موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 3 و 4 انوار الهدایة فی التعلیقة علی الکفایة

هوِية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 3 و 4 انوار الهدایة فی التعلیقة علی الکفایة/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 1100ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

بعد مرور سنوات مديدة على تدريس الإمام الخميني قدّس سرّه وتحقيقه وتأليفه في الفلسفة والعرفان والسطوح العالية من الفقه والاُصول، شرع بتدريس المرحلة الخارج في الاُصول، وكان ذلك بعد ما حاول فيه كبار العلماء والفطاحل - وبدور بارز من الإمام الخميني قدّس سرّه - أن يهاجر الفقيه الكبير سماحة آية الله البروجردي قدّس سرّه إلى قم المقدّسة ليتولّى مرجعية الشيعة وزعامة الحوزة العلمية.

وفي تلك الأيّام طلب بعض تلامذة الإمام الخميني قدّس سرّه في الفلسفة أن يدرّسهم دروس الخارج في الفقه والاُصول، ولمّا كان السيّد البروجردي قدّس سرّه قد شرع في مباحث الألفاظ من اُصول الفقه، وقد حضر الإمام قدّس سرّه مجلس درسه، فطلب من الإمام قدّس سرّه أن يتولّى تدريس الأمارات والاُصول العملية، فهذا أوّل ما درّس الإمام من بحث الخارج في اُصول الفقه. وهو قدّس سرّه بإزاء تدريسه - والذي يدور حول محور «كفاية الاُصول» للآخوند الخراساني قدّس سرّه - كان يدوّن تحقيقاته العميقة وآرائه ونظرياته باُسلوب واضح ولطيف على شكل تعليقة على

ص: 5

كتاب «الكفاية»، فكان حاصلها المجلّدان الحاضران.

فقد جاءت أبحاث القطع والظنّ حتّى نهاية بحث البراءة والاشتغال في هذين المجلّدين، وقد تمّ الفراغ من الجزء الثاني للتعليقة في الحادي عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1368 ه. ق. وقد اُضيف إلى الكتاب حواش كثيرة من المؤلّف العلاّمة في الدورتين الأخيرتين تتميماً للمباحث، متعرّضاً لنقد آراء الأعلام وتصحيحاً لما جدّد فيه رأيه؛ لأنّ الإمام قدّس سرّه قد درّس هذه المباحث ثلاث مرّات والمرّة الأخيرة بلغت إلى «حديث الرفع».

جاء في هذا الكتاب مسائل تفصيلية كثيرة تتعلّق بالجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، ومراتب الحكم الشرعي، وآية النبأ، والبراءة عند الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وبعض المسائل العقلية نحو مجعولية آثار الوجود وكيفية العقاب الاُخروي والسعادة والشقاوة وغيرها.

مضافاً إلى ذلك فقد نقد الإمام الخميني قدّس سرّه في هذا الكتاب وخلال بحث «حجّية الظهور» رأي الأخباريين فيما يتعلّق بتحريف القرآن الكريم، وهاجم استدلالهم في هذا المجال بشدّة، بقوله: «فساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلاّ أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيّد الأنام».

بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

هذا، وقد كتب الإمام الخميني قدّس سرّه ما تعلّق بقاعدة «لا ضرر» حتّى نهاية الأبحاث الاُصولية بصورة مستقلّة لا على شكل تعليقة.

ص: 6

وعلى الرغم من أ نّه قدّس سرّه كتب بقاعدة «لا ضرر» مستقلّة - نظير بحث «الطلب والإرادة» - إلاّ أ نّه ولمنزلتها الخاصّة في نظم مجموع آثاره، فقد انضمّت إلى هذا القسم تبعاً للكفاية حيث أورد قاعدة «لا ضرر» آخر أبحاث البراءة والاشتغال. وقد استعرض قدّس سرّه في بحث قاعدة «لا ضرر» تبحّره في الرواية وتعمّقه في الدراية، فقد أبدى تحقيقات واسعة ودقّة وافرة ومن خلال نقد آراء الأعلام والإشارة إلى شؤون النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم ، رأى أنّ معنى نفي الضرر هو «الحكم الصادر منه صلی الله علیه و آله وسلم بنحو الأمرية والحاكمية بما أ نّه سلطان ودافع للظلم عن الرعية وأمر بأ نّه لا ضرر ولا ضرار - أي الرعية ممنوعون عن الضرر والضرار - دفاعاً عن المظلوم وسياسة لحوزة سلطانه وحمى حكومته». وعلى أساس هذا الفهم فإنّ هذا حكم أبديّ من قبل الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم ، وجميع الحكومات المنتسبة إليه ملزمة برعايته.

هذا وقد طبعت المؤسّسة الرسالة المذكورة تحت عنوان «بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر» وهو أيضاً عنوان اختاره هذه المؤسّسة، وكانت قد طبعت قبل ذلك باهتمام أحد تلاميذ الإمام قدّس سرّه وهو سماحة آية الله مجتبى الطهراني في عام 1385 ه. ق ضمن مجموعة «الرسائل» وقد تولّى طبعها ونشرها مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر.

منهجنا في التحقيق:

1. تصحيح الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2. تقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم.

3. إضافة عدد من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً لكثرتها

ص: 7

فقد جرّدناها من المعقوفين [ ].

4. تخريج الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية.

5. تخريج الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع؛ سواء الفقهية منها أو الاُصولية أو الرجالية أو التفسيرية أو الفلسفية أو اللغوية أو غيرها. وقد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي، أو لم نعثر على القول في كتابه، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب.

6. وضع الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب.

7. إضافة متن «كفاية الاُصول» المرتبط بالتعليقة حتّى يسهل للقارئ الرجوع إلى المتن والاستفادة من التعليقة في آخر كلّ مجلّد.

8. كانت في الطبعة الاُولى علامة [ ] للإشارة إلى التصرّف في المتن بإصلاح الضمائر وغيرها وحيث إنّ التصرّفات كانت غير هامّة أو مرجوحة حذفناها وفي بعض الموارد أرجعنا المتن إلى ما كان.

وجدير بالذكر أنّ هذه المراحل قد وقعت في الطبعة الاُولى لهذه المؤسّسة وفي هذه الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً.

وليعلم أنّ التعليقة قد طبعت أوّل مرّة بعد رحلته عام 1413ه ق. (1372 ه. ش) تحت عنوان «أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية» وهو عنوان اختاره مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه بإجازة نجله حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني رحمه الله علیه . وقد كان انتشر نظرياته الاُصولية

ص: 8

حول مباحث هذا الكتاب قبل هذا التأريخ في ضمن التقريرات التي نشرت تحت عنوان «تهذيب الاُصول» بقلم آية الله الشيخ جعفر السبحاني.

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة، ونسأل الباري أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه

فرع قم المقدّسة

ص: 9

ص: 10

صورة الصفحة الاُولى من الأصل

ص: 11

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على

محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

وبعد، فهذه تعليقة علّقتها على المباحث العقلية من الكفاية ممّا سنح ببالي عند بحثي عنها، وعلى الله التكلان في البداية والنهاية.

ص: 1

ص: 2

المقصد السادس

في

الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

ص: 3

ص: 4

المقدّمة

وجه أشبهية مسائل القطع بالكلام

قوله: «وكان أشبه بمسائل الكلام...»(1).

قد عرّف علم الكلام تارة: بأ نّه علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام(1).

واُخرى: بأ نّه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام(2).

وأشبهية مسائل القطع بمسائل الكلام إنّما تكون على التعريف الثاني؛ [لأ نّه] يدخل فيه مباحث الحسن والقبح وأمثالهما.

وأمّا على الأوّل من التعريفين فلا شباهة بينهما أصلاً؛ فإنّ مسائل القطع ليست من الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو وجود، كما لا يخفى على أهله.

ص: 5


1- راجع شوارق الإلهام 1: 58 - 59؛ شرح المواقف 1: 47؛ شرح المقاصد 1: 176.
2- راجع شوارق الإلهام 1: 65؛ شرح المواقف 1: 42؛ شرح المقاصد 1: 179؛ التعريفات، الجرجاني: 80.

وجه تعميم متعلّق القطع وما يرد عليه

قوله: «وإنّما عمّمنا متعلّق القطع...»(2).

وجه التعميم وعدم تثليث الأقسام: ما ذكره قدّس سرّه من عدم اختصاص أحكام القطع بما تعلّق بالأحكام الواقعية(1).

لكن يرد عليه: أنّ لازم ذلك دخول تمام مسائل الظنّ والشكّ إلاّ الاُصول الثلاثة العقلية في مسائل القطع؛ فإنّ المسائل المفصّلة الآتية في الكتاب تفصيل هذا التقسيم الإجمالي المذكور في أوّله، وإلاّ يصير التقسيم لغواً باطلاً، فبناءً على توسعة دائرة القطع وإطالة ذيله حتّى يشمل كلّ المباحث، تصير كلّية المباحث مبحثاً وحيداً هو مبحث القطع، مع أنّ مباحث الظنّ والشكّ من أعظم المباحث الاُصولية، وهي العمدة في المباحث العقلية، والقول بدخولها في مبحث القطع كلام لا يرضى به اُصولي.

وإنّما خصّصنا الاستثناء بالاُصول الثلاثة مع جعله قدّس سرّه الظنّ على الحكومة مقابل القطع، فلأنّ الظنّ على الحكومة لا يكون مقابله، بل هو في الحقيقة من مسائل العلم الإجمالي، إلاّ أنّ دائرته أوسع من العلم الإجمالي المذكور في مباحث القطع والاشتغال، وكون دائرة المتعلّق أوسع منه غير دخيل في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ لنا بناءً على ما ذكره قدّس سرّه أن ندرج كلّية المباحث حتّى مبحث الاُصول

ص: 6


1- كفاية الاُصول: 296.

العقلية في القطع؛ بأن نجعل متعلّق القطع هو وظيفة المكلّف، فتصير المباحث العقلية كلّها مبحثاً فريداً هو مبحث القطع. لكن هذا ممّا لا يرضى به الوجدان الصحيح، فتثليث الأقسام ممّا لا بدّ منه، لكن لا بما ذكره الشيخ قدّس سرّه (1) لتداخل الأقسام، بل بما ذكره شيخنا العلاّمة الحائري(2) وبعض محقّقي العصر(3).

جواب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه عن تثليث الأقسام

تنبيه: قد اعتذر بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات بحثه - عن تثليث الأقسام بما ذكره شيخنا العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه : «بأنّ عقد البحث في الظنّ إنّما هو لأجل تميّز الظنّ المعتبر الملحق بالعلم عن الظنّ الغير المعتبر الملحق بالشكّ، فلا بدّ أوّلاً من تثليث الأقسام، ثمّ البحث عن حكم الظنّ من حيث الاعتبار وعدمه»(4)، انتهى كلامه.

ومراده: أنّ تثليث الأقسام توطئة لبيان الحقّ فيها.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ التقسيمات التي وقعت في مجاري الاُصول مع هذا التقسيم التثليثي على نهج واحد، فإن كان هذا التقسيم توطئة تكون هي كذلك، فعليه فما الباعث في تقييد مجرى الاستصحاب بكون الحالة السابقة ملحوظة إذا كان التقسيم توطئة، لا من باب بيان المختار ؟

ص: 7


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 25.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 323.
3- نهاية الدراية 3: 17.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 4.

مع أنّ هذا المحقّق قال بعد أسطر من هذا الكلام: وإنّما قيّدنا مجرى الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة، ولم نكتف بمجرّد وجودها؛ فإنّ مجرّد وجودها بلا لحاظها لا يكفي في كونها مجرى الاستصحاب؛ إذ هناك من ينكر اعتبار الاستصحاب كلّية... إلى آخر ما ذكره.

والشيخ رحمه الله علیه أيضاً قال: «وما ذكرناه هو المختار في مجاري الاُصول»(1) فعاد الإشكال على تثليثها جذعاً، فلتكن على ذكر.

ص: 8


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 26.

الأمر الأوّل في وجه عدم جعل الحجّية للقطع

اشارة

قوله: «لعدم جعل تأليفي...»(3).

إنّما لا يمكن الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه؛ لأنّ مناط الافتقار إلى الجعل هو الإمكان، والوجوب والامتناع مناط الاستغناء، والقطع واجب الحجّية، ممتنع اللا حجّية، فليس فيه مناط الفقر والحاجة إلى الجاعل إثباتاً ونفياً.

هذا، ولكن في كون الحجّية والكشف من اللوازم التي لا يتعلّق بها الجعل التأليفي كلام سيأتي - إن شاء الله - في مباحث التجرّي التعرّض له وبيان الميزان فيها (1).

ومجمل ذاك المفصّل: أنّ الكشف والطريقية من آثار وجود القطع، لا لوازم مهيته، وآثار الوجود مطلقاً مجعولة.

نعم، أصل المدّعى - وهو عدم تعلّق الجعل التشريعي به - صحيح بلا مرية؛

ص: 9


1- يأتي في الصفحة 41.

فإنّ الجعل التشريعي لا معنى لتعلّقه بما هو لازم وجود الشيء، فلا معنى لجعل النار حارّةً والشمس مشرقةً تشريعاً، لا لأ نّهما من لوازم ذاتهما، بل لأ نّهما من لوازم وجودهما المحقّقين تكويناً، والقطع أيضاً طريق تكويني وكاشف بحسب وجوده، ولا يتعلّق الجعل التشريعي به؛ للزوم اللغوية وكونه من قبيل تحصيل الحاصل.

هذا، وأمّا حديث اجتماع الضدّين اعتقاداً أو حقيقة، فيمكن [دفعه]؛ فإنّ العلم كالشكّ من عوارض المعلوم بوجه، كالشكّ الذي من طوارئ المشكوك، فكما أنّ المشكوك بما أ نّه مشكوك موضوع يمكن تعلّق حكم مضادّ للذات به؛ بناءً على صحّة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بنحو الترتّب، كذلك المعلوم بما أ نّه معلوم موضوع يصحّ تعلّق حكم منافٍ للذات به.

نعم، جعل الحكم المنافي للذات لعنوان المعلوم يوجب اللغوية، لكن هذا أمر آخر غير الامتناع الذاتي.

إشكال على مراتب الحكم

قوله: «مرتبة البعث...»(4).

يظهر منه قدّس سرّه على ما في تضاعيف كتبه: أنّ للحكم أربع مراتب: الاقتضاء، والإنشاء، والفعلية، والتنجّز(1).

ولا يخفى: أنّ المرتبة الاُولى والأخيرة لم تكونا من مراتب الحكم؛ فإنّ

ص: 10


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 70؛ فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 81.

الاقتضاء من مقدّمات الحكم لا مراتبه، والتنجّز من لوازمه لا مراتبه.

نعم، مرتبة الإنشاء - بمعنى جعل الحكم القانوني بنعت العموم والإطلاق بلا ملاحظة تخصيصاته وتقييداته وموانع إجرائه - من مراتب الحكم، كما أنّ مرتبة الفعلية أيضاً من مراتبه.

وهاتان المرتبتان محقّقتان في جميع القوانين الموضوعة في السياسات المدنية؛ فإنّ المقنّنين ينشؤون الأحكام بنعت الكلّية والقانونية، ثمّ تراهم باحثين في مستثنياتها ويراعون مقتضيات إجرائها، فإذا تمّ نصاب المقدّمات وارتفعت موانع الإجراء يصير الحكم فعلياً واقعاً بمقام الإجراء.

فتحصّل: أنّ للحكم مرتبتين لا أربع مراتب.

ص: 11

الأمر الثاني في التجرّي

اشارة

قوله: «الأمر الثاني...»(5).

اعلم أنّ الكلام في مسألة التجرّي طويل الذيل، بعيد الغور، دقيق المسلك، ونحن نقتصر على جانب من الكلام، ونترك في بعض مباحثه المقدّمات العقلية الدقيقة؛ فإنّ الكافل لها علم أعلى.

فهاهنا مباحث لا بدّ من البحث عنها:

المبحث الأوّل في أنّ مسألة التجرّي ليست اُصولية

الميزان في المسائل الاُصولية

قد قرّر أنّ المسائل الاُصولية هي الكبريات التي وقعت في طريق استنباط الأحكام الكلّية الفرعية، أو ينتهى إليها في مقام العمل؛ بحيث تكون نسبتها إليها

ص: 12

كنسبة الكبريات إلى النتائج، لا كنسبة الكلّيات إلى المصاديق(1).

وليعلم: أنّ موضوع النتيجة وإن كان من مصاديق موضوع الكبرى، والنتيجة من جزئيات الكبرى، إلاّ أنّ اختلاف الموضوعين عنواناً يكفي لكون أحدهما مقدّمة والآخر نتيجة.

وبهذا يجاب عن الدور الوارد على الشكل الأوّل البديهي الإنتاج، فما علم في الكبرى هو حدوث كلّ متغيّر بعنوانه، وما علم في النتيجة هو حدوث العالم بعنوانه، فالعالم - مثلاً- من المصاديق العرضية للمتغيّر، فهو غير معلوم الحدوث بعنوانه الذاتي، أو بعنوان عرضي آخر، ومعلوم الحدوث بهذا العنوان العرضي، وبعد ترتيب الصغرى والكبرى يصير معلوم الحدوث بعنوانه الذاتي أو العرضي الآخر، فإذن الفرق بينهما باختلاف العنوان.

وأمّا الفرق بين المصاديق والكلّيات فبالتشخّص واللا تشخّص مع حفظ العنوان، فأفراد الإنسان هو الإنسان المتشخّص.

فإذن الفرق بين المسائل الاُصولية والفقهية - مثل: «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» - هو أنّ المسائل الاُصولية تكون في طريق الاستنباط، ولا تكون بعنوان ذاتها متعلّقاً للعمل، ويستنتج منها المسائل الفرعية الكلّية التي

تكون متعلّقاً للعمل. مثلاً: حجّية خبر الواحد، أو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، وأمثالهما من المسائل الاُصولية، هي كبريات لا تكون بنفسها متعلّقاً لعمل المكلّف، بل يستنتج منها الوجوب والحرمة وسائر الأحكام المتعلّقة بعمل

ص: 13


1- كفاية الاُصول: 23.

المكلّف. ونسبة حرمة الخمر في الشبهة الحكمية - مثلاً- إلى الاستصحاب نسبة النتيجة إلى الكبرى؛ فإنّ حرمة الخمر من المصاديق العرضية للاستصحاب، ومصاديقه الذاتية التي هي جزئيات عدم نقض اليقين بالشكّ لم تكن مطلوبة للمكلّف، ولم تكن متعلّقة لعمله، بل ما يستنتج من الاستصحاب هو مطلوبه. وإذا أخبر الثقة بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر، فعمل المكلّف على طبقه لا يقال: إنّه مشغول بالعمل بخبر الواحد، بل يقال: إنّه مشغول بوظيفته التي هي صلاة الجمعة الواجبة عليه.

نعم، إنّه مشغول بالعمل بخبر الثقة أيضاً، إلاّ أ نّه بعنوان عرضي غير منظور إليه.

وبعبارة اُخرى: المجتهد الذي [هو] من آحاد المكلّفين، إذا تفحّص عن خبر الثقة أو الاستصحاب - سواء تفحّص عن حجّيتهما أو تحقّقهما في الموارد الخاصّة - لا يكون مطلوبه الذاتي خبر الثقة والاستصحاب بعنوانهما، ولا مؤدّاهما بعنوان مؤدّاهما، بل مطلوبه مؤدّاهما بعنوان غير عنوان المؤدّى، فوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر - اللذان هما المصداقان العرضيان للمؤدّى - مطلوبه. وأمّا إذا تفحّص عن مصاديق «ما يضمن بصحيحه» لا يكون مطلوبه البيع أو الإجارة بعنوانهما، بل يكون مطلوبه وجدان المصداق الذاتي لهذه القاعدة؛ أي قاعدة ما يضمن، تأمّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مطلوب المكلّف في المسائل الاُصولية هو نتائجها، وفي القواعد الكلّية الفقهية هو مصاديقها.

ص: 14

في الإيراد على القائلين بكون التجرّي من المسائل الاُصولية

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ مسألة التجرّي لم تكن من المسائل الاُصولية، ولا وجه لإدراجها فيها إلاّ وجوه ذكرها المحقّقون، والكلّ منظور فيها.

منها: ما تسالموا عليه من أنّ البحث إذا وقع في أنّ ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا ؟ يندرج في المسائل الاُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي(1).

وفيه: أنّ قبح التجرّي كقبح المعصية وحسن الإطاعة وقع في سلسلة المعلولات للأحكام الشرعية، فلم يكن مورداً لقاعدة الملازمة على فرض تسليمها، فلو سلّمنا قبح التجرّي فلا يستنتج حكم شرعي البتّة.

وأيضاً يلزم بناءً عليه: أن يكون في المعصية معصيتان وفي الإطاعة طاعتان:

إحداهما: المعصية والإطاعة الآتيتان من قبل نهي المولى وأمره.

والثانية: ما يستكشف بالملازمة لقاعدتها.

ولا وجه لتخصيص القاعدة العقلية بالتجرّي والانقياد، وسيأتي فيما بعد(2) عدم الفرق بين العاصي والمتجرّي من حيث التجرّي على المولى.

وبالجملة: المسألة الاُصولية ما تقع في طريق الاستنباط، وقبح التجرّي - لو سلّم - لا يقع في طريقه فلا يكون منها.

ومنها: ما في تقريرات بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه : من أنّ البحث إذا وقع في أنّ

ص: 15


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 335.
2- يأتي في الصفحة 22 و27.

الخطابات الشرعية تعمّ صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته، تكون المسألة من المباحث الاُصولية(1).

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ دعوى إطلاق الخطاب وعمومه لا يدرج المسألة في سلك المسائل الاُصولية؛ فإنّها بحث صغروي مندرج في الفقهيات، وقد عرفت أنّ المسائل الاُصولية هي الكبريات المستنتجة لكلّيات الفروع، كالبحث عن حجّية أصالة العموم والإطلاق، لا البحث عن شمولهما لموضوع، ولو كان البحث الكذائي من المسائل الاُصولية للزم إدراج جلّ المسائل الفقهية في الاُصول؛ فإنّه قلّما يتّفق في مسألة من المسائل الفقهية أن لا يقع البحث عن الإطلاق والعموم بالنسبة إلى بعض الموضوعات المشكوكة، ولعمري إنّ ما وقع منه لا يخلو من غرابة.

ومنها: ما في التقريرات أيضاً بما يرجع إلى الوجهين(2)، وقد عرفت ما فيهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مسألة التجرّي لا تندرج تحت المسائل الاُصولية، بل إمّا فقهية، أو كلامية بتقريبين.

المبحث الثاني في عدم حرمة الفعل المتجرّى به

لا إشكال في عدم صيرورة الفعل المتجرّى به حراماً شرعاً، ولا في عدم صيرورته قبيحاً عقلاً؛ لعدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من العنوان الواقعي بواسطة

ص: 16


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 37 و50.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 44.

تعلّق القطع به، والقطع طريق لما يكون الشيء متّصفاً به بحسب نفس الأمر، وهذا واضح جدّاً لا يحتاج إلى تجشّم استدلال وإقامة برهان.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه : من أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً؛ فإنّ القاطع لا يقصده إلاّ بعنوانه الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا

يلتفت إليه(1). وزاد في «تعليقته على الفرائد» وفي ذيل الأمر الثاني في «الكفاية»: بأنّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلاً؛ لأنّ ما قصده لم يقع، وما وقع لم يقصده(2).

ففيه إشكال واضح، لكن لا لما في تقريرات بعض أعاظم العصر قدّس سرّه : من أنّ الالتفات إلى العلم من أتمّ الالتفاتات، بل هو عين الالتفات، ولا يحتاج إلى التفات آخر(3)؛ فإنّه كلام خطابي لا ينبغي أن يصغى إليه؛ لأنّ الضرورة والوجدان شاهدان على أنّ القاطع حين قطعه يكون تمام توجّهه إلى المقطوع به، ويكون قطعه غير ملتفت إليه بالنظر الاستقلالي، ويكون النظر إلى القطع آلياً، وإلى الواقع المقطوع به استقلالياً.

بل الإشكال فيه: أنّ العناوين المغفول عنها على قسمين:

أحدهما: ما لا يمكن الالتفات إليها ولو بالنظرة الثانية، كعنوان النسيان والتجرّي وأمثالهما.

ص: 17


1- كفاية الاُصول: 299.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 37؛ كفاية الاُصول: 302.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45.

وثانيهما: ما يمكن الالتفات إليها كذلك، كعنوان القصد والعلم وأشباههما.

فما كان من قبيل الأوّل: لا يمكن اختصاص الخطاب به، فلا يمكن أن يقال: أيّها الناسي لكذا، أو أيّها المتجرّي في كذا افعل كذا؛ فإنّه بنفس هذا الخطاب يخرج عن العنوان، ويندرج في العنوان المضادّ له.

نعم، يمكن الخطاب بالعناوين الملازمة لوجودها.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني: فاختصاص الخطاب به ممّا لا محذور فيه أصلاً؛ فإنّ العالم بالخمر بعد ما التفت إلى أنّ معلومه بما أ نّه معلوم حكمه كذا بحسب الخطاب الشرعي، يتوجّه بالنظرة الثانية إلى علمه توجّهاً استقلالياً.

وناهيك في ذلك وقوع العلم والقصد في الشرعيات متعلّقاً للأحكام في مثل قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(1)، ومثل الحكم بأنّ القاصد عشرة أيّام تكليفه التمام، مع أنّ نسبة القصد إلى المقصود كنسبة العلم إلى المعلوم.

وبالجملة: فرق واضح بين عدم إمكان الالتفات رأساً، وبين الالتفات الآلي الذي يمكن التوجّه إليه.

نقل مقال لتوضيح حال

قال في تقريراته بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - بعد الحكم بعدم إمكان اختصاص المتجرّي بخطاب، وبعد الحكم بأن لا موجب لاختصاص الخطاب به؛ لاشتراك القبح بين المتجرّي والعاصي، بل القبح في صورة المصادفة أتمّ، فلا بدّ أن يعمّ

ص: 18


1- المقنع: 15؛ مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني، الباب 30، الحديث 4.

الخطاب صورة المصادفة والمخالفة؛ بأن يقال: لا تشرب معلوم الخمرية - ما هذا لفظه: «ولكنّ الخطاب على هذا الوجه أيضاً لا يمكن، لا لمكان أنّ العلم لا يكون ملتفتاً إليه... إلى أن قال: بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائماً، وإن لم يلزم ذلك في الواقع؛ لأنّ النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه، وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان كما في مثل: «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» إلاّ أ نّه في نظر العالم دائماً يلزم اجتماع المثلين؛ لأنّ العالم لا يحتمل المخالفة، ودائماً يرى مصادفة علمه للواقع، فدائماً يجتمع في نظره حكمان، ولا يصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد بحيال ذاته، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد، وفي مثل «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» يصلح كلّ من الحكمين للباعثية بحيال ذاته، ولو في مورد افتراق كلّ منهما عن الآخر، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكّد، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين، بخلاف المقام؛ فإنّه لو فرض أنّ للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية حكماً، فبمجرّد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أ نّه رتّب على ذات الخمر، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب، والحكم الآخر - المترتّب على معلوم الخمرية - لا يصلح لأن يكون باعثاً، ويلزم لغويته»(1) انتهى.

أقول: يظهر من مجموع كلامه قدّس سرّه : أنّ المحذور في تعلّق الأمر المولوي

ص: 19


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45 - 46.

بعنوان معلوم الخمرية أمران، وإن كان المقرّر قد خلط بينهما:

أحدهما: اجتماع المثلين دائماً في نظر القاطع، وإن لم يلزم في الواقع.

والثاني: لغوية الأمر؛ لعدم صلاحيته للباعثية بحيال ذاته؛ لعدم افتراق العنوانين.

وفي كليهما نظر: أمّا في الأوّل فمن وجوه:

الأوّل: أنّ تعلّق الأمرين بالخمر وبمعلوم الخمرية لا يكون من قبيل اجتماع المثلين؛ لاختلاف موضوعهما، فإنّ عنوان المعلومية كعنوان المشكوكية من العناوين الطارئة المتأخّرة عن الذات، والمعلوم بما أ نّه معلوم لمّا كان تمام الموضوع على الفرض، لا يكون له اجتماع رتبة مع الذات حتّى في مورد مصادفة العلم للواقع، وهذا بوجه نظير اجتماع المقولات العرضية مع مقولة الجوهر في الوجود مع كونهما متقابلتين.

الثاني: أ نّه لو فرضنا هذا المقدار من اختلاف العنوان لا يكفي لرفع اجتماع المثلين، فلا محالة يكون في مورد التصادق من قبيل اجتماع المثلين واقعاً، ولا وجه لصيرورة النتيجة في مورد التصادق تأكّد الحكمين كما في «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» فهل يكون افتراق المثلين في موضع رافعاً لامتناع اجتماعهما في موضع التصادق ؟ !

وبالجملة: حرمة الخمر وحرمة معلوم الخمرية إمّا ممكنا الاجتماع، فلا يمتنع اجتماعهما أصلاً، وإمّا غير ممكني الاجتماع، فلا يمكن اجتماعهما ولو في موضوع واحد، وهو مورد التصادق، فما معنى كونهما من اجتماع المثلين في نظر القاطع دائماً، وعدم كونهما منه بحسب الواقع مطلقاً حتّى في

ص: 20

مورد التصادق ؟ ! وهل هذا إلاّ التناقض في المقال ؟ !

الثالث: لو كان مورد التصادق من قبيل «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» وتصير النتيجة تأكّد الحكمين، فلا يكون في نظر القاطع من اجتماع المثلين أصلاً، بل من قبيل تأكّد الحكمين دائماً، وتلازم عنوانين محرّمين لا يقتضي جمع المثلين.

فلو فرضنا كون عنواني «العالم» و«الهاشمي» متلازمين لم يكن حكم الإكرام عليهما من قبيل اجتماع المثلين، بل يكون من تأكّد الحكمين، وذلك واضح بأدنى تأمّل.

هذا، مضافاً إلى عدم [كون] المورد من قبيل تأكّد الحكمين؛ لأنّ الحكمين الواردين على عنوانين لا معنى للتأكّد فيهما حتّى في مورد الاجتماع، وباب التأكيد فيما إذا جاء الأمر الثاني على الموضوع الأوّل لمحض التأكيد والتأييد للأوّل.

الرابع: هب أ نّك دفعت امتناع اجتماع الحكمين في مورد التصادق بكونهما من قبيل تأكّد الحكمين، فما تفعل لو كان معلوم الخمرية موضوعاً واجب الإتيان بحسب الواقع ؟ ! وهل هو إلاّ من قبيل اجتماع الضدّين واقعاً ؟ ! فلا محيص عنه إلاّ بما ذكرنا في الوجه الأوّل من اختلاف الموضوعين، فيندرج المورد في صغريات باب التزاحم.

أمّا وجه النظر في الثاني من المحذورين: فلأنّ العبد قد لا ينبعث بأمر واحد، وينبعث بأمرين أو أكثر، فحينئذٍ لو كان للموضوع عنوان وحداني تتأكّد الأوامر، ولو كان له عناوين مختلفة متصادقة عليه يكون كلّ أمر بعثاً إلى متعلّقه وحجّة

ص: 21

من الله على العبد، وموجباً لمثوبة في صورة الإطاعة، وعقوبة في صورة المخالفة بلا تداخل وتزاحم.

فلو فرضنا كون إكرام العالم ذا مصلحة مستقلّة ملزمة، وإكرام الهاشمي كذلك، ويكون العنوانان متلازمين في الوجود، لا يكون الأمر بكلّ من العنوانين لغواً؛ لصلاحية كلّ واحد منهما للبعث، ولا دليل على لزوم كون الأمر باعثاً مستقلاًّ غير مجتمع مع بعث آخر، ويكون بعثاً بحيال ذاته، وإنّما هو دعوى بلا برهان وبنيان بلا أساس.

المبحث الثالث في قبح التجرّي وتحقيق الحال فيه

الحقّ الحقيق بالتصديق هو كون المتجرّي والعاصي كليهما توأمين في جميع المراحل والمنازل: من تصوّر الحرام، والتصديق بفائدته المتخيّلة، والشوق إليه، والعزم عليه، وإجماع النفس، وتحريك الأعصاب، وهتك حرمة المولى والجرأة عليه، وتخريب أساس المودّة، ونقض غزل العبودية، وإنّما افتراقهما في آخر المراحل ومنتهى المنازل، وهو إتيان العاصي الحرام الواقعي دون المتجرّي.

فحينئذٍ: لو قلنا بأنّ العقاب الاُخروي كالحدود الشرعية وكالقوانين الجزائية العرفية مجعول لارتكاب العناوين المحرّمة، فلا يكون للمتجرّي هذا العقاب المجعول، كما لا تثبت عليه الحدود الشرعية والجزائيات في القوانين السياسية العرفية، كما لو قلنا بأنّ باب عقاب الله في الآخرة من قبيل تجسّم صور الأعمال، فلا يكون لهذا العمل الغير المصادف صورة في البرازخ وما فوقها.

ص: 22

وأمّا في صحّة العقوبة لهتك حرمة المولى والجرأة عليه، فكلاهما سواء لا افتراق بينهما أصلاً.

كما أ نّه لو قلنا بأنّ الجرأة على المولى لها صورة غيبية برزخية، وأثر ملكوتي في النفس يظهر في عالم الغيب، ويكون الإنسان مبتلىً بها ومحشوراً معها، كما هو الحقّ الذي لا محيص عنه، ويدلّ عليه ضرب من البرهان في محلّه(1) فهما مشتركان فيها أيضاً بلا تداخل للعقابين بالنسبة إلى العاصي؛ فإنّ موجبهما مختلف.

وتوضيحه على نحو الإجمال: أنّ المقرّر في مقارّه عقلاً ونقلاً أنّ للجنّة والنار عوالم ومنازل ومراتب ومراحل، وتكون تلك المراتب والمنازل على طبق مراتب النفس ومنازلها، وبوجه كلّي يكون لكلّ منهما ثلاث مراتب:

الاُولى: مرتبة جنّة الأعمال وجحيمها، وهي عالم صور الأعمال الصالحة والفاسدة والحسنة والقبيحة، والأعمال كلّها بصورها الملكوتية تتجسّم في عالم الملكوت السافل، وترى كلّ نفس عين ما عملت، كما قال عزّ اسمه: )يَوْمَ تَجِدُ

كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ((2)، وقال تعالى: )وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً((3)، وقال: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ((4).

ص: 23


1- راجع الحكمة المتعالية 8: 366، الهامش 1، و9: 139 و332.
2- آل عمران (3): 30.
3- الكهف (18): 49.
4- الزلزلة (99): 7 - 8.

والثانية: جنّة الصفات وجحيمها، وهما الصور الحاصلة من الملكات والأخلاق الحسنة والذميمة، وكما أنّ نفسيهما من مراتب الجنّة والنار تكون آثارهما وصورهما أيضاً منهما.

والثالثة: جنّة الذات ونارها، وهما مرتبة تبعات العقائد الحقّة والباطلة إلى آخر مراتب جنّة اللقاء ونار الفراق.

ولكلّ من المراتب آثار خاصّة وثواب وعقاب بلا تداخل وتزاحم أصلاً.

إذا عرفت ذلك تقدر على الحكومة في مسألة التجرّي، وتعرف أنّ المتجرّي والعاصي في أيّ مرتبة من المراتب يشتركان، وفي أيّها يفترقان، وتعرف النظر في غالب النقوض والإبرامات التي وقعت للقوم فيها.

في نقل كلام بعض مشايخ العصر ووجوه النظر فيه

نقل كلام وتوضيح مرام: ولعلّك بالتأمّل فيما سلف تعرف وجوه الخلط فيما وقع لبعض مشايخ العصر على ما في تقريرات بحثه:

قال في الجهة الثالثة من مبحث التجرّي ما ملخّصه: إنّ دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب منوطة بدعوى أنّ العقل بمناط واحد يحكم في المتجرّي والعاصي باستحقاق العقاب، وأنّ مناط عقاب العاصي في المتجرّي موجود، وهذا لا يتمّ إلاّ بأمرين:

أحدهما: دعوى أنّ العلم في المستقلاّت العقلية - خصوصاً في باب الطاعة والمعصية - تمام الموضوع، ولا دخل لمصادفة الواقع وعدمها أصلاً؛ لأ نّه أمر

ص: 24

غير اختياري، ولأنّ الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل، ولا يمكن أن تكون محرّكة لعضلات العبد إلاّ بالوجود العلمي والوصول.

ثانيهما: كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي، ولا أثر للقبح الفعلي المجرّد عن ذلك.

ويمكن منع كلّ من الأمرين:

أمّا الأوّل: فلأنّ العلم وإن كان دخيلاً في المستقلاّت العقلية، إلاّ أ نّه لا العلم الأعمّ من المصادف وغيره؛ فإنّ غير المصادف يكون جهلاً.

وبالجملة: العقل يستقلّ بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى، وذلك يتوقّف على بعث المولى وإحرازه، فالبعث بلا إحراز لا أثر له، والإحراز بلا بعث واقعي لا أثر له.

وأمّا الثاني: فلأنّ المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي الذي يتولّد

من القبح الفعلي، لا الذي يتولّد من سوء السريرة وخبث الباطن، وكم فرق بينهما (1)، انتهى.

وفيه: أنّ إناطة دعوى استحقاق المتجرّي بدعوى أنّ العقل بمناط واحد يحكم في العاصي والمتجرّي بالاستحقاق ممّا لا وجه له؛ لما قد عرفت: أنّ العقل يحكم باستحقاق المتجرّي للعقوبة؛ لهتك حرمة المولى والجرأة عليه، صادف الواقع أم لم يصادف، ويحكم باستحقاق العاصي للعقاب المجعول في الآخرة، والحدود المجعولة في الدنيا إن قلنا بجعلية العقاب.

ص: 25


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 48 - 49.

فللعاصي عنوانان:

أحدهما: مخالفة أمر المولى في شرب الخمر.

وثانيهما: هتك حرمته وإهانته، وليس له بواسطته عقاب مجعول قانوني، لكنّه مستحقّ عقلاً للعقاب، وله العقاب الذي هو من لوازم التجرّي والهتك. كما أنّ صاحب الأخلاق الذميمة لو فعل حراماً يكون له عقاب لفعله وعقاب آخر من سنخ ملكته الباطنة ملازم لأخلاقه الذميمة.

فالخلق الذميم له صورة غيبية ملكوتية ملازمة لشدّة وعذاب وخوف وظلمة، وللتجرّي أيضاً صورة باطنة ملكوتية ملازمة لعذاب وشدّة وظلمة مسانخة له. هذا للعاصي.

وأمّا المتجرّي: فلا يكون له العقاب المجعول، أو الصورة الملكوتية العملية، لكنّه في التجرّي واستحقاقه بواسطته وفي الصورة الملكوتية اللازمة له ولوازمها، شريك مع العاصي، ومناطه موجود فيه بلا إشكال.

وبما ذكرنا: علم ما في الأمرين اللذين جعل الدعوى منوطة بهما:

أمّا في الأوّل: فلأنّ دعوى كون العلم في المستقلاّت العقلية تمام الموضوع وأ نّه لا دخل للمصادفة وعدمها، ممّا لا دخالة له فيما نحن فيه، وأنّ القائل بقبح التجرّي لا ملزم له لتلك الدعوى؛ فإنّ قبح التجرّي من المستقلاّت العقلية، وحرمة المعصية والعقاب عليها من المجعولات الشرعية، ولا ربط لها بالتجرّي.

وبما ذكرنا علم حال الجواب عن الأمر الأوّل بأنّ قبح التجرّي إنّما يكون في

ص: 26

صورة المصادفة، وأمّا غيرها فيكون جهلاً، ولا أثر للإحراز بلا بعث واقعي؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ القاطع المتجرّي هتّاك لحرمة المولى، ومقدم على مخالفته، ومستحقّ للعقوبة، ولا فرق بينه وبين العاصي من هذه الجهة أصلاً، لا لأنّ العلم تمام الموضوع، بل لأنّ التجرّي تمام الموضوع.

نعم، لا يصدق عنوان التجرّي والعصيان إلاّ مع العلم، لا أ نّه تمام الموضوع أو جزؤه في حكم العقل بالقبح، فالعلم إنّما هو محقّق عنوان التجرّي والعصيان، وهما تمام الموضوع لحكم العقل باستحقاق العقوبة.

وبالجملة: المتجرّي والعاصي في نظر العقل سواء إلاّ في العقاب المجعول أو اللازم لارتكاب المحرّم، والوجدان أصدق شاهد على ذلك، فإنّك لو نهيت ولديك عن شرب الترياك، وجعلت للشارب مائة سوط، فشربا ما اعتقدا كونه ترياكاً، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، صار المصادف عندك مستحقّاً للعقاب المجعول. وأمّا غيره وإن كان غير مستحقّ للعقاب المجعول، لكنّه مستحقّ للتأديب والتعزير؛ لهتكه ولجرأته وكونه بصدد المخالفة، وكلاهما في السقوط عن نظرك والبعد عنك سواء. وهذا واضح، والمنكر مكابر لعقله.

مع أنّ أمر الجرأة على مولى الموالي والهتك لسيّد السادات لا يقاس على ما ذكر؛ فإنّ الانقياد له والتجرّي عليه يصيران مبدأ الصور الملكوتية المستتبعة للدرجات والدركات، كما هو المقرّر عند أهله(1).

ص: 27


1- راجع الحكمة المتعالية 8: 366، الهامش 1، و9: 139 و332.

وأمّا في الثاني: فلأنّ دعوى كون القبح الفعلي ممّا لا أثر له والمؤثّر المنحصر هو القبح الفاعلي، ممّا لا دخالة لها في المقام؛ فإنّ مدّعي قبح التجرّي يدّعيه سواء كان للفعل الواقعي أثر أم لا.

وبالجملة: أنّ التجرّي عنوان مستقلّ في نظر العقل، وهو موضوع حكمه بالقبح، والقبح الفعلي أمر آخر غير مربوط به.

ومن ذلك علم حال الجواب عن الأمر الثاني، من إحداث الفرق بين القبح الفاعلي الناشئ عن القبح الفعلي، وبين الناشئ عن سوء السريرة؛ فإنّ ذلك من ضيق الخناق، وإلاّ فأيّة دخالة للمنشأ في عنوان التجرّي الذي هو تمام الموضوع لحكم العقل بالقبح، كما هو حكم الوجدان وقضاء الضرورة ؟ !

وبالجملة: هذا التكلّف والخلط ناشٍ من عدمِ تحقيق مراتب الثواب والعقاب، وقياسِ عالم الآخرة والعقوبات الاُخروية بالدنيا وعقوباتها، مع أ نّها أيضاً لا تكون كما زعموا، فافهم واستقم.

ص: 28

في اختيارية الإرادة وعدمها

قوله: «إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار»(6).

أقول: إنّ مسألة اختيارية الإرادة وعدمها من المسائل التي وقع التشاجر بين الأفاضل والأعلام فيها، ولا بدّ من تحقيق الحال حسبما وقعت في الكتب العقلية؛ ليكون الدخول في البيت من بابه، فنقول:

في الإشكال على اختيارية الإرادة

إنّ من جملة الإشكالات الواردة في باب الإرادة الحادثة: أنّ الإرادة الإنسانية إذا كانت واردة عليه من خارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة القديمة فكانت واجبة التحقّق، سواء أرادها العبد أم لم يردها، فكان العبد ملجأً مضطرّاً في إرادته، ألجأته إليها المشيّة الواجبة الإلهية )وَمَاتَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((1) فالإنسان كيف يكون فعله بإرادته؛ حيث لا تكون إرادته بإرادته ؟ وإلاّ لترتّبت الإرادات متسلسلة إلى غير نهاية.

كلام المحقّق الداماد في دفع الإشكال

وأجاب عنه المحقّق البارع الداماد قدّس سرّه : بأنّ الإرادة حالة شوقية إجمالية للنفس؛ بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسه وكان هو الملتفت إليه بالذات، كانت

ص: 29


1- الإنسان (76): 30.

هي شوقاً إليه وإرادة له، وإذا قيست إلى إرادة الفعل وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل، كانت هي شوقاً وإرادة بالنسبة إلى الإرادة من غير شوق آخر وإرادة اُخرى جديدة. وكذلك الأمر في إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة، إلى سائر المراتب التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات ويلاحظها على التفصيل، فكلّ من تلك الإرادات المفصّلة تكون بالإرادة، وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقية الإرادية، والترتيب بينها بالتقدّم والتأخّر عند التفصيل ليس يصادم اتّحادها في تلك الحالة الإجمالية(1) انتهى.

إشكالات صدر المتأ لّهين على المحقّق الداماد وردّها

وأورد عليه تلميذه الأكبر إشكالات(2):

منها: أنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها، ونطلب أنّ علّتها أيّ شيء هي ؟ فإن كانت إرادة اُخرى لزم كون شيء واحد خارجاً وداخلاً بالنسبة إلى شيء واحد بعينه هو مجموع الإرادات، وذلك محال، وإن كان شيئاً آخر لزم الجبر في الإرادة.

ومنها: أنّ التحليل بالمتقدّم والمتأخّر إنّما يجري فيما له جهة تعدّد في الواقع وجهة وحدة في نفس الأمر، كأجزاء الحدّ من الجنس والفصل، وأمّا ما لا يكون كذلك فليس للعقل أن يخترع له الأجزاء الكذائية من غير حالة باعثة إيّاه.

ومنها: غير ذلك.

ص: 30


1- القبسات: 473 - 474؛ اُنظر الحكمة المتعالية 6: 388 - 389.
2- الحكمة المتعالية 6: 389 - 390.

ويرد عليه - مضافاً إلى أنّ تفسير الإرادة بالحالة الشوقية ليس على ما ينبغي؛ فإنّ الشوق حالة انفعالية أو شبيهة بها، قد تكون من مبادئ الإرادة وقد لا تكون، والإرادة حالة إجماعية فعلية متأخّرة عن الشوق فيما يكون من مبادئها - أنّ تلك الهيئة الوحدانية البسيطة لا يمكن أن تنحلّ إلى علّة ومعلول حقيقة، حتّى يكون الشيء بحسب نفس الأمر علّة لذاته، أو تكون العلّة والمعلول الحقيقيتان متّحدتين في الوجود.

وأمّا حديث علّية الفصل للجنس والصورة للمادّة فليست في البين العلّية الحقيقية؛ بحيث يكون الفصل موجداً للجنس أو المادّة للصورة، على ما هو المقرّر في محلّه(1).

الجواب عن أصل الإشكال

والحقّ(2) في الجواب عن أصل الإشكال ما أفاد بعض أعاظم الفلاسفة:

من أنّ المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته وإلاّ لزم أن لا تكون إرادته تعالى عين ذاته، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل وإلاّ فلا، لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلاّ لم يفعل(3) انتهى.

أقول: إنّ من الواضح الضروري عند جميع [أفراد النوع] الإنساني أنّ الفعل

ص: 31


1- راجع الحكمة المتعالية 2: 29 - 31.
2- والتحقيق فيه ماحقّقناه في رسالة مفردة كافلة لجميع الإشكالات وردّها فليراجع إليها أ. [منه قدّس سرّه ] أ - راجع رسالة «الطلب والإرادة»: 29.
3- الحكمة المتعالية 6: 388.

الصادر عن اختيار وعلم وإرادة موضوع لحسن العقوبة إذا كان على خلاف المقرّرات الدينية أو السياسية المدنية عند الموالي العرفية، والعقلاء كافّة يحكمون باستحقاق عبيدهم [العقوبة] بمجرّد فعل مخالف للمولى اختياراً منهم، وهذا حكم ضروري عندهم في جميع اُمورهم، وليس هذا إلاّ لأجل أنّ الفعل الذي [هو] موضوع حسن العقوبة عندهم هو الفعل الصادر عن علم وإرادة واختيار وإن لم تكن تلك المبادئ بالاختيار، والعقلاء لا ينظرون ولا يلتفتون إلى اختيارية المبادئ وإراديتها وكيفية وجودها، بل الملتفت إليه هو الفعل الصادر، فإن كان صادراً عن اختيار يحكمون على فاعله باستحقاق المثوبة أو العقوبة؛ بحيث تكون تلك الشبهات في نظرهم شبهات سوفسطائية في مقابل البديهة.

فلو قيل: إنّ الفعل الاختياري ما يكون مبادئه اختيارية، فلا وجه لاختصاص الاختيارية بالإرادة، بل لا بدّ من الإسراء بها إلى كلّ ما هو دخيل في وجود الفعل من وجود الفاعل وعلمه وشوقه وإرادته، فيلزم أن لا يكون فعل من الأفعال اختيارياً حتّى فعل الواجب تعالى شأنه، فلا بدّ من محو كلمة الاختيار من قاموس الوجود، وهو ضروري البطلان.

ولو سلّم فلنا أن نقول: إنّه لا يعتبر في صحّة العقوبة عند كافّة العقلاء الاختيارية بالمعنى المدّعى من كون الفعل اختيارياً بجميع مبادئه؛ فإنّ صحّة العقوبة من الأحكام العقلائية والمستصحّات العقلية، وهذا حكم جارٍ رائج بين جميع العقلاء في الأعصار والأدوار لا يشكّون فيه، و[قد] يشكّون في الشمس في رابعة النهار.

مع أنّ الإرادة ليست بالإرادة، والاختيار ليس بالاختيار.

ص: 32

وليعلم: أنّ مجرّد صدور الفعل عن علم وإرادة ليس موضوع حكم العقل لصحّة العقوبة واستحقاق العقاب؛ ضرورة أنّ الحيوانات أيضاً إنّما [تفعل ما تفعل] بعلم وإرادة، ولو كانت إرادية الفعل موضوعاً للاستحقاق للزم الحكم باستحقاق الحيوانات، فما هو الموضوع هو صدور الفعل عن الاختيار الناشئ عن تميّز الحسن من القبيح.

والاختيار عبارة عن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك بعد تميّز المصالح والمفاسد الدنيوية والاُخروية، فإنّ الإنسان بعد اشتراكه مع الحيوان بأنّ أفعاله بإرادته وعلمه، يمتاز عنه بقوّة التميّز وإدراك المصالح الدنيوية والاُخروية، وقوّة

الترجيح بينهما، وإدراك الحسن والقبح بقوّته العقلية المميّزة.

وهذه القوّة مناط التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، لا مجرّد كون الفعل إرادياً، كما ورد في الروايات: «أنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه...» إلى أن قال: «بك اُثيب، وبك اُعاقب»(1) فالثواب والعقاب بواسطة العقل وقوّة ترجيحه المصالح والمفاسد والحسن والقبح.

هذا، وأمّا مسألة إرادية الفعل، فالحقّ في الجواب: أنّ الفعل الإرادي ما صدر عن الإرادة، فوزان تعلّق الإرادة بالمراد وزان تعلّق العلم بالمعلوم من هذه الحيثية، فكما أنّ مناط المعلومية هو كون الشيء متعلّقاً للعلم، لا كون علمه متعلّقاً للعلم الآخر، كذلك مناط المرادية هو كونه متعلّقاً للإرادة وصادراً عنها، لا كون إرادته متعلّقاً لإرادة اُخرى، فليتدبّر.

ص: 33


1- راجع الكافي 1: 10 / 1.

تتمّة

في نقل أجوبة اُخر للأعلام عن الإشكال والجواب عنها

وهاهنا بعض التفصّيات التي لا تخلو عن النظر:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أنّ بعض مبادئه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة(1).

وفيه: أ نّه بعد فرض كون الفعل الاختياري ما تكون مبادئه بإرادة واختيار لا يمكن فرض اختيارية المبادئ؛ فإنّها أيضاً أفعال اختيارية لا بدّ من تعلّق إرادة بإرادتها.

وبعبارة اُخرى: إنّا ننقل الكلام إلى المبادئ الاختيارية، فهل اختياريتها بالاختيار ؟ فيلزم التسلسل، أو لا ؟ فعاد المحذور.

ومنها: ما أفاده شيخنا العلاّمة الحائري رحمه الله علیه : بأنّ التسلسل إنّما يلزم لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في الإرادة، ولا نقول به، بل ندّعي أ نّها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلّق - أعني المراد - وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها، فيكفي في تحقّقها أحد الأمرين... - إلى أن قال - والدليل على أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة في نفسها هو الوجدان؛ لأ نّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاصّ عشرة أيّام بملاحظة أنّ صحّة الصوم والصلاة التامّة تتوقّف

ص: 34


1- كفاية الاُصول: 300.

على القصد المذكور، مع العلم بأنّ هذا الأثر لا يترتّب على نفس البقاء واقعاً، ونظير ذلك غير عزيز(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه بذلك لا تنحسم مادّة الإشكال، فإنّا لو سلّمنا أنّ الإرادة في الجملة تحصل بالإرادة، لكن إرادة هذه الإرادة هل هي إرادية، وهكذا إرادة إرادة الإرادة، أم لا ؟ فعلى الأوّل تتسلسل الإرادات إلى غير نهاية، وعلى الثاني عاد المحذور من كون العبد ملجأً مضطرّاً.

وثانياً: أنّ ما اعتمد عليه من المثال الوجداني ممّا لا يثبت مدّعاه؛ فإنّ الشوق بالتبع لا بدّ وأن يتعلّق ببقاء عشرة أيّام، وإلاّ فلا يعقل تحقّق قصد البقاء، ففي المثال أيضاً أ نّه يريد البقاء، لا أ نّه يريد إرادة البقاء، وذلك واضح جدّاً.

ومنها: ما قيل: إنّ المراد إرادي بالإرادة، والإرادة مرادة بنفس ذاتها، كالوجود إنّه موجود بنفس ذاته، والعلم معلوم بنفس ذاته(2).

وفيه: أنّ هذا خلط غير مفيد؛ فإنّ معنى كون الإرادة مرادة بنفس ذاتها أ نّها مصداق المراد بنفس ذاتها؛ أي بلا جهة تقييدية، بناءً على عدم أخذ الذات في مفهوم المشتقّ، لا أ نّها محقّقة نفس ذاتها ولا يكون لها جهة تعليلية، وما يكون منشأ الإشكال في المقام هو مسبوقية الإرادة بعلّة غير إرادية للفاعل، فلا يحسم بما ذكر مادّة الإشكال، بل هو كلام إقناعي.

ص: 35


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 338.
2- لمحات الاُصول: 66؛ نهاية الاُصول: 122.

معنى البعد والقرب والإيراد على المصنّف

قوله: «إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده...»(7).

لا يخفى: أنّ القرب والبعد بالنسبة إلى الله تعالى قد ينتزعان من كمال الوجود ونقصه، فكلّما كان في وجوده ونعوت وجوده كاملاً تامّاً يكون قريباً من مبدأ الكمال ومعدن التمام، كالعقول المجرّدة والنفوس الكلّية، وكلّما كان ناقصاً متشابكاً بالأعدام ومتعانقاً بالكثرات يكون بعيداً عن المقام المقدّس عن كلّ عدم ونقص وقوّة واستعداد، كالموجودات المادّية الهيولانية.

فالهيولى الاُولى الواقعة في حاشية الوجود - حيث كان كمالها عين النقص، وفعليتها عين القوّة - أبعد الموجودات عن الله تعالى، والصادر الأوّل أقرب الموجودات إليه تعالى، والمتوسّطات متوسّطات.

وهذا القرب والبعد الوجودي لا يكونان مناط الثواب والعقاب بالضرورة، ولعلّه قدّس سرّه يعترف بذلك.

وقد ينتزعان من مقام استكمال العبد بالطاعات والقربات، أو نفس الطاعات والقربات، والتحقّق بمقابلاتها من العصيان والتجرّي، فيقال للعبد المطيع المنقاد: إنّه مقرَّب [من] حضرته قريب من مولاه، وللعاصي المتجرّي: إنّه رجيم بعيد عن ساحة قدسه.

وهذا مراده من القرب والبعد ظاهراً. فحاصل مرامه: أنّ سبب اختلاف الناس في استحقاق الجنّة والنار ونيل الشفاعة وعدمه، هو القرب منه تعالى بالانقياد والطاعة، والبعد عنه بالتجرّي والمعصية.

ص: 36

وفيه: أنّ القرب والبعد أمران اعتباريان منتزعان من طاعة العبد وعصيانه، مع أنّ استحقاق العقوبة والمثوبة من تبعات نفس الطاعة والانقياد والتجرّي والعصيان، والعقل إنّما يحكم باستحقاق العبد المطيع والعاصي للثواب والعقاب بلا توجّه إلى القرب والبعد.

وبعبارة اُخرى: الطاعة والمعصية وكذا الانقياد والتجرّي تمام الموضوع لحكم العقل في باب الثواب والعقاب، بلا دخالة للقرب والبعد في هذا الحكم أصلاً.

وبعبارة ثالثة: إنّ عناوين القرب والبعد واستحقاق العقوبة والمثوبة منتزعات في رتبة واحدة عن الطاعة والعصيان وشقيقيهما، ولا يمكن أن يكون بعضها موضوعاً لبعض.

ثمّ اعلم: أ نّه قدّس سرّه قد اضطرب كلامه في هذا المقام؛ حيث حكم في أوّل المبحث بأنّ المتجرّي مستحقّ للعقوبة على تجرّيه وهتك حرمة مولاه(1)، وبعد «إن قلتَ... قلتُ» ظهر منه أنّ التجرّي سبب للبعد وهو موجب للعقوبة؛ حيث قال: «إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده عن سيّده بتجرّيه عليه»(2)، وظهر منه بلا فصل أنّ التجرّي موجب للبعد وحسن العقوبة كليهما في عرض واحد؛ حيث قال: «فكما أ نّه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة»(3)، وبعد أسطر صرّح: «بأنّ تفاوت أفراد الإنسان في

ص: 37


1- كفاية الاُصول: 298.
2- كفاية الاُصول: 300.
3- نفس المصدر.

القرب والبعد سبب لاختلافها في الاستحقاق»(1)، وفي آخر المبحث ظهر منه أنّ منشأ استحقاق العقوبة هو الهتك [لحرمة] المولى(2).

وممّا ذكرنا من مناط الاختيارية ومناط حسن العقوبة ظهر ما في كلامه أيضاً من أنّ التجرّي وإن لم يكن باختياره إلاّ أ نّه يوجب العقوبة بسوء سريرته وخبث باطنه؛ فإنّه قد ظهر أنّ الفعل الذي هو مناط حسن العقوبة عند العقلاء والعقل هو الفعل الاختياري؛ أي الفعل الذي هو أثر الاختيار ومنشؤه الاختيار، لا الفعل الذي يكون اختياره بالاختيار.

وأمّا سوء السريرة وخبث الباطن ونقصان الوجود والاستعداد، فليست ممّا توجب العقوبة عقلاً كما عرفت.

نعم، لا يبعد أن تكون بعض المراتب من الظلمة والوحشة من تبعات سوء السريرة وخبث الباطن، وسيأتي في مستأنف القول: أنّ سوء السريرة وخبث الباطن وكذا سائر الملكات الخبيثة وغيرها، ليست ذاتية غير ممكنة التخلّف عن الذات، بل كلّها قابل للزوال، وللعبد المجاهد إمكان إزالتها، فانتظر(3).

وأمّا ما ذكره في الهامش في هذا المقام بقوله: كيف لا - أي كيف لا يكون العقاب بأمر غير اختياري - وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ؟ فإنّها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار؛ ضرورة أنّ

ص: 38


1- كفاية الاُصول: 301.
2- كفاية الاُصول: 302.
3- يأتي في الصفحة 44 - 45 و51.

العمد إليها ليس باختياري، وإنّما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنّما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على اُولي النُهى(1).

ففيه: أنّ الموجب لاستحقاق العقوبة هي المخالفة العمدية؛ بمعنى أن تكون المخالفة صادرة عن عمد، لا بمعنى أن تكون مقيّدة بالعمد حتّى يلزم أن يكون صدور المخالفة العمدية عن عمد واختيار، وهو واضح.

ص: 39


1- كفاية الاُصول: 300، الهامش 2.

بيان حقيقة السعادة والشقاوة

اشارة

قوله: «فإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- (لِمَ)...»(8).

في تحقيق الذاتي الذي لا يعلّل

قد تكرّر على ألسنة القوم أنّ الذاتي لا يعلّل، والعرضي يعلّل، وقد أخذ المصنّف قدّس سرّه هذا الكلام منهم واستعمله في غير مورده كراراً في «الكفاية»(1) و«الفوائد»(2)، ولا بدّ لنا من تحقيق الحال حتّى يتّضح الخلط ويرتفع الإشكال.

وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تمهيد مقدّمات:

الاُولى: أنّ الذاتي الذي يقال إنّه لا يعلّل هو الذاتي المتداول في باب البرهان في مقابل العرضي في بابه، وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الذات، أعمّ من أن يكون داخلاً فيها - وهو الذاتي في باب الإيساغوجي - أو خارجاً ملازماً لها.

ووجه عدم المعلّلية: أنّ سبب الافتقار إلى العلّة هو الإمكان على ما هو المقرّر في محلّه(3)، والوجوب والامتناع كلاهما مناط الاستغناء عن العلّة،

فواجب الوجود لا يعلّل في وجوده، وممتنع الوجود لا يعلّل في عدمه، وواجب الإنسانية والحيوانية والناطقية لا يعلّل فيها، وواجب الزوجية والفردية لا يعلّل فيهما؛ لأنّ مناط الافتقار إلى الجعل - وهو العقد الإمكاني -

ص: 40


1- كفاية الاُصول: 89 - 90 و301.
2- فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 28.
3- الحكمة المتعالية 1: 206؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 265.

مفقود فيها، وقس على ذلك الامتناع.

الثانية: أنّ الوجود وكلّية عوارضه ونعوته - وبالجملة كلّ ما كان من سنخ الوجود - لا تكون ذاتية لشيء من المهيات الإمكانية، وإنّما هو ذاتي بوجه لواجب الوجود الذي هو بذاته وجود ووجوب، وأمّا غير ذاته تعالى فالممكنات قاطبة ذاتها وذاتياتها من سنخ المهيات ولوازمها.

فما كان من سنخ الوجود معلّل غير الواجب بالذات - جلّ كبرياؤه - وينتهي في سلسلة العلل إلى أوّل الأوائل وعلّة العلل، فلو كان في سلسلة الوجودات شيء مستغنٍ عن العلّة لخرج عن حدود بقعة الإمكان إلى ساحة القدس الوجوبي تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

فالمراد بالذاتي الذي لا يعلّل في الممكنات هو المهيات وأجزاؤها ولوازمها، وأمّا الوجود فلم يكن في بقعة الإمكان شيء منه غير معلّل.

نعم، إنّ الوجود مجعول بالجعل البسيط، وأمّا بعد جعله بسيطاً فلا يحتاج في كونه وجوداً وموجوداً إلى جعل، ففي الحقيقة كونه موجوداً ووجوداً ليس شيئاً محقّقاً بهذا المعنى المصدري، بل هو من المخترعات العقلية، وإذا اُريد بكونه موجوداً أو وجوداً نفس الحقيقة النورية الخارجية، فهو يرجع إلى نفس هويته المجعولة بسيطاً.

فاللازم في باب الوجود لو اُطلق لا يكون بمثابة اللازم في باب المهيات من كونه غير مجعول، بل لازم الوجود - أي الذي هو من سنخ الوجود مطلقاً - مجعول ومعلّل. ألا ترى أنّ أساطين الفلسفة قد جمعوا بين المعلولية واللزوم،

ص: 41

وقالوا: إنّ المعلول لازم ذات العلّة(1).

الثالثة: أنّ من المقرّر في مقارّه(2): أنّ المهيات بلوازمها ليست منشأً لأثر من الآثار، ولا علّية ومعلولية بينها حقيقة أصلاً، فإن قيل: إنّ المهية الكذائية علّة لكذا، فهو من باب المسامحة، كما قيل: إنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول، فإذا رجعوا إلى تحقيق الحال أقاموا البرهان المتقن على أنّ المهيات اعتباريات ليست بشيء، والعدم حاله معلوم.

فالتأثير والتأثّر أناخا راحلتيهما لدى الوجود، وإليه المصير، ومنه المبدأ والمعاد، وهذا يؤكّد عدم معلولية الذات والذاتيات في الممكنات، فإنّها من سنخ المهيات المحرومة عن المجعولية والفيض الوجودي، فالمفيض والمفاض هو الوجود لا غير.

الرابعة: أنّ كلّ كمال وجمال وخير يرجع إلى الوجود، وإنّما المهيات اُمور اعتبارية لا حقيقة لها بل )كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً((3).

فالعلم بوجوده كمال، والقدرة وجودها شريف لا مهيتها، و[كذا] سائر الكمالات والخيرات فإنّها بوجوداتها كمالات وخيرات، لا بمهياتها؛ فإنّها اعتبارية، ولا شرف ولا خير في أمر اختراعي اعتباري.

فالوجود مع كونه بسيطاً غاية البساطة مركز كلّ الكمال والخير، وليس في مقابله إلاّ المهيات الاعتبارية والعدم، وهما معلوما الحال ليس فيهما

ص: 42


1- الحكمة المتعالية 2: 226.
2- الحكمة المتعالية 1: 38 - 44، و2: 380.
3- النور (24): 39.

خير وكمال، ولا جلال وجمال.

وهذا أصل مسلّم مبرهن عليه في محلّه(1)، وإنّما نذكر هاهنا نتائج البراهين حذراً عن التطويل.

الخامسة: أنّ المقرّر في محلّه والمبرهن عليه في العلوم العالية - كما عرفت - أنّ كلّ الكمالات ترجع إلى الوجود.

فاعلم الآن أنّ السعادة - سواء كانت سعادة عقلية حقيقية، أو حسّية ظنّية

- من سنخ الوجود والكمال الوجودي، بل الوجود - أينما كان - هو خير وسعادة، والشعور بالوجود وبكمال الوجود خير وسعادة، وكلّما تتفاضل الوجودات تتفاضل الخيرات والسعادات.

بل التحقيق: أنّ الخير والسعادة مساوقان للوجود، ولا خيرية للمهيات الاعتبارية والذاتيات الاختراعية، فأتمّ الوجودات وأكملها يكون خيراً مطلقاً مبدأ كلّ الخيرات، وسعيداً مطلقاً مصدر كلّ السعادات، وكلّما بعُد الموجود عن مبدأ الوجود وصار متعانقاً بالأعدام والتعيّنات بعُد عن الخير والسعادة.

هذا حال السعادة.

وأمّا الشقاوة مطلقاً فعلى قسمين:

أحدهما: ما هو مقابل الوجود وكماله، فهو يرجع إلى العدم والنقصان.

وثانيهما: الشقاوة الكسبية التي تحصل من الجهالات المركّبة والعقائد الفاسدة والأوهام الخرافية في الاعتقاديات، والملكات الرذيلة والأخلاق

ص: 43


1- الحكمة المتعالية 1: 340 - 341، و9: 121؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 68.

الذميمة كالكبر والحسد والنفاق والحقد والعداوة والبخل والجبن في الأخلاقيات، وارتكاب القبائح والمحرّمات الشرعية كالظلم والقتل والسرقة وشرب الخمر وأكل الباطل في التشريعيات.

وهذا القسم من الشقاوة له صورة في النفس وملكوت الباطن، وبحسبها حظّ من الوجود مخالف لجوهر ذات النفس والفطرة الأصلية لها، وستظهر لأهلها في الدار الآخرة عند ظهور ملكوت النفس والخروج عن خدر الطبيعة، موحشة مظلمة مؤلمة معذّبة إيّاها، ويبقى أهلها في غصّة دائمة وعذاب خالد، مقيّدين بسلاسل على حسب صور أعمالهم وأخلاقهم وملكاتهم وظلمات عقائدهم وجهالاتهم، حسبما هو المقرّر عند علماء الآخرة(1) وكشفت عن ساقها الكتب السماوية، ولا سيّما الكتاب الجامع الإلهي والقرآن التامّ لصاحب النبوّة الختمية(2)، والمتكفّل لتفصيلها الأخبار الصادرة عن أهل بيت الوحي والطهارة عليهم أفضل الصلاة والتحية(3).

إذا عرفت ما تقدّم من المقدّمات فاعلم:

أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بمعناها الثاني لا يكونان من الذاتيات الغير المعلّلة؛ فإنّها - كما عرفت - هي المهيات ولوازمها، والوجود - أيّ وجود كان -

ص: 44


1- الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 477 - 493؛ الحكمة المتعالية 9: 131 و290؛ علم اليقين 2: 869.
2- تقدّم بعض الآيات في الصفحة 23.
3- راجع الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 402، الحديث 33 و: 475، الحديث 39؛ شرح چهل حديث، الإمام الخميني قدّس سرّه : الحديث 27.

فهو ليس بذاتي لشيء من الأشياء الممكنة، وقد عرفت أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بهذا المعنى من سنخ الوجود، وهو مجعول معلّل ليس ذاتياً لشيء من الموجودات الممكنة.

نعم، لمّا كانت الوجودات مختلفة المراتب ذات المدارج بذاتها، تكون كلّ مرتبة تالية معلول مرتبة عالية متلوّة لا يمكن التخلّف عنها، فالوجود الداني معلول الوجود العالي السابق له بذاته وهويته، ولا يمكن تخلّفه عن المعلولية؛ فإنّها ذاتية له، وهذا الذاتي غير الذاتي الذي لا يعلّل، بل الذاتي الذي هو عين المعلولية كما عرفت.

في الإشكال على المحقّق الخراساني

وبما ذكرنا سقط ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في «الكفاية»(1) و«الفوائد»(2): من أنّ التجرّي كالعصيان وإن لم يكن باختياره، إلاّ أ نّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً، وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- «لمَ»؛ فإنّ الذاتيات ضرورية الثبوت للذات، وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن أ نّه لمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان ؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لمَ يكون ناهقاً، والإنسان لمَ يكون ناطقاً ؟

وما أفاد أيضاً: من أنّ العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار

ص: 45


1- كفاية الاُصول: 300 - 301.
2- فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 28.

الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما؛ فإنّ

«السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(1) و«الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(2) - كما في الخبر - والذاتي لا يعلّل، فانقطع سؤال أ نّه لمَ جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً ؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه والشقيّ شقيّ كذلك، وقد أوجدهما الله تعالى(3)، انتهى.

فإنّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما عرفت من وقوع الخلط والاشتباه منه قدّس سرّه في جعل الشقاوة والسعادة من الذاتيات الغير المعلّلة - أنّ الذاتي الغير المعلّل - أي المهيات ولوازمها - لم تكن منشأً للآثار مطلقاً، فاختيار الكفر والعصيان الذي هو أمر وجودي، وكذا الإرادة التي هي من الموجودات، لم يكونا ناشئين من الذات والذاتيات التي هي المهيات؛ لما عرفت من أنّ المهيات مطلقاً منعزلة عن التأثير والتأثّر، والتأثير بالوجود وفي الوجود، وهو ليس بذاتي لشيء من الممكنات.

وبذلك علم ما في قوله: من أنّ تفاوت أفراد الناس في القرب منه - تعالى - والبعد عنه - تعالى - سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة والنار ونيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً والذاتي لا يعلّل(4)؛ فإنّ تفاوت أفراد الناس والامتيازات الفردية إنّما تكون بحسب الهوية الوجودية والعوارض الشخصية التي هي الأمارات للهوية البسيطة الوجودية، لا بحسب المهية

ص: 46


1- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.
2- الكافي 8: 177 / 197؛ المسند، أحمد بن حنبل 9: 616 / 10898.
3- كفاية الاُصول: 89 - 90.
4- كفاية الاُصول: 301.

ولوازمها، والتفاوت الوجودي ليس بذاتي للأشياء، فالاختلاف الفردي إنّما هو بجعل الجاعل، لا بالذات.

لا أقول: إنّ الجاعل جعل بسيطاً وجود زيد وعمرو، ثمّ جعلهما مختلفين بالجعل التأليفي، بل أقول: إنّ هوية زيد المختلفة مع هوية عمرو مجعولة بالجعل البسيط، وهذا هو المراد بالذاتي في باب الوجود الذي لا ينافي الجعل.

وإن شئت قلت: إنّ اختلاف الهويات الوجودية بنفس ذاتها المعلولة، فافهم، فإنّه دقيق جدّاً.

في سبب اختلاف أفراد الإنسان

فإن قلت: إذا كانت الذات والذاتيات ولوازمها في أفراد الإنسان غير مختلفة، فمن أين تلك الاختلافات الكثيرة المشاهدة ؟ فهل هي بإرادة الجاعل جزافاً ؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، مع ورود إشكال الجبر أيضاً.

قلت: هاهنا كلام طويل في وقوع أصل الكثرة في الوجود، وله مقدّمات كثيرة ربّما لا ينبغي الغور فيها إلاّ في المقام المعدّ لها، ولكنّ الذي يناسب مقامنا

في وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية أن يقال:

إنّ الموادّ التي يتغذّى بها بنو آدم وبها يعيشون وتستمرّ حياتهم في هذا العالم العنصري الطبيعي، مختلفة بحسب النوع لطافة وكثافة وصفاء وكدورة، فربّما يكون التفّاح والرمّان والرطب ألطف وأصفى وأقرب إلى الاعتدال والكمال الوجودي من الجزر والباقلاّء وأشباههما، وهذا الاختلاف الكثير بين أنواع الموادّ الغذائية ربّما يكون ضرورياً.

ص: 47

ولا إشكال في أنّ النطفة الإنسانية التي يتكوّن منها الولد، وتكون لها المبدئية المادّية له، من تلك الموادّ الغذائية؛ فإنّ النطفة من فضول بعض الهضوم، فالقوّة المولّدة المودعة في الإنسان تفرز من عصارة الغذاء هذه المادّة المنويّة لحفظ بقاء النوع، فربّما تفرز المادّة من مادّة غذائية لطيفة نورانية صافية أكلها الوالد،

وربّما يكون الإفراز من المادّة الكثيفة الظلمانية الكدرة، وقد يكون من متوسّطة بينهما، وقد يمتزج بعضها بالبعض.

ومعلوم أنّ هنا اختلافات وامتزاجات كثيرة لا يحصيها إلاّ الله تعالى، ولعلّ

المراد من النطفة الأمشاج في قوله تعالى: )إِنَّا خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ((1) هو هذه الامتزاجات والاختلاطات التي تكون في نوع الأفراد، وقلّما تكون النطفة غير ممتزجة ولا مختلطة من موادّ مختلفة.

ومن الواضح المقرّر في موضعه(2): أ نّه كلّما اختلفت المادّة اللائقة المستعدّة

لقبول الفيض من مبدئه اختلفت العطية والإفاضة حسب اختلافاتها؛ فإنّه تعالى واجب الوجود بالذات ومن جميع الجهات، فهو واجب الإفاضة والإيجاد، لكن المادّة الصلبة الكثيفة لا تقبل الفيض والعطية إلاّ بمقدار سعة وجودها واستعدادها.

ألا ترى أنّ الجليدية(3) تقبل من نور غيب النفس ما لا يقبله الجلد الضخم

ص: 48


1- الإنسان (76): 2.
2- الحكمة المتعالية 1: 231 و 5: 345.
3- الجليدية: وهي إحدى الرطوبات الثلاثة الموجودة في العين الباصرة، وعرّفوها بأ نّها رطوبة صافية كالبرد، والجليد مستديرة ينقص من تفرطحها من قدّامها استدارتها. راجع الشفاء، الطبيعيات 3: 256؛ الحكمة المتعالية 8: 184، الهامش 2.

والعظم، فالنفس المفاضة على المادّة اللطيفة النورانية ألطف وأصفى وأليق لقبول

الكمال من النفس المفاضة على المادّة المقابلة لها.

وهذا - أي اختلاف النطف - أحد موجبات اختلاف النفوس والأرواح، وهاهنا موجبات كثيرة اُخرى لاختلاف الموادّ في قبول الفيض، ولاختلاف الأرواح إلى حدّ الكمال، بل إلى الوصول إلى الغاية والخروج من الأبدان:

منها: اختلاف الأصلاب في الشموخ والنورانية والكمال ومقابلاتها والتوسّط بينهما، وهذا أيضاً باب واسع، وموجب لاختلافات كثيرة ربّما لا تحصى.

ومنها: اختلاف الأرحام كذلك، وهذا أيضاً من الموجبات الواضحة.

وبالجملة: الوراثة الروحية شيء مشاهد معلوم بالضرورة.

ومنها: غير ذلك؛ من كون غذاء الأب والاُمّ حلالاً أو حراماً أو مشتبهاً، وكذا كون ارتزاقهما من الحلال أو الحرام أو المشتبه في حال كون الأمانة في باطنهما، وكون معدتهما في حال الوقاع خالية أو ممتلئة أو متوسّطة، وكون الوقاع حلالاً أو حراماً أو مشتبهاً، وكون آداب الجماع مرعيّة مطلقاً، أو غير مرعيّة مطلقاً، أو مرعيّاً بعضها دون بعض؛ فإنّ لكلّ ما ذكر دخالة تامّة في قبول المادّة الفيض الوجودي من المبدأ الجواد.

فلو فرضنا أنّ المادّة في كمال النورانية، والصلب شامخ طاهر كامل، والرحم طاهر مطهّر، والآداب الإلهية محفوظة مرعيّة، يكون الولد طاهراً مطهّراً لطيفاً نورانياً.

ولو اتّفق كون سلسلة الآباء والاُ مّهات والموادّ كلّها كذلك لصار نوراً على نور، وطهارة على طهارة، كما تقرأ في زيارة مولانا وسيّدنا الحسين عليه

ص: 49

الصلاة والسلام: «أشهد أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها»(1).

فإنّ هذه الفقرات الشريفة تدلّ على ما ذكرنا: من دخالة المادّة النورية التي في الأصلاب، وشموخ الأصلاب، وطهارة الأرحام، وتنزيه الآباء والاُ مّهات من قذارات الجاهلية؛ من الكفر وذمائم الأخلاق وقبائح الأعمال، في طهارة الولد ونورانيته.

هذه كلّها اُمور دخيلة في أرواح الأطفال قبل ولادتها، وبعد الولادة تكون اُمور كثيرة دخيلة في اختلافها:

منها: الارتضاع والمرضعة وزوجها؛ فإنّ في طهارة المرضعة وديانتها ونجابتها وأخلاقها وأعمالها، وكذا في زوجها، وكيفية الارتضاع والرضاع، دخالةً عظيمة في الولد.

ومنها: التربية في أيّام الصغر وفي حجر المربّي.

ومنها: التربية والتعلّم في زمان البلوغ.

ومنها: المصاحب والمعاشر.

ومنها: المحيط والبلد الواقع فيه.

ومنها: مطالعة العلوم المختلفة والممارسة للكتب والآراء؛ فإنّ لها دخالة تامّة عظيمة في اختلاف الأرواح.

ومنها: غير ذلك.

ص: 50


1- مصباح المتهجّد: 501؛ تهذيب الأحكام 6: 114 / 201.

وبالجملة: كلّ ما ذكر في الآيات والأخبار: من الآداب الشرعية صراحة أو إشارة، وجوباً أو حرمة أو استحباباً أو كراهة، لها دخالة في سعادة الإنسان وشقائه من قبل الولادة إلى الموت.

هذا شمّة من كيفية وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية، ولا يكون شيء منها ذاتياً غير معلّل.

وأمّا سبب اختلاف الموادّ الغذائية بل مطلق الأنواع وكيفية وقوع الكثرة في العالم، فهو أمر خارج عمّا نحن بصدده، ولا دخالة له بالجبر والاختيار، بل هو من المسائل الإلهية المطروحة في العلم الأعلى مع اختلاف مشارب الفلاسفة والعرفاء فيه، فمن كان من أهله فليراجع مظانّه، ونحن لسنا بصدد بيان الجبر والاختيار وتحقيق الحال في تلك المسألة؛ فإنّ لها مقاماً آخر، ولها مبادٍ ومقدّمات مذكورة في الكتب العقلية.

في أنّ السعادة قابلة للتغيير وكذا الشقاوة

ثمّ اعلم: أنّ تلك الاختلافات التي قد أوضحنا سبيلها ونبّهنا على أساسها، لم تكن من الاُمور التي لا تختلف ولا تتخلّف مثل الذاتيات الغير القابلة للتخلّف، بل الإنسان - أيّ إنسان كان - ما دام كونه في عالم الطبيعة وتعانقه مع الهيولى القابلة للأطوار والاختلافات، قابل لأن يتطوّر وأن يتبدّل ويتغيّر؛ إمّا إلى السعادة

والكمالات اللائقة به، أو إلى الشقاوة والاُمور المنافية لجوهر فطرته، كلّ ذلك بواسطة الكسب والعمل.

فالشقيّ الفاسد عقيدةً والسيّء أخلاقاً والقبيح أعمالاً، قابل لأن يصير سعيداً

ص: 51

مؤمناً كاملاً بواسطة كسبه وعمله وارتياضه ومشاقّه، وتتبدّل جميع عقائده وأخلاقه وأعماله إلى مقابلاتها، وكذلك السعيد قابل لأن يصير شقيّاً بالكسب.

وذلك لأنّ الهيولى الاُولى قابلة، والمفاض عليها - بعد تطوّراتها في مراتب الطبيعة من النطفة إلى أن تصير قابلة لإفاضة النفس عليها - هو النفس الهيولانية اللائقة للكمالات وأضدادها، وإذا اكتسبت الكمالات النفسانية لم تبطل الهيولى، ولم تصر تلك الكمالات ذاتها وذاتياتها، فهي - بعدُ لمّا كانت في أسر الهيولى ومتعانقة معها - ممكنة التغيّر، كما هو المشاهد في مرّ الدهور وكرّ الليالي؛ من صيرورة الكافر السيّء الخُلق القبيح العمل، مؤمناً صالحاً حسن الخلق، وبالعكس.

فالإنسان في تغيير الأخلاق والعقائد فاعل مختار، يمكنه بالاختيار تحصيل العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والملكات الحسنة. نعم قد يحتاج إلى رياضة نفسانية وتحمّل مشاقّ علمية أو عملية.

والدليل على إمكانه: دعوة الأنبياء والشارعين - عليهم الصلاة والسلام - وإراءتهم طرق العلاج، فإنّهم أطبّاء النفوس والأرواح. فما هو المعروف من أنّ الخلق الكذائي من الذاتيات والفطريات غير ممكن التغيّر والتخلّف ليس بشيء؛ فإنّ شيئاً من العقائد والأخلاق والملكات ليس بذاتي، بل هي من عوارض الوجود داخلة تحت الجعل. ألا ترى أ نّها تحصل في الإنسان بالتدريج، وتستكمل فيه بالتكرار متدرّجة، وتكمل وتنقص، وليس شيء من الذات والذاتيات كذلك.

فما وقع في «الكفاية»: من أنّ بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار

ص: 52

إنّما تفيد من حسنت سريرته وطابت طينته، وتكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ولا تفيد في حقّهم(1)، ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، بل هو مناقض للقول بأنّ اختيار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان من الذاتيات التي لا تختلف ولا تتخلّف؛ فإنّ الانتفاع بالشرائع والمواعظ لا يجتمع مع ذاتية الاختيار والسعادة والشقاوة، فهل يمكن أن يصير الإنسان حماراً أو إنساناً، أو الحمار إنساناً أو حماراً بالوعظ والإنذار ؟ !

وإنّي لأظنّك لو كنت على بصيرة ممّا أوضحنا سبيله وأحكمنا بنيانه، لهديت إلى الصراط المستقيم، فاستقم وكن من الشاكرين.

في معنى قوله: «السعيد سعيد...» و«الناس معادن»

فإن قلت: فعلى ما ذكرت من البيان، فما معنى قوله: «السعيد سعيد في بطن اُمّه والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(2)، وقوله: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(3) ؟

قلت: أمّا قوله: «الناس معادن» بناءً على كونه رواية صادرة عن المعصوم علیه السلام فهو من مؤيّدات ما ذكرنا، من أنّ اختلاف أفراد الناس، من جهة اختلاف الموادّ الغذائية الموجبة لاختلاف الموادّ المنويّة القابلة لإفاضة الصور والأرواح عليها، فكما أنّ اختلاف الذهب والفضّة وجوداً يكون باختلاف الموادّ

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 301.
2- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.
3- الكافي 8: 177 / 197؛ المسند، أحمد بن حنبل 9: 616 / 10898.

السابقة والأجزاء المؤلّفة والتركيبات والامتزاجات المختلفة وكيفية النضج والطبخ - كما هو المقرّر في العلوم الطبيعية - كذلك أفراد الإنسان تختلف باختلاف الموادّ السابقة كما عرفت.

وبالجملة: الإنسان من جملة المعادن في هذا العالم الطبيعي، واختلافه كاختلافها.

وأمّا قوله: «السعيد سعيد...» فقريب من مضمونه موجود في بعض الأخبار، فهو أيضاً على فرض صدوره لا ينافي ما ذكرناه، بل يمكن أن يكون من المؤيّدات؛ فإنّ اختلاف إفاضة الصور، باختلاف الموادّ وسائر الاختلافات التي قد عرفتها، فالصورة الإنسانية التي تفاض على المادّة الجنينية في بطن اُمّه تختلف باختلافها، بل جعل مبدأ السعادة والشقاوة هو بطن الاُمّ شاهد على ما ذكرنا، ولو كانتا ذاتيتين فلا معنى لذلك، تأمّل.

ويمكن أن لا يكون هذا القول ناظراً إلى تلك المعاني، بل يكون جارياً على التعبيرات العرفية، بأنّ الإنسان السعيد يوجد أسباب سروره وسعادته من أوّل الأمر، والشقيّ يوجد أسباب شقائه ونكبته من أوّل أمره.

ويحتمل بعيداً أن يكون المراد من بطن الاُمّ هو عالم الطبيعة، فإنّه دار تحصيل السعادة والشقاوة.

هذا ما يناسب إيراده في المقام، ولكن يجب أن يعلم أنّ لتلك المسائل وأداء حقّها مقاماً آخر، ولها مقدّمات دقيقة مبرهنة في محلّها، ربّما لا يجوز الدخول فيها لغير أهل فنّ المعقول؛ فإنّ فيها مزالّ الأقدام ومظانّ الهلكة، ولذا ترى ذلك المحقّق الاُصولي قدّس سرّه كيف ذهل عن حقيقة الأمر، وخرج عن سبيل التحقيق.

ص: 54

في أنّ للمعصية منشأين للعقوبة

قوله: «ثمّ لا يذهب عليك...»(9).

لا يخفى أنّ الالتزام بكون منشأ استحقاق العقاب في المعصية والتجرّي أمراً واحداً هو الهتك الواحد - كما أفاده رحمه الله علیه - خلاف الضرورة؛ للزوم أن لا يكون للمنهيّ عنه مفسدة اُخروية أصلاً، بل لازمه أن يكون في الطاعة والانقياد منشأ واحد للاستحقاق، وأن لا يكون للمأمور به مصلحة أصلاً، وهو خلاف ارتكاز المتشرّعة، وخلاف الآيات الكريمة والأخبار الشريفة في باب الثواب والعقاب.

كما أنّ الالتزام بأنّ التجرّي والهتك لحرمة المولى لا يوجب شيئاً أصلاً أيضاً خلاف الضرورة والوجدان الحاكم في باب الطاعة والعصيان.

بل الحقّ ما أوضحنا سبيله: من كون التجرّي سبباً مستقلاًّ، وله عقوبات لازمة لذاته، وتبعات في عالم الملكوت وباطن النفس، وصور مؤلمة موحشة مظلمة، كما أنّ للانقياد صورة ملكوتية بهيّة حسنة ملذّة.

وفي المعصية والطاعة منشآن:

أحدهما: ما ذكر؛ فإنّهما شريكان للتجرّي والانقياد.

وثانيهما: استحقاق الثواب والعقاب على نفس العمل؛ إمّا بنحو الجعل، أو بنحو اللزوم وتجسّم صور الأعمال.

ولا يذهب عليك: أنّ القول بالعقوبة الجعلية لا ينافي الاستحقاق؛ فإنّ الجعل لم يكن جزافاً وبلا منشأ عند العدلية، والعقل إنّما يحكم بالاستحقاق بلا تعيين مرتبة خاصّة، فلا بدّ من تعيين المرتبة من الجعل على القول به.

ص: 55

الأمر الثالث في بيان أقسام القطع وأحكامها

اشارة

قوله: «الأمر الثالث...»(10).

هاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أقسام القطع

فإنّه قد يتعلّق بموضوع خارجي، أو موضوع ذي حكم، أو حكم شرعي متعلّق بموضوع مع قطع النظر عن القطع، وهو في جميع الصور كاشف محض، وذلك واضح.

وقد يكون له دخالة في الموضوع: إمّا بنحو تمام الموضوعية، أو جزئها.

فهاهنا أقسام، فإنّ القطع لمّا كان من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، فله قيام بالنفس قيام صدور(1) أو حلول(2) - على المسلكين في العلوم العقلية -

ص: 56


1- الحكمة المتعالية 1: 264؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 124.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 298؛ كشف المراد: 227؛ شرح المواقف 1: 77.

وإضافة إلى المعلوم بالذات الذي هو في صقع النفس إضافة إشراق وإيجاد، فإنّ العلم هو الإضافة الإشراقية بين النفس والمعلوم بالذات، بها يوجد المعلوم كوجود المهيات الإمكانية بالفيض المقدّس الإطلاقي، وله أيضاً إضافة بالعرض إلى المعلوم بالعرض الذي هو المتعلّق المتحقّق في الخارج.

وقيام العلم بالنفس وكون الصورة المعلومة بالذات فيها يبتني على عدم كون العلم من مقولة الإضافة كما ذهب إليه الفخر الرازي(1)؛ فراراً عن الإشكالات الواردة على الوجود الذهني.

فما وقع في تقريرات بعض المحقّقين رحمه الله علیه - من قيام الصورة في النفس من غير فرق بين أن نقول: إنّ العلم من مقولة الكيف أو مقولة الفعل أو الانفعال أو الإضافة(2) - ناشٍ عن الغفلة عن حقيقة الحال.

وبالجملة: أنّ العلم له قيام بالنفس وإضافة إلى المعلوم بالذات وإضافة إلى المعلوم بالعرض، بل هذه الإضافة على التحقيق هي علم النفس، وهو أمر بسيط، لكن للعقل أن يحلّله إلى أصل الكشف وتمامية الكشف، فعليه يكون للقطع جهات ثلاث:

جهة القيام بالنفس مع قطع النظر عن الكشف، كسائر أوصافها مثل القدرة والإرادة والحياة.

وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات.

وجهة كمال الكشف وتمامية الإراءة المختصّ به المميّز له عن الأمارات.

ص: 57


1- المباحث المشرقية 1: 331.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16.

ولا يخفى: أنّ تلك الجهات ليست جهات حقيقية حتّى يكون العلم مركّباً منها، بل هو أمر بسيط في الخارج، وإنّما هي جهات يعتبرها العقل ويحلّله إليها بالمقايسات، كالأجناس والفصول للبسائط الخارجية، وكاعتبار كون الوجود الكامل الشديد ممتازاً عن الناقص الضعيف بجهة التمامية، مع أنّ الوجود بسيط، لا شديده مركّب من أصل الوجود والشدّة، ولا ضعيفه منه ومن الضعف، كما هو المقرّر في محلّه(1).

وبالجملة: هذه الجهات كلّها حتّى جهة القيام بالنفس اعتبارية، يمكن للمعتبر أن يعتبرها ويجعلها موضوعاً لحكم من الأحكام.

فالأقسام ستّة:

الأوّل: أخذه بنحو الصفتية - أي بجهة قيامه بالنفس، مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع - تمام الموضوع.

والثاني: أخذه كذلك بعض الموضوع.

والثالث: أخذه بنحو الطريقية التامّة والكشف الكامل تمام الموضوع.

والرابع: أخذه كذلك بعض الموضوع.

والخامس: أخذه بنحو أصل الكشف والطريقية المشتركة بينه وبين سائر الأمارات تمام الموضوع.

والسادس: أخذه كذلك بعض الموضوع.

وسيأتي الفرق بينها في الجهة المبحوث عنها.

ص: 58


1- الحكمة المتعالية 1: 427؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 105.

في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية

فإن قلت: في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية إشكال، بل الظاهر أ نّه لا يمكن؛ من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الصورة وذي الطريق، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كلّ طريق؛ حيث إنّ لحاظه طريقاً يكون في الحقيقة لحاظاً لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع.

فالإنصاف: أنّ أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلاّ بأخذه على وجه الصفتية.

قلت: نعم، هذا إشكال أورده بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات بحثه(1) - غفلة عن حقيقة الحال؛ فإنّ الجمع بين الطريقية والموضوعية إنّما لا يمكن فيما إذا أراد القاطع نفسه الجمع بينهما، فإنّ القاطع يكون نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع به، ويكون نظره إلى القطع آلياً طريقياً، ولا يمكن في هذا اللحاظ الآلي أن ينظر إليه باللحاظ الاستقلالي، مع أنّ النظر إلى الموضوع لا بدّ وأن يكون استقلالياً غير آلي.

هذا بالنسبة إلى القاطع.

وأمّا غير القاطع إذا أراد أن يجعل قطع غيره موضوعاً لحكم، يكون نظره إلى قطع القاطع - الذي هو طريق - لحاظاً استقلالياً، ولا يكون لحاظه لذي الطريق،

ص: 59


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11.

بل يكون للطريق، فلحاظ القاطع طريقي آلي، ولحاظ الحاكم لقطعه الطريقي موضوعي استقلالي.

فأيّ محال يلزم إذا لحظ لاحظ باللحاظ الاستقلالي القطع الطريقي الذي لغيره، وجعله موضوعاً لحكمه على نحو الكاشفية على وجه تمام الموضوع ؟ ! وهل هذا إلاّ الخلط بين اللاحظين ؟ !

ثمّ إنّه لا اختصاص لعدم الإمكان - لو فرض - بأخذه تمام الموضوع أو بعض الموضوع، فتخصيصه به في غير محلّه.

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم

ثمّ إنّ القطع قد يتعلّق بموضوع خارجي، فتأتي فيه الأقسام الستّة السابقة، وقد يتعلّق بحكم شرعي، فيمكن أخذه موضوعاً لحكم آخر غير ما تعلّق العلم به، وتأتي أيضاً فيه الأقسام.

وأمّا إذا تعلّق بحكم شرعي، فهل يمكن أخذه موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق العلم به ؟

قال بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه - : لا يمكن ذلك إلاّ بنتيجة التقييد، وقال في توضيحه ما حاصله:

إنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به، كقصد التعبّد والتقرّب في العبادات، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة؛ لكنّ الإهمال الثبوتي

ص: 60

أيضاً لا يعقل؛ فإنّ ملاك تشريع الحكم: إمّا محفوظ في حالتي الجهل والعلم فلا بدّ من نتيجة الإطلاق، وإمّا في حالة العلم فلا بدّ من نتيجة التقييد، فحيث لا يمكن بالجعل الأوّلي فلا بدّ من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان، وهو متمّم الجعل.

وقد ادّعي تواتر الأدلّة على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام، وإن لم نعثر

إلاّ على بعض أخبار الآحاد، لكنّ الظاهر قيام الإجماع بل الضرورة على ذلك، فيستفاد من ذلك نتيجة الإطلاق، وأنّ الحكم مشترك بين العالم والجاهل. لكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص، كما خصّصت في الجهر والإخفات، والقصر والإتمام(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ الانقسامات اللاحقة على ضربين:

[الضرب الأوّل]: ما لا يمكن تقييد الأدلّة به، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد، مثل أخذ القطع موضوعاً بالنسبة إلى نفس الحكم، فإنّه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد؛ فإنّ حاصل التقييد ونتيجته أنّ الحكم مختصّ بالعالم بالحكم، وهذا دور مستحيل؛ فإنّ العلم بالحكم يتوقّف على الحكم بالضرورة، ولو فرض الاختصاص - ولو بنتيجة التقييد - يصير الحكم متوقّفاً على العلم به(2).

ص: 61


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11 - 13.
2- نعم، لا دور فيما إذا كان القطع تمام الموضوع؛ لعدم دخالة الواقع فيه حتّى يلزم الدور. [منه قدّس سرّه ]

نعم، في كون أحكام الله الواقعية تابعةً لآراء المجتهدين، كما عليه فرقة من غير أهل الحقّ(1)

وقد اُشكل عليهم بورود الدور، يمكن الذبّ عنهم: بأنّ الشارع أظهر أحكاماً صورية - بلا جعل أصلاً - لمصلحة في نفس الإظهار؛ حتّى يجتهد المجتهدون ويؤدّي اجتهادهم إلى حكم بحسب تلك الأدلّة التي لا حقيقة لها، ثمّ بعد أداء اجتهادهم إلى حكم أنشأ الشارع حكماً مطابقاً لرأيهم تابعاً له.

لكن هذا مجرّد تصوير ومحض تخييل، ربّما لا يرضى به المصوّبة.

وبالجملة: اختصاص الحكم بالعالم بالحكم غير معقول بوجه من الوجوه.

وأمّا في مثل باب الجهر والإخفات والقصر والإتمام، فلا يتوقّف الذبّ عن الإشكال فيه على الالتزام بالاختصاص، بل يمكن أن يكون عدم الحكم بالقضاء أو الإعادة من باب التخفيف والتقبّل، كما يمكن ذلك في حديث «لا تعاد الصلاة...»(2) بناءً على عدم اختصاصه بالسهو، كما لا يبعد.

ويمكن أن تكون الإعادة أو القضاء ممّا بطل محلّهما في تلك الموارد، نظير مريض كان دستوره شرب الفلوس مع البنفسج وأصل السوس، فشرب الفلوس الخالص، فإنّ إعادته مع الشرائط ممّا يفسد المزاج، فشربه خالصاً أفسد المحلّ وأخرجه عن قابلية الشرب المخلوط، فلعلّ إعادة الصلاة تامّة مع إتيانها ناقصة من هذا القبيل، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

والضرب الثاني من الانقسامات اللاحقة: ما يمكن تقييد الأدلّة به بدليل

ص: 62


1- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 4: 1380؛ المعتمد في اُصول الفقه 2: 370؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 466.
2- وسائل الشيعة 1: 371، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 3، الحديث 8.

آخر، كقصد التعبّد والأمر والتقرّب في العبادات.

ففي هذا القسم لا يبعد إمكان التقييد اللحاظي أيضاً، فإنّ تصوّر الأمر المتأخّر عن الحكم ممكن قبل الجعل، وتقييد الموضوع به أيضاً ممكن، فللآمر أن يلاحظ قبل إنشاء الحكم الموضوع الذي أراد أن يجعله متعلّقاً للأمر، ويلاحظ حالة تعلّق الأمر به في الآتية، ويلاحظ قصد المأمور لأمره، ويجعل قصد المأمور للتقرّب والتعبّد من قيود المتعلّق ويأمر به مقيّداً، مثل سائر القيود المتأخّرة.

نعم، نفس تعلّق الأمر ممّا يمكّن المكلّف من إتيان المتعلّق؛ فإنّ قبل تعلّقه لا يمكن له الإتيان بالصلاة مع تلك القيود، وبنفس التعلّق يصير ممكناً.

فإن قلت: بناءً على ذلك إنّ الموضوع المجرّد عن قيد قصد التقرّب والأمر لم يكن مأموراً به، فكيف يمكن الأمر به مع قصد أمره ؟

قلت: نعم، هذا إشكال آخر غير مسألة الدور، ويمكن دفعه: بأنّ الموضوع متعلّق للأمر الضمني، والزائد على قصد الأمر الضمني لا يلزم ولا موجب له.

وثانياً: أنّ الإطلاق والتقييد اللحاظي اللذين جعلهما من قبيل العدم والملكة، وحكم بأنّ كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ممّا لا أساس له؛ فإنّه إن كان اللحاظ صفة لكلّ من التقييد والإطلاق، وأراد أنّ الإطلاق أيضاً لحاظي كالتقييد، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الإطلاق لم يكن باللحاظ، بل هو متقوّم بعدم التقييد، فإذا قال المولى: «أعتق رقبة» بلا تقييده بشيء مع تمامية مقدّمات الحكمة - لو بنينا على لزوم المقدّمات - تمّ الإطلاق، ولا يحتاج إلى اللحاظ أصلاً.

ص: 63

وثانياً: أنّ لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد من قبيل الضدّين لا العدم والملكة؛ فإنّ اللحاظين أمران وجوديان.

وإن كان اللحاظ صفة للتقييد فقط؛ حتّى لا يحتاج الإطلاق إلى اللحاظ، فيرد عليه: أنّ امتناع الإطلاق ممنوع، وما ادّعى أنّ كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ممّا لا أساس له، ومجرّد دعوى بلا بيّنة ولا برهان.

والتحقيق: أنّ الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة أو شبيه بهما، وهذا كلام صحيح استعمله هذا المحقّق في غير موضعه، واستنتج منه هذه النتيجة العجيبة؛ أي إنكار مطلق الإطلاق في الأدلّة الشرعية؛ حتّى احتاج إلى دعوى الإجماع والضرورة لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل، وهذا أمر غريب منه جدّاً.

وتوضيح ذلك: أنّ المتعلّق قد لا يمكن تقييده لقصور فيه، ولم يكن له شأنية التقييد، ففي مثله لا يمكن الإطلاق، فإنّ هذا شأن العدم والملكة في جميع الموارد، فلا يقال للجدار: أعمى؛ فإنّه غير البصير الذي من شأنه البصيرية، ولا يقال: زيد مطلق إطلاقاً أفرادياً.

وقد لا يمكن التقييد لا لقصور في الموضوع، بل لأمر آخر ومنع خارجي، كلزوم الدور في التقييد اللحاظي، فإنّ ذلك الامتناع لا يلازم امتناع الإطلاق؛ لعدم لزوم الدور في الإطلاق، ولذا يجوز تصريح الآمر بأنّ صلاة الجمعة واجبة على العالم والجاهل بالحكم، والخمر حرام عليهما بلا لزوم محال.

وليت شعري أيّ امتناع يلزم لو كانت أدلّة الكتاب والسنّة مطلقة تشمل العالم والجاهل كما أنّ الأمر كذلك نوعاً ؟ ! وهل يكفي مجرّد امتناع التقييد

ص: 64

في امتناع الإطلاق بلا تحقّق ملاكه(1) ؟ !

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ اشتراك التكليف بين العالم والجاهل لا يحتاج إلى التماس دليل من الأخبار والإجماع والضرورة، والفقهاء - رضوان الله عليهم - لا يزالون يتمسّكون بإطلاق الكتاب والسنّة من غير نكير.

وممّا ذكرنا يظهر حال ما استنتج من هذه المقدّمة، ويسقط كلّيةً ما ذكره رحمه الله علیه

في هذا المقام. وفي كلامه في المقام مواقع للنظر تركناها مخافة التطويل.

ص: 65


1- بل يمكن إقامة البرهان على الإطلاق في المقام من دون احتياج إلى تمامية مقدّماته؛ فإنّ اختصاص الحكم بالعالمين لمّا كان ممتنعاً ولم يختصّ بالجاهل بالضرورة، يكون لا محالة مشتركاً بينهما. ولعلّ ذلك سند الإجماع والضرورة. [منه قدّس سرّه ]

المبحث الثاني في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع بأقسامه

اشارة

وفيه مقامان: الأوّل: في إمكان قيامها مقامه ثبوتاً، والثاني: في وقوعه إثباتاً وبحسب مقام الدلالة.

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً

أمّا المقام الأوّل: فالظاهر إمكانه وعدم لزوم محذور منه، إلاّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من الإشكالين:

أحدهما: ما محصّله: أنّ الجعل الواحد لا يمكن أن يتكفّل تنزيل الظنّ منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما اُخذ في الموضوع على نحو الكشف؛ للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين - أي اللحاظ الآلي والاستقلالي - حيث لا بدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، مع أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع آلي طريقي، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع استقلالي موضوعي، والجمع بينهما محال ذاتاً (1).

أقول: هذا الإشكال ممّا استصوبه جلّ المشايخ المحقّقين رحمهما اللّه فأخذ كلّ منهم مهرباً:

ص: 66


1- كفاية الاُصول: 304.

منهم: من ذهب إلى أنّ المجعول في الأمارات هو المؤدّى، وأنّ مفاد أدلّة الأمارات جعل المؤدّى منزلة الواقع، وبالملازمة العرفية بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وبين تنزيل الظنّ منزلة العلم، يتمّ الموضوع(1).

ومنهم: من ذهب إلى أنّ المجعول هو الكاشفية والوسطية في الإثبات، وبنفس هذا الجعل يتمّ الأمران(2).

ومنهم: من سلك غير ذلك(3). ولعلّنا نرجع إلى حال ما سلكوا سبيله.

والتحقيق: أنّ لزوم الجمع بين اللحاظين ممّا لا أساس له بوجه، وذلك لأنّ القاطع أو الظانّ بشيء يكون نظرهما إلى المقطوع به أو المظنون نظراً استقلالياً اسمياً، وإلى قطعه وظنّه آلياً حرفياً، ولا يمكن له الجمع بين لحاظي الآلية والاستقلالية؛ لكنّ الناظر إلى قطع هذا القاطع وظنّه إذا كان شخصاً آخر يكون نظره إلى هذا القطع والظنّ الآليين لحاظاً استقلالياً، ويكون نظره إلى الواقع المقطوع والمظنون بهذا القطع والظنّ وإلى نفس القطع والظنّ، في عرض واحد بنحو الاستقلال.

فما أفاد - من أنّ النظر إلى حجّية الأمارة وتنزيلها منزلة القطع آلي طريقي - مغالطة من باب اشتباه اللاحظين؛ فإنّ الحاكم المنزّل للظنّ منزلة القطع لم يكن نظره إلى القطع والظنّ آلياً، بل نظره استقلالي؛ قضاءً لحقّ التنزيل. نعم، نظر القاطع والظانّ آلي، ولا دخل له في التنزيل.

ص: 67


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 21.
3- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 332.

فمن هو الجاعل والمنزّل يكون نظره إلى القطع الطريقي للغير استقلالياً، كما أ نّه يكون نظره إلى الواقع المقطوع به أيضاً استقلالياً، وكذلك في الأمارة والمؤدّى.

ومن هو العالم أو الظانّ يكون نظره إلى القطع أو الظنّ آلياً، لكنّه خارج عن محطّ البحث.

وأمّا قصور أدلّة التنزيل عن تكفّل الجعلين فهو أمر آخر مربوط بمقام الإثبات

والدلالة، لا من باب لزوم الجمع بين اللحاظين، وسنرجع إلى البحث عنه(1).

والثاني من الإشكالين: ما أفاده أيضاً في «الكفاية»(2) ردّاً على مقالته في «تعليقة الفرائد»(3)؛ حيث تشبّث في التعليقة - فراراً عن لزوم الجمع بين

اللحاظين - بجعل المؤدّى منزلة الواقع والملازمة العرفية بين التنزيلين بلا جمع بين اللحاظين.

وحاصل ردّه في «الكفاية»: أنّ ذلك يستلزم الدور؛ فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل، لا يمكن إلاّ بعد تحقّق العلم في عرض ذلك التنزيل؛ فإنّه ليس للواقع أثر يصحّ بلحاظه التنزيل، بل الأثر مترتّب على الواقع والعلم به، والمفروض أنّ العلم بالمؤدّى يتحقّق بعد تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فيكون التنزيل موقوفاً على العلم، والعلم موقوفاً على التنزيل، وهذا دور محال(4).

ص: 68


1- يأتي في الصفحة 69.
2- كفاية الاُصول: 306.
3- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
4- هكذا قرّر الدور بعض الأعاظمأ وهو غير تامّ. والأولى أن يقال: إنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يتوقّف على تنزيل الظنّ منزلة العلم في عرضه؛ لأنّ الأثر مترتّب على الجزءين وتنزيل الظنّ متوقّف على تنزيل المؤدّى بالفرض؛ أي دعوى الملازمة العرفية. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 28.

وفيه: أ نّه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي، فهاهنا يكون للمؤدّى أثر تعليقي؛ أي لو انضمّ إليه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي، بل لو قلنا بعدم كفاية الأثر التعليقي لنا أن نقول: إنّ هاهنا أثراً فعلياً، لكن بنفس الجعل، ولا يلزم أن يكون الأثر سابقاً على الجعل، ففيما نحن فيه لمّا كان نفس الجعل متمّماً للموضوع يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقّق في ظرفه، فلا يكون الجعل متوقّفاً على الأثر السابق.

وإن شئت قلت: لا دليل على كون الجعل بلحاظ الآثار إلاّ صون جعل الحكيم من اللغوية، وهاهنا لا يلزم اللغوية: إمّا بواسطة الأثر التعليقي، أو بلحاظ الأثر الفعلي المتحقّق بنفس الجعل، فتدبّر.

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً

قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه

وأمّا المقام الثاني: أي مقام الإثبات والدلالة، فلا بدّ لاتّضاح حاله من تقديم مقدّمة: وهي أ نّه لا بدّ في كون شيء أمارة جعلية - أي جعل الشارع شيئاً أمارة وطريقاً إلى الواقع - من اُمور:

ص: 69

الأوّل: أن يكون له في ذاته جهة كشف وطريقية؛ فإنّ ما لا يكون له جهة الكشف أصلاً لا يليق للأمارية والكاشفية.

الثاني: أن لا يكون بنفسه أمارة عقلية أو عقلائية؛ فإنّ الواجد للأمارية لا معنى لجعله أمارة؛ فإنّه من قبيل تحصيل الحاصل وإيجاد الموجود.

الثالث: أن تكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية وتتميم الكشف.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحقّقين كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع اُمورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجّية له وجعله كاشفاً محرزاً للواقع بعد كونه كذلك عند كافّة العقلاء، وها هي الطرق العقلائية - مثل الظواهر، وقول اللغوي، وخبر الثقة، واليد، وأصالة الصحّة في فعل الغير - ترى أنّ العقلاء كافّة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجّيتها بحيث يمكن الركون إليه إلاّ بناء العقلاء، وإنّما الشارع عمل بها كأ نّه أحد العقلاء. وفي حجّية خبر الثقة(1)

واليد(2)

بعض الروايات التي يظهر منها بأتمّ ظهور أنّ العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلّة الأمارات ما يظهر منه بأدنى ظهور جعل الحجّية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلاً.

ص: 70


1- راجع ما يأتي من الأخبار في الصفحة 251.
2- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 300.

ومن ذلك علم: أنّ قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنى له؛ أمّا في

القطع الموضوعي فواضح، فإنّ الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأ نّه لا واقع له، بل لا معنى له.

وأمّا بناء العقلاء بالعمل بالأمارات فليس وجهه تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، ولا تنزيل الظنّ منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو تتميم الكشف لها، بل لهم طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم، من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر، ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية والتخيّلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء ويتأمّل فيها أدنى تأمّل.

ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي، فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلاًّ ومن غير التفات إلى تلك المعاني.

نعم، القطع طريق عقلي مقدّم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنّما يعملون بها عند فقد القطع، وذلك لا يلزم أن يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه؛ حتّى يكون الطريق منحصراً بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه.

وما اشتهر بينهم: من أنّ العمل بها من باب كونها قطعاً عادياً، أو من باب إلقاء احتمال الخلاف - على فرض صحّته - لا يلزم منه التنزيل أو تتميم الكشف وأمثال ذلك.

وبالجملة: من الواضح البيّن أنّ عمل العقلاء بالطرق لا يكون من باب كونها علماً وتنزيلها منزلة العلم، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا

ص: 71

يعملون بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلاً.

وممّا ذكرنا: تعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحقّقين رحمهما اللّه من التزام

جعل المؤدّى منزلة الواقع تارةً(1) والتزام تتميم الكشف وجعل الشارع الظنّ علماً في مقام الشارعية وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له اُخرى(2)، إنّها كلمات خطابية لا أساس لها.

والعجب أنّ بعض المشايخ المعاصرين - على ما في تقريرات بحثه - قد اعترف كراراً بأ نّه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلاً(3)، وفي المقام(4) قد أسّس بنياناً رفيعاً في عالم التصوّر يحتاج إلى أدلّة محكمة، مع خلوّ الأخبار والآثار عن شائبتها فضلاً عن الدلالة.

هذا حال الأمارات.

قيام الاُصول مقام القطع بأقسامه

وأمّا الاُصول فهي على قسمين:

أحدهما: ما يظهر من أدلّتها أ نّها وظائف مقرّرة للجاهل عند تحيّره وجهله بالواقع كأصالة الطهارة والحلّية، فهذه الاُصول ليست مورد البحث؛ فإنّ قيامها مقامه ممّا لا معنى له.

ص: 72


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 108.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 30 و91 و195.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16 - 19.

وثانيهما: ما يسمّونها بالاُصول التنزيلية، مثل الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ، ولا بدّ لنا من تحقيق حالها وإن كان خارجاً عن محلّ البحث وله مقام آخر، لكن تحقيق المقام يتوقّف على تحقيق حالها، فنقول:

قد عرفت: أ نّه لا بدّ في كون شيء أمارة شرعية جعلية أن يكون له جهة كشف، وأن لا يكون أمارةً عقلائية معتبرة عند العقلاء، وأن تكون العناية في الجعل إلى جهة كاشفيته وطريقيته.

في حال الاستصحاب وإثبات طريقيته

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الاستصحاب(1) فيه جهة كشف عن الواقع؛ فإنّ

ص: 73


1- قولنا: «فاعلم أنّ الاستصحاب...». أقول: هذا ما أدّى إليه نظري في سالف الزمان قبل الوصول إلى مباحث الاستصحاب، ولقد جدّدت النظر حين انتهاء بحثنا إليه فوجدت أ نّه ليس أمارة شرعية، بل هو أصل تعبّدي كما عليه المشايخأ؛ لأنّ عمدة ما أوقعنا في هذا التوهّم أمران: أحدهما: توهّم أنّ اليقين السابق كاشف عن الواقع كشفاً ناقصاً في زمان الشكّ، فهو قابل للأمارية كسائر الكواشف عن الواقع. وثانيهما: توهّم أنّ العناية في اعتباره وجعله إنّما هي إلى هذه الجهة بحسب الروايات، فتكون روايات الاستصحاب بصدد إطالة عمر اليقين وإعطاء تمامية الكشف له. وبعد إمعان النظر في بناء العقلاء وأخبار الباب ظهر بطلان المقدّمتين: أمّا الاُولى: فلأنّ اليقين لا يعقل أن يكون كاشفاً عن شيء في زمان زواله، والمفروض أنّ زمان الشكّ زمان زوال اليقين، فكيف يمكن أن يكون كاشفاً عن الواقع في زمان الشكّ ؟ ! نعم، الكون السابق - فيما له اقتضاء البقاء - وإن يكشف كشفاً ناقصاً عن بقائه، لكن لا يكون كشفه عنه أو الظنّ الحاصل منه بحيث يكون بناء العقلاء على العمل به من حيث هو، من غير حصول اطمئنان ووثوق. وأمّا الثانية: فلأنّ العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية - أي إلى أنّ الكون السابق كاشف عن البقاء - بل العناية إنّما هي إلى أنّ اليقين لكونه أمراً مبرماً لا ينبغي أن ينقض بالشكّ الذي ليس له إبرام، فلا محيص [عن القول بأنّ] الاستصحاب أصل تعبّدي شرعي كما عليه المشايخ المتأخّرون. وأمّا الاستصحاب العقلائي الذي في كلام المتقدّمين(ب) فهو غير مفاد الروايات، بل هو عبارة عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن لاحق، وقد عرفت أنّ بناء العقلاء ليس على ترتيب الآثار بمجرّد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق والاطمئنان. [منه عفي عنه] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ كفاية الاُصول: 473؛ نهاية الدراية 5: 243؛ أجود التقريرات 4: 6. ب - العُدّة في اُصول الفقه 2: 758؛ غنية النزوع 2: 420؛ معارج الاُصول: 206 - 207؛ معالم الدين: 233 - 234؛ اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13.

القطع بالحالة السابقة فيه جهة كاشفية عن البقاء، حتّى قيل: ما ثبت يدوم، وهذا

في الشكّ في الرافع ممّا لا مجال للتأمّل فيه.

نعم، في الشكّ في المقتضي يمكن الترديد والتأمّل فيه وإن كان قابلاً للدفع.

وبالجملة: أنّ الاستصحاب مطلقاً قابل لأن يجعل أمارة وكاشفاً عن الواقع بملاحظة اليقين السابق، وليس من قبيل الشكّ المحض الغير القابل.

وأمّا بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب - أي بمجرّد كون شيء له حالة

ص: 74

سابقة مقطوعة مع الشكّ في بقائه - فهو وإن ادّعي فيه السيرة العقلائية في سياساتهم ومراسلاتهم ومعاملاتهم، لكن عملهم على مجرّد ذلك غير معلوم، بل يمكن أن يكون ذلك بواسطة احتفافه باُمور اُخرى من القرائن والشواهد والاطمئنان والوثوق، لا لمجرّد القطع بالحالة السابقة.

وبعض المحقّقين من علماء العصر قدّس سرّه وإن أصرّ - على ما في تقريراته(1) - على استقرار الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة، حتّى قال: «لا ينبغي التأمّل في أنّ الطريقة العقلائية قد استقرّت على ترتيب آثار البقاء عند الشكّ في الارتفاع، وليس عملهم لأجل حصول الاطمئنان لهم بالبقاء أو لمحض الرجاء»، لكن للتأمّل فيه مجال واسع.

ثمّ لو فرضنا أنّ سيرة العقلاء قد استقرّت على ذلك، فلا بدّ لنا من الالتزام

بكون الاستصحاب من الأمارات والطرق العقلائية؛ فإنّه ليس للعقلاء أصل تعبّدي أو تنزيلي، وليس ما عندهم إلاّ الطرق والأمارات، لا الاُصول التعبّدية، كما لا يخفى على من مارس طريقتهم، مع أنّ هذا المحقّق قائل بأصلية الاستصحاب(2).

وبالجملة: أنّ الاستصحاب وإن كان له جهة كشف ضعيف، لكن لا بنحو يكون العقلاء مفطورين على العمل به، كما في العمل باليد وخبر الثقة.

ص: 75


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 331 - 332.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 307 - 308؛ أجود التقريرات 4: 6.

في أنّ المستفاد من الكبرى المجعولة في الاستصحاب هو الطريقية

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الجهتين من الجهات الثلاثة التي تتقوّم الأمارة بها

متحقّقتان في الاستصحاب، وبقيت الجهة الثالثة - وهي العمدة - حتّى ينخرط في سلك الأمارات لكن بجعل الشارع، وهي كون اعتباره بجهة الكاشفية، وأنّ عناية الجاعل في جعله هي كونه علماً في عالم الشارعية وإعطاء جهة الكشف والطريقية له، ولو تمّت هذه الجهة لتمّت أمارية الاستصحاب، ويكون له ما للأمارات من الآثار واللوازم، والفرق أ نّه أمارة جعلية شرعية غير عقلائية، وهي أمارات عقلائية غير مجعولة بجعل شرعي، ولو ساعدنا الدليل لم نتحاش عمّا ذهب إليه المحقّقون وأساطين الفنّ من المتأخّرين من الخلاف؛ فإنّه ليس في البين إلاّ تلك الروايات الشريفة، والمتّبع هو مفادها لا فهم الأصحاب، مع أنّ في قدماء أصحابنا من قال بأمارية الاستصحاب(1)، وكثير من الفروع الفقهية التي أفتى بها أصحابنا لا تتمّ إلاّ على القول بأمارية الاستصحاب وحجّية المثبتات منه(2)، تأمّل.

فالمهمّ عطف النظر إلى أخبار الباب(3)، والمستفاد منها - بعد إلغاء الخصوصيات وإرجاع بعضها إلى بعض - هو مجعولية كبرى كلّية هي قوله علیه السلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ»؛ فإنّ الأخبار على كثرتها متوافقة المضمون على هذه

ص: 76


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ أجود التقريرات 4: 6.
2- راجع فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 238.
3- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 23.

الكلّية، وأنت إذا تأمّلت في هذه الكبرى حقّ التأمّل بشرط الخروج عن ربقة التقليد ترى أنّ العناية فيها بإبقاء نفس اليقين، وأنّ اليقين في عالم التشريع والتعبّد باقٍ موجود لا ينبغي أن ينقض بالشكّ ويدخل فيه الشكّ، وأ نّه علیه السلام

بصدد جعل المحرز وإطالة عمر اليقين السابق وإعطاء صفة اليقين على من كان على يقين، كما ينادي بذلك قوله علیه السلام في مضمرة زرارة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ»(1) لا على الشاكّ بعنوان أ نّه شاكّ، ولا جعل الشكّ يقيناً؛ حتّى يقال: لا معنى لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية للشكّ، ولا إعطاء اليقين على الشاكّ؛ لأنّ الشكّ ليس له جهة الكشف، فإنّا لا نقول بأنّ الشكّ له جهة كشف أو جعل الشارع الشكّ يقيناً أو الشاكّ متيقّناً، بل

نقول: إنّ اليقين السابق ولو زال إلاّ أنّ له جهة كشف ضعيف بالنسبة إلى حال زواله؛ لشهادة الوجدان بالفرق بين الشاكّ البدوي والذي كان على يقين، حتّى يدّعى أنّ بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب، مع أنّ العقلاء ليس لهم أصل تعبّدي يعملون به بلا جهة كشف.

وإنّا وإن تردّدنا في سيرة العقلاء على عملهم بالاستصحاب صرفاً بلا احتفافه باُمور اُخر، ولكن أصل الكاشفية - في الجملة - ممّا لا ينبغي التأمّل فيه.

وإن أبيت عن ذلك: فلا إشكال في جواز إطالة عمر اليقين تعبّداً في عالم التشريع، ولا محذور فيه أبداً.

ص: 77


1- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الصلاة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

فالأخذ بظاهر أخبار الباب مع كثرتها لا مانع منه، والظاهر منها - مع اختلاف التعبيرات والاتّفاق في المضمون الذي يمكن دعوى القطع به - أنّ العناية في الجعل هي بجعل اليقين وفرض وجوده في زمن الشكّ، فإنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا معنى محصّل له، إلاّ على فرض وجود اليقين في عالم التشريع وإطالة عمره، وإلاّ فإنّه قد زال بحسب التكوين ووجد الشكّ، ولا معنى لنقضه، فإذن فلا معنى معقول له إلاّ التعبّد ببقاء نفس اليقين وإعطاء صفة اليقين وإطالة عمره.

