواع التمييز الظالمة، و كل ألوان التشدد مع الآخرين، و فعل و بيّن في ذلك العصر ما لم يفعله و لم يبينه ميثاق حقوق الانسان مع كل هذه الضجة الاعلامية التي نشهدها في عالمنا الحاضر.

(2)

4- الحروب الطويلة و الاحقاد القديمة:

لقد نشأت الاقوام العربية- نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة و الطويلة- على الحقد و الضغينة.

فقد كانت نيران الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم و ساق و من دون انقطاع.

و لقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:503

العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجب عليه- بغية إقرار الأمن و الهدوء و الحفاظ عليهما في البيئة الاسلامية- أن يبادر الى وضع نهاية لهذه المعضلة، و أن يعالج هذا الداء المزمن فلم يجد دواء لهذا الداء إلّا أن يطلب من الناس كافة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سفكت في العهد الجاهلي، و أن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة، و منتهية، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء التي تعرض المجتمع الاسلامي الناشئ للخطر، و حتى ينتزع من أذهانهم و نفوسهم فكرة الاغارة و القتل العشوائي الذي كان يتم بحجة القصاص في حين كان من الممكن ان يتم بشكل القصاص الحقيقي العادل، فقال صلّى اللّه عليه و آله للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية.

ألا إن كلّ مال و مأثرة

و دم في الجاهلية تحت قدميّ هاتين».

(1)

5- الاخوة الاسلامية:

و لقد ارتبط قسم من خطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتحاد المسلمين و وحدة كلمتهم، و حق المسلم على اخيه المسلم.

و قد كان مقصوده صلّى اللّه عليه و آله من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين التي تعتبر من مميزات الدين الاسلامي الحنيف، هو أن يرغّب غير المسلمين في الاسلام إذا هم سمعوا و رأوا مثل هذه الحقوق، و مثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد:

«المسلم أخو المسلم، و المسلمون إخوة و هم يد واحدة على من سواهم، نتكافؤ دماؤهم، ليسعى بذمتهم أدناهم» «1».

______________________________

(1) لقد نقلنا هذه المختارات من: روضة الكافي: ص 246، السيرة النبوية: ج 2 ص 412، المغازي:

ج 2 ص 836، بحار الأنوار: ج 21 ص 105، شرح ابن أبي الحديد: ج 17، ص 281.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:504

(1)

معاقبة المجرمين:
اشارة

ليس من شك في أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مظهرا كاملا للانسانية و الرحمة و مثلا أعلى في العفو و الصفح، فهو رغم مشاعر بعض المتطرفين الملتهبة، أصدر عفوه العام عن أهل مكة كافة.

بيد أنه كان هناك بين المكيين عدة أشخاص تجاوزوا الحد في معاداتهم للنبي و معارضتهم للرسول، و ارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر، فلم يكن من الصالح- مع كل ما تسبّبوه من فجائع و فضائع- أن يعيشوا بين المسلمين في أمان و راحة، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم، و تآمرهم ضدّ الاسلام مرة اخرى و يتسببوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يعرف مداها، و تبعاتها.

و قد قتل بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات، و لجأ اثنان منهم

إلى بيت «أم هاني» بنت أبي طالب اخت الامام علي عليه السّلام، فلاحقهما «علي» و هو غارق في الحديد لا يعرف، فدخل بيت أمّ هانئ يطلبهما «1» فواجهت أم هانئ فارسا لا يعرف فقالت: أنا امرأة مسلمة و قد أجرت هذين، و جوار المسلمة محترم.

و في اكثر المصادر أنها قالت: يا عبد اللّه أنا أم هاني ابنة عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اخت علي بن أبي طالب، انصرف عن داري.

(2) و هنا عمد الامام علي عليه السّلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه، فنزع المغفر عن رأسه، و اسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أم هاني على أخيها «علي» بعد فراق طال سنينا عديدة

______________________________

(1) يقول ابن هشام إن الرجلين هما: «الحارث بن هشام» و «زهير بن أبي أميّة بن المغيرة (السيرة النبوية: ج 2 ص 411).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:505

و مديدة إلا و انحدرت منهما دموع الشوق و الفرحة، و اعتنقت أخاها، ثم توجها معا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليعطي رأيه في أمانها، و جوارها فامضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جوار تلك المرأة المسلمة، و أمانها قائلا:

«قد أجرنا من أجرت و أمّنّا من أمّنت فلا يقتلهما» «1».

و قد كان عبد اللّه بن أبي سرح الذي أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام احد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم، و لكنه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

(1)

قصّة عكرمة و صفوان:

و لقد فرّ «عكرمة بن أبي جهل» أحد كبار مثيري الحروب و مشعلي الفتن ضد الاسلام و المسلمين، إلى اليمن، إلا أنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته، في قصة مفصلة.

و أمّا «صفوان بن اميّة» فانه مضافا إلى جرائمه الفادحة، كان قد

قتل مسلما انتقاما لأبيه «أميّة بن خلف» الذي قتل على أيدي المسلمين في بدر، و ذلك عند ما صلبه أمام حشد كبير من أهل مكة في وضح النهار، و لهذا أهدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دمه، فعزم ان يخرج من الحجاز عن طريق البحر فرارا من القتل، و بخاصة عند ما علم بأنه من جملة العشرة الذين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتلهم و أهدر دمهم.

(2) فطلب «عمير بن وهب» من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعفو عنه، فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شفاعته، و أعطاه عمامته ليدخل بها مكة كعلامة أمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يصطحب معه إلى مكة «صفوان بن أميّة»، فذهب عمير إلى جدّة، و أخبر صفوان بذلك، و قدم به مكة

______________________________

(1) الارشاد: ص 72 إعلام الورى بأعلام الورى: ص 110، السيرة النبوية: ج 2 ص 411، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 144 و 145.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:506

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما وقعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على كبير المجرمين بل اكبرهم يومئذ قال له ردّا عليه لما سأله قائلا: أن عمير يزعم أنك قد أمنتني؟

«صدقت، انزل أبا وهب».

ثم دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الاسلام فقال: اجعلنى بالخيار شهرين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» «1».

و بهذا أمهله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الاسلام، و دعوة النبي.

(1) إن دراسة اجمالية و سريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في

الاسلام و في تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها و إخفاءها، و هو أن رءوس الشرك كانوا أحرارا في اختيار العقيدة الاسلامية و اعتناقها.

فهم اختاروها و اعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار، و لا إرعاب أو تخويف، بل كانت القيادة الاسلامية تسعى دائما إلى أن يتم اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبر و التفكير الصحيح، لاعن طريق الارعاب و التخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكة و اكثرها عبرة، و بقي أن نتعرض لذكر حادثتين جديرتين بالاطلاع و التأمل استكمالا لهذه الدراسة.

و تانك الحادثتان هما:

(2)

1- مبايعة النبي نساء مكة:

بعد بيعة «العقبة» كانت هذه هي المرة الاولى التي اخذ رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 418 المغازي: ج 2 ص 854.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:507

اللّه عليه و آله البيعة من النساء بشكل ظاهريّ و رسميّ، و لقد بايعنه على الامور التالية:

1- أن لا يشركن باللّه شيئا.

2- و لا يسرقن.

3- و لا يزنين.

4- و لا يقتلن أولادهن.

5- و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهنّ.

6- و لا يعصين النبي في معروف.

(1) و لقد تمت هذه البيعة بالكيفية التالية و هي: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئا من الطيب و العطر ثم ادخل يده فيه و تلا الآية «1» التي وردت فيه الامور المذكورة ثم نهض من مكانه و قال صلّى اللّه عليه و آله للنساء:

«من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح فاني لا اصافح النساء» «2».

و كانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة- الخاصة في موادها و بنودها- من نساء مكة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن، فلو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله لم يقدم على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عملهنّ القبيح حتى في السرّ.

(2) و كانت «هند» زوجة أبي سفيان بن حرب، و أمّ معاوية ذات السوابق السوداء و الفاضحة من بين تلك النسوة.

و قد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها و خشونة، في سلوكها، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان، و لطالما فرضت عليه آراءها، حتى أنها يوم قرّر أبو سفيان الاستسلام للأمر الواقع، و رغّب أهل مكة في السلام حرّضت الناس على القتال

______________________________

(1) الممتحنة: 12.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 113.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:508

و سفك الدماء و مواجهة جنود الاسلام.

(1) إن تحريضات هذه المرأة بالذات هي التي أشعلت نيران الحرب في «احد»، تلك النيران التي كلّفت، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين شهيدا كان أبرزهم «حمزة» الذي بقرت تلك المرأة الفاسدة الفاجرة الحاقدة و بمنتهى القسوة و الفضاضة بطنه، و شقّت صدره، و استخرجت كبده، و قطعته بأسنانها نصفين.

لم يكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة و أمثالها في مرأى و مسمع من الناس.

و قد تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن، فلما بلغ إلى قوله: «و لا يسرقن» نهضت هند- و كانت آنذاك متنقبة متنكرة- و قالت: إنّ أبا سفيان رجل ممسك و اللّه إني كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة و ما كنت أدري أ كان ذلك حلالا أم لا؟

(2) فنهض أبو سفيان و قال: ما أصبت من مالي فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال.

فعرف

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال هذا الحوار بين هند و أبي سفيان أن المتكلمة هي «هند» بنت عتبة فقال صلّى اللّه عليه و آله لها سائلا: «و انك لهند بنت عتبة»؟!

قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا اللّه عنك!

و لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى قوله تعالى: «و لا يزنين» نهضت هند مرة اخرى و ذكرت و هى تبرّئ نفسها من هذه الوصمة، و ذكرت جملة كشفت عن خبيئة نفسها من دون شعور.

فلقد قالت: يا رسول اللّه أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدّ- من منظار علم النفس- نوعا من كشف القناع عما في السريرة و الافصاح عما في الضمير. و حيث إن هندا كانت تعرف أنها كانت فيما مضى تفعل مثل هذا، و كانت واثقة من ان الناس عند سماع هذه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:509

العبارة سيلتفتون بانظارهم إليها لذلك لهذا سارعت فورا- و يهدف صرف الأنظار عن نفسها- إلى القول: و هل تزني إلّا الأمة دون الحرة.

و من الصدف انه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجب من إنكارها، فضحك حتى استغرق في الضحك، و تسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها «1».

(1)

هدم بيوت الاصنام بمكة و ما حولها:

كانت في مكة و ضواحيها بيوت عديدة و كثيرة للاصنام التي كانت تقدّسها، و تحترمها القبائل المختلفة القاطنة في تلك المناطق، و حتى يقضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على جذور الوثنية في أرض مكة قام بارسال فرق عسكرية متعددة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد، و البيوت، و إزالة الاصنام و الاوثان.

كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن في

مكة نفسها أن من كان في بيته صنم فليكسره، و في هذا السياق أرسل «عمرو بن العاص» لتحطيم صنم «سواع» و سعد بن زيد لهدم صنم «منات».

و توجه «خالد بن الوليد» على رأس فرقة عسكرية الى «تهامة» لدعوة قبيلة «جذيمة بن عامر» إلى الاسلام، و هدم صنم «عزى»، و قد نهاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين كلّفه بهذه المهمة عن القتال و إراقة الدماء و بعث معه «عبد الرحمن بن عوف» ليعينه على ذلك.

و كانت قبيلة بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد «2» و والد عبد الرحمن لدى رجوعهما من اليمن في ايام الجاهلية و صادرت أموالهما، و لهذا كان «خالد»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 276.

(2) هو الفاكه بن المغيرة بين عبد اللّه بن عمر بن مخزوم راجع للوقوف على اصل هذه الواقعة السيرة النبوية: ج 4 ص 74 و تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:510

يحقد عليهم.

(1) فلما التقى «خالد» بني جذيمة في أرضهم، وجدهم قد أخذوا السلاح، و تهيّأوا لقتاله فأمّنهم و قال لهم: ضعوا السلاح فان الناس قد أسلموا.

فرأى زعماء القوم ان يضع الناس السلاح، و يسلّموا لجنود الاسلام، و لكن رجلا من القوم أدرك بفطنته سوء نية خالد، فقال لزعماء القبيلة: و اللّه لا أضع سلاحي أبدا، فما بعد وضع السلاح إلا الإسار، و ما بعد الإسار الّا ضرب الاعناق!

و لكن بني جذيمة رفضت قوله، و أخذت برأي أسيادها فوضعت السلاح، و امّن الناس، فأمر خالد جنوده فورا بان يكتّفوا رجال القبيلة، و باتوا في وثاق.

فلما كان في السحر أمر بأن يقتل فريق منهم، و أطلق سراح آخرين.

(2) و عند ما بلغ رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله نبأ هذه الجريمة النكراء غضب صلّى اللّه عليه و آله على خالد غضبا شديدا، و دعا عليا من فوره، و أعطاه مبلغا كبيرا من المال و أمره بالتوجه الى بني جذيمة، و ان يدفع دية من قتل أو جرح خالد من رجالهم، و ثمن كل ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقة و عناية كاملتين.

فودى علي عليه السّلام لهم كل ما أصاب خالد، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب (و هي الاناء الذي يلغ فيه الكلب) حتى اذا لم يبق شي ء من دم و لا مال إلّا ودّاه بقيت معه بقية من المال، فدعا رؤساء تلك القبيلة المنكوبة و قال لهم: هل بقي لكم من دم أو مال لم يود لكم؟

فقالوا: لا.

فقال عليه السّلام: فاني اعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا يعلم و لا تعلمون.

ففعل ثم رجع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره الخبر فقال صلّى اللّه عليه و آله:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:511

«أصبت و احسنت».

(1) ثم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ممّا تحت إبطيه و قال:

«اللّهم إنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد».

قالها ثلاث مرات «1».

لقد تلافى علي عليه السّلام جميع الخسائر المادية و الروحية التي لحقت ببني جذيمة، و قد أعطى شيئا من ذلك المال لمن ارتاع، و فزع من صنع خالد و جنوده، و طيّب خواطرهم و قال: و هذه لروعة القلوب.

و عند ما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصنيع عليّ عليه السّلام و إجراءاته العادلة و الانسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في

حقه:

«و اللّه ما يسرّني يا عليّ أنّ لي بما صنعت حمر النعم «2» ... أرضيتني رضي اللّه عنك ... يا عليّ أنت هادي أمّتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبّك و أخذ بطريقتك، ألا إن الشقيّ كل الشقيّ من خالفك و رغب عن طريقتك إلى يوم القيامة ...» «3».

(2)

جرائم اخرى لخالد:

لم تقتصر جرائم خالد التي ارتكبها طيلة حياته الاسلامية في ظاهرها على ما ذكر بل لقد ارتكب جريمة اخرى في أيام حكومة «أبي بكر» اكبر و افضع ممّا مرت، و إليك خلاصة هذه الواقعة:

لقد ارتدّت بعض القبائل- بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 420، الكامل لابن الاثير: ج 1 ص 173 و 174 امتاع الاسماع: ج 1 ص 400.

(2) الخصال: ص 562.

(3) مجالس ابن الشيخ: ص 318.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:512

بالاحرى و في الحقيقة رفضت الاعتراف بخلافة أبي بكر، و امتنعت عن أداء الزكاة إليه، فبعث أبو بكر فرقا عسكرية مختلفة لقمع تلك الجماعات المتمردة.

(1) و بعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية الى قبيلة «مالك بن نويرة» لمقاتلتها بحجة الارتداد، و كان «مالك» و جميع أفراد قبيلته على استعداد للقتال، و كانوا يقولون: نحن مسلمون، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّنهم، و طلب منهم إلقاء اسلحتهم، فلما وضعوا أسلحتهم، أمر بحبسهم، ثم قتلهم و قتل زعيمهم المسلم الصالح «مالك بن نويرة» و اعتدى على زوجته في نفس الليلة «1».

فهل يصح أن يوصف هذا الرجل- على هذه السوابق السوداء، و مع هذا الملفّ المخزي- بسيف اللّه، و أن يعدّ من امراء الاسلام

المجاهدين الصالحين؟!! «2».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 3 ص 149، أسد الغابة: ج 4 ص 295 تاريخ ابن عساكر: ج 5 ص 105، 112 تاريخ ابن كثير: ج 6 ص 321، تاريخ الخميس: ج 1 ص 233.

(2) لقد ورد ذكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأولى من حكومة «أبي بكر» بصورة مفصلة و قد ذكرناها ملخصة.

و للوقوف على تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب النص و الاجتهاد ص 61- 75.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:513

(1)

50 معركة حنين

اشارة

كانت طريقة رسول للّه صلّى اللّه عليه و آله عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شئونها السياسية و الدينية ما دام هو فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفرادا صالحين للقيام بتلك الأمور، و شغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد، و لم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإن الاسلام دين متكامل، و نظام سياسي، اجتماعي، أخلاقي، و معنوي يستمد قوانينه من منبع الوحي الطاهر، و يحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين و التعاليم، و تطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين و مدرّبين على التثقيف و التطبيق الصحيحين، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام و اصوله الصحيحة، و تنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

(2) و قد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا عند فتح مكة، فانه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن قرر مغادرة مكة و المسير إلى قبيلتي «هوازن» و «ثقيف» عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّم الناس القرآن، و أحكام الاسلام، و «عتاب بن أسيد» الذي كان رجلا مؤهّلا، لادارة

الامور، و الصلاة بالناس جماعة، ثم غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوما متوجها إلى أرض هوازن «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 137، و المغازي: ج 3 ص 889.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:514

(1)

جيش قليل النظير:

كان الجيش الذي ساربه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هوازن يبلغ (12) ألفا من الجنود المسلحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، و شاركوا في فتح مكة، و ألفان من رجال و شباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، و قد أوكل النبي صلّى اللّه عليه و آله قيادتهم إلى أبي سفيان «1».

و لقد كان مثل هذا الجيش العظيم و الجمع الكبير قليل النظير، و نادر المثيل في تلك العصور، و قد صارت هذه الكثرة ذاتها سببا في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم- على خلاف ما مضى- فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة، و غفلوا عن خطط العدو و نواياه فكان ذلك داعيا إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، لن نغلب اليوم من قلة «2».

و لكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد و ضخامة الجيش، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

و لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى:

«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «3».

(2)

تحصيل المعلومات العسكرية:

بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن و ثقيف، و جرت اتصالات مكثفة بينها، و كان حلقة الاتصال، و المدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عرف

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 139، المغازي: ج 3 ص 889.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 150، المغازي: ج 3 ص 889.

(3) التوبة: 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:515

بالفروسية و الشجاعة يدعى «مالك بن عوف النصري».

(1) و قد تقرّر بعد سلسلة من

الاتصالات و المداولات بين زعماء هوازن و ثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شابا متهورا في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا إليه عما قريب، و اشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن و ثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء و الاطفال و الاموال وراء ظهورهم و عند ما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال: اردت من جعل كل رجل أهله و ماله و ولده و نساءه خلفه حتى يقاتل عنهم «1».

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع، و جعلوا أموالهم و أهليهم خلفهم.

(2) و قد خالف شيخ مجرب حنّكته الحروب منهم يدعى «دريد بن الصمة» هذه الخطة عند ما سمع رغاء البعير، و ثغاء الشاء، و خوار البقر، و بكاء الصغير، و جادل فيها مالكا، و اعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية و قال للناس:

يا قوم إن هذا فاضحكم في عورتكم، و ممكّن منكم عدوّكم، و هل يرد المنهزم شي ء؟

و لكن مالكا لم يعر كلام هذا الشيخ و نصيحته اهتماما و قال:- و هو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة-: أنك قد كبرت، و كبر علمك، و حدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك.

و لقد اثبت المستقبل صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنّك فان إشراك النساء و الاطفال و الانعام في الحرب، و إخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 897.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:516

ثقيف و هوازن مشاكل كثيرة، فيما بعد.

(1) ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث «عبد اللّه بن حدرد الأسلمي»، و أمره أن يدخل في هوازن و ثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم و خططهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأخبارهم.

و كان «مالك بن عوف» قائد هوازن و ثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين، و يأتوه بأخبارهم، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين و كثرتهم.

فقرر قائد العدوّ أن يجبر ضعف جنوده و قلتهم باستخدام الخدع العسكرية، و التوسل باسلوب المباغتة ليفرق- بهجوم مفاجئ- صفوف المسلمين، و يهدم نظامهم و انسجامهم، و يصيبهم بالهرج و المرج، و الفوضى و الحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة، فلا تتمكن من ضبط الامور، و تحقيق انتصار على المسلمين.

(2) و لتحقيق هذا الهدف هبط «مالك بن عوف» بجيشه في واد ينحدر الى منطقة «حنين»، و أمر بأن يختفي الجنود و المقاتلون خلف الصخور و الاحجار، و في شغاف الجبال، و كل ما ارتفع من ذلك الوادي و نشز، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجال هوازن و ثقيف من مكامنهم، و كمائنهم، و رموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو، بالحجارة و النبل، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي و يضربونهم بالسيوف!!

(3)

تجهيزات المسلمين:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عارفا بقوة العدوّ و عناده فدعى «صفوان بن أميّة» قبل مغادرة مكة، و استعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة، و لبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه درعين كما لبس المغفر و البيضة، و ركب بغلته البيضاء و

سار خلف جيشه و سار حتى دنوا جميعا من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:517

الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي، و مع غلس الصبح انحدرت كتيبة «بني سليم» بقيادة «خالد بن الوليد» في وادى «حنين»، و بينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجال هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي و شعابه حملة رجل واحد، و أخذوا يرشقونهم بالاحجار و النبال، فالقت أصوات الاحجار و النبال فزعا شديدا في قلوب المسلمين الذين مطروا بالسهام و النبال و الاحجار من جانب، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم و وقعوا فيهم ضربا و قتلا.

(1) أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين، فقد أوحشتها، و أصابت المسلمين بالفوضى، و خلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار، و قد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الحادث، و سروا به سرورا عظيما حتى قال أبو سفيان شامتا: لا ينتهي هزيمتهم دون البحر، و قال آخر: الا بطل السحر اليوم، و قال ثالث: لا يجتبرها محمّد و أصحابه، و عزم رابع على اغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك الوضع المضطرب و إطفاء شعلة رسالته المقدسة «1».

(2)

استقامة النبي و من ثبت من أصحابه:

لقد ازعج فرار المسلمين الذي كان نابعا- في الدرجة الاولى من الفزع و الفوضى التي أصابتهم، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أدرك صلّى اللّه عليه و آله بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيّر وجه التاريخ و لتبدّل مسار البشرية، و لحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 909- 910، السيرة النبوية: ج 2 ص 443،

امتاع الاسماع: ج 1 ص 411 و 412.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:518

من هنا صاح بأعلى صوته و هو على بغلته:

«يا أنصار اللّه و انصار رسوله أنا عبد اللّه و رسوله».

(1) قال هذا و اندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله «مالك» و جنوده مسرحا لمهاجمة المسلمين و مباغتتهم و قتالهم، و مشى معه من لازمه في تلك اللحظات و ثبتوا معه كعلي بن أبي طالب عليه السّلام و العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس، و أبي سفيان بن الحارث الذي لم يغفلوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ بدء القتال لحظة واحدة، و امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم، و لا يلوون على شي ء:

«يا معشر الانصار، يا معشر السمرة» «1».

و يقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان، فكان هذا النداء تذكيرا بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان ينصروه حتى الموت.

(2) فبلغت صرخات العباس مسامع المسلمين فثارت حميتهم، و أخذوا يثوبون الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يقولون: لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءات العباس المتلاحقة التي كانت تخبر و تنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي نادمة على فرارها ندما شديدا، و نظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغسل ما لحق

بهم من عار الفرار، و استطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب و الفرار و الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله يقول تشجيعا لهم، و تقوية لمعنوياتهم:

______________________________

(1) و لقد ذكر المغازي في ج 3 ص 902 جانبا من بطولات علي عليه السّلام و تضحياته في هذه الموقعة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:519

«أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».

(1) و قد تسبّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن و من ساعدهم من ثقيف المقاتلين، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة و منكرة، تاركين وراءهم اموالهم و نساءهم و صبيانهم الذين أتوبهم الى ساحة المعركة، و جعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك- كما أسلفنا، و فروا بعد أن قتل منهم جماعة إلى منطقة أوطاس و نخلة، و قلاع الطائف.

(2)

غنائم الحرب:

لقد بلغت خسائر المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما و أن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة و عشرين ألف بعير، و أربعين ألف رأس غنم، و أربعة آلاف اوقية «1» من الفضة.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بأن يؤخذ الاسرى و الغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة (و هي ماء بين الطائف و مكة) و كلّف أشخاصا معيّنين بحراستها و حفظها و جعل الأسرى في بيوت خاصة، كما أمر بأن تحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس و نخلة و الطائف «2».

لقطتان من الخلق النبوي العظيم:

و ينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية، و عمق

______________________________

(1) الرطل 2564 غرام و الاوقية 12/ 1 من الرطل فعلى هذا تكون الاوقية 213 غراما، و أربعة آلاف أوقية تساوى 852 كيلو غراما.

(2) كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص، و لكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:520

الرحمة الاسلامية:

1- بعد أن أعاد النبي المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن و هزموهم هزيمة قبيحة، قالت أمّ سليم بنت ملحان للنبي صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا و فرّوا عنك و خذلوك!! لا تعف عنهم اذا أمكنك اللّه منهم، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!

فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أم سليم! قد كفى اللّه، عافية اللّه أوسع «1».

و هكذا نجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2- حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذرية، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية.

فقال اسيد بن الحضير: يا رسول اللّه أ ليس إنما هم أولاد المشركين!

فقال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، و أبواها يهوّدانها أو ينصّرانها «2».

______________________________

(1) و (2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 409.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:521

(1)

51 غزوة الطائف

اشارة

«الطائف» من مصايف الحجاز و من المناطق الخصبة، الكثيرة الزرع فيها، و تقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (12) فرسخا منها، و قد كانت و لا تزال بسبب مناخها اللطيف، و بساتينها المثمرة، و نخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا و موطنا لطلاب اللذة و الراحة من أهل الحجاز.

و قد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

و كانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة «حنين» ضدّ الاسلام و المسلمين، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ و منيع.

و لتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

(2) من هنا كلّف صلّى اللّه عليه و آله أبا عامر الأشعري و أبا موسى الأشعري و فريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى «أوطاس» فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة، و استطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو و يفرق

جمعه «1».

و أما النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 915 و 916.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:522

الطائف «1»، و مرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة «حنين» و رأس المؤامرة، فهدمه و سوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن «مالك» لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد و ملجأ للعدوّ.

(1) تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى، و استقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا، مرتفع الجدران، قوي البنيان، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

و منذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجيش بالانسحاب و التراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ، و التمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

و هنا اقترح «سلمان الفارسي» الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب، و كان ذا خبرة بفنون القتال، اقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يرمي الحصن بالمنجنيق «2»، و كان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد و توجيه من سلمان، و أخذوا يرمون الحصن المذكور و أبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

و لكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 163.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص

417.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:523

فزاد من رميه و استمر في ذلك، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك «1».

(1) و الآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز و علّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة «2».

و يرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز و غنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم و حصونهم و اصطحبوه معهم إلى الطائف و استخدموه في غزوها.

و لا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر، و علّم المسلمين كيفية نصبه و استخدامه في القتال، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر، لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة «دوس» في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة، و كانوا برمتهم من أبناء قبيلته، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع عدد واحد من جهاز المنجنيق و عربتين حربيتين خاصتين، و قد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

(2)

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق:

كان لا بدّ لاخضاع العدو و دفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة و من مختلف الاطراف و النواحي، و لهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام، مضافا إلى

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 158.

(2) السيرة النبوية: ج 4 ص 126، و ابن هشام يرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:524

رمي الحصن بالمنجنيق،

إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى، لأن السهام و الاحجار، و النيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر، و لم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب و الدنوّ من جدار الحصن، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

و كانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب و تغطى بجلود البقر، و يدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه، و يقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها، و اضطرّ أفرادها الى الخروج منها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا و لم ينتج هذه التكتيك القتالي، و لم يتحقق أي نجاح في هذا المجال، فانصرف المسلمون عن استخدامه «1».

(1)

ضغوط اقتصادية و نفسية:

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق و التكتيكات العسكرية، بل للقائد الحكيم أن يستخدم- لاضعاف قوة العدو و كسر صموده- الضربات و الضغوط الاقتصادية و يجبره على الاستسلام.

و قد تكون الضربة النفسية و الاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية، و الإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو و أفراده.

و لقد كانت أرض الطائف أرض زراعة، و نخيل و أعناب، و كانت معروفة

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 928.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:525

في الحجاز بخصبها، و كثرة محاصيلها و خيراتها، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم و أعنابهم و رعايتها، و يولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا، و يعطون

هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

(1) فأعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن، و المعتصمين به، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف، و إفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم و لم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و هو النبي الذي عرف برحمته و رافته- يستخدم مثل هذه الطريقة.

و فجأة وجدت «ثقيف» أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصدر أوامره بقطع الأعناب، و اتلاف المزارع و تحريقها، فوقع المسلمون فيها يقطعون و يحرقون.

فعجّت «ثقيف» لذلك و ضجّت، و استغاثت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقسمت عليه بالرحم و القرابة أن يكف عن ذلك، فتركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه و بين «ثقيف».

(2) ان المعتصمين بحصن الطائف و ان كانوا من مثيرى معركة حنين و الطائف، و تانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكثير من الخسائر و المتاعب غير أنه صلّى اللّه عليه و آله قبل مع ذلك التماس العدو و طلبه هذا، فابدى و للمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم و كشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال، و أمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب و تحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه و نعهده من أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب و تحريق المزارع كان مجرد تهديد و محاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة

معه لكفّ عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:526

(1)

آخر محاولة لفتح حصن الطائف:

كانت قبيلة «ثقيف» جماعة ثريّة، و ذات مال كثير، و عبيد و إماء كثيرين، و لكي يحصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن، و يعرف بالتالي حجم امكانات العدو و مدى استعداداته من جهة، و يوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي: و ينادى: أي عبد نزل من الحصن و خرج إلينا فهو حرّ.

و نفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف و رقيقهم، و التحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام، و أنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي، و لن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

(2)

جيش الاسلام يعود الى المدينة:

استخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة جميع الاساليب و التكتيكات العسكرية المادية و النفسيّة ضدّ العدوّ، و قد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر و العمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي و امكاناته- يومذاك- لتسمح بذلك القدر من الصبر و الترقب، و الانتظار و التوقف، اكثر ممّا توقف و مكث في تلك المنطقة و ذلك:

(3) أولا: لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (13) مسلما سبعة منهم من قريش، و أربعة من الانصار، و رجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي «حنين» إثر هجوم العدوّ الغادر، و انفراط صفوف الجيش الاسلامي، و الذين لم يذكر التاريخ مع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:527

الأسف أسماءهم،

و خصوصياتهم، و لهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

(1) و ثانيا: أن شهر شوال قد انتهى، و بدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم و قد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة، و أكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري- حفاظا على هذه السنّة- «1» إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمخالفة السنّة الصالحة و خرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم و مناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين، بعد أن كانت- قبل ذلك- تدار بواسطة المشركين و برعايتهم.

(2) و لا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر و افضل فرصة لتبليغ الاسلام، و بيان حقيقة التوحيد، و كان على النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة، في مجال الدعوة، و يستفيد منها اكثر قدر ممكن و يولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة و خطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله حصار الطائف و عاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين و غنائمها.

______________________________

(1) و يدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال و استغرقت مدة الحصار عشرين يوما، و صرفت بقيّة الايام (و هي خمسة) في المسير إلى حنين، و في

المعركة.

و قولنا بأن الحصار طال عشرين يوما يستند إلى رواية نقلها ابن هشام، إلّا أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوما (الطبقات الكبرى ج 2 ص 158).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:528

(1)

حوادث ما بعد الحرب:
اشارة

انتهت حوادث معركة «حنين» و «الطائف» و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون تحقيق نتيجة قطعية الى «الجعرانه» لتقسيم غنائم معركة «حنين».

و الغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة «حنين» كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم قدم «الجعرّانة» كان هناك ستة آلاف أسير و (24) ألف من الإبل و اكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم «1» و كان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في «الجعرّانة» ثلاثة عشر يوما، و في هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر و جديرة بالتأمل و الدراسة.

(2) فقد خلّى سبيل بعض الأسرى، و تركهم لذوبهم، و خطّط لاخضاع (او بالاحرى إسلام) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين و الطائف الهارب، كما أظهر تقديره و شكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين و خدماتهم، و جذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام، و رغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة، و أنهى نقاشا حدث بينه و بين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

و إليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة:

(3) 1- لقد دأب رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله على احترام حقوق الأفراد، و تثمين جهودهم مهما ضؤلت و دقّت، و على أن لا يبخس

أحدا عمله، فإذا أحسن

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 152.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:529

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. و كان ذلك من أبرز صفاته و أخلاقه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد رضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن، و قد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى «حليمة السعدية»، و قد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

(1) و قد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم و أطفالهم على أيدي المسلمين، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا، و قد ندمت على فعلها ندما شديدا.

و قد كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نشأ و ترعرع فيهم، و رضع بلبن نسائهم هذا من ناحية، و من ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مل ء قلبه الرحمة و المروءة و معرفة الجميل، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا «الجعرانة» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو «زهير بن صرد» و الآخر عم للنبي صلّى اللّه عليه و آله من الرضاعة، فقالوا: يا رسول اللّه إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك و خالاتك، و حواضنك، و قد حضنّاك في حجورنا و ارضعناك بثدينا، و لقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك، و رأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك، و رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك، و قد تكاملت فيك خلال الخير، و نحن

مع ذلك أهلك و عشيرتك فامنن علينا منّ اللّه عليك.

و قال زهير بن صرد: يا رسول اللّه إنّما في هذه الحظائر عماتك و خالاتك و حواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، و لو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه و عائدته علينا و أنت خير المكفولين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:530

(1) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم:

«إن أحسن الحديث أصدقه، و عندي من ترون من المسلمين، فابناؤكم و نساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم»؟

قالوا: يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا و أموالنا و ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا، فردّ علينا أبناءنا و نساءنا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«أما ما لي و لبني عبد المطلب فهو لكم و اسأل لكم الناس و إذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا: إنا لنستشفع برسول اللّه الى المسلمين، و بالمسلمين الى رسول اللّه فاني سأقول: لكم ما كان لي و لبني عبد المطّلب فهو لكم و سأطلب لكم إلى الناس».

فلما صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنا نستشفع برسول اللّه الى المسلمين و بالمسلمين إلى رسول اللّه.

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فهو لكم.

و بهذا وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون: أمّا ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

و قال الانصار: ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

و هكذا وهب الانصار و المهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يتأخر عن ذلك

إلّا قليلون مثل «الاقرع بن حابس» و «عيينة بن حصن» فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما، و يطلق سراح ما عندهم من السبايا، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين و قد استأنيت بهم، فخيّرتهم بين النساء و الأبناء، و الأموال، فلم يعدلوا بالأبناء و النساء، فمن كانت عنده منهنّ شي ء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:531

و من أبى منكم و تمسك بحقه فليردّ عليهم، فله بكل انسان ست فرائض (أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا) من أول ما يفي ء اللّه به علينا «1».

(1) فكان لعمل النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى و السبايا إلا امرأة عجوز امتنع «عيينة» من ردّها إلى ذوبها.

و هكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته- قبل ستين عاما- في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية، فاتت اكلها بعد مدة طويلة، و اطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى و السبايا من هوازن «2».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا اخته من الرضاعة «الشيماء» «3» و بسط لها رداءه ثم قال: اجلسي عليه، و رحّب بها، و دمعت عيناه، و سألها عن امّه و ابيه من الرضاعة، فاخبرته بموتهما في الزمان، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لها:

«إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة و إن أحببت أن امتّعك و ترجعي الى قومك فعلت».

فقالت: بل تمتّعني و تردّني إلى قومي، فمتّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ردّها الى قومها، بعد أن أسلمت طوعا و رغبة، و أعطاها رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أعبد و جارية «4».

و قد قوّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن و سباياها من رغبة هوازن في الاسلام، فاسلموا من قلوبهم، و هكذا فقدت

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 949- 953.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 153 و 154، السيرة النبوية: ج 2 ص 490، و الحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول اللّه تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97).

(3) هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.

(4) البداية و النهاية: ج 2 ص 363 و 364، الامتاع: ج 1 ص 413.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:532

«الطائف» آخر حليف من حلفائها.

(1)

2- اسلام مالك بن عوف:

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفرصة ليعالج مشكلته مع «مالك بن عوف النصري» مثير حرب حنين، عن طريق وفد بني سعد و ذلك بترغيبه في الاسلام، و عزله عن حليفه: «ثقيف».

و لهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله و ماله و أعطيته مائة من الابل».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمانه المشروط، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام، و اشتداد أزره كما رأى رحمة النبي و لطفه، أن يخرج من الطائف، و يلتحق بالمسلمين، و لكنه كان يخشى أن تعرف «ثقيف» بنيته فتحبسه في الحصن، و لهذا عمد الى خطة خاصة للفرار، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له، و أمر

بفرس له فأتي به إلى الطائف، فركب فرسه و ركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها، فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فادركه بالجعرانة أو بمكة، فردّ عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله أهله و ماله، و أعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل، و اسلم فحسن إسلامه، ثم استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على من أسلم من قومه و قبائل «ثمالة» و «سلمة» و «فهم».

(2) و قد انشد «مالك بن عوف» أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكريمة، و يمدحه أجمل مديح اذ يقول:

ما إن رأيت و لا سمعت بمثله في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى و أعطى للجزيل إذ اجتدي و متى تشأ يخبرك عما في غد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:533 و إذا الكتيبة عرّدت أنيابهابالسمهريّ و ضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد و صار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة و عزة في الاسلام، و بعد أن أدرك قبح موقف «ثقيف» «1».

(1)

3- تقسيم الغنائم:

كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب، و لكي يدلّل النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال:

«أيّها الناس و اللّه مالي في فيئكم و لا هذه الوبرة إلّا الخمس، و الخمس مردود عليكم، فادّوا الخياط و المخيط فإن الغلول (أي الخيانة في بيت المال) يكون على أهله عارا، و

نارا، و شنارا يوم القيامة».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قسّم أموال بيت المال بين المسلمين، و اما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم، و يتألف بهم قومهم، فأعطى من هذا المال ل: أبي سفيان بن حرب، و ابنه معاوية، و حكيم بن حزام، و الحارث بن الحارث، و الحارث بن هشام، و سهيل بن عمرو، و حويطب بن عبد العزى، و العلاء بن جارية و صفوان بن أميّة، و غيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك و رموز الكفر، لكلّ واحد منهم مائة بعير «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 491 و عرّدت أي عوّجت.

(2) راجع المحبّر: ص 473، المغازي: ج 3 ص 944- 948، السيرة النبوية: ج 3 ص 493، امتاع الاسماع: ج 1 ص 423.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:534

(1) و قد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب و البالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برحمته، و لطفه، و عنايته، و كرمه، و اشتدت رغبتهم في الاسلام.

و هذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم، و هم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

و يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم: و أعطى ذلك كله من الخمس و هو أثبت الاقاويل عندنا «1».

و لقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم و هذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، شقّ على بعض المسلمين، و بخاصة الانصار و قد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها، و الأهداف

العليا التي كان يتوخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا النوع من البذل و العطاء (و هو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم (و هو ذو الخويصرة التميمي) قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكل وقاحة: يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، لم أرك عدلت!!

(2) فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كلامه هذا و قال:

«ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن له بقتله، فلم يأذن له النبي و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين (أي يتتبّعون أقصاه) حتى

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 3 ص 153.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:535

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة» «1».

(1) و قد كان هذا الرجل- كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السّلام، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة، غير أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

و لقد رفع «سعد بن عبادة» شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لسعد: اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

(2) فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة، فلما اجتمعوا دخل عليهم

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليه جلال النبوة، و هيبة الرسالة، فحمد اللّه و اثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:

«يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم و جدة وجدتموها في أنفسكم؟ أ لم آتكم ضلّالا فهداكم اللّه وعالة فاغناكم اللّه، و أعداء فألّف اللّه بين قلوبكم»؟

قالوا: بلى اللّه و رسوله أمنّ و افضل!

قال:

أ لا تجيبوني يا معشر الانصار»؟

قالوا: و ما ذا نجيبك يا رسول اللّه و لرسول اللّه المنّ و الفضل؟

قال:

«أما و اللّه لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك و مخذولا فنصرناك

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 496، السيرة الحلبية: ج 3 ص 122، و في المغازي: ج 3 ص 948 أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال فيه: «دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم، و صيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... يخرجون على فرقة من المسلمين». و راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 425 و جاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:536

و طريدا فآويناك و عائلا فآسيناك! «1» وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شي ء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا و وكلتكم إلى إسلامكم، أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة و البعير، و ترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟

و الذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، و لو سلك الناس شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار».

(1) ثم ترحّم على الأنصار و على أبنائهم و على أبناء أبنائهم فقال:

«اللّهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار».

و قد كانت كلمات النبي

صلّى اللّه عليه و آله هذه من القوة و العاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم و ابتلّت بالدموع و قالوا: رضينا يا رسول اللّه حظّا و قسما!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تفرّقوا «2».

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن حنكته السياسيّة البالغة، و كيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة و بروح الصدق و اللطف.

(2)

رسول اللّه يعتمر:

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من الجعرانة معتمرا، بعد ان قسم الغنائم، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة، أو أوائل شهر ذي الحجة.

______________________________

(1) إن هذا يفيد ان النبي صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينسى فضل أحد عليه و ان كان هو صلّى اللّه عليه و آله صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 498 و 499، المغازي: ج 3 ص 957 و 958.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:537

(1)

52 لاميّة كعب بن زهير المعروفة «بانت سعاد ...»

اشارة

فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف شهر ذي القعدة، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة، و كان موسم الحج على الأبواب، و كانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب، مسلمين و مشركين، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

و كان اشتراك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة و جلالا، و كان من الممكن- و بفضل قيادته الحكيمة- أن تتم في ذلك الحشد الهائل و الاجتماع العظيم دعوة صحيحة و قوية و واسعة إلى الاسلام، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر، و كانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

(2) و بعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله أن يكتفي بعمرة، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

و لكنه صلّى اللّه عليه و

آله رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية و الدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي (نعني مكة) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها، و حتى تجري الامور على النسق الصحيح و المطلوب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:538

(1) من هنا استخلف النبي صلّى اللّه عليه و آله «عتّاب بن اسيد» على مكة، و كان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر و الجلد، و كان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة، و قد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

و بهذا العمل (أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام و الايمان في مقتبل العمر، و لكن كفؤ لتسيير الامور في مكة، و تفضيله على كثير من الشيوخ و كبار السنّ) حطّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سدّا خياليا، و مفهوما باطلا في مجال التوظيف و التأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عتابا» على أهل مكة قالوا: إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة، و نحن مشايخ ذو و الاسنان فاجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله في كتاب كتبه لعتاب:

«لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر و هو الاكبر في موالاتنا و موالاة أوليائنا و معاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم و الرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به و من خالفه فلا يبعد اللّه غيره» «1».

(2) و بهذا أثبت صلّى اللّه عليه و آله عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية و الجدارة، و الكفاءة، و أنّ صغر السنّ لا يمنع

من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان «عتّابا» قام فخطب في الناس فقال: أيّها الناس أجاع اللّه كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 122 و 123. امتاع الاسماع: ج 1 ص 432 و 433.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 500.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:539

(1) و أحسن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاختيار أيضا عند ما عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّم الناس القرآن و يفقههم في الدين، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه، و المعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما بعثه للقضاء، الى اليمن سأله صلّى اللّه عليه و آله: بم تقضي إن عرض قضاء فقال: أقضى بما في كتاب اللّه.

قال: فان لم يكن في كتاب اللّه؟

قال: أقضي بما قضى به الرسول.

قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال: أجتهد رأيي و لا آلو.

فضرب النبي صلّى اللّه عليه و آله صدره، و قال:

«الحمد اللّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه» «1».

(2)

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى:

كان «زهير بن أبي سلمى» من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم، و كانت تفتخر بها العرب، و تبدأ معلّقته تلك بقوله:

أ من أمّ أوفى دمنة لم تكلّم بحومانة الدرّاج فالمتثلّم و قد توفي «زهير» قبل عصر الرسالة، و خلّف ولدين هما: «بجير»، و «كعب» و كان الأول ممّن آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و نصره، و أحبّه، بينما عادى الثاني (كعب) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدّة، و حيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قصائده

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 347 و 348، و يكتب الجزري في اسد الغابة: (ج 3 ص 358) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:540

و أشعاره و يؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

(1) و لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة كان «بجير» قد شارك مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في فتح مكة، و حصار الطائف، و قد شاهد عن كثب كيف هدّد النبي صلّى اللّه عليه و آله بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يؤلّبون الناس ضدّ الإسلام، و أهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه (كعب) و نصحه في آخر كتابه قائلا: إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه، و توجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتهيأ لصلاة الصبح، فصلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأوّل مرّة ثم جلس إليه، و وضع يده في يده، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّه إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم.

قال: أنا يا رسول

اللّه كعب بن زهير «1».

(2) ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التي كان قد أنشأها من قبل، و انشدها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء و طعن في سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله «2».

______________________________

(1) روي أنه وثب على كعب- في تلك الحال- رجل من الانصار فقال: يا رسول اللّه دعني و عدوّ اللّه أن أضرب عنقه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا (عما كان عليه) السيرة النبوية: ج 2 ص 501.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 242.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:541

(1) و هذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب و قد اعتنى المسلمون بحفظها و نشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، و قد شرحها علماء الإسلام كثيرا، و عدد ابيات هذه اللامية (أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة) 58 بيتا و مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم إثرها لم يغد مكبول لقد بدأ كعب قصيدته هذه- على عادة شعراء العهد الجاهلي (الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال)- بذكر سعاد زوجته و ابنة عمه، و لقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلّى اللّه عليه و آله فيقول: فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ، و أضناه، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر و القيد.

(2) ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال:

نبّئت أنّ رسول اللّه أوعدني و

العفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ و تفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة و لم اذنب و لو كثرت فيّ الأقاويل إلى أن قال:

إن الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول «1» «2»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 501- 514.

(2) يقال: إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلّى اللّه عليه و آله بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول اللّه، فقال: ما كنت لاوثر بثوب رسول اللّه أحدا، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم و هي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون و العباسيون (راجع الكامل في التاريخ ج 2 ص 276). و جاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال «ان النبي لسيف يستضاء به» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إن النبي لنور».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:542

(1)

حزن قارن فرحا:

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كبرى بناته: «زينب»، و قد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص، و آمنت بأبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد البعثة من دون تأخير، و لكنّ زوجها ظلّ على شركه، و شارك في «بدر» ضدّ الإسلام و المسلمين، و أسر في تلك المعركة فخلّى رسول اللّه سبيله، شريطة أن يبعث بابنته «زينب» إلى المدينة.

و فعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته «زينب» و بعثها برفقة أخيه إلى المدينة، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و اسقطت حملها من شدّة الفزع، و لكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة و هي عليلة، و قضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.

و لكنّ هذا الحزن قارنه فرح و سرور فقد رزق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه «ابراهيم» من زوجته «مارية القبطية» (و هي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله).

و الجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى (المولّدة) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، أعطاها هدية ثمينة، و عقّ له في اليوم السابع من ولادته، و حلق شعره، و تصدّق بوزن شعره، فضة في سبيل اللّه «1».

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 2 ص 131.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:543

(1)

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

53 علي بن أبي طالب في أرض طيّ (2) إسلام عديّ بن حاتم:

اشارة

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة و الحلوة، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية و الشرك في أيدي المسلمين، و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا، و قد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية و نقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين و قبول معتقداتهم، و اعتناق دينهم.

من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة، و أحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعلن عن إسلامها، و قبولها للرسالة المحمدية.

و قد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة

الإسلام (المدينة المنورة) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود «1».

______________________________

(1) لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد- في كتابه- خصوصيات و اسماء هذه الوفود و تفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما خصّهم به رسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:544

(1) و عند ما قدم وفد من قبيلة «طيّ» و فيهم سيدهم «زيد الخيل» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تحادث مع النبي صلّى اللّه عليه و آله أعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعقل زيد و حكمته و وقاره فقال عنه:

«ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلّا رأيته دون ما يقال فيه إلّا زيد الخيل، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه».

ثم سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد الخير «1».

إن دراسة قصة الوفود، و الإمعان و التدبر في ما دار بينهم و بين رسول الاسلام يفيد بوضوح و جلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة و التبليغ.

(2) على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان و أبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلّى اللّه عليه و آله فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات، كان الهدف منها

______________________________

الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا، و قد ذكر اسماء ثلاثة و سبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل (الطبقات الكبرى: ج 1 ص 291- 359).

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 577. هذا و ينبغي الاشارة هنا

و بالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن و لأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح، و قد ثبت هذا نفسيا، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة، و الفخر و الزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيه عليهما السّلام: إنّ رسول اللّه كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال و البلدان (قرب الاسناد ص 45) و لهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال و نساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميلة (صحيح مسلم: ج 6 ص 173) و غيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا، و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن» (بحار الأنوار: ج 23 ص 122). سيد المرسلين ج 2 545 53 علي بن أبي طالب في أرض طي(2) إسلام عدي بن حاتم: ..... ص : 543

سيد المرسلين ،ج 2،ص:545

هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل اللّه و يمنعون من دخول مجموعات الدعوة و التبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز و نجد و غيرها.

(1) إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين، و تطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت، و إزالة الأشواك من طريقه.

و من هنا نرى أنّ جميع الأنبياء و الرسل، و ليس رسول اللّه فقط كانوا يجتهدون قبل أي شي ء في تحطيم الطواغيت و إزالة السدود و الموانع، من طريق الدعوة.

و

يتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما حققه الإسلام من فتح و انتصار ساحق اذ يقول:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ. وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» «1».

(2) و بالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل و قدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا، و وقعت غزوة واحدة، و كانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام و المسلمين، و كانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها و تعبدها، و من جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب عليه السّلام التي وجّهت إلى أرض «طيّ» بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة «تبوك».

ففي هذه الغزوة غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة متوجها إلى أرض تبوك، و لكنه لم يلق فيها أحدا، فعاد من غير قتال، إلّا أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.

______________________________

(1) النصر: 1- 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:546

(1)

هدم بيوت الاصنام:

لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبي صلّى اللّه عليه و آله هي: نشر عقيدة التوحيد، و اجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يسلك- لتحقيق هذه الغاية، و لارشاد الضالّين و الوثنيين- طريق المنطق و الاستدلال، قبل أي شي ء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة

و البراهين الساطعة إلى بطلان الشرك و الوثنية، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن، و الارشاد المستدلّ، و لجّوا في كفرهم و شركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة، و يداوي أولئك المرضى روحا و فكرا و الذين يمتنعون عن استعمال الدواء و بمحض اختيارهم، بالمعالجة الجبرية.

فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا، و امتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها و سلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

(2) لقد أدرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شي ء بجرثومة «الكوليرا» تهدم فضائل الانسان، و شرفه، و تقضي على مكارم الاخلاق، و تحطّ من مكانة الانسان الرفيعة، و تجعله كائنا حقيرا أمام الطين و الحجر و الموجودات المنحطّة.

و على هذا الاساس امر من جانب اللّه تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء، و يزيل كل مظاهر الوثنية، و كل أنواعها و أشكالها، و اذا ما قاومت جماعة هذا العمل، و عارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية، و القبضة الحديدية.

إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرصة بعث

سيد المرسلين ،ج 2،ص:547

الفرق العسكرية لتحطيم و هدم كل بيوت الأصنام، و أن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلّا هدّموه.

(1)

علي في أرض طيّ:

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف من قبل، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن و من هنا بعث صلّى اللّه عليه و آله بطل جيشه

الشجاع علي بن أبي طالب عليه السّلام على رأس مائة و خمسين فارس إلى أرض طيّ، و أمره بأن يحطّم صنم طيّ، و يهدم بيته.

و قد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام، و أنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال، و لهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم، عند الفجر و الناس نيام، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم، و ان يعود بهم و بالغنائم الى المدينة و قد فرّ «عديّ بن حاتم الطائي» الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين، المجاهدين في سبيل اللّه، و كان يرأس تلك القبيلة، حين سمع بتوجه على عليه السّلام نحوها.

(2) و لنستمع إلى عديّ الطائي نفسه و هو يقصّ علينا قصة هروبه.

يقول عديّ: ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سمع به، منّي.

أمّا أنا فكنت امرأ شريفا، و كنت نصرانيا، و كنت اسير في قومي بالمرباع (أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم) فكنت في نفسي على دين، و كنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربيّ، و كان راعيا لابلي: لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا منّي، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطى ء هذه البلاد فآذنّي؛ ففعل؛ ثم أنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد، فأصنعه الآن، فاني قد رأيت رايات، فسألت

سيد المرسلين ،ج 2،ص:548

عنها، فقالوا: هذه جيوش محمّد. قال: فقلت: فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها، فاحتملت بأهلي و ولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى

بالشام فسلكت الجوشية «1» و قد تركت أختي في قومي.

(1) ثم تغزو خيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قومي فتصيب (اختي) ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبايا من طيّ، و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هربي الى الشام.

فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه، فمرّ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقامت إليه اختي و كانت امرأة جزلة، فقالت:

يا رسول اللّه هلك الوالد، و غاب الوافد، فامنن عليّ منّ اللّه عليك.

قال: و من وافدك؟

فقالت: عديّ بن حاتم.

قال: الفارّ من اللّه و رسوله؟

(2) ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي، فقلت له مثل ذلك، و قال لي مثل ما قال بالأمس، حتى إذا كان من الغد مرّ بي و قد يئست منه، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه، فقامت إليه، و قالت: يا رسول اللّه هلك الوالد، و غاب الوافد، فامنن عليّ منّ اللّه عليك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني».

تقول اختي: فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

(3) ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت: و أنما اريد أن

______________________________

(1) الجوشية: جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:549

آتي أخي بالشام. قالت: فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت:

يا رسول اللّه قد قدم رهط

من قومي لي فيهم ثقة و بلاغ.

قالت: فكساني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حملني، و اعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

(1) قال عديّ: فو اللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة (و هي المرأة في هودجها) تصوّب إليّ تؤمنا قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول: القاطع الظالم، احتملت أهلك و ولدك، و تركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت: أي أخيّة، لا تقولي إلّا خيرا، فو اللّه ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها، و كانت امرأة حازمة: ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى و اللّه أن تلحق به سريعا، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، و ان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن، و أنت أنت. فقلت: و اللّه إنّ هذا الرأي.

(2) قال عديّ: فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة فدخلت عليه، و هو في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عديّ بن حاتم، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانطلق بي إلى بيته، فو اللّه إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي: و اللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى إذا دخل بي بيته تناول و سادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ، فقال: اجلس على هذه، فقلت: بل أنت فاجلس عليها فقال: بل أنت، فجلست عليها، و جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأرض (و هو عظيم الحجاز) فقلت

في نفسي: و اللّه ما هذا بأمر ملك ثم قال: إيه يا عديّ بن حاتم، أ لم تك ركوسيّا (و هو دين بين دين النصارى

سيد المرسلين ،ج 2،ص:550

و الصابئين)؟

قلت: بلى.

قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت: بلى.

قال: فان ذلك لم يحل لك في دينك.

(1) قلت: أجل و اللّه، و عرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل، ثم قال: لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو اللّه ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، و لعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم و قلة عددهم، فو اللّه ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، و لعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك و السلطان في غيرهم و أيم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.

قال عديّ: فاسلمت.

و كان عديّ يقول: قد مضت اثنتان و بقيت الثالثة و اللّه لتكوننّ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، و قد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت، و أيم اللّه لتكونن الثالثة، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه «1».

(2) و لقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» «2» اللقاء الذي تمّ بين عدي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: قال عديّ انتهيت إلى رسول اللّه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ...) حتى فرغ منها،

______________________________

(1) المغازي: ج 2

ص 988 و 989، السيرة النبوية: ج 2 ص 578- 581، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية: ص 352- 354، امتاع الاسماع: ج 1 ص 445.

(2) التوبة: 31.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:551

فقلت له: انّا لسنا نعبدهم، فقال: أ ليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، و يحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه، فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 24.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:552

(1)

54 غزوة تبوك

اشارة

كانت القلعة القويّة، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق «حجر» و «الشام» تسمّى تبوكا.

و كانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية، التي كان عاصمتها القسطنطنية.

و كان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام و كان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم، و يمتثل أوامره.

و لقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية و فتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم، و كان ذلك يرعب الأعداء، و يدفعهم إلى التفكير في حيلة.

(2) و لقد دفع سقوط حكومة «مكة» الوثنية، و اعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي، و بطولات جنود الاسلام الباهرة و بسالتهم و تفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة، و يتهيّأ لمهاجمة المسلمين و غزوهم بغتة، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد، و كانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم و هو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية، و انتشار نفوذه السياسيّ.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:553

(1) كانت الروم- آنذاك- المنافسة الوحيدة، و القوية لإيران، و كانت تملك أعظم قوة عسكرية، و كانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها،

لما أصابته من فتوحات و انتصارات في معاركها الكبرى مع إيران، و ما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

و قد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس و راجل، و كان مجهّزا بأحدث أسلحة و تجهيزات ذلك العصر، و قد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام، و التحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة «لخم» «عاملة» «غسان» «جذام»، و تقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة «البلقاء».

(2) و لقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبي صلّى اللّه عليه و آله عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز- الشام فلم ير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين، بجيش عظيم، و يحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه، و بفضل تضحياته هو صلّى اللّه عليه و آله و هو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره و هداه، من ضربات العدوّ المفاجئة.

و لقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، و الناس في زمان عسرة، و شدة من الحرّ، و جدب من البلاد، و قد طابت الثمار، و الناس يحبّون المقام في ثمارهم و ظلالهم، و يكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

و لكن الدوافع المعنوية، و روح الحفاظ على الأهداف المقدّسة، و الجهاد في سبيل اللّه مقدّم- عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين- على كل تلك الامور.

(3)

تعبئة المقاتلين و تهيئة نفقات الحرب:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف على نحو الاجمال مدى و حجم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:554

استعدادات

العدوّ، و طاقاته، و قدرته على القتال.

من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة- مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية و هي الايمان باللّه و القتال ابتغاء لمرضاته- الى قوة عسكرية كبيرة جدا و لهذا بعث رجالا إلى مكة، و نواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه، و يحثّون أهل الغنى و الثروة، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

و أخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة و اجتمعوا في معسكر عند «ثنية الوداع» و تهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة، و كان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس، و عشرين الف راجل.

و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.

(1)

المتخلّفون عن القتال:

كانت غزوة «تبوك» خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين و تمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان و المنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة، و كان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى، فكشف تخلّف البعض- بالأعذار و الحجج المختلفة- القناع عن وجههم الحقيقي و نزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب و العلل التالية:

(2) 1- عند ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للجدّ بن قيس،- و كان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة-:

«أبا وهب هل لك العام تخرج معنا»؟

فقال: يا رسول اللّه أو تأذن لي، و لا تفتنّي «1» فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد

______________________________

(1) أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول اللّه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:555

اشدّ عجبا

بالنساء مني، و اني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر (الروم) لا أصبر عليهنّ.

فاعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، و قد نزل فيه قول اللّه تعالى:

«وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» «1».

(1) 2- المنافقون: إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام و الإيمان و هم منه خلو، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك، و ربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا: يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال و الحرّ، و البلد البعيد، إلى ما قبل له به، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب، فنزل فيهم قول اللّه تعالى:

«وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» «2».

و قد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة، و كانوا يقولون في هذا الصدد: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، و اللّه لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟! «3».

(2)

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو و تحركاته اهتماما كبيرا، و كان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة و بالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو و نشاطاته، و على

______________________________

(1) التوبة: 49.

(2) التوبة: 81 و 82.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 450.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:556

هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

(1) و لقد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت «سويلم» اليهودي، و يخطّطون

لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «طلحة بن عبيد اللّه» في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر، و أمره بأن يحرّق عليهم بيت «سويلم». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة، و هم يخطّطون، و يدبّرون مؤامرة، و احرق البيت، ففرّوا وسط ألسنة اللهب، و أعمدة الدخان، و افلتوا، و انكسرت رجل أحدهم حين الفرار.

و قد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم و هو «الضحّاك بن خليفة»:

كادت و بيت اللّه نار محمّديشيط بها الضحّاك و ابن أبيرق

و ظلت و قد طبّقت كبس سويلم أنوء على رجلي كسيرا و مرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلهاأخاف و من تشمل به النار يحرق «1» (2) 3- البكّاءون: لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه الغزوة، و طلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا أجد ما أحملكم عليه».

فتولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا، ألّا يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجال نافقوا، و تركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 517.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:557

في التاريخ الاسلامي بالبكائين، و نزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ

إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» «1».

(1) 4- المتخلفون: و لقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الخروج، و تخلّفوا لا عن شكّ و ارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، و قد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد أن يفرغوا من الحصاد و القطاف و هم (المخلّفون) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك، فوبّخهم اللّه تعالى و عاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

(2) 5- المجاهدون الصادقون: الذين لبّوا نداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ، و رغبة عظيمة في الجهاد.

(3)

عدم مشاركة «عليّ» في غزوة تبوك:

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنه شارك في جميع المعارك، و لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته،- و كان هو حامل لوائه في تلك المعارك و الغزوات- ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين و المتربّصين، و المتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الاسلامية) فيثيرون فيها فتنة، و يجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، و أن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه

صلّى

______________________________

(1) التوبة: 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:558

اللّه عليه و آله مكانا نائيا، و انقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام (المدينة)!!

(1) و لقد كانت «تبوك» أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته، فكان يحدس- بقوة- أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه، و يجمعوا من يروا رأيهم و يذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز، و يتحدوا لضرب الدولة الاسلامية و القضاء عليها من الداخل.

و لهذا- رغم أنه استخلف «محمّد بن مسلمة» على المدينة- قال للامام «علي بن أبي طالب»:

«أنت خليفتي في أهل بيتي و دار هجرتي و قومي.

يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي و بك».

(2) و لقد أزعج بقاء عليّ عليه السّلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، و يتحيّنون الفرصة، و يفكرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السّلام في المدينة، و مراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم و نشاطاتهم فعل أي شي ء ممّا كانوا ينوون القيام به، و لهذا أرجفوا به، و بثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا: ما خلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا إلّا استثقالا له، و تخفّفا منه، أو: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه إلى الخروج لتبوك، و لكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، و بعد الطريق و إيثارا للدعة و الراحة و الرفاهية!!

(3) و لإبطال هذه الشائعة الخبيثة، و تكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السّلام سلاحه، و خرج حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو نازل بالجرف (و هو موضع على

ثلاثة أميال من المدينة) فقال:

«يا نبي اللّه، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني و تخفّفت منّي».

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:559

من أبرز الادلة و أقواها و أوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و خلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلا فصل:

«كذبوا، و لكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك أ فلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» «1».

فرجع عليّ عليه السّلام الى المدينة المنورة، و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سفره «2».

(1)

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك:

لقد دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام، و يمنعون من تقدمه و انتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة و اجتياحها، أو إيجاد فتن فيها، على أن لا يبوح بمقصده و وجهته لجنوده و امراء جيشه، و أن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته، و بذلك يتسنى له صلّى اللّه عليه و آله أن يباغت العدوّ، و يحقّق الانتصار الساحق عليه «3»

غير أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام و هم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بيّن للناس- منذ أعلن التعبئة العامة- الوجهة التي يقصدها، و كان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر و صعوبته، و أن يحملوا الزاد الكافي و العدة اللازمة.

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 449 و 450.

(2) السيرة النبوية:

ج 2 ص 520، بحار الأنوار: ج 21 ص 207 و 208، و للوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنين عليه السّلام راجع كتب العقائد و الكلام.

(3) المغازي: ج 3 ص 990.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:560

(1) هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مضطرّا- لتقوية الجيش الاسلامي- إلى أن يستعين بقبائل «تميم» و «غطفان» و «طيّ» التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

و قد عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل، و ساداتها كما كتب إلى «عتّاب بن اسيد» أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل، و فتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس «1».

و مثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان و السريّة، لأنه كان لا بدّ أن يخبر صلّى اللّه عليه و آله رؤساء القبائل في هذا الموضوع، و يذكر لهم أهميّته، ليحملوا معهم الزاد و العدة اللازمة الكافية.

(2)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستعرض جيشه:

و لما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه في معسكر المدينة العظيم، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام، و الذين فضّلوا المشقة و الموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال، و التجارة، و كسب المال و اكتناز الثروة، و خرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا و يقينا.

لقد كان هذا المشهد جميلا و رائعا جدا، و كان له أثر قوي في نفس المتفرجين.

و في هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطبة مهمة، لتقوية معنويات المجاهدين، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه و أثنى

عليه بما هو أهله قال:

«أيّها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب اللّه و أوثق العرى كلمة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 244.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:561

التقوى و خير الملل ملة إبراهيم عليه السّلام و خير السنن سنن محمّد و أشرف الحديث ذكر اللّه و أحسن القصص هذا القرآن و خير الامور عواقبها و شرّ الامور محدثاتها و أحسن الهدى هدي الأنبياء و أشرف القتل قتل الشهداء».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية و التي ادرج فيها مجموعة كبرى و هامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» ثم أصدر رسول اللّه أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

قصة مالك بن قيس:

رجع مالك بن قيس «ابو خيثمة» بعد أن سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد المدينة فارغة، و عرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش، و بردّتا له ماء، و هيأتا له طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، و ما صنعتا له، و فكّر في ما فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من الحال، و قد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشمس و الريح و الحرّ، و أبو خيثمة في ظل بارد، و طعام مهيّأ، و امرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال: لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و أصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أدركه حين نزل تبوك، و قد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة «عمير بن وهيب الجمحى» و هو يطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 1016 بحار الأنوار: ج 21 ص 210- 212.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 520 و قد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير و نسبها الى عبد اللّه بن خيثمة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:562

(1) لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق- في بداية الامر- لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنه التحق بركبه المقدس و نال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار و التقدير، و لم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة و لكنهم رفضوها، و ابتعدوا عنها، و آثروا البقاء في ضلالهم و شقائهم.

فهذا «عبد اللّه بن ابي» رئيس المنافقين و كبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين، و لكنه لخبث سريرته، و عدائه الشديد للاسلام و نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي، و عاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب، و حيث إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان على علم بنفاقه، و خبث سريرته و كان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق و جماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة، لذلك لم يهتم صلّى اللّه عليه و آله بانفصاله عن الجيش الاسلامي و رجوعه الى المدينة.

(2)

مصاعب الطريق:

لقد واجه

جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب و مشاق كثيرة، و لهذا سمّي هذا الجيش بجيش «العسرة» و لكن ايمانهم العميق باللّه، و حبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب، و هوّن عليهم تلك المشاق، التي استقبلوها بصدور رحبة.

و عند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجهه بثوبه، و استحثّ راحلته و مرّ على بيوتهم، و أطلالهم بسرعة و قال لأصحابه:

«لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا و أنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

و هو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

سيد المرسلين ،ج 2،ص:563

و الشعوب، و التفكّر في مصائرهم و ما آلوا عليه بسبب عتوّهم و عنادهم، و تمرّدهم على الحق، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع، و الأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال و الاقوام الاخرى.

(1) ثم نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا، و أن لا يتوضئوا به للصلاة، و أن لا يحاس به حيس، و لا يطبخ به طعام، و أن العجين الذي عجن به، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل، و أن الطبيخ الذي طبخ به يلقى، و لا يأكلوا منه شيئا «1».

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبي عليه السّلام، فنزلوا عليها بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

تعليمات احتياطيّة:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف بالرياح الشديدة و السامّة و العواصف

القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين و الآخر، و تبلغ من الشدة و القوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه، و تلقيه في واد آخر.

و لهذا أصدر صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم و لا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

و قد اثبتت التجارب و الاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 521 و 522، السيرة الحلبية: ج 3 ص 134 و 135.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:564

خبائهما ليلا، فاختنق أحدهما لشدة الرياح، بينما احتملت الريح الرجل الآخر، و ضربت به الجبل، و لما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك انزعج بشدّة و قال:

«أ لم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلّا و معه صاحبه» «1».

(1) هذا و قد استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على حرس العسكر «عباد بن بشر» فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس و لا ماء معهم، و حصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها، و يشربوا ماءها، بينما صبر آخرون، و انتظروا حصول الماء على ظمأ شديد، و قلوب ملتهبة عطشا.

و لقد أعان اللّه تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس، و احتملوا ما يحتاجون إليه.

(2)

علم رسول اللّه بالمغيّبات:

لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس، و يخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك، إلّا أنّ هذا العلم لا ريب محدود، و يحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى:

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» «2».

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض الاحايين، أبسط الامور، كأن يفقد مفتاحا، أو يضيّع مالا و لا يعرف بمكانه و مصيره، بينما يقدر صلّى اللّه عليه و آله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية و اشدها غموضا فيثير حيرة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 134، السيرة النبوية: ج 2 ص 522.

(2) الجن: 26 و 27.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:565

الناس و دهشتهم و عجبهم.

و السبب في كل ذلك هو ما ذكرناه، فان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشي ء من عالم الغيب و يخبر به علم و أخبر، و إلّا كان صلّى اللّه عليه و آله كغيره من أفراد البشر العاديين.

و في ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية:

(1) لما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، و قال: أ ليس محمّد يزعم أنه نبي، و يخبركم عن خبر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يكشف النقاب ببيانه الرائع:

«إن رجلا قال: هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ و يزعم أنه يخبركم بأمر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟ و إني و اللّه ما أعلم إلّا ما علّمني اللّه، و قد دلّني اللّه عليها و هي

في هذا الوادي في شعب كذا و كذا و قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها».

فذهب بعض الصحابة من فورهم، و جاءوا بها «1».

(2)

إخباره بمغيّب آخر:

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ أبطأ به بعيره، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره، و لكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير، و أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ماشيا، و نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض منازله و نزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، و فجأة لاح من بعيد رجل، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال:

يا رسول اللّه هو و اللّه أبو ذر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 523، امتاع الاسماع: ج 1 ص 456.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:566

«رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده و يموت وحده و يبعث وحده» «1».

(1) و قد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة، فقد توفي أبو ذر في صحراء «الربذة»، و عنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية «2».

لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في معركة تبوك بعد ثلاثة و عشرين عاما، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشي ء إلّا لأنّه جهر بالحق، و طالب بالعدل، و فقد قواه و طاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.

و فيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث و التطورات، و امرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب و قد عرق جبينه، و هي تمسح بيدها العرق و تبكي قال لها:

ما يبكيك؟

فقالت: أبكي أنه لا يد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعيننى على دفنك، أ و ليس عندي ثوب يسعك كفنا)!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة و قال: لا تبكي عليّ، فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و أنا عنده في نفر يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين (ثم قال:) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة و قرية، فلم يبق منهم غيري، و قد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني و اللّه ما كذبت و لا كذبت.

قال هذا و فاضت روحه المباركة «3».

(2) و لقد صدق أبو ذر، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 525.

(2) المغازي: ج 3 ص 1000 و 1001.

(3) اسد الغابة: ج 1 ص 302، الطبقات الكبرى: ج 4 ص 223، حلية الاولياء: ج 1 ص 302.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:567

كبرى مثل «عبد اللّه بن مسعود» و «حجر بن عدي» و «مالك الاشتر» تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى «عبد اللّه» من بعيد مشهدا عجيبا ... مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق، و عند ذلك الجسد امرأة و صبيّ و هما يبكيان.

فعطف «عبد اللّه» زمام راحلته نحو ذينك الشخصين و تبعه من معه في القافلة أيضا، و ما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه و أخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع، و وقف عند جثمان أبي ذر، و تذكّر نبوءة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك و قال: رحم اللّه أبا ذر يمشي

وحده، و يموت وحده، و يبعث وحده».

(1) ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراه الثرى، و بعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك الاشتر عند قبره و قال:

اللّهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبدك في العابدين، و جاهد فيك المشركين، لم يغيّر و لم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه و قلبه، حتى جفي و نفي و حرم و احتقر ثم مات وحيدا غريبا «1».

و قد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية:

و عاش أبو ذر كما قلت وحده و مات وحيدا في بلاد بعيدة

______________________________

(1) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر و دفنه بصور مختلفة، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة و تحدث مع رجالها، و لكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر و ابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته و ابنه جلسا على قارعة الطريق و دلّا القافلة على محل جثمانه الطاهر، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى:

ج 4 ص 34- 232، و الدرجات الرفيعة: ص 53.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:568

(1)

جيش الإسلام في أرض تبوك:

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، و لكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم، و كأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام، و بشهامتهم و تضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة «مؤتة» رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم و لا يواجهوا المسلمين، و يثبتوا بذلك

عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين، و يتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط، و أن هذا النبأ لم يكن إلّا شائعة لا أكثر، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث و الوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية «1».