إشكالات في تفصّيات

فإن قلت: يمكن أن يكون مفاد الأخبار هو النقض العملي، والنهي قد تعلّق بنقضه عملاً، ومعناه هو البناء على وجود المتيقّن عملاً في زمن الشكّ، فيصير المفاد هو الأصل المحرز لا الأمارة الكاشفة.

قلت: نعم، هذا غاية ما في الباب من تقريب أخبار الاستصحاب للدلالة على كونه أصلاً، وقد تشبّث به مشايخنا رضوان الله عليهم(1).

لكنّ الإنصاف: أنّ العناية فيها هي بإبقاء نفس اليقين لا البناء العملي، وليس لهذا البناء فيها عين ولا أثر.

وقد عرفت: أنّ الفرق بين الأصل والأمارة في عالم التشريع هو العناية في الجعل، فإن كانت العناية ببقاء اليقين نفسه وإطالة عمره وعدم نقضه وإبقائه

ص: 78


1- كفاية الاُصول: 444؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 307؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 552.

سالماً فهو من الأمارات، وإلاّ فهو من الاُصول. ولا ينبغي التأمّل والإشكال في أنّ مفاد أخباره من قبيل الأوّل.

نعم، في كلٍّ من الأمارة والأصل يكون الجعل والتعبّد بلحاظ العمل، وإلاّ فيكون لغواً باطلاً.

لكنّ الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك: أنّ العناية في الأمارة هي بإعطاء وسطية الإثبات أو الكاشفية أو إعطاء صفة اليقين أو إطالة عمره وأمثال ذلك، وفي الاُصول هي بالبناء العملي أو تعيين وظيفة الشاكّ والمتحيّر وأشباههما .

فإن قلت: إنّ اليقين في الأخبار هو اليقين الطريقي، فيكون النظر إلى إبقاء المتيقّن لا اليقين، فلا يتمّ ما ذكرت.

قلت: إنّ اليقين الطريقي للمكلّف في لسان الدليل اُخذ موضوعاً منظوراً إليه، وتكون العناية ببقائه وكون صاحبه ذا يقين كاشف عن الواقع.

إن قلت: إنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الاستصحاب، ويكون الاستصحاب متقوّماً بالشكّ، وكلّ ما كان كذلك فهو من الاُصول؛ فإنّ الأمارات وإن كانت للشاكّ، لكنّه غير مأخوذ في موضوعها، بل هو في موردها، والأمارة اعتبرت لإزالة الشكّ ورفعه، لا أ نّه مأخوذ في موضوعها.

قلت: معنى أخذ الشكّ موضوعاً لحكم [هو] أنّ الحكم جعل للشاكّ، وتكون العناية ببقاء الشكّ وحفظه، مع جعل الوظيفة للشاكّ، كما في أصلي الطهارة والحلّية؛ فإنّ مفاد أدلّتهما جعل الطهارة والحلّية للشاكّ بما أ نّه شاكّ، أو تكون

العناية - مع حفظ الشكّ - بالبناء العملي على وجود المشكوك فيه، كما في

ص: 79

قاعدة الفراغ والتجاوز على أقوى الاحتمالين كما سيأتي(1).

والاستصحاب وإن كان متقوّماً بالشكّ، لكنّه لا يكون موضوعاً له، بل يكون مورده؛ فإنّ الظاهر من الكبرى الكلّية المجعولة فيه - وهي قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» - ليس حفظ الشكّ والحكم على الشكّ أو الشاكّ، بل العناية ببقاء اليقين السابق وعدم نقضه وإطالة عمره في عالم التشريع وإن كان زائلاً تكويناً.

بل يمكن أن يقال: إنّ أخذ الشكّ موضوعاً في الاستصحاب غير معقول؛ للزوم التناقض في عالم التشريع؛ فإنّ الحكم بعدم نقض اليقين بالشكّ أو عدم دخول الشكّ في اليقين هو اعتبار بقاء اليقين وحفظه وإطالة عمره في عالم التشريع، ولازمه إزالة الشكّ وإقامة اليقين مقامه، وإبطاله وإبقاء اليقين، فلو اُخذ الشكّ في

موضوع الاستصحاب للزم اعتبار بقائه وحفظه، والجمع بين الاعتبارين تناقض.

إن قلت: ظاهر ذيل الصحيحة الثالثة لزرارة هو البناء العملي الذي هو شأن الأصل، فإنّ قوله: «لكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين، فيبني عليه»(2) ظاهر في البناء العملي.

قلت: كلاّ؛ فإنّ قوله: «يبني عليه» أي يبني على وجود اليقين، بل هذه الصحيحة من أقوى الشواهد وأتمّ الدلائل على ما ادّعيناه، فإنّ قوله: «لكنّه

ينقض الشكّ باليقين» هو اعتبار بقاء اليقين وإزالة الشكّ تشريعاً، وقوله: «ويتمّ على اليقين...» إلى آخرها تأكيد له.

ص: 80


1- يأتي في الصفحة 81 - 82.
2- الكافي 3: 351 / 3؛ وسائل الشيعة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 3.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ العناية في الجعل في أخبار الاستصحاب هي جعل اليقين في زمان الشكّ، لا بمعنى جعل يقين في مقابل اليقين السابق، بل بمعنى إطالة عمر اليقين السابق وإبقائه وحفظه.

فحقيقة الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين وإطالة عمره إلى زمان الشكّ بلحاظ كشفه عن الواقع، لا البناء العملي على وجود المتيقّن، كما هو المستفاد من أدلّته، وبمجرّد كون الجعل بلحاظ العمل لا ينسلك الشيء في سلك الاُصول، وإلاّ فالأمارات مطلقاً على مبنى القائلين باحتياجها إلى الجعل الشرعي يكون جعلها بلحاظ العمل، وإلاّ لزم اللغوية.

وبالجملة: ليس في أخبار الاستصحاب عين ولا أثر للبناء العملي ولا لأخذ الشكّ موضوعاً، وعليك بأخباره مع رفض ما عندك من المسموعات التي صارت كالمسلّمات بل الفطريات للناظر فيها، فصارت حجاباً غليظاً عن الحقيقة.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا: الروايات الواردة في باب جواز الشهادة بالاستصحاب كروايات معاوية بن وهب(1)، فراجع. هذا حال الاستصحاب.

في حال قاعدة الفراغ والتجاوز

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز: فالكبرى الكلّية المجعولة فيها بعد إرجاع بعض الأخبار إلى بعض(2)، هو وجوب الإمضاء والمضيّ العملي وعدم الاعتناء بالشكّ

ص: 81


1- راجع وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 1 - 3.
2- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 341.

والبناء على الإتيان، والأخبار التي مضمونها أنّ الشكّ ليس بشيء وإن كانت توهم أ نّها بصدد إسقاط الشكّ ولازمه إعطاء الكاشفية، لكنّه إشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به، بل الظاهر منها ولو بقرينة الأخبار الاُخر التي مضمونها المضيّ عملاً هو عدم الاعتناء بالشكّ عملاً والبناء على الإتيان، كما يكشف عن ذلك رواية حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبدالله علیه السلام : أشكّ وأنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا، فقال: «قد ركعت»(1).

وبالجملة: العناية في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملاً والمضيّ العملي والبناء على الإتيان، ولا نعني بالأصل إلاّ ذلك.

في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب

فإن قلت: إن كانت قاعدة التجاوز أصلاً والاستصحاب أمارة، فلا معنى لتقدّمها عليه، فهل يمكن تقدّم الأصل على الأمارة ؟

قلت: ما لا يجوز هو تقدّم الأصل عليها في حدّ ذاته وبنحو الحكومة أو الورود، وأمّا تقدّمه عليها لأجل أمر خارجي - كلزوم اللغوية لولا التقدّم - فلا مانع منه.

وإن شئت قلت: إنّ أخبار القاعدة مخصّصة لأخبار الاستصحاب لأخصّيتها. هذا بناءً على مسلكنا.

وأمّا بناءً على المسلك المعروف - من كون الاستصحاب أصلاً وأخذ الشكّ

ص: 82


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 594؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الطهارة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.

في موضوعه - فتقدّم القاعدة عليه يكون بالحكومة، فإنّ مفاد أخبار القاعدة هو

نفي الشكّ مثل قوله: «فشككت فليس بشيء»(1)، وقوله: «فشكّك ليس بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تَجُزه»(2)، والفرض أنّ الشكّ موضوع الاستصحاب، فتقدّم القاعدة عليه كتقدّم قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك، وهذا واضح جدّاً.

في الإيراد على القوم

ولا أدري أ نّه مع كون لسان أدلّة القاعدة من أوضح موارد الحكومة بالنسبة إلى الاستصحاب بناءً على مسلكهم، فما وجه تزلزل المحقّقين في وجه تقدّمها عليه؛ حتّى احتمل بعضهم(3)

- بل التزم - أماريتها؛ لأجل ما في بعض أدلّة الوضوء: «هو حين يتوضّأ أذكر»(4) ؟ مع أ نّه كناية عن إتيان العمل والتعبّد بوجود المشكوك فيه، وأخبار القاعدة كلّها عارية عن الدلالة على الأمارية، كما يظهر بالرجوع إليها.

ص: 83


1- تهذيب الأحكام: 268 / السطر 27 (ط - الحجرية)؛ وسائل الشيعة 1: 526، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب أنّ من شكّ في شيء من أفعال الصلاة، السطر 26 (ط - الحجرية).
2- تهذيب الأحكام 1: 101 / 262؛ وسائل الشيعة 1: 469، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 2، مع اختلاف يسير.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 618؛ أجود التقريرات 4: 208.
4- تهذيب الأحكام 1: 101 / 265؛ وسائل الشيعة 1: 471، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 7.

وعن الشيخ الجليل الأنصاري قدّس سرّه : «أ نّه يختفي حكومته على الاستصحاب»(1) وبيّن وجه الحكومة - توضيحاً لكلام الشيخ - بعض المحقّقين من المعاصرين في تقريراته(2)

بما لا ينبغي التعرّض له، فراجع.

وأوضح شيء وجدوه للهرب عن الإشكال هو لزوم اللغوية لولا تقدّمها عليه(3).

وقد عرفت: أ نّه على مبناهم من كون الاستصحاب أصلاً والشكّ مأخوذ فيه يكون تقدّمها عليه من أوضح مصاديق الحكومة.

إذا أحطت خبراً بما تلونا عليك فاعلم: أ نّه قد ذكرنا سابقاً أنّ القطع المأخوذ في الموضوع تارةً يؤخذ على نحو الصفتية، وتارةً على نحو الطريقية التامّة، وتارةً على نحو الطريقية المشتركة، وعلى التقادير قد يكون تمام الموضوع، وقد يكون بعضه.

فإن اُخذ على نحو الصفتية أو الكاشفية التامّة فلا معنى لقيام الطرق العقلائية مقامه.

وإن اُخذ على نحو الطريقية المشتركة فالقطع وغيره متساوي النسبة إليه، ويكون المأخوذ هو الكاشف المطلق، فكلّ من القطع وسائر الأمارات مصداق للموضوع بلا فرق بينهما، فلا يكون ترتيب الآثار على الأمارة من باب قيامها

ص: 84


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 319.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 619.
3- كفاية الاُصول: 492 - 493؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 610؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 619.

مقامه، بل من باب وجود المصداق الحقيقي والموضوع الواقعي بلا حديث حكومة أو ورود.

هذا حال الأمارات العقلائية التي لا تصرّف للشارع فيها.

قيام الاستصحاب مقام القطع

وأمّا الاستصحاب بناءً على ما حقّقنا من كونه أمارة جعلية شرعية(1)، فقيامه مقام القطع الصفتي مشكل بل ممنوع؛ لأنّ مفاد أدلّة حجّية الاستصحاب أجنبيّة عن ذلك، فإنّ مفادها جعل الوسطية في الإثبات وإعطاء صفة الإحراز.

وبالجملة: المجعول هو القطع الطريقي تعبّداً وإطالة عمر اليقين الطريقي، وأين هذا من تنزيله منزلة القطع الصفتي ؟ !

بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام القطع الصفتي والطريقي؛ للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، فإنّ لحاظ الصفتية - كما عرفت - هو لحاظه مقطوع النظر عن الكشف، وهذا ينافي لحاظ الكاشفية، تأمّل.

وأمّا القطع الطريقي بقسميه - أي بنحو كمال الطريقية والطريقية المشتركة - فإن كان بنحو تمام الموضوع، فقيامه مقامه بنفس الأدلّة ممّا لا إشكال فيه إذا كان للمقطوع أثر آخر يكون التعبّد بلحاظه؛ فإنّ مفادها إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره، كما أنّ الأمر كذلك ظاهراً في المأخوذ بنحو الجزئية؛ فإنّ نفس

ص: 85


1- تقدّم في الصفحة 73.

الأدلّة التي يكون مفادها إطالة عمر اليقين تكفي لإثبات الجزءين من غير احتياج إلى التماس دليل آخر؛ فإنّ معنى إطالة عمر اليقين الطريقي هو الكشف عن الواقع وإحرازه، فالواقع يصير محرزاً بنفس الجعل.

وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال: إنّ المجعول بالذات هو إطالة عمر اليقين الطريقي، ولازمه العرفي إحراز الواقع، لكن في إطلاق القيام مقامه في ذلك تسامح واضح.

هذا حال الاستصحاب(1).

ص: 86


1- بناءً على الأمارية، وأمّا بناءً على أ نّه أصل كما هو الأقوى، فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقاً غير بعيد؛ لأنّ الظاهر من الكبرى المجعولة فيه: إمّا التعبّد ببقاء اليقين الطريقي من حيث الأثر، وإمّا التعبّد بلزوم ترتيب أثره في زمان الشكّ. فعلى الأوّل: يكون دليله حاكماً على الدليل الذي اُخذ فيه القطع الطريقي موضوعاً، لا بالوجه الذي أفاده بعض أعاظم العصرأ، بل لكونه كسائر الحكومات المقرّرة في محلّه. فقوله: «إذا قطعت بكذا فكذا» محكوم لقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»(ب) إن كان المراد منه ابنِ على وجود اليقين. وعلى الثاني: يكون الأثر مترتّباً بنتيجة الحكومة فيكون كالقيام مقامه؛ فإنّ لزوم ترتيب الآثار نتيجة التحكيم، فيقوم الاستصحاب مقامه على الأوّل بالحكومة، وعلى الثاني بنتيجتها. وأمّا القطع الصفتي: فالظاهر قصور الأدلّة عن قيام الاستصحاب مقامه؛ لأ نّها متعرّضة للقطع الطريقي وظاهرة فيه بلا إطلاق لأدلّته، لا لامتناعه، بل لقصورها. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 24 - 25. ب - الكافي 3: 351 / 3؛ وسائل الشيعة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 3.

عدم قيام قاعدة الفراغ مقام القطع

وأمّا قاعدة الفراغ: فقيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ممّا لا وجه له؛ فإنّ مفاد أدلّتها - كما عرفت - ليس إلاّ المضيّ عملاً وترتيب آثار الإتيان تعبّداً، وهذا أجنبيّ عن القيام مقامه.

نعم، فيما إذا كان القطع طريقاً محضاً لمّا كان المقصود حصول الواقع ويكون الواقع بواسطة القاعدة محرزاً تعبّداً، يفيد القاعدة فائدة القيام، لا أ نّها تقوم مقامه.

فإن قلت: إنّ للقطع جهات: الاُولى: كونه صفة قائمة بالنفس، والثانية: كونه طريقاً كاشفاً عن الواقع، والثالثة: جهة البناء والجري العملي على وفق العلم؛ حيث إنّ العلم بوجود الأسد - مثلاً - في الطريق يقتضي الفرار عنه. ثمّ إنّ المجعول في باب الاُصول المحرزة هو الجهة الثالثة، فهي قائمة مقام القطع الطريقي بالجهة الثالثة.

قلت: نعم، هذا حاصل ما أفاد بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه(1) - لكنّه ممّا لا أساس له؛ فإنّ قيام شيء مقام شيء بواسطة الجعل إنّما هو بنحو من التنزيل، ولا بدّ فيه من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ومن كون الجعل بعناية التنزيل، وإلاّ فمجرّد كون لسان الجعل هو البناء على الإتيان أو المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ عملاً- كما هو مفاد أدلّة القاعدة - لا يقتضي قيامها مقام القطع.

ص: 87


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16 - 17.

وبالجملة: كما أنّ في الأمارة المجعولة لا بدّ من إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره تعبّداً، وهذا لا يمكن إلاّ بعد لحاظ الطرفين ولحاظ الآثار المترتّبة على اليقين شرعاً أو عقلاً، كذلك في الأصل المحرز لا بدّ من إعطاء أثر اليقين بما أ نّه

أثر اليقين حتّى يقوم مقامه، وإعطاء أثره بما أ نّه أثره لا يمكن إلاّ بعد لحاظ الطرفين وكون الجعل بعناية إعطاء الأثر، مع أ نّه في أدلّة الفراغ والتجاوز لا عين ولا أثر عمّا يفيد هذا المعنى، بل لسان أدلّتها هو المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ عملاً، بلا نظر إلى اليقين وآثاره، ولا شائبة تنزيل فيها أصلاً. وما في رواية حمّاد بن عثمان من قوله علیه السلام : «قد ركعت»(1)

وإن يدلّ على البناء العملي على الإتيان، لكن لا يفيد ما يدّعي، كما لا يخفى.

وبالجملة: إن كانت دعوى قيام القاعدة مقام القطع هي مجرّد كونها محرزة للواقع تعبّداً، كما أنّ القطع محرز عقلاً، فلا مضايقة فيها، وإن كانت هي القيام بمعناه المصطلح، كقيام الأمارات مقام القطع، ففيها منع، منشؤه عدم استفادتها من الأدلّة، فراجع.

وممّا ذكرنا من أوّل المبحث إلى هاهنا يعرف وجوه النظر في كلام هؤلاء الأعلام، خصوصاً ما في تقريرات بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه ؛ فإنّ فيها مواقع للنظر تركناها مخافة التطويل.

ص: 88


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 594؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الطهارة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.

الأمر الرابع في أخذ القطع والظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه

اشارة

قوله: «الأمر الرابع...»(11).

لا بدّ لتوضيح الحال من تقديم اُمور حتّى يرتفع الخلط والاشتباه عن كثير من المقامات:

في بيان عدم التضادّ بين الأحكام الخمسة

الأوّل: أ نّه قد عرّف الضدّان بأ نّهما الأمران الوجوديان غير المتضايفين، المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه، بينهما غاية الخلاف(1)، فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين غيره، كما لا ضدّية بين أشياء لا وجود لها. فالأعدام والاعتباريات التي ليس لها وجود إلاّ في وعاء الاعتبار لا ضدّية بينها، كما أ نّه لا ضدّية بين أشياء لا حلول لها في موضوع،

ص: 89


1- التحصيل: 37؛ الحكمة المتعالية 2: 113؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 174.

ولا قيام لها به قيام حلول وعروض.

الثاني: أنّ الإنشائيات مطلقاً من الاُمور الاعتبارية التي لا تحقّق لها إلاّ في وعاء الاعتبار، ولا وجود أصيل حقيقي لها، فقولهم: «إنّ الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر»(1) يراد به أنّ نفس الإنشاء يكون منشأً لانتزاع المنشأ وثبوته في وعاء الاعتبار، بحيث تكون الألفاظ التي بها يقع الإنشاء - كالأمر والنهي وغيرهما - مصاديق ذاتية للّفظ، وعرضية للمعنى المنشأ، لا أ نّها علل للمعاني المنشأة، فإنّ العلّية والمعلولية الحقيقيتين لا تعقل بينها؛ ضرورة أنّ

منشئية الإنشاء للمنشأ إنّما هي بالجعل والمواضعة، ولا تعقل العلّية والمعلولية بين الاُمور الاختراعية الوضعية، فليس للمعنى المنشأ وجود أصيل، وإنّما هو أمر اعتباري من نفس الإنشاء.

فهيئة الأمر وضعت لتستعمل في البعث والتحريك الاعتباريين، لا بمعنى استعمالها في شيء يكون ثابتاً في وعائه، بل بمعنى استعمالها استعمالاً إيجادياً تحقّقياً، لا كتحقّق المعلول بالعلّة؛ حتّى يكون المعلول موجوداً أصيلاً، بل كتحقّق الأمر الاعتباري بمنشأ اعتباره.

فتحصّل من ذلك: أنّ الإنشائيات مطلقاً - ومنها الأحكام الخمسة التكليفية - لا وجود حقيقي لها، بل هي اُمور اعتبارية وعاء تحقّقها عالم الاعتبار.

الثالث: أ نّه للمعاني المنشأة بالألفاظ إضافات كلّها من الاُمور الاعتبارية التي لا وعاء لها إلاّ في ظرف الاعتبار. مثلاً: للوجوب إضافة إلى الآمر إضافة

ص: 90


1- كفاية الاُصول: 87 - 88؛ فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 17.

صدورية، وإضافة إلى المأمور إضافة انبعاثية، وإضافة إلى الأمر إضافة منشئية،

وإضافة إلى المتعلّق إضافة تعلّقية أوّلية، وإضافة إلى الموضوع إضافة تعلّقية ثانوية تبعية، وكلّ هذه الإضافات تعتبر من نفس الإنشاء الخاصّ المتخصّص بالخصوصيات، ولا وجود لشيء منها في الخارج.

ومن ذلك يعلم: أنّ نحو تعلّق الوجوب وغيره بالمتعلّق والموضوع ليس نحو تعلّق الأعراض بالموضوعات، ولا قيام للمعاني المنشأة بالموضوعات والمتعلّقات قيام حلول وعروض، بل قيامها كنفسها من الاعتباريات التي لا تحقّق لها في الخارج.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّ المعروف المرسل على أ لسنة الأصحاب إرسال المسلّمات: أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة يمتنع اجتماعها في موضوع واحد(1)، والظاهر المصرّح به في كلام كثير من المحقّقين أنّ المراد بالأحكام هي الأحكام البعثية والزجرية وغيرهما المنشأة بالألفاظ الإنشائية وغيرها من أداة الإنشاء، كما يظهر من تتبّع أقوالهم فيما نحن فيه وأبواب اجتماع الأمر والنهي والترتّب والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها.

وهذا ممّا لا أساس له؛ لعدم صدق تعريف الضدّ عليها؛ فإنّ الضدّين هما الأمران الوجوديان، وهذه الأحكام ليست من الاُمور الوجودية، بل من الاعتباريات كما عرفت.

وأيضاً: نحو تعلّق هذه الأحكام بالموضوع والمتعلّق والآمر والمأمور ليس

ص: 91


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 14؛ مطارح الأنظار 1: 625؛ كفاية الاُصول: 193؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396.

حلولياً عروضياً نحو قيام الأعراض بالموضوعات، بل قيامها بها قياماً اعتبارياً لا تحقّق له أصلاً، فلا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد، فلهذا يجوز اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي بجهة واحدة من شخصين أو من شخص واحد مع الغفلة، ولو كان بينها تضادّ لكان هذا ممتنعاً بالضرورة، كما أنّ البياض والسواد لا يجتمعان ولو كان موجدهما شخصين.

وبعبارة اُخرى: إذا كانت الضدّية بين نفس الأحكام لوجب أن يمتنع اجتماعها مطلقاً بلا دخالة للجاعل والموجد فيه؛ لعدم دخالة الجاعل في حقيقة مجعولاته وأحكامها المترتّبة عليها، والضدّية من الأحكام المتأخّرة عن المجعولات المتأخّرة عن الجعل المتأخّر عن الجاعل، فكيف يمكن دخالته فيها ؟ !

نعم، يمتنع اجتماع الحكمين أو الأحكام في موضوع واحد شخصي بجهة واحدة من شخص واحد، لا من أجل تقابل التضادّ بينها، بل من أجل أمرين آخرين:

أحدهما: أنّ مبادئها من المصالح والمفاسد والحبّ والبغض وترجيح الوجود والعدم والإرادة والكراهة ممّا يمتنع اجتماعها فيه.

وثانيهما: أنّ الأمر إنّما يكون لغرض انبعاث المأمور نحو إيجاد المأمور به، والنهي لغرض امتناعه عنه وتركه إيّاه، ولمّا كان الجمع بينهما ممتنعاً يكون الجمع بين الأمر والنهي من آمر واحد مع العلم لغواً باطلاً، كما أنّ الأمر بشيء محال ممتنع، فملاك الامتناع فيما نحن بصدده هو ملاك امتناع الأمر بالمحال من آمر عالم عاقل، لا أنّ الملاك هو لزوم اجتماع الضدّين حتّى تكون الأوامر والنواهي

ص: 92

ممّا يمتنع اجتماعها بنفسها، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا في الضدّية يعرف حال المثلية بين الأحكام، وأنّ اجتماع الأمرين في موضوع واحد ممّا لا يمتنع.

نعم، قد يمتنع الاجتماع لأجل اللغوية؛ فإنّ الآمر إذا عرف من حال المأمور أ نّه يمتثل أمره بمجرّد صدوره لا معنى لأمره ثانياً، ويكون أمره الثاني لغواً لا يصدر من عاقل ملتفت.

نعم، اجتماع الإرادتين أو الكراهتين في موضوع واحد ممتنع، لكن قد تكون الإرادة الواحدة المتعلّقة بموضوع مبدأً لصدور أوامر متعدّدة إذا عرف من حال المأمور عدم انبعاثه بالأمر الأوّل بل يحتاج إلى التكرار والتأكيد، ومثل الأوامر والنواهي الشرعية المتعلّقة بالموضوعات المهمّة لأجل إفادة أهمّيتها، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

رجع إلى بيان حال أخذ القطع في الموضوع

إذا عرفت ما فصّلنا لك: فلا بدّ من صرف عنان الكلام إلى حال أخذ القطع أو الظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه على اصطلاحهم، وقد فرغنا عن امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم(1)

وقلنا: إنّه لا يمكن حتّى بنتيجة التقييد(2).

ص: 93


1- لكن فصّلنا أخيراً بين الذي [هو] تمام الموضوع، فيجوز، و[الذي هو] بعضه فلا، وكذا الظنّ. [منه قدّس سرّه ]
2- تقدّم في الصفحة 61.

ومنه يعرف حال الظنّ لاشتراكهما في الملاك، فلا نطيل بإعادته.

وأمّا أخذهما في موضوع مثله أو ضدّه فما يمكن أن يكون وجه الامتناع اُمور(1):

الأوّل: اجتماع الضدّين أو المثلين، فقد عرفت حاله، وأ نّه ممّا لا أساس لذلك.

الثاني: لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في موضوع وحداني شخصي.

وفيه: أ نّه لا مانع من كون موضوع ذا مصلحة بعنوانه الذاتي، وكونه بعنوان المقطوعية أو المظنونية ذا مفسدة أو مصلحة اُخرى، كما أ نّه يمكن أن تكون عطيّة زيد راجحة ذات مصلحة لك بذاتها، لكنّها مع علم عدوّك بها مرجوحة ذات مفسدة.

وبالجملة: كثيراً ما يكون اختلاف العناوين موجباً لاختلاف المصالح والمفاسد.

الثالث: لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد.

ص: 94


1- والتحقيق: التفصيل بين المأخوذ تمام الموضوع فلا يأتي من المحذورات فيه أبداً؛ لأ نّه مع تعدّد العنوانين - اللذين هما مركب الحكم - تدفع المحذورات طرّاً، حتّى لزوم اللغوية والأمر بالمحال: أمّا اللغوية: فلأنّ الطرق إلى إثبات الحكم أو موضوعه كثيرة، فجعل الحرمة على الخمر والترخيص على معلوم الخمرية لا يوجب اللغوية بعد إمكان العمل به لأجل قيام طرق اُخر، وكذا الحال في معلوم الحرمة. وأمّا لزوم الأمر بالمحال: فلأنّ أمر الآمر ونهيه لا يتعلّقان إلاّ بالممكن، وعروض الامتناع في مرتبة الامتثال - كباب التزاحم - لا يوجب الأمر بالمحال، كما حقّق في محلّه. [منه قدّس سرّه ]

وفيه: أ نّه مع اختلاف العناوين واختلاف المصالح والمفاسد لا مانع من تعلّق الإرادة والكراهة.

وبعبارة اُخرى: ما يمتنع تعلّقهما به هو الموضوع الواحد الذي له صورة وحدانية في النفس، وأمّا مع اختلاف العناوين فتكون صورها مختلفة فيها، وتعلّق الإرادة بواحد منها والكراهة بالاُخرى ممّا لا مانع منه.

وبالجملة: الخمر ومعلوم الخمرية ومظنون الخمرية لها صور مختلفة وشخصيات متكثّرة في النفس، ويجوز تعلّق الإرادة والكراهة بها، وليست الصور الذهنية مثل الموضوعات الخارجية؛ حيث إنّ ذات الموضوع الخارجي محفوظة مع اختلاف العناوين، بخلاف الصور الذهنية؛ فإنّ الموضوع مع كلّ عنوان له صورة على حدة.

الرابع: لزوم اللغوية في بعض الموارد.

الخامس: لزوم الأمر بالمحال في بعض الموارد.

والعمدة في الباب هي هذان الوجهان، فكلّما لزم - من تعلّق حكم بموضوع وتعلّق حكم آخر بمعلوم الحكم أو مظنونه - أحد هذين الوجهين أو كلاهما فيمتنع، ومعلوم أنّ الموارد مختلفة في هذا الوادي، فربّما يلزم في موردٍ اللغوية دون مورد آخر، وكذا الوجه الخامس.

مثلاً: لو تعلّق حكم بموضوع، فتعلّق حكم مماثل به بعنوان المقطوعية قد يكون لغواً وهو ما إذا اُحرز إتيان المأمور بمجرّد القطع والإحراز، وقد يكون لازماً وهو كلّ مورد اُحرز عدم الإتيان إلاّ بعد تعلّق أمر آخر بالمحرز المقطوع، وقد يكون راجحاً إذا احتمل انبعاثه بالأمر الثاني، بل لا يبعد أن يكون في هذه

ص: 95

الصورة أيضاً لازماً. هذا في الأحكام الجزئية والشخصية.

وأمّا الأحكام الكلّية فتعلّقها مطلقاً لا يكون لغواً؛ لعدم تحقّق إحراز الإتيان.

وأمّا الحكم المضادّ - على اصطلاحهم - فالظاهر أ نّه في مورد القطع غير ممكن، فلا يمكن أن يكون الخمر حراماً ومقطوع الخمرية أو الحرمة واجباً، لا لأجل اجتماع الضدّين، بل لأجل لزوم طلب المحال - فإنّ امتثال التكليفين محال - ولزوم لغوية جعل الحرمة للموضوع، كما لا يخفى.

ولو فرضنا كون الخمر حراماً ومقطوع الخمرية أو الحرمة مرخّصاً فيه، يكون أيضاً ممتنعاً للزوم اللغوية؛ فإنّ جعل الحرمة للخمر إنّما هو لغرض صيرورة المأمور بعد علمه بالحكم والموضوع ممتنعاً تاركاً، فجعل الترخيص في هذا المورد نقض للغرض، أو جعل الحرمة للخمر يصير لغواً باطلاً.

وكذا لوتعلّق الوجوب بموضوع لا يمكن تعلّق الحرمة به بعنوان مقطوع الحكم أو الموضوع؛ للزوم الأمر بالمحال أو اللغوية، ولا يمكن تعلّق الترخيص به؛ للزوم اللغوية.

إلاّ أن يقال: إنّ إمكان الإتيان بالمأمور به أو ترك المنهيّ عنه بإحرازهما بسائر الطرق غير العلم يدفع اللغوية والمحالية. نعم، هذا لازم بناءً على أخذ العلم بالجهة الجامعة بينه وبين الطرق موضوعاً، لا الجهة الجامعة المتخصّصة بالعلم.

هذا حال العلم.

وأمّا الظنّ - سواء كان حجّة أم لا - فالظاهر عدم المانع من تعلّق حكم مماثل أو مضادّ بعنوانه:

ص: 96

أمّا الظنّ غير المعتبر فواضح؛ لعدم لزوم اللغوية أو الأمر بالمحال:

أمّا عدم لزوم اللغوية؛ فلأنّ جعل الحكم لموضوع، له موارد للعمل لا يكون لغواً، ولو جعل حكم آخر لمورد لا يكون منجّزاً للتكليف، فالظنّ غير المعتبر لمّا لم يكن منجّزاً للتكليف لا مانع في جعل حكم مضادّ له، ولا يلزم منه لغوية جعل الحكم لنفس الموضوع؛ فإنّ له موارد للعمل.

ومنه يعلم عدم لزوم طلب المحال؛ لأنّ الظنّ غير المعتبر لم ينجّز التكليف المتعلّق بالموضوع، فلم يبق إلاّ التكليف المتعلّق بالمظنون.

وكذا لا مانع من تعلّق الحكم المماثل؛ لعدم لزوم المحذورين أصلاً.

وأمّا الظنّ المعتبر: فإن كان دليل اعتباره مختصّاً بكشف هذا الموضوع أو الحكم الذي تعلّق به، فلا يمكن جعل حكم مضادّ له؛ للزوم اللغوية في دليل الإحراز أو لزوم الأمر بالمحال.

وإن كان دليل الاعتبار مطلقاً شاملاً له ولغيره يكون جعل الحكم المضادّ بمنزلة المخصّص لدليل الاعتبار، ويصير حكمه حكم الظنّ غير المعتبر، وأمّا في جعل الحكم المماثل فحال الظنّ المعتبر حال القطع.

تنبيه

في تفصيل المحقّق النائيني بين الظنّ المعتبر والغير المعتبر

وممّا ذكرنا يعرف حال ما ذكره الأصحاب من الخلط والاشتباه، خصوصاً ما فصّله بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - فإنّه بعد بيان الأقسام المتصوّرة وبيان إمكان أخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر مطلقاً إلاّ فيما

ص: 97

اُخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية، كما تقدّم في العلم وتقدّم ما فيه، وحال

ما نحن فيه حال العلم إشكالاً وجواباً، فراجع(1)، قال قدّس سرّه ما ملخّصه:

وأمّا أخذه موضوعاً لمضادّ حكم متعلّقه فلا يمكن مطلقاً، من غير فرق بين الظنّ المعتبر وغيره؛ للزوم اجتماع الضدّين ولو في بعض الموارد، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي، بل يلزم منه الاجتماع في محلّ واحد.

وأمّا أخذه موضوعاً لحكم المماثل: فإن لم يكن الظنّ حجّة فلا مانع منه؛ فإنّ في صورة المصادفة يتأكّد الحكمان، فإنّ اجتماع المثلين إنّما يلزم لو تعلّق الحكمان بموضوع واحد وعنوان واحد، وأمّا مع تعلّقهما بالعنوانين فلا يلزم إلاّ التأكّد.

وأمّا الظنّ الحجّة فلا يمكن أخذه موضوعاً للمماثل؛ فإنّ الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئه؛ بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك؛ لأنّ الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون محرّكاً وباعثاً لإرادة العبد؛ فإنّ الانبعاث إنّما يتحقّق بنفس إحراز الحكم الواقعي

المجعول على الخمر، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز، كما لا يعقل ذلك في العلم أيضاً.

وزاد قدّس سرّه في فذلكته: أنّ الظنّ الغير المعتبر لا يصحّ أخذه موضوعاً على وجه الطريقية لا للمماثل ولا للمخالف؛ فإنّ أخذه على وجه الطريقية هو معنى اعتباره؛ إذ لا معنى له إلاّ لحاظه طريقاً.

ص: 98


1- تقدّم في الصفحة 59.

وأمّا أخذه موضوعاً لنفس متعلّقه إذا كان حكماً، فلا مانع منه بنتيجة التقييد مطلقاً، بل في الظنّ المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد؛ فإنّ أخذ الظنّ حجّة محرزاً لمتعلّقه معناه أ نّه لا دخل له في المتعلّق؛ إذ لو كان له دخل لما اُخذ طريقاً، فأخذه محرزاً مع أخذه موضوعاً يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد، وذلك واضح(1)،

انتهى.

وفيه مواقع للنظر نذكر بعضها إجمالاً، فنقول:

أمّا قضيّة اجتماع الضدّين فقد عرفت حالها، وأ نّها ممّا لا أساس لها أصلاً.

وأمّا تفرقته بين الظنّ المعتبر وغير المعتبر في الحكم المماثل ففيها:

أوّلاً: أنّ اختلاف العنوانين إن كان رافعاً لاجتماع المثلين فهو رافع لاجتماع الضدّين أيضاً؛ فإنّ محطّ الأمر والنهي إذا كان عنوانين مختلفين ولو اتّفق اجتماعهما في موضوع واحد، فهو كما يرفع اجتماع المثلين يرفع اجتماع الضدّين.

وأمّا إذا كان أحد العنوانين محفوظاً مع الآخر - كما فيما نحن فيه؛ فإنّ الخمر محفوظة بعنوانها مع مظنون الخمرية - فكما لا يرفع معه التضادّ لا يرفع معه اجتماع المثلين.

وثانياً: أنّ ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكّد ممّا لا أساس له أصلاً؛ فإنّ التأكّد إنّما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحداً وتعلّق الأوامر المتعدّدة به تأكيداً، وحديث اجتماع المثلين كالضدّين ممّا لا أصل له، كما

ص: 99


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 32 - 35.

عرفت؛ فإنّ الإرادة المتعلّقة بموضوع مهتمّ به كما قد تصير مبدأً للتأكيد بأداته،

كذلك قد تصير مبدأً لتكرار الأمر والنهي تأكيداً، كالأوامر والنواهي الكثيرة المتعلّقة بعنوان الصلاة والزكاة والحجّ، وعنوان الخمر والميسر والربا في الشريعة المقدّسة ، فهل هذه من قبيل اجتماع المثلين ؟ !

نعم، تعلّق الإرادتين بعنوان واحد ممّا لا يمكن؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد. هذا حال العنوان الواحد.

وأمّا مع اختلاف العنوانين فلا يكون من التأكيد أصلاً وإن اتّفق اجتماعهما في موضوع واحد؛ فإنّ لكلّ واحد من العنوانين حكمه، ويكون الموضوع مجمعاً لعنوانين ولحكمين، ويكون لهما إطاعتان وعصيانان، ولا بأس به.

وما اشتهر بينهم: أنّ قوله: «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» يفيد التأكيد إذا اجتمعا في مصداق واحد ممّا لا أصل له.

وثالثاً: أنّ ما أفاد: من أنّ الظنّ المعتبر لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم المماثل، معلّلاً تارةً: بأنّ المحرز للشيء ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث الملاك، وتارةً: بأنّ الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث، وإن خلط الفاضل المقرّر - دام علاه - في تحريره.

فيرد على الأوّل: أنّ عدم كون الظنّ المحرز من العناوين الثانوية التي توجب الملاك هل هو من جهة كون الظنّ مختلفاً مع الواقع المظنون في الرتبة، فيلزم أن يكون الظنّ الغير المعتبر أيضاً كذلك، أو من جهة الاعتبار الشرعي، ففيه: أ نّه أيّ دليل قام على أنّ الاعتبار الشرعي ممّا ينافي الملاكات الواقعية ويرفعها ؟ !

ص: 100

وبالجملة: لا فرق بين الظنّ المعتبر وغير المعتبر إلاّ في الجعل الشرعي، وهو ممّا لا يضادّ الملاكات النفس الأمرية.

مع أنّ الظنّ والقطع كسائر العناوين يمكن أن يكونا موجبين لملاك آخر.

ويرد على الثاني: أ نّه يمكن أن لا ينبعث العبد بأمر واحد وينبعث بأمرين أو أوامر، وإمكان الانبعاث يكفي في الأمر، ولولا ذلك لصارت التأكيدات كلّها لغواً باطلاً، مع أنّ المظنون بما أ نّه مظنون يمكن أن يكون له ملاك مستقلّ في مقابل الواقع، كما هو المفروض فيما نحن فيه، فيتعلّق به أمر مستقلّ.

وأمّا ما أفاد في فذلكته: من أنّ أخذ الظنّ على وجه الطريقية هو معنى اعتباره، ففيه: أ نّه ممنوع؛ فإنّ الظنّ لمّا كان له طريقية ناقصة وكاشفية ضعيفة ذاتاً، يمكن أن يؤخذ على هذا الوجه موضوعاً في مقابل الصفتية التي معناها أن يؤخذ مقطوع النظر عن كاشفيته.

وأمّا معنى اعتباره: فهو أن يجعله الشارع طريقاً وكاشفاً بالجعل التشريعي، فمجرّد لحاظ الشارع طريقيته لا يلازم اعتباره شرعاً، فضلاً عن أن يكون معناه.

وإن شئت قلت: إنّ لحاظ الطريقية من مقولة التصوّر، وجعل الاعتبار من الإنشاء والحكم، ولا ربط بينهما ولا ملازمة، فضلاً عن أن يكون أحدهما معنى الآخر.

مضافاً إلى أنّ لحاظ الطريقية لو كان بمعنى جعل الاعتبار وجعل الطريقية، لا بدّ وأن يلتزم بامتناعه في القطع؛ لأنّ جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع، فلحاظ القطع الطريقي موضوعاً مطلقاً يصير ممتنعاً.

اللهمّ إلاّ [أن] يدّعى أنّ ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعمّ من الاعتبار

ص: 101

الذاتي أو الجعلي، وهو كما ترى.

وأمّا ما أفاد: من أنّ أخذ الظنّ بالحكم موضوعاً لنفسه لا مانع منه بنتيجة التقييد، فقد عرفت ما فيه في أخذ العلم كذلك من لزوم الدور(1).

وأمّا ما أفاده أخيراً: من عدم جواز أخذ الظنّ المعتبر موضوعاً لحكم متعلّقه، معلّلاً بأنّ أخذ الظنّ محرزاً لمتعلّقه معناه أ نّه لا دخل له فيه، وهو ينافي الموضوعية.

ففيه: أنّ ذلك ممنوع جدّاً؛ فإنّ الملاك يمكن أن يكون في الواقع المحرَز بهذا الظنّ بعنوان المحرزية، فلا بدّ من جعل المحرزية للتوصّل إلى الغرض، لكن أخذ الظنّ كذلك محال من رأس؛ للزوم الدور.

والذي يسهّل الخطب: أنّ ما ذكر من أقسام الظنّ الموضوعي مطلقاً - بل والقطع غالباً - مجرّد تصوّرات لا واقع لها، والتعرّض لها إنّما هو تبعاً للمشايخ رحمهم الله تعالى.

ص: 102


1- تقدّم في الصفحة 61.

الأمر الخامس في الموافقة الالتزامية

اشارة

قوله: «الأمر الخامس...»(12).

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل في حال الموافقة الالتزامية في الاُصول والفروع

وتوضيحها يتوقّف على تمهيد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أنّ الاُصول الاعتقادية تكون على أقسام:

منها: ما هي ثابتة بالبرهان العقلي - من غير دخالة النقل والنصّ فيها، بل لو ورد في الكتاب والسنّة ما بظاهره المنافاة لها لا بدّ من تأويله أو إرجاع علمه إلى أهله - كوجود المبدأ المتعال وتوحيده وسائر صفاته الكمالية وتنزيهه عن النقص، وكأصل المعاد بل والجسماني منه أيضاً على ما هو المبرهن عند أهله(1)،

ص: 103


1- راجع كشف المراد: 405؛ الحكمة المتعالية 9: 185؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 5: 306.

وكالنبوّة العامّة وأمثالها من العقليات الصرفة، فما وقع في كلام بعض أعاظم

المحدّثين من أنّ المعوّل عليه في التوحيد هو الدليل النقلي(1) ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، ولا يستأهل جواباً وردّاً.

ومنها: ما هي ثابتة بضرورة الأديان أو دين الإسلام، كبعض أحوال المعاد والجنّة والنار والخلود في النار وأمثالها، أو ضرورة المذهب.

ومنها: ما هي ثابتة بالنصّ الكتابي أو النقل المتواتر.

وأمّا غيرها ممّا ورد فيه رواية أو روايات، فقد يحصل منها العلم أو الاطمئنان وقد لا يحصل.

والفروع الشرعية أيضاً: تارةً تكون ثابتة بضرورة الدين كوجوب الصلاة والحجّ، وتارةً بضرورة المذهب كوجوب حبّ أهل البيت وحرمة بغضهم، وتارةً بالنقل المتواتر أو النصّ الكتابي أو الإجماع، وتارةً بغيرها من الأدلّة الاجتهادية

والفقاهتية، وربّما تثبت بالعقل أيضاً.

المقدّمة الثانية: أنّ الأحوال القلبية من الخضوع والخشوع والخوف والرجاء والرضا والسخط وأمثالها إنّما تحصل في النفس قهراً تبعاً لمبادئها الحاصلة فيها بعللها؛ بحيث لو حصلت المبادئ فيها تتبعها تلك الحالات بلا دخالة إرادة واختيار أصلاً.

مثلاً: العلم بوجود المبدأ وعظمته وقهّاريته يوجب الخضوع والخشوع لدى حضرته - جلّت كبرياؤه - والخوف منه، والعلم برحمته الواسعة وجوده الشامل

ص: 104


1- بحار الأنوار 3: 234؛ مرآة العقول 1: 264.

وقدرته النافذة يوجب الرجاء والوثوق.

وكلّما تمّت المبادئ وكملت، تمّت وكملت الحالات القلبية؛ أي درجات الثمرات تابعة لدرجات المبادئ، ولا يمكن تحصيل النتائج إلاّ بتحصيل مبادئها، ولا يمكن حصول تلك الحالات بالإرادة وجعل النفس من دون تحقّق المبادئ، ومع تحقّقها تحصل قهراً وتبعاً من غير دخالة الإرادة والاختيار فيها.

المقدّمة الثالثة: أنّ عقد القلب والالتزام بشيء والانقياد والتسليم القلبي لأمر، من الأحوال القلبية التي لا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مبادئها، فضلاً عن حصولها مع تحقّق أضداد مبادئها أو مبادئ أضدادها، فإذا حصلت مبادئها في النفس لا يمكن تخلّف الالتزام والتسليم والانقياد القلبي عنها، ولا يمكن الالتزام بمقابلاتها وأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع، كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الاُصول الاعتقادية البرهانية أو الضرورية أو غيرها إذا حصلت بمبادئها في النفس لا يمكن تخلّف الالتزام والتسليم والانقياد القلبي عنها، ولا يمكن الالتزام بأضدادها؛ مثلاً: من قام البرهان الأوّلي عنده على وجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له اختياراً وإرادةً الالتزام وعقد القلب بعدم وجوده ووحدته تعالى، كما لا يمكن عقد القلب حقيقة على ضدّ أمر محقّق محسوس، كعقد القلب على أنّ النار باردة، وأنّ الشمس مظلمة، وأنّ الكوكب الذي يفعل النهار هو المشتري، وقس على ذلك كلّية الاعتقاديات والفرعيات الضرورية والمسلّمة، فكما لا يمكن عقد القلب والالتزام على ضدّ أمر تكويني لا يمكن على ضدّ أمر تشريعي بالضرورة والوجدان.

ص: 105

وما يتوهّم(1): أنّ الكفر الجحودي يكون من قبيل الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل لصاحبه - كما قال تعالى: )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَ نْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً((2) - فاسد؛ فإنّ الجحود عبارة عن الإنكار اللساني، لا الالتزام القلبي، كما هو واضح.

وكذلك الحال في الفرعيات الثابتة بالطرق والأمارات وسائر الحجج الشرعية، فإنّ الالتزام بها والتسليم لها مع حصول مقدّماتها والعلم بها قهري تبعي، لا إرادي اختياري، والالتزام على خلافها غير ممكن، فلا يمكن للّذي ثبت عنده بالحجّة الشرعية أنّ حكم الغسالة هو النجاسة أن يلتزم بطهارتها شرعاً، أو لا يلتزم بنجاستها، إلاّ أن يرجع إلى تخطئة الشارع، وهو خلاف الفرض.

فما اشتهر بينهم من حرمة التشريع(3) ووجوب الموافقة الالتزامية:

إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم لم يكن من الشرع أو لم يعلم كونه منه، أ نّه منه، ومن وجوب الالتزام هو الالتزام القلبي - بالاختيار والجعل - للأحكام الشرعية والاُصول الاعتقادية، كما هو ظاهر كلماتهم بل صريحها (4)، فهو ممّا لا يرجع إلى محصّل؛ فإنّ التشريع بهذا

المعنى غير ممكن، فضلاً عن أن يكون متعلّقاً للنهي الشرعي، وكذلك الالتزام

ص: 106


1- نهاية الدراية 1: 271 - 272.
2- النمل (27): 14.
3- راجع ما يأتي في الصفحة 179.
4- اُنظر كفاية الاُصول: 308.

بالأحكام الشرعية لمن يعتقد الرسالة، وثبتت عنده الأحكام بطرقها وأدلّتها، واجب التحقّق، ممتنع التخلّف، ولا يكون تحت اختيار العبد وإرادته حتّى يكون مورداً للأمر.

وإن كان المراد من التشريع هو إدخال ما ليس في الدين فيه؛ افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله صلی الله علیه و آله وسلم فهو أمر ممكن واقع محرّم بالضرورة، وكذلك الموافقة الالتزامية إن كان المراد منها هو البناء القلبي على الالتزام العملي والإطاعة لأمر المولى، والمخالفة هي البناء على المخالفة العملية، فهما أمران معقولان يكونان من شُعَب الانقياد والتجرّي.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها - على ما يستفاد من كلام القوم - ممّا لا أساس لهما أصلاً.

وما ذهب إليه بعض سادة مشايخنا رحمهما اللّه (1) في القضايا الكاذبة من التجزّم على طبقها، وجعله مناطاً لصيرورة القضايا ممّا يصحّ السكوت عليها، وأنّ العقد القلبي عليها يكون جعلياً اختيارياً. وقال شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -: إنّ

حاصل كلامه: أ نّه كما أنّ العلم قد يتحقّق في النفس بوجود أسبابه، كذلك قد تخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج، فإذا تحقّق هذا المعنى في الكلام يصير جملةً يصحّ السكوت عليها؛ لأنّ تلك الصفة الموجودة تحكي جزماً عن تحقّق النسبة في الخارج(2)، انتهى.

فيرد عليه: أنّ العلم والجزم ليسا من الاُمور الجعلية الاختيارية، فإنّهما من

ص: 107


1- اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 70.
2- نفس المصدر.

الاُمور التكوينية التي لا توجد في النفس إلاّ بعللها وبأسبابها التكوينية، فهل

يمكن جعل الجزم في النفس بأنّ الواحد ليس نصف الاثنين بل هو نصف الثلاثة، وأنّ النقيضين يجتمعان ويرتفعان ؟ !

وأمّا الإخبارات الكاذبة إنّما تكون بصورة الجزم، وليس في واحد منها حقيقة الجزم الجعلي بل إظهار الجزم، والمناط في صحّة السكوت هو الإخبار الجزمي؛ أي الإخبار الذي بصورة الجزم، ولا ربط للجزم القلبي في صحّة السكوت وعدمه، ولهذا لو أظهر المتكلّم ما هو مقطوع به بصورة الترديد لا تصير القضيّة ممّا يصحّ السكوت عليها.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في تلك القضايا المظهرة بصورة الترديد ينشئ المتكلّم حقيقة الترديد في النفس، ويصير مردّداً جعلاً واختراعاً، وهو كما ترى.

فتحصّل: أنّ جعلية هذه الأوصاف النفسانية ممّا لا وجه صحّة لها.

المطلب الثاني في كون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام كيفية وكمّية

بناءً على ما ذكرنا من كون الموافقة الالتزامية من الملتزم بالشريعة والمؤمن بها من الاُمور القهرية الغير الاختيارية، لا الجعلية الاختيارية، تكون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام وتابعة له كيفيةً وكمّيةً؛ فإن كان العلم متعلّقاً

بحكم تفصيلاً يتعلّق الالتزام به تفصيلاً، وإن كان متعلّقاً إجمالاً يكون الالتزام

ص: 108

إجمالياً، ففي دوران الأمر بين المحذورين - الذي يكون العلم بنحو الترديد والإجمال في المتعلّق - يكون الالتزام به أيضاً كذلك، فلو بنينا على جواز جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين يكون الالتزام على طبق الحكم الظاهري؛ أي كما أ نّه يجوز جعل الحكم الواقعي والظاهري في موضوع بعنوان الذات والمشكوك مثلاً ويكون تعلّق العلم بهما ممّا لا مانع منه، كذلك الالتزام يكون على طبقه؛ أي التزام بحكم واقعي والتزام بحكم ظاهري بلا تنافٍ بينهما، فجريان الاُصول فيه ممّا لا مانع منه من قبل لزوم الالتزام، كما أنّ جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي؛ لأنّ جريانها في طول الواقع، ولا يدفع به العلم بالحكم الواقعي.

بل لو بنينا على اختيارية الالتزام وجعليته فلا وجه لاختصاص محذور عدم الموافقة بما إذا لم تجر الاُصول في الأطراف، كما مال إليه المحقّق الخراساني قدّس سرّه (1)؛ لأنّ موضوع الالتزام بالحكم الواقعي في طول مجاري الاُصول، والالتزام بالواقع مع الاُصول في الرتبتين، ولا وجه لدفع أحدهما بالآخر، فتدبّر.

ص: 109


1- كفاية الاُصول: 309 - 310.

المطلب الثالث في حال جريان الاُصول العقلية أو الشرعية في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا دار الأمر بين المحذورين

وأمّا جريانها في غيره من موارد العلم الإجمالي فسيأتي حاله(1).

والظاهر عدم جريان الاُصول العقلية مطلقاً في أطرافه؛ لعدم المجال للحكم العقلي فيما هو ضروري تكويناً وحاصل بنفس ذاته، حتّى التخيير العقلي بمعنى الحكم بالتخيير؛ فإنّه لا معنى له بعد ضرورية حصوله.

وأمّا الاُصول الشرعية، مثل أصالة الحلّية والإباحة فلا تجري؛ لمناقضة مضمونها للعلم الإجمالي؛ فإنّ جنس التكليف معلوم، وأصل الإلزام متيقّن، فلا موضوع لأصل الحلّية والإباحة؛ فإنّ معنى الحلّية والإباحة عدم الإلزام في طرفي الوجود والعدم، وهذا ليس بمشكوك، بل معلوم.

وأمّا أصالة البراءة - التي مستندها دليل الرفع والتوسعة - فالظاهر جريانها في طرفي الوجود والعدم، وتساقطهما بالتعارض أو بواسطة العلم بالخلاف.

ولو قلنا بعدم الجريان فإنّما هو بواسطة العلم بالخلاف، وهذا مناقضة بالعرض ومن باب الاتّفاق، لا مناقضة في مفاد الدليل والجعل؛ لأنّ الرفع والتوسعة في كلّ طرف لا يكون مفادها التوسعة والرفع في الطرف الآخر حتّى يناقض جنس التكليف المعلوم، فموضوع الأصل الذي هو الشكّ في نوع

ص: 110


1- يأتي في الجزء الثاني: 175.

التكليف محقّق في كلّ واحد من الطرفين في حدّ نفسه.

وما أفاد بعض مشايخ العصر قدّس سرّه - على ما في تقريراته(1) - من أنّ المحذور في جريان البراءة الشرعية هو أنّ مدركها قوله: «رفع ما لا يعلمون»(2)، والرفع فرع إمكان الوضع، وفي مورد الدوران بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعمّ المقام.

فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما لا يمكن الوضع [فيه] هو الوجوب والحرمة كلاهما - أي المجموع من حيث هو مجموع - والأفراد بهذه الحيثية ليست مشمولة للأدلّة مطلقاً؛ فإنّ مفادها هو كلّ فرد فرد بعنوانه، لا بعنوان المجموع، ولو كانت مشمولة بهذه الحيثية أيضاً، يلزم أن يكون كلّ فرد مشمول الدليل مرّتين بل مرّات غير متناهية؛ مرّة بعنوان ذاته، ومرّات غير متناهية بعنوان الاجتماعات الغير المتناهية، وهو ضروري البطلان.

وثانياً: أ نّه يلزم بناءً على ذلك عدم جريان أصالة البراءة وغيرها في غير مورد دوران الأمر بين المحذورين؛ لمناقضة مفادها مع المعلوم بما أ نّه معلوم؛ فإنّ الرفع عن كلا الطرفين يناقض الوضع الذي في البين، مع اعترافه بجريانها إذا لم يلزم منه مخالفة عملية.

ص: 111


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 448.
2- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

وثالثاً: أ نّه لو فرضنا أنّ حديث الرفع يشمل المجموع أيضاً، لنا أن نقول بجريانه في الدوران بين المحذورين وغيره؛ لشموله بالنسبة إلى كلّ فرد فرد بنفسه، فالفرد بعنوان ذاته مشمول للدليل، وإن كان بعنوان اجتماعه مع غيره غير مشمول له، ولا يتنافى عدم المشمولية بعنوان مع المشمولية بعنوان ذاته.

هذا كلّه إذا كان مراده قدّس سرّه من قوله: «لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما» هو المجموع. وإن كان مراده الجميع بنحو الاستغراق، فمناقضته مع التكليف في البين لا تنافي الجريان في كلّ واحد من حيث هو، بل لازمها السقوط بعد الجريان، كما هو الشأن في كلّ مورد يكون كذلك.

وأمّا الاستصحاب: فما كان مفاده مناقضاً لأصل الإلزام وجنس التكليف كاستصحاب الاستحباب والكراهة والإباحة، فعدم جريانه معلوم؛ لعدم الموضوع له.

وأمّا استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة فالظاهر جريانهما وسقوطهما بالمعارضة، كما عرفت في جريان أصل البراءة، ولا مانع من جريانهما سوى ما أفاد العلاّمة الأنصاري من عدم جريان الاُصول في أطراف العلم مطلقاً؛ للزوم مناقضة صدر الأدلّة مع ذيلها (1)،

وسيأتي ما فيه(2)،

وسوى ما في تقريرات بعض المشايخ قدّس سرّه (3)، وسيأتي ما فيه(4)،

فانتظر.

ص: 112


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 409 - 410.
2- يأتي في الصفحة 123.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 22 - 23.
4- يأتي في الصفحة 124 - 125.

إن قلت: جريان الاستصحابين - بل مطلق الاُصول - في مورد الدوران يلزم منه اللغوية؛ فإنّ الإنسان تكويناً لا يخلو عن الفعل أو الترك، وهما مفاد استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة، فوجودهما وعدمهما على السواء، وكذا الحال في أصالة البراءة عن الوجوب والحرمة.

وإن شئت قلت: لا معنى لجريان الأصل العملي في مورد ليس فيه عمل يمكن التعبّد به، كما فيما نحن فيه؛ فإنّ أحد الطرفين ضروري التحقّق.

قلت: نعم، لو كان مفاد الأصل هو مجموع كلا الطرفين فمع لزوم اللغوية يلزم منه المناقضة مع المعلوم في البين، لكن قد عرفت ما فيه.

وأمّا مع ملاحظة كلّ واحد من الأصلين بحيال ذاته فلا يلزم من جريانه اللغوية؛ فإنّه مع استصحاب عدم الوجوب يجوز الترك، ومع استصحاب عدم الحرمة يجوز الإتيان، فأين يلزم اللغوية ؟ !

وأيضاً: نفس الوجوب والحرمة من الأحكام الشرعية التي يجري فيها الاستصحاب بلا توقّع أثر آخر.

نعم، التعبّد بكليهما ممّا لا يمكن؛ للعلم بمخالفة أحدهما للواقع، فلهذا يتساقطان بالتعارض. وهاهنا اُمور اُخر موكولة إلى محلّها.

ص: 113

الأمر السادس في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطريقي

اشارة

قوله: «الأمر السادس...»(13).

أقول: لا ينبغي الإشكال في عدم تفاوت القطع الطريقي عقلاً فيما له من الآثار العقلية من حيث الموارد والقاطع وأسباب حصوله، والتعرّض له ممّا لا طائل تحته، وما ظاهره المخالفة مؤوّل أو مطروح. إنّما الكلام في بعض الجهات التي تعرّض [لها] بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه على ما في تقريرات بحثه.

مقالة المحقّق النائيني في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد

قال في الجهة الاُولى ما حاصله: نسب إلى جملة من الأشاعرة(1) إنكار الحسن والقبح العقليين، وعدم دوران أحكام الشارع مدار المصالح والمفاسد، وأ نّه تعالى مقترح في أحكامه من دون مرجّح، ولا مانع من الترجيح بلا مرجّح، ولمّا كان هذا القول في غاية السقوط أعرض عنه المحقّقون منهم(2)، والتزموا

ص: 114


1- راجع شرح المواقف 8: 202 - 207؛ شرح المقاصد 4: 301 - 306؛ المحصول في علم اُصول الفقه 1: 48.
2- راجع المباحث المشرقية 1: 125 - 126، و2: 487.

بثبوت المصالح والمفاسد، لكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحّة تعلّق الأمر ببعض الأفراد وإن لم يكن لتلك الأفراد خصوصية، ويصحّ ترجيح بعض الأفراد بلا مرجّح على بعضها بعد ما كان مرجّح في أصل الطبيعة، ومثّلوا برغيفي الجائع وطريقي الهارب مع تساوي الطرفين، فإنّه لا إشكال في اختيار أحدهما من غير مرجّح أصلاً؛ لأنّ المفروض تساويهما من جميع الجهات.

قال الفاضل المقرّر - دام علاه - : إنّ شيخنا الاُستاذ يميل إلى هذا القول

بعض الميل، وهذا ليس بتلك المثابة من الفساد، ويمكن الالتزام به، ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد؛ لكفاية المصلحة النوعية في ذلك، وما لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد مطلقاً؛ لعدم معقولية الترجيح بلا مرجّح(1)، انتهى.

أقول: كما أنّ القول باقتراح الشارع الأحكام من غير مرجّح في غاية السقوط، كذلك القول باقتراح الخصوصية من غير مرجّح أيضاً في غاية السقوط، بل لا فرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة عند العقل أصلاً؛ فإنّ ملاكها هو تعلّق الإرادة - التي هي متساوية النسبة إلى الطرفين - بأحدهما من دون ملاك، الذي يرجع إلى وجود الممكن بلا علّة توجبه، وهو مساوق لخروج الممكن عن كونه ممكناً، وهو يساوق اجتماع النقيضين، وهذا الملاك متحقّق عيناً في ترجيح بعض الأفراد على بعض من غير مرجّح.

ص: 115


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 57 - 58.

وإن شئت قلت: إنّ استحالة الترجيح بلا مرجّح من الأحكام العقلية الغير القابلة للتخصيص، فلو فرضنا أنّ ملاك الحكم يكون في الطبيعة نفسها بلا دخالة لخصوصية الأفراد فيه، يكون نفس الطبيعة - بما هي - مأموراً بها، فاختصاص بعضها بالحكم والإيجاد أو الاختيار والبعث يكون من الترجيح بلا مرجّح والاختيار بلا ملاك. ومجرّد كون الطبيعة ذات ملاك لا يدفع استحالة التخصيص ببعض الأفراد بلا مرجّح وملاك؛ فإنّ كلّ ملاك لا يدعو إلاّ إلى نفسه، ولا معنى لدعوته إلى غيره.

وبالجملة: استحالة الترجيح بلا مرجّح المنتهي بالآخرة إلى الترجّح بلا مرجّح من ضروريات الأحكام العقلية أو المنتهية إليها، من غير افتراق بين مواردها أصلاً.

وأمّا الأمثلة الجزئية - التي لا تكون تحت ملاك برهاني وضابطة ميزانية - فلا تفيد شيئاً، ولا يدفع بمثلها البرهان الضروري، مع أنّ اختيار بعض التي [هي] مورد النقض في الأمثلة لا يكون بلا مرجّح، بل له مرجّحات خفيّة قد يغفل عن تفصيلها الفاعل أو الآمر؛ مثل كون أحدهما أسهل تناولاً؛ لكونه على يمينه أو توجّه النفس وتعلّق إدراكها بأحدهما أوّلاً، أو أكثر من الآخر بالعلل الخفيّة.

فلو قيل: نحن نفرض التساوي من جميع الجهات واقعاً وفي نظر الفاعل.

قلنا: فإذن يمتنع تعلّق الإرادة بأحدهما، وهذا الفرض مثل أن يقال: نحن نفرض تحقّق المعلول بلا علّة موجبة، أو تحقّق الإرادة من غير علّة وغاية، أو نفرض اجتماع النقيضين، وهذه مجرّد فروض لا واقع لها، وأوهام لا حقيقة لها.

وبالجملة: يرجع الترجيح بلا مرجّح في جميع الموارد إلى وجود الممكن

ص: 116

بلا علّة، وبطلانه من البديهيات الأوّلية، ولا فرق بين قول الأشاعرة الغير

المحقّقين والمحقّقين منهم لو وجد بينهم محقّق، ولو كان هذا الرأي والتفرقة أثر تحقيقهم، فهو - كما ترى - ليس فيه أثر تحقيق أصلاً.

ثمّ إنّه قد أورد في الجهة الاُولى من التقريرات كلاماً آخر ملخّصه: أنّ دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح ومفاسد في نفسها دون متعلّقاتها ضعيفة ولو إيجاباً جزئياً؛ فإنّ المصلحة في الأمر ممّا لا معنى لها، وإلاّ يلزم أن تتحقّق المصلحة بمجرّد الأمر بلا انتظار شيء آخر، والأوامر الامتحانية التي مثّلوا بها لذلك ليست كذلك؛ فإنّ المصلحة فيها قائمة بإظهار العبد الإطاعة، وهو لا يتحقّق إلاّ بالجري على وفق المأمور به، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر ؟ ! فتحصّل: أ نّه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات(1)، انتهى.

وكلامه هذا يرجع إلى دعاوٍ ثلاث:

الاُولى: عدم تصوّر كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي مطلقاً.

الثانية: كونهما مطلقاً في المتعلّقات دون غيرها.

الثالثة: المناقشة في الأمثلة التي مثّلوا بها وإرجاع المصلحة في الأوامر الامتحانية إلى المتعلّقات.

وفي كلّ من الدعاوي إشكال ونظر:

أمّا في الاُولى: فلأ نّه من الممكن أن تكون المصلحة في نفس الأمر، وتتحقّق

ص: 117


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 59.

بمجرّده بلا انتظار شيء آخر، وذلك مثل أن يكون غرض الآمر مجرّد إظهار الآمرية بلا غرض في المتعلّق ولا في إظهار العبد الإطاعة.

مثلاً: لو مرّ المولى على عدّة غلمان له، فتعلّق غرضه بمجرّد الآمرية والناهوية - فإنّهما بنفسهما لذيذان - فأمرهم ونهاهم بلا انتظار عمل منهم، فلا إشكال في كون المصلحة في نفس الأمر، لا في المتعلّق ولا في إظهار العبد الطاعة، ولهذا يسقط الغرض بمجرّد الأمر والنهي في مثله، ولعلّ بعض أوامر التقيّة من هذا القبيل؛ أي من قبيل كون المصلحة في نفس الأمر، كما لو كان في نفس إظهار الموافقة معهم مصلحة، فتأمّل.

وأمّا في الثانية: فلأ نّه لو فرضنا عدم معقولية كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي، فلا يلزم منه لزوم كونها في المتعلّقات؛ لإمكان كونها في أمر ثالث، لا في الأوامر ولا في متعلّقاتها؛ لعدم كون الانفصال على سبيل منع الخلوّ حتّى ينتج من نفي أحدهما إثبات الآخر، فإنّ الغرض الباعث للأمر قد يكون في المتعلّقات، وذلك ظاهر، وقد يكون في الأوامر كما عرفت، وقد يكون في أمر آخر غيرهما، كبعض أوامر التقيّة التي تكون المصلحة في إظهار الشيعة موافقتهم، لا في نفس المتعلّقات؛ فإنّ كون المصلحة في المتعلّق عبارة عن قيام المصلحة بنفسه أتى به المكلّف أو لم يأت به، وأمّا المصلحة إذا قامت بإظهار الموافقة مع العامّة فلا يكون في نفس المتعلّق مصلحة أصلاً، بل قد يكون فيه مفسدة، لكن لمّا كان في إظهار الموافقة لهم مصلحة غالبة، وهو قد يتوقّف على إتيان المتعلّق، فلا بدّ من الأمر به وإتيانه.

وبالجملة: لا يكون المتعلّق مصداقاً ذاتياً للمصلحة، بل قد يكون مصداقاً

ص: 118

عرضياً، والشاهد على ذلك: أ نّه لو أتى المكلّف بما يتوهّم العامّة موافقته لهم يسقط الغرض والأمر بلا إشكال، كما لو شرب ما يتوهّم أ نّه نبيذ، أو فعل ما يتوهّم منه التكتّف.

وبالجملة: ما اشتهر بينهم - أنّ المصلحة: إمّا في المتعلّق أو في الأمر - ممّا لا أصل له.

إلاّ أن يقال: إنّ المأمور به في الحقيقة في تلك الموارد هو ما قامت به المصلحة بالذات، فإذا تعلّق الأمر بشرب النبيذ يكون تعلّقاً عرضياً، والمتعلّق بالذات هو إظهار الموافقة معهم.

وهذا ليس بشيء؛ فإنّ الأغراض التي هي الغايات غير المتعلّقات، وإلاّ لزم أن تكون كلّ الأوامر والنواهي الإلهية متعلّقة بغير متعلّقاتها الحقيقية، وهو كما ترى.

وأمّا في الثالثة: فلأنّ الأوامر الامتحانية كما لا تكون المصلحة في نفسها، كذلك لا تكون في متعلّقاتها، بل قد تكون المصلحة في إتيان مقدّمات المأمور به بتوهّم كونها موصلة إليه، كما في قضيّة الخليل - سلام الله عليه - (1) وقد تكون في نفس إظهار العبودية بلا دخالة للمتعلّق أصلاً.

والعجب أ نّه قدّس سرّه مع اعترافه بأنّ المصلحة في الأوامر الامتحانية إنّما تكون في إظهار العبد الإطاعة والموافقة، استنتج منه أنّ المصالح فيها في نفس المتعلّقات، وهذا من قبيل اشتباه ما بالعرض بما بالذات، ويشبه أن يكون تناقضاً في المقال.

ص: 119


1- الصافّات (37): 102؛ التبيان في تفسير القرآن 8: 516 - 520.

الأمر السابع في العلم الإجمالي

اشارة

قوله: «الأمر السابع...»(14).

أقول: هاهنا مباحث كثيرة طويلة الذيل، بعضها راجع إلى ما نحن فيه، وبعضها إلى مباحث الاشتغال، ونحن نذكر بعضها على سبيل الإجمال:

أمّا ما هو راجع إلى ما نحن بصدده فالعمدة فيه هو مقامان:

أحدهما: ما هو راجع إلى مقام ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.

وثانيهما: ما هو راجع إلى مرحلة سقوطه به.

المقام الأوّل: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه

المطلب الأوّل: لا إشكال في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه كاشف عنه - سواء كان متعلّقه مجملاً مردّداً بين أمرين أو اُمور، أو مفصّلاً - وبعد كشف المتعلّق وإحرازه يصير موضوعاً لإطاعة المولى عقلاً إذا تعلّق بأمره أو نهيه، ولا شبهة

ص: 120

في أنّ الآتي بجميع أطراف الشبهة التحريمية والتارك لجميع أطراف الشبهة الوجوبية، حاله عند العقل كالآتي بالمحرّم المعلوم تفصيلاً، والتارك للواجب المعلوم كذلك، وإنكار ذلك مكابرة لضرورة حكم العقل.

وما قيل: من أنّ موضوع حكم العقل في باب المعصية ما إذا علم المكلّف حين إتيانه أ نّه معصية فارتكبه، والمرتكب لأطراف العلم الإجمالي لم يكن كذلك(1). يردّه العقل السليم، فإنّ العقل يحكم قطعاً بقبح مخالفة المولى، ويرى أنّ ارتكاب الجميع مخالفة قطعية له، ولا فرق في نظر العقل بين قتل ولد المولى بالسمّ المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، أو قتل ابن المولى المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، وهذا واضح لا سُترة عليه.

المطلب الثاني: لا شبهة في أ نّه كما يقبح عند العقل المخالفة القطعية، كذلك تجب الموافقة القطعية، لكنّ العقل يرى فرقاً بينهما؛ فإنّ المخالفة القطعية معصية لا يمكن الإذن فيها من المولى، لكنّ المخالفة الاحتمالية لم تكن معصية ويكون حكم العقل بالنسبة إليها بنحو الاقتضاء، لا العلّية التامّة؛ لوجود الشكّ والسترة في البين، فلو فرض الإذن من الشارع بارتكاب بعض الأطراف والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية لم يتحاش العقل منه كما يتحاشى من الإذن في المعصية، كما وقع في الشرعيات.

وما أفاد المحقّق الخراساني: من النقض بالشبهة الغير المحصورة تارةً - فإنّ الإذن في ارتكاب الجميع إذن في المخالفة القطعية - وبالشبهة البدوية اُخرى؛

ص: 121


1- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 75.

فإنّ احتمال المناقضة كالقطع بها مستحيل(1).

منظور فيه:

أمّا في الشبهة [الغير] المحصورة: فلعدم الإذن في جميع الأطراف؛ بحيث لو بنى المكلّف [على] إتيان جميعها وتكلّف بالإتيان كان مأذوناً فيه.

نعم، إتيان بعض الأطراف من حيث هو ممّا لا مانع منه؛ لضعف الاحتمال، فإنّ الميزان في الشبهة الغير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بحدّ لا يعتني العقلاء بوجود المحتمل في مورد الارتكاب، فكأنّ الأمارة العقلائية قامت عندهم على عدم كون الواقع فيه؛ لشدّة ضعف الاحتمال. ألا ترى أ نّه إذا كان ولدك العزيز في بلد مشتمل على مائة ألف نفس، وسمعت بهلاك نفس واحدة من أهل البلد فإنّك لا تفزع لاحتمال كون الهالك ولدك، ولو فزعت لكنت على خلاف المتعارف، وصرت مورداً للاعتراض، وهذا ليس من باب قصور في المعلوم كما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه فإنّ في المثال المذكور لم يكن الوالد الشفيق راضياً بهلاك ولده، بل لضعف الاحتمال لا يعتني به العقلاء والعقل.

وأمّا ما أفاد بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - في ميزان الشبهة الغير المحصورة وتضعيف هذا الوجه(2)،

فضعيف يأتي إن شاء الله وجهه في محلّه(3).

ص: 122


1- كفاية الاُصول: 313.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 116.
3- يأتي في الجزء الثاني: 222.

وأمّا النقض بالشبهة البدوية: فسيأتي(1) في بيان الجمع بين الحكم الواقعي

والظاهري من رفع إشكال التناقض والتضادّ، وما هو وجه الامتناع في المقام من الترخيص في المعصية ليس في الشبهة البدوية، كما لا يخفى.

المطلب الثالث: عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي

المطلب الثالث: قد علم ممّا مرّ وجه عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي. وقد قيل في وجه عدم جريانها وجوه اُخر ربّما تأتي في محلّها، ونكتفي هاهنا إجمالاً بذكر بعضها والخلل فيه:

منها: ما عن الشيخ رحمه الله علیه من أنّ شمول أدلّة الاُصول لجميع الأطراف مستلزم

للتناقض بين صدرها وذيلها، أمّا في الاستصحاب فلاشتمال دليله على قوله: «ولكن تنقضه بيقين مثله»(2)، فقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» إذا شمل الأطراف يناقض قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» فإنّ عدم النقض في الطرفين مع النقض في أحدهما الذي علم ارتفاع الحالة السابقة فيه متناقضان(3).

وفيه: أنّ قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» ليس حكماً شرعياً تعبّدياً ولا جعلاً، بل لا يمكن أن يكون جعلاً؛ فإنّه يرجع إلى جعل الاعتبار والحجّية للعلم، فإنّ اليقين السابق إذا انتقض بيقين مخالف له - أي تعلّق يقين بضدّ الحالة السابقة المعلومة - فلا يمكن عدم نقضه؛ لكون النقض من لوازم حجّية العلم، فلا يتعلّق به جعل إثباتاً ونفياً، فقوله: «ولكن تنقضه» ليس حكماً وجعلاً حتّى

ص: 123


1- يأتي في الصفحة 152 و 156.
2- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1، مع تفاوت يسير.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 409 - 410.

يناقض الصدر، بل هو لمجرّد بيان حدود الحكم الأوّل؛ أي عدم نقض اليقين بالشكّ إنّما يكون إلى أن يتبدّل اليقين بيقين مثله، وينتقض قهراً.

وثانياً: أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب أنّ المشكوك ما لم يصر معلوماً يكون موضوعاً لحكمه، ولازمه أن يتعلّق العلم بعين ما تعلّق به الشكّ، وفي العلم الإجمالي لم يكن كذلك.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن دعوى المناقضة في دليل أصالة الحلّ من قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(1)؛ فإنّ فيه أيضاً لم يكن جعلان، بل جعل واحد هو بيان وظيفة الشاكّ، وذكر الغاية لبيان حدود موضوع الحكم، وليس لجعل حكم آخر حتّى تأتي المناقضة.

نعم، لو كانت مناقضة في البين إنّما تكون مع الحكم الواقعي؛ فإنّ شمول الدليل لكلا المشتبهين ممّا يناقض الحكم الواقعي، وهذا - بما أ نّه إذن في المعصية ومستلزم للمخالفة القطعية - موجب لرفع اليد عن جريان الاُصول في الأطراف، ومع قطع النظر عن ذلك لا محذور فيه من قِبل المناقضة، كما سيأتي في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، والمحذورات الاُخر مرتفعة بما سيأتي في ذلك المقام(2).

هذا، وأمّا ما أفاد بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بعض الأفاضل رحمه الله علیه - في جواب الشيخ قدّس سرّه : من أنّ مناقضة الصدر للذيل على تقدير

ص: 124


1- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4، مع تفاوت يسير.
2- يأتي في الصفحة 152 و 156.

تسليمه إنّما يختصّ ببعض أخبار الاستصحاب الذي اشتمل على الذيل(1).

ففيه ما لا يخفى؛ فإنّه بعد حمل الأخبار بعضها على بعض تتحقّق المناقضة في الحكم المجعول. مع أنّ تحقّق المناقضة في بعض الأخبار يكفي في المحذور والامتناع.

ومنها: ما أفاد المحقّق المتقدّم - على ما في تقريرات بحثه - من التفصيل بين الاُصول التنزيلية وغيرها، بعدم الجريان فيها، لزم منه المخالفة القطعية أم لا، وفي غيرها إذا لزمت، وأدرج الاستصحاب في سلكها.

قال في بيان ذلك: إنّ المجعول في الاُصول التنزيلية إنّما هو البناء العملي،

والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أ نّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع؛ فإنّ الظاهر من قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو البناء العملي على بقاء المتيقّن، وتنزيل حال الشكّ منزلة حال اليقين والإحراز، فلا يمكن مثل هذا الجعل في جميع الأطراف؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضادّه، ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبّداً ؟ ! فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف(2)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ مفاد قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو عدم النقض العملي؛ أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشكّ عملاً والجري العملي على طبق اليقين

ص: 125


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 22 - 23.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 14.

السابق، بلا تعرّض للبناء على أ نّه هو الواقع، فليس للكبرى المجعولة في الاستصحاب إلاّ مفاد واحد، وهو إمّا إبقاء اليقين وإطالة عمره تعبّداً، وإمّا البناء

العملي على بقاء اليقين السابق، وليس معناه إلاّ العمل على طبق الحالة السابقة أو اليقين السابق والجري العملي على طبقه، وأمّا التعرّض للبناء على أ نّه هو الواقع فليس في أدلّته ما يستشمّ منه ذلك أصلاً. نعم، إنّه دائر على ألسنة أهل العلم من غير دليل يدلّ عليه.

فتحصّل من ذلك: أنّ الاستصحاب أصل عملي مفاده الجري العملي على طبق الحالة السابقة.

وأمّا تقدّمه على بعض الاُصول العملية - كأصالة الحلّ والبراءة والطهارة

- فلا يتوقّف على كونه من الاُصول المحرزة التنزيلية، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله (1).

فإذا كان مفاده هو الجري العملي على طبق الحالة السابقة ترتفع المنافاة

بينه وبين الإحراز الوجداني بالخلاف، وليس عدم الجريان لقصور في المجعول، كما أفاد رحمه الله علیه (2).

وثانياً: أ نّه لو سلّم أنّ مفاد الاستصحاب هو البناء العملي على أ نّه هو الواقع، فمنافاة الإحراز التعبّدي مع الوجداني في محلّ المنع؛ فإنّ للشارع أن يأمر بالتعبّد بوجود ما ليس بموجود واقعاً، وبعدم ما ليس بمعدوم واقعاً، كما أنّ له الأمر بالتعبّد بوجود العرض بلا موضوع، وبوجود المعلول بلا علّة،

ص: 126


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 276.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 16.

وبوجود أحد المتلازمين بلا متلازم آخر.

نعم، لا يمكن تعلّق الإحراز التعبّدي بشيء ونقيضه، كما أ نّه لا يمكن تعلّق الإحراز الوجداني بشيء ونقيضه، لكن لا مناقضة بين الإحراز الوجداني والتعبّدي.

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي

المقام الثاني في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي والموافقة على سبيل الإجمال والاحتياط

فاعلم: أ نّه لا إشكال في التكاليف التوصّلية وحصول الغرض وسقوط الأمر بالاحتياط، لزم منه تكرار جملة العمل أو لا، حتّى مع اللعب بأمر المولى؛ فإنّه وإن كان الاحتياط على هذا الوجه قبيحاً، لكن يحصل الغرض ويسقط الأمر به.

وأمّا في التعبّديات: ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقاً، أو مع عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي، أو عدم حسنه مطلقاً، أو التفصيل بين لزوم التكرار وعدمه، وجوه.

وقبل الخوض في المقام لا بدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام

قد حقّق في مبحث التعبّدي والتوصّلي جواز أخذ ما يأتي من قبل الأمر في المأمور به، کقصد التقرب و الأمر وأمثالهما، وعدم المحذور فیه لا من ناحیة

ص: 127

تعلّق الأمر، ولا من ناحية إتيان المأمور به، خلافاً للشيخ العلاّمة الأنصاري(1) وبعض الأعاظم المتأخّرين عنه(2)، وقد أشبعنا الكلام في ذلك المبحث(3) فلا نطيل بتكراره.

ثمّ إنّ اعتبار قصد الوجوب ووجهه وتميّزه عقلاً في العبادات ممّا لا وجه له

بلا إشكال؛ فإنّ الإطاعة عند العقل ليست إلاّ الانبعاث ببعث المولى والإتيان للتقرّب به لو كان المأمور به تعبّدياً، والعلم بأصل بعث المولى بل احتماله يكفي في تحقّق الطاعة، وأمّا العلم بمرتبة الطلب؛ من الوجوب والاستحباب ووجه الإيجاب أو الاستحباب والتميّز ممّا لا دخل له فيها أصلاً بحسب حكم العقل، فلو اعتبر أمثال ذلك فيها يكون بدليل شرعي من القيود الشرعية، واعتبارها شرعاً أيضاً ممّا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، ولو وصلت النوبة إلى الشكّ فأصالة الإطلاق - لو كان إطلاق في الدليل - ترفعه، وإلاّ فالأصل العملي يقتضي البراءة، كما لا يخفى.

ولو بنينا على لزوم تعلّق الطلب - على تقدير التعبّدية - بذات الفعل مع أخصّية الغرض كما قيل(4)،

لأمكن أيضاً التمسّك بالإطلاق المقامي لرفع الشكّ؛ فإنّ الغرض إذا تعلّق بالأخصّ من المأمور به فللشارع بيانه ولو بدليل منفصل لئلاّ يلزم نقض غرضه، كما أنّ التمسّك بالبراءة ممّا لا مانع منه.

ص: 128


1- مطارح الأنظار 1: 302.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 149.
3- راجع مناهج الوصول 1: 201.
4- مطارح الأنظار 1: 305.

وأمّا ما نقل شيخنا العلاّمة الحائري قدّس سرّه عن سيّده الاُستاذ - طاب ثراه - بقوله: ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصّلية من دون الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة بوجه آخر وهو: أنّ الهيئة عرفاً تدلّ على أنّ متعلّقها تمام المقصود؛ إذ لولا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيداً لغرض آخر، وهو خلاف ظاهر الأمر(1).

ففيه: أنّ هذا - على فرض التسليم - يتمّ في القيود التي يمكن أخذها في المتعلّق، وأمّا القيود التي لا يمكن أخذها فيه فلا معنى للتمسّك بالظهور العرفي، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه نقل عن العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه عدم جواز التمسّك بإطلاق اللفظ لرفع القيود المشكوكة(2)، وكذا عدم إمكان إجراء أصالة البراءة(3) بناءً على تعلّق الطلب في التعبّديات بذات الفعل مع أخصّية الغرض:

أمّا الأوّل: فلأنّ القيد غير دخيل في المتعلّق، وحدوده معلومة، فلا شكّ حتّى يتمسّك بالأصل، إنّما الكلام في أخصّية الغرض من المأمور به.

وأمّا الثاني: فلأنّ الغرض المحدث للأمر إذا لم يعلم حصوله شكّ في سقوط الأمر المعلول له، ومعه فالأصل الاشتغال(4).

ويرد على الأوّل منهما: ما ذكرنا من جواز التمسّك بالإطلاق المقامي.

ص: 129


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 102.
2- مطارح الأنظار 1: 302.
3- مطارح الأنظار 1: 305.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 101.

وعلى الثاني منهما: أنّ العقل يستقلّ بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه، وأمّا لزوم العلم بأغراضه وسقوطها فلا يحكم به العقل، ولا موجب له أصلاً، بل يكون من قبيل «اسكتوا عمّا سكت الله»(1)

فلو أتى المكلّف بجميع ما هو دخيل في المأمور به فلا إشكال في الإجزاء وسقوط الأمر، فلو فرضنا أنّ للمولى غرضاً لم يحصل إلاّ بالإتيان بكيفية اُخرى كان عليه البيان، ولا حجّة له على العبد، مع أنّ العلم بحصول الغرض وسقوطه ممّا لا يمكن لنا؛ فإنّه ليس لنا طريق إلى العلم به، كما هو واضح.

نقل كلام العلاّمة الحائري ووجوه النظر فيه

تنبيه: قد رجع شيخنا العلاّمة في أواخر عمره عن أصالة التوصّلية في الأوامر إلى أصالة التعبّدية، وتوضيحه - على ما أفاد في مجلس بحثه - يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أنّ متعلّق الأوامر هو الطبيعة القابلة للوحدة والكثرة الجامعة للصرف وغيره، لا صِرف الوجود الذي يحتاج إلى اعتبار زائد عن أصل الطبيعة، والدليل عليه أنّ صيغ الأوامر مركّبة من هيئة هي تدلّ على نفس البعث والإغراء، ومادّة هي نفس الطبيعة اللا بشرط التي هي المقسم للواحد والكثير.

الثانية: أنّ العلل التشريعية - ومنها الأوامر الشرعية - كالعلل التكوينية حذو النعل بالنعل، فكما أنّ وحدة العلّة في التكوينيات تقتضي وحدة المعلول، وكثرتها كثرته - فالنار الواحدة تؤثّر في إحراق واحد، والنيران الكثيرة في

ص: 130


1- الخلاف 1: 117.

الإحراقات الكثيرة - فكذلك وحدة العلّة في التشريعيات تقتضي وحدة المعلول، وكثرتها كثرته.

وبهذا يظهر السرّ في عدم دلالة الأوامر على التكرار؛ لأنّ الأمر الواحد لا يقتضي إلاّ المعلول الواحد، لا لأنّ الطبيعة لا تتكثّر، بل لعدم اقتضاء الكثرة فيها، ويبتني على هذين الأصلين فروع كثيرة: منها عدم تداخل الأسباب، ومنها اقتضاء الأمر الفورية.

الثالثة: - وهي العمدة في الباب - أنّ القيود اللبّية قد يمكن أن تؤخذ في المأمور به على نحو القيدية اللحاظية، كالإيمان والكفر للرقبة، والطهور والستر في الصلاة، وقد لا يمكن أن تؤخذ بنحو اللحاظ، كقيد الإيصال في المقدّمة على تقدير وجوبها؛ فإنّ المطلقة منها غير واجبة، والتقيّد بالإيصال غير ممكن، فليس فيها الإطلاق ولا التقييد، ولكن لا تنطبق إلاّ على المقيّدة، كالعلل التكوينية، فإنّ تأثيرها ليس في المهية المطلقة، ولا المقيّدة بقيد المتأثّرة من قبلها، بل في المهية التي لا تنطبق إلاّ على المقيّدة بهذا القيد، فالنار إنّما تؤثّر في الطبيعة المحترقة من قبلها واقعاً، لا المطلقة ولا المقيّدة، ومن هذا القبيل العلل التشريعية؛ فإنّها أيضاً تحرّك العبد نحو الطبيعة المتقيّدة لبّاً بتحريكها إيّاه نحوها،

لا المطلقة ولا المقيّدة بالتقيّد اللحاظي.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الطبيعة لمّا كانت قابلة للتكرار والكثرة، فإذا أثّرت فيها العلل المتكثّرة تتكثّر لا محالة باقتضائها، فإذا أوجد المكلّف فرداً من الطبيعة بغير داعوية الأمر لم يأت بالمأمور به وإن أتى بالطبيعة؛ فإنّ المأمور به هو الطبيعة المتقيّدة لبّاً بتحرّك المكلّف نحوها بداعوية الأمر وباعثيته، فما لم

ص: 131

ينبعث بباعثيته لم يأت بالطبيعة المأمور بها، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي

في الأوامر هو التعبّدية والتحرّك بداعوية الأمر، انتهى ملخّص ما أفاده قدّس سرّه .

وفيه أوّلاً: أنّ قياس العلل التشريعية بالعلل التكوينية مع الفارق؛ فإنّ العلل التكوينية يكون تشخّص معلولاتها بها؛ فإنّ المعلول صرف التعلّق ومحض الربط بعلّته، وليس له تحقّق قبل تحقّق علّته.

وأمّا الأوامر المتعلّقة بالطبائع الباعثة نحو العمل لا تتعلّق بها إلاّ بعد تصوّرها والعلم بها والاشتياق إليها والإرادة لتحقّقها، فلا بدّ لها من التحقّق في الرتبة السابقة على الأمر، فلو كان لقيد - أيّ قيد كان - دخالة في تحصّل الغرض لا بدّ من تقييد الموضوع به ولو ببيان آخر.

وأمّا التقييدات الآتية من قِبل الأمر خارجاً فلا يمكن أن يكون الأمر

باعثاً نحوها؛ للزوم كون الأمر باعثاً إلى باعثية نفسه أو ما هو متأخّر عنه وجوداً، تأمّل(1).

وثانياً: أنّ ما أفاده في التقييدات اللبّية في المعلولات التكوينية والتشريعية ممّا لا يستنتج منه ما هو بصدده؛ فإنّ النار مثلاً إذا أحرقت طبيعة، فهاهنا اُمور ثلاثة: النار والإحراق المتعلّق بها ومتعلّق الإحراق؛ أي الطبيعة، والإحراق المتعلّق بالنار يكون هوية تعلّقية ومتشخّصة بتشخّصها، ولا إطلاق للإحراق الحاصل من النار الشخصية، والنار توجد الإحراق الذي من قبلها لبّاً وواقعاً،

ص: 132


1- فإنّه على ما أشرنا إليه يمكن أن تؤخذ هذه القيود أيضاً في المتعلّق من دون محذور أصلاً، كما حقّق في محلّهأ. [منه قدّس سرّه ] أ - مناهج الوصول 1: 209.

وأمّا القطن المتعلّق للإحراق فلا يكون قطناً مقيّداً بها أو بالإحراق حتّى تكون النار مؤثّرة في القطن المحترق من قبلها، بل ينتزع منه بعد التأثير هذا العنوان، فيكون التقيّد بنفس التأثير، فالنار تحرق القطن، لا القطن المحترق من قبلها.

فهكذا الأمر، والبعث الحاصل منه، ومتعلّق البعث؛ أي المبعوث إليه، فالبعث وإن كان من قبل الأمر - ويكون تحصّله وتشخّصه به - لكنّ المتعلّق لا يكون مقيّداً به حتّى يكون البعث إلى الطبيعة المقيّدة، فما تعلّق به البعث ويكون الأمر داعياً إليه هو الطبيعة، وبعد تحقّق البعث وتعلّقه بها ينتزع منها أ نّها معنونة بعنوان

المبعوث إليها.

وبعبارة اُخرى: الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، وهو لا يكون إلاّ الطبيعة لا بشرط شيء، لا المطلقة ولا المقيّدة لبّاً أو لحاظاً، كما اعترف قدّس سرّه به في

المقدّمة الاُولى، وبعد تعلّق الأمر وتوجّه الدعوة إليها تصير مقيّدة بتعلّق الأمر والبعث إليها، فمفاد الهيئة البعث إلى المادّة التي هي لا بشرط شيء.

وثالثاً: أنّ ما أفاده رحمه الله علیه - من أنّ الأمر الواحد إذا تعلّق بالطبيعة يقتضي المعلول الواحد، والأوامر الكثيرة تقتضي المعلولات الكثيرة كالعلل التكوينية - منظور فيه؛ فإنّ المعاليل التكوينية لمّا كان تشخّصها بتشخّص العلل، لا محالة يكون تكثّرها بتكثّر عللها أيضاً، وهذا بخلاف الأوامر؛ فإنّها لا تتعلّق بالطبائع ولا تصير باعثة إليها إلاّ بعد تصوّر المولى إيّاها وتعلّق اشتياقه بها وانبعاث إرادته نحوها، فيأمر بإيجادها ويحرّك العبد نحوها، فتقدير الطبيعة المأمور بها وتشخّصها الذهني يكون سابقاً على تعلّق الأمر وعلى الإرادة التي هي مبدؤه، ولا يمكن أن تكون الطبيعة - بما هي أمر وحداني ومتصوّر فرداني - متعلّقة

ص: 133

لإرادتين، ولا لبعثين مستقلّين تأسيسيين، ولو تعلّق بها ألف أمر لا يفيد

إلاّ تأكيداً.

وإن شئت قلت: إنّ تكثّر المعلول التكويني بعلّته، ولكن تكثّر الإرادة والأمر التأسيسي بتكثّر المراد.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ أصالة التعبّدية لا تستنتج من تلك المقدّمات الممهّدة.

الأمر الثاني: تصرّف الشارع في كيفية الإطاعة

لا إشكال في أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل، وهل للشارع التصرّف في كيفية الإطاعة بعد استقلال العقل بها، أم لا ؟

قال بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - : له ذلك، والقول بأ نّه ليس للشارع التصرّف في كيفية الإطاعة بمعزل عن الصواب؛ لوضوح أنّ حكم العقل في باب الطاعة إنّما هو لأجل رعاية امتثال أوامره، فله التصرّف في كيفية إطاعتها زائداً عمّا يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء؛ حيث قامت الأدلّة على اعتبار خُلوّ العبادة عن أدنى شائبة الرياء، مع أنّ العقل لا يستقلّ به، وله أيضاً الاكتفاء في امتثال أوامره بما لا يكتفي به العقل، كما في قاعدة الفراغ(1)، انتهى ملخّصه.

وفيه: أ نّه من الواضح الضروري أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يفيد الإجزاء ويسقط الأمر، ولا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بكلّ ما هو دخيل في المأمور به، فإن رجع التصرّف في كيفية الإطاعة إلى تقييد المأمور به - كما أنّ

ص: 134


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 68.

الأمر كذلك في باب الرياء؛ ضرورة تقيّد العبادة بالإخلاص عن جميع مراتب الرياء - فهو خارج عن التصرّف في كيفية الإطاعة وراجع إلى التصرّف في المأمور به، وإن رجع إلى التصرّف في كيفية الإطاعة بلا تقييد في ناحية المأمور به، فليس له ذلك؛ فإنّه مخالف صريح حكم العقل، وتصرّف فيما يستقلّ به، والظاهر وقوع الخلط بين التصرّفين كما يظهر من مثاله.

وأمّا قضيّة قاعدة الفراغ والتجاوز وأمثالهما، فلا بدّ من الالتزام بتقبّل الناقص بدل الكامل، ورفع اليد عن التكليف هو لمصلحة التسهيل وغيرها، وإلاّ فمع بقاء الأمر والمأمور به على حالهما لا يعقل جعل مثل تلك القواعد، ففيها أيضاً يرجع التصرّف إلى المأمور به، لا إلى كيفية الإطاعة.

ثمّ إنّه لو استقلّ العقل بشيء في كيفية الإطاعة فهو، وإلاّ - أي إذا شكّ في حصولها - فالمرجع أصالة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ راجع إلى مرحلة سقوط التكليف بعد العلم بثبوته وحدوده.

وأمّا ما في تقريرات المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه من أنّ نكتة الاشتغال فيه هو رجوع الشكّ إلى التعيين والتخيير(1)، فهو تبعيد المسافة، مع أنّ الشكّ في التعيين والتخيير ليس بنحو الإطلاق مجرى الاشتغال، بل فيه تفصيل موكول إلى محلّه(2).

وبالجملة: ميزان البراءة والاشتغال هو رجوع الشكّ إلى مرحلة الثبوت والسقوط، والشكّ في التعيين والتخيير أيضاً لا بدّ وأن يرجع إلى ذلك الميزان.

والعجب أنّ الفاضل المقرّر رحمه الله علیه ذيّل كلامه في المقام بقوله: سيأتي في مبحث

ص: 135


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 68 - 69.
2- يأتي في الجزء الثاني: 148.

الاشتغال أنّ اعتبار الامتثال التفصيلي لا بدّ وأن يرجع إلى تقييد العبادة به شرعاً ولو بنتيجة التقييد، ولكن مع ذلك: الأصل الجاري فيه عند الشكّ هو الاشتغال؛ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير(1)، انتهى.

فكأ نّه ورد نصّ - في باب التعيين والتخيير - بأنّ الأصل فيه هو الاشتغال، وإلاّ فمع كون اعتبار الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية لا وجه لأصل الاشتغال؛ فإنّ الشكّ يرجع إلى مرحلة ثبوت التكليف لا سقوطه؛ فإنّه لو كان القيد شرعياً لا بدّ وأن يكون العقل - مع قطع النظر عنه - يحكم بكفاية الامتثال الإجمالي، ولكن مع التقييد الشرعي في المأمور به يحكم بلزوم الإطاعة التفصيلية، فإذا شكّ في التقييد يكون شكّه في ثبوت تكليف زائد، والأصل فيه البراءة.

بل لنا أن نقول: إنّ الشكّ فيه راجع إلى الأقلّ والأكثر، لا التعيين والتخيير؛ لأنّ أصل الامتثال الأعمّ من الإجمالي والتفصيلي ثابت، والشكّ إنّما هو في القيد الزائد؛ أي تفصيلية الإطاعة.

هذا كلّه مع الغضّ عمّا يرد على أصل كلامه - كما أسلفناه(2)

- من أنّ تقييد المأمور به بالعلم بالوجوب لحاظياً أو لبّياً ممّا لا يعقل، ويلزم منه الدور المستحيل، ونتيجة التقييد إن رجعت إلى القيد اللبّي - حتّى يكون الواجب ما علم وجوبه - يرد عليه الدور، وإن لم ترجع إليه - لا لحاظياً ولا لبّياً - فلا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلّقه مع جميع ما يعتبر فيه.

ص: 136


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 69، الهامش 1.
2- تقدّم في الصفحة 61.

الأمر الثالث: في مراتب الامتثال

لا إشكال في أنّ مراتب الامتثال أربع: الاُولى: الامتثال التفصيلي الوجداني، الثانية: الامتثال الإجمالي، الثالثة: الامتثال الظنّي، الرابعة: الامتثال الاحتمالي.

لكن الإشكال في اُمور:

الأمر الأوّل: بناءً على لزوم الامتثال التفصيلي هل الامتثال بالطرق والأمارات والاُصول المحرزة يكون في عرض الامتثال التفصيلي الوجداني، أم لا، أو التفصيل بينها ؟

والمسألة مبتنية على حدّ دلالة أدلّتها، فإن دلّت على اعتبارها مطلقاً - مع التمكّن من العلم وعدمه - فيتّبع، وإلاّ فبمقدار دلالتها.

فنقول: إنّ دليل اعتبار الأمارات - كما ذكرنا سابقاً (1) - هو البناء العقلائي وسيرة العقلاء، وليس للشارع حكم تأسيسي نوعاً في مواردها، وحينئذٍ لا بدّ من النظر في السيرة العقلائية والأخذ بالمتيقّن مع الشكّ فيها، كما أنّ الأمر كذلك في كلّية الأدلّة اللبّية.

والظاهر أ نّه لا إشكال في تعميم سيرة العقلاء في أصالة الصحّة، واليد، والأخذ بالظهور؛ فإنّ بناء العقلاء على العمل بها حتّى مع التمكّن من العلم، فتراهم يتعاملون مع صاحب اليد معاملة المالكية، ومع معاملاتهم معاملة الصحّة، ويعملون مع الظاهر معاملة المنكشف العلمي، تمكّنوا من العلم أو لا.

وخبر الثقة أيضاً لا يبعد أن يكون كذلك، وإن كان في النفس منه شيء .

ص: 137


1- تقدّم في الصفحة 70.

وأمّا الاستصحاب - سواء قلنا: إنّه أصل أو أمارة - فلا إشكال في إطلاق أدلّته، كما أ نّه لا إشكال في قاعدة الفراغ والتجاوز والشكّ بعد الوقت؛ فإنّها جعلت في موارد إمكان العلم التفصيلي ولو بالإعادة، تأمّل.

وأمّا الظنّ على الكشف فليس في عرض العلم، لا لأنّ اعتباره موقوف على انسداد باب العلم حتّى يقال: إنّ المراد بالانسداد انسداد معظم الأحكام، فلا ينافي إمكان العلم بالنسبة إلى بعضها، بل لقصور مقدّمات الانسداد عن كشف اعتباره مطلقاً حتّى مع التمكّن من العلم أو طريق شرعي معتبر.

فما في تقريرات بعض الأعاظم رحمه الله علیه من عرضيته له(1)، ممّا لا يصغى إليه.

الأمر الثاني: لا مجال للاحتياط مع العلم الوجداني، وأمّا مع قيام الظنّ الخاصّ فله مجال؛ لبقاء الاحتمال الوجداني، وهذا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّ اللازم هو الإتيان أوّلاً بمقتضى الظنّ الخاصّ ثمّ العمل بمقتضى الاحتياط فيما يلزم منه التكرار، أو يتخيّر في التقديم والتأخير بينهما ؟

اختار أوّلهما بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - ونَسب(2) ذلك إلى العَلَمين الشيخ الأنصاري والسيّد الشيرازي(3) واستدلّ له بأمرين:

أحدهما: أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملاً وعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء

ص: 138


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 70 - 71.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 71 - 72.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 75 - 76؛ تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي 3: 346.

احتمال الخلاف؛ فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف.

وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق؛ فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفة، وعمل بما يقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط؛ لرعاية إصابة الواقع.

الثاني: أ نّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكّن من الطاعة التفصيلية، وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلّف متمكّناً من الامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر(1)، انتهى.

ويرد على الأوّل منهما: أنّ مقتضى أدلّة حجّية الأمارات هو لزوم العمل على طبقها وجواز الاكتفاء بها، لا عدم جواز الاحتياط والإتيان بشيء آخر باحتمال إصابة الواقع، ولو كان مفادها عدم جواز الاعتناء باحتمال المخالف مطلقاً، فلا فرق بين الاعتناء قبل العمل وبعده؛ فإنّ الإتيان على طبق الاحتمال عين الاعتناء به مطلقاً.

والحقّ: أنّ العمل بالاحتياط لا ينافي أدلّة اعتبار الأمارات، والمكلّف مخيّر في تقديم الإتيان بأ يّهما شاء.

وعلى الثاني: - مضافاً إلى ما أورد عليه الفاضل المقرّر رحمه الله علیه (2): من عدم إمكان الإطاعة التفصيلية في المقام؛ فإنّ الإتيان بالظهر على أيّ حال إنّما يكون بداعي الاحتمال، والتمكّن من الإطاعة التفصيلية في صلاة الجمعة لا يوجب التمكّن

ص: 139


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4:265 - 266.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 265، الهامش 2.

منها في صلاة الظهر، فالمقام أجنبيّ عن مسألة اعتبار الامتثال التفصيلي - ما

سيأتي من منع تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي، ووقوع الخلط في المسألة(1)، فانتظر.

فاتّضح من ذلك جواز تقديم العمل على مقتضى الاحتياط، ثمّ العمل على مقتضى الأمارة.

الأمر الثالث: هل الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي، فمع التمكّن من التفصيلي يجوز الاكتفاء بالإجمالي، أم رتبته متأخّرة عنه ؟

ذهب بعضهم إلى الثاني فيما يلزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة العمل - وتبعه فيه بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه على ما في تقريراته(2) - واستدلّ عليه:

بأنّ تكرار العمل لعب بأمر المولى(3)، وفيه ما لا يخفى.

واُخرى بما فصّله المحقّق المعاصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - بما حاصله: أنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون المحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق؛ فإنّ الداعي في كلّ واحد من الطرفين هو احتمال الأمر، فالانبعاث إنّما يكون عن احتمال البعث، وهذا أيضاً نحو من الإطاعة، إلاّ أنّ رتبته متأخّرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف: أنّ مدّعي القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع

ص: 140


1- يأتي في الصفحة 143.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72 - 73.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 409.

التمكّن في الشبهات الموضوعية والحكمية لا يكون مجازفاً، ومع الشكّ يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال(1).

وربّما يظهر منه في المقام - ونقل عنه الفاضل المقرّر رحمه الله علیه - أنّ اعتبار الامتثال التفصيلي، من القيود الشرعية ولو بنتيجة التقييد(2)، هذا.

وفيه: أ نّه أمّا دعوى كون الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية - على فرض إمكان اعتباره شرعاً بنتيجة التقييد - فهو ممّا لا دليل عليه تعبّداً، والإجماع المدّعى(3) في المقام ممّا لا اعتبار لمحصّله فضلاً عن منقوله؛ لأنّ المسألة عقلية ربّما يكون المستند فيها هو الحكم العقلي لا غير، فالعمدة هو الرجوع إلى العقل الحاكم في باب الطاعات.

فنقول: إنّ الآتي بالمأمور به مع جميع قيوده وشرائطه بقصد إطاعة أمره ولو احتمالاً يكون عمله صحيحاً عقلاً، ولو لم يعلم حين الإتيان أنّ ما أتى به هو المأمور به؛ فإنّ العلم طريق إلى حصول المطلوب، لا أ نّه دخيل فيه.

ودعوى كون العلم التفصيلي دخيلاً في حصول المطلوب وتحقّق الطاعة، ممنوعة جدّاً؛ فإنّ العقل كما يحكم بصحّة عمل من صلّى الجمعة مع علمه بوجوبها تفصيلاً، يحكم بها لمن صلّى الجمعة والظهر بقصد طاعة المولى مع علمه بوجوب أحدهما إجمالاً، بلا افتراق بينهما ولا تقدّم رتبة أحدهما على الآخر.

فدعوى لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم تفصيلاً خالية عن الشاهد، بل

ص: 141


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 73.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 69، الهامش 1.
3- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 71 - 72، و25: 409 - 410.

العقل شاهد على خلافها، ولا شبهة في هذا الحكم العقلي أصلاً، فلا تصل النوبة إلى الشكّ.

بل لنا أن نقول: لو بنينا على لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم يكون الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي عن البعث المعلوم؛ فإنّ البعث فيها معلوم تفصيلاً، والإجمال إنّما يكون في المتعلّق، ودعوى لزوم تميّز المتعلّق وتعيّنه في حصول الإطاعة ممنوعة جدّاً.

هذا كلّه فيما إذا لزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة العمل.

وأمّا إذا لم يلزم منه ذلك فقد اعترف العلاّمة المعاصر - على ما في تقريرات

بحثه - بعدم وجوب إزالة الشبهة وإن تمكّن منها؛ لإمكان قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل؛ للعلم بتعلّق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك، إلاّ إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء، وهو ضعيف(1).

وفيه: أ نّه - بعد البناء على أنّ الإطاعة عبارة عن الانبعاث عن البعث المعلوم تفصيلاً مع التمكّن، ولا تتحقّق مع احتمال البعث - لا بدّ من الالتزام بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الأجزاء أيضاً؛ فإنّ الأجزاء وإن لم تكن متعلّقة للأمر مستقلاًّ، لكنّ الانبعاث نحوها لا بدّ وأن يكون بواسطة بعث المولى المتعلّق بها ضمناً، فما لم يعلم أنّ السورة مثلاً جزء للواجب لا يمكن أن يصير الأمر المتعلّق بالطبيعة باعثاً إليها، فلا يكون الانبعاث عن البعث، بل عن احتماله.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ الإتيان بأجزاء الواجب التعبّدي لا بدّ وأن يكون بنحو الإطاعة، والبعث نحو الأجزاء وإن كان بعين البعث نحو الطبيعة،

ص: 142


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 74.

لكن لا يمكن ذلك إلاّ مع العلم بالجزئية.

هذا على مسلكه قدّس سرّه . وأمّا على مسلكنا فالأمر سهل.

الأمر الرابع: أ نّه بعد ما عرفت مراتب الامتثال، فهل يجوز الامتثال الظنّي بالظنّ الغير المعتبر والاحتمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي، أم لا ؟

قال المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - : لا إشكال في أ نّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّ بعد تعذّر الامتثال الظنّي، ولا تصل النوبة إلى

الامتثال الظنّي إلاّ بعد تعذّر الامتثال الإجمالي(1)، انتهى.

والظاهر وقوع الخلط في كلامه قدّس سرّه بين جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أو الظنّي في أطراف العلم الإجمالي مع التمكّن من الموافقة القطعية، وبين المبحوث عنه فيما نحن فيه؛ فإنّ البحث هاهنا غير البحث عن لزوم الموافقة القطعية في أطراف العلم الإجمالي. فما أفاده - من عدم الإشكال في تقدّم الامتثال الظنّي على الاحتمالي، وفي تقدّم العلمي الإجمالي على الظنّي مع التمكّن - أجنبيّ عن المقام؛ فإنّ المبحوث عنه في المقام هو أ نّه هل يعتبر العلم التفصيلي بالأمر في العبادات مع الإمكان، أم تصحّ العبادة مع الاحتمال أو الظنّ ؟

فلو فرضنا إتيان أحد أطراف العلم الإجمالي باحتمال كونه مأموراً به، أو إتيان المحتمل البدوي، ثمّ تبيّن مصادفته للواقع، فهل يصحّ ويجزي عن التعبّد به ثانياً، أم لا ؟ فمن اعتبر الامتثال التفصيلي يحكم بالإعادة وعدم الإجزاء.

والتحقيق: هو الصحّة مع الامتثال الاحتمالي حتّى مع التمكّن من الامتثال العلمي الوجداني التفصيلي فضلاً عن غيره؛ وذلك لما عرفت من أنّ الإتيان

ص: 143


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72.

بالمأمور به على وجهه للتوصّل به إلى مطلوب المولى يفيد الإجزاء، والانبعاث

باحتمال البعث إطاعة حقيقة لو صادف المأتي به الواقع، خصوصاً في أطراف العلم الإجمالي. ودعوى لزوم العلم بالبعث في صدق الإطاعة ممنوعة.

نعم، مع الانبعاث باحتمال البعث يكون تحقّق الطاعة محتملاً؛ فإنّ المأتيّ به لو كان هو المأمور به يكون طاعة، وإلاّ انقياداً، ولا يعتبر في الطاعة أكثر من ذلك عند العقل، واعتبار شيء آخر زائد عمّا يعتبره العقل إنّما يكون بتقييد شرعي مدفوع بالإطلاق أو الأصل.

وهاهنا تفصيل منقول عن سيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدّس سرّه وهو الحكم

بفساد العبادة لو لم يكن قاصداً للامتثال على نحو الإطلاق في الواجبات؛ للتأمّل في صدق الإطاعة عرفاً على فعل من يقتصر على بعض المحتملات؛ لكون القصد فيها مشوباً بالتجرّي، وهذا موجب للتردّد في صدق الإطاعة. هذا في الواجبات. وأمّا في المستحبّات فصدق الإطاعة على الإتيان ببعض محتملاتها ممّا لا شبهة فيه، ولا مانع منه؛ لعدم الشوب بالتجرّي فيها.

ويرد عليه: أنّ الإتيان ببعض المحتملات بقصد امتثال أمر المولى لا يكون مشوباً بالتجرّي أصلاً، بل التجرّي إنّما يتحقّق بترك الآخر، لا بفعل المأتيّ به، وهذا واضح.

وبما ذكرنا اتّضح حال الشبهات البدوية الحكمية، وأنّ الإتيان بالمشتبه بقصد الامتثال مجزٍ، ولا يحتاج إلى الفحص، فما أفاده بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - من الاحتياج إليه(1)

- ممّا لا أساس له.

ص: 144


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 271.

القول في إمكان التعبّد بالظنّ

في إمكان التعبّد بالظنّ

قوله: «في بيان إمكان التعبّد...»(15).

أقول: لا سبيل إلى إثبات الإمكان؛ فإنّه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه، ولا برهان عليه، كما لا يخفى.

ولكنّ الذي يسهّل الخطب أ نّه لا احتياج إلى إثباته، بل المحتاج إليه هو ردّ أدلّة الامتناع، فإذا لم يدلّ دليل على امتناع التعبّد بالأمارات والاُصول نعمل على طبق أدلّة حجّيتها واعتبارها.

وبعبارة اُخرى: لا يجوز رفع اليد عن ظواهر أدلّة اعتبارها إلاّ بدليل عقلي على الامتناع، فإن دلّ دليل عليه فإنّا نرفع اليد عنها، وإلاّ نعمل على طبقها.

المراد من «الإمكان» في عنوان البحث

و من ذلك يظهر: أنّ الإمكان الذي نحتاج إليه هو الذي وقع في كلام الشيخ رئيس الصناعة من قوله: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان

ص: 145

ما لم يذُدك عنه قائم البرهان(1)؛ فإنّ مقصوده من ذلك الكلام هو الردع عن الحكم بالامتناع والاستنكار من الإمكان بمجرّد غرابة أمر كما هو ديدن غير أصحاب البرهان.

والإمكان بهذا المعنى - أي الاحتمال العقلي وعدم الحكم بأحد طرفي القضيّة بلا قيام البرهان عليه - من الأحكام العقلية، لا البناء العقلائي كما قيل(2)، والمحتاج إليه فيما نحن بصدده هو هذا المعنى؛ فإنّ رفع اليد عن الدليل الشرعي لا يجوز إلاّ بدليل عقلي أو شرعي أقوى منه.

فاتّضح بما ذكرنا: أنّ عنوان البحث بما حرّروا من إمكان التعبّد بالأمارات الغير العلمية، ليس على ما ينبغي - كما أنّ تفسير الإمكان بالوقوعي(3) في غير محلّه؛ فإنّ إثبات الإمكان كما عرفت، يحتاج إلى برهان مفقود في المقام، مع عدم الاحتياج إلى إثباته، نعم الاستحالة التي ادّعيت(4) هي الوقوعية أو الذاتية على بعض التقادير - فالأولى أن يقال في عنوان البحث: «في عدم وجدان دليل على امتناع التعبّد بالأمارات».

وأمّا ما في تقريرات بحث بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي لا التكويني، فإنّ التوالي الفاسدة

ص: 146


1- الإشارات والتنبيهات: 391.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 106.
3- نهاية الأفكار 3: 56؛ لمحات الاُصول: 393.
4- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 105.

المتوهّمة هي المفاسد التشريعية لا التكوينية(1).

ففيه أوّلاً: أنّ الإمكان التشريعي ليس قسماً مقابلاً للإمكانات، بل هو من أقسام الإمكان الوقوعي، غاية الأمر أنّ المحذور الذي يلزم من وقوع شيء قد يكون تكوينياً، وقد يكون تشريعياً، وهذا لا يوجب تكثير الأقسام، وإلاّ فلنا أن نقول: الإمكان قد يكون ملكياً، وقد يكون ملكوتياً، وقد يكون عنصرياً، وقد يكون فلكياً... إلى غير ذلك، بواسطة اختلاف المحذورات المتوهّمة.

وثانياً: أنّ بعض المحذورات المتوهّمة من المحذورات التكوينية، مثل اجتماع الحبّ والبغض، والإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة في شيء واحد؛ فإنّها محذورات تكوينية.

المحذورات المتوهّمة في التعبّد بالظنّ

ثمّ إنّ المحذورات المتوهّمة بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار، وبعضها راجع إلى مبادئ الخطابات كاجتماع الكراهة والإرادة، والحبّ والبغض، وبعضها راجع إلى نفس الخطابات كاجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين، وبعضها راجع إلى لازم الخطابات كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، فحصر المحذور في الملاكي والخطابي ممّا لا وجه له، كما وقع من العظيم المتقدّم(2).

ص: 147


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 88.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 89.

كما أنّ تسمية الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة بالمحذور الملاكي(1)،

ممّا لا ينبغي؛ فإنّها من المحذورات الخطابية ومن لوازم الخطابات، والأمر سهل.

وكيف كان، فلا بدّ من دفع المحذورات مطلقاً، فنقول:

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة

أمّا تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فلا محذور فيهما إذا كانت مصلحة التعبّد بالأمارات والاُصول غالبة، أو محذور عدم التعبّد بها غالباً.

وإن شئت قلت: إنّ ما فات من المكلّف بواسطة التعبّد بها تصير متداركة.

بل لنا أن نقول: إنّ المفاسد الاُخروية - أي العقاب والعذاب - لا تلزم بلا إشكال، وتفويت المصالح الاُخروية إمّا ينجبر بواسطة الانقياد بالتعبّد بالأمارات، وإمّا يتدارك من جهة اُخرى، وإمّا غير لازم التدارك؛ فإنّ ما يقبح على الحكيم هو الإلقاء في المفسدة، وأمّا إيصال المصالح فهو من باب التفضّل، وليس في تركه قبح.

وأمّا الدنيوية منهما فلزومها غير معلوم؛ لعدم الدليل على اشتمال المتعلّقات أو الأحكام على المصالح والمفاسد الدنيوية، وبعض المصالح الاستجرارية تترتّب على التعبّد بالأمارات أيضاً.

ثمّ إنّ الإشكال لا ينحصر بصورة الانفتاح - كما أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه (2) -

ص: 148


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 89.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 90.

بل يجري في صورة الانسداد أيضاً؛ فإنّه وارد في صورة الانسداد على رفع الاحتياط وترخيص العمل على طبق بعض الأمارات.

وما أفاد: من أنّ العمل على طبق الأمارة لو صادف خير جاء من قبلها (1).

يرد عليه: بأنّ الأمر لو كان دائراً بين العمل على طبق الأمارة وترك العمل والإهمال رأساً، كان الأمر كما أفاده، لكنّه ليس دائراً بينهما، بل هو دائر بين العمل بالاحتياط أو التجزّي فيه، أو العمل بالأمارة.

فحينئذٍ: يرد الإشكال عيناً على الترخيص في ترك الاحتياط أوّلاً، وعلى العمل بالأمارة دون التجزّي في الاحتياط ثانياً، وطريق [دفع] الإشكال هو سبيل [دفعه] في زمان الانفتاح من كون العمل بالأمارة ذا مصلحة جابرة، أو في العمل بالاحتياط مفسدة غالبة.

تنبيه: في الجواب عن الإشكال بالمصلحة السلوكية

قد أجاب الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه عن الإشكال بالتزام المصلحة السلوكية(2)، وفصّلها المحقّق المعاصر قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه بعد ردّ الوجهين من وجوه السببية - بما حاصله:

الثالث: أن يكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه، بل المصلحة تكون في

ص: 149


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 90.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 114 - 115.

تطرّق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أ نّه هو

الواقع بترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات من المكلّف(1)، انتهى كلامه.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمارات المعتبرة شرعاً غالبها - إن لم يكن جميعها - طرق عقلائية يعمل بها العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم، ولا تكون تأسيسية جعلية، كما اعترف به المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه (2)، ومن الواضح أنّ الأمارات العقلائية ليست في سلوكها مصلحة أصلاً، بل هي طرق محضة، وليس لها شأن إلاّ الإيصال إلى الواقع، وليس إمضاء الشارع لها إلاّ بما لها من الاعتبار العقلائي، فالمصلحة السلوكية ممّا لا أساس لها أصلاً، وهذا بمكان من الوضوح، ولا ينبغي التأمّل فيه.

وثانياً: لا معنى لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق إلاّ العمل على طبق مؤدّاها، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فسلوك هذه الأمارة وتطرّق هذا الطريق ليس إلاّ الإتيان بصلاة الجمعة، فلا معنى لكون مصلحة تطرّق الطريق مصلحة مغايرة للإتيان بنفس المؤدّى، والإتيان بالمؤدّى مع المؤدّى غير متغايرين إلاّ في عالم الاعتبار، ولا يرفع الإشكال بهذه الاعتبارات والتعبيرات.

ولك أن تقول: إنّ هذه المفاهيم المصدرية النسبية لا حقيقة لها إلاّ في عالم الاعتبار، ولا تتّصف بالمصالح والمفاسد، فموضوع المصلحة والمفسدة نفس العناوين؛ أي الصلاة والخمر.

ص: 150


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 95 - 96.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 91.

ولو قلت: إنّ شرب الخمر وإتيان الصلاة متعلّق الحرمة والوجوب وموضوع المفسدة والمصلحة.

قلت: لو سلّم فتطبيق العمل على طبق الأمارة وتطرّق الطريق عبارة اُخرى عن شرب الخمر وإتيان الصلاة.

وثالثاً: لو قامت المصلحة على نفس العمل على طبق الأمارة وتطرّق الطريق - بلا دخالة للمؤدّى والواقع فيها - فلا بدّ من التزام حصول المصلحة في الإخبار عن الاُمور العادية، وقيام الأمارات على اُمور غير شرعية، فإذا أخبر الثقة بأمر له عمل غير شرعي لا بدّ أن يلتزم بأنّ تطبيق العمل على طبقه وتطرّق هذا الطريق له مصلحة، وهو كما ترى، والقول بأنّ المصلحة قائمة على تطرّق الطريق القائم على الحكم الشرعي، مجازفة.

ثمّ إنّ لازم قيام المصلحة - التي يتدارك بها ما فات من المكلّف - على تطرّق الطريق وسلوك الأمارة، هو الإجزاء وإن انكشف الخلاف في الوقت، فضلاً عن خارجه؛ لاستيفاء المصلحة بواسطة سلوك الأمارة والعمل على طبقها.

فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، وقلنا: إنّ في سلوك الأمارة مصلحة يتدارك بها مفسدة فوت صلاة الظهر مثلاً، فعمل المكلّف على طبق الأمارة، ثمّ انكشف الخلاف في الوقت - ولو وقت الفضيلة - يكون الإتيان بها مجزياً عن الظهر؛ لأنّ المصلحة القائمة في تطرّق الطريق غير مقيّدة بعدم انكشاف الخلاف.

فما أفاد الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه وتبعه المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من التفصيل في الإجزاء، ممّا لا وجه له، وما أفاده الثاني من الوجه ضعيف غايته، فراجع.

ص: 151

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الإجزاء إنّما هو على مسلك القوم، وأمّا التحقيق في مسألة الإجزاء وتحرير محلّ البحث فيها فهو أمر آخر وراء ما ذكروه، وهو موكول إلى محلّه(1).

هذا ما يتعلّق بالجواب عن تفويت المصالح والإلقاء في المفاسد.

المحذور الثاني: محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين

وأمّا محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين وأمثاله، فيتوقّف التحقيق في دفعه على بيان مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أنّ مفاد أدلّة اعتبار الأمارات والاُصول مطلقاً هو ترتيب الآثار والتعبّد بالبناء عملاً على طبق مفادها، فكما أنّ مفاد أدلّة أصالتي الطهارة

والحلّية - من قوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(2) و«كلّ شيء لك حلال»(3) - هو التعبّد عملاً بالطهارة والحلّية؛ أي ترتيب آثار الطهارة والحلّية على المشكوك فيه عملاً، كذلك مفاد أدلّة الفراغ والتجاوز أيضاً هو التعبّد بترتيب آثار الإتيان على المشكوك فيه في الجزء والشرط، وعدم إتيان مشكوك المانعية.

ص: 152


1- راجع مناهج الوصول 1: 237.
2- تهذيب الأحكام 1: 284 / 832؛ وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
3- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

ومفاد أدلّة البراءة الشرعية هو ترتيب آثار عدم الجزئية والشرطية والمانعية عند الشكّ فيها.

وكذا مفاد أدلّة اعتبار الأمارات هو التعبّد بترتيب آثار الواقع عملاً، فإذا قام خبر الثقة على عدم الجزئية والشرطية والمانعية، فمعنى تصديقه هو ترتيب آثار تلك الأعدام، وإذا قامت البيّنة على طهارة شيء أو حلّيته، أو قامت على إتيان الجزء عند الشكّ فيه، فوجوب تصديقهما عبارة عن ترتيب آثار الطهارة والإتيان عملاً.

وقس على ذلك كلّية أدلّة اعتبار الأمارات والاُصول بلا افتراق من هذه الحيثية بينها أصلاً. نعم، الأمارات بنفسها لها جهة الكاشفية والطريقية دون غيرها، وكلامنا في دليل اعتبارها لا في مفاد أنفسها، وقد خلط كثير منهم بين المقامين والحيثيتين، فلا تغفل.

وأمّا حديث حكومة دليل على دليل فهو باعتبار لسان أدلّة الاعتبار، لا باعتبار كاشفية الأمارات وعدم كاشفية غيرها، فإنّها اُمور تكوينية لا دخل لها بالحكومة ومثلها.

فمفاد أدلّة الأمارات وإن كان بحسب النتيجة مطابقاً لأدلّة الاُصول، لكن حكومتها باعتبار لسانها، فإنّ لسانها هو ترتيب آثار صدق العادل وكون خبره مطابقاً للواقع، وهذا لسان إزالة الشكّ تعبّداً، وهو بهذا المفاد مقدّم على الاُصول

التي اُخذ الشكّ في موضوعها، وللكلام محلّ آخر يأتي - إن شاء الله تعالى - في مستأنف المقال(1).

ص: 153


1- يأتي في الجزء الثاني: 8.

المقدّمة الثانية: لا يمكن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها؛ للزوم الدور؛ فإنّ العلم بالشيء يتوقّف على وجود الشيء بحسب الواقع، ولو توقّف وجوده على العلم به لزم توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه، وهذا واضح.

ومناقشة بعض المحقّقين من أهل العصر رحمه الله علیه في ذلك - لجواز القطع بالحكم بنحو الجهل المركّب، فلا يتوقّف العلم بالحكم عليه بحسب الواقع(1) - خلط، وفي غير محلّها.

هذا، مضافاً إلى ظهور أدلّة الاُصول والأمارات في أنّ الأحكام الواقعية محفوظة في حال الشكّ، فإنّ قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(2) يدلّ على أنّ ما هو حرام واقعاً إذا شكّ في حرمته يكون حلالاً بحسب الظاهر وفي حال الشكّ، وكذا قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(3) يدلّ على محفوظية القذارة الواقعية في حال الشكّ، وكذا أدلّة الأمارات - مثل أدلّة حجّية قول الثقة - تدلّ على تصديقه وترتيب آثار الواقع على مؤدّاه.

وبالجملة: لا إشكال في عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها، كما أنّ الخطابات الشرعية متعلّقة بعناوين محفوظة في حال العلم والجهل؛ فإنّ الحرمة

ص: 154


1- اُنظر نهاية الدراية 3: 68.
2- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.
3- المقنع: 15؛ مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 4.

قد تعلّقت بذات الخمر، والوجوب تعلّق بذات الصلاة من غير تقيّد بالعلم والجهل، فهي بحسب المفاد شاملة للعالم والجاهل، كما لا يخفى.

المقدّمة الثالثة: أنّ الخطابات - كما عرفت - وإن لم تكن مقيّدة بحال العلم ولا مختصّة بالعالم بها، ولكن هنا أمر آخر، وهو أنّ الخطابات إنّما تتعلّق بالعناوين وتتوجّه إلى المكلّفين؛ لغرض انبعاثهم نحو المأمور به ولتحريكها إيّاهم نحوه، ولا إشكال في أنّ التكليف والخطاب بحسب وجوده الواقعي لا يمكن أن يكون باعثاً وزاجراً؛ لامتناع محرّكية المجهول، وهذا واضح جدّاً.

فالتكاليف إنّما تتعلّق بالعناوين وتتوجّه إلى المكلّفين لكي يعلموا فيعملوا، فالعلم شرط عقلي للباعثية والتحريك، فلمّا كان انبعاث الجاهل غير ممكن فلا محالة تكون الإرادة قاصرة عن شمول الجاهلين، فتصير الخطابات بالنسبة إليهم أحكاماً إنشائية.

وإن شئت قلت: إنّ لفعلية التكليف مرتبتين:

إحداهما: الفعلية التي هي قبل العلم، وهي بمعنى تمامية الجهات التي من قبل المولى، وإنّما النقصان في الجهات التي من قبل المكلّف، فإذا ارتفعت الموانع التي من قبل العبد يصير التكليف تامّ الفعلية، وتنجّز عليه.

وثانيتهما: الفعلية التي هي بعد العلم وبعد رفع سائر الموانع التي تكون من قبل العبد، وهو التكليف الفعلي التامّ المنجّز.

ص: 155

وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات سهل لك سبيل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية؛ فإنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ التكاليف الواقعية مطلقاً - سواء كانت في موارد قيام الطرق والأمارات، أو في موارد الاُصول مطلقاً - فعلية بمعناها الذي قبل تعلّق العلم، ولا إشكال في أنّ البعث والزجر الفعليين غير محقّقين في موارد الجهل بها؛ لامتناع البعث والتحريك الفعليين بالنسبة إلى القاصرين، فالتكاليف بحقائقها الإنشائية والفعلية التي من قبل المولى - بالمعنى الذي أشرنا إليه - تعمّ جميع المكلّفين، ولا تكون مختصّة بطائفة دون طائفة، لكن الإرادة قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى القاصرين.

فإذا كان التكليف قاصراً عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إليهم فلا بأس بالترخيص الفعلي على خلافها، ولا امتناع فيه أصلاً، ولا يلزم منه اجتماع الضدّين أو النقيضين أو المثلين وأمثالها.

نعم، يمكن للمولى - بعد قصور التكليف الواقعي عن البعث والزجر - إيجاب الاحتياط على المكلّف بدليل مستقلّ؛ فإنّ إيجاب الاحتياط لا يمكن بواسطة نفس الدليل الدالّ على الحكم الواقعي؛ لقصوره عن التعرّض لحال الشكّ، فلا بدّ من الدليل المستقلّ؛ حفظاً للحكم الواقعي، ولكن إذا كان في الاحتياط محذور أشدّ من الترخيص - مثل الحرج واختلال النظام - فلا بدّ له من الترخيص، ولا محذور فيه أصلاً.

فالجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية بما ذكرنا ممّا لا محذور فيه ملاكاً

ص: 156

وخطاباً، بل لا محيص عنه؛ فإنّ البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجاهل غير معقولين، كما أنّ الترخيص مع البعث والزجر الفعليين غير معقول.

وأمّا مع قصور التكليف والإرادة عنهما وحرجية إيجاب الاحتياط أو محذور آخر فيه، فلا محيص عن جعل الترخيص، ولا محذور فيه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأحكام الواقعية والخطابات الأوّلية - بحسب الإنشاء والجعل، وبحسب الفعلية التي قبل العلم - عامّة لكلّية المكلّفين جاهلين كانوا أو عالمين، لكنّها قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجهّال منهم، ففي هذه المرتبة التي هي مرتبة جريان الأصل العقلي لا بأس في جعل الترخيص، فإذا جاز الترخيص فما ظنّك بجعل الأمارات التي هي غالبة المطابقة للواقع ؟

مضافاً إلى ما عرفت فيما سبق(1) أنّ الأمارات والطرق الشرعية - جلّها أو كلّها - هي الأمارات العرفية العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم، وليست هي تأسيسية جعلية، فصرف عدم الردع كافٍ لحجّيتها، ولا تحتاج إلى جعل وإنشاء حجّية أو إمضاء كما قيل(2).

نعم للشارع جعل الاحتياط والردع عن العمل بها، وهو - كما عرفت - خلاف المصالح العامّة وسهولة الدين الحنيف، فإذا كان الأمر كذلك فلا ينقدح شوب إشكال الجمع بين الضدّين والنقيضين والمثلين حتّى نحتاج إلى رفعه، فتدبّر.

ص: 157


1- تقدّم في الصفحة 70.
2- مقالات الاُصول 2: 110.

تنبيه

فيما ذكر الأعلام من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي

وهاهنا وجوه من الجمع لا تخلو كلّها أو جلّها من الخلل والقصور، لا بأس بالتعرّض لمهمّاتها:

تقريب المحقّق النائيني لوجه الجمع في الأمارات والاُصول

منها: ما أفاد بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - بعد تفكيكه في التفصّي عن الإشكال بين موارد قيام الطرق والأمارات وبين الاُصول المحرزة وبين الاُصول الغير المحرزة، فقال في موارد تخلّف الأمارات ما حاصله:

ما أفاده المحقّق النائيني في الأمارات

إنّ المجعول فيها ليس حكماً تكليفياً حتّى يتوهّم التضادّ بينها وبين الواقعيات، بل الحقّ أنّ المجعول فيها هو الحجّية والطريقية، وهما من الأحكام الوضعية المتأصّلة في الجعل، خلافاً للشيخ قدّس سرّه (1) حيث ذهب إلى أنّ الأحكام الوضعية كلّها منتزعة من الأحكام التكليفية.

والإنصاف عدم تصوّر انتزاع بعض الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية، مثل الزوجية، فإنّها وضعية ويستتبعها جملة من الأحكام، كوجوب الإنفاق على

ص: 158


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 126.

الزوجة، وحرمة تزويج الغير لها، وحرمة ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر... إلى غير ذلك، وقد يتخلّف بعضها مع بقاء الزوجية، فأيّ حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه ؟ ! وأيّ جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأً لانتزاع الزوجية ؟ ! فلا محيص في أمثالها عن القول بتأصّل الجعل، ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات؛ فإنّها متأصّلة بالجعل ولو إمضاءً؛ لما تقدّمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا عقلائية يعتمد عليها العقلاء في مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع، فنفس الحجّية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك حكم تكليفي منشأً لانتزاعه.

إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ظهر لك أ نّه ليس فيها حكم حتّى ينافي الواقع، فلا تضادّ ولا تصويب، وليس حال الأمارات المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً، فعند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيزه، وعند الخطأ يوجب المعذورية وعدم صحّة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائية الإمضائية غالباً حكم مجعول أصلاً، لا الحجّية، ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم التكليفي التعبّدي، كما قد عرفت سابقاً (2)، وليس معنى الإمضاء هو إنشاء حكم إمضائي،

ص: 159


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 105 - 108.
2- تقدّم في الصفحة 70.

بل الشارع لم يتصرّف في الطرق العقلائية، وكان الصادع بالشرع يعمل بها كما يعمل العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم. وما ورد في بعض الروايات إنّما هي أحكام إرشادية.

والعجب أ نّه قدّس سرّه مع اعترافه كراراً بذلك(1) ذهب إلى جعل الحجّية والوسطية في الإثبات وتتميم الكشف وأمثالها ممّا لا عين لها في الأدلّة الشرعية ولا أثر(2).

وثانياً: لو سلّم أنّ هناك جعلاً شرعياً، فما هو المجعول ليس إلاّ إيجاب العمل بالأمارات تعبّداً، ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها، كما هو مفاد الروايات مثل قوله علیه السلام : «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» وأشار إلى زرارة(3)، وقوله: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(4) وقوله: «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير(5)، وقوله: «العمري ثقتي» إلى أن قال: «فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»(6)... إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة

ص: 160


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 30 و 91 و 195.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 17 و 105.
3- اختيار معرفة الرجال: 135 / 216؛ وسائل الشيعة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
4- الاحتجاج 2: 543/344؛ وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
5- اختيار معرفة الرجال: 171 / 291؛ وسائل الشيعة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
6- الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

ممّا يستفاد منها - مع الغضّ عن الإرجاع إلى الارتكاز العقلائي - وجوب العمل

على طبقها تعبّداً على أ نّها هو الواقع وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها.

نعم، لو كان للآية الشريفة: )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) دلالة، يمكن أن يتوهّم منها أ نّها بصدد جعل المبيّنية والمكشوفية في مؤدّى خبر العادل، بتقرير: أنّ المفهوم منها أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن فيه؛ لكونه متبيّناً.

لكن فيه - مع الغضّ عن الإشكال بل الإشكالات في دلالتها - أ نّها ليست بصدد جعل ما ذكر، بل بصدد جعل وجوب العمل على طبقه، وإنّما المتبيّنية الذاتية التي له، جهة تعليلية لوجوب العمل على طبقه، تدبّر تعرف.

وثالثاً: أنّ الحجّية والوسطية في الإثبات والكاشفية وأمثالها لا تنالها يد الجعل تأصّلاً.

أمّا الحجّية بمعنى صحّة الاحتجاج وقاطعية العذر فواضح؛ فإنّها أمر تبعي محض متأخّر عن جعل تكليف أو وضع، وليس نفس صحّة الاحتجاج وقاطعية العذر من الاعتبارات الاستقلالية للعقلاء، وذلك واضح.

وأمّا الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية والحجّية التي بمعنى الوسطية في الإثبات: فلأنّ كلّ واحد من تلك المعاني ممّا لا يمكن جعله؛ فإنّ إعطاء جهة الكاشفية والطريقية كما لا يمكن لما لا يكون له جهة كشف وطريقية، كذلك تتميم الكاشفية وإكمال الطريقية لا يمكن جعلهما لما هو ناقص الكاشفية والطريقية، فكما أنّ الشكّ غير قابل لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية عليه - كما

ص: 161


1- الحجرات (49): 6.

اعترف به قدّس سرّه (1) - كذلك ما ليس له تمام الكاشفية ويكون هذا النقصان ذاتياً له لا يمكن جعل التمامية له، وكما أنّ اللا كاشفية ذاتية للشكّ لا يمكن سلبها عنه، كذلك النقص ذاتي للأمارات لا يمكن سلبه عنها، فما هو تحت يد الجعل ليس إلاّ إيجاب العمل بمفادها تعبّداً والعمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليها، ولمّا كان ذاك التعبّد بلسان تحقّق الواقع وإلقاء احتمال الخلاف عملاً، ينتزع منه الحجّية والوسطية في الإثبات تعبّداً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ ما هو ممكن المجعولية وما تناله يد الجعل ليس إلاّ الحكم التكليفي التعبّدي؛ أي وجوب العمل على طبق الأمارات ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها، والوضع إنّما ينتزع من هذا الحكم التكليفي.

وأمّا قضيّة حكومتها على الاُصول فهي أساس آخر قد أشرنا إليه فيما سلف(2) وسيأتي(3) - إن شاء الله - بيانها في مستأنف القول.

ورابعاً: أنّ ما أفاد من كون الزوجية مجعولة تأصّلاً؛ لعدم تصوّر وجود تكليف ينتزع منه الزوجية، ففيه: أنّ تلك الأحكام التكليفية التي عدّها من وجوب الإنفاق على الزوجة... إلى آخر ما ذكره، إنّما هي متأخّرة عن الزوجية، وتكون من أحكامها المترتّبة عليها، ومعلوم أنّ أمثالها لا يمكن أن تكون منشأً لانتزاع الزوجية، لا لمكان عدم الجامع بينها، بل لمكان تأخّرها عن الزوجية وكونها من آثارها وأحكامها، فتلك الأحكام أجنبيّة عن انتزاع الوضع منها.

ص: 162


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 19.
2- تقدّم في الصفحة 153.
3- يأتي في الجزء الثاني: 8.

نعم، هنا أحكام تكليفية اُخرى يمكن أن تكون(1) مناشئ للوضع، كقوله: )فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ((2) وقوله: )وَأَنْكِحُواْ الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ((3)، وقوله تعالى: )وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ((4) وأمثالها، وإن كان التحقيق عدم مجعولية الزوجية شرعاً، لا بنحو الأصالة ولا بنحو آخر؛ فإنّ الزوجية من الاُمور العقلائية ومن الاعتبارات التي يكون أساس الحياة الاجتماعية ونظامها متوقّفاً عليها، ولاتكون من المخترعات الشرعية. نعم، إنّ الشرائع قد تصرّفت فيها نوع تصرّفات في حدودها، لا أ نّها اخترعتها، بل اتّخاذ الزوج وتشكيل العائلة من مرتكزات بعض الحيوانات أيضاً.

وخامساً: بعد اللتيا والتي لا يحسم ما أطنب مادّة الإشكال؛ فإنّ الأحكام الواقعية إذا كانت باقية على فعليتها وباعثيتها وزاجريتها لا يمكن جعل الأمارة المؤدّية إلى خلافها بالضرورة؛ فإنّ جعل الحجّية والوسطية في الإثبات في الأمارات المؤدّية إلى مناقضات الأحكام الشرعية ومضادّاتها، يلازم الترخيص الفعلي للعمل على طبقها، وهو محال مع فعليتها.

وبالجملة: لا يعقل جعل الأمارة المؤدّية إلى خلاف الأحكام الواقعية بأيّ عنوان كان، فمع بقائها على تلك المرتبة من الفعلية، كما لا يمكن جعل أحكام مضادّة لها، لا يمكن جعل حجّة أو أمارة أو عذر أو أمثال ذلك.

ص: 163


1- أي يتوهّم أ نّها. [منه قدّس سرّه ]
2- النساء (4): 3.
3- النور (24): 32.
4- النساء (4): 24.

وقياس الأمارات على العلم مع الفارق؛ ضرورة أنّ العلم لم يكن بجعل جاعل حتّى يقال: إنّ جعله لأجل تضمّنه الترخيص الفعلي يضادّ الأحكام الواقعية.

هذا إذا قلنا ببقاء الأحكام على فعليتها بعثاً وزجراً.

وأمّا مع التنزّل عنها وصيرورتها إنشائية أو فعلية بمرتبة دون تلك المرتبة - كما عرفت(1) - فلا مضادّة بينها وبين الأحكام التكليفية الظاهرية، فلا وجه لإتعاب النفس والالتزام باُمور لم يكن لها عين ولا أثر في أدلّة اعتبار الأمارات، وإنّما هي اختراعات نشأت من العجز عن إصابة الواقع.

وممّا ذكرنا يعرف النظر في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) حيث ظنّ أنّ المجعول في باب الأمارات إذا كان الحجّية غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية، يحسم مادّة الإشكال، مع أ نّه بحاله.

كما أنّ الجمع على فرض الحكم التكليفي بما أفاد من كون أحدهما طريقياً والآخر واقعياً(3) ممّا لا يحسم مادّته؛ فإنّه مع فعلية الأحكام الواقعية

لا يمكن جعل الحكم الطريقي المؤدّي إلى ضدّها ونقيضها، كما هو واضح بأدنى تأمّل.

وبالجملة: لا محيص - على جميع المباني - عن الالتزام بعدم فعلية الأحكام بمعناها الذي بعد العلم، كما عرفت.

ص: 164


1- تقدّم في الصفحة 155.
2- كفاية الاُصول: 319.
3- كفاية الاُصول: 319 - 320.

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة

ثمّ إنّ المحقّق المعاصر المتقدّم قدّس سرّه قال في باب الاُصول المحرزة ما حاصله: إنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أ نّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع الطريقي، فالمجعول فيها ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعل الشرعي تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أ نّه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله - في بعض أخبار قاعدة التجاوز- بأ نّه: «قد ركع»(1) فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري

العملي واقعاً في غير محلّه، من دون أن يتعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه، فلا يكون ماوراء الحكم الواقعي حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(2)، انتهى.

وأنت خبير بورود الإشكال المتقدّم عليه من عدم حسم مادّة الإشكال به أصلاً مع بقاء الحكم الواقعي على فعليته وباعثيته؛ فإنّه مع بقائهما كيف يمكن جعل الاُصول التنزيلية بأيّ معنىً كان ؟ !

فالبناء العملي على إتيان الجزء أو الشرط - كما هو مفاد قاعدة التجاوز على ما أفاد - مع فعلية حكم الجزئية والشرطية ممّا لا يجتمعان بالضرورة، ولا يعقل جعل الهوهوية المؤدّية إلى مخالفة الحكم الواقعي مع فعليته وباعثيته(3).

ص: 165


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 596؛ وسائل الشيعة 6: 318، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 110 - 112.
3- هذا، مع أنّ ظاهر كلامه لايرجع إلى محصّل؛ فإنّ البناء العملي والجري العملي من فعل المكلّف، وهو ليس تحت الجعل، وإيجاب الجري العملي حكم مضادّ للواقع. [منه قدّس سرّه ]

وهكذا الكلام في الاستصحاب وغيره من الاُصول المحرزة على طريقته قدّس سرّه (1).

هذا، مضافاً إلى ما مرّ ذكره من منع كون الاستصحاب من الاُصول المحرزة: أمّا على استفادة الطريقية من أدلّته - كما قوّيناها(2) - فواضح، وأمّا على التنزّل من ذلك فلا يستفاد منها إلاّ وجوب ترتيب آثار الواقع على المشكوك وعدم جواز رفع اليد عن الواقع بمجرّد الشكّ، فالكبرى المجعولة في الاستصحاب ليست إلاّ الحكم التكليفي(3) وهو حرمة رفع اليد عن آثار الواقع، أو وجوب ترتيب آثاره، وأمّا جعل الهوهوية فهو أجنبيّ عن مفادها.

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ فمفاد أدلّتها أيضاً ليس إلاّ الحكم التكليفي، وهو وجوب المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ، وترتيب آثار إتيان الواقع المشكوك فيه، وهذا حكم تكليفي أجنبيّ عمّا ذكره من جعل الهوهوية.

وليت شعري أ نّه ما الداعي إلى رفع اليد عن ظواهر الأدلّة الكثيرة في باب الطرق والأمارات وأبواب الاُصول والالتزام بما لا عين له في الأدلّة ولا أثر ؟

ولعلّ الإشكال المتقدّم ألجأه إلى الالتزام بهذه الاُمور الغريبة البعيدة عن مفاد الأدلّة بل عن مذاق الفقاهة، مع أ نّها - كما عرفت - لا تسمن ولا تغني من جوع.

ص: 166


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 692.
2- سابقاً لكن رجعنا عنهأ. [منه قدّس سرّه ] أ - تقدّم في الصفحة 73، الهامش 1.
3- قد رجعنا عنه أيضاً في مبحث الاستصحابب. [منه قدّس سرّه ] ب - الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 173 - 174.

وبما ذكرنا - مع ما يأتي في محلّه(1) - يظهر أنّ الاُصول التنزيلية - بما ذكره - ممّا لا أساس لها أصلاً، ولا داعي للالتزام بها، كما أ نّه لا داعي للالتزام بما التزم

به في الأمارات والطرق، كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرناه.

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول الغير المحرزة

ثمّ(2) إنّه قدّس سرّه قال في باب الاُصول الغير التنزيلية - مع ما أطال وأتعب نفسه الزكيّة في تفصيل متمّمات الجعل - ما ملخّصه:

إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:

أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه كحالة العلم والظنّ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.

ثانيهما: اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليه ومنجّزاً

ص: 167


1- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 173، و291 و380 - 381.
2- وذكر قبيل هذا: أنّ متمّم الجعل فيما نحن فيه يتكفّل لبيان وجود الحكم في زمان الشكّ فيهأ. ومراده من المتمّم هو أصالة الاحتياط. وهذا مع بطلانه في نفسه - لأنّ أصل الاحتياط أو إيجاب الاحتياط لا يكون متكفّلاً لبيان وجود الحكم في زمان الشكّ بالضرورة، وإلاّ لكان أمارة، ووجوب الاحتياط مع الشكّ لغرض الوصول إلى الواقع غير كون أصل الاحتياط أو إيجابه مبيّناً للواقع، وهو أوضح من أن يخفى - مخالف لما قال سابقاً من أ نّه أصل غير محرز، ولبعض كلماته اللاحقة(ب)، فراجع. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114. ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 112، و4: 692.

له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه، كما أ نّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤ مّناً عن الواقع؛ حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية، فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع، كان عليه جعل المتمّم، كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه؛ فإنّه أهمّ من مفسدة حفظ نفس الكافر، فيقتضي جعل حكم طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، وهذا الحكم الاحتياطي إنّما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته، ولذا كان خطابه نفسياً لا مقدّمياً؛ لأنّ الخطاب المقدّمي ما لا مصلحة فيه أصلاً، والاحتياط ليس كذلك؛ لأنّ أهمّية الواقع دعت إلى وجوبه، فهو واجب نفسي للغير، لا واجب بالغير؛ ولذا كان العقاب على مخالفته، لا مخالفة الواقع؛ لقبح العقاب عليه مع الجهل.

إن قلت: فعليه تصحّ العقوبة على مخالفة الاحتياط - صادف الواقع أو لا - لكونه واجباً نفسياً.

قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي لا يدور الحكم مداره هو الأوّل دون الثاني. ولا إشكال في أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّة للحكم بالاحتياط، ولا يمكن أن يبقى في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه، ولكن لمكان جهل المكلّف كان اللازم عليه الاحتياط تحرّزاً عن مخالفة الواقع.

من ذلك يظهر: أ نّه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي؛ فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي، ويكون هو هو، وإلاّ فلا؛ لانتفاء علّته، والمكلّف يتخيّل وجوبه لجهله

ص: 168

بالحال، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي وإن كان من جهة اُخرى يغايره.

والحاصل: أ نّه لمّا كان إيجاب الاحتياط من متمّمات الجعل الأوّلي فوجوبه يدور مداره، ولا يعقل بقاء المتمّم - بالكسر - مع عدم المتمّم - بالفتح - فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضادّ بينهما؛ لاتّحادهما في مورد المصادقة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة، فأين التضادّ ؟ !

هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمّم، وأمّا مع عدم الأهمّية، فللشارع

جعل المؤمّن بلسان الرفع، كقوله: «رفع... ما لا يعلمون»(1)، وبلسان الوضع مثل: «كلّ شيء... حلال»(2)؛ فإنّ رفع التكليف ليس عن موطنه ليلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط. فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع.

والسرّ فيه: أ نّها تكون في طول الواقع؛ لتأخّر رتبتها عنه؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّه ؟ !

ص: 169


1- الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
2- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

وبالجملة: الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ تفريقه بين أخذ الشكّ باعتبار كونه من الحالات والطوارئ، وبين أخذه باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع، وجعله مناط رفع التضادّ هو الأخذ على الوجه الثاني، ممّا لا محصّل له؛ فإنّ الطولية لو ترفع التضادّ فالحالات الطارئة أيضاً في طول الواقع، وإلاّ فالأخذ باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع لا يرفعه.

وبالجملة: أنّ الاعتبارين مجرّد تغيير في العبارة وتفنّن في التعبير، وبهذا وأشباهه لا يرفع التضادّ؛ لكون الحكم الواقعي محفوظاً مع الشكّ والحيرة.

وثانياً: أنّ الحكم الواقعي؛ إن بقي على فعليته وباعثيته فلا يعقل جعل الاحتياط المؤدّي إلى خلافه، فضلاً عن جعل المؤ مّن كما في أصالة الإباحة، فهل يمكن مع فعلية الحكم الواقعي جعل المؤمّن الذي يلازم الترخيص في المخالفة أو عينه ؟ وهل مجرّد تغيير اُسلوب الكلام وكثرة الاصطلاح والاعتبار ترفع التضادّ والتناقض ؟ !

وإن لم يبق - كما اعترف في المقام بأنّ الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية - فالجمع بين الحكم الواقعي بهذا المعنى والظاهري

ص: 170


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114 - 119.

لا يحتاج إلى تلك التكلّفات؛ فإنّ الحكم الإنشائي أو الفعلي بالمعنى المتقدّم ممّا لا ينافي الأحكام الظاهرية.

وثالثاً: أنّ ما تفصّى به عن إشكال صحّة العقوبة على مخالفة الاحتياط - بالتزامه عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك فيه ممّا يجب حفظه؛ لكون وجوب حفظ المؤمّن علّة للحكم بالاحتياط لا علّة للتشريع - ممّا لا وجه له؛ فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهري لغرض حفظ الواقع، ولا بدّ لهذا الحكم الظاهري المتمّم للجعل الأوّلي أن يتعلّق حقيقة بكلّ مشكوك؛ سواء كان المشكوك ممّا يجب حفظه، أم لا. ولو تعلّق وجوب الاحتياط بمورد الشكّ الذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمّم آخر؛ فإنّ وجوب الاحتياط المتعلّق بالمشكوك فيه الواجب بحسب الواقع لا يصلح للداعوية نحو المشكوك فيه، وقاصر عن أن يكون محرّكاً لإرادة العبد كنفس التكليف الواقعي، فيصير إيجاب الاحتياط لغواً؛ فإنّ في جميع موارد الشكّ يكون تعلّق وجوب الاحتياط بها مشكوكاً.

وما أفاد قدّس سرّه - من أنّ المكلّف لمّا لم يعلم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه أو لا يجب، كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرّزاً عن مخالفة الواقع - واضح الفساد؛ فإنّ وجوب الاحتياط على النحو الذي التزم به لا يزيد سعة دائرته عن الحكم الواقعي، فكما أنّ الحكم الواقعي لا يمكن أن يتكفّل بزمان شكّه، كذلك حكم الاحتياط لا يمكن أن يتكفّل بزمان شكّه، والحال أنّ تمام موارده كذلك، فإيجاب الاحتياط لا يكون إلاّ لغواً باطلاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ حكم الاحتياط لا بدّ وأن يتعلّق بكلّ مشكوك، لكن

ص: 171

لمّا كان هذا الحكم لغرض حفظ الواقع وليس نفسه متعلّقاً لغرض المولى، لا يوجب مخالفته بنفسها استحقاق العقوبة(1)، وهذا واضح جدّاً.

ورابعاً: أنّ ما أفاد - من أنّ الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع المستفاد من إيجاب الاحتياط، ولمّا كان إيجاب الاحتياط في طول الواقع فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه - منظور فيه؛ فإنّه قد ثبت أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لا يلزم أن يكون في طول هذا المتأخّر، مع أنّ هذه الطولية ممّا لا ترفع التضادّ، كما عرفت.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ ما أفاد هذا المحقّق - مع ما أطنب وأتعب نفسه في أبواب الأمارات والاُصول من وجوه الجمع - ممّا لا طائل تحته ولا أساس له. وفي كلامه مواقع أنظار اُخر تركناها مخافة التطويل.

تقريب السيّد الفشاركي لوجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

ومن وجوه الجمع: ما نقل شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - عن سيّده الاُستاذ قدّس سرّه ومحصّله: عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشكّ في الأوّل.

توضيحه: أنّ الأحكام تتعلّق بالمفاهيم الذهنية من حيث إنّها حاكية عن الخارج، فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبية والمبغوضية.

ص: 172


1- بل العقاب على الواقع - لو فرض التخلّف - ولا يقبح العقاب عليه بعد إيجاب الاحتياط، كما هو واضح. [منه قدّس سرّه ]

ثمّ المفهوم المتصوّر: تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق، واُخرى على نحو التقييد، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في غير ذلك المقيّد، وقد يكون لوجود المانع.

وهذا الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقاً إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة منافٍ لغرضه الآخر الأهمّ، فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيّد الرقبة بالمؤمنة، لا لعدم المقتضي، بل لمزاحمة المانع. وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتّحد معه المخرج له عن المطلوبية الفعلية. فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن - بحيث يكون تعقّل أحدهما لا مع الآخر دائماً - لم يتحقّق الكسر والانكسار بين الجهتين، فاللازم منه أ نّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً مطلقاً؛ لعدم تعقّل منافيه، ومتى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك؛ لعدم تعقّل منافيه.

والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً؛ لأنّ الحالات اللاحقة للموضوع بعد تحقّق الحكم وفي الرتبة المتأخّرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه.

فلو فرضنا - بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم - تحقّق جهة المبغوضية فيه، لصار مبغوضاً بهذه الملاحظة، ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته؛ لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً؛ لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم.

ص: 173

إن قلت: العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات، ولكنّ الذات ملحوظة في مرتبة تعلّق العنوان المتأخّر، فيجتمع العنوانان وعاد الإشكال.

قلت: كلاّ؛ فإنّ تصوّر موضوع الحكم الواقعي مبنيّ على تجرّده عن الحكم، وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بدّ وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد واللاتجرّد.

وبعبارة اُخرى: صلاة الجمعة التي كانت متصوّرة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسماً لمعلوم الحكم ومشكوكه، والتي تتصوّر في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسماً لهما، فتصوّرهما معاً موقوف على تصوّر العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمين وعلى نحو ينقسم، وهذا مستحيل في لحاظ واحد.

فحينئذٍ نقول: متى تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة، ومتى تصوّرها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلّقة لحكم آخر(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ ما أفاد - من عدم إمكان تصوّر ما يأتي من قبل الحكم في الموضوع - ممنوع؛ فإنّ تصوّر الأمر المتأخّر ممّا لا إشكال فيه أصلاً، فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع، وقد اعترف قدّس سرّه - في

ردّ الشبهة المشهورة في باب التعبّدي والتوصّلي - بجواز أخذ ما من قبَل

ص: 174


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 351 - 354.

الأمر في الموضوع(1)، فراجع(2).

وثانياً: لازم ما أفاد - من مزاحمة جهة المبغوضية مع جهة المحبوبية - هو التقييد اللبّي ونتيجة التقييد؛ فإنّ الإهمال الثبوتي غير معقول، فالصلاة التي شكّ في حكمها لم تكن بحسب اللبّ مع ابتلائها بالمزاحم الأقوى واجبة، فيختصّ الوجوب بالصلاة المعلومة الوجوب، فعاد إشكال التصويب، ومجرّد إطلاق الحكم بواسطة الغفلة عن المزاحم لا يدفع الإشكال، كما لا يخفى.

وثالثاً: أنّ ما أفاد في جواب «إن قلت» - من أنّ موضوع الحكم الواقعي هو المجرّد عن الحكم - يرد عليه: أ نّه إن أراد بالتجرّد هو لحاظ تقييد الموضوع به حتّى يصير الموضوع بشرط لا - كما هو الظاهر من كلامه صدراً وذيلاً - فهو ممنوع؛ فإنّ الموضوع للأحكام نفس الذوات بلا لحاظ التجرّد والتلبّس.

مع أنّ لحاظ تجرّده عن الحكم يلازم لحاظ الحكم، والحال أنّ الحكم متأخّر عن الموضوع ومن الحالات اللاحقة له، فكما لا يمكن لحاظ مشكوكية الحكم في الموضوع على مبناه لا يمكن لحاظ نفس الحكم؛ لتحقّق المناط فيه، فيكون

ص: 175


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94 - 95.
2- مع أنّ تأخّر المشكوكية عن الحكم وحصولها بعد تعلّق الحكم ممنوع جدّاً؛ لأنّ الشكّ قد يتعلّق بعنوان مع عدم المصداق له خارجاً، كالشكّ في تحقّق شريك الباري. وأمّا جعل الحكم على المشكوك إنّما يكون لغواً إذا لم يكن للحاكم حكم مطلقاً، ولا يلزم أن يكون جعله متأخّراً عن جعل الأحكام الواقعية في مقام تدوين القوانين، بل لازم ما ذكره - من أنّ الشكّ متأخّر عن الجعل - انقلاب الشكّ علماً؛ لأ نّه مع العلم بهذه الملازمة لا يمكن تعلّق الشكّ، ومع الغفلة ينقلب إذا توجّه، مع أنّ تعلّقه مع الغفلة دليل على بطلان ما أفاد. [منه قدّس سرّه ]

ما أفاد قدّس سرّه من قبيل الكرّ على ما فرّ منه(1).

وإن أراد بالتجرّد عدم اللحاظ، فعدم مقسميته لمعلوم الحكم ومشكوكه وعدم ملحوظيته مع العنوان المتأخّر ممنوع؛ لأ نّه محفوظ معه؛ لكونه طبيعة بلا شرط، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا في الوجهين المتقدّمين يعرف حال سائر الوجوه التي أفادها الأصحاب في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، فلا نطيل بالتعرّض لها والنظر فيها.

ص: 176


1- مضافاً إلى أنّ تعلّق الحكم بالموضوع بشرط لا مستلزم لعدم تعلّق الحكم واقعاً على الموضوع المشكوك الحكم، فلا يعقل معه الشكّ في الحكم. ولو جعل بشرط لا من المعلوم أيضاً، فالفساد أفحش. [منه قدّس سرّه ]

القول: في وقوع التعبّد بالظنّ

في وقوع التعبّد بالظنّ

تأسيس الأصل فيما لا يعلم اعتباره

قوله: «ثالثها: أنّ الأصل...»(16).

اعلم أنّ الحجّية: إمّا بمعنى الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع، وبهذا المعنى يقال للمعلومات التصديقية الموصلة إلى مجهولاتها: الحجّة والدليل، وإطلاقها على الأمارات باعتبار كونها برهاناً شرعياً أو عقلائياً على الواقع، لا باعتبار صيرورتها بعناوينها وسطاً في الإثبات.

وإمّا بمعنى الغلبة(1) على الخصم وقاطعية العذر وصحّة المؤاخذة والاحتجاج.

وهي بكلا المعنيين ممّا لا تقبل الجعل الابتدائي، ولا ينالها يد استقلال الجعل كما أشرنا إليه سابقاً(2)، وإنّما الممكن ثبوتاً جعل منشأ انتزاعها، والواقع إثباتاً

ص: 177


1- الظاهر أنّ إطلاق الحجّة على الدليل أيضاً بهذه الملاحظة. [منه قدّس سرّه ]
2- تقدّم في الصفحة 161.

- لو بنينا على أنّ الروايات الواردة في بعضها إنّما وردت للجعل والتأسيس - هو جعل وجوب اتّباعها وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها على أ نّها هو الواقع. وبالجملة: مفاد الأدلّة هو الأحكام التكليفية لا الوضعية.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص عدم الحجّية، وعدم جواز ترتيب الآثار عليه، وعدم صحّة الاحتجاج به، وهذا واضح.

إنّما الكلام في تحقّق الملازمة بين الحجّية وبين جواز التعبّد وصحّة الانتساب إلى الشارع طرداً وعكساً وعدمه.

والتحقيق: أنّ الحجّية بمعنى الطريقية والوسطية في الإثبات ملازمة لهما طرداً وعكساً؛ ضرورة أ نّه مع قيام الطريق الشرعي تأسيساً أو إمضاءً لا معنى لعدم جواز التعبّد وصحّة الانتساب، ومع عدم الحجّية بهذا المعنى لا معنى لهما.

وأمّا الحجّية بالمعنى الثاني - أي كون الشيء بحيث يصحّ الاحتجاج به، ويكون قاطعاً للعذر - لا تلازمهما؛ فإنّ الظنّ على الحكومة ليس بحجّة بالمعنى الأوّل، ولكنّه حجّة بالمعنى الثاني، ويصحّ الاحتجاج به، ويكون قاطعاً للعذر كما هو واضح، ومع ذلك لا يصحّ معه الانتساب ولا يجوز التعبّد به.

وبما ذكرنا يمكن إيقاع التصالح بين الأعلام؛ لأنّ المنكر للملازمة كالمحقّق الخراساني(1) وشيخنا العلاّمة(2) - أعلى الله مقامهما - فسّراها

ص: 178


1- كفاية الاُصول: 322 - 323.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 356.

بالمعنى الثاني والمثبت لها كالمحقّق المعاصر - على ما في تقريراته(1) - فسّرها بالمعنى الأوّل، تأمّل.

البحث عن قبح التشريع وحرمته

ثمّ إنّ المبحوث عنه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل على اعتباره بالخصوص حتّى يتّبع في موارد الشكّ، كما أفاد المحقّق الخراساني(2)، وأمّا البحث عن قبح التشريع وحرمته والمباحث المتعلّقة به كما فصّل المحقّق المعاصر رحمه الله علیه (3) فهو خارج عمّا نحن فيه، لكنّه لا بأس بالتعرّض لبعض مباحثه تبعاً له؛ ليتّضح بعض جهات الخلط، فنقول:

هاهنا جهات من البحث:

الجهة الاُولى: أنّ التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها، وهو مساوق للبدعة، وقبحه واضح عقلاً، وحرمته شرعاً كادت أن تكون من الضروريات، ودلّت عليها الآيات(4) والأخبار(5).

وبالجملة: إثبات حرمته لا يحتاج إلى تجشّم استدلال.

ص: 179


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 122 -123.
2- كفاية الاُصول: 322.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 120 - 121.
4- آل عمران (3): 94؛ يونس (10): 59 - 60؛ الأنعام (6): 144؛ الأعراف (7): 37.
5- راجع وسائل الشيعة 16: 267، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، الباب 39 و40.

وأمّا التعبّد بما لا يعلم جواز التعبّد به من قبل الشارع: إن كان المراد منه هو إتيان ما لم يعلم أ نّه من العبادات بعنوان كونه منها، والتعبّد حقيقةً بما لا يعلم أ نّه عبادي، فهو أمر غير ممكن؛ فإنّ التعبّد الحقيقي مع الشكّ في العبادية غير ممكن من المكلّف؛ إذ ليس الالتزامات النفسانية ممّا هي تحت اختيار المكلّف، كما سبق منّا استقصاء الكلام فيه في مباحث القطع(1).

نعم، اختراع بعض العبادات بواسطة الاستحسانات الظنّية - كبعض الأذكار والأوراد من بعض أهل البدع - ممكن، لكنّه بعد حصول مبادئه من الاستحسان والترجيح الظنّي.

وأمّا إسناد ما لم يعلم كونه من الشريعة إليها فأمر ممكن، وهو محرّم شرعاً وقبيح عقلاً، ويدلّ على حرمته - بعد كونه من المسلّمات - الأدلّة الدالّة على حرمة القول بغير علم(2)، بل وأدلّة(3) حرمة الإفتاء والقضاء بغير علم(4). وهذا عنوان آخر غير عنوان التشريع والبدعة، وقد خلط بينهما المحقّق المتقدّم قدّس سرّه

حيث طبّق عنوان التشريع عليه(5).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ هاهنا عنوانين كلّ واحد منهما محرّم شرعاً وقبيح عقلاً: أحدهما التشريع، والآخر القول بغير علم والإسناد إلى الشارع ما لا يعلم كونه منه.

ص: 180


1- تقدّم في الصفحة 104 - 106.
2- الأعراف (7): 33.
3- راجع وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4.
4- فيه إشكال؛ لأنّ الحكم إنشاء، لا إسناد إلى الشرع. [منه قدّس سرّه ]
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 124.

الجهة الثانية: أنّ حكم العقل بقبح التشريع وكذا حكمه بقبح القول بغير علم، ليسا من الاُمور التي لا تنالهما يد الجعل الشرعي، فإذا ورد دليل شرعي على حرمتهما لا يحمل على الإرشاد، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدّس سرّه (1).

لكن لا يستكشف من نفس الحكم العقلي الخطاب الشرعي بقاعدة الملازمة، كما ذهب إليه بعض مشايخ العصر - على ما في تقريراته(2) - فإنّ مجرّد كون الأحكام العقلية في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح، لا يوجب استتباع الخطاب الشرعي؛ لجواز اتّكاء الشارع فيها إلى الحكم العقلي من دون إنشاء خطاب على طبقها، فغاية ما يمكن دعواه هو الملازمة بين الأحكام العقلية وبين المبغوضية الشرعية أو محبوبيتها في مورد الملازمة، وأمّا كشف الخطاب الشرعي فلا؛ لمكان الاحتمال المتقدّم.

نعم، لو ورد دليل شرعي على الحرمة لا يجوز صرفه عن ظاهره وحمله على الإرشاد؛ لجواز أن يكون ملاكه أقوى ممّا أدركه العقل، فاحتاج إلى تعلّق الخطاب الشرعي، خصوصاً إذا كان على وجه التأكيد.

الجهة الثالثة: الظاهر عدم سراية قبح التشريع إلى الفعل المتشرّع به - بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً على القول بالملازمة، كما عن الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه (3) ومال إليه بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات

ص: 181


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 78.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 121.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 126 - 127.

بحثه(1) - ضرورة أنّ ما هو مناط القبح عند العقل هو نفس عنوان التشريع، سواء كان التشريع عبارةً عن التعبّد والالتزام بما لا يكون في الشريعة أو لا يعلم كونه فيها، أو عبارةً عن الإسناد إلى الشارع والافتراء عليه كذباً أو الإسناد إليه من غير

علم، وعلى أيّ حال لا وجه لتسرية القبح من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، فالالتزام بحرمة الصلاة الواجبة لا يغيّرها عمّا هي عليه، ولا يصيّرها قبيحة عقلاً؛ لعدم مناط القبح فيها، وهذا واضح جدّاً؛ فإذا كان القبيح عقلاً هو عنوان التشريع لا غير، لا يستكشف من قاعدة الملازمة إلاّ حرمة نفس هذا العنوان، لا عنوان آخر مغاير له؛ لعدم معقولية أوسعية دائرة المنكشف من الكاشف.

وما أفاده المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه في وجه السراية - من إمكان كون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو

عليه، وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلاً وحرمته شرعاً(2) - من عجيب الاستدلال؛ فإنّه استنتج من مجرّد إمكان المقدّمة فعلية الحكم. هب أنّ طريان العناوين على شيء ممّا يمكن أن يغيّر جهاته، فبأيّ دليل تكون هذه العناوين كذلك ؟ !

مضافاً إلى ممنوعية تغيّر جهات الأفعال فيما نحن فيه بواسطة عنوان آخر مغاير له، فما هو القبيح المحرّم هو عنوان الالتزام والتعبّد بما لا يعلم، ونفس

ص: 182


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 121 - 122.
2- نفس المصدر.

الالتزام بشيء لا يوجب قبح ذلك الشيء، كما أنّ نفس الافتراء على الله كذباً لا يوجب قبح متعلّقه، كما لا يخفى. ومجرّد كون القصد في بعض المقامات مغيّراً للجهات لا ينتج كونه مغيّراً فيما نحن فيه، فالكبرى أيضاً ليست كلّية.

وأعجب منه الاستدلال على الحرمة بقوله: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(1)؛ لدلالته على حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدلّ على حرمة نفس العمل(2)؛ فإنّ حرمة القضاء والإفتاء بغير علم وكذا حرمة القول بغير علم ثابتة بلا إشكال وكلام، وليس النزاع فيها، إنّما الكلام في متعلّقاتها لا في نفس عناوينها، كما لا يخفى.

الجهة الرابعة: قد عرفت في أوّل المبحث: أنّ التشريع - أي إدخال ما ليس في الشريعة فيها - قبيح عقلاً ومحرّم شرعاً، وهو عنوان برأسه، كما أنّ القول بغير علم وإسناد ما لا يعلم كونه من الشارع إلى الشارع قبيح ومحرّم. فاعلم الآن أنّ التشريع من العناوين الواقعية التي قد يصيبها المكلّف وقد لا يصيبها، فانسلاك ما هو واجب بحسب الحكم الشرعي في جملة المحرّمات أو غيرها مبغوض عند الشارع، وكذلك العكس، فنفس تغيير القوانين الشرعية والأحكام الإلهية، وإدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، من المبغوضات الشرعية التي قد يتعلّق بها العلم وقد لا يتعلّق.

فالتشريع بهذا المعنى من العناوين الواقعية المبغوضة بمناط خاصّ به، كما أنّ

ص: 183


1- الكافي 7: 407 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 122.

القول بغير علم وإسناد شيء إلى الشارع بلا حجّة أيضاً من العناوين المبغوضة برأسها بمناط خاصّ غير مناط التشريع بالمعنى المتقدّم.

فما أفاد بعض مشايخ عصرنا قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه -: من أ نّه ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلّف أو لا يصيبه، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه، سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ، وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن. والحاصل: أنّ للعقل في باب التشريع حكماً واحداً بمناط واحد يعمّ صورة العلم والظنّ والشكّ(1).

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه؛ فإنّ مفسدة إدخال ما ليس في الدين فيه والتصرّف في حدود الأحكام الشرعية والتلاعب بها، من المستقلاّت العقلية كالظلم، بل هو ظلم على المولى، وله مناط خاصّ به.

نعم، مع عدم علم العبد لا يتّصف هذا التصرّف بالقبح مثل سائر القبائح العقلية، فالتصرّف في أموال الناس وأعراضهم وقتل النفس وغيرها - ممّا هي قبيحة عقلاً ومحرّمة شرعاً - يكون قبحها الفاعلي عند علم الفاعل، لكن الحرمة الشرعية متعلّقة بنفس العناوين الواقعية، ويكون العلم طريقاً إليها، فالعقل يدرك مفسدة هذه العناوين الواقعية، كما أ نّه يدرك مفسدة إدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، والحرمة الشرعية أيضاً متعلّقة بهذا العنوان، وإنّما العلم طريق إليه كما في سائر الموارد، ولا ريب في أنّ لهذا المعنى واقعاً قد يصيبه المكلّف وقد لا يصيبه.

ص: 184


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 124 - 125.

وأمّا القول بغير علم فهو عنوان برأسه في مقابل هذا العنوان، وفي مقابل عنوان الكذب الذي هو الإخبار المخالف للواقع.

والحاصل: أنّ هاهنا ثلاثة عناوين كلّها محرّمة شرعاً بعناوينها: التشريع، والكذب، والقول بغير علم، فإذا صادف القول بغير علم التشريع أو الكذب، ينطبق عليه العنوانان واقعاً، لكنّ خطابي التشريع والكذب قاصران عن شمول مورد الشكّ؛ لأنّ الشبهة مصداقية للعامّ، كما هو واضح.

تتمّة: في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها

في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها

قد عرفت: أنّ الأصل عدم حجّية الأمارات عند الشكّ في اعتبارها، وقد يقرّر الأصل بوجه آخر وهو استصحاب عدم الحجّية.

ومنع الشيخ قدّس سرّه من جريانه؛ لعدم ترتّب الأثر العملي على مقتضى

الاستصحاب؛ لأنّ نفس الشكّ في الحجّية موضوع لحرمة التعبّد، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبّد بالأمارة.

وحاصله: أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشكّ(1)، انتهى.

وردّه المحقّق الخراساني(2) بوجهين:

ص: 185


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 127 - 128.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 80 - 81.

أحدهما: أنّ الحجّية من الأحكام الوضعية، وجريان الاستصحاب - وجوداً وعدماً - فيها لا يحتاج إلى أثر آخر وراءها، كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة.

وثانيهما: لو سلّم الاحتياج إلى الأثر، فحرمة التعبّد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّية تكون أثراً لعدم الحجّية واقعاً، فيكون الشكّ في الحجّية مورداً لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشكّ، ويقدّم الاستصحاب على القاعدة؛ لحكومته عليها، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها.

هذا حاصل ما لخّصه بعض المحقّقين المعاصرين من كلامهما على ما في تقريراته(1).

وردّ المحقّق المعاصر رحمه الله علیه الوجهين بما ملخّصه:

أمّا الوجه الأوّل: أنّ الاستصحاب من الاُصول العملية، ولا يجري إلاّ إذا كان في البين عمل، وما اشتهر: أنّ الاُصول الحكمية لا تتوقّف على الأثر، إنّما هو فيما إذا كان المؤدّى بنفسه من الآثار العملية، لا مطلقاً.

والحجّية وإن كانت من الأحكام الوضعية المجعولة، إلاّ أ نّها بوجودها الواقعي لا يترتّب عليها أثر عملي، والآثار المترتّبة عليها: منها ما يترتّب عليها بوجودها العلمي؛ ككونها منجّزةً للواقع عند الإصابة وعذراً عند المخالفة، ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها، كحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسنادها إلى الشارع، فليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّ حرمة التعبّد بها، وهو حاصل

ص: 186


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 126 - 127.

بنفس الشكّ في الحجّية وجداناً، فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر أسوأ حالاً من تحصيل الحاصل؛ للزوم إحراز ما هو محرز وجداناً بالتعبّد(1).

وأمّا الوجه الثاني بقوله: وأمّا ما أفاده ثانياً من أنّ حرمة التعبّد بالأمارة تكون أثراً للشكّ في الحجّية ولعدم الحجّية واقعاً، وفي ظرف الشكّ يكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة له. ففيه: أ نّه لا يعقل أن يكون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر الشرعي في عرض الواقع، مع عدم جريان الاستصحاب على هذا الفرض أيضاً؛ لأنّ الأثر يترتّب بمجرّد الشكّ؛ لتحقّق موضوعه، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب؛ ولا تصل النوبة إلى إثبات الواقع ليجري الاستصحاب؛ فإنّه في الرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقّق موضوع الأثر، وترتّب عليه الأثر، فأيّ فائدة في جريان الاستصحاب ؟ !

وحكومة الاستصحاب على القاعدة إنّما تكون فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة، كقاعدة الطهارة والحلّ واستصحابهما؛ فإنّ القاعدة لا تثبت الطهارة والحلّية الواقعية، بل مفادهما حكم ظاهري، بخلاف الاستصحاب، وقد يترتّب على بقاء الطهارة والحلّية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلّية الأكل، وعلى ذلك يبتني جوازُ الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شكّ في حلّيته إذا جرى استصحاب الحلّية، كما [إذا] كان الحيوان غنماً فشكّ في مسخه إلى الأرنب، وعدمُ جواز الصلاة في أجزائه إذا لم يجر الاستصحاب وإن جرت فيه أصالة الحلّ، فإنّها لا تثبت الحلّية الواقعية.

ص: 187


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 127 - 129.

وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب؛ فإنّه في مورد جريان القاعدة لا يجري الاستصحاب وبالعكس، فالقاعدة تجري في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء بالامتثال ونحوه، والاستصحاب يجري عند الشكّ في فعل المأمور به، وأين هذا ممّا نحن فيه؛ ممّا كان الأثر المترتّب على الاستصحاب عين الأثر المترتّب على الشكّ ؟! فالإنصاف: أ نّه لا مجال لتوهّم جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها(1)،

انتهى.

أقول: قد عرفت سابقاً أنّ التشريع وإدخال شيء في الشريعة وتبديل الأحكام بعضها ببعض والتلاعب بها، ممّا هو مبغوض عند الشرع ومحرّم واقعي، علم المكلّف أو لا، وهذا عنوان برأسه، كما أنّ القول بغير علم ونسبة شيء إلى الشارع بلا حجّة قبيح عقلاً ومحرّم آخر شرعي بمناط خاصّ به، فالشكّ في الحجّية - كما أ نّه موضوع لحرمة التعبّد وحرمة الانتساب إلى الشارع - موضوع لاستصحاب عدم الحجّية وحرمة التشريع وإدخال ما ليس في الدين فيه، ويكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة للشكّ؛ لإزالته تعبّداً(2).

ص: 188


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 130 - 132.
2- بمعنى أ نّه مع استصحاب عدم جعل الحجّية وعدم كون الشيء الفلاني من الدين، يخرج الموضوع عن القول بغير العلم؛ لأنّ المراد من القول بغير العلم هو القول بغير حجّة؛ ضرورة أنّ الإفتاء بمقتضى الأمارة والاُصول والنسبة إلى الشارع، مقتضاهما غير محرّم وغير داخل في القول بغير علم، فحينئذٍ: لا تكون النسبة مع استصحاب العدم نسبة بغير حجّة، بل نسبة مع الحجّة على العدم، وهو كذب وافتراء وبدعة، وتكون حرمته لأجل انطباق هذه العناوين عليه، لا عنوان القول بغير علم. و توهّم مثبتية الأصل في غير محلّه، كما لا يخفى على المتأمّل. ولو نوقش فيه فلا يلزم إثبات تلك العناوين، بل مع استصحاب عدم كون شيء من الشارع يكون حكمه حرمة الانتساب إليه، كاستصحاب عدالة زيد حيث يكون حكمه صحّة الاقتداء به. [منه قدّس سرّه ]

ومن ذلك يعلم ما في كلام هؤلاء الأعلام قدّس سرّه من الخلط، إلاّ أن يرجع كلام المحقّق الخراساني قدّس سرّه في الوجه الثاني إلى ما ذكرنا، وهو بعيد.

وأمّا ما يرد على المحقّق النائيني - مضافاً إلى ما ذكره الفاضل المقرّر رحمه الله علیه في وجه التأمّل في المقام(1) - اُمور:

الأوّل: أنّ ما ذكر أنّ جريان الاستصحاب تحصيل الحاصل بل أسوأ منه، فيه: أنّ حرمة التشريع لا تحصل بنفس الشكّ، بل ما يحصل بنفسه هو حرمة القول بغير علم والتعبّد بما لا يعلم، وهو أمر آخر غير التشريع، كما عرفت.

والثاني: أ نّه لا دليل على عدم معقولية كون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع، وإنّما هو دعوى خالية من البرهان مع جعلين مستقلّين.

والثالث: أنّ ما أفاد من أنّ الشكّ في الرتبة السابقة على الاستصحاب يترتّب عليه الأثر، فلا يبقى مجال لجريانه، يرد عليه: أ نّه ليس رتبة الشكّ - الذي هو موضوع للقاعدة - متقدّمة على ما هو موضوع الاستصحاب، بعد ما كان الأثر مترتّباً على الواقع كما هو المفروض، لا على العلم بعدم الواقع حتّى يكون تحقّق هذا العنوان تعبّداً في الرتبة المتأخّرة عن جريان الاستصحاب، فالشكّ في الرتبة

ص: 189


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 129، الهامش 1.

الواحدة موضوع لهما بلا تقدّم وتأخّر أصلاً(1).

وتقدّمه على إثبات الحكم الاستصحابي لا يمنع عن جريانه؛ ضرورة تقدّم كلّ موضوع على حكمه، فكما أ نّه مقدّم على هذا الإثبات كذلك مقدّم على حكم الشكّ في القاعدة، فالشكّ في الرتبة السابقة على الحكمين موضوع لهما. نعم، لمّا كان جريان الاستصحاب رافعاً لموضوع القاعدة حكماً يتقدّم عليها، وهو واضح.

والرابع: أنّ ما أفاد في وجه الفرق بين قاعدة الطهارة والحلّية واستصحابهما في جواز الصلاة في مشكوكهما، يرد عليه: أنّ اعتبار الطهارة والحلّية بحسب الأدلّة الأوّلية وإن كان بوجودهما الواقعي، لكن أدلّة أصالتي الطهارة والحلّية - التي مفادها هو ترتيب آثار الواقع على المشكوك - يستفاد منها التعميم بالحكومة بلا إشكال وريب.

نعم، فيما إذا شكّ في مسخ الغنم بالأرنب يقدّم الاستصحاب الموضوعي على القاعدة وعلى الاستصحاب الحكمي، وهذا أمر آخر غير مربوط بما نحن بصدده.

والخامس: أنّ ما أفاد من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة الاشتغال وبالعكس؛ إن ادّعى الكلّية ففيه منع واضح، وإن ادّعى في بعض الموارد - التي تختلّ [فيها] أركان الاستصحاب مثلاً - فهو خارج عن الموضوع، كما أنّ عدم جريان الاستصحاب في المثال الذي ذكره لعلّه لاختلال بعض أركانه.

وأمّا عدم جريان القاعدة في حدّ نفسها عند الشكّ في فعل المأمور به فممنوع.

ص: 190


1- بناءً على أنّ المجعول في الاستصحاب هو الجري العملي، كما هو مبناه. [منه قدّس سرّه ]

فصل: في حجّية الظواهر

في حجّية الظواهر

قوله: «لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع»(17).

أقول: لا بدّ لإثبات الحكم الشرعي من طيّ مراحل، كإثبات أصل الصدور، والمتكفّل به كبروياً هو بحث حجّية الخبر الواحد، وصغروياً هو علم الرجال وأسانيد الروايات، وكإثبات الظهور، والمتكفّل به هو الطرق التي تثبت بها الظهورات، كالتبادر وصحّة السلب وأمثالهما، وكقول اللغويين ومهرة الفنّ وإثبات حجّية قولهم، وكإثبات كون الظهورات - كتاباً وسنّة - مرادة استعمالاً، وكإثبات جهة الصدور، ويقال له: أصل التطابق.

ولا إشكال ولا كلام في أنّ بناء العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات الاستعمالية، فاللفظ الصادر من المتكلّم - بما أ نّه فعل له كسائر أفعاله - يدلّ بالدلالة العقلية - لا الوضعية - على أنّ فاعله مريد له، وأنّ مبدأ صدوره هو اختياره وإرادته، كما أ نّه يدلّ بالدلالة العقلية أيضاً على أنّ صدوره يكون لغرض الإفادة، ولا يكون لغواً، كما أ نّه يدلّ بهذه الدلالة على أنّ قائله أراد إفادة

ص: 191

مضمون الجملة خبرياً أو إنشائياً، لا الفائدة الاُخرى، وتدلّ مفردات كلامه من حيث إنّها موضوعة، على أنّ المتكلّم به أراد منها المعاني الموضوعة لها، ومن حيث إنّه كلام مركّب من ألفاظ وله هيئة تركيبية، على أ نّه أراد ما هو الظاهر منه وما هو المتفاهم العرفي لا غيره، ويدلّ أيضاً على أنّ المتكلّم المريد بالإرادة الاستعمالية ما هو الظاهر من المفردات والهيئة التركيبية، أراد ذلك بالإرادة الجدّية؛ أي تكون إرادته الاستعمالية مطابقة لإرادته الجدّية.

وكلّ هذه دلالات عقلية يدلّ عليها بناء العقلاء في محاوراتهم، والخروج عنها خروج عن طريقتهم، ويحتجّون [بها] على غيرهم في كلّ من تلك المراحل، ولا يصغون إلى دعوى المخالفة، وهذا واضح.

إنّما الكلام في أنّ حجّية الظهورات إنّما هي من أجل أصالة الحقيقة، أو أصالة عدم القرينة، أو أصالة الظهور، أو أنّ لهم في كلّ مورد أصلاً برأسه، فمع الشكّ في وجود القرينة تجري أصالة عدم القرينة، وبعدها تجري أصالة الحقيقة، وفي بعض الموارد تجري أصالة الظهور، مثل الظهورات المنعقدة للمجازات عند احتمال إرادة خلاف ظاهرها؛ فإنّه لا يجري فيها أصالة الحقيقة، وهو ظاهر، ولا أصالة عدم القرينة إذا لم يكن الشكّ من جهة وجودها، وفي بعض الموارد تجري أصالة العموم، وفي بعضها أصالة الإطلاق.

وبالجملة: هل للعقلاء اُصول كثيرة، كأصالة الحقيقة، وعدم القرينة، والظهور، والعموم، والإطلاق، وكلّ منها مورد بناء العقلاء برأسه، أو لا يكون عندهم إلاّ أصل واحد هو مبناهم في جميع المراحل ؟ وما هو هذا الأصل ؟

الظاهر - بعد التدبّر والتأمّل في طريقة العقلاء في محاوراتهم ومراسلاتهم -

ص: 192

أنّ ما هو مأخذ احتجاج بعضهم على بعض هو الظهورات المنعقدة للكلام، سواء كانت في باب الحقائق والمجازات، أو العمومات والإطلاقات، ولا يكون مستندهم إلاّ الظهور في كلّية الموارد، والمراد منها هو أنّ بناء العقلاء تحميل ظاهر كلام المتكلّم عليه والاحتجاج عليه، وتحميل المتكلّم ظاهر كلامه على المخاطب واحتجاجه به(1) وهذا أمر متّبع في جميع الموارد، ومستنده أصالة

العموم والإطلاق وأصالة الحقيقة. والظاهر أنّ أصالة عدم القرينة أيضاً ترجع إلى أصالة الظهور؛ أي العقلاء يحملون الكلام على ظاهره حتّى تثبت القرينة، ولهذا تتّبع الظهورات مع الشكّ في قرينية الموجود ما دام كون الظهور باقياً.

وبالجملة: المتّبع هو الظهور المنعقد للكلام وإن شكّ في قرينية الموجود ما لم ينثلم الظهور.

وبالجملة: لا إشكال في حجّية الظواهر، من غير فرق بين ظواهر الكتاب وغيره، ولا بين كلام الشارع وغيره، ولا بالنسبة إلى من قصد إفهامه وغيره.

لكن في المقام خلافان:

أحدهما من المحقّق القمّي رحمه الله علیه : حيث فصّل بين من قصد إفهامه وغيره(2).

ولا ريب في ضعفه؛ فإنّ دعواه ممنوعة صغرى وكبرى؛ ضرورة أنّ بناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقاً. نعم، لو اُحرز من متكلّم أ نّه كان بينه وبين مخاطب خاصّ مخاطبة خاصّة على خلاف متعارف الناس، وكان من بنائه

ص: 193


1- قد حقّقنا المقام في الدورة اللاحقة، فراجع أ. [منه قدّس سرّه ] أ - راجع تهذيب الاُصول 2: 414.
2- قوانين الاُصول 1: 229 / السطر 16، و: 398 / السطر 23.

التكلّم معه بالرمز، لم يجز الأخذ بظاهر كلامه، والمدّعي إن أراد ذلك فلا كلام، وإلاّ فطريقة العقلاء على خلاف دعواه.

مع أ نّه لو سلّم ذلك، فلنا أن نمنع الصغرى بالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن

المعصومين علیهم السلام ، فإنّهم بما هم مبيّنو الأحكام وشأنهم بثّ الأحكام الإلهية في الأنام، لا يكون كلامهم إلاّ مثل الكتب المؤلّفة التي لا يكون المقصود منها إلاّ نفس مفاد الكلام من غير دخالة إفهام متكلّم خاصّ، كما لو فرضنا أنّ متكلّماً يخاطب شخصاً خاصّاً - في مجلس فيه جمع كثير - بخطاب مربوط بجميعهم، ولا يكون للمخاطب خصوصية في خطابه، لا يمكن أن يقال: إنّ ظاهر كلامه لا يكون حجّة بالنسبة إليهم، وإن فرّقنا بين من قصد إفهامه وغيره؛ لأنّ في مثل المورد لا يكون المخاطب ممّن قصد إفهامه دون غيره.

و معلوم أنّ أئمّتنا المعصومين علیهم السلام وإن كان مخاطبتهم مع أشخاص خاصّة، لكن لغرض بثّ الأحكام الإلهية في الأنام، وإفادة نفس مضمون الكلام بما أ نّه تكليف عامّ للناس من غير خصوصية للمخاطب أصلاً، ولهذا كثير من رواياتهم المنقولة إلينا يكون من غير المخاطب بالكلام، كقول بعضهم مثلاً: كنت عند أبي عبدالله علیه السلام فسأله رجل عن كذا، فقال له: كذا، والرواة كانوا يأخذون هذا الحكم منه من غير نكير، ولم يكن هذا إلاّ لبنائهم - بما أ نّهم عقلاء - على العمل بالظواهر من غير فرق بينها، وهذا واضح.

وثانيهما: مقالة الأخباريين بالنسبة إلى ظواهر الكتاب المجيد(1)،

ص: 194


1- راجع هداية الأبرار: 155؛ الفوائد الطوسية: 163؛ الدرر النجفية: 169.

واستدلّوا على ذلك بوجوه:

منها: وقوع التحريف في الكتاب حسب أخبار كثيرة، فلا يمكن التمسّك به؛ لعروض الإجمال بواسطته عليه(1).

وهذا ممنوع بحسب الصغرى والكبرى:

أمّا الاُولى: فلمنع وقوع التحريف فيه جدّاً، كما هو مذهب المحقّقين من علماء العامّة والخاصّة، والمعتبرين من الفريقين، وإن شئت شطراً من الكلام في هذا المقام فارجع إلى مقدّمة تفسير آلاء الرحمن للعلاّمة البلاغي المعاصر قدّس سرّه (2).

وأزيدك توضيحاً: أ نّه لو كان الأمر كما توهّم صاحب «فصل الخطاب» الذي كان كتبه لا يفيد علماً ولا عملاً، وإنّما هو إيراد روايات أعرض عنها الأصحاب، واختلاط ضعاف بين الروايات بعد تنزيهها عنها اُولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدّمين رحمهما اللّه .

هذا حال كتب روايته غالباً ك- «المستدرك»، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجدّ، وهو رحمه الله علیه شخص صالح متتبّع، إلاّ أنّ اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبلها العقل السليم والرأي المستقيم، أكثر من الكلام النافع، والعجب من معاصريه من أهل اليقظة ! كيف ذهلوا وغفلوا حتّى وقع ما وقع ممّا بكت عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض ؟ !

ص: 195


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 158؛ كفاية الاُصول: 328؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 364؛ نهاية الأفكار 3: 91.
2- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 61.

وبالجملة: لو كان الأمر كما ذكره هذا وأشباهه، من كون الكتاب الإلهي مشحوناً بذكر أهل البيت وفضلهم، وذكر أميرالمؤمنين وإثبات وصايته وإمامته، فلِمَ لم يحتجّ بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي أميرُالمؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين علیهم السلام وسلمان، وأبوذرّ، ومقداد، وعمّار، وسائر الأصحاب الذين لا يزالون يحتجّون على خلافته علیه السلام (1) ؟ !

ولمَ تشبّث علیه السلام بالأحاديث النبوية(2)، والقرآن بين أظهرهم ؟ !

ولو كان القرآن مشحوناً باسم أميرالمؤمنين وأولاده المعصومين وفضائلهم وإثبات خلافتهم، فبأيّ وجه خاف النبي صلی الله علیه و آله وسلم في حجّة الوداع آخر سنين عمره الشريف وأخيرة نزول الوحي الإلهي من تبليغ آية واحدة مربوطة بالتبليغ، حتّى ورد أنّ )الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ((3) ؟ !

ولِمَ احتاج النبي صلی الله علیه و آله وسلم إلى دواة وقلم حين موته(4) للتصريح باسم علي علیه السلام ؟ ! فهل رأى أنّ لكلامه أثراً فوق أثر الوحي الإلهي ؟ !

وبالجملة: ففساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلاّ أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيّد الأنام.

وأمّا الكبرى: فلأنّ التحريف - على فرض وقوعه - إنّما وقع في غير آيات

ص: 196


1- راجع الاحتجاج 1: 186.
2- راجع الاحتجاج 1: 183 و320.
3- المائدة (5): 67.
4- راجع صحيح البخاري 9: 774 / 2169؛ المسند، أحمد بن حنبل 3: 309 / 2992.

الأحكام ممّا هو مخالف لأغراضهم الفاسدة، ولو احتمل كونها طرفاً للاحتمال أيضاً فلا إشكال في عدم تأثير العلم الإجمالي. ودعوى العلم بالوقوع فيها بالخصوص مجازفة واضحة.

ومنها: العلم الإجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات والمطلقات الكتابية، والعلم الإجمالي يمنع عن التمسّك بأصالة الظهور(1).

ومنها: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب(2).

ومنها: غير ذلك(3).

ولقد أجاب عنها الأصحاب، فلا داعي للتعرّض لها.

هذا كلّه ممّا يتعلّق بحجّية الظواهر.

ص: 197


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم، 24: 149؛ كفاية الاُصول: 325.
2- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 139؛ كفاية الاُصول: 325.
3- راجع كفاية الاُصول: 324 - 325.

فصل: في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر

اشارة

في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر

وأمّا ما يتعلّق بتشخيص الظاهر فبعض المباحث منها مربوط بمباحث الألفاظ، وما يتعلّق بما نحن فيه فالعمدة هو دعوى حجّية قول اللغوي ومهرة الفنّ.

حجّية قول اللغوي

وقد استدلّ على حجّيته: بأنّ اللغوي من أهل الخبرة، وبناء العقلاء الرجوع إلى أهل الصناعات وأصحاب الخبرة في صناعاتهم ومورد خبرويتهم ؛ فإنّ رجوع الجاهل إلى العالم ارتكازي، وبناء العقلاء عليه ممّا لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه، والشارع الصادع لم يردع عنه، فيتمّ القول بالحجّية.

كما أنّ الأمر كذلك في باب التقليد؛ فإنّه أيضاً من باب رجوع الجاهل بالصنعة إلى العالم بها، الذي تدور عليه رحى سياسة المدن وحياة المجتمع، كما لا يخفى.

ص: 198

وأمّا الإجماع والانسداد فليسا بشيء.

وأمّا الجواب عن هذا الدليل:

أمّا أوّلاً: فبمنع كون اللغويين من أهل خبروية تشخيص الحقائق من المجازات، وهذه كتبهم بين أيدينا ليس فيها أثر لذلك، ولا يدّعي لغوي - فيما نعلم - أ نّه من أهل الخبرة بذلك، وإنّما هم يتفحّصون عن موارد الاستعمالات.

لا يقال: الاستعمال يثبت بقول اللغوي؛ فإنّه [من] أهل الخبرة بموارد الاستعمال، وهو مع أصالة الحقيقة يتمّ المطلوب.

فإنّه يقال: الاستعمال أعمّ من الحقيقة، خلافاً للسيّد المرتضى رحمه الله علیه (1).

وأمّا ثانياً: فعلى فرض كونه [من] أهل الخبرة، فمجرّد بناء العقلاء على العمل بقولهم لا ينتج، إلاّ أن ينضمّ إليه عدم ردع الشارع الكاشف عن رضاه، وليس هاهنا كلام صادر من الشارع يدلّ على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، حتّى نتمسّك بإطلاقه أو عمومه في موارد الشكّ، وإنّما يجوز التشبّث ببناء العقلاء وعدم الردع فيما إذا اُحرز كون بناء العقلاء في المورد المشكوك متّصلاً بزمن الشارع ولم يردع عنه، مثل بنائهم على العمل بخبر الواحد واليد وأصالة الصحّة؛ فإنّه لا إشكال في اتّصال عملهم في تلك الموارد إلى زمان الشارع، ولكن فيما إذا لم يكن كذلك أو لم يحرز كونه كذلك لا يفيد مجرّد بنائهم.

ص: 199


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 13.

وبناء العقلاء على العمل بقول أهل الصناعة ومهرة كلّ فنّ إنّما هو أمر لبّي لا لفظ فيه، كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك: يتّضح لك الإشكال في حجّية قول اللغوي(1)، وفي مثله لا يجوز التشبّث بما ذكر، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومن ذلك يمكن الخدشة - في باب التقليد أيضاً - في التمسّك بهذا الدليل؛ لاحتمال أن يكون الاجتهاد - بهذا المعنى المتعارف في هذه الأزمنة - حادثاً بعد غروب شمس الولاية فداه مهجتي.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّه يظهر من أخبار أهل البيت أنّ الاجتهاد والفتوى كان في زمنهم وبين أجلّة أصحابهم أمراً معمولاً به، كما لا يبعد(2).

ص: 200


1- لعدم إحراز رجوع الناس إلى أهل صناعة اللغة في زمن المعصوم عليه السلام بحيث اُحرز كون اتّكائهم في العمل على قوله محضاً، كالراجع إلى الطبيب والفقيه. وأمّا الرجوع إليه لتشخيص المعنى اللغوي بمناسبة سائر الجمل - كما في رجوعنا إلى اللغة - فلا يكون محطّ البحث ولا مفيداً للمدّعى، فصرف إثبات تدوين اللغة في تلك الأزمنة - بل صرف الرجوع إليها - لا يفيد. وبالجملة فرق بين الرجوع إليها وإلى الطبيب والفقيه ونحوهما ممّا لا نظر للمراجع في صنعتهما، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ]
2- وقد أثبتنا ذلك في بحث الاجتهاد والتقليد أ، فراجع. [منه قدّس سرّه ] أ - الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدّس سرّه : 49.

فصل: في حجّية الإجماع المنقول

في حجّية الإجماع المنقول

قوله: «الإجماع المنقول»(18).

أقول: تحقيق المقام يتمّ برسم اُمور:

الأمر الأوّل: الظاهر أنّ انسلاك الإجماع في سلك الأدلّة وعدّه في مقابلها إنّما نشأ من العامّة، وقد عرّفوه بتعاريف:

فعن الغزالي: أ نّه اتّفاق اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم على أمر من الاُمور الدينية(1).

وعن الرازي: أ نّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم على أمر من الاُمور(2).

وعن الحاجبي: أ نّه اجتماع المجتهدين من هذه الاُمّة في عصر على أمر(3).

والظاهر أنّ مستندهم في حجّيته ما نقلوا عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «لا تجتمع اُمّتي

ص: 201


1- المستصفى من علم الاُصول 1: 173.
2- المحصول في علم اُصول الفقه 3: 770.
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 122.

على الضلالة»(1) ولعلّ الغزالي نظر إلى ظاهر الرواية فعرّفه بما عرّفه، والرازي وغيره لمّا رأوا أنّ ذلك ينافي مقصدهم الأصيل - من إثبات خلافة مشايخهم - أعرضوا عن تعريف الغزالي، مع أنّ الإجماع - بأيّ معنى كان - لم يتحقّق على خلافة أبي بكر؛ لمخالفة كثير من أهل الحلّ والعقد وأصحاب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم (2).

وبالجملة: الإجماع عندهم دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنّة والعقل.

وأمّا عندنا فهو ليس دليلاً برأسه في مقابل السنّة، بل هو عبارة عن قول جماعة يستكشف منه قول المعصوم علیه السلام أو رضاه.

وبالجملة: ما هو الحجّة هو رأيه علیه السلام وتدور الحجّية مداره، سواء استكشف من اتّفاق الكلّ، أو اتّفاق جماعة يستكشف منه ذلك، وليس نفس اجتماع الآراء حجّة كما يكون عند العامّة.

فتحصّل من ذلك: أنّ الإجماع - اصطلاحاً ومناطاً - عند العامّة غيره عندنا.

والظاهر أنّ عدّ أصحابنا الإجماع في الأدلّة لمحض تبعية العامّة، وإراءة أنّ لنا أيضاً نصيباً من هذا الدليل؛ فإنّ اتّفاق الاُمّة لمّا كان المعصوم أحدهم حجّة عندنا، واتّفاق أهل الحلّ والعقد لمّا يستكشف منه قول الإمام - لطفاً أو حدساً أو كشفاً عن دليل معتبر - حجّة، وإلاّ لم يكن لنفس الإجماع واجتماع الآراء عندنا استقلال بالدليلية.

وكثرة دعوى الإجماع من قدماء أصحابنا، كابن زُهرة في «الغنية» والشيخ وأمثالهما، إنّما هي لأجل تمامية مناط الإجماع عندهم؛ وهو العثور على الدليل

ص: 202


1- سنن ابن ماجة 2: 1303 / 3950.
2- اُنظر العقد الفريد 5: 17.

المعتبر الكاشف عن رأي الإمام، ولا ينافي هذا الإجماع خلافية المسألة، كما يظهر من اُصول «الغُنية»(1)، فراجع.

الأمر الثاني: أدلّة حجّية خبر الثقة - من بناء العقلاء والكتاب والسنّة - لو تمّت دلالتها إنّما تدلّ على حجّيته بالنسبة إلى الأمر المحسوس، أو الغير المحسوس الذي يعدّ عند العرف كالمحسوس؛ لقربه إلى الحسّ، وفي المحسوس أيضاً إذا كان المخبر به أمراً غريباً غير عادي تكون أدلّتها قاصرة عن إفادة حجّيته؛ لعدم إحراز بناء العقلاء وقصور دلالة غيره عليها.

ومن ذلك يعرف: أنّ نقل قول شخص الإمام بالسماع منه علیه السلام في زمان الغيبة الكبرى - إمّا بنحو الدخول في المجمعين مع عدم معرفة شخصه، أو معها - لا يعبأ به، ولا دليل على حجّيته.

وإن شئت قلت: احتمال تعمّد الكذب لا يدفع بأدلّة حجّية الخبر، كما أنّ أصالة عدم الخطأ - التي هي من الاُصول العقلائية - لا تجري في الاُمور الغريبة الغير العادية. فمن ادّعى أ نّه تشرّف بحضوره لا يمكن إثبات دعواه بمجرّد أدلّة حجّية خبر الواحد، إلاّ أن تكون في البين شواهد ودلائل اُخرى(2).

الأمر الثالث: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد بالنسبة إلى الكاشف حجّة إذا كان له أثر عملي، وأمّا بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجّة؛ فإنّه أمر غير محسوس اجتهادي ولا تنهض أدلّة حجّيته على ذلك.

ص: 203


1- غنية النزوع 2: 384.
2- ولهذا ورد الأمر بتكذيب مدّعي الملاقاةأ. [منه قدّس سرّه ] أ - الغيبة، الطوسي: 395 / 365؛ الاحتجاج 2: 556 / 349.

وما قيل: إنّه وإن كان غير محسوس إلاّ أنّ مبادئه محسوسة، كالإخبار بالعدالة والشجاعة(1).

فيرد عليه: أنّ العدالة والشجاعة وأمثالهما من المعقولات القريبة من الحسّ، مع أنّ العدالة تثبت بحسن الظاهر تعبّداً بحسب الدليل الشرعي، فتصير من الاُمور التي تقبل الشهادة بالنسبة إليها، وأمّا الكشف عن رأي الإمام من قول المجمعين فليس سبيله كسبيلها؛ لأنّ للنظر والاجتهاد فيه مجالاً واسعاً.

الأمر الرابع: بما ذكرنا في بعض المقدّمات يعرف موهونية الإجماع على طريقة الدخول.

وأمّا على طريقة اللطف فهو أيضاً كذلك؛ لممنوعية قاعدته.

وأمّا الحدس برأي الإمام ورضاه - بدعوى الملازمة العادية بين اتّفاق المرؤوسين على شيء وبين رضا الرئيس به(2) - فهو قريب جدّاً؛ ضرورة أنّ من ورد في مملكة، فرأى في كلّ بلد وقرية وكورة وناحية منها أمراً رائجاً بين أجزاء الدولة - كقانون النظام مثلاً - يحدس حدساً قطعياً بأنّ هذا قانون المملكة، وممّا يرضى به رئيس الدولة.

فلا يصغى إلى ما أفاد بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - من أنّ اتّفاقهم على أمر: إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العادية بين إجماع المرؤوسين ورضا الرئيس مجال، وأمّا إذا اتّفق الاتّفاق

ص: 204


1- نهاية الأفكار 3: 97.
2- نفس المصدر.

بلا تواطؤ منهم فهو ممّا لا يلازم عادةً رضا الرئيس، ولا يمكن دعوى الملازمة(1)، انتهى.

فإنّه من الغرائب؛ ضرورة أولوية إنكار الملازمة في صورة تواطئهم على شيء؛ لإمكان أن يكون تواطؤهم عليه معلّلاً بأمر غير ما هو الواقع، وأمّا مع عدمه فلا احتمال في البين، ويكشف قطعاً عن الرضا.

هذا، كما أنّ دعوى كشف اتّفاقهم - بل الاشتهار بين متقدّمي الأصحاب - عن دليل معتبر قريبة جدّاً.

فمناط حجّية الإجماع - على التحقيق - هو الحدس القطعي برضا الإمام، أو الكشف عن دليل معتبر لم نعثر عليه.

إن قلت: دعوى الكشف عن الدليل المعتبر عند المجمعين وإن كانت قريبة(2) لكن يمكن أن يكون الدليل المنكشف دالاًّ عندهم على الحكم المفتى به، لا عندنا؛ لاختلاف الأنظار في فهم الظهورات.

قلت: كلاّ، بل الدعوى: أ نّه كشف عن دليل لو عثرنا عليه لفهمنا منه ذلك

ص: 205


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 150 - 151.
2- بل الكشف عن الدليل المعتبر اللفظي بعيد، لبعد عثور أرباب الجوامع - كالكليني والصدوق والشيخ - على رواية قابلة للاعتماد عليها وعدم نقلها، بل امتناع ذلك عادة، واحتمال وجدانهم في كتاب وفقدانه أبعد. بل الإجماع أو الشهرة القديمة، لوتحقّقا يحدس الفقيه بكون الفتوى معروفة في زمن الأئمّة والحكم ثابتاً، بحيث لا يرون أصحاب الاُصول والكتب حاجة إلى السؤال من الإمام عليه السلام فلم يسألوا؛ لاشتهاره ووضوحه من زمن الرسول صلى الله عليه و آله فلم يحدّثوا برواية دالّة عليه، وهذا ليس ببعيد. [منه قدّس سرّه ]

أيضاً، ألا ترى لو اتّفقت فتوى الفقهاء على حكم مقيّد، ويكون ما بأيدينا من

الأدلّة هو المطلق، نكشف قطعاً عن وجود قرينة أو مخصّص له، كما أ نّه لو اتّفقت فتواهم على إطلاق [و]دلّ الدليل على التخصيص والتقييد لم نعمل بهما، أو على خلاف ظاهر نرفع اليد عنه بمجرّد فتواهم، ولا يمكن أن يقال: إنّ الناس مختلفون في فهم الظواهر.

وبالجملة: فاتّفاقهم على حكم يكشف عن الدليل المعتبر الدالّ عليه.

إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أنّ الحاكي للإجماع إنّما تكون حكايته عن الكاشف معتبرةً ومشمولةً لأدلّة حجّية خبر الواحد، وحينئذٍ لو حصل تمام السبب بنظر المنقول إليه - لأجل الملازمة الواقعية عنده بين قولهم ورأي الإمام - فيأخذ به، وإلاّ احتيج إلى ضمّ ما يكون به تمام السبب من القرائن وضمّ فتوى غيرهم.

هذا، وممّا ذكرنا يعرف حال التواتر المنقول أيضاً.

ص: 206

فصل: في حجّية الشهرة الفتوائية

في حجّية الشهرة الفتوائية

قوله: «ممّا قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى...»(19).

اعلم أنّ الشهرة في الفتوى قد تكون من قدماء الأصحاب إلى زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله علیه ، وقد تكون من المتأخّرين عن زمانه:

أمّا الشهرة المتأخّرة فإنّما هي في التفريعات الفقهية، وليست بحجّة، ولا دليل على حجّيتها.

وما استدلّ لها - من فحوى أدلّة حجّية خبر الواحد، أو تنقيح المناط، أو تعليل آية النبأ(1)، أو دلالة المقبولة أو تعليلها عليها - مخدوش كلّه.

وأمّا الشهرة المتقدّمة - وهي التي بين أصحابنا الذين كان ديدنهم ضبط الاُصول المتلقّاة من الأئمّة في كتبهم بلا تبديل وتغيير، وكان بناؤهم على ضبط الفتاوى المأثورة خلفاً عن سلف إلى زمن الأئمّة الهادين، وكانت طريقتهم في الفقه غير طريقة المتأخّرين، كما يظهر من أوّل كتاب

ص: 207


1- الحجرات (49): 6.

«المبسوط»(1) - فهي حجّة، فإذا اشتهر حكم بين هؤلاء الأقدمين وتلقّي بالقبول يكشف ذلك عن دليل معتبر.

وبالجملة: في مثل تلك الشهرة مناط الإجماع، بل الإجماع ليس إلاّ ذاك. فالشهرة المتأخّرة كإجماعهم ليست بحجّة، والشهرة المتقدّمة فيها مناط الإجماع.

ويمكن أن يستدلّ على حجّيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة؛ حيث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم(2) عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(3)؛ ضرورة أنّ الشهرة بين الأصحاب في تلك الأزمنة - بحيث يكون الطرف الآخر قولاً شاذّاً

ص: 208


1- قد راجعنا الكتب التي كانت مؤلّفة قبل ولادة الشيخ أو قبل زمان تأليف «المبسوط» ك «المراسم» وكتب المفيد والسيّد علم الهدى، فلم نجد ما أفاد الشيخ الطوسي؛ لوضوح عدم كونها متون الأخبار، واختلاف ألفاظها معها، وبعضها مع بعض. نعم، بعض كتب الصدوق كذلك. والظاهر صحّة كلامه بالنسبة إلى الطبقة السابقة عن طبقة أصحاب الكتب الفتوائية، فلا يبعد أن يكون بناء تلك الطبقة على نقل الروايات المطابقة لفتواهم، أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح والتقييد والتخصيص، كما لا يبعد أن يكون «فقه الرضا عليه السلام» كذلك، وقريب منه كتاب «من لا يحضر». [منه قدّس سرّه ]
2- كما في الكافي.
3- الكافي 1: 67 / 10؛ الاحتجاج 2: 260/232؛ وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

معرضاً عنه بينهم، وغير مضرّ بإجماعهم عرفاً؛ بحيث يقال: إنّ المجمع عليه

بين الأصحاب ذلك الحكم، والقول الشاذّ قول مخالف للمجمع عليه بينهم - لا شبهة في حجّيتها واعتبارها وكشفها عن رأي المعصوم، وهذا هو الإجماع المعتبر الذي يقال في حقّه: إنّه لا ريب فيه(1).

إن قلت: إنّ الاستدلال بهذا التعليل ضعيف؛ لأ نّه ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها؛ فإنّ المراد من قوله: «فإنّ

المجمع عليه لا ريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائية، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله: «ممّا لا ريب فيه» عليه بقول مطلق، بل لا بدّ أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما

يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية؛ لأ نّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله: «الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال: لا تشرب المسكر، بلا ضمّ الخمر إليه، والتعليل

الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأ نّه لا يصحّ أن يقال: يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله، وإلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره، وبأقوى الشهرتين، وبالظنّ المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها، فالتعليل أجنبيّ عن أن يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن موردها .

ص: 209


1- فحينئذٍ: لا دليل على حجّية مجرّد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس منها قول الإمام عليه السلام؛ أي لا دليل على حجّية الشهرة التي [هي] من الأدلّة الظنّية. [منه قدّس سرّه ]

قلت: نعم، هذا ما أفاده بعض مشايخ العصر على ما في تقريراته(1)، لكن يرد عليه: أنّ التعليل ينطبق على الكبرى الكلّية، ويجوز التعدّي عن موردها، لكنّها ليست بهذه التوسعة التي أفادها حتّى تترتّب عليها التوالي الفاسدة، بل الكبرى هي: ما يكون بلا ريب بقول مطلق عرفاً، ويعدّ طرفه الآخر الشاذّ النادر الذي لا يعبأ به، ولهذا عدّ مثل تلك الشهرة بالمجمع عليه بين الأصحاب؛ لعدم الاعتداد بالقول المخالف الشاذّ.

بل يمكن أن يقال: إنّ عدم الريب ليس من المعاني النسبية الإضافية حتّى يقال: لا ريب فيه بالنسبة إلى ما يقابله، بل هو من المعاني النفسية التي لا تقبل الإضافة.

وبالجملة: كلّ ما لا ريب فيه عند العرف، وكان العقلاء لا يعتنون باحتمال خلافه، يجب الأخذ به، ولا شبهة في عدم ورود النقوض والتوالي الفاسدة التي ذكرها عليه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مثل تلك الشهرة - التي بين قدماء أصحابنا الذين كان بناؤهم على ذكر الاُصول المتلقّاة خلفاً عن سلف، دون التفريعات الاجتهادية - حجّة، وفيها مناط الإجماع.

وأمّا الشهرة في التفريعات بل الإجماع فيها - كالشهرات والإجماعات من زمن الشيخ إلى زماننا - فليست بحجّة، ولا دليل على اعتبارها؛ فإنّ في التفريعات سعة ميدان الاجتهاد والآراء، فتدبّر جيّداً.

ص: 210


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 154 - 155.

فصل: في حجّية خبر الواحد

اشارة

في حجّية خبر الواحد

قوله: «من أهمّ المسائل الاُصولية...»(20).

قد عرفت في مباحث التجرّي ميزان الافتراق بين المسائل الاُصولية والفقهية، فراجع(1).

موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه

والذي ينبغي التعرّض له هاهنا هو: أ نّه قد استقرّ رأي محقّقي علماء الاُصول قديماً وحديثاً إلى قريب من عصرنا على أنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة بعنوانها(2) - أي الحجّة في الفقه - والمسائل الاُصولية هي التي

ص: 211


1- تقدّم في الصفحة 13 - 14.
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 5؛ الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 7؛ قوانين الاُصول 1: 8؛ حاشية المحقّق القمّي رحمه الله في أسفل الصفحة: «والمفروض أ نّا نتكلّم بعد فرض كونها أدلّة...» و: 9 / السطر 22؛ هداية المسترشدين 1: 95؛ فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 238.

تبحث عن عوارض الحجّة الذاتية.

ولقد أوردوا على هذا، الإشكالَ المشهور: من خروج معظم المسائل عن علم الاُصول، كمباحث حجّية الخبر الواحد والشهرة والظواهر، ومسائل التعادل والترجيح... إلى غير ذلك(1)؛ وذلك لأنّ البحث فيها عن الحجّية، وهو من المبادئ لا المسائل.

وتصدّى العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه للجواب في مبحث حجّية الخبر الواحد: بأنّ البحث فيه عن ثبوت السنّة به، وهو من العوارض(2).

وردّه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : بأنّ الثبوت الواقعي مفاد كان التامّة، وهو من المبادئ، والثبوت التعبّدي من عوارض الخبر الحاكي(3).

وقد تصدّى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - للذبّ عن الشيخ: بأنّ البحث في حجّية الخبر إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم انطباقها، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا وجودها، بل يكون البحث عن عوارضها؛ بداهة أنّ انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان(4).

وفيه: أنّ الخبر الحاكي على فرض مطابقته للواقع، إنّما هو عين السنّة،

ص: 212


1- الفصول الغروية: 11 / السطر 32.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 238 - 239.
3- كفاية الاُصول: 22 - 23.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 157.

ونسبتها إليه نسبة الكلّي إلى الفرد، لا العارض إلى المعروض، وعلى فرض عدم المطابقة تكون نسبتهما التباين. وقياسه بكون الشيء في الزمان والمكان مع الفارق؛ ضرورة عارضية مقولتي الأين والمتى.

وبالجملة: بعد اللتيا والتي استقرّ رأي أكثر المتأخّرين - فراراً عن هذا الإشكال - على أنّ موضوع علم الاُصول ليس الأدلّة لا بعنوانها ولا بذاتها، بل ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاصّ واسم مخصوص، فموضوع علم الاُصول عبارة عن أمر كلّي مبهم منطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة(1).

ولمّا كان المرضيّ(2) هو قول المشهور: من كون موضوعه هو الحجّة في الفقه، لا بدّ من تحقيق الحال حتّى يتّضح الأمر ويرتفع الإشكال، وذلك يتوقّف على بسط من الكلام، فنقول:

الأعراض الذاتية - التي يبحث في العلم عنها - أعمّ من الأعراض الخارجية والأعراض التحليلية؛ بداهة أنّ في كثير من العلوم لم تكن الأعراض اللاحقة لموضوعاتها إلاّ من قبيل التحليلية، ألا ترى أنّ موضوع علم الفلسفة هو الوجود، أو الموجود بما أ نّه موجود، ومباحثه هي تعيّناته التي هي المهيات،

ص: 213


1- كفاية الاُصول: 22؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 33؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 29.
2- قد حقّقنا في المجلّد الأوّلأ ما هو المرضيّ عندنا، فعليه يسقط ما في هذه الأوراق. [منه عفي عنه] أ - مناهج الوصول 1: 3.

ولم تكن نسبة المهيات إلى الوجود نسبة العرض الخارجي إلى الموضوع، بل العرضية والمعروضية إنّما هي بتحليل من العقل؛ فإنّ المهيات بحسب الواقع تعيّنات الوجود، ومتّحدات معه، ومن عوارضه التحليلية، فإن قيل: الوجود عارض المهية ذهناً(1)، صحيح، وإن قيل: المهية عارض الوجود فإنّها تعيّنه(2)، صحيح، حتّى قيل: «من وتو عارض ذات وجوديم»(3).

وإن شئت زيادة تحقيق لذلك، فاعلم: أنّ العرض له اصطلاحان:

أحدهما: ما هو المتداول في علم الطبيعي، والمقولات العشر، وهو مقابل الجوهر، وهو الحالّ في المحلّ المستغني.

وثانيهما: ما هو مصطلح المنطقي في باب الكلّيات، وهو الخارج المحمول على الشيء؛ أي ما هو متّحد مع المعروض في الخارج، ومختلف معه في التحليل العقلي، ومأخوذ على نحو اللا بشرطية.

والذاتية والعرضية في هذا الاصطلاح تختلف بحسب الاعتبار، بخلافهما في الاصطلاح الأوّل؛ فإنّهما أمران حقيقيان غير تابعين للاعتبار، مثلاً: إذا لوحظ الحيوان والناطق من حيث كونهما جزءين للماهية الإنسانية، فهما جنس وفصل وذاتيان للمهية، وإذا لوحظا من حيث اختلافهما في العقل واتّحادهما في الخارج، يقال: كلّ منهما عارض للآخر، فالجنس عرض عامّ، والفصل عرض خاصّ، وبهذا الاعتبار كلّ من الوجود والمهية عارض للآخر.

ص: 214


1- المشاعر: 27 - 33؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 89 - 90.
2- المشاعر: 27 - 33؛ الحكمة المتعالية 1: 55 و 245.
3- گلشن راز: 78.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه؛ فإنّ الفقيه لمّا رأى احتياجه في علمه إلى الحجّة توجّه إليها، وجعلها وجهة نفسه، وتفحّص عن تعيّناتها التي هي الأعراض الذاتية التحليلية لها المصطلحة في باب الكلّيات الخمس، فالحجّة بما هي حجّة موضوع بحثه وعلمه، وتعيّناتها - التي هي الخبر الواحد والظواهر والاستصحاب وسائر المسائل الاُصولية - من العوارض الذاتية لها بالمعنى الذي ذكرنا، فعلى هذا يكون البحث عن حجّية الخبر الواحد وغيره بحثاً عن العرض الذاتي التحليلي للحجّة، وتكون روح المسألة أنّ الحجّة هل هي متعيّنة بتعيّن الخبر الواحد، أم لا ؟

وبالجملة: بعد ما يعلم الاُصولي أنّ لله تعالى حجّة على عباده في الفقه، يتفحّص عن تعيّناتها التي هي العوارض التحليلية لها، فالموضوع هو الحجّة بنعت اللا بشرطية، والمحمولات هي تعيّناتها.

وأمّا انعقاد البحث في الكتب الاُصولية بأنّ الخبر الواحد حجّة، أو الظاهر حجّة، وأمثال ذلك، فهو بحث صوري ظاهري لسهولته، كالبحث في الفلسفة عن أنّ النفس أو العقل موجودان، مع أنّ موضوعها هو الوجود، وروح البحث فيها: أنّ الوجود متعيّن بتعيّن العقل أو النفس أو الجوهر أو العرض.

هذا، مع أ نّه لو كان البحث في حجّية الخبر الواحد هو بهذه الصورة، فأوّل ما يرد على الاُصوليين: أنّ الحجّة لها سمة المحمولية لا الموضوعية، كما أنّ هذا الإشكال يرد على الفلاسفة أيضاً، ونسبة الغفلة والذهول إلى أئمّة الفنّ والفحول غفلة وذهول.

بل لنا أن نقول: إنّ الموضوع - في قولهم: موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن

ص: 215

عوارضه الذاتية(1) - ليس هو الموضوع المصطلح في مقابل المحمول، بل

الموضوع ما وضع لينظر في عوارضه وحالاته، وما هو محطّ نظر صاحب العلم.

ولا إشكال في أنّ محطّ نظر الاُصولي هو الفحص عن الحجّة في الفقه، ووجدان مصاديقها العرضية وعوارضها التحليلية، فالمنظور إليه هو الحجّة لا الخبر الواحد، فافهم واغتنم.

وبما ذكرنا يرتفع الإشكال، وتنسلك مسائل حجّية الخبر الواحد وغيرها في المسائل الاُصولية، مع التحفّظ على موضوع العلم بما يراه المحقّقون.

وأمّا على ما التزم به المتأخّرون - مضافاً إلى عدم الداعي إليه إلاّ الفرار من الإشكال، وإلى ورود عارٍ عظيم عليهم من الجهل بموضوع علمهم، فكأ نّهم يبحثون في أطراف المجهول والمبهم - يرد عليهم: أ نّه لا جامع بين موضوعات المسائل الاُصولية، فأيّ جامع يتصوّر بين الاستصحاب - مثلاً - والظواهر، إلاّ بالالتزام بتكلّفات باردة ؟ !

ويرد عليهم أيضاً: أ نّه بناءً على ما التزموا يصير موضوع علمهم مختلفاً حسب اختلاف المسالك في حجّية شيء وعدمها، فمن يرى حجّية الخبر الواحد لا بدّ له من تصوّر جامع بينه وبين غيره من المسائل، ومن يرى عدم حجّيته لا بدّ له من تصوّر جامع بين ما عداه، بحيث يخرج الخبر الواحد عنه.

وأمّا إذا كانت الحجّة - بعنوانها - موضوعاً، فهي محفوظة، ولا تختلف بالزيادة والنقص في الحجج، كما لا يخفى.

ص: 216


1- الإشارات والتنبيهات: 168؛ شرح المطالع: 18؛ الحكمة المتعالية 1: 30؛ كفاية الاُصول: 21.

إن قلت: هب أنّ البحث عن الحجّية - في مسائل حجّية الظواهر والخبر الواحد والاستصحاب وأمثالها ممّا يبحث عن حجّيتها - يرجع إلى ما ذكرت، ولكن أكثر المسائل الاُصولية لم يكن البحث فيها عن الحجّية أصلاً، مثل مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومقدّمة الواجب، ومسائل البراءة والاشتغال، وغيرها ممّا لا اسم للحجّية فيها ولا رسم، فلا محيص فيها عن الالتزام بما التزم به المتأخّرون.

قلت: كلاّ؛ فإنّ المراد من كون موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه: أنّ الاُصولي يتفحّص عمّا يمكن أن يحتجّ به في الفقه، سواء كان الاحتجاج لإثبات حكم أو نفيه، كحجّية خبر الثقة والاستصحاب وأمثالهما، أو لإثبات العذر أو قطعه، كمسائل البراءة والاشتغال.

وتفصيل ذلك: أنّ المسائل الاُصولية؛ إمّا [أن] تكون من القواعد الشرعية التي تقع في طريق الاستنباط، كمسألة حجّية الاستصحاب، وحجّية الخبر الواحد بناءً على ثبوت حجّيته بالتعبّد.

وإمّا أن تكون من القواعد العقلائية، كحجّية الظواهر، والخبر الواحد بناءً على ثبوت حجّيته ببناء العقلاء.

وإمّا من القواعد العقلية التي تثبت بها الأحكام الشرعية، كمسائل اجتماع الأمر والنهي، ومقدّمة الواجب، والضدّ من العقليات.

وإمّا من القواعد العقلية لإثبات العذر وقطعه، كمسائل البراءة والاشتغال.

وكلّ ذلك ممّا يحتجّ به الفقيه: إمّا لإثبات الحكم ونفيه عقلاً أو تعبّداً، أو لفهم التكليف الظاهري، وليس مسألة من المسائل الاُصولية إلاّ ويحتجّ بها في الفقه بنحو من الاحتجاج، فيصدق عليها أ نّها الحجّة في الفقه، تدبّر.

ص: 217

أدلّة عدم حجّية خبر الواحد

الاستدلال بالكتاب

قوله: «واستدلّ لهم بالآيات الناهية...»(21).

أقول: الآيات الناهية بعضها مربوط بالاُصول الاعتقادية، مثل قوله تعالى: )إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً((1) وبعضها أعمّ، مثل قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ((2) فإنّه في سياق الآيات الناهية عن الاُمور الفرعية،

فلا يختصّ بالاُصول لولا اختصاصه بالفروع.

الاستدلال بالكتاب

والتحقيق في الجواب عنه - مضافاً إلى عدم إبائه عن التخصيص، وإن كانت الآيات الأوّلية آبية عنه - أنّ الاستدلال به مستلزم لعدم جواز الاستدلال به، وما يلزم من وجوده العدم غير قابل للاستدلال به.

بيان ذلك: أنّ قوله: )لاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( قضيّة حقيقية، تشمل كلّ ما وجد في الخارج ويكون مصداقاً لغير العلم، مع أنّ دلالة نفسها على الردع عن غير العلم ظنّية لا قطعية، فيجب عدم جواز اتّباعها بحكم نفسها.

وبالجملة: إذا لم يجز اتّباع غير العلم لم يجز اتّباع ظاهر الآية؛ لكونه غير علمي، والفرض شمولها لنفسها؛ لكونها قضيّة حقيقية.

فإن قلت: الآية الشريفة لا تشمل نفسها؛ لعين هذا المحذور الذي ذكرت.

ص: 218


1- يونس (10): 36.
2- الإسراء (17): 36.

وبعبارة اُخرى: إنّ الآية مخصّصة عقلاً؛ للزوم المحال لولا التخصيص.

قلت: كما يمكن رفع الاستحالة بما ذكر، يمكن رفعها بالالتزام بعدم شمولها لمثل الظواهر؛ أي ما قام الدليل على حجّيته، فتخصّص الآية بالظنون التي هي غير حجّة. ولا ترجيح، بل الترجيح لذلك؛ فإنّ الغرض من إلقاء الآية الشريفة هو الردع عن اتّباع غير العلم، ولا يمكن رادعية الآية إلاّ أن تكون مفروضة الحجّية عند المتخاطبين، ولا وجه لحجّيتها إلاّ كونها ظاهرةً في مفادها، ومورداً لبناء العقلاء على العمل بها لأجل الظهور، فالآية لا تشمل ما كان من قبيلها من الظنون الخاصّة.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الآية لا تصلح للرادعية عن مثل الخبر الواحد.

هذا، وقد تصدّى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - للجواب عنها بما حاصله:

أنّ نسبة الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر الواحد إلى الآيات نسبة الحكومة، لا التخصيص لكي يقال: إنّها آبية عنه؛ فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف، وجعل الخبر محرزاً للواقع؛ لكون حاله حال العلم في عالم التشريع. هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد.

وأمّا السيرة فيمكن أن يقال: إنّ نسبتها إليها هي الورود، بل التخصّص؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظنّ؛ لعدم التفاتهم إلى احتمال المخالفة للواقع، فالعمل به خارج بالتخصّص عن العمل بالظنّ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عنها؛ فإنّه - مضافاً إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات - يلزم منه الدور المحال؛ لأنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على

ص: 219

أن لا تكون السيرة مخصّصة لعمومها، وعدم التخصّص يتوقّف على الرادعية.

وإن منعت عن ذلك فلا أقلّ من كون السيرة حاكمة على الآيات، والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعاً للحاكم(1)، انتهى.

أقول: أمّا قضيّة إباء الآيات عن التخصيص فقد عرفت أنّ قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( الذي هو عامّ قابل للتخصيص، وما ليس بقابل له هو الآيات المربوطة بالاُصول الاعتقادية، فراجع.

وأمّا حديث الحكومة فلا أصل له؛ فإنّ الأخبار على كثرتها لم يكن لسانها لسان الحكومة، مع أنّ الحكومة متقوّمة بلسان الدليل.

إن قلت: قوله: «العمري ثقة، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطعه؛ فإنّه الثقة المأمون»(2) له نحو حكومة على الآيات؛ فإنّ لازمه إلقاء احتمال الخلاف.

قلت: كلاّ؛ فإنّ لسان الحكومة غير ذلك؛ لأنّ غاية مفاد الرواية هو وجوب اتّباع العمري لوثاقته، وأمّا أنّ ما أخبر به هو المعلوم حتّى خرج عن اتّباع غير العلم، فلا.

وبالجملة: الحكومة والتخصيص مشتركان في النتيجة، ومفترقان في اللسان، ولسان الأدلّة ليس على نحو الحكومة.

وأمّا قضيّة ورود السيرة العقلائية عليها، أو التخصّص، فهي ممنوعة؛ فإنّ كون

ص: 220


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 160 - 162.
2- الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

العمل بالخبر عندهم من العمل بالعلم ممنوع؛ ضرورة وضوح عدم حصول العلم من الخبر الواحد.

ولو سلّم غفلتهم عن احتمال الخلاف، لم يوجب ذلك تحقّق الورود(1) أو التخصّص؛ فإنّ موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعاً، لا عند المخاطب.

والفرق بينهما: أنّ الورود يكون مع إعمال التعبّد، والتخصّص لا يكون كذلك وما نحن فيه لا يكون الخروج واقعياً، بل عند المخاطب.

نعم، يمكن دعوى عدم صلاحية الأدلّة للردع عمّا هو مورد السيرة: إمّا لعدم التفاتهم إلى مخالفة الخبر للواقع، فلا يرتدع العقلاء بتلك العمومات، بل لا بدّ من التصريح بالردع، وإمّا لدعوى انصراف الأدلّة عن الظنّ الذي هو حجّة.

وأمّا حديث حكومة السيرة - على ما أفاد أخيراً - فهو أسوأ حالاً من حكومة

ص: 221


1- وإن اشتهيت بيان الورود، فيمكن تقريره بوجهين: أحدهما: أن يقال: إنّ المراد من قوله تعالى: )لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( ليس هو العلم الوجداني؛ للزوم تعطيل أكثر الأحكام، أو ورود التخصيص الأكثري المستهجن عليه، كما أنّ المراد بحرمة القول بلا علم، أو حرمة الفتوى والقضاء كذلك ليس العلم الوجداني، فحينئذٍ يكون معناه: لا تقف ما ليس لك به حجّة، فتكون أدلّة حجّية الخبر الواحد واردة عليه؛ لإحداث الحجّة بالتعبّد. وثانيهما: أن يقال: إنّه بعد تمامية حجّية الخبر الواحد يكون الاتّكال في العمل به على القطع بحجّيته، فالخبر وإن كان ظنّياً من حيث الكشف عن الواقع، لكن حجّيته قطعية، والمكلّف يتّبع قطعه، لا ظنّه؛ لأنّ اتّكاله ليس إلاّ على الحجّة المقطوعة، فلا يشمله قوله: )لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ(؛ لأجل أنّ ظاهر الكتاب - على فرض دلالته على لزوم اتّباع الخبر - حجّة قطعية؛ لأنّ العقلاء يحتجّون به قطعاً، وعدم ورود الردع عنه قطعاً، فينسلك اتّباع الخبر في اتّباع العلم بالتعبّد، فيتمّ ميزان الورود. [منه عفي عنه]

سائر الأدلّة؛ فإنّ السيرة لا لسان لها، وإنّما هي عمل خارجي، والحكومة إنّما هي بين ظواهر الأدلّة ومفادها اللفظي.

وأمّا قضيّة الدور - فمضافاً إلى عدم كونه دوراً مصطلحاً؛ لعدم التوقّف بمعنى تقدّم الموقوف عليه على الموقوف؛ ضرورة عدم تقدّم الرادعية على عدم المخصّصية، ولا العكس - أنّ الرادعية تتوقّف على عدم المخصّص، وهو حاصل؛ إذ لا مخصّص في البين جزماً؛ لأنّ النواهي الرادعة حجّة في العموم، ولا بدّ من رفع اليد عنها بحجّة أقوى، ولا حجّية للسيرة بلا إمضاء الشارع، فالرادع رادع فعلاً، والسيرة حجّة لو أمضاها الشارع، ولا إمضاء في البين مع هذه النواهي، بل الردع موجود متحقّق.

فإن قلت: إنّ الشارع أمضاها قبل ورود الآيات، فالأمر دائر بين تخصيصها بها أو ردعها إيّاها، كالخاصّ المقدّم والعامّ المؤخّر؛ حيث يدور الأمر فيهما بين التخصيص والنسخ، ومع عدم الترجيح يستصحب حجّيتها.

قلت -

مضافاً إلى أنّ التمسّك بالاستصحاب الذي دليله أخبار الآحاد لا معنى له في المقام - إنّا لا نسلّم أنّ عدم الردع في أوائل البعثة يدلّ على الإمضاء؛ فإنّه

إنّما يدلّ عليه لو انعقدت السيرة على العمل بالخبر الواحد في الأحكام الشرعية، كما انعقدت عليه في الأحكام العادية والعرفية، أو كان مظنّة لذلك، دون ما إذا انعقدت فيهما ولا تسري إلى الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أ نّه في أوائل البعثة - التي لم تنتشر أحكام الإسلام في البلاد، وإنّما كانت محدودة بين أشخاص معدودة، خصوصاً في مكّة المعظّمة قبل هجرته صلی الله علیه و آله وسلم إلى المدينة - لا يحتاج تلك العدّة المعدودة من المسلمين إلى

ص: 222

العمل بقول الثقة في الأحكام، بل كلّ حكم صادر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان بمسمع

من الأصحاب في الجامع أو غيره، بل في أوائل هجرته في المدينة كان الأمر بتلك المثابة، كما لا يخفى.

فعدم الردع لعلّه لأجل عدم الاحتياج، وعدم لزوم نقض الغرض، ومع احتمال ذلك لا يدلّ على الإمضاء، كما لا يخفى.

ولعلّ الآيات الناهية صدرت في تلك الآونة؛ لغرض الردع عن السيرة التي بينهم في العاديات؛ لئلاّ يسري إلى الشرعيات. هذا حال الآيات.

الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد

وأمّا السنّة(1) فهي مع كثرتها بين طوائف:

منها: ما تدلّ على عدم جواز الأخذ بالخبر، إلاّ ما عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم (2)، ومن هذه الطائفة ما تدلّ على عدم

ص: 223


1- ولا يخفى: أنّ المثبت والمنكر لا بدّ [لهما] من دعوى تواتر الروايات، مع أنّ دعواه بعيدة بعد الرجوع إلى الروايات؛ لأنّ تواتر جميع الطبقات غير ثابت بل عدمه ثابت؛ لأنّ جميع الروايات ترجع إلى عدّة كتب لا يقطع الإنسان بعدم وقوع الخلط والاشتباه أو غيرهما فيها، فإثبات عدم الحجّية بتلك الروايات ممّا لا يمكن. ثمّ على فرض التواتر لا يكون ذلك إلاّ إجمالياً، فلا بدّ من أخذ أخصّ المضمون وهو المخالفة؛ إمّا بالتباين، أو مع العموم من وجه؛ ضرورة أنّ المخالفة بغيرهما ليست مخالفة في محيط التقنين عرفاً، مع أنّ ورود المخصّص والمقيّد للكتاب عنهم قطعي ضروري، فلا يمكن حمل الروايات عليها. [منه قدّس سرّه ]
2- راجع وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 11 و 18.

جواز الأخذ إلاّ بما يوافق القرآن(1).

ولا يخفى: أنّ هذه الطائفة لا معنى محصّل لها، إلاّ إذا حملت على مورد التعارض، وتكون من سنخ الأخبار العلاجية؛ فإنّ الأخذ بالخبر الموافق للقرآن، أو بما له شاهد أو شاهدان منه، ليس أخذاً وعملاً بالخبر، بل هو أخذ وعمل بالكتاب. نعم، لو حملت على مورد التعارض يكون لها معنى محصّل، وعليه تكون من شواهد حجّية الخبر الواحد.

ومنها: ما يدلّ على طرح غير الموافق(2)، وهو يرجع إلى المخالف عرفاً.

ومنها: ما يدلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب(3). ولا يخفى أ نّها آبية عن التخصيص، مع ضرورة صدور أخبار مقيّدة أو مخصّصة للكتاب من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام ، فلا بدّ من حمل تلك الطائفة على المخالفة التباينية، أو الأعمّ منها ومن مخالفة العموم من وجه.

وصدور الأخبار المتباينة مع الكتاب من المخالفين لا يبعد إذا كان على وجه الدسّ في كتب أصحابنا؛ فإنّ في دسّها إحدى النتيجتين لهم: إمّا تضعيف كتب أصحابنا وإسقاطها عن النظر، وإمّا التزلزل في اعتقاد المسلمين بالنسبة إلى أئمّة الحقّ علیهم السلام .

ص: 224


1- راجع وسائل الشيعة 27: 109، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10 و12 و14 و15 و19 و35 و37.
2- راجع وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و14 و37.
3- راجع وسائل الشيعة 27: 109، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10 و19 و35.
أدلّة حجّية خبر الواحد
الاستدلال بآية النبأ

قوله: «فمنها آية النبأ(1)...»(22).

ويمكن(2) تقريب الاستدلال بوجه آخر: وهو أ نّه لا فرق في شمول العامّ

ص: 225


1- لا يخفى: أ نّه مع فرض المفهوم للآية الشريفة لا تدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً؛ لأنّ التبيّن لا يناسب الجزائية؛ فإنّ مجيء الفاسق بالنبأ مع وجوب تحصيل العلم للعمل غير مترتّبين عقلاً ولا عرفاً، فلا بدّ من أن يكون ذلك كناية عن الإعراض عن خبر الفاسق وعدم ترتيب الأثر عليه، ومفهومه - على فرضه - ترك الإعراض، وهو أعمّ من كونه تمام الموضوع للعمل، فلا يستفاد منه كونه حجّة بنفسه، كما لا يخفى. [منه قدّس سرّه ]
2- وهاهنا تقريبات اُخر: منها: ما أفاده الماتنأ، ولا يخفى مخالفته لظاهر الآية. ومنها: ما أفاده بعض المحقّقين(ب): من أنّ الظاهر أنّ الشرط هو المجيء مع متعلّقه - أي مجيء الفاسق - فيكون الموضوع نفس النبأ، ولمفهومه مصداقان: عدم مجيء الفاسق، ومجيء العادل، فلا يكون الشرط محقّق الموضوع. وأمّا إذا جعل الشرط نفس المجيء، ويكون الموضوع نبأ الفاسق، يكون الشرط محقّق الموضوع. وفيه: أنّ مفهوم «إن جاءك الفاسق بنبأ» ليس إلاّ «إن لم يجئكَ الفاسق بنبأ»، وأمّا مجيء العادل فليس مفروضاً في المنطوق ولا المفهوم، فلا تدلّ الآية عليه مطلقاً. مع أنّ كون المفهوم ذا مصداقين - كما ذكره - لا يتوقّف على جعل الشرط مجيء الفاسق، بل لو كان الشرط هو المجيء، والموضوع هو خبر الفاسق، فلعدم مجيء خبره مصداقان، كما لا يخفى. لكن العمدة هو تفاهم العرف، وهو لا يساعد على ما ذكر. [منه قدّس سرّه ] أ - كفاية الاُصول: 340. ب - نهاية الأفكار 3: 111 - 112.

لأفراده بين كونها أفراداً ذاتية له وبين كونها أفراداً عرضية إذا كانت بنظر العرف شموله لها بنحو الحقيقة، فكما أنّ الأبيض صادق على نفس البياض لو فرضنا قيامه بنفس ذاته، كذلك إنّه صادق على الجسم المتلبّس به، مع أنّ صدقه عليه عرضي تبعي لدى العقل الدقيق، لكنّه حقيقة لدى العقل العادي والعرف.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ لعدم مجيء الفاسق بالخبر فرداً ذاتياً هو عدم تحقّق الخبر لا من الفاسق ولا من غيره، وأفراداً عرضية هي مجيء غيره به، فيكون صدق عدم مجيء الفاسق به على مجيء العادل به صدقاً عرضياً في نظر العقل، وصدقاً حقيقياً في نظر العرف، فيشمل العامّ له كما يشمل الفرد الذاتي.

فمفهوم قوله تعالى: )إِنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) هو: إن لم يجئكم به فلا يجب التبيّن، سواء جاء به العادل أو لا. وإن ضمّ إلى ذلك أنّ ظهور القضايا السالبة إنّما هو في سلب المحمول، لا سلب الموضوع، يصير المفهوم: إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن.

وبالجملة: مفهومها يدلّ على عدم وجوب التبيّن في خبر العادل: إمّا بإطلاقه، وإمّا بالتعرّض لخصوص خبره، هذا.