(2) في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله قادة جيشه الكبار، و تبعا للاصل الاسلامي «و شاورهم في الأمر» تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة و شاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطه، و قواه، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة و هو تفريق جيش الروم و تبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم، و قد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، و هذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

______________________________

(1) يكتب الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1014 و 1015 أقام رسول اللّه بتبوك عشرين ليلة و هكذا يقول: إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ و تعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:569

(1) و لقد اضاف كبار المشيرين- حفاظا على مكانة الرسول القائد، و إشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ و الرد- قائلين: إن كنت امرت بالسير فسر «1».

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لو امرت به ما استشرتكم فيه».

و

هكذا احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آراء مشاوريه و رضى بالعودة إلى المدينة «2».

و حيث كان هناك حكام و ولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية و الحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم و مناطقهم، و كانوا جميعا نصارى، و لهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام، و يحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

(2) و لهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معاهدة عدم اعتداء، ليأمن جانبهم و يحصل على أمن أوسع، فأجرى صلّى اللّه عليه و آله اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام و الولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك و عقد معهم معاهدات عدم تعرض و اعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شخصيا بزعماء «أيلة» و «أذرح» و «الجرباء»، و تمّ عقد معاهدة عدم تعرّض و اعتداء بين الجانبين. و «أيلة» مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر، و لا تبعد عن الشام كثيرا، و كان زعيم تلك المنطقة هو «يوحنا بن رؤبة»، فهو يوم اتي به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 1019.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:570

و آله فرسا أبيضا، و أعلن عن طاعته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاحترمه النبي و اكرمه، و صالحه، و كساه بردا يمينا.

(1) و قد قبل «يوحنا» هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها

ثلاثمائة دينار سنويا و على أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين و كتب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتاب أمان وقّعه الطرفان، و إليك نص الكتاب المذكور:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنة من اللّه و محمّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة و أهل أيلة لسفنهم و سياراتهم في البرّ و البحر، لهم ذمة اللّه و ذمة محمّد رسول اللّه و لمن كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر، و من أحدث حدثا، فانه لا يحول ماله دون نفسه، و أنه طيّبة لمن أخذه من الناس و انه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه و لا طريقا يريدونه من برّ و بحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية و هي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين و فرّ الاسلام له كل أمن و سلام «1».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام «أذرح» و «جرباء» التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية، و بذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

(2)

بعث خالد إلى دومة الجندل:

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار و زروع و مياه جارية تضم حصنا منيعا، و تبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا، تسمى «دومة الجندل» «2» و كان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى «اكيدر بن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 526، السيرة الحلبية: ج 3 ص 141، بحار الأنوار: ج 21 ص 160.

(2) يقول الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1025 تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:571

عبد الملك».

(1) و حيث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله كان يخشى هجوما آخر من الروم، و الاستعانة بحاكم دومة المسيحي و بهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلّى اللّه عليه و آله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها و تطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها، و كمنوا قريبا منه.

و في تلك الليلة خرج «اكيدر» و أخوه «حسان» من الحصن و معه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد و أسروا «اكيدرا» بعد قليل من القتال و المواجهة، و قتل اخوه «حسان» و لجأ البقية إلى الحصن، و اعتصموا به، فصالح خالد «اكيدرا» على أن يطلب له و لقومه الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين و يلقي أهلها الاسلحة.

(2) فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين و احترامهم لوعودهم و عهودهم، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن و يسلّموا للمسلمين، و يلقوا اسلحتهم و يتركوا القتال، و كانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع، و أربعمائة رمح و خمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر و قومه و ما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا.

فاخذوا يتلمسونه بأيديهم و يتعجّبون منه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو لا يكثرث بتلك الثياب:

«فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا».

لقد حضر «اكيدر» عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امتنع عن قبول الاسلام إلّا أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين،

و صالحه النبي صلّى اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:572

عليه و آله على ذلك و كتب له كتابا، ثم أهدى له صلّى اللّه عليه و آله هدية و استعمل على حرسه «عباد بن بشر» ليوصله الى دومة الجندل سالما «1».

(1)

تقييم إجمالي لغزوة تبوك:

إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و إن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا و لم يواجه العدوّ، و لم يقاتل إلّا أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية و الروحية هي:

(2) أولا: صعود مكانة و سمعة الجيش الاسلاميّ، فقد زاد من عظمته و قوته في قلوب سكان الحجاز، و حكّام المناطق الحدودية السورية، و عرف الصديق و العدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة و العظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية و تقارعها، و تلقي الرعب و الخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد و الطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان و المعارضة، و التآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن، و أن لا تفكّر في هذه الامور.

و لهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بعد رجوعه من تبوك الى المدينة، و تظهر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طاعتها و خضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود و البعثات التي قدمت المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(3) ثانيا: ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية و السورية أمن هذه المنطقة، و اطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش

الروم، و لن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 166، بحار الأنوار: ج 21 ص 246.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:573

الاسلام و المسلمين.

(1) ثالثا: مهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة و مشاكلها، و علمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر، من هنا كانت الشام و سورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2) رابعا: تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة و حصلت عملية تصفية و فرز كبيرة و عميقة في جماعة المسلمين.

(3)

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي:

أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مدة بضع عشرة يوما في تبوك «1» و بعد أن بعث خالد إلى «دومة الجندل» توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقا ثمانية منهم من قريش و الباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الطريق و قبل أن يصل إلى المدينة، و ذلك بتنفير ناقة النبي صلّى اللّه عليه و آله في عقبة بين المدينة و الشام ليطرحوه في واد كان هناك. و عند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم».

(4) فأخذ الناس بطن الوادي، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ طريق العقبة فيما يسوق «حذيفة بن اليمان» ناقة النبي، و يقودها «عمار بن ياسر» فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خلفه، فرأى في

ضوء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 527 و ذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما (ج 2 ص 168).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:574

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته، و هم يتخافتون، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و صاح بهم و أمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا: اضرب وجوه رواحلهم.

(1) فأرعبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصياحه بهم إرعابا شديدا، و عرفوا بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علم بمكرهم و مؤامرتهم، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة: فعرفتهم برواحلهم و ذكرتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قلت: يا رسول اللّه أ لا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في لحن ملؤه الحنان و العاطفة:

«إن اللّه أمرني أن اعرض عنهم، و اكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه و أصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم و لكن دعهم يا حذيفة فانّ اللّه لهم بالمرصاد» «1».

و قد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة التي قال تعالى فيها: «و لئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض و نلعب» «2».

(2)

النية تقوم مقام العمل:

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمر ألذّ و أهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ، التي تحفظ أمجاده، و تضمن بقاء كيانه، و سلامته، و قد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

______________________________

(1) المغازي: ج

3 ص 1042- 1045، مجمع البيان: ج 3 ص 46 بحار الأنوار: ج 21 ص 247، الدرجات الرفيعة: ص 298 و 299 و امتاع الاسماع: ج 1 ص 477.

(2) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:575

بين «تبوك» و «المدينة»، و كانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة، و تظهر على كلماتهم و أعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ، و من أداء لحق الجندية، و كان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها، و هم طوّعوا حكّام و زعماء المدن و المناطق الحدودية السورية و الحجازية، و أخضعوهم للدولة الاسلامية.

(1) لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش، و كان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش و يتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، و لكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير و هذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر و قلوبهم مع جنود الاسلام، و يشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم، و أتراحهم لهذا التفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم على مشارف المدينة و قد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت:

«إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا و لا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم».

قالوا يا رسول اللّه: و هم بالمدينة؟

قال: «نعم، حبسهم العذر» «1».

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير، و لكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

(2) إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار- في الحقيقة- إلى واحد من البرامج الاسلامية

التربوية، و ذكّر بأن النية الطيبة و الفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب، و أن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 163، بحار الأنوار: ج 20 ص 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:576

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك، و اشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب و الفكر، باصلاح الباطن و السريرة، لأن اصلاح العقيدة و طريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات، و أعمالنا كلها وليدة أفكارنا و نوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين و غرورهم، و حفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلّا أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر و يلقّنهم درسا لن ينسوه، و للنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

(1)

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ:

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم: «هلال بن أميّة»، و «كعب بن مالك» و «مرارة بن الربيع» فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لدى خروجه إلى تبوك و اعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذر أحدهم، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر، و أنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد و القطاف.

إن هؤلاء و امثالهم ممن يريدون الدين و الدينار، و تهمّهم مصالحهم المادية الشخصية و الاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة و قصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ و السياسيّ و الثقافي، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

و لهذا كان على النبي صلّى اللّه عليه و

آله- بعد العودة- أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

(2) إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا، فإنهم انشغلوا بالتجارة، و جمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

سيد المرسلين ،ج 2،ص:577

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للتسليم عليه و تقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلّا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعرض بوجهه عنهم و لم يكترث بهم، و عند ما تحدث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح و الابتهاج كان أوّل ما قاله هو:

«لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة».

(1) و مع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين، و لم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل «مرارة» و «هلال»، و كانت لهم شخصية و مكانة بين المسلمين!!

و لقد تركت سياسة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا، فقد تعطّلت التجارة و الأخذ و العطاء مع المتخلفين، و كسدت بضائعهم، و لم يشترها أحد، و قطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم و علاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين

فعلتها، و ضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» «1».

(2) و لكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، و أنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة، و بخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

______________________________

(1) التوبة: 118، و تذكر التفاسير كيفية توبتهم و إنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:578

جماعة مشاغبة و مغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، و الانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي، و أن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى اللّه، و الانابة إليه، و قبل اللّه تعالى توبتهم، و أخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من فوره إلى الاعلان عن عفوه و رفع المقاطعة عنهم «1».

(1)

قصة مسجد الضّرار:

كانت «المدينة» و «نجران» تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين و مركزيتين في شبه الجزيرة العربية، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر، و لهذا اعتنق فريق من عرب الأوس و الخزرج الدين المسيحي و اليهودي.

و يبدو أن «ابا عامر» والد «حنظله غسيل الملائكة» المستشهد في غزوة احد، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي، فانسلك في صفوف الرهبان، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها، و احتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج «أبو عامر» من هذه الظاهرة بشدة، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس و الخزرج. و قد عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بخططهم التخريبية، و أراد اعتقاله، فخرج «أبو عامر» من المدينة الى مكة، و من مكّة الى الطائف، و هرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام، و اخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 165، بحار الأنوار: ج 10 ص 119 و هذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا و مفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة، و هو لا يحتاج إلّا إلى الاخلاص و الاتحاد و العزم هذا و يذكر الواقدي في المغازي: (ج 3 ص 1049- 1056) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:579

(1) و قد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا و ابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين و صلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم- تحت غطاء أداء الفرائض- التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام و المسلمين، و كيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان «ابو عامر» على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم و استئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين، و من المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان «ابو عامر» يعلم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلّا إذا كان لذلك صبغة دينية، و كان تحت عنوان مسجد.

(2) عند ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتجهّز إلى «تبوك» أتاه جماعة من المنافقين و طلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة و الحاجة لا

يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء و مسجد النبي للصلاة معه صلّى اللّه عليه و آله في الليلة المطيرة و الليلة الشاتية، فأوكل النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك «1».

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء، و اسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد و لما عاد النبي صلّى اللّه عليه و آله من تبوك حضروا عنده و طلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم، و في هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بحقيقة هذا الأمر، و سمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار، و وصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين، و التآمر عليهم إذ يقول تعالى:

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 1046.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:580

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» «1».

(1) فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله فورا بإحراق ذلك المسجد و تسويته بالأرض فحرّق و هدّم و سوّي بالأرض و تحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد «2».

إن تحريق و هدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت و شائج و روابط ذلك الحزب الخبيث، و هلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

و لقد كانت غزوة تبوك

آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ لم يشارك صلّى اللّه عليه و آله بعدها في أي قتال.

______________________________

(1) التوبة: 107 و 108.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 530، بحار الأنوار: ج 20 ص 253.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:581

(1)

55 وفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها، و متاعبها الكثيرة و عاد جنود الاسلام المجاهدون الى المدينة بابدان متعبة من وعثاء السفر، و بعد الطريق، و لم يلق جنود الاسلام كيدا و لم تحصل بينهم و بين الجيش الرومي اية مواجهة كما و لم يواجهوا عدوا طوال ذلك الطريق، و لم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملا لغوا و عبثا، و ذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار و النتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة، و لم يمض وقت كبير إلّا و اتضحت نتائجها، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء و عنادا للاسلام، و خضعت لسلطان المسلمين، بايفاد مندوبيها و وفودها إلى المدينة، و إظهار الطاعة و الاسلام عن طريقها، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها و أوثانها، و ينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

(2) ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم- عادة- بالنتائج المرئية الحاضرة، فمثلا إذا واجه جنود الاسلام خلال الرحلة عدوّا، و قاتلوه و قضوا عليه، و غنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة: لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة!!

و لكن أصحاب الرؤية العميقة و النظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف و النتيجة النهائية و يعتبرونه نجاحا باهرا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:582

(1) و من حسن الاتفاق

أن غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو اجتذاب الاقوام العربية الى الاسلام- خدمة كبرى-، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين (الذين غلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت و حكموا حتى اليمن و ما حولها في آخر حروبهم، و استعادوا منهم صليبهم و اعادوه إلى بيت المقدس) ارعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى، و انصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفع هذا النبأ اشدّ القبائل عنادا، و التي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام و الخضوع له، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة، و تفكّر في التعاون و التعايش مع المسلمين، و لكي تسلم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم (إيران و الروم) انضوت تحت لواء الاسلام، و اعلنت عن انتمائها إليه. و إليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

(2)

وقوع الفرقة و الاختلاف في قبيلة ثقيف:

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها و عنادها العجيب بين القبائل العربية، و لقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف و لم يسلّموا «1».

هذا و كان «عروة بن مسعود الثقفي» و هو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك، فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يدخل المدينة، و أسلم على يديه و استأذنه في أن يذهب إلى الطائف، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مخاطر هذا العمل لأنه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف أنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 922- 938.

سيد المرسلين

،ج 2،ص:583

منهم.

و قال له: انهم قاتلوك.

فقال عروة: يا رسول اللّه أنا أحبّ إليهم من أبكارهم، (أو من أبصارهم)، و كان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.

و لقد كان قوم عروة و سائر قادة ثقيف لم يدركوا بعد ما أدركه عروة من عظمة الاسلام، و كان فيهم نخوة و كبر يمنعانهم من الخضوع للحق.

و لهذا قررّت أن ترشق بالنبال و السهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام ... و هكذا رشقوا بالنبال «عروة» في الوقت الذي كان يدعوهم إلى الاسلام، فقال و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة: كرامة اكرمني اللّه بها، و شهادة ساقها اللّه إليّ «1».

(1)

وفد ثقيف:

ندم رجال ثقيف- بعد مقتل عروة- على فعلهم هذا بشدة و عرفوا بأن الحياة لم تعد ممكنة و ميسّرة لهم في قلب الحجاز الذي رفعت على جميع مناطقه ألوية التوحيد و خاصّة بعد أن أصبحت جميع المراعي و الطرق التجارية تحت رحمة المسلمين، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوبا من قبلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمن شروط معيّنة، و اتفقوا على إيفاد «عبدياليل» إلى المدينة و ابلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة و قال: لست فاعلا ذلك حتى ترسلوا معي رجالا، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم، و كان يخشى أن يصنعوا به ما صنعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعا بالقدوم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 537 و 538.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:584

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التفاوض معه.

(1) توجه هذا

الوفد السداسيّ إلى المدينة، و نزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولا لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته و عرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين، و ليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره المغيرة عن ركب ثقيف، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بقدومهم عليه و أنهم جاءوا ليعتنقوا الاسلام بشروط، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكرامهم، و ضرب لهم قبة في ناحية مسجده، و كلّف خالد بن سعيد بالقيام بشئون ضيافتهم.

ثم حضر وفد ثقيف عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مع أن المغيرة كان قد علّمهم كيف يحيّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّرا منهم و غرورا ثم أخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برأي ثقيف و أضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة، سوف يعرضونها عليه في جلسة تالية.

و استمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدة أيّام، و كان «خالد بن سعيد» هو الذي يمشي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه المفاوضات.

(2)

شروط وفد ثقيف:

قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كثيرا من شروط ثقيف حتى انه

ضمن لاهل الطائف- ضمن ذلك العهد- أمن منطقة الطائف و ما يرتبط بالطائفيين من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:585

أراض، و لكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة، و وقحة الى درجة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله غضب بسببها، و لا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط:

قال وفد ثقيف: ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله، و أن يعبدوا «اللات» و هو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما رأوا غضب النبي و اباءه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة و هو يأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا، فابى عليهم أن يدعها و لا يوما.

(1) و لقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي كان نشر التوحيد، و هدم بيوت الاصنام، و تحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلبا مخجلا جدا، و لقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاما لا يضر بمصالحهم الماديّة و ميولهم الباطنية، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه و لن يرضوا به.

و لهذا عند ما عرف وفد ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادروا إلى التعلل و الاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم و ذراريهم و سفهاء قبيلتهم، حيث إنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام، فاذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم ذلك فليبعث معهم شخصا من غير قبيلتهم ليهدمها، فوافق النبي صلّى اللّه عليه و آله على هذا الشرط، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يريد محو و ازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على

أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

(2) و الشرط الآخر هو أن يعفيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الصلاة.

فلقد كانوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمكنه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب، حسب زعمهم، حيث كانوا يكلّفون جماعة بهذه الاحكام، بينما يعفون جماعة اخرى منها، و ذلك غفلة منهم عن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:586

أنّه صلّى اللّه عليه و آله يتبع الوحي الالهيّ، و لا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

(1) إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترسّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعد، و أنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ، و إلّا فلا داعي و لا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض، فيقبلوا شيئا و يرفضوا شيئا آخر.

إن الاسلام، و الايمان باللّه إن هو إلّا نوع من التسليم الباطني الروحيّ، و الخضوع القلبي الذي يقبل المرء في ظلّه جميع التعاليم و الدساتير الإلهية عن طواعية و رغبة، و في مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقا إلى روح إنسان و مخيّلته.

و لأجل هذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوابهم:

«لا خير في دين لا صلاة فيه» «1».

إن المسلم الذي لا يسجد و لا يركع للّه تعالى في اليوم و الليلة و لامرة واحدة، و لا يذكر ربّه لا يكون مسلما بالمعنى الصحيح.

(2) هذا و عند ما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد و الشروط المتّفق عليها، وقّع عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حينئذ أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوفد

ثقيف بالعودة إلى قومهم، و اختار منهم أحدثهم سنا و هو «عثمان بن أبي العاص» الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام، و تعلّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمّره عليهم، و جعله نائبا دينيا، و سياسيا عنه في قبيلة ثقيف و أوصاه- فيما أوصاه- بأن يصلّي بالناس جماعة مراعيا أضعفهم قائلا له:

«يا عثمان تجاوز «2» في الصلاة و أقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 317.

(2) تجاوز: أي خفف الصلاة و أسرع بها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:587

و الصغير و الضعيف و ذا الحاجة».

(1) ثم كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أبا سفيان بن حرب»، و «المغيرة بن شعبة» بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهدم الاصنام فيها، أجل إن أبا سفيان الذي كان و حتى يوم أمس من حفظة الأصنام و هو الذي أراق في سبيلها أنهرا من الدّماء، يمشي الآن إلى الطائف و هو يحمل فأسه و معوله لتحطيم الأصنام فيها، و يحوّلها الى تلّ من الحطب، و يبيع ما يتعلق بها من ذهب و فضّة و حليّ ليقضى بأموالها ديون «عروة» و «الأسود» حسب اوامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 537- 543، السيرة الحلبية: ج 3 ص 216- 218، و لقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب «اسد الغابة»: ج 1 ص 216 و ج 3 ص 406 أيضا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:588

حوادث السنة التاسعة من الهجرة (1)

56 إعلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعدة آيات من سورة التوبة (سورة البراءة)، و كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن

يبعث بها رجلا إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

و لقد رفع الأمان في هذه الآيات عن المشركين، و الغيت جميع العهود (إلّا العهود و المواثيق التي التزم بها أصحابها و لم ينقضوها)، و ابلغ إلى رءوس الشرك و أتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد- و ذلك خلال أربعة أشهر، و إذا لم يتركوا الشرك و الوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نزعت منهم الحصانة، و رفع عنهم الأمان.

(2) عند ما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة و هذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام و يعتبرون هذا الموقف الحاسم و الحكيم مخالفا لمبدإ الحريّة الاعتقادية، و لكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب و انحياز، و درسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء، و التي ذكرت في هذه السورة، و في النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء، و لصدّقوا و اعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم، أبدا و إليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد (البراءة).

(3) 1- كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:589

الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير و يطوف بثوب آخر، و اذا لم يكن له ثوب آخر، فان عليه أن يستعير ثوبا و يطوف به حتى لا يضطرّ إلى الطواف عريانا، و إن لم يمكنه ان يستعير ثوبا طاف بالبيت المعظم عاريا، بادي السوأة.

و قد دخلت امرأة ذات جمال كبير، ذات يوم المسجد الحرام، و حيث أنّها لم تك تملك ثوبا آخر، لذلك اضطرّت تبعا

لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظّم، و من الواضح أنّ مثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت ينطوى على نتائج سيّئة بالغة السوء.

(1) 2- لقد نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية و الشرك قد بلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يصرّون على الشرك و الوثنية لم يكن ذلك إلّا عن عصبية و عناد.

من هنا كان الوقت قد جان لأن يستخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف، و أن يستعين بمنطق القوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة، و أن يعتبرها نوعا من العدوان على الحقوق الالهية و الإنسانية، و بهذه الطريقة يقضي على منبع و منشأ مئات العادات السيئة في المجتمع.

(2) و لكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفا لمبدإ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي و قاعدة المدنية الراهنة، قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم ما دام لا يضرّ بسلامة الفرد و المجتمع، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتما بحكم العقل و سيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أورپا اليوم مثلا جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقا من افكار منحرفة فاسدة و قاموا- على أساس أن إخفاء بعض

سيد المرسلين ،ج 2،ص:590

الأقسام من الجسد يثير الفضول و يوجب تحريك الغريزة و يسبب فساد الاخلاق- بتشكيل نوادي العري السرية، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد

بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة، و يقول: إن الاعتقاد أمر محترم، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظا على سعادة تلك الجماعة نفسها، و سعادة المجتمع و هذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات و الحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر، فهم يحاربونها بلا هوادة، و هذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام و الخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة، و قد بذل رسول الاسلام جهودا كبرى و كافية في سبيل هدايتهم، و بعد أن انقضى اكثر من عشرين عاما من دعوته كان الوقت قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

(1) 3- و من جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات و الشعائر الاسلامية و لم تكن الصراعات و المواجهات التي وقعت بين الاسلام و رءوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسول الكريم المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح و بعيدا عن أيّ نوع من أنواع الشوائب و الزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبي الكريم بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم، و يعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم و المناسك اذا خلّت منطقة الحرم الإلهي و نواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية و العبادة للأصنام الخشبية، و الحجرية، و يطهّرها من كل معالم الشرك و الوثنية، و يصبح الحرم الإلهي خالصا للموحدين و العباد

الواقعيين.

(2) 4- إن جهاد النبي لم يك له أيّ ارتباط بحرية العقيدة، فالعقيدة ليست شيئا يمكن أن يفرض على أحد، و يوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان و نفسه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:591

هو مركز الاعتقاد و مقرّه، و ظرفه و مكانه، و هو لا يخضع لأي قهر أو تسخير، و إن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات و الأوليّات التي توجب حصول العقيدة، و ظهور العقيدة و حصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

و على هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر، و لا تقبل الفرض، بل كان نضال النبي ينحصر في النضال ضدّ مظاهر هذه العقيدة و هي عبادة الاوثان.

من هنا هدم كل بيوت الاصنام، و حطّم الأوثان بينما ترك الانقلاب في العقائد و الضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع- لا محالة- مثل هذا التطور و التحول و الانقلاب.

(1) ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة و يأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلا من المسلمين «1» الى مكة، و يتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام باداء هذه المهمة، و توجه نحو مكة، إلّا أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برسالة من اللّه سبحانه و هي:

«إنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك».

(2) و لهذا استدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا و أخبره بالخبر ثم قال له:

اركب ناقتي العضباء و الحق أبا بكر فخذ براءة من يده، و امض

بها الى مكة و انبذ بها عهد المشركين إليهم، أي اقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية:

______________________________

(1) و قد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلاثمائة (المغازي: ج 3 ص 1077).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:592

1- أن لا يدخل المسجد مشرك.

2- أن لا يطوف بالبيت عريان.

3- أن لا يحجّ بعد العام مشرك.

4- أنّ من كان له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد فهو له إلى مدته، أي إنّه محترم ميثاقه و ماله و نفسه إلى يوم انقضاء العهد، و من لم يكن له عهد و مدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه، و ذلك بدءا من هذا اليوم (العاشر من شهر ذي الحجة).

أي إن على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين، و ينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك و يحطموها، و إما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين «1».

(1) فخرج علي عليه السّلام على ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العضباء مع جماعة منهم «جابر بن عبد اللّه» الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي عليه السّلام.

و يروي محدّثو الشيعة و جماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع علي عليه السّلام الى مكة ...:

بل أرجع إليه، و عاد إلى النبي صلّى اللّه عليه و

آله، فلما دخل عليه قال: يا رسول اللّه إنك أهلتني لأمر طالت الاعناق إليّ فيه، فلمّا توجهت له رددتني عنه، ما لي أنزل فيّ قرآن؟!

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا و لكنّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ و جلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك، و عليّ منّي، و لا يؤدّي عنّي إلّا عليّ» «2».

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 1 ص 326.

(2) الارشاد: ص 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:593

(1) إلّا أن بعض روايات أهل السنّة تفيد أنّ أبا بكر أنيط إليه امارة الحجيج في ذلك العام، بينما كلّف علي عليه السّلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة و النقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى «1».

دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام مكة و في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، صعد على جمرة العقبة و قرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة (البراءة) و أذان رسول اللّه المتضمن للنقاط الاربعة، رافعا صوته به، بحيث يسمعه جميع من حضر، و ذلك بمنتهى الشجاعة و الجرأة، و أخبر المشركين الذين لا عهد و لا مدة لهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ابتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان، فاذا انقضت هذه المدة قتلوا اذا وجدوا على الشرك، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية و إلّا سلبت عنهم الحصانة، و رفع عنهم الأمان.

لقد كان أثر هذه الآيات و هذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلّا و أقبل المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجا افواجا،

و هكذا استأصلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

(2)

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث:

لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة، و تنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يعدّ من ابرز فضائل علي و مناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار و الشك، و لكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ و الانحراف مع ذلك عند تحليل و دراسة هذه الحادثة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 546 و راجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير: ج 6 ص 338- 350.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:594

فهذا «الآلوسي البغدادي» يكتب في تفسيره عند دراسة و تحليل هذه الحادثة: النكتة في نصب الامير كرم اللّه تعالى وجهه مبلّغا نقض العهد في ذلك المحفل ان الصّديق رضي اللّه تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة و الجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء و لما كان علي كرم اللّه وجهه و الذي هو أسد اللّه و مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال و صفات القهر «1».

(1) إن هذا التفسير النابع من منبع التعصّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر: «إنّ هذه الآي لا يؤدّيها إلّا أنا أو رجل منّي» أي لا يصلح لأدائها غير هذين الرجلين و ليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة و الشجاعة.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المظهر الكامل للرحمة و الرأفة و بناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يكلف حتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بابلاغ هذه الآيات، على حين أن الوحي قال: هذه الآيات لا يؤديها إلّا أنت أو رجل منك».

(2) و لقد برّر جماعة اخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا: لقد كان التقليد المتّبع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفس الموقّع على العهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد و نقضه، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حاله، و حيث إن علي بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كلّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

(3) و لكن هذا التفسير و التوجيه غير مقنع، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هو أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل عمّه العباس، فلما ذا لم يكلّف بابلاغ آيات البراءة، و نبذ العهد الى المشركين.

______________________________

(1) روح المعاني: ج 10 ص 45 تفسير سورة التوبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:595

ثم لما ذا لم يتبع النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه العادة من أول الأمر و هو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول: إن علة هذا العزل، و النصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام، و الطموح الى السلطة، و لا وشيجة القربى مع علي عليه السّلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عمليا عن أهليّة أمير المؤمنين علي عليه السّلام و صلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلّقة بالحكومة الاسلامية، و ليعلم الناس أنه عديل النبي صلّى اللّه عليه و آله في الجوانب الروحية، و في مجال الأهليّة، و الصلاحية.

(1) و انه اذا ما غابت شمس الرسالة بعد حين وجب أن

تسلّم مقاليد الحكم، و ازمّة التصرّف في المسائل و الامور المتعلّقة بشئون الخلافة الى عليّ عليه السّلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه، و انه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الإشكال و التشتت، و الاختلاف و الحيرة في هذا الأمر، لأنهم قد رأوا بام عينهم كيف نصب «علي» من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين، الذي هو من صلاحيات و اختيارات، الحاكم الاسلامي و شئونه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:596

(1)

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

57 في رثاء الولد العزيز

اشارة

«يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئا إنّا بك لمحزونون تبكي العين و يحزن القلب و لا نقول ما يسخط الربّ، و لو لا أنّه وعد صادق و موعود جامع فانّ الآخر منّا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه» «1».

هذه العبارات قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رثاء ولده العزيز «إبراهيم» في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم، و بينما كان الوالد العظيم واضعا شفتيه على خدّ ابنه، و يودّعه بروح ملؤها المشاعر و العواطف، من جانب، و راضية بالتقدير الإلهي.

إنّ حبّ الأولاد و الأبناء من أرفع و أظهر تجلّيات الروح الانسانية، كما انه خير دليل على سلامة الروح و لطافتها.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول دائما: «اكرموا أولادكم» «2» و ذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودّة الأبناء و العطف عليهم من مكارم أخلاقه و محاسن سجاياه «3».

(2) ففي السنين و الأعوام الماضية واجه النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله مصيبة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 311 بحار الأنوار: ج 22

ص 157.

(2) بحار الأنوار: ج 104 ص 95 عن مكارم الاخلاق.

(3) المحجة البيضاء: ج 3 ص 366.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:597

افتقاد ثلاثة من أولاده هم: «القاسم و الطاهر، و الطيب» «1» و ثلاث من بناته و هن: «زينب» و «رقيّة» و «أمّ كلثوم» و لقد حزن لفقدهم حزنا شديدا و كانت «فاطمة» هي البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

(1) لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية و كان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الامراء و الملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام، و إلى عقيدة التوحيد، و هذا الحاكم و إن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر، و لم يقبل دعوته إلّا أنه اجاب على كتاب النبي باجابة حسنة مضافا إلى أنه أرسل إليه صلّى اللّه عليه و آله هدايا منها جارية تدعى «مارية».

و لقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها و ولدت له ابنا سماه «إبراهيم» أحبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبّا شديدا.

و لقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة، و اشعلت في نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله بصيصا من الأمل، و لكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهرا، و انطفأ.

(2) لقد خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بيته ذات يوم لعمل، و عند ما عرف بتدهور خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد «إبراهيم» عاد من فوره الى منزله، و اخذ ابنه من

حضن أمه، و فيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم و الاضطراب نطق بهذه العبارات.

إن حزن النبي صلّى اللّه عليه و آله و بكاءه في موت ابنه «إبراهيم» دليل حيّ على عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب، و إن إظهار تلك العواطف و الإعراب عن الحزن و الأسى كان يكشف عن روح

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 166، و لكن بعض علماء الشيعة قالوا: أولاده الذكور من خديجة اثنان فقط راجع ج 22 ص 151 من بحار الأنوار.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:598

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلّ تجنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التكلم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه و رضاه بالتقدير الالهيّ الذي لا مفرّ لأحد منه.

(1)

اعتراض غير وجيه:

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده «إبراهيم»، فاعترض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أو لم تكن نهيت عن البكاء، و أنت تبكي؟

إن هذا المعترض لم يكن جاهلا بمبادئ الاسلام و قواعده الرفيعة فحسب، بل كان غافلا حتى عن العواطف و المشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضا.

إن جميع الغرائز الانسانية خلقت في الكيان البشري لأهداف خاصة و يجب ان يتجلى كل واحد منها في وقته المناسب و موقعه اللازم، فالشخص الذي لا يحزن لفقد أحبّائه و أعزّائه و لا يغتم لفراقهم، و لا تدمع عيناه لذلك، و بالتالي إذا لم يظهر من نفسه أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر، و لا يستحق اسم الانسانية.

(2) و لكن ثمة نقطة مهمة و جديرة بالانتباه، و هي

أنّ هذا الاعتراض و ان كان اعتراضا غير موجّه، إلّا أنه يكشف عن وجود حرية كاملة، و ديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنّ شخصا عاديّا من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة و من دون خوف أو وجل، و سمع الجواب.

و من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا، إنّما هذا رحمة، و من لا يرحم لا يرحم» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 151.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:599

او قال:

«لا، و لكن نهيت عن خمش وجوه و شقّ جيوب و رنة شيطان» «1».

و لقد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «2» بتجهيز «إبراهيم» و غسله و كفنه و تحنيطه، ثم إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله شيّعه مع جماعة من أصحابه، و مضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إن النبي صلّى اللّه عليه و آله رأى في قبر «إبراهيم» خللا فسوّاه بيده ثم قال:

«إذا عمل أحدكم عملا فليتقن» «3».

(1)

مكافحة الخرافات:

عند ما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انكسفت الشمس فتصوّر البعض ممن جهل سنن الطبيعة و قوانين العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم.

و لا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل و ان كان قضية خيالية و وهما سخيفا إلّا أنه كان من شأنه أن ينفع النبي، و يعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة و عشقها.

و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قائدا عاديا و ماديّا لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة و قوة.

و لكن النبي صلّى اللّه

عليه و آله على عكس هذه التوقّع رقى المنبر، و أطلع الناس على حقيقة الأمر و قال:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و 311.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 156، و روي في السيرة الحلبية ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّف الفضل بن العباس (ابن عم النبي) بتجهيز إبراهيم.

(3) بحار الأنوار: ج 22 ص 157.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:600

«أيّها الناس إن الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته» «1».

(1) إن النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق و تجييرها لمصالحهم، و استخدامهم لمآربهم، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس و نزعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة، و لم يستفد من جهل الناس و غفلتهم لصالح نفسه.

و لو أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه الفكرة الباطلة و هذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسه قائدا خالدا للبشرية و رسولا مختارا من جانب خالق الطبيعة، و المؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ، في العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة، و اتضحت فيه قوانين العالم الماديّ و نواميسه، و علل الكسوف و الخسوف و غيرهما من تفاعلات الطبيعة.

(2) إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضع لحدود زمانية أو مكانية، فلو أنه كان نبي الاقوام و الاجيال الغابرة، فهو كذلك نبيّ عصر الفضاء، و قائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة و رموزها.

إن احاديث هذا النبي العظيم، و كلماته من

القوة، و المتانة و من الصحة، و الاتصاف بالواقعية بحيث لم يتطرق إليها أي إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي قلبت كثيرا من معارف البشر القديمة رأسا على عقب.

______________________________

(1) المحاسن: ص 313، السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و 311.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:601

(1)

58 وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع «نجران» بقراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز و اليمن الحدودية، و كانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة و اعتنقوا المسيحية «1» من بين مناطق الحجاز.

و قد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران «2» «أبو حارثة» يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم و رؤسائه.

و إليك مضمون هذا الكتاب:

«بسم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمّد رسول اللّه إلى أسقف نجران و أهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم و اسحاق «3» و يعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة اللّه من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد، فان أبيتم فالجزية، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب و السلام».

(2) و اضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب «4» و التي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهار.

______________________________

(1) ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان: ج 5 ص 266- 277 علل اعتناقهم للمسيحية.

(2) الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ و تعني الرقيب و المناظر و هو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 285.

(4) المراد من تلك الآية هو قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا

نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ «شَيْئاً» (آل عمران: 64. الاقبال: ص 494).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:602

قدم سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نجران و سلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية و دقة متناهية، ثم شكّل جماعة للمشاورة و تداول الأمر و اتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية و غير الدينية، و كان أحد أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الذي عرف بعقله و نبله، و تدبيره و حكمته، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه: قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه و جهدت لك.