وفيه: أنّ الأمر في المثال والممثّل متعاكسان بحسب نظر العرف؛ فإنّ المثال الذي مثّلت - من صدق الأبيض على البياض والجسم المتلبّس به - يكون صدقه على الفرد الذاتي العقلي أخفى عند العرف من صدقه على الفرد العرضي، بل يمكن أن يقال: إنّه لا يصدق إلاّ على الثاني دون الأوّل عرفاً، وإن كان الأمر عند العقل الدقيق على عكس ذلك.

ص: 226


1- الحجرات (49): 6.

وأمّا فيما نحن فيه والممثّل، لا يكون مجيء العادل بالخبر من مصاديق لا مجيء الفاسق به عرفاً، وإن فرض أنّ أحد الضدّين ممّا ينطبق عليه عدم الضدّ الآخر، ويكون مصدوقاً عليه بحسب اصطلاح بعض أكابر فنّ المعقول(1)، لكنّه

أمر عقلي خارج عن المتفاهم العرفي، وأخذ المفاهيم إنّما هو بمساعدة نظر العرف، ولا إشكال في أ نّه لا يفهم [من] الآية الشريفة مجيء العادل به.

وأمّا قضيّة ظهور القضايا السالبة في سلب المحمول، إنّما هو في القضايا اللفظية، وأمّا فيما نحن فيه فليس قضيّة لفظية في البين، تأمّل.

ولو فرضنا كون المفهوم قضيّة لفظية أو في حكمها، لكانت ظاهرة في سلب الموضوع؛ ضرورة ظهور قوله: «إن لم يجئ فاسق بنبأ» فيه، لا سلب المحمول.

فتحصّل ممّا ذكر: أ نّه لا إشكال في عدم دلالة الآية على المفهوم، وإنّما مفادها التبيّن في خبر الفاسق من غير التعرّض لخبر غيره.

هذا، ولقد تصدّى بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه - لبيان أخذ المفهوم من الآية بما لا يخلو عن خلط وتعسّف.

ومحصّل ما أفاد: أ نّه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به، من مورد النزول؛ فإنّ مورده إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، فقد اجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد، وكون المخبر فاسقاً، والآية وردت لإفادة كبرى كلّية لتميّز الأخبار التي يجب التبيّن عنها عن غيرها، وقد علّق وجوب التبيّن فيها على كون المخبر فاسقاً، فيكون هو الشرط، لا كون الخبر واحداً، ولو كان الشرط ذلك لعلّق عليه؛ لأ نّه بإطلاقه

ص: 227


1- الحكمة المتعالية 1: 157.

شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق، كاشف عن انتفاء التبيّن في خبر غير الفاسق.

ولا يتوهّم: أنّ ذلك يرجع إلى تنقيح المناط، أو إلى دلالة الإيماء؛ فإنّ ما بيّنّاه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وبالجملة: لا إشكال في أنّ الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلّية، ولا بدّ من أن يكون مورد النزول من صغرياتها، وإلاّ يلزم خروج المورد عن العامّ، وهو قبيح، فلا بدّ من أخذ المورد مفروض التحقّق في موضوع القضيّة، فيكون مفاد الآية - بعد ضمّ المورد إليها - أنّ الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا، فتصير

ذات مفهوم(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ كون مورد النزول إخبار الوليد لا ربط له بكون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط خارج غير مسوق لتحقّق الموضوع، ومجرّد إخباره بكذا لا يصير منشأً لظهورها في إفادة الكبرى الكلّية لتميّز الأخبار التي يجب التبيّن عنها عن غيرها.

نعم، الآية الشريفة مسوقة لإفادة الكبرى الكلّية، وهي وجوب التبيّن عن خبر كلّ فاسق، من غير تعرّض لغيره، وليست بصدد بيان التميّز بين خبر الفاسق والعادل.

وبالجملة: إنّها متعرّضة لخبر الفاسق فقط، دون العادل، لا منطوقاً ولا مفهوماً.

وثانياً: أنّ اجتماع العنوانين في خبر الوليد - أي كونه خبراً واحداً، وكون المخبر به فاسقاً - بيان لمفهوم الوصف، لا الشرط؛ حيث لم يعلّق في الآية

ص: 228


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 169.

وجوب التبيّن على كون المخبر به فاسقاً، بل علّق على مجيء الفاسق بالخبر، ومعلوم أ نّه لا مفهوم له، كما أ نّه بذاك التقريب لا يكون للوصف أيضاً مفهوم؛ لعدم إفادة العلّية المنحصرة.

مع أنّ في ذكر الفاسق هاهنا نكتة هي التنبيه على فسق الوليد، فكون مورد النزول هو إخبار الوليد مضرّ بدلالة الآية على المفهوم، لا أ نّه موجب لها كما أفاد رحمه الله علیه ، ومن ذلك يعرف ما في قوله: فإنّ ما بيّنّاه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وأمّا ما أفاد في تأييد كون الآية بمنزلة الكبرى الكلّية: من أنّ مورد النزول من صغرياتها وإلاّ يلزم خروج المورد، فهو صحيح، لكنّ الكبرى الكلّية ليست هي ما أفاد، بل هي وجوب التبيّن عن خبر كلّ فاسق، وإخبار الوليد من صغرياتها، من غير أن يكون للآية مفهوم.

وبالجملة: إنّ الآية الشريفة لا مفهوم لها، وهذه التشبّثات لا تجعل الآية ظاهرة فيما لم تكن ظاهرة فيه.

تكملة: قد اُورد على التمسّك بالآية الشريفة لحجّية الخبر الواحد باُمور: منها ما يختصّ بالآية، ومنها ما يشترك بينها وبين غيرها:

الإشكالات المختصّة بآية النبأ وأجوبتها

فمن الإشكالات المختصّة بها: هو كون المفهوم - على تقدير ثبوته - معارضاً لعموم التعليل في ذيلها(1)؛ فإنّ الجهالة هي عدم العلم بالواقع، وهو مشترك بين

ص: 229


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 2: 535 - 536؛ العدّة في اُصول الفقه 1: 113؛ معارج الاُصول: 146.

إخبار الفاسق والعادل، فمفهوم التعليل يقتضي التبيّن عن خبر العادل، فيقع التعارض بينهما، والتعليل أقوى في مفاده، خصوصاً في مثل هذا التعليل الآبي عن التخصيص، فعموم التعليل لأقوائيته يمنع عن ظهور القضيّة في المفهوم، فلا يلاحظ النسبة بينهما؛ فإنّها فرع المفهوم.

ولقد تصدّى المشايخ لجوابه، وملخّص ما أفاد بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - على

ما في تقريرات بحثه - أنّ الإنصاف أ نّه لا وقع له:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه، ولا شبهة في جواز الركون إلى خبر العادل دون الفاسق، فخبر العادل خارج عن العلّة موضوعاً.

وأمّا ثانياً: فعلى فرض كونها بمعنى عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع، يكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل؛ لأنّ أقصى ما يدلّ عليه التعليل هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي إلقاء احتمال الخلاف، وجعل خبر العادل محرزاً للواقع وعلماً في عالم التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما؛ لأنّ المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهوره أقوى؛ لأنّ الحاكم متعرّض لعقد وضع المحكوم إمّا بالتوسعة أو التضييق.

فإن قلت: إنّ ذلك كلّه فرع ثبوت المفهوم، والمدّعى أنّ عموم التعليل مانع عن ظهور القضيّة فيه.

قلت: المانع منه ليس إلاّ توهّم المعارضة بينهما، وإلاّ فظهورها الأوّلي فيه ممّا لا سبيل لإنكاره، وقد عرفت عدم المعارضة بينهما؛ لأنّ المفهوم لا يقتضي تخصيص العموم، بل هو على حاله من العموم، بل إنّما يقتضي خروج خبر

ص: 230

العادل عن موضوع القضيّة، لا عن حكمها، فلا معارضة بينهما أصلاً؛ لعدم تكفّل

العامّ لبيان موضوعه وضعاً ورفعاً، بل هو متكفّل لحكم الموضوع على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده(1)، انتهى.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ التعليل يمنع عن المفهوم بلا إشكال. والسرّ فيه ليس ما أفاد المستشكل، بل هو أنّ القضيّة الشرطية إنّما تكون ذات مفهوم؛ لظهور التعليق في العلّية المنحصرة - كما هو المقرّر في محلّه(2) - وهذا الظهور إنّما ينعقد إذا لم يصرّح المتكلّم بعلّة الحكم؛ لأ نّه مع تصريحه بها لا معنى لإفادته العلّية، فضلاً عن انحصارها.

فقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» إنّما يدلّ على علّية المجيء للإكرام وانحصارها فيه إذا أطلق المتكلّم كلامه، وأمّا إذا صرّح بأنّ علّة الإكرام هو العلم،

لا يبقى ظهور له في العلّية، فضلاً عن انحصارها. ولعمري إنّ هذا واضح للمتأمّل، ومن العجب غفلة الأعلام عنه.

وهذا الإشكال ممّا لا يمكن دفعه أيضاً، وعليه لا وقع لما أفاده المحقّق المعاصر وغيره(3) في دفعه.

وثانياً: أنّ الظاهر أنّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن، ومعلوم أنّ التبيّن هو تحصيل العلم بالواقع وجعل الواقع بيّناً واضحاً، والجهالة التي في مقابلته بمعنى

ص: 231


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 171 - 173.
2- راجع مناهج الوصول 2: 157.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 262؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 385؛ نهاية الأفكار 3: 115.

عدم العلم بالواقع، لا بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه، كما

أفاده رحمه الله علیه تبعاً للشيخ قدّس سرّه (1).(2)

وثالثاً: أنّ ما أفاد من حكومة المفهوم على عموم التعليل - مع كونه دوراً واضحاً؛ لأنّ الحكومة تتوقّف على المفهوم، وهو عليها - فممنوع؛ فإنّ غاية ما

ص: 232


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 261.
2- بل الحقّ أنّ الآية ليست بصدد بيان أنّ خبر الفاسق مطلقاً لا يعتنى به؛ لأنّ مناسبة صدرها وذيلها وتعليلها تجعلها ظاهرة في أنّ النبأ الذي كان له خطر عظيم - وأنّ الإقدام على طبقه موجب للمفاسد العظيمة والندامة، كإصابة القوم ومقاتلتهم - لا بدّ من تبيّنه والعلم بمفاده، ولا يجوز الإقدام عليه بلا تحصيل العلم، خصوصاً إذا جاء به الفاسق، فحينئذٍ فلا بدّ من إبقاء الظاهر على حاله؛ فإنّ الظاهر من التبيّن طلب الوضوح وتحقيق كذب الخبر وصدقه، ومن الجهالة في مقابل التبيّن هو عدم العلم بالواقع وليس معناها السفاهة. ولو فرض أ نّها إحدى معانيها - مع إمكان منعه؛ لعدم ذكرها في جملة معانيها في «الصحاح»أ و«القاموس»(ب) و«المجمع»(ج) وذكرها في بعض اللغات(د)، مع مخالفته للمتفاهم العرفي - لأمكن أن يقال: إنّ إطلاقها على السفاهة لأجل أ نّها جهالة، والسفيه جاهل بعواقب الاُمور وتدبيرها، لا أ نّها بعنوانها معناها. ثمّ إنّه على ما ذكرنا لا يلزم التخصيصات الكثيرة في الآية، على فرض حملها على العلم الوجداني، كما قيل(ه )، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الصحاح 4: 1663. ب - القاموس المحيط 3: 363 - 364. ج - مجمع البحرين 5: 345. د - المصباح المنير: 113. ه - نهاية الأفكار 3: 115.

تدلّ عليه الآية هي جواز العمل على طبق قول العادل أو وجوبه، وليس لسانها لسان الحكومة، وليس فيها دلالة على كون خبر العادل محرزاً للواقع وعلماً في عالم التشريع.

نعم، لو ادّعى أحد أنّ قوله: )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) مفهومه عدم وجوب التبيّن في خبر العادل؛ لكونه متبيّناً في عالم التشريع، لكان للحكومة وجه، لكنّه غير متفاهمه العرفي، كما لا يخفى.

ومن الإشكالات المختصّة: لزوم خروج المورد عن المفهوم؛ فإنّه من الموضوعات الخارجية، وهي لا تثبت إلاّ بالبيّنة، فلا بدّ من رفع اليد عن المفهوم لئلاّ يلزم التخصيص البشيع.

ولقد تصدّى لردّه المحقّق المعاصر رحمه الله علیه بما ملخّصه: من أنّ المورد داخل في عموم المنطوق، وهو غير مخصّص؛ فإنّ خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقاً، لا في الموضوعات ولا في الأحكام. وأمّا المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود؛ لأ نّه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية، فلا مانع من تخصيصه.

ولا فرق بين المفهوم والعامّ الابتدائي سوى أنّ المفهوم كان ممّا تقتضيه خصوصية في المنطوق، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق والمفهوم واحداً(2)، انتهى.

ص: 233


1- الحجرات (49): 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 174.

وفيه ما لا يخفى: فإنّ الآية الشريفة - على فرض دلالتها على المفهوم - إنّما تدلّ على أنّ التبيّن إنّما يختصّ بخبر الفاسق، وإنّما الاعتراض والتشنيع على ترتيب الأثر في المورد بإخبار الوليد الفاسق، ولولا فسقه أو كون المخبر غيره من العدول لما توجّه اعتراض ولوم.

وبالجملة: أنّ العلّة المنحصرة لتوجّه الاعتراض والتشنيع في المورد حتّى أتى الله بضابط عامّ وقانون كلّي هو فسق المخبر، لا كونه واحداً.

مع أ نّه لو كان عادلاً واحداً لتوجّه على العامل بقوله الاعتراض بترتيب الأثر على قول شاهد واحد في الموضوعات، مع لزوم التعدّد فيها.

فتحصّل منه: أنّ التخصيص هاهنا في المفهوم بشيع، فلا بدّ من رفع اليد عن المفهوم والالتزام بأنّ الآية سيقت لبيان المنطوق فقط، كما هو الحقّ.

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاد الشيخ العلاّمة الأنصاري في الجواب عن الاعتراض(1)، فراجع.

الإشكالات الغير المختصّة بآية النبأ وأجوبتها

ومن الإشكالات التي تعمّ جميع الأدلّة: هو وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظنّ وما وراء العلم(2)، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجّية.

وفيه ما عرفت: من أنّ الآيات - التي هي غير قابلة للتخصيص، وتقع

ص: 234


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 270.
2- راجع ما تقدّم من الآيات في الصفحة 218.

المعارضة بينها وبين غيرها حتّى الأخصّ المطلق منها - مربوطة بالاُصول الاعتقادية.

وأمّا ما هو عامّ أو مختصّ بالفروع - مثل قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ((1) - فهو قابل للتخصيص، وتكون نسبته مع أدلّة الحجّية عامّاً وخاصّاً مطلقاً، أو إطلاقاً وتقييداً.

وأمّا ما أفاد بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - من أنّ أدلّة الحجّية حاكمة على الآيات الناهية؛ لأنّ أدلّة الحجّية تقتضي خروج العمل بخبر العادل عن كونه عملاً بالظنّ(2) - فقد عرفت أ نّه ممّا لا أساس له؛ لعدم كون لسانها لسان الحكومة(3).

كما أنّ ما أفاد - من أنّ نسبة الآيات الناهية مع أدلّة الحجّية نسبة العموم

والخصوص، والصناعة تقتضي تخصيص عمومها بما عدا خبر العدل(4) - لا يكفي لدفع الإشكال؛ فإنّ العامّ إذا كان غير قابل للتخصيص تقع المعارضة بينه وبين الخاصّ منه، والصناعة لا تقتضي التخصيص، ولمدّعي المعارضة أن يدّعي ذلك، والجواب ما عرفت.

ومن الإشكالات الغير المختصّة: أ نّه لا يمكن حجّية الخبر الواحد؛ لأ نّه يلزم من حجّيته عدم حجّيته؛ فإنّه لو كان حجّة لكان خبر السيّد بطريق الإجماع

ص: 235


1- الإسراء (17): 36.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 160 - 161.
3- تقدّم في الصفحة 220.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 175 - 176.

على عدم حجّيته(1) حجّةً، فيلزم من حجّية الخبر عدمها، وهو باطل بالضرورة،

فالحجّية باطلة بالضرورة.

والجواب - مضافاً إلى أ نّه من الإجماع المنقول، وأدلّة الحجّية لا تشمله - أنّ الاستحالة لا تستلزم من حجّية الخبر، بل من إطلاق دليل الحجّية وشموله لخبر السيّد، فإطلاقه وشموله له مستحيل، لا أصل الحجّية(2).

ص: 236


1- رسائل الشريف المرتضى 1: 24 و 3: 309.
2- وقد يقال باستحالة شمول إطلاق المفهوم لمثل خبر السيّد الحاكي عن عدم الحجّية؛ لاستلزامه لشمول إطلاقه لمرتبة الشكّ بمضمون نفسه؛ لأنّ التعبّد بإخبار السيّد بعدم الحجّية إنّما كان في ظرف الشكّ في الحجّية واللا حجّية، وهو عين الشكّ بمضمون الآية، وإطلاق المفهوم لمثل هذه المراتب المتأخّرة غير ممكنأ. وفيه: منع امتناع الشمول له؛ لعدم الدليل عليه إلاّ توهّم تأخّر الشكّ عن الجعل، وعدم إمكان الإطلاق للمتأخّر عنه، وهو ممنوع؛ لأنّ الشكّ في جعل الحجّية لخبر الواحد ممكن، سواء جعل الحجّية له واقعاً أو لا، والآية الشريفة رافعة لهذا الشكّ، فإذا شكّ في شمول الآية لخبر السيّد - مع كونه نبأً - نتمسّك بإطلاقها لدخوله. ولولا إشكالات اُخر لم يكن هذا إشكالاً. وبهذا لو فرض عدم الإجماع على عدم الفرق بين النبأ قبل نبأ السيّد وبعده، وعدم كون إجماع السيّد على عدم الحجّية مطلقاً، لجاز الأخذ بمفاد المفهوم، والحكم بحجّية الأخبار إلى زمن السيّد، وعدم الحجّية فيما بعده - كما أفاد المحقّق الخراساني - من غير ورود إشكال أصلاً. فالقول بامتناع شمول الإطلاق لمثل خبر السيّد تقوّل بلا برهان. وقد يقال: إنّ الأمر في المقام دائر بين التخصيص والتخصّص؛ لأنّ شمول الآية لسائر الأخبار يجعلها مقطوعة الحجّية، فيعلم بكذب خبر السيّد؛ لأنّ مضمونه عدم الحجّية، وأمّا شمولها لخبر السيّد وإخراج غيره يكون من قبيل التخصيص؛ لعدم العلم بكذب مؤدّياتها ولو مع العلم بحجّية خبر السيّد؛ لأنّ مؤدّياتها غير الحجّية واللاحجّية(ب). و فيه أوّلاً: أنّ مفاد الآية - وكذا سائر أدلّة الحجّية - ليس حجّية الخبر، بل مفادها وجوب العمل، وتنتزع الحجّية من الوجوب الطريقي، كما أنّ مفاد إجماع السيّد حرمة العمل، وعدم الحجّية تنتزع منه، فحينئذٍ يسقط الدوران المذكور، بل يدور بين التخصيصين. وثانياً: أنّ مضمون الآية لو كان جعل الحجّية للأخبار فلا إشكال؛ لعدم شموله لما قطع بعدم جعل الحجّية له، أو قطع بجعل الحجّية له. فحينئذٍ: لو شملت الآية خبر السيّد لصار خبره مقطوع الحجّية، وخبر غيره مقطوع عدم الحجّية وإن لم يكن مقطوع المخالفة للواقع، فيصير حال غير خبره كحاله في خروجه تخصّصاً، فتدبّر. [منه عفي عنه] أ - نهاية الأفكار 3: 118 - 119. ب - نهاية الأفكار 3: 119.

وأيضاً: الأمر دائر بين تخصيص أدلّة الحجّية إلى بقاء فرد واحد تحتها، وبين تخصيص فرد واحد منها وبقائها بحالها في البقيّة، ومقتضى أصالة العموم تعيّن الثاني.

وأيضاً: في مقام إفادة عدم الحجّية، إلقاءُ الكلام الدالّ على الحجّية بشيع لا ينبغي صدوره من الحكيم.

وأمّا ما عن المحقّق الخراساني: أ نّه من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة من زمن صدور الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيّد، وبعده يكون هذا الخبر حجّة فقط، فيكون شمول العامّ لخبر السيّد مفيداً لانتهاء الحكم في هذا الزمان، وليس هذا بمستهجن(1).

ففيه: أنّ الإجماع كاشف عن كون حكم الله من أوّل الأمر كذلك، لا من زمان دعوى الإجماع، فإذا كان الإجماع حجّة يكشف عن عدم حجّية خبر العادل من

ص: 237


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 110.

زمن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وعمل الناس على طبقه قبل دعوى السيّد الإجماع إنّما هو لجهلهم بالحكم الشرعي، وتوهّمهم الحجّية لظاهر أدلّة مخالفة للإجماع بحسب الواقع، فلا معنى لما أفاده من انتهاء زمن الحجّية.

وبذلك يعرف النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في «درره»

من قوله: إنّ بشاعة الكلام - على تقدير شموله لخبر السيّد - ليست من جهة خروج تمام الأفراد سوى فرد واحد؛ حتّى يدفع بما أفاده، بل من جهة التعبير بالحجّية في مقام إرادة عدمها، وهذا لا يدفع بما أفاد(1)، انتهى.

فإنّ البشاعة لا تدفع حتّى إذا كانت من الجهة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ الإجماع كاشف عن [عدم] الحجّية من زمن النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيكون - بحسب الواقع - تمام الأفراد خارجاً عن العمومات سوى فرد واحد، وإن كان الكاشف عنه إجماع السيّد.

وأمّا لو سلّمنا أنّ خبر السيّد يفيد انتهاء الحجّية في زمنه، فيدفع البشاعة حتّى من الجهة الثانية؛ فإنّ شمول إطلاق أدلّة الحجّية لفرد متأخّر عن زمان الصدور - يفيد انتهاء أمد الحكم بعد العمل به في الأزمنة المتتالية - لابشاعة فيه أصلاً.

ومن الإشكالات الغير المختصّة: إشكال شمول أدلّة الحجّية للأخبار مع الواسطة، والمهمّ منه إشكالان:

أحدهما: دعوى لزوم إثبات الحكم لموضوعه؛ فإنّ إحراز الوسائط

إنّما يكون بدليل الحجّية، مع أنّ مفاده وجوب التصديق الذي هو حكم

ص: 238


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 387.

لتلك الموضوعات، فوجوب التصديق ممّا يحرز الموضوع ويترتّب عليه، وهو محال.

وثانيهما: دعوى لزوم كون الحكم ناظراً إلى نفسه؛ فإنّ وجوب التصديق الذي يتعلّق بالخبر مع الواسطة، إنّما يكون بلحاظ الأثر الذي هو وجوب التصديق(1).

ص: 239


1- وهاهنا إشكالان آخران؛ أحدهما: دعوى انصراف الأدلّة عن الأخبار مع الواسطة، لا كما قرّره الشيخ وأجابه وجعله ضعيفاً أ، بل أن يقال: إنّها منصرفة عن المصداق التعبّدي للخبر المحرَز بدليل الحجّية، بل الظاهر منها هو الأخبار الوجدانية لا التعبّدية، خصوصاً ما هو مصداق بنفس تلك الأدلّة. أو يقال: إنّ الوسائط إذا صارت كثيرة جدّاً - كالوسائط بيننا وبين المعصومين - تكون الأدلّة منصرفة عنها، بل لا يمكن إحراز حجّيتها ببناء العقلاء أيضاً؛ لعدم إحراز بنائهم على الخبر الذي كثرت وسائطه كذلك، ولم يكن في زمن الشارع بناء منهم على العمل بمثل ذلك؛ حتّى يكشف عدم الردع من السكوت. والجواب عن الأوّل: بمنع الانصراف، بل الحقّ أنّ العرف لا يفهم الفرق بين الأخبار بلا واسطة ومعها؛ بحيث لو قصر الإطلاق عن شمولها يحكم بمحكوميتها بالحكم بإلقاء الخصوصية، أو بتنقيح المناط، كما ادّعى الشيخ الأعظم(ب). وعن الثاني: بأ نّه لو سلّم فإنّما هو في الوسائط الكثيرة جدّاً، وليست أخبارنا كذلك؛ لأنّ الكتب الأربعة - التي دارت عليها رحى الاجتهاد - متواترة عن مصنّفيها بحيث نقطع بكونها منهم، ولا نحتاج في إثباتها إلى أدلّة الحجّية، والوسائط بينها وبين المعصومين ليست كثيرة يمكن دعوى الانصراف بالنسبة إليها، أو التردّد في بناء العقلاء في مثلها؛ ضرورة أنّ العقلاء يتّكلون على الأخبار مع مثل تلك الوسائط. [منه قدّس سرّه ] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 265 - 266. ب - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 268 - 270.

ولقد تصدّى المحقّقون لجوابهما: بكون أدلّة الحجّية من قبيل القضايا الحقيقية

المنحلّة إلى الموضوعات المتكثّرة المحقّقة والمقدّرة، فلا مانع من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها، كما في قوله: «كلّ خبري صادق»؛ فإنّه يشمل هذا الخبر؛ لكون القضيّة حقيقية. كما لا مانع [من] كون الحكم ناظراً إلى نفسه مع الانحلال إلى القضايا(1).

ولقد أطال بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - في المقام بما لا يخلو عن خلط وإشكال، فقال ما ملخّصه:

إنّ هذا الإشكال - أي الإشكال الثاني - غير وارد على طريقتنا: من أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات؛ لأنّ المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدّي إليه - أيّ شيء كان المؤدّى - فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد، وهو إلى قول الصدوق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الإمام علیه السلام ، ولا نحتاج في جعل الطريق إلى أن يكون في نفس المؤدّى أثر شرعي، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر، كما في المقام.

هذا، ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر - لعلّه يأتي حتّى بناءً على المختار - وهو أ نّه لو عمّ دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة، للزم أن يكون الدليل حاكماً على نفسه، ويتّحد الحاكم والمحكوم؛ لأنّ أدلّة الاُصول والأمارات حاكمة على الأدلّة الأوّلية الواردة [لبيان] الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هوأ نّها مثبتة لتلك الأحكام، وفيما نحن فيه يكون الحكم الواقعي هو وجوب التصديق، واُريد

ص: 240


1- كفاية الاُصول: 341؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179؛ نهاية الأفكار 3: 124.

إثباته بدليل وجوب التصديق، فيكون دليل وجوب التصديق حاكماً على نفسه؛ أي مثبتاً لنفسه.

ونظير هذا الإشكال يأتي في الأصل السببي والمسبّبي؛ فإنّ لازمه حكومة دليل «لا تنقض»(1) على نفسه.

والتحقيق في الجواب: أنّ دليل الاعتبار قضيّة حقيقية تنحلّ إلى قضايا، فدليل التعبّد ينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد السلسلة، ويكون لكلّ منها أثر يخصّه غير الأثر المترتّب على الآخر، فلا يلزم اتّحاد الحاكم والمحكوم، بل تكون كلّ قضيّة حاكمة على غيرها.

فإنّ المخبر به لخبر الصفّار الحاكي لقول العسكري علیه السلام في مبدأ السلسلة لمّا كان حكماً شرعياً - من وجوب الشيء، أو حرمته - وجب تصديق الصفّار في إخباره عن العسكري بمقتضى أدلّة خبر الواحد، والصدوق الحاكي لقول الصفّار حكى موضوعاً ذا أثر شرعي، فيعمّه دليل الاعتبار، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان، فبواسطة الانحلال لا يلزم أن يكون الأثر المترتّب على التعبّد بالخبر بلحاظ نفسه، ولا حكومة الدليل على نفسه، فيرتفع الإشكال(2).

ص: 241


1- وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2- لا يخفى أنّ الأجوبة التي ذكروها في دفع الإشكال عن الأخبار مع الواسطة غير مقنعة: أمّا أوّلاً: فلأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد - أي الآيات الكريمة التي أهمّها آية النبأ أ - ليس لسانها لسان تتميم الكشف، وجعل خبر الواحد مصداق العلم تشريعاً كما يدّعى(ب)، بل لسانها إيجاب العمل على فرض الدلالة، ويمكن أن يكون حصول الظنّ النوعي منه أو الكشف الظنّي عن الواقع، نكتة التشريع، أو ذلك مع عدم وقوع الناس في الكلفة نكتته، ولا دليل على أنّ إيجاب العمل لإلقاء احتمال الخلاف وجعل مصداق من العلم، فحينئذٍ يسقط ما تشبّثوا (ج) به من إحراز الموضوع بدليل «صدّق العادل» وتعلّق الحكم الانحلالي به، وهكذا. كما أ نّه لا دلالة لها على التعبّد بوجود المخبَر به؛ حتّى يأتي فيه ذلك. وأمّا ثانياً: فعلى فرض تتميم الكشف لا بدّ من أثر عملي للمنكشف بالخبر، ولا إشكال في أنّ خبر الشيخ لا يكون وجوب صلاة الجمعة، بل لا يخبر إلاّ عن قول المفيد بكذا من غير إخبار عن مقول قوله، فلا أثر لقوله بما هو قوله. والانتهاء إلى الأثر إن كان بالملازمة العقلية أو العادية فلا بأس به، لكنّها ممنوعة، والملازمة الشرعية تحتاج إلى جعل، وليس في البين إلاّ هذه الأدلّة، فما أفاده شيخنا العلاّمة(د) غير ظاهر. ودعوى دخالة كلّ خبر في موضوع الحكم(ه) كما ترى؛ فإنّ موضوع الوجوب مثلاً هو صلاة الجمعة، لا هي مع كونها محكيّة. مع أنّ الانتهاء إلى الأثر إنّما هو بالتعبّد، ولا بدّ للتعبّد من الأثر. وبالجملة: أنّ خبر الشيخ لا عمل له، ولا أثر عملي له، ولا يكون جزء موضوع للعمل. نعم له أثر عملي بما هو موضوع من الموضوعات، وهو جواز نسبة الخبر إلى المفيد، وهكذا، لكنّه لا بدّ فيه من البيّنة كسائر الموضوعات. وثالثاً: بناءً على أنّ المجعول وجوب تصديق العادل، لا محيص إلاّ أن يكون المراد هو التصديق العملي؛ أي ترتيب الآثار عملاً، ولا عمل لإخبار الشيخ؛ لأنّ وجوب صلاة الجمعة ليس مفاد خبره، ولهذا لو لم تكن واجبة لم يكن قول الشيخ مخالفاً للواقع، بل لو لم يخبر به المفيد لكان خبره مخالفاً له ولو كانت الصلاة واجبة، فحينئذٍ فلا معنى للتعبّد بخبر الشيخ. والعجب منهم حيث تشبّثوا بتصحيح الحجّية بأوّل السلسلة وأنّ قول الصفّار له أثر غير وجوب التصديق، فيجب تصديقه، فصار ذا أثر، فإذا أخبر الصدوق يكون إخباره موضوعاً ذا أثر حتّى ينتهي إلى آخر السلسلة(و)، مع أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان إخبار الصفّار للكلينيثابتاً، وهو لا يثبت إلاّ بدليل التعبّد، فلا بدّ من التشبّث بأوّل السلسلة، وهو أيضاً مخدوش كما عرفت. نعم، لا يبعد أن يقال: إنّ العرف والعقلاء لا يفرّقون بين الأخبار مع الواسطة وبلا واسطة، ويفهمون من دليل الحجّية أ نّها لا تختصّ بالأخبار بلا واسطة، ولا يجب أن تكون كلّ واسطة ذا أثر شرعي، بل لا بدّ وأن لا تكون لغواً، وجعل الحجّية ليس بلغو في المقام. والسرّ في عدم تفرقتهم بينهما يمكن أن يكون لأجل أنّ نظرهم إلى الوسائط يكون طريقياً، ولهذا لا يعدّون الخبر مع الوسائط أخباراً عديدة، بل خبراً واحداً ذا وسائط، فإذا قيل لهم: «اعملوا بقول العادل» وكان الوسائط عدولاً، لا يخطر ببالهم أنّ هاهنا أخباراً متعدّدة، ولا عمل لغير واحد منها، بل لا يرون إلاّ خبراً واحداً ذا عمل اُمروا بالعمل على طبقه، ولهذا يكون الدليل الدالّ على احتياج الموضوعات إلى البيّنة منصرفاً عن أقوال الوسائط، مع كونها موضوعات، بل قول الإمام أيضاً كذلك، ولهذا لو كان لقول بعض الوسائط أثر خاصّ لم يمكن إثباته إلاّ بالبيّنة، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الحجرات (49): 6. ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 195. ج - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179؛ نهاية الأفكار 3: 124 - 125. د - درر الفوائد، المحقّق الحائري: 388 - 389. ه - نهاية الأفكار 3: 124 - 125. و - درر الفوائد، المحقّق الحائري: 389؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 182؛ نهاية الأفكار 3: 124.

ص: 242

ومن ذلك يظهر دفع الإشكال في حكومة الأصل السببي على المسبّبي؛ فإنّ انحلال قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يقتضي حكومة أحد المصداقين على

ص: 243

الآخر، كما فيما نحن فيه، وإنّما الفرق بينهما أنّ الحكومة في باب الأصل السببي والمسبّبي تقتضي إخراج الأصل المسبّبي عن تحت قوله: «لا تنقض اليقين

بالشكّ»، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار.

هذا، وقد أوضح الفاضل المقرّر رحمه الله علیه مراده في ذيل الصحيفة بما حاصله: أنّ طريق حلّ الإشكال الأوّل - وهو إثبات الموضوع بالحكم - مع طريق حلّ الإشكال الثاني، وإن كان أمراً واحداً - وهو انحلال القضيّة - إلاّ أنّ حلّ الإشكال الأوّل يكون بلحاظ آخر السلسلة، وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان؛ فإنّ وجوب تصديقه يثبت موضوعاً آخر، وحلّ الإشكال الثاني بلحاظ مبدأ السلسلة، وهو الراوي عن الإمام علیه السلام ؛ فإنّ وجوب تصديقه بلحاظ الأثر الذي هو غير وجوب التصديق، ثمّ يكون وجوب تصديقه أثراً لإخبار الآخر، وهكذا إلى آخر السلسلة(1)، انتهى كلامهما رفع مقامهما.

وفيه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ ما أفاد - من أنّ الإشكال الثاني غير وارد على مسلك جعل الطريقية - منظور فيه؛ فإنّ ملخّص هذا الإشكال لزوم كون الدليل ناظراً إلى نفسه، وكون دليل الجعل باعتبار الأثر الذي هو نفسه، وهذا بعينه وارد على هذا المسلك ببيان آخر؛ فإنّ خبر الشيخ المحرَز بالوجدان طريق إلى خبر المفيد وكاشف عنه بدليل الاعتبار، وهو كاشف عن خبر الصدوق بدليل الاعتبار أيضاً،

ص: 244


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 180 - 184 و 183، الهامش 1.

وهكذا، فدليل جعل الكاشفية ناظر إلى جعل كاشفية نفسه، ويكون جعل الكاشفية باعتبار جعل الكاشفية، وهو محال.

الثاني: أنّ ما أفاد - من أنّ أدلّة الاُصول والأمارات حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هو أ نّها مثبتة لتلك الأحكام - ففيه: أوّلاً: أنّ أدلّة الاُصول ليست مثبتة للأحكام الواقعية، بل هي مثبتة لوظائف في زمان الشكّ حتّى في الاُصول المحرزة؛ فإنّ مفادها البناء على الإحراز، لا الإحراز الذي في الطرق. وثانياً: أنّ مجرّد إثبات الأمارات الأحكام الواقعية لا يوجب حكومتها عليها؛ لعدم انطباق ضابطة الحكومة على ذلك، كما لا يخفى، وسيأتي في محلّه(1). نعم بعض أدلّة الاُصول حاكمة على أدلّة الشرائط، كأصالة الطهارة؛ فإنّ مفادها توسعة دائرة الشرطية.

الثالث: أنّ بيان كون الدليل حاكماً على نفسه يمكن أن يكون بوجه آخر، وهو: أنّ أدلّة اعتبار الخبر لمّا كانت مثبتة لموضوع نفسها، تكون حاكمة على نفسها؛ ضرورة حكومة قوله: «أخبر العادل» على قوله: «صدّق خبر العادل»، مثل حكومة قوله: «زيد عالم» على قوله: «أكرم العالم»، فما يكون مفاده تحقّق خبر العادل، يكون حاكماً على ما يكون مفاده تصديقه، والفرض أنّ دليل الاعتبار متكفّل لكلا الأمرين، فيكون حاكماً على نفسه. ولا يخفى أ نّه على هذا التقرير يكون هذا الوجه تقريراً آخر للإشكال الأوّل، لا الثاني.

والمظنون أنّ الفاضل المقرّر قد خلط في تقريره، والشاهد عليه أ نّه في ذيل

ص: 245


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

كلامه - الذي تصدّى لبيان الفرق بين حكومة الأصل السببي والمسبّبي، وبين ما نحن فيه - قال: «إنّ الحكومة في باب الأصل السببي والمسبّبي تقتضي إخراج الأصل المسبّبي عن تحت قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار؛ فإنّ وجوب تصديق الشيخ في إخباره عن المفيد يقتضي وجوب تصديق المفيد في إخباره عن الصدوق، فوجوب تصديق الشيخ يدخل فرداً تحت عموم وجوب التصديق، بحيث لولاه لما كان داخلاً فيه»(1)، انتهى. فإنّه صريح فيما ذكرنا.

فتحصّل من ذلك: أنّ حكومة دليل الاعتبار على نفسه إنّما هي باعتبار تحقّق موضوعه بنفسه، لا باعتبار إثبات الحكم كما أفاد أوّلاً.

الرابع: أنّ ما أفاد - من أنّ طريق حلّ الإشكالين وإن كان واحداً، وهو انحلال القضيّة إلى القضايا، إلاّ أنّ حلّ الثاني باعتبار أوّل السلسلة - فيه من الخلط ما لا يخفى؛ فإنّ قول الراوي عن الإمام علیه السلام - على فرض ثبوته - وإن كان ذا أثر غير وجوب التصديق، لكن وجوب تصديقه يتوقّف على ثبوته، وهو يتوقّف على وجوب التصديق، فلا يمكن حلّ الإشكال باعتبار أوّل السلسلة؛ لعدم الموضوع لدليل وجوب التصديق، فلا بدّ من حلّ كلا الإشكالين باعتبار آخر السلسلة - وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان - دفعاً للدور المستحيل.

ص: 246


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 184.
الاستدلال بآية النفر

قوله: «ومنها: آية النفر(1) »(23).

قد تصدّى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه لتقريب الاستدلال بها بما زعم أ نّه يندفع به ما اُورد على الاستدلال بها، فقال ما محصّله: إنّ الاستدلال يتركّب من اُمور:

الأوّل: أنّ كلمة «لعلّ» - مهما تستعمل - تدلّ على أنّ ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها، سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات، والأفعال الاختيارية وغيرها، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لأن يتعلّق بها الإرادة الآمرية، كان - لا محالة - بحكم ما قبلها في الوجوب والاستحباب.

وبالجملة: لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علّته الغائية. وفي الآية جعل التحذّر علّة غائية للإنذار، ولمّا كان الإنذار واجباً كان التحذّر واجباً.

الثاني: أنّ المراد من الجموع التي في الآية هي الجموع الاستغراقية، لا المجموعية؛ لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد فرد من النافرين أو المتخلّفين على التفسيرين، فالمراد أن يتفقّه كلّ فرد منهم، ويُنذر كلّ واحد منهم، ويتحذّر كلّ واحد منهم.

الثالث: المراد من التحذّر هو التحذّر العملي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله، والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون، وليس المراد

ص: 247


1- التوبة (9): 122.

الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله: )لِيُنْذِرُوا( هو وجوب الحذر مطلقاً، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل، غايته أ نّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلاً.

وبعد العلم بهذه الاُمور لا أظنّ أن يشكّ أحد في دلالتها على حجّية الخبر الواحد. وبما ذكرنا من التقريب يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسّك بها(1)، انتهى. ثمّ تصدّى لبيان الإشكالات ودفعها.

أقول: يرد عليه أوّلاً: أنّ ما ادّعى - من أنّ ما بعد كلمة «لعلّ» يكون علّة غائية لما قبلها في جميع موارد استعمالاتها - ممنوع، كما يظهر من تتبّع موارد استعمالاتها، كما أنّ في قوله تعالى: )فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً((2) لم يكن بُخوع نفسه الشريفة علّة غائية لعدم إيمانهم، ومعلوم أنّ الجملة الشرطية في حكم التقدّم على جزائها. ولكنّ الخطب سهل بعد كون ما نحن فيه من قبيل ما أفاده رحمه الله علیه .

وثانياً: أنّ دعوى كون التحذّر واجباً لكونه غاية للإنذار الواجب ممنوعة؛ فإنّ غاية ما يقال في وجه وجوبه هو كونه غاية للنفر المستفاد وجوبه من «لولا» التحضيضية الظاهرة في الوجوب.

وفيه: أنّ قوله تعالى - قبل ذلك - : )وَمَاكَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً((3) منع عن النفر العمومي؛ أي لا يسوغ لهم النفر جميعاً، وإبقاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وحده،

ص: 248


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 185 - 187.
2- الكهف (18): 6.
3- التوبة (9): 122.

كما هو منقول في تفسيرها(1) وبعد هذا المنع قال: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ(، فتكون الآية بصدد المنع عن النفر العمومي، لا إيجاب نفر طائفة من المؤمنين.

فيصير محصّل مفادها - والعلم عند الله - : أ نّه لا يسوغ للمؤمنين أن ينفروا

جميعاً، فينفرد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فَلِمَ لا يكون نفرهم بطريق التفرقة، وبقاء طائفة، ونفر طائفة اُخرى ؟ فيتوجّه الحثّ المستفاد من كلمة «لولا» التحضيضية إلى لزوم التجزئة وعدم النفر العمومي، لا إلى نفر طائفة للتفقّه(2).

وثالثاً: أنّ ما ادّعى - من أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر - في محلّ المنع، بل الظاهر من الآية الشريفة: أنّ المنذرين

ص: 249


1- مجمع البيان 5: 126.
2- ودعوى أنّ ذلك مخالف لظاهر الآية، فلو كان المراد ما ذكر لاكتفى بالآية الاُولى، فذكر قوله: )فَلَوْلاَ نَفَرَ( لإيجاب النفر للتفقّه. هذا مع أنّ ظاهر قوله: )وَمَا كَانَ المُؤمِنُونَ(ليس نهياً، بل إخبار عن عدم إمكان النفر العمومي؛ لاختلال النظام به. ممنوعة: بأنّ عدم الاكتفاء بالجملة الاُولى لعلّه لدفع ما ينقدح في الأذهان: من أنّ عدم نفر الجميع يوجب بقاء سائر الطوائف في الجهالة، فقال تعالى ما قال، فليست الآية في مقام بيان وجوب النفر. وقوله: )وَ مَا كَانَ المُؤمِنُونَ( إخبار في مقام الإنشاء، ولو بقرينة شأن نزول الآية، كما قال المفسّرونأ، وليس المراد الإخبار بأمر واضح لم يختلج ببال أحد خلافه، إلاّ أن يحمل على كونه مقدّمة لقوله: )فَلَوْلاَ نَفَرَ(، وهو خلاف الظاهر، بل ليس المراد بالنهي عن النفر إلاّ في مورد شأن نزول الآية، وإلاّ فعدم إمكان نفر جميع الناس في جميع الأدوار واضح لا يحتاج إلى النهي. [منه قدّس سرّه ] أ - مجمع البيان 5: 126.

لينذروا قومهم بالموعظة، والإيعاد بعذاب الله وشدّة بأسه، حتّى يخافوا من عقابه

وعذابه، فإذا خافوا يعملون بوظائفهم الشرعية، وليست الآية في مقام بيان وجوب التحذّر حتّى يقال: إنّه تحذّر عملي، بل الظاهر أنّ المقصود حصول التحذّر القلبي والخوف والخشية للناس حتّى يقوموا بوظائفهم.

ولا يلزم أن يكون المنذر عادلاً، بل قد يكون تأثير كلام غيره أكثر منه بمراتب؛ لحسن بيانه، وقوّة إفهامه، ونفوذ كلامه. وبالجملة: بين مضمون الآية الشريفة والدلالة على حجّية الخبر الواحد، بونٌ بعيد.

ورابعاً: لو سلّمنا جميع ذلك، فليس للآية إطلاق من هذه الجهة؛ فإنّها ليست في مقام بيان وجوب التحذّر، بل فيها إهمال من هذه الحيثية. ومجرّد كون الجموع استغراقية لا يوجب رفع الإهمال؛ فإنّ الإطلاق من أحوال الفرد، وأيّ ربط بين استغراقية الجمع والإطلاق الفردي ؟ !

والعجب منه قدّس سرّه حيث قال في جواب هذا الإشكال بهذه العبارة: وأنت خبير بأ نّه [بعد] ما عرفت من أنّ المراد من الجمع هو العامّ الاستغراقي، لا يبقى موقع لهذا الإشكال؛ فإنّه أيّ إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه ؟ !(1)، انتهى.

وهو كما ترى في كمال السقوط، وليته بيّن الربط بين الجمع الاستغراقي والإطلاق الفردي.

وخامساً: أنّ المستفاد من بعض الروايات الواردة في تفسير الآية تطبيقها

ص: 250


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 187.

على النفر لأجل تحصيل العلم بإمامة بعض الأئمّة علیهم السلام بعد وفاة بعض منهم، وإخبارهم قومهم بها(1)، ومعلوم أنّ خبر الثقة لا يعتمد عليه في الاُصول

الاعتقادية، بل لا بدّ من العلم فيها، وهذا أيضاً يشهد بعدم إطلاق لها كما مرّ.

الاستدلال بالأخبار على حجّية خبر الواحد

قوله: «في الأخبار...»(24).

أقول: ما استدلّوا بها من الأخبار(2) على حجّية الخبر الواحد - مع كثرتها وتواترها إجمالاً - لا تدلّ على جعل الحجّية والطريقية والوسطية في الإثبات للخبر الواحد. نعم، يظهر من مجموعها أنّ حجّيته كانت مفروغاً عنها بين الراوي والمرويّ عنه.

ومدّعي القطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس الحجّية للخبر في مقابل بناء العقلاء، بل كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام يتعاملون معه معاملة سائر العقلاء ويعملون به عملهم، ليس بمجازف.

ولمّا كان بناء العقلاء على العمل به مسلّماً مرتكزاً في أذهانهم، كانت الأدلّة [المستدلّ بها] على حجّيته من الكتاب والسنّة - على فرض دلالتها - محمولة على الأمر العقلائي والإمضاء لطريقتهم، لا على تأسيس الحجّية وجعل الطريقية والمحرزية والكاشفية، كما تمور به الألسن موراً.

ص: 251


1- راجع الكافي 1: 378 / 1 - 3.
2- راجع وسائل الشيعة 27: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8 و: 136، الباب 11؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 268، باب حجّية أخبار الثقات.

وأمّا ما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - وتبعه شيخنا الاُستاذ(1) طاب ثراه - من أنّ الأخبار الدالّة على حجّية الخبر متواترة إجمالاً، فيؤخذ بأخصّها مضموناً، ويتعدّى ببركته إلى الأعمّ منه(2).

فالظاهر أ نّه - بعد تسليم التواتر - مجرّد فرض، وإلاّ فلا أظنّ أن يكون في الأخبار ما يكون جامعاً لشرائط الحجّية، ودالاًّ على حجّية الخبر مطلقاً(3).

ص: 252


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 392.
2- كفاية الاُصول: 347.
3- بل القدر المتيقّن هو الإخبار بلا واسطة، مع كون الراوي من الفقهاء؛ أضراب زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير. ومعلوم أ نّه لم يصل إلينا خبر كذائي؛ حتّى يتمسّك به لإثبات الحجّية المطلقة. لكن هاهنا وجه آخر لإثبات حجّية مطلق خبر الثقة: وهو أ نّه لا إشكال في بناء العقلاء في الجملة، فحينئذٍ إن ثبت بناؤهم في مقام الاحتجاج على العمل بمطلق خبر الثقة - كما هو الظاهر - فهو، وإلاّ فالقدر المتيقّن من بنائهم هو العمل على الخبر العالي السند إذا كان جميع رواته مزكّى بتزكية جمع من العدول، وفي الروايات ما يكون بهذا الوصف، مع دلالته على حجّية مطلق خبر الثقة، كصحيحة أحمد بن إسحاق؛ حيث روى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن عبدالله الحميري ومحمّد بن يحيى جميعاً عن عبدالله بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته وقلت: مَن اُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل ؟ فقال: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»أ، ونحوه صحيحته الاُخرى(ب)، وسندها مع علوّه يكون رواتها من المشايخ العظام، ممّن لا غمز في واحد منهم من أحد، فلا إشكال في بناء العقلاء على العمل بمثلها. وبمقتضى تعليلها نتعدّى إلى كلّ خبر ثقة مأمون. والإشكال بأنّ من المحتمل أنّ لوثاقة مثل العمري وابنه دخالة في القبول، ولا يمكن التعدّي إلى مطلق الثقة، مردود؛ فإنّ الظاهر من التعليل أنّ لزوم القبول إنّما هو لأجل الوثاقة والمأمونية، لا وثاقة خاصّة ومرتبة كاملة لها، كما أنّ المستفاد من قوله: «لا تشرب الخمر؛ لأ نّه مسكر» أنّ مجرّد الإسكار كافٍ، لا إسكار خاصّ نحو إسكار الخمر. وأمثال هذه الروايات وإن لم تدلّ على جعل الحجّية(ج) أو تتميم الكشف(د) كما يدّعى، لكن تدلّ على كون العمل بقول مطلق الثقة المأمون كان معروفاً في تلك الأزمنة وجائزاً من قِبل الشرع. لكن لو لم يستلزم منها وجوب العمل أو جعل الحجّية وأمثالها، يشكل التمسّك بها لكشف حال السيرة؛ لعدم الكشف القطعي، وهو واضح، وعدم كون ذلك حكماً عملياً، فلا معنى للتعبّد به. وكيف كان، فالخطب سهل بعد إحراز بناء العقلاء في محيط الاحتجاج بالعمل بكلّ خبر من الثقة. ومع إنكار بنائهم فالرواية تدلّ على التشريع ولزوم العمل على قوله، وما ذكرنا - من عدم الدلالة على التأسيس - لأجل إحراز بناء العقلاء، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4. ب - نفس المصدر. ج - كفاية الاُصول: 319. د - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 17 و 108.

بل لنا منع التواتر؛ لأنّ الأخبار - مع كثرتها - تكون منقولة عن عدّة كتب لا تبلغ مرتبة التواتر، فلا يكون في تمام الطبقات تواتر.

وأمّا الاكتفاء بنفس التواتر الإجمالي لإثبات مطلق خبر الثقة كما يظهر من بعض المحقّقين على ما في تقريرات بحثه(1)،

فهو كما ترى.

ص: 253


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 191.
الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الخبر الواحد

قوله: «دعوى استقرار سيرة العقلاء»(25).

وهذه هي عمدة ما في الباب، وقد تقدّم منّا(1) أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أو العمل بالظنّ، لا تصلح للرادعية، لا لما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه

من لزوم الدور(2)؛ فإنّه مخدوش كما ذكرنا عند استدلال النافين للحجّية بالآيات فراجع(3)، بل لأ نّها لمّا كانت من قبيل القضايا الحقيقية تكون شاملة لنفسها، وهي تكون بحسب الدلالة غير علمية، بل ظنّية، فيلزم من التمسّك بها عدم جواز التمسّك بها؛ لرادعيتها لنفسها، وهو باطل بالضرورة.

إن قلت: ما يلزم منه المحال هو شمولها لنفسها، فلا تشملها، فيتمّ رادعيتها لغيرها بلا محذور.

قلت: لا شكّ في أنّ هذه الآيات الظاهرة في المنع عن العمل بغير العلم إنّما أفادها المتكلّم بها لأجل الإفادة والإفهام، فلا بدّ وأن تكون ظواهرها - مع كونها غير مفيدة للعلم - قابلة للإفادة والإفهام، فتكون هذه الظواهر بين المتكلّم والمخاطب مفروغة الحجّية، ولا تكون حجّيتها إلاّ للسيرة العقلائية على الأخذ بالظواهر، والمتكلّم - جلّ وعلا - اتّكل على هذه السيرة العقلائية، لا على أنّ هذا الكلام لا يشمل نفسه لأجل لزوم المحال؛ فإنّه خارج عن المتفاهم العرفي

ص: 254


1- تقدّم في الصفحة 218.
2- كفاية الاُصول: 348.
3- تقدّم في الصفحة 222.

والطريقة العقلائية في الإفادة والإفهام، فإذا كان الاتّكال في الإفهام على السيرة مع عدم إفادة العلم، يعلم بإلقاء الخصوصية أنّ الآية غير رادعة لما قامت به السيرة العقلائية، سواء كانت من قبيل الظواهر، أو من قبيل خبر الثقة. وبالجملة: لا تصلح تلك الآيات للرادعية.

ثمّ إنّ هاهنا كلاماً من بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - وهو أ نّه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها؛ فإنّ عدم الردع عنها مع التمكّن منه، يلازم الرضا بها وإن لم يصرّح بالإمضاء.

نعم، لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات؛ لأ نّها من الاُمور الاعتبارية التي يتوقّف صحّتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم والإطلاق.

وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع، كالمعاملات المعروفة في هذا الزمان بالبيمة؛ فإنّها إذا لم تندرج في عموم )أَحَلَّ الله((1) و)أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) ونحو ذلك، فلا يجوز ترتيب آثار الصحّة عليها(3)، انتهى.

وفيه: أنّ احتياج المعاملات إلى التصريح بالإمضاء - لكونها من الاُمور الاعتبارية - ممنوع؛ فإنّ اعتباريتها لا تلازم احتياجها إليه، فنفس عدم ردع

ص: 255


1- البقرة (2): 275.
2- المائدة (5): 1.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 193.

الشارع يكفي في صحّتها ونفوذها، فالمعاملة النافذة عند العقلاء لو لم تكن نافذة

لدى الشرع، لا بدّ من الردع عنها ويكفي في النفوذ عدم ردعه.

نعم، لا يكفي الرضا من المتعاملين لصحّة المعاملة، بل لا بدّ فيها من الإنشاء، وهو أجنبيّ عمّا نحن فيه، ولعلّه قدّس سرّه قايس بينهما.

وأمّا ما أفاده رحمه الله علیه في المقام - بعد اعترافه بأ نّه من المحتمل قريباً رجوع سيرة المسلمين في الاُمور الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشارع، إلى طريقة العقلاء - بأنّ ذلك لا يضرّ بالاستدلال بها؛ لكشفها عن رضا الشارع كما تكشف عنه طريقة العقلاء، غاية الأمر أ نّه في مورد اجتماعهما يكونان من قبيل تعدّد الدليل على أمر واحد، فتكون سيرة المسلمين من جملة الأدلّة، كما تكون طريقة العقلاء كذلك(1).

ففيه ما لا يخفى؛ فإنّ سيرة المسلمين إذا رجعت إلى طريقة العقلاء لا تكون دليلاً مستقلاًّ، بل الدليل هو طريقة العقلاء فقط، وإنّما تصير سيرة المسلمين دليلاً

لو قامت بما أ نّهم مسلمون، لا بما أ نّهم عقلاء كما في المقام.

وبالجملة: لا تنعقد سيرة المسلمين بما هم مسلمون مع رجوعها إلى طريقة العقلاء، فلا معنى لكونها دليلاً كاشفاً في مقابلها، وهذا واضح.

ص: 256


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 194.
الاستدلال بالعقل على حجّية خبر الواحد

قوله: «أحدها(1): أ نّه يعلم إجمالاً...»(26).

أقول: هذا الدليل العقلي هو دليل الانسداد الصغير.

الفرق بين الانسداد الكبير والصغير

وضابط الفرق بين الانسدادين: أنّ المقدّمات المرتّبة في الانسداد إذا انتهت إلى حجّية مطلق الظنّ - بناءً على الكشف أو الحكومة - من أيّ طريق كان، من غير كونه مقيّداً بحصوله من طريق خاصّ، فهو الانسداد الكبير، وإذا انتهت إلى حجّيته إذا حصل من طريق خاصّ أو أمارة مخصوصة، أو تنتهي إلى حجّية الظنّ المطلق بصدور الرواية، أو جهة اُخرى من الجهات، ولا يكون نطاقه وسيعاً إلى غيرها، فهو الانسداد الصغير.

ص: 257


1- إنّي قد تركت البحث في هذه الدورة [أي الدورة الثانية] عن الأدلّة العقلية مطلقاً؛ لقلّة فائدتها، مع طول مباحثها. والمرجوّ من طلاّب العلم وعلماء الاُصول - أيّدهم الله - أن يضنّوا على أوقاتهم وأعمارهم الشريفة، ويتركوا ما لا فائدة فقهية فيه من المباحث، ويصرفوا همّهم العالي في المباحث المفيدة الناتجة. ولا يتوهّم متوهّم: أنّ في تلك المباحث فوائد علمية؛ فإنّ ذلك فاسد؛ ضرورة أنّ علم الاُصول علم آلي لاستنتاج الفقه، فإذا لم يترتّب عليه هذه النتيجة فأيّة فائدة علمية فيه ؟ ! والعلم ما يكشف لك حقيقة من الحقائق - دينية أو دنياوية - وإلاّ فالاشتغال به اشتغال بما لا يعني، والله وليّ التوفيق، جمادى الاُولى 1374. [منه قدّس سرّه ]

ومعلوم أنّ المنشأ في هذا الافتراق هو المقدّمة الاُولى من دليل الانسداد، فإنّ العلم الإجمالي إذا كانت دائرته وسيعة، بحيث يشمل نطاقه جميع المشتبهات، من الأخبار، والأمارات الظنّية، وغيرهما، فلا بدّ وأن ينتهي - مع ضمّ سائر المقدّمات - إلى حجّية مطلق الظنّ بناءً على الكشف أو الحكومة.

وأمّا إذا كانت دائرته ضيّقة - محصورة في الأخبار خاصّة، أو في الشهرات، أو الإجماعات المنقولة - فلا بدّ وأن ينتهي إلى حجّية الظنّ من طريق خاصّ من المذكورات، أو الظنّ بالصدور فقط.

إذا عرفت ذلك: فقد ادّعى المستدلّ بأنّ العلم الإجمالي حاصل بصدور الأخبار الكثيرة المتضمّنة للأحكام الإلهية الوافية بالفقه؛ بحيث ينحلّ العلم الإجمالي بسائر المشتبهات في دائرة الأخبار، وبعد انضمام سائر المقدّمات يصير الدليل منتهياً إلى حجّية الظنّ بصدور الأخبار، وهذا هو الانسداد الصغير.

نقل كلام المحقّق النائيني في المقام ووجوه النظر فيه

وبما ذكرناه من الضابط يعلم ما في كلام بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه؛ فإنّه - بعد الاعتراف بأنّ هذا الدليل هو ترتيب الانسداد الصغير في خصوص الأخبار - تصدّى لبيان المراد من الانسداد الصغير والفرق بينه وبين الكبير، فقال ما ملخّصه:

إنّ استفادة الحكم الشرعي من الخبر تتوقّف على العلم بالصدور وجهته والظهور وحجّيته، فإن قام الدليل بالخصوص على كلّ واحد منها فهو، وإن لم يقم على شيء منها وانسدّ طريق إثباتها، فلا بدّ من جريان الانسداد لإثبات

ص: 258

حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعي. وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.

وإن قام الدليل على بعض جهات الرواية دون بعض، كما لو فرض قيام الدليل على الصدور وجهته وإرادة الظهور، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور، وتوقّف على الرجوع إلى اللغوي في تشخيصه، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله، فلا بدّ من جريان مقدّمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجّية الظنّ من قوله في معنى اللفظ، وإن لم يحصل بالحكم الشرعي. وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.

وحاصل الفرق بينهما: هو أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ فيها، وأمّا مقدّمات الانسداد الصغير إنّما تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية في إحدى الجهات الأربع المتقدّمة ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها.

ثمّ أطال الكلام في صحّة جريان مقدّمات الصغير مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل، واختار التفصيل بأنّ بعض هذه الجهات ممّا يتوقّف عليها العلم بأصل الحكم كالصدور؛ فإنّه لولا إثباته لا يكاد يحصل العلم بالحكم، ففيه تجري مقدّمات الانسداد الكبير، وبعضها ممّا يتوقّف عليها العلم بتشخيص الحكم وتعيّنه إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلّق، كالصعيد المردّد بين كونه التراب أو مطلق وجه الأرض، والجهل بمعناه لا يغيّر العلم بأصل الحكم؛ لأنّ المكلّف يعلم بأ نّه مكلّف بما تضمّنته الآية من الحكم، ففيه تجري مقدّمات

ص: 259

الانسداد الصغير لحجّية مطلق الظنّ بالجهة التي انسدّ باب العلم فيها(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه يظهر من صدر كلامه أنّ هذا الدليل العقلي هو ترتيب مقدّمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار، ويظهر ممّا بعده أ نّه مع عدم قيام الدليل الخاصّ بإثبات أصل الصدور تجري مقدّمات الانسداد الكبير، كما أ نّه يظهر من تفصيله وتوضيحه أنّ هذا الدليل العقلي يرجع إلى الانسداد الكبير.

وبالجملة: كلامه في المقام لا يخلو من تهافت صدراً وذيلاً.

وثانياً: أنّ الضابط الذي أفاده في الافتراق بين الانسدادين - من أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ فيها، وأمّا مقدّمات الصغير تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها - ينافي تفصيله الآتي من الافتراق بين هذه الجهات، وأنّ مع عدم الدليل على أصل الصدور لا بدّ من ترتيب مقدّمات الكبير؛ فإنّ ترتيب المقدّمات في أصل الصدور ينتهي إلى حجّية الظنّ بالصدور، لاحجّيته بالنسبة إلى الأحكام مطلقاً، فلا ينطبق الضابط عليه.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الضابط هو الذي ذكرنا، وأنّ في كلامه قدّس سرّه اختلاطاً

وتهافتاً، فراجع كلامه.

ثمّ إنّه قدّس سرّه أطال الكلام في تقرير الدليل العقلي وجوابه، وفي كلامه مواقع للنظر تظهر للمتأمّل فيه:

ص: 260


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 196 - 198.

منها: ما أفاده في جواب «إن قلت» الثاني: أنّ دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنّية ليست ببعيدة؛ لأنّ من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي، بخلاف تراكم الشكوك(1).

فإنّ فيه ما لا يخفى؛ لأنّ مبادئ حصول العلم غير مبادئ حصول الظنّ والشكّ، فلا يمكن حصول العلم من تراكم الظنون؛ أي كثرتها، وكثرة المظنونات، فلو فرض آلاف من الظنون بآلاف من الأحكام من المبادئ الظنّية، لا يعقل حصول علم واحد منها، وهذا واضح، ولعلّه خلط بين التراكم بحسب المراتب وبينه بحسب الموارد.

ومنها: ما أفاده بقوله: وثانياً: سلّمنا أنّ الأمارات الظنّية ليست من أطراف العلم الإجمالي، ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنّما هو لأجل ما تضمّنتها من الأحكام الواقعية، لا بما هي هي، فالمتعيّن هو الأخذ بكلّ ما يظنّ أنّ مضمونه حكم الله الواقعي، لا خصوص ما يظنّ بصدوره من الأخبار؛ لأنّ الأخذ بمظنون الصدور إنّما هو لاستلزامه الظنّ بالمضمون غالباً، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظنّ بالحكم، سواء حصل من الظنّ بالصدور، أو من الشهرة والإجماع المنقول(2)، انتهى.

فإنّ فيه ما لا يخفى أيضاً؛ لأنّ الأخذ بمظنون الصدور في دائرة الأخبار إنّما هو لأجل العلم الإجمالي مع ضمّ بقيّة المقدّمات، لا لأجل كونه مستلزماً للظنّ

ص: 261


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 201.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 203 - 204.

بالمضمون؛ حتّى نتعدّى إلى الشهرة والإجماع المنقول، فمجرّد الظنّ بالمضمون

لم يصر موجباً لوجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار، بل العلم الإجمالي في دائرة الأخبار أدّى إلى ذلك، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قدّس سرّه تصدّى لتقريب مقدّمات الانسداد الصغير بوجه آخر، وقال: إنّه سالم عمّا اُورد على الوجه الأوّل(1)، ولكنّه اعترف بعد أسطر: بأنّ الإشكال الثالث مشترك الورود بين التقريرين.

ثمّ بعد كلام آخر قال: لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدّمة إلاّ أ نّه يرد عليه... إلى آخره، وهذا الإيراد هو الإيراد الثاني على التقريب الأوّل مع تغيير العبارة.

ثمّ أفاد في جواب «إن قلت» عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بتقريبين، وهو عين الإشكال الأوّل على التقرير الأوّل مع تقريب آخر.

وبالجملة: مع تصريحه بعدم ورود شيء من الإشكالات على التقريب الثاني، أورد تدريجاً جميع الإشكالات المتوجّهة على الوجه الأوّل على الوجه الثاني أيضاً، وهذا لا يخلو من غرابة.

ثمّ إنّه في كلامه موارد للأنظار لا بدّ من التعرّض لها وإن يطل الكلام فنقول :

حاصل تقريبه في الوجه الثاني من التقريبين هو أ نّا نعلم بصدور غالب الأخبار التي في أيدينا، ولا إشكال في وجوب الأخذ بما صدر عنهم بما أ نّها أحكام ظاهرية في مقابل الأحكام الواقعية، فلا يرجع إلى الوجه الأوّل. وحيث

ص: 262


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 205.

لا يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم نتنزّل إلى الظنّ والأخذ بمظنون الصدور.

ولا يرد عليه شيء من الإشكالات؛ فإنّ مبناها كان على أنّ وجوب العمل بالأخبار من باب تضمّنها الأحكام الواقعية، فيرد عليه: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام لا يختصّ بدائرة الأخبار، بل الأمارات الظنّية أيضاً من أطرافه، إلى آخر الإشكالات.

وأمّا هذا التقريب فمبنيّ على وجوب العمل بالأخبار لكونها أحكاماً ظاهرية، فلا تكون سائر الأمارات التي لم يقم دليل على اعتبارها من أطراف هذا العلم؛ فإنّها ليست أحكاماً ظاهرية، فدائرة العلم الإجمالي تختصّ بالأخبار، ونتيجته الأخذُ بمظنون الصدور عند تعذّر تحصيل العلم التفصيلي، وعدمُ وجوب الاحتياط في الجميع، بل مقتضى العلم بصدور غالب الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ لأنّ ما صدر عنهم يكون بقدر المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير(1)، انتهى.

فتلخّص ممّا ذكره: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الظاهرية ممّا ينجّز العمل بالأخبار، ولمّا كانت الأحكام الظاهرية الصادرة بمقدار الأحكام الواقعية فيحتمل انطباق الأحكام الواقعية عليها، وبهذا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في دائرة العلم الإجمالي الصغير.

أقول: ميزان انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير هو

ص: 263


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 205 - 206.

أن يكون المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير أسبق من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير، ويكون المعلوم بالكبير قابلاً للانطباق على المعلوم بالصغير، فإذا تحقّق الشرطان ينحلّ الكبير في الصغير، ومع اختلال أحدهما لا يتحقّق الانحلال.

مثلاً: لو فرضنا العلم الإجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحد الإناءين في صدر النهار، ثمّ حصل العلم بوقوع قطرة اُخرى؛ إمّا في أحدهما أو في ثالث في آخر النهار، لا يكون هذا العلم الثاني منجّزاً لجميع الأطراف، وينحلّ في الأوّل؛ لأنّ العلم الأوّل قد تنجّز به الإناءان، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، فيصير الثالث من الشبهة البدوية، فينحلّ الثاني.

لكن لو فرضنا تقارن المعلومين أو تقدّم المعلوم في دائرة الكبير على المعلوم في دائرة الصغير لا ينحلّ العلم الكبير.

أمّا في المقارن: فلأنّ التنجيز في جميع الأطراف يكون في عرض واحد، فيكون التنجيز بالنسبة إلى أطراف الصغير مستنداً إلى كلا العلمين، وبالنسبة إلى الزائد مستنداً إلى الكبير، فلا مانع من تأثير العلم في دائرة الكبير، كما لا يخفى.

وأمّا في صورة تقدّم الكبير فهو أوضح؛ لأنّ العلم الإجمالي فيه بلا مزاحم؛ لتنجيزه في الزمان السابق ويستند التنجيز في جميع الأطراف إليه فقط.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ العلم الإجمالي باعتبار المعلومين يكون له ثلاث صور: تقدّم الصغير على الكبير وبالعكس وتقارنهما.

ففي الاُولى ينحلّ العلم في دائرة الكبير دون الباقيتين.

هذا كلّه مع مقارنة العلمين، وأمّا مع تقدّم أحدهما على الآخر ففيه تفصيل، ولمّا كان ما نحن فيه من قبيل الصورتين الأخيرتين فلا معنى للانحلال

ص: 264

الكبير؛ فإنّ العلم الإجمالي بكون الأحكام الواقعية بين الأخبار وسائر الطرق

الظنّية مقارن بحسب المعلوم والعلم مع العلم الإجمالي بصدور الأخبار من الأئمّة الأطهار علیهم السلام .

ومن مواقع النظر فيه: أ نّه قال: إنّ تقريب مقدّمات الانسداد على هذا الوجه الثاني يقرب ممّا أفاد صاحب «الحاشية»(1) وأخوه(2) في الانسداد وإن كان فرق بينهما(3)، وتصدّى لبيان الفرق بما لا يرجع إلى محصّل، وظنّي أ نّه من قصور العبارة؛ فإنّ الفرق بينهما أظهر من أن يخفى على مثله؛ لأنّ ترتيب المقدّمات في المقام مبنيّ على الانسداد الصغير وانحلال العلم الكبير، ونتيجتها حجّية الأخبار المظنونة الصدور، ومبنى كلامهما على الانسداد الكبير وانحلال دائرة العلم الإجمالي بالواقع في مطلق الطرق، ونتيجتها حجّية مطلق الظنّ، سواء كان من الأخبار أو من طرق اُخرى غيرها، ولعلّ مراده أيضاً ذلك، فراجع.

ومنها: أ نّه قدّس سرّه بعد أن تصدّى لإيراد إشكال على التقريب الثاني - ممّا يقرب ثاني الإشكالات الواردة على التقريب الأوّل - من أنّ الأحكام الظاهرية ليست في مقابل الأحكام الواقعية، بل هي طرق إليها، فيجب العمل على الأحكام الواقعية من أيّ طريق حصل العلم بها، ومع فقدانه نتنزّل إلى الظنّ بها، لا إلى الظنّ بالصدور، وأورد إشكالاً بقوله: «إن قلت» على ذلك بأنّ الواجب أوّلاً وبالذات وإن كان امتثال الأحكام الواقعية، لكنّ العلم بها ينحلّ في دائرة العلم

ص: 265


1- هداية المسترشدين 3: 393.
2- الفصول الغروية: 277 / السطر 33.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 206.

بالأخبار الصادرة التي بمقدار المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير، تصدّى لجوابه بقوله: «قلت» بوجهين:

أحدهما: ما محصّله: إنّ مجرّد العلم بصدور جملة من الأخبار لا يقتضي ترتّب الأحكام عليها؛ فإنّ الحكم الظاهري يتوقّف على العلم به موضوعاً وحكماً، لا بمعنى أن لا وجود واقعي له؛ فإنّه ضروري البطلان، بل بمعنى أنّ الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري من تنجيز الواقع والعذر منه لا تترتّب عليه مع الجهل، بل الاُصول العقلائية أيضاً لا تجري مع الجهل بالصدور، فما لم يعلم صدور الرواية تفصيلاً لا تجري فيها أصالة الظهور، ولا أصالة الجهة؛ لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها حتّى تجري فيها الاُصول العقلائية، فلايمكن أن يترتّب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنّية على حاله، ولا بدّ من ترتيب مقدّمات الانسداد الكبير، ولا أثر للظنّ بالصدور(1) انتهى.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ توقّف جريان الاُصول العقلائية على العلم التفصيلي

بما هو الصادر، ممنوع أشدّ المنع، فلو فرضنا العلم الإجمالي بصدور إحدى الروايتين، مثلاً: يتضمّن إحداهما وجوب إكرام العلماء، والاُخرى وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وتركنا العمل بهما باحتمال إرادة خلاف الظاهر منهما، أو احتمال عدم الجدّ في مضمونهما، واعتذرنا بأنّ الاُصول العقلائية - من أصالة الظهور وأصالة الجدّ - لا تجري في غير المعلوم بالتفصيل؛ لعدم العلم بظهور ما

ص: 266


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 206 - 209.

هو الصادر حتّى تجري فيه الاُصول العقلائية، لخرجنا عن طريقة العقلاء، ويكون هذا الاعتذار غير موجّه عندهم، كما أنّ الاُصول جارية في الخبرين المتعارضين اللذين نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، وإنّما يكون تقديم أحدهما على الآخر من باب تقديم الحجّة على الحجّة، وفي صورة عدم الترجيح والحكم بالتخيير تجري في كلّ منهما الاُصول العقلائية من أصالة الظهور والجهة، فعدم جريان الاُصول في أطراف المعلوم بالإجمال ممّا لا وجه له.

وبالجملة: لا فرق في انحلال العلم الإجمالي الكبير بين العلم التفصيلي بالصادر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام وبين العلم الإجمالي به. نعم، لو كان العلم الإجمالي في دائرة الصغير غير مقدّم على الكبير لم ينحلّ الكبير به، كما تقدّم.

ثمّ قال في الوجه الثاني ما محصّله: إنّه على فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتّب الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار، لكن مجرّد ذلك لا يكفي في انحلال الكبير؛ فإنّ تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان، ولم يجب الاحتياط في جميع الأخبار؛ لثبوت الترخيص في غير المظنون، ومع هذا لا يمكن الانحلال؛ لعدم كون الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور بمقدار الأحكام الواقعية في مجموع الأخبار والأمارات؛ فإنّ أقصى ما يدّعى هو أنّ مجموع ما صدر عنهم علیهم السلام من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية، لا أنّ مظنون الصدور بمقدارها، فالترخيص فيما عدا مظنون الصدور يوجب نقصاً في الأحكام الظاهرية، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.

ص: 267

وبالجملة: أنّ الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصاً في الأحكام الظاهرية؛ للعلم بأنّ بعض الأحكام الظاهرية يكون في الأخبار التي رخّص في ترك العمل بها؛ لأنّ مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية، فلا يبقى مجال للانحلال.

إن قلت: الأخذ بمظنون الصدور إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال وجه، وأمّا إن كان من باب أنّ الشارع جعل الظنّ بالصدور طريقاً إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي؛ لأنّ الأحكام الظاهرية التي فرضنا أ نّها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجّية الظنّ؛ فإنّ نتيجة جعل الشارع الظنّ بالصدور طريقاً إلى ما صدر هي أنّ ما عدا المظنون ليس ممّا صدر، واختصّ ما صدر بمظنون الصدور، والمفروض أنّ ما صدر بقدر الأحكام الواقعية، فينحلّ العلم الإجمالي.

قلت: هذا إذا تمّت المقدّمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، فتكون النتيجة حجّية الظنّ وكونه طريقاً إلى ما صدر، ولكنّ المدّعى أ نّه لا تصل النوبة إليه؛ لأنّ

عمدة المقدّمات التي يتوقّف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة من الأحكام الظاهرية، وبعد بطلان هذه المقدّمة بجواز إهمال بعض الوقائع - وهو ما عدا المظنون - لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ نتيجة الانسداد الصغير أو الكبير هو التبعيض في الاحتياط كما

ص: 268


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 209 - 211.

سيأتي(1) لا حجّية الظنّ كشفاً أو حكومةً، ولم نعلم زيادة الأحكام الواقعية عمّا يجب الاحتياط فيه من الأطراف، فدعوى زيادتها عن المظنون لا ينهدم بها أساس الانحلال. نعم، لو ادّعى زيادتها عمّا يجب الاحتياط فيه كان له وجه، لكنّها بمكان من المنع.

وثانياً: أ نّه - مع تسليم كون النتيجة حجّية الظنّ بالصدور، وتسليم كون الأحكام الواقعية زائدة عمّا ظنّ صدوره - يكون العلم الإجمالي الكبير قاصراً عن تنجيز أطرافه، وهو عين الانحلال أو في حكمه؛ لأنّ المفروض أنّ الأحكام الواقعية ليست زائدة عمّا صدر، وما صدر إنّما هو بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، والمظنونات واجبة العمل، والباقي مرخّص فيه، ففي رتبة المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير يكون بعض أطرافها واجب العمل، وبعضها مرخّص فيه، ولا يكون المعلوم بالكبير زائداً عنهما، فلا يمكن تنجيزه للأطراف الاُخر.

مثلاً: لو فرضنا العلم بنجاسة إناءين في خمسة، واحتملنا الزيادة، وعلمنا بنجاسة إناءين في ثلاثة منها واحتملنا التطبيق، وكان المعلوم بالعلم الثاني مقدّماً

على المعلوم بالعلم الأوّل، مع مقارنة العلمين، أو تقدّم الثاني على الأوّل، يصير العلم الإجمالي الكبير منحلاًّ بواسطة الصغير؛ لأنّ تنجيز الصغير للأطراف لمّا كان مقدّماً على الكبير لم تصل النوبة إلى تنجيز الكبير لهذه الأطراف، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، ولمّا احتملنا انطباق المعلوم بالكبير على المعلوم بالصغير يصير الكبير - لا محالة - منحلاًّ، كما ذكرنا سابقاً.

ص: 269


1- يأتي في الصفحة 294.

ولو فرضنا أنّ بعض أطراف الصغير صار منجّزاً بمنجّز خاصّ، وبعضها صار مرخّصاً فيه بمرخّص، وتكون الأطراف المنجّزة أقلّ عدداً من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير، لا يصير العلم الإجمالي الكبير - الذي كان ساقطاً عن التأثير - مؤثّراً بواسطة كون المنجّز في الصغير أقلّ عدداً من المعلوم بالعلم الكبير؛ لأنّ المنجّز وإن كان أقلّ، لكنّه مع الأطراف المرخّص فيها بمقداره، فإذا صار بعض الأطراف قبل تنجيز العلم جميع الأطراف منجّزاً أو مرخّصاً فيه - سواء كان التنجيز والترخيص مقدّمين على العلم الإجمالي الكبير أو مقارنين معه، ويكون كلاهما بمقدار المعلوم، ويحتمل انطباق المعلوم عليه - يصير العلم لا محالة منحلاًّ؛ لأنّ العلم بالتكليف الفعلي على جميع التقادير من أركان تنجيز العلم الإجمالي، وهو في المقام مفقود؛ لأنّ المعلوم إذا انطبق على المرخّص فيه والمنجّز التفصيلي، لا يكون التكليف فعلياً.

نعم، لو فرض الترخيص في الزمان المتأخّر عن العلم الإجمالي يكون تنجيزه للأطراف الاُخر بحاله؛ لأنّ تنجيز جميع الأطراف بالعلم الإجمالي بعد تحقّقه لا يسقط بواسطة الترخيص في بعضها للاضطرار أو الحرج، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله (1).

وثالثاً: أنّ تسليمه في جواب «إن قلت» - بأ نّه إذا تمّت المقدّمات، ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، وصار الظنّ حجّة، ينحلّ العلم الإجمالي - في غير محلّه؛ فإنّه مع فرض العلم بكون الأحكام الواقعية زائدة عن مظنون الصدور

ص: 270


1- يأتي في الصفحة 290 - 291 والجزء الثاني: 196.

- وإن كان الصادر بمقدارها - لا معنى لانطباقها عليه؛ لأنّ انطباق الأكثر على

الأقلّ غير معقول، فدليل اعتبار الظنّ لا يمكن أن يخصّص الأخبار الصادرة - التي بمقدار الأحكام الواقعية - بالمظنون الصدور الذي هو أقلّ منها.

ورابعاً: أنّ ما أفاده - من عدم وصول النوبة إلى أخذ النتيجة من جهة جواز إهمال بعض الوقائع، وهو ما عدا المظنون، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة - ليس على ما ينبغي؛ لأنّ جواز الإهمال - الذي هو من مقدّمات الانسداد الصغير - مع ضمّ باقي المقدّمات يكشف عن حجّية الظنّ من أوّل الأمر، لا أنّ المقدّمات موجبة لحجّيته، فالمقدّمات هي الدليل الإنّي الكاشف عن جعل الشارع حجّية الظنّ في موضوع الانسداد، لا أ نّها موجبة لها؛ حتّى تكون الحجّية متأخّرة عنها واقعاً، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة، تأمّل.

ص: 271

فصل: فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ

فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ

قوله: «الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه...»(27).

أقول: الفرق بين هذا الدليل وبين الدليل المعروف بالانسداد هو أنّ هذا الوجه مركّب من صغرى هي أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه مظنّةً للضرر، وكبرى هي أنّ الضرر المظنون واجب التحرّز عقلاً، ينتج: أنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه واجب التحرّز عقلاً.

وأمّا دليل الانسداد فهو مركّب [من] مقدّمات لا تشترك مع هذا الوجه في شيء منها، فكلّ من الوجهين يسلك مسلكاً غير مربوط بالآخر، وهما لا يشتركان في شيء - إلاّ النتيجة - حتّى نحتاج إلى إبداء الفرق بينهما.

فما أفاده بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - من أنّ الفرق بينهما في توقّف أحدهما على انسداد باب العلم والعلمي، بخلاف الآخر(1) الظاهر منه أنّ هذا ما به

ص: 272


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 214.

الافتراق بينهما بعد اشتراكهما في غيره - ليس في محلّه؛ لما عرفت من عدم الاشتراك بينهما أصلاً في شيء من المقدّمات.

لا يقال: لو جاز إهمال الوقائع المشتبهة، وترك التعرّض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشكّ في التكليف، لم ينتج هذا الوجه، فإنتاجه يتوقّف على إبطال جواز الإهمال، وهو عين إحدى مقدّمات الانسداد.

فإنّه يقال: لو صحّت الكبرى والصغرى المأخوذتان في هذا الوجه، فهما تنتجان بلا احتياج إلى ضمّ هذه المقدّمة؛ فإنّ جواز الإهمال منافٍ للصغرى، كما لا يخفى.

نقد كلام المحقّق النائيني في المقام

ثمّ إنّ المحقّق المعاصر رحمه الله علیه قد أطال الكلام في هذا الوجه، ونحن لا نذكر كلامه بطوله، ولكن ننبّه على محالّ أنظار فيه، والطالب يرجع إلى تقريرات بحثه:

قوله قدّس سرّه في المقام: «فهي ممّا لا ينبغي التأمّل والإشكال فيها...»(1) إلى آخره.

بل للتأمّل والإشكال فيها مجال واسع؛ فإنّ الإنسان بل كلّ حيوان وإن يدفع الضرر عن نفسه بمقتضى جبلّته وقوّته الدافعة عن مضارّه، ولكن حكمه العقلي بقبح الإقدام على ما فيه مظنّة الضرر - بحيث يستكشف منه حكماً شرعياً لو التزمنا بالملازمة - فلا، فهذه جبلّة حيوانية مشتركة بين الحيوانات.

ص: 273


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 214.

قوله: «لا يكاد يتحقّق الشكّ...»(1)

إلى آخره.

بل قد يتحقّق الشكّ ولو قلنا بأنّ البيان هو البيان الواصل؛ فإنّه قد يشكّ في كفاية مقدار الفحص، ومنه يتولّد الشكّ بأنّ المورد من موارد قبح العقاب بلا بيان، أو من موارد دفع الضرر المحتمل، إلاّ أن يكون مورد جريان قاعدة قبح العقاب هو إحراز كفاية الفحص.

قوله: «وإلاّ يلزم التسلسل...»(2) إلى آخره.

ليس هذا هو التسلسل الاصطلاحي، بل بمعنى عدم الوقوف إلى حدّ.

قوله: «إنّ الظاهر من تسالم الأصحاب...»(3) إلى آخره.

قد ذكرنا سابقاً(4): أنّ حكم العقل بقبح التشريع ليس حكماً واحداً بمناط

واحد، بل حكمان بمناطين؛ والآن نقول: إنّ حكمه بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الوقوع في الضرر - على فرضه - حكم طريقي لمناط عدم الوقوع فيه، والإقدام على الوقوع في الضرر الواقعي حكم موضوعي، فللعقل بالضرورة حكمان: أحدهما متعلّق بموضوع واقعي، والآخر حكم طريقي لحفظ الواقع، كما في الظلم، فالإقدام على مقطوع الظلم والضرر أو مظنونهما قبيح، لا لأجل الموضوعية والاستقلال، بل لأجل الطريقية.

وبالجملة: قبحه قبح التجرّي لو لم يصادف الواقع.

ص: 274


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 216.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 217.
3- نفس المصدر.
4- تقدّم في الصفحة 184.

والعجب منه قدّس سرّه حيث استظهر حكم العقل من تسالم الأصحاب على حكم

شرعي، مع أ نّه لا معنى للاستظهار في باب الأحكام العقلية، ولا معنى للتقليد فيها.

وأمّا تسالم الأصحاب على وجوب الإتمام في سلوك الطريق الذي لا يؤمن [معه] من الوقوع في الضرر، معلّلاً بكونه معصية على فرض صحّته، فهو لا يدلّ على أنّ حكمهم إنّما يكون بملازمة حكم العقل؛ لإمكان أن يكون حكماً تعبّدياً شرعياً ابتدائياً يكشف عنه إجماعهم وتسالمهم عليه.

مع أنّ للخدشة في أصل الحكم مجالاً واسعاً؛ فإنّ الفتوى بإتمام الصلاة لا يلزم أن تكون لأجل المعصية، بل يمكن أن يستفاد حكمه من بعض روايات التصيّد اللهوي، ولا يلازم إتمام الصلاة كون السفر معصية، كما في باب السفر للصيد اللهوي؛ فإنّ حرمته محلّ إشكال وخلاف، مع أنّ لزوم الإتمام متسالم عليه بين الأصحاب.

هذا، مع أنّ التجرّي عند كثير منهم معصية، فلعلّ الإقدام على مظنون الضرر يكون معصية لأجل كونه طريقاً إلى الوقوع في الضرر الحرام عندهم، فتدبّر.

قوله: «في سلسلة علل الأحكام...»(1) إلى آخره.

لو قلنا بأنّ احتمال الضرر طريقي لحفظ الواقع، لم يكن في سلسلة علل الأحكام، بل يكون في سلسلة المعلولات.

والمراد من العلل والمعلولات هو ما يتقدّم على الحكم وما يتأخّر عنه،

ص: 275


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 218.

لا العلل والمعلولات الحقيقية، كما لا يخفى.

وبالجملة: قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الضرر لو كان طريقياً لا يستكشف منه الحكم الشرعي المولوي؛ لكونه في سلسلة المعلولات، فما ذكره من عدم الفرق ليس في محلّه.

قوله: «ولو موجبة جزئية ممّا لا سبيل إليها»(1).

قد ذكرنا فيما سبق تصوير كون المصلحة في الأمر بنحو الموجبة الجزئية، فراجع(2).

قوله: «فإن كان من العبادات...»(3) إلى آخره.

هذا غريب منه قدّس سرّه ؛ فإنّ قصد الامتثال لا يدور مدار العلم بالتكليف.

نعم، لو كان المراد بالقصد الجزم بالنية فهو وإن يتوقّف على ذلك، لكن صحّة العبادة لا تتوقّف عليه، ولا تكون العبادة بدونه تشريعاً محرّماً، فما تتوقّف عليه العبادة هو كونه لله ولو على نحو الرجاء والاحتمال، وهذا ممّا يمكن قصده، وتصحّ العبادة معه، فما أفاده - من أنّ المصلحة تدور مدار قصد الامتثال، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه، ومع الظنّ الغير المعتبر لا يتمكّن المكلّف منه إلاّ على نحو التشريع المحرّم(4) - ليس في محلّه، وغريب منه جدّاً.

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تمكّن المكلّف من إتيانها كذلك، فلا يلزم منه رفع

ص: 276


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 219.
2- تقدّم في الصفحة 117 - 118.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 220.
4- نفس المصدر.

الملازمة بين الظنّ بالتكليف العبادي والظنّ بالضرر؛ لأنّ تمكّن المكلّف من الإتيان أو عدم تمكّنه غير مربوط بالمصالح الكامنة في العبادات، فالظنّ بالتكليف - عبادياً كان أو غيره - يلازم الظنّ بالمصالح والمفاسد، ومع تسليم كون ترك المصالح وإتيان المفاسد من الضرر، لا معنى لرفع الملازمة بمجرّد عدم التمكّن من إتيان العبادة المتقوّمة بقصد الامتثال، فما أفاده - من أنّ حال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظنّ بالحكم وبين الظنّ بها - ممّا لا سبيل إلى تصديقه، وأغرب من شقيقه.

ثمّ إنّه قدّس سرّه فرّق بين الأحكام النظامية والشخصية، والتزم بعدم حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر النوعي والمفسدة النظامية النوعية، وإنّما يحكم بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الضرر الشخصي(1).

هذا، وأنت خبير بما فيه؛ فإنّ العقل يحكم بقبح الإقدام على ما فيه المفاسد النوعية، خصوصاً لو كانت من قبيل اختلال النظام وتفرّق شمل المجتمع، فلو أقدم أحد على ما فيه انقراض الحكومة من بين البشر حتّى يرجع المجتمع إلى اللا نظامي التوحّشي المنتهي إلى اختلال اُمورهم وسلب الأمن والأمان من بينهم، لكان فعله هذا من أقبح القبائح بضرورة العقل، وكذلك الإقدام على ما يكون مظنّة لذلك ممنوع عقلاً، بل احتماله أيضاً منجّز في نظر العقل ؛ لكمال أهمّيته.

وأمّا المضارّ الشخصية: فاحتراز الإنسان - كسائر الحيوانات - منها بحسب

ص: 277


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 221.

الجبلّة الحيوانية مسلّم، لكن كون الإقدام عليها أو على ما لا يؤمن [معه] من

الوقوع فيها قبيحاً عند العقل - ويكون هذا من الأحكام العقلائية أو العقلية حتّى يرى العقل صحّة عقوبة المولى لذلك - فلا.

والحقّ: أنّ التفصيل ثابت، لكن بعكس ما أفاده رحمه الله علیه .

قوله: «سلك مسلكاً آخر في منع الصغرى...»(1) إلى آخره.

ما سلكه الشيخ قدّس سرّه هو منع الكبرى لا الصغرى، كما يظهر بالتأمّل فيما نقله عنه؛ فإنّ حاصل ما أفاده: أنّ الضرر المظنون بواسطة ترخيص الشارع بأدلّة البراءة والاستصحاب متدارك، والعقل لا يستقلّ بقبح الإقدام على الضرر المتدارك والمفسدة المتداركة(2).

وهذا منع الكبرى؛ فإنّ الضرر المتدارك ضرر عقلاً، لا أ نّه ليس بضرر، نعم العرف يتسامح في سلب الضررية عنه، لكنّ الميزان في المقام هو الحكم العقلي، والعقل يحكم بأنّ القبيح هو الإقدام على الضرر الغير المتدارك لا المتدارك.

وإن شئت قلت: هذا نفي كلّية الكبرى؛ لمنع كلّية قبح الإقدام على كلّ ما لا يؤمن معه الضرر.

قوله: «وذلك ينحصر بالتعبّد بالأمارات»(3).

هذا حقّ لو كانت الأمارات مجعولات شرعية، وأمّا لو كانت الأمارات اُموراً عقلائية - يعمل بها العقلاء في جميع اُمور معاشهم وسياساتهم - فلا يكون

ص: 278


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 222.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 376.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 222.

وقوعهم في الضرر والمفسدة بإيقاع الشرع، والأمارات كلّها عقلائية، وإنّما لم يردع عنها الشارع، ومجرّد عدم ردعه إيّاهم لا يوجب الإيقاع في المفسدة من قِبله.

وأمّا الاُصول العملية فيمكن أن يقال: إنّ ترخيص الشارع بنحو العموم لكلّ مشتبه إغراء للمكلّف في الوقوع في المفسدة، وذلك أيضاً قبيح ولو في مورد حكم العقل بجواز الارتكاب.

لا يقال: إنّ أدلّة حجّية الأمارات أيضاً إغراء له فيها.

فإنّه يقال: ليس في الآيات والأخبار التي استدلّوا بها لحجّيتها دليل يصحّ الاعتماد عليه في الترخيص في العمل بالأمارات بنحو الإطلاق، وإنّما هي أدلّة في موارد خاصّة وأشخاص معلومة، ولعلّهم كانوا مأمونين عن تخلّف قولهم للواقع؛ لشدّة تحفّظهم وتقواهم.

وبالجملة: أنّ القضايا الشخصية لا يمكن أن تكون ميزاناً لشيء، وأمّا أدلّة الاُصول فهي أدلّة مطلقة أو قضايا كلّية تدلّ على الترخيص والإغراء.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المستفاد من الأخبار هو إمضاء العمل على طبق قول الثقة مطلقاً، كما لا يبعد، بل يظهر من بعضها، فتصير حالها حال أدلّة الاُصول .

قوله: «وأمّا ثانياً: فلأنّ العموم»(1).

أقول: فيه أوّلاً: أنّ دعوى عدم شمول العموم لما له مؤنة زائدة - مثل ما نحن فيه - ممّا لا وجه لها؛ ضرورة عدم كون مثل تلك المؤنة الزائدة مانعاً عن شمول

ص: 279


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 223.

العامّ؛ فإنّ الكشف عن تدارك الضرر والمفسدة إنّما يكون بعد شمول العامّ للمظنونات، ولا يعقل أن يكون المنكشف مانعاً عن شمول العامّ الكاشف له، مع أنّ في أصل الدعوى مطلقاً ما لا يخفى.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن يكون ما نحن فيه ممّا استثناه من القاعدة المتوهّمة؛ للزوم عدم شمول العامّ للمظنونات عدم شموله للمشكوكات والموهومات أيضاً؛ لتوقّف شموله على إثبات تدارك المفسدة والضرر مطلقاً، ولا وجه للاختصاص بالمظنونات؛ لأنّ التدارك لازم ترخيص المولى مع تخلّف المرخّص فيه عن الواقع، فلو رخّص المولى في ارتكاب المشكوكات، وارتكب العبد لأجل الترخيص، وصادف الحرام الواقعي، أو ترك لأجله، وصادف الواجب الواقعي، لكان الوقوع في المفسدة لأجل ترخيصه، فلا بدّ من جبرانه وتداركه من غير فرق بين المظنون وغيره، والظنّ الغير المعتبر عند العقلاء حاله حال الشكّ، فما أفاده - من أ نّه لا يلزم من عدم شموله للمظنونات بقاء العموم بلا مورد؛ لأنّ المشكوكات والموهومات تبقى تحت العامّ(1) - في غير محلّه.

قوله: «لا يبقى موقع للبراءة والاستصحاب»(2).

أقول: عدم بقاء الموقع للبراءة والاستصحاب يتوقّف على حكومة الحكم المستكشف من الحكومة العقلية بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الضرر، وهو غير معقول؛ لأنّ العقل كما يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الضرر،

ص: 280


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 223.
2- نفس المصدر.

كذلك يستقلّ بعدم قبح الإقدام على الضرر المتدارك، فهما حكمان يستقلّ بكلّ منهما العقل، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في كون ما نحن فيه - أي مورد الظنّ بالحكم - يكون صغرى لأيّ منهما حتّى لا يبقى للآخر مجال ؟

والحقّ: أ نّه صغرى للضرر المتدارك؛ فإنّ الظنّ الغير المعتبر يكون موضوعاً لأدلّة البراءة والاستصحاب؛ فإنّ موضوعهما هو عدم العلم والشكّ، والفرض شمولهما للظنّ الغير المعتبر أيضاً، وأمّا الظنّ بالضرر فهو متأخّر رتبة عن الظنّ بالحكم؛ فإنّ الظنّ بالحكم كاشف عن المضارّ والمنافع والمصالح والمفاسد، فالظنّ بالضرر متأخّر عن الظنّ بالحكم، وتطبيق حكم العقل بقبح الإقدام على الضرر المظنون على الصغرى متأخّر عن الظنّ بالضرر، وكشف الحكم الشرعي بحكم الملازمة متأخّر عن الحكم العقلي؛ لكونه منكشفاً منه، فالظنّ بالحكم متقدّم على الظنّ بالضرر، وهو متقدّم على تطبيق حكم العقل بقبح الإقدام على الصغرى، وهو متقدّم على الحكم الشرعي المنكشف منه، فإذا تحقّق الظنّ بالحكم جرت قاعدة البراءة والاستصحاب بلا مانع في البين؛ فإنّ موضوعهما الظنّ بالحكم، وقد تحقّق، والفرض أنّ المانع ليس في هذه المرتبة، وفي الرتبة الثانية يتحقّق الظنّ بالضرر، لكن في هذه الرتبة يكون التدارك بواسطة حكم الشرع بالترخيص ثابتاً، فرتبة الظنّ بالضرر هي رتبة التدارك، فيصير موضوعاً لحكم العقل بعدم القبح، لا حكمه بالقبح، فلا تصل النوبة إلى قاعدة قبح الإقدام على الضرر حتّى ينكشف الحكم الشرعي، وتتحقّق الحكومة، أو تتحقّق حكومة الحكم العقلي.

ص: 281

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ تصحيح الحكومة والورود يتوقّف على تقدّم الشيء على نفسه، فالحقّ ما أفاده الشيخ في هذا المقام(1)

لا في مبحث البراءة من أ نّه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظنّ بالضرر الدنيوي(2)، كما نقل عنه(3).

قوله رحمه الله علیه : «ولو سلّم...»(4) إلى آخره.

أقول: هذا منه غريب؛ فإنّه مع تسليم ملازمة الظنّ بالحكم للظنّ بالضرر الدنيوي والاُخروي معاً، فكيف يمكن جريان البراءة بالنسبة إلى الضرر الاُخروي ؟ ! فهل ترى من نفسك: أ نّه مع احتمال العقاب تجري البراءة العقلية، فضلاً عن الظنّ به ؟ ! فالظنّ بالحكم إذا حصل منه الظنّ بالعقاب يصير من موارد استقلال العقل بقبح الإقدام عليه، لا من مورد جريان قبح العقاب بلا بيان، فالظنّ بالحكم لا يلازم الظنّ بالعقاب ولا احتماله، إلاّ مع كونه بياناً ومعتبراً، فراجع كلامه.

ولعلّ الخلط وقع من الفاضل المقرّر رحمه الله تعالى.

ص: 282


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 376.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 122 - 126.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 224.
4- نفس المصدر.

دليل الانسداد

قوله: «الرابع: دليل الانسداد...»(28).

ترتيب مقدّمات الانسداد

اعلم: أ نّه قد وقع الخلط وسوء الترتيب من الأعلام في تنظيم مقدّمات الانسداد:

أمّا أوّلاً: فلأنّ دليل الانسداد لا يتأ لّف من أربع(1) أو خمس(2) مقدّمات، وإنّما هو قياس استثنائي متألّف من شرطية وحملية، ينتج رفع التالي رفع المقدّم كما سيأتي بيانه، فدليل الانسداد يتأ لّف من مقدّمتين، لا مقدّمات، كما هو الشأن في سائر الأقيسة.

وأمّا ثانياً: فلأنّ كلّ ما هو دخيل في إنتاج حجّية الظنّ لو عُدّ مقدّمة برأسه على رغم علماء المنطق وعلمهم لصارت المقدّمات أكثر ممّا ذكروا؛ فإنّ بطلان الاحتياط مقدّمة برأسه، وله دليل مستقلّ، وبطلان التقليد كذلك، وكذلك بطلان الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة، بل وانسداد باب العلم غير انسداد باب العلمي موضوعاً ودليلاً، فلا وجه لحصر المقدّمات في أربع أو خمس.

وأمّا ثالثاً: فلأ نّه قد وقع الخلط في أخذ المقدّمات، فاُخذت المقدّمة التي

ص: 283


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 384؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 400.
2- كفاية الاُصول: 356.

بلا واسطة تارةً، والتي مع الواسطة اُخرى، وأيضاً في مقدّمة اُخذت العلّة، وفي

الاُخرى اُخذ المعلول، وهو خلاف نظم البرهان، فمن أراد تنظيم البرهان على الوجه المقرّر في علم الميزان لا بدّ له من ترتيب المقدّمات القريبة المنتجة بلا واسطة، وأمّا أخذ مقدّمات المقدّمات وعللها فهو خلاف الترتيب، فضلاً عن اختلاط القياس من المقدّمات التي بلا واسطة والتي مع الواسطة، كما وقع منهم في المقام، فإنّ العلم الإجمالي بالأحكام، وانسداد باب العلم والعلمي، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح، من المقدّمات البعيدة وعلل المقدّمات المنتجة في القياس. وبطلان إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة، وبطلان الاحتياط والتقليد والرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيها، من المقدّمات القريبة المنتجة.

فالأولى تنظيم البرهان على النظم القياسي المنطقي، فيقال:

لولا حجّية الظنّ المطلق، أو لولا وجوب العمل بالظنّ المطلق، للزم على سبيل منع الخلوّ: إمّا إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشكّ، وإمّا العمل على العلم التفصيلي في جميع الوقائع، وإمّا العمل على طبق الطرق الخاصّة العلمية، وإمّا الاحتياط في جميع الوقائع، وإمّا الرجوع إلى فتوى الغير، وإمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة؛ من الاستصحاب والبراءة وغيرهما، وإمّا العمل على طبق المشكوكات والموهومات، والتالي بجميع شقوقه فاسد:

أمّا فساد إهمال الوقائع؛ فللعلم الإجمالي بالأحكام والإجماع وغيرهما.

ص: 284

وأمّا فساد العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق؛ فلانسداد باب العلم والعلمي.

وأمّا فساد الاحتياط التامّ؛ فللزوم اختلال النظام أو العسر والحرج.

وأمّا فساد الرجوع إلى فتوى الغير؛ فلأ نّه من رجوع العالم إلى الجاهل بنظره.

وأمّا فساد الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيه؛ فلعدم كفايتها وغير ذلك.

وأمّا فساد الأخذ بالمشكوكات والموهومات؛ فلقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

فإذا بطل التالي بجميع شقوقه بطل المقدّم، وهو عدم حجّية الظنّ، أو عدم وجوب العمل به، فيلزم منه حجّيته أو وجوب العمل به في الجملة.

وسيأتي توضيح المقدّمات تفصيلاً، والمقصود هاهنا التنبيه على أنّ دليل الانسداد قياس استثنائي مؤلّف من شرطية هي: لولا كذا للزم كذا وكذا، وحملية هي: والتالي بجميع تقاديره باطل. ولا بدّ للمستدلّ من إثبات كلا(1) الأمرين حتّى ينتج القياس:

أحدهما: إثبات التلازم بين المقدّم والتالي، وهو إنّما يحصل بإثبات الحصر العقلي بين التوالي بنحو منع الخلوّ، وإثبات عدم خلوّ الواقع عن الترديدات الواقعة في التالي حتّى ينتج بطلانها بطلان المقدّم، فيصير نقيضه حقّاً.

وثانيهما: إثبات بطلان التوالي بأسرها وجميع تقاديرها، فمع حقّية المقدّمتين ينتج القياس.

ص: 285


1- في الأصل: «أحد» بدل: «كلا».

ولا إشكال ولا كلام في الأمر الأوّل والمقدّمة الاُولى، وإنّما الإشكال والكلام في المقدّمة الثانية؛ أي بطلان التالي، وبما ذكرنا وأوضحنا - من كيفية تشكيل القياس المنتج - اتّضح الخلط الواقع من الأعلام في المقام من أخذ مقدّمة المقدّمة مقام المقدّمة، والعلّة مقام المعلول، والخلط بين المقدّمات التي مع الواسطة والتي بلا واسطة، فتدبّر تعرف.

توضيح مقدّمات الانسداد

فلا بدّ للتعرّض لكلّ تقدير من التالي والتفتيش والفحص عن حقّيته وبطلانه، فنقول:

بطلان العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق

أمّا بطلان العمل بالعلم التفصيلي في جميع الوقائع فهو ضروري.

وأمّا بطلان العمل بالعلمي فهو مردود؛ لأ نّا قد فرغنا - بحمد الله تعالى - عن حجّية الخبر الواحد، وهو وافٍ بجميع الفقه من الطهارة إلى الديات، فدليل الانسداد - مع عرضه العريض وطول مباحثه - فاسد من أصله، والتعرّض له ممّا لا طائل تحته، وإنّما هو محض تبعية المحقّقين وأساطين الفنّ رحمهما اللّه .

ولا ينقضي تعجّبي من الفاضل المقرّر لبحث بعض أعاظم العصر رحمهما اللّه حيث بالغ في شكر مساعي شيخه الاُستاذ في إفادة الدقائق العلمية التي تقصر عنها

ص: 286

الأفهام في دليل الانسداد(1)، مع أنّ هذه الدقائق العلمية التي زعمها حقائق رائجة - مع الغضّ عن المناقشات الكثيرة فيها، والإشكالات الواضحة عليها، كما سيأتي(2)

عند التعرّض لبعضها - لا تفيد شيئاً؛ لبطلان أساس الانسداد، فلا بدّ من شكر مساعي هذا المحقّق وسائر مشايخ العلم وأساطين الدين، لكن في غير هذا المبحث الذي لا يفيد علماً ولا عملاً، والتعرّض لهذه المباحث مع طولها وعدم فائدتها العملية المتوقّعة من القواعد الاُصولية لولا غرض تشييد الأذهان وتحصيل قوّة الاجتهاد للمشتغلين وطلاّب العلوم، لكان الاستغفار منه للمتعرّض لها أولى من التشكّر، ككثير من المباحث المبحوث عنها في علم الاُصول.

بطلان إهمال الوقائع المشتبهه

وأمّا بطلان إهمال الوقائع المشتبهة فهو ضروري لا يحتاج إلى إقامة البرهان، وقد استدلّ عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع القطعي التقديري من كلّ من يحفظ منه العلم؛ فإنّ المسألة وإن لم تكن معنونة في قديم الزمان، لكنّ القطع حاصل بأنّ إجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار حاصل بأنّ ترك المشتبهات وإهمالها رأساً غير جائز(3)،

هذا.

ص: 287


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 225 - 226.
2- يأتي في الصفحة 291.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 388.

وفيه: أنّ هذا الاتّفاق لا يستكشف منه رأي المعصوم، ولا الدليل التعبّدي الذي هو مبنى حجّية الإجماع؛ فإنّ المسألة عقلية صرفة يمكن أن يكون مبناها هو العلم الإجمالي بالأحكام؛ فإنّ تنجيز العلم الإجمالي وكونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ممّا لا ينبغي الشبهة فيه.

وبالجملة: هذه المسألة ليست من المسائل التي يكون اتّفاقهم فيها كاشفاً عن الدليل التعبّدي المعتبر.

الوجه الثاني: لزوم الخروج من الدين؛ لقلّة الأحكام المعلومة بالتفصيل؛ بحيث يعدّ الاقتصار عليها وترك التعرّض للوقائع المشتبهة خروجاً من الدين، وتاركه غير ملتزم بأحكام سيّد المرسلين صلوات الله عليه وآله أجمعين، وذلك مرغوب عنه شرعاً وإن لم نلتزم بتنجيز العلم الإجمالي(1).

وفيه أوّلاً: أنّ عدم التعرّض للمشتبهات وإن يلزم منه المخالفات الكثيرة، لكن كون ذلك بمثابة الخروج من الدين، وكون الملتزم بصرف ضروريات الفقه وإجماعياته ومتواترات الأحكام وما يستفاد من الكتاب خارجاً من الدين وغير ملتزم بأحكام الإسلام، ممنوع؛ ضرورة أنّ الآتي بالصلاة والصيام والحجّ وسائر الأحكام الضرورية مع ما يستفاد من أحكامها من الإجماع والضرورة والمتواتر من النقل، لا يعدّ خارجاً من الدين؛ فإنّ صورة هذه الفروع الضرورية مع كثير من أحكامها من قبيل ما ذكر، والفروع الخلافية اُمور خارجة عن حقائقها، أو داخلة لكن لا يكون التارك لها غير آتٍ بتلك الحقائق، فمن صلّى مع الطهور

ص: 288


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 388 - 389.

والقبلة والستر وسائر الشرائط والأجزاء - التي تكون متسالماً عليها عند الفقهاء

بواسطة الإجماع أو الضرورة أو النقل المتواتر أو دلالة الكتاب العزيز - وأتى بصيام شهر رمضان مقتصراً على ما يكون مفطراً كذلك، وأتى بالحجّ والزكاة والخمس وسائر الواجبات التي تكون كذلك، وترك المحرّمات المسلّمة، لا يعدّ خارجاً من الدين؛ بحيث يعدّ هذا محذوراً مستقلاًّ في مقابل منجّزية العلم الإجمالي. نعم، الآتي بالتكليفات كذلك غير آتٍ بها؛ لمكان العلم الإجمالي بترك أجزاء أو شرائط دخيلة فيها، أو إتيان منافيات لها.

وبالجملة: ليس ما وراء العلم الإجمالي بالمخالفات الكثيرة أمر آخر مرغوب عنه يكون مستقلاًّ في مقابله.

وثانياً: لو سلّم كون هذا محذوراً مستقلاًّ لدى الفقهاء؛ بحيث يعدّ فاعله كأ نّه خارج من الدين، لكن كشف هذا عن كونه محذوراً مستقلاًّ لدى الشرع غير مخالفة الأحكام الكثيرة - بحيث يعاقب التارك للأحكام الكثيرة: تارةً لأجل المخالفة الكثيرة، وتارةً لأجل صيرورته كأ نّه خارج من الدين، وغير ملتزم بأحكام سيّد المرسلين صلی الله علیه و آله وسلم - ممنوع.

نعم، لا شبهة في كون المخالفات الكثيرة الكذائية مرغوباً عنها عقلاً وشرعاً، لكن كون هذا أمراً تعبّدياً - لا إرشادياً - ممنوع.

وبالجملة: ليس في البين من الشارع إلاّ الأمر بإطاعة جميع أحكامه، وهو أمر إرشادي عقلي، لا تعبّدي شرعي.

الوجه الثالث: العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، وهو كالتفصيلي في وجوب

ص: 289

الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، فلاتجري الاُصول النافية في أطرافه(1).

وهذا هو العمدة في هذا الباب، وأمّا الوجهان الأوّلان فقد عرفت النظر فيهما.

فما أفاده بعض أعاظم العصر - من أنّ هذه الوجوه الثلاثة في غاية الصحّة والمتانة غير قابلة للخدشة فيها(2) - فيه ما لا يخفى.

إن قلت: هذا الوجه أيضاً مخدوش فيه؛ لأنّ بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان مرخّصاً فيه، أو لزم الاقتحام فيه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ - على تقدير المصادفة - إلاّ عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلاّ

مؤاخذة بلا برهان ؟

قلت: نعم هذا ما أفاد المحقّق الخراساني قدّس سرّه في وجه عدم منجّزية العلم الإجمالي، وأجاب عنه: بأنّ هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم بنحو اللمّ؛ حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وهو مرغوب عنه شرعاً(3).

ومحصّل جوابه يرجع إلى الوجهين الأوّلين في عدم جواز الإهمال، وقد عرفت النظر فيهما.

والتحقيق في الجواب عن الإشكال: أنّ ترخيص بعض الأطراف أو لزوم الاقتحام فيه إذا كان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي، لا يخلّ بتنجيز العلم ولو كان الترخيص أو لزوم الاقتحام في البعض المعيّن، فلو علم إجمالاً بكون

ص: 290


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 396.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 232.
3- كفاية الاُصول: 358.

أحد الإناءين خمراً، ثمّ رخّص في ارتكاب أحدهما المعيّن، لم يكن العلم ساقطاً

بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وإن سقط بالنسبة إلى القطعية.

وفيما نحن فيه يكون الأمر من هذا القبيل؛ فإنّ العلم بالأحكام مقدّم من حيث المعلوم على عروض الاشتباه وكثرته، وهما مقدّمان على ترخيص الشارع أو العقل لارتكاب بعضها.

مع إمكان أن يقال: إنّ الترخيص هاهنا لم يكن من قبيل ترخيص بعض الأطراف معيّناً، بل يكون من قبيل الترخيص في البعض الغير المعيّن؛ فإنّ ما يدلّ على الترخيص هو أدلّة العسر والحرج، وهي دالّة على رفع العسر والحرج، والعقل إنّما يحكم بأنّ رفع العسر إنّما يجب أن يكون في دائرة الموهومات، وإن لم يرفع ففي دائرة المشكوكات، ويكون هذا الحكم العقلي لأجل التحفّظ على التكاليف الواقعية، والجمع بينها وبين رفع العسر حتّى الإمكان، ولا يعقل أن يصير ذلك موجباً لرفع تنجيز العلم عقلاً مطلقاً، كما لا يخفى.

نقل كلام المحقّق النائيني ونقده

إيقاظ: قد تصدّى بعض الأعاظم رحمه الله علیه على ما في تقريراته لبيان مبنى اختلاف نتيجة الانسداد من حيث الكشف والحكومة، فقال ما حاصله:

إنّ اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدّمة الثانية يوجب اختلاف النتيجة؛ فإنّ المستند لعدم جواز إهمال الوقائع لو كان الوجه الأوّل والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة؛ فإنّ مرجعهما إلى أنّ الشارع أراد من العباد التعرّض للوقائع المشتبهة، فالعقل يحكم حكماً ضرورياً بأ نّه لا بدّ للشارع من نصب

ص: 291

طريق للعباد واصل بنفسه أو بطريقه، والذي يصحّ جعله في حال الانسداد مع كونه واصلاً بنفسه ينحصر بالاحتياط؛ لكونه محرزاً للواقع، فالاحتياط هو الطريق المجعول الشرعي - نظير الاحتياط في الدماء - لا العقلي؛ فإنّ الاحتياط العقلي لا يكون إلاّ في أطراف العلم الإجمالي، فمع قطع النظر عن العلم الإجمالي لا حكم للعقل، فلا إشكال في أنّ الاحتياط شرعي لا غير، ثمّ بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط - كما يأتي في المقدّمة الثالثة - تكون النتيجة حجّية الظنّ شرعاً، وهي معنى الكشف.

هذا، وأمّا إذا كان المدرك هو العلم الإجمالي، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف، ويمكن أن تكون التبعيض في الاحتياط، كما سيتّضح وجهه، والغرض في المقام الإشارة إلى أساس الكشف والحكومة(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: وبما ذكرنا - من بطلان الوجهين الأوّلين - انهدم أساس هذا البنيان.

مضافاً إلى أنّ الإجماع الذي ادّعاه في المقام: إمّا أن يكون إجماعاً على قضيّة كلّية، وهو الإجماع على عدم جواز إهمال شيء من الوقائع المشتبهة، وإمّا إجماعاً على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع، وإمّا إجماعاً على قضيّة مهملة، وهو الإجماع على عدم جواز الإهمال في الجملة، وإمّا إجماعاً على أنّ صيرورة التكاليف الواقعية مجهولة بين المشتبهات لا توجب رفع اليد عنها، فالشارع لا يرضى بإهمال التكاليف الواقعية بمجرّد عروض الاشتباه عليها، فلا بدّ من إتيانها ولو لم يحكم العقل

ص: 292


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 232 - 234.

بإتيانها من ناحية العلم الإجمالي:

فإن اُريد الإجماع على النحو الأوّل، فيرد عليه - مضافاً إلى أنّ الضرورة قاضية بأنّ عروض الاشتباه لا يوجب أن يكون المشتبه بما أ نّه مشتبه مطلوباً نفسياً، بل لو كان مطلوباً يكون لأجل التحفّظ على الواقع، فيكون الواقع مطلوباً ذاتياً نفسياً ولو في زمان الاشتباه، فيرجع إلى الوجه الثالث - أوّلاً: أنّ هذا الإجماع هو عين الإجماع على جمع المشتبهات والاحتياط فيها؛ فإنّ الإجماع على عدم جواز إهمال شيء من المشتبهات عبارة اُخرى عن الإجماع على إيجاب الاحتياط، فلا وجه لما أفاده رحمه الله علیه من أنّ العقل يحكم حكماً قطعياً بأنّ الشارع لا بدّ له من نصب طريق واصل بنفسه أو بطريقه، والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التامّ، وهل هذا إلاّ وحدة الكاشف والمنكشف ؟ !

وثانياً: أنّ هذا الإجماع مخالف للعقل أو النقل، فإنّه إجماع على الاحتياط التامّ المخلّ بالنظام، أو إجماع على أمر يوجب العسر والحرج، وهو كما ترى.

والعجب أ نّه اعترف - فيما يأتي - بأنّ هذا الإجماع لا يستكشف منه الاحتياط التامّ(1)، وفي هذا المقام ادّعى القطع بأنّ حكم العقل هو كشف

الاحتياط التامّ.

وثالثاً: أنّ هذا الإجماع معارض للإجماعين اللذين ادّعاهما في الأمر الثالث(2)،

وسيأتي التعرّض لهما(3).

ص: 293


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 248.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 245 - 246.
3- يأتي في الصفحة 301 - 302.

وإن اُريد الإجماع على النحو الثاني، كما صرّح بذلك فيما سيأتي(1) عند التعرّض لإبداء الفرق بين الاحتياط العقلي والشرعي، من حكومة أدلّة العسر والحرج على العقلي منه دون الشرعي، فقال:

«والسرّ في ذلك: هو أنّ الوقائع المشتبهة لوحظت قضيّة واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط؛ لأنّ الإجماع أو الخروج عن الدين إنّما كان دليلاً على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع، لا على كلّ شبهة شبهة؛ فإنّ إهمال كلّ شبهة مع قطع النظر عن انضمام سائر الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين، ولا قام الإجماع على عدم جوازه، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنّما هو إهمال مجموع المحتملات من المظنونات والمشكوكات والموهومات، وذلك يقتضي نصب الشارع طريقة الاحتياط في المجموع، فيكون حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ»(2)، انتهى.

فيرد عليه: أنّ قيام الإجماع على عدم جواز إهمال مجموع المشتبهات من حيث المجموع، وكذلك لزوم الخروج عن الدين في ترك المجموع من حيث المجموع، لا يوجبان الاحتياط التامّ في جميع المشتبهات، ولا يمكن استكشاف ذلك منهما؛ فإنّ غاية ما يستكشف منهما لزوم إتيان بعض المشتبهات بنحو الإهمال؛ فإنّ هدم المجموع إنّما يكون بالبعض بنحو القضيّة المهملة، لا بالجميع بنحو الاستغراق، ولا بالمجموع بنحو لحاظ الوحدة.

وبالجملة: مخالفة الإجماع والخروج عن الدين إنّما يكونان بترك المجموع

ص: 294


1- يأتي في الصفحة: 312.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 259 - 260.

من حيث المجموع، وذلك لا يقتضي الاحتياط في المجموع من حيث المجموع، بل يقتضي عدم جواز إهمال المجموع من حيث المجموع الملازم للتعرّض لبعض المشتبهات، ولعمري إنّ هذا بمكان من الغرابة منه قدّس سرّه .

مع أنّ دعوى هذا الإجماع أيضاً بمكان من الغرابة؛ فإنّ لازمه جواز ترك جميع المشتبهات إلاّ واحداً منها، فلا بدّ من الالتزام بأنّ إتيان واحد من المشتبهات يوجب عدم الخروج عن الدين وعدم مخالفة الإجماع، فلو أتى المكلّف من بين جميع المشتبهات بالخرطات الاستبرائية، يكون داخلاً في الدين وغير مخالف لإجماع المسلمين، وهذا - كما ترى - لا يلتزم به أحد، مع أ نّه لازم تلك الدعوى.

وإن اُريد الإجماع على النحو الثالث، فيرد عليه:

أوّلاً: أ نّه لا يمكن استكشاف الاحتياط التامّ من هذا الإجماع على قضيّة مهملة؛ فإنّ المهملة في حكم الجزئية، فلا ينتج إلاّ قضيّة مهملة في حكم الجزئية.

وثانياً: أنّ هذا هو الإجماع على التبعيض في الاحتياط؛ فإنّ الإجماع على عدم جواز إهمال المشتبهات في الجملة عبارة اُخرى عن التبعيض في الاحتياط.

نعم، لو كان هذا الإجماع لأجل التحفّظ على الواقع، لحكم العقل بإتيان المظنونات؛ لأجل أقربيتها إلى التكاليف الواقعية.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ لهذا الإجماع إهمالاً حتّى من جهة التبعيض في الاحتياط، فلا يستفاد منه شيء إلاّ عدم جواز الإهمال رأساً، فلا بدّ

ص: 295

من التماس دليل آخر على تعيين كيفية التعرّض للمشتبهات، وهو الإجماع الآتي.

وإن اُريد الإجماع على النحو الرابع - كما أنّ المقطوع به أ نّه لو كان إجماع في البين لكان على هذا النحو، لا على المشتبهات بما أ نّها مشتبهات - فيكون الإجماع على لزوم التعرّض للتكاليف الواقعية حتّى مع عروض الاشتباه، فيرجع إلى أنّ التكاليف الواقعية بقيت فعلية في زمان الانسداد.

فيرد عليه: أنّ هذا الإجماع لا يقتضي جعل الاحتياط أصلاً، بل مع العلم بأنّ التكاليف بقيت على فعليتها في حال عروض الاشتباه عليها، يحكم العقل بالاحتياط التامّ والجمع بين المشتبهات؛ لأجل التحفّظ على الواقع.

إن قلت: هذا يرجع إلى الوجه الثالث، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف.