(1) فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و دراسة دلائل نبوته، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران و أعقلهم، و كان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم:

1- «أبو حارثة بن علقمة» اسقف نجران الأعظم و الممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2- «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله و دهائه، و تدبيره.

3- «الأيهم» و كان من ذوي السن و من الشخصيات المحترمة عند أهل نجران «1»

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة و دخلوا المسجد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يلبسون أزياءهم الكنسيّة و يرتدون الديباج و الحرير، و يلبسون خواتيم الذهب و يحملون الصلبان في اعناقهم، فأزعج منظرهم هذا و خاصة في المسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فشعروا بانزعاج النبي و لكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان»

و «عبد الرحمن بن عوف» و كانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه و خواتيمهم ثم يعودون إليه.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 211 و 212.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:603

(1) ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله فسلّموا عليه فرد عليهم السّلام، و احترمهم، و قبل بعض هداياهم التي أهدوها إليه صلّى اللّه عليه و آله، ثم إن الوفد- قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله قالوا: إن وقت صلاتهم قدحان و استأدنوه في أدائها، فاراد الناس منعهم و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذن لهم و قال للمسلمين: دعوهم فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم «1».

و بذلك اعطى النبي صلّى اللّه عليه و آله درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين.

(2)

مفاوضات وفد نجران مع النبي:

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة، و المحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار و قضية المباهلة بنحو أدقّ و اكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين و المؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني «2». و كتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل «3»، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب، و لهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

______________________________

(1)

السيرة الحلبية: ج 3 ص 212.

(2) هو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه و المتوفى عام 387 ه.

(3) من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص 496- 513.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:604

سيرته «1». سيد المرسلين ج 2 604 مفاوضات وفد نجران مع النبي: ..... ص : 603

1) عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على وفد نجران و تلا عليهم القرآن، فامتنعوا و قالوا: قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث:

عبادتكم الصليب، و أكلكم لحم الخنزير، و زعمكم أنّ للّه ولدا.

فقالوا: المسيح هو اللّه لأنه أحيا الموتى، و أخبر عن الغيوب، و أبرأ من الأدواء كلها، و خلق من الطين طيرا.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله هو عبد اللّه و كلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم: المسيح ابن اللّه لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى:

إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب» «2».

(2) فقال وفد نجران: إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلّا تباينا، و هذا الأمر الذي لا نقرّه لك، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين «3».

فانزل اللّه عزّ و جلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» «4».

فدعاهم إلى المباهلة، فقبلوا، و اتفق الطرفان على ان

يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 239.

(2) آل عمران: 59.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 320، و لكن آية المباهلة، و كما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة «تعالوا ندع ابناءنا ...».

(4) آل عمران: 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:605

(1)

خروج النبي للمباهلة:

تعتبر قصة مباهلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة و الجميلة، و هي و إن قصّر بعض المفسّرين و المؤرخين في رواية تفاصيلها، و تحليلها، إلّا أنّ ثلة كبيرة، من العلماء كالزمخشري في الكشاف «1» و الإمام الفخر الرازي في تفسيره «2» و ابن الاثير في الكامل «3» أعطوا حق الكلام في هذا المجال و ها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال:

حان وقت المباهلة ... و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و وفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء ... فاختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين و من عشيرته و أهله أربعة أشخاص فقط و قد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، و هؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالب عليه السّلام و فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحسن و الحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا، و لا أقوى و أعمق إيمانا.

(2) طوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسافة بين منزله، و بين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة، فقد غدا محتضنا الحسين «4» آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه

و علي خلفها، و هو يقول: إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران و رؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض- قبل أن يغدو

______________________________

(1) ج 1 ص 382 و 383.

(2) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 471 و 472.

(3) ج 2 ص 112.

(4) جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن و الحسين تتبعه فاطمة و بين يديه عليّ (بحار الأنوار: ج 21 ص 338).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:606

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المباهلة: انظروا محمّدا في غد، فإن غدا بولده و أهله فاحذروا مباهلته، و إن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شي ء. و هم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية، و قوة ظاهرية، تحف به قادة جيشه و جنوده فذلك دليل على عدم صدقه، و إذا أتى بولده و أبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية و توجه إلى اللّه بهم و تضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله و استيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، و أفلاذ كبده، و أحبّ الناس إليه لذلك، و لم يقتصر على تعريض نفسه له، و على ثقته بكذب خصمه.

(1) و فيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب و دهشة، كيف خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بابنته الوحيدة، و أفلاذ كبده و كبدها المعصومين للمباهلة، فادركوا أن النبي صلّى اللّه عليه و آله واثق من نفسه و دعوته وثوقا عميقا، اذ ان المتردد غير

الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه و اعزته و يعرضهم للبلاء السماوي.

و لهذا قال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة «1».

______________________________

(1) يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب «الاقبال»: أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين و الأنصار، و غيرهم من الناس في قبائلهم و شعاراتهم من راياتهم و احسن شاراتهم و هيئتهم ... و لبث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على و الحسن و الحسين أمامه، و فاطمة عليها السّلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:607

(1)

انصراف وفد نجران عن المباهلة:

لما رأى وفد نجران هذا الأمر (و هو خروج النبي باحبّته و اعزته) و سمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبي صلّى اللّه عليه و آله، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم و أموالهم، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و تقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا، ثم قال النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«أما و الّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران، و لو لاعنوني لمسخوا قردة و خنازير و لأضرم الوادي عليهم نارا و لاستأصل اللّه تعالى نجران و أهله».

عن عائشة: إن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله خرج (أي يوم المباهلة) و عليه مرط «1» مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله، ثم فاطمة، ثم عليّ، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «2».

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: و فيه دليل لا شي ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السّلام)، و فيه برهان على صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله، لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

(2)

صورة العهد النبويّ لأهل نجران:

سأل وفد نجران النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبي صلّى اللّه عليه و آله في كتاب، و أن

______________________________

(1) كساء.

(2) الاحزاب: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:608

يضمن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمن نجران في ذلك الكتاب، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه:

(1) «بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول اللّه لنجران و حاشيتها، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة و صفراء و بيضاء و سوداء و رقيق فأفضل عليهم و ترك ذلك لهم: ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، و في كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية، و ما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، و ما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب، و عليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا، و ثلاثون فرسا، و ثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك، و على أهل نجران مثواة رسلي (و استضافتهم) شهرا فدونه، و لهم

بذلك جوار اللّه و ذمة محمّد النبي رسول اللّه على أنفسهم و ملتهم و ارضهم و اموالهم و بيعهم و رهبانيتهم على أن لا يعشّروا و لا يأكلوا الربا و لا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة» «1».

(2)

اكبر فضيلة:

تعتبر واقعة المباهلة و ما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة و مفرداتها تكشف عن مكانة و مقام من باهل بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن و الحسين ابناء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يصدق عليها عنوان «نسائنا». و قد عبّر عن عليّ عليه السّلام بانفسنا فكان علي عليه السّلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ترى أية فضيلة أعظم و أسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

______________________________

(1) فتوح البلدان: ص 76، امتاع الاسماع: ص 502 و اعلام الورى: ص 78 و 79.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:609

الناحية المعنوية ارتفاعا و تسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي «1».

أ ليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي عليه السّلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة و مواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم و أهل المعرفة.

هذا و يستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت

أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه و يجادله فيها، و قد جاءت طريقة المباهلة و الدعاء المخصوص بها في كتب الحديث، و للوقوف على هذا الامر يراجع كتاب «نور الثقلين» «2».

______________________________

(1) و قد استند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه الآية في قوله: «علي مني كنفسي».

(2) نور الثقلين: ج 1 ص 291 و 292، و راجع أيضا الكافي ج 2 كتاب الدعاء باب المباهلة، و قد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا، و يعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:610

(1)

59 تأريخ المباهلة عاما و شهرا و يوما

اشارة

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير، و التاريخ و الحديث بصورة مبسوطة و مفصّلة لمناسبة و اخرى، و تتلخص هذه القصة فيما يلي:

لقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- يوم راسل ملوك العالم و امراءه يدعوهم الى الاسلام- كتب كتابا الى اسقف نجران «ابو حارثة» دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام و لما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاور جماعة من اصحابه، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كثب.

و فعلا قدم الوفد المذكور المدينة، و التقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد مداولات و مفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه، بأن يخرج الجميع (الطرفان) إلى الصحراء، و يدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله، و لكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حالة معنوية، و روحانية عظيمة، حيث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته و أعزته، و تقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية و هم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية (و هي مبلغ ضئيل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:611

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها و إخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر، و الآن يجب أن نرى متى و في أي يوم و شهر و عام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

(1)

عام المباهلة حسب المشهور:

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد: لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و قد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش «1».

(2)

الشهر و اليوم الذي وقعت فيه المباهلة:

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس و العشرين من شهر ذي الحجة، و ذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع و العشرين من ذلك الشهر، و روى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة «2».

و اما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة، و ذكر بأن أصح تلك الأقوال و الروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع و العشرون من شهر ذي الحجة، و قد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد و العشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع و العشرون «3».

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 65، الدر المنثور: ج 2 ص 38.

(2) مصباح المتهجد: ص 704.

(3) الإقبال: ص 743.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:612

(1) ثم انه رحمه اللّه روى في آخر كتابه «1» قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر، و نوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين:

1- كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني «2».

2- كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس «3».

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع و العشرون أو الواحد العشرون أو الخامس و العشرون أو السابع و العشرون من

شهر ذي الحجة.

و أمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام و السنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال و الآراء حول عام و يوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد، و إليك ادلتنا على ذلك فيما يلي:

(2)

رأينا حول عام المباهلة:

(3) 1- لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى اسقف نجران عبارة: «و إن أبيتم فالجزية»، و قد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

______________________________

(1) الاقبال: ص 743.

(2) لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي: محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه بن بهلول بن الهمام بن المطلب و على هذا الاساس يكون جده المطلب و ليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. و ينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد اللّه- حسب ما يرى النجاشي- فترتين من الحياة، كان في إحداهما موثوقا به، و في الاخرى غير موثوق به و هذا يقول: اجتنب الرواية عنه الّا عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته و صلاحه (راجع فهرست النجاشي ص 281- 282).

(3) جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية و هو من مشايخ الطائفة الامامية و قد توفي عام 460 ه و قد نقل احاديث المباهلة (راجع الذّريعة ج 15 ص 344).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:613

في سورة التوبة و الظاهر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخدم هذه الجملة و اللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة، و قد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل، و قد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

و بناء على هذا

يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتابا، بعثوا بجوابه إليه صلّى اللّه عليه و آله بعد عام و نصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

(1) 2- اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا عليه السّلام إلى اليمن للقضاء و تعليم الاحكام الدينية، و قد مكث علي عليه السّلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه، و عند ما علم بتوجه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مكة للحج، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن، فلقي النبيّ بمكة، و قدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت و كتبت عليهم في معاهدة الصلح «1».

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة و كتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة، و ذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كل سنة ألفي حلة (مخيّطة و غير مخيّطة)، الف حلة منها في شهر رجب، و الف حلة اخرى في شهر صفر «2».

(2) فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح، و تنفيذها بواسطة الامام

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 602 و 603، الارشاد: ص 89.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 348، و الارشاد: ص 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:614

علي عليه السّلام قد تمّا

معا في السنة العاشرة.

و إذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم و العام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة، و لكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام عليا عليه السّلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

(1) و الخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية (و هي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب و سلمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة في شهر ذي الحجّة) وجب أن نختار احد القولين التاليين:

الف: إذا سلّمنا بان يوم و شهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء: إذا ترددنا في يوم و شهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة و كذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

(2)

زمن المباهلة يوما و شهرا:

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما، إلّا في صورة واحدة و هي أن نغيّر رأينا في اليوم و الشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

و قد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم و الشهر في ضوء الاحداث و الوقائع التاريخية، فنقول: إن الشهر و اليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما- حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا- شهر ذي الحجة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:615

و اليوم الرابع و

العشرون أو الخامس و العشرون، و على قول: الحادي و العشرون، أو السابع و العشرون من ذلك الشهر.

(1) و الآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة، و في اليوم الثامن عشر من هذا الشهر (و هو يوم الغدير) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة «1» بميلين «2»، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

و لم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي- بشهادة التاريخ- أمر بعد نصب علي عليه السّلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة، و ان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة، و يهنئونه بالخلافة و الإمرة و قد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة، و قد هنّأت «امهات المؤمنين» عليا عليه السّلام في نهاية

______________________________

(1) «الجحفة» على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة و سبعة منازل من المدينة و تبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا و تقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة و المدينة راجع كتاب التحرير للنووى و التهذيب له أيضا، هذا و يقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص 109: ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة و هي ميقات أهل مصر و الشام، و تبعد عن البحر بستة أميال، و

عن غدير خم بميلين. و هي الآن تبعد عن مكة- حسب المقاييس الحديثة- بمائتين و عشرين كيلومترا و يقول المسعودي في كتابه «التنبيه و الاشراف» ص 221- 222 أيضا:

أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة، و ولد علي رضي اللّه عنه و شيعته يعظمون هذا اليوم.

(2) الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع، و الفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع و قيل: ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع، و الفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع، و على أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ، و ثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا (راجع القاموس مادة: ميل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:616

مراسيم التهنئة «1».

(1) من هنا لا يمكن القول بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين و المصريين و العراقيين، و بناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أرض الغدير مدة أطول.

و حتى لو فرضنا- افتراضا- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر، فهل يمكن ان نقول- في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدم المدينة في اليوم الرابع و العشرين أو الخامس و العشرين، و اخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه و بين أهل نجران؟، كلا حتما، لأن

المسافة بين مكة و الجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة و المدينة.

(2) و يجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل- آنذاك- من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلّا حديث سفر النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام «2».

______________________________

(1) جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير: الجزء 1 ص 245- 257.

(2) غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع، و وصل إلى محلة «قبا» حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر، و تدلّ القرائن على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له (السيرة النبوية: ج 2 ص 399، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 135).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:617

كما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما «1».

(1) و سبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل، و من الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

و لنفترض أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر أرض «غدير خم» في اليوم التاسع عشر، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة و المدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة و المدينة، و بالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع و العشرين.

و اذا اعتبرنا الثاني (أي احد عشر يوما) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة (أي بين الجحفة و المدينة) في سبعة ايام و نصف اليوم، فيكون- حسب القاعدة- قد قدم المدينة في اليوم السادس و العشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول- في ضوء هذه المحاسبة- بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع و العشرين أو الخامس و العشرين او السابع و العشرين.

(2) إن بطلان هذا القول، و خلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات و المداولات، و قد انصرفوا عن التباهل في المآل و وقّعوا على وثيقة صلح بينهم و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة و هم يرتدون ثيابا راقية من الديباج و الحرير، و في أيديهم خواتيم من ذهب، و على صدورهم صلبان من ذهب، و توجه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:618

فور قدومهم- و على هذه الهيئة- إلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و لكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

(1) فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شي ء و تفرق أعضاء الوفد، و هم في حيرة من موقف النبي صلّى اللّه عليه و آله فالتقى الوفد عليا عليه السّلام و سألوه عن سبب استياء النبي و اعراضه عنهم، فأخبرهم الامام علي عليه السّلام بأن عليهم أن ينزعوا

تلك الثياب و الحليّ عنهم، و يدخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ و يستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد و دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله ثانية و لكن بثياب عادية خالية عن الزينة و الحليّ، فاستقبلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببشاشة خاصة، و رحّب بهم ترحيبا كبيرا، ثم سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يؤدوا صلاتهم في المسجد، فاذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، ثم دخلوا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في مناظرات و مناقشات مفصّلة، و بعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين و المؤرخين و منهم ابن هشام في سيرته «1» اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة، و حدّد يوم المباهلة.

و لما كان ذلك خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء و صهره عليّ بن أبي طالب، و سبطيه الحسن و الحسين، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

(2) و لكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي و من معه و ما هم عليهم من البساطة و الجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة و رضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فهل هذه الوقائع التي استغرقت- كما يقول بعض المؤرخين- اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 575، مجمع البيان: ج 1 ص 410.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:619

(1) إن المحاسبات تقضي و تفيد بأن مراسيم المباهلة، و كتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد و العشرين أو الرابع و

العشرين، أو الخامس و العشرين أو السابع و العشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن «نجران» مدينة حدودية بين الحجاز و اليمن، و لا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة لاداء مناسك الحج، و لهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة و الاستقرار الكامل فيها.

(2)

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة، و قد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا «1».

و لكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى، و ذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة (التاسعة) من قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله بمهمة إبلاغ آيات البراءة- على

______________________________

(1) جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير: في ج 6 ص 318- 321 هذا الرأى من اثنين و سبعين شخصا من علماء السنة، و كأن قضية المباهلة بين النبي و وفد نجران وقعت في آخر هذه الستة (التاسعة)، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة، و لا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع و هي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة

على عام الغدير و استغرقت اربعة مجالس (بتلخيص).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:620

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى، و في الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج و ادارة امر الحجيج إلى المسلمين، و كان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

(1) و نحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة، و لا شك أن شخصية بارزة و مسئولة كالامام علي عليه السّلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر و يتوجه الى المدينة و هو الذي كانت له أقرباء و انسباء كثيرون في مكة، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء و الصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

و لهذا فان عليّا عليه السّلام مهما اسرع و جدّ في السير قافلا الى المدينة، و قطع المسافة بين مكة و المدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع و العشرين، و لهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران و دلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة و يرحّب بهم، و يشهد المباهلة مع المتباهلين.

(2) إن الشواهد و الادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة (يوما و شهرا و عاما) لا تحظى بالاعتبار الكافي، و لا بدّ- لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن و التفسير و الحديث- من مزيد التحقيق، و مزيد الدراسة، و التقصّى.

و

هنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه و هو: كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة و شهرها و عامها.

(3) و الجواب هو: أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه و لكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:621

علماء الرجال، نظراء:

1- محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق «1».

2- الحسن بن على العدويّ و قد ضعّفه العلامة «2».

3- محمّد بن صدقة العنبرى و قد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ «3».

و قد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب «الاقبال» امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل و قد ذكرنا في الهامش (ص 2073) أن ابا المفضل له فترتان في حياته، فهو موثق في حال و غير موثق في حال آخر، و لا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة، و اخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور (ص 743) على حديث مرفوع (و هو ما فيه نقص في رجال سنده)، و ذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع و العشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

______________________________

(1) و ان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.

(2) تنقيح المقال: ج 1 ص 294.

(3) رجال الشيخ الطوسي: ص 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:622

60 1- تقييم البراءة من المشركين 2- وفود القبائل في المدينة

اشارة

(1) تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي عليه السّلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التي أعلن فيها بصراحة و بصورة رسمية ان اللّه و رسوله بريئان من المشركين و

الوثنيين، و أن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا و يكفّوا عن عبادة الاصنام و يهجروها، و إما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق و السريع، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها و لجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن و الاستجابة لنداء التوحيد و تصر على المضي في عاداتها الشنيعة، و العكوف على الاوهام و الخرافات و عبادة الاصنام و الأوثان.

(2) لقد ارتكبت هذه القبائل، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية، فعمدت إلى إيفاد وفود و مندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام، و قد دار بين كل واحد من هذه الوفود و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حوار خاص.

و قد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى «1» مواصفات و خصوصيات اثنين

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 291- 330.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:623

و سبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات و الوفود العجيب و خاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الّا لكانوا يلجئون إليه، و يتظاهرون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لم تنته المدة المضروبة (اربعة أشهر) بعد إلّا و دخلت كل مناطق الحجاز و كل أقوامها تحت راية التوحيد، و لم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام و الاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن و البحرين و اليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه و اعتنقوه.

(1)

محاولة اغتيال النبي:

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية- يومئذ- بالشر و

الطغيان، و قد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم: «عامر» و «أربد» و «جبار» على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر، و يتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم يغدروا به في المجلس و يغتالوه.

و كانت الخطة تقضى: بأن يتحدث «عامر» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يفاوضه، و فيما هو يفعل ذلك يبادر «أربد» الى ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسيفه.

و لم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة و خطتهم، و لهذا أعلنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام، و وفائهم لشخص النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لكن «عامرا» احجم عن أي نوع من انواع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:624

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس و كان يصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة و هو ينظر الى أربد و ينتظر منه ما كان أمره به و اتفقا عليه، و لكنه لا يزداد نظرا إلى «اربد» إلّا و يزداد «اربد» حيرة و دهشة هذا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعامر كلما قال: خالّني: لا و اللّه حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

(1) فلما أيس «عامر» من «اربد»، و كأنّ «اربدا» كلما عزم أن يجرد سيفه و يهجم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هاب النبي، و منعته عظمته و مهابته، فانصرف عن نيته، قال عامر و هو يترك مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله: أما و اللّه لأملأنّها عليك خيلا و رجالا و هو

بذلك يكشف عن عناده و عتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير، و لم يرد على كلامه و تهديده و انما اكتفى بأن دعا عليه و على صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو و صاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق «عامر» فقتله ذلك المرض الوبي ء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة، و حالة سيئة.

و أما «اربد» فارسل اللّه عليه و على جمله صاعقة و هو في الصحراء فاحرقتهما، و قد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله في أن يزداد تعلق بني عامر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يتضاعف حبهم له صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

أمير المؤمنين في ربوع اليمن:

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام، و أمن النبي صلّى اللّه عليه و آله

سيد المرسلين ،ج 2،ص:625

جانب القبائل العربية، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعل صلّى اللّه عليه و آله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء و هو «معاذ بن جبل» الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد و يشرح لهم معالم الاسلام و تعاليمه المقدسة، و قد أوصاه بوصايا كثيرة و مفصلة منها قوله صلّى اللّه عليه و آله.

«يسّر و لا تعسّر و بشّر و لا تنفّر و إنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة: فقل شهادة أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له».

(1) و يبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز و

السنة النبوية و تعاليمها و احكامها، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا، و لهذا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز «علي بن أبي طالب» عليه السّلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة، و احاديثه المبرهنة، و ما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة، و قوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد بعث «خالد بن الوليد» «1» الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار و لكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شي ء في هذا المجال «2».

(2) فاستدعا النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام و أخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام، و ليخمّس ركازهم، و يعلّمهم

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 5 ص 163.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 264.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:626

الاحكام، و يبين لهم الحلال و الحرام، و إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم و يقدم عليه بجزيتهم، فقال علي عليه السّلام بتواضع بالغ:

«يا رسول اللّه تبعثني و أنا شاب أقضي بينهم و لا أدري ما القضاء» أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده في صدر عليّ عليه السّلام و قال:

«اللّهم اهد قلبه و ثبّت لسانه».

(1) ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه و أيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس و غربت و لك ولاؤه يا علي».

ثم أوصاه صلّى اللّه عليه و آله

بوصايا أربع هامة إذ قال:

يا علي أوصيك:

1- بالدّعاء فإن معه الإجابة.

2- و بالشكر فانّ معه المزيد.

3- و إيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

4- و أنهاك عن المكر، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، و أنهاك عن البغي، فانه من بغي عليه لينصرنه اللّه».

(2) و لقد بقي علي عليه السّلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة، و قد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ و الحديث.

هذا و يروي «البراء بن عازب» و كان من الذين صحبوا عليا عليه السّلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى علي عليه السّلام و من معه إلى أوائل أهل اليمن، و بلغ القوم الخبر، فخرجوا إليه صفّ عليّ عليه السّلام الجنود الذين كانوا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:627

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد، ثم صلّى بهم صلاة الفجر، ثم دعا قبيلة همدان كلّها، و كانت اكبر القبائل اليمنية، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحمد اللّه، و اثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد، و حلاوة البيان، و عظمة المنطق النبوي، فكتب امير المؤمنين عليه السّلام بذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا قرأ كتابه استبشر و ابتهج و خرّ ساجدا شكرا للّه تعالى ثم رفع رأسه و جلس و قال:

«السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان».

ثم تتابع- على أثر اسلام همدان- أهل اليمن على الاسلام «1».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 305، بحار الأنوار: ج 21 ص 360- 363.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:628

(1)

61 حجة الوداع

اشارة

تعتبر مراسيم الحج و مناسكه من

أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالا و ابهة، و ذلك لأنّ أداء مراسيم الحج و مناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد، و الوحدة و دليلا كاملا على الترفع على المناصب و الدرجات و تكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر، و سبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم، و اذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم (الذي يمكنه بحقّ أن يجيب و يعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، و يكون نقطة تحول عميق في حياتنا) استفادة كاملة لائقة، فانّ ذلك ليس- و بدون ريب او شك- ناشئا من قصور في القانون الاسلامي، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين و تقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم و هذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا، و لا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

(2) فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه السّلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة و دعا الموحّدين إلى زيارتها، و الحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب، و مطاف الشعوب و الاقوام و الجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم، و من مختلف انحاء الجزيرة العربية، و يؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه و على نبينا السّلام.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:629

(1) و لكن تقادم العهد، و انقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، و أنانية قريش، و سيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج و مناسكه- من حيث الزمان و المكان- لعملية تحريف و تغيير، و ان تفقد صبغتها الحقيقية

و وجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة العاشرة من الهجرة، و من قبل اللّه سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا، و يقوم بتعليم مناسك الحج للناس، و يوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، و يعيّن حدود «عرفات» و «منى» و يوم الإفاضة منها و لهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ و اجتماعي.

(2) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة (أي شهر ذي القعدة) بأن ينادى في المدنية و بين القبائل بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقصد مكة للحج هذا العام، فاحدث هذا الاعلان شوقا و ابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ضربت مضارب و خيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلّى اللّه عليه و آله و توجّهه الى مكة «1».

و في اليوم السادس و العشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المدينة متوجها الى مكة و قد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري، و قد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

و عند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى «ذي الحليفة» (و هي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، و دخل الحرم، و لبّى عند الاحرام قائلا:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:630

«لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك

لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لبّيك لا شريك لك لبّيك».

و هو بذلك يلبي نداء إبراهيم، كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا، أو علا مرتفعا من الأرض، أو هبط واديا.

و لما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

(1) و في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، دخل صلّى اللّه عليه و آله مكة المكرمة و توجّه نحو المسجد الحرام رأسا، ثم دخله من باب بني شيبة و هو يحمد اللّه و يثني عليه و يصلي على إبراهيم عليه السّلام.

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه «1» أولا، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم و عند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا و المروة «2» ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام و قال:

«من لم يسق منكم هديا فليحلّ و ليجعلها عمرة (أي فليقصّر أي يأخذ من شعره و ظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام) و من ساق منكم هديا فليقم على إحرامه».

(2) و قد كره البعض هذا و اعتذروا بانه يعزّ عليهم (أولا يلذّ لهم) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب و يقربوا النساء و يتدهنوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على إحرامه أشعث أغبر.

______________________________

(1) المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف و فلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة و اقامتها و رفعها، و استلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السّلام و العمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم.

و لقد اعتمر

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفترة المدنية مرتين، إحداهما في السنة السابعة و الاخرى في الستة الثامنة بعد فتح مكة، و كانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع الحج (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 174).

(2) الصفا و المروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام و السعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا و انتهاء بالمروة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:631

و ربّما قالوا: لا يصحّ هذا، كيف تقطر رءوسنا من الغسل «1» و نحن زوّار بيت اللّه؟

(1) فالتفت النبي صلّى اللّه عليه و آله الى عمر و كان ممن بقى على احرامه و قال له: ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر: لم أسق.

فقال النبي: فلم لا تحلّ و قد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر: و اللّه يا رسول اللّه لا أحللت و أنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا و قال:

«لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم».

و هو صلّى اللّه عليه و آله يعني: أنني لو كنت أعلم بالمستقبل و لو عرفت بموقف الناس المتردّد و خلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي، و لفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي، و لكن ما ذا عساي أن أفعل الآن و قد سقت الهدي، و لا يمكنني الإحلال من الإحرام، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي «حتى يبلغ الهدي محلّه» أي أنحر هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه، و أما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه، و احسبوها عمرة، ثم أحرموا للحج مرة اخرى «2».

(2)

الامام علي يعود من اليمن:

لما علم علي عليه السّلام بتوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

الى مكة

______________________________

(1) هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج و غسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام و ترتفع هذه الحرمة بالتقصير و هو أخذ شي ء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 319، و هذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة و تمرّدهم على تعليمات النبي و أوامره الاكيدة و هم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى و ثمة شواهد و موارد اخرى كثيرة على الموضوع، و قد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه «النص و الاجتهاد».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:632

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو و جنوده و قد ساق معه (34) هديا للمشاركة في الحج، و اصطحب حللا من بزّ اليمن و حريرها قد أخذها من اهل نجران و هي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و لقد تعجل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة، فالتحق برسول اللّه و لقيه على مشارف مكة فسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به، و بما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن، و قد أخبر بها النبي صلّى اللّه عليه و آله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انطلق فطف بالبيت، و حلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي: يا رسول اللّه إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج

فقال علي عليه السّلام: يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت: اللّهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك و عبدك و رسولك محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قال النبي و قد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية: فهل معك هدي؟

قال علي: نعم و هو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحكم، و ثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى فرغا عن الحج و نحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الهدي عن نفسه، كما نحر علي هديه أيضا «1».

(2) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر عليا عليه السّلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم، و يصطحبهم الى مكة، فلما رجع علي عليه السّلام إليهم

______________________________

(1) الارشاد: ص 92، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية و لا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل و جزئياته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:633

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع و قال له: ويلك ما هذا؟

قال: كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي عليه السلام: ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، و ردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل و النظام دائما و يريدون أن تسير الامور

وفق أهوائهم و مشتهياتهم و ان خالفت سنن الحق و مبادئ العدالة، و أبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل و الثياب.

و لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة اشتكوا عليا عليه السّلام فقام رسول اللّه خطيبا في الناس و قال:

«أيّها الناس، لا تشكوا عليا، فو اللّه إنه لأخشن في ذات اللّه (أو في سبيل اللّه) من أن يشكى» «1».

(1)

مراسم الحج تبدأ:

انتهت أعمال العمرة، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكره أن ينزل و يمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة و الحج و لهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فخرج زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع و هو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم و حتى الغروب منه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 4 ص 603 و في البحار: ج 21 ص 385: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مناديا أن ينادي في الناس: «ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات اللّه غير مداهن في دينه».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:634

و قد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة (الذي يدّعى يوم التروية أيضا) من طريق منى، و توقّف في «منى» إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره، و توجه نحو عرفات، و نزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى «نمره».

و قد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما و هو على ناقته.

(1)

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع:

... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما و حشدا بشريا هائلا، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم، كان نداء التوحيد و شعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين و مسكن الوثنيين و لكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين، و ملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات (أي أرض عرفات) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى الظهر و العصر و هو يؤم

مائة الف، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ و هو راكب على راحلته، و كان أحد اصحابه- و كان رفيع الصوت قويه- يكرر كلماته صلّى اللّه عليه و آله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك الخطاب هكذا:

«أيّها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم و اموالكم «1» عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم».

و تأكيدا لحرمة أموال المسلمين و دمائهم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة بن أميّة:

______________________________

(1) في الخصال: ج 2 ص 487 أيضا: و أعراضكم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:635

(1) «قل يا أيّها الناس إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: هلّا تدرون أيّ شهر هذا»؟

فاجابوا: الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال و اراقة الدماء. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل: يا أيّها الناس إن رسول اللّه يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟»

فاجابوا جميعا: البلد الحرام، الذي يحرم فيه القتال و العدوان. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا».

(2) ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: هل تدرون أي يوم هذا؟».

فأجابوا بأجمعهم: يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس: إن كل دم كان في الجاهلية موضوع، و

إن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث (و كان من أقرباء النبي)».

و هكذا ألغى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة و بدأ بأقربائه.

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم و قد بلّغت فمن كانت

سيد المرسلين ،ج 2،ص:636

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

(1) أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع و لكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون و إنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، و لكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم (أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال)، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسي ء «1» زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه و يحرّموا ما أحلّ اللّه و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات و الأرض و إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية (ذو القعدة و ذو الحجة و شهر المحرم و رجب).

(2) أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا و لهنّ عليكم حقا:

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه (أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه).

و عليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان اللّه قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، و تضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ و كسوتهن بالمعروف و استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، و إنكم انما أخذتموهنّ بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمات اللّه فاعقلوا

أيها الناس قولي فاني قد بلّغت و قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب اللّه و سنة نبيّه «2»

(3) أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم و إنّ

______________________________

(1) شرحنا النسي ء في ص 83 من هذا الكتاب فراجع.

(2) لقد اوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب و السنة،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:637

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي و لا أمّة بعدكم «1».

«ألا كل شي ء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع» «2».

و هنا قطع النبي صلّى اللّه عليه و آله خطابه، و رفع سبّابته نحو السماء (كعلامة على الشهادة) و هو ينكتها الى الناس و قال:

«اللّهم اشهد

اللّهم اشهد

اللّهم اشهد» «3»

(1) و لقد مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، و عند ما اختفى قرص الشمس عن الافق، و اظلمّ الفضاء بعض الشي ء ركب ناقته، و افاض إلى المزدلفة و امضى فيها شطرا من الليل و لم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى «منى» و أدّى مناسكها من رمي الجمار و الذبح و التقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

______________________________

و لكنه أوصى في خطبة الغدير و في اخريات حياته بالكتاب و العترة، و حيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما، لانه يصح ان يجعل النبي صلّى اللّه عليه و آله السنة عدلا للكتاب في واقعة، و يوصى بالعترة و الخلفاء من أهل بيته

في موضع آخر و يؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا.

و قد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلّى اللّه عليه و آله تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط، و لهذا جعل لفظ «عترة» في الهامش نسخة بدل في حين لا نحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدا لانه لا تعارض بين النقلين أساسا ليعالج بهذه الطريقة.

(1) الخصال: ص 487.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 405.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 523 و الطبقات الكبرى: ج 2 ص 184.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:638

(1) و هكذا علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس مناسك الحج بصورة عملية، و حدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

و يطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ و الحديث «حجة الوداع» تارة، و «حجة البلاغ» اخرى، و «حجة الإسلام» ثالثة، و إنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير «1».

هذا و نلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة و لكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، و يرى آخرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا و قد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا و وقائع لطيفة و جديرة بالدرس و التأمل و التملي، و قد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار «2».

______________________________

(1) راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص

510 هذا و لعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و بالبلاغ هو نزول قوله تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» في أعقابها و بالتمام و الكمال هو نزول قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».

(2) راجع بحار الأنوار: ج 1 ص 378- 413، امتاع الاسماع: ج 1 ص 510- 534.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:639

(1)

62 إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الامة، و أصلحهم، و أعلمهم، و الفرق الواضح بين الامام و النبيّ هو: أن النبي مؤسس قواعد الشريعة، و هو الذي يوحى إليه، و ينزل عليه الكتاب من السماء، و الامام و ان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلّا أنه مضافا إلى شئون الحكومة و القيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق- بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة- لبيانه أو اظهاره، و ترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه و خلفائه.

(2) و على هذا الاساس فان الخليفة- من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين و ليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة و الحافظ للحقوق الاجتماعية، و الحارس لثغور المسلمين و حدود بلادهم المدافع عنها، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين، و المكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة و قوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ و ليس الهدف منها إلّا حفظ الكيان الظاهري و الشؤون المادية للامة الإسلامية، و لخليفة

لا ينصب إلّا باختيار الناس و انتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم و القضاء و إدارة الامور السياسية و الاقتصادية و ما شابهها، و ذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:640

الأحكام على نحو الاجمال.

(1) و أما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام و فقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية و دينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد، و الرأى.

و على أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة و حقيقتها و النظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين و اتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

و بناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. و إليك الشرائط المعتبرة في النبي، التي تشترط في الإمام أيضا:

(2) 1- يجب أن يكون النبي معصوما، يعني أن لا يحوم حول الإثم و المعصية طول حياته أبدا، و لا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين و حقائقه، و عند الاجابة على أسئلة الناس و استفساراتهم الدينية، و يشترط في الامام ذلك أيضا، و الدليل في الموردين واحد.

(3) 2- يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة، و يجب أن لا يخفى عليه شي ء من مسائل الشريعة مطلقا، و هكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين و مسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

(4) 3- إن النبوة منصب تعيينى و ليس منصبا انتخابيا، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلّا اذا عيّنه اللّه و ابتعثه، و نصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن

غير المعصوم، و هو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ و المعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين و جزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي، كذلك هي معتبرة و مشترطة في خليفته و القائم مقامه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:641

(1) و لكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيّ شي ء من هذه الشروط المعتبرة في النبي، في الخليفة فلا تجب العصمة، و لا العدالة، و لا يجب العلم و الاحاطة بالشريعة و لا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه، و الارتباط بعالم الغيب، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخص قادرا في ظلّ ذكائه، و مشورة المسلمين على حفظ الكيان الاسلاميّ، و قادرا على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية، كما و يتمكن من توسيع رقعة الأرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.

و علينا الآن ان نعالج هذه المسألة (أي هل الخلافة و الامامة منصب تنصيصي أو انتخابي و هل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه، أو يوكل الامر الى الامة لتختار من تريد). و ندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنّ الأحوال و الظروف الاجتماعية كانت توجب أن يقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله بتعيين خليفته في حياته و يحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده، و لا يوكل الأمر إلى الأمة.

و إليك توضيح هذا القسم و بيانه:

(2)

اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة:
اشارة

لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي، و شريعة خاتمة، و قد كانت قيادة الامة الاسلامية من شئون النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله ما دام على قيد الحياة، و كان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى

أفضل أفراد الامة و اكملهم.

إن في هذه المسألة و هي هل أن منصب القيادة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين:

فالشيعة يرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي و لا بد أن يتعيّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:642

(1) بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري، أي أن على الامة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.

إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم و دراسة المسألة في ضوء دراسة و تقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.

إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية و خارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيّن من جانب اللّه تعالى و لا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الالهي، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدّدا على الدوام من جانب الخطر الثلاثي (الروم- إيران- المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، و إلقاء بذور الفساد و الاختلاف بين المسلمين.

كما أن مصالح الامة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي و ذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده، و بذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة الاسلامية و السيطرة عليها، و على مقدراتها.

و إليك بيان و توضيح هذه المطلب:

(2) لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي و يتهدده من الخارج و الداخل.

و كانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، و كانت تشغل بال النبي القائد على الدوام حتى إن التفكير

في امر الروم لم يغادر ذهنه و فكره حتى لحظة الوفاة، و الالتحاق بالرفيق الأعلى.

و كانت اولى مواجهة عسكرية بين المسلمين، و الجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين و قد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة و هم: «جعفر الطيار»، و «زيد بن حارثة» و «عبد اللّه بن رواحة».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:643

(1) و لقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورة إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، و قد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة و تجدّد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأعدّ قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين و أمّر عليهم «اسامة بن زيد» و كلّفهم بالتوجه إلى حدود الشام، و الحضور في تلك الجبهة.

(2) أما الضلع الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان الامبراطورية الايرانية (الفارسية) و قد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران «خسرو ابرويز» على تمزيق رسالة النبي، و توجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه و الكتابة إلى واليه و عميله باليمن بان يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو يقتله ان امتنع!!

و «خسرو» هذا و إن قتل في زمن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله إلّا أن موضوع استقلال اليمن- التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحا طويلا من الزمان- لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، و كان غرور اولئك الملوك و تجبّرهم، و كبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الاسلامية) لهم.

(3) و الخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة الطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول اللّه، في طريق العودة من تبوك إلى

سيد المرسلين ،ج 2،ص:644

المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: ان الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رحيله و بذلك يستريح الجميع «1».

(1) و لقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكيدة مشئومة لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل، و ذلك عند ما أتى عليا عليه السّلام و عرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الامة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.

و لكن الامام عليا عليه السّلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه و قال له كاشفا عن دوافعه و نواياه الشريرة:

«و اللّه ما أردت بهذه إلّا الفتنة و انك و اللّه طالما بغيت للإسلام شرا ...

لا حاجة لنا في نصيحتك»!! «2».

(2) و لقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي سورة آل عمران، و النساء، و المائدة، و الانفال، و التوبة، و العنكبوت، و الاحزاب، و محمّد، و الفتح، و المجادلة، و الحديد،

و المنافقين، و الحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين و الاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، و يتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحّ أن يترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امته الحديثة العهد بالاسلام، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائدا دينيا سياسيا.

إن المحاسبات الاجتماعية تقول: انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام

______________________________

(1) الطور: 30.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 222، العقد الفريد: ج 2 ص 249.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:645

بتعيين قائد للامة، من ظهور أيّ اختلاف و انشقاق فيها من بعده، و ان يضمن استمرار و بقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوى و سياج دفاعى متين حول تلك الامة.

(1) إن تحصين الامة، و صيانتها من الحوادث المشؤومة، و الحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها، و بالتالي التنازع على مسألة الخلافة و الزعامة لم يكن ليتحقق إلّا بتعيين قائد للامة، و عدم ترك الامور للقدر.

إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللّه»، و لعلّ لهذا الجهة، و لجهات اخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الاسلامية و ظلّ يواصل طرحها و التذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيّن خليفته و نصّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، و في نهايتها أيضا.

و إليك بيان كلا هذين المقامين:

(2)

1- النبوة و الامامة توأمان:

بغضّ النظر من الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأى الأول بصورة قطيعة هناك أخبار و روايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف و الرأى الذي ذهب إليه علماء الشيعة، و تصدقه، فقد نص النبي صلّى اللّه عليه و آله على خليفته من

بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا و تكرارا، و اخرج موضوع الامامة من مجال الانتخاب الشعبى، و الرأى العام.

فهو لم يعيّن (و لم ينص على) خليفته و وصيه من بعده في اخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته و وصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرات من الاشخاص، و ذلك يوم أمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الاقربين من العذاب الالهي الاليم، و أن يدعوهم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:646

إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع برسالته للجميع و يبدأ دعوته العامة للناس كافة.

(1) فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم و بني المطلب ثم وقف فيهم خطيبا فقال:

«أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم».

فاحجم القوم، و قام عليّ عليه السّلام، و اعلن مؤازرته و تأييده له، فاخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برقبته و التفت الى الحاضرين و قال:

«إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم» «1».

و قد عرف هذا الحديث عند المفسرين و المحدثين ب: «حديث يوم الدار، و «حديث بدء الدعوة».

على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، إنما صرح في مناسبات شتى، في السفر و الحضر، بخلافه علي عليه السّلام من بعده و لكن لا يبلغ شي ء من ذلك في الاهمية و الظهور و الصراحة و الحسم ما بلغه حديث الغدير.

(2)

2- قصة الغدير:
اشارة

لما انتهت مراسيم الحج، و تعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرحيل عن مكة، و العودة الى المدينة، فأصدر أمرا بذلك.

و

لما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة «رابغ» «2» التي تبعد عن

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 216، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 62 و 63 و قد مر مفصله في هذه الدراسة فراجع.

(2) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة و المدينة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:647

«الجحفة» «1» بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمنطقة تدعى «غدير خم» و خاطبه بالآية التالية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «2».

(1) إن لسان الآية و ظاهرها يكشف عن أن اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلّى اللّه عليه و آله مسئولية القيام بمهمة خطيرة، و أي أمر اكثر خطورة من أن ينصب عليا عليه السّلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى و مسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بالتوقّف، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم، و التحق بهم من تأخّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، و كان الجو حارا الى درجة كبيرة جدا، و كان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه و القسم الآخر منها تحت قدميه، و صنع للنبي صلّى اللّه عليه و آله مظلة و كانت عبارة عن عباءة القيت على أغصان شجرة، (سمرة) و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحاضرين الظهر جماعة، و فيما كان الناس قد احاطوا به صعد صلّى اللّه عليه و آله على منبر اعدّ من أحداج الإبل و أقتابها، و خطب في الناس رافعا صوته و هو يقول:

(2) «الحمد للّه و نستعينه و نؤمن به و نتوكّل

عليه و نعوذ به من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن ضلّ و لا مضلّ لمن هدى و أشهد ان لا إله إلّا هو و أن محمّدا عبده و رسوله.

أمّا بعد، أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلّا مثل نصف الذي قبله، و إني أوشك أن ادعى فأجيب و أني مسئول و انتم مسئولون فما ذا انتم قائلون؟

______________________________

(1) من مواقيت الاحرام و تنشعب منها طرق المدنيين و المصريين و العراقيين.

(2) المائدة: 67.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:648

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و جهدت فجزاك اللّه خيرا (1) قال صلّى اللّه عليه و آله:

«أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله و أنّ جنّته حق و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور»؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«اللّهمّ اشهد».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدأ».

فنادى مناد: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، و ما الثقلان؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه و طرف بأيديكم فتمسكوا به و الآخر عترتي و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا».

(2) و هنا أخذ بيد «عليّ» عليه السّلام و رفعها حتى رؤي بياض آباطهما و عرفه الناس اجمعون ثم قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟».

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«إن اللّه مولاى و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه

فعليّ مولاه «1»، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه و انصر من نصره، و اخذل من خذله و احب من احبه و ابغض من ابغضه و ادر الحق معه حيث دار» «2».

______________________________

(1) لقد كرر النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.

(2) راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الاميني.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:649

(1)

واقعة الغدير خالدة الى الأبد:

لقد تعلّقت المشيئة الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون و العصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب و الافئدة، و يكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر و زمان و يتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير و التاريخ و الحديث و العقائد، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ و من فوق صهوات المنابر، و يعتبرونها من فضائل الإمام «علي» الذي لا يتطرق إليها أي شك أو ريب.

و لم يقتصر هذا على الكتّاب و الخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة، و بالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشئوا أروع القصائد، و جادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل، و خلّفوا لمن بعدهم و بلغات مختلفة آثارا أدبية ولائية خالدة.

(2) و لهذا قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة و في التاريخ الاسلامي و الامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، و قلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين و المفسرين و الكلاميين و الفلاسفة، و الشعراء و الأدباء، و الكتّاب و الخطباء، و ارباب السير و المؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، و قلّما اعتنوا بشي ء مثلها اعتنوا بها.

إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى

و دوام هذا الحديث هو: نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها «1»، فما دام القرآن الكريم باقيا مستمرا يتلى آناء الليل و أطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان و النفوس و لا تمحو خاطرتها من العقول و القلوب.

______________________________

(1) المائدة: 67 و 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:650

(1) و حيث أن المجتمع الاسلاميّ في العصور الغابرة و كذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيدا كبيرا من الأعياد الدينية، و كانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية (حادثة الغدير) قد اتخذت طابع الابديّة و الخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان و الخواطر.

هذا و يستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير و كانت هذه التسمية تخطى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلّكان يقول حول «المستعلي بن المستنصر»: فبويع في يوم غدير خمّ و هو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 «1».

(2) و قال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي: و توفي ليلة الخميس لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع و ثمانين و اربعمائة، قلت: و هذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة و هو غدير خم «2».

و قد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية» ممّا استعمله أهل الاسلام من الأعياد «3».

و ليس ابن خلّكان و ابو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الاعياد، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين «4».

إن عهد هذا العيد الاسلامي و جذوره

ترجع إلى نفس يوم «الغدير» لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر المهاجرين و الانصار بل أمر زوجاته و نساءه في ذلك

______________________________

(1) وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.

(2) وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.

(3) ترجمة الآثار الباقية: ص 395 الغدير: ج 1 ص 267.

(4) ثمار القلوب: ص 511.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:651

اليوم بالدخول على «عليّ» عليه السّلام و تهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن ارقم: كان أول من صافق النبي صلّى اللّه عليه و آله و عليا:

أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و باقي المهاجرين و الانصار و باقي الناس «1».

(1)

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير:

و يكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة و عشرة صحابيّ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة و العشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة و مصنفاتهم.

صحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ عليه السّلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس و لكن كثيرا منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز و لهذا لم يروعنهم هذا الحديث، كما ان كثيرا من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا و نقلوا للآخرين هذا الحديث و لكن التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصل إلينا.

(2) ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ و هو عصر التابعين تسعة و ثمانون تابعيا.

و قد بلغ عدد من روى حديث «الغدير» في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنة و فضلائهم ثلاثمائة و ستون شخصا،

و صحّحه جمع كبير منهم و اعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان و تسعون عالما.

و في القرن الرابع رواه أربعة و اربعون.

______________________________

(1) راجع مصدره في الغدير: ج 1 ص 270.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:652

و في القرن الخامس رواه أربعة و عشرون.

و في القرن السادس رواه عشرون.

و في القرن السابع رواه واحد و عشرون.

و في القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

و في القرن التاسع رواه ستة عشر.

و في القرن العاشر رواه أربعة عشر.

و في القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

و في القرن الثاني عشر رواه ثلاثة عشر.

و في القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

و في القرن الرابع عشر رواه عشرون عالما.

(1) و لم يكتف البعض بنقل و رواية هذا الحديث في كتبهم و مؤلّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتبا مستقلة.

و قد ألّف المؤرخ الاسلامي الكبير «الطبري» كتابا في هذا المجال أسماه «الولاية في طرق حديث الغدير» روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس و سبعين سندا.

و لقد روى «ابن عقدة» في رسالة «الولاية» هذا الحديث بمائة و خمسين حديثا.

و روى أبو بكر محمّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس و عشرين سندا.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء:

أحمد بن حنبل الشيباني ب 40 سندا

ابن حجر العسقلاني ب 25 سندا

الجزري الشافعي ب 80 سندا

أبو سعيد السجستاني ب 120 سندا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:653

الأمير محمّد اليمني ب 40

النسائي ب 250 سندا

أبو العلاء الهمداني ب 100 سندا

أبو العرفان الحبان ب 30 سندا

(1) و بلغ عدد من ألّف رسالة خاصة أو كتابا مستقلا حول هذه الواقعة و خصوصياتها و تفاصيلها 26 شخصا و لعلّ هناك غيرهم ممن ألّف كتابا أو رسالة مستقلّة حول هذه الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخ أسماءهم،

أو ضاعت مؤلفاتهم مع التطورات التي طرأت على الامة الإسلامية و ضيّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الاغارة و النهب أو الهدم و الإحراق (و لقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير الجزء الاول).

و لقد كتب علماء الشيعة كتبا قيمة حول هذه الواقعة أجمعها و اشملها كتاب «الغدير» بقلم العلامة الجليل و الكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رحمه اللّه، و الذي يقع في أحد عشر مجلدا في ما يقرب من ستة آلاف صفحة، و قد استفدنا كثيرا من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

(2) ثم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليا لإمرة المسلمين في تلك الواقعة:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «1».

فكبّر النبي صلّى اللّه عليه و آله بصوت عال ثم أضاف قائلا:

«الحمد للّه على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدى».

ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك المنبر المصنوع من حدائج

______________________________

(1) المائدة: 1 و 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:654

الابل و أمر امير المؤمنين عليّا عليه السّلام أن يجلس في خيمة و أمر أطباق الناس و كلّ من حضر المشهد من امته و منهم الشيخان و مشيخة قريش و وجوه الأنصار كما أمر امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السّلام و تهنئته على تنصيبه لمنصب الامامة و الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ففعل الناس ذلك و انكبّوا على «علي» عليه السّلام بايديهم و كان أول من صافق و هنأ عليّا أبو بكر و عمر واصفين إياه

بالولاية.

(1) و هنا قام «حسان بن ثابت الأنصاري» شاعر الاسلام و استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن ينشد شعرا بهذه المناسبة، فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا: قل على بركة اللّه.

فقام حسان و قال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم و أسمع بالنبيّ مناديا

و قد جاءه جبريل عن أمر ربّه بأنّك معصوم فلا تك وانيا

و بلّغهم ما انزل اللّه ربهم إليك و لا تخشى هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه بكف عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم و وليّكم فقالوا و لم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّناو لن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا (2) و لقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية علي عليه السّلام على جميع صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله كافة، حتى أن أمير المؤمنين عليا عليه السّلام احتج به مرارا فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني، و في أيام خلافة عثمان و في أيام

سيد المرسلين ،ج 2،ص:655

خلافته عليه السّلام أيضا، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجوا به على منكري حق عليّ و أفضليته و كان ذلك دأبهم دائما و أبدا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:656

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

63 (1) 1- المتنبئون كذبا «1» [أدعياء النبوة] 2- التفكير في أمر الروم

اشارة

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في «غدير خم» انفصلت جموع الحجيج المشاركة في مراسم «حجة الوداع» من الوافدين من الشام و مصر، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في

أرض الجحفة و الذين شاركوا في هذه المراسم من «حضرموت» و «اليمن» انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة و قفلوا راجعين إلى أوطانهم.

و لكنّ العشرة آلاف الذين خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادوا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و وصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

(2) كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون فرحين جدا لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية، و لانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة و الشرك في كل مناطق الحجاز، و بالتالى لزوال جميع الموانع و العراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام، و انضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهت بعد يوم قدم نفران من «اليمامة» المدينة، و سلّما كتابا من «مسيلمة» الذي عرف فيما بعد ب «مسيلمة

______________________________

(1) كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلّى اللّه عليه و آله في نهايات السنة الهجرية العاشرة و كذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة، و قد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث و الستين تقليلا لفصول هذا الكتاب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:657

الكذّاب» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ففتح أحد كتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الرسالة و قرأها عليه فكان مضمونها ان شخصا باليمامة يدعى «مسيلمة» يدّعي النبوة و يشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة، و يريد من خلال كتابه أن يبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و يعرّفه بنبوته.

(1) و قد اثبتت كتب السير و التواريخ الاسلامية نصّ الكتاب المذكور.

و يوحي اسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان و التعبير و لكن محاولته

باءت بالفشل فلم يستطع تقليده، و اتى بعبارات خاوية خالية من روح، يفوقها الكلام العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب «مسيلمة» في كتابه هذا: «1».

أما بعد، فاني قد اشركت في الأمر معك، و ان لنا نصف الأرض، و لقريش نصف الارض، و لكنّ قريشا قوما يعتدون.

و لما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مضمون الرسالة، التفت إلى من حملها إليه و قال: «أما و اللّه لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل و قبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الاحمق و تركتما دينكما».

(2) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أملى على كاتبه كتابا إلى مسيلمة قصير المحتوى، مفحم المفاد. و إليك نصّ رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فانّ الارض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين» «2».

______________________________

(1) و من شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم اللّه، بل و لم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 600 و 601 و تكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:658

(1)

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة:

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة و أسلم في من اسلم، و لكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة، و أجابه طائفة من السذّج و البسطاء، و ربما من المتعصبين من قومه. و لم يكن نجاح دعوته الباطلة في «اليمامة» دليلا على شخصيته الواقعية، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصبا و حمية

مع أنهم علموا بكذبه، و زيف دعوته إذ كانوا يقولون: «كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر» و قد قال هذه العبارة أحد اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أ في نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال أشهد أنّك كذاب و أن محمّدا صادق و لكن كذّاب ربيعة احبّ إلينا من صادق مضر «1».

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة، و تبعه على ذلك فريق من قومه، و لكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن، و ما اثر عنه- في النصوص التاريخية- من عبارات و جمل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية و احاديثه الأخرى في غاية البلاغة و الإتقان، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

(2) و لهذا يمكن القول بأن ما نقل عنه- على غرار ما نقل عن معاصره «الاسود بن كعب العنسي» الذي ادعى النبوة معه في اليمن- إنما هي امور نسبت إليه، و الصقت به الصاقا لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن و بلاغته الفائقة في حدّ لا يجرأ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن و مقابلته، و يعلم كل عربيّ بحكم فطرته الالهية أنّ هذا الاسلوب الجذّاب و أنّ عظمة المعاني القرآنية و سمّوها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية، فكيف يحاول أحد معارضته و مقابلته.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 508 و يقصد بالاول مسيلمة و بالثاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:659

(1) ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا حوصرت منطقة «مسيلمة»

من قبل جنود الاسلام، و ضيّق عليه الحصار شيئا فشيئا، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب، قال له بعض اتباعه السذج: أين ما كنت تعدنا (من النصر الالهي) فقال مسيلمة: أما الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم.

و لكن الدفاع عن الاحساب و الكرامة لم يجد مسيلمة و لا اتباعه شيئا، فقد قتل هو و فريق منهم في بستان على أيدي المسلمين، و انتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة «1».

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن انه كان رجلا فصيحا و ناطقا بليغا، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نسبت إليه- في التاريخ و السيرة- في معارضة القرآن الكريم.

(2)

التفكير في أمر الروم:

مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطرا على وحدة أهلها الدينية، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات و فلسطين من مستعمراتهم آنذاك- كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة و اليمن قادرين على مواجهة المتنبئين، و لهذا قضي على «الاسود العنسي» و هو رجل آخر ادّعى النبوة كذبا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متيقنا و واثقا من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد، و التي رأت كيف أن رسول

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 514- 516. سيد المرسلين ج 2 660 التفكير في أمر الروم: ..... ص : 659

سيد المرسلين ،ج 2،ص:660

الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز، و فرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية،

غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

(1) لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطرا جديّا لا يمكن التغاضي عنه و احتقاره، و لهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشا كبيرا قوامه ثلاثة آلاف بقيادة «جعفر بن أبي طالب» و «زيد بن حارثة» و «عبد اللّه بن رواحة» إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم، و قد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة، و قفل الجيش الاسلامي راجعا إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

و في السنة التاسعة عند ما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز و هو آنذاك في المدينة خرج صلّى اللّه عليه و آله بشخصه على رأس جيشه قوامه ثلاثون ألفا إلى تبوك، و عاد من دون مواجهة إلى المدينة.

(2) و لهذا كان هذا الخطر جديا في نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و من هنا فانه صلّى اللّه عليه و آله لما عاد من «حجة الوداع» الى المدينة هيّأ جيشا من المهاجرين و الانصار اشرك فيه اشخاصا معروفين بارزين مثل أبي بكر و عمر و أبي عبيدة و سعد بن الوقاص و. و. و أمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة «1».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده «2» لواء لأسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. و قال له:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 642، النص و الاجتهاد: ص 12.

(2) يذهب كتّاب السنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر، و حيث أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الاول لهذا

فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلا تدريجا في مدة 16 يوما، و لكن حيث أن الشيعة يرون تبعا لما رواه عترة النبي أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقد اللواء قد تمّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:661

«سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا و شنّ الغارة على أهل ابنى» «1».

فاعطى «اسامة» اللواء الى «بريدة» و عسكر بالجرف «2» ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا، و ليتحرك الجميع في وقت واحد.

(1) لقد اختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر، و أمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار و المهاجرين، و لقد أراد صلّى اللّه عليه و آله من فعله هذا أمرين:

أولا: أن يجبر- من خلال ذلك- ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده «زيد بن حارثة» الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم، و ليرفع من شخصيته.

ثانيا: أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف و توزيع المناصب و المسئوليات و يجعل ذلك على اساس الكفاءة و الشخصية القيادية ان المناصب و المسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات و الموهّلات و لا ترتبط بحال بالعمر و السن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة و يحلموا أن المناصب و المهامّ- في النظام الاسلامي- ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة و المؤهلات القيادية، لا العمر و السنّ.

(2) ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة و الانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية، و

المسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى و اوامره تعاليمه و يقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال، سواء أ كانت له فيها نفع أم لا، و سواء أ كانت تضرّ به أم لا، و سواء أ كانت مطابقة لأهوائه و مطامحه أم لا.

______________________________

(1) «ابنى» من مناطق البلقاء و تقع في الأراضي السورية و قرب مؤتة بين «عسقلان» و «الرملة».

(2) منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:662

(1) و لقد بيّن الامام علي عليه السّلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة و لكن بليغة و معبرة اذ قال: «الاسلام هو التسليم» «1».

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه و حاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير و الحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية، و التسليم الواقعيّ و الانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام و أساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى «اسامة بن زيد» الذي لم يكن يتجاوز يومذاك- العشرين عاما «2» شاهد صدق على ما نقول، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض، لأنهم اعترضوا على الاجراء، و طعنوا في اسامة، و اطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد و الطاعة و التسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى (النبي)، و اوامره و تعييناته.

و لقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة «3».

(2) و لكنهم غفلوا عن المصالح و الأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا الإجراء، و كانوا

يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة، و يقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يحرص على تعبئة هذا الجيش و بعثه، و لكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

______________________________

(1) نهج البلاغة: قصار الحكم 125.

(2) ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره و ذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:663

من معسكر «الجرف» و توجهه إلى النقطة المطلوبة، و كانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

(1) و بعد يوم من عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللواء لاسامة تمرّض صلّى اللّه عليه و آله بشدة و أصابه صداع شديد تركه طريح الفراش و استمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات اللّه عليه.

و قد علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة و أن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها، و أن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضب صلّى اللّه عليه و آله لذلك غضبا شديدا، و خرج و هو يلتحف قطيفة، و قد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب، و يحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة و بعد أن حمد اللّه و اثنى عليه قال:

«أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة، و لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله و أيم اللّه كان للإمارة خليقا و إن

ابنه من بعده لخليق للإمارة، و إن كان لمن أحبّ الناس إليّ و انّهما لمخيلان لكل خير، و استوصوا به خيرا فانه من خياركم».

(2) ثم نزل صلّى اللّه عليه و آله و دخل بيته و اشتدت به الحمى، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه:

«أنفذوا بعث اسامة» «1».

و لقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بعث جيش اسامة انه كان يقول و هو في فراش المرض:

«جهزوا جيش اسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه» «2».

و قد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين و الأنصار

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

(2) الملل و النحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:664

عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للتوديع و الخروج عن المدينة تلقائيا و الالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

(1) و فيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبي صلّى اللّه عليه و آله فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين، فحضر اسامة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاثا اياه على المبادرة و المسارعة في الخروج:

«اغد على بركة اللّه» «1».

(2) فعاد اسامة إلى المعسكر و أمر بالتحرك فورا، و لكن الجيش لم يكن قد غادر «الجرف» بعد، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحتضر، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة، و الذين

حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير و الحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلّى اللّه عليه و آله و عادوا إلى المدينة فورا، و عاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين- جميعا- أوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالخروج.

و لم يتحقق أحد آمال النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم و اعيان الجيش.

(3)

الاعذار غير المقبولة:

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول اللّه

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:665

صلّى اللّه عليه و آله و سموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

و لقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق و وجوه مختلفة إلّا أنهم عجزوا- رغم ذلك- أن يخرجوا عذرا مقبولا و دليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

و للاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع «المراجعات» «1».

و «النص و الاجتهاد» «2».

(1)

الاستغفار لأهل البقيع:

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى و الوجع ليستغفر لأهل البقيع «3».

و لكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم أحس بالوجع اخذ بيد «عليّ» عليه السّلام و خرج معه إلى البقيع و خرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه:

«إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع».

و عند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك و قال:

«السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها».

(2) ثم استغفر و دعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّ عليه السّلام و قال: يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا و الخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي و الجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة و قد عرضه عليّ العام مرّتين و لا

______________________________

(1) المراجعة 90 و 91.

(2) ص 15- 16.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:666

أراه إلّا لحضور

أجلي» «1».

(1) انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت و يحصرون كل الوجود في أطار المادة و آثارها، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر، و يقولون: كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ و كيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته و أجله؟

و لكن الذين كسروا جدار المادية هذا و اعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط و الاتصال بالارواح «2»، و يعتبرونه امرا ممكنا و واقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي و العوالم المجرّدة من المادة، يمكنه- على وجه القطع و اليقين- أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه و اذنه و إخباره إياه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 466 و 472، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.

(2) طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح، و أسلوبه المشروع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:667

(1)

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

64 الكتاب الذي لم يكتب

اشارة

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة و حساسية و دقة.

لقد مرّ الاسلام و المسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة، و حرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله و تخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة و الإمارة و القيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلّى اللّه عليه و آله و إزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

(2) و لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه عارفا بنواياهم على

نحو الاجمال و لهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة و مغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم، لكي يعطل بذلك خطتهم.

و لكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج و معاذير معينة، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل و عرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فعادوا إلى المدينة- بعد توقّف دام 16 يوما- على أثر تدهور صحة النبي و احتضاره، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تفريغ المدينة منهم، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:668

يوم غدير خم (نعنى الامام عليا) من تسلم زمام الحكم دون منازع و مزاحم من المعارضين السياسيين.

(1) إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم و تثبيت منصب الامام علي و خلافته لرسول اللّه بلا فصل، فحاولوا منع النبي صلّى اللّه عليه و آله و صرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل، و السبل.

فعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة، المشين، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى و الوجع، و وقف إلى جانب المنبر و قال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد:

«أيّها الناس سعّرت النار، و أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، و إنّي و اللّه ما تمسّكون عليّ بشي ء، اني لم احلّ إلّا ما أحلّ اللّه، و لم احرّم إلّا ما حرّم اللّه» «1».

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبي صلّى اللّه عليه و

آله على مستقبل الاسلام بعد وفاته، فما هو المقصود- ترى- من النار التي سعرت؟

أ ليس هي فتنة الاختلاف و الافتراق التي كانت تنتظر المسلمين، و التي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعالى لهيبها، و لا يزال ذلك اللهيب مشتعلا، و تلك النار مستعرة؟!

(2)

ايتوني بقلم و قرطاس:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 654، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 215 و 216.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:669

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم، و لهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي و الحيلولة دون ظهور الاختلاف و الافتراق- أن يدعم مكانة عليّ و يعزر امارته و خلافته و خلافة أهل بيته، و ذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة و خالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

(1) من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شي ء من التفكير و قد التفت إليهم:

«ايتوني بدواة و صحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده».

فبادر عمر و قال: ان رسول اللّه قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب اللّه «1».

فناقش الحاضرون رأى الخليفة، فخالفه قوم و قالوا: هاتوا بالدواة و الصحيفة ليكتب النبي ما يريد، و ناصر آخرون عمر و حالوا دون الاتيان بما طلبه النبي، و وقع تنازع بينهم و كثر اللغط فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدة لتنازعهم و لما وجّه إليه من كلمة مهينة، و قال:

«قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع»

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة: «الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللّه» «2».

(2) إن هذه الواقعة

التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة و السنة و مؤرخيهم و تعتبر روايتها- حسب قواعد فنّ الدراية و الحديث- من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام «عمر» بالمعنى لا باللفظ، و لم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

______________________________

(1) الملل و النحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 22. طبعا لم يكن الهدف من «اكتب» أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.

(2) صحيح البخاري كتاب العلم: ج 1 ص 22 و ج 2 ص 14، صحيح مسلم: ج 2 ص 14 مسند أحمد: ج 1 ص 325، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244، الملل و النحل: ج 1 ص 22.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:670

المجلس المقدس.

(1) و لا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة و مكانته حتى لا يسي ء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب «السقيفة» في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا: و قال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللّه «1».

و لكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول: فقالوا: هجر رسول اللّه «2».

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان

مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ و الاشتباه و الهذيان فهو لا ينطق إلّا بالوحي.

(2) إن اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و في محضره كان عملا سيئا، و مشينا إلى درجة أن احدى أزواجه صلّى اللّه عليه و آله اعترضت على هذه المخالفة و قالت من وراء حجاب: أ لا تسمعون النبي صلّى اللّه عليه و آله يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحاجته.

فقال عمر: اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ.

و اذا صحّ أخذتنّ بعنقه «3».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة الحديدي: ج 2 ص 20.

(2) صحيح مسلم: ج 1 ص 14، مسند أحمد: ج 1 ص 355.

(3) كنز العمال: ج 3 ص 138، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244. و في الطبقات: ان النبي قال (في الرد على عمر) هنّ خير منكم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:671

(1) ان بعض المتعصبين و ان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا «1» في الظاهر إلّا انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه «حسبنا كتاب اللّه»، و اعتبروه كلاما غير صحيح، و صرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية، و لا يمكن أن يغني كتاب اللّه الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و اقواله.

و لكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور «هيكل» مؤلف كتاب «حياة محمّد» «2» ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول: ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ و رأيه أن قال

اللّه في كتابه الكريم: «ما فرّطنا في الكتاب من شي ء» «3».

(2) فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية و ما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير، و لما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني، و صفحات الوجود، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع، و تشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة و الوجود و إليك نص الآية:

«وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» «4».

و حيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب و الطيور، و يرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها و الذي لم يفرّط فيه من شي ء هو الكتاب التكويني، و صفحة الخلق.

______________________________

(1) رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.

(2) حياة محمّد: ص 501.

(3) الانعام: 38.

(4) الانعام: 38.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:672

(1) ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب- و بحكم تصريحه- يحتاج إلى بيان النبي و هدايته كما يقول:

«و أنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم» «1».

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول «لتقرأ» بل تقول بصراحة: «لتبيّن».

و على هذا الاساس اذا كان كتاب اللّه كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي و بيانه احتياجا شديدا «2».

و لو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة و

عالمها الكبير ابن عباس يقول: يوم الخميس و ما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ و قال: قال رسول اللّه ايتونى بالكتف و الدواة أو اللوح و الدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ...

فقالوا ... «3».

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول اللّه كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية (أو الكتاب) الذي كان النبي يريد كتابته.

و الآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب و املائه فهل يمكن ان نحدس- في ضوء القرائن القطعية- ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

(2)

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة و القويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين و العلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية و اجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته و لكنها أوضح من الاولى

______________________________

(1) النحل: 44.

(2) ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة، فاطلبه في محله.

(3) مسند احمد: ج 1 ص 355. صحيح البخاري: كتاب الجزية ج 4 ص 65 و 66.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:673

دلالة و مفادا، و بعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث و الروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ و خطير بصورة مؤكدة و مكررة لا تتشابه و لا تتحد في دلالتها، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة و قد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة و الكناية حسب المقتضيات.

(1)

قلنا ان النبي صلّى اللّه عليه و آله طلب من اصحابه و هو في فراش المرض دواة و صحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل: ما ذا كان يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الّا تعزيز الوصيّة و دعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و امرته و التأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبي صلّى اللّه عليه و آله في الغدير و غيره.

(2) و هذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة و الشيعة، لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته:

انه يبتغي كتابة شي ء لا يضلون بعده ابدا. و قد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب و العترة اذ قال:

«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي» «1».

______________________________

(1) صحيح الترمذي: ج 5 ص 328 ح 3874 جامع الاصول: ج 1 ص 187 راجع المراجعات:

المراجعة 8.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:674

(1) أ لا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين و التشابه الموجود بينهما الحدس- بصورة قطعية- بان ما كان يهدفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من طلب الدواة و الصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين، أو ما هو أعلى ممّا يفيده

حديث الثقلين و هو تعزيز و دعم ولاية الامام علي عليه السّلام و خليفته مباشرة و بلا فصل و هو الذي عيّنه للإمارة و الخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين و العراقيين و المصريين و الحجازيين و أعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه، و حصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة و عينه للخلافة خلافا لجميع القواعد و الاصول، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي و كلامه كانت تكشف عن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين و الامارة و القيادة التي اثبتها لعلي و اهل بيته الطاهرين في احاديثه و خطبه.

و لهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة و حالوا دون الاتيان بالقلم و القرطاس بوقاحة، و خالفوا كتابة شي ء، و إلّا فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم ...

و ارتكبوا ما ارتكبوا.

(2)

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه و يكتب الكتاب الذي كان يريد، فلما ذا لم يتصرف هكذا، و لم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة: فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:675

و لعمد أنصارهم إلى اشاعة و بثّ هذا الأمر الرخيص، و

صنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الحالة و تستمرّ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي- ملافاة لما لحق به من الأذى- أبعد الذي قلتم؟ فقال:

«أبعد الذي قلتم؟ لا و لكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا» «1».

(1)

ملافاة الأمر و تداركه:

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة و إن صرفت النبي عن الكتابة إلّا انه بلّغ مقصوده من طريق آخر، فهو- بشهادة التاريخ- بينما كان يعاني المرض، و الوجع الشديدين، خرج إلى المسجد و هو متوكئ على «علي بن أبي طالب» و «ميمونة» مولاته فجلس على المسجد ثم قال:

«يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين».

و سكت، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن، قال:

«ما ذكرتهما إلّا و أنا اريد أن أخبركم بهما و لكن ربوت فلم استطع، سبب طرفه بيد اللّه، و طرف بايديكم، تعلمون فيه كذى، ألا و هو القرآن، و الثقل الأصغر أهل بيتى».

ثم قال:

«و أيم اللّه إني لأقول لكم هذا و رجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم».

ثم قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 469 نقلا عن الارشاد و اعلام الورى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:676

«و اللّه لا يحبّهم عبد إلّا أعطاه اللّه نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض، و لا يبغضهم عبد إلّا احتجب اللّه عنه يوم القيامة» «1».