قلت: كلاّ، فإنّ الوجه الثالث هو أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية من حيث هو موجب لوجوب الخروج عن العهدة، ويحكم العقل بالاحتياط لأجله، بخلاف هذا الوجه؛ فإنّه لا يحكم بوجوب إتيان المشتبهات لأجل العلم الإجمالي بالتكاليف الأوّلية من حيث هي، بل لأجل حكم الشرع بأنّ التكاليف بعد عروض الاشتباه عليها أيضاً بقيت على فعليتها، فالجمع بين المشتبهات ليس لأجل تنجيز العلم الإجمالي كما في الوجه الثالث، بل لأجل التعرّض لحال اشتباه التكاليف.

وليس للعقل المعارضة مع الحكم الشرعي في ذلك؛ فإنّ الإجماع إذا قام على فعلية الأحكام مع عروض الاشتباه، يحكم العقل قطعاً بلزوم الجمع بين المشتبهات ولو لم ينجّز العلم الإجمالي.

ص: 296

فتحصّل من ذلك: أنّ الإجماع الذي يمكن دعواه - على إشكال فيه قد تقدّم - هو الإجماع على النحو الرابع، ولا يستكشف منه نصب الشارع الطريق الواصل بنفسه - أي الاحتياط التامّ - بل يشترك هذا الوجه مع الوجه الثالث في حكم العقل بالاحتياط.

هذا كلّه حال الإجماع.

وأمّا قضيّة الخروج من الدين، فمحصّل الكلام فيه: أنّ الإجماع لو كان على ذلك العنوان فهو ملازم عقلاً لترك التكاليف وإهمالها، مع قطع النظر عن الإشكال المتقدّم، فإهمال التكاليف لازمه الخروج من الدين، فإذا كان الخروج من الدين مرغوباً عنه شرعاً، ومحرّماً إجماعاً، فيكون إهمال التكاليف ملزومه، فيحكم العقل بإتيانها تحفّظاً عن الخروج من الدين، وليس هذا حكماً شرعياً بالاحتياط، بل حكم عقلي صرف من باب المقدّمية.

هذا، مضافاً إلى أ نّه لو سلّم وجوب التعرّض للتكاليف شرعاً لأجل عدم الخروج من الدين، لا يمكن استكشاف الاحتياط التامّ؛ لأنّ الخروج من [الدين] لو سلّم إنّما يرتفع بالتعرّض لجملة من الأحكام، لا جميعها، فلا وجه للاحتياط التامّ لأجله.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ ما ادّعي - من أنّ اختلاف نتيجة دليل الانسداد باختلاف المدرك في المقدّمة الثانية - ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، فانهدم أساس ما أرعد وأبرق الفاضل المقرّر رحمه الله علیه من إيداع شيخه العلاّمة الدقائق العلمية في المقام ممّا كانت الأفهام عن إدراكها قاصرة.

هذا تمام الكلام في إبطال جواز إهمال الوقائع.

ص: 297

بطلان الرجوع إلى فتوى الغير

وأمّا الكلام في المقدّمة الثالثة باصطلاحهم(1) والتقادير الاُخر على التحقيق: فبطلان الرجوع إلى فتوى القائل بالانفتاح واضح. والقول بأنّ القائل بالانسداد معترف بجهله بالأحكام، فلا بدّ من رجوعه إلى الانفتاحي القائل بانفتاح باب العلم عليه، كما ترى.

بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة: فبالنسبة إلى الاُصول العدمية فواضح؛ للزوم المخالفة القطعية في موارد الاُصول النافية بالخصوص؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي في موارد الاُصول المثبتة، ومعنى عدم انحلاله فيها كون موارد الاُصول النافية متعلّقة للعلم بالتكليف.

وأمّا عدم الانحلال في موارد الاُصول المثبتة فواضح أيضاً؛ لقلّة مواردها جدّاً، والعلم بالتكاليف أضعاف مضاعفة بالنسبة إليها، فدعوى الانحلال(2) فاسدة.

نقل كلام المحقّق الخراساني في المقام ووجوه النظر فيه

ولقد تصدّى المحقّق الخراساني رحمه الله علیه لبيان جريان الاستصحاب في المقام

ص: 298


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 384 و 403؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 234، وهي المقدّمة الرابعة عند الآخوند قدّس سرّه ،راجع كفاية الاُصول: 356.
2- كفاية الاُصول: 360.

حتّى مع القول بعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي، فقال ما محصّله بتوضيح منّا:

إنّ الاستصحاب وإن كان غير جارٍ في أطراف العلم الإجمالي؛ لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله؛ بداهة تناقض حرمة النقض في كلّ منها بمقتضى «لا تنقض...» لوجوبه في البعض بمقتضى «ولكن تنقضه بيقين آخر»(1) ولكن جريانه في المقام ممّا لا مانع منه؛ لأنّ التناقض إنّما يلزم إذا كان الشكّ واليقين في جميع أطراف العلم فعليين ملتفتاً إليهما، وأمّا إذا لم يكن الشكّ واليقين فعليين ملتفتاً إليهما إلاّ في بعض أطرافه، وكان البعض الآخر غير ملتفت إليه فعلاً، فلا يلزم التناقض أصلاً؛ لأنّ قضيّة «لا تنقض» ليست حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في [خصوص] الطرف المشكوك، وليس [فيه] علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، وما نحن فيه كذلك؛ فإنّ المجتهد إنّما يستنبط الأحكام تدريجاً، وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتاً إليها(2)، انتهى.

وفيه أوّلاً: ما مرّت الإشارة إليه سالفاً(3) من أنّ التناقض في مدلول دليل الاستصحاب في موارد الشكّ الفعلي أيضاً ممّا لا أساس له؛ فإنّ التناقض إنّما يلزم لو كان قوله في ذيل أدلّة الاستصحاب: «ولكن تنقضه بيقين آخر»، جعل

ص: 299


1- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2- كفاية الاُصول: 359.
3- تقدّم في الصفحة 123 - 124.

حكم هو لزوم نقض اليقين باليقين، أو الشكّ باليقين، مع أ نّه غير معقول جدّاً؛

لأنّ جعل لزوم نقض اليقين باليقين في قوّة جعل الحجّية لليقين، مع أنّ ناقضية اليقين الفعلي لكلّ شيء قبله - من اليقين والشكّ - أمر تكويني قهري لا ينالها يد جعلٍ إثباتاً أو نفياً.

والتحقيق: أنّ قوله: «ولكن ينقضه...» أتى لبيان حدّ الحكم السابق، لا لتأسيس حكم آخر، فكأ نّه قال: لا تنقض اليقين بالشكّ إلى زمان حصول يقين آخر ناقض له تكويناً.

وثانياً: أنّ الظاهر من قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» أنّ ما هو متعلّق الشكّ عين ما هو متعلّق اليقين؛ أي المتيقّن السابق الذي صار مشكوكاً فيه إذا صار متيقّناً ثانياً يجب نقضه، ولا شكّ في أ نّه لا يكون المشكوك في أطراف العلم عين المتيقّن؛ فإنّ اليقين إنّما تعلّق بأحدهما مردّداً، والشكّ تعلّق بكلّ واحد معيّناً.

وثالثاً: لو سلّمنا تناقض الصدر والذيل وشمول الدليل لأطراف العلم، فلا يمكن الافتراق بين الاستصحابات الفعلية وغيرها أصلاً؛ لأنّ قضيّة «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وكذلك «تنقضه بيقين آخر» من قبيل القضايا الحقيقية الشاملة للأفراد الفعلية والمقدّرة؛ أي كلّما وجد في الخارج يقين سابق وشكّ لاحق لا يجوز نقضه به، ولا شكّ في لزوم التناقض بين هذا وبين قوله: «ولكن

تنقضه بيقين آخر»؛ ضرورة لزوم التناقض بين قوله: لا تنقض اليقين بالشكّ إذا

وجدا في هذا الطرف، ولا تنقضه به إذا وجدا في ذاك الطرف، ولكن يجب النقض في أحدهما، والقضايا الحقيقية تنحلّ إلى القضايا الكثيرة بحسب الأفراد المحقّقة والمقدّرة.

ص: 300

وبالجملة: وقع الخلط في المقام بين لزوم التناقض في مدلول الدليل وبين أمر آخر هو عدم منجّزية العلم في الأطراف المتدرّجة الوجود عقلاً، مع أ نّه لا ملازمة بينهما، فالتناقض في مدلول الدليل لا يتوقّف على العلم بالانتقاض، فقوله: «وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض» في غير محلّه؛ لأنّ لزوم التناقض بحسب الأفراد المقدّرة كلزومه بحسب الأفراد المحقّقة، ولا دخالة لعلم المكلّف وعدمه في لزوم التناقض.

ورابعاً: أنّ العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات للواقع يوجب هدم أساس الفتوى على طبقها، وهذا العلم حاصل للمجتهد قبل شروعه في الاستنباط وبعد فتواه طبقاً لمفاد الاستصحابات، ولا فرق في نظر العقل بين ذلك وبين العلم بالمخالفة في الدفعيات أبداً، هذا.

بطلان الاحتياط في جميع الوقائع

وأمّا بطلان الاحتياط في جميع الوقائع: فقد استدلّ عليه بوجهين: الأوّل: الإجماع على عدم وجوبه، والثاني: استلزامه العسر والحرج المنفيين، بل اختلال النظام(1).

ولقد تصدّى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - لتقريب الإجماع، فقال ما محصّله:

إنّه يمكن تقريبه بوجهين:

الأوّل: الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات.

ص: 301


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 403 - 404.

الثاني: الإجماع على أنّ بناء الشريعة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال، بل بناؤها على امتثال كلّ تكليف بعنوانه، ويكون الإتيان بعنوان الاحتمال ورجاء انطباقه على المكلّف به أمراً مرغوباً عنه شرعاً.

وهذان الإجماعان وإن لم يقع التصريح بهما في كلام القوم، إلاّ أ نّه ممّا يقطع باتّفاق الأصحاب عليهما، كما مرّ نظيره في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة.

ثمّ أطال الكلام في لزوم اختلاف النتيجة باختلاف الإجماعين(1).

وحيث لا أساس لتلك الإجماعات عندنا فالنتائج المترتّبة عليها - على فرض تماميتها - منهدمة الأساس، فلا وجه لإطالة الكلام والنقض والإبرام فيها.

أمّا الإجماع على عدم وجوب إحراز المشتبهات: فلا يمكن دعواه ولو مع عنوان المسألة واتّفاق كلمة الأصحاب، فضلاً عن هذا الإجماع التوهّمي؛ لأنّ مبنى فتواهم يمكن أن يكون أدلّة العسر والحرج أو لزوم اختلال النظام، ومثل هذا الاتّفاق لا يكشف عن دليل معتبر آخر.

مع أنّ هذا الإجماع مناقض للذي ادّعى أيضاً القطع بتحقّقه، وهو الإجماع على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة بالتقريب الذي سيأتي تعرّضه له وهو ملاحظة جميع المحتملات قضيّةً واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط، على نحو أن يكون حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ، فكيف يمكن تحقّق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع

ص: 302


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 245 - 246.

المحتملات من حيث المجموع، وعلى عدم وجوب الجمع بينها ؟ ! وهل هذا إلاّ التناقض ؟ !

وأمّا الإجماع الثاني: وهو الإجماع على عدم بناء الشريعة على امتثال التكاليف بالاحتمال، ففيه: - مضافاً إلى مناقضته للإجماع المتقدّم كما هو واضح - أ نّه إن أراد من ذلك ما في بعض الكتب الكلامية - من لزوم العلم بالمكلّف به حتّى يؤتى به بعنوانه، أو لزوم قصد التميّز وأمثال ذلك(1) - فهو أمر عقلي، ادّعى بعضهم حكم العقل بذلك في باب الإطاعة، لا أمر شرعي تعبّدي يكشف عن دليل تعبّدي.

وإن أراد غير ذلك فلا شاهد عليه؛ لأنّ الفقهاء بناؤهم على الاحتياط عملاً وفتوى، فكيف يدّعي أ نّه أمر مرغوب عنه عندهم ؟ !

بل التحقيق: أنّ العمل بالاحتياط مع التمكّن من العلم لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً، فضلاً عن زمان الانسداد الذي لا يتمكّن منه.

هذا كلّه حال الإجماعات، وقد عرفت أ نّها ممّا لا أساس لها أصلاً.

وأمّا لزوم العسر والحرج، بل اختلال النظام، فمحصّل الكلام فيه:

أ نّه إن لزم منه الثاني فلا كلام؛ فإنّه ممّا حكم العقل بقبحه، وأمّا إن لزم العسر، ففي بطلان الاحتياط بدليله إشكالان:

أحدهما: ما أفاد بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - وإشكاله مبنيّ على تحقّق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع المحتملات من حيث المجموع؛

ص: 303


1- كشف المراد: 322؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 275؛ شرح المقاصد 5: 129.

بحيث يكون الاحتياط حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ هو المجموع من حيث المجموع، فبعد هذا الإجماع يصير الاحتياط حكماً حرجياً، ولا يكون دليل الحرج والضرر حاكماً على ما يكون بتمام هويته حرجياً أو ضررياً، كالجهاد والخمس والزكاة، بل أدلّة هذه الأحكام مقدّمة عليهما بالتخصيص، وإنّما أدلّتهما حاكمة على ما بإطلاقه أو عمومه يوجب الحرج والضرر(1).

هذا، وقد عرفت ما فيه(2):

أمّا أوّلاً: فلعدم أساس للإجماع الذي ادّعاه.

وأمّا ثانياً: فلعدم الإجماع - لو فرض - على المجموع من حيث المجموع، بل على عدم جواز ترك الواقعيات لأجل عروض الاشتباه عليها، وحينئذٍ تصير النتيجة مثل العلم الإجمالي حكماً عقلياً على وجوب الاحتياط، وسيأتي الكلام فيه(3).

وأمّا ثالثاً: فلأ نّه لو فرض الإجماع على المجموع لا يستكشف منه إلاّ الاحتياط في الجملة.

فلا وقع لهذا الإشكال أصلاً.

وثانيهما: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في «الكفاية»، وملخّصه:

أنّ قاعدتي نفي الضرر والحرج - اللتين مفادهما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - غير حاكمتين على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر فيه إنّما هو بحكم

ص: 304


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 250 و259.
2- تقدّم في الصفحة 294.
3- يأتي بعد أسطر.

العقل من الجمع بين المحتملات، لا في متعلّق التكليف. نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قِبله العسر، لكانت القاعدة محكّمة على الاحتياط العسر(1)، انتهى.

وهذه العبارة - كما ترى - ممّا يستشمّ منه بل يظهر حكومة القاعدتين على أدلّة الأحكام، إلاّ أنّ عدم الحكومة في المقام لأجل أنّ العسر إنّما لزم من حكم العقل، لا من الأحكام.

لكنّه قدّس سرّه صرّح في غير المورد بأنّ وجه تقديمهما عليها ليس هو الحكومة؛ لعدم ناظريتهما لأدلّة الأحكام، بل الوجه هو الأظهرية(2).

والإنصاف: أنّ فيما أفاده قدّس سرّه محالّ أنظار:

أحدها: أنّ الظاهر من دليلي الضرر والحرج والمتفاهم العرفي منهما هو عدم تحقّق الضرر والحرج من ناحية الأحكام الشرعية مطلقاً، لا أوّلاً وبالذات، ولا ثانياً وبالتبع والعرض، خصوصاً مع كونهما في مقام الامتنان على العباد.

وبالجملة: بمناسبة الحكم والموضوع ومساعدة الفهم العرفي وإلقاء الخصوصية بنظر العرف، يفهم منهما رفع الحكم الضرري والحرجي ورفع ما ينشأ منه أحدهما، وإن كان الجمود على الظاهر ربّما لا يساعد على التعميم.

وثانياً: أنّ ما صرّح به في غير المقام - من عدم الحكومة، معلّلاً بعدم ناظريتهما إلى بيان كمّية مفاد الأدلّة، وعدم تعرّضهما لبيان حال أدلّة الأحكام - ليس في محلّه؛ فإنّ أدلّتهما ناظرة إلى الأحكام المجعولة بلا ريب:

ص: 305


1- كفاية الاُصول: 358.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 135 - 136.

أمّا دليل الحرج: فلأنّ قوله تعالى: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((1) صريح في ناظريته إلى الأحكام المجعولة التي هي الدين.

وأمّا دليل الضرر: فمع اشتماله لكلمة «في الإسلام»(2) كما في بعض الروايات فهو أيضاً مثل دليل الحرج، ومع عدمه(3) يكون ظاهراً أيضاً في نظره إلى الأحكام؛ فإنّ نفي الضرر في لسان صاحب الشرع هو نفي الأحكام الضررية؛ أي نفي الضرر في دائرة الشريعة ومملكته.

والعجب منه قدّس سرّه حيث صرّح بأنّ مفاد دليل العسر والحرج والضرر هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ومع ذلك أنكر كونه ناظراً إلى الأحكام، حتّى قال: دون إثباته خرط القتاد(4)، مع أنّ ذلك من أجلى موارد النظر والتعرّض.

وثالثاً: أنّ الحكومة لا تتقوّم بالنظر والتعرّض إلى الدليل المحكوم بمدلوله اللفظي، بل الضابط فيها هو نحو تصرّف في المحكوم ولو بنحو من اللزوم.

بيان ذلك: أنّ تقديم أحد الدليلين على الآخر عرفاً: إمّا أن يكون بواسطة الأظهرية، وذلك فيما إذا كان التعارض والتصادم في مرتبة ظهور الدليلين، كتقديم قرينة المجاز على ذي القرينة، وتقديم الخاصّ على العامّ، والمقيّد على

ص: 306


1- الحجّ (22): 78.
2- الفقيه 4: 243 / 778؛ وسائل الشيعة 26: 14، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب موانع الإرث، الباب 1، الحديث 10.
3- الكافي 5: 292 / 2؛ وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
4- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 136.

المطلق؛ فإنّ التصادم بينهما إنّما يكون في مرحلة الظهور، والميزان في التقديم في تلك المرحلة هو الأظهرية لا غير.

وإمّا أن يكون بواسطة الحكومة، والضابط فيها أن يكون أحد الدليلين متعرّضاً لحيثية من حيثيات الدليل الآخر التي لا يكون هذا الدليل متعرّضاً لها، وإن حكم العقلاء مع قطع النظر عن الدليل الحاكم بثبوت تلك الحيثية، سواء كان التعرّض بنحو الدلالة اللفظية أو الملازمة العقلية أو العرفية، وسواء كان التصرّف في موضوعه أو محموله أو متعلّقه إثباتاً أو نفياً، أو كان التعرّض للمراحل السابقة أو اللاحقة للحكم، كما لو تعرّض لكيفية صدوره، أو أصل صدوره، أو تصوّره، أو التصديق بفائدته، أو كونه ذا مصلحة، أو كونه مراداً، أو مجعولاً، أو غير ذلك.

مثلاً: لو قال: أكرم العلماء، فهو مع قطع النظرعن شيء آخر يدلّ على وجوب إكرام جميع العلماء، ويحكم العقلاء على كون هذا الحكم - موضوعاً ومحمولاً - متصوّراً للحاكم، ويكون مجعولاً ومتعلّقاً لإرادته استعمالاً وجدّاً، لا هزل فيه ولا تقيّة ولا غيرهما، ويكشف عن كونه ذا مصلحة ملزمة، كلّ ذلك بالاُصول اللفظية والعقلائية.

فلو تعرّض دليل آخر لأحد هذه الاُمور يكون مقدّماً على هذا الدليل بالحكومة، فلو قال: إنّ الفسّاق ليسوا بعلماء، أو المتّقين من العلماء، أو الشيء الفلاني إكرام، أو الإكرام الكذائي ليس بإكرام، أو قال: ما جعلت وجوب الإكرام للفسّاق، أو ما أردتُ إكرامهم، أو لا يكون إكرامهم منظوري، أو لا مصلحة في إكرامهم، أو صدر هذا الحكم عن هزل أو تقيّة، يكون مقدّماً على الدليل الأوّل بالحكومة.

ص: 307

وأمّا لو تعرّض لما أثبت الدليل الآخر، مثل أن قال: لا تكرم الفسّاق من العلماء، أو لا تكرم الفسّاق، يكون التعارض بينهما في مرحلة الظهورين، فيقدّم الأظهر منهما، ولا يكون تقديم أحد الظاهرين على الآخر بالحكومة، كما لا يكون تقديم قرينة المجاز على ذيها بالحكومة، بل إنّما يكون بالأظهرية، فميزان الحكومة هو نحو من التعرّض لدليل المحكوم بما لا يرجع إلى التصادم الظهوري ولو كان التعرّض بالملازمة، فأدلّة الأمارات التي لسانها الكشف عن الواقع أو ثبوت الواقع مقدّمة على أدلّة الاُصول بالحكومة - بناءً على أخذ الشكّ في موضوعها - فإنّ التعبّد بالثبوت الواقعي ملازم عرفاً لرفع الشكّ تشريعاً فيكون تعرّضها لها بالملازمة العرفية، كما أنّ أدلّة الاستصحاب مقدّمة على أدلّة الاُصول؛ لأنّ مفادها إطالة عمر اليقين، فيلازم رفع الشكّ، بل مفادها حصول غاية الاُصول، وهو من أظهر موارد الحكومة، بل حكومة الاستصحاب على الاُصول أظهر من حكومة الأمارات عليها ولو لم نلتزم بأمارية الاستصحاب، كما هو المعروف بين المتأخّرين(1).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحكومة ولو كانت متقوّمة بنحو من التعرّض لدليل المحكوم ممّا لا يتعرّض المحكوم له، لكن هذا التعرّض لا يلزم أن يكون بنحو الدلالة اللفظية، وسيأتي - إن شاء الله - التعرّض لمعنى الحكومة وأقسامها وافتراقها عن الورود والتخصيص في محلّه مستقصىً(2).

ص: 308


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ نهاية الدراية 5: 243؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 680.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

ورابعاً: أنّ ما ذكره من أنّ لسان أدلّة الضرر والحرج هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ليس في محلّه إن كان المراد من الموضوع هو المصطلح - أي في مقابل الحكم - فإنّ الأحكام الشرعية المرفوعة في مورد الضرر ببركة قوله: «لا ضرر» لا يكون موضوعها الضرر، بل موضوعها الوضوء الضرري، أو الغسل الضرري، أو الصوم والبيع الضرريان، بل الظاهر المفهوم من قوله: «لا

ضرر» - الصادر من الشارع الناظر في مملكة التشريع ودائرة الشريعة - نفي حقيقة

الضرر؛ فإنّ الضرر وإن كان أمراً تكوينياً غير قابل للرفع والوضع ذاتاً، لكن لمّا كان قابلاً للرفع بحسب المنشأ والموجب، وتكون الأحكام الشرعية التي بإطلاقها موجبة للضرر على العباد، مرفوعة ومحدودة بحدود عدم إيراثها له، يجوز للمتكلّم الذي لا يرى إلاّ مملكة التشريع أن يخبر بعدم الضرر فيها، أو ينشئ عدم الضرر فيها بلسان الإخبار، كما أنّ سلطان المملكة إذا قلع بقدرته مناشئ الفساد عنها يجوز له الإخبار بأن لا فساد في المملكة، أو رفع الفساد منها، مع أنّ الفساد لا يرفع إلاّ بالمنشأ، فيكون هذا إخباراً عن نفي الفساد ولو بلحاظ المنشأ، ولا يضرّ بذلك وجود فسادات جزئية؛ فإنّ السلطان - بنظره إلى الجهات العمومية والكلّية - يجوز له الإخبار بقلع الفساد لقلع مادّته، وكذلك الناظر إلى دائرة التشريع لمّا رأى عدم منشأ للضرر في دائرة تشريعه يجوز له الإخبار، كما يجوز له إنشاء نفي الضرر بلحاظ نفي منشئه.

فتحصّل من ذلك: أنّ قوله: «لا ضرر» - سواء يتقيّد بقوله: «في الإسلام»، أم لا - نفي حقيقة الضرر في دائرة التشريع بلحاظ نفي منشئه.

ص: 309

وهكذا الكلام في قوله تعالى: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((1)؛ فإنّ الحرج غير قابل لتعلّق الجعل به، وكذلك غير قابل للرفع، فعدم جعل الحرج في الدين إنّما هو بملاحظة عدم جعل أحكام تكون منشأً للحرج.

وخامساً: أنّ رفع الحكم بلسان رفع الموضوع من أقسام الحكومة، فبعد الاعتراف بأنّ لسان أدلّة الضرر والحرج إنّما هو رفع الحكم بلسان رفعهما، لا وجه لإنكار الحكومة أصلاً.

إشكالات المحقّق النائيني على المحقّق الخراساني

هذا، وبالتأمّل فيما حقّقناه يظهر النظر في كثير ممّا أفاد بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - في هذا المقام إشكالاً على المحقّق الخراساني رحمه الله علیه :

منها: ما أفاد بقوله: ففيه أوّلاً.

وملخّصه: أنّ عدم وجوب الاحتياط التامّ لا يبتني على حكومة أدلّة العسر على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط، بل ليس حال لزوم العسر من الجمع بين المحتملات إلاّ كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف، بل العسر والحرج من أفراد الاضطرار؛ فإنّه لا يعتبر فيه عدم القدرة التكوينية على الاحتياط، والاضطرار إلى بعض الأطراف المعيّن يوجب التوسّط في التكليف؛ أي ثبوته على تقدير وعدمه على تقدير، وإلى غير المعيّن يوجب التوسّط في التنجيز أو

ص: 310


1- الحجّ (22): 78.

التكليف على احتمالين، ففي المقام حيث يتعيّن الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات - إن كان يلزم من الأخذ بهما كلاًّ أو بعضاً العسر والحرج - كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعيّن، وتكون النتيجة التوسّط في التكليف؛ أي سقوطه إن كان في المشكوكات والموهومات، وثبوته إن كان في المظنونات، فتأمّل(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: - بعد التسليم بأنّ حال العسر حال الاضطرار، بل هو من أفراده - أنّ حال أدلّة نفي الاضطرار كأدلّة نفي الحرج، فكما أنّ [مفاد] أدلّة نفي الحرج - على مسلك المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) - هو نفي الحكم الحرجي، لا نفي ما ينشأ منه الحرج ولو بواسطة حكم العقل بالاحتياط، كذلك الحال بالنسبة إلى أدلّة الاضطرار؛ فإنّ قوله: «رفع... ما اضطرّوا إليه»(3) أي الحكم الذي بإطلاقه شامل لمورد الاضطرار، كحرمة الخمر فيما إذا اضطرّ المكلّف إلى شربه، لا ما يجيء الاضطرار من قِبل حكم العقل بالاحتياط، كما في المقام.

وبالجملة: الاضطرار الغير العقلي لا بدّ وأن يرفع حكمه بالدليل التعبّدي، وحال أدلّته كحال أدلّة العسر والحرج بلا تفاوت وافتراق بينهما.

وثانياً: أنّ هذا المقام من الاضطرار إلى غير المعيّن، سواء رفع العسر بترك بعض المشكوكات أو الموهومات، أو بجميعها:

ص: 311


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 257 - 258.
2- كفاية الاُصول: 358.
3- الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

أمّا في الصورة الاُولى فواضح؛ فإنّ رفع العسر إنّما يتحقّق ببعض غير معيّن.

وأمّا في الصورة الثانية فلأنّ ما اضطرّ إليه المكلّف إنّما هو ارتكاب بعض المشتبهات بلا تعيين من بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، لكنّ العقل يرجّح ترجيحاً خارجياً غير مربوط بنفس الاضطرار، وهذا غير الاضطرار إلى المعيّن، تأمّل.

ومنها: ما أفاده في جواب «إن قلت»: «من إبداء الفرق بين الاحتياط العقلي والشرعي من أنّ الوقائع المشتبهة لوحظت قضيّة واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط...»(1) إلى آخره.

وقد مرّ الإشكال - بل الإشكالات - فيه(2)، وأضف إليها وجود المناقضة بين ما ذكره هاهنا مع ما ذكره في خلال الأمر الثاني من تنبيهات دليل الانسداد في الردّ على الشيخ الأنصاري قدّس سرّه ، فراجع قوله: «وأنت خبير بما فيه...»(3) إلى آخر كلامه، تجد صدق ما ادّعيناه.

ومنها: ما أفاد بقوله: ولا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً ومفسّراً لما اُريد من الدليل الآخر بمثل «أي» و«أعني»(4).

وقد نسب ذلك في ضابطة الحكومة إلى المحقّق الخراساني رحمه الله علیه مع عدم

وجود هذا التفسير لها في شيء من كلماته، لا في المقام ولا عند تعرّضه

ص: 312


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 259.
2- تقدّم في الصفحة 294 و304.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 298.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 261.

لقاعدة «لاضرر» في «كفايته» و«تعليقته»، بل صرّح بخلاف ذلك في التعليقة عند تعرّض الشيخ العلاّمة - أعلى الله مقامه - للحكومة في مبحث التعادل والترجيح؛ حيث قال ما حاصله:

إنّه لا يعتبر في الحكومة إلاّ سوق الدليل بحيث يصلح للتعرّض لبيان كمّية موضوع الدليل الآخر تعميماً وتخصيصاً، من دون اعتبار أن يكون المحكوم قبله، فضلاً من تفرّع الحاكم عليه؛ فإنّ الأمارات - مع حكومتها على الاُصول - لا تكون متفرّعة عليها، بل تكون مستقلّة مفيدة فائدة تامّة، كانت الاُصول أو لم تكن. ولعلّ منشأ توهّم التفرّع كون الحاكم بمنزلة الشرح، وقد عرفت أنّ الحاكم مستقلّ وإن كان مسوقاً بحيث يبيّن كمّية موضوع المحكوم، لا أ نّه ليس مسوقاً إلاّ لذلك(1)، انتهى.

وما ذكره من ميزان الحكومة تفصيل لما أفاده في غير المقام(2)، فما نسب إليه في التقريرات أجنبيّ عن مرامه، وتفسير بما لا يرضى به صاحبه.

نعم، يرد على المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : أنّ اختصاص الحكومة ببيان كمّية الموضوع تعميماً وتخصيصاً ممّا لا وجه له، كما عرفت.

وأمّا أصل التعرّض لدليل المحكوم - ولو بنحو من الملازمة - فممّا لا بدّ منه، حتّى أنّ دليل الأمارات التي لها استقلال بما أ نّها رافعة للشكّ، لها نحو تعرّض لموضوع أدلّة الاُصول، كما لا يخفى.

وبهذا يظهر التسامح في الضابط الذي أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه على [ما] في

ص: 313


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 428.
2- كفاية الاُصول: 496.

تقريراته بقوله: «والضابط الكلّي في ذلك أن يكون أحد الدليلين متكفّلاً لبيان ما لا يتكفّله دليل المحكوم»(1)؛ فإنّ هذا الضابط يحتاج إلى قيد، وهو كون الحاكم

متعرّضاً لدليل المحكوم نحو تعرّض ولو بالملازمة، وأمّا مجرّد تكفّل دليل لما لا يتكفّله الدليل الآخر غير مانع؛ فإنّه شامل للأدلّة التي لا يرتبط بعضها بالبعض؛ فإنّ أدلّة وجوب الصلاة تتكفّل لما لا تتكفّل أدلّة الخمس والزكاة، فالتعرّض للمحكوم ممّا لا بدّ منه، كما هو واضح.

وعليه يمكن أن يقال: إنّ أحد الدليلين مفسّر وشارح للدليل الآخر، بل بمنزلة «أي» التفسيرية، لكن بالمعنى الذي أشرنا إليه، لا بما يوهم لفظا التفسير والشرح.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في ضابطة الحكومة، أوسعية نطاقها ممّا يظهر من المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من التصرّف في عقد الوضع والحمل(2)، ولا يبعد أن يكون مراده أيضاً أعمّ من ذلك، ولهذا تعرّض لحكومة نفي الحرج على الأدلّة الأوّلية(3) بما هو موافق للتحقيق.

وأمّا الحكومة الظاهرية التي أصرّ عليها في بعض من الموارد(4)، فممّا لا محصّل لها؛ أمّا حكومة الأمارات على الأحكام الواقعية فلأنّ كون الشيء طريقاً إلى شيء آخر ومحرزاً له لا ينطبق على الحكومة أصلاً؛ فإنّ الحكومة من

ص: 314


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 261.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262.
3- نفس المصدر.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262 و4: 595 و713.

أقسام التعارض، ولا معارضة بين الطريق وذي الطريق.

نعم، أدلّة الأمارات موسّعة لنطاق دائرة الإحراز، فتكون حاكمة على الحكم العقلائي إذا لم تكن الأمارة من الأمارات العقلائية.

مثلاً: لو فرضنا أنّ الخبر الواحد أمارة شرعية تعبّدية تأسيسية، كانت أدلّة اعتباره حاكمة على حكم العقلاء والعقل بانحصار الإحراز بالقطع بتوسعة دائرة الإحراز، وهذه حكومة واقعية، كما أنّ حكومة بعض الأمارات على بعض وعلى الاُصول من الحكومة الواقعية؛ فإنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب واقعاً، وحكومة الاستصحاب على الاُصول واقعية، فتقسيم الحكومة إلى الواقعية والظاهرية يكون بلا ملاك صحيح، إلاّ أن يكون مجرّد اصطلاح، ولا مشاحّة فيه.

وقد تعرّض في خاتمة الاستصحاب لبيان الحكومة الظاهرية(1) ولم يأت بشيء.

ومنها: ما أفاده من أنّ مفاد أدلّة نفي الضرر والحرج هو نفي الحكم الحرجي والضرري، فهي بمدلولها المطابقي تنفي الأحكام الواقعية عن بعض حالاتها، وهي حالة كونها ضررية أو حرجية، فمفاد أدلّة نفي الضرر والحرج نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية(2)،

وقد فصّل ذلك في رسالته المعمولة لقاعدة الضرر(3)

وأصرّ وأبرم.

ص: 315


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 595.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262.
3- منية الطالب، قاعدة لا ضرر 3: 377.

لكن التحقيق - كما عرفت - خلافه؛ فإنّ ظاهر قوله: «لا ضرر» هو نفي نفس الضرر، لا نفي الحكم الضرري، واستعمال الضرر في الحكم الضرري بشيع بارد لا يصار إليه.

بل التحقيق: هو نفي حقيقة الضرر ادّعاءً بلحاظ نفي موجباته من الأحكام، وهذا من أبلغ اُسلوب الكلام وأحسنه، كما لا يخفى على العالم بأساليب الكلام ومحسّناته.

وهكذا الكلام في عدم جعل الحرج؛ فإنّ الحرج غير قابل للوضع والرفع، وظاهر الكلام يقتضي عدم جعل نفس الحرج، فهو أيضاً نفيه بلحاظ نفي موجباته من الأحكام وفي عالم التشريع.

ويمكن أن يكون مراد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع(1) ما ذكرنا، ويكون مراده من الموضوع هو الموضوع الخارجي

- أي الضرر والحرج - لا الموضوع المقابل للحكم، ومن الحكم الأحكام التي تصير منشأً للضرر والحرج، لا الأحكام المتعلّقة بموضوع الضرر والحرج؛ حتّى يرد عليه ما أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من أنّ نفي الضرر بلحاظ نفي حكمه يلزم منه جواز الضرر ونفي حرمته؛ فإنّ الضرر إنّما هو حكمه الحرمة(2)، تأمّل.

وبما ذكرنا - من وحدة اُسلوب نفي الضرر والحرج - يظهر النظر فيما أفاده

ص: 316


1- كفاية الاُصول: 358.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 263 - 264.

من أنّ توهّم كون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنّما يتمشّى مع دليل الضرر، لا الحرج؛ فإنّ في دليله ورد النفي على الدين، وهو عبارة عن الأحكام، فالنفي ورد على الحكم، لا على الموضوع حتّى يتوهّم ذلك(1)؛ فإنّ فيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ النفي لم يرد في قوله: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((2) إلاّ على الحرج، فعدم الجعل متوجّه إلى الحرج بلحاظ عدم جعل موجبه، كما في دليل الضرر، وإنّما يكون الدين مأخوذاً على نحو الظرفية، لا أنّ النفي متوجّه إليه.

وأمّا ما أفاد بقوله: وثالثاً: أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضاً من أقسام الحكومة، فمجرّد كون مفاد الدليل ذلك لا ينافي الحكومة(3).

إنّما ورد عليه لو كان منظوره أنّ المنافي للحكومة هو ذلك، لكنّه صرّح بخلافه، وقال: إنّما المانع هو عدم كون أدلّة الضرر والحرج ناظرة إلى الأحكام الواقعية(4).

فما ذكره إيراداً عليه أجنبيّ عن مقصوده، وإن ورد عليه: أنّ أدلّتهما ناظرة إليها بنحو من النظر الذي تحتاج إليه الحكومة، كما أشرنا إليه(5).

ص: 317


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 264.
2- الحجّ (22): 78.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 264.
4- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 135 - 136.
5- تقدّم في الصفحة 313.

مقتضى المقدّمات هي حجّية الظنّ بالواقع

قوله: «هل قضيّة المقدّمات...»(29).

التحقيق: أنّ قضيّة المقدّمات في نفسها هي الظنّ بالواقع، لا الظنّ بالطريق، ولا الأعمّ منهما؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الواقعية - مع ضمّ سائر المقدّمات - لا ينتج في نفسه إلاّ ذلك، وما ذكر من دليل التعميم والتخصيص بالطريق - مع عدم تماميته في نفسه - خارج عن حكم المقدّمات، خصوصاً ما ذكره صاحب «الفصول» تبعاً لأخيه المحقّق؛ فإنّ مبناه على العلم الإجمالي الآخر الذي به ينحلّ العلم الإجمالي الذي [هو] من مقدّمات الانسداد، ومعلوم أ نّه تخريب لمقدّمات الانسداد، وتأسيس لمقدّمات انسداد آخر لإنتاج الظنّ بالطريق، وهو أجنبيّ عن اقتضاء مقدّمات الانسداد المعروف. ولهذا يمكن أن يقال: إنّه لا نزاع بين القوم وبين العلَمين في اقتضاء مقدّمات الانسداد على فرض تماميتها، وإنّما النزاع في أمر آخر، وهو وجود مقدّمات اُخرى لإنتاج الظنّ بالطريق.

وأمّا ما أفاده العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه لتعميم النتيجة(1)، فيمكن دعوى اقتضاء مقدّمات الانسداد ذلك، بتقريب: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الواقعية - الذي يكون مبنى عدم جواز إهمالها - يقتضي عقلاً تحصيل براءة الذمّة عنها، فإن تمكّن المكلّف من تحصيلها علماً تعيّن عليه، وإلاّ يتنزّل إلى الظنّ، والعلم

ص: 318


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 437.

بالبراءة كما يحصل بإتيان الواقع، كذلك يحصل بإتيان طريقه، وهكذا الظنّ في زمان الانسداد.

هذا، ولكن مع ذلك إنّ هذا التعميم لا يكون من مقتضيات نفس دليل الانسداد، بل من هذه المقدّمة الخارجية.

مضافاً إلى عدم تمامية الدعوى أيضاً؛ فإنّ الظنّ بالطريق في حال الانسداد لا يكون ظنّاً بالمبرئ؛ لأنّ مبرئية الطريق عن الواقع تتقوّم بوصوله، لا بوجوده النفس الأمري.

وهذا إشكال على التعميم أورده شيخنا العلاّمة قدّس سرّه في «دُرره»(1)، فمن شاء فليرجع إليه.

وأمّا ما أفاده صاحب «الفصول» رحمه الله علیه (2) - تبعاً لأخيه المحقّق رحمه الله علیه (3) - من الاختصاص بالطريق، فهو مبتنٍ على مقدّمات جلّها - لولا كلّها - مخدوشة، والعمدة منها انحلال العلم الإجمالي بالواقع في العلم الإجمالي في دائرة الطرق - كما لا يبعد أن يكون هذا هو المقصود من قوله: «ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد...»(4) إلى آخره - وعدم وجوب الاحتياط في دائرة الطرق.

وفي كليهما نظر:

ص: 319


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 408.
2- الفصول الغروية: 277 / السطر 33.
3- هداية المسترشدين 3: 352.
4- الفصول الغروية: 277 / السطر 36.

أمّا قضيّة الانحلال فممنوع؛ لما أشرنا إليه سابقاً(1):

من أنّ العلم الإجمالي الكبير إنّما ينحلّ في دائرة الصغير إذا كان المعلوم بالإجمال في دائرة الصغير مقدّماً على المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير؛ حتّى يكون تنجيز العلم الإجمالي الصغير لأطرافه مانعاً عن ورود تنجيز آخر فوقه بالنسبة إليها، فيصير العلم الكبير بالنسبة إليها بلا أثر، وبالنسبة إلى غيرها كالشكّ البدوي، وأمّا مع مقارنتهما أو تقدّم الكبير على الصغير فلا ينحلّ؛ لمنجّزية الكبير بالنسبة إلى جميع الأطراف، فلا يرتفع حكمه مع العلم الإجمالي الصغير.

إن قلت: لازم ما ذكرت عدم الانحلال حتّى مع قيام الطرق المعتبرة - التي [هي] بمقدار العلم الإجمالي - على بعض الأطراف، مع عدم إمكان الالتزام به.

قلت: فرق بين قيام الطرق المعتبرة في بعض الأطراف معيّناً، وبين العلم الإجمالي؛ فإنّ قيام الطرق فيها يجعلها معلوماً تفصيلاً ولو تعبّداً، ومع العلم التفصيلي لا يبقى إجمال أو أثر للعلم الإجمالي، وأمّا الانحلال بالعلم الإجمالي فموقوف على منجّزيته لجميع أطرافه، ومنجّزيته لها موقوفة على عدم مسبوقيتها بمنجّز آخر، والفرض أنّ العلم الكبير منجّز لها سابقاً، أو في مرتبة العلم الإجمالي الصغير.

إذا عرفت ذلك يظهر وجه النظر في كلامه؛ فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير فيما نحن فيه: إمّا مقدّم على الصغير، أو مقارن له، ولا يكون متأخّراً عنه جزماً، فالانحلال باطل من أصله.

ص: 320


1- تقدّم في الصفحة 263 - 264.

وأمّا ما أفاده المحقّق صاحب «الكفاية» في وجه عدم الانحلال في خلال كلامه(1)،

فمبنيّ على أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف وعدم لزوم رعاية العلم بالنسبة إلى بعض الأطراف، يرفع حكم العلم الإجمالي، وهو كما ترى.

كما أنّ ما أفاده المحقّق المعاصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - من وجه عدم الانحلال(2)

مبنيّ على مبناه؛ من عدم جريان الاُصول اللفظية والجهتية إلاّ فيما اُحرز تفصيلاً، وقد عرفت سالفاً(3)

فساد المبنى، فلا نطيل بالإعادة.

«والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً»

إلى هنا تمّ الجزء الأوّل من هذا الكتاب،

ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

ص: 321


1- كفاية الاُصول: 364 - 365.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 285.
3- تقدّم في الصفحة 266.

ص: 322

كفاية الاُصول(*)

* - بما أنّ هذا الكتاب تعليقة على المباحث العقلية من «كفاية الاُصول» ضممنا هذه المباحث منها هنا مع ترقيم التعليقات تتميماً للفائدة وتسهيلاً للمراجعين الأعزّاء.

ص: 323

ص: 324

كفاية الاُصول:

المقصد السادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً

المقدمة

وجه أشبهیة مسائل القطع بالکلام

الکلام في القطع

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام وإن كان خارجاً من مسائل الفنّ وكان أشبه بمسائل الكلام(1)؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم: أنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه؛ فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ - لو حصل له وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة - وإلاّ فالرجوع إلى الاُصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

وجه تعمیم متعلّق القطع وما یرد علیه

وإنّما عمّمنا متعلّق القطع(2)؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعية، وخصّصنا بالفعلي؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلّقاً به

ص: 325

على ما ستطّلع عليه؛ ولذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من تثليث الأقسام.

جوابب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله عن تثليث الأقسام

وإن أبيت إلاّ عن ذلك، فالأولى أن يقال: إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا، لئلاّ يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى حسبما يقتضي دليلها.

[في القطع]

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأول : في وجه عدم جعل الحجّیة للقطع

الأمر الأوّل: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً، وتأثيره في ذلك لازم، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم؛ فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى: أنّ ذلك لا يكون بجعل جاعل؛ لعدم جعل تأليفي(3) حقيقة بين الشيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً.

وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً، مع أ نّه يلزم منه اجتماع

ص: 326

الضدّين اعتقاداً مطلقاً، وحقيقة في صورة الإصابة، كما لا يخفى.

إشکال علیی مراتب الحکم

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث(4) والزجر لم يصر فعلياً، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة؛ وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي، ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت الله عنه، كما في الخبر، فلاحظ وتدبّر.

نعم، في كونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

الأمر الثاني : في التجرّي

الأمر الثاني(5): قد عرفت أ نّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجرّي بمخالفته، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحقّ أ نّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه، وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديته من العزم على موافقته، والبناء على إطاعته وإن قلنا بأ نّه

ص: 327

لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة بمجرّد سوء سريرته أو حسنها وإن كان مستحقّاً للّوم أو المدح بما يستتبعانه كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلاّ مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما - إذا صار بصدد الجري على طبقها، والعمل على وفقها، وجزم وعزم؛ وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك وحسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا تغيّر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد بأ نّه عدوّه، وكذا قتل عدوّه مع القطع بأ نّه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً.

ص: 328

هذا، مع أنّ الفعل المتجرى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختيارياً، فإنّ القاطع لا يقصده إلاّ بما قطع أ نّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلاّ إذا كانت اختيارية.

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، وهل كان العقاب عليها إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار؟ !

قلت: العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت: إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار(6)، وهي ليست باختيارية، وإلاّ لتسلسل.

قلت: مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أنّ بعض مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار، للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة، يمكن أن يقال: إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعده (7) عن سيّده بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أ نّه يوجب البُعد عنه، كذلك لا غروَ في أن يوجب حسن العقوبة، فإنّه وإن لم يكن باختياره إلاّ أ نّه

ص: 329

بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكانه. وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- «لِمَ»(8)، فإنّ الذاتيات ضروري الثبوت للذات.

وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن أ نّه لِمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ يكون ناهقاً، والإنسان لِمَ يكون ناطقاً.

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها، والنار ودركاتها، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً، والذاتي لا يعلّل.

إن قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربّه اُنسه، )مَا كُنَّا لَنَهتَدِىَ لَوْلاَ أنْ هَدَانَا الله( قال الله تبارك وتعالى: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤمِنِينَ( وليكون حجّةً على من ساءت سريرته وخبثت طينته، )لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ( كيلا يكون للناس على الله حجّة، بل كان له حجّة بالغة.

ص: 330

ولا يخفى: أنّ في الآيات والروايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

ومعه لا حاجة إلى ما استدلّ على استحقاق المتجرّئ للعقاب بما حاصله: «أ نّه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره، مع بطلانه وفساده».

إذ للخصم أن يقول: بأنّ استحقاق العاصي دونه إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحقّقه فيه؛ لعدم مخالفته أصلاً ولو بلا اختيار، بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار، كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أ نّه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلاً بأنّ مائعاً خمر مع أ نّه لم يكن بالخمر، فيحتاج إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثمّ لا يذهب عليك(9) أ نّه ليس في المعصية الحقيقية إلاّ منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين - كما توهّم - مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة. كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى.

ولا منشأ لتوهّمه إلاّ بداهة أ نّه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة

ص: 331

واحدة، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

الأمر الثالث : في بیان أقسام القطع و أحکامها

الأمر الثالث(10): أ نّه قد عرفت: أنّ القطع بالتكليف - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب، أو الذمّ والعقاب من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب.

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه لا يماثله ولا يضادّه، كما إذا ورد مثلاً في الخطاب: أ نّه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا، تارةً بنحو يكون تمام الموضوع؛ بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك، واُخرى بنحو يكون جزءه وقيده؛ بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجباً له، وفي كلّ منهما يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه، وآخر بما هو صفة خاصّة للقاطع، أو المقطوع به.

وذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة - ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره - صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية اُخرى فيه معها، كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه، فيكون أقسامه أربعة، مضافةً إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

ص: 332

ثمّ لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة، بدليل حجّيتها واعتبارها، مقام هذا القسم، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرّد ذلك الدليل مقام ما اُخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام، بل لا بدّ من دليل آخر على التنزيل، فإنّ قضيّة الحجّية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار، لا له بما هو صفة وموضوع؛ ضرورة أ نّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات.

ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل، مقام ما اُخذ في الموضوع على نحو الكشف، فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته وقيام دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله.

وتوهّم «كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه، وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً، فيقوم مقامه طريقاً كان أو موضوعاً» فاسد جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين، حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آليٌّ وفي الآخر استقلاليٌّ - بداهة أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته، في الحقيقة إلى الواقع، ومؤدّى الطريق؛ وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع،

ص: 333

إلى أنفسهما - ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.

نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أ نّه ليس، فلا يكون دليلاً على التنزيل إلاّ بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجّةً موجبةً لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطأه، بناءً على استحقاق المتجرّي، أو بذاك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال: على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنّه يقال: لا إشكال في كونه دليلاً على حجّيته، فإنّ ظهوره في أ نّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى: أ نّه لولا ذلك لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دالّ على إلغاء احتمال خلافه، مقام القطع بتمام أقسامه ولو فيما اُخذ في الموضوع على نحو الصفتية، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلاّ مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلاً.

ص: 334

وأمّا الاُصول، فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب؛ لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره، كما مرّت إليه الإشارة. وهي ليست إلاّ وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.

لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجّز التكليف لو كان.

فإنّه يقال: أمّا الاحتياط العقلي فليس إلاّ لأجل حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم. وأمّا النقلي، فإلزام الشارع به وإن كان ممّا يوجب التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة كالقطع، إلاّ أ نّه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجمالي، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً، وأنّ مثل «لا تنقض اليقين . . .» لا بدّ من أن يكون مسوقاً إمّا بلحاظ المتيقّن أو بلحاظ نفس اليقين.

وما ذكرنا في الحاشية - في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع، وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع، وإنّما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً، منزلة القطع

ص: 335

بالواقع حقيقةً - لا يخلو من تكلّف بل تعسّف، فإنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده بما هو كذلك، بلحاظ أثره، إلاّ فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه.

فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما لم يكن محرزاً حقيقةً. وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة - كما فيما نحن فيه على ما عرفت - لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً، فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى يتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلاّ بعد دلالته على تنزيل المؤدّى؛ فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ثمّ لا يذهب عليك أ نّه هذا لو تمّ لعمّ؛ ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرابع : في أخذ القطع و الظنّ بحکم في موضوع مثله أو ضدّه

الأمر الرابع(11): لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم؛ للزوم الدور، ولا مثله؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا ضدّه؛ للزوم اجتماع الضدّين. نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اُخرى منه، أو من مثله، أو من ضدّه.

وأمّا الظنّ بالحكم فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في

ص: 336

موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلاّ أ نّه لمّا كان معه مرتبة الحكم

الظاهري محفوظة، كان جعل حكم آخر في مورده، مثل الحكم المظنون أو ضدّه بمكان من الإمكان.

إن قلت: إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعلياً أيضاً؛ بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضدّه؛ لاستلزامه الظنّ باجتماع الضدّين أو المثلين، وإنّما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابق النعل بالنعل.

قلت: يمكن أن يكون الحكم فعلياً؛ بمعنى أ نّه لو تعلّق به القطع على ما هو عليه من الحال، لتنجّز واستحقّ على مخالفته العقوبة، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلّف برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن، بل يجوز جعل أصل أو أمّارة مؤدّية إليه تارة، وإلى ضدّه اُخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به، جعل حكم آخر مثله، أو ضدّه، كما لا يخفى.

إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلاّ أ نّه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين أو الضدّين؟

قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى - أي لو قطع به من باب الاتّفاق لتنجّز - مع حكم آخر فعلي في مورده، بمقتضى الأصل أو الأمارة، أو دليل اُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص، على ما

ص: 337

سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

الأمر الخامس : في الموافقة الالتزامية

الأمر الخامس(12): هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملاً يقتضي موافقته التزاماً، والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللازم في الاُصول الدينية والاُمور الاعتقادية؛ بحيث كان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخرى بحسب العمل بالأركان، فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي، فلا يستحقّ العقوبة عليه، بل إنّما يستحقّها على المخالفة العملية؟

الحقّ هو الثاني؛ لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلاّ المثوبة دون العقوبة ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده؛ لعدم اتّصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها؛ وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك: أ نّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية لو كان المكلّف متمكّناً منها لوجب ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملاً، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضاً، لامتناعهما، كما إذا علم

ص: 338

إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته، للتمكّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً

والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم أ نّه الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت إلاّ عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذٍ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً، فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلاّ الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ومن هنا قد انقدح أ نّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاُصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جاريةً مع قطع النظر عنه، كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به.

إلاّ أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل و لا في الالتزام بحكم آخر.

إلاّ أنّ الشأن حينئذٍ في جواز جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتّب أثر عملي عليها، مع أ نّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية، مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه؛ للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادّعاه شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -

ص: 339

وإن كان محلّ تأمّل ونظر، فتدبّر جيّداً.

الأمر السادس : في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطریقی

الأمر السادس(13): لا تفاوت في نظر العقل أصلاً فيما رتّب على القطع من الآثار عقلاً بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالباً في القطّاع؛ ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغي حصوله، وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنها بأ نّه حصل كذلك، وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتّبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كلّ مورد؛ فربّما يدلّ على اختصاصه بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في آخر على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات وغيرها من الأمارات.

وبالجملة: القطع فيما كان موضوعاً عقلاً لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، ولا من حيث المورد، ولا من حيث السبب، لا عقلاً وهو واضح، ولا شرعاً؛ لما عرفت من أ نّه لا تناله يد الجعل نفياً ولا إثباتاً وإن نسب إلى بعض الأخباريين: أ نّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقلية، إلاّ أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها، وأ نّها إنّما تكون إمّا

ص: 340

في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيّد الصدر في باب الملازمة، فراجع. وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية؛ لأ نّها لا تفيد إلاّ الظنّ، كما هو صريح الأمين؛ حيث قال في جملة ما استدلّ به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم السلام:

«الرابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك -

يعني التمسّك بكلامهم عليهم السلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا سابقاً أ نّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

وقال في جملتها أيضاً - بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة فنقول: إن تمسّكنا بكلامهم - عليهم السلام - فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم منه؛ ومن المعلوم أنّ العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً، أ لا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب عصمة الإمام بأ نّه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ، وذلك الأمر محال؛ لأ نّه قبيح. وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أ نّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ص: 341

وما مهّده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في الرسالة.

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأوّل في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام»، انتهى.

وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع، وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النقل فيما لا قطع.

وكيف كان، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً، وصحّة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً، ممّا لا يكاد يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل؛ فلا بّد فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدّماته الموجبة له ولو إجمالاً، فتدبّر جيّداً.

الأمر السابع : في العلم الإجمالي

الأمر السابع(14): أ نّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه، لا يكاد تناله يدّ الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي

كذلك؟ فيه إشكال.

ربما يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً.

ص: 342

وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة بل الشبهة البدوية؛ ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلاً، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء الله مفصلاً.

نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء، لا في العلّية التامّة، فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها كما هو ظاهر «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز، لا علّة تامّة.

وأمّا احتمال أ نّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو العلّية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية، فضعيف جدّاً؛ ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجباً لجواز الإذن في

ص: 343

الاقتحام، بل لو صحّ الإذن في المخالفة الاحتمالية، صحّ في القطعية أيضاً، فافهم.

ولا يخفى: أنّ المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العلّية - هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء على أ نّه بنحو العلّية للبحث عنه هناك أصلاً، كما لا يخفى. هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به.

وأمّا سقوطه به بأن يوافقه إجمالاً فلا إشكال فيه في التوصّليات.

وأمّا العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردّد أمر عبادة بين الأقلّ والأكثر؛ لعدم الإخلال بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها - ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنّه نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز - فيما إذا أتى بالأكثر؛ ولا يكون إخلال حينئذٍ إلاّ بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها؛ واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.

وأمّا فيما احتاج إلى التكرار، فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة وبالتميز اُخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثةً.

وأنت خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ في الإتيان مثلاً بالصلاتين

ص: 344

المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الأمر أ نّه لا تعيين له ولا تميز،

فالإخلال إنّما يكون به، واحتمال اعتباره أيضاً في غاية الضعف؛ لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار، مع أ نّه ممّا يغفل عنه غالباً، وفي مثله لا بدّ من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلاّ لأخلّ بالغرض، كما نبّهنا عليه سابقاً.

وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً، فمع أ نّه ربّما يكون لداعٍ عقلائي، إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى.

هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتمكّن إلاّ من الظنّ به كذلك، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظنّي لو لم يقم دليل على اعتباره إلاّ فيما إذا لم يتمكّن منه. وأمّا لو قام على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظنّي، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي، في قبال الظنّي بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط. وأمّا لو كان من مقدّماته بطلانه، لاستلزامه العسر المخلّ بالنظام، أو لأ نّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار - كما توهّم - فالمتعيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك؛ وعليه فلا مناص عن

ص: 345

الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها،

كما لا يخفى.

الکلام في الظنّ

[في الظنّ]

هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال، فيقع المقال فيما هو المهمّ من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صحّ أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم اُمور:

أحدها: أ نّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلمية، ليست كالقطع في كون الحجّية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّية بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل، أو ثبوت مقدّمات وطروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجّية عقلاً - بناء على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة - وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّية بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ؛ ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل.

ثانيها: في بيان إمكان التعبّد(15) بالأمارة الغير العلمية شرعاً، وعدم لزوم محال منه عقلاً في قبال دعوى استحالته للزومه.

وليس الإمكان - بهذا المعنى بل مطلقاً - بأصل متّبع عند العقلاء في

ص: 346

مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار

الإمكان عند الشكّ فيه، ومنع حجّيتها لو سلّم ثبوتها؛ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظنّ به - لو كان - فالكلام الآن في إمكان التعبّد بها وامتناعه، فما ظنّك به، لكن دليل وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمكانه؛ حيث يستكشف به عدم ترتّب محال من تالٍ باطل ممتنع مطلقاً أو على الحكيم تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان، وبدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح.

وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع ،أصلاً.

والإمكان في كلام الشيخ الرئيس: «كلُّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان» بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان. ومن الواضح أن لا موطن له إلاّ الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بيّنة وبرهان.

وكيف كان: فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم

من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال، اُمور:

أحدها: اجتماع مثلين من إيجابين أو تحريمين - مثلاً - فيما أصاب، أو ضدّين من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون

ص: 347

هناك غير مؤدّيات الأمارات أحكامٌ.

ثانيها: طلب الضدّين فيما إذا أخطأ، وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب.

ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب: أنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم أو غير باطل؛ وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته والحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدّى إليه الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدّين، ولا طلب الضدّين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم، لو قيل باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية، أو بأ نّه لا معنى لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلاّ أ نّهما ليسا بمثلين أو ضدّين؛ لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجّز أو لصحّة الاعتذار بمجرّده، من دون إرادة نفسانية

ص: 348

أو كراهة كذلك متعلّقة بمتعلّقه فيما يمكن هناك انقداحهما؛ حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلاّ أ نّه إذا اُوحي بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي أو اُلهم به الوليّ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببها الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقياً، والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاّ العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا - فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة، وإنّما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادّة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم.

نعم، يشكل الأمر في بعض الاُصول العملية، كأصالة الإباحة الشرعية، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً، كما فيما صادف الحرام، وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه، فلا محيص في مثله إلاّ عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى، لكنّه

ص: 349

لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على

صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجّز بسبب القطع بها. وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

فانقدح بما ذكرنا أ نّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاُصول والأمارات فعلياً، كي يشكل:

تارةً، بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه؛ ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية، ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان به ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال لو قيل بأ نّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية؛ لأ نّها بذلك تصير فعلية تبلغ تلك المرتبة.

فإنّه يقال: لا يكاد يحرز - بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقة ولا تعبّداً إلاّ حكم إنشائي تعبّداً، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة؛ أمّا حقيقة فواضح، وأمّا تعبّداً فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجّية الأمارة، كون مؤدّاها هو الواقع تعبّداً، لا الواقع الذي أدّت إليه الأمارة، فافهم.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّى لها، هو دليل الحجّية بدلالة الاقتضاء، لكنّه لا يكاد يتمّ إلاّ إذا

ص: 350

لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً، وإلاّ لم يكن لتلك الدلالة

مجال، كما لا يخفى.

واُخرى: بأ نّه كيف يكون التوفيق بذلك مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاُصول العملية المتكفّلة لأحكام فعلية؟ ضرورة أ نّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون مورد الطرق إنشائياً غير فعلي .

كما لا يصحّ بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين؛ ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد يجدي، فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أ نّه يكون في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة .

فتأمّل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

ثالثها: أنّ الأصل(16) فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز التعبّد به واقعاً، عدم حجّيته جزماً؛ بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعاً، فإنّها لا تكاد تترتّب إلاّ على ما اتّصف بالحجّية فعلاً، ولا يكاد يكون الاتّصاف بها إلاّ إذا اُحرز التعبّد به وجعله طريقاً متّبعاً؛ ضرورة أ نّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته،

ص: 351

ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجرّياً، ولا يكون موافقته بما هي موافقته انقياداً وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته. فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى فليستا من آثارها؛ ضرورة أنّ حجّية الظنّ عقلاً - على تقدير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً مع الشكّ في التعبّد به، لما كان يجدي في الحجّية شيئاً ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه لما كان يضرّ عدم صحّتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشكّ في التعبّد، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ، كما أتعب به شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه بما أطنب من النقض والإبرام، فراجعه بما علّقناه عليه، وتأمّل.

وقد انقدح بما ذكرنا أنّ الصواب فيما هو المهمّ في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل، فتدبّر جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصول:

ص: 352

فصل : في حجّية الظواهر

لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع(17) في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طريقة اُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

والظاهر أنّ سيرتهم على اتّباعها من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدم الظنّ كذلك على خلافها قطعاً؛ ضرورة أ نّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

كما أنّ الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمّه أو يخصّه، ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشهادة بالإقرار من كلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين، والأئمّة الطاهرين، وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّية ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما

ص: 353

يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى أ نّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف! ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلاّ الأوحدي من الأفاضل فما ظنّك بكلامه «تعالى» مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء.

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، لا أقلّ من احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى أ نّه وإن لم يكن منه ذاتاً إلاّ أ نّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي؛ لحمل الكلام الظاهر في معنى، على إرادة هذا المعنى.

ولا يخفى: أنّ النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً. وأمّا بحسبهما فالظاهر أ نّه كبروي، ويكون المنع عن الظاهر؛ إمّا لأ نّه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكلّ هذه الدعاوي فاسدة.

ص: 354

أمّا الاُولى: فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله، اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته؛ بداهة أنّ فيه ما لا يختصّ به، كما لا يخفى؛ وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عمّا ينافيه والفتوى به مع اليأس عن الظفر به؛ كيف! وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب الاستدلال بغير واحد من آياته.

وأمّا الثانية: فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحكام وحجّيتها، كما هو محلّ الكلام.

وأمّا الثالثة: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ومجمل.

وأمّا الرابعة: فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر إنّما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحلّ بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال مع أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمّل جيّداً.

وأمّا الخامسة: فبمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنّه كشف القناع، ولا قناع للظاهر، ولو سلّم فليس من التفسير بالرأي؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار الظنّي الذي لا اعتبار به، وإنّما كان

ص: 355

منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرّد مساعدته ذاك الاعتبار من دون السؤال عن الأوصياء. و في بعض الأخبار: «إنّما هلك الناس في المتشابه؛ لأ نّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم» هذا.

مع أ نّه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره؛ ضرورة أ نّه قضيّة التوفيق بينها وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن، مثل خبر الثقلين، وما دلّ على التمسّك به والعمل بما فيه، وعرض الأخبار المتعارضة عليه، وردّ الشروط المخالفة له، وغير ذلك ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه؛ ضرورة أنّ الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات أو الشروط أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها، ليست إلاّ ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصّاً، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو إمّا بإسقاط أو تصحيف وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار، إلاّ أ نّه لا يمنع عن حجّية ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلاً ولو سلّم فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام؛ والعلم بوقوعه

ص: 356

فيها أو في غيرها من الآيات، غير ضائر بحجّية آياتها؛ لعدم حجّية ظاهر

سائر الآيات، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا كانت كلّها حجّة، وإلاّ لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.

نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به لأخلّ بحجّيته لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله.

ثمّ إنّ التحقيق أنّ الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور - مثل «يطهرن» بالتشديد والتخفيف - يوجب الإخلال بجواز التمسّك والاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم يثبت تواتر القراءات ولا جواز الاستدلال بها وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجّية في خصوص المؤدّى بناءً على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير بينها بناءً على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلا بدّ من الرجوع حينئذٍ إلى الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات.

ص: 357

فصل : في البحث عمّا یتعیّن به الظولهر

قد عرفت حجّية ظهور الكلام في تعيين المرام، فإن اُحرز بالقطع وأنّ المفهوم منه جزماً بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا، فلا كلام، وإلاّ:

فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها. لكنّ الظاهر أ نّه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أ نّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.

وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو وإن لم يكن بخال عن الإشكال - بناءً على حجّية أصالة الحقيقة من باب التعبّد - إلاّ أنّ الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان لأجل الشكّ فيما هو الموضوع له لغةً، أو المفهوم منه عرفاً، فالأصل يقتضي عدم حجّية الظنّ فيه، فإنّه ظنّ في أ نّه ظاهر، ولا دليل إلاّ على حجّية الظواهر.

نعم، نسب إلى المشهور حجّية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع. واستدلّ لهم باتّفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج. وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه: أنّ الاتّفاق لو سلّم اتّفاقه فغير مفيد، مع أنّ المتيقّن منه هو

ص: 358

الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة. والإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ، هو اعتقاد أ نّه ممّا اتّفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة فيما اختصّ بها. والمتيقّن من ذلك، إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق الاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أنّ همّه ضبط موارده، لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة، أو مجازاً، وإلاّ لوضعوا لذلك علامة. وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه وإن كان المعنى معلوماً في الجملة - لا يوجب اعتبار قوله ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظنّ - من باب حجّية مطلق الظنّ وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.

نعم، لو كان هناك دليل على اعتباره لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له على نحو الحكمة، لا العلّة.

ص: 359

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنّه يقال: مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنّه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد ظاهر في معنىً بعد الظفر به وبغيره في اللغة وإن لم يقطع بأ نّه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتّفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

فصل : في حجيّة الإجماع المنقول

الإجماع المنقول(18) بخبر الواحد حجّة عند كثير ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أ نّه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بدّ في اعتباره من شمول أدلّة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم اُمور:

الأوّل: أنّ وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام عليه السلام ، ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه بدخوله عليه السلام في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه عليه السلام عقلاً من باب اللطف، أو عادةً، أو اتّفاقاً من جهة حدس رأيه وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادةً، كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع؛ حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة

ص: 360

العقلية، ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابه عليه السلام في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً. كما أ نّه يظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف بأ نّه معلوم النسب، أ نّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله عليه السلام، وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره، أ نّه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا، مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

وربما يتّفق لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرّفه برؤيته عليه السلام وأخذه الفتوى من جنابه، وإنّما لم ينقل عنه بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

الأمر الثاني: أ نّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع، فتارةً ينقل رأيه عليه السلام في ضمن نقله حدساً كما هو الغالب أو حسّاً وهو نادر جدّاً، واُخرى لا ينقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله عقلاً أو عادةً أو اتّفاقاً، واختلاف ألفاظ النقل أيضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً في ذلك، أي في أ نّه نقل السبب أو نقل السبب والمسبّب.

الأمر الثالث: أ نّه لا إشكال في حجّية الإجماع المنقول بأدلّة حجّية الخبر إذا كان نقله متضمّناً لنقل السبب والمسبّب عن حسّ لو لم نقل بأنّ نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً.

وكذا إذا لم يكن متضمّناً له، بل كان ممحّضاً لنقل السبب عن حسّ إلاّ

ص: 361

أ نّه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادةً أو اتّفاقاً، فيعامل حينئذٍ مع المنقول معاملة المحصّل في الالتزام بمسبّبه بأحكامه وآثاره.

وأمّا إذا كان نقله للمسبّب لا عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجّيته؛ إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أنّ المنصرف من الآيات والروايات ذلك على تقدير دلالتهما، خصوصاً فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة. هذا فيما انكشف الحال.

وأمّا فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإنّ عمدة أدلّة حجّية الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أ نّه عن حسّ، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس؛ حيث إنّه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقّف والتفتيش عن أ نّه عن حدس أو حسّ، بل على العمل على طبقه والجري على وفقه بدون ذلك.

نعم، لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة، هذا.

لكنّ الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنيّة على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل المسبّب كان مستنداً إلى الحسّ.

فلا بدّ في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار

ص: 362

دلالة ألفاظها ولو بملاحظة حال الناقل، وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأ نّه المحصّل؛ فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلاّ فلا يجدي ما لم يضمّ إليه ممّا حصّله، أو نقل له من سائر الأقوال، أو سائر الأمارات ما به تمّ، فافهم.

فتلخّص بما ذكرنا أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد من جهة حكايته رأي الإمام عليه السلام بالتضمّن أو الالتزام كخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان من نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه عليه السلام وما نقله من الأقوال بنحو الجملة والإجمال - وتعمّه أدلّة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلاّ لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.

وأمّا من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل؛ فلو ضمّ إليه ممّا حصّله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر الأمارات، مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصّل، ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً؛ ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجّيته بلا ريب في تعيين حال السائل وخصوصية القضيّة الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك ممّا له دخل في تعيين مرامه عليه السلام من كلامه.

ص: 363

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: أ نّه قد مرّ أنّ مبنى دعوى الإجماع غالباً هو اعتقاد الملازمة

عقلاً لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتّفاقاً بحدس رأيه عليه السلام من فتوى جماعة، وهي غالباً غير مسلّمة.

وأمّا كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للاطّلاع بما يلازمه عادةً من الفتاوى فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله عليه السلام على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة وإن احتمل تشرّف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً.

فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلاّ من باب نقل السبب بالمقدار الذي اُحرز من لفظه بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصّل.

الثاني: أ نّه لا يخفى: أنّ الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبّب. وأمّا بحسب السبب فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق الكلّ. لكن نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلح لأن يكون سبباً ولا جزء سبب؛ لثبوت الخلاف فيها، إلاّ إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عليه السلام لو اطّلع عليها ولو مع

ص: 364

اطّلاعه على الخلاف؛ وهو وإن لم يكن مع الاطّلاع على الفتاوى على اختلافها مفصّلاً ببعيد إلاّ أ نّه مع عدم الاطّلاع عليها كذلك إلاّ مجملاً بعيد، فافهم.

الثالث: أ نّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأ نّه من حيث المسبّب لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالاًّ عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربما لا يكون إلاّ دون حدّ التواتر، فلا بدّ في معاملته معه معاملته، من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد، نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبر - لوجب ترتيبه عليه ولو لم يدلّ على ما بحدّ التواتر من المقدار.

فصل : في حجيّة الشهرة الفتوائية

ممّا قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى(19) ولا يساعده دليل.

وتوهّم دلالة أدلّة حجّية خبر الواحد عليه بالفحوى؛ لكون الظنّ الذي تفيده أقوى ممّا يفيده الخبر، فيه ما لا يخفى؛ ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته للظنّ، غايته تنقيح ذلك بالظنّ، وهو لا يوجب إلاّ

ص: 365

الظنّ بأ نّها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به؛ مع أنّ دعوى القطع بأ نّه ليس بمناط غير مجازفة.

وأضعف منه توهّم دلالة المشهورة والمقبولة عليه؛ لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله في الاُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، وفي الثانية: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به» هو الرواية، لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم، بناءً على حجّية الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجّيته، بل على حجّية كلّ أمارة مفيدة للظنّ، أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

فصل : في حجّية خبر الواحد

المشهور بين الأصحاب حجّية خبر الواحد في الجملة بالخصوص.

ولا يخفى أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاُصولية(20). وقد عرفت في أوّل الكتاب أنّ الملاك في الاُصولية صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الاُصول هي الأدلّة.

وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة اُصولية - تجشّم

ص: 366

دعوى: أنّ البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل؛ ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليلية الأدلّة، بل عن حجّية الخبر الحاكي عنها.

كما لا يكاد يفيد عليه تجشّم دعوى: أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل يثبت بخبر الواحد أو لا يثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟ فإنّ التعبّد بثبوتها مع الشكّ فيها لدى الإخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى. مع أ نّه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجّية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أ نّها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.

وكيف كان: فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم حجّية الخبر.

واستدلّ لهم: بالآيات الناهية(21) عن اتّباع غير العلم.

والروايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أ نّه قولهم عليهم السلام أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان، أو لم يكن موافقاً للقرآن، إليهم؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله أو على أنّ ما لا يوافق كتاب الله زخرف، أو على النهي عن قبول حديث إلاّ ما وافق الكتاب أو السنّة . . . إلى غير ذلك.

ص: 367

والإجماع المحكيّ عن السيّد في مواضع من كلامه، بل حكي عنه أ نّه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشيعة.

والجواب: أمّا عن الآيات، فبأنّ الظاهر منها أو المتيقّن من إطلاقاتها، هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقادية لا ما يعمّ الفروع الشرعية، ولو سلّم عمومها لها فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأمّا عن الروايات، فبأنّ الاستدلال بها خالٍ عن السداد، فإنّها أخبار آحاد.

لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنىً، إلاّ أ نّها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك إلاّ أ نّها لا تفيد إلاّ فيما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السلب كلّياً، كما هو محلّ الكلام، ومورد النقض والإبرام، وإنّما تفيد عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والسنّة؛ والالتزام به ليس بضائر، بل لا محيص عنه في مقام المعارضة.

وأمّا عن الإجماع فبأنّ المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل خصوصاً في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمّل، مع أ نّه معارض بمثله، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدلّ للمشهور بالأدلّة الأربعة:

ص: 368

فصل : في الآيات التي استدلّ بها

في الآيات التي استدلّ بها

فمنها: آية النبأ(22)، قال الله تبارك وتعالى: )إِنْ جاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . .( .

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه، أظهرها أ نّه من جهة مفهوم الشرط، وأنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى: أ نّه على هذا التقرير لا يرد أنّ الشرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أ نّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك؛ إلاّ أ نّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

ولكنّه يشكل بأ نّه ليس لها هاهنا مفهوم ولو سلّم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم؛ لأنّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم

ص: 369

والمنطوق يكون قرينةً على أ نّه ليس لها مفهوم.

ولا يخفى: أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أنّ دعوى أ نّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثمّ إنّه لو سلّم تمامية دلالة الآية على حجّية خبر العدل، ربما اُشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمام عليه السلام بواسطة أو وسائط، فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلاّ بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب فيما كان المخبر به خبر العدل، أو عدالة المخبر؛ لأ نّه وإن كان أثراً شرعياً لهما إلاّ أ نّه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

نعم، لو اُنشئ هذا الحكم ثانياً فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضاً؛ حيث إنّه صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلاّ جعل واحد، فتدبّر.

ويمكن الذبّ عن الإشكال بأ نّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعية والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلاّ فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده بلا محذور لزوم اتّحاد الحكم والموضوع. هذا، مضافاً إلى القطع بتحقّق ما هو المناط في سائر

ص: 370

الآثار في هذا الأثر، أي وجوب التصديق بعد تحقّقه بهذا الخطاب وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً لأجل المحذور.

وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية به، فافهم.

ولا يخفى أ نّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك، للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار - كخبر الصفّار المحكيّ بخبر المفيد مثلاً - بأ نّه لا يكاد يكون خبراً تعبّداً إلاّ بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد؛ فكيف يكون هذا الحكم المحقِّق لخبر الصفّار تعبّداً مثلاً حكماً له أيضاً؟!

وذلك لأ نّه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر نحو القضيّة الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطاً وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمّل جيّداً.

ومنها: آية النفر(23)، قال الله تعالى: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . .(الآية.

وربما يستدلّ بها من وجوه.

ص: 371

أحدها: أنّ كلمة «لعلّ» وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناها الحقيقي، وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي، إلاّ أنّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي كان هو محبوبية التحذّر عند الإنذار، إذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما يقتضيه وعدم حسنه بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها: أ نّه لمّا وجب الإنذار - لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضيّة كلمة لولا التحضيضية - وجب التحذّر، وإلاّ لغا وجوبه.

ثالثها: أ نّه جعل غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأوّل بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع، وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجّة على التكليف، ولم يثبت هاهنا عدم الفصل، غايته عدم القول بالفصل.

والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذّر تعبّداً؛ لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذّر؛ ولعلّ وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم ولو لم نقل بكونه مشروطاً به، فإنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيّد المرسلين كي ينذروا بها المتخلّفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا

ص: 372

اُنذروا بها، وقضيّته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها كما لا يخفى.

ثمّ إنّه أشكل أيضاً بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجّية الخبر بما هو خبر، حيث إنّه ليس شأن الراوي إلاّ الإخبار بما تحمّله، لا التخويف والإنذار؛ وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد.

قلت: لا يذهب عليك أ نّه ليس حال الرواة في الصدر الأوّل في نقل ما تحمّلوا من النبي والإمام، من الأحكام إلى الأنام إلاّ كحال نقلة الفتاوى إلى العوام؛ ولا شبهة في أ نّه يصحّ منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجّية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجّةً بدونه أيضاً، لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم.

ومنها: آية الكتمان:)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا . . .( الآية.

وتقريب الاستدلال بها أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلاً، للزوم لغويته بدونه.

ولا يخفى أ نّه لو سلّم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما اُورد على آية النفر من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنّها تنافيهما كما لا يخفى.

ص: 373

لكنّها ممنوعة، فإنّ اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة.

ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر: )فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(.

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه: أنّ الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبّد بالجواب.

وقد اُورد عليها بأ نّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الراوي، فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجّية الفتوى لا الرواية.

وفيه: أنّ كثيراً من الرواة يصدق عليهم أ نّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام، كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أ نّه السؤال عن أهل الذكر والعلم ولو كان السائل من أضرابهم؛ فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية وجب قبول روايتهم، ورواية غيرهم من العدول مطلقاً، لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين

ص: 374

المبتدأ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممّن لا يكون من أهل الذكر، وإنّما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم.

ومنها: آية الاُذن: )وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤذُونَ النَّبِىَّ وَيقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤمِنُ بِالله وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِينَ(.

فإنّه تبارك وتعالى مدح نبيّه بأنّه يصدّق المؤمنين قرنه بتصديقه تعالى.

وفيه أوّلاً: أ نّه إنّما مدحه بأ نّه اُذن، وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً.

وثانياً: أ نّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضرّ غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجّية الخبر، ويظهر ذلك من تصديقه للنّمام بأ نّه ما نمّه وتصديقه له تعالى بأ نّه نمّه، كما هو المراد من التصديق في قوله عليه السلام: «فصدّقه وكذّبهم» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أ نّه قال قولاً وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم» فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم، وتكذيبهم فيما يضرّه ولا ينفعهم، وإلاّ فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين! وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل، فتأمّل جيّداً.

ص: 375

فصل : في الأخبار التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد

في الأخبار(24) التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد

وهي وإن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها، إلاّ أ نّه يشكل الاستدلال بها على حجّية أخبار الآحاد بأ نّها أخبار آحاد، فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى فتكون متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنّه مندفع بأ نّها وإن كانت كذلك إلاّ أ نّها متواترة إجمالاً، ضرورة أ نّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم عليهم السلام، وقضيّته وإن كان حجّية خبر دلّ على حجّيته أخصّها مضموناً، إلاّ أ نّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية وقد دلّ على حجّية ما كان أعمّ، فافهم.

فصل : في الإجماع على حجّية الخبر

في الإجماع على حجّية الخبر

وتقريره من وجوه:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عليه السلام بذلك ويقطع به، أو من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّية.

ص: 376

ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى؛ لاختلاف الفتاوى فيما اُخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عليه السلام من تتبّعها؛ وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة؛ اللهمّ إلاّ أن يدّعى تواطؤها على الحجّية في الجملة، وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها: دعوى اتّفاق العلماء عملاً بل كافّة المسلمين على العمل بخبر الواحد في اُمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل - أ نّه لو سلّم اتّفاقهم على ذلك لم يحرز أ نّهم اتّفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الاُمور الدينية من الاُمور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء(25) من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرّت إلى زماننا ولم يردع عنه نبيّ ولا وصيّ نبيّ؛ ضرورة أ نّه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أ نّه يكشف عن رضأ الشارع به في الشرعيات أيضاً.

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم. وناهيك قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( . وقوله

ص: 377

تعالى: )إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(.

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنّه - مضافاً إلى أ نّها إنّما وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين، ولو سلّم فإنّما المتيقّن، لولا أ نّه المنصرف إليه إطلاقها، هو خصوص الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة - لا يكاد يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر، وذلك لأنّ الردع بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقّف على الردع عنها بها، وإلاّ لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها كما لا يخفى.

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلاّ على وجه دائر، فإنّ اعتباره بها فعلاً يتوقّف على عدم الردع بها عنها، وهو يتوقّف على تخصيصها بها، وهو يتوقّف على عدم الردع بها عنها.

فإنّه يقال: إنّما يكفي في حجّيته بها عدم ثبوت الردع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ ما جرت عليه السيرة المستمرّة في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة عن الواقع، يكون عقلاً في الشرع متّبعاً ما لم ينهض دليل على المنع عن اتّباعه في الشرعيات، فافهم وتأمّل.

ص: 378

فصل : في الوجوه العقلية التي اُقيمت على حجّية الخبر الواحد

في الوجوه العقلية التي اُقيمت على حجّية الخبر الواحد

أحدها: أ نّه يعلم إجمالاً(26) بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة الأطهار بمقدار وافٍ بمعظم الفقه؛ بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً، والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة. ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلاّ لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه: أ نّه لا يكاد ينهض على حجّية الخبر بحيث يقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم وإن كان يسلّم عمّا اُورد عليه من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات لا في خصوص الروايات؛ لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما علم

ص: 379

بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال، فتأمّل جيّداً.

ثانيها: ما ذكره في «الوافية» مستدلاًّ على حجّية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير ردٍّ ظاهر. وهو: «أ نّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما بالاُصول الضرورية، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان»، انتهى.

وأورد عليه أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذٍ إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ ما ظنّ صدوره ممّا دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.

قلت: يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار إلاّ أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي وصيرورة غيرها خارجةً عن طرف العلم، كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل. اللهمّ إلاّ أن يمنع عن ذلك وادّعي عدم

ص: 380

الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادّعي العلم بصدور أخبار اُخر بين غيرها، فتأمّل.

وثانياً: بأنّ قضيّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الأخبار النافية لهما.

والأولى أن يورد عليه بأنّ قضيّته إنّما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة فيما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجّية بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين بما ملخّصه «أ نّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بدّ من الرجوع إليهما كذلك، وإلاّ فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظنّ به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدّ من التنزّل إلى الظنّ بأحدهما».

وفيه: أنّ قضيّة بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح بأ نّها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علوّ مقامه - إنّما هو الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار، فإن وفى، وإلاّ اُضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة لو كان، وإلاّ

ص: 381

فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما ظنّ اعتباره؛ وذلك للتمكّن من الرجوع علماً تفصيلاً أو إجمالاً، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره.

هذا، مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنّة بذاك المعنى فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأمّا الإيراد عليه برجوعه: إمّا إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية، وإمّا إلى الدليل الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه: أنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

فصل : في الوجوه التي أقاموها على حجّية الظنّ

وهي أربعة.

الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه(27) من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر ودفع الضرر المظنون لازم.

أمّا الصغرى فلأنّ الظنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظنّ بالعقوبة

ص: 382

على مخالفته، أو الظنّ بالمفسدة فيها، بناء على تبعية الأحكام للمصالح

المفاسد.

وأمّا الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح؛ لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقلّ بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه إذا قيل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً.

والصواب في الجواب هو منع الصغرى؛ أمّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظنّ بالتكليف والظنّ بالعقوبة على مخالفته؛ لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته؛ وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها؛ ومجرّد الظنّ به بدون دليل على اعتباره لا يتنجّز به، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلاّ أنّ يقال: إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه بمجرّده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته إلاّ أ نّه لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة. ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدّاً، لا سيّما إذا كان هو العقوبة الاُخروية، كما لا يخفى.

ص: 383

وأمّا المفسدة فلأ نّها وإن كان الظنّ بالتكليف يوجب الظنّ بالوقوع فيها لو خالفه إلاّ أ نّها ليست بضرر على كلّ حال؛ ضرورة أنّ كلّ ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً كما لا يخفى.

وأمّا تفويت المصلحة فلا شبهة في أ نّه ليس فيه مضرّة، بل ربما يكون في استيفائها المضرّة كما في الإحسان بالمال.

هذا، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها، كما حقّقناه في بعض فوائدنا.

وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال واُنّيط بهما الأحكام بمضرّة، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى؛ فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلاً؛ ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم.

الثاني: أ نّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ص: 384

وفيه: أ نّه لا يكاد يلزم منه ذلك إلاّ فيما إذا كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً، أو عدم وجوبه شرعاً، ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلاّ بمقدّمات دليل الانسداد وإلاّ كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غير هما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلال المقدّمات على ما ستطّلع على حقيقة الحال.

الثالث: ما عن السيّد الطباطبائي قدّس سرّه من أ نّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك ما يحتمل الحرمة كذلك؛ ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كلّه؛ لأ نّه عسر أكيد وحرج شديد؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليل آخر بل ذاك الدليل.

الرابع: دليل الانسداد(28). وهو مؤلّف من مقدّمات يستقلّ العقل مع

ص: 385

تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنّية حكومة، أو كشفاً على ما تعرف، ولا يكاد

يستقلّ بها بدونها، وهي خمس:

أوّلها: أ نّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها: أ نّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها: أ نّه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً.

رابعها: أ نّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

خامسها: أ نّه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً. فيستقلّ العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظنّية لتلك التكاليف المعلومة، وإلاّ لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي بها إمّا إهمالها، وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها، وإمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكّية أو الوهمية مع التمكّن من الظنّية.

والفرض بطلان كلّ واحد منها.

أمّا المقدّمة الاُولى: فهي وإن كانت بديهية إلاّ أ نّه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الطاهرة التي تكون فيما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عمّا يوجب

ص: 386

الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه

لو لم يكن هناك انحلال.

وأمّا المقدّمة الثانية: أمّا بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال

زماننا بيّنة وجدانية، يعرف الانسداد كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد، وأمّا بالنسبة إلى العلمي فالظاهر أ نّها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلّة على حجّية خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد الله - وافٍ بمعظم الفقه، لا سيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها كما لا يخفى.

وأمّا الثالثة: فهي قطعية ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً، أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي؛ وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأ نّه مرغوب عنه شرعاً، وممّا يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجّزاً لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما اُشير إليه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ على تقدير المصادفة إلاّ عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت: هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط - وقد علم به بنحو اللمّ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات؛

ص: 387

مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال وأ نّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً - وأمّا مع استكشافه فلا تكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ بلا بيان وبلا برهان كما حقّقناه في البحث وغيره.

وأمّا المقدّمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بلا كلام فيما يوجب عسره اختلال النظام؛ وأمّا فيما لا يوجب فمحلّ نظر بل منع؛ لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط؛ وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلّقين بما يعمّهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل لعدم العسر في متعلّق التكليف، إنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت قاعدة نفيه محكّمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه.

ولا يخفى: أ نّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بدّ من دعوى وجوبه شرعاً، كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثالثة، فافهم وتأمّل جيّداً.

ص: 388

وأمّا الرجوع إلى الاُصول، فبالنسبة إلى الاُصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حكم العقل وعموم النقل؛ هذا ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كلّ منها بمقتضى «لا تنقض» لوجوبه في البعض، كما هو قضيّة «ولكن تنقضه بيقين آخر»؛ وذلك لأ نّه إنّما يلزم فيما إذا كان الشكّ في أطرافه فعلياً.

وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشكّ فعلاً إلاّ في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام كما لا يخفى. فلا يكاد يلزم ذلك، فإنّ قضيّة «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم.

ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاُصول النافية أيضاً، وأ نّه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن هناك مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاُصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالاً، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب

ص: 389

الاحتياط وإن لم يكن بذاك المقدار، ومن الواضح أ نّه يختلف باختلاف

الأشخاص والأحوال.

وقد ظهر بذلك: أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحلّ ببركة جريان الاُصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً أصلاً كما لا يخفى.

كما ظهر أ نّه لو لم ينحلّ بذلك كان خصوص موارد الاُصول النافية مطلقاً ولو من مظنونات عدم التكليف محلاًّ للاحتياط فعلاً - ويرفع اليد عنه فيها كلاًّ أو بعضاً بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - لا محتملات التكليف مطلقاً.

وأمّا الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز، ضرورة أ نّه لا يجوز إلاّ للجاهل، لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلاّ من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل.

وأمّا المقدّمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها وأ نّه لا يجوز التنزّل بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها إلاّ إلى الإطاعة الظنّية دون الشكّية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتهما بالإضافة إليها، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

لكنّك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية مع دوران الأمر بين الظنّية والشكّية أو الوهمية، من جهة ما أوردنا على المقدّمة

ص: 390

الاُولى من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيّته

الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به، حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عمّا يوجب اختلال النظام.

وما أوردنا على المقدّمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاُصول مطلقاً ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الاُصول المثبتة وما علم منه تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ فإلى الاُصول المثبتة وحدها. وحينئذٍ كان خصوص موارد الاُصول النافية محلاًّ لحكومة العقل وترجيح مظنونات التكليف منها على غيرها ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ شرعاً أو عقلاً على ما عرفت تفصيله. هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً.

فصل

هل قضيّة المقدّمات(29) على تقدير سلامتها هي حجّية الظنّ بالواقع أو بالطريق أو بهما؟ أقوال.

والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها، وفي أنّ كلّ ما كان

ص: 391

القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح كان الظنّ به مؤمّناً حال الانسداد جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك - لا بما هو معلوم ومؤدّى الطريق ومتعلّق العلم وهو طريق شرعاً وعقلاً - أو بإتيانه الجعلي، وذلك لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدّى الطريق، مبرئ للذمّة قطعاً.

كيف وقد عرفت أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يدّ الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أنّ قضيّة ذلك هو التنزّل إلى الظنّ بكلّ واحد من الواقع والطريق.

ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع إلاّ توهّم أ نّه قضيّة اختصاص المقدّمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الاُصول وعدم إلجاءٍ في التنزّل إلى الظنّ فيها، والغفلة عن أنّ جريانها في الفروع موجب لكفاية الظنّ بالطريق في مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف وإن كان باب العلم في غالب الاُصول مفتوحاً، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنّين.

كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول، وتبعه في الفصول. قال فيها: «إنّا كما نقطع بأ نّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل

ص: 392

لنا، بحكم العيان وشهادة الوجدان، إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً، وكلّفنا تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على حجّيته، لأ نّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه».

وفيه: أوّلاً: - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية، وعدم وجود المتيقّن بينها أصلاً - أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ.

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه.

لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ في أطراف الأحكام ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق، فإنّ قضيّة هذا الاحتياط هو جواز رفع اليدّ عنه في غير مواردها والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف. وكذا فيما إذا نهض الكلّ على نفيه. وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفياً وإثباتاً

ص: 393

مع ثبوت المرجّح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقاً في غيره بناءً على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الأخبار. وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإنّ المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافياً، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه، فافهم. وكذا كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك.

وثانياً: لو سلّم أنّ قضيّته لزوم التنزّل إلى الظنّ، فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظنّ بالطريق فاسد قطعاً، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع، من الظنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر من دون الظنّ بحجّية طريق أصلاً، ومن الظنّ بالواقع كما لا يخفى.

لا يقال: إنّما لا يكون أقرب من الظنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو بنحو التقييد.

فإنّ الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً، فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه، ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدّى طريق القطع كما عرفت.

ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضاً غير سديد، مع أنّ الالتزام بذلك

ص: 394

غير مفيد، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ

عن الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق معتبر؛ والظنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابته الواقع غير مجد بناءً على التقييد، لعدم استلزامه الظنّ بالواقع المقيّد به بدونه.

هذا، مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد، غايته أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية، يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعية إلاّ أ نّه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً، والفرض عدم اللزوم بل عدم الجواز، وعليه يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظنّ بها حال انسداد باب العلم كما لا يخفى.

ولا بدّ حينئذٍ من عناية اُخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها. ولا شبهة في أنّ الظنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ - لكونه أقرب في التوسّل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام - من الظنّ بالطريق، فلا أقلّ من كونه مساوياً فيما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال؛ هذا، مع ما عرفت من أ نّه عادةً يلازم الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق، وهو بلا شبهة يكفي ولو

ص: 395

لم يكن هناك ظنّ بالطريق، فافهم فإنّه دقيق.

ثانيهما: ما اختصّ به بعض المحقّقين. قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعية ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعية، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط تكليفنا عنّا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مرّ تفصيل القول فيه، فحينئذٍ نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسدّ علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل - بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف - دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ»، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمّة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشاداً إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو هو مفرّغاً، وأنّ القطع به حقيقةً أو تعبّداً مؤمّن جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظنّ بما كان القطع به

ص: 396

مؤمّناً حال الانفتاح، فيكون الظنّ بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمّة فيما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطريق المنصوب ليس إلاّ بدعوى أنّ النصب يستلزمه، مع أنّ دعوى أنّ التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به، أولى كما لا يخفى، فيكون الظنّ به ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت: كيف يستلزمه الظنّ بالواقع مع أ نّه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظنّ بالطريق، فإنّه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت: الظنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظنّ بحكمه بالتفريغ ولا ينافي القطع بعدم حجّيته لدى الشارع وعدم كون المكلّف معذوراً إذا عمل به فيهما فيما أخطأ، بل كان مستحقّاً للعقاب - ولو فيما أصاب - لو بني على حجّيته والاقتصار عليه لتجرّيه، فافهم.

وثالثاً: سلّمنا أنّ الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ به، لكن قضيّته ليس إلاّ التنزّل إلى الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق معتبر، لا خصوص الظنّ بالطريق، وقد عرفت أنّ الظنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأ نّه مؤدّى الطريق غالباً.

ص: 397

ص: 398

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 399

ص: 400

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية

رقمها الصفحة

البقرة (2)

)أَحَلَّ الله( 275

255

آل عمران (3)

)يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ

خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ( 30

23

النساء (4)

)فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ( 3

163

)وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ( 24

163

المائدة (5)

)أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( 1

255

)الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ( 67

196

ص: 401

الآية

رقمها الصفحة

التوبة (9)

)وَمَاكَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً( 122

248

)فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ( 122

249

)لِيُنْذِرُوا( 122

248

يونس (10)

)إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً( 36

218

الإسراء (17)

)وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( 36

218، 220، 235

الكهف (18)

)فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ

إِنْ لَمْ يُؤمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً( 6

248

)وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً( 49

23

الحجّ (22)

)مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( 78

306، 310، 317

النور (24)

)وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ

مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ( 32

163

ص: 402

الآية

رقمها الصفحة

)كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً( 39

42

النمل (27)

)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَ نْفُسُهُمْ

ظُلْماً وَعُلُوّاً( 14

106

الحجرات (49)

)إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا( 6

161، 226، 233

الإنسان (76)

)إِنَّا خَلَقنَا الاْءِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ( 2

48

)وَمَاتَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله( 30

29

الزلزلة (99)

)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ( 7 - 8

23

ص: 403

ص: 404

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس 160

اسكتوا عمّا سكت الله 130

أشهد أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة 50

أنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه... 33

بك اُثيب، وبك اُعاقب 33

تنقضه بيقين آخر 300

الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر 209

رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم 183

رفع... ما اضطرّوا إليه 311

رفع... ما لا يعلمون 111، 169

السعيد سعيد... 54

السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه 46، 53

عليك بالأسدي 160

العمري ثقتي 160

العمري ثقة، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول 220

فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون 160

فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه 209

ص: 405

فشككت فليس بشيء 83

فشكّك ليس بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تَجُزه 83

في الإسلام 306، 309

قد ركع 165

قد ركعت 82، 88

كلّ شيء... حلال 169

كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام بعينه 124

كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر 18، 154

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه 154

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر 152

لا تجتمع اُمّتي على الضلالة 201

لا تعاد الصلاة... 62

لا تنقض اليقين بالشكّ 123، 125، 243، 244،246، 300

لا شكّ لكثير الشكّ 83

لا ينقض اليقين بالشكّ 76، 80

لكنّه ينقض الشكّ باليقين 80

لكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين، فيبني عليه 80

ممّا لا ريب فيه 209

الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة 46، 53

وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ 77

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا 160

وكلّ شيء لك حلال 152

ص: 406

ولكن تنقضه بيقين آخر 123، 299، 300

ولكن تنقضه بيقين مثله 123

ويتمّ على اليقين... 80

هو حين يتوضّأ أذكر 83

ينظر إلى ما كان من روايتهم

عنّا في ذلك الذي حكما به 208

ص: 407

ص: 408

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

سيّد المرسلين، سيّدالأنام، النبي=محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

رسول الله، محمّد صلی الله علیه و آله وسلم =محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 107، 196، 201،

202، 205، 223، 224،

238، 248، 249، 251،

288، 289، 321، 351،

370،

أميرالمؤمنين علیه السلام =علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 196

فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 196

الحسن علیه السلام =الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الثاني

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الثاني 196

الحسين علیه السلام =الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 49، 196

أبو عبدالله علیه السلام =جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 82، 194

ص: 409

أبو الحسن علیه السلام =علي بن محمّد علیه السلام ، الإمام العاشر

علي بن محمّد علیه السلام ، الإمام العاشر 252

العسكري علیه السلام =الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر 241

الخليل=إبراهيم، النبي

إبراهيم، النبي 119

ص: 410

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

17، 34، 45، 66، 109،

121، 122، 164، 178،

179، 181، 185، 189،

212، 236، 237، 252،

254، 290، 298، 304،

310، 311، 312، 313،

316، 321

ابن الحاجب، عثمان بن عمر 201

ابن بابويه، محمّد بن علي 205، 208، 240، 241،

243، 244، 246

ابن زهرة، حمزة بن علي 202

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 145

أبو بصير 160، 252

أبو بكر=عبدالله بن أبي قحافة

أبو ذرّ 196

أحمد بن إسحاق 252

الأصفهاني، محمّد تقي 265

الأصفهاني، محمّد حسين 7

ص: 411

الأصفهاني، محمّد حسين بن عبد الرحيم 318، 319

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 7، 8، 84، 112، 123،

124، 128، 129، 138،

149، 151، 158، 181،

185، 212، 232، 234،

239، 278، 282، 312،

318

بعض أعاظم الفلسفة=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض أعاظم المحدّثين=المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي

بعض أكابر فنّ المعقول=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض الأعاظم=النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض مشايخ العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض محقّقي العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض محقّقي العصر=الأصفهاني، محمّد حسين

بعض المحقّقين=العراقي، ضياء الدين

الحائري، عبدالكريم 7، 34، 107، 129، 130،

172، 178، 238، 242

252، 319

الحاجبي=ابن الحاجب، عثمان بن عمر

حمّاد بن عثمان 82، 88

الحميري، عبدالله بن جعفر 252

الحميري، محمّد بن عبدالله 252

الخراساني=الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

ص: 412

الداماد، ميرمحمّد=الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد

زرارة 77، 80، 160، 252

الساباطي، عمّار بن موسى 196

سلمان 196

السيّد الشيرازي=الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود

السيّد المرتضى، علم الهدى=علم الهدى، علي بن الحسين

الشيخ، أبو جعفر الطوسي=الطوسي، محمّد بن الحسن

الشيخ الأعظم=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ الأنصاري=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ رئيس الصناعة=ابن سينا، الحسين بن عبدالله

شيخنا العلاّمة=الحائري، عبدالكريم

الشيخ=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

صاحب الحاشية (هداية المسترشدين)=الأصفهاني، محمّد تقي

صاحب الكفاية (كفاية الاُصول)=الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

صاحب الفصول الغروية=الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم

صاحب فصل الخطاب=النوري، الحسين بن محمّدتقي

صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم 30، 31، 227

صدر المتألّهين=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

الصدوق=ابن بابويه، محمّد بن علي

الصفّار 241، 242، 243

الطوسي، محمّد بن الحسن 202، 205، 207، 208،

210، 239، 240، 241،

242، 244، 246

عبدالله بن أبي قحافة 202

ص: 413

العراقي، ضياء الدين 225

العلاّمة الحائري=الحائري، عبدالكريم

علم الهدى، علي بن الحسين 199، 208، 235، 236،

237، 238

عمّار=الساباطي، عمّار بن موسى

عمر بن حنظلة 208

العمري، عثمان بن سعيد 160، 220، 252، 253

الغزالي، محمّد بن محمّد 201، 202

الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله 196

الفاضل المقرّر=الكاظمي، محمّد علي

الفخر الرازي، محمّد بن عمر 57، 201، 202

الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر 129، 172

القمّي=الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

الكاظمي، محمّد علي 100، 115، 135، 139،

141، 189، 244، 245،

282، 286، 297

الكليني، محمّد بن يعقوب 205، 243، 252

المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي 104

محمّد بن مسلم 252

محمّد بن يحيى العطّار 252

محمّد بن يحيى=محمّد بن يحيى العطّار

المحمّدين الثلاثة (الكليني، محمّد بن يعقوب / ابن بابويه، محمّد بن علي /

الطوسي، محمّد بن الحسن) 195

معاوية بن وهب 81

ص: 414

المفيد، محمّد بن محمّد 208، 240، 242، 244،

246

المقداد=الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله

الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد 29، 30

الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود 138، 144

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن 191، 193

النائيني، محمّد حسين 7، 15، 17، 18، 24، 57،

59، 60، 68، 72، 75،

84، 86، 87، 88، 97،

111، 112، 114، 115،

122، 124، 128، 134،

138، 140، 144، 146،

148، 149، 151، 158،

165، 167، 179، 181،

186، 189، 204، 210،

212، 219، 227، 230،

231، 233، 235، 240،

247، 253، 255، 258،

272، 273، 286، 290،

291، 297، 301، 303،

310، 313، 314، 316،

321

النورى، الحسين بن محمّدتقي 195

الوليد بن عقبة 227، 228، 229، 234

ص: 415

ص: 416

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 44، 194، 196، 224

تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد=درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

تقريرات بحث المحقّق النائيني=فوائد الاُصول

تفسير آلاء الرحمن 195

فوائد الاُصول 7،15، 17، 18، 24، 57،

59، 60، 72، 75، 84،

87، 88، 97، 111، 112،

114، 117، 122، 124،

125، 134، 135، 138،

140، 142، 143، 146،

149، 158، 179، 181،

184، 186، 204، 210،

212، 219، 227، 230،

240، 253، 255، 258،

273، 291، 301، 303،

310، 313، 314، 321

الحاشية=هداية المسترشدين

ص: 417

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 17، 68، 313

درر الفوائد للمحقّق الحائري 238، 319

رسالة لا ضرر للمحقّق النائيني 315

الصحاح 232

الغنية=غنية النزوع

غنية النزوع 202، 203

فصل الخطاب 195

الفصول الغروية 318، 319

فقه الرضا علیه السلام =الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام

الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام 208

الفوائد=فوائد الاُصول للمحقّق الخراساني

فوائد الاُصول للمحقّق الخراساني 40، 45

القاموس المحيط 232

الكفاية=كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 1، 17، 40، 45، 52، 68، 304، 313، 321

المبسوط 208

المجمع=مجمع البحرين

مجمع البحرين 232

المراسم 208

المستدرك=مستدرك الوسائل

مستدرك الوسائل 195

من لا يحضره الفقيه 208

هداية المسترشدين 265

ص: 418

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن. الشيخ محمّد جواد البلاغي (1282 - 1352)، تحقيق مؤسّسة البعثة، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة البعثة مركز الطباعة والنشر، 1420 ق.

2 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

3 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

4 - الاحتجاج. أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ( القرن السادس)، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، منشورات اُسوة، 1413 ق.

5 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي). أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تصحيح حسن المصطفوي، جامعة مشهد، 1348 ش.

6 - الأربعون حديثاً. أبو الفضل محمّد بن الشيخ حسين الجبعي العاملي المعروف ب«الشيخ

ص: 419

البهائي» (953 - 1031)، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسسة

النشر الإسلامي، 1415 ق.

7 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

8 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

9 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

«ب»

10 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار. العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110)، الطبعة الثانية، إعداد عدّة من العلماء، 110 مجلدٍ (إلاّ 6 مجلّدات، من المجلّد 29 - 34) + المدخل، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ق / 1983 م.

«ت»

11 - التبيان في تفسير القرآن. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، بيروت، 10 مجلّدات، دار إحياء التراث العربي.

12 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق وتصحيح استاد شهيد مرتضى مطهرى، چاپ دوم، تهران، مؤسّسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

13 - التعريفات. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني، الطبعة الرابعة، طهران، انتشارات ناصر خسرو، 1370 ش.

14 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

15 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م

ص: 420

381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

16 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

والطبع الحجري منه مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مكتبة الفراهاني، 1363 ش.

17 - تهذيب الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ). الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1424 ق.

«ج»

18 - جامع أحاديث الشيعة، الذي اُ لّف تحت إشراف آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي. (1291 - 1380)، الشيخ إسماعيل المعزّي الملايري، الطبعة الثانيه، 26 مجلّداً، مطبعة مهر، 1413 ق / 1371 ش.

«ح»

19 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«خ»

20 - الخصال. أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403 ق.

21 - الخلاف. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق جماعة من المحقّقين، الطبعة الاُولى، 6 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1407 ق.

«د»

22 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ

ص: 421

محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة،

جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

23 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد. الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329)، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1410 ق / 1990 م.

24 - الدُرر النجفيّة. يوسف بن أحمد البحراني (1107 - 1186)، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

«ذ»

25 - الذريعة إلى اُصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1363 ش.

«ر»

26 - رسائل الشريف المرتضى. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، إعداد السيّد مهديّ الرجائي، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، دار القرآن الكريم، 1405 - 1410 ق.

«س»

27 - سنن ابن ماجة. أبو عبدالله محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني (207 - 275)، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية.

«ش»

28 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

29 - شرح المطالع. قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766)، قم، انتشارات الكتبي.

ص: 422

30 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب- «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793)، تحقيق عبدالرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

31 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

32 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني(م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

33 - شرح چهل حديث (أربعين حديث)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

34 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370-427)، تحقيق عدّة من الأساتذه، 10 مجلّداً (الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

35 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام. المولى عبدالرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051)، تصحيح أكبر أسد عليزاده، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1425 - 1430 ق.

«ص»

36 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية). إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار، الطبعة الرابعة، 6 مجلّدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1407 ق / 1987 م.

37 - صحيح البخاري. أبو عبدالله محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي (م 256)، تحقيق وشرح الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي، الطبعة الاُولى، 9 أجزاء في 4 مجلّدات، بيروت، دار القلم، 1407 ق / 1987 م.

ص: 423

«ط»

38 - الطلب والإرادة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني».=موسوعة الإمام الخميني.

«ع»

39 - العدّة في اُصول الفقه. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مطبعة ستارة، 1417 ق.

40 - العقد الفريد. أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (م 328)، تحقيق محمّد عبدالقادر شاهين، الطبعة الثانية، 8 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

41 - علم اليقين في اُصول الدين. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، مجلّدان، قم، انتشارات بيدار، 1358 ش / 1400 ق.

«غ»

42 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع. أبو المكارم السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المعروف بابن زهرة (511 - 585)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1417 ق.

43 - الغيبة. الشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ على أحمد ناصح، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1411 ق.

«ف»

44 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

45 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبدالرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

ص: 424

46 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957 م.

47 - فوائد الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تصحيح السيّد مهديّ شمس الدين، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسة الطبع والنشر، وزارة الإرشاد الإسلامي، 1407 ق.

48 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

49 - الفوائد الطوسية. المحدّث الأكبر محمّد حسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تعليق السيّد مهديّ اللاجوردي والشيخ محمّد درودي، قم، المطبعة العلمية، 1403 ق.

«ق»

50 - القاموس المحيط والقابوس الوسيط. أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (729 - 817)، 4 مجلّدات، بيروت، دار الجيل.

51 - القبسات. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق الدكتور مهديّ المحقّق، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1374 ش.

52 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

53 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)،

ص: 425

تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية،

1363 ش.

54 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

55 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

56 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975)، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا، الطبعة الثالثة، 16 مجلّداً + الفهرس، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 ق / 1989 م.

«گ»

57 - گلشن راز. شيخ محمود شبسترى (687 - 740) تحقيق دكتر صمد موحد، چاپ اول، طهران، انتشارات طهورى، 1368 ش.

«ل»

58 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

59 - المباحث المشرقية. الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م606)، الطبعة الثانية، قم، مكتبة بيدار، 1411 ق.

60 - مجمع البحرين ومطلع النيّرين. فخر الدين الطريحي (972 - 1085)، الطبعة الاُولى، 6 مجلّدات، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1985 م.

61 - مجمع البيان في تفسير القرآن. أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548)، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد

ص: 426

فضل الله اليزدي الطباطبائي، الطبعة الاُولى، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت،

دار المعرفة للطباعة والنشر.

62 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخرالدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود و علي محمّد معوض، الطبعة الثانية، 4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

63 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول. العلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (1037 - 1110)، تصحيح السيّد هاشم الرسولي والسيّد جعفر الحسيني والشيخ علي الآخوندي، الطبعة الثانية، 26 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

64 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 25 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1407 ق.

65 - المستصفى من علم الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، انتشارات دار الذخائر، 1368 ش.

66 - المسند. أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241)، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين، الطبعة الاُولى، 20 مجلّداً، القاهرة، دار الحديث، 1416 ق.

67 - المشاعر. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، با ترجمه فارسى بديع الملك ميرزا عماد الدولة و ترجمه و مقدمه و تعليقات فرانسوى از هنرى كربين، چاپ دوم، طهران، كتابخانه طهورى، 1363 ش.

68 - مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الاُولى، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1418 ق / 1998 م.

69 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيّومي (م770)، الطبعة الاُولى، جزءان في مجلّد واحد، قم، دار الهجرة، 1405 ق.

ص: 427

70 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

71 - معارج الاُصول. المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، إعداد محمّد حسين الرضوي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق.

72 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

73 - المعتمد في اُصول الفقه. أبو الحسين محمّد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي (م 436 ق / 1044 م)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403 ق.

74 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

75 - المقنع. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (311 - 381)، تحقيق لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، قم، مؤسّسة

الإمام الهادي علیه السلام ، 1415 ق.

76 - مناهج الوصول إلى علم الاُصول، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة

الإمام الخميني قدّس سرّه .

77 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1424 ق.

ص: 428

78 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى،، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

79 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

80 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

81 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

«و»

82 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

والطبعة الحجرية منه، 3 مجلّدات، طهران، دار الطباعة، 1293 ق.

«ه-»

83 - هداية الأبرار إلى طريق أئمّة الأطهار. الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي (م 1076)، تصحيح رؤوف جمال الدين، الطبعة الاُولى، بغداد، 1396 ق.

84 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 429

ص: 430

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة التحقيق ··· ه-

المقصد السادس

في الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

الكلام في القطع

المقدّمة ··· 5

وجه أشبهية مسائل القطع بالكلام ··· 5

وجه تعميم متعلّق القطع وما يرد عليه ··· 6

جواب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه عن تثليث الأقسام ··· 7

بيان أحكام القطع وأقسامه يستدعى رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في وجه عدم جعل الحجّية للقطع ··· 9

إشكال على مراتب الحكم ··· 10

الأمر الثاني: في التجرّي ··· 12

فهاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ مسألة التجرّي ليست اُصولية ··· 12

في الإيراد على القائلين بكون التجرّي من المسائل الاُصولية ··· 15

ص: 431

المبحث الثاني: في عدم حرمة الفعل المتجرّى به ··· 16

نقل مقال لتوضيح حال ··· 18

المبحث الثالث: في قبح التجرّي وتحقيق الحال فيه ··· 22

في نقل كلام بعض مشايخ العصر ووجوه النظر فيه ··· 24

في اختيارية الإرادة وعدمها ··· 29

في الإشكال على اختيارية الإرادة ··· 29

كلام المحقّق الداماد في دفع الإشكال ··· 29

إشكالات صدر المتأ لّهين على المحقّق الداماد وردّها ··· 30

الجواب عن أصل الإشكال ··· 31

تتمّة: في نقل أجوبة اُخر للأعلام عن الإشكال والجواب عنها ··· 34

معنى البعد والقرب والإيراد على المصنّف ··· 36

بيان حقيقة السعادة والشقاوة ··· 40

في تحقيق الذاتي الذي لا يعلّل ··· 40

في الإشكال على المحقّق الخراساني ··· 45

في سبب اختلاف أفراد الإنسان ··· 47

في أنّ السعادة قابلة للتغيير وكذا الشقاوة ··· 51

في معنى قوله: «السعيد سعيد...» و«الناس معادن» ··· 53

في أنّ للمعصية منشأين للعقوبة ··· 55

الأمر الثالث: في بيان أقسام القطع وأحكامها ··· 56

هاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أقسام القطع ··· 56

في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية ··· 59

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ··· 60

ص: 432

المبحث الثاني: في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع ··· 66

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً ··· 66

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً ··· 69

قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ··· 69

قيام الاُصول مقام القطع بأقسامه ··· 72

في حال الاستصحاب وإثبات طريقيته ··· 73

في أنّ المستفاد من الكبرى المجعولة في الاستصحاب هو الطريقية ··· 76

إشكالات في تفصّيات ··· 78

في حال قاعدة الفراغ والتجاوز ··· 81

في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب ··· 82

في الإيراد على القوم ··· 83

قيام الاستصحاب مقام القطع ··· 85

عدم قيام قاعدة الفراغ مقام القطع ··· 87

الأمر الرابع: في أخذ القطع والظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه ··· 89

في بيان عدم التضادّ بين الأحكام الخمسة ··· 89

رجع إلى بيان حال أخذ القطع في الموضوع ··· 93

تنبيه: في تفصيل المحقّق النائيني بين الظنّ المعتبر والغير المعتبر ··· 97

الأمر الخامس: في الموافقة الالتزامية ··· 103

وفيه مطالب:

الأوّل: في حال الموافقة الالتزامية في الاُصول والفروع ··· 103

الثاني: في كون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام كيفية وكمّية ··· 108

الثالث: جريان الاُصول العقلية أو الشرعية فيما إذا دار الأمر بين المحذورين ··· 110

الأمر السادس: في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطريقي ··· 114

ص: 433

مقالة المحقّق النائيني في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ··· 114

الأمر السابع: في العلم الإجمالي ··· 120

العمدة فيه مقامان:

المقام الأوّل: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ··· 120

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه ··· 120

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعية عند العقل ··· 121

المطلب الثالث: عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي ··· 123

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي ··· 127

لابدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام ··· 127

نقل كلام العلاّمة الحائري ووجوه النظر فيه ··· 130

الأمر الثاني: تصرّف الشارع في كيفية الإطاعة ··· 134

الأمر الثالث: في مراتب الامتثال ··· 137

الكلام في الظنّ

القول في إمكان التعبّد بالظنّ ··· 145

المراد من «الإمكان» في عنوان البحث ··· 145

المحذورات المتوهّمة في التعبّد بالظنّ ··· 147

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ··· 148

تنبيه: في الجواب عن الإشكال بالمصلحة السلوكية ··· 149

المحذور الثاني: محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين ··· 152

وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ··· 156

ص: 434

تنبيه: فيما ذكر الأعلام من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ··· 158

تقريب المحقّق النائيني لوجه الجمع في الأمارات والاُصول ··· 158

ما أفاده المحقّق النائيني في الأمارات ··· 158

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة ··· 165

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول الغير المحرزة ··· 167

تقريب السيّد الفشاركي لوجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ··· 172

القول: في وقوع التعبّد بالظنّ ··· 177

تأسيس الأصل فيما لا يعلم اعتباره ··· 177

البحث عن قبح التشريع وحرمته ··· 179

تتمّة: في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها ··· 185

فصل: في حجّية الظواهر ··· 191

فصل: في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر ··· 198

حجّية قول اللغوي ··· 198

فصل: في حجّية الإجماع المنقول ··· 201

فصل: في حجّية الشهرة الفتوائية ··· 207

فصل: في حجّية خبر الواحد ··· 211

موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه ··· 211

أدلّة عدم حجّية خبر الواحد ··· 218

الاستدلال بالكتاب ··· 218

الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد ··· 223

أدلّة حجّية خبر الواحد ··· 225

الاستدلال بآية النبأ ··· 225

ص: 435

الإشكالات المختصّة بآية النبأ وأجوبتها ··· 229

الإشكالات الغير المختصّة بآية النبأ وأجوبتها ··· 234

الاستدلال بآية النفر ··· 247

الاستدلال بالأخبار على حجّية خبر الواحد ··· 251

الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الخبر الواحد ··· 254

الاستدلال بالعقل على حجّية خبر الواحد ··· 257

الفرق بين الانسداد الكبير والصغير ··· 257

نقل كلام المحقّق النائيني في المقام ووجوه النظر فيه ··· 258

فصل: فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ ··· 272

نقد كلام المحقّق النائيني في المقام ··· 273

دليل الانسداد ··· 283

ترتيب مقدّمات الانسداد ··· 283

توضيح مقدّمات الانسداد ··· 286

بطلان العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق ··· 286

بطلان إهمال الوقائع المشتبهة ··· 287

نقل كلام المحقّق النائيني ونقده ··· 291

بطلان الرجوع إلى فتوى الغير ··· 298

بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة ··· 298

نقل كلام المحقّق الخراساني في المقام ووجوه النظر فيه ··· 298

بطلان الاحتياط في جميع الوقائع ··· 301

إشكالات المحقّق النائيني على المحقّق الخراساني ··· 310

مقتضى المقدّمات هي حجّية الظنّ بالواقع ··· 318

ص: 436

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 401

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 405

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 409

4 - فهرس الأعلام ··· 411

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 417

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 419

7 - فهرس الموضوعات ··· 431

ص: 437

المجلد 2

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 4 انوار الهدایة فی التعلیقة علی الکفایة المجلد 2/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 656ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

صورة

ص: 5

ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين

وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .

ص: 1

ص: 2

المقصد السابع في الاُصول العملية

ص: 3

ص: 4

الاُصول العملية

قوله : «المقصد السابع : في الاُصول العملية . . .»(1) إلى آخره .

ينبغي التنبيه على اُمور :

الأمر الأوّل :في بيان حالات المكلّف وذكر مجاري الاُصول

أنّه قد جرى ديدنهم في أوّل مبحث القطع(1) بتقسيم حالات المكلّف : من أ نّه إمّا أن يحصل له القطع ، أو الظنّ ، أو الشكّ ، وذكرِ مجاري الاُصول ، ولقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام ، والإشكال في الطرد والعكس فيها (2) .

ص: 5


1- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 25 ؛ كفاية الاُصول : 296 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 4 .
2- كان الأولى في ترتيب مباحث الاُصول أن يبحثوا عن القطع بقسميه - التفصيلي والإجمالي - في مبحث ، ويدرجوا فيه بعض مباحث الاشتغال والتخيير ممّا كان الحكم معلوماً إجمالاً بالعلم القطعي ، ثمّ يردفوه بمبحث الظنّ والأمارات ، سواء كانت الأمارة تفصيلية أو إجمالية ، ويدرجوا فيه سائر مباحث الاشتغال والتخيير ، ويدرجوا بحث التعادل والتراجيح في ذيل حجّية الخبر الواحد ، ثمّ يردفوه ببحث الاستصحاب ، ثمّ مبحث البراءة ؛ حتّى يكون ترتيب المباحث حسب ترتيب حالات المكلّف ؛ فإنّه إمّا قاطع بالحكم إجمالاً أو تفصيلاً ، أو ظانّ بظنّ معتبر تفصيلاً أو إجمالاً ، أو شاكّ وقامت حجّة على الحكم الواقعي أو لا ، فالأوّل مبحث القطع بقسميه ، والثاني مبحث الظنّ والطرق بقسميها من التفصيلي والإجمالي ، ومبحث التعادل مناسب لمبحث الظنّ ، والثالث مبحث الاستصحاب ؛ فإنّه حجّة على الحكم الواقعي من غير أن يكون طريقاً ، والرابع مبحث البراءة ، والأمر سهل . [منه قدس سره]

وبعد اللتيّا والتي لا يخلو شيء منها من إشكال أو إشكالات ؛ لأنّ أحسن ما قيل في المقام ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - : من أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم : فإمّا أن يكون قاطعاً به ، أو لا .