(1) هذا و قد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى، و لا تنافي بين الصورتين، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لاصحابه و قد امتلأت بهم الحجرة و هو في مرضه الذي قبض فيه:

«أيّها الناس يوشك

أن أقبض قبضا سريعا، فينطلق بي، و قد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عزّ و جلّ و عترتي أهل بيتي».

ثم أخذ بيد على عليه السّلام فقال:

«هذا عليّ مع القرآن و القرآن مع علي، خليفتان نصيران، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما» «2».

(2) فمع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر حديث الثقلين «3» قبل مرضه في مواضع متعددة و بألفاظ مختلفة، و لفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين، و لكنه لفت الأنظار مرة اخرى و هو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن و العترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 نقلا عن مجالس المفيد.

(2) الصواعق المحرقة: الباب 9 من الفصل الثاني ص 57 و كشف الغمة: ص 43.

(3) حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة و السنة و قد نقل عن الصحابة باكثر من 60 طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136: و قد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته «العبقات» بذكر اسناده حديث الثقلين و دلالته. و قد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:677

(1)

تقسيم الدنانير:

دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء و المحتاجين.

و عند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا، فاحضرتها عنده فاخذها صلّى اللّه عليه و آله بيده و قال:

«ما ظنّ محمّد باللّه لو

لقي اللّه و هذه عنده؟ انفقيها».

ثم أمر عليا عليه السّلام فتصدّق بها «1».

(2)

غضب النبي من الدواء الذي سقي:

لما كانت أسماء بنت عميس و هي من قريبات «ميمونة» زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و التي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات و الاعشاب المختلفة، فلما اشتكى و اغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء: «ذات الجنب»، و كانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء، بصبّ شي ء منه في فم النبي صلّى اللّه عليه و آله و لما أفاق و عرف بما صنعوا غضب و قال:

«ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب» «2».

(3)

وداع النبي مع أهله:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس، و يذكّرهم امورا.

و ذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 238 و 239.

(2) الطبقات: ج 2 ص 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:678

«علي» عليه السّلام بيمنى يديه و على الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال:

«أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها، و من كان له عليّ دين فليخبرني به».

(1) فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه ان لي عندك عدة، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقال صلّى اللّه عليه و آله انحلها يا فضل ثم نزل و عاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة- ثلاثة ايام قبل وفاته- صعد المنبر فخطب و قال فيما قال:

«أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلّا قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة و الاشهاد».

فقام إليه رجل يقال له سوادة

بن قيس فقال: انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء و بيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لبلال: قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كان صلّى اللّه عليه و آله يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا «1» و لما أتى بالقضيب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال صلّى اللّه عليه و آله: اين الشيخ؟ قال سوادة: ها انا ذا يا رسول اللّه بابي أنت و أمي فقال صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا و لهذا لم يكن له الحق إلّا في اخذ الدية دون القصاص، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:679

«فاقتصّ منّي حتى ترضى».

فقال سوادة: فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة و حزنهم و غمهم و بكائهم تقدم سوادة إلى النبي و قال: أ تأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه، و قبّل بطن النبي و صدره الشريف. فدعا له رسول اللّه و قال:

اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد «1».

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:680

(1)

65 اللحظات الأخيرة

اشارة

كان القلق و الاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعيون باكية و قلوب حزينة ليطّلعوا على

صحته، و كانت تخرج من منزله بين الحين و الآخر أخبار عن اشتداد مرضه، و تفاقم وجعه، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته، و تجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّا سويعات قلائل، و انه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم و قائدهم من قريب و لكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلّا أهل بيته خاصة.

(2) و لقد كانت ابنته الكريمة و وديعته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام جالسة عند فراش ابيها، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه و خده مثل حبات اللؤلؤ، فراحت تردد أبياتا من الشعر و قلبها يعتصره الحزن، و يملأ عيونها دموع الاسى و الحزن و يكاد يخنقها الغصة:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل و في هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينيه و قال لابنته الزهراء بصوت خافت:

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه و لكن قولي:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:681

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «1».

(1)

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء:

لقد كشفت التجربة عن ان عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل اثر تراكم النشاطات و تزايد الاهتمامات و الهموم، لأنّ الاهداف الكبرى، و الاهتمامات العالمية تشغل بالهم و فكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالا لمشاعرهم العاطفية بالظهور و التجلّي، بيد أنّه يستثنى الشخصيات الروحانية

و المعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما يشغل بالهم من الاهداف الكبرى، و الاهتمامات العالية، و الشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحا كبرى و نفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر، و لا يشغلهم شغل عن آخر، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم، و لا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم الاجتماعية و العائلية.

إن محبة النبي صلّى اللّه عليه و آله لابنته الوحيدة فاطمة كانت من ابرز التجليات العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و لهذا لم يعهد أن يسافر رسول اللّه من دون أن يودع ابنته، كما لم يعهد أن يرجع المدينة من دون ان يزور ابنته قبل أي أحد، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراما لائقا بها و يقول لاتباعه:

«فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» «2».

(2) كما أن رؤية فاطمة كانت تذكرة باشد نساء العالمين طهرا و وفاء، و عطفا و لطفا، (خديجة) التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة،

______________________________

(1) آل عمران: 144.

(2) صحيح البخاري: ج 5 ص 21.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:682

و بذلت ثروتها كلها في سبيل تلك الاهداف باخلاص و رغبة.

كانت فاطمة الزهراء عليها السّلام تلازم فراش والدها النبي صلّى اللّه عليه و آله طوال ايام مرضه، و لا تفارقه لحظة واحدة، و فجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريبا من فمه الشريف ثم راح النبي صلّى اللّه عليه و آله يحادثها بصوت ضئيل و لم يعرف من كان هناك ما ذا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لابنته الطاهرة في تلك النجوى.

و انما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من

حديثه و سالت دموعها بغزارة، و لكنهم شاهدوا ان النبي اشار إليها مرة اخرى و حدثها بشي ء فسرّت فاطمة و تهلّلت اسارير وجهها، و تبسمت مستبشرة.

(1) فاثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور و بعثتهم على التعجب و الدهشة، فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن، و هذه الفرحة، و طلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين الحالتين المتضادتين قالت:

«ما كنت لافشي سرّه».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كشفت الزهراء عليها السّلام عن الحقيقة بناء على اصرار عائشة و قالت: اخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قد حضر اجله و انه يقبض في وجعه هذا، فبكيت، ثم اخبرني أني أول اهله لحوقا به فضحكت «1».

(2)

مسواك النبي قبيل وفاته:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستاك كل ليلة قبل النوم كما كان يستاك بعد ان يستيقظ من نومه و كان مسواك النبي من شجرة الأراك التي تنفع

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 247، الكامل، ج 2 ص 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:683

جدا في تقوية اللثة، و إزالة الاوساخ و بقايا الطعام عن الاسنان.

و ذات يوم دخل اخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليعوده و بيده سواك اخضر فنظر النبي إليه- و هو في يده- نظرا عرف أنه يريده فقال عبد الرحمن: يا رسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك. فقال نعم، فقدّمه إلى النبي فورا فاخذه صلّى اللّه عليه و آله و استاك به أحسن استياك، و نظف اسنانه به بدقة و عناية بالغة «1».

(1)

وصايا النبي صلّى اللّه عليه و آله قبيل رحيله:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلال فترة مرضه و وجعه يولي إعطاء التعاليم و التذكير بما فيه هداية الناس اهتماما بالغا، فقد كان يوصي بالصلاة و رعاية الرقيق في الايام الاخيرة من حياته الشريفة و يقول:

«الصّلاة الصلاة و ما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم و أشبعوا بطونهم و ألينوا لهم القول» «2».

و قد سأل كعب الاحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه و في ايام خلافة الأخير ما كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال عمر: سل عليّا.

فسأل عليا عليه السّلام:

فقال امير المؤمنين عليه السّلام:

«أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة.

فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء و به امروا و عليه يبعثون «3».

و قد فتح النبي صلّى اللّه عليه و آله عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة و قال:

______________________________

(1) الطبقات

الكبرى: ج 2 ص 234، السيرة النبوية: ج 2 ص 654.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 254.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 262.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:684

«أدعوا لي أخي».

(1) فعرف الجميع بأنه يريد عليا عليه السّلام فدعوا له عليا فقال:

«ادن منّي».

فدنا منه عليّ عليه السّلام فاستند إليه فلم يزل مستندا إليه يكلّمه «1».

فلم يلبث أن بدت عليه صلّى اللّه عليه و آله علامات الاحتضار.

سأل رجل ابن عباس: هل توفّي رسول اللّه في حجر أحد قال: توفي و هو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل: قلت: فان عائشة قالت: توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين سحرى و نحرى.

فكذبها ابن عباس و قال: أتعقل؟ و اللّه لتوفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنه لمستند إلى صدر عليّ و هو الذي غسّله، و أخي الفضل بن عباس «2».

(2) و قد صرح أمير المؤمنين علي عليه السّلام في إحدى خطبه حيث قال:

«و لقد قبض رسول اللّه و إنّ رأسه لعلى صدري ... و لقد وليت غسله و الملائكة أعواني» «3».

و ينقل بعض المحدثين أن آخر جملة قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة: «لا، إلى الرفيق الأعلى»، و كأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه و يبقى أو يلبي دعوة ربّه، و يلتحق بالرفيق الأعلى، فعبر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه، ليعيش مع الذين أشار إليهم قوله سبحانه:

«فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 263.

(2) المصدر: ج 2 ص 263.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 197.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:685

وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ

أُولئِكَ رَفِيقاً» «1».

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا و لفظ أنفاسه الشريفة «2».

(1)

يوم الوفاة:

في منتصف يوم الاثنين الثامن و العشرين من شهر صفر «3» طارت روح النبي الاكرم المقدّسة إلى بارئها، و الى جنان الخلد، فسجّى ببرد يماني، و وضع في حجرته بعض الوقت، و ارتفعت صرخات العيال، و علا بكاء الاقارب فعرف من كان في خارج المنزل أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قد قضى، فلم يلبث أن انتشر نبأ وفاته في كل أنحاء المدينة التي تحولت بسرعة إلى مناحة كبرى، و مأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت و لأسباب خاصّة أنّ النبي لم يمت انما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، و انه لا يموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! و أصرّ على هذا الموقف و هدّد كل من يخالف ذلك، و كاد أن يوافق عليه فريق من الناس لو لا أن أحد الصحابة تلا عليه قول اللّه سبحانه:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ».

حتى فرغ من الآية، فسحب عمر موقفه، مستغربا من وجود مثل هذه الآية قائلا: هذا في كتاب اللّه؟ «4»

(2) ثم قام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بتغسيل جسد النبي الطاهر و كفنه لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد قال: «يغسلنى أقرب

______________________________

(1) النساء: 69.

(2) إعلام الورى: ص 83.

(3) و هو ما اتفق عليه محدثو الشيعة و مؤرخوهم، و نقل في السيرة النبوية ج 2 ص 658 بصورة: قيل.

(4) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 267.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:686

الناس إلىّ» و لم يكن ذلك سوى عليّ عليه السّلام.

و لما فرغ «علي»

من تغسيل النبي صلّى اللّه عليه و آله كشف الازار عن وجهه صلّى اللّه عليه و آله و قال و الدموع تنهمر من عينيه الشريفتين:

«بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و طبت ميتا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة و الانباء. و لو لا أنّك أمرت بالصبر، و نهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا و قلّا لك، و لكنّه ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه! بأبي أنت و امّي اذكرنا عند ربك، و اجعلنا من بالك؟» «1».

(1) ثم ان الامام أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» عليه السّلام كان أوّل من صلّى على جثمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة، ثم تقرر دفنه صلّى اللّه عليه و آله في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح و زيد بن سهل بحفر قبر له صلّى اللّه عليه و آله و إعداده ثم دفن صلّى اللّه عليه و آله في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي عليه السّلام يساعده في ذلك الفضل و العباس.

و هكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى و جهوده المضنية، و اعظم رسول الهي فتح امام الانسانية صفحات جديدة و مشرقة من الحضارة و المدنية.

(2) و لكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثر في استمرار رسالته، و مواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة و موضوع القيادة في المجتمع الاسلامي و قد بدت بعض بوادر الاختلاف في الاوساط الاسلامية حتى قبل رحيله.

غير أن هذا القسم و إن كان قسما مهما و خطيرا من تاريخ الاسلام،

فهو

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:687

خارج عن اطار بحثنا هذا (و هو دراسة و تحليل الشخصية المحمدية و حياة النبي الرسالية و السياسية و العسكرية).

من هنا فاننا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، و الحمد للّه رب العالمين «1».

قم المقدّسة- الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه

______________________________

(1) ثم تدوين هذه المحاضرات و توثيقها و تحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم و الحمد للّه رب العالمين. جعفر الهادي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:689

الفهارس

اشارة

1- فهرس الآيات القرآنية

2- فهرس الاحاديث الشريفة

3- فهرس الأشعار

4- فهرس الأعلام

5- فهرس القبائل و الامم

6- فهرس الكنى و الألقاب

7- فهرس الوقائع و الايام

8- فهرس الاماكن و البلدان

9- فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

10- فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

11- فهرس المصادر

12- فهرس المواضيع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:691

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة- 2 الآية/ رقمها/ الصفحة فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ/ 115/ 201

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ/ 142/ 51

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها/ 143/ 49

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ/ 143/ 50

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ/ 144/ 48

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ/ 207/ 113

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ/ 217/ 40

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ/ 219/ 218

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما/ 219/ 220

آل عمران- 3 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ ../ 12/ 122

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ../ 13/ 96

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ../ 59/ 604

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ../ 61/ 604

فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ ../ 61/ 405

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ/ 64/ 601

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ/ 121/ 151

سيد المرسلين ،ج 2،ص:692

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ../ 123- 127/ 90

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ/ 144/ 163، 681، 685

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ/ 152/ 163

وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ/ 154/ 162

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ/ 155/ 163

النساء- 4 لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى/ 43/ 219، 221، 223

225

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ/ 51/ 249

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ/ 58/ 498

فَأُولئِكَ

مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ/ 69/ 684

المائدة- 5 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ../ 1- 3 653

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا/ 24/ 62

مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً/ 32/ 127

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى/ 51- 53/ 126

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ/ 67/ 647

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ .../ 90/ 219

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ/ 110/ 380

الأنعام- 6 وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ../ 38/ 677

الأعراف- 7 قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها/ 33/ 230

فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا/ 44/ 783

سيد المرسلين ،ج 2،ص:693

الأنفال- 8 كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ/ 5/ 62

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ .../ 6/ 62

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ/ 9/ 96

فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا/ 12/ 98

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .../ 11- 12/ 96

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ/ 13/ 98

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ/ 27/ 287

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا/ 36/ 136

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا/ 42- 43/ 95

وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ/ 42/ 97

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا/ 44/ 97

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ/ 47/ 98

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ/ 48/ 98

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى/ 70/ 95

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ/ 71/ 95

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ/ 87/ 68

التوبة- 9 أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ/ 19/ 113

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً/ 107- 108/ 580

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي

مَواطِنَ كَثِيرَةٍ/ 25/ 514

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً/ 31/ 550

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى/ 33/ 355

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي/ 49/ 555

سيد المرسلين ،ج 2،ص:694

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ/ 65/ 574

وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ/ 81- 82/ 555

وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ/ 92/ 557

تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ/ 92/ 556

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا ../ 102/ 287

حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ/ 118/ 577

يوسف- 12 قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا/ 91/ 479

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ/ 92/ 479 و 496

النحل- 16 وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ/ 44/ 672

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً/ 67/ 218

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ/ 98/ 531

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ/ 126/ 183

الإسراء- 17 وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ .../ 26/ 423

مريم- 19 يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ/ 6/ 428

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها/ 71/ 428

الحج- 22 أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا/ 39/ 56

النور- 24 إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ/ 11/ 316 و 318

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ/ 12- 14/ 219

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ/ 32/ 100

سيد المرسلين ،ج 2،ص:695

وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ/ 33/ 313

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ/ 62/ 148 و 254

النمل- 27 وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ/ 16/ 428

القصص- 28 إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ/ 85/ 495

العنكبوت- 29 وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي/ 8/ 17

الروم- 30 يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ/ 31/ 148

الأحزاب- 33 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ .../ 9- 25/

276

بُيُوتَنا عَوْرَةٌ .../ 13/ 287

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ .../ 26- 27/ 295

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ/ 33/ 425 و 607

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ .../ 36- 37/ 232

وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ/ 37/ 243

فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً/ 37/ 243

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ .../ 38- 39/ 236 و 244

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ/ 40/ 236

سبأ- 34 وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ/ 28/ 355

يس- 36 لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ/ 70/ 355

سيد المرسلين ،ج 2،ص:696

الفتح- 48 إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً/ 1/ 348

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ/ 17/ 147

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ/ 18/ 334

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ/ 22/ 347

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا/ 27/ 437

الحجرات- 49 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ/ 1/ 476

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ/ 6/ 312

الحشر- 59 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ/ 2/ 214

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً/ 5/ 212

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى/ 7/ 213

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ/ 11- 14/ 212

الممتحنة- 60 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي/ 6- 9/ 475

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ/ 10/ 351

أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ/ 12/ 507

القلم- 68 وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ/ 52/ 355

العاديات- 100 وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً/ 1- 2/ 459

النصر- 110 إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ .../ 1- 3/ 545

سيد المرسلين ،ج 2،ص:697

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث/ القائل/ الصفحة

أبا وهب هل لك

العام تخرج معنا/ (النبي)/ 554

أ تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه/ (النبي)/ 418

أحب الناس الي من الرجال عليّ/ (النبي)/ 120

أخبروا مالكا انه إن اتاني مسلما/ (النبي)/ 532

اخرجوا من بلادي فقد أجلتكم عشرا/ (النبي)/ 209

أخرجها من العسكر ثم صح و ارمها/ (النبي)/ 395

ادعوا لي أخي/ (النبي)/ 684

ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد/ (النبي)/ 184

إذا خطب إليكم كفو فزوجوه/ (النبي)/ 103

اذهب يا عباس الى رحلك/ (النبي)/ 483

اذهبت منك الرحمة/ (النبي)/ 409

ارجعا حتى تأتياني غدا/ (النبي)/ 368

ارجعن يرحمكن اللّه/ (النبي)/ 187

أرسلته كرارا غير فرار/ (النبي)/ 457

اركب فان اللّه و رسوله عنك راضيان/ (النبي)/ 459

استفدت يا أمّ عمارة/ (النبي)/ 177

استوصوا بالاسارى خيرا/ (النبي)/ 87

سيد المرسلين ،ج 2،ص:698

أسندته الى صدري فوضع رأسه على منكبي/ (علي)/ 683

السلام على أهل همدان/ (علي)/ 627

السلام عليكم يا أهل القبور/ (علي)/ 665

اشتدّ غضب اللّه في دم وجه نبيه/ (علي)/ 179

اكرموا اولادكم/ (النبي)/ 596

الصلاة الصلاة و ما ملكت ايمانكم/ (النبي)/ 683

الصلاة يا أهل البيت/ (النبي)/ 109

اطلبوا العلم و لو بالصين/ (النبي)/ 132

اغزوا باسم اللّه و ادعوهم الى الاسلام/ (النبي)/ 440

اغد على بركة اللّه/ (النبي)/ 664

الحمد للّه الذي صدق وعده/ (النبي)/ 495

الحمد للّه الذي وفق رسول اللّه/ (النبي)/ 539

الحمد للّه و نستعينه و نؤمن به/ (النبي)/ 647

ألّا إن كل مال و مأثرة و دم في الجاهلية/ (النبي)/ 503

ألّا ترضون يا معشر الاوس/ (النبي)/ 289

اللّه أعلى و أجل/ (النبي)/ 180

اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين/ (النبي)/ 258

اللّه أكبر خربت خيبر/ (النبي)/ 392

اللّه مولانا و لا مولى لكم/ (النبي)/ 181

أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 648

أ لم أنهكم ان يخرج منكم أحد/ (النبي)/ 564

اللهم ائتني بأحب خلقك إليك/ (النبي)/ 115

اللهم اجمع شملهما و الّف بين قلوبهما/ (النبي)/ 108

اللهم

ارحم الانصار و ابناء الانصار/ (النبي)/ 536

اللهم إن تهلك هذه العصابة/ (النبي)/ 79

سيد المرسلين ،ج 2،ص:699

اللهم انزل عليهم رجسك/ (النبي)/ 186

اللهم إنك اخذت مني عبيده/ (النبي)/ 264

اللهم إنك قد عرفت حالهم/ (النبي)/ 365

اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد/ (النبي)/ 508

اللهم أني اسألك الأمن يوم الخوف/ (النبي)/ 186

اللهم أني اسألك كله/ (النبي)/ 185

اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه/ (النبي)/ 626

اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف/ (النبي)/ 106

اللهم خذ على قريش أبصارهم/ (النبي)/ 471

اللهم خذ العيون و الاخبار عن قريش/ (النبي)/ 471

اللهم رب السماوات و ما اظللن/ (النبي)/ 390

اللهم هؤلاء اهل بيتي/ (النبي)/ 405

اللهم هذه قريش قد أقبلت/ (النبي)/ 72

اللهم وال من والاه/ (النبي)/ 648

إليّ يا فلان إليّ يا فلان أنا رسول اللّه/ (النبي)/ 146

اليوم يوم المرحمة/ (النبي)/ 497

أما أنت فقد عذرك اللّه/ (النبي)/ 147

أما أيها الناس فانه قد حان خفوق مني/ (النبي)/ 678

أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني/ (النبي)/ 663

أما و الذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب/ (النبي)/ 607

أما ما لي و بني عبد المطلب فهو لكم/ (النبي)/ 530

أما و اللّه لو شتم لقلتم فصدقتم/ (النبي)/ 535

أمك امك اعصب جرحها/ (النبي)/ 177

أحب أهلي إليّ فاطمة/ (النبي)/ 119

ان أحببت فاقيمي عندنا محببة/ (النبي)/ 531

سيد المرسلين ،ج 2،ص:700

أنا أحق بذلك منك/ (النبي)/ 130

أنا النبي لا أكذب .../ (النبي)/ 519

إنا لم نجئ لقتال أحد و لكننا جئنا معتمرين/ (النبي)/ 329

أنا لم نرض/ (النبي)/ 343

أنت بالخيار فيه اربعة عشر/ (النبي)/ 506

أنت خليفتي في أهل بيتي/ (النبي)/ 558

انطلق فطف بالبيت/ (النبي)/ 632

انظروا الى ما امرتكم به/ (النبي)/ 145

ان بالمدينة لا قواما/ (النبي)/ 575

إن حسن التبعل يعدل ذلك كله/ (النبي)/ 176

إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا و كذا/ (النبي)/ 368

إن رجلا

قال هذا محمد يخبركم أنه نبي/ (النبي)/ 565

إن رسول اللّه كان يغير الأسماء القبيحة .../ (الصادق)/ 544

إنكم ستلقون ربكم فيسألكم/ (النبي)/ 635

إن اللّه اختار من أهل الارض رجلين/ (النبي)/ 118

إن اللّه امرني ان اعرض عنهم/ (النبي)/ 574

إنما أنت فينا رجل فخذل عنا/ (النبي)/ 273

إنه لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك/ (النبي)/ 591 سيد المرسلين ج 2 700 (2) فهرس الأحاديث الشريفة ..... ص : 697

ها مشية يبغضها اللّه إلّا .../ (النبي)/ 153

إن هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم/ (النبي)/ 646

إني امرت ان استغفر لأهل البقيع/ (النبي)/ 665

إني تارك فيكم الثقلين./ (النبي)/ 648، 673

إني رأيت العرب رمتكم/ (النبي)/ 271

أو ما بلغك ما قال صاحبكم/ (النبي)/ 308

أوحى اللّه تعالى الى رسول اللّه إن أشكر لجعفر/ (الباقر)/ 222

سيد المرسلين ،ج 2،ص:701

اولئك العصاة/ (النبي)/ 476

ايتوني بقلم و قرطاس/ (النبي)/ 668

ايتوني بدواة و صحيفة/ (النبي)/ 669

أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم/ (النبي)/ 29

أيّ عبد نزل من الحصن و خرج إلينا فهو حر/ (النبي)/ 526

أيكم يبرز الى عمرو و أضمن له الجنة/ (النبي)/ 263

أين علي؟ ايتوني بعلي/ (النبي)/ 398

أيها الناس اسمعوا قولي/ (النبي)/ 634

أيها الناس أما بعد فانّ أصدق الحديث/ (النبي)/ 560

أيها الناس إن الشمس و القمر آيتان/ (النبي)/ 600

أيها الناس إن كل ربا موضوع/ (النبي)/ 636

أيها الناس سعرت النار و اقبلت الفتن/ (النبي)/ 668

أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة/ (النبي)/ 501

أيها الناس إن اللّه قد بعثني رحمة/ (النبي)/ 356

أيها الناس ان هذا عدو اللّه و عدوكم/ (النبي)/ 455

أيها الناس لا تشكوا عليا/ (النبي)/ 633

أيها الناس و اللّه ما لي في فيئكم/ (النبي)/ 533

أيها الناس يوشك أن اقبض/ (النبي)/ 676

بئس ما جزيتها/ (النبي)/ 302

بارك اللّه في ابنة رسول

اللّه .../ (النبي)/ 108

بارك اللّه عليكم من أهل بيت/ (النبي)/ 178

برز الايمان كله الى الشرك كله/ (النبي)/ 264

بسم إله ابراهيم و اسحاق و يعقوب/ (النبي)/ 601

بل نترفق به و نحسن صحبته/ (النبي)/ 310

بل هو الرأي أنظر لنا منزلا بعيدا/ (النبي)/ 393

سيد المرسلين ،ج 2،ص:702

تآخوا في اللّه/ (النبي)/ 19

تزوجوا فاني مكاثر بكم الامم/ (النبي)/ 101

جهزوا جيش اسامة/ (النبي)/ 662

خذها يا ابن ابي طلحة تالدة/ (النبي)/ 499

خير رجالكم علي بن ابي طالب/ (النبي)/ 115

خير نسائكم فاطمة بنت محمد/ (النبي)/ 115

رأيت الملائكة تغسل حنظلة/ (النبي)/ 149

دعه عنك فانه جاء تائبا/ (النبي)/ 540

دعوها فانها منتنة/ (النبي)/ 305

رحم اللّه ابا ذر يمشي وحده/ (النبي)/ 566

رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة/ (النبي)/ 435

رحم اللّه سعدا نصرنا حيا .../ (النبي)/ 184

سلمان منا أهل البيت/ (النبي)/ 253

ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين/ (النبي)/ 267

علي أحبهم الي و أحبهم الى اللّه/ (النبي)/ 116

علي خير البشر فمن ابى فقد كفر/ (النبي)/ 116

علي خير من اتركه بعدي/ (النبي)/ 115

علي مني بمنزلة الرأس من بدني/ (النبي)/ 116

علي مني بمنزلتي من ربي/ (النبي)/ 116

علي مني و أنا منه و هو ولي كل مؤمن/ (النبي)/ 116

غيب عني وجهك فلا ارينك/ (النبي)/ 175

فاطمة بضعة مني فمن اغضبها فقد اغضبني/ (النبي)/ 682

فاين البعيران اللذين غيبتهما بالعقيق/ (النبي)/ 311

فان اللّه سيجعل لك مخرجا/ (النبي)/ 349

فاقتص مني حتى ترضى/ (النبي)/ 679

سيد المرسلين ،ج 2،ص:703

فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان محمدا يقتل/ (النبي)/ 307

فلذلك الجمل لا يمضي/ (النبي)/ 189

فلم لا تحل و قد أمرت من لم يسبق/ (النبي)/ 631

فو الذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن/ (النبي)/ 571

قد اجرنا من أجرت و آمنا من أمنت/ (النبي)/ 505

قد استعملتك على هؤلاء النفر/ (النبي)/ 308

قد

علمتم موضعي من رسول اللّه/ (علي)/ 225

قد فعلت فلا تعجلي بخروج/ (النبي)/ 548

قوموا الى سيدكم/ (النبي)/ 290

قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع/ (النبي)/ 668

كنا اذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّه/ (علي)/ 72 و 168

كذبتم، يمنعكم من الاسلام ثلاث/ (النبي)/ 604

كذبوا، و لكنني خلّفتك لما تركت/ (النبي)/ 559

كيف ترى يا عمر، اما و اللّه لو قتلته/ (النبي)/ 310

لا امثل به فيمثل اللّه بي و ان كنت نبيا/ (النبي)/ 92

لا اجد ما احملكم عليه// 556

لا إنما رحمه// 596

لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا// 399

لا تخرجوا معي الا راغبين في الجهاد/ (النبي)/ 388

لا تدعوني قريش اليوم الى خطة ../ (النبي)/ 328

لا تغفلوا آل جعفر/ (النبي)/ 451

لا تقتلوه فهذا الاعمى أعمى القلب ../ (النبي)/ 146

لا تكلمن أحدا من هؤلاء/ (النبي)/ 577

لا حاجة لي بهما، اما ابن عمي/ (النبي)/ 479

لا خير في دين لا صلاة فيه/ (النبي)/ 586

سيد المرسلين ،ج 2،ص:704

لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار/ (النبي)/ 181

لاعطين الراية غدا/ (النبي)/ 397

لا عليكم ان لا تمنعوه لعل اللّه يرزقه الشهادة/ (النبي)/ 147

لا عيش إلّا عيش الآخرة/ (النبي)/ 252

لكن حمزة لا بواكي له/ (النبي)/ 186

لكن ربي أمرني باعفاء لحيتي و قص شاربي/ (النبي)/ 367

لكنني ما اكره و اللّه ان اهريق دمك/ (علي)/ 264

لا نبرح حتى نتاجر القوم// 334

لا ندخلها إلّا كذلك// 432

لا و لكن نهيت عن خمش وجوه/ (النبي)/ 599

لا يحتج محتج منك في مخالفته/ (النبي)/ 538

لا يذهب بها إلّا رجل مني و انا منه/ (النبي)/ 117

لحمك لحمى و دمك دمى و الحق معك/ (النبي)/ 117

لقد تيب على ابي لبابة/ (النبي)/ 287

لو امرت به ما استشرتكم فيه/ (النبي)/ 569

لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت/ (النبي)/ 631

ما انتم باسمع

لما اقول منهم/ (النبي)/ 83

ما أجد لك شيئا أمثل من ان تقوم/ (النبي)/ 468

ما ذا تقولون و ما ذا تظنّون/ (النبي)/ 496

ما ذكر لي رجل بفضل من العرب/ (النبي)/ 544

ما ظن محمد باللّه لو لقي اللّه و هذه عنه/ (النبي)/ 677

ما لي أراك يا عمر محرما/ (النبي)/ 630

ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب/ (النبي)/ 677

ما لهم و لعمار يدعوهم الى الجنة و يدعونه الى النار/ (النبي)/ 13

ما من نبي إلّا و له نظير في امته/ (النبي)/ 117

سيد المرسلين ،ج 2،ص:705

ما وقفت موقفا قط اغيظ إليّ/ (النبي)/ 182

ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن/ (النبي)/ 145

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين/ (النبي)/ 194

من أحب ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا/ (النبي)/ 101

من ارادت ان تبايع فلتدخل يدها/ (النبي)/ 507

من جاءهم منا فابعده اللّه/ (النبي)/ 340

من دخل دار ابي سفيان فهو آمن/ (النبي)/ 484

من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن/ (النبي)/ 489

من شاء منكم ان يأخذ بطن الوادي/ (النبي)/ 573

من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر/ (النبي)/ 116

من ياخذ هذا السيف بحقه/ (النبي)/ 153

من محمد رسول اللّه الى كسرى/ (النبي)/ 365

من محمد بن عبد اللّه الى المقوقس/ (النبي)/ 370

من محمد بن عبد اللّه الى ملك الحبشة/ (النبي)/ 376

من محمد رسول اللّه الى الحارث بن ابي شمر/ (النبي)/ 382

من محمد رسول اللّه الى هوذة بن علي/ (النبي)/ 382

من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب/ (النبي)/ 657

نشدتكم باللّه هل فيكم احد قتل/ (علي)/ 156

نصرت يا عمرو بن سالم/ (النبي)/ 466

هاك مفتاحك يا عثمان/ (النبي)/ 498

هذا ما صالح عليه رسول اللّه/ (النبي)/ 336

هذا ما كتب النبي محمد رسول اللّه لنجران/ (النبي)/ 608

هل أخزاكم اللّه و انزل عليكم نقمته/ (النبي)/

283

همت اليهود .../ (النبي)/ 208

هو لكم لا نأكل ثمن الموتى/ (النبي)/ 267

سيد المرسلين ،ج 2،ص:706

و انك لهند بنت عتبة/ (النبي)/ 508

و أيم اللّه اني لأقول لكم هذا/ (النبي)/ 675

وردنا مع رسول اللّه خيبر/ (علي)/ 408

و عندي السيف الذي اعضضته/ (علي)/ 77

و كان مني في ذلك ما على اللّه عز و جلّ ثوابه/ (علي)/ 171

و اللّه لا يحبّهم عبد إلّا أعطاه اللّه/ (النبي)/ 676

و اللّه و ما اردت بهذه إلّا الفتنة/ (علي)/ 644

و اللّه ما أنا أمرت بذلك و لكن اللّه أمر بسدّ ابوابكم/ (النبي)/ 20

و اللّه ما يسرني يا علي أن لي/ (النبي)/ 511

و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم/ (النبي)/ 79

و الذي نفس محمد بيده ان شملته/ (النبي)/ 411

و ما يدريك يا عمر لعل اللّه اطلع على اهل بدر/ (النبي)/ 474

و من اغلق بابه فهو آمن/ (النبي)/ 485

و من يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة/ (النبي)/ 177

ويح ابن سمية ... انما تقتلك الفئة الباغية/ (النبي)/ 13

ويحك اذا لم يكن العدل عندي/ (النبي)/ 534

ويحك اسلم و اشهد ان لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 482

ويحك يا ابا سفيان أ لم يأن لك/ (النبي)/ 482

يا أهل القليب بئس عشيرة النبي/ (النبي)/ 83

يا أنصار اللّه و انصار رسوله/ (النبي)/ 518

يا أيها الناس أوصيكم بما اوصاني اللّه/ (النبي)/ 152

يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين/ (النبي)/ 675

يا علي اصعد على منكبي/ (النبي)/ 494

يا علي أنك أبيت أن تمحو اسمي/ (النبي)/ 338

يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه الى الاسلام/ (النبي)/ 626

سيد المرسلين ،ج 2،ص:707

يا علي لو لا أني أشفق أن تقول طوائف/ (النبي)/ 459

يا عمرو انك كنت تقول في الجاهلية/ (علي)/ 265

يا من حضر أشهد هذا ان زيدا ابني/ (النبي)/ 231

يا

معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم/ (النبي)/ 535

يا معشر المسلمين اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية/ (النبي)/ 31

يا معشر يهود احذروا من اللّه/ (النبي)/ 122

يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب/ (النبي)/ 327

يسر و لا تعسر و بشر و لا تنفر/ (النبي)/ 625

يفتح اللّه على يديه/ (النبي)/ 403

سيد المرسلين ،ج 2،ص:708

(3) فهرس الأشعار

أ تبكي أن يضلّ لها بعير 91

إذ يهتدون بجعفر و لو أنّه 443

إذا استقبلت وجه أبي تراب 112

إذا متّ فادفنّي الى جنب كرمة 218

أصبح وجه الزمان قد ضحكا 424

أ علي تقتحم الفوارس هكذا 270

اليوم يوم الملحمة 496

الى اللّه أشكو غربتي ثم كربتي 201

امن أم أوفى دمنة تكلم 539

أنا الذي سمّتني أمي حيدرة 400

أنا الذي عاهدني خليلي 154

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول 541

بيضاء تسحب من قيام شعرها 105

حسدوا الفتا اذا لم ينالوا فضله 107

خلّوا بني الكفار عن سبيله 433

سرن بعون اللّه جاراتي 108

فلا يبعدن اللّه قتلي تتابعوا 443

قد علمت خيبر أني مرحب 400

سيد المرسلين ،ج 2،ص:709

كادت و بيت اللّه نار محمد 556

لئن قعدنا و النبي يعمل 12

لا تعجلن فقد أتاك مجيب 264

لا يستوي من يعمر المساجد 13

لعمرك أني يوم أحمل راية 480

لكني أسأل الرحمن مغفرة 441

لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا 442

لو كان قاتل عمر و غير قاتله 270

ما أن رأيت و لا سمعت بمثله 532

نحن بنات طارق 157

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه 680

و صعود غارب أحمد فضل له 495

و عاش أبو ذرّ كما قلت وحده 567

و ما أنس لا انس اللذين تقدما 397

و لقد بححت من النداء 263

و اللّه لو لا اللّه ما اهتدينا 377

يا حبّذا الجنة و اقترابها 446

يا رب اني ناشد محمدا 465

يا طلح إن كنتم كما نقول 156

يناديهم رسول اللّه لما 84

يناديهم يوم الغدير

نبيهم 654

سيد المرسلين ،ج 2،ص:710

(4) فهرس الأعلام

- أ- اربد (العامري) 623

أزهر 348.

آذرم 569، 570.

آرشه تونك (الدكتور) 216.

ابان بن سعيد بن العاص 333.

ابراهيم بن رسول اللّه (ص) 542، 596، 597، 598، 599.

ابراهيم الخليل (النبي) 49، 315، 322، 325، 561، 599، 602، 628، 630.

ابن أبي أحمد 164.

ابن أبي الحديد 94، 164، 165، 170، 178، 194، 265، 397، 423، 426، 487.

ابن أبي الحقيق 297.

ابن ابي سبرة 162، 164.

ابن الأثير 37، 47، 135، 170، 238، 239، 241، 268، 269، 321، 360، 393، 404، 442، 511، 605.

ابن اسحاق 7، 13، 34، 36، 70، 268.

ابن أمّ مكتوم 128، 192، 211، 300.

ابن بابويه 107.

ابن تيمية (الحراني) 268، 269.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:711

ابن جرير 240.

ابن حجر العسقلاني 322، 367، 652، 676.

ابن حذيفة 76.

ابن الجوزي 20.

ابن خلكان 65.

ابن رواحة 415، 433، 434، 440، 441، 443، 446، 447، 660.

ابن سعد (صاحب الطبقات) 71، 189، 205، 389، 438، 498.

ابن سلامة 450، 527، 534، 573، 622.

ابن سهيل 342، 343، 344.

ابن شماس 214.

ابن طلحة 112.

ابن عباس 155، 669، 671، 672، 684، 686.

ابن عبد ربه 112.

ابن العرندس 495.

ابن عقدة 652.

ابن العوام 493.

ابن كثير الشامي 16، 17، 20، 512.

ابن قميئة الليثي 166، 176.

ابن مزاحم 14.

ابن مسعود 61، 116.

ابن مسلمة (محمد) 43، 133، 164، 209، 392، 402، 404، 410، 432، 493، 558.

ابن هشام 7، 13، 19، 34، 45، 47، 58، 60، 83، 130، 161، 162، 172، 198، 201، 202، 207، 211، 227، 246، 268، 289، 293، 298، 299، 300، 306، 321، 322، 348، 389، 396،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:712

400، 401، 404، 414، 444، 472، 473، 480، 504، 519، 523، 523، 527، 618.

ابن واضح الاخباري 366.

أبيّ بن خلف 165.

أحمد بن حنبل 15، 16، 17، 84، 109، 113، 366،

495، 662، 669، 670، 672.

أحمد بن ابي خيثمة 224.

الاخنس بن شريق 348.

اربد 623، 624.

أرمى بن الاصحم 381.

اساف (صنم) 493.

اسامة بن زيد 115، 145، 319، 494، 643، 660، 661، 662، 663، 664، 665، 667.

اسرافيل (الدكتور) 249.

اسكندر المقدوني 356.

اسماعيل (النبي) 602.

الاسود الثقفي 587.

الاسود بن عبد الاسد المخزومي 75، 76.

الاسود بن كعب 656، 658، 659.

الاسود بن المطلب 90، 91.

اسيد بن حضير 12، 186، 262، 308، 321، 520.

الاقرع بن حابس 530.

أكيدر بن عبد اللّه 570، 571.

أميّة بن خلف 37، 57، 58، 81، 83، 89.

أميّة بن المغيرة 478.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:713

أنس بن مالك 109، 115، 118، 161، 162.

انس بن النضر 161، 162، 163.

أنو شيروان 264، 375.

- (ب)- باذان 366، 367، 368، 369

بجير بن زهير 539، 540.

بديل بن ورقاء 328، 465، 466، 467، 481، 482.

بريدة 115، 116، 304، 661.

البراء بن عازب 626.

بشير بن البراء بن معرور 416.

بشير بن سفيان 486.

بلال بن الحارث 486.

بلال الحبشي 81، 104، 409، 434، 493، 497، 678.

(ت) تئودوز الكبير 357.

(ث) ثابت بن أرقم 447.

ثابت بن قيس 214، 294.

ثمالة الثقفي 532.

(ج) جابر بن عبد اللّه الانصاري 188، 300، 592.

جبار (العامري) 623، 624.

جبرائيل (الملك) 20، 52، 170، 171، 172، 183، 455، 472، 592، 597 647، 665.

جدّ بن قيس 554.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:714

جديمة بن عامر 905.

جعفر بن أبي طالب 108، 222، 298، 412، 413، 441، 442، 443، 446، 447، 450، 451، 642، 660.

جعفر الصادق (الامام) 126، 138، 347، 544.

جميع بن عمير 117.

جندب بن زهير 115.

جهجاه بن مسعود 305.

(ح) الحارث بن ابي شمر الغساني 359، 381، 382، 383، 529.

الحارث بن أبي ضرار 304.

الحارث بن الحارث 533.

الحارث بن زمعة 90، 91.

الحارث بن عمير الازدي 439.

الحارث بن الصمّة 165، 205.

الحارث بن طلال 490.

الحارث بن هلال

504، 523.

الحارث (اخو مرحب) 399.

حاطب بن بلتعة 307، 369، 370، 371، 473، 474.

الحافظ بن حنان 112.

الحباب بن منذر 69، 139.

الحجاج بن علاط السلمي 419، 420.

الحجاج بن يوسف الثقفي 17.

حجر بن عدي 567.

حرب بن أميّة 466.

حذيفة بن اليمان 573.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:715

الحسن بن اسماعيل 603، 613.

الحسن بن علي (الامام) 103، 109، 119، 423، 425، 468، 605، 606، 607، 608، 618.

الحسن بن علي العلوي 621.

الحسن بن موسى 155.

حسان بن ثابت 10، 83، 84، 202، 259، 443، 571، 654.

الحسمان الخزاعي 88.

الحسين بن علي (الامام) 103، 109، 119، 229، 423، 425، 468، 605، 606، 607، 608، 618.

الحكيم بن حزام 74، 76، 231، 481، 482، 533.

الحكيم بن كيسان 39.

الحلس بن علقمة 329، 330.

حمزة بن عبد المطلب 24، 33، 36، 44، 75، 77، 78، 108، 142، 144، 149، 157، 182، 186، 264، 442، 490، 508.

حنظلة بن ابي سفيان 78، 148، 149.

حنظلة (غسيل الملائكة) 578.

حويرث بن نقيذ 490.

حيي بن اخطب 27، 209، 211، 248، 256، 257، 261، 283، 294، 296، 394.

(خ) خالد بن اسيد 434.

خالد بن ثعلب 171.

خالد بن رياح 164.

خالد بن سعيد 584.

خالد بن الوليد 152، 159، 160، 162، 212، 227، 262، 346، 431،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:716

439، 447، 448، 450، 486، 491، 494، 509، 510، 517، 571، 626، 660.

حبيب بن عديّ 199، 200، 201، 205.

خراش بن أميّة 331.

خزيمة بن ثابت 14.

خرخسره 366، 368.

خسرو پرويز 364، 365، 379، 643.

خلاء بن عمرو بن الجموح 188.

خيثمة 56، 142.

(د) داود بن قابوس 403.

دحية الكلبي 256، 359، 360، 362، 382.

دعبل 424.

دعثور 129.

دريد بن الصمة 515.

(ذ) ذو الخويصرة التميمي 534.

ذو الفقار 172، 399.

ذو الكلاع الحميري 14، 15.

(ر) رافع بن مكيث 486.

ربيع بن ابي الحقيق 402.

ربيعة بن الحارث (ابن) 635.

ربيعة

بن عبد شمس 76.

رفيده 290.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:717

(ز) زاذان 224.

الزبير بن باطا 257، 294، 333.

الزبير بن العوام 64، 157، 164، 183، 473، 486، 493، 651.

زهير بن أبي سلمى 539.

زهير بن أبي أميّة 60.

زهير بن صرد 529.

زيد بن أرقم 115، 306، 307، 651.

زيد بن حارثة 37، 90، 131، 229، 231، 232، 233، 235، 237، 239، 240، 242، 244، 294، 387، 388، 389، 407، 441، 444،

447، 451، 642، 660، 661.

زيد بن الخيل 544.

زيد بن دثنة 199، 200.

زيد بن سهيل 200.

(س) السائب 36.

سراقة بن جعشم 58.

سعد بن أبي وقاص 36، 44، 64، 86، 405، 660.

سعد بن معاذ 36، 61، 63، 70، 186، 213، 258، 271، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 320، 321، 322.

سعد بن عبادة 36، 144، 213، 214، 258، 271، 320، 321، 497، 535.

سعيد بن خيثمة 56، 143، 561.

سعيد بن زيد 54.

سعيد بن الربيع 184، 185.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:718

سعيد بن زيد الأشهلي 301، 509.

سفيان الثوري 223، 224.

سلمان الفارسي 108، 115، 251، 253، 522، 523.

سلام بن ابي الحقيق 248، 296، 298.

سلام بن مشكم 128، 211، 416.

سلمة بن عمرو بن الاكوع 301.

سليمان بن سحيم 45.

سليط بن عمرو 383.

سليط بن النعمان 131.

سمرة 647.

سنان 305.

سواد بن غزيه 78، 79.

سوادة بن قيس 678، 679.

سواع (صنم) 509.

سويد بن صخرة 486.

سهيل بن حنيف 173، 313.

سهيل بن عمرو 83، 91، 335، 336، 340، 348، 434، 491.

سيد قطب 225.

(ش) شاس بن قيس 30، 288.

شجاع بن وهب 381.

شرحبيل 602.

شيبة بن ربيعة 76، 77، 78، 83، 90، 174.

شيرويه 364، 368، 369.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:719

(ص) صفوان بن أميّة 38، 131، 136، 192، 199، 229، 317، 434، 484، 489، 490، 491، 505، 516، 533.

(ض) الضحاك بن خليفة 556.

ضرار بن الخطاب 263.

ضمضم

بن عمرو الغفاري 57.

(ط) طالب 68.

الطاهر 597.

طلحة بن أبي طلحة 53، 156، 164.

طلحة بن عبد اللّه 54، 161، 173، 556.

طفيل بن عمرو الدوسي 523.

الطيب 597.

(ع) العاص بن هشام 57، 87.

عاصم بن ثابت 173.

عامر بن الحضرمي 74، 75.

عامر بن الطفيل 203، 205.

عامر بن مالك بن جعفر 204.

عباد بن بشير 227، 407، 572.

عبادة بن الصامت 17، 126.

عباس بن عبد المطلب 48، 80، 82، 88، 89، 90، 137، 138، 307، 436، 477، 481، 482، 483، 484، 518، 686.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:720

عباس بن مرداس 486، 488.

عبد الجبار بن احمد 94.

عبد الحسين شرف الدين (السيد) 632.

عبد الرحمن بن عوف 80، 81، 218، 223، 418، 509، 589، 602، 683.

عبد اللّه بن أبي سلول 126، 141، 142، 144، 145، 146، 148، 150، 162، 163، 211، 212، 289، 306، 309، 310، 311، 313، 317، 321، 322، 370، 478، 490، 562.

عبد اللّه بن ابي رافع 135، 338.

عبد اللّه بن أمّ كلثوم 55.

عبد اللّه بن بدر 486.

عبد اللّه بن جحش 38، 39، 44، 74، 453.

عبد اللّه بن جدعان 222.

عبد اللّه بن حارثة 642.

عبد اللّه حبيب 223.

عبد اللّه بن حجل 115.

عبد اللّه بن حدرد الاسلمي 516.

عبد اللّه بن حذافة السهمي 365.

عبد اللّه بن حزام 149.

عبد اللّه بن حسن 427.

عبد اللّه بن حميد 165.

عبد اللّه بن حنظلة 149، 481.

عبد اللّه بن الخزرج 309.

عبد اللّه بن خيبر 150، 151، 158، 159.

عبد اللّه بن رواحة 76، 90، 415، 433، 434، 440، 446، 447.

عبد اللّه بن الزبعرى 490.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:721

عبد اللّه بن سلام 28، 29.

عبد اللّه بن سهيل 417، 418، 419.

عبد اللّه بن شهاب 165.

عبد اللّه بن طارق 199.

عبد اللّه بن العباس 115.

عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي 489.

عبد اللّه بن

عمر بن الخطاب 145، 419، 486.

عبد اللّه بن عمرو 183، 188.

عبد اللّه بن عمرو بن حزام 17، 189.

عبد اللّه بن عمرو بن العاص 17.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 509.

عبد اللّه بن قمئة الليثي 22.

عبد اللّه بن كعب المازني 85، 177.

عبد اللّه بن مسعود 567.

عبد اللّه بن موسى 424.

عبد اللّه بن هاشم 115.

عبد العزيز 427.

عبد المطلب 107، 182، 206، 232، 264، 308، 314، 478، 580، 612.

عبد ياليل 583.

عبيد اللّه بن أبي رافع 6.

عبيدة بن الحارث 34، 36، 77.

عبيد اللّه بن بهلول 612.

عتاب بن اسيد 513، 538، 560.

عتبة بن ابي الوقاص 165.

عتبة بن ربيعة 74، 75، 76، 78، 82، 83، 508.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:722

عثمان بن حنيف 424.

عثمان بن أبي العاص 586.

عثمان بن طلحة 438، 492، 498.

عثمان بن عبد اللّه 39.

عثمان بن عفان 12، 13، 88، 165، 333، 334، 335، 505، 602.

عثمان بن مظعون 651.

عدي بن حاتم 115، 359، 547، 549، 550.

عروة بن الزبير بن العوام 6، 135.

عروة بن مسعود الثقفي 330، 331، 374، 582، 583، 587.

عطاء بن السائب 223، 224.

عقبة بن أبي معيط 57، 81.

عقبة بن الحارث 201.

عقيل 90، 108.

عكرمة بن أبي جهل 136، 152، 160، 180، 262، 484، 489، 490، 491، 505.

العلاء بن جارية 533.

علي بن ابراهيم 137.

علي بن أبي طالب عليه السّلام 12، 14، 15، 17، 19، 37، 55، 65، 71، 73، 88، 103، 104، 105، 107، 109، 110، 111، 112، 113، 115، 117، 120، 133، 134، 141، 155، 156، 157، 164، 168، 169، 170، 171، 172، 179، 190، 215، 221، 222، 223، 224، 225، 229، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 270، 272، 282، 289، 319، 322، 333، 336، 337، 338، 342، 388،

397، 399، 400، 401 403، 404، 405، 406، 422، 426، 427، 428، 441

سيد المرسلين ،ج 2،ص:723

442، 453، 455، 458، 459، 468، 469، 473، 474، 479، 494، 504، 510، 511، 518، 535، 545، 557، 558، 592،

593، 594، 595، 599، 602، 605، 607، 608، 609، 614، 615، 618، 619، 620، 622، 626، 627، 632، 633، 635، 644، 647، 651، 654، 662، 665، 668، 673، 674، 675، 678، 683، 684، 685، 686.

على الاحمدي (الشيخ) 353، 385.

علي بن تقي 426.

علي بن الحسين (الامام) 423.

علي بن الفارقي 427.

علي بن الهلالي 118.

عمار بن ياسر 12، 13، 14، 15، 16، 20، 37، 105، 227، 228، 573.

عمارة 350.

عمر بن الخطاب 60، 61، 71، 91، 92، 94، 119، 134، 135، 161، 162، 175، 219، 220، 269، 307، 310، 333، 398، 419، 426، 456، 474، 482، 483، 631، 660، 669، 670، 683، 685.

عمر بن عبد العزيز 134، 427، 428.

عمرو بن اميّة 205، 206، 298، 375، 384، 412.

عمرو بن الجموح 147، 149، 179، 183، 188، 189.

عمرو بن جحاش 207.

عمرو بن حزم 15.

عمرو بن الحضرمي 39، 44، 74.

عمرو بن الحمق 115.

عمرو بن سالم 465.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:724

عمرو بن العاص 14، 15، 136، 298، 299، 338، 346، 431، 438، 443، 456، 509.

عمرو بن عبد ود العامري 261، 262، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 272.

عمرو بن عثمان 427.

عمير الفارس 74.

عمير الحمام 79. سيد المرسلين ج 2 724 (4) فهرس الأعلام ..... ص : 710

ير بن وهب 73، 161، 505.

عيسى بن مريم (النبي) 263، 264، 370، 371، 376، 377، 378، 384، 551.

العيص 350.

عيينة بن حصن الفزاري 301، 530.

- غ- غالب بن عبد اللّه 128.

غافل بن البكير 544.

- ف- الفاكة بن المغيرة 509.

فرانسيز

فريديناند (الارشيدوق) 124.

الفخر الرازي 238، 241، 605، 609.

فرعون 200، 299، 369، 370.

فيروز 366.

الفضل بن العباس 240، 518، 599، 684، 686.

فهم 532.

- ق- القصواء (الناقة) 492.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:725

القاسم بن رسول اللّه 597.

قيصر 231، 260، 261، 265، 269، 362، 363، 376، 381، 382، 387، 444.

- ك- كارليل (توماس) الانجليزي 478.

كرز بن جابر 37.

كسرى 331، 365، 366، 367، 368، 369، 387.

كعب بن الاسد 27، 256، 258، 291، 467.

كعب بن الاشرف 132، 134، 135، 136، 293، 297، 402.

كعب بن زهير 10، 539، 540.

كعب بن زيد 203.

كعب بن مالك 178، 442، 576.

كنان بن الربيع 410.

- م- المأمون 424، 427.

مالك بن ابي 211.

مالك الاشتر 115، 567.

مالك بن الدخشم 184.

مالك بن عوف 359، 364، 375، 515، 523، 528، 532.

مالك بن قيس 561.

مالك بن نويرة 512.

محمد بن اسحاق 6، 171.

محمد بن ابي بكر 115.

محمد بن احمد المخزومي 621.

محمد بن بشارة 222.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:726

محمد بن جرير 130.

محمد بن عبد اللّه 603، 612.

محمد بن عمر البغدادي 652.

محمد بن سعيد 71، 543.

محمد بن مسلمة 133.

محمد بن المطلب الشيباني 603، 612.

محمد بن صدقة العنبري 612.

محمد بن علي الباقر (الامام) 222.

محمد بن معد العلوي 164، 177.

محمد الثاني (السلطان) 358.

محمد حسين هيكل 671.

محمد حميد اللّه (البروفيسور) 353.

محمد عادل (الاستاذ) 110.

محمد عثمان كريم 111، 118.

محمد الفاتح 358.

محمد اليمني (الامير) 653.

محمد المهدي (العباسي) 427.

محمود شلتوت (الشيخ) 637.

محمود بن سلمة 393، 410.

مجاعة بن مرارة 385.

مجدة بن عمرو 34، 44، 66.

مخرمة بن نوفل 68.

المخيريق 27، 29.

مربع بن قيض 146.

مرحب 400، 401.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:727

مرارة بن الربيع 576، 577.

مرتد بن ابي مرتد 114، 205.

مرة بن مروان 402.

مروان بن الحكم 427.

المستعلى بن المستنصر 650.

مسلمة بن اسلم 260.

مسيلمة الكذاب 656، 657، 659.

مصعب بن عمير 55، 155، 160.

مطعم

بن جبير 137.

مقداد بن عمرو 60، 61، 62، 473، 486.

معاذ بن جبل 513، 539، 625.

معاوية بن ابي سفيان 14، 15، 16، 17، 20، 51، 77، 78، 338، 424، 507،

532، 541.

مقيس بن صبابة الكندي 490.

معبد بن أبي معبد الخزاعي 192، 193.

معبد بن خالد 486.

معقل بن سنان 486.

المغيرة بن شعبة 330، 331، 334، 373، 374، 584، 587.

المقوقس 371، 372، 373، 374، 376، 542.

مكرز بن حفص 329، 432.

مناة (صنم) 509.

منذر بن عمرو 202.

منذر بن محمد 205.

ميسرة 224.

موسى (النبي) 20، 60، 62، 299، 371، 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:728

موسى الهادي بن المهدي 427.

- ن- نائلة (صنم) 493.

ناپليون بونابرت 356.

النضر بن الحارث 81، 87.

النعمان بن المقرن 486.

النعمان بن المنذر 529.

نعيم بن مسعود 228، 272، 273، 274، 285، 407، 486.

نميلة بن عبد اللّه الليثي 388.

نوفل بن عبد اللّه 263، 266.

- ه- هارون 427.

هاشم بن عتبة 115.

هبار بن الاسود 490.

هبل (صنم) 167، 180، 493.

هرقل 151.

هبيرة بن وهب 263.

هلال بن أميّة 576، 577.

هوذة بن علي 383، 384، 385.

- و- واقد بن عبد اللّه 39.

وحشي بن حرب 137، 174، 175، 490.

الوليد بن عقبة بن ابي معيط 312.

الوليد بن عتبة 76، 77.

ويليم مويير (السير) 354.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:729

ياسر 15.

يحيى بن عمارة 155.

يحيى بن معين 224.

يزيد بن الخصيب 486.

يزيد 17، 427.

يوحنا بن رؤبة 569.

يوشع بن نون 421.

النساء:.

آمنة بنت وهب 138.

أسماء بنت عميس 451، 677.

جميلة (بنت عمر) 544.

جويرية بنت الحارث بن ابي ضرار 311.

حليمة السعدية 529، 531.

خديجة بنت خويلد 3، 92، 93، 110، 231، 356، 597، 681.

رقية بنت رسول اللّه 103، 110، 118، 597.

زينب بنت جحش 230، 232، 233، 235، 237، 238، 239، 240، 242.

زينب بنت رسول اللّه 92، 94، 104، 109، 110، 118، 542، 597 ..

سلمى 542.

شيماء بنت الحارث

531.

صفية بنت حيي بن أخطب (زوجة النبي) 394، 409، 410، 417.

صفية بنت عبد المطلب (عمة النبي) 183، 259.

عائشة بنت ابي بكر 112، 115، 117، 122، 315، 317، 318، 319، 320، 322، 607، 682، 683، 684.

عاتكة 488.

عاصية 544.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:730

فاطمة بنت أسد 229.

فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه 94، 103، 104، 105، 106، 107، 108، 109، 110، 112، 113، 114، 115، 117، 118، 119، 120، 190، 422، 423، 424، 427، 457، 468، 497، 605، 606، 607، 608، 618، 678، 680، 682.

مارية القبطية (زوجة النبي) 315، 322، 542، 597.

مريم بنت عمران 120، 376، 442.

ميمونة (زوجة النبي) 436، 437، 675، 677.

نسيبة المازنية 165، 176.

هند بنت عتبة 63، 154، 174، 181، 182، 185، 188، 489، 507، 508.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:731

(5) فهرس القبائل و الامم

أذرح (قبيلة) 569.

أسد (قبيلة) 196، 472.

الاوس (قبيلة) 9، 18، 21، 22، 24، 26، 27، 30، 31، 32، 42، 55، 139، 146، 149، 154، 155، 209، 214، 228، 258، 281، 286، 289، 290.

أيلة (قبيلة) 292، 320، 321، 569، 578.

ثمالة (قبيلة) 532.

بنو اسرائيل 60، 62، 257، 294.

بنو أسد 197، 250.

بنو اشجع 250، 486.

بنو الأصفر 362، 555.

بنو أميّة 427، 428، 434.

بنو بكر 59، 131، 139، 465، 466.

بنو ثعلبة 24، 226.

بنو جذيمة 510، 511، 512.

بنو جشم 22، 24.

بنو الحارث 22، 24.

بنو الحجاج 65.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:732

بنو حسن 427.

بنو خزاعة 193، 331، 341، 463، 464، 465، 481.

بنو الزهراء 427.

بنو زهرة 68.

بنو ساعدة 22، 24، 563، 674.

بنو سعد 529، 532.

بنو سلمة 73.

بنو الشطيبة 24.

بنو سليم 128، 250، 254، 303، 455، 456، 458، 472، 485، 517.

بنو شيبان 514.

بنو ضمرة 36، 41.

بنو عامر 203، 204، 205، 270، 349، 623.

بنو العاص 59.

بنو عبد الاشهل 186، 192.

بنو عبد الدار 153، 155، 156،

157.

بنو عبد المطلب 499، 646.

بنو عبد مناة 170.

بنو عدى 333.

بنو عمرو بن عوف 22.

بنو عوف 22، 24، 80.

بنو غسان 359، 553.

بنو غطفان 129، 211، 226، 250، 270، 272، 273، 274، 278، 301، 388، 389، 407، 560.

بنو غفار 138، 301، 394، 472، 476، 486.

بنو فزارة 250، 254، 256، 270، 272، 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:733

بنو قريظة 21، 26، 27، 209، 211، 212، 230، 248، 252، 256، 258، 260، 261، 272، 273، 274، 275، 282، 283، 285، 286، 288، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 304، 321.

بنو قينقاع 21، 26، 27، 121، 122، 124، 125، 127، 209، 248، 281، 289، 292، 304، 386.

بنو كنانة 58، 137، 170، 263، 341، 463، 464، 465، 486.

بنو كعب 472.

بنو لحيان 299، 300، 304.

بنو ليث 486.

بنو مالك 321.

بنو مدلج 37، 41.

بنو المصطلق 304، 305، 311، 312، 314.

بنو مرة 250، 254.

بنو النبيت 22.

بنو النجار 22، 24، 389.

بنو النضير 21، 26، 27، 128، 132، 206، 207، 209، 210، 211، 214، 215، 247، 248، 281، 288، 289، 293، 304، 386، 410.

بنو مزينة 486.

الخزرج (قبيلة) 9، 18، 21، 27، 30، 31، 32، 42، 55، 139، 214، 245، 258، 279، 281، 289، 292، 302، 321، 387، 389، 497، 578.

بنو وائل 247.

جرباء (قبيلة) 569، 570.

تميم (قبيلة) 472، 560.

ثقيف (قبيلة) 11، 373، 374، 514، 515، 516، 519، 521، 524، 525،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:734

526، 527، 532، 533، 582، 584، 585، 587.

جهينة (قبيلة) 472.

جذام (قبيلة) 553.

خزاعة (قبيلة) 139، 304، 327، 329، 464، 466، 467.

دوس (قبيلة) 523.

ربيعة (كذاب) 658.

سلمة (قبيلة) 532.

سويلم (قبيلة) 556.

طي (قبيلة) 544، 545، 547، 560.

لخم (قبيلة) 553.

فهم (قبيلة) 532.

قريش (قبيلة) 18، 22، 23، 24، 25، 27، 31، 36، 37، 38،

39، 40، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 53، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 60، 61، 64، 66، 69، 71، 73، 74، 75، 76، 78، 80، 81، 87، 89، 90، 91، 92، 97، 121، 131، 133، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 146، 148، 149، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 160، 165، 166، 169، 174، 181، 193، 194، 228، 231، 247، 248، 249، 250، 254، 256، 257، 258، 260، 262، 265، 270، 271، 272، 273، 274، 275، 285، 286، 304، 326، 327، 328، 330، 331، 332، 333، 334، 335، 336، 337، 339، 340، 341، 342، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 352، 253، 356، 360، 371، 374، 383، 386، 387، 388، 408، 419، 420، 431، 432، 435، 436، 437، 439، 442، 443، 448، 453، 462، 463، 464، 465، 466، 469، 471، 472، 473، 474، 477، 480، 481، 482،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:735

485، 488، 489، 491، 495، 501، 514، 526، 542، 616، 629، 657.

قيس (قبيلة) 472.

بنو هاشم 68، 80، 155، 232، 426، 427، 477، 478، 499، 646.

هوازن (قبيلة) 513، 514، 515، 516، 517، 519، 520، 529، 531، 532.

ولد اسماعيل 257، 325.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:736

(6) الكنى و الألقاب

«الكنى» الرجال:

أبو الاسود الدؤلي 112.

أبو أيوب الأنصاري 118، 417.

أبو البائت 403.

أبو البحتري 88، 155.

أبو البراء العامري 202، 203، 204، 205.

أبو بكر بن أبي قحافة 60، 61، 94، 104، 330، 396، 398، 426، 427، 455، 456، 511، 512، 524، 563، 584، 591، 592، 594، 651، 652، 654، 660.

أبو بكر الجوهري 670.

أبو بكر بن حزم 55، 134.

أبو بصير 348، 349، 350.

أبو تراب 405.

أبو جعفر البصري 94.

أبو جعفر المنصور 427.

أبو جندل 342، 343، 344، 348.

أبو

جهل 33، 34، 68، 69، 83، 88، 136، 173، 174، 263، 484، 544.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:737

ابو جهم العبيدي 162.

ابو حاتم 224.

ابو حارثة 601، 602، 610، 680.

ابو الحسن 94، 104، 408.

ابو الخير الحاكمي 114.

ابو العقيق 394.

ابو حمراء بن سفيان 171.

ابو الخير 265.

أبو دجانة الانصاري 153، 154، 157، 165، 173، 179، 213.

ابو ذر الغفاري 486، 565، 567.

ابو رافع 89، 90، 115، 135، 170، 437.

ابو ريحة 489.

ابو سعيد بن خيثمة 148.

ابو سعيد السجستاني 652.

ابو سفيان بن الحارث 478، 518.

ابو سفيان 15، 36، 37، 53، 57، 61، 66، 68، 89، 90، 91، 128، 129، 131، 136، 138، 139، 149، 152، 153، 157، 162، 163، 164، 174، 180، 181، 192، 193، 200، 228، 229، 266، 273، 274، 275، 307، 333، 338، 360، 361، 362، 466، 467، 469، 472، 478، 479، 480، 481، 482، 483، 484، 485، 486، 487، 488، 489، 491، 492، 497، 498، 508، 514، 517، 518، 533، 544، 587، 644.

ابو سلمة 37، 197.

ابو الشعثاء بن سفيان 171.

ابو طالب 90، 333، 356، 442، 485، 492، 504.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:738

ابو طلحة 118.

ابو العاص 82، 93، 94، 109، 118، 542.

ابو عامر 148، 154، 250، 578، 579.

ابو العباس السفاح 428.

ابو عبيدة الجراح 165، 169، 686.

ابو العرفان الحبان 653.

ابو عزيز 87.

ابو عزه الجمحي 82، 194.

ابو عمرة 115.

ابو العلاء الهمداني 652.

ابو الفضل 481، 488، 612.

ابو لبابة 55، 286، 287، 288.

ابو لهب 57، 89، 478.

ابو المفضل 621.

ابو موسى الاشعري 521.

ابو نائلة 133، 134، 135.

ابو واقد الليثي 486.

ابو الوليد 74، 76.

النساء:

ابنة حاتم الطائي 549.

أم أنس (بن مالك) 111.

أم أيمن 425، 426.

أم حبيبة 467.

أمّ سلمة 108، 117، 287، 278، 479، 480.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:739

أمّ سليم بن ملحان 520.

أم عامر 173.

أمّ

الفضل 89، 436.

أمّ كلثوم بنت رسول اللّه 597.

أمّ كلثوم بنت عقبة 350.

أم هاني 504.

«الألقاب» الآلوسي 238، 241، 594.

ابن طاوس (السيد) 603، 606، 611، 621.

الافندي صاحب كشف الظنون 6.

الاميني 111، 120، 648، 653.

البحراني (المحدث) 323.

البخاري 318، 320، 321، 322.

البختري 80، 81.

البروجردي (السيد) 216.

الترمذي (الحافظ) 112.

التلعكبري 621.

الثعالبي 650.

الجزري الشافعي 652.

الحلبي 397، 426، 603.

الحموي (الياقوت) 601.

الحميدي 224.

الخجندي (الحافظ) 109.

الدولابي 107.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:740

الدينارية (المرأة) 187.

الرضي (السيد) 72.

الزمخشري 605، 607.

السيوطي 6.

شرف الدين 671.

الطباطبائي (العلّامة) 216، 243، 609.

الطبري 52، 60، 61، 71، 239، 337، 404، 652.

الطوسي (الشيخ) 7، 137، 611، 620، 621.

كعب الاحبار 683.

القندوزي 19.

العامري 349.

العاملي (الحرّ) 52، 138.

العراقي (الحافظ) 112.

العقاد (عباس محمود) 118.

المامقاني 621.

المجلسي (العلّامة) 54، 73، 148، 157.

المسعودي 615.

المطهري (الاستاذ) 7.

المفيد (الشيخ) 155، 214، 290، 401، 455.

المقريزي 60، 131، 167، 214، 215، 254.

النجاشي 231، 298، 299، 375، 376، 377، 378، 380، 412، 442،

612.

النسائي 653.

الهيثمي 118.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:741

الواقدي (صاحب السيرة المتوفى 151) 7، 61، 63، 137، 138، 151، 162، 164، 165، 207، 263، 278، 286، 291، 374، 438، 561.

الواقدي (صاحب الطبقات المتوفى 230) 7.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:742

(7) فهرس الوقائع و الايام

الاحزاب (معركة) 230، 231، 245، 261، 270، 271، 275، 276، 279، 282، 283، 285، 293، 296، 299، 522.

بيعة العقبة 45، 59، 506، 507.

بنو المصطلق (غزوة) 315، 321.

تبوك (غزوة) 404، 445، 554، 555، 558، 561، 565، 566، 569، 570، 572، 573، 575، 576، 579، 580، 581، 582، 613.

حجة الوداع (البلاغ) 619، 638، 656.

حمراء الاسد 192، 193، 194، 195.

الخندق (معركة) 251، 252، 253، 254، 255، 260، 261، 262، 263، 266، 268، 269، 270، 274، 275، 276، 290، 293، 295، 304، 387، 522.

خيبر 35، 121، 175، 213، 247، 270، 283، 296، 297، 386، 387، 388، 389، 391،

394، 396، 400، 402، 404، 405، 406، 407، 408، 410، 411، 412، 413، 414.

ذات الرقاع (غزوة) 226.

ذات السلاسل (سرية) 416، 454.

صفين (معركة) 14، 15، 443.

قرقرة الكدر (غزوة) 128.

مؤتة (معركة) 439، 443، 449، 450، 468.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:743

(8) فهرس الأماكن و البلدان

آسيا الصغرى 357، 364.

احد 90، 132، 135، 138، 139، 140، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 151، 155، 158، 162، 163، 164، 165، 168، 171، 172، 173، 176، 177، 179، 181، 183، 184، 187، 188، 189، 190، 191، 194، 196، 203، 206، 228، 251، 254، 261، 265، 267، 293، 303، 345، 453، 493، 508، 578.

آديس آبابا 375.

الاردن 265.

الاسكندرية 360.

أبنى 661.

أوربا 357.

أوطاس 521.

إيران 132، 216، 266، 267، 281، 353، 356، 357، 358، 363، 364، 365، 444، 445، 642.

بئر معونة 203، 204، 563.

باريس 352.

البحر الأحمر 64، 67، 569، 615.

البحرين 356، 623.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:744

بدر 32، 38، 43، 45، 53، 55، 56، 57، 63، 65، 66، 67، 68، 69، 71، 80، 82، 84، 86، 87، 88، 89، 92، 97، 121، 128، 143، 144، 149، 201، 228، 229، 269، 293، 303، 402، 472، 505، 542 ...

بصرى 359.

البصرة 414.

بغداد 113، 116، 164، 427.

البقيع 134، 135.

بكين (عاصمة الصين) 3.

بلجيكا 118.

البلقاء 553.

بيت اللّه الحرام 41، 49، 329، 339، 430، 438، 464، 492، 589، 631، 633.

بيت المقدس 42، 47، 48، 49، 50، 51، 347، 354، 361، 381، 582.

تبوك 552، 643، 660.

تهامة 509.

ثنية أذاخر 491.

ثنية المرة 17.

ثنية الوداع 301، 440، 554.

الجزيرة العربية 4، 18، 21، 41، 48، 49، 121، 217، 226، 250، 324، 341، 342، 345، 347، 353، 354، 360، 371، 372، 374، 387، 388، 434، 463، 478، 493، 503، 523، 527، 543، 544، 552، 559، 568، 578، 582، 589،

591، 593، 597، 622، 628، 642، 656.

الجحفة 327، 617، 647، 656.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:745

الجرف 440، 558، 663، 664.

الجعرانة 528، 529، 532، 536، 537.

الجندل 570، 571، 572، 573.

الجولان 381.

الحبشة 137، 144، 156، 174، 298، 356، 375، 376، 378، 380، 381، 383، 388، 412، 442، 677.

الحجاز 42، 298، 300، 356، 358، 369، 438، 442، 505، 521، 525، 545، 547، 549، 552، 553، 558، 568، 569، 571، 572، 575، 601، 602، 619، 623، 624، 625، 629، 634، 651، 656، 659، 660، 674.

حجر 552.

الحجر الاسود 620.

الحديبية 118، 327، 344، 345، 346، 348، 350، 351، 352، 374، 388، 430، 462، 464، 483، 489.

حضرموت 656.

حراء (غار) 3.

حنين 516، 517، 520، 521، 522، 523، 525، 526، 528، 529، 532.

الحيرة 356.

خيبر 35، 393، 401.