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون له طريق منصوب من قِبل الشارع ، أو لا .

وعلى الثاني : إمّا أن يكون له حالة سابقة ملحوظة ، أو لا .

وعلى الثاني : إمّا أن يكون الشكّ في حقيقة التكليف ، أو في متعلّقه .

وعلى الثاني : إمّا أن يتمكّن من الاحتياط ، أو لا(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ المراد بالقطع : إمّا أن يكون قطعاً تفصيلياً ، أو أعمّ منه ومن الإجمالي .

فعلى الأوّل : يرد عليه أوّلاً : أنّ الاختصاص به ممّا لا وجه له ؛ فإنّ المختار عدم الفرق بين القطع التفصيلي والإجمالي في وجوب المتابعة .

ص: 6


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 323 .

وثانياً: بناءً على الاختصاص، لا وجه لذكر القطع الإجمالي في مبحث القطع.

وعلى الثاني : [يحصل تداخل] بينه وبين الشكّ في المتعلّق ؛ فإنّ جميع أقسام الشكّ إنّما هو في مقابل القطع ، والمفروض أ نّه أعمّ من الإجمالي ، فالشكّ في المتعلّق من القطع ، ولا بدّ وأن يذكر في مبحث القطع . هذا حال القطع .

وكذلك الإشكال وارد على الطريق المنصوب من قِبل الشارع إذا عرض الإجمال لمتعلّقه ، فيتداخل مع الشكّ في المتعلّق بما ذكرنا .

وثانياً : أنّ الظاهر من هذا التقسيم أن يكون إجمالاً لما فصّل في الكتاب من المباحث ، فيلزم أن يكون جُلّ مباحث الظنّ - لو لم يكن كلّها - مستطرداً ؛ فإنّ الطريق المنصوب من قِبل الشارع : إمّا مفقود رأساً ؛ بناءً على ما هو الحقّ من أنّ حجّية الخبر الواحد إنّما هي إمضائية لا تأسيسية ، فلا يكون نصب طريق من قِبله أصلاً .

وإمّا مختصّ بخبر الثقة إن قلنا بتأسيسية الحجّية له ، فيكون سائر المباحث استطراداً ، والظنّ على الانسداد لا يكون حجّة شرعية كما عرفت(1) .

وثالثاً : أنّ قيد اللحاظ في الاستصحاب - لأجل تخصيصه بما اعتبره الشارع - يجعله كالضروري بشرط المحمول ، فكأ نّه قيل : المختار في مجرى الاستصحاب ما هو معتبر شرعاً ، وهو كما ترى .

والأولى أن يقال : إنّ هذا التقسيم إجمال المباحث الآتية في الكتاب تفصيلاً ، وبيان لسرّ تنظيم الكتاب على هذه المباحث ؛ فإنّ هذا التنظيم لأجل حالات

ص: 7


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 268 - 269 .

المكلّف بالنسبة إلى الحكم الشرعي ؛ فإنّه لا يخلو من القطع بالحكم أو الظنّ أو الشكّ به ، والشكّ لا يخلو : إمّا أن يكون له حالة سابقة أو لا ، والثاني لا يخلو : إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، والثاني لا يخلو : إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، فرتّبت مباحث الكتاب على حسب حالات المكلّف من غير نظر إلى المختار فيها .

فللقطع مباحث تأتي في محلّها ، وكذلك للظنّ والشكّ بأقسامه ، فلا يرد عليه إشكال ؛ لعدم التداخل بين المباحث وعدم الاستطراد .

نعم يرد عليه : إشكال التداخل بين القطع والشكّ في المتعلّق ؛ فإنّه أيضاً من القطع الإجمالي .

ويمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في مبحث القطع هو حيثية حجّية القطع وما يرتبط بها ، وما ذكر في مباحث الاشتغال هو اُمور اُخر مربوطة بالشكّ ، فلا يتداخلان ؛ لاختلاف اللحاظ ، وعلى ما ذكرنا لا احتياج [إلى] تقييد الحالة السابقة بالملحوظة .

الأمر الثاني : في وجه تقديم الأمارات على الاُصول

في وجه تقديم الأمارات على الاُصول قد أشرنا سابقاً (1) إلى ضابطة الحكومة ، وأ نّها هي كون الدليل الحاكم متعرّضاً للمحكوم نحو تعرّض ولو بنحو اللزوم العرفي أو العقلي ممّا لا يرجع إلى

ص: 8


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 306 - 308 .

التصادم في مرحلة الظهور ، أو كون دليل الحاكم متعرّضاً لحيثية من حيثيات دليل المحكوم ممّا لا يتكفّله دليل المحكوم توسعةً وتضييقاً .

وبما ذكرنا من الضابط يظهر وجه تقديم الأمارات على الاُصول .

لكن لا بدّ من التعرّض لنكتة : وهي أنّ الحكومة لم تكن بين نفس الأمارات والاُصول ، بل تكون بين دليليهما ، فالحكومة إنّما تتقوّم بكيفية التأدية ولسان الدليل ، فلم تكن بين الأدلّة اللبّية الصرفة . نعم قد يكون أحد الدليلين اللبّيين

وارداً على الدليل الآخر اللبّي ، لكنّ الدليل الحاكم لا بدّ وأن يكون دليلاً لفظياً يتصرّف في المحكوم نحو تصرّف ، على ما فصّلناه سالفاً .

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ أدلّة الأمارات مختلفة : فقد يكون دليلها هو البناء العقلائي أو الإجماع ؛ مثل أصالة الصحّة في فعل الغير بناءً على أماريتها ؛ فإنّ دليلها السيرة العقلائية أو الإجماع ، دون الدليل اللفظي ، فتقديم دليلها على الاستصحاب لم يكن بنحو الحكومة ، بل بنحو الورود أو التخصيص أو غير ذلك ، وسيأتي في محلّه(1) .

ومثل أدلّة حجّية خبر الثقة ، فإنّها مختلفة ؛ فإن كان المستند هو مفهوم آية النبأ - بناءً على المفهوم - فلا يبعد أن يكون بنحو الحكومة ؛ لأنّ [مفهوم] قوله : )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهالَةٍ((2) أنّ خبر العادل متبيّن ، ولم يكن الإقدام معه جهالة ، فيقدّم على أدلّة الاُصول التي يكون موضوعها عدم العلم والجهالة .

ص: 9


1- الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 398 و423 - 425 .
2- الحجرات (49) : 6 .

وإن كان المستند هو الأخبار ، فلسان بعضها يكون بنحو الحكومة ، وإن كان غالبها لم تكن بتلك المثابة .

وإن كان المستند هو بناء العقلاء ، فلا يبعد أن يكون التقديم بنحو الورود .

وأمّا أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز : فهي حاكمة على الاستصحاب ولو قلنا بأمارية الاستصحاب ؛ فإنّ أدلّته - بناءً على أماريته - وإن كان لسانها هو إطالة عمر اليقين - كما أشرنا إليه سابقاً (1) - لكن الشكّ أيضاً مأخوذ فيها ، لا بنحو الموضوعية وترتّب الأحكام عليه حتّى يكون أصلاً ، بل اعتبر الشكّ لكن بما أ نّه أمر غير مبرم لا ينقض به اليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم .

وأمّا دليل القاعدة : فمفاده عدم شيئية الشكّ مع التجاوز ، وما كان مفاده عدم الشكّ مقدّم على ما كان مفاده تحقّق الشكّ ، لكن لا يكون بمثابة ينقض به اليقين ؛ فإنّ قوله : «إنّما الشكّ في شيء لم تَجُزْهُ»(2) ، وقوله : «فشكُّك ليس بشيء»(3) لسانهما الحكومة على قوله : «لاتنقض اليقين بالشكّ»(4) ولو قلنا بأمارية الاستصحاب ، ولا غرو في ذلك بعد أن يكون المناط في الحكومة هو لسان الأدلّة ، فتقدّم أمارة على أمارة لأجل ذلك .

ص: 10


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 73 و77 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 101 / 262 ؛ وسائل الشيعة 1 : 469 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 2 .
3- تهذيب الأحكام 2: 352 / 47 ؛ وسائل الشيعة 8: 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 1 .
4- تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

وأمّا إن كان الاستصحاب أصلاً فلا إشكال في حكومة أدلّتها على أدلّته ؛ فإنّ مفاد أدلّة الاستصحاب أ نّه إذا شككت فابنِ على اليقين عملاً ، ورتّب آثار اليقين الطريقي ، فموضوعه الشكّ ، ولسان أدلّة الفراغ والتجاوز هو عدم شيئية الشكّ ، وهو لسان الحكومة ، كما لا يخفى .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الحكومة إنّما تكون بين أدلّة الأمارات والاُصول ، فلا بدّ من ملاحظة الأدلّة وكيفية تأديتها ، فربما لا تكون الحكومة بحسب دليل ، وتكون بحسب دليل آخر ، وربما يكون دليل الأصل حاكماً على دليل الأمارة ، فتدبّر جيّداً .

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه نسب إلى ظاهر كلام الشيخ قدّس سرّه في المقام وفي مبحث التعادل والترجيح : أنّ الوجه في التنافي بين الأمارات والاُصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والاُصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري .

ثمّ ردّه : بأنّ المناطين مختلفان في الجمع والتنافي ، والجمع بين الأمارات والاُصول إنّما هو بالحكومة ، لا بما أفاد الشيخ(1) ، انتهى .

ولا ينقضي منه العجب ، فإنّ كلام الشيخ قدّس سرّه - في المقام وفي مبحث التعادل والترجيح - عارٍ عمّا نسبه إليه ، بل صرّح الشيخ بأنّ وجه تقديم الأمارات على الاُصول هو الحكومة(2) .

وظنّي أنّ المحقّق المعاصر لحسن ظنّه بضبطه وحفظه لم يراجع كلام الشيخ

ص: 11


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 326 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 13 ، و27 : 13 .

حين الإلقاء والتدريس ، والفاضل المقرّر رحمه الله علیه أيضاً لحسن ظنّه بضبط اُستاذه وإتقانه لم يراجع حين التقرير ، فوقعا فيما وقعا ، فراجع كلامهما .

الأمر الثالث : في وحدة مناط البحث في جميع أقسام الشبهات

في وحدة مناط البحث في جميع أقسام الشبهات لا يخفى : أنّ المناط واحد في البحث عن جميع أقسام الشبهات ، موضوعية كانت أو حكمية ، وجوبية أو تحريمية ، تكون الشبهة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، واختصاص بعض الأقسام بالخلاف دون غيره ، أو بحكم من دليل خارج ، لا يوجب إفراد البحث فيها ؛ ضرورة أنّ ذلك خارج عمّا هو مناط البحث ، فالأولى عدم إفراد البحث فيها ، وعطف النظر إلى ما هو محطّ الكلام ومناط البحث إشكالاً وحلاًّ ودليلاً . نعم بعض الأدلّة عامّ لجميع الشبهات وبعضها مخصوص ببعضها .

ص: 12

حول استدلال الاُصوليّين على البراءة

إذا عرفت ذلك ، فقد استدلّ على البراءة بالأدلّة الأربعة :

الاستدلال بالكتاب

أمّا الكتاب فبآيات :

منها : قوله تعالى : )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً((1) .

وتقريب الاستدلال بها على وجه يدفع الإشكالات عنها أن يقال : إنّه لا إشكال في أنّ المتفاهم العرفي من الآية الشريفة - ولو بمناسبة الحكم والموضوع - أنّ بعث الرسل يكون طريقاً إلى إيصال التكاليف إلى العباد ، لا أنّ له جهة موضوعية - خصوصاً مع انتخاب لفظ الرسول المناسب للرسالة والتبليغ - فلو فرضنا أ نّه تعالى بعث رسولاً ، لكنّه لم يبلّغ الأحكام [إلى] العباد في شطر من

ص: 13


1- الإسراء (17) : 15 .

الزمان لجهة من الجهات ومصلحة من المصالح ، لا يمكن أن يقال : إنّه تعالى يعذّبهم لأ نّه بعث الرسول ؛ ضرورة أنّ المتفاهم من الآية أنّ البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجّة يكون غاية لعدم التعذيب ، وهذا واضح .

وكذا لو فرضنا أ نّه بلّغ بعض الأحكام دون بعض ، كان التعذيب بالنسبة إلى ما لا يبلّغه مخالفاً للوعد في الآية الشريفة ، وكذا لو فرض أ نّه بلّغ إلى أهل بلد خاصّ دون سائر البلدان ، وانقطع بالنسبة إليها لأجل حوادث ، أو بلّغ جميع الأحكام إلى جميع البلدان في عصره ، ثمّ عرض الاشتباه ، وانقطع وصول التبليغ على ما هو عليه بالنسبة إلى سائر الأعصار ؛ فإنّ في جميع تلك الصور يفهم عرفاً من الآية الشريفة : أنّ الغاية - التي هي إيصال الأحكام إلى العباد وإتمام الحجّة عليهم - لم تحصل ، فكما أنّ مجرّد وجود الرسول بين الاُ مّة قبل تبليغه الأحكام لا يصحّح العقاب ، كذلك التبليغ الغير الواصل إلى العباد في حكم عدم التبليغ في ذلك عند العقل والعرف .

فإذا اشتبه حكم موضوع ، وعمل العبد ما تقتضي وظيفته من التفتيش والفحص ، ولم يصل إلى حكم المولى ، ولم يكن له علم إجمالي أو تفصيلي بالإلزام ، يكون مشمولاً لقوله تعالى : )مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً( ؛ لما

عرفت : من أنّ البعث ليس له جهة موضوعية ، بل هو لأجل إيصال الحكم إلى العباد جعل غاية للوعد بحسب الفهم العرفي .

فما أفاده بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - من أنّ مفاد الآية أجنبيّ عن البراءة ؛ فإنّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ، فلا دلالة لها على حكم مشتبه

ص: 14

الحكم من حيث إنّه مشتبه(1) - ليس في محلّه ؛ لأنّ المشتبه الذي لم يصل حكمه من اللّه تعالى إلى العباد بعد الفحص مشمول للآية : إمّا بما ذكرنا من أنّ البعث كناية عن إيصال الحكم ، أو بإلغاء الخصوصية بنظر العرف بمناسبة الحكم والموضوع .

ثمّ اعلم أنّ التعبير بقوله : )مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ . . .( دون قوله : «ما عَذّبنا . . .» ممّا يشير إلى معنىً آخر بحسب المتفاهم العرفي : وهو أنّ التعذيب قبل البيان منافٍ لمقام الربوبية ، وأ نّه تعالى أجلّ من أن يعذّب قبل تبليغ الحكم إلى العباد وإتمام

الحجّة عليهم ، فكأ نّه تعالى قال : ما كُنّا مرتكبين لهذا الأمر الذي ينافي مقامنا الأرفع وجنابنا الأمنع .

ومن هذا التركيب والبيان : إمّا أن يفهم عرفاً أنّ التعذيب قبل البيان منافٍ لمقام عدله ، ويكون أمراً قبيحاً مستنكراً منه تعالى كما لا يبعد ، وإمّا أن يفهم أ نّه منافٍ لمقام رحمته ولطفه بالعباد .

فعلى الأوّل : يفهم منه عدم الاستحقاق أيضاً ؛ فإنّه مع الاستحقاق لا يكون التعذيب منكراً منافياً لعدله تعالى ، وحينئذٍ يكون الاستدلال بها للبراءة ممّا لا إشكال فيه .

وعلى الثاني : لا يفهم منه إلاّ رفع فعلية العقاب ، وهو لا ينافي الاستحقاق .

فاُورد على الاستدلال بها :

تارةً : بأ نّها مربوطة بنفي تعذيب الاُمم السالفة قبل بعث الرسل(2) فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه .

ص: 15


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 333 - 334 .
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 22 .

واُخرى : بأنّ الاستدلال بها لما نحن فيه متقوّم بكونها في مقام نفي الاستحقاق ، لا نفي الفعلية ؛ لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه وعدمه ، لا في فعلية العقاب(1) .

هذا ، ويرد على الإشكال الأوّل : أوّلاً : بمنع كونها مربوطة بالاُمم السالفة ، بل الظاهر من الآيات المتقدّمة عليها أ نّه عند الحساب يقال للإنسان الذي اُلزم طائره في عنقه : )اقْرَأ كِتَابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً((2) وترى أنّ الجزاء على ميزان العدل ، من غير أن تزر وازرة وزر اُخرى ، ومن غير أن يكون التعذيب بلا تمامية التبليغ وإرسال الرسول وإيصال التكليف ، فلا دلالة فيها على كونها راجعة إلى الاُمم . ولا دلالة لقوله : )مَا كُنَّا( بصيغة الماضي على ذلك ؛ فإنّ النظر إلى يوم الحساب ، ويعتبر المضي بالنسبة إليه ، ولذا قال : )وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلزَمْناهُ طائِرَهُ((3) مع أنّ زمان صدور الآية لم يكن كذلك إلاّ بتأويل .

وثانياً : لو سلّم بأنّ موردها نفي تعذيب الاُمم السالفة ، لكن يفهم منها - ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، وكيفية التعبير - أنّ التعذيب قبل البيان منافٍ لمقامه الشامخ ، وهو منّة ثابتة وسنّة جارية إلى نفخ الصور ، فهل ترى أ نّه تعالى رفع العقوبة الدنيوية - من مثل تسليط الوزغة في أيّام معدودة محدودة - منّة على عباده ، ثمّ أخبر بأنّ ذلك ؛ أي هذه التعذيبات اليسيرة ، منافية لمقام رحمته وإفضاله ، ثمّ عذّب العباد قبل البيان بالنار التي تطّلع على الأفئدة وبأنواع

ص: 16


1- الفصول الغروية : 353 / السطر 7 ؛ كفاية الاُصول : 385 .
2- الإسراء (17) : 14 .
3- الإسراء (17) : 13 .

العقوبات العجيبة الخالدة الاُخروية ؟ !

وبالجملة : يفهم من الآية - ولو بإلقاء الخصوصية ومؤنة مناسبة الحكم والموضوع - أنّ التعذيب قبل البيان لم يقع ، ولا يقع أبداً .

وعلى الإشكال الثاني : أنّ توقّف الاستدلال بها على ما ذكر - وكون النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقوبة لا فعليتها - غير مسلّم ؛ فإنّ نزاع الاُصولي والأخباري إنّما هو في لزوم الاحتياط في الشبهات وعدمه ، وبعد ثبوت المؤمّن من قِبل اللّه لا نرى بأساً في ارتكابها ، فشرب التتن المشتبه حرمته إذا كان ارتكابه ممّا لا عقاب فيه - ولو بمؤمّن شرعي وترخيص إلهي - ليس في ارتكابه محذور عند العقل .

وبالجملة : رفع العقوبة الفعلية وحصول المؤمّن من عذاب اللّه يكفي القائل بالبراءة في تجويز ارتكاب الشبهات وإن لم يثبت بها الإباحة ، ولذا ترى يستدلّون بحديث الرفع وأمثاله للبراءة ولو مع تسليم كون مفاده رفع المؤاخذة(1) .

وبما ذكرنا من تقريب الاستدلال يظهر : أ نّه لا وقع لما زعمه الأخباريون من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع(2) بل لا وقع لكثير ممّا ذكر في المقام إشكالاً ودفعاً ، تدبّر .

كما يظهر - ممّا قرّبنا [به] وجه الدلالة - أ نّها أظهر الآيات التي استدلّ بها في المقام .

ص: 17


1- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 29 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 443 .
2- الفوائد الحائرية : 373 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 23 .

نعم ، لا يزيد دلالة الآية هذه - كما أفاد الشيخ الأعظم(1) - على حكم العقل ، فلو دلّ دليل على لزوم التوقّف أو الاحتياط يكون وارداً عليها ، كما لا يخفى .

وقد استدلّ بآيات اُخر :

منها : قوله تعالى : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا((2) .

والاستدلال بها يتوقّف على كون المراد من الموصول التكليف ، ومن الإيتاء الإيصال والإعلام ، أو كون الموصول والإيتاء مستعملين في معنى أعمّ شامل للتكليف والإيصال .

وأنت خبير : بأنّ إرادة خصوص التكليف منه مخالف لمورد الآية وما قبلها وبعدها ، وهو قوله تعالى : )لِيُنْفِقْ ذُوسَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه ُ لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّه ُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (

وهو - كما ترى - آبٍ عن الحمل المذكور .

نعم ، الظاهر أنّ قوله : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا( هو الكبرى الكلّية بمنزلة الدليل على ما قبلها ، وهي أنّ اللّه تعالى لا يُكلّف نفساً إلاّ بشيء أعطاها وأقدرها عليه ، كما يظهر من استشهاد الإمام علیه السلام بها حين سئل عن تكليف الناس بالمعرفة(3) فإنّ العرفان باللّه - وهو العلم الشهودي الحضوري بوجوده الخارجي - لا يمكن للعباد إلاّ بإقداره وتأييده تعالى، ومطلق العلم بوجود صانع للعالم - الذي هو فطري - لا يكون معرفة وعرفاناً ، والتعبير عن الإقدار

ص: 18


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 25 و27 .
2- الطلاق (65) : 7 .
3- الكافي 1 : 163 / 5 .

- لإعطاء الكبرى - بالإيتاء الذي بمعنى الإعطاء ، لا يبعد أن يكون للمناسبة والمشاكلة مع قوله - قبيل ذلك - : )فَليُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّه ُ( .

وأمّا كون الموصول أعمّ من التكليف فالظاهر عدم إمكانه ؛ لأنّ نحو تعلّق الفعل بالمفعول المطلق - أعمّ من النوعي منه وغيره - يباين نحو تعلّقه بالمفعول مع الواسطة ؛ أي المنصوب بنزع الخافض أو المفعول به ؛ لعدم الجامع بين التكليف والمكلّف به بنحوٍ يتعلّق التكليف بهما على نعت واحد ؛ فإنّ البعث لا يصير مبعوثاً إليه ، ولا العكس ، وفي قوله تعالى : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا(تكون كلمة النفس مفعولاً به ، والموصول منصوباً بنزع الخافض - على الظاهر - أو المفعول به ، ولا يمكن أن يكون الموصول هو المعنى الأعمّ الشامل له وللمفعول المطلق - نوعياً كان أو غيره - لأنّ المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل - إمّا نوعاً منه أو غيره - والمفعول به ما يقع الفعل عليه ، ولا جامع بينهما ، كما لا جامع بين المفعول المطلق والمنصوب بنزع الخافض في المقام(1) .

ص: 19


1- والعجب من بعض أهل التحقيق ؛ حيث زعم رفع الإشكال : بأنّ الموصول لم يستعمل إلاّ في معناه الكلّي العامّ ، وأنّ إفادة الخصوصيات إنّما هي بتوسيط دالّ آخر خارجي ، وكذا في تعلّق الفعل بالموصول ؛ حيث لا يكون إلاّ نحو تعلّق واحد ، والتعدّد بالتحليل إلى نحو التعلّق بالمفعول به والمفعول المطلق لا يقتضي تعدّده بالنسبة إلى الجامع ؛ أي الموصول ، غاية الأمر يحتاج إلى تعدّد الدالّ والمدلولأ ، انتهى . وأنت خبير بما فيه ؛ فإنّ مباينة نحو تعلّق الفعل بمفعول به - أي المبعوث إليه - وبمفعول مطلق ؛ بحيث يكون أحدهما مفروض الوجود قبل الفعل ، والآخر من كيفيات نفس الفعل ، تمنع عن إرادتهما باستعمال واحد . والمراد من تعدّد الدالّ والمدلول إن كان دالّين آخرين ومدلولين آخرين غير مفاد الآية ، فهو كما ترى ، وإن كان القرينتين الدالّتين على المعنى المراد منها ، فمع عدم إمكان إرادتهما منها معاً لا معنى لإقامة القرينة ، والجامع بينهما مفقود ، بل غير ممكن ؛ حتّى تكون الخصوصيات من مصاديقه . نعم ، لو كان المراد من التكليف هو المعنى اللغوي - أي الكلفة والمشقّة - لأمكن تعلّقه بالحكم تعلّق المفعول به ، فيرتفع الإشكال كما أفاد . لكن بعد إمكان إرادة الجامع الانتزاعي لا يجوز التمسّك بالإطلاق على المطلوب ، لا لما أفاد من أنّ القدر المتيقَّن في مقام التخاطب مانع منه(ب) ؛ فإنّه غير مانع ، كما حقّق في محلّه (ج) . ولا من جهة ما أفاد أيضاً تبعاً للشيخ(د) : من أنّ مفاد الآية مساوق لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فلا يضرّ الأخباري ؛ لإثباته الكلفة من جهة جعل إيجاب الاحتياط(ه) ؛ لأنّ جعل الاحتياط لأجل حفظ التكاليف الواقعية ينافي سوق الآية ؛ حيث منّ اللّه تعالى على المكلّفين بأن لم يجعلهم في الضيق والكلفة [من جهة] التكليف إلاّ مع الإيصال ، والاحتياط ضيق بلا إيصال بالضرورة ؛ لأ نّه لم يكن طريقاً إلى الواقع ، فالاحتياط في الشبهات البدوية - على فرض وجوبه - كلفة من قبل اللّه من غير إيصال الواقعيات ، وهو منافٍ للآية . ولا لما أفاد ثالثاً : بأنّ سوق الآية يكون مساق قوله : «إنّ اللّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً»(و ) فكانت دلالتها ممحّضة في نفي الكُلفة عمّا لم يوصل علمه إلى العباد لمكان سكوته وعدم بيانه(ز ) ؛ ضرورة أنّ ذلك بعيد عن مساق الآية غاية البعد ، بل تعرّض لمثل ما هو ضروري ، فيرجع مفاد الآية : بأنّ اللّه لا يكلّف نفساً بما هو ساكت عنه ولم يكلّف العباد ، وهو كما ترى . بل عدم جواز التمسّك بالإطلاق لأنّ الاحتجاج بالإطلاق إنّما هو بعد ظهور اللفظ ودلالته ، وحينئذٍ لو جعل طبيعة دالّة على معنى موضوعاً لحكم ، واحتملنا دخالة قيد في الحكم بحسب اللبّ والجدّ ، لدفع الاحتمال بأصالة الإطلاق ، وفي مثل المقام الذي لا يثبت ظهور اللفظة - وأ نّه هل أراد المعنى الجامع الانتزاعي الذي نحتاج في تصوّر إرادته إلى تكلّف ، أو أراد أحد المعاني الاُخر - لا مجال للتمسّك بالإطلاق ، كما لا يخفى . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 202 - 203 . ب - نهاية الأفكار 3 : 203 - 204 . ج - مناهج الوصول 2 : 290 . د - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 27 . ه- - نهاية الأفكار 3 : 204 . و - الفقيه 4 : 53 / 193 ؛ وسائل الشيعة 27 : 175 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 68 . ز - نهاية الأفكار 3 : 204 .

ص: 20

مضافاً إلى أنّ مجرّد الإمكان لا يوجب ظهور اللفظ ، ولا إشكال في أنّ الظاهر - بمناسبة الصدر والذيل في الآية الشريفة - هو أنّ [مفاد] قوله : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا( أ نّه لا يكلّف نفساً إلاّ بما أقدرها عليه وأعطاها .

كلام المحقّق النائيني في المقام

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أنّ المراد بالموصول خصوص المفعول به ، ويكون مع ذلك شاملاً للتكليف وموضوعه ، وأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه ، وأنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعله مفعولاً به بنحو من العناية ، وأنّ الوجوب والتحريم يصحّ تعلّق التكليف بهما

ص: 21

باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري(1) ، فراجع كلامه(2) فإنّه لا يخلو من تكلّف أو تكلّفات .

وأمّا ما أفاده بقوله «ثانياً» - في مقام الإشكال على دلالة الآية من الخدشة في دلالتها بعد تسليم كون الموصول بمعنى التكليف ، والإيتاء بمعنى الإيصال والإعلام - : بأنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو أنّ المؤاخذة لا تحسن إلاّ بعد بعث

الرسل وتبليغ الأحكام ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث والإنزال وعروض اختفاء التكليف بما لا يرجع إلى الشارع ، فالآية لا تدلّ على البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالى : )مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً((3)(4) .

فقد عرفت ما فيه عند تقرير دلالة هذه الآية . مع أ نّه بعد التسليم المذكور في الآية يكون دلالتها على البراءة ظاهرة غير محتاجة إلى ما قرّرنا في آية : )مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ . . .( من إلقاء الخصوصية وغيره من البيان ، كما لا يخفى .

ص: 22


1- لا يخفى أنّ كلامه هذا مع عدم رجوعه إلى محصّل - ضرورة أنّ تعلّق البعث بالبعث بنحو المفعول به لا معنى له - أنّ لازمه الجمع بين الاعتبارين المتنافيين ؛ فإنّ حاصل المصدر في رتبة متأخّرة عن المصدر ، والمفعول به في الاعتبار مقدّم على المصدر ؛ لأ نّه إضافة إليه ، فيلزم ممّا ذكره اعتبار المتأخّر في الاعتبار متقدّماً بالاعتبار في حال كونه متأخّراً ، فتدبّر . [منه قدس سره]
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 332 .
3- الإسراء (17) : 15 .
4- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 3 : 333 .

الاستدلال بالسنّة على البراءة

حديث الرفع

حديث الرفع(1)

قوله : «وأمّا السنّة فروايات : منها : حديث الرفع»(2) .

تقريب الاستدلال به واضح ، فالمهمّ بيان اُمور يتمّ بها ما يستفاد من الحديث الشريف :

الأمر الأوّل : في شمول الحديث للشبهات الحكمية

قد استشكل في الاستدلال به للشبهات الحكمية التي [هي] محلّ البحث بوجوه :

أحدها : أنّ دلالة الاقتضاء تقتضي تقديراً في الكلام ؛ لشهادة الوجدان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج ، وكذا غيرهما ، فلا بدّ من تقدير أمر صوناً لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية ، والظاهر أنّ المقدّر هو المؤاخذة ، وهي في «ما لا يطيقون» و«ما اضطرّوا إليه» و«ما استكرهوا عليه» على نفس هذه المذكورات ، ولو قلنا بشمول الموصول في «ما لا يعلمون» الحكمَ أيضاً ، لما

ص: 23


1- الخصال : 417 / 9 ؛ التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .

أمكن مثل هذا التقدير ؛ إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحكم ، فيخصّص بالشبهة الموضوعية(1) .

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - : بأ نّه لا حاجة إلى التقدير ؛ فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي ، أو كان الرفع رفعاً تكوينياً ، فلا بدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب ، وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعياً فالكلام يصحّ بلا تقدير ؛ فإنّ الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي(2) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه ؛ فإنّ الفرق بين الإخبار والإنشاء في احتياج أحدهما إلى التقدير دون الآخر في غاية السقوط ؛ فإنّ المصحّح لنسبة الرفع إلى المذكورات إن كان متحقّقاً ، يخرج الكلام عن اللغوية والبطلان إخباراً كان أو إنشاءً ، كما يخرج الإخبار عن الكذب ، وإلاّ يصير الكلام لغواً باطلاً إنشاءً كان أو إخباراً ، والإخبار يصير كذباً ، ففي كُلّ مورد تصحّ النسبة إلى غير ما هو له ادّعاءً تصحّ في الإخبار والإنشاء ، فيصحّ الإخبار بأنّ الشارع رفع ما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه ، كما يصحّ الإنشاء ، وإلاّ فلا يجوز في الإخبار والإنشاء(3) .

ص: 24


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 28 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 342 .
3- مضافاً إلى منع كون حديث الرفع إنشاء ، بل هو إخبار عن الواقع الثابت وهو رفع اللّه تعالى هذه التسعة منّةً على هذه الاُمّة ، وليس رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مشرّعاً حتّى يحمل إخباره على الإنشاء . مع أنّ الإخبارات التي تكون بدواعي الإنشاءات لا تنسلخ عن الإخبارية ، ولا تكون من قبيل استعمال الإخبار في الإنشاء ، بل تكون باقية على إخباريتها ، ويكون الإخبار بداعي البعث ، كما هو الحال في الاستفهام بداعي أمر آخر ، فخروجها عن الكذب إنّما هو لأجل تلك الدواعي . [منه قدس سره]

هذا ، وأمّا رفع أصل الشبهة فكما قال : بأ نّه لا يحتاج إلى التقدير ، لكن لا بما أفاده : من أنّ الرفع رفع تشريعي فلا يحتاج إلى التقدير ؛ فإنّه - مع كونه خلاف الاصطلاح - لا محصّل له ؛ فإنّه يرجع إلى رفع الآثار والأحكام الشرعية ، وهو عين التقدير ، بل بمعنى أنّ الرفع رفع ادّعائي ، وادّعاء ما لا يقبل الرفع ممّا يقبله .

اللهمّ إلاّ أن يرجع الرفع التشريعي إلى ذلك ، فيرد عليه : أنّ ذلك خلاف اصطلاح علماء فنّ البيان .

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ نسبة الرفع إلى المذكورات غير محتاجة إلى التقدير ، بل هذه النسبة حقيقة ادّعائية سيأتي مصحّحها (1) إن شاء اللّه .

ثانيها : أنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الموضوع المشتبه ؛ لأنّ المراد من الموصول في «ما استكرهوا عليه» و«ما لا يطيقون» و«ما اضطرّوا إليه» هو الفعل الخارجي ، لا الأحكام الشرعية ؛ لعدم عروض هذه العناوين لها ، فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية(2) .

ثالثها : أنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له ، وإسناده إلى الموضوع

ص: 25


1- يأتي في الصفحة 30 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 28 .

إلى غير ما هو له ، ولا جامع بين الحكم والموضوع ، ولا يجوز أن يراد كلّ منهما مستقلاًّ ؛ لاستلزام استعمال اللفظ في معنيين ، فلا بدّ أن يراد من الموصول في الكلّ الشبهات الموضوعية ؛ لوحدة السياق(1) .

وأجاب عنهما المحقّق المتقدّم - على ما في تقريرات بحثه - : بأنّ المرفوع في جميع التسعة إنّما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير «ما لا يعلمون» إلى الأفعال الخارجية لأجل أنّ تلك العناوين إنّما تعرض الأفعال الخارجية لا الأحكام ، وإلاّ فالمرفوع هو الحكم الشرعي في الجميع ، وهو الجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، ومجرّد اختلاف منشأ الجهل في الشبهات لا يقتضي الاختلاف فيما اُسند الرفع إليه؛ فإنّ الرفع قد اُسند إلى عنوان «ما لا يعلمون» ولمكان أنّ الرفع التشريعي لا بدّ وأن يرد على ما يكون قابلاً للوضع والرفع الشرعي ، فالمرفوع هو الحكم الشرعي في الشبهات الحكمية والموضوعية ، فكما أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعمّ كلا المشتبهين بجامع واحد ، كذلك قوله : «رُفع عن اُمّتي تسعة أشياء»(2)، انتهى .

وفيه : أنّ كون المرفوع بحسب الواقع هو الحكم ، لا يفي بردّ الإشكالين ؛ لأنّ مناط الإشكال الأوّل : أنّ الموصول في أخوات «ما لا يعلمون» إذا كان الأفعال الخارجية والموضوعات ، فوحدة السياق تقتضي أن يراد في «ما لا يعلمون» أيضاً الموضوع الخارجي الغير المعلوم ، فيختصّ بالشبهات الموضوعية ، فكون

ص: 26


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 190 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 345 .

رفع تلك العناوين بلحاظ رفع أحكامها وآثارها أجنبيّ عن الإشكال .

ومنه يعلم ما في جوابه عن ثاني الإشكالين ؛ لأنّ مناطه إنّما هو في الإسناد بحسب الإرادة الاستعمالية ؛ فإنّ الإسناد إلى الحكم إسناد إلى ما هو له ، دون الموضوع ، فلا بدّ أن يراد في جميعها الموضوع ؛ حتّى يكون الإسناد مجازياً في الجميع ، فكون المرفوع بحسب الجدّ هو الحكم الشرعي أجنبيّ عن الإشكال .

والتحقيق في الجواب : هو ما أفاد شيخنا العلاّمة قدّس سرّه :

أمّا عن الأوّل : فلأنّ عدم تحقّق الاضطرار والإكراه في الأحكام لا يوجب التخصيص في قوله : «ما لا يعلمون» ولا يقتضي السياق ذلك ؛ فإنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظة سعة متعلّقه وضيقه ، فقوله : «ما اضطرّوا إليه» اُريد منه كلّ ما اضطرّ إليه في الخارج ، غاية الأمر لم يتحقّق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم ، فيقتضي اتّحاد السياق أن يراد من قوله : «ما لا يعلمون» أيضاً كلّ فرد من أفراد هذا العنوان .

ألا ترى أ نّه إذا قيل : «ما يؤكل وما يرى» في قضيّة واحدة ، لا يوجب انحصارُ أفراد الأوّل في الخارج ببعض الأشياء تخصيصَ الثاني بذلك البعض، وهذا واضح جدّاً (1) .

ص: 27


1- وإن شئت قلت : إنّ الموصول في تمام الفقرات مستعمل في معناه ، وكذا الصلات ، ولا يكون شيء منها مستعملاً في المصاديق الخارجية ، والاختلاف بينها إنّما هو في تطبيق العناوين على الخارجيات ، وهو غير مربوط بمقام الاستعمال ووحدة السياق ، وكثيراً ما يقع هذا الخلط ؛ أي بين المستعمل فيه وما ينطبق عليه ، كما في باب الإطلاق ؛ حيث توهّم إفادة العموم لأجل الخلط بين الدلالة وانطباق المدلول على الخارج . وأمّا ما أفاد بعضهم من إنكار وحدة السياق في الحديث أوّلاً ؛ لشهادة الطِيرة والحسد والوسوسة ، مع أ نّها ليست من الأفعال ، وبلزوم ارتكاب خلاف وحدة السياق لو اُريد الشبهة الموضوعية ثانياً ؛ لأنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» هو ما كان بنفسه غير معلوم ، كما في غيره من العناوين ؛ حيث كان الموصول فيها معروضاً للأوصاف ، مع أنّ تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا الظهور ؛ إذ لا يكون الفعل بنفسه معروضاً للجهل ، وإنّما المعروض هو عنوانه ، ولازم ذلك حفظاً لظهور السياق أن يحمل الموصول على الشبهات الحكمية فقط ؛ للترجيح العرفي بين السياقينأ ، انتهى . ففيه أوّلاً : أنّ المدّعى وحدة السياق في الموصولات ، لا جميع الفقرات . وثانياً : أنّ الفقرات الثلاث أيضاً يراد بها الأفعال ، غاية الأمر أ نّها من قبيل الأفعال القلبية ، ولهذا تقع مورداً للتكليف ، فالحسد عمل قلبي ، هو تمنّي زوال النعمة عن الغير ، والطيرة مصدر ، وهي عمل قلبي ، وهكذا الوسوسة . وثالثاً : أنّ الشرب مجهول حقيقةً ، وإن كانت الإضافة صارت موجبة لتعلّق الجهل به ، فالعنوان من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض ، ومثله لا يكون خلاف الظاهر والسياق . ورابعاً : بعد التسليم لا يوجب ذلك الاختصاص بالشبهة الحكمية ؛ لأنّ الرفع ادّعائي ، ويجوز تعلّقه بنفس الموضوع ، فيدّعى رفع الخمر بلحاظ آثاره ، فلا وجه للاختصاص بالشبهة الحكمية . وقد يقال باختصاص الحديث بالشبهة الحكمية ؛ لأنّ الموضوعات الخارجية غير متعلّقة للأحكام ، وإنّما هي متعلّقة بنفس العناوين ، فرفع حكم عن الموضوعات المشتبهة فرع وضع الحكم لها ، وهو ممنوع . وفيه أوّلاً : أ نّه منقوض بسائر العناوين ؛ فإنّ الاضطرار والإكراه إنّما يحصلان في الموضوع ، كالطلاق المكره [عليه] مع أ نّه مشمول للحديث بلا إشكال ، كما في صحيح البزنطي(ب) . وثانياً : أنّ الحديث رَفَع الحكمَ عن العناوين ، كالبيع المكره [عليه] والشرب المضطرّ إليه ، والخمر المجهول حكماً أو موضوعاً ، إلاّ أنّ معنى رفع الحكم هو رفع إيجاب الاحتياط ، أو رفع الفعلية ، أو رفع المؤاخذة ، على اختلاف المسالك ، ورفع الموضوع كذلك إن لم نقل برفع الحكم عن الموضوع المجهول حقيقةً كما في سائر العناوين ، والظاهر عدم التزامهم به في بعض الموارد . [منه قدس سره ] أ - نهاية الأفكار 3 : 216 . ب - المحاسن : 339 / 124 ؛ وسائل الشيعة 23 : 226 ، كتاب الأيمان ، الباب 12 ، الحديث 12 .

ص: 28

وأمّا عن الثاني : فإنّ الأحكام الواقعية إن لم تكن قابلة للرفع وتكون باقية على فعليتها في حال الجهل ، يكون الإسناد في كلّ العناوين إسناداً إلى غير ما هو له ، وإن كانت قابلة للرفع يكون الإسناد إلى «ما لا يعلمون» إسناداً إلى ما هو له ، وإلى غيره إلى غير ما هو له ، ولا يلزم محذور ؛ لأنّ المتكلّم ادّعى قابلية رفع ما لا يقبل الرفع تكويناً ، ثمّ أسند الرفع إلى جميعها حقيقةً(1) .

وبعبارة اُخرى : جعل كلّ العناوين - بحسب الادّعاء - في رتبة واحدة وصفّ واحد في قبولها الرفع ، وأسند الرفع إليها حقيقة ، فلا يلزم منه محذور .

ص: 29


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 441 - 442 .

الأمر الثاني : في معنى الرفع في الحديث

قيل : إنّ الرفع في الحديث الشريف بمعنى الدفع أو الأعمّ منه ، لا بمعناه الحقيقي ؛ لعدم تحقّقه في بعض تلك العناوين(1) .

والتحقيق : أ نّه فيه إنّما هو بمعناه الحقيقي ، وهو إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه ؛ وذلك لأنّ الرفع إنّما نسب إلى نفس تلك العناوين ؛ أي الخطأ والنسيان . . . إلى آخر التسعة ، وهي عناوين متحقّقة قد نسب الرفع إليها ادّعاءً ، ومصحّح هذه الدعوى بحسب الواقع والثبوت كما يمكن أن يكون رفع الآثار ، يمكن أن يكون دفع المقتضيات عن التأثير ؛ لأنّ رفع الموضوع تكويناً كما يوجب رفع الآثار المترتّبة عليه والمتحقّقة فيه ، كذلك يوجب عدم ترتّب الآثار عليه بعد رفعه وإعدامه ، ولذلك يجوز نسبة الرفع إلى الموضوع ادّعاءً بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع المقتضي عن التأثير ؛ وذلك لا يوجب أن يكون الرفع المنسوب إلى الموضوع بمعنى الدفع ، ولذا ترى أنّ تبديل الرفع بالدفع يخرج الكلام عن البلاغة ، فإذا قيل : دفع النسيان والخطأ إلى غير ذلك ، يصير الكلام بارداً مبتذلاً .

هذا كلّه إذا نسب الرفع إلى نفس تلك العناوين ادّعاء من غير تقدير في الكلام ، كما هو التحقيق .

ص: 30


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 444 .

ولو سلّمنا بأنّ التقدير رفع الأحكام والآثار أمكن أن يقال أيضاً : إنّه بمعناه الحقيقي لا بمعنى الدفع : أمّا في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه فالأمر واضح ؛ لشمول أدلّة الأحكام - إطلاقاً أو عموماً - مواردها ، فقوله تعالى : )والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما((1) و)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ((2) يشمل جميع المكلّفين ولو كانوا منطبقين للعناوين المذكورة ، فدليل الرفع إنّما يرفع الأحكام عنهم ، فالرفع إنّما تعلّق بالأحكام الثابتة المتحقّقة في الموضوعات بحسب الإرادة الاستعمالية ، وإن كان كلّ رفع بحسب الإرادة الاستعمالية دفعاً بحسب اللبّ ، كما أنّ كلّ تخصيص تخصّص لبّاً ، ولكن ذلك لا يوجب أن يكون الرفع بمعنى الدفع ، والتخصيص والحكومة بمعنى التخصّص ؛ وذلك لأنّ مناط حسن الاستعمال هو الإرادة الاستعمالية وحصول المناسبات في تلك المرحلة ، فالرفع إنّما استعمل باعتبار رفع الحكم القانوني العامّ عن منطبق هذه العناوين ، ولا معنى للدفع في هذا المقام .

نعم ، بناءً على عدم جواز خطاب الناسي يكون الرفع في الأحكام التكليفية البعثية بالنسبة إليه في غير مورده بناءً على هذا الوجه .

هذا ، وأمّا في الطيرة والحسد والوسوسة في الخلق ، فالظاهر أنّ استعمال الرفع فيها أيضاً بمعناه الحقيقي ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الحديث الشريف - من

ص: 31


1- المائدة 5 : 38 .
2- النور (24) : 2 .

اختصاص رفع التسعة بالاُ مّة المرحومة - أنّ لتلك العناوين كانت أحكام في الاُمم السالفة ، ومعلوم أنّ الأحكام الصادرة عن الأنبياء المشرّعين - على نبيّنا وآله وعليهم السلام - لم تكن بحسب الوضع القانوني والإرادة الاستعمالية مقيّدةً بزمان ومحدودة بحدّ ، بل كان لها الإطلاق أو العموم بالنسبة إلى جميع الأزمنة ، وبهذا الاعتبار يقال : إنّها منسوخة ، وإن لم يكن بحسب اللبّ نسخ ورفع ، بل كان أمدها وأجلها إلى حدّ محدود ، فإذا كان للأحكام المترتّبة على تلك الموضوعات إطلاق أو عموم بالنسبة إلى جميع الأزمنة ، يكون استعمال الرفع فيها بمعناه الحقيقي ، ولا يكون للدفع معنى بالنسبة إليها إلاّ بحسب اللبّ والواقع ، وهو ليس مناط صحّة الاستعمالات .

ولا يخفى : أنّ هذا الوجه يأتي بالنسبة إلى جميع العناوين ؛ فإنّ الظاهر أنّ لجميعها أحكاماً رفعت عن هذه الاُ مّة امتناناً ، ولولا ذلك كانت ثابتة لها كالتي قبلها .

وأمّا في «ما لا يعلمون» بالنسبة إلى الشبهات الحكمية : فإن قلنا بإطلاق الأحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل - كما هو التحقيق ، وأشرنا إليه فيما سلف(1) - فالأمر واضح .

وإن قلنا بعدم الإطلاق فلا إشكال في قيام الإجماع بل الضرورة على اشتراكهما في الحكم ، فبهذا الاعتبار يصحّ استعمال الرفع فيه ، تأ مّل .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الرفع إنّما هو بمعناه الحقيقي ، سواء قلنا بتقدير

ص: 32


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 61 و154 .

الأحكام - كما قيل(1) - أو لا ، كما هو التحقيق .

وبما حقّقناه يظهر النظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - من أنّ الرفع في الأشياء التسعة بمعنى الدفع ، مضافاً إلى ما ادّعى من أنّ استعمال الرفع مكان الدفع ليس مجازاً ، ولا يحتاج إلى عناية أصلاً ؛ فإنّ الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق ؛ لأنّ بقاء الشيء - كحدوثه - يحتاج إلى علّة البقاء ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنّما يكون دفعاً حقيقةً باعتبار علّة البقاء ، وإن كان رفعاً باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلاً ، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ؛ لأنّ غلبة استعمال الرفع فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلك(2)، انتهى .

وأنت خبير بما فيه : أمّا أوّلاً : فلأنّ إنكار ظهور الرفع في إزالة الشيء عن صفحة الوجود بعد تحقّقه ، وعدم احتياج استعماله في الدفع إلى عناية وعلاقة، مكابرة ظاهرة .

وأمّا ثانياً : فلأنّ كون بقاء الشيء - كحدوثه - محتاجاً إلى العلّة ، وكون الرفع - باعتبار دفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق - دفعاً ، ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ الرفع لا يصير دفعاً بهذا الاعتبار ، بل الرفع عبارة عن إزالة الشيء عن صفحة الوجود ، والدفع عبارة عن منع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق ، وهذا لا يوجب أن يكون الرفع بمعنى الدفع ، كما أنّ الحدوث عبارة عن وجود

ص: 33


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 29 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 337 .

الشيء بعد العدم وجوداً أوّلياً ، والبقاء عبارة عن استمرار هذا الوجود ، وذلك لا يوجب أن يكون أحدهما بمعنى الآخر .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ما أفاد في المقام ينافي ما أفاده في التنبيه الأوّل من تنبيهات الاشتغال ؛ حيث قال :

إنّ الدفع إنّما يمنع عن تقرّر الشيء خارجاً وتأثير المقتضي في الوجود ، فهو يساوق المانع . وأمّا الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود، ويقتضي إعدام الشيء الموجود عن وعائه . نعم قد يستعمل الرفع في مكان الدفع ، وبالعكس ، إلاّ أنّ ذلك بضرب من العناية والتجوّز ، والذي تقتضيه الحقيقة هو استعمال الدفع في مقام المنع عن تأثير المقتضي في الوجود ، واستعمال الرفع في مقام المنع عن بقاء الشيء الموجود(1) ، انتهى .

وأمّا رابعاً : فلأنّ ما أفاده في المقام ينافي ما أفاده في الأمر الخامس في بيان عموم النتيجة : من أنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، وأنّ الرفع يتوجّه على الموجود فيجعله معدوماً . . . إلى غير ذلك من تعبيراته(2) .

وفي كلامه مواقع اُخر للنظر تركناها مخافة التطويل .

ص: 34


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 222 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 353 .

الأمر الثالث : في كيفية حكومة حديث الرفع

إنّ النسبة بين كلّ واحد من أدلّة الأحكام مع غالب تلك العناوين المأخوذة في الحديث وإن كانت عموماً من وجه ، إلاّ أنّ الحديث حاكم عليها ، فلا تلاحظ النسبة بينهما ، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلّة الأحكام وبين ما دلّ على نفي الضرر والعسر والحرج لحكومتها عليها ، إلاّ أنّ الشأن في الفرق بين الحكومات الثلاث .

قال بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - : ولا فرق بين أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل الرفع ، سوى أنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والحرج إنّما تكون باعتبار عقد الحمل ؛ حيث إنّ الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام ؛ فإنّ الحكم قد يكون ضررياً أو حرجياً ، وقد لا يكون ، وفي دليل رفع الإكراه ونحوه إنّما يكون باعتبار عقد الوضع ؛ فإنّه لا يمكن طروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنّما تعرض موضوعاتها ومتعلّقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام ، نظير قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» و«لا سهو مع حفظ الإمام»(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والحرج لم تكن باعتبار عقد

ص: 35


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 347 .

الحمل ؛ فإنّ «لا ضرر»(1) نفي نفس الضرر وحقيقته ، لا الأمر الضرري حتّى يقال : إنّ الحكم قد يكون ضررياً ، وقوله : )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((2) مفاده عدم جعل نفس الحرج ، لا الحرجي . وقد مرّ كيفية الحكومة فيهما ، فراجع(3) .

وثانياً : أنّ لسان دليل نفي الضرر والحرج لم يكن واحداً ، ولم تكن الحكومة فيهما باعتبار واحد ، وقد عرفت سابقاً (4) أقسام الحكومة ، فدليل الضرر مفاده نفي نفس الضرر ، بخلاف دليل الحرج ؛ فإنّه ينفي جعل الحرج ، وهما ضربان من الحكومة كما مرّ(5) .

وثالثاً : أنّ الضرر والحرج ليسا من العناوين الطارئة على نفس الأحكام ، بل من العناوين الطارئة على الموضوعات الخارجية ، فالوضوء والصوم حرجيان والغبن في المعاملة ضرر ، والمعاملة الغبنية ضررية .

نعم ، ينسب الضرر والحرج إلى الأحكام أيضاً بنحو من العناية والمسامحة ؛ فإنّ الحكم قد يصير منشأ لوقوع المكلّف في الضرر والحرج ، وقد مرّ(6) أنّ نفي نفس الضرر والحرج إنّما هو بهذه العناية .

ص: 36


1- الكافي 5 : 292 / 2 ؛ وسائل الشيعة 18 : 32 ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ، الباب 17 ، الحديث 3 .
2- الحجّ (22) : 78 .
3- تقدّم في الجزء الأوّل : 305 - 306 .
4- تقدّم في الجزء الأوّل : 307 .
5- تقدّم في الجزء الأوّل : 309 .
6- تقدّم في الجزء الأوّل : 309 .

ورابعاً : أنّ ما أفاد - من أنّ الخطأ والنسيان لا يمكن طروّهما على نفس الأحكام - من عجيب الكلام ، والظاهر أ نّه من سبق لسانه أو سهو قلم الفاضل المقرّر رحمهما اللّه .

الأمر الرابع : في مصحّح نسبة الرفع إلى العناوين المأخوذة في الحديث

قد عرفت أنّ نسبة الرفع إلى تلك العناوين التسعة تحتاج إلى ادّعاء ومسامحة ، واعلم أنّ المصحّح لهذه المسامحة : إمّا أن يكون رفع جميع الآثار ، أو رفع خصوص المؤاخذة في الجميع ، أو رفع الأثر المناسب لكلّ من المذكورات ، والفرق بينها واضح .

والتحقيق : أنّ المصحّح لها إنّما هو رفع جميع الآثار التي بيد الشارع .

أمّا رفع المؤاخذة فقط فممّا لا وجه له ؛ فإنّها ليست من الآثار الواضحة الظاهرة التي يدّعى رفع الموضوع لرفعها ، وتكون هذه الدعوى والمسامحة مصحّحتين لنسبة الرفع إلى أصل الموضوع ، كما هو واضح .

فما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه - من أنّ الظاهر لو خلّينا وأنفسنا أنّ نسبة الرفع إلى المذكورات إنّما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة(1) - ممّا لا ينبغي صدوره منه قدّس سرّه .

ومنه يعلم : أنّ استشهاد الإمام في صحيحة صفوان والبزنطي بحديث الرفع

ص: 37


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 442 .

على الاستكراه على اليمين(1) ليس بأمر مخالف للظاهر في مقابل الخصم .

فبقي الاحتمالان الآخران :

والتحقيق : هو رفع جميع الآثار ، لا لما أفاد شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه : من استلزام رفع الأثر المناسب في كلّ منها لملاحظات عديدة(2) ؛ لأنّ ذلك ممّا لا محذور فيه ، بل لأنّ رفع الموضوع ادّعاءً مع ثبوت بعض الآثار له في نظر المتكلّم ممّا لا يجتمعان ، ويكون من الجمع بين المتنافيين . إلاّ أن يدّعى : أنّ رفع الأثر الكذائي بمنزلة رفع جميع الآثار ، فيرفع الموضوع بادّعاء آخر .

وبعبارة اُخرى : إنّ حمل الكلام على رفع بعض الآثار الخاصّة يحتاج إلى ادّعاءين ومسامحتين :

إحداهما : دعوى أنّ الأثر الكذائي جميع الآثار .

وثانيتهما : دعوى أنّ الموضوع الذي ليس له أثر فهو مرفوع .

وأمّا الحمل على جميع الآثار فلا يحتاج إلاّ إلى الدعوى الثانية ، فحمله على جميع الآثار أسلم عن مخالفة الظاهر ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة(3) ، مع أنّ

ص: 38


1- المحاسن: 339 / 124 ؛ وسائل الشيعة 23 : 226 ، كتاب الأيمان ، الباب 12 ، الحديث 12 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 443 .
3- إن قلت : إنّ الدعوى الاُولى محتاج إليها بلحاظ الآثار الغير الشرعية ، فلا بدّ من دعوى كون غير الآثار الشرعية في حكم العدم ، ثمّ ادّعي الدعوى الثانية . قلت : إنّ الرفع في محيط التشريع ، ومعه لا يكون الآثار التكوينية منظوراً إليها ، بل هي بهذا اللحاظ مغفول عنها ، فلا يحتاج إلى الدعوى . فإن قلت : إنّ للخطأ والنسيان بعنوانهما آثاراً ، ولا شبهة في عدم رفعها وعدم شمول الحديث لها ، فلا بدّ من الدعوى الاُولى بلحاظها . قلت : إنّ الخطأ والنسيان - بما هما من العناوين التي [هي] كالعناوين المرآتية - اُخذا طريقاً إلى المتعلّقات ، فلا يفهم العرف من رفعهما إلاّ رفع آثار ما اُخطئ والمنسيّ . ألا ترى أ نّه لو قيل : «إنّ خطايا الاُ مّة معفوّة» لا يفهم منه إلاّ ما أخطأوا ، لا نفس الخطأ ، كما لو قيل : «إنّ جهالاتهم معفوّة» . فحينئذٍ نقول : إنّ الحديث ناظر إلى آثار الخطأ والنسيان الطريقيين ، لا آثار نفسهما ، ولهذا ترى أنّ في صحيحة البزنطي نقل الحديث بلفظ «ما أخطأوا» ، وليس ذلك إلاّ لأجل ما يفهم منه عرفاً ، لكن لا بمعنى استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما لا يخفى . وبما ذكرنا يظهر : عدم شمول الحديث لآثار عنوانهما النفسي من غير لزوم تكلّف وتخصيص . ويدفع أيضاً : إشكال التفكيك بين فقرات الحديث ؛ وذلك لأنّ العناوين السبعة الاُوَل لمّا كانت عناوين طريقية ، فلا محالة ينتقل ذهن العرف منها إلى المتراءى بها ولو فرض أخذ نفس العناوين في الموضوع ، فضلاً عن نسبته الرفع إلى الموصول في أربعة منها . ولا تفكيك بين الخطأ والنسيان وبين ما اُخذ الموصول فيه موضوعاً ، لما عرفت من طريقية عنوانهما . وأمّا الثلاثة الأخيرة - أي الحسد والطيرة والوسوسة - فعناوين نفسية منظور إليها ، فلا محالة يتعلّق الرفع بذاتها . ففي الحقيقة تعلّق الرفع في جميع الفقرات بعناوين نفسية ، لكن في المخطئ والمنسيّ بتوسّط الطريق إليهما ، وفي غيرهما بتوسّط الموصول أو ذكر نفس العناوين ، من غير ارتكاب خلاف ظاهر كما توهّمأ. [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 211 .

إطلاق الدليل أيضاً يقتضي رفعه بجميع الآثار .

ص: 39

الأمر الخامس : في شمول الحديث للاُمور العدمية

بناءً على أنّ المرفوع تمام الآثار ، هل يشمل الحديث الاُمور العدمية ، أم يختصّ بالوجوديات ؟

مثلاً : لو نذر أن يشرب من ماء دجلة ، فاُكره على الترك ، أو اضطرّ إليه ، أو نسي أن يشرب ، وقلنا بعدم اختصاص الكفّارة بصورة تعمّد الحنث ، فهل يمكن التمسّك بالحديث لرفع وجوب الكفّارة ، أم لا ؟

ذهب بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - إلى الثاني ، وحاصل ما أفاد في وجهه :

أنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ؛ لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ، والمفروض أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان ، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً وجعله كالشرب حتّى يقال : إنّه لم يتحقّق مخالفة النذر ، فلا حنث ولا كفّارة .

والحاصل : أ نّه فرق بين الوضع والرفع ؛ فإنّ الوضع يتوجّه على المعدوم فيجعله موجوداً ، ويلزمه ترتيب آثار الوجود ، والرفع بعكسه ، فالفعل الصادر من المكلّف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه ، وأمّا الفعل الذي لم يصدر من المكلّف عن نسيان أو إكراه فلا محلّ للرفع فيه ؛ لأنّ رفع المعدوم لا يمكن

ص: 40

إلاّ بالوضع والجعل ، والحديث لا يتكفّل ذلك(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه : فإنّه يرد عليه - مضافاً إلى أنّ العدم إذا فرض تعلّق الرفع به يكون له ثبوت إضافي بالنسبة إلى عدمه ، وليس عدم العدم هو الوجود ، ولا رفع المعدوم هو الوضع كما توهّم - أنّ الكفّارة إذا ترتّبت على ترك الشرب كما هو المفروض ، يكون له ثبوت اعتباري في عالم التشريع ؛ فإنّ ما لا ثبوت له بوجه من الوجوه لا يمكن أن يصير موضوعاً للحكم ، وقد فرض أنّ الكفّارة مترتّبة على الترك ، فلا بدّ أن يكون الترك - ولو باعتبار انطباق الحنث عليه - ملحوظاً ومعتبراً عند الشارع حتّى يصير موضوعاً للحكم ، وبعد هذا الثبوت الاعتباري لا مانع من تعلّق الرفع به بلحاظ آثاره ، وهذا واضح جدّاً ، فما أفاد من أنّ الرفع لا يمكن إلاّ بالوضع في غاية السقوط(2) .

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 353 .
2- هذا مضافاً إلى أنّ الرفع الادّعائي لا مانع من تعلّقه بالعدم ، والمصحّح له هو عدم ترتّب الآثار عليه ، كما أنّ الرفع لم يتعلّق بالوجوديات حقيقةً ، بل ادّعاءً بلحاظ الآثار ، فكذا في جانب العدم . مع إمكان أن يقال : إنّ الرفع تعلّق بالأشياء بمعرّفية العناوين المذكورة في الحديث - أي الاضطرار وغيره - فكما يمكن تعلّق الاضطرار بالعدم بنحو من الاعتبار يمكن تعلّق الرفع به . مع أنّ الرفع متعلّق بتلك العناوين - أي الموصول المشار به للأشياء - إجمالاً ، ولا تكون الواقعيات المشار إليها في ذهن المخاطب والمتكلّم بنحو التفصيل حتّى تلاحظ الوجوديات مستقلّة والعدميات كذلك . فتحصّل ممّا ذكر : أ نّه لا مانع من الأخذ بإطلاق الحديث . وأمّا ما أفاد بعضهم في مقام الجواب عنه : من أنّ الرفع مطلقاً متعلّق بموضوعية الموضوعات للأحكام ، فمعنى «رفع ما اضطرّوا إليه» أ نّه رفع موضوعيته للحكم ، وكذا في جانب العدم والتركأ ، فلا يخفى ما فيه ؛ لأنّ ذلك أسوأ حالاً من تقدير الآثار . مع أنّ ظاهر الحديث هو الرفع الادّعائي ، كما اعترف به هذا القائل(ب) ؛ وذلك ينافي ما ذكره من الرجوع إلى رفع الموضوعية ، إلاّ أن يرجع كلامه إلى ما ذكرنا ، فتدبّر . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 219 . ب - نهاية الأفكار 3 : 209 و 211 .

وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ كلّ أمر عدمي يكون موضوعاً لأثر شرعي أو حكم تكليفي أو وضعي ويكون في رفعه منّة على العباد ، مشمول للحديث ، ولا يحتاج رفعه إلى الوضع .

الأمر السادس : في تصحيح العبادة المنسيّ منها جزء أو شرط بالحديث

بناءً على عموم الآثار لو نسي جزءاً أو شرطاً من العبادات هل يمكن تصحيحها بالحديث ، أم لا ؟

اختار ثانيهما المحقّق المتقدّم - على ما في تقريرات بحثه - وحاصل ما أفاد في وجهه اُمور :

الأوّل : ما تقدّم منه من أنّ الحديث لا يشمل الاُمور العدمية ؛ لأ نّه لا محلّ لورود الرفع على الجزء أو الشرط المنفيّين ؛ لخلوّ صفحة الوجود عنهما ، فلا يمكن أن يتعلّق الرفع بهما .

الثاني : أنّ الأثر المترتّب على الجزء أو الشرط ليس إلاّ الإجزاء وصحّة

ص: 42

العبادة ، وهما ليسا من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع ، بل من الآثار العقلية .

الثالث : أ نّه لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحّة ؛ فإنّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهو ينافي الامتنان ، وينتج عكس المقصود ؛ فإنّ المقصود من التمسّك بالحديث تصحيح العبادة ، لا فسادها . هذا كلّه بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط .

وأمّا بالنسبة إلى المركّب الفاقد للجزء أو الشرط المنسيّ ، فهو وإن كان أمراً وجودياً قابلاً لتوجّه الرفع إليه ، إلاّ أ نّه :

أوّلاً : ليس هو المنسيّ أو المكره عليه ليتوجّه الرفع إليه .

وثانياً : لا فائدة في رفعه ؛ لأنّ رفع المركّب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركّب الواجد له؛ فإنّ ذلك يكون وضعاً لا رفعاً ، وليس للمركّب الفاقد للجزء أو الشرط أثر يصحّ رفع المركّب بلحاظه ؛ فإنّ الصلاة بلا سورة - مثلاً - لا يترتّب عليها أثر إلاّ الفساد وعدم الإجزاء ، وهو غير قابل للرفع الشرعي .

ولا يمكن أن يقال : إنّ الجزئية والشرطية مرفوعتان ؛ لأنّ جزئية الجزء لم تكن منسيّة ؛ وإلاّ كان من نسيان الحكم ، ومحلّ الكلام إنّما هو نسيان الموضوع ، فلم يتعلّق النسيان بالجزئية حتّى يستشكل بأنّ الجزئية غير قابلة للرفع ؛ فإنّها غير مجعولة ، فيجاب بأ نّها مجعولة بجعل منشأ انتزاعها (1) ، انتهى بطوله .

والتحقيق أن يقال : إنّ رفع الجزء والشرط المنسيّين ، كما يمكن أن يكون

ص: 43


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 353 - 354 .

باعتبار نسيان الجزئية والشرطية - أي نسيان الحكم - كذلك يمكن باعتبار نسيانهما مع تذكّر الحكم ؛ فإنّ الجزء إذا صار منسيّاً فتُرك ، يرتفع بالحديث ، وكذلك الشرط ؛ فإنّ المسلّم من الحديث هو رفع ما نسوا - أي ما يكون منسيّاً - والفرض أنّ الجزء أو الشرط هو المنسيّ ، فالرفع يتعلّق به ، فيصير المركّب الفاقد لهما تمام المأمور به .

وبعبارة اُخرى : إذا كان المركّب المأمور به بحسب الجعل الابتدائي ذا أجزاء وشرائط ، ويكون المأمور به هو المركّب بجميع أجزائه وشرائطه ، ويكون الحديث حاكماً [على] أدلّة الأحكام الأوّلية من أدلّة الأجزاء والشرائط وأدلّة أصل المركّبات ، تصير نتيجة الأدلّة الأوّلية - بعد إعمال الحكومة - هو اختصاص الأجزاء بغير حال النسيان ، فيصير المركّب المأمور به هو الطبيعة فاقداً للجزء أو الشرط المنسيّين ، ولا دليل من عقل أو نقل على اختصاص الحديث بنسيان جزئية الجزء وشرطية الشرط - أي نسيان الحكم - بل يشمل نسيان الموضوع مع تذكّر الحكم ، فإذا تُرك جزء أو شرط من المركّب يصير الفرد الفاقد لهما مصداقاً للطبيعة بعد حكومة حديث الرفع ، ومسقطاً لأمرها وموجباً للإجزاء(1) .

ص: 44


1- وقد يقال : إنّ ما ذكر غير تامّ ؛ لأنّ النسيان إذا تعلّق بالموضوع ولم يكن الحكم منسيّاً ، لا ترتفع جزئية الجزء للمركّب ؛ لعدم نسيانها ، فلا بدّ من التسليم بمصداق واجد للجزء حتّى ينطبق عليه عنوان المأمور به ، ولا معنى لرفع الجزء والشرط من مصداق المأمور به ، ومع رفعهما فرضاً لا يكون مصداقاً للمأمور به ما لم يدلّ دليل على رفع الجزئية . وبالجملة : لا يعقل صدق الطبيعة المعتبر فيها الجزء والشرط على المصداق الفاقد لهما ، ولا معنى لحكومة دليل الرفع على الأدلّة الواقعية مع عدم النسيان بالنسبة إليها ، كما أ نّه لا معنى لحكومته على مصداق المأمور بهأ . وفيه : أنّ مقتضى ما ذكرنا - من عموم الآثار - أنّ المنسيّ إذا كان الجزء يكون مرفوعاً ، ومعنى رفعه رفع جميع آثاره ، ومن آثاره الشرعية جزئيته ، فهي مرفوعة ، وبعد رفعها في حال النسيان ، يصدق على المأتيّ به أ نّه تمام المأمور به ، ولا محالة يسقط الأمر المتعلّق بالطبيعة ؛ لأجل إتيانها بمصداقها التامّ ، ولا مجال لبقاء الأمر بعد الإطاعة ، فلا معنى لبقائه أو حدوثه بعد رفع النسيان ، كما توهّم بعض أهل التحقيق ؛ بزعم أنّ حديث الرفع لا يتكفّل بتحديد دائرة المأمور به ، ولا إطلاق له لرفع الجزء أو الشرط حتّى بعد زوال النسيان(ب) . وبما ذكرنا يدفع ما ذكر ؛ ضرورة عدم الاحتياج إلى كون الحديث ناظراً إلى بعد رفع النسيان ، بل الرفع في حاله يكفي لتطبيق المأتيّ به على المأمور به ، ومعه يسقط الأمر ، ولا معنى لتجديده . وإن شئت قلت : إنّ الحديث بحكومته على الأدلّة مخصّص لها بلسان الرفع ، فهو تخصيص واقعاً ودفع ، واستعمال الرفع لأجل الحكم القانوني المجعول على نحو العموم والإطلاق . [منه قدس سره] أ - اُنظر قوامع الفضول : 461 / السطر 37 . ب - مقالات الاُصول 2 : 163 ؛ نهاية الأفكار 3 : 220 - 221 .

وبهذا يظهر الخلل في جميع ما أفاده :

أمّا في أوّل الوجوه : فلأنّ الجزء المنسيّ متعلّق للرفع ، ومعنى تعلّقه به إخراجه عن حدود الطبيعة المأمور بها ، ولا يكون ترك الجزء متعلّقاً للرفع حتّى يقال : إنّ الرفع لا يتعلّق بالأعدام .

وأمّا في ثانيها : فإنّ الجزء والشرط ممّا تنالهما يد الشارع ولو بواسطة منشأ انتزاعهما ، ولا يحتاج رفعهما إلى لحاظ أثر آخر .

ص: 45

وبهذا يظهر الإشكال في ثالثها ، وكذا في سائر ما أفاد ، مع ما فيها من التكلّف والتعسّف .

فإن قلت : إنّما يصحّح حديث الرفع العبادة الفاقدة للجزء والشرط إذا أمكن اختصاص الناسي بالتكليف ، وأمّا مع عدم إمكانه فلا يمكن تصحيحها .

قلت : أوّلاً : يمكن اختصاصه بالخطاب ببعض التصويرات التي أفادها المشايخ(1) وإن [كان] لا يخلو كلّها أو جلّها عن الخدشة .

وثانياً : تصحيحها لا يتوقّف على إمكان اختصاص الناسي بالخطاب ؛ فإنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة ممّا يبعث الذاكر للجزء والناسي له بنحو واحد ، فكما أنّ الذاكر للأجزاء والشرائط إذا قام لإتيان الصلاة تكون مبعوثيته لأجل الأوامر المتعلّقة بالصلاة في الكتاب والسنّة ، ويكون إتيانه لها إطاعة لقوله : )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ((2)، فكذلك الناسي للجزء أو الشرط يكون آتياً لطبيعة الصلاة ، ومطيعاً لقوله : )أَقِمِ الصَّلَوةَ( بلا افتراق بينهما من هذه الجهة ، وإنّما الافتراق بينهما في مصداق الطبيعة المأمور بها ؛ فإنّ مصداقها للناسي - بعد حكومة الحديث - يكون الفرد الناقص ، وأنّ الطبيعة تصير متحقّقة بعين الفرد الناقص ، كما أ نّها تتحقّق بالفرد الكامل ، فالفرد الناقص والكامل فردان من الطبيعة المأمور بها ، وهي متحقّقة بهما ، وبإتيانهما يسقط الأمر المتعلّق بها بلا افتراق بينهما من هذه الحيثية أيضاً ، كالصلاة مع الطهارة الترابية والمائية ،

ص: 46


1- راجع كفاية الاُصول : 418 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 213 - 216 ؛ نهاية الأفكار 3 : 420 - 423 .
2- الإسراء (17) : 78 .

فكما أنّ أدلّة تنزيل التراب منزلة الماء ، والطهارة الترابية منزلة المائية ، تجعل الفرد مصداقاً للطبيعة ، ولا تكون طبيعة الصلاة متعلّقة لأمرين : أحدهما الصلاة مع الطهارة المائية ، وثانيهما هي مع الترابية ، فكذلك حديث الرفع يجعل الفاقد مصداق الطبيعة ، ولا تصير الطبيعة متعلَّقة لأمرين ، ولا تحتاج إلى خطابين حتّى يبحث في إمكان اختصاص الناسي بالخطاب .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : صحّة التمسّك بحديث الرفع لتصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط بواسطة النسيان .

ومن الغريب أنّ المحقّق المتقدّم تمسّك لمختاره في ذيل كلامه : بأنّ المدرك في صحّة الصلاة الفاقدة للجزء والشرط نسياناً هو دليل : «لا تعاد . . .»(1) ؛ فإنّ المدرك فيها لو كان حديث الرفع كان اللازم صحّة الصلاة بمجرّد نسيان الجزء أو الشرط مطلقاً من غير فرق بين الأركان وغيرها ؛ فإنّه لا يمكن استفادة التفصيل من حديث الرفع . ويؤيّد ذلك أ نّه لم يعهد من الفقهاء التمسّك بحديث الرفع لصحّة الصلاة وغيرها من سائر المركّبات(2) ، انتهى .

وفيه : أنّ حديث الرفع عامّ قابل للتخصيص ، فاستفادة التفصيل من الأدلّة الاُخر المخصّصة لدليل الرفع لا توجب عدم جواز التمسّك بالحديث ، وعدم كونه مدركاً لصحّة الصلاة .

وأمّا ما أفاد - من عدم معهودية تمسّك الفقهاء به لصحّتها - فهو ممنوع ؛

ص: 47


1- الفقيه 1 : 181 / 857 ؛ تهذيب الأحكام 2 : 152 / 597 ؛ وسائل الشيعة 6 : 313 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 10 ، الحديث 5 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 354 - 355 .

لتمسّك القدماء والمتأخّرين به لصحّتها .

فهذا علم الهدى قد تمسّك به في «الناصريات» ؛ حيث قال : دليلنا على أنّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة - بعد الإجماع المتقدّم - ما روي عنه علیه السلام : «رفع عن اُمّتي . . . النسيان ، وما استكرهوا عليه»(1) ولم يرد رفع الفعل ؛ لأنّ ذلك لا يرفع ، وإنّما أراد رفع الحكم ، وذلك عامّ في جميع الأحكام إلاّ ما قام عليه دليل(2) .

وقريب منه كلام السيّد ابن زُهرة في «الغنية»(3) .

وكلامهما وإن كان في التكلّم ، إلاّ أ نّه يظهر من ذيل كلامهما شمول الحديث لجميع الموارد إلاّ ما قام عليه دليل .

وقد تمسّك به العلاّمة(4) والأردبيلي(5) وغيرهما (6) ونقل الشيخ الأعظم(7) في مسألة من ترك غسل موضع النجو : أنّ المحقّق في المعتبر تمسّك بالحديث لنفي الإعادة في مسألة ناسي النجاسة(8) وتمسّك هو وغيره في غير موضع به لتصحيح الصلاة ، كما يظهر للمراجع المتتبّع .

ص: 48


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 33 .
2- مسائل الناصريات : 235 .
3- غنية النزوع 1 : 113 .
4- تذكرة الفقهاء 3 : 278 و290 .
5- مجمع الفائدة والبرهان 3 : 55 و67 و133 .
6- راجع ذكرى الشيعة 4 : 13 .
7- الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2 : 497 .
8- المعتبر 1 : 441 - 442 .

هذا مضافاً إلى أنّ عدم تمسّكهم به لو سلّم ، إنّما هو لعدم الاحتياج إليه بعد ورود الأدلّة الخاصّة في غالب الموارد ، كما أنّ التمسّك بقوله : «لا تعاد الصلاة . . .» أيضاً لم يكن في كلماتهم في غالب الموارد ؛ لورود الأدلّة الخاصّة فيها .

ثمّ إنّه قدّس سرّه قال : هذا إذا كان النسيان مستوعباً لتمام الوقت المضروب للمركّب ، وأمّا في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح ؛ فإنّه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكّر في بقيته ؛ لأنّ المأمور به هو الفرد الكلّي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في جزء من الوقت ، فمع التذكّر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته لو كان المدرك حديث الرفع ؛ لأنّ المأتيّ به لا ينطبق على المأمور به ، فلو لا حديث : «لا تعاد . . .» كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسياناً مع التذكّر في أثناء الوقت(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه ؛ لأ نّك قد عرفت أنّ الأمر إنّما تعلّق بطبيعة المأمور به ، فبعد حكومة حديث الرفع على أدلّة الأجزاء والشرائط ، وتحقّق النسيان ولو في جزء من الوقت ، وإتيان الناسي الفرد الفاقد للجزء أو الشرط المنسيّين ، تصير النتيجة حصول المأمور به ، وكون الفرد الناقص فرداً للطبيعة ، وهي متحقّقة به ، وبعد تحقّقها به لا معنى لبقاء الأمر .

وبالجملة : لا فرق بين النسيان المستوعب وغيره ؛ لأنّ تحقّق الطبيعة إنّما

ص: 49


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 355 .

يكون بتحقّق الفرد الكامل في غير الناسي ، وبالفرد الناقص مع تحقّق النسيان ببركة حديث الرفع [سواء] كان مستوعباً أو لا .

القول : في شمول الحديث للأسباب والمسبّبات

وبالتدبّر فيما ذكرنا من أوّل هذا البحث إلى هاهنا يظهر النظر فيما أفاده المحقّق المتقدّم في باب الأسباب : من أنّ وقوع النسيان والإكراه والاضطرار في ناحيتها لا يقتضي تأثيرها في المسبّب ، ولا تندرج في حديث الرفع ؛ لما تقدّم في باب الأجزاء والشرائط من أنّ حديث الرفع لا يتكفّل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، فلو اضطرّ إلى إيقاع العقد بالفارسية ، أو اُكره عليه ، أو نسي العربية ، كان العقد باطلاً بناءً على اشتراط العربية ؛ فإنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي ، وليس للعقد الفارسي أثر يصحّ [رفعه بلحاظ] رفع أثره ، وشرطية العربية ليست منسيّة حتّى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية(1) ، انتهى .

أقول : أمّا النسيان : فقد يتعلّق بأصل السبب ، وقد يتعلّق بشرائطه . وعلى الثاني : فقد يكون الشرط من الشرائط العقلائية التي يتقوّم تحقّق العقد عرفاً بها ،كقصد تحقّق مفهوم العقد مثلاً ، وقد يكون من الشرائط الشرعية كالعربية ، وتقديم الإيجاب على القبول ، وأمثالهما .

فإن تعلّق النسيان بأصل إيجاد السبب ، أو بما يتقوّم العقد به عرفاً ، فلا إشكال

ص: 50


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 356 .

في عدم جواز تصحيح العقد بحديث الرفع ، ووجهه واضح .

وأمّا إن تعلّق بالشرائط الشرعية التي لا يتقوّم العقد بها ، فلا إشكال في جواز التمسّك بالحديث لتصحيح العقد ؛ لأنّ تحقّق العقد العرفي وجداني ، والشرائط الشرعية قابلة للرفع ، والنسيانُ وإن تعلّق بإيجاد الشرط لا بشرطيته ، لكن لا قصور في شمول الحديث لذلك ؛ لرفع الشرط المنسيّ ، ورفعه رفع شرطيته .

وبالجملة : يصير العقد الفاقد للشرط الكذائي تمام السبب ، كما عرفت في شرائط العبادات .

فما أفاده رحمه الله علیه - من أنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي - فيه ما لا يخفى ؛ فإنّ الرفع لم يتعلّق بالعقد الفارسي، بل تعلّق بالعربية المنسيّة، فجعل العقد مع فقدان العربية تمام السبب في ظرف النسيان(1) . هذا كلّه في النسيان .

ص: 51


1- وقد يقال : إنّ رفع الشرائط خلاف الامتنان في حقّ المكلّف ؛ لأنّ لازمه اقتضاء الوضع الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقدأ . وفيه ما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ كلّ من يقدم على معاملة - بحسب حوائجه ومهمّاته - غرضه صحّتها ونفوذها ، ولو فرض كون النسيان لشرط مثلاً موجباً لبطلانها صار المكلّف في حرج وكلفة ، فأيّ منّة أعظم من أن يكون النكاح الواقع - بعد عشرين سنة وتشكيل العائلة - المنسيّ منه شرط من الشرائط صحيحاً ؟ ! ويتعلّق الرفع بشرطية ما نسي فيه ، فدعوى عدم المنّة من غريب الدعاوي . ثمّ إنّ بما ذكرنا يظهر حال الاضطرار أيضاً ، ومجمل الكلام فيه : أنّ الاضطرار : إمّا أن يتعلّق بحكم تكليفي - أي بإيجاد حرام نفسي أو ترك واجب كذلك - فلا إشكال في رفع الحكم أي الحرمة في الإيجاد والترك إن كان حراماً ، ولو بالاستلزام العرفي بين الأمر بالشيء ومبغوضية تركه وحرمته . وإ مّا أن يتعلّق الاضطرار بإيجاد مانع في العبادات ، أو المعاملات على فرض المانع فيها ، فلا إشكال في تعلّق الرفع وتصحيحها بما سبق في نظائرها . وأمّا إذا اضطرّ إلى ترك جزء أو شرط ، فإن كان لنفس الترك أثر شرعي ، فيرفع أثره النفسي ، وأمّا تصحيح العبادة والمعاملة فلا يمكن به ؛ لأنّ ترك الجزء أو الشرط لا أثر لهما ، وليس البطلان ووجوب الإعادة إلى غيرذلك من آثار تركهما شرعاً - كما يتوهّم(ب) - بل هي آثار عقلية ، وليس للشارع إلاّ جعل الجزئية أو الشرطية تبعاً أو استقلالاً - بناءً على إمكانه - أو إسقاطهما ، وأمّا بعد جعلهما فإيجاب تركهما للإعادة عقلي ، وكذا عدم انطباق المأتيّ به على المأمور به ، والبطلان المنتزع منه . وأمّا رفع الجزئية والشرطية فلا وجه له بعد عدم تعلّق الاضطرار بهما ، بل تعلّقه بتركهما ، فالرفع لا بدّ أن يتعلّق بما اضطرّ إليه بلحاظ آثاره ، وهو الترك ، ولا تكون الجزئية من أحكام ترك الجزء . وما قد يقال - إنّ وجوب الإعادة مترتّب على بقاء الأمر الأوّل ، كترتّب عدم وجوبها على عدم بقائه ، فإذا كان بقاء الأمر كحدوثه أمراً شرعياً تناله يد الجعل والرفع ، فلا محذور في التمسّك بالحديث لنفي وجوب الإعادة(ج) - كما ترى ؛ ضرورة أنّ وجوب الإعادة ليس حكماً مجعولاً ، ولا أثراً شرعياً لبقاء الأمر . وما قد يرد في الشرع من إيجاب الإعادة ، ليس هو إلاّ إرشاداً إلى بطلان العمل ولزوم إطاعة الأمر الأوّل ؛ ولهذا لا يستحقّ التارك للإعادة إلاّ عقاباً واحداً لترك المأمور به ، لا لترك الإعادة ، واستحقاق العقابين خلاف الضرورة ، كانقلاب التكليف الأوّل إلى تكليف وجوب الإعادة . وبالجملة : ليس لترك الشرط والجزء أثر يتعلّق الرفع به بلحاظه . وبهذا يظهر حال الإكراه على تركهما أيضاً ، كما يظهر الفرق بين نسيان الجزء والشرط والإكراه والاضطرار إلى تركهما ، فإنّ ما نُسي هو الجزء والشرط . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 221 . ب - نهاية الأفكار 3 : 219 - 220 . ج - نهاية الأفكار 3 : 219 .

ص: 52

وأمّا الإكراه : فإن تعلّق بترك إيجاد السبب ، أو ترك ما يتقوّم به العقد ، فهو كالنسيان .

وإن تعلّق بإيجاد السبب والمسبّب ، فلا إشكال في جواز التمسّك به للحكم بالبطلان .

وإن تعلّق بترك شرط شرعي أو إيجاد مانع شرعي : فإمّا أن يكون العاقد مضطرّاً بالاضطرار العادي أو الشرعي لإيجاد العقد ، والمكره يكرهه على ترك الشرط أو إيجاد المانع ، فالظاهر جواز التمسّك بالحديث لرفع الشرط والمانع ، وإن لم يكن مضطرّاً لذلك فلا يجوز ؛ لعدم صدق الإكراه .

كما أنّ المضطرّ إلى ترك الشرط أو إيجاد المانع أيضاً كذلك ، فمع الاضطرار إلى إيجاد العقد عادةً أو شرعاً ، يجوز التمسّك به لرفعهما دون غيره ، فمن اضطرّ إلى إيجاد عقد ولم يعرف العربية ، ويضطرّ إلى إيجاده بالفارسية ، يصحّ عقده دون غيره .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاضطرار تعلّق بترك الجزء والشرط ، وليس للترك أثر شرعي ، كما فصّلنا في الهامش(1) .

وبما ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق المتقدّم .

ص: 53


1- تقدّم في الصفحة 52 ، الهامش .

وفي كلامه في المسبّبات - أيضاً - بعض مواقع للنظر ، خصوصاً في القسم الثاني منها ، وهو ما كان المسبّب من الاُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، كالطهارة والنجاسة ؛ فإنّها غير قابلة للرفع التشريعي إلاّ بلحاظ آثارها . . . إلى أن

قال : ولا يتوهّم أنّ لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من اُكره على الجنابة ، أو عدم وجوب التطهير على من اُكره على النجاسة ؛ بدعوى : أنّ الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي ، إلاّ أ نّها باعتبار ما لها من الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع ؛ فإنّ الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر الشارع بهما عقيب الجنابة والنجاسة مطلقاً ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختيارية وغيرها (1) ، انتهى .

وفيه : أنّ ما تفصّى [به] عن الإشكال ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ فإنّ كونهما أمرين وجوديين لا يوجب عدم رفعهما بالحديث ، وإطلاق أدلّتهما لحال الاختيار وغيره لا يوجب ذلك ؛ لحكومته عليها ، بل من شرط حكومته عليها إطلاقها لحال تلك العناوين المأخوذة في الحديث .

والتحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ غسل الجنابة مستحبّ نفسي وشرط للصلاة ، فبالنسبة إلى الأثر الاستحبابي لا يشمله الحديث ؛ لعدم المنّة في رفع المستحبّات ، وأمّا بالنسبة إلى اشتراط الصلاة به ، فالإكراه إنّما يتحقّق إذا اُكره على ترك الغسل للصلاة ، فحينئذٍ إذا كان المكلّف مختاراً في التيمّم وضاق الوقت ، يتبدّل تكليفه به ، ووجهه ظاهر ، وإن اُكره على تركه أيضاً ، فإن قلنا : بأنّ

ص: 54


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 358 .

الصلاة بلا طهور لا تكون صلاةً في نظر الشارع يسقط التكليف بها ، فيكون حاله حال المكره على ترك الصلاة .

وأمّا بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، فمع كونه مكرهاً على ترك غسل البدن والساتر الراجع إلى الإتيان مع المانع ، يرفع وجوب طهارتهما واشتراطها بهما بدليل الرفع ، وفي غير الساتر ينزع ، بل فيه - أيضاً - على الأقوى ، إلاّ أن يكون مكرهاً في لبسه ، فيكون مكرهاً في إيجاد المانع ، فيشمله دليل الرفع(1) .

ص: 55


1- وقد يقال : باختصاص مجرى الرفع في قوله : «رفع . . . ما اُكرهوا عليه» بباب المعاملات بالمعنى الأخصّ - بعكس عنوان الاضطرار - فلا يجري في التكليفيات ؛ لصدق الإكراه بمجرّد التوعّد اليسير ، ولا يمكن الالتزام بجواز ارتكاب المحرّم لأجله(أ) . وفيه أوّلاً : أنّ ذلك لا يوجب الاختصاص بالمعاملات بالمعنى الأخصّ ؛ ضرورة أنّ مثل الطلاق والعتاق والنكاح والوصيّة وغيرها من المعاملات بالمعنى الأعمّ والإيقاعات مشمولة للحديث ، بل المصرّح به في بعض ما ذكر الشمول(ب) . وثانياً : أنّ ما ذكر - من عدم إمكان الالتزام في الجملة - لا يوجب عدم الالتزام مطلقاً بعد تصريح بعض الروايات(ج) بأنّ رفع ما اُكرهوا إشارة إلى قوله تعالى : )إِلاَّ مَنْ اُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ((د) ممّا هو في قضيّة عمّار(ه) التي هي حكم تكليفي ، وبعد ورود عدم الشيء على الزوجة المكرهة على الجماع في يوم رمضان(و) وعدم الحدّ على المكرهة على الزنا(ز). وما قال القائل : بأنّ الإكراه إن وصل إلى حدّ الحرج جاز ذلك ، إلاّ أ نّه من جهة الحرج لا الإكراه(ح) . ففيه أوّلاً : أ نّه خلاف الإطلاق في الروايات والآية . وثانياً : أنّ الإكراه على عنوان مع التوعّد الغير المتحمّل لا يوجب أن يكون العنوان المكره عليه حرجياً ، فشرب الخمر مع التوعّد لا يكون حرجياً ، ويكون متعلّقاً للإكراه ، فلا يشمله دليل الحرج إلاّ مع التكلّف ، دون حديث الرفع . نعم ، بعض مراتب الإكراه لا توجب جواز الارتكاب ، كما أنّ بعض المحرّمات والعظائم عند الشرع لا يمكن التزام رفع حكمه بالحديث ، ولا بدليل الحرج ، ولا بأدلّة التقيّة ، كما فصّلنا ذلك في رسالة التقية(ط) ، فتدبّر . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 224 . ب - كصحيحة البزنطي عن أبي الحسن عليه السلام : في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك ؟ فقال : «لا ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : وضع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطأوا» . راجع وسائل الشيعة 23 : 226 ، كتاب الأيمان ، الباب 12 ، الحديث 12 . ج - راجع وسائل الشيعة 16 : 218 ، كتاب الأمر والنهي ، أبواب الأوامر والنواهي ، الباب 25 ، الحديث 10 . د - النحل ((16)) : 106 . ه- تفسير العيّاشي 2 : 271 / 72 ؛ مجمع البيان 6 : 597 . و - راجع وسائل الشيعة 10 : 56 ، كتاب الصوم ، أبواب مايمسك عنه الصائم ، الباب 12 . ز - وسائل الشيعة 28 : 110 ، كتاب الحدود ، أبواب حد الزنا ، الباب 18 . ح - نهاية الأفكار 3 : 224 . ط - الرسالات الفقهية والاُصولية ، الإمام الخميني قدس سره : 10 .

ويمكن أن يجاب عن الإشكال : بأنّ الإكراه - بحسب نظر العرف - لا يتعلّق إلاّ بفعل المكلّف ، وهو إمّا سبب كالجماع ، أو مسبّب كالإجناب بالمعنى المصدري ، ورفعهما برفع آثارهما الشرعية ، والمفروض أنّ الجنابة أمر واقعي لا شرعي ، فلا معنى لرفعها ، كما لا معنى لرفع أثرها ؛ إذ لم يتعلّق الإكراه به ، فالمرفوع آثار الجماع والإجناب لا الجنابة ، فتدبّر .

ص: 56

الأمر السابع : تصحيح العبادة بالحديث عند الشكّ في المانعية

لو شكّ في مانعية شيء للصلاة ، فالحديث ينفع لصحّة صلاته ؛ لما عرفت(1) أنّ مقتضى حكومة الحديث على الأدلّة الأوّلية رفع المانعية ، وصيرورة المأتيّ به مع وجود المانع المشكوك فيه مصداقاً للطبيعة ، وعدم معقولية بقاء الأمر مع الإتيان بمصداق المأمور به ، ولا فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية والموضوعية بعد صيرورة المأتيّ به مصداقاً للطبيعة .

وقد استشكل شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - في الشبهة الحكمية وقال : إنّ الصحّة فيها إنّما تكون ما دام شاكّاً ، فإذا قطع بالمانعية يجب عليه الإعادة ، ولا يمكن القول بتخصيص المانع بما علم مانعيته ؛ فإنّه مستحيل ، بخلاف الشبهة الموضوعية ؛ لإمكان ذلك فيها (2) .

وفيه : أنّ المستحيل هو جعل المانعية ابتداءً للعالم بالمانعية ، وأمّا إنشاؤها بنحو الإطلاق ، ثمّ رفع مانعيتها وفعليتها عن المشكوك فيه ، فممّا لا استحالة فيه أبداً ، وقد حقّق ذلك في مبحث الإجزاء(3) وفي مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية(4) ، فراجع .

ص: 57


1- تقدّم في الصفحة 44 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 445 - 446 .
3- مناهج الوصول 1 : 257 - 258 .
4- تقدّم في الجزء الأوّل : 156 .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ مقتضى دليل الرفع هو توسعة نطاق الطبيعة إلى الفرد الناقص والكامل ، أو جعل الفرد الناقص مصداقاً لها ، فبعد ذلك لا معنى لبقاء الأمر المتعلّق بها بعد إتيانها بإتيان الفرد .

هذا تمام الكلام في حديث الرفع ، وقد عرفت دلالته على المدّعى بما لا مزيد عليه .

حديث الحجب

وممّا استدلّ [به] على البراءة :

قوله : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1) .

وتقريب الاستدلال به أن يقال : إنّ الظاهر من حجب العلم عن العباد ليس هو الحجب عن مجموع المكلّفين أو عن جميعهم على وجه الاستغراق ، بل الظاهر منه أنّ كلّ من كان محجوباً عن الحكم فهو موضوع عنه ولو كان معلوماً لغيره من سائر المكلّفين ، كما أنّ قوله : «رفع عن اُمّتي . . . ما لا يعلمون» أيضاً كذلك ، أي كلّ من لا يعلم الحكم فهو مرفوع عنه ، وهذا واضح جدّاً .

كما أنّ الظاهر من قوله : «هو موضوع عنهم» أنّ الحكم المجعول بحسب الواقع موضوع عن الجاهل ، وهكذا دليل الرفع .

كما أنّ المصحّح لنسبة الحجب إليه تعالى هو الحجب الذي لا يكون بواسطة تقصير العبد عن الفحص ، بل يكون لا باختياره ، وأنّ الجهات الخارجية

ص: 58


1- التوحيد ، الصدوق : 413 / 9 ؛ وسائل الشيعة 27 : 163 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 33 .

و[الحوادث] الكونية موجبة للحجب ، كوقوع المهالك العامّة ، مثل الزلزلة والحريق والغرق وأمثالها ، فصارت سبباً لضياع الكتب وحجب العباد ، فهذه الاُمور ممّا تنسب إلى اللّه تعالى ، فقوله : «كلّ ما حجب اللّه ُ علمَه عن العباد» أي كلّ حكم يكون المكلّف محجوباً عنه لا بتقصير منه - بل بواسطة اُمور خارجة عن قدرته ، كطول الزمان ، وضياع الكتب بمصادمات ومصادفات كونية تكون بقدرة اللّه تعالى - فهو موضوع عنه ، وكذلك الأمر فيما إذا كان الحجب لا بتقصير من العبد ، بل لقصوره وبأمر غير اختياري .

وإن شئت قلت : إنّه بمناسبة الحكم والموضوع يفهم أنّ الحجب لا بتقصير من المكلّف - بل بأمر غير اختياري يكون تحت قدرة اللّه تعالى دون العبد - تمامُ الموضوع لرفع الحكم ووضعه عنه .

والإنصاف : أنّ حديث الحجب لا يكون دون حديث الرفع في الدلالة على البراءة .

وأمّا ما أفاده المحقّقون(1) : من أنّ الظاهر من «ما حجب اللّه علمه» هو ما لم يبيّنه للعباد ، وتعلّقت عنايته تعالى بمنع اطّلاع العباد عليه ؛ لعدم أمر رسله بتبليغه ؛ حيث إنّه بدونه لا يصحّ إسناد الحجب إليه تعالى ، فالرواية مساوقة لما ورد من «إنّ اللّه تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً»(2) .

فهو بمعزل عن مفهوم الرواية ، ومخالف للمناسبة المغروسة في ذهن أهل

ص: 59


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 41 ؛ كفاية الاُصول : 388 .
2- الفقيه 4 : 53 / 193 ؛ وسائل الشيعة 27 : 175 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 68 .

المحاورة ، ومخالف لقوله : «فهو موضوع عنهم» ؛ لما عرفت من أنّ الظاهر من الوضع عن العباد هو وضع ما هو المجعول ، لا عدم التبليغ رأساً ، كما عرفت السرّ في نسبة الحجب إليه تعالى، مع أنّ نسبة مطلق الأفعال إلى اللّه تعالى قد شاعت في الكتاب والسنّة ؛ بحيث صارت من المجازات الراجحة التي كأ نّه لا يعدّ ارتكابها مخالفة الظاهر بنظر العرف ، فلا تصادم الظهورات الاُخر ، فتدبّر .

حديث الحلّية

ومنها: قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام أو(1) أ نّه حرام بعينه»(2).

ودلالته واضحة(3) ولا يختصّ بالشبهات الموضوعية بقرينة قوله : «بعينه» ؛ لعدم القرينية .

نعم ، لا يبعد دعوى ظهور قوله : «بعينه» في مقابل المعلوم بالإجمال ، فيكون الحديث بصدد الترخيص في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال حتّى يعرف الحرام بعينه ؛ أي تفصيلاً .

كما أنّ الظاهر من قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى

ص: 60


1- لو قلنا : إنّه صدر الموثَّقةأ . [منه قدس سره] أ - وهي موثّقة مسعدة بن صدقة .
2- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .
3- بناءً على كونها رواية مستقلّة كما هو ظاهر بعضهمأ ، وأمّا لو كانت صدر رواية مسعدة ابن صدقة ففي دلالتها إشكال . [منه قدس سره] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 48 و119 - 120 .

تعرف الحرام بعينه»(1) هو ذلك؛ أي ترخيص في التصرّف بالمال المختلط بالحرام.

فهذان الحديثان يمكن أن يكونا منسلكين في سلك الأحاديث الواردة في المال المختلط بالحرام ، وقد جمع شتاتها السيّد العلاّمة الطباطبائي في حاشيته على «المكاسب» في باب جوائز السلطان ، منها : موثّقة سماعة : «إن كان خلط الحلال بالحرام ، فاختلطا جميعاً ، فلا يعرف الحلال من الحرام ، فلا بأس»(2) . ومنها : صحيحة الحذّاء : «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه»(3) ، فراجع(4) .

فبناءً عليه : إنّ الحديثين أجنبيّان عن الشبهات التحريمية .

ومنها : قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(5) ، ولا يخفى ما فيه(6) .

ص: 61


1- الفقيه 3 : 216 / 1002 ؛ وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 1 .
2- الكافي 5 : 126 / 9 ؛ وسائل الشيعة 17 : 88 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 2 .
3- الكافي 5 : 228 / 2 ؛ وسائل الشيعة 17 : 219 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 52 ، الحديث 5 .
4- حاشية المكاسب ، المحقّق اليزدي 1 : 172 - 174 .
5- الفقيه 1 : 208 / 937 ؛ وسائل الشيعة 27 : 173 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 67 .
6- وممّا يستدلّ به قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون»أ؛ إذ لو كان الاحتياط واجباً لما ---------------------------- أ - عوالي ا للآلي 1 : 424 / 109 ؛ مستدرك ا لوسائل 18 : 20 ، كتاب ا لحدود والتعزيرات ، أبواب مقدّمات الحدود ، الباب 12 ، الحديث 4 . كان الناس في سعة ، والعلم بوجوب الاحتياط لا يرفع موضوع الحديث ؛ لعدم كون إيجاب الاحتياط طريقاً إلى الواقع حتّى يرفع عدم العلم ، وإطلاق العلم على الحجّة - كما سبق منّا(أ) - إنّما هو على الطرق العقلائية والشرعية ، لا على مثل الاحتياط الذي ليس كاشفاً بوجه ، فلا وجه لشمول العلم - ولو بالمعنى الموسّع - له ؛ ولهذا لو أفتى أحد على الواقع بقيام أمارة عليه لا تكون فتواه بغير علم ، بخلاف ما لو أفتى [على] الواقع بواسطة وجوب الاحتياط . وقد يقال : إنّ وجوب الاحتياط إن كان نفسياً يدفع المعارضة بين الحديث وبين أدلّة الاحتياط ؛ لحصول الغاية بعد العلم بوجوب الاحتياط(ب) . وفيه : أنّ الحكم بلزوم إتيان مجهول الحكم والترخيص فيه متضادّان ولو كان الترخيص لأجل مجهولية الواقع ، فإذا كان شرب التتن مجهول الحرمة فالناس في سعة من شربه ، وهو مخالف لأخبار الاحتياط ولو كان نفسياً . نعم ، لو أمكن القول بالسعة من حيث التكليف ب- «ما لا يعلمون» وإن كان الضيق من حيث الاحتياط النفسي ومصلحة خاصّة ، لكان له وجه . ولكنّه كما ترى ؛ فإنّ جعل السعة يكون لغواً بعد عدم انفكاك موضوعه عن موضوع الاحتياط . والحمل على الشبهة الوجوبية أو الموضوعية اعتراف بالمعارضة ، مع أ نّه لا شاهد له . وممّا يستدلّ به : صحيحة عبد الصمد بن بشير المنقولة في أبواب تروك الإحرام عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث : إنّ رجلاً أعجمياً دخل المسجد يلبّي وعليه قميصه ، فقال لأبي عبداللّه: إنّي كنت رجلاً أعمل . .. إلى أن قال : «ليس عليك الحجّ من قابل ، أيّ رجل ----------------------------------- أ - الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 88 و271 . ب - كفاية الاُصول : 389 . ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(أ)، دلّ على أنّ الإتيان بمجهول الحكم لا يوجب شيئاً . وقد ردّها الشيخ الأعظم : بظهور مثل هذا التركيب في الجاهل المركّب الغافل(ب). وقيل في توجيهه : إنّ الباء للسببية ، والجاهل الغافل يكون جهله سبباً للارتكاب(ج) . وأيّد الشيخ مقالته : بأنّ تعميم الجهالة لصورة الترديد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، ثمّ أمر بالتأ مّل(د). ولعلّ وجه تأ مّله : عدم تمامية دعواه ؛ ضرورة عدم كون هذه التراكيب ظاهرة فيما ذكر ، كما في قوله تعالى : )أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ((ه ) ، وقوله : )إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه ِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ((و) . نعم ، مورد الرواية هو الجاهل الغافل ، لكن لا يكون المورد مخصّصاً ، خصوصاً في مثل هذا العامّ الذي ورد لإلقاء قاعدة كلّية ، ويكون من قبيل العموم . ويؤيّد ما ذكرنا: ورود روايات - في باب الحجّ(ز) والصوم(ح) - بم-عذورية الجاهل من ---------------------------- أ - تهذيب الأحكام 5 : 72 / 239 ؛ وسائل الشيعة 12 : 448 ، كتاب الحجّ ، أبواب تروك الإحرام ، الباب 45 ، الحديث 3 . ب - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 42 . ج - بحر الفوائد 2 : 20 / السطر 18 ؛ نهاية الأفكار 3 : 229 . د - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 42 . ه- الحجرات ((49)) : 6 . و - النساء ((4)) : 17 . ز - راجع وسائل الشيعة 13 : 108 ، كتاب الحجّ ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، الباب 2 و : 157 ، أبواب بقية كفّارات الإحرام ، الباب 8 و10 . ح - راجع وسائل الشيعة 10 : 180 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ، الباب 2 . غير استفصال عن جهله . وأمّا تأييده بكون الباء للسببية ، ففيه منعه ؛ ضرورة أنّ الجهل - بسيطاً أو مركّباً - لا يكون سبباً للفعل ، بل السبب له هو مبادئه . نعم ربّما يكون العلم بالحكم مع بعض المبادئ مانعاً عن ارتكاب الفعل ، فالباء هاهنا يمكن أن تكون بمعنى «عن». ومع كونها للسببية يصدق أنّ الارتكاب يكون بجهالة مع الفحص عن الحكم ، وعدم العثور عليه ، فارتكب ؛ فإنّ السببية لا تكون بمعنى صدور الفعل عنه ، بل بمعنى دخالته ولو في الجملة ، وهي حاصلة في الجاهل الملتفت . وأمّا تأييده بلزوم التخصيص مع عدم جوازه ، ففيه : - مضافاً إلى أنّ التخصيص لازم على أيّ حال - [ أ نّه] لا يكون في المقام مانع عن التخصيص . ودعوى إبائه عنه غير مسموعة ؛ ضرورة عدم وجه للإباء ، وعدم كون لسانه آبياً عنه ، ولا التخصيص مستهجناً . وممّا يستدلّ به للبراءة حسنة ابن الطيّار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم»(أ). دلّت على أنّ الاحتجاج إنّما يكون بإيتاء القدرة والسعة والعقل والفهم ، وبتعريف اللّه أحكامه . والظاهر أنّ قوله : «آتاهم» إشارة إلى قوله تعالى : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا((ب) ، و)لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا((ج) ، كما استدلّ بهما أبو عبداللّه عليه السلامفي رواية عبدالأعلى لعدم التكليف على المعرفة ، وأنّ على اللّه البيان ، وذلك لعجزهم عنها(د) . ------------------------------- أ - الكافي 1 : 162 / 1 . ب - الطلاق ((65)) : 7 . ج - البقرة ((2)) : 286 . د - الكافي 1 : 163 / 5 ؛ التوحيد ، الصدوق : 414 / 11 . ولا يخفى : أنّ إيتاء السعة والقدرة يكون بالنسبة إلى كلّ مكلّف لإتمام الحجّة عليه ، ولا يكفي الإيتاء في الجملة للاحتجاج [على] سائر المكلّفين ، فكذلك العلم والمعرفة ، فما لم يعرّف اللّه عبده الحكم لا تتمّ حجّته عليه ، فإذا جدّ واجتهد المكلّف ، ولم يصل إلى معرفة حكم اللّه تعالى لأسباب لا تكون تحت قدرته ، يصدق أ نّه ما عرّفه اللّه ، فلا تتمّ الحجّة عليه ، وهو المقصود . ثمّ إنّ هذه الرواية منقولة مع ذيل في «الكافي» في باب حجج اللّه على خلقه عن ابن الطيّار - هو حمزة بن محمّد - عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال لي : «اكتبْ» فأملى عليّ : «إنّ من قولنا : إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولاً ، وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى . . .»(أ) إلى آخره . وقد يقال : إنّ الظاهر أنّ ابن الطيّار نقل الرواية مع ذيلها لأبان الأحمر في الثانية ، وتقطيعاً لجميل في الاُولى ، فيشكل الاستدلال بها لمكان ذيلها ؛ فإنّ الظاهر أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب كانا بعد إيتائهم وتعريفهم ، فلا بدّ من كون التعريف عبارة عن المعرفة الفطرية بالصانع ، لا المعرفة بالأحكام ، فتكون أجنبيّة عمّا نحن فيه . أقول : الأخذ بظاهر الرواية غير ممكن ؛ لأنّ ظاهرها أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب متأخّران عن الاحتجاج بما آتاهم وعرّفهم ، فلا بدّ وأن يقال : إنّ المقصود منه أنّ سنّة اللّه تعالى هو الاحتجاج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، وهي منشأ لإرسال الرسل والتعريف ، فتخلّل لفظة «ثمّ» يكون مناسباً لذلك . مع أنّ في ذيل الرواية دلالة على ذلك ؛ فإنّ الظاهر أنّ ذيلها مربوط بهذا الكلام ، فقد تصدّى لبيان أنّ التعريف على اللّه لإتمام الحجّة بقوله : «ثمّ أرسل إليهم رسولاً . . .» إلى آخره، وأنّ إيتاء السعة والقدرة أيضاً شرط لإتمام الحجّة بقوله : «فنام رسول اللّه عن ---------------------------- أ - الكافي 1 : 164 / 4 . الصلاة . . .» إلى آخر ما ذكر من الاستشهاد بالآيات على أنّ التكليف موضوع عن الضعفاء والمرضى والفقراء ، فراجع . وبالجملة : هذا الذيل لا يضرّ بالدلالة بل يؤيّدها . وأمّا ما قيل : إنّ ما دلّ على الاحتياط وارد على مثلها(أ) ، ففيه ما لا يخفى ؛ فإنّ الظاهر منها أنّ المعرفة بالأحكام موجبة للاحتجاج ، وبما أ نّه في مقام الامتنان والتحديد ، تدلّ على أ نّه مع عدم المعرفة لا يقع الاحتجاج ، ولا يكون الضيق والكلفة ، كما دلّ عليه ذيل الرواية الثانية ، ولزوم الاحتياط لا يوجب المعرفة بالأحكام ؛ ضرورة عدم طريقيته للواقع ، لا حكماً ولا موضوعاً ، فلو احتجّ علينا على الواقع بالاحتياط يكون احتجاجه بلا تعريف ، وهو يناقض الرواية ، وليس الاحتياط واجباً نفسياً حتّى يحتجّ به ، بل بعد إلزام الاحتياط يحتجّ بالواقع ، فلا إشكال في مناقضة الاحتياط معها . بل لا يبعد حكومتها على أدلّة الاحتياط ؛ لتعرّضها لنفي الاحتجاج - الذي لازم جعل الاحتياط - ممّا لا تتعرّض له أدلّة الاحتياط ، فتدبّر . وقريب منهما ما روي في «الوافي» عن «الكافي» في باب البيان والتعريف بإسناده عن اليماني ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إنّ أمر اللّه كلّه عجب ، إلاّ أ نّه قد احتجّ عليكم بما عرّفكم من نفسه»(ب) بالتقريب المتقدّم . واحتمال كون المراد من «عرّفكم من نفسه» تعريف نفسه وذاته - حتّى تكون ذاته معروفة بتعريفه - بعيد ، بل الظاهر أنّ الاحتجاج بالأحكام بعد تعريفه تعالى ، فتعريف أحكامه عليه ، لا على غيره . ومنها: المرسلة المرويّة في الوسائل في باب 12 من كتاب القضاء عن محمّد بن علي بن ---------------------------- أ - اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 43 . ب - الكافي 1 : 86 / 3 ؛ الوافي 1 : 552 / 456 . الحسين ، قال : قال الصادق : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(أ). ولا يخفى : أنّ مثل هذا الإرسال والنسبة إلى المعصوم بنحو الجزم من مثل الصدوق لا يمكن إلاّ مع إحرازه صدور الرواية ، فهي رواية محرزة لديه ولو بالقرائن القائمة لديه ، ورفع اليد عن مثلها في غاية الإشكال في موارد إثبات حكم إلزامي ، بل لا يبعد صحّة الاحتجاج بمثلها . وكيف كان : فمحتملاتها كثيرة ؛ لأنّ الإطلاق : إمّا بمعنى اللاحرج والحظر ، أو بمعنى الإباحة الشرعية الواقعية ، أو بمعنى الإباحة الظاهرية المجعولة للشاكّ . والنهي : إمّا بمعنى النهي الواقعي المتعلّق بالعناوين الأوّلية ، أو الأعمّ منه ومن الظاهري كالمستفاد من الاحتياط ، أو خصوص الظاهري . والورود : إمّا بالمعنى المساوق للصدور ، أو المساوق للوصول إلى المكلّف . وقد يقال بامتناع إرادة بعض الاحتمالات(ب) : منه : إرادة الإطلاق بمعنى الإباحة الواقعية ، والورود بمعنى الصدور الواقعي ؛ لأنّ الإباحة الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع ؛ لخلوّه عن المصلحة والمفسدة ، فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها ؛ للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أ نّه لا اقتضاء ، وفرض عروض عنوان آخر مقتض للحرمة ، مخالف لظاهر الرواية الدالّة على أنّ الحرمة وردت على نفس ما وردت عليه الإباحة . وإن كان المراد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده بأنّ ما لم يرد فيه نهي مباح ، فهو - مع كونه خلاف الظاهر - فاسد؛ لأ نّه إن كان بنحو المعرّفية فهو كالإخبار بأمر بديهي ---------------------------- أ - الفقيه 1 : 208 / 937 ؛ وسائل الشيعة 27 : 173 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 67 . ب - نهاية الدراية 4 : 72 - 77 . لا يناسب شأن الإمام عليه السلام ، وإن كان بنحو التقييد والشرطية فهو غير معقول ؛ لأنّ تقييد موضوع أحد الضدّين بعدم الضدّ - حدوثاً أو بقاءً - غير معقول ؛ لأنّ عدم الضدّ ليس شرطاً لوجود ضدّه . ومنه : احتمال إرادة الإباحة الظاهرية والورود هو الصدور ، بوجوه : منها : لزوم تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ ؛ فإنّه مع فرض كون الموضوع - وهو المشكوك - موجوداً ، يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع للشكّ واقعاً ، فلا يعقل أن يتقيّد إلاّ بورود النهي على المكلّف . ومنها : أنّ الإباحة إذا كانت مغيّاة بصدور النهي واقعاً ، أو محدّدة بعدمه ، والغاية أو القيد مشكوك الحصول ، فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم صدوره لفعلية الإباحة . وإجراء الأصل : إن كان لمجرّد نفي الحرمة فلا مانع منه ، إلاّ أ نّه ليس من الاستدلال بالخبر ، وإن كان للتعبّد بالإباحة الشرعية - واقعية أو ظاهرية - فقد علم امتناع ذلك مطلقاً ، وإن كان للتعبّد بالإباحة بمعنى اللاحرج فهي ليست من مقولة الحكم ، ولا هي موضوع ذو حكم . ومنها : أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة ، ومقتضى فرض عدم الحرمة إلاّ بقاءً هو فرض عدم الحرمة حدوثاً ، ومقتضاه عدم الشكّ في الحلّية والحرمة من أوّل الأمر ، فلا معنى لجعل الإباحة الظاهرية ، وليست الغاية غاية للإباحة الإنشائية - حتّى يقال : إنّه يحتمل في فرض فعلية الشكّ صدور النهي واقعاً - بل غاية لحقيقة الإباحة(أ) . [الفعلية بفعلية موضوعها - وهو المشكوك - وحيث إنّ المفروض صدور النهي بقاءً في مورد هذه الإباحة الفعلية ---------------------------- أ - لأجل فقدان تتمّة الحاشية في الأصل أوردناه من هنا إلى آخر هذه الحاشية من تهذيب الاُصول 3 : 75 . فلذا يرد المحذور المزبور(أ) . أقول : في كلامه مواقع للنظر : منها : ما أفاده في امتناع الأوّل من أنّ الإباحة الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع ، فلا يعقل ورود النهي على نفس الموضوع ، ففيه : أنّ اللا اقتضاء والاقتضاء لو كانا راجعين إلى نفس الموضوع لكان لما ذكره وجه ، إلاّ أنّ الأحكام الشرعية وإن كانت مجعولة عن مصالح ومفاسد لكن لا يلزم أن يكون تلك المصالح أو المفاسد في نفس الموضوعات حتّى يكون الاقتضاء واللا اقتضاء راجعاً إليه ، بل الجهات الخارجية مؤثّرة في جعل الأحكام بلا ريب . وأوضح شاهد على ذلك هو نجاسة الكفّار والمشركين ؛ فإنّ جعل النجاسة عليهم ليس لأجل وجود قذارة أو كثافة في أبدانهم - كما في سائر الأعيان النجسة - بل الملاك لهذا الجعل الجهات السياسية ؛ فإنّ نظر المشرّع تحفّظ المسلمين عن مخالطة الكفّار والمعاشرة معهم ؛ حتّى تصون بذلك أخلاقهم وآدابهم ونواميسهم ، فلأجل هذه الأمنية حكم على نجاستهم . فحينئذٍ : فمن الممكن أن يكون الموضوع مقتضياً للحرمة لكن الموانع منعت عن جعلها ، أو المصالح السياسية اقتضت جعل الإباحة الواقعية . فلو كان الشارع حاكماً بحلّية الخمر في دور الضعف - وإن كان تراها ذات مفسدة مقتضية للتحريم وجعل الحرمة - لكان أشبه شيء بالمقام . ومنها : أ نّه يمكن جعل ورود النهي تحديداً للموضوع بكلا الوجهين ؛ من المعرّفية والشرطية بلا محذور : أمّا الأوّل: فلأنّ ما هو كالبديهي إنّما هو الإباحة بمعنى اللا حرجي قبال الحظر ، وأمّا ------------------------------- أ - نهاية الدراية 4 : 72 - 75 و78 - 79 . الإباحة الواقعية المجعولة الشرعية فليس كذلك ؛ لأ نّها لا تحصل إلاّ بجعل الجاعل ، بخلاف اللا حرجية . فإن قلت : يلزم اللغوية حينئذٍ ؛ إذ بعد ما حكم العقل باللا حرجية فلا مجال لجعل الإباحة الواقعية . قلت : إنّه منقوض أوّلاً بالبراءة الشرعية ، مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وثانياً نمنع لغوية الجعل بعد كونها ذات آثار لا تترتّب إلاّ بجعل تلك الإباحة الواقعية ، ولا يغني عنها ما يحكم به العقل ؛ ضرورة أ نّه مع الشكّ في ورود النهي من الشارع يمكن استصحاب الحلّية المجعولة ، بعد الإشكال في جريان أصالة عدم ورود النهي لأجل كونها أصلاً مثبتاً ، وبدونها لا يجوز استصحاب اللا حرجية ؛ لعدم كونها حكماً شرعياً ، ولا موضوعاً ذا أثر . على أ نّه يمكن منع اللغوية بأنّ جعلها لرفع الشبهة المغروسة في الأذهان من أنّ الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر حتّى يرد منه الترخيص . وأمّا الثاني : أعني أخذ عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ الآخر ، فالمنع عنه يختصّ بالاُمور التكوينية كما حقّق في محلّه ، وأمّا الاُمور الاعتبارية التي لا يتحمّل أحكام التكويني - كالتضادّ وغيره - فلا ، وقد أوضحنا في بعض المباحث : أ نّه لا تضادّ بين الأحكام ، فلأجل ذلك يمكن أن يجعل عدم أحد الضدّين شرطاً لوجود الضدّ الآخر . ومنها : ما أفاده من امتناع إرادة الإباحة الظاهرية من المطلق مع كون الورود الواقعي غايةً أو تحديداً للموضوع لأجل تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ ، ففيه : أنّ الموضوع على التحديد هو المشكوك الذي لم يرد فيه نهي واقعاً ، وهو غير المشكوك الذي ورد فيه نهي . وبالجملة : لو كان الموضوع للإباحة الظاهرية هو المشكوك بما هو هو ، المجامع مع ورود النهي واقعاً ، يلزم تخلّف الحكم - الإباحة الظاهرية - عن موضوعه المشكوك . فمع كون الموضوع - وهو المشكوك - موجوداً ليس معه الحكم - أعني الإباحة - لأجل ورود النهي واقعاً . وأمّا لو كان الموضوع هو المشكوك الذي لم يرد فيه نهي واقعاً ، فلو ورد هنا نهي لانتفى ما هو موضوع الإباحة بانتفاء أحد جزئيه ، فليس هنا موضوع حتّى يلزم انفكاك الحكم عن موضوعه . نعم ، لو كان غاية فالموضوع وإن كان هو المشكوك بما هو هو - وهو محفوظ مع ورود النهي - لكن لا مانع من تخلّف الحكم عن موضوعه إذا اقتضت المصالح الخارجية لذلك. وما ذكر من الامتناع ناشٍ من قياس التشريع على التكوين ، بتخيّل أنّ الموضوعات علل تامّة للأحكام - كما هو المعروف - وهو غير تامّ . وقد عرفت : أنّ المصالح الخارجية ومفاسدها لها دخالة في تعلّق الأحكام ، كما مرّ في نجاسة الكفّار ، وطهارة العامّة في حال الغيبة لأجل حصول الاتّفاق والاتّحاد ؛ حتّى دلّت الأخبار على رجحان معاشرتهم والحضور في جماعاتهم إلى غير ذلك (أ). وعلى ذلك : فالمشكوك يمكن أن يكون حلالاً إلى أمد ؛ لاقتضاء العصر وحراماً إلى زمان آخر . وإن شئت أخذت الحوادث المقارنة قيداً محدوداً ، وبتغيّرها يتغيّر الحكم . وأمّا إجراء الأصل : فنختار أ نّه للتعبّد بالإباحة الشرعية واقعية أو ظاهرية . وما أفاد من أ نّه قد علم امتناع ذلك مطلقاً قد علمت صحّته ومعقوليته . أضف إلى ذلك : أنّ ما أفاد تحت ذلك العنوان - إجراء الأصل - ظاهر في كونه دليلاً مستقلاًّ ، مع أ نّه في الإباحة الظاهرية مصادرة جدّاً . اللهمّ أن يتشبّث بما أفاده قبله ، فلا يكون ذلك دليلاً مستقلاًّ . ثمّ إنّ الأصل الجاري في المقام : ------------------------------- أ - راجع وسائل الشيعة16 : 219 ، كتاب الأمر والنهي ، أبواب الأمر والنهي ، الباب 26 ، و8 : 299 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 5 . إن كان أصالة عدم الحرمة : فسيوافيك الإشكال فيه . وإن كان أصالة عدم ورود النهي حتّى يثبت الحلّية الواقعية أو الظاهرية : فسيوافيك أ نّه من الاُصول المثبتة ؛ لأنّ تحقّق ذي الغاية مع عدم حصول غايته من الأحكام العقلية ، والشكّ في تحقّق ذيها وإن كان مسبّباً عن تحقّق نفس الغاية وعدمها ، إلاّ أ نّه ليس مطلق السببية مناطاً لحكومة السببي على المسبّبي ما لم يكن الترتّب شرعياً . وإن كان الأصل أصالة بقاء الإباحة الواقعية أو الظاهرية فلا مانع منه . والقول بأنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام الظاهرية صحيح ، لكن المقام ليس من أفراده ؛ لأنّ ذلك فيما إذا كان نفس الشكّ كافياً في ترتّب الأحكام ؛ لأنّ الحكم في المقام ليس مرتّباً على نفس الشكّ ، بل عليه مغيّاً بعدم ورود النهي الواقعي ، وهذا لا يكفي فيه الشكّ أصلاً حتّى لا تحتاج إلى الاستصحاب . وأمّا ما أفاده في ثالث إشكالاته : فلأ نّا نمنع استلزام عدم الحرمة إلاّ بعد ورود النهي عدمَ تحقّق الشكّ ؛ فإنّ تحقّقه ضروري مع الشكّ في الورود وعدمه ؛ فإنّ المكلّف إذا التفت إلى حرمة شرب التتن وعدمها ؛ محتملاً ورود النهي واقعاً فلا محالة يتحقّق في نفسه الشكّ ، وهو كافٍ في جعل الحكم الظاهري ؛ سواء كان الحكم الظاهري هو إيجاب الاحتياط حتّى يرد الترخيص ، أو الترخيص حتّى يرد النهي ، وقد أوضحنا عدم لغوية هذا الجعل ، كما تقدّم . ثمّ هذا كلّه على القول بأنّ موضوع الحلّية الظاهرية هو الشكّ في الحكم الشرعي المجعول . ويمكن أن يقال : إنّ موضوعها هو الشكّ في كون الأشياء على الحظر وعدمه ، أو الشكّ في الملازمة بين حكم العقل والشرع إذا قلنا بالحظر عقلاً ، فيكون قوله عليه السلام: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ناظراً لكلا الشكّين . فلو شكّ في أنّ الأصل في الأشياء هو الحظر أو عدمه تفيد الرواية كونها على الإباحة ، وكذا لو قلنا بأنّ الأصل الأوّلي هو الحظر ولكن شككنا في الملازمة . والحاصل : يكون قوله عليه السلام ناظراً إلى ما إذا شكّ في الحكم الشرعي لأجل الشكّ في أنّ الأصل في الأشياء هو الحظر أو عدمه ، أو لأجل الشكّ في الملازمة . فهذا الشكّ محقّق مطلقاً ؛ حتّى مع العلم بعدم ورود النهي في الشرع ؛ لأنّ متعلّق الشكّ كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هل هو الحظر أو لا ؟ وهذا لا ينافي العلم بعدم ورود النهي من الشارع ، وهذا نحو آخر من الحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ في الحكم الواقعي . وعلى هذا يكون عامّة إشكالاته واضحة الدفع ؛ خصوصاً الثالث منها ؛ فإنّه على فرض تسليمه لا يرد في هذا الفرض ، كما لا يخفى . هذا كلّه محتملات الرواية حسب الثبوت ، وأمّا مفادها حسب الإثبات فلا شكّ أنّ معنى قوله عليه السلام: «حتّى يرد فيه نهي» أنّ هذا الإطلاق والإرسال باقٍ إلى ورود النهي ، وليس المراد من الورود هو الورود من جانب الشارع ؛ لانقطاع الوحي في زمان صدور الرواية . والحمل على النواهي المخزونة عند وليّ العصر عليه السلام بعيد جدّاً ؛ فإنّه على فرض وجود تلك النواهي عنده فتعيّن أن يكون المراد من الورود هو الوصول على المكلّف ، وهذا عرفاً عين الحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ إلى أن يظفر على الدليل . والحاصل: أنّ قوله : «يرد» جملة استقبالية ، والنهي المتوقّع وروده في زمان الصادق ليست من النواهي الأوّلية الواردة على الموضوعات ؛ لأنّ ذلك بيد الشارع ، وقد فعل ذلك وختم طوماره بموت النبي صلى الله عليه و آله وسلم وانقطاع الوحي ، غير أنّ كلّ ما يرد من العترة الطاهرة كلّها حاكيات عن التشريع والورود الأوّلي . وعلى ذلك : ينحصر المراد من قوله : «يرد» على الورود على المكلّف - أي الوصول إليه - حتّى يرتفع بذلك الحكم المجعول للشاكّ ، وهذا عين الحكم الظاهري . وأمّا احتمال كون الإطلاق بمعنى اللا حظر ؛ حتّى يكون بصدد بيان حكم عقلي ومسألة اُصولية أو كلامية ، أو بمعنى الحلّية الواقعية قبل الشرع المستكشف بحكم العقل الحاكم بكون الأشياء على الإباحة ، وبملازمة حكم العقل والشرع ، ففي غاية البعد ؛ فإنّ ظواهر هذه الكلمات كون الإمام بصدد بيان الفتوى ورفع حاجة المكلّفين ، لا بيان مسألة اُصولية أو كلامية أو عقلية . ولو فرض كونها بصدد بيان الحكم العقلي أو بيان التلازم يشكل إثباته بالرواية ؛ لعدم صحّة التعبّد في الأحكام العقلية أو ملازماتها ، كما لا يخفى . ومن الروايات: صحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج المنقولة في أبواب ما يحرم بالمصاهرة عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً ؟ فقال عليه السلام: «لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك». قلت: بأيّ الجهالتين أعذر؛ بجهالة أنّ ذلك محرّم عليه أم بجهالة أ نّها في العدّة ؟ قال عليه السلام: «إحدى الجهالتين أهون من الاُخرى ؛ الجهالة بأنّ اللّه تعالى حرّم عليه ذلك ؛ وذلك لأ نّه لا يقدر معها على الاحتياط» . قلت : فهو في الاُخرى معذور ؟ قال عليه السلام: «نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها»(أ). وجه الدلالة : أنّ التعبير بالأهونية في جواب الإمام وبالأعذرية لا يناسب الأحكام الوضعية ؛ فإنّ كون الجهل عذراً وموجباً لعدم التحريم الأبدي لا مراتب له ، فلا بدّ من الحمل على الحكم التكليفي ؛ إذ هو الذي يتفاوت فيه بعض الأعذار، ويكون بعضها ---------------------------- أ - الكافي 5 : 427 / 3 ؛ تهذيب الأحكام 7 : 306 / 1274 ؛ وسائل الشيعة 20 : 450 ، كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الباب 17 ، الحديث 4 . أهون من بعض . فالغافل المرتكب للمحرّم أعذر من الجاهل الملتفت المرتكب له ؛ وإن كان ارتكابه بحكم أصل البراءة . وعليه : فالرواية دالّة على كون الجهل مطلقاً عذراً في ارتكاب المحرّمات ؛ وإن كان الأعذار ذات مراتب ، والجهالات ذات درجات . وأمّا ما عن بعض محقّقي العصر قدس سره من تقريب دلالتها بأنّ قوله عليه السلام: «فقد يعذر الناس بما هو أعظم» دالّ على معذورية الجاهل من حيث العقوبة عند الجهل ، الشامل بإطلاقه للمعذورية عن العقوبة والنكال الاُخروي(أ)، فضعيف جدّاً ؛ لأنّ قوله : «فقد يعذر» لا يستفاد منه الإطلاق ؛ لأنّ «قد» فيه للتقليل لا للتحقيق . وعلى أيّ تقدير : التمسّك بها للمقام محلّ إشكال ؛ لأنّ التعليل بأ نّه كان غير قادر على الاحتياط يجعلها مختصّة بالغافل ، وهو غير محلّ البحث . وإلغاء الخصوصية مع التفاوت الفاحش لا يمكن في المقام . ومن الروايات: قوله عليه السلام: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، فتدعه» . أقول : قد صدر هذه الكبرى عنهم عليهم السلام في عدّة روايات : منها : في صحيحة عبداللّه بن سنان المنقولة في أبواب ما يكتسب به ، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه»(ب). ومنها : رواية عبداللّه بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام المنقولة في الأطعمة المباحة ، بعد السؤال عن الجبن: «كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام -------------------------------- أ - نهاية الأفكار 3 : 231 . ب - الفقيه 3 : 216 / 1002 ؛ وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 1 . بعينه ، فتدعه»(أ). ومنها : ما رواه البرقي بسنده عن معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن . فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه لطعام يعجبني ، وساُخبرك عن الجبن وغيره : كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام ، فتدعه بعينه»(ب). ومنها : رواية عبداللّه بن سليمان عن أبي عبداللّه عليه السلام في الجبن ، قال : «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»(ج). ومنها : موثّقة مسعدة بن صدقة قال : سمعته يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب . . .»(د) إلى آخره . هذه جملة من الروايات المذكورة فيها هذه الكبرى مع اختلاف يسير ، وما يظهر من الشيخ الأعظم من كون قوله عليه السلام: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام» رواية مستقلّة غير هذه الروايات(ه ) فلم نقف عليه . -------------------------------- أ - الكافي 6 : 339 / 1 ؛ وسائل الشيعة 25 : 117 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 1 . ب - المحاسن : 496 / 601 ؛ وسائل الشيعة 25 : 119 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 7 . ج - الكافي 6 : 339 / 2 ؛ وسائل الشيعة 25 : 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 2 . د - الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 . ه- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 48 و 119 . والظاهر : أنّ الكبرى المذكورة في رواية عبداللّه بن سليمان عين ما ذكر في صحيحة ابن سنان ؛ لوحدة العبارة ؛ وإن كانت الاُولى مصدّرة بحكم الجبن ، فيكون الاُولى مختصّة بالشبهات الموضوعية ، ولأجل ذلك يشكل تعميم صحيحة ابن سنان على الحكمية . أضف إلى ذلك قوله : «بعينه» و«منه» و«فيه» ومادّة العرفان المستعملة في الاُمور الجزئية ؛ فإنّ كلّ واحد من هذه الاُمور وإن كان في حدّ نفسه قابلاً للمناقشة ، إلاّ أنّ ملاحظة المجموع ربّما تصير قرينة على الاختصاص أو سلب الاعتماد بمثل هذا الإطلاق . ومثل تلك الصحيحة موثّقة مسعدة بن صدقة ؛ فإنّ الأمثلة المذكورة فيها كلّها من الشبهات الموضوعية ، وفيها إشكالات ذكرها الشيخ الأعظم(أ) وإن كان في بعض ما أجاب به تأمّل . الاستدلال بالإجماع والعقل على البراءة أمّا الإجماع : فلا يفيد في المقام أصلاً ؛ لكون المسألة ممّا تظافرت به الأدلّة النقلية وحكم به العقل ، فمن القريب جدّاً أن يكون المدرك لإجماعهم هو تلك الأدلّة . وأمّا دليل العقل : فلا إشكال أنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان - أي بلا حجّة - وهذا حكم قطعي للعقل ، يرتفع موضوع ذاك الحكم بوصول البيان إلى المكلّف بالعنوان الأوّلي ، أو بإيجاب الاحتياط والتوقّف في الشبهات ، وهذا ممّا لا إشكال فيه . ثمّ إنّه يظهر عن بعضهم : أ نّه لا يحتاج الاُصولي إلى هذه الكبرى ؛ لأنّ الملاك في استحقاق عقوبة العبد في مخالفة مولاه هو عنوان الظلم ؛ فإنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبودية ، وهو ظلم من العبد إلى مولاه ، يستوجب العقوبة . وأمّا مع عدم قيام الحجّة فلا يكون ظالماً ، فلا يستحقّ العقوبة ، وهو كافٍ في المقام . ------------------------------- أ - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 120 . وأمّا كون العقاب بلا بيان قبيحاً فغير محتاج إليه فيما يرتأيه الاُصولي ؛ وإن كان في نفسه صحيحاً(أ). أقول : إنّ العقل مستقلّ بوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته واستحقاق المتخلّف للعقوبة ، وهذا الحكم - استحقاقه للعقوبة - ليس بمناط انطباق عنوان الظلم عليه ، بل العقل يستقلّ بهذا مع الغفلة عن الظلم . على أنّ كون مطلق المخالفة ظلماً للمولى محلّ بحث وإشكال ، هذا أوّلاً . وأمّا ثانياً : فلأنّ المرميّ في المقام هو تحصيل المؤمّن عن العقاب ؛ حتّى يتسنّى له الارتكاب ، وهو لا يحصل إلاّ بالتمسّك بهذه الكبرى التي مآلها إلى قبح صدور العقاب من المولى الحكيم العادل . وأمّا مجرّد دفع الاستحقاق بمناط أنّ الارتكاب ليس بظلم فلا يكفي في ذلك ؛ لأنّ دفع الاستحقاق عن ناحية الظلم وحصول الطمأنينة من تلك الناحية لا يصير مؤمّناً عن عامّة الجهات ما لم ينضمّ إليه الكبرى المذكورة . وربّما يقال : إنّ مناط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب حتّى من غير بيان واصل إلى المكلّف ؛ فإنّه لم يحصل في الأوّل تفويت لمراد المولى ، ولم تتمّ مبادئ الإرادة الآمرية ، فلا مقتضي لاستحقاق العقاب . بخلاف الثاني ؛ فإنّ ملاك عدم الاستحقاق فيه عدم استناد فوت المطلوب إلى العبد(ب)، انتهى . وفيه : أنّ ما ذكر من الفرق غير فارق ، ولا يتجاوز عن بيان خصوصية الموردين . وأمّا اختلافهما في المناط فلا يستفاد منه ، بل المناط فيهما واحد ؛ وهو قبح العقاب بلا حجّة ؛ سواء لم يكن بيان من رأس أو كان ولم يصل إليه . ------------------------------- أ - نهاية الدراية 4 : 84 - 85 . ب - فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 3 : 365 - 366 . فالعقاب في كلا القسمين عقاب بلا جهة ولا حجّة ، وكلاهما من مصاديق الظلم ، والمناط في كلا القسمين واحد ، كما لا يخفى . ربّما يتوهّم : ورود حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل على الحكم العقلي المذكور من قبح العقاب بلا بيان ، بتوهّم : أنّ الأوّل بيان بلسانه ، فيصير العقاب مع البيان . وهذا فاسد ؛ سواء اُريد من الضرر العقاب الاُخروي أو اُريد غيره : أمّا الأوّل : فلأنّ من الواضح أنّ الكبرى بما هي هي لا تنتج شيئاً في عامّة الموارد ما لم ينضمّ إليها الصغرى ، فالعلم بوجوب دفع الضرر كالعلم بقبح العقاب بلا بيان لا ينتجان إلاّ إذا انضمّ إلى كلّ واحد صغراه . فيقال في الاُولى : إنّ العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب محتمل ، ويجب دفع الضرر المحتمل ؛ فينتج وجوب الاحتراز عن محتمل التكليف . ويقال في الثانية : إنّ العقاب على محتمل التكليف بعد الفحص التامّ وعدم العثور عليه عقاب بلا بيان ، والعقاب بلا بيان قبيح - أي يمتنع صدوره عن المولى الحكيم العادل - فينتج : أنّ العقاب على محتمل التكليف ممتنع . إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ القياس الثاني مركّب من صغرى وجدانية وكبرى برهانية ، فالنتيجة المتحصّلة منهما قطعية بتّية . وأمّا الأوّل : فالصغرى فيه ليست أمراً وجدانياً فعلياً ، بل صحّة صغراه يتوقّف على اُمور ؛ إمّا تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه ، أو كون المولى غير حكيم أو غير عادل ، أو كون العقاب بلا بيان أمراً غير قبيح . فلأجل واحد من هذه الاُمور يصير العقاب محتملاً ، والمفروض عدم تحقّق واحد منها . فظهر : أنّ الصغرى في الثاني وجدانية قطعية فعلية ، أمّا الصغرى في الأوّل معلّقة على تحقّق واحد من هذه الاُمور ، والمفروض عدم تحقّقها . فهذا القياس تامّ فعلي غير معلّق على شيء ، وتمامية ذاك مبنيّة ومعلّقة على بطلان القواعد المسلّمة . ولا شكّ عندئذٍ في حكومة القياس المنظّم من المقدّمات الفعلية على المتوقّف على اُمور لم يحصل واحد منها ؛ بمعنى أنّ القياس الثاني دافع لصغرى القياس الأوّل . ولعلّه إلى ذلك ينظر كلمات القوم ، وإلاّ فظاهر كلماتهم من ورود إحدى الكبريين على الاُخرى غير صحيح ؛ فإنّ النزاع ليس بين الكبريين ، بل صحّتهما ممّا لا إشكال فيه ، وصدقهما لا يتوقّف على وجود مصداق لصغراهما ؛ إذ العقاب بلا بيان قبيح - كان بيان في العالم أو لا - كما أنّ دفع الضرر المحتمل واجب - كان الضرر محتملاً أو لا - فاحتمال الضرر في بعض الموضوعات وتحقّق البيان كذلك غير مربوط بحكم الكبريين وموضوعهما ، فلا يكون إحدى الكبريين واردة أو حاكمة على الاُخرى قطّ ، بل أحد القياسين بعد تمامية مقدّماته وجداناً أو برهاناً يدفع صغرى القياس الآخر بالبيان المتقدّم . وأمّا الثاني ؛ أعني ما إذا اُريد من الضرر غير العقاب الاُخروي الموعود جزاءً للأعمال : فإن اُريد منه اللوازم القهرية للأعمال التي يعبّر عنه بتجسّم الأعمال وتجسّد الأفعال ، بتقريب أ نّها ليست من العقوبات السياسية المجعولة ؛ حتّى يرتفع بحكم العقل ، بل صور غيبية لأفعال الإنسان ، وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي بعدّة آيات وأخبار ظاهرة فيما قالوه(أ)، وعليه فلا بدّ من دفع هذا الاحتمال : فنقول : إنّ ما هو المقرّر عند أصحاب هذا القول : أنّ الأعمال التي تبقى آثارها في النفس هي الآثار الحسنة النورانية أو السيّئة الظلمانية ، وأمّا مطلق الأعمال ممّا هي متصرّمة في عالم الطبع فلا يمكن تحقّقها في عالم آخر . ولا تكون تلك الأفعال موجبة لخلاّقية النفس صوراً غيبية تناسب تلك الأفعال . وبالجملة: لوازم الأعمال هي الصور المتجسّدة بتبع فعّالية النفس إذا خرجت عن الجسد ------------------------------- أ - الأربعون حديثاً ، الشيخ البهائي : 401 و473 ؛ الحكمة المتعالية 9 : 175 و290 . في البرازخ أو بعد الرجوع إليه في القيامة الكبرى . فالأفعال الطبيعية التي لم تورث في النفس صورة ، لا يمكن حشرها وتصوّرها في سائر العوالم . ومناط هذه التصوّرات هو الإطاعة والعصيان ، لا إتيان مطلق الأفعال . وإن اُريد به الضرر الدنيوي ففيه : أنّ احتمال مطلق الضرر - ولو كان دنيوياً - غير واجب الدفع ما لم يوجب احتمال العقاب . فإن قلت : إنّ مع احتمال الضرر يحكم العقل بقبح الارتكاب ، وبالملازمة تثبت الحرمة . قلت - مضافاً إلى أنّ ارتكاب الضرر ليس قبيحاً ، بل هو بلا داعٍ عقلائي سفه - إنّ لازم ذلك البيان هو العلم بالتكليف في صورة احتماله ، فتأمّل . فإن قلت : إنّ احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح ، وهو مستلزم لاحتمال العقاب ، وقد علم وجوب دفعه . قلت - مضافاً إلى ما أوردنا على الأوّل من أنّ ارتكاب الضرر بلا داعٍ عقلائي سفه لا قبيح ، ومعه لا سفه ولا قبح - يرد عليه : أنّ الضرر بوجوده الواقعي لا يؤثّر في القبح ، بل على فرضه لا بدّ من العلم به ، فالعلم به موضوع للقبح ، فمع احتمال الضرر لا يكون قبيحاً جزماً . أضف إلى ذلك : أنّ الشبهة الموضوعية والوجوبية مشتركتان مع الشبهة التحريمية في هذه التوالي المدّعاة ، فلو كانت للأفعال لوازم قهرية مؤذية لصاحبها لكان على الشارع الرؤوف الرحيم إيجاب الاحتياط ؛ حتّى يصون صاحبها عن هذه اللوازم القهرية . فالترخيص فيهما إجماعاً بل ضرورة ، دليل على بطلان تلك المزعمة ، وأ نّه ليس هاهنا ضرر اُخروي أو دنيوي واجب الدفع ، كما لا يخفى . وأظنّ : أنّ هذا المقدار من الأدلّة كافٍ في إثبات البراءة الشرعية ، ولنعطف عنان الكلام إلى مقالة الأخباريين] .