دار الندوة 345.

دمشق 155، 156، 381.

ذو الحليفة 326، 629.

ذو طوى 490.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:746

الربذة 566.

الرملة 661.

رابغ 646.

الرجيع 389، 393.

روضة الخاخ 473.

زمزم (بئر) 83، 494.

سطح (قلعة) 390.

سقيفة بني ساعدة 674.

سورية 569، 572، 573، 575، 661.

الشام 14، 15، 16، 37، 41، 47، 50، 53، 55، 56، 67، 68، 120، 125، 136، 139، 162، 165، 175، 213، 247، 300، 301، 338، 339، 350، 356، 358، 359، 360، 386، 423، 433، 439، 440، 444، 445، 464، 475، 548، 549، 552، 553، 566، 569، 570، 573، 578، 615، 643، 656، 660، 661.

الشق (حصن) 390، 407، 408.

الصفا (جبل) 434، 435، 630.

الصفراء 87.

صفين 14، 338.

الصين 126.

الطائف 38، 41، 44، 175، 519، 520، 522، 523، 524، 527، 528، 532، 540، 578، 583، 584، 587، 678.

طهران 7.

طيسفون 364.

الظهران 432، 480.

العراق 15، 125، 136، 357، 616، 674.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:747

عرفات 629، 636.

عسفان 300.

عسقلان 616.

العقبة 573.

عكاظ (سوق) 231.

فدك 94، 246، 421، 424، 425، 426،

427، 428.

فرنسا 126.

فلسطين 642، 659.

القادسية 550.

القاهرة 241.

قبا 579، 616.

قسطنطنية 358، 359، 364، 553.

قم 131، 216.

القموص (حصن) 390، 394، 409.

الكديد 426.

كربلاء 423.

الكعبة المعظمة 47، 50، 51، 53، 201، 324، 434، 493، 494، 495، 497، 498، 499، 539، 589، 630.

الكوفة 426.

لبنان 7.

لندن 7.

المدائن 364.

المدينة 5، 6، 9، 10، 11، 12، 18، 21، 23، 24، 25، 26، 31، 32، 34، 36، 37، 39، 40، 42، 47، 48، 49، 51، 52، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 60، 67، 68، 69، 71، 77، 87، 88، 89، 91،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:748

93، 121، 122، 126، 127، 128، 129، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 139، 140، 141، 142، 144، 145، 146، 148، 150، 151، 154، 155، 156، 171، 174، 175، 176، 185، 186، 188، 189، 191، 192، 193، 196، 197، 199، 200، 201، 202، 203، 204، 205، 206، 207، 208، 211، 213، 227، 228، 246، 248، 250، 251، 254، 255، 256، 259، 260، 271، 272، 278، 279، 281، 282، 286، 288، 289، 292، 293، 296، 298، 300، 301، 302، 304، 306، 308، 313، 314، 315، 317، 318، 325، 327، 339، 344، 345، 348، 349، 350، 358، 372، 376، 379، 380، 381، 382، 383، 386، 387، 389، 410، 412، 418، 421، 424، 431، 435، 436، 438، 440، 446، 448، 450، 452، 453، 454، 455، 456، 458، 466، 467، 468، 473، 476، 477، 488، 492، 514، 522، 536، 537، 540، 542، 543، 545، 547، 549، 553، 554، 557، 558، 559، 560، 561، 562، 565، 568، 569، 572، 573، 575، 576، 578، 579، 581، 583، 584، 589، 592، 602، 605، 606، 610، 615، 616، 617،

619، 620، 623، 629، 643، 644، 646، 656، 660، 661، 664، 667، 674، 680، 681، 686.

المروة (جبل) 434، 435، 630.

المسجد الاقصى 113.

المسجد الحرام 47، 48، 50، 119، 325، 326، 434، 492، 493، 495، 496، 497، 628.

مسجد الأحزاب 457 ..

مسجد الشجرة 629.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:749

مسجد ضرار 148، 569.

مسجد العريش 67.

مصر (بلاط) 339، 356، 358، 369، 370، 371، 373، 374، 377، 379، 442، 542، 615، 616، 647، 656، 674.

مكة المكرمة 3، 8، 9، 33، 34، 37، 38، 39، 40، 41، 44، 47، 49، 53، 55، 56، 57، 58، 65، 67، 68، 81، 82، 88، 90، 91، 92، 121، 128، 133، 135، 136، 137، 140، 150، 174، 175، 180، 181، 191، 193، 194، 199، 200، 213، 228، 229، 231، 247، 248، 250، 257، 293، 300، 303، 307، 324، 325، 326، 327، 331، 332، 333، 334، 335، 339، 342، 343، 344، 345، 346، 348، 349، 352، 366، 419، 420، 429، 430، 431، 432، 433، 434، 436، 437، 438، 452، 464، 465، 467، 469، 470، 471، 472، 473، 474، 475، 477، 478، 479، 480، 481، 484، 485، 487، 488، 489، 490، 491، 492، 495، 496، 497، 500، 504، 505، 506، 507، 509، 513، 514، 516، 519، 521، 537، 538، 540، 542، 552 554، 560، 578، 588، 589، 591، 613، 614، 615، 616، 619، 620، 629، 630، 631، 632، 633، 646.

منى 620، 630، 634، 637.

ناعم (حصن) 390، 392، 394، 402.

نجد 203، 204، 250، 294، 383، 445، 548.

نجران 405، 578، 601، 602، 603، 604، 605.

النطاة (حصن) 407، 408، 606، 607، 610، 611، 612، 613، 614، 616، 617، 619، 620، 626، 633، 636.

الهند 111.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:750

وادي الرمل 455.

وادي ذفران 57، 58.

وادي القرى 35، 121، 139، 386، 418، 421، 439.

وادي اليابس 454، 455، 456، 457.

يثرب 9، 17، 21، 22، 25، 27، 42، 66، 73، 121، 140، 209، 251، 247، 248.

اليرموك 381.

اليمامة 356، 384، 623، 657، 658.

اليمن 175، 335، 357، 366، 367، 368، 381، 382، 505، 509، 539، 549، 601، 613، 619، 623، 624، 625، 626، 632، 637، 643، 656، 659.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:751

(9) فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

الامامية (الشيعة) 172، 612، 660.

الروم (الامبراطورية الرومية) 21، 93، 356، 357، 358، 360، 361، 362، 363، 364، 369، 373، 376، 379، 381، 382، 387، 431، 444، 445، 446، 464، 552، 553، 554، 555، 568، 571، 572، 581، 582، 602، 632، 642.

الساسانيون 357، 364.

السنة (أهل) 172، 423، 659، 660، 661، 667.

الصابئون 550.

العباسيون 427، 428، 541.

الغساسنة 382، 383.

الفاطميون 118، 338، 427.

الفرس 93، 357، 358، 575، 643.

القياصرة (الروم) 643.

المستشرقون 42، 43، 46، 110، 147، 160، 203، 230، 238، 341، 353، 354، 356، 396، 411، 414، 478، 506، 588، 589.

النصارى (المسيحيون) 4، 28، 120، 239، 240، 304، 352، 364، 371، 380، 405، 415، 442، 547، 552، 559، 571، 578، 602، 603، 604، 606، 607، 610، 619، 629، 642، 643.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:752

اليهود 18، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 28، 29، 30، 31، 39، 43، 45، 47، 48، 49، 50، 82، 88، 121، 122، 123، 124، 125، 126، 132، 135، 139، 142، 145، 146، 206، 207، 208، 209، 210، 211، 212، 214، 215، 247، 249، 250، 252، 255، 257، 259، 260، 270، 272، 273، 282، 284، 285، 286، 287، 288، 289، 290، 291، 292، 297، 298، 304، 321، 377، 387، 388، 389، 390،

391، 392، 393، 394، 395، 396، 398، 399، 400، 402، 404، 405، 406، 407، 413، 414، 415، 416، 417، 418، 419، 421، 429، 438، 442، 523، 556، 578، 660.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:753

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1- مميزات النهضة الالهية و خصائصها 3

2- دور المساجد في الاسلام 9

3- خطأ المستشرقون في تفسير المناورات العسكرية 42

4- كرامة علمية لرسول اللّه في مسألة القبلة 51

5- اهمية الزواج في الاسلام و مشاكل الزواج المعاصرة و علاجها 100

6- المستشرقون و الاساءة الى النبي (ص) في قصة زينب 237

7- عالمية الرسالة المحمدية 354

8- فدك و حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال 422

9- نوعية علم رسول اللّه (ص) بالمغيبات 564

10- مكافحة الاسلام للخرافة 599

11- الخلافة من منظار السنة، و الشيعة 639

12- الارتباط بالارواح في ضوء مكالمة أهل البقيع 665

سيد المرسلين ،ج 2،ص:754

(11) فهرس المصادر

1- الآثار الباقية/ للبيروني

2- الأبطال/ لتوماس كارلايل

3- ابو طالب مؤمن قريش/ للخنيزي

4- الإتحاف/ للشبراوي

5- الاحتجاج/ للطبرسي

6- إحياء العلوم/ للغزالي

7- أخبار أصفهان/ لابي نعيم الاصفهاني

8- الاخبار الطوال/ للدينوري

9- الارشاد/ للمفيد

10- إرشاد الساري/ للقسطلاني

11- از پرويز تا جنكيز/ لتقي زاده

12- الاستغاثة/ لأبي القاسم الكوفي

13- الاستيعاب/ لابن عبد البر

14- اسد الغابة/ لابن الاثير الجزري

15- الاسفار الاربعة/ لصدر الدين الشيرازي

16- اسلام و جاهليت (بالفارسية)/ للنوري

17- الاشارات و التنبيهات/ لابن سينا

18- الإصابة في تمييز الصحابة/ لابن حجر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:755

19- أصالة روح (بالفارسية)/ لصاحب الدراسة سيد المرسلين ج 2 755 (11) فهرس المصادر ..... ص : 754

- الاصنام/ للكلبي

21- اعلام النساء/ لكحالة

22- إعلام الورى بأعلام الورى/ للطبرسي

23- أعيان الشيعة/ للسيد محسن العاملي

24- الأغاني/ للراغب الاصفهاني

25- الاقبال/ لابن طاوس

26- الامالي/ للطوسي

27- الامالي/ للصدوق

28- الامامة و السياسة/ لابن قتيبة

29- إمتاع الاسماع/ للمقريزي

30- الاحوال/ لابن سلام

31- الانجيل/

32- أنيس الاعلام/ لفخر الاسلام

33- اوائل المقالات/ للمفيد

34- ايران در عهد ساسانيان (بالفارسية)/ ارتو كريستن سن

(ب) 35- بحار الانوار/ للمجلسي

36- البداية و النهاية/ لابن كثير

37- برهان رسالة (بالفارسية)/ صاحب الدراسة

38- بلوغ الادب في معرفة احوال العرب/ للآلوسي

(ت) 39- التاج الجامع للاصول/ لناصف

40-

تاريخ اجتماعي ايران (بالفارسية)/ لجماعة من المؤلفين

41- تاريخ الامم و الملوك/ للطبري

سيد المرسلين ،ج 2،ص:756

42- تاريخ بغداد/ للبغدادي

43- تاريخ تمدن ايران در عهد ساسانيان (بالفارسية)/ لذبيح اللّه صفا

44- تاريخ الخلفاء/ للسيوطي

45- تاريخ الخميس/ للديار بكري

46- تاريخ سني ملوك الارض و الأنبياء/ لحمزة الاصفهاني

47- تاريخ العرب/ لفيلب

48- تاريخ علوم و ادبيات در ايران (بالفارسية)/ لصفا

49- تاريخ القرآن/ للزنجاني

50- تاريخ اليعقوبي/ لليعقوبي

51- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام/ للصدر

52- تحرير الاحكام/ للعلامة الحلي

53- التحرير/ للنووي

54- تحف العقول/ لابن شعبة الحراني

55- تحفة الأجلة في معرفة القبلة/ للكابلي

56- تذكرة الخواص/ لسبط ابن الجوزي

57- التراتيب الدراية/ للكتاني

58- الترغيب و الترهيب/ للمنذري

59- تفسير ابو الفتوح الرازي/

60- تفسير البرهان/ للبحراني

61- تفسير التبيان/ للطوسي

62- تفسير روح المعاني/ للآلوسي

63- تفسير صحيح آيات مشكلة (بالفارسية)/ صاحب الدراسة

64- تفسير الدر المنثور/ للسيوطي

65- تفسير الطبري/ للطبري

66- تفسير مفاتيح الغيب/ للفخر الرازي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:757

67- تفسير الكشاف/ للزمخشري

68- تفسير العياشي/ للعياشي

69- تفسير فرات الكوفي/ لفرات الكوفي

70- تفسير في ظلال القرآن/ لسيد قطب

71- تفسير القرطبي/ للقرطبي

72- تفسير القمي/ للقمي

73- تفسير مجمع البيان/ للطبرسي

74- تفسير المنار/ لعبده- رشيد رضا

75- تفسير الميزان/ للطباطبائي

76- تفسير نور الثقلين/ للحويزي

77- التقريب/ للحافظ العراقي

78- تقييد العلم/ للبغدادي

79- التنبيه و الاشراف/ للمسعودي

80- تنقيح المقال/ للمامقاني

81- التوراة/

82- تهذيب الاصول/ لصاحب الدراسة

83- تهذيب الاسماء و اللغات/ للنووي

84- تهذيب التهذيب/ للعسقلاني

(ث) 85- ثمار القلوب/ للثعالبي

(ج) 86- جغرافياى كشورهاى اسلامي (بالفارسية)/ الفقيهي

87- جمهرة خطب العرب/ لصفوة

88- جهان بيني اسلامي (بالفارسية)/ للشهيد المطهري

سيد المرسلين ،ج 2،ص:758

(ح) 89- حجة الذاهب الى ايمان ابي طالب/ لفخار بن معد

90- حلية الاولياء/ لابي نعيم الاصفهاني

91- حياة محمد/ لهيكل

(خ) 92- الخرائج و الجرائح/ للراوندي

93- الخصائص/ للنسائي

94- الخصال/ للصدوق

(د) 95- دائرة المعارف/ وجدي

96- در مكتب وحي/ لصاحب الدراسة

97- الدرجات الرفيعة/ للسيد علي خان

المدني

98- الذريعة الى تصانيف الشيعة/ لآغا بزرك الطهراني

99- ديوان أبي طالب/

(ذ) 100- ذخائر العقبى/ للطبري

(ر) 101- بزرك رسالت (بالفارسية)/ لصاحب الدراسة

102- رجال الشيخ الطوسي/

103- الروض الانف/ للسهيلي

104- روضة الكافي/ للكليني

105- روضة المتقين/ للمجلسي

106- الرياض النضرة/ لمحبّ الدين الطبري

(ز) 107- زاد المعاد/ لابن القيم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:759

(س) 108- سفينة البحار/ للقمي

109- السقيفة (كتاب)/ لابي بكر الجوهري

110- سنن البيهقي/ للبيهقي

111- سيرة الملائي/ لعمر بن محمد

112- السيرة النبوية/ لابن هشام

113- السيرة النبوية/ لدحلان

114- السيرة الحلبية/ للحلبي

(ش) 115- شرح نهج البلاغة/ لابن أبي الحديد

(ص) 116- صحيح البخاري/ للبخاري

117- صحيح الترمذي/ للترمذي

118- صحيح مسلم/ لمسلم

119- الصحيفة السجادية/ للامام السجاد (ع)

120- الصواعق المحرقة/ للهيثمي

(ط) 121- الطبقات الكبرى/ لابن سعد

(ع) 122- عبقات الانوار/ لمير حامد

123- عدة الاصول/ للطوسي

124- العقد الفريد/ لابن عبد ربه

125- علل الشرائع/ للصدوق

126- عمدة الطالب/ لابن المهنا

127- عيون اخبار الرضا/ للصدوق

سيد المرسلين ،ج 2،ص:760

128- عيون الاثر/ لابن سيد الناس

129- عيون المجالس/

(غ) 130- الغارات/ للثقفي

131- الغدير/ للاميني

(ف) 132- فتوح البلدان/ للبلاذري

133- فتوح الشام/ للواقدي

134- فرائد السمطين/ للجويني

135- الفصول المهمة/ لابن الصباغ

136- الفهرست/ للنجاشي

137- الفهرست/ لابن النديم

(ق) 138- القاموس المحيط/ للفيروزآبادي

139- قرب الاسناد/ للحميرى

140- قرة العيون المبصرة/ للحنفي

(ك) 141- الكامل في التاريخ/ لابن الاثير

142- الكافي اصولا و فروعا/ للكليني

143- كشف الظنون/ لخليفة

144- كشف الغمة/ للاربلي

145- كشف المراد/ للعلّامة الحلي

146- كشف اليقين/ للعلّامة الحلي

147- كفاية الطالب/ للكنجي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:761

149- كنز الفوائد/ للكراجكي

150- كنوز الحقائق/ للمناوي

151- كنوز الدقائق/ للمناوي

(ل) 152- اللئالى المصنوعة/ للسيوطي

153- لسان الميزان/ لابن حجر

154- اللوامع الالهية/ للفاضل المقداد

(م) 155- ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين/ للندوي

156- المباهلة (كتاب)/ لابي المفضل الشيباني

157- المبدأ و المعاد/ للملا صدرا

158- المحجة البيضاء/ للفيض

159- مجالس ابن الشيخ/ للطوسي

160- المجالس/ للمفيد

161- المحاسن و المساوى/ للبيهقي

162- المحبّر/ لمحمد بن

حبيب

163- مروج الذهب/ للمسعودي

164- المراجعات/ لشرف الدين

165- المسند/ لابن حنبل

166- المستدرك على الصحيحين/ للحاكم النيسابوري

167- مصباح الظلام/ للدمياطي

168- مصباح المتهجد/ للطوسي

169- معالم العترة/ للجنابذي

170- معجم البلدان/ للحموي

171- المفصل في تاريخ العرب/ للدكتور جواد علي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:762

172- مقتل الخوارزمي/ للخوارزمي

173- المغازي/ للواقدي

174- مفاهيم القرآن/ لصاحب الدراسة

175- مقاتل الطالبيين/ لابي الفرج الاصفهانى

176- مقدمة ابن خلدون/

177- مكاتيب الرسول/ للأحمدي

178- مكارم الاخلاق/ للطبرسي

179- الملل و النحل/ للشهرستاني

180- من لا يحضره الفقيه/ للصدوق

181- مناقب آل أبي طالب/ لابن شهرآشوب

181- المناقب/ للخوارزمي

182- مناهل العرفان/ للزرقاني

183- المنتقى/ لابن تيمية

184- منهاج السنة/ لابن تيمية

185- المواهب اللدنية/ للقسطلاني

186- المواقف/ للايجي

187- الموسوعة العربية الميسرة/ لجماعة من المؤلفين

188- ميزان الاعتدال/ للذهبي

(ن) 189- ناسخ التواريخ/ لسپهر

190- نزهة المجالس/ للصفوري

191- النص و الاجتهاد/ للسيد شرف الدين

192- النهاية/ لابن الاثير

193- نهج البلاغة/ للشريف الرضي

194- نور الابصار/ للشبلنجيّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:763

(و) 195- الوثائق السياسية/ للبروفيسور حميد اللّه

196- وسائل الشيعة/ للحر العاملي

197- فاء الوفاء/ للسمهودي

198- وفيات الأعيان/ لابن خلكان

199- وقعة صفين/ لابن مزاحم

200- الولاية في طرق حديث الغدير/ للطبري

(ه) 201- الهدى الى دين المصطفى/ للبلاغي

(ي) 202- ينابيع المودة/ للقندوزي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:764

(12) فهرس المواضيع

26- أول عمل ايجابي للنبي في المدينة وقائع السنة الاولى من الهجرة 9- 32 عقد ميثاق تعايش بين المسلمين و غيرهم 9

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبوي 12

ضئر أرأف من والدة 16

التآخي أو أعظم معطيات الايمان 18

منقبتان عظيمتان 19

منقبة اخرى لعلي 20

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين و يهود يثرب 21

أعظم معاهدة تاريخية 22

ممارسات اليهود الاجهاضية 27

خطة اخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية 29

27- مناورات عسكرية و استعراضات حربية وقائع السنة الثانية من الهجرة 33- 46 تهديد خطوط قريش التجارية 34

النبي (ص) يلاحق قريشا بنفسه 36

ما ذا كان الهدف من المناورات

العسكرية 41

سيد المرسلين ،ج 2،ص:765

نظرية المستشرقين حول هذه المناورات 42

28- تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة 47- 52 كرامة علمية لرسول اللّه (ص) 51

29- معركة بدر 53- 99 النبي (ص) يتوجه الى ذفران 55

المشكلة التي كانت تواجهها قريش 58

النبي (ص) يعقد شورى عسكرية 59

اخفاء الحقائق و كتمانها 59

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار 62

تحصيل المعلومات حول العدو 62

كيف هرب ابو سفيان 65

معرفة المسلمين بافلات قافلة قريش 68

اختلاف قريش في القتال 68

العريش او غرفة القيادة 70

نظرة الى مسألة العريش 70

تحرك قريش باتجاه بدر 72

قريش تتشاور في القتال 72

اختلاف قادة قريش في القتال 74

ما الذي حتّم القتال؟ 75

المبارزات الفردية أولا 76

أي القولين هو الأصح حول المبارزين؟ 77

الهجوم العام 78

سيد المرسلين ،ج 2،ص:766

رعاية الحقوق 80

مصرع أميّة بن خلف 80

خسائر بدر في الأرواح و الاموال 81

ما انتم باسمع منهم 82

الشعر يخلّد هذه القصة 83

بعد معركة بدر 85

قتل أسيرين في اثناء الطريق 87

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم 88

بشائر النبي الى المدينة 88

اشتراك العبّاس عم النبي (ص) في بدر 89

المنع من النوح و البكاء في مكة 90

القرار الأخير حول مصير الأسارى 91

رسول الاسلام و مكافحة الأميّة 93

كلام لابن ابي الحديد في المقام 94

القرآن يتحدث عن بدر 95

30- زواج سيدة النساء 100- 120 مشاكل الزواج في العصر الحاضر 101

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليا 102

جهاز فاطمة 105

مراسم الزواج تقام ببساطة 107

31- جرائم بني قينقاع (اليهود) 121- 131 لهيب الحرب ينطلق من شرارة 123

تقارير جديدة تصل الى المدينة 127

سيد المرسلين ،ج 2،ص:767

غزوات في هذه السنة 127

1- غزوة قرقرة الكدر 128

2- غزوة السويق 128

3- غزوة ذي أمر 129

قريش تغير مسير تجارتها 131

32- الدفاع عن الحرية (أو معركة احد) حوادث السنة الثالثة من الهجرة 132- 195 سرية

محمد بن مسلمة لاغتيال كعب بن الأشرف 132

اغتيال مفسد آخر 135

قريش تتكفل نفقات الحرب 135

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبي (ص) 137

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة 138

منطقة احد 139

المشاورات في كيفية الدفاع 140

الاقتراع من أجل الشهادة 142

حصيلة الشورى 144

النبي (ص) يخرج من المدينة 145

جنديان فدائيان 146

العسكران يصطفّان 150

رفع معنويات الجنود و تقوية عزائمهم 151

العدو ينظم صفوفه 152

الإثارة النفسية و إلهاب الحماس 153

القتال يبدأ 154

المقاتلون بدافع الشهوات 157

سيد المرسلين ،ج 2،ص:768

الهزيمة بعد الانتصار 158

شائعة حول مقتل النبي (ص) 160

هل يمكن ان ينكر أحد فرار البعض 161

القرآن يكشف عن بعض الحقائق 162

التجارب المرة 164

خمسة يتحالفون على قتل النبي (ص) 165

الدفاع الموفق أو النصر المجدد 169

حمزة بن عبد المطلب 173

العدو يحاول استغلال الفرصة 179

نهاية المعركة 181

آخر ما نطق به سعد بن الربيع 184

النبي يعود الى المدينة 185

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة 187

نموذج آخر من النسوة المجاهدات 187

لا بد من ملاحقة العدو 190

حمراء الأسد 192

لا يخدع المؤمن مرّتين 194

ميلاد الامام الحسن السبط 195

حوادث السنة الرابعة من الهجرة 33- فاجعة فريق المبلّغين 196- 205 خطة ماكرة للفتك بالمبلغين 197

الغدر بالدعاة الى الاسلام و قتلهم 198

دور حزب النفاق أيضا 201

جريمة بئر معونة 202

سيد المرسلين ،ج 2،ص:769

كيد المستشرقين 203

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين 204

34- غزوة بني النضير 206- 215 بما ذا يجب ان تقابل هذه الجريمة 208

المستشرقون و دموع التماسيح 210

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط 213

35- تحريم الخمر غزوة ذات الرقاع، غزوة بدر الصغرى 216- 229 1- تحريم الخمر 216

وقفة عند «البيان الشافي» في الخمر 220

رواية مختلفة 221

2- عزوة ذات الرقاع 225

مواقف خالدة في هذه الغزوة 227

الحراس الصامدون 227

3- غزوة بدر الصغرى 228

ولادة الحسين السبط الاصغر لرسول اللّه (ص) 229

36- من أجل

تحطيم التقاليد الخاطئة حوادث السنة الخامسة من الهجرة 230- 245 زواج النبي (ص) بمطلقة دعيّه زيد 230

من هو زيد بن حارثة 231

زيد يتزوج ببنت عمة النبي (زينب بنت جحش) 232

زيد يطلّق زوجته زينب 233

سيد المرسلين ،ج 2،ص:770

زواج النبي بمطلّقة متبناه لإبطال سنة جاهلية 334

المستشرقون و قضيّة تزوج النبي بزينب 237

توضيح الحقيقة و ردّ الشبهة 239

37- غزوة الأحزاب بعض غزوات السنة الخامسة 246- 280 1- غزوة دومة الجندل 246

2- غزوة الخندق (الأحزاب) 247

استخبارات القيادة ترفع تقريرا للقيادة 250

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان 253

مقاتلو العرب و اليهود يحاصرون المدينة 254

العدد الدقيق لقوات الطرفين 254

خطر البرد و تناقص الغذاء، و العلف 255

النبي (ص) يعرف بنقض بني قريظة للعهد 258

تجاوزات بني قريظة الأوّلية 259

الايمان في مواجهة الكفر 260

أبطال من العرب يعبرون الخندق 262

تصاول البطلين 266

ضربة عليّ (ع) لعمرو و قيمة هذه الضربة 267

لما ذا التنكّر لهذا الموقف؟ 267

مروءة عليّ (ع) و شهامته 269

جيش العرب يتفرق في موقفه 270

العوامل التي فرّقت كلمة الاحزاب 272

مبعوثون من قريش يمشون الى بني قريظة 274

آخر العوامل وراء هزيمة الكفار 275

سيد المرسلين ،ج 2،ص:771

القرآن الكريم و معركة الاحزاب 276

38- سقوط آخر اوكار الفساد و المؤامرة 281- 295 قوات الاسلام تحاصر بني قريظة 282

اليهود يتشاورون حول الموقف 283

خيانة أبي لبابة 286

الى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟ 288

حكم سعد في بني قريظة و تقييم ما استند إليه 290

39- أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة حوادث السنة السادسة من الهجرة 296- 302 أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة 298

الوقاية من تكرار التجارب المرة 299

النذر غير المشروع 302

40- تمرّد بني المصطلق 303- 312 غزوة بني المصطلق 304

منافق حاول إشعال الموقف 306

صراع بين الأيمان و العاطفة 309

41- قصة الإفك

313- 323 الفاسق يفتضح 313

المنافقون يتهمون شخصا نقي الجيب 314

أبرز النقاط في آيات الإفك 317

الزوائد في هذه القصة 318

سيد المرسلين ،ج 2،ص:772

منافاتها لمقام النبوّة و العصمة 318

سعد بن معاذ توفي قبل حادثة الإفك 320

42- رحلة سياسية دينيّة 324- 351 مندبوا قريش عند النبي 328

رسول اللّه (ص) يبعث مندوبا الى قريش 331

النبي (ص) يبعث سفيرا آخر الى قريش 332

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه (ص) 335

التاريخ يعيد نفسه 337

نصّ صلح «الحديبية» 339

نشيد الحرية 340

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح 341

و القضية التالية تشهد بما نقول 342

تقييم عاجل لصلح الحديبية 344

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة 348

النساء المسلمات لا يسلّمن الى قريش 350

43- النبيّ يعلن عن رسالته العالمية حوادث السنة السابعة من الهجرة 352- 385 الرسالة المحمدية كانت عالمية 354

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمدية 355

رسل الإسلام الى المناطق النائية 356

أوضاع العالم إبان ابلاغ الرسالة الاسلامية العالمية 357

رسول النبي في أرض الروم 358

سيد المرسلين ،ج 2،ص:773

قيصر يحقق حول النبي (ص) 360

أثر رسالة النبي (ص) الى قيصر 363

سفير النبي (ص) في البلاط الايراني 363

أوامر خسرو برويز الى واليه على اليمن 366

سفير النبي (ص) في أرض مصر 369

المقوقس يكتب كتابا الى النبي (ص) 372

سفير النبي (ص) في أرض الذكريات «الحبشة» 375

محاورة سفير النبي و حاكم الحبشة 377

تقييم سريع لمراسلة النبي (ص) قادة العالم 378

كتاب رسول اللّه (ص) الى امير الغساسنة بالشام 381

سادس السفراء في أرض اليمن 383

رسائل اخرى لرسول اللّه (ص) 385

44- قلعة خيبر أو بؤرة الخطر 386- 420 احتلال الطرق و النقاط الحساسة ليلا 390

متاريس اليهود تتهاوى 392

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة 394

فتح الحصون الواحد تلو الآخر 396

الانتصار الكبير في خيبر 399

تحريف الحقائق 401

ثلاث نقاط مشرقة في حياة الامام

علي (ع) 404

عوامل الانتصار 405

1- التخطيط العسكري الدقيق 406

2- تحصيل المعلومات حول العدو 407

3- تفاني الامام علي (ع) 408

سيد المرسلين ،ج 2،ص:774

الرحمة في ساحة القتال 409

مصرع كنانة بن الربيع 410

تقسيم غنائم الحرب 410

قافلة من أرض الذكريات (الحبشة) 412

حجم الخسائر و عدد القتلى 413

العفو بعد الانتصار 413

سلوك اليهود المتعجرف 416

حيلة مجازة 419

45- قصة فدك 421- 429 حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال 422

قصة فدك بعد رسول اللّه (ص) 425

فدك في محكمة التاريخ 428

السيطرة على وادي القرى 429

46- عمرة القضاء 430- 437 النبي (ص) يدخل مكة 433

النبي (ص) يغادر مكة 436

47- معركة مؤتة السنة الثامنة من الهجرة 438- 451 حادثة أفجع من سابقتها 439

خلاف حول من هو الامير الأول 441

جيشا الروم و المسلمين يتواجهان 444

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة 447

سيد المرسلين ،ج 2،ص:775

الجنود المسلمون يعودون الى المدينة 448

اسطورة بدل التاريخ الصحيح 449

النبي (ص) يبكي بشدة لمقتل جعفر 450

48- غزوة ذات السلاسل 452- 461 تفاصيل هذه الغزوة 454

الامام علي (ع) ينتدب لقيادة العملية 457

عوامل انتصار الامام علي (ع) في هذه الموقعة 457

اعتراض و جواب 459

49- فتح مكة 462- 512 تفاصيل فتح مكة 463

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبي 466

جاسوس يكتشف 469

النبي (ص) يتحرك باتجاه مكة 475

العفو عند المقدرة 477

تكتيك رائع للجيش الاسلامي 480

العباس يصطحب ابا سفيان الى خيمة النبي (ص) 482

ابو سفيان بين يدي رسول اللّه (ص) 483

مكة تستسلم من دون إراقة دماء 485

ابو سفيان يرجع الى مكة 488

القوات الاسلامية تدخل مكة 490

كسر الأصنام و غسل الكعبة 492

علي عليه السّلام على كتف النبي (ص) 494

النبي (ص) يعلن عن العفو العام 497

سيد المرسلين ،ج 2،ص:776

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة 497

النبي (ص) يتحدث الى أقاربه 499

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام 500

التفاخر

بالنسب 501

التفاضل بالقومية 501

لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض 502

الحروب الطويلة و الاحقاد القديمة 502

الاخوة الاسلامية 503

معاقبة المجرمين 504

قصة عكرمة و صفوان 505

مبايعة نساء مكة مع النبي (ص) 506

هدم بيوت الأصنام بمكة و ما حولها 509

جرائم اخرى لخالد 511

50- معركة حنين 513- 520 جيش قليل النظير 514

تحصيل المعلومات العسكرية 514

تجهيزات المسلمين 516

استقامة النبي و من ثبت من أصحابه 517

لقطتان من الخلق النبويّ العظيم 519

51- غزوة الطائف 521- 536 شدخ جدار الحصن بالمنجنيق 523

ضغوط اقتصادية و نفسية 524

آخر محاولة لفتح حصن الطائف 526

سيد المرسلين ،ج 2،ص:777

الجيش الاسلامي يعود الى المدينة 526

حوادث ما بعد الحرب 528

اسلام مالك بن عوف 532

تقسيم الغنائم 533

رسول اللّه يعتمر 536

52- لامية كعب بن زهير المعروفة 537- 542 حزن قارن فرحا 542

53- عليّ بن أبي طالب في أرض طيّ حوادث السنة التاسعة من الهجرة 543- 551 اسلام عدي بن حاتم الطائي 543

هدم بيوت الأصنام 546

عليّ في أرض طيّ 547

54- غزوة تبوك 552- 580 تعبئة المقاتلين و تهيئة نفقات الحرب 553

المتخلّفون عن القتال 554

اكتشاف شبكة جاسوسية في المدينة 555

عدم مشاركة علي (ع) في غزوة تبوك 557

الجيش الاسلامي يتحرك نحو تبوك 559

النبي (ص) يستعرض جيشه 560

قصة مالك بن قيس 561

متاعب الطريق 562

تعليمات احتياطية 563

سيد المرسلين ،ج 2،ص:778

علم رسول اللّه (ص) بمغيبات و اخباره بها 564

الجيش الاسلامي في أرض تبوك 568

بعث خالد الى دومة الجندل 570

تقييم إجمالي لغزوة تبوك 572

المنافقون يخططون لاغتيال النبي 573

النية تقوم مقام العمل 574

اخذ المتخلفين بالعقاب النفسي 576

قصة مسجد «ضرار» 578

55- وفد ثقيف في المدينة 581- 587 وقوع الفرقة و الاختلاف في قبيلة ثقيف 582

شروط وفد ثقيف 584

56- إعلان البراءة من المشركين في منى 588- 595 تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث 593

57-

في رثاء الولد العزيز حوادث السنة العاشرة من الهجرة 596- 600 اعتراض غير وجيه 598

مكافحة الخرافات 599

58- وفد نجران في المدينة 601- 609 مفاوضات بين وفد نجران و بين النبي (ص) 603

خروج النبي (ص) للمباهلة 605

انصراف وفد نجران عن المباهلة 607

سيد المرسلين ،ج 2،ص:779

صورة العهد النبوي لوفد نجران 607

أكبر فضيلة 608

59- تأريخ المباهلة عاما و شهرا و يوما 610- 621 عام المباهلة حسب المشهور 611

الشهر و اليوم الذي وقعت فيه المباهلة 611

رأينا حول عام المباهلة 612

زمن المباهلة يوما و شهرا 614

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟ 619

60- تقييم البراءة من المشركين وفود القبائل في المدينة 622- 627 محاولة اغتيال النبي (ص) 623

أمير المؤمنين علي (ع) في ربوع اليمن 624

61- حجة الوداع 628- 638 الامام علي (ع) يعود من اليمن 631

مراسم الحج تبدأ 633

خطاب النبي التاريخي في حجة الوداع 634

62- إكمال الدين الاسلامي بتعيين الخليفة 639- 655 اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة 641

الوقائع التاريخية تؤيد المحاسبات 645

النبوة و الامامة توأمان 645

قصة الغدير 646

سيد المرسلين ،ج 2،ص:780

واقعة الغدير خالدة الى الأبد 649

الدلائل الاخرى على ابدية الغدير 651

63- المتنبئون كذبا التفكير في أمر الروم 656- 666 لمحة عن مسيلمة الكذاب 658

التفكير في أمر الروم 659

الأعذار غير المقبولة 664

الاستغفار لأهل البقيع 665

64- الكتاب الذي لم يكتب حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة 667- 679 ايتوني بقلم و قرطاس 668

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟ 672

لما ذا لم يصرّ النبي (ص) على كتابة الكتاب؟ 674

ملافاة الأمر و تداركه 675

تقسيم الدنانير 677 سيد المرسلين ج 2 780 (12) فهرس المواضيع ..... ص : 764

ب النبي (ص) من الدواء الذي سقي 677

وداع النبي (ص) مع أهله 677

65- اللحظات الأخيرة 680- 687 النبي (ص)

يتحدث مع ابنته الزهراء (ع) 681

وصايا النبي (ص) قبيل رحيله 683

يوم الوفاة 685

الفهارس 689

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.