ص: 62

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 63

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 64

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 65

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 66

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 67

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 68

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ص: 72

ص: 73

ص: 74

ص: 75

ص: 76

ص: 77

ص: 78

ص: 79

ص: 80

ص: 81

حول : استدلال الأخباريّين على وجوب الاحتياط

استدلال الأخباريّين على وجوب الاحتياط

الاستدلال بالكتاب

قوله : «فبالآيات الناهية»(3) .

احتجّ الأخباريون على وجوب الاحتياط بآيات(1) :

منها : ما دلّ بظاهره على لزوم التورّع والاتّقاء ، مثل قوله : )اتَّقُوا اللّه َ حَقَّ تُقَاتِهِ((2) )وَجَاهِدُوا فِى اللّه ِ حَقَّ جِهادِهِ((3) ، وقوله : )فَاتَّقُوا اللّه َ مَا اسْتَطَعْتُمْ((4) .

ولقد أجاب عنها شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - : بأنّ الاتّقاء يشمل [فعل] المندوبات وترك المكروهات ، ولا إشكال في عدم وجوبهما ، فيدور الأمر بين

ص: 82


1- راجع الفوائد الطوسية : 492 .
2- آل عمران (3) : 102 .
3- الحجّ (22) : 78 .
4- التغابن (64) : 16 .

تقييد المادّة بغيرهما ، وبين التصرّف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان حتّى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه ، ولا إشكال في عدم أولوية الأوّل إن لم نقل بأولوية الثاني من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب ، حتّى قيل(1) : إنّه من المجازات الراجحة المساوي احتمالها مع الحقيقة(2) ، انتهى .

ويمكن المناقشة فيه :

أمّا أوّلاً : فبالمنع من شمول الاتّقاء لفعل المندوب وترك المكروه ؛ فإنّ التقوى عرفاً عبارة عن الاحتراز عمّا يوجب الضرر أو محتمله ، مثل ترك المحرّمات ومشتبهاتها ، واستعمالها في فعل الواجب ومشتبهه إنّما هو بمناسبة أنّ في تركه ضرراً أو احتماله ، ويتّضح ما ذكرنا بمراجعة موارد استعمال مادّة التقوى في الكتاب والسنّة والمحاورات العرفية .

وأمّا ثانياً : فبالمنع من أكثرية استعمال الأمر في غير الوجوب من تقييد المادّة ؛ فإنّ تقييدها شائع كثير في جميع أبواب الفقه حتّى يشكل الاطّلاع على مطلق باقٍ على إطلاقه ، ولو كان فإنّه نادر جدّاً . وأمّا استعمال الأمر في الوجوب فإلى ما شاء اللّه ، ولا أظنّ أنّ ما أفاد في المقام وتكرّر منه في مجلس بحثه - من رجحان التصرّف في الهيئة على التصرّف في المادّة عند الدوران - يكون مورداً لعمله قدّس سرّه في الفقه ؛ لأ نّه يلزم منه تأسيس فقه جديد ، كما لا يخفى .

نعم ، يتعيّن في المقام حمل الهيئة على مطلق الرجحان ، وعدم ارتكاب

ص: 83


1- معالم الدين : 53 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 429 .

التقييد في المادّة لخصوصية فيه ، لا لما ذكره ؛ وذلك لأنّ الآيات الشريفة آبية عن التقييد ؛ فإنّ الاستثناء من قوله : )اتَّقُوا اللّه َ حَقَّ تُقاتِهِ( وأمثاله يكون بشيعاً ، فلا يجوز أن يقال : «اتّقوا اللّه ما استطعتم إلاّ في مورد كذائي» ، ولمّا كانت الآيات الشريفة شاملة للشبهات الموضوعية والحكمية ولا يجب الاحتياط فيها بلا إشكال ، يدور الأمر بين تقييدها بغيرها وبين حمل الأوامر على مطلق الرجحان ، وحيث كان التقييد غير جائز يتعيّن الحمل عليه .

مضافاً إلى أنّ الآيات شاملة للمحرّمات والواجبات المعلومة ، ولا إشكال في امتناع تعلّق الأمر التعبّدي بوجوب إطاعتهما ، فيجب حمل الأوامر فيها على الإرشاد ، فتصير تابعة للمرشد إليه .

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنّة

قوله: «وما دلّ على وجوب الاحتياط»(4) .

إنّ ما دلّ على وجوبه طائفتان :

إحداهما : الأخبار الخاصّة ، كصحيحة عبدالرحمان بن حجّاج(1) وموثّقة

ص: 84


1- وهي : قال : سألت أبا الحسن عليه السلامعن رجلين أصابا صيداً ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما ؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد» قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ، فقال : «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» . الكافي 4 : 391 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 154 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 1 .

عبداللّه بن وضّاح(1) .

ويرد عليهما - مع كثرة الاحتمالات المسقطة [لهما] عن الاستدلال - أ نّهما شاملتان للشبهات الموضوعية والحكمية الوجوبية ، فيدور أمرهما بين التصرّف في المادّة والهيئة ، والثاني أولى ؛ لإبائهما عن التخصيص .

وثانيتهما : الأخبار العامّة ، كقوله : «أخوك دينك فاحتطْ لدينك بما شئت»(2) .

ويرد عليها - مضافاً إلى ما ذكر أخيراً - أنّ مثل حديث الرفع له نحو حكومة عليها ؛ فإنّ الدين عبارة عن الأحكام ؛ أي احتط في مورد تكون شبهة مخالفة الحكم الإلهي ، ولسان حديث الرفع هو رفع الحكم الإلهي عن مورد الشبهة ، ومع عدم الحكم لا يكون مورد للاحتياط لأجل التحفّظ عليه .

وبمثل ما ذكر يمكن الجواب عن خبر التثليث(3) ؛ فإنّ حديث الرفع يرفع موضوع الريب ، ويرفع الإشكال والشبهة .

ص: 85


1- وهي : أ نّه كتب إلى العبد الصالح عليه السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار ؟ فكتب إليه : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» . تهذيب الأحكام 2 : 259 / 1031 ؛ وسائل الشيعة 27 : 166 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 42 .
2- الأمالي ، الطوسي : 110 / 168 ؛ وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 46 .
3- كمقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث قال : «وإنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه» . راجع وسائل الشيعة 27 : 157 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 9 ، 27 ، 28 ، 45 و52 .

مضافاً إلى أنّ لسان خبر التثليث هو لسان الإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرّمات بواسطة التعوّد على ارتكاب الشبهات ، كما تشهد عليه الروايات .

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالدليل العقلي

قوله : «وأمّا العقل»(5) .

استدلّوا بالعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة ، فلا بدّ من الاحتياط(1) .

والجواب عنه يتوقّف على بيان ميزان انحلال العلم الإجمالي حقيقةً أو حكماً ؛ حتّى يتّضح الحال في المقام .

فنقول : قد يتوهّم أنّ ميزان الانحلال الحقيقي أن يتعلّق العلم بأنّ ما علم إجمالاً من التكليف هو هذا المعلوم بالتفصيل(2) فإذا علم بموطوئية غنم بين قطيعة لا بدّ في الانحلال أن يتعلّق العلم بأنّ هذه الغنم هي الغنم التي تعلّق بها العلم الإجمالي .

وبعبارة اُخرى : يحتاج في الانحلال إلى أمرين : أحدهما : العلم التفصيلي بمقدار المعلوم بالإجمال ، والثاني : العلم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل . وعلى هذا قلّما ينحلّ علم إجمالي ، خصوصاً في الشبهات الحكمية ، بل يمكن دعوى عدم مورد فيها كذلك .

ص: 86


1- الفوائد الطوسية : 507 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 87 .
2- نهاية الأفكار 3 : 250 .

هذا ، ولكن هذا خلاف التحقيق ؛ لعدم تقوّم الانحلال بالعلم بالانطباق ، بل احتماله كافٍ فيه ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزاً للأطراف إذا بقيت الأطراف على طرفيته ، وإنّما تبقى عليها فيما إذا كان الإجمال باقياً في النفس ، وإنّما يبقى الإجمال إذا كان كلّ طرف طرفاً للاحتمال بنحو القضيّة الحقيقية ، أو مانعة الخلوّ ، فيصدق عليه : إمّا هو واجب أو الطرف الآخر ، ومع العلم التفصيلي بوجوب طرف لا يبقى الترديد ؛ ضرورة خروج الطرف المعلوم بالتفصيل عن طرفية العلم الإجمالي ، لمناقضة مفاديهما ، فينحلّ العلم الإجمالي ، ولا يبقى إجمال في النفس ، فيصير أحد الأطراف معلوماً بالتفصيل ، والبقيّة محتملة .

وبالجملة : تنحلّ القضيّة الحقيقية أو مانعة الخلوّ إلى قضيّة حملية بتّية ، وإلى قضيّة اُخرى كذلك ، أو قضيّة مشكوك فيها ، من غير بقاء العلم الإجمالي .

إن قلت : لو خرج أحد الطرفين عن طرفية العلم بالسبب الحادث ، لانحلّت القضيّة المنفصلة إلى قضيّة بتّية ومشكوك فيها ، مع بقاء أثر العلم الإجمالي بلا إشكال ، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين في أوّل النهار ، ثمّ وقعت نجاسة في أحدهما المعيّن في آخر النهار ، فإنّ إحداهما تصير معلومة تفصيلاً ، والاُخرى مشكوك فيها ، مع بقاء أثر العلم الإجمالي ، ووجوب الاجتناب عن الاُخرى .

قلت : يشترط في بقاء أثر العلم الإجمالي أن يكون باقياً بالنسبة إلى الزمان الأوّل ؛ أي يكون المكلّف عالماً في الزمان الثاني بوجود التكليف في الزمان الأوّل ، وبهذا يفرّق بين صيرورة بعض الأطراف مفصّلاً بالسبب الحادث ، وبين

ص: 87

احتمال الانطباق من أوّل الأمر ؛ فإنّ الثاني يوجب الانحلال دون الأوّل ، كما أنّ هذا وجه الافتراق بين ما نحن فيه وبين الخروج عن محلّ الابتلاء ، أو إتيان بعض الأطراف .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ ميزان الانحلال الحقيقي هو صيرورة القضيّة المنفصلة قضيّتين : حملية بتّية موجبة ، وحملية بتّية سالبة إن كانت المنفصلة حقيقية ، وقضيّة مشكوكاً فيها إن كانت مانعة الخلوّ .

وأمّا الانحلال الحكمي : فهو صيرورة القضيّتين كذلك ، لكن بإعمال تعبّد من الشارع ولو إمضاءً ، كما لو قامت أمارة على أحد الأطراف ؛ فإنّه يصير المعلوم الإجمالي بها مفصّلاً ، ولا يبقى أثره بحكم التعبّد .

فيما اُجيب عن استدلال الأخباريّين بالدليل العقلي

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أ نّه قد اُجيب عن الأخباريين باُمور :

أحدها : أنّ العلم الإجمالي منحلّ حقيقة ؛ وذلك لأنّ العلم لمّا كان صفة قائمة بالنفس ، وله إضافة كشف إلى المعلوم ، يكون له جهتان : جهة كونه صفة نفسانية كالقدرة والإرادة ، وجهة كونه كاشفاً عن الواقع ، وموضوع حكم العقل في تنجيز الواقع هو جهة كونه طريقاً إلى الواقع ، لا كونه صفة قائمة بالنفس ، والأمارات مشتركات معه من هذه الحيثية ، وامتيازه عنها إنّما هو في كونه صفة ، وهو غير دخيل في التنجيز ، فما هو ملاك حكم العقل مفصّل ، وما بقي على إجماله ليس ملاكاً لحكم العقل .

وبالجملة : الأمارات مصداق حقيقي للعلم بما هو طريق إلى الواقع وكاشف

ص: 88

عنه ، فينحلّ العلم بقيامها ببعض الأطراف(1)، هذا .

وفيه : أنّ كون العلم صفة نفسانية مقابل القدرة والإرادة أمر ، وكونه كاشفاً مطلقاً أمر ، وكونه متّصفاً بتمام الكشف وكمال الإراءة أمر آخر .

والعلم وإن كان حقيقة بسيطة ، لكن [يحلّله] العقل إلى مطلق الكشف الجامع بينه وبين سائر الأمارات بل الظنون ، وإلى تمام الكشف وكمال الإراءة عن الواقع ، وبهذا يمتاز عن سائر الأمارات والظنون ، وما هو ملاك حكم العقل في التنجيز هو الكاشفية التامّة التي هي ما بها الامتياز بين العلم وغيره ؛ حيث يحكم العقل بعدم تطرّق الجعل إليه لأجلها نفياً وإثباتاً دون غيره ، وأمّا مطلق الكاشفية المشتركة فليس ملاك حكم العقل في التنجيز ، وإلاّ لزم كون مطلق الكواشف حجّة عقلية بنفسها من دون جعل ، ولزم امتناع الردع عنها أو تطرّق الجعل إليها ، وهو كما ترى .

فما هو ملاك حكم العقل في التنجيز في العلم ليس هو في الأمارات المجعولة أو الغير المردوعة ؛ فإنّ ملاك حكم العقل فيه هو تمامية الكشف ، وملاكه فيها هو البناء العقلائي ، أو التعبّد الشرعي جعلاً أو إمضاء ، فالانحلال بها

إن كان إنّما يكون انحلالاً تعبّدياً لا حقيقياً .

ثانيها : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه ومحصّله : أنّ العلم الإجمالي بالأحكام ينحلّ - تعبّداً وحكماً - بواسطة العلم الإجمالي بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذٍ لا علم بتكاليف

ص: 89


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 439 .

اُخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة في الطرق والاُصول العملية .

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالواجبات .

قلت : إنّما يضرّ السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثاً ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً ، ينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ البدوي . . . إلى آخر ما أفاد(1) .

وفيه : أنّ ميزان انحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة بالعلم الإجمالي في الدائرة الصغيرة ، إنّما هو تنجيز الأطراف بالعلم الصغير بحيث لا يبقى مجال لتنجيزها بالكبير ، فلا محالة يصير العلم الصغير بمنجّزيته للأطراف ممّا ينحلّ به العلم الكبير ؛ وذلك إنّما يكون فيما إذا تقدّم المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير على المعلوم بالعلم الكبير ؛ فإنّ المنجّزية في هذه الصورة تختصّ بالصغير ، وتكون منجّزية الكبير بالنسبة إليها من قبيل تنجيز المنجّز ، وهو محال ، فلا محالة يصير العلم الكبير غير مؤثّر بالنسبة إلى الأطراف ، فتنحلّ أطرافه إلى العلم بالمنجّز الفعلي بالنسبة إلى أطراف الصغير وإلى الشكّ البدوي .

وأمّا في صورة مقارنة المعلومين أو تقدّم الكبير ، فلا وجه للانحلال ؛ لأنّ العلم الكبير لا يصير بلا أثر ، أمّا في صورة تقدّمه على الصغير فواضح ؛ فإنّ الكبير منجّز للأطراف دون الصغير إلاّ على نحو التعليق ، وأمّا في صورة مقارنتهما ؛ فلأنّ الصغير والكبير يشتركان في تنجيز أطراف الصغير ؛ لمقارنة علّتي التنجيز فيها ، ويختصّ الكبير بتنجيز أطرافه المختصّة به .

ص: 90


1- كفاية الاُصول : 394 .

وبالجملة : في رتبة تنجيز الصغير لأطرافه يتنجّز أطراف الكبير به أيضاً ؛ لعدم استحالة مقارنة المنجّزين لشيء واحد ، كما لا يخفى .

فتحصّل من ذلك : أنّ الانحلال بالعلم الإجمالي ممّا لا يمكن فيما نحن فيه ؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي في الدائرة الصغيرة يقارن المعلوم في الكبيرة أو يتأخّر عنه ، ولا يكون مقدّماً عليه قطعاً .

وممّا ذكرنا : يظهر النظر فيما أفاده ، مضافاً إلى الخلل في كلامه من تناقض الصدر والذيل ، ومن الخلط بين قيام الأمارة على أحد الأطراف معيّناً وبين قيامها بنحو الإجمال ، فراجع .

الثالث - وهو المعتمد(1) - : أ نّه بعد قيام الأدلّة والأمارات - من قبيل الخبر الواحد - على الواجبات والمحرّمات بمقدار المعلوم ، ينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي(2) .

ولا إشكال في أنّ خبر الثقة كافٍ في الفقه ؛ بحيث لا يبقى لنا علم بالتكليف زائداً عمّا يكون مفاد الأخبار ، ولا إشكال في انحلال العلم الإجمالي تعبّداً ؛ لأجل قيام الأمارات على بعض الأطراف على نحو التعيين بمقدار المعلوم بالإجمال ؛ فإنّها دالّة على التكاليف الواقعية ، ويجب ترتيب الآثار عليها ، فتصير الأطراف بين ما يجب أو يحرم معيّناً وبين مشكوكهما ، فلا معنى لبقاء الإجمال والترديد بكون التكليف إمّا في هذا الطرف أو هذا ، فتنحلّ القضيّة المنفصلة الحقيقية إلى قضايا حملية بتّية موجبة وسالبة إن كانت المنفصلة حقيقية ،

ص: 91


1- قد رجعنا عنه في الدورة اللاحقة . [منه قدس سره]
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 438 .

والقضيّة المنفصلة المانعة للخلوّ إلى قضايا حملية بتّية موجبة وقضايا مشكوكة .

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الانحلال إنّما هو إذا كان مفاد أدلّة حجّية الأمارات التعبّد بالأحكام الواقعية .

وأمّا بناءً على جعل الحجّية : فإن قلنا : بأنّ للحجّة وجوداً واقعياً وإن لم نعثر عليها ، ينحلّ العلم بها .

وإن قلنا : بأن لا معنى للوجود الواقعي لها ، بل الحجّة إنّما تتقوّم بالعلم ، فلا ينحلّ العلم الإجمالي ؛ لأ نّها حادثة عند تحقّق العلم ، والتكليف الحادث ممّا لا ينحلّ العلم [به] كما أشرنا إليه سابقاً (1) .

هذا ، ولكن يمكن أن يقال بالانحلال في هذه الصورة أيضاً ؛ لأنّ الحجّة وإن كانت حادثة ، لكنّها حجّة على التكليف الواقعي من أوّل الأمر ، وقد عرفت(2) أنّ ميزان الانحلال بمقارنة المعلوم بالتفصيل للمعلوم بالإجمال ، أو تقدّمه عليه ، من غير دخالة لتقدّم العلم وتأخّره .

هذا ، مضافاً إلى أن لا معنى لجعل الحجّية ، بل قد عرفت سابقاً (3) أنّ خبر الثقة أمارة عقلائية أمضاها الشارع ، وحجّة عند العقلاء لأجل كشفه عن الواقع وطريقيته إليه ، والحجّية من آثار الطريقية ، وأمّا نفس الحجّية - أي احتجاج المولى على العبد ، وهو عليه - فهي غير قابلة للجعل . نعم جعل الأمارة بحيث ينتزع منها الحجّية ممكن ، لكنّه غير جعل الحجّية .

ص: 92


1- تقدّم في الصفحة 88 .
2- تقدّم في الصفحة 90 .
3- تقدّم في الجزء الأوّل : 70 .

تنبيهات البراءة:

التنبيه الأوّل : في اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي

قوله : «الأوّل أ نّه إنّما تجري أصالة البراءة . . .»(6) .

أقول : لا إشكال في أنّ جريان أصالة البراءة يتوقّف على عدم أصل حاكم أو وارد في موردها ، موافقاً كان أو مخالفاً .

وأمّا وجه تقديم الأمارات على الاُصول فسيأتي تفصيله في محلّه(1) .

فلو شكّ في حلّية حيوان أو طهارته من جهة الشكّ في قبوله التذكية ، حكم عليه بالحرمة والنجاسة بناءً على جريان أصالة عدم التذكية ، ولا تجري أصالة الحلّ والطهارة فيه .

ص: 93


1- راجع الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 264 - 275 .

حول أصالة عدم التذكية

ولا بأس بالإشارة إلى ما يتعلّق بالمثال من جهة الشبهة الحكمية والموضوعية على سبيل الاحتمالات الاُصولية ، لا على سبيل التصديق الفقهي ؛ فإنّه خارج عن المقام ، وذلك يتمّ برسم اُمور :

الأوّل : أنّ الشبهة : إمّا حكمية أو موضوعية ، والحكمية : إمّا تكون لأجل الشكّ في قابلية الحيوان الكذائي للتذكية ، وإمّا لأجل الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته لها ، وإمّا لأجل الشكّ في مانعية شيء عنها .

والشكّ في قبول التذكية : إمّا من جهة الشبهة المفهومية ، كما لو شكّ في حيوان أ نّه داخل في نوع الكلب ، وإمّا من جهة اُخرى ، كما لو شكّ في أنّ الحيوان المتولّد من الحيوانين - مع عدم دخوله في عنوان أحدهما - ممّا يقبل التذكية ، أو لا .

والشكّ في المانعية : تارةً يكون لأجل وصف لازم ، وتارةً يكون لأجل وصف حادث كالجَلل .

والشبهة الموضوعية : تارةً تكون لأجل الشكّ في حيوان بأ نّه غنم أو كلب لأجل الشبهة الخارجية ، وتارةً يكون الشكّ في جزء من الحيوان أ نّه جزء من الغنم أو الكلب ، وتارةً يكون الشكّ في جزء من الحيوان بأ نّه مأخوذ ممّا يعلم تذكيته أو ممّا لم يعلم تذكيته ، وتارةً في جزء منه بأ نّه مأخوذ ممّا يعلم تذكيته أو يعلم عدم تذكيته ، وأيضاً تارةً يكون الشكّ لأجل الشكّ في تحقّق التذكية خارجاً ، مع عدم كونه في يد مسلم أو سوق المسلمين ، وعدم مسبوقيته بهما ،

ص: 94

وتارةً يكون لأجل الشكّ في طروّ المانع بعد إحراز المانعية ، كما لو قلنا بأنّ الجلَل مانع ، وشككنا في حصوله .

الثاني : أنّ التذكية الموجبة للطهارة ، أو هي مع الحلّية ، إمّا أن تكون أمراً بسيطاً ، أو مركّباً خارجياً ، أو مركّباً تقييدياً .

وعلى الأوّل : تارةً تكون أمراً متحصّلاً مسبّباً من الأجزاء الخارجية ، وتارةً تكون منتزعاً منها موجودة بعين وجودها كسائر الانتزاعيات .

والمراد من المركّب الخارجي هاهنا : أن تكون التذكية عبارة عن الاُمور الستّة : أي فري الأوداج ، بالحديد ، إلى القبلة ، مع التسمية ، وكون الذابح مسلماً ، والحيوان قابلاً ولا يكون أمر آخر معتبراً فيها سواها .

والمراد من المركّب التقييدي : أن تكون التذكية عبارة عن أمر متقيّد بأمر آخر ، وحينئذٍ : تارةً تكون أمراً بسيطاً متحصّلاً من الاُمور الخمسة متقيّداً بقابلية

المحلّ مثلاً ، وتارةً تكون أمراً منتزعاً منها متقيّداً بها ، وتارةً تكون أمراً مركّباً منها متقيّداً بها ، ففي جميع هذه الصور يكون المركّب تقييدياً . نعم قد تكون التذكية بسيطة متقيّدة ، وقد تكون مركّبة متقيّدة .

الثالث : إن دلّ دليل شرعي على تعيين أحد المحتملات ورفع الشبهة من جهة أو جهات ، فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الاُصول الموضوعية أو الحكمية على اختلاف الموارد في جريانها ، كما ستأتي الإشارة إليه(1) .

وأمّا تصديق بعض المحتملات فهو منوط بالبحث الفقهي(2) ، وخارج عمّا

ص: 95


1- يأتي في الصفحة 102 .
2- راجع الطهارة ، الإمام الخميني قدس سره 4 : 237 .

نحن بصدده من بيان الأصل في كلّ محتمل .

إذا عرفت ذلك فنقول : لو كان الشكّ من جهة قابلية الحيوان للتذكية ، سواء كانت الشبهة لأجل الشبهة المفهومية أو لا ، ولم يدلّ دليل على قابلية كلّ حيوان للتذكية ، فهل تجري أصالة عدم القابلية وتحرز الموضوع ، أم لا ؟

قد يقال بجريانها ، وتوضيحه :

أنّ العارض قد يكون عارض المهية ، وقد يكون عارض الوجود ، وعلى أيّ تقدير قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً ، فالعرض اللازم للمهية كزوجية الأربعة ، وكون زوايا المثلّث مساوية للقائمتين ، والمفارق لها كعروض الوجود لمهية الممكن ، تأ مّل . والعرض اللازم للوجود كموجوديته المصدرية ، ونوريته ، ومنشئيته للآثار ، والمفارق كالسواد والبياض العارضين للموجود .

ولا إشكال في أنّ قابلية الحيوان للتذكية من العوارض اللازمة للوجود أو الموجود ، وليست من العوارض اللازمة للمهية ، وتكون من العوارض المفارقة للمهية بتبع الوجود كجميع عوارض الوجود .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الحيوان الكذائي - ونشير إلى مهيته - لم يكن قابلاً للتذكية قبل وجوده ، ونشكّ في أ نّه حين تلبّسه به عرض له القابلية لها ، أو لا ، فالأصل عدم عروضها له .

نعم ، لو كان الموضوع هو الوجود ، أو كانت القابلية من لوازم المهية ، لم يكن وجه لهذا الاستصحاب ؛ لعدم الحالة السابقة ، لكن الموضوع هو المهية ، والقابلية عارضة لها بعد وجودها ، فهذه المهية قبل تحقّقها لم تكن متّصفة بالقابلية بنحو السالبة المحصّلة ، والآن كما كانت .

ص: 96

ومن ذلك يعلم جريان أصالة عدم القرشية وأمثالها ، فأصالة عدم القابلية جارية وحاكمة على أصالة عدم التذكية ، وعلى الاُصول الحكمية .

هذا غاية ما يمكن أن يقرّر [به] هذا الأصل . ولقد أصرّ شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - على جريانه(1) .

ولكنّ التحقيق أنّ هذا الأصل ممّا لا أصل له . توضيحه يتوقّف على بيان اعتبارات القضايا السالبة ، ولا بأس بالإشارة إلى مطلق القضايا لكي يتّضح المقصود .

في بيان اعتبارات القضايا

فنقول : إنّ القضايا المعتبرة في العلوم إمّا تكون موجبة ، أو سالبة ، أو معدولة المحمول موجبة وسالبة ، والاُوليان قد تكونان بنحو الهلية البسيطة ، وقد تكونان بنحو الهلية المركّبة ، فإذن القضايا التي لها اعتبار عند العقل والعقلاء ستّة :

الاُولى : القضيّة الموجبة بنحو الهلية المركّبة ، كقولنا : «زيد قائم» ولا إشكال في أ نّها تنحلّ إلى : موضوع ، ومحمول، ونسبة(2) ولكلّ منها محكيّ ، فالموضوع يحكي عن زيد الخارجي ، والمحمول عن القيام ، والنسبة عن حصوله له . وأمّا

ص: 97


1- لم نعثر عليه في درر الفوائد ، والظاهر أ نّه استفاده قدس سره من مجلس بحثه .
2- قد عدلنا عمّا هاهنا من اشتمال جميع القضايا على النسبة ، وفصّلنا بين القضايا ، وحقّقنا حالها بما لا مزيد عليه في بحث أوضاع الحروفأ ، وفي العامّ والخاصّ(ب) ، فراجع . منه عفي عنه أ - مناهج الوصول 1 : 45 . ب - مناهج الوصول 2 : 229 .

تحقيق أنّ الكون الرابط متحقّق في الخارج أو لا ، وعلى فرض تحقّقه فبأيّ نحو ، فأمر صعب خارج عن مقصدنا ومذكور في محلّه(1) ، وعلى أيّ حال للقضيّة حكاية وكشف عن أمر خارجي ، موضوعاً ، ومحمولاً ، ونسبة أو كوناً رابطاً .

الثانية : القضيّة الموجبة بنحو الهلية البسيطة ، كقولنا : «زيد موجود» و«الوجود موجود» ، ولا إشكال في أنّ هذه القضيّة مركّبة ذهناً من الموضوع والمحمول والنسبة ، كما لا إشكال في أنّ المحكيّ عنه فيها لم يكن بنحو المحكيّ عنه في القضيّة الاُولى ؛ فإنّ موجودية المهية لم تكن على نحو عروض الأعراض الخارجية للموضوع ، كما أنّ موجودية الوجود لم تكن عارضة له في الخارج ، بل المحكيّ الخارجي ليس إلاّ الوجود البسيط ، فيحلّله العقل إلى موضوع ومحمول ، ويخترع له نسبة من دون أن يكون في الخارج معروض وعرض ، وموضوع ومحمول ونسبة . وأوضح ممّا ذكرنا قولنا : «زيد زيد» و«الوجود وجود» فإنّ المحكيّ ليس إلاّ نفس ذات الموضوع ، ومناط الصدق في أمثال هذه القضايا هو تحقّق الموضوع بنفس ذاته ، أو تحقّق المحمول بذاته .

الثالثة : القضيّة الموجبة المعدولة ، والميزان في اعتبارها أن يكون للمعنى العدمي المنتسب إلى الموضوع نحو حصول في الموضوع كأعدام الملكات ، مثل «زيد لا بصير» المساوق ل «زيد أعمى» فإنّ إثبات العمى واللا بصير للموضوع

ص: 98


1- الحكمة المتعالية 1 : 78 - 82 و327 - 330 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 238 .

إنّما هو باعتبار أنّ لهذا المعنى العدمي نحو تحقّق فيه ، وهو قابليته للاتّصاف بالبصر ، وهذا الاعتبار ليس في القضيّة السالبة المحصّلة ؛ للفرق الواضح بين سلب شيء عن موضوع وإثبات السلب له ؛ فإنّ معنى الإثبات هو حصول الأمر العدمي له ، ومعنى السلب البسيط سلب هذا الثبوت عنه ، ولهذا تكون القضيّة المعدولة - التي لها اعتبار في مقابل القضايا - فيما إذا كان للسلب ثبوت بنحو العدم والملكة ، فقولنا : «زيد لا بصير» قضيّة معتبرة ، و«زيد لا عمرو» غير معتبرة ، ك- «الجدار لا بصير أو أعمى» فمناط الصدق في مثلها هو نحو تحقّق للمعنى السلبي في الموضوع ، وثبوته له بنحو من الثبوت ، ف- «الجدار لا بصير» قضيّة غير صادقة ، و«هو ليس ببصير» صادقة ، و«زيد لا بصير» صادقة ، ك- «زيد ليس ببصير» .

الرابعة : القضيّة السالبة المعدولة ، كقولنا : «الجدار ليس بلا بصير» وهي أيضاً قضيّة معتبرة ، ومفادها سلب تحصّل هذا الأمر العدمي للموضوع .

الخامسة : القضيّة السالبة بنحو الهلية البسيطة ، كقولنا : «زيد ليس بموجود» ممّا مفادها سلب الموضوع ففي مثل هذه القضايا ليست حكاية حقيقية ولا كشف واقعي عن أمر أصلاً ، وليس لها محكيّ بوجه ، لكنّ العقل يدرك بنحو من الإدراك بطلان الموضوع ، وهذا الإدراك أيضاً يكون بتبع أمر وجودي ، كالصورة المدركة الذهنية التي يخترعها العقل ، وتكون مناط إدراكه وحكمه . فقولنا : «المعدوم المطلق ليس بشيء ، أو معدوم» لا يحكي عن أمر واقعي ، بل ينبّه على بطلان المعدوم وعدم شيئيته ، وليس للبطلان وعدم الشيئية واقعية حتّى يحكي شيء عنها .

ص: 99

فصرف البطلان - الذي يخترع العقل له مفهوماً يكون بالحمل الأوّلي هو البطلان ويحكم عليه ببطلان مصداقه - هو مناط الصدق . نعم يتوهّم العقل المشوب أنّ للبطلان واقعية ، والمفهوم يحكي عنه ، والتخلّص عن ملاعبة الواهمة أمر صعب .

السادسة : القضيّة السالبة المحصّلة بنحو الهلية المركّبة ، كقولنا : «زيد ليس بقائم» ففي مثلها قد يكون الموضوع محقّقاً يسلب عنه المحمول ، وقد يكون السلب بسلب الموضوع .

فمع تحقّق الموضوع يكون لموضوع القضيّة حكاية وكشف ، دون محمولها ، لكنّ العقل يدرك بوسيلة الصورة المخترعة الموجودة في الذهن أنّ الموضوع لم يكن متّصفاً بالمحمول ، فيحكم به من دون أن يكون لعدم الاتّصاف حقيقة خارجية ، ولهذا المعنى السلبي واقعية محكيّة . ومناط صدقه عدم اتّصاف الموضوع بالمعنى المقابل للمعنى العدمي .

ومع عدم تحقّق الموضوع ليس للقضيّة حقيقة واقعية أصلاً ، لا موضوعاً ولا محمولاً ولا نسبة ، وليست هذه القضيّة مثل القضيّة الموجبة المركّبة ممّا تحكي القضيّة اللفظية عن موضوع ومحمول ونسبة ، بل هذه القضيّة اختراع صرف من العقل ، منشؤه إدراك البطلان للموضوع بصورة ذهنية ، وإدراك البطلان للمحمول بصورة ذهنية اُخرى ، وتوهّم سلب المحمول عن الموضوع .

كلّ ذلك بملاعبة الواهمة ودعابة المتصرّفة ، وأمّا بحسب الواقع فليس أعدام ممتازة : أحدها الموضوع ، والآخر المحمول ، والثالث النسبة ؛ لعدم الميز في الأعدام ، وعدم الكثرة والوحدة فيها ، فالبطلان الصرف لا يكون حاكياً

ص: 100

ولامحكيّاً ، ولا دالاًّ ولا مدلولاً ، ولا موضوعاً ولا محمولاً ، فهذه القضايا غير حاكية عن شيء أصلاً ، إلاّ بتوهّم شيطنة الواهمة واُكذوبتها .

إذا عرفت حال القضايا اتّضح لك : أنّ سلب شيء عن شيء قبل تحقّق الموضوع ليس له واقع ، وإنّما هو من اختراع العقل ، لا كاشفية ومكشوفية في البين ، فقولنا : «هذه المرأة قبل تحقّقها لم تكن قرشية ، أو هذا الحيوان قبل تحقّقه

لم يكن قابلاً للتذكية ، والآن كما كان» ممّا لا معنى له ، لأنّ هذه المرأة قبل تحقّقها لم تكن هذه ، وهذا الحيوان لم يكن هذا ، ولا يمكن أن يشار إليهما حسّاً ولا عقلاً ، وإنّما تتوهّم الواهمة أنّ لهذا المشار إليه هذية قبل تحقّقه ، فهذه المرأة

قبل وجودها لم تكن مشاراً إليها ، ولا مسلوباً عنها شيء على نعت سلب شيء عن شيء . فالقضيّة المشكوك فيها ليست لها حالة سابقة ، وإنّما سابقتها في عالم الاختراع بتبع اُمور وجودية ، وتوهّم الواهمة لما ليس له تحقّق تحقّقاً ، ولما ليس له واقع واقعاً .

وبالتأ مّل فيما ذكرنا يدفع ما يمكن أن يقال : إنّ المرأة الكذائية قبل تحقّقها إمّا قرشية أو ليست بقرشية ، لامتناع ارتفاع النقيضين ، فإذا كذب «أ نّها قرشية» صدق «أ نّها ليست بقرشية» .

وذلك لأنّ نقيض «أ نّها قرشية» ليس «أ نّها ليست بقرشية» على نعت سلب شيء عن شيء له واقعية ، بل نقيضه أعمّ من ذلك ومن بطلان الموضوع ، وهو يلازم بطلان المحمول والنسبة ، فليتأ مّل فإنّه دقيق .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ هذا الحيوان لم يكن هذا الحيوان ، لا أ نّه حيوان سابقاً

ص: 101

ولم يكن قابلاً (1) . فأصالة عدم القابلية في الحيوان كأصالة عدم القرشية في المرأة ، ليس لها أساس ، من غير فرق في الشكّ في القابلية بين الشبهة المفهومية - وأنّ هذا الحيوان هل هو داخل في مفهوم السبع أم لا ؟ - وبين غيرها ، كالشكّ في الحيوان المتولّد من الحيوانين مع عدم الشكّ في المفهوم ، فمع عدم جريان أصالة عدم القابلية يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية .

التحقيق في جريان أصالة عدم التذكية في المحتملات

والتحقيق فيها : أنّ التذكية إن كانت أمراً مركّباً خارجياً - ككونها نفس الاُمور الستّة الخارجية - فأصالة عدمها غير جارية بعد وقوع الاُمور الخمسة على حيوان شُكّ في قابليته ؛ لعدم جريان أصالة عدم القابلية ، وعدم كون التذكية أمراً مسبوقاً بالعدم ؛ لكونها عبارة عن الاُمور الخارجية ، والفرض حصول خمسة منها ، وعدم جريان الأصل في السادس منها ، فحينئذٍ يكون المرجع أصالة الحلّ والطهارة .

وفي غير هذه الصورة - من كون التذكية أمراً بسيطاً محضاً ، أو بسيطاً متقيّداً ، أو مركّباً تقييدياً - فأصالة عدم التذكية جارية مع الغضّ عن الإشكال الآتي المشترك الورود .

ص: 102


1- ولو قيل : إنّ موضوع الأثر المرأة حال الوجود ، ويكفي في الاستصحاب كون الموضوع ذا أثر في زمان الشكّ . يقال : إنّ استصحاب السلب المطلق لإثبات بعض حالاته أو مصاديقه مثبت ، وهو نظير استصحاب الحيوان الجامع بين البقّ والفيل لإثبات الفيل وآثاره ، تدبّر .] منه قدس سره]

أمّا إذا كانت أمراً بسيطاً متحصّلاً من الاُمور الخارجية فواضح ؛ لأ نّه مسبوق بالعدم قبل تحقّق الاُمور الخارجية ، والآن كما كان ، واختلاف منشأ الشكّ واليقين لا يضرّ به .

وكذلك إذا كانت أمراً بسيطاً منتزعاً ؛ لأنّ هذا الأمر الانتزاعي الموضوع للحكم وإن كان على فرض وجوده يتحقّق بعين منشأ انتزاعه لكنّه مسبوق بالعدم .

وأمّا إذا كانت أمراً مركّباً تقييدياً - سواء كانت بسيطة متحصّلة أو منتزعة من الاُمور الخمسة متقيّدةً بقابلية المحلّ ، أو مركّبة منها ومتقيّدة بالقابلية - فجريان أصالة عدم التذكية لا مانع منها ؛ لأنّ المتقيّد بما أ نّه متقيّد مسبوق بالعدم ، ومشكوك تحقّقه ، والفرض أنّ موضوع الحكم متقيّد .

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاد بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - من أنّ التذكية إذا كانت الاُمور الخمسة ، وتكون قابلية المحلّ شرطاً للتأثير ، ولها دخالة في تأثير الاُمور الخمسة ، لا تجري أصالة عدم التذكية ، بل المرجع أصالة الحلّ والطهارة(1) .

وذلك لأنّ دخالة القابلية في التأثير عبارة اُخرى عن تقيّد موضوع الحكم ، فموضوع حكم الشارع بالحلّية والطهارة الواقعيتين هو الاُمور الخمسة المشترطة بالقابلية ، وهذا المعنى المتقيّد المشترط مسبوق بالعدم ، واختلاف منشأ الشكّ واليقين ممّا لا يمنع عن جريان الاستصحاب . هذا ممّا لا إشكال فيه .

ص: 103


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 382 .

إنّما الإشكال في جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً - بسيطة كانت التذكية أو لا - من جهة اُخرى ، وهي أنّ حقيقة التذكية - أي التي من فعل المذكّي - عبارة عن إزهاق روح الحيوان بكيفية خاصّة وشرائط مقرّرة ، وهي فَري الأوداج الأربعة ، مع كون الذابح مسلماً ، وكون الذبح عن تسمية ، وإلى القبلة ، وآلته من حديد ، وكون المذبوح قابلاً للتذكية ، وعدم هذه الحقيقة بعدم الإزهاق بالكيفية الخاصّة والشرائط المقرّرة .

ولا إشكال في أنّ هذا الأمر العدمي - بنحو «ليس» التامّة - ليس موضوعاً للحكم الشرعي ؛ فإنّ هذا المعنى العدمي متحقّق قبل تحقّق الحيوان وفي زمان حياته ، ولم يكن موضوعاً له ، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة ، وهي الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي ، أو زهوق الروح من الحيوان زهوقاً لم يكن بكيفية خاصّة ، على نحو «ليس» الناقصة أو الموجبة السالبة المحمول ، وهما غير مسبوقين بالعدم ؛ فإنّ زهوق الروح لم يكن في زمان محقّقاً بلا كيفية خاصّة ، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة ، فما هو موضوع الحكم غير مسبوق بالعدم ، وما هو مسبوق به ليس موضوعاً له ، واستصحاب «ليس» التامّة لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصّة إلاّ على الأصل المثبت . مضافاً إلى الإشكال الذي سبق منّا (1) بالنسبة إلى تلك القضايا السلبية .

إن قلت : إنّ الموضوع للحرمة والنجاسة مركّب من جزءين : زهوق روح الحيوان ، وعدم تذكيته ، ويكفي في تحقّق الموضوع اجتماع الجزءين في الزمان ؛

ص: 104


1- تقدّم في الصفحة 101 .

لأ نّهما عرضيان لمحلّ واحد ، والموضوع المركّب - من عرضين لمحلّ واحد ، أو من جوهرين ، أو من جوهر وعرض لمحلّ آخر ، كوجود زيد وقيام عمرو - لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان ، إلاّ إذا استفيد من الدليل كون الإضافة

الحاصلة من اجتماعهما في الزمان دخيلة في الحكم ، كعنوان الحالية ، والتقارن ، والسبق ، واللحوق ، من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلاّ فالموضوع المركّب من جزءين لا رابط بينهما إلاّ الوجود في الزمان ، لا يقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان .

وفيما نحن فيه - بعد ما كان الموضوع مركّباً من خروج الروح وعدم التذكية ، وهما عرضيان للحيوان - يكفي إحراز أحدهما بالأصل ، وهو عدم التذكية ، والآخر بالوجدان ، وهو خروج الروح ، فمن ضمّ الوجدان إلى الأصل يلتئم كلا جزأي المركّب(1) .

قلت : هذا غاية ما يمكن أن يقال ، وهو الذي أفاده بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - لكن يرد عليه : أنّ عدم التذكية ليس في عرض زهوق الروح ؛ فإنّه عبارة عن زهوقه بلا كيفية خاصّة ، كما أنّ التذكية عبارة عن إزهاقه بالكيفية الخاصّة .

فما أفاده - من أ نّهما عرضيان لموضوع واحد - ليس على ما ينبغي .

بل عدم التذكية عرض المحلّ إن كان الموضوع بنحو القضيّة المعدولة ؛ أي الحيوان الغير المذكّى ، وهو - أي عدم التذكية - زهوق الروح بلا كيفية خاصّة ،

ص: 105


1- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 434 .

فالكيفية الخاصّة من حالات زهوق الروح ، وزهوق الروح بلا كيفية خاصّة من حالات الحيوان ، فالحيوان قد تعرضه التذكية - أي زهوق الروح بالكيفية الخاصّة - وقد تسلب عنه التذكية ، أي لم يزهق روحه بالكيفية الخاصّة ، لكن هذا الأمر السلبي - أي عدم الزهوق الكذائي - ليس موضوعاً للحكم ، بل الموضوع هو زهوق الروح بلا كيفية خاصّة ، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة ، وهما ممّا لم يكن لهما حالة سابقة ، فالموضوع للحكم الشرعي هو الحيوان الذي زهق روحه بلا كيفية خاصّة بنحو العدول ، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول ، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة بنحو السلب الناقص ، لا التامّ .

فما أفاده رحمه الله علیه لا يخلو من اختلاط ومغالطة ؛ فإنّ جعل زهوق الروح وعدم التذكية عرضيين لمحلّ واحد تفكيك بين الشيء وذاتياته ؛ لما عرفت من أنّ عدم التذكية عبارة عن زهوق الروح بغير الكيفية الكذائية ، فزهوق الروح جزء مفهوم عدم التذكية - أي الذي هو موضوع حكم الشرع - لا أنّ زهوق الروح وعدم التذكية جزءان للموضوع كما أفاده رحمه اللّه تعالى .

إن قلت : ما ذكرت إنّما يصحّ لو كان الموضوع هو الحيوان الذي زهق روحه بلا كيفية خاصّة ، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة ، وأمّا لو كان الموضوع هو الحيوان الذي زهق روحه ولم ترد عليه الكيفية الخاصّة - أي لم يكن نحو القبلة ، ولم يكن المسلم ذابحاً له ، ولم يذكر اسم اللّه عليه ، إلى غير ذلك - فلا ؛ لأنّ هذه الاُمور كلّها مسبوقات بالعدم ، فبعد زهوق الروح وجداناً ، ولم ترد عليه الكيفيات بالأصل ، يحرز الموضوع .

ص: 106

قلت : هذا مجرّد فرض لا واقع له ؛ فإنّ الموضوع في التذكية هو الحيوان الذي زهق روحه بيد المسلم ، إلى القبلة ، وعن التسمية ، وبآلة الحديد ، فهذه الاُمور اُخذت حالات للذبح وزهوق الروح ، وعدم المذكّى - أي الميتة التي هي الموضوع للحكم - هو الزهوق لا بالكيفيات الخاصّة .

وبعبارة اُخرى : كلّ ذلك تقيّدات للموضوع المفروض الوجود ؛ أي الزهوق ، وليس لواحد منها حالة سابقة . نعم الأعدام المطلقة لها حالة سابقة ، لكنّها ليست بموضوعة .

ثمّ لو شككنا في أنّ الموضوع ما ذكر أو ما ذكرنا أو غير ذلك ، لا يجري الأصل ؛ لعدم إحراز الحالة السابقة ، ويصير المرجع هو أصالة الحلّية والطهارة .

وظنّي أنّ من تأ مّل فيما ذكرنا حقّ التأ مّل يصدّقه ، ويتّضح له أنّ أصالة عدم التذكية مطلقاً ممّا لا أساس لها .

ويؤيّد ما ذكرنا ، بل يشهد عليه : ما رواه في «الكافي» عن أبي عبداللّه علیه السلام : «إنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سُفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكّين .

فقال أمير المؤمنين علیه السلام : يُقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ؛ لأ نّه يفسد ، وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها غَرِموا له الثمن .

فقيل : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سُفرة مجوسي .

فقال : هم في سعة حتّى يعلموا»(1) .

ص: 107


1- الكافي 6 : 297 / 2 ؛ وسائل الشيعة 3 : 493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 50 ، الحديث 11 .

فإنّ التمسّك بدليل أصل الإباحة لا يتّضح وجهه إلاّ بما ذكرنا من عدم جريان أصالة عدم التذكية ، وإلاّ فالسفرة إمّا كانت في أرض المسلمين وقلنا بأماريتها كيَد المسلمين للتذكية ، وإمّا لم تكن فيها ، أو كانت وقلنا بعدم الأمارية ، وعلى أيّ

حال لا وجه للتمسّك بأصالة الإباحة في مقابل الأمارة والاستصحاب ، وأمّا مع عدم جريان الاستصحاب فيتّضح وجهه .

وكذا يشهد لما ذكرنا بعض الروايات الواردة في باب الجلود ، فراجع(1) .

هذا كلّه فيما إذا كان منشأ الشكّ ، الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية ، سواء كانت الشبهة من جهة الاشتباه المفهومي ، أو لا .

وأمّا مع الشكّ في شرطية شيء للتذكية ، أو مانعية شيء عنها ؛ أي الشكّ في جعل الشارع شيئاً زائداً عمّا ثبت اشتراطه أو منعه ، فأصالة عدم الجعل في بعض الموارد جارية ، وفي بعضها مثبتة .

ولا يهمّنا البحث في أطراف الصور الاُخرى التي ذكرناها ؛ لأنّ حالها معلومة غالباً .

أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية

نعم ، فيما إذا كان الشكّ من جهة الشبهة الموضوعية ، ويكون الشكّ في أنّ الحيوان الكذائي هل ذُكّي ، أم لا ؟ أو شكّ في أنّ الجزء الفلاني - كالجلد - من المذكّى أو غيره أو من مشكوكه ممّا هو محلّ الابتلاء ، ففي جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً أو التفصيل بين الصور إشكال . هذا مع قطع النظر عن

ص: 108


1- راجع وسائل الشيعة 3 : 490 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 50 .

الإشكال الذي مرّ ذكره(1) ممّا يعمّ جميع صور المسألة وأقسام الشكوك .

فهاهنا صور :

الصورة الاُولى : الشكّ في حيوان مذبوح أ نّه مذكّى أو لا ، أو في جزء من حيوان شكّ في تذكيته . وهذا مورد تسالمهم على جريان أصالة عدم التذكية ولا إشكال فيها غير الإشكال السيّال الذي مرّ ذكره(2) .

الصورة الثانية : الشكّ في جزء من الحيوان - كالجلد مثلاً - بأ نّه مأخوذ ممّا علم تذكيته ، أو ممّا علم عدم تذكيته ، فحينئذٍ : إمّا أن يكون الحيوانان - المأخوذ من أحدهما - مع أجزائهما مشتبهين موردين للابتلاء ، أو لا .

فعلى الأوّل : لا تجري أصالة الحلّية والطهارة فيه ، ولا أصالة عدم التذكية ؛ للعلم الإجمالي المنجّز ، بناءً على عدم جريان الأصل في أطراف العلم مطلقاً ، وإلاّ فبأصالة عدم التذكية في الحيوانين يحكم بنجاسة الجزء وحرمته ؛ لعدم المخالفة العملية في جريانهما .

وعلى الثاني : كما لو شكّ في جزء من الحيوان ، كالجلود التي تأتي من البلاد النائية ممّا ليس الحيوان المأخوذ منه مورداً للابتلاء ، فالظاهر عدم جريان أصالة عدم التذكية ، بناءً على عدم جريان الأصل في الخارج عن محلّ الابتلاء ، وعدم تأثير العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ التذكية وعدمها إنّما هما وصفان للحيوان ، لا لأجزائه ، فما هو غير المذكّى - أي زهق روحه بلا كيفية خاصّة - أو المذكّى - أي ما ذبح بالشرائط الشرعية - هو الحيوان ، وأمّا الحكم بنجاسة الأجزاء

ص: 109


1- تقدّم في الصفحة 104 .
2- تقدّم في الصفحة 104 .

وحرمتها ، أو طهارتها وحلّيتها ، إنّما هو من جهة أ نّها أجزاء للمذكّى أو غيره ، فالأصل بالنسبة إلى الجزء ممّا لا معنى لجريانه ، وأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ منه الجزء ممّا لا مسرح لجريانها ؛ لأ نّه مردّد بين معلوم التذكية

ومعلوم عدمها ، وليس في البين ما شكّ [في ]تذكيته .

وبعبارة اُخرى : ليس في الخارج شكّ ، وإنّما الشكّ في أنّ هذا من المعلوم تذكيته أو من المعلوم عدمها ، وفي مثله لا يجري الأصل ، مع أنّ جريان الأصل في الحيوان لا يثبت كون الجزء منه .

الصورة الثالثة : الشكّ في جزء من الحيوان بأ نّه مأخوذ من الحيوان المشكوك تذكيته ، أو من المعلوم تذكيته ، أو من المعلوم عدمها ؛ كالجلود التي صنعت في بلاد الكفر ، ممّا هي مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المسلمين إليهم - فصنعوا بها ما صنعوا ورُدّت بضاعتهم إليهم - وبين غيرها ممّا هو من جلود ذبائحهم ، أو ممّا هو مشكوك تذكيته ، ففي مثله أيضاً لا تجري أصالة عدم التذكية ؛ لما عرفت من أنّ التذكية واللا تذكية إنّما هما ممّا تعرض الحيوان ، لا أجزاءه ، فلا يجري الأصل بالنسبة إليها .

وأمّا بالنسبة إلى الحيوان المأخوذ منه فلا يجري أيضاً نظراً إلى الشبهة المصداقية لدليل الأصل ؛ فإنّ المأخوذ منه أمره دائر بين معلوم التذكية وغيره ، فإن اُخذ من المعلوم يكون من نقض اليقين باليقين ، وإلاّ فيكون من نقض اليقين بالشكّ . مضافاً إلى أنّ جريانه في الحيوان لا يثبت كون الجزء منه .

وبالجملة : أنّ الجزء قد يشكّ في أخذه من معلوم التذكية تفصيلاً أو معلوم عدم التذكية تفصيلاً ، وقد يشكّ في أخذه من أحد الحيوانين اللذين علم إجمالاً

ص: 110

بتذكية أحدهما وعدم تذكية الآخر ، وقد يشكّ في أخذه من معلوم التذكية تفصيلاً أو مشكوكها ، ففي جميع هذه الصور لا تجري أصالة عدم التذكية ، وإن كان الوجه فيها مختلفاً .

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الجلود التي صنعت في أرض غير المسلمين - ممّا يشكّ في كونها من المذكّى أو من غيره - لا تجري فيها أصالة عدم التذكية ، والمرجع فيها أصالة الطهارة والحلّية ، إلاّ أن يدلّ دليل على خلاف ذلك .

تتمّة: في التفصيل بين الطهارة والحلّية

نقل(1) عن ظاهر بعض الأساطين(2) : التفصيل بين الطهارة والحلّية في المثال المتقدّم فحكم عليه بالطهارة وحرمة اللحم .

ولا وجه لهذا التفصيل ؛ فإنّ مقتضى أصالة عدم التذكية النجاسة والحرمة ، ومقتضى أصالتي الطهارة والحلّية الطهارة والحلّية .

ونقل عن شارح «الروضة»(3) في وجهه ما حاصله : أنّ ما حلّ أكله من الحيوانات محصور معدود في الكتاب والسنّة ، وكذلك النجاسات محصورة معدودة فيهما ، فالمشكوك إذا لم يدخل في المحصور منهما كان الأصل فيه الطهارة وحرمة اللحم(4) .

ص: 111


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 384 .
2- الروضة البهية 1 : 66 .
3- المناهج السوية في شرح الروضة البهية 1 : 166 . (مخطوط)
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 384 .

وفيه : أنّ المدّعى إن كان أنّ المستفاد من الأدلّة حصر المحلّل في اُمور - بحيث دلّت بمفهوم الحصر على حرمة ما عداها - وكذلك في النجاسات ، فهو ممنوع . نعم ، إنّما يشعر به بعض الروايات ، كرواية «تحف العقول»(1) لكن لا يمكن إثبات هذا الحكم بمثله .

وإن كان المدّعى أنّ كون المحلّلات معدودة في عدّة محصورة لازمه الحرمة فيما يشكّ ، مع عدم كونه من جملة تلك المعدودات ، فهو أيضاً ممنوع ؛ لأنّ تعديد المحلّل لا يدلّ على تحريم غيره ، فأصالة الحلّية كأصالة الطهارة ممّا لا مانع منها . والظاهر أنّ مراده ما ذكرنا .

وأمّا بعض أعاظم العصر فوجّه قوله بما لا يخلو من غرابة ومناقشة ، قال ما حاصله : إنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ، فمع الشكّ في هذا الأمر يبنى ظاهراً على عدم تحقّقه ؛ للملازمة العرفية بين تعليقه عليه وبين عدمه عند عدم إحرازه ، وهذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم ، وهي ملازمة ظاهرية في مقام العمل . ويترتّب على ذلك فروع مهمّة :

منها : البناء على نجاسة الماء المشكوك الكرّية عند ملاقاته للنجاسة مع عدم العلم بالحالة السابقة ، كمخلوق الساعة المجهول كرّيته ؛ فإنّ الحكم بالعاصمية قد علّق على كون الماء كرّاً ، كقوله : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثاً»(2) أو

ص: 112


1- تحف العقول : 337 .
2- عوالي اللآلي 1 : 76 / 156 ؛ مستدرك الوسائل 1 : 198 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 6 .

«لم ينجّسه شيء»(1) فلا يجوز ترتيب آثار الطهارة عند الشكّ في الكرّية مع ملاقاته للنجاسة ؛ لأ نّه يستفاد من دليل الحكم أنّ العاصمية إنّما تكون عند إحراز الكرّية ، لا من جهة أخذ العلم في موضوع الحكم ، بل من جهة الملازمة العرفية الظاهرية .

ومنها : أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ؛ فإنّ الحكم بجواز الوط ء قد علّق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرّف قد علّق على كون المال ممّا قد أحلّه اللّه ، فلا يجوز الوط ء والتصرّف مع الشكّ في الزوجية وكون المال ممّا قد أحلّه اللّه تعالى .

وقد تخيّل شارح «الروضة» أنّ باب النجاسات واللحوم من صغريات تلك الكبرى ؛ بتقريب أنّ النجاسات معدودة في عناوين خاصّة ، كالدم والميتة وغير ذلك ، وقد علّق وجوب الاجتناب على تلك العناوين الوجودية ، فلا بدّ في الحكم بالنجاسة من إحرازها ، ومع الشكّ في تحقّقها يبنى على الطهارة .

وكذا جواز الأكل قد علّق على عنوان الطيّب ، كما قال تعالى : )أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ((2) وهو أمر وجودي عبارة عمّا تستلذّه النفس ويأنس به الطبع ، والحيوان المتولّد من حيوانين لم يعلم كونه من الطيّب ، فلا يحكم عليه بالحلّية ، بل يبنى على حرمته ظاهراً ما لم يحرز كونه من الطيّب . هذا غاية ما يمكن أن يوجّه [به] كلامه .

ص: 113


1- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 ، 2 و6 .
2- المائدة (5) : 4 و5 .

ولكن يرد عليه أوّلاً : أنّ الكبرى - وهي أنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه - وإن كانت من المسلّمات ، إلاّ أنّ ذلك في خصوص ما علّق الحكم الترخيصي الإباحي على عنوان وجودي ، لا الحكم العزيمتي التحريمي ؛ فإنّ الملازمة العرفية بين الأمرين إنّما هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل والامتنان ، لا في مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة ، وإلاّ لم يبق موضوع لقوله : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(1) فإدراج باب النجاسات في تلك الكبرى ليس في محلّه . نعم إدراج الحكم بحلّ الطيّبات فيها في محلّه لو سلم عمّا سيأتي .

وثانياً : منع كون الطيّب أمراً وجودياً ، بل هو عبارة عمّا لا تستقذره النفس ولا يستنفر منه الطبع ، في مقابل الخبيث الذي هو عبارة عمّا يستنفر منه الطبع .

وثالثاً : سلّمنا كون الطيّب أمراً وجودياً ، ولكن الخبيث الذي علّقت عليه الحرمة - أيضاً - أمر وجودي ، والكبرى المذكورة إنّما هي في مورد لم يعلّق نقيض الحكم على أمر وجودي آخر ، وإلاّ كان المرجع عند الشكّ في تحقّق أحد الأمرين الوجوديين - اللذين علّق الحكمان المتضادّان عليهما - إلى الاُصول العملية ، وهي في المورد ليست إلاّ أصالة الحلّ .

ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ؛ فإنّ للحياة دخلاً - عرفاً - في موضوع الحرمة ، ولا أقلّ من الشكّ ، فلا مجال للاستصحاب

ص: 114


1- المقنع : 15 ؛ مستدرك الوسائل 2 : 583 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات والأواني ، الباب 30 ، الحديث 4 .

والطهارة ، فالأقوى ثبوت الملازمة بين الحلّ والطهارة في جميع فروض المسألة(1)، انتهى كلامه بطوله .

وفيه أوّلاً : أنّ تلك الملازمة العرفية ممنوعة ، لا دليل عليها ، وإنّما هي دعوى مجرّدة عن البيّنة ، وهذه نظير قاعدة المقتضي والمانع - بل عينها - ممّا لا أساس لها .

وبالجملة : لا أرى وجهاً للدعوى المذكورة ، وعدّ تلك الكبرى من المسلّمات لا يخلو من غرابة ومجازفة .

وأمّا الفروع التي رتّبها عليها فمنظور فيها :

أمّا الحكم بنجاسة الماء المشكوك كرّيته عند ملاقاته للنجاسة فممنوع :

أمّا أوّلاً : فلأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ الماء القليل ينفعل ، والماء البالغ حدّ الكرّ لا ينفعل ، وأمّا أنّ الماء مقتضٍ له ، والكرّية مانعة ، فلا يستفاد من شيء منها ، فأصالة الطهارة في الماء المذكور محكّمة ، لا مانع من جريانها .

وأمّا ثانياً : فلأ نّه لو سلّم أنّ العاصم هو وصف الكرّية ، والماء مقتضٍ للانفعال ، لكنّ الحكم بالمقتضى مع إحراز المقتضي والشكّ في المانع ممنوع ، بل لا بدّ من إحراز عدمه حتّى يحكم بوجوده .

وأمّا أصالة الحرمة في باب الفروج والأموال فليست من جهة هذه الكبرى ؛ فإنّه لو كانت من جهتها لم يختصّ الحكم بتلك الموارد ، بل لا بدّ من إسرائه إلى كلّ مورد علّق الحكم على أمر وجودي ، سواء كان في الأموال والأعراض أو غيرهما مع أنّ الأمر ليس كذلك .

ص: 115


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 384 - 387 .

مضافاً إلى أنّ في هذه الموارد تكون الحلّية معلّقة على أسباب حادثة تكون مسبوقة بالعدم ، ويستصحب عدم حدوثها ، كأصالة عدم حدوث العلاقة الزوجية ، وأصالة عدم طيب نفس المالك ، إلى غير ذلك .

وثانياً : أنّ ما أفاد من تخيّل شارح «الروضة» - أنّ باب النجاسات واللحوم من صغريات تلك الكبرى - لا شاهد عليه ، بل الظاهر من كلامه المنقول ما احتملناه من تخيّله استفادة الحصر من الأدلّة ، فيدلّ الدليل الاجتهادي على حرمة ما عدا المحصور ، كما تشعر به بعض الروايات .

والشاهد عليه : أنّ المنقول من كلامه أنّ ما حلّ أكله من الحيوانات محصور معدود في الكتاب والسُنّة لا أنّ الحلّية علّقت على أمر وجودي مثل الطيّب . ولا يخفى أنّ حمل كلامه على ما ذكره بعيد غايته .

مع أنّ مثل هذا التعليق - أي إثبات حكم لأمر وجودي - لا يكون مورداً لتوهّم الدخول في الكبرى المدّعاة . نعم كلّ حكم تعلّق بموضوع وجودي أو عدمي لا بدّ في الحكم بثبوته من إحراز الموضوع ، فإذا ورد : «أكرم العلماء» فلا بدّ في الحكم بوجوب إكرام الأشخاص الخارجية أن يحرز كونها مصداقاً للعالم .

وبالجملة : لا بدّ من إحراز الصغرى والكبرى [سواء] كان الموضوع وجودياً أو عدمياً ، وهذا غير ما يدّعى من الملازمة العرفية ؛ فإنّ تلك الدعوى إنّما كانت في مثل : «لا يحِلُّ مالُ امرِئ إلاّ بطيب نفسه»(1) أو «لا يحِلّ مال إلاّ من حيثُ ما

ص: 116


1- الفقيه 4 : 66 / 195 ؛ وسائل الشيعة 5 : 120 ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ، الباب 3 ، الحديث 1 ، مع تفاوت يسير .

أحلّه اللّه»(1) ممّا سلب حكم بنحو كلّي ، وجعل سبب انقلابه إلى ضدّه منحصراً في أمر وجودي ، ففي مثل قوله : «لا يحِلّ مالُ امرِئٍ إلاّ بطيبِ نفسِهِ» جعل طريق الحلّية منحصراً في أمر وجودي هو طيب نفس صاحب المال ، فيدّعى أنّ العرف لا يحكم بالحلّية إلاّ إذا اُحرز طيب نفسه ، كما أنّ شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - أيضاً كان يدّعي ذلك ويقول : هل ترى من نفسك أنّ في مورد الشكّ في تحقّق طيب نفس صاحب المال يتصرّف الإنسان فيه ، ويتعذّر بأ نّه شبهة مصداقية للعامّ لا يجوز التمسّك به ، ويجوز التصرّف تمسّكاً بقوله : «كلّ شيء لك حلال . . .»(2) ؟

وما ادّعى رحمه الله علیه في خصوص المثال وإن كان صحيحاً ، لكن لا من جهة الضابط الكلّي والقانون العامّ في كلّ مورد استثني حكم وجودي من حكم كلّي بنحو الانحصار ، فإذا ورد : «لا تشرب مائعاً إلاّ الماء» وكان مائع مردّداً بين كونه

ماءً أو غيره ، لا يمكن أن يدّعى أنّ نفس هذه القضيّة مانعة عن شربه ؛ لأ نّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه لا لمخصّصه ؛ لأنّ الاستثناء المتّصل بالكلام يوجب عدم انعقاد الظهور للعامّ ، ففي المثال المذكور يتقيّد المائع بغير الماء ، فكأ نّه قال : «لا تشرب غير الماء» ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعموم في مثله . ودعوى الملازمة العرفية ممنوعة . ولا يبعد أن يكون في مثل الأموال لأجل الأهمّية في نظر العقلاء ، أو لأجل استصحاب عدم طيب النفس ؛

ص: 117


1- الكافي 1 : 548 / 25 ؛ وسائل الشيعة 27 : 156 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 8 .
2- اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 454 .

لأ نّه أصل عقلائي في الجملة .

وثالثاً : أنّ ما أفاده - من أنّ الملازمة العرفية إنّما هي في خصوص ما علّق فيه الحكم الترخيصي الإباحي على أمر وجودي ؛ فإنّها هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل والامتنان - غريب منه ؛ لخلوّ هذه الدعوى عن الشاهد ، بل هي دعوى مجرّدة لا دليل عليها من عقل ونقل وحكم عقلائي ، وإن كان أمثاله منه قدّس سرّه غير عزيز .

مضافاً إلى أنّ الامتنان والتسهيل يقتضيان التوسعة ، لا التضييق ، فإذا علّق حكم اعتصام الماء على الكرّية - امتناناً على العباد - لا يقتضي ذلك أن يكون الأمر مضيّقاً عليهم ؛ بحيث لا يحكم بعدم الانفعال إلاّ مع إحراز الكرّية .

ولعمري إنّ ما ذكره هاهنا لا يخلو من قصور وخلط ، فما هذا الحكم الترخيصي الامتناني في قوله : «لا يحِلُّ مال إلاّ من حيث ما أحلّه اللّه» أو «لا يحِلّ مالُ امرئ إلاّ بطيب نفسه» أو فيما علّق جواز الوط ء على الزوجية وملك اليمين ؟ ! فإنّ كلّ ذلك من الأحكام التضييقية ، لا التسهيلية الامتنانية .

ورابعاً : أنّ ما أفاد - من أنّ الطيّب أمر عدمي هو ما لا تستقذره النفس ، ولا يستنفر منه الطبع - ممنوع ؛ لأنّ حقيقة الطيّب ليست عبارة عن عدم الاستقذار والاستنفار ، بل هما من لوازم الطيّب ، بل هو عبارة عن صفة وحالة وجودية يكون الطبع غير مستنفر منها .

ص: 118

التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط

تقرير إشكال الاحتياط في العبادة

قوله قدّس سرّه : «ربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات . . .»(7) .

أقول : ما يمكن أن يقال في تقرير الإشكال أمران :

أحدهما : ما أفاد الشيخ رحمه الله علیه : وهو أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالاً ، وفي الشبهات البدوية لا علم بالأمر ، فلا يمكن الاحتياط(1) .

وإن شئت قلت : إنّ العبادة متقوّمة بقصد التقرّب ، وفي الشبهات البدوية : إمّا أن يقصد ذات الشيء بلا قصد التقرّب ، أو ذات الشيء مع قصد التقرّب ، أو ذات الشيء مع احتمال التقرّب : والأوّل خلف .

والثاني ممتنع ؛ لأنّ القصد الحقيقي لا يتعلّق بالأمر المجهول المشكوك فيه .

والثالث غير مفيد ؛ لأنّ الإتيان باحتمال التقرّب غير الإتيان بقصده ، وما يعتبر فيها قصده ، لا احتماله .

وفيه : أنّ هذا عبارة اُخرى عن اعتبار الجزم في النيّة ، ولا دليل عليه ، وما

ص: 119


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 151 .

يعتبر في عبادية العبادة ليس إلاّ أن يكون الإتيان بداعٍ إلهي ، ويكون الإتيان للتوصّل إلى أغراض المولى ولو احتمالاً ؛ فإنّ العقل الحاكم في أمثاله لا يحكم بأزيد من ذلك ، كما هو واضح .

وثانيهما : أنّ حقيقة الإطاعة عبارة عن الانبعاث ببعث المولى والتحرّك بتحريكه ، ولا يعقل أن يكون الأمر بوجوده الواقعي محرّكاً للعبد وباعثاً إيّاه نحو العمل ، ففي صورة احتمال الأمر يكون المحرّك هو احتمال الأمر - طابق الواقع ، أو لا - فلا يكون الأمر بوجوده النفس الأمري محرّكاً ، وإلاّ لزم أن لا يكون الاحتمال مع عدم مطابقته للواقع محرّكاً ، مع أ نّه محرّك ولو لم يطابق الواقع .

فتحصّل من ذلك : أنّ انبعاث العبد لا يكون في الشبهات البدوية ببعث المولى ، فلا يكون العبد مطيعاً ، ولا هذا الإتيان إطاعة ، مع أنّ صدور الفعل عن إطاعة المولى من مقوّمات العبادة(1) .

وفيه : أنّ الإطاعة أمر عقلائي ، ولا إشكال عند العقلاء في أنّ العبد الآتي بالمحتمل يكون مطيعاً للمولى في صورة المطابقة ، ويكون إتيانه به نحو إطاعة وامتثال له .

وإن شئت قلت : إنّ تقوّم الإطاعة بكون الانبعاث ببعثه ممنوع ، بل الانبعاث والتحرّك التكويني لا يكون في شيء من الموارد بواسطة البعث والتحريك التشريعيين في نفسهما ؛ فإنّ مبادئ الانبعاث تكون اُموراً اُخر في النفس ، كحبّ

ص: 120


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 73 .

المولى ، أو معرفته ، أو الخوف من عقابه ، أو الطمع في ثوابه ، إلى غير ذلك من المبادئ حسب اختلاف العباد ، وإنّما الأمر موضوع للطاعة ، لا باعث نحوها ، فإذا كان الأمر كذلك قد يكون بعض المبادئ موجوداً في نفس العبد فيحرّكه نحو العمل مع احتمال أمره ، فإن طابق الواقع يكون مطيعاً حقيقةً لأمره ، وإلاّ يكون منقاداً له .

وبالجملة : كون الإطاعة عبارةً عن الانبعاث ببعث المولى ممنوع ، والشاهد هو حكم العقل .

تصحيح عبادية الشيء بأوامر الاحتياط

ثمّ لو قلنا بعدم إمكان الاحتياط مع احتمال الأمر ، هل يمكن تصحيح العبادة لأجل أوامر الاحتياط ، فيقصد المكلّف الأمر الاحتياطي المتعلّق بالعبادة ، أم لا ؟

التحقيق : عدم إمكانه ؛ لأنّ الاحتياط في العبادات إذا كان غير ممكن حسب الفرض ، فلا بدّ من تقييد أوامر الاحتياط بغير الشبهات الوجوبية التعبّدية ؛ لامتناع إطلاقها بالنسبة إليها ؛ لحكم العقل بعدم إمكانه فيها ، فتعلّق أوامر الاحتياط بالعبادات يتوقّف على إمكانه فيها ، ولو توقّف إمكانه عليه لزم توقّف الشيء على نفسه .

وتخيّل تعلّق أوامر الاحتياط بذات العمل ، مع قطع النظر عن قصد التقرّب ، أو مع قطع النظر عن الإتيان بداعي احتمال الأمر(1) ، فاسد وخروج عن موضوع

ص: 121


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 153 .

الاحتياط ، والتزام بالإشكال(1) .

ولقد تصدّى بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - للجواب عمّن تصدّى تصحيح العبادات بأوامر الاحتياط بما حاصله : أنّ الأمر بالعمل قد يكون بنفسه عبادياً كالأمر بالصلاة ، وقد يكتسب العبادية من أمر آخر ، وشرط اكتساب العبادية أن يكون متعلّق الأمر التوصّلي والعبادي متّحداً ، كنذر صلاة الليل ؛ فإنّ النذر يتعلّق بذات الصلاة ، ولا يمكن تعلّقه بها بما أ نّها مستحبّة ، وإلاّ كان النذر باطلاً ؛ لعدم القدرة على وفائه ؛ لصيرورتها بالنذر واجبة ، فلا يمكن إتيانها بعد النذر بعنوان الاستحباب ، فالنذر لا بدّ أن يتعلّق بذات الصلاة ، والأمر الاستحبابي أيضاً متعلّق بذاتها ، لا بوصف كونها مستحبّة ؛ لأ نّه جاء من قِبل الأمر ، ولا يمكن أن يؤخذ فيه ، فإذا اتّحد متعلّقهما يكتسب كلّ منهما من الآخر ما كان فاقداً له ، فالأمر النذري يكتسب العبادية من الاستحبابي ، وهو يكتسب الوجوب من النذري .

وأمّا إذا لم يتّحد متعلّقهما فلا يمكن الاكتساب المذكور ، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا اُوجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبّة على الغير ، فإنّ الأجير إنّما يستأجر لتفريغ ذمّة الغير ، وما في ذمّته إنّما هي الصلاة بوصف كونها واجبة أو مستحبّة ، فمتعلّقه [هي] مع قيد الاستحباب ، ومتعلّق الأمر الاستحبابي

ص: 122


1- مع أنّ أوامر الاحتياط تعلّقت بعنوانه ، ولا يمكن التعدّي منه إلى ما ينطبق عليه خارجاً ، ولهذا يكون الاحتياط في الواجب بنحو ، وفي المحرّم بنحوٍ آخر ، فلو كان مرجع الأمر به إلى التعلّق بذات العمل يلزم أن يكون الأمر بالاحتياط أمراً ونهياً . [منه قدس سره]

نفس الصلاة ، فلا يتّحد المتعلّقان ، فلا يكتسب أحدهما وصف الآخر ، فالأمر الاستحبابي باقٍ على استحبابه ؛ لأ نّه مستحبّ على المنوب عنه ، والأمر الوجوبي باقٍ على توصّليته ؛ لأ نّه متعلّق بالأجير ، فلا ربط لأحدهما بالآخر .

إذا عرفت ذلك فالأوامر الاحتياطية فاقدة لكلتا الجهتين :

أمّا الجهة الاُولى : - أي كونها عبادية بنفسها - فواضح ؛ فإنّها توصّلية ، وإلاّ يلزم بطلان الاحتياط في التوصّليات .

وأمّا الجهة الثانية : فلأنّ متعلّق الأمر بالاحتياط إنّما هو العمل مع قيد كونه محتمل الوجوب ؛ لأ نّه مأخوذ في موضوعه ، وإلاّ لم يكن من الاحتياط ، بخلاف الأمر المتعلّق بالعمل ، فإنّه - على فرض وجوده - متعلّق بذات العمل ، فلا يتّحد المتعلّقان ، فلا يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية منه .

وبالجملة : إن كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافياً في العبادية ، فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط ، وإلاّ فهي لا توجب عبادية العمل(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً : أنّ تعلّق الأمرين المستقلّين - الوجوبيين أو الاستحبابيين أو المختلفين - بموضوع واحد ذاتاً وجهةً مستحيل ، كاجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد ، لا من جهة التضادّ بين الأحكام ؛ فإنّه لا أصل له ، بل من جهة امتناع تعلّق الإرادتين كذلك من شخص واحد على موضوع واحد .

نعم مع وحدة الإرادة لا مانع من تكرار الأوامر الوجوبية أو الاستحبابية على نعت التأكيد .

ص: 123


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 403 - 407 .

وثانياً : أنّ متعلّق الأمر النذري غير متعلّق الاستحبابي المتعلّق بذات الصلاة ؛ فإنّ تمام متعلّق الأمر النذري هو الوفاء بالنذر ، لا الصلاة أو غيرها ، فعنوان الوفاء بالنذر شيء لا مساس له في عالم متعلّقيته للأمر النذري مع متعلّق الأمر الصلاتي ، وإنّما يتّحد العنوانان في الخارج ، وهو ظرف سقوط الأمر ، لا ثبوته . وبالجملة : ما نحن فيه نظير باب اجتماع الأمر والنهي ، فكما أنّ الأمر هناك تعلّق بعنوان الصلاة ، والنهي تعلّق بعنوان الغصب ، ولا مساس بين العنوانين في ظرف التعلّق وإن اتّحدا في الخارج ، فكذلك فيما نحن فيه ، وهذا واضح جدّاً .

وثالثاً : على فرض تسليم اتّحاد المتعلّقين ، فأيّ دليل على اكتساب الأمر التوصّلي وصف التعبّدية ، والأمر الاستحبابي وصف الوجوب من صاحبه ، وهل هذا إلاّ دعوى بلا برهان ؟ ! بل الدليل على بطلانها ؛ فإنّ مبادئ الإرادات إذا كانت مختلفة تختلف الإرادات حسب اختلافها ، فإذا صارت الإرادات مختلفة تختلف الأوامر الناشئة منها حسب اختلافها ، فمبادئ الأوامر التوصّلية غير مبادئ الأوامر التعبّدية ، وكذا مبادئ الأوامر الوجوبية تغاير مبادئ الأوامر الاستحبابية ، فانقلاب أحدها إلى الآخر لا يمكن مع اختلاف مبادئها ، وهي مختلفة ذاتاً لا يمكن تبديل واحد منها بالآخر .

وبالجملة : لا معنى لهذا الاكتساب . اللهمّ إلاّ أن يكون الوجوب والاستحباب والتوصّلي والتعبّدي كالمائعات الخارجية المختلطة المنفعلة بعضها عن بعض نحو انفعال .

وفي كلامه مواقع اُخرى للنظر تركناها مخافة التطويل ، مع أ نّه لا طائل تحته .

ص: 124

الاستدلال لإمكان الاحتياط بأخبار «من بلغ»

ثمّ اعلم : أنّ من مؤيّدات إمكان الاحتياط في التعبّديات بل من أدلّته هو أخبار «من بلغ»(1)؛ فإنّ الظاهر منها أنّ العمل المأتيّ به برجاء إدراك الواقع والتوصّل إلى الثواب والأجر إذا صادف الواقع يكون عين ما هو الواقع ، ويستوفي المكلّف نفس ثواب الأمر الواقعي ، وإن لم يصادف الواقع يعطى له مثل ثواب الواقع تفضّلاً ، ولو كان الإتيان باحتمال الأمر لغواً أو تشريعاً محرّماً لما كان وجه لذلك .

وأمّا تصحيح الاحتياط بأخبار «من بلغ» فلا يمكن إلاّ على وجه دائر ، كما ذكرنا في أوامر الاحتياط(2) .

البحث عن أخبار «من بلغ»

ثمّ الأظهر أن يكون أخبار «من بلغ» بصدد جعل الثواب لمن بلغه ثواب فعمله باحتمال إدراكه ، أو طلباً لقول النبي رحمهما اللّه ، فهذا الجعل نظير الجعل في باب الجعالة بأنّ : «من ردّ ضالّتي فله كذا» فكما أنّ ذلك جعل معلّق على ردّ الضالّة ، فهذا أيضاً جعل معلّق على إتيان العمل بعد البلوغ برجاء الثواب .

وإنّما جعل الثواب على ذلك حثّاً على إتيان كلّية مؤدّيات الأخبار الدالّة على السنن ؛ لعلم الشارع بأنّ فيها كثيراً من السنن الواقعية ، فلأجل التحفّظ عليها

ص: 125


1- راجع وسائل الشيعة 1 : 80 ، أبواب مقدّمة العبادات ، الباب 18 .
2- تقدّم في الصفحة 121 .

جعل الثواب على مطلق ما بلغ عن النبي رحمهما اللّه ، نظير قوله تعالى : )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا((1) حيث جعل تضاعف الأجر للحثّ على إتيان الحسنات ، فالأخبار الشريفة بصدد الترغيب والحثّ على ما بلغ ، ولها إطلاق بالنسبة إلى كلّ ما بلغ بسند معتبر أو غيره .

وبهذا يظهر : أنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل ؛ فإنّ المستحبّ ما يتعلّق به الأمر لأجل خصوصية راجحة في ذاته ، ويكون الثواب لأجل استيفاء تلك الخصوصية الراجحة ، والمستفاد من أخبار «من بلغ» أنّ إعطاء الثواب بما بلغ ليس لأجل خصوصية ذاتية فيما بلغ مطلقاً ، بل لأجل إدراك المكلّف ما هو الواقع المجهول بينها ، كما لو جعل الثواب على مقدّمات علمية لأجل إدراك الواقع ، وكما في جعل الثواب للمشي إلى زيارة قبر مولانا أبي عبداللّه الحسين عليه الصلاة والسلام(2) ؛ ضرورة أنّ المشي ليس له خصوصية ذاتية سوى المقدّمية ، لكنّه تعالى جعل الثواب في كلّ خطوة لأجل الحثّ على زيارته .

اللهمّ إلاّ أن يناقش في هذا المثال : بأنّ المشي له خصوصية هي الأقربية إلى الخضوع للّه تعالى ولأوليائه علیهم السلام ، فيكون له جهة زائدة على المقدّمية .

وبالجملة : أظهر الاحتمالات في أخبار «من بلغ» هو ما ذكرنا .

وبهذا يظهر ما في قول المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أ نّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب ؛ لظهوره في أنّ الأجر كان مترتّباً

ص: 126


1- الأنعام (6) : 160 .
2- راجع كامل الزيارات : 252 ، الباب 49 ؛ وسائل الشيعة 14 : 439 ، كتاب الحجّ ، أبواب المزار وما يناسبه ، الباب 41 .

على نفس العمل الذي بلغ عن النبي رحمهما اللّه أ نّه ذو ثواب(1) .

لما عرفت من أنّ الظاهر منها أنّ جعل الثواب إنّما هو لأجل الحثّ على الإتيان بمؤدّى الروايات ؛ لإدراك ما هو محبوب ومستحبّ واقعاً ، وفي مثله لا يصير العمل مستحبّاً بذاته ، ولا يسمّى مستحبّاً اصطلاحاً .

وأمّا ما اختاره بعض علماء العصر رحمه الله علیه بعد ذكر احتمالات وجعله أقرب الاحتمالات ، فهو على الظاهر أبعدها من مساق الأخبار ، بل مدّعي القطع بخلافه ليس مجازفاً . مضافاً إلى بعض الأنظار في كلامه .

قال ما حاصله :

الثاني من الاحتمالات : أن تكون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء وفي مقام بيان استحباب العمل ، ويمكن أن يكون ذلك على أحد وجهين :

أحدهما : أن تكون القضيّة مسوقةً لبيان اعتبار قول المبلّغ وحجّيته ، سواء كان واجداً لشرائط الحجّية أو لا ، كما هو ظاهر الإطلاق ، فيكون مفاد الأخبار مسألة اُصولية هي حجّية الخبر الضعيف ، ومخصّصة لما دلّ على اعتبار الوثاقة والعدالة في الراوي .

إن قلت : إنّ النسبة بينهما عموم من وجه ؛ حيث ما دلّ على اعتبار الشرائط يعمّ القائم على الوجوب والاستحباب ، وأخبار «من بلغ» تعمّ الواجد للشرائط وغيره ، وتختصّ بالمستحبّات ، فيقع التعارض بينهما .

قلت : - مع إمكان أن يقال : إنّ أخبار «من بلغ» ناظرة إلى إلغاء الشرائط ، فتكون حاكمة على ما دلّ على اعتبارها - إنّ الترجيح لها ؛ لعمل المشهور بها .

ص: 127


1- كفاية الاُصول : 401 .

مع أ نّه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط عليها لم يبق لها مورد ، بخلاف تقديمها عليها ؛ فإنّ الواجبات والمحرّمات تبقى مشمولة لها ، بل يظهر من الشيخ رحمه الله علیه اختصاص ما دلّ على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرّمات ؛ فإنّ ما دلّ عليه : إمّا الإجماع وإ مّا آية النبأ (1) :

والإجماع مفقود في المقام ، بل يمكن دعوى الإجماع على خلافه .

والآية بملاحظة ذيلها من التعليل مختصّة بالواجبات والمحرّمات(2) .

ولكنّ الإنصاف : أنّ ما أفاده لا يخلو من ضعف ؛ فإنّ الدليل على اعتبار الشرائط لا ينحصر بالإجماع والآية ، بل العمدة هي الأخبار المتضافرة أو المتواترة ، وهي تعمّ المستحبّات . . . إلى أن قال : ولا يبعد أن يكون هذا الوجه أقرب ، كما عليه المشهور(3) ، انتهى كلامه .

وفيه أوّلاً : أنّ هذا الاحتمال بعيد غايته عن مساق الأخبار ؛ فإنّ لسان إعطاء الحجّية هو إلقاء احتمال الخلاف وكون المؤدّى هو الواقع ، وهو ينافي فرض عدم كون الحديث كما بلغه ، أو فرض عدم صدوره عن رسول اللّه رحمهما اللّه ، فلو

جمع قائل بين قوله : «خذ معالم دينك من فلان ، وأنّ ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي» وبين قوله : «وإن لم يكن المؤدّى عنّي» ، جَمعَ بين المتنافيين ، فلسان أدلّة «من بلغ» آبية عن جعل الحجّية والطريقية .

وثانياً : أنّ جعل أخبار «من بلغ» مخصّصة أو معارضة لأدلّة اعتبار قول الثقة

ص: 128


1- الحجرات (49) : 6 .
2- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 152 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 412 - 414 .

في غير موقعه ؛ لأنّ أخبار «من بلغ» وما دلّ على الاعتبار - سوى منطوق آية النبأ - متوافقان ، ولا استبعاد في أن يكون خبر الثقة مطلقاً حجّة ، والخبر مطلقاً حجّة في المستحبّات ، وليس - على الظاهر - في أخبار الاعتبار ما دلّ على عدم اعتبار قول الفاسق أو غير الثقة إلاّ إشعارات أو ما هو قابل للمناقشة، فالنسبة بينهما وإن كانت عموماً من وجه ، لكنّهما متوافقتان من غير تعارض بينهما .

وثالثاً : حكومة أخبار «من بلغ» على تلك الأخبار ممنوعة ؛ لفقدان مناط الحكومة ، وما ادّعى - من أنّ أخبار «من بلغ» ناظرة إلى إلقاء الشرائط - فيه ما لا يخفى .

وبالجملة : تحكيمها عليها ممّا لا وجه له ؛ فإنّ مفادها - بعد التسليم - حجّية قول المخبر [في] المستحبّات مطلقاً ، ومفاد أدلّة اعتبار قول الثقة حجّية قول الثقة مطلقاً ، وليس إحدى الطائفتين ناظرة إلى الاُخرى ، ولا متصرّفة في جهة من جهاتها ممّا هي دخيلة في الحكومة .

ورابعاً : أنّ ما أفاده - من ترجيح أدلّة «من بلغ» لعمل المشهور بها - ليس على ما ينبغي ؛ لعدم معلومية وجه فتواهم ، ولعلّهم عملوا بها لأجل عدم فهم التنافي بينهما ، كما أشرنا إليه ، أو لعلّ فتواهم بالاستحباب لأجل ذهابهم إلى أنّ نفس البلوغ من أيّ مخبر موضوع لاستحباب المضمون ، وموجب لحدوث المصلحة فيه .

وما ادّعى - من أنّ ظاهر عنوان المشهور لا ينطبق إلاّ على القول بإلقاء شرائط الحجّية في الخبر القائم على الاستحباب ؛ حيث إنّ بناءهم على التسامح في أدلّة السنن - ممنوعة ؛ لأنّ التسامح في أدلّة السنن كما يمكن أن يكون لأجل

ص: 129

إلقاء شرائط الحجّية ؛ يمكن أن يكون لأجل ما ذكرنا .

وبالجملة : الترجيح بعملهم فرع انقداح التعارض بينهما عندهم ، وهو غير معلوم .

وخامساً : أنّ ما أفاده - من أ نّه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط لم يبق لتلك الأخبار مورد ، بخلاف العكس - فيه ما لا يخفى ؛ فإنّه - بعد فرض التعارض - لا يكون إحدى المرجّحات ما ذكر .

مضافاً إلى ممنوعية عدم بقاء مورد لها ؛ لأ نّها شاملة بإطلاقها لخبر الثقة وغيره ، ومورد التعارض بينهما إنّما يكون في مورد الخبر الفاقد للشرط ، وأمّا الواجد له في المستحبّات فيكون مورداً لكلتا الطائفتين ، ولا يلزم أن يكون المورد الباقي مختصّاً بها .

نعم ، لو كان مضمونها إلقاء اعتبار الشرائط ، أو حجّية الخبر الضعيف بالخصوص ، لكان لما ذكره وجه ، لكن إذا كان مضمونها حجّية قول المخبر في المستحبّات، وكان إطلاقها شاملاً للواجد للشرائط وغيره لما كان وجه لقوله قدّس سرّه ؛ لأ نّها بعد تقديم مورد التعارض تصير من أدلّة حجّية خبر الثقة في المستحبّات .

ثمّ إنّه لم يحضرني رسالة الشيخ رحمه الله علیه في مسألة التسامح في أدلّة السنن ، لكن من المحتمل أن يكون نظره - في جعل التعارض بين أخبار «من بلغ» وبين الإجماع وآية النبأ دون الأخبار - إلى ما أشرنا إليه من أنّ مفاد تلك الأخبار موافق لأخبار «من بلغ» بقي الإجماع المنعقد على عدم حجّية قول الفاسق ومنطوق آية النبأ المعارض - بإطلاقه - للأخبار ، فأجاب عنهما بما أجاب ، وبناءً عليه يكون اعتراضه غير وارد عليه .

ص: 130

التنبيه الثالث : في أنحاء متعلّق الأمر والنهي

قوله : «الثالث : أ نّه لا يخفى أنّ النهي عن شيء . . .»(8) إلى آخره .

الأوامر والنواهي قد يتعلّقان بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وقد يتعلّقان بها على نحو العامّ المجموعي ، وقد يتعلّقان بها على نحو العامّ الاُصولي ؛ أي الطبيعة السارية أو جميع أفراد الطبيعة ، وقد يتعلّقان بنفس الطبيعة من غير لحاظ الوحدة والكثرة ، والسريان وعدمه ، والاجتماع وعدمه .

والمراد من الصرف : هو الطبيعة المأخوذة على نحو لا تنطبق إلاّ على أوّل الوجود ، ولا تتكثّر بتكثّر الأفراد ، فإذا وجد ألف فرد من الطبيعة دفعةً لا يكون الصرف إلاّ واحداً ، وإذا وجد فرد وتحقّق الصرف به ثمّ وجد فرد آخر لا يتكرّر الصرف به ، ويكون الوجود الثاني غير منطبَق للصرف ، فصرف الوجود هو ناقض العدم والطبيعة المأخوذة بقيد الوحدة بالمعنى الحرفي ، وتكون نسبة الأفراد إليه نسبة المحصّل إلى المتحصّل ، أو نسبة الأمر المنتزع إلى المنشأ للانتزاع .

فإذا تعلّق الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود يسقط الأمر بإتيان أوّل الوجودات ، ولو أوجد المكلّف ألف فرد دفعةً لا يكون إلاّ إطاعة واحدة هي إتيان الصرف ، والأفراد مقدّمة عقلية له ليست متعلّقة للأمر بنفسها ، فوجوده بأوّل الوجودات ، وعدمه بعدم جميعها ، وليست الكثرة فيه ، بل هي في

ص: 131

المحصّلات . هذه لوازم تعلّق الأمر بالصرف .

وأمّا إذا تعلّق النهي بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، يكون المزجور عنه واحداً هو الطبيعة المأخوذة على نحو ما ذكرنا ، ولازمه أن يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد ، فإن أتى المكلّف بواحد من أفرادها يسقط النهي وتتحقّق المعصية ، تأ مّل . ولو أتى بعدّة أفراد لا تكون إلاّ معصية واحدة هي إتيان الصرف ،

وإطاعته إنّما تكون بترك جميع الأفراد عقلاً .

وأمّا إذا تعلّق الأمر أو النهي على نحو الوجود الساري - أي الطبيعة باعتبار السريان - أو بنحو العامّ الاُصولي - أي كلّ فرد من أفراد الطبيعة - فلازمه إتيان جميع الأفراد في جانب الأمر ، وترك جميعها في طرف النهي ، فينحلاّن إلى الأوامر والنواهي ، ولكلّ منهما إطاعات وعصيانات ، وللطبيعة الكذائية وجودات وأعدام .

وإذا تعلّق الأمر أو النهي بنفس الطبيعة ، ويكون الأمر باعثاً نحو الطبيعة - أي إيجادها - والنهي زاجراً عنها ، من غير لحاظ شيء في جانب المأمور به والمنهيّ عنه إلاّ نفس الطبيعة ، فلازمه العقلي في جانب الأمر أن يسقط بأوّل الوجودات ؛ لتحقّق تمام متعلّق الأمر ، وهو نفس الطبيعة بلا شرط واعتبار زائد .

وإذا (1) أتى بعدّة أفراد دفعةً يكون المطلوب كلّ واحد منها ، ويكون مطيعاً بالنسبة إلى كلّ فرد منها ؛ فإنّ الطبيعة تتكثّر بتكثّر الأفراد ، والأمر قد تعلّق بنفس

ص: 132


1- قد عدلنا عنه في باب الأوامر ، فراجعأ . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 1 : 231 .

الطبيعة القابلة للكثرة ، وإنّما يسقط الأمر بأوّل الوجودات لا لقصور في ناحية الطبيعة ، بل لقصور مقتضى الأمر .

والفرق بين المقام وبين ما إذا تعلّق بالصرف : أنّ الصرف غير قابل للتكرار والتكثّر ، وأمّا نفس الطبيعة فقابلة لهما ، وتكون متكثّرة بتكثّر الأفراد ، ولازمه انطباق المأمور به على كلّ واحد منها ، وحصول الإطاعة بكلّ واحد منها . وإذا أتى المكلّف بواحد من الأفراد وترك الباقي يكون مطيعاً محضاً ؛ لأنّ الإتيان بالفرد إتيان بتمام مقتضى الأمر .

وأمّا في جانب النهي ، فالزجر عن الطبيعة والمنع عن تحقّقها زجر ومنع عن جميع الأفراد عقلاً ؛ لأنّ كلّ فرد هو الطبيعة نفسها ، فإذا عصى العبد وأتى بفرد منها لم يسقط النهي ؛ لأنّ النهي ليس طلب الترك(1) حتّى يقال : تحقّق مطلوبه ، والعصيان لا يمكن أن يصير مسقطاً للأمر ولا للنهي ، وما هو المعروف - من أنّ الأوامر والنواهي كما يسقطان بالإطاعة قد يسقطان بالعصيان - بظاهره فاسد .

نعم ، إذا كان الأمر موقّتاً وترك العبد في جميع الوقت ، يكون عاصياً ويسقط الأمر ، لا للعصيان بل لقصور مقتضاه ، كما أنّ النهي عن الصرف - بالمعنى الذي أشرنا إليه - يسقط مع العصيان ؛ لقصور في المقتضى .

وبالجملة : مقتضى الزجر عن الطبيعة أن تكون الطبيعة في كلّ فرد مزجوراً عنها ، وما دام بقاء النهي يزجر عنها ، فلا يسقط بالعصيان ، وهذا أيضاً غير الزجر

ص: 133


1- هذا حكم عرفي ولو كان النهي طلب الترك ، كما قلنا في غير المقامأ . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 2 : 91 .

عن كلّ فرد ، بل زجر عن نفس الطبيعة ، ولازمه العقلي هو المزجورية عن كلّ فرد ؛ لاتّحادها معها .

وإذا تعلّق الأمر بمجموع الوجودات من حيث المجموع بحيث يكون المأمور به أمراً واحداً ، يكون إطاعته بإتيان المجموع ، وعصيانه بترك المجموع الذي ينطبق على ترك الجميع ، وترك فرد من الأفراد . وإذا تعلّق النهي به يكون إطاعته بترك المجموع ، وهو يتحقّق بترك البعض ، وعصيانه بالجمع بين جميعها .

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت والتصوّر ، وأمّا بحسب مقام الإثبات فالأوامر والنواهي متعلّقة نوعاً بالطبائع أو بإيجادها ، بلا تقيّد بشيء أصلاً .

اختلاف الاُصول العملية باختلاف متعلّقات الأحكام

ثمّ اعلم : أنّ الاُصول العملية تختلف حسب اختلاف متعلّقات الأحكام وموضوعاتها :

فإذا تعلّق الأمر أو النهي بالوجودات السارية - كما لو تعلّق وجوب الإكرام بكلّ فرد من العلماء ، أو تعلّقت الحرمة بكلّ فرد من الخمر - يكون المرجع في الشبهات الموضوعية البدوية هو البراءة ؛ لأنّ العلم بالكبرى لا يصير حجّة على الصغرى ، ولا يمكن كشف حال الفرد منها .

فإذا شكّ في كون زيد عالماً ، أو كون مائع خمراً ، لا تكون الكبرى حجّة عليهما ، لا لما ذكره بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - كما في تقريرات بحثه - من أنّ الخطاب لا يمكن أن يكون فعلياً إلاّ بعد وجود الموضوع ؛ لأنّ التكاليف إنّما

ص: 134

تكون على نهج القضايا الحقيقية المنحلّة إلى قضيّة شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلا بدّ من فرض وجود الموضوع في ترتّب المحمول ، فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجاً يعلم عدم فعلية التكليف ، ومع الشكّ فيه يشكّ فيها ؛ لأنّ وجود الصغرى ممّا له دخل في فعلية الكبرى(1)، انتهى .

ضرورة أنّ القضايا الحقيقية لا تنحلّ إلى قضايا شرطية حقيقةً ، وإن أصرّ عليه رحمه الله علیه في كثير من المواضع(2) ؛ زعماً منه أنّ ما اشتهر(3) : أنّ في القضايا الحقيقية يكون الحكم على الأفراد المحقّقة أو المقدّرة الوجود ، في مقابل القضايا الخارجية التي يكون الحكم [فيها] مقصوراً على الأفراد الخارجية ، أنّ المقصود منه أنّ تلك القضايا تنحلّ إلى الشرطيات حقيقة .

نعم يوهم ذلك بعض عبائر المنطقي-ين . لكنّ الأمر ليس كذلك قطعاً ؛ فإنّ القضايا الحقيقية قضايا بتّية كالقضايا الخارجية ، ولا افتراق بينهما من هذه الجهة ، وإنّما اُريد من كون الحكم فيها على الأفراد المحقّقة أو المقدّرة دفع توهّم

قصر الحكم على الأفراد الخارجية ، وتفرقة بين القضيّتين ، وإلاّ فالقضايا الحقيقية يكون الحكم فيها على عنوان الموضوع ؛ بحيث يكون قابلاً للانطباق على الأفراد أعمّ من الموجود أو] ما] سيوجد .

ص: 135


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 393 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 179 و494 ؛ أجود التقريرات 1 : 191 - 192 و266 - 267 .
3- شرح الشمسية : 78 ؛ شرح المنظومة ، قسم المنطق 1 : 248 .

ف- «كلّ نار حارّة» إخبار جزمي وقضيّة بتّية يحكم فيها على كلّ فرد من أفراد النار ، وليس في الإخبار اشتراط أصلاً ، لكن لا تكون النار ناراً ولا حارّة إلاّ بعد الوجود الخارجي ، وهذا غير الاشتراط ، ولا يكون مربوطاً بمفاد القضيّة .

ولو كانت القضايا الحقيقية مشروطة حقيقةً ، لزم أن يكون إثبات لوازم المهيات لها بنحو القضيّة الحقيقية مشروطاً بوجودها الخارجي ، مع أ نّها لازمة لها من حيث هي ، فقولنا : «كلّ مثلّث فإنّ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين» و«كلّ أربعة زوج» قضيّة حقيقية جزماً ، ولو كانت مشروطة لزم أن يكون إثبات التساوي والزوجية لهما مشروطاً بالوجود الخارجي ، مع أنّ اللوازم ثابتة لذواتها من غير اشتراط أصلاً .

نعم ، لا تكون المهية مهية ولا اللازم لازماً إلاّ بالوجود بنحو القضيّة الحينية ، لا المشروطة ؛ لأنّ الاشتراط معناه دخالة الشرط في ثبوت الحكم ، وهو خلاف الواقع في لوازم المهيات .

وكذا يلزم أن يكون حمل ذاتيات المهية عليها مشروطاً بتحقّقها ، مع أنّ الذاتي ثابت للذات بذاته من غير اشتراط .

مضافاً إلى أ نّه لو كان الأمر كما زعم لزم عدّ تلك القضايا في الشرطيات ، لا الحمليات ، مع تسالم المنطقيين [على] كونها حمليات بتّيات .

وبالجملة : ما أظنّ التزام أحد من أهل التحقيق بكون القضيّة الحقيقية قضيّة شرطية على نهج سائر الشرطيات ، من غير فرق بين الإخباريات والإنشائيات ، على إشكال في إطلاق الحقيقية فيها ، فقول القائل : «كلّ نار حارّة» إخبار فعلي بحرارة كلّ نار موجودة أو ستوجد ، وقوله : «أكرم كلّ عالم» إنشاء للحكم الفعلي

ص: 136

لموضوعه ؛ وهو عنوان «كلّ عالم» . نعم ، الإنشاء الكذائي لا أثر له إلاّ بعد تحقّق موضوعه خارجاً .

فإن كان المراد من عدم فعلية الحكم قبل تحقّق موضوعه خارجاً عدم باعثيته نحو الموضوع الغير المحقّق ، فهو حقّ ، لكن لا يلزم أن يكون الحكم مشروطاً ، بل يكون فعلياً بالنسبة إلى موضوعه ، وهو العنوان المأخوذ للموضوعية ، لكن كما لا يدعو حكم إلاّ إلى متعلّقه لا يدعو إلاّ إلى موضوعه ، فكما لا يدعو وجوب إكرام العالم إلاّ إلى عنوان الإكرام ، كذلك لا يدعو إلاّ إلى إكرام العالم ، فلا معنى لدعوته إلى من ليس بعالم ، كما لا معنى لأن يدعو إلى ما ليس بإكرام ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الوجوب بالنسبة إلى الإكرام أو إلى العالم مشروطاً .

وبالجملة : فرق بين اشتراط الحكم بأمر وبين عدم تحقّق موضوع الحكم .

وإن كان المراد أ نّه بعد تحقّق الموضوع إذا لم يعلم المكلّف به لا تكون الكبرى حجّة عليه ، ولا يمكن للمولى الاحتجاج على العبد بالحكم المتعلّق بالكبرى الكلّية ، فذلك حقّ لا مِرية فيه ، ولكن ليس هذا معنى عدم فعلية الحكم ؛ فإنّ الظاهر أنّ مرادهم من الفعلية واللا فعلية أن تتغيّر إرادة المولى ، وتكون قبل علم المكلّف بالموضوع أو قبل تحقّقه خارجاً معلّقة على شيء ويكون حكمه إنشائياً ، وبعد تحقّقه وعلم المكلّف به تغيّر إرادته ويصير الحكم الإنشائي فعلياً والمشروط منجّزاً . ولازم ذلك أن تتغيّر إرادة المولى وحكمه في كلّ آن بالنسبة إلى حالات المكلّفين من حصول الشرائط العامّة وعدم حصولها . وهذا ضروري البطلان .

ص: 137

نعم ، ما هو المعقول من الإنشائية والفعلية هو أنّ الأحكام قد تصدر من الموالي العرفية أو الحقيقية على نعت القانونية وضرب القاعدة ، وأحالوا مخصّصاتها وحدودها إلى أوقات اُخر ، ثمّ بعد ذكر المخصّصات والحدود تصير فعلية ؛ بمعنى أ نّها قابلة للإجراء والبعث الحقيقي .

فقوله تعالى : )وَللّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً((1) حكم قانوني مضروب يحال بيان حدوده إلى خطاب آخر ، وبعد تتميم الحدود والشرائط يصير فعلياً ويقع في موقع الإجراء ، إلاّ أ نّه حكم متعلّق بعنوان خاصّ هو المستطيع ، فإذا صار المكلّف مستطيعاً يصير موضوعاً له ، وإذا تمّت شرائط التكليف بالنسبة إليه يكون هذا الحكم حجّة عليه ، وليس له عذر في تركه .

وبالجملة : لا معنى للإنشائية والفعلية المعقولتين إلاّ ما ذكرنا ، والتنجّز عبارة عن تمامية الحجّة على العبد .

فتحصّل من جميع ذلك : أنّ الأحكام إذا كانت على نحو العامّ الاُصولي - بحيث تنحلّ إلى أحكام مستقلّة لموضوعات مستقلّة - فعند الشكّ في الموضوع لا تكون الكبرى الكلّية حجّة على الموضوع المشكوك فيه ، فتجري أصالة البراءة .

إن قلت : إذا لم تكن الكبرى حجّة على المصاديق المشتبهة ، فلِم لا يتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص ؟ ! فإنّ المخصّص لم يكن حجّة بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيه ، والعامّ حجّة بالنسبة إلى فرده ، ولا يجوز رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة .

ص: 138


1- آل عمران (3) : 97 .

لا يقال : إنّ العامّ المخصّص يعنون ، فقوله : «أكرم العلماء» بعد التخصيص بالفسّاق بمنزلة : «أكرم العلماء الغير الفسّاق» فالتمسّك به تمسّك في الشبهة المصداقية لنفس العامّ ، وهو غير جائز .

فإنّه يقال : فعليه يسري إجمال الخاصّ إليه في الشبهة المفهومية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، وليس ذلك إلاّ لأجل عدم تعنونه بعنوانه .

قلت : التحقيق عدم تعنونه بعنوان الخاصّ ولا يسري الإجمال إليه ، ومع ذلك لا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقية ؛ وذلك لأنّ حجّية العامّ تتوقّف على اُصول عقلائية ، منها : أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية ، وهذا أصل عقلائي يتمسّك به العقلاء إذا شُكّ في أصل التخصيص ، وأمّا مع العلم به والشكّ في مصداق أ نّه من مصاديق المخصّص - حتّى لا تتطابق الإرادتان بالنسبة إليه - أو لا ، فلا يجوز التمسّك بالأصل العقلائي ؛ لعدم بناء العقلاء على ذلك . فعدم التمسّك بالعامّ ليس من قبيل رفع اليد عن الحجّة بلا حجّة ، بل يكون اقتضاء العامّ ناقصاً ؛ لأجل عدم تمامية الاُصول العقلائية فيه .

ولعلّ هذا مرادهم من أنّ المصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعامّ ، إلاّ أ نّه لم يعلم أ نّه من مصاديقه بما هو حجّة ؛ لاختصاص حجّيته بغير الفاسق .

وأمّا الإجمال فلا وجه لسرايته ؛ فإنّ الإجمال واللا إجمال من عوارض الظهورات ، والخاصّ المنفصل لا يتصرّف في ظهور العامّ .

هذا كلّه فيما إذا تعلّق الحكم بالطبيعة السارية .

وأمّا إذا تعلّق الأمر بها على نحو صرف الوجود ، ويكون حال المصاديق حال المحصّلات ، أو المناشئ للانتزاع بالنسبة إلى الأمر المنتزع منها ، فالأصل في

ص: 139

المشتبهات الاشتغال ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني بصرف الوجود يقتضي البراءة اليقينية ، ومع إتيان المشتبه يشكّ في البراءة ؛ كما إذا قيل : «كن لا شارب الخمر» يجب تحصيل هذه الصفة لنفسه ، ومع ارتكاب المشكوك فيه يشكّ في إطاعة هذا الأمر .

وأمّا إذا تعلّق النهي بالصرف ، ويكون الأفراد من قبيل المحصّلات من غير تعلّق نهي بها ، يكون الأصل هو البراءة ؛ لأنّ النهي ليس طلب الترك - كما مرّ في باب النواهي(1) - حتّى يكون مقتضاه كالأمر ، فيقال : إنّ الطلب إذا تعلّق بالترك لا بدّ مع الاشتغال اليقيني بهذا العنوان [من] الخروج عن عهدته يقيناً ، بل يكون مفاد النهي هو الزجر عن الطبيعة ، ومع الشكّ في كون الخارج محصّل الطبيعة أو مصداقها لا يكون النهي حجّة عليه عقلاً بالنسبة إلى المشكوك فيه ، كما قلنا في الانحلاليات ، ولا فارق بينهما من هذه الجهة .

وهكذا الحال في تعلّق الأمر والنهي بالمجموع ؛ فإنّ مقتضى تعلّق الأمر به هو الاشتغال ؛ لأ نّه مع ترك المشكوك فيه يشكّ في صدق المجموع على البقيّة ، ومقتضى الأمر هو الاشتغال بالمجموع ، فلا بدّ من البراءة اليقينية .

وقياسه بالأقلّ والأكثر الارتباطي مع الفارق ؛ فإنّ فيما نحن فيه تعلّق الأمر بعنوان يشكّ [في] انطباقه على الخارج ، وفي الأقلّ والأكثر لو كان الأمر كذلك لا محيص من الاشتغال ، فإذا أمر بالصلاة ، وشكّ في جزء مع الشكّ في كونه مقوّماً للصلاة - بحيث مع فقدانه شكّ في صدق الصلاة على المأتيّ به - لا شبهة

ص: 140


1- مناهج الوصول 2 : 89 .

في لزوم الاحتياط والبراءة اليقينية .

وأمّا النهي إذا تعلّق بالمجموع فلا يكون حجّة على المشكوك فيه ، لما قلنا : إنّ مفاده الزجر عن متعلّقه ، لا طلب تركه .

وممّا ذكر يظهر الحال في مقتضى الأمر والنهي المتعلّقين بالطبائع أيضاً .

إنّما الكلام في الأصل المحرز للموضوع :

أمّا إذا تعلّق النهي بالطبيعة بنحو العامّ الاُصولي ويكون الأفراد موضوعة استقلالاً ، فلا إشكال في أنّ استصحاب الخمرية يحرز الموضوع ، واستصحاب عدم الخمرية يخرجه عن تحت النهي .

وأمّا إذا كان النهي متعلّقاً بالصرف أو يرجع إلى إيجاب عُدولي ، فاستصحاب عدم الخمرية لا يثبت أنّ ارتكابه لا يكون محصّلاً للصرف ، ولا يثبت أنّ بارتكابه لا يخرج عن وصف اللا شاربية .

وهل استصحاب عدم كونه مرتكباً للخمر إذا شرب المشكوك فيه ، أو استصحاب كونه لا شارب الخمر إذا شرب المشكوك فيه ، أو بعد شربه ، يفيد في تجويز الارتكاب له ؟ لا يخلو من إشكال .

ص: 141

مسألتان :

المسألة الاُولى : في دوران الأمر بين التعيين

في دوران الأمر بين التعيين

والتخيير وأنّ الأصل فيه البراءة أو الاحتياط

وتنقيح البحث يستدعي رسم اُمور :

الأمر الأوّل : حقيقة الواجب التخييري

هل الواجب التخييري قسم خاصّ من الواجب متعلّق بشيئين أو الأشياء على سبيل الترديد الواقعي ؛ بأن يقال : إنّ الإرادة كما يمكن أن تتعلّق بشيء معيّن يمكن أن تتعلّق بشيئين على سبيل التردّد الواقعي ، وكذلك البعث والإيجاب . وبالجملة : الوجوب التخييري سنخ من الوجوب في مقابل التعييني ، وليس قسماً منه(1) ؛ أم يرجع إلى الواجب التعييني بحسب اللبّ ، وأنّ الواجب هو القدر الجامع بين الأطراف ، ويكون الأمر المتعلّق بها على سبيل الترديد إرشاداً عقلياً إلى مصاديق الجامع ؛ حيث لا طريق للعقل إلى إدراكه ؟

وقد يقال في كيفية إنشاء التخييري : إنّه عبارة عن تقييد إطلاق الخطاب المتعلّق بكلّ فرد من الأفراد بما إذا لم يأت المكلّف بعدله ، فيكون كلّ

ص: 142


1- وقد حقّقنا حقيقة الواجب التخييري بحيث لا يلزم محذور منه عقلاً ، فراجعأ . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 2 : 72 .

طرف مشروطاً بعدم إتيان عدله(1) .

والحقّ هو الأوّل ؛ بشهادة الوجدان به ، وعدم الدليل على امتناعه .

وما يقال : من عدم تأثير الكثير في الواحد ؛ لأنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، كما أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد(2) أجنبيّ عن مثل المقام كما هو واضح عند أهله(3) .

الأمر الثاني : أقسام الواجب التخييري

قد قسّم بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - الواجب التخييري إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : الواجب التخييري الابتدائي ، كخصال الكفّارات .

الثاني : الواجب التخييري الناشئ من تزاحم الحكمين في مقام الامتثال ، وقال : لمّا كان هذا التخيير يعرض للخطابين بعد ما كانا عينيّين يمتاز عن القسم الأوّل .

ص: 143


1- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 232 .
2- كفاية الاُصول : 174 .
3- مع أ نّه على فرض صحّته لا يلزم عدم الواجب التخييري ؛ لإمكان كون كلّ من الطرفين واجداً لملاك تامّ ، لكن يكون لإيجابهما محذور ملاكي أو خطابي ، أو كانت مصلحة التسهيل أوجبت الإيجاب تخييراً . هذا ، مع أنّ الوجوب منتزع من البعث ، فإذا تعلّق تخييراً يكون الواجب تخييرياً ، وإن كان المؤثّر لتحصيل الملاك هو الجامع الواحد على فرض صحّة إجراء القاعدة في مثل المقام . [منه قدس سره]

الثالث : التخيير الناشئ من تعارض النصّين مع تساويهما في مرجّحات باب التعارض ؛ فإنّه بناءً على الطريقية - كما هو المختار - قسم آخر من التخيير أجنبيّ عن القسمين . نعم ، بناءً على السببية يكون التخيير بينهما من قبيل باب التزاحم(1)، انتهى محصّله .

وأنت خبير : بأنّ التخيير الناشئ من تعارض النصّين - بناءً على الطريقية - ليس قسماً في مقابل القسم الأوّل ؛ فإنّ الاختلاف في المخيّر فيه - أي كون أحدهما مسألة فقهية والآخر اُصولية - ليس اختلافاً في الواجب التخييري ، وإلاّ تتكثّر الأقسام حسب تكثّر المتعلّقات .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التخيير الناشئ من تعارض النصّين مفترق عن الابتدائي ؛ بأنّ في التخيير الابتدائي يكون كلّ من الأطراف واجداً للملاك ووافياً للغرض ، بخلاف تخيير باب التعارض ؛ فإنّ أحد الطرفين - لا محالة - مخالف للواقع ، وغير واجد للملاك .

وبالجملة : في التخييرات الابتدائية يكون التخيير ناشئاً من خصوصية في كلّ من الأطراف ، يكون بتلك الخصوصية مسقطاً للغرض؛ لاستيفاء الملاك ، بخلاف التخيير في باب التعارض ؛ فإنّه ناشٍ من نوعية أداء أحدهما للواقع من غير إمكان معرفته ، ولمّا كان ما يكون مطابقاً للواقع مجهولاً نشأ التخيير الإلجائي على حذو التخيير في أطراف العلم الإجمالي الذي يكون المكلّف مضطرّاً إلى ارتكاب أحدها لا بعينه ، فيكون حكم العقل بالتخيير في إتيان

ص: 144


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 417 - 420 .

أحدها ناشئاً من الاحتياط للتوصّل إلى الواقع .

فالحكم الشرعي بالتخيير - بعد سقوطهما عن الحجّية عقلاً - ليس على حذو التخييرات الشرعية الابتدائية ؛ فإنّها عبارة(1) عن نحو تعلّق للإرادة بالطرفين على سبيل التردّد الواقعي ، والتخيير في باب التعارض يكون لأجل التحفّظ على واقع معيّن في علم اللّه لا يمكن تعريفه للمكلّف ، فيصحّ أن يقال : هذا قسم آخر يباين القسمين .

هذا ، ولكن - بعد اللتيّا والتي - ليس هذا اختلافاً في التخيير حتّى يختلف القسمان ، بل اختلاف في متعلّقه ممّا لا يكون مناطاً لتكثير أقسامه .

بل يمكن أن يقال : إنّ التخيير في باب التزاحم - ممّا هو بحكم العقل - ليس قسماً للتخيير مخالفاً في حيثية التخيير عن أخويه ، فتدبّر(2) .

ص: 145


1- قد رجعنا عنه بما هو الحقّأ . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 2 : 73 .
2- إلاّ أن يكون مراده تقسيم الواجب - أي المتعلّق - لكن ظاهره هو تقسيم التخيير وإن جعل المقسم الواجب التخييري . ثمّ إنّه يرد عليه إشكال آخر : وهو أنّ الأمر في المتزاحمين ليس كما زعم من تقييد التكليف عقلاً وصيرورة التكليف بعد ذلك من قبيل الواجب المخيّرأ ، وقد حقّقنا ذلك بما لا مزيد عليه في باب الترتّب ، فراجع(ب) . [منه قدس سره] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 419 . ب - مناهج الوصول 2 : 21 .

الأمر الثالث : حكم الشكّ في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء

يعتبر في جريان البراءة العقلية الشكّ في أصل التكليف من غير اعتبار شيء آخر فيه ، من كون وضعه ورفعه بيد الشارع ابتداءً أو مع الواسطة ، ومن غير أن يكون في رفعه منّة على العباد أو لا ، أو يكون في وضعه ضيق عليهم أو لا ، أو يكون من الاُمور الوجودية أو لا .

وبالجملة : تمام المناط هو عدم تمامية الحجّة على العبد ، وكون العقاب عليه - على فرضه - بلا بيان .

كما أنّ ميزان الاشتغال هو الشكّ في السقوط بعد تمامية الحجّة ، ووصول البيان ، من غير اعتبار شيء آخر ؛ وهذا ممّا لا إشكال فيه .

إنّما الكلام فيما أفاده بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - من أنّ الشكّ في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء والاستمرار يرجع إلى الشكّ في السقوط ، والأصل فيه الاشتغال .

قال ما حاصله : إنّه كما يمكن أن يكون التكليف في عالم الثبوت والتشريع مشروطاً كاشتراط الحجّ بالاستطاعة ، كذلك يمكن أن يحدث للتكليف الاشتراط في مرحلة البقاء بعد ما كان مطلقاً في مرحلة الثبوت والحدوث ، كما لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام . وهذان الفرضان متعاكسان في جريان البراءة والاشتغال عند الشكّ ؛ فإنّ الأصل في الأوّل البراءة ، وفي الثاني الاشتغال ؛ لأنّ حقيقة الشكّ في الثاني يرجع إلى أنّ الصيام في المثال هل

ص: 146

يكون مسقطاً للتكليف بالصلاة أو لا ؟ وذلك واضح(1) ، انتهى .

أقول : مراده من الاشتراط في مرحلة البقاء - كما يظهر منه فيما سيأتي - نظير الاشتراط في الواجب التخييري ؛ من كون كلّ من التكليفين مشروطاً بعدم إتيان الآخر ، بناءً على رجوع الواجب التخييري إلى تقييد إطلاق كلّ من الطرفين بعدم إتيان الآخر ، ففي مثل خصال الكفّارات يكون كلّ من الأطراف مقيّداً بعدم إتيان الآخر .

ولا يخفى : أ نّه لو قلنا برجوع الواجب التخييري إلى تقييد الإطلاق لا يرجع الشكّ إلى مرحلة البقاء والاستمرار ، بل يرجع إلى مرحلة الثبوت ؛ لأنّ تقييد ما يكون مطلقاً بحسب اللبّ والثبوت محال يرجع إلى البداء المستحيل ، فيكون التكليف واقعاً ؛ إمّا مطلقاً أتى بالآخر أو لا ، وإمّا مشروطاً بعدم إتيان الآخر .

ولا فرق في اشتراط التكليف بين أن يكون شرطه إتيان شيء أو حصول شيء ، فالحجّ مشروط بحصول الاستطاعة ، والواجب التخييري يرجع لبّاً - على الفرض - إلى الاشتراط بعدم الإتيان بصاحبه ، فيكون التكليف في مرحلة الثبوت والحدوث مشروطاً بعدم إتيان الآخر ، فيرجع الشكّ إلى الشكّ في التكليف المطلق ، والأصل فيه يقتضي البراءة ؛ لأنّ حجّة المولى لم تكن تامّة بالنسبة إلى الطرف بعد الإتيان بصاحبه .

ولا يمكن أن يقال : إنّ التكليف قبل الإتيان بصاحبه كان مطلقاً ، وبالإتيان

ص: 147


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 421 .

صار مشروطاً ؛ لعدم تعقّل صيرورة المطلق - ثبوتاً - مشروطاً كذلك ، فالتكليف : إمّا مطلق مطلقاً ، وإمّا مشروط كذلك . نعم ، عند حصول الشرط في المشروط يصير التكليف المشروط فعلياً ؛ لتحقّق شرطه .

وبالجملة : لا وجه لما أفاده في الواجبات التي تكون شروطها شرعية . نعم ، فيما إذا كان الشكّ في الشروط العقلية - كالشكّ في القدرة - يرجع الشكّ إلى السقوط ، والأصل فيه الاشتغال ؛ لأنّ التكليف من قبل المولى مطلق ، والملاك تامّ ، ويكون تقييد الإطلاق في مورد عدم القدرة عقلياً ، ومن قبيل تفويت المصلحة اضطراراً (1) ، وفي مثل ذلك يحكم العقل بالاحتياط إلاّ إذا ثبت المؤمّن ، فإذا شكّ المكلّف في القدرة لا يجوز له القعود عن التكليف حتّى يثبت له عجزه ، وإلاّ تكون حجّة المولى عليه تامّة ، بخلاف الشرط الشرعي ؛ فإنّه من قيود الموضوع لبّاً ، والفرق بينهما واضح لا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال .

الأمر الرابع : في أنحاء الشكّ في التعيين والتخيير

الشكّ في التعيين والتخيير قد يكون بعد العلم بتوجّه الخطاب بأحد الشيئين في أنّ وجوبه يكون تعيينياً أو يكون شيء آخر عدله ، وقد يكون بعد العلم بتوجّه الخطاب بشيئين في أنّ وجوبهما يكون على سبيل التعيين أو التخيير ، وقد يكون بعد العلم بتعلّق التكليف بشيء وجوباً وسقوطه بإتيان شيء آخر ، لكن يشكّ في أ نّه عدله ، أو يكون مباحاً أو مستحبّاً مسقطاً للواجب .

ص: 148


1- بل التحقيق عدم التقي-يد أصلاً . [منه قدس سره]

في مقتضى الأصل في الأنحاء الثلاثة

وليعلم أنّ موضوع البحث هو مقتضى الأصل العقلي أو الشرعي ، مع قطع النظر عن ظهور الأوامر .

النحو الأوّل :

فنقول : إذا شككنا في التعيين والتخيير بعد العلم بتعلّق التكليف بأحد الشيئين ، كما إذا شكّ في أنّ الشيء الفلاني عدل لهذا الواجب أو لا ، ويكون التخيير من التخييرات الابتدائية الشرعية ؛ أي القسم الأوّل من التخيير ، فهل الأصل العقلي يقتضي البراءة عن التعيينية أو الاحتياط ؟

التحقيق : أ نّه إن قلنا بأنّ الواجب التخييري يرجع إلى الواجبين أو الواجبات المشروطة بعدم إتيان ما بقي ، فالأصل فيه البراءة ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الإطلاق والاشتراط في التكليف ، فمع الإتيان ببعض الأطراف يشكّ في أصل التكليف .

وما أفاده المحقّق المتقدّم : من أنّ الشكّ يرجع إلى السقوط ؛ لأنّ التقييد إنّما يكون في مرحلة البقاء والاستمرار(1) قد عرفت ما فيه(2) . نعم لو كان التكليف مطلقاً ، وشكّ في سقوطه بإتيان شيء آخر من غير اشتراطه شرعاً بعدم إتيانه ، كان الشكّ في السقوط ، لكنّه خلاف المفروض .

وإن قلنا بأنّ الواجب التخييري يرجع إلى التخيير العقلي الذي كشف عنه

ص: 149


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 428 .
2- تقدّم في الصفحة 147 .

الشارع ، ويكون الجامع بين الأطراف واجباً شرعياً تعييناً . ففيه وجهان :

من حيث إنّ الأمر دائر بين وجوب قدر الجامع بين الفرد وصاحبه وبين وجوب الخصوصية ، فيكون من صغريات المطلق والمقيّد ، والأصل فيه البراءة .

ومن حيث إنّ التكليف بالخاصّ هاهنا معلوم يجب الخروج عن عهدته ، ولا يكون الجامع معلوم الوجوب بما أ نّه جامع والقيد مشكوكاً فيه ، كما في المطلق والمقيّد ؛ فإنّ المطلق هناك معلوم الوجوب والقيد مشكوك فيه فيرفع بالأصل ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ الجامع لا يكون متعلّق التكليف على أيّ حال ، بل هو واجب على فرض الوجوب التخييري ، فالتكليف بالخاصّ معلوم يجب البراءة منه عقلاً ، وإتيان الفرد الآخر لا يوجب البراءة عن التكليف المتعلّق بأمر معلوم(1) .

وإن قلنا بأنّ الواجب التخييري سنخ آخر من الوجوب متعلّق بالأطراف على نحو التردّد الواقعي ، ففي جريان البراءة أو الاشتغال أيضاً وجهان :

من حيث إنّ الحجّة من قبل المولى لم تتمّ إلاّ بتكليف مردّد بين التعيّنية المقتضية لإتيان الفرد الخاصّ ، والتخييرية الغير المقتضية إلاّ لعدم ترك جميع

ص: 150


1- لكن هنا مطلب آخر ، وهو أ نّه بناءً على أنّ الواجب هو الجامع يكون الخطاب المتعلّق بالمصداق إرشادياً ، لا مولوياً ، ومع الشكّ في التعيّن والتخيير يشكّ في إرشادية الطلب ومولويته ، فلا يكون حجّة على المكلّف بالنسبة إلى الخصوصية حتّى يقال : إنّ الاشتغال اليقيني بها يقتضي البراءة اليقينية ، فلا حجّة للمولى بالنسبة إليها ، فالقاعدة تقتضي البراءة ، وكون الأمر ظاهراً في المولوية خلاف مفروض البحث العقلي المناسب للمقام . [منه قدس سره]

الأطراف ، فما قامت به الحجّة هو عدم جواز ترك الأطراف ، وأمّا وجوب الخصوصية فلا .

ومن حيث إنّ الحجّة قامت على الفرد الخاصّ ؛ فإنّه واجب بلا إشكال ، والاشتغال اليقيني يوجب البراءة اليقينية ، ولا يمكن البراءة بفرد أجنبيّ لدى العقل ، ولا عذر للمكلّف في ترك التكليف المعلوم وإتيان الفرد المشكوك فيه بتوهّم كونه أحد طرفي الواجب التخييري . وهذا هو الأقوى .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الواجب التخييري إن كان من قبيل الواجبات المشروطة ، فالأصل في دوران الأمر بينه وبين الواجب التعييني البراءة ، وإلاّ فالأصل هو الاشتغال .

وأمّا البراءة الشرعية فالظاهر عدم جريانها ؛ لأنّ رفع التعيينية - على فرض إمكانه - لا يثبت كون الفرد المشكوك الوجوب طرفاً لمعلوم الوجوب ؛ حتّى يجوز الاكتفاء به عن الفرد المعلوم .

النحو الثاني :

ممّا ذكرنا يتّضح الأمر في الفرض الآخر من الشكّ في التعيين والتخيير ، وهو ما إذا علم توجّه التكليف بشيئين وشكّ في التعيين والتخيير ، فإنّ الأصل فيه أيضاً البراءة إذا رجع التكليف التخييري إلى الواجبات المشروطة ، والاشتغال على غيره ، وإن كان احتمال البراءة في هذا الفرض أقرب من الفرض السابق ، مع كون الواجب التخييري سنخاً آخر من الوجوب ؛ لإمكان أن يقال : إنّ أصل تعلّق الوجوب بالفردين يقيني قامت الحجّة عليه ، وأمّا كيفية تعلّقه بهما

ص: 151

- وأ نّه على سبيل التعيين حتّى يجب الإتيان بهما ، أو على سبيل التخيير حتّى لا يجب إلاّ الإتيان بواحد منهما - فغير معلوم ، وليس للمولى حجّة على التعيينية ؛ لأنّ المردّد بين الأمرين لا يكون حجّة على أحدهما ، فليس للمولى المؤاخذة على ترك البقيّة بعد الإتيان بواحد منهما (1) .

كما أ نّه لا يبعد جريان البراءة الشرعية أيضاً عن تعيينية الوجوب .

ولا يصغى إلى ما قيل : من أنّ وصف التعيينية ليس وجودياً قابلاً للرفع(2) ؛ للمنع عن كونه عدمياً ؛ فإنّه ينتزع من تمركز الإرادة والإيجاب في شيء معيّن ، ولازمه عدم الاكتفاء بغيره عنه . مضافاً إلى منع تقوّم جريان حديث الرفع بكون الشيء وجودياً ، وما ذكر في الضابط فيه ليس بشيء(3) .

النحو الثالث :

بقي الكلام في الوجه الثالث من وجوه الشكّ في التعيين والتخيير : وهو ما إذا علم بتعلّق التكليف بأحد الشيئين ، وعلم أيضاً بأنّ الشيء الآخر مسقط للتكليف به ، ولكن شكّ في أنّ إسقاطه له لكونه عدلاً له أو لكونه مفوّتاً لموضوعه ، سواء كان إسقاطه من حيث كون عدمه شرطاً لملاك الواجب ، ويكون هو بالنسبة إليه مشروطاً ، أو كان إسقاطه من حيث كونه مانعاً عن

ص: 152


1- إلاّ أن يقال : إنّ التكليف المتعلّق بكلّ طرف لا يجوز تركه لأجل الإتيان بالآخر . [منه قدس سره]
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 427 .
3- نفس المصدر .

استيفاء الملاك مع بقائه على ما هو عليه .

فإن شكّ في ذلك وتردّد الأمر بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو أحد الوجهين الآخرين ، فالأصل فيه يقتضي البراءة : فمع التمكّن من إتيان ما هو متعلّق التكليف يجوز الاكتفاء بالطرف الآخر ؛ لأنّ كونه من قبيل الواجب المشروط أحد الاحتمالات ، ومع تردّد الواجب بين المطلق والمشروط فالأصل البراءة مع فقدان شرطه . ومجرّد احتمال كون المسقط مفوّتاً للملاك ومانعاً عن استيفائه ، لا يوجب استحقاق العقوبة مع عدم تمامية الحجّة بالنسبة إلى الواجب المطلق . فما أفاده بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه(1) - منظور فيه(2) .

ومع عدم التمكّن من إتيان ما هو متعلّق التكليف ، فالأصل في الطرف الآخر المسقط - مع الشكّ في كونه أحد طرفي الواجب التخييري ، أو كونه مباحاً أو مستحبّاً مسقطاً للتكليف - البراءة ، وهذا واضح .

هذا كلّه حال الشكّ في التعيين والتخيير مع القسم الأوّل من أقسام الواجب التخييري ، أي التخيير الشرعي الابتدائي .

وأمّا القسم الثاني وهو تخيير باب التزاحم : فإن دار الأمر بين التخيير والتعيين في هذا القسم - بأن احتمل أقوائية ملاك أحدهما المعيّن ، كما إذا احتمل كون أحد الغريقين هاشمياً مع العلم بأهمّية إنقاذ الهاشمي أو احتمالها -

ص: 153


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 430 .
2- ويأتي فيه ما تقدّم بالنسبة إلى سائر احتمالات الواجب التخييري ، ولا جدوى في تكراره . [منه قدس سره]

فالأصل فيه الاشتغال ، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - من أنّ تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء يقتضي الاشتغال(1) ؛ لما عرفت ما فيه(2) ، بل لأنّ التقييد هاهنا عقلي بعد تمامية الملاك والحجّة من قبل المولى ؛ فإنّ في مثله لا يجوز للعبد التقاعد عن تكليف مولاه بمجرّد الشكّ في التقييد ، نظير الشكّ في القدرة على امتثال أمره ؛ فإنّ العقل يحكم بالاشتغال وعدم جواز التقاعد عن الامتثال بمجرّد الشكّ ؛ كلّ ذلك لأنّ التكليف من قِبل المولى مطلق والملاك تامّ ، ومع الشكّ في العذر لا بدّ من قيامه بوظائف العبودية ، وليس الشكّ عذراً له .

وبالجملة : فرق بين التقييدات الشرعية والعقلية التي ترجع إلى العجز عن إتيان تكليفه بعد تمامية ملاكه ، فمع الشكّ في الإطلاق والتقييد الشرعيين الأصل البراءة ، وأمّا مع الشكّ في التقييد العقلي فالأصل الاشتغال(3) .

وأمّا القسم الثالث من أقسام الواجب التخييري - وهو ما إذا كان التخيير لأجل تعارض الحجّتين - فإن قلنا بالسببية في الأمارات ، وسلكنا مسلك

ص: 154


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 433 .
2- تقدّم في الصفحة 147 .
3- هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الاشتغال . لكن التحقيق هو البراءة والفرق بين المقام وباب الشكّ في القدرة ؛ لأنّ حجّة المولى في المقام لا تتمّ إلاّ بالنسبة إلى طبيعة إنقاذ الغريق ، ولا يمكن أن يصير مثل هذا الدليل حجّة على أمر زائد عن متعلّقه ، فالشكّ يرجع إلى تكليف زائد متوجّه إلى إنقاذ محتمل [الأهمّية] والأصل فيه البراءة . . .أ . [منه قدس سره] أ - مع الأسف تتمّة الحاشية في تصوير الأصل غير مقروء .

المنتسب إلى الأشعري(1) - من أنّ قيام الأمارات سبب لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكم على طبقها ؛ بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت لديه الأمارة ، وتكون الأحكام الواقعية مختصّة بالعالم بها - فالأصل يقتضي البراءة عن التعيين لدى الشكّ ؛ لأنّ الشكّ في كون إحدى الأمارتين ذا المزيّة شكّ في حدوث التكليف على طبقها .

وكذا الكلام فيما إذا سلكنا مسلك المنتسب إلى المعتزلي(2) وهو سببية قيام الأمارة لحدوث مصلحة في المؤدّى تكون أقوى من مصلحة الواقع ، ويكون الحكم الفعلي تابعاً للمؤدّى ؛ فإنّ فيه أيضاً - مع احتمال المزيّة في إحدى الأمارتين - يكون الشكّ في حدوث التكليف تابعاً لذي المزيّة ، والأصل فيه البراءة .

نعم ، بناءً على ما [ إذا ] سلكنا مسلك من قال : إنّ قيام الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه ، بل المصلحة إنّما تكون في تطرّق الطريق وسلوك الأمارة(3) ، فللقول بأنّ الأصل يقتضي الاشتغال - عند الشكّ في التعيين والتخيير - وجه ؛ لصيرورة باب التعارض بناءً عليه كباب التزاحم ، فإن قلنا به هناك نقُله هاهنا ؛ لأنّ مناط باب التزاحم أن يكون كلّ من المتزاحمين واجداً للملاك ، والمتعارضان بناءً على السببية في خصوص

ص: 155


1- المستصفى من علم الاُصول 2 : 363 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 4 : 1380 ؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 95 .
2- نفس المصادر .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 114 .

المسلك الثالث يكونان كذلك ؛ لأنّ في سلوك كلّ من الأمارتين ملاكاً تامّاً ، فيصيران من صغريات باب التزاحم .

وأمّا بناءً على المسلكين الآخرين فلا يصير من قبيل باب التزاحم ؛ لأنّ المؤدّى الواحد إذا قامت الأمارتان عليه يحكم إحداهما بوجوبه والاُخرى بحرمته مثلاً ، فحدث بمقتضاهما مصلحة ومفسدة فيه ، يقع بينهما الكسر والانكسار ، فيصير الحكم تابعاً للغالب منهما إن زاد ملاك أحدهما ، وإلاّ فتصير النتيجة التخيير بينهما .

فلو قامت أمارة على وجوب صلاة الجمعة ، واُخرى على حرمتها ، فحدثت بمقتضى كلّ منهما مصلحة ومفسدة فيها ، فإن كان إحدى الأمارتين ذات مزيّة مرجّحة تكشف عن غلبة الملاك في ذيها ، فيصير الحكم تابعاً لذيها . وإن تساوتا بحسب المزيّة يكشف عن تساوي الملاكين ، فيحكم بالتخيير . وإن احتمل في إحداهما مزيّة يحكم بالبراءة ؛ للشكّ في حدوث الحكم الشرعي التابع للملاك ، وهذا بخلاف المسلك الثالث ؛ فإنّ متابعة كلّ من الأمارتين غير متابعة الاُخرى ، والفرض أنّ في تطرّق الطريق مصلحة وملاك يوجب الحكم ، فيصير من صغريات باب التزاحم .

ويمكن أن يقال بالبراءة في المقام دون باب التزاحم ؛ لأنّ السرّ في الاشتغال هناك أنّ للمولى حكماً مطلقاً ذا ملاك متعلّقاً بكلّ واحد من الموضوعين ، وعند التزاحم بينهما يقيّد العقل إطلاقه ؛ لعجزه عن الجمع بينهما ، وفي التقييدات العقلية الراجعة إلى مقام الامتثال يكون الأصل الاشتغال ، والمولى لم يلاحظ ظرف المزاحمات ، ولم يقيّد حكمه بلحاظ باب التزاحم ، ولم يتكفّل ترجيح أحد

ص: 156

المتزاحمين ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ حكم المولى - بناءً على السببية - يحدث بتبع قيام الأمارة وترجيح سلوكها على مصلحة الواقع ، وقد لاحظ المولى مقام تزاحم الأمارتين وترجيح إحداهما على الاُخرى ، وجعل الحكم تابعاً لذي المزيّة .

وبالجملة : يحدث الحكم عند حدوث المصلحة الراجحة بتبع قيام الأمارة التي هي ذو المزيّة ، فيرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى الشكّ في حدوث التكليف ، والأصل فيه البراءة ، تأ مّل .

وقد اتّضح بما ذكرنا من التفصيل على السببية ما في تقريرات بحث بعض الأعاظم رحمه الله علیه : من أنّ الكلام على السببية مطلقاً كالكلام في الغريقين عند احتمال أهمّية أحدهما المعيّن ، ويكون الباب من صغريات باب التزاحم(1) .

هذا كلّه على السببية .

وأمّا على الطريقية والكاشفية : فبعد تعارض الأمارتين وتساقطهما عقلاً والرجوع إلى الأدلّة الشرعية في الأخذ بالمرجّحات ، يكون الأصل لدى الشكّ في التعيين والتخيير الناشئ عن الشكّ في المزيّة الاشتغالَ ؛ لرجوعه إلى الشكّ في حجّية الأمارة التي ليس فيها احتمال المزيّة ، والأصل عدم الحجّية عند الشكّ فيها .

ص: 157


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 434 .

المسألة الثانية : في دوران الأمر بين الواجب العيني والكفائي

هل الأصل يقتضي العينية فلا يسقط الواجب بفعل الغير ، أو الكفائية فيسقط بفعله ؟ وليس المقصود إثبات عنوان العينية أو الكفائية ، بل المقصود أنّ الأصل يقتضي الاحتياط ، فيجب إتيانه ولو أتى به الغير ، أو البراءة إذا أتى به غيره .

في تصويرات الواجب الكفائي

وتحقيق المقام يبتني على تصوير الواجب الكفائي وتحقيق حقيقته ، وما قيل في تصويره وجوه :

الأوّل : أن يكون التكليف متعلّقاً بجميع المكلّفين مشروطاً بعدم سبق الغير بالفعل ، فينحلّ الخطاب إلى خطاباتٍ عديدة - حسب تعدّد المكلّفين - مشروطةٍ بعدم سبق الغير بالفعل .

الثاني : أن يتعلّق خطاب واحد إلى النوع ، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كلّ فرد منهم مكلّفاً ، فإذا أتى [به] واحد منهم يسقط عن الآخرين ؛ لأنّ الخطاب الواحد لا يقتضي إلاّ امتثالاً واحداً .

الثالث : أن يكون التكليف متوجّهاً إلى آحاد المكلّفين على نحو الواجب العيني ، لكنّ المكلّف به يكون صرف الوجود ، فإذا أتى به واحد منهم يحصل المتعلّق والغرض ، ويسقط التكليف .

ص: 158

وبناءً عليه يفترق الكفائي عن العيني بمتعلّق التكليف بعد اشتراكهما في تعلّقه بجميع المكلّفين عيناً ؛ فإنّ متعلّق التكليف في الواجب العيني هو نفس الطبيعة القابلة للكثرة ، أو الطبيعة المتقيّدة بصدورها من كلّ مكلّف ، فتتكثّر بتكثّر المكلّفين ، ولا يسقط بفعل بعضهم عن بعض ؛ لأنّ الطبيعة المتقيّدة بصدورها عن كلّ مكلّف تغاير الطبيعة المتقيّدة بصدورها عن غيره ، لكن لا بدّ من فرضها بنحو لا يلزم المحذور العقلي .

وأمّا المتعلّق في الواجب الكفائي فهو صرف الوجود الغير القابل للتكرار ومتوجّه إلى جميع المكلّفين ، فيجب على جميعهم إتيانه ، فإذا سبق أحدهم بالإتيان أتى بتمام المتعلّق وسقط الغرض والتكليف ، وإن ترك الكلّ يكون جميعهم عصاةً ؛ لعصيان التكليف المتوجّه إليهم ، وإن أتى الجميع معاً يكون كلّهم مطيعين ؛ لإتيان الكلّ ما هو متعلّق التكليف .

الرابع : أن يكون المتعلّق في الواجب الكفائي هو واحد من المكلّفين - أي هذا العنوان القابل للانطباق على كلّ واحد منهم - لكن بإتيان واحد منهم يسقط التكليف ، وهذا على نحوين : تارة يكون بشرط لا ، واُخرى لا بشرط .

الخامس : أن يكون التكليف في الكفائي على نحو الواجب التخييري ، لكن التخيير يكون بين المكلّفين ، لا المكلّف به .

السادس : أن يكون التكليف على آحاد المكلّفين ، لكن إتيان بعضهم موجباً لسقوط التكليف ، إمّا بملاك الاستيفاء لتمام الملاك ، أو غير ذلك .

ص: 159

اختلاف الأصل باختلاف الوجوه في الكفائي

إذا عرفت ذلك : فالأصل بحسب هذه الوجوه مختلف في البراءة والاشتغال :

أمّا على الوجه الأوّل : فلا إشكال في البراءة ؛ لأنّ الأمر دائر بين الواجب المطلق والمشروط مع عدم تحقّق شرطه بعد إتيان بعض المكلّفين ؛ فإنّ الشرط فيه لا بدّ وأن يكون عدم سبق الغير إلى زمان يفوت التكليف إن تأخّر منه ، لا عدم سبقه في الجملة ؛ لأنّ لازمه أن يصير التكليف مطلقاً بالنسبة إلى كلّ المكلّفين مع عدم السبق في الجملة ، ولا يسقط بفعل بعضهم ، وهو كما ترى ؛ فإنّ الواجب الكفائي كفائي إلى الآخر ، فبناءً على أن يكون الشرط عدم سبق الغير إلى زمان يفوت لو تأخّر عنه ، فمع إتيان بعضهم لا يكون شرطه محقّقاً ، فدار الأمر - في الشكّ بين الوجوب العيني والكفائي - بين الواجب المطلق والواجب المشروط مع عدم تحقّق شرطه ، كما لو دار أمر الحجّ بين كونه واجباً مطلقاً أو مشروطاً بالاستطاعة مع عدم تحقّقها ، فإنّه لا إشكال في جريان البراءة فيه .

وأمّا الثالث : فقد يقال فيه بالبراءة ؛ لأنّ الأمر دائر بين أن يكون التكليف متعلّقاً بنفس الطبيعة ، أو بالطبيعة المتقيّدة بصدورها عن آحاد المكلّفين ، فتعلّقه بنفس الطبيعة متيقّن ، وقيد صدورها من الآحاد مشكوك فيه ومدفوع بالأصل ، فإذا أتى واحد منهم بالطبيعة لا يكون للمولى حجّة على إتيان البقيّة ؛ لأنّ ما قامت الحجّة بها - وهي أصل الطبيعة - قد اُتي بها ، ولا حجّة له على صدورها

ص: 160

من الجميع . وبالجملة : يدور الأمر بين المطلق والمقيّد ، والأصل فيه البراءة .

وفيه : أنّ الأمر دائر بين صرف الوجود والطبيعة المتقيّدة بصدورها من كلّ مكلّف أو نفس الطبيعة القابلة للكثرة ، فمع إتيان بعضهم يشكّ في سقوط الأمر ، فالأصل الاشتغال .

وعلى الوجه الثاني : فالظاهر أنّ الأصل فيه يقتضي الاحتياط ؛ لأنّ التكليف المتوجّه إلى المكلّف معلوم قبل إتيان الغير ؛ لأ نّه إمّا مكلّف بالتكليف العيني ، أو مكلّف لانطباق النوع عليه ، وبعد إتيان الغير يشكّ في سقوط التكليف .

وليس النوع مع الشخص من قبيل المطلق والمقيّد حتّى يقال : إنّ التكليف المتوجّه إلى النوع معلوم ، والتكليفَ المتوجّه إلى الشخص مشكوك فيه يدفع بالأصل ؛ لأنّ التكليف المتوجّه إلى الشخص ليس متوجّهاً إلى النوع المتشخّص وإن ينسب إليه بعد التوجّه إلى الشخص .

هذا ، ولكنّ الإشكال في أصل المبنى ، وأنّ التكليف في الواجب الكفائي متوجّه إلى النوع ؛ لأنّ هذا لا يرجع إلى محصّل ، كما لا يخفى على المتأ مّل .

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الأصل في الشكّ في العيني والكفائي هو البراءة على بعض التصاوير والاشتغال على بعض؛ كالشكّ في الواجب التعييني والتخييري ، بل جريان الأصل هاهنا أظهر . فسقط بما ذكرنا جميع ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه في المقام من المبنى والبناء(1) .

ص: 161


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 436 .

دوران الأمر بين المحذورين

قوله : «فصل : إذا دار الأمر بين . . .»(9) إلى آخره .

نقد كلام المحقّق النائيني في عدم جريان الاُصول في المقام

ذهب بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه - إلى عدم جريان شيء من الاُصول العقلية والشرعية في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، ولمّا كان في كلامه موارد من الخلط نذكر المهمّات منها ، ونشير إلى ما فيها .

وحاصل ما أفاد في باب عدم جريان الأصل العقلي : أنّ التخيير العقلي إنّما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ، ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين ، كالتخيير في باب التزاحم ، وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس كذلك ؛ لعدم ثبوت الملاك في كلّ من الطرفين ، فالتخيير العقلي فيه إنّما هو من التخيير التكويني - حيث إنّ الشخص لا يخلو بحسب الخِلقة من الأكوان الأربعة - لا التخيير الناشئ عن الملاك ، فأصالة التخيير عند

ص: 162

الدوران بين المحذورين ساقطة(1) .

وأمّا البراءة العقلية : فغير جارية ؛ لعدم الموضوع لها ، فإنّ مدركها قبح العقاب بلا بيان ، وفي دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير ، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان(2) .

وفيه ما لا يخفى ، أمّا بالنسبة إلى أصالة التخيير : فلأنّ انحصارها في المتزاحمين اللذين يكون في كلّ منهما ملاك يلزم استيفاؤه ، ممّا لا وجه له ؛ فإنّ في موارد الاضطرار - إلى بعض الأطراف الغير المعيّن من العلم الإجمالي - يحكم العقل بالتخيير في رفع الاضطرار بأ يّهما شاء ، ويحكم بالتخيير لترك أيّهما شاء ، مع أنّ الملاك لا يكون في كلّ من الطرفين ، ففي دوران الأمر بين المحذورين يحكم العقل بعدم ترجيح أحدهما المعيّن ؛ لقبح الترجيح بلا مرجّح ، ويحكم بتساوي الفعل والترك ، وهذا هو حكمه بالتخيير .

وبالجملة : إذا كان طرفا الفعل والترك في نظر العقل متساويين يحكم بالتخيير بينهما ، ومجرّد كون الإنسان لا يخلو من طرفي النقيض لا يوجب عدم حكم للعقل في موردهما .

وبالجملة : إنّ العقل إمّا يرى ترجيحاً ملزماً في أحد الطرفين فيحكم بالتعيين ، وإلاّ فيحكم بالتخيير ، ولا يبقى مردّداً لا يحكم بشيء .

ص: 163


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 444 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 448 .

ولا يخفى : أنّ عدم خلوّ الإنسان من الأكوان الأربعة أجنبيّ عن المقام . نعم ، الإنسان كما لا يخلو عن الأكوان الأربعة لا يخلو عن أحد طرفي النقيض أيضاً .

وأمّا ما أفاد في وجه عدم جريان البراءة العقلية فلا يخلو من غرابة ؛ فإنّ كون العلم الإجمالي كعدمه لا يوجب القطع بالمؤ مّن ، ولولا قبح العقاب بلا بيان فأيّ مانع للمولى من العقاب على التكليف الواقعي وجوباً كان أو حرمة ؟ ! وإنّما المؤ مّن بالنسبة إلى نوع التكليف هو قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا أصل التكليف المردّد بين الوجوب والحرمة ، فلمّا كان معلوماً لا يكون مورداً للقاعدة ، ولا يجوز العقاب لا للقاعدة ، بل لعدم قدرة المكلّف على الموافقة القطعية ، فعدم العقاب بالنسبة إلى نوع التكليف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبالنسبة إلى الموافقة القطعية للتكليف بينهما لعدم قدرة العبد عليها .

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل العقلي(1) .

ص: 164


1- وأمّا ما أفاده بعض المحقّقين في وجه عدم جريان الاُصول عقليةً وشرعيةً : من أنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في طرف سقوط العلم الإجمالي عن التأثير ، والمسقط له - حيثما كان - هو حكم العقل بمناط الاضطرار ، فلا يبقى مجال لجريان البراءة العقلية والشرعية ؛ نظراً إلى حصول الترخيص حينئذٍ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والتركأ . ففيه : أنّ حكم العقل بالتخيير في الرتبة المتأخّرة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان في طرفي الفعل والترك ، وإلاّ فلو فرض عدم قبحه بالنسبة إلى خصوص أحد الطرفين لم يحكم بالتخيير بالضرورة ، فالاضطرار لا يكون إلاّ لواحد منهما ، وأمّا بخصوص كلّ منهما فلا يكون مضطرّاً ، فلو فرض كونه واجباً بحسب الواقع ، وترك المكلّف مع قدرته على فعله بالضرورة ، لم يكن عدم العقاب للاضطرار وعدم القدرة ، بل لقبح العقاب بلا بيان ، وكذا في الترك بالخصوص . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 293 .

وأمّا الاُصول الشرعية : فحاصل ما أفاد في عدم جريان أصالة الإباحة اُمور :

الأوّل : عدم شمول دليلها للمقام ؛ فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الحلّ والإباحة ، لا الوجوب ، كدوران الأمر بين المحذورين ، كما هو ظاهر قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال»(1) .

الثاني : ما مرّ(2) من أنّ دليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعية ، ولا يعمّ الشبهات الحكمية .

الثالث : أنّ جعل الإباحة الظاهرية لا يمكن مع العلم بجنس الإلزام ؛ فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مفادها الرخصة في الفعل والترك ، وذلك يناقض العلم بالإلزام وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي ، إلاّ أنّ العلم بثبوت الإلزام لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهراً ؛ فإنّ الحكم الظاهري إنّما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي .

وبين أصالة الإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب فرق واضح ؛ فإنّ جريان أصالة الإباحة في كلّ من الفعل والترك يغني عن الجريان في الآخر ؛ لأنّ معنى إباحة الفعل هو الرخصة في الترك ، وبالعكس ، ولذلك يناقض مفادها - مطابقةً -

ص: 165


1- الفقيه 3 : 216 / 1002 ؛ وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 1 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 363 - 364 .

لجنس الإلزام ، دون الاستصحاب وأصالة البراءة ؛ فإنّ جريانهما في كلّ من الطرفين لا يغني عن الآخر ؛ لأنّ استصحاب عدم الوجوب غير استصحاب عدم الحرمة ، وكذلك في البراءة(1) ، انتهى .

أقول : أمّا ما مرّ منه من اختصاص دليل أصالة الحلّ بالشبهات الموضوعية فقد مرّ الكلام فيه(2) فلا نعيده ، وإن كان الاختصاص في بعضها لا يبعد .

وأمّا ما أفاده أخيراً ففيه :

أوّلاً : أ نّه منافٍ لما أفاده أوّلاً من اختصاص دليل أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الحلّية لا الوجوب ؛ لأنّ جعل الرخصة في الفعل والترك إنّما يكون فيما إذا كانت الشبهة في الوجوب والحرمة جميعاً ، وأمّا مع مفروضية عدم الوجوب ، وكون الشكّ في الحرمة والحلّية ، فلا معنى للرخصة في الترك ؛ فإنّ الرخصة الظاهرية تكون لغواً مع العلم بالرخصة الواقعية ، فمفاد دليله الأوّل أنّ طرف الحرمة يكون الحلّية لا الوجوب ، ولازم دليله الثالث - من جعل الرخصة في الفعل والترك - أنّ طرف الشبهة يكون الوجوب أيضاً ، وهما متنافيان(3) .

وثانياً : أنّ ما أفاد - من أنّ مفاد دليل الحلّ والإباحة متنافٍ بمدلوله المطابقي مع العلم بالإلزام - لا وجه له ؛ فإنّ دليل الحلّ لو كان مثل : «كلّ شيء لك حلال

ص: 166


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 445 .
2- تقدّم في الصفحة 60 .
3- بل على ما ذكره يختصّ دليل أصالة الإباحة بمورد الدوران بين المحذورين ؛ لبطلان جعل الترخيص في طرف الفعل في مورد الشبهة الوجوبية ، وفي طرف الترك في مورد الشبهة التحريمية . [منه قدس سره]

حتّى تعرف الحرام»(1) لم يكن مفاده الرخصة في الفعل والترك ؛ ضرورة أنّ

الحلّية إنّما هي في مقابل الحرمة ، لا الوجوب ، فدليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات التحريمية ، وليس في الأدلّة ما يظهر منه الرخصة في الفعل والترك إلاّ قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر» - على رواية الشيخ(2) على ما حكي(3) - مع إشكال فيه(4) .

وثالثاً : أنّ مناقضة الترخيص الظاهري مع الإلزام الواقعي ليس إلاّ كمناقضة الأحكام الواقعية والظاهرية ، والجمع بينهما هو الجمع بينهما ؛ فإنّ المناقضة - لو كانت - إنّما هي بين نفس الأحكام بحسب مقام الثبوت ، لا بين العلم بالإلزام والرخصة ، فإذا لم يكن بين الحكمين مناقضة لا مانع من العلم بالحكم الواقعي والعلم بالحكم الظاهري من ناحية المناقضة .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ جعل الرخصة إنّما هو مع الجهل بالإلزام ، ومع العلم به تكون غايتها حاصلة . ولعلّ هذا مراده من عدم انحفاظ رتبة أصالة الإباحة(5)، وقد خلط الفاضل المقرّر رحمه الله علیه .

هذا ، ولكنّ الشأن في كون أصالة الإباحة بالمعنى الذي ذكره يدلّ عليه دليل ،

ص: 167


1- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 ، مع اختلاف يسير .
2- الأمالي ، الطوسي : 669 / 12 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 179 .
4- فلا دليل على أصالة الإباحة بالمعنى الذي ذكره ، بل مفاد الأدلّة أصالة الحلّ ، وهي مختصّة بالشبهات التحريمية . [منه قدس سره]
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 446 .

مضافاً إلى منع كون أصالة الإباحة والحلّية غير أصالة البراءة الشرعية ، ولا يبعد أن يكون مفاد : «كلّ شيء لك حلال» بعض مفاد حديث الرفع(1) ، تأمّل .

وأمّا ما أفاده في وجه عدم جريان أصالة البراءة : وهو أنّ مدركها قوله : «رفع . . . ما لا يعلمون» والرفع فرع إمكان الوضع ، وفي مورد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ، ولا على سبيل التخيير ، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع ، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعمّ المقام أيضاً (2) .

ففيه : أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين يكون مصداقين لحديث الرفع : فمن حيث إنّ الوجوب غير معلوم يكون الوجوب مرفوعاً ، ومن حيث إنّ الحرمة غير معلومة تكون الحرمة مرفوعة ، ولا يكون المجموع من حيث المجموع مفاد دليل الرفع ، ولا إشكال في إمكان وضع كلّ واحد من الوجوب والحرمة في مورد الدوران ، فما لا يمكن وضعه هو المجموع ، وهو لا يكون مفاد الرفع ، وما يكون مفاده - وهو كلّ واحد منهما - يمكن وضعه ، فيمكن رفعه .

والتحقيق : أ نّه لا مانع من شمول حديث الرفع للمقام ؛ لأنّ المخالفة العملية والالتزامية غير لازمتين . وأمّا المنافاة بين الإلزام والرفع فلا مانع منه ؛ لأنّ نفس الإلزام - أي الجامع بين الوجوب والحرمة - فهو ليس بمجعول شرعي ، بل هو أمر انتزاعي ، وما هو المجعول نفس الوجوب والحرمة ؛ أي نوع التكليف ،

ص: 168


1- الخصال : 417 / 9 ؛ التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 448 .

فمفهوم الإلزام أو جنس التكليف كمفهوم أحدهما أو واحد منهما ممّا لم يتعلّق الجعل به ، ونوع التكليف الذي هو مجعول غير مانع من جريان الحديث ؛ لأ نّه مشكوك فيه .

وأمّا ما أفاده من عدم جريان الاستصحاب ، فحاصله : أنّ الاستصحاب من الاُصول التنزيلية ، وهي لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً ؛ فإنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية ؛ فإنّ البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعاً لا يجتمع مع التديّن بأنّ للّه ِ تعالى في هذه الواقعة حكماً إلزامياً (1) .

ففيه : منع كون الاستصحاب من الاُصول التنزيلية بالمعنى الذي يدّعي(2)؛ فإنّه ليس في أدلّته ما يستشمّ منها ذلك إلاّ ما في ذيل صحيحة زرارة الثالثة ؛ حيث قال : «ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ، فيبني عليه»(3) وأنت خبير بأنّ البناء على اليقين هو البناء على تحقّق اليقين وبقائه عملاً ، وأمّا البناء القلبي على كون الواقع متحقّقاً فلا .

كما أنّ الكبرى المجعولة في أدلّة الاستصحاب وهي : «لا ينقض اليقين بالشكّ»(4) لا ينبغي أن يتوهّم منها أنّ عدم نقض اليقين بالشكّ يدلّ على البناء

ص: 169


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 449 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 486.
3- الكافي 3 : 351 / 3 ؛ وسائل الشيعة 8 : 216 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 ، الحديث 3 .
4- نفس المصدر .

والالتزام على كون الواقع متحقّقاً ، بل الأصل التنزيلي بالمعنى المدّعى ممّا

لا عين له ولا أثر في الشرعيات ، فراجع أدلّة التجاوز والفراغ ، وسائر أدلّة القواعد والاُصول حتّى تعرف صدق ما ادّعيناه . نعم ، قد يمكن أن يدّعى من أدلّة الشكوك في باب الصلاة ذلك ، ولكن فيه ما فيه أيضاً .

تنبيه : فيما لو كان لأحد الحكمين مزيّة

إذا كان لأحد الحكمين مزيّة على الآخر - إمّا من حيث الاحتمال أو المحتمل - فلا إشكال في جريان البراءة عن التعيينية ولو قلنا بأصالة التعيين عند الشكّ في التخيير والتعيين ؛ لأنّ أصل التكليف مشكوك فيه ، فضلاً عن خصوصياته .

نعم ، لو كان أقوائية المحتمل بحيث يكون لازم الاحتياط عقلاً أو شرعاً حتّى في الشبهة البدوية وجب الاحتياط فيه ؛ كما لو دار الأمر بين كون المرأة زوجته التي حلف [على] وطئها أو اُمّه ، أو دار الأمر بين كون شخص نبياً أو شخصاً لازم القتل . فما أفاد بعض الأعاظم رحمه الله علیه - من أنّ وجود المزيّة كعدمها ، حتّى لو كان المحتمل من أقوى الواجبات الشرعية وأهمّها (1) - ليس بإطلاقه صحيحاً .

ص: 170


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 450 - 451 .

تتميم : في كون التخيير استمرارياً

إذا تعدّدت الواقعة في دوران الأمر بين المحذورين ، فهل التخيير يكون بدوياً أو استمرارياً ؟

الأقوى هو الثاني ؛ لأنّ في الواقعة الثانية إذا أتى بخلاف الواقعة الاُولى يعلم بمخالفة قطعية وموافقة قطعية ، وليس في نظر العقل ترجيح بينهما ، فصرف لزوم المخالفة القطعية لا يمنع عن التخيير بعد حكم العقل بعدم الفرق بين تحصيل تكليف قطعاً وترك تكليف قطعاً . فلو علم بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها في كلّ جمعة ، وأتى بالجمعة في جمعة ، وتركها في جمعة اُخرى ، يعلم بموافقة التكليف الواقعي في يوم ومخالفته في يوم آخر ، وليس في نظر العقل فرق بينهما ، فيحكم بالتخيير الاستمراري .

وأمّا ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه ففيه نظر ظاهر ، قال ما محصّله : إنّ المخالفة القطعية لم تكن محرّمة شرعاً ، بل هي قبيحة عقلاً ، وقبحها فرع تنجّز التكليف ؛ فإنّ مخالفة التكليف الغير المنجّز لا قبح فيها ، كما لو اضطرّ إلى أحد أطراف المعلوم بالإجمال فصادف الواقع ؛ فإنّه مع حصول المخالفة يكون المكلّف معذوراً ، وليس ذلك إلاّ لعدم تنجّز التكليف ، وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجّزاً في كلّ واقعة ؛ لأنّ في كلّ منها يكون الأمر دائراً بين المحذورين ، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّل المعلوم بالإجمال ،

ص: 171

ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذورين(1) ، انتهى موضع الحاجة .

وفيه : أنّ عدم تنجّز التكليف في المقام ليس لقصور فيه ؛ ضرورة كونه تامّاً من جميع الجهات ، وإنّما لم يتنجّز لعدم قدرة المكلّف على الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، بحيث لو فرضنا - محالاً - إمكان الموافقة القطعية حكم العقل بلزومها ، ولو فرض عدم إمكان الموافقة القطعية لكن أمكن المخالفة القطعية ، حكم بحرمتها ؛ لتمامية التكليف .

وبالجملة : فيما نحن فيه يكون التنجيز فرع إمكان المخالفة ، لا حرمة المخالفة فرع التنجيز ، فإذا أمكن المخالفة يصير التكليف منجّزاً ؛ لرفع المانع ، وهو امتناع المخالفة القطعية .

والشاهد عليه : أ نّه لو فرضنا قدرة المكلّف على رفع النقيضين في الواقعة الواحدة حكم العقل بحرمته ، وليس ذلك إلاّ لعدم القصور في ناحية التكليف ، وإنّما القصور في قدرة العبد ، وفي الوقائع المتعدّدة يكون العبد قادراً على المخالفة ، فيتنجّز التكليف .

ص: 172


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 453 - 454 .

المقام الأوّل : دوران الأمر بين المتباينين

قوله : «في دوران الأمر بين المتباينين . . .»(10) إلى آخره .

قد مضى شطر من الكلام في هذا المضمار(1) فلنتعرّض له بنحو الاختصار ، فنقول :

في مراتب الحكم

قد أصرّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في جملة من تحريراته على أنّ للأحكام مراتب أربعة(2) ، وقد مضى أنّ ما هو متصوّر من المراتب ليس إلاّ مرتبتين(3) :

المرتبة الاُولى : مرتبة الإنشاء ووضع الأحكام القانونية ، كالأحكام الصادرة قبل عروض التقييدات والتخصيصات ، وكالأحكام التي أوحى اللّه تعالى إلى نبيّه رحمهما اللّه وأمره بعدم تبليغها في صدر الإسلام ، وجعلها مخزونة محفوظة عند

ص: 173


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 120 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 70 ؛ فوائد الاُصول ، المحقّق الخراساني : 81 .
3- تقدّم في الجزء الأوّل : 10 .

أئمّة الهدى علیهم السلام والآن مخزونة عند وليّ الأمر - صلوات اللّه عليه - ولا تقتضي المصلحة إبرازها وإجراءها إلى زمن ظهوره - عجّل اللّه تعالى فرجه - ولمّا كان الوحي منقطعاً بعد النبي رحمهما اللّه فلا محيص عن إيحاء الأحكام التي تكون المصلحة في إجرائها في آخر الزمان ، وهذه الأحكام هي أحكام إنشائية لا تكون المصلحة في إجرائها إلى أمد معيّن ، كما أنّ موارد التخصيصات والتقييدات من الأحكام الإنشائية التي لا تكون المصلحة في إجرائها .

والمرتبة الثانية : مرتبة إجرائها وإنفاذها بين الناس ، وهي المرتبة الفعلية ، وليس سوى هاتين المرتبتين مرتبة اُخرى ، فعدّ مرتبة الاقتضاء والتنجّز من المراتب ممّا لا وجه له ، كما أشرنا إليه سابقاً (1) .

نعم ، بعد فعلية الحكم ، وعدم الفرق من هذه الحيثية بين العالم والجاهل والقادر والعاجز ، لا يكون منجّزاً بالنسبة إلى الجاهل والعاجز ؛ بمعنى عدم جواز مؤاخذة المولى للعبد ب- «لِمَ تركتَ ، أو فعلتَ» فعلم العبد بالحكم الفعلي موجب لحكم العقل بقبح المخالفة ، وجواز المؤاخذة .

وأمّا في ناحية الحكم فلا يفرّق بين حال العلم والجهل ، فلا يكون حكم المولى بالنسبة إلى العالم غيره بالنسبة إلى الجاهل ، وكذا بالنسبة إلى القادر والعاجز ، ولا تتغيّر إرادته في جميع الحالات ، فحكم المولى بحرمة الخمر حكم فعلي للموضوعات المقدّرة متوجّهاً إلى كلّ مكلّف علم أو لم يعلم ، فالمولى أنشأ هذا الحكم ليعلم المكلّف وليطيع ، وليس في ناحية حكمه تقييد بحال العلم

ص: 174


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 10 - 11 .

والجهل ؛ ولهذا أمر الأنبياء والعلماء بتبليغه إلى الناس ، بل أوجب على كلّ مكلّف تبليغ أحكامه .

وإنّما الاختلاف بين حال العلم والجهل عن عذر في تمامية الحجّة وعدمها ، وقبح المخالفة وعدمه ، وصحّة العقوبة وعدمها ، وهذه الاُمور متأخّرة عن الحكم ، ولا ينبغي جعلها من مراتبه ، كما أنّ الاقتضاء والمصلحة من مبادئ جعله ، لا مراتبه .

إذا عرفت ما تلوناه عليك فالكلام في العلم الإجمالي يقع في مقامين : أحدهما : في حرمة المخالفة القطعية ، وثانيهما : في وجوب الموافقة القطعية .

حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي

أمّا المقام الأوّل(1) : فلا إشكال في قبحها عقلاً إذا كان الحكم فعلياً ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى تجشّم استدلال سوى مراجعة الوجدان والعقل الحاكم في مثل المقام .

ولا يخفى أ نّه ليس للمولى الإذن في جميع الأطراف ؛ فإنّ الإذن في المعصية ممّا يشهد العقل بقبحه ، ونقض الغرض ممتنع على كلّ ذي شعور ، فضلاً عن الحكيم .

ص: 175


1- ذكرنا تفصيل المطلب في ورقة على حدة ، ورجعنا عمّا في الكتاب إلى ما هو التحقيق . [منه قدس سره] ومع الأسف فإنّا لم نعثر عليها ضمن مصوّرة المخطوطة التي لدينا ، وللاطّلاع على ما هو التحقيق راجع تهذيب الاُصول 3 :183 - 202 .

فإن قلت : احتمال وقوع الشيء عقلاً مساوق لعدم الامتناع ؛ فإنّ الممتنع ممّا يحكم العقل بعدم وقوعه جزماً ، فإذا احتمل وقوع شيء عقلاً فهو يدلّ على عدم البرهان على امتناعه ، فاحتمال الإذن في المخالفة ونقض الغرض في مورد يدلّ على عدم حكم العقل بامتناعهما ، فحينئذٍ ما تقول في الإذن في ارتكاب الشبهة البدوية ، بل في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال في الشبهة الغير المحصورة ؟ وهل هذا إلاّ احتمال نقض الغرض ؟ ! وهو في الامتناع واللا امتناع مساوق للعلم به .

قلت : لا محيص لنا إلاّ تشريح موارد النقض وغيرها حتّى يتّضح الأمر ويدفع الإشكال ، فنقول :

أمّا النقض بالشبهة الغير المحصورة فغير وارد ؛ لأنّ الإذن في ارتكاب جميع الأطراف ممتنع جدّاً كالإذن في المحصورة ، كما أنّ ارتكاب بعضها بقصد ضمّ البقيّة وارتكاب تمام الأطراف قبيح غير ممكن الإذن .

وأمّا ارتكاب بعض الأطراف فهو جائز ، لا لما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من النقص في المعلوم(1) ؛ ضرورة عدم حصول النقصان فيه بمجرّد عدم الحصر ، بل التكليف بقي على فعليته كالمحصورة ، بل لما أشرنا إليه سابقاً (2) من أنّ الأطراف إذا كثرت جدّاً - بحيث عدّت غير محصورة عرفاً - يصير احتمال الإصابة في بعض الأطراف موهوماً بحيث لا يعتني به العقلاء ، فكأنّ الطريق العقلائي قائم على عدم المعلوم في هذا المورد المنفرد

ص: 176


1- كفاية الاُصول : 407 - 408 .
2- تقدّم في الجزء الأوّل : 122 .

في مقابل الموارد الغير المحصورة .

فإن قلت : كيف يجتمع الاطمئنان بعدم المعلوم في كلّ مورد مورد مع العلم الإجمالي بوجوده في الأطراف ؛ فإنّ الاطمئنان بالسالبة الكلّية لا يعقل مع العلم بالموجبة الجزئية ؟

قلت : هذه مغالطة نشأت من الخلط بين بعض الأطراف بشرط لا عن البقيّة ، وبينه مع الاجتماع معها ، فإنّ ما ذكرنا من الاطمئنان بعدم المعلوم في بعض الأطراف ، فيما إذا كان بعض الأطراف مقيساً إلى البقيّة الغير المحصورة وفي مقابلها ، فكلّ واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل البقيّة يكون مورداً للاطمئنان بعدم كونه هو الواقع ؛ ضرورة أ نّه احتمال واحد في مقابل احتمالات غير محصورة ، وما لا يجتمع مع العلم هو الاطمئنان بعدم كون الواقع في جميع الأطراف .

وإن شئت قلت : إنّ الاطمئنان متعلّق بكلّ واحد في مقابل البقيّة ؛ أي سلب كلّ واحد في مقابل الإيجاب بالنسبة إلى البقيّة ، وهو لا ينافي الإيجاب الجزئي ، والمنافي هو السلب الكلّي في مقابل الإيجاب الجزئي .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ فعلية الحكم في الأطراف الغير المحصورة لا ينافي تجويز ارتكاب بعض الأطراف ؛ لقيام الطريق العقلائي على عدم كون المعلوم ذلك .

وأمّا الشبهة البدوية فالترخيص فيها أيضاً لا ينافي فعلية الحكم .

توضيحه : - بعد ما عرفت معنى الفعلية ؛ وأنّ المراد منها هو الحكم الذي يكون على طبقه إرادة جدّية ، ويكون الحاكم بصدد إجرائه لتمامية الاقتضاء

ص: 177

وعدم موانع الإجراء - أ نّه قد عرفت أنّ الأحكام لم تكن مشروطة أو مقيّدة بحال العلم ، وتكون التكاليف فعلية علم المكلّف أو لا ، لكن مع ذلك ليست التكاليف بوجودها الواقعي قابلة للباعثية ، والمولى إنّما أنشأ التكاليف ليعلم المكلّف فيعمل بها ؛ ولهذا أوجب على العالم إرشاد الجاهل وعلى الجاهل التعلّم ؛ لئلاّ تصير أحكامه معطّلة .

لكن مع كمال اهتمامه بتبليغ الأحكام ورفع الجهالة عن الأنام ، كثيراً ما يتّفق عدم وصول بعض الأحكام إلى العباد لعلل كثيرة ، ولا يمكن أن تكون التكاليف بوجودها الواقعي باعثة للمكلّف وداعية إلى الاحتياط ، فحينئذٍ : إن لم يمنع مانع يلزم عليه إيجاب الاحتياط في مطلق الشبهات ؛ للوصول إلى التكاليف الواقعية الفعلية ، وإن كان في إيجابه مفسدة - كاختلال النظام ، أو الحرج والعسر - أو في تركه مصلحة غالبة ، فلا يوجبه .

ولمّا كان المورد من الموارد التي يحكم العقل بالبراءة لو خلّي ونفسه ، ويكون وجود التكليف الواقعي كعدمه بلا أثر على أيّ حال ، لا يرى العقل ترخيص المولى في مثله قبيحاً ، ولا منافياً لفعلية التكليف ، فالتكليف مع كونه فعلياً لمّا

كان غير مؤثّر في نفس العبد ، ولا داعياً إيّاه نحو العمل ، ويحكم العقل في مورده بالبراءة ، لا يمنع عن الترخيص والتوسعة إذا كان في إيجاب الاحتياط مفسدة .

وبالجملة : لا يوجب الترخيص إلقاء المكلّف في المفسدة ؛ لأ نّه لا يزيد على حكم العقل ، ولولا مفسدة الاحتياط كان سكوت المولى في موارد الشبهة - إذا رأى إصابة الواقع ولو قليلاً - قبيحاً ، ومعها كما لا يقبح السكوت لا يقبح الترخيص.

ص: 178

ومفسدة الاحتياط لا تزاحم فعلية التكليف ؛ لأنّ المزاحمة في رتبة المصالح والمفاسد مع وحدة الموضوع توجب قصور التكليف عن الفعلية ، كما لو فرضنا في مورد الشبهة يكون عروضها موجباً لحصول مصلحة غالبة على مصلحة الواقع في موضوعها ، فإنّه مع مزاحمة المصلحة والمفسدة في موضوع واحد يقع الكسر والانكسار بينهما ، ويصير الحكم الفعلي تابعاً للغالب منهما ، فلا محالة يصير الحكم الواقعي مخصّصاً بغير مورد الشبهة في صورة الإمكان .

وأمّا مع تعدّد الموضوع ، كما لو قامت المصلحة في موضوع وقامت المفسدة في غيره ، لكن وقعت المزاحمة في مقام العمل - كما فيما نحن فيه ؛ حيث قامت المصلحة أو المفسدة بالموضوع الواقعي ، وقامت المفسدة في الجمع بين المشتبهات ؛ أي الاحتياط بإتيان كلّ محتمل الوجوب وترك كلّ محتمل الحرمة - فلا معنى لصيرورة التكليف ناقصاً عن الفعلية .

ومن هذا الباب مزاحمة المهمّ والأهمّ ؛ فإنّ التكليف في المهمّ لا ينقص من الفعلية بواسطة أهمّية تكليف آخر مزاحم معه في مقام العمل ، ولا يكون التكليف في المهمّ مشروطاً أو مقيّداً من قبل المولى بشيء أصلاً ، بل العقل يحكم بلزوم ترك المهمّ مع فعليته ولزوم الأخذ بالأهمّ ، والمولى لا يؤاخذ عبده بتركه المهمّ ، لا لمكان عدم التكليف الفعلي ، بل لمكان عدم قدرة العبد إطاعة تكليفه الفعلي ، واشتراط التكاليف بالقدرة والعلم ليس مثل اشتراطها بالشرائط الشرعية المنافية لفعلية التكليف .

فاتّضح بما ذكرنا : أنّ الترخيص في موارد الشبهات البدوية لا ينافي فعلية التكليف ، ولا يكون مع ذلك قبيحاً من المولى . نعم ، تركه لإيجاب الاحتياط

ص: 179

قبيح مع فعلية التكليف لولا مفسدته ، ومعها لا قبح فيه أيضاً .

وممّا ذكرنا يظهر الحال في ترخيص بعض أطراف المعلوم بالإجمال ؛ فإنّه - أيضاً - لا ينافي فعلية التكليف إذا كان في الجمع بين المشتبهات مفسدة غالبة ؛ فإنّه لا بدّ للمولى من الجمع بين غرضيه - حفظ الواقع بمقدار الميسور ، والتحرّز عن مفسدة الجمع بين المشتبهات - بالترخيص في بعض الأطراف .

وأمّا في جميعها فلا يمكن مع فعلية التكليف ؛ فإنّه لا بدّ من مزاحمة مصلحة الواقع مع مصلحة الترخيص في المشتبه بما أ نّه مشتبه ، وقد عرفت أنّ المزاحمة في موضوع واحد توجب تبعية فعلية الحكم لما هو أقوى ملاكاً ، فلو زاحمت جهة المفسدة في شرب الخمر جهة المصلحة في ترخيص المشتبه ؛ فإن غلبت مفسدة الخمر تكون الحرمة فعلية ، ولا يمكن الترخيص في جميع الأطراف ؛ لامتناع نقض الغرض الفعلي ، وإن غلبت مصلحة الترخيص يكون الحكم الفعلي هو الترخيص ، ولا يمكن أن تكون حرمة الخمر فعلية .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الترخيص في المخالفة القطعية ممّا لا يمكن إلاّ مع عدم فعلية التكليف ، وهو خارج عن موضوع البحث ، وأمّا الترخيص في بعض الأطراف والإذن في المخالفة الاحتمالية فلا ينافي فعلية التكليف ، ولا يكون قبيحاً لو زاحم المفسدة الأقوى ، سواء كان الترخيص في بعض أطراف المعلوم بالإجمال أو موارد الشبهات البدوية .

واتّضح ممّا ذكرنا : أنّ عدم جريان الاُصول في أطراف المعلوم بالإجمال إنّما هو للزوم المخالفة القطعية العملية ، من غير فرق بين الاُصول مطلقاً من هذه الجهة .

ص: 180

وأمّا الشيخ العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه (1) فقد جعل المحذور في مقام الإثبات وأنّ أدلّة الاُصول ممّا لا يمكن شمولها لأطراف المعلوم بالإجمال ؛ للزوم مناقضة الصدر والذيل في مثل قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين مثله»(2) وكذا قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(3) وقد فرغنا من جوابه في مباحث القطع(4) ، فراجع .

تفصيل بعض الأعاظم

وأمّا بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه فقد جعل المحذور أمراً آخر ، وفصّل بين أصالة

الإباحة في دوران الأمر بين المحذورين وبين الاُصول التنزيلية وغيرها ، وجعل محذور كلّ واحد منها أمراً غير الآخر(5) .

وقد فرغنا من جوابه في ذلك المقام أيضاً وقلنا : إنّ الاستصحاب ليس من الاُصول المحرزة التنزيلية(6) .

والآن نقول أيضاً : إنّ غاية ما يمكن أن يقال في كونه منها : إنّ الكبرى

ص: 181


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 201 ، و26 : 409 - 410 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 (مع اختلاف يسير) .
3- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .
4- تقدّم في الجزء الأوّل : 124 .
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 444 ، و4 : 14 .
6- تقدّم في الجزء الأوّل : 126 .

المجعولة فيه - وهي قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» - تدلّ على حرمة نقض اليقين السابق بالشكّ عملاً ، ووجوب ترتيب آثار اليقين الطريقي في ظرف الشكّ ، ولمّا كان اليقين الطريقي كاشفاً عن الواقع كان العامل بيقينه يعمل به على أ نّه هو الواقع ؛ لكونه منكشفاً لديه . فإذا صلّى صلاة الجمعة مع علمه بوجوبها ، وأنّ تكليفه الواقعي هو إتيانها ، يأتي بها بما أ نّها هي الواقع ، فيصلّي صلاة الجمعة في زمن اليقين معتقداً بأ نّها هي الواقع ، وبما أ نّها هي هو ، فإذا قيل : لا ينقض اليقين بالشكّ عملاً يكون معناه : عامل معاملة اليقين ورتّب آثاره في ظرف الشكّ ، ومعنى ترتيب آثاره والعمل على طبقه أن يأتي بالمشكوك فيه في زمان الشكّ مبنيّاً على أ نّه هو الواقع .

وإن شئت قلت : إنّ هذا الأصل إنّما اعتبر لأجل التحفّظ على الواقع في ظرف الشكّ .

هذا ، وأنت خبير بأنّ المتيقّن إنّما يعمل على طبق يقينه من غير توجّه إلى أ نّه هو الواقع توجّهاً اسمياً استقلالياً ، بل يعمل على طبقه ويأتي بالواقع بالحمل الشائع بلا توجّه إلى أ نّه مصداق هذا المفهوم ومعنون هذا العنوان ، فضلاً عن أن يبني على أ نّه هو الواقع . نعم ، لو سئل عنه : أنّ ما تعمل هو الواقع أو لا ؟ يتبدّل توجّهه الحرفي بالاسمي ، ويكون جوابه مثبتاً ، فمعنى لا ينقض اليقين بالشكّ عملاً هو ترتيب آثار القطع الطريقي ؛ أي ترتيب آثار المتيقّن ، لا ترتيب آثاره على أ نّه هو الواقع .

وأمّا حديث جعل الاستصحاب لأجل التحفّظ على الواقع : فإن كان المراد منه أنّ جعله بلحاظ حفظ الواقع - كما لو دلّ دليل على الاحتياط في الشبهة

ص: 182

البدوية - فهو كذلك ، لكن لا يوجب ذلك أن يكون التعبّد بالمتيقّن على أ نّه هو الواقع ، كما في الاحتياط ، فإنّه أيضاً بلحاظ الواقع ، لا على أنّ المشتبه هو الواقع .

وإن كان المراد منه هو التعبّد على أ نّه هو الواقع فهو ممّا لا شاهد له في الأدلّة ؛ فإنّ الكبرى المجعولة ليست إلاّ حرمة نقض اليقين بالشكّ ، فهي إمّا بصدد إطالة عمر اليقين ، وإمّا بصدد حرمة النقض عملاً ؛ أي ترتيب آثار اليقين أو المتيقّن ، وأمّا كونها بصدد بيان وجوب البناء على أ نّه هو الواقع فلا .

ولو سلّم كون الاستصحاب من الاُصول المحرزة والتنزيلية ، فعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي ممنوع .

وما ذكره المحقّق المتقدّم ذكره في وجه المنع : من أنّ المجعول فيها لمّا كان هو البناء العملي ، والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أ نّه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر ، فلا يمكن مثل هذا الجعل في تمام الأطراف ؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضادّه ، ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبّداً ؟ ! فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف(1) ، انتهى .

في محلّ المنع ؛ لأنّ كلّ طرف من الأطراف يكون مشكوكاً فيه ، فتمّت أركان الاستصحاب . ومخالفة أحد الأصلين للواقع لا توجب عدم جريانه لولا المخالفة العملية ، كاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد إذا غسل بالماء

ص: 183


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 14 .

المشكوك الكرّية ؛ فإنّ للشارع التعبّد بوجود ما ليس بموجود ، والتعبّد بتفكيك المتلازمين وتلازم المنفكّين .

وبالجملة : لا مانع من اجتماع الإحراز التعبّدي مع الإحراز الوجداني بالضدّ .

والعجب أ نّه قدّس سرّه قد تنبّه إلى هذا الإشكال في آخر مبحث الاستصحاب ، وأجاب عنه بما هو في غاية السقوط .

ومحصّل كلامه في ذلك المقام :

أ نّه ربّما يناقش فيما ذكرناه - من عدم جريان الاُصول المحرزة في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً وإن لم يلزم مخالفة عملية - بأ نّه يلزم على هذا عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائع مردّد بين البول والماء ؛ لأنّ الاستصحابين ينافيان العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، وكذا بين المتلازمين العقليين أو العاديين ، كاستصحاب بقاء الكلّي وعدم حدوث الفرد ، واستصحاب حياة زيد وعدم نبت لحيته ، ولا يمكن الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في أمثال المقامات ؛ لتنافيه مع القول بعدم حجّية الاُصول المثبتة .

والتحقيق في دفع الشبهة أن يقال : إنّه فرق بين كون مفاد الأصلين متّفقين على مخالفة ما يعلم تفصيلاً - كاستصحاب نجاسة الإناءين أو طهارتهما مع العلم بانتقاض الحالة السابقة ، فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلاً - وبين ما لا يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليه ، بل يعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في مخالفة المعلوم تفصيلاً ، وما منعنا عن جريانه في أطراف العلم الإجمالي هو الأوّل دون

ص: 184

الثاني ؛ لأ نّه لا يمكن التعبّد بالجمع بين الاستصحابين اللذين يتوافقان في المؤدّى مع مخالفة مؤدّاهما للمعلوم بالإجمال .

وأمّا لزوم التفكيك بين المتلازمين الواقعيين فلا مانع منه ؛ لأنّ التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ جريان استصحاب الطهارة أو النجاسة في كلّ واحد من الإناءين لا ينافي الإحراز الوجداني ، وليس لمجموعهما أصل حتّى يكون منافياً للعلم التفصيلي ، بل المنافاة بين جريان كليهما مع العلم الإجمالي ؛ أي يعلم بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع ، وهو عين المحذور في مورد النقض ، أي التفكيك بين المتلازمين .

وبعبارة اُخرى : إنّ استصحاب نجاسة أحد الإناءين لا يصادم العلم ، وكذا استصحاب نجاسة الآخر ، وليس استصحاب آخر مصادم له . نعم ، جريانهما مخالف للعلم الإجمالي ، فيعلم مخالفة أحدهما للواقع ، كما أنّ استصحاب طهارة البدن من الماء المردّد غير منافٍ للعلم ، واستصحاب الحدث كذلك ، لكن جريانهما منافٍ للعلم الإجمالي ، فيعلم كذب أحدهما .

فما هو ملاك الجريان واللا جريان في كليهما واحد ، ومجرّد توافق الاستصحابين في المفاد لا يوجب الفرق . مع أنّ توافقهما فيه أيضاً ممنوع ؛ فإنّ مفاد أحدهما نجاسة أحد الإناءين ومفاد الآخر نجاسة الإناء الآخر ، وإنّما

ص: 185


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 694 .

توافقهما نوعي ، ومورد الموافقة ليس مجرى الأصل ، وما هو مجراه وهو النجاسة الشخصية لا يكون موافق المضمون مع صاحبه بحيث ينافي العلم التفصيلي .

وأمّا ثانياً : فلأ نّه يلزم ممّا ادّعى ، التفصيل في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي بين موارد يكون الأصلان فيها متوافقي المضمون - كالمثالين المتقدّمين - وبين ما لا يكون كذلك ، كما لو علم بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب التتن سابقاً ، وعلم انتقاض أحدهما ، فجريان الاستصحابين فيهما على ما ذكره ممّا لا مانع منه ؛ لأ نّهما غير متوافقي المضمون ، مع أ نّه لم يفصّل بين الاستصحابات .

وجوب الموافقة القطعية

استفادة الترخيص في بعض الأطراف من الأدلّة العامّة

ثمّ بعد ما علمت أنّ الإذن في بعض الأطراف ممّا لا محذور فيه ، ولا ينافي فعلية المعلوم في البين ، يقع الكلام في إمكان استفادة الترخيص في بعضها من الأدلّة العامّة بعد عدم دليل خاصّ في البين .

وما قيل في المقام وجوه مذكورة في مسفورات المشايخ رحمهما اللّه مع أجوبتها :

منها : أن يقال : إنّ أدلّة الترخيص وإن لم تدلّ على الترخيص في الواحد الغير المعيّن ، إلاّ أ نّه يمكن استكشافه من الدليل اللفظي بضميمة حكم العقل ، بأن يقال : إنّ مقتضى إطلاق المادّة في الأدلّة المرخّصة هو وجود الملاك في كلّ

ص: 186

مشتبه ، فالمشتبه بما أ نّه مشتبه تمام الموضوع للحكم بالترخيص من غير دخالة قيد فيه ، ففيه الملاك بلا تقيّده بشيء ، ولمّا كان التقييد العقلي وارداً على الهيئة بواسطة لزوم الإذن في المعصية ، يستكشف العقل - بعد سقوط الترخيصين المعيّنين في طرفي العلم بحكم العقل - ترخيصاً تخييرياً بواسطة إطلاق المادّة وكشف الملاك ، فكما أنّ الملاك في المشتبهات يوجب الترخيص فيها ، كذلك وجود الملاك في أحد المشتبهين يوجب الترخيص فيه ، كالواجبين المتزاحمين اللذين بعد سقوط خطابهما يستكشف العقل حكماً تخييرياً بواسطة الملاك المستكشف بإطلاق المادّة(1) .

لا يقال : استكشاف الملاك لا يمكن إلاّ بإطلاق الهيئة ، فإذا لم يكن لها إطلاق فلا طريق إلى استكشافه ؛ لإمكان أن يكون لمورد سقوط الخطاب خصوصية مزاحمة للملاك لا يجب على المولى بيانها ؛ لعدم مفسدة في ترك البيان .

فإنّه يقال : لو سلّم قصور إطلاق المادّة عن إثبات الملاك بعد تقييد الهيئة ، فإنّما يكون قصوره بمقدار التقييد لا غير ، والفرض أنّ التقييد العقلي ليس إلاّ فيما يلزم [منه] الترخيص في المعصية ، وهو في الجمع بين تمام الأطراف ، وليس في البين أمر آخر يوجب سقوط الخطاب .

نعم ، يسقط الخطاب عن الطرفين ، لا لحكم العقل بالتقييد - لعدم لزوم المخالفة القطعية إلاّ في الجمع بينهما فيما نحن فيه ، وعدم العجز إلاّ عن الجمع في باب التزاحم كالغريقين - بل لقبح الترجيح بلا مرجّح وعدم شمول العامّ

ص: 187


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 458 .

لواحد غير معيّن ، مع كون المقتضي والملاك في غير مورد المخالفة القطعية والإذن في المعصية وفي غير مورد العجز موجوداً بلا إشكال .

هذا ، مع أنّ في التقييدات العقلية لا يكون التقييد من قِبل المولى ، بل يكون التكليف من قِبله تامّاً ، وإنّما يحكم العقل بامتناع الخطاب الفعلي المنجّز في مورد العجز ، أو الإذن الفعلي في مورد لزوم الإذن في المعصية ، هذا .

والجواب عنه : أنّ استكشاف الخطاب التخييري لو سلّم فإنّما هو فيما إذا يقطع بأنّ الجري على طبق أحد الاقتضاءين لا مانع منه كما في الغريقين ، وأمّا فيما نحن فيه فكما أنّ الشكّ يقتضي الترخيص ، كذلك التكليف الواقعي يقتضي الاحتياط بحكم العقل في أطراف العلم ، ولعلّ اقتضاء التكليف الواقعي يكون أقوى في الاحتياط من اقتضاء الشكّ في الترخيص ، ومع هذا الاحتمال لا وجه للقطع بالترخيص(1) .

ومنها: أن يقال : إنّ نسبة أدلّة الاُصول إلى كلّ واحد من الأطراف وإن كانت على حدّ سواء ، لكن لا يقتضي ذلك سقوطها عن جميع الأطراف .

توضيحه : أنّ الأدلّة المرخّصة كما يكون لها عموم أفرادي بالنسبة إلى كلّ مشتبه ، يكون لها إطلاق أحوالي بالنسبة إلى حالات المشتبه ، فكلّ مشتبه مأذون فيه أتى المكلّف بالآخر أو تركه ، وعند التزاحم بينهما إنّما يقع التزاحم بين إطلاقهما لا أصلهما ؛ فإنّ الترخيص في كلّ واحد منهما في حال ترك الآخر ممّا لا مانع منه ، فالمخالفة العملية إنّما نشأت من إطلاق الحجّية والترخيص لحال

ص: 188


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 459 .

إجراء الآخر وعدمه ، فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاقهما لا أصلهما ، فتصير النتيجة الإذن في كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر وهذا مساوق للترخيص التخييري ، وهذا نظير باب التزاحم ، وحجّية الأمارات على السببية(1) .

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه بما لا يخلو عن إشكال ، بل عن إشكالات ، فقال ما حاصله :

إنّ الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين : إمّا اقتضاء الكاشف والدليل الدالّ على الحكم التخيير في العمل ، وإمّا اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيينية .

فمن الأوّل : ما إذا ورد عامّ كقوله : «أكرم العلماء» وعلم بخروج زيد وعمرو عنه ، لكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على وجه الإطلاق ؛ بحيث لا يجب إكرام كلّ منهما في حال من الأحوال ، أو ليس كذلك ، بل كان عدم وجوب إكرام كلّ منهما مقيّداً بحال إكرام الآخر ؛ أي يدور الأمر بين كون المخصّص أفرادياً وأحوالياً أو أحوالياً فقط ، فلا بدّ حينئذٍ من القول بالتخيير ، وإنّما نشأ ذلك من اجتماع دليل العامّ وإجمال المخصّص ، ووجوب الاقتصار على القدر المتيقّن في التخصيص ، وليس التخيير لأجل اقتضاء المجعول ، بل المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعييني ، والتخيير نشأ من ناحية الدليل لا المدلول .

ومن الثاني : ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال ؛ لعدم القدرة على الجمع

ص: 189


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 459 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني)الكاظمي 4 : 25 - 27 .

بينهما ؛ فإنّ التخيير في باب التزاحم إنّما هو لأجل أنّ المجعول في باب التكاليف يقتضي التخيير ؛ لأ نّه يعتبر عقلاً في المجعولات الشرعية القدرة على امتثالها ، والمفروض حصول القدرة على امتثال كلّ من المتزاحمين عند ترك الآخر ، وحيث لا ترجيح في البين ، وكلّ تكليف يستدعي نفي الموانع عن متعلّقه وحفظ القدرة عليه ، فالعقل يستقلّ حينئذٍ بصرف القدرة في أحدهما تخييراً : إمّا لأجل تقييد التكليف في كلّ منهما بحال عدم امتثال الآخر ، وإمّا لأجل سقوط التكليفين واستكشاف العقل حكماً تخييرياً ؛ لوجود الملاك التامّ ، وعلى أيّ حال التخيير في باب التزاحم لم ينشأ من ناحية الدليل ، بل نشأ من ناحية المدلول بالبيان المتقدّم .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ القول بالتخيير في باب تعارض الاُصول ممّا لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل ، ولا المدلول :

أمّا من ناحية الدليل : فهو ممّا لا يكاد يخفى ؛ فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل إنّما يقتضي جريانه عيناً ، سواء عارضه أصل آخر أو لا ، وليس في الأدلّة ما يوجب التخيير عند التعارض .

وأمّا من ناحية المدلول : فلأنّ المجعول فيها ليس إلاّ الحكم بتطبيق العمل على مؤدّى الأصل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة ، وهي : الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدّى بأ نّه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، وحيث إنّه يلزم من جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جميعاً ، وكون المجعول أحدها تخييراً ممكن إلاّ أ نّه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلّة الاُصول ، ولا من ناحية المجعول فيها .

ص: 190

وقياسها بباب الأمارات على السببية ليس في محلّه ؛ لأنّ المجعول فيها ممّا يقتضي التخيير ؛ لاندراجها في باب التزاحم(1)، انتهى .

وفيه مواقع للنظر نشير إلى بعض :

منها : أنّ ما أفاد - من أنّ التخيير في الصورة الاُولى من مقتضيات الكاشف والدالّ ، لا المنكشف والمدلول ؛ فإنّ المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعييني - ليس في محلّه ؛ فإنّ دوران الأمر في المخصّص بين التعيين والتخيير - أي خروج الفردين مطلقاً ، أو خروج كلّ منهما مشروطاً بدخول الآخر - موجب للحكم بالتخيير ؛ فإنّه القدر المتيقّن من التصرّف في العامّ ، وإلاّ فلو علم أنّ المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعييني ، فلا مجال للحكم بالتخيير ، وهذا واضح . نعم لو خرج واحد معيّن واقعاً وغير معيّن عندنا أمكن القول بالتخيير في بعض الصور أيضاً .

ومنها : أنّ لنا أن نقول : إنّ التخيير في الأصلين المتعارضين من مقتضيات الدالّ والكاشف ، كالمثال المذكور في الصورة الاُولى ؛ لأنّ اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّ بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن في التخصيص كما أوجب الحكم بالتخيير ، كذلك اجتماع دليل الاُصول - مثل قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام بعينه»(2) - مع لزوم التخصيص ، ودورانه بين خروج الفردين مطلقاً وفي جميع الأحوال ، أو خروج كلّ منهما في

ص: 191


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 28 - 32 .
2- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 ، مع تفاوت يسير .

حال عدم(1) ارتكاب الآخر ، موجب للحكم بالتخيير .

وبالجملة : الإطلاق الأحوالي لدليل العامّ ولزوم الأخذ بالقدر المتيقّن في التخصيص ، هو الملاك فيما نحن فيه وفيما ذكر من المثال ، بل فيما نحن فيه أولى ممّا ذكره ؛ لأنّ التخصيص فيه عقلي ، والعقل يحكم جزماً بأنّ ما يوجب الامتناع هو إطلاق الدليل لا عمومه الأفرادي ، فالمخصّص لم يكن أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر كالمثال المذكور ، بل يحكم العقل بأنّ ملاك التصرّف في العامّ - أي أدلّة الاُصول في أطراف العلم الإجمالي - ليس إلاّ في تقييد الإطلاق ، لا تخصيص الأفراد .

ومنها : أنّ ما أفاد في الصورة الثانية - من أنّ التخيير في باب تزاحم الواجبين من ناحية المدلول والمنكشف ، لا الدالّ والكاشف - ليس في محلّه ؛ فإنّ التخيير فيه لأجل إطلاق العامّ أحوالاً ، ولزوم الأخذ بالقدر المتيقّن في التصرّف فيه ، فالتخيير إنّما نشأ من إطلاق الدليل ، وعدم الدليل على التصرّف فيه إلاّ بمقدار يحكم العقل بامتناع العمل بالعامّ ، وهو الأخذ بالإطلاق الأحوالي في كلا الفردين ، فلا بدّ من التصرّف فيه من تلك الجهة ، ونتيجته الحكم بالتخيير .

وبالجملة : لا فرق بين الصورة الاُولى والثانية إلاّ من ناحية المخصّص ؛ فإنّ المخصّص في الاُولى دليل لفظي مجمل دائر بين الأقلّ والأكثر ، وفي الثانية دليل عقلي يحكم بخروج القدر المتيقّن من العامّ .

ص: 192


1- والظاهر : أنّ لفظة «عدم» من سهو القلم .

نعم ، لو بنينا على أنّ التكليفين يسقطان معاً ، ويستكشف العقل لأجل الملاك التامّ حكماً تخييرياً ، يمكن أن يقال : إنّ التخيير بينهما إنّما يكون لأجل المدلول لا الدليل على إشكال فيه ، لكنّه خلاف مسلكه .

ومنها : أنّ لنا أن نقول : إنّ ما نحن فيه أيضاً يكون الحكم [فيه] بالتخيير من ناحية المدلول والمنكشف كما في المتزاحمين ؛ فإنّ الترخيص المستفاد من أدلّة الاُصول مقيّد عقلاً بعدم لزوم الإذن في المعصية القطعية ؛ أي بكون المكلّف قادراً تشريعاً على إتيانه ، وكلّ واحد من المتعارضين يقتضي صَرف قدرة المكلّف إلى متعلّقه ، ونفيَ الموانع عن وجوده ، فلمّا لم يكن للعبد إلاّ صَرف قدرته في واحد منهما - أي يكون عاجزاً عن إتيانهما - يقع التعارض بينهما ، فحينئذٍ : إمّا أن نقول بسقوط التكليفين واستكشاف العقل تكليفاً تخييرياً ، أو نقول بتقييد إطلاق كلّ منهما بحال امتثال الآخر . وبالجملة : يكون حال ما نحن فيه حال المتزاحمين طابق النعل بالنعل .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ جوابه مع طوله ممّا لا طائل تحته .

والتحقيق(1) : أنّ عدم جريان الاُصول بالنسبة إلى بعض الأطراف إنّما هو لأمر آخر ، وهو قصور أدلّة الترخيص عن شمول الأطراف ؛ لأنّ العقل بعد ما يحكم حكماً ضرورياً بلزوم الموافقة القطعية ، وترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية ، وإتيانها في الشبهة الوجوبية ، وبعد فعلية الحكم وتنجّزه ، لا يكاد يمكن استفادة الترخيص من الأدلّة العامّة ، بل لا بدّ من التصريح

ص: 193


1- قد ذكرنا في الورقة العلى حِدة ما هو التحقيق في المقام . [منه قدس سره] ومع الأسف فإنّا لم نعثر عليها في تصوير الأصل المتوفّر عندنا .

بذلك ؛ لأ نّه حكم مخالف لحكم العقل ، ويحتاج بعد التصريح إلى تصوير إمكانه بالدقّة العقلية وإقامة البرهان عليه ، وما كان حاله كذلك لا يستفاد الترخيص فيه من مثل العمومات ، نظير ما ذكر في باب حجّية الخبر الواحد والأمارات العقلائية : من أنّ الأدلّة العامّة لا تصلح للرادعية عنها ، بل لا بدّ في الردع من التصريح(1) ، بل ما نحن فيه أولى بتلك الدعوى ممّا ذكر في باب

حجّية الخبر .

وبالجملة : أنّ الأدلّة العامّة لا تصلح لشمول أطراف المعلوم بالإجمال .

حول رجوع الترخيص في البعض إلى جعل البدلية

تنبيه : يظهر من الشيخ الأعظم(2) - وتبعه بعض آخر(3) : أنّ الترخيص في بعض الأطراف يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلاً عن الواقع .

وهذا بمكان من الغرابة ؛ لعدم ملاك البدلية في الطرف بوجه ، فلو فرض الطرف مباحاً فتركه ليس فيه ملاك البدلية حتّى يكون بدلاً عنه ، وأسوأ منه لو كان الطرف مستحبّاً في الشبهة التحريمية ، ومكروهاً في الشبهة الوجوبية .

وترخيص الشارع ليس له سببية لتحقّق الملاك ، خصوصاً بالنسبة إلى الطرف

ص: 194


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 221 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 204 .
3- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 35 .

الآخر ، ولو أمر بترك البقيّة فهو أمر إرشادي ، ولا يعقل المولوية في مقام الإطاعة ، ولا يعقل فيه السببية ولو قلنا [بها] في غيره .

والتحقيق : أنّ الترخيص - على فرضه - إنّما هو لمصلحة التسهيل ، أو مفسدة التضييق ، من غير تغيّر في الواقعيات بوجهٍ من الوجوه ، فهو راجع إلى رفع اليد عن التكليف الواقعي على بعض الفروض ؛ لأجل أغراض أهمّ من حفظ الواقع في هذا الحال .

ص: 195

تنبيهات:

التنبيه الأوّل : في الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال

قوله : «الأوّل : إنّ الاضطرار . . .»(11) إلى آخره .

لو اضطرّ المكلّف إلى بعض الأطراف : فتارةً : يكون اضطراره قبل تعلّق التكليف بأحدها وقبل تعلّق العلم .

وتارةً : يكون قبل العلم وبعد التكليف .

وتارةً : يكون بعد العلم والتكليف .

وتارةً : يكون مقارناً لهما أو لأحدهما .

وتارةً : يكون بعد العلم بالخطاب وقبل تعلّق التكليف ، كما لو علم بالواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ، ثمّ اضطرّ إلى بعض الأطراف ، ثمّ تحقّق الشرط .

وعلى جميع التقادير : تارةً : يكون الاضطرار إلى المعيّن ، وتارةً : يكون إلى غيره .

وعلى التقادير : قد يكون الاضطرار عقلياً ونتكلّم فيه مع قطع النظر عن

ص: 196

حديث الرفع ، وقد يكون عادياً مشمولاً للحديث ونتكلّم فيه مع النظر إليه .

وعلى التقادير : قد يكون المعلوم هو الحرام ، وقد يكون هو الواجب .

وعلى التقادير : قد يكون الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، وقد يكون إلى تركه .

ومفروض الكلام في جميع التقادير ما إذا كان الاضطرار بمقدار المعلوم أو الزائد منه ، وإلاّ فلا تأثير له في سقوط العلم عن التأثير .

فإن كان الاضطرار إلى بعض الأطراف معيّناً قبل تعلّق التكليف أو بعده وقبل العلم به ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن غير مورد الاضطرار ، سواء كان الاضطرار عقلياً أو عادياً ، وسواء كان الاضطرار العقلي موجباً لتحديد التكليف وتقييد فعليته كما عليه المشايخ(1) ، أو غير موجب له بل هو باقٍ على ما هو عليه من الفعلية ، لكنّ العبد يكون معذوراً في تركه مع الاضطرار العقلي ، كما هو مسلكنا في جميع الأعذار العقلية .

أمّا بناءً على عدم فعلية التكليف فواضح ؛ لأنّ العلم الإجمالي لم يتعلّق بالخطاب الفعلي ، ولا بدّ في تنجيز العلم من كون جميع الأطراف بحيث يكون التكليف بالنسبة إليها صحيحاً .

وأمّا على مسلكنا فلأنّ التكليف الفعلي وإن كان معلوماً حتّى بعد الاضطرار ، لكن لا بدّ في تأثير العلم الإجمالي أن يتعلّق بتكليف فعلي صالح للاحتجاج ، والاضطرار موجب لقطع الاحتجاج ولموجّهية عذر العبد .

ص: 197


1- كفاية الاُصول : 408 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 463 ؛ نهاية الأفكار 3 : 338 .

فإن قلت : على هذا المبنى لو علم العبد بالتكليف الفعلي وشكّ في قدرته على إتيانه ، فلا يكون معذوراً عن التقاعد ، ولا بدّ له من العلم بالعذر ، وليس له الاكتفاء بالشكّ مع العلم الفعلي ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ فإنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بالتكليف الفعلي ، والمكلّف شاكّ في كونه مضطرّاً إلى إتيان متعلّق التكليف ، فيكون من قبيل الشكّ في القدرة ، فيجب عليه الاحتياط ، ولا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي والتفصيلي .

قلت : نعم ، لا فرق في الشكّ في القدرة ولزوم الاحتياط فيه بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فلو علم إجمالاً بتكليف فعلي وشكّ في قدرته لا بدّ له من الاحتياط ، لكنّ المقام ليس كذلك ؛ فإنّ العبد يعلم بعجزه واضطراره ويشكّ في انطباق التكليف على مورد عذره وعجزه أو غيره ، وفرق واضح بين الشكّ في القدرة أو الاضطرار مع العلم بالتكليف ، وبين العلم بالعجز أو الاضطرار مع الشكّ في انطباقه على مورد التكليف أو غيره ؛ فإنّ العلم بالعجز والاضطرار يكون عذراً وجدانياً ، فلم يتعلّق علم العبد بتكليف فعلي لا يكون معذوراً فيه ، ولكنّ الشكّ في العجز لا يكون عذراً عند العقلاء مع فعلية التكليف ، وهذا هو الفارق بين المقامين .

وإن اضطرّ إلى المعيّن مقارناً لحصول العلم ، فلا تأثير للعلم أيضاً ؛ لأنّ العلم الإجمالي المقارن للعذر لا يمكن أن يصير حجّة ، وهذا واضح .

وإن اضطرّ إليه بعد العلم فلا إشكال في لزوم الاحتياط في البقيّة؛ لتحقّق العلم بالحجّة واليقين بالاشتغال ، فلا بدّ له من البراءة اليقينية ، والاضطرار لا يكون عذراً إلاّ في الامتثال القطعي ، دون الاحتمالي الذي يحكم به العقل أيضاً .

ص: 198

وبالجملة : بعد تمامية الحجّة والعلم بالتكليف الفعلي الصالح للاحتجاج به يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ، ومع عدم إمكانه يحكم بلزوم الموافقة الاحتمالية ، والاضطرار لا يكون عذراً إلاّ بمقداره .

وبما ذكرنا يظهر حال الواجب المشروط لو تعلّق العلم به قبل تحقّق شرطه ، وكذا يضطرّ إليه قبله ، فإنّه إن قلنا بأنّ الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه لم يكن تكليفاً فعلياً ، يكون حاله حال الاضطرار قبل العلم بالتكليف ، وإن قلنا بأ نّه تكليف فعلي - ويكون الشرط قيداً للمادّة ، أو ظرفاً لتعلّق التكليف - يكون حاله حال الاضطرار بعد العلم .

وأمّا الاضطرار إلى غير المعيّن : فالأقوى فيه وجوب الاجتناب مطلقاً ؛ لعدم لحوق الاضطرار لمتعلّق التكليف ، وجواز اجتماع التكليف الواقعي في بعض الأطراف مع الاضطرار إلى بعض من غير مصادقة بينهما ، وإنّما يتزاحمان في مقام العمل لجهل المكلّف بعد الاختيار ، واختياره بعد فعلية التكليف وسبقه عليه لا يوجب عدم تأثير العلم ، والشكّ الحاصل بفعلية التكليف بعد اختيار المكلّف أحد الأطراف - لإمكان كون المأتيّ به مورد الاضطرار - كالشكّ الحاصل بعد فقد أحدهما ، أو إتيان المكلّف أحدهما مع عدم الاضطرار ، طابق النعل بالنعل .

وبالجملة : نفس الاضطرار لا يكون مزاحماً للتكليف في البين ، كما أنّ الجهل بمتعلّق التكليف لا يوجب سقوط العلم عن التأثير ، فقبل إتيان بعض الأطراف يكون التكليف فعلياً بلا مزاحم ، وقابلاً للاحتجاج بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية ، ولا يمكن أن يكون الشكّ الحاصل من الإتيان به موجباً لسقوطه

ص: 199

عن التأثير ، وإلاّ لزم سقوط علّية العلوم الإجمالية عن التأثير بعد إتيان بعض الأطراف أو فقده .

ردّ على المحقّق الخراساني

والمحقّق الخراساني رحمه الله علیه اختار سقوط العلم عن التأثير مطلقاً ؛ معلّلاً بأنّ جواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعييناً أو تخييراً ، ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينهما فعلاً ، ونفى الفرق بين سبق الاضطرار على العلم وبين لحوقه ؛ معلّلاً بأنّ التكليف المعلوم بينهما يكون محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه من أوّل الأمر . وبهذا فرّق بين فقد بعض الأطراف بعد تعلّق العلم وبين الاضطرار إليه بعده ؛ حيث أوجب الاحتياط في الأوّل دون الثاني(1) .

ثمّ رجع عمّا ذكره في الهامش ، وفصّل بين الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه وبين الاضطرار إلى المعيّن ، وأوجب الاحتياط في الثاني دون الأوّل ؛ معلّلاً بأنّ العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي المحدود في هذا الطرف أو المطلق في الطرف الآخر يكون منجّزاً ، وأمّا إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه فإنّه يمنع عن فعلية التكليف مطلقاً (2) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه نظر :

أمّا أوّلاً : فلمنع منافاة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه مع التكليف في البين ؛ لعدم المزاحمة بينهما . نعم ، قد يكون مختار المكلّف منطبقاً على المحرّم الواقعي

ص: 200


1- كفاية الاُصول : 408 - 410 .
2- كفاية الاُصول : 409 ، الهامش 1 .

لأجل جهله بالواقعة ، ولا يعقل أن يكون التكليف الواقعي متقيّداً باختيار المكلّف وعدمه ، والترخيص في أحدهما لا بعينه لا ينافي التكليف بأحدهما واقعاً . ألا ترى أ نّه لو علم بالواقعة لوجب عليه رفع اضطراره بغير مورد التكليف ، وهذا يدلّ على عدم المزاحمة في رتبة التكليف .

وليته رحمه الله علیه عدل في الهامش عن ذلك ، فإنّه أولى بالعدول ممّا عدل عنه .

وأمّا ثانياً : فلمنع كون الاضطرار وأضرابه من قيود التكليف وحدوده ؛ ضرورة أنّ التكاليف ليست محدودة بأمثال ذلك من الأعذار العقلية لو كان الاضطرار عقلياً ويكون البحث عقلياً . نعم ، في الأعذار العقلية يكون ترك التكليف الفعلي المتوجّه إلى كلّ المكلّفين بخطاب واحد ممّا لا مانع منه ، ويكون المكلّف معذوراً فيه ، ولا حُجّة للمولى على المكلّف ، بل له عليه الحجّة ، وهذا أمر آخر غير محدودية التكليف وتقيّده .

نعم ، لو تكلّمنا على مقتضى حديث الرفع ، وأنّ التكاليف محدودة به في الاضطرار العرفي ، يكون لهذا الكلام مجال ، لكن مع الاضطرار إلى غير المعيّن لا مصادقة بين حديث الرفع وأدلّة التكاليف ؛ لعدم عروض الاضطرار إلى متعلّق التكليف كما أشرنا إليه ، ومع الاضطرار إلى المعيّن يكون العلم الإجمالي - المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في هذا الطرف أو المطلق في الطرف الآخر - منجّزاً على الفرض المتقدّم .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الافتراق بين فقد المكلّف به وعروض الاضطرار فيما نحن فيه ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ تأثير التكاليف الواقعية إنّما يكون مع وجود الموضوع ، ومع فقده لا تكون إلاّ كبريات كلّية ممّا لا تأثير فيها ؛ ضرورة عدم

ص: 201

صحّة الاحتجاج بالكبرى على الصغرى ، ولهذا لو فقد بعض الأطراف ، ثمّ علم إجمالاً بأنّ المفقود أو الموجود خمر ، لم يكن للعلم تأثير ، كالاضطرار إلى المعيّن قبل العلم ، كما أ نّه لو فقد بعض الأطراف بعده كان العلم حجّة على الطرف الموجود ؛ لأجل احتمال انطباق التكليف عليه ، كما أ نّه قبل فقده يكون نفس هذا الاحتمال حجّة عليه ، وهذا بعينه يجيء في الاضطرار إلى الطرف المعيّن ، كما لا يخفى .

ص: 202

التنبيه الثاني : في اشتراط الابتلاء بتمام الأطراف لتنجيز العلم الإجمالي

قوله : «الثاني : لمّا كان النهي . . .»(12) إلى آخره .

قد استقرّت آراء المحقّقين من المتأخّرين على أنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي أن يكون تمام الأطراف ممّا يمكن عادةً ابتلاء المكلّف بها ، فلو كان بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء لا ينجّز العلم ، ويكون الطرف الآخر مورداً للبراءة العقلية والشرعية .

وعلّلوا ذلك باستهجان الخطاب أو الخطاب المنجّز أو التكليف الفعلي بالنسبة إلى الخارج عنه ؛ ضرورة أنّ النهي المطلق عن شرب الخمر الموجودة في أقصى بلاد المغرب ، أو ترك وط ء جارية سلطان الصين يكون مستهجناً ؛ لأنّ التكاليف إنّما تتوجّه إلى المكلّفين لأجل إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترك ، فما لا يمكن عادة تركه أو إتيانه لا مجال لتعلّق التكليف به . والمقصود من الخروج عن محلّ الابتلاء أعمّ ممّا يكون غير مقدور عادة ، أو يرغب عنه الناس عادة وتكون الدواعي مصروفة عنه نوعاً ، والميزان استهجان الخطاب عند العقلاء .

وإن شئت قلت : إنّ الغرض من الأمر والنهي ليس إلاّ حصول ما اشتمل على المصلحة ، أو عدم حصول ما اشتمل على المفسدة ، ومع عدم التمكّن العادي من الترك أو الفعل لا تكاد تفوت المصلحة أو تحصل المفسدة ، فلا موجب للتكليف

ص: 203

بل لا يمكن ؛ لاستهجانه . هذا غاية ما أفادوا رحمهما اللّه في وجه اعتبار هذا الشرط(1) . وعندي فيه إشكال وهو :

الخلط بين الخطابات القانونية والشخصية

أ نّه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين وبين الخطاب الشخصي إلى آحادهم ؛ فإنّ الخطاب الشخصي إلى خصوص العاجز أو غير المتمكّن عادة أو عقلاً ممّا لا يصحّ كما اُفيد ، ولكنّ الخطاب الكلّي إلى المكلّفين المختلفين بحسب الحالات والعوارض ممّا لا استهجان فيه .

وبالجملة : استهجان الخطاب الخاصّ غير استهجان الخطاب الكلّي ؛ فإنّ الأوّل فيما إذا كان الشخص غير متمكّن ، والثاني فيما إذا كان العموم أو الغالب - الذي يكون غيره كالمعدوم - غير متمكّن عادة ، أو مصروفة دواعيهم عنه .

لا يقال : إنّ الخطابات الشرعية منحلّة بعدد نفوس المكلّفين ، ولا يكاد يخفى أنّ الخطاب المنحلّ المتوجّه إلى غير المتمكّن مستهجن .

فإنّه يقال : إن اُريد من الانحلال كون كلّ خطاب خطابات بعدد المكلّفين حتّى يكون كلّ مكلّف مخصوصاً بخطاب خاصّ به وتكليف مستقلّ متوجّه إليه ، فهو ضروري البطلان ؛ فإنّ قوله : )يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ((2) خطاب

ص: 204


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 234 ؛ كفاية الاُصول : 410 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 464 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 54 ؛ نهاية الأفكار 3 : 338 .
2- المائدة (5) : 1 .

واحد لعموم المؤمنين ، فالخطاب واحد والمخاطب كثير ، كما أنّ الإخبار ب- «أنّ كلّ نار حارّة» إخبار واحد والمخبر عنه كثير ، ولذا لو قال أحد : «كلّ نار باردة» لا يكون إلاّ كذباً واحداً ، فقوله : )لاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى((1) خطاب واحد متوجّه إلى كلّ مكلّف ، ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة ، والمكلّف تمام الموضوع لتوجّه الخطاب إليه ، وهذا الخطاب الوحداني يكون حجّة على كلّ مكلّف ، من غير إنشاء تكاليف مستقلّة ، أو توجّه خطابات عديدة .

لست أقول : إنّ المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلّفين ؛ فإنّه ضروري الفساد ، بل أقول : إنّ الخطاب واحد ، والإنشاء واحد ، والمنشأ هو حرمة الزنا على كلّ مكلّف ، من غير توجّه خطاب خاصّ أو تكليف مستقلّ إلى كلّ أحد ، ولا استهجان في هذا الخطاب العمومي إذا كان المكلّف في بعض الأحوال أو بالنسبة إلى بعض الأمكنة غير متمكّن عقلاً أو عادةً .

فالخمر حرام على كلّ أحد ، تمكّن من إتيانه أو لم يتمكّن ، وليس جعل الحرمة لغير المتمكّن بالخصوص حتّى قيل : يستهجن الخطاب أو التكليف المنجّز ، فليس للمولى إلاّ خطاب واحد لعنوان واحد يرى الناس كلّهم أ نّه حجّة عليهم ، ولا إشكال في عدم استهجان هذا الخطاب العمومي .

كما لا إشكال في أنّ التكاليف الشرعية ليست متقيّدة بهذه القيود ؛ أي : عدم الجهل ، والعجز ، والخروج عن محلّ الابتلاء ، وأمثالها (2) .

ص: 205


1- الإسراء (17) : 32 .
2- والقائلون باستهجان الخطاب ولو بنحو العموم لا محيص لهم إلاّ الالتزام بأنّ الخطاباتوالأحكام الوضعية أيضاً مختصّة بما هو محلّ الابتلاء ؛ لأنّ جعل الحكم الوضعي إن كان تبعاً للتكليف فواضح ، ومع عدم التبعية فالجعل إنّما هو بلحاظ الأثر ، ولهذا لا يمكن جعل ما ليس له أثر مطلقاً ، فجعل النجاسة للخمر والبول للآثار المترتّبة عليهما ، كالشرب ، والصلاة فيه ، وأمثال ذلك ، والفرض أنّ الآثار مع عدم كون الموضوع محلّ الابتلاء ، لا يجوز أن يترتّب عليها ، فلا بدّ من القول بأنّ النجاسة والحلّية وغيرهما من الوضعيات من الاُمور النسبية بلحاظ المكلّفين ، فالخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما ، ولا أظنّ التزامهم بذلك ؛ للزوم الاختلال في الفقه ، والدليل العقلي غير قابل للتخصيص . [منه قدس سره]

إذا عرفت ذلك : فالعلم الإجمالي المتعلّق بالتكليف الفعلي المنجّز لا بدّ من الخروج عن عهدته ، وهو يقتضي الموافقة القطعية والاحتمالية ، وترك المخالفة القطعية والاحتمالية ، ومجرّد كون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء ومصروفة عنه الدواعي لا يوجب عدم تنجيز التكليف المعلوم .

ولو لوحظ التكليف بالنسبة إلى كلّ أحد ، والخطاب متوجّهاً إلى كلّ واحد من المكلّفين ، ويراعى الاستهجان وعدمه في التكليف الانحلالي ، للزم استهجان الخطاب إلى التارك الذي لا يصير التكليف باعثاً له ، فلزم أن لا تكون العصاة مكلّفين بالفروع ، والكفّار بالاُصول والفروع ، ولزم أن يكون التارك للمنهيّ عنه بمقتضى دواعيه غير متوجّه إليه النهي ؛ ضرورة عدم الفرق في الاستهجان بين النهي عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد المغرب ، وبين النهي عن كشف العورة في ملأ من الناس لمن له شرف ، والنهي عن أكل القاذورات والخبائث ، فلا فرق بين عدم القدرة العادية على المنهيّ عنه وبين كون الدواعي مصروفة عنه.

لست أقول : إنّ التكليف متقيّد بالإرادة ؛ حتّى يقال : إنّ التقييد بها غير

ص: 206

معقول ، دون التقييد بالقدرة العقلية أو العادية ، ولكن أقول : إنّ التكليف إنّما يتوجّه إلى المكلّف لأجل إيجاد الداعي له ولو بمبادٍ اُخر من خوف العقاب والطمع في الثواب ، والتارك للشيء بإرادته - سواء تعلّق به النهي أم لا - لا يصير النهي داعياً له وباعثاً إيّاه ، فيكون مستهجناً لغواً ، بل في جميع تلك الموارد يكون التكليف الجدّي للبعث محالاً ؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة فيها ، فمن يترك الشرب بإرادته كمن لا يقدر عادةً عليه يستهجن بل يمتنع الخطاب بالنسبة إليه ، وهذا واضح لا سُترة فيه .

مع أنّ الالتزام بذلك ممّا لا يمكن ، فلا يجوز أن يقال : إنّ صِرف مصروفية الدواعي عن إتيان المتعلّق يوجب استهجان التكليف ، والسرّ في ذلك ما حقّقناه(1) من أنّ استهجان الخطاب العمومي غيره في الخطاب الشخصي ، ولا ينبغي أن يقاس بينهما ، فالخطابات الإلهية بنحو العموم ثابتة وتكون فعلية ، كان المكلّف جاهلاً أو عاجزاً أو لا ، مصروفاً عنه داعيه أو لا ، لكنّ الجاهل العاجز معذور في تركه .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا يوجب نقصاناً في التكليف ، ولا بدّ من الخروج عن عهدته بترك ما يكون في محلّ الابتلاء .

فإن قلت : هذا بالنسبة إلى حكم العقل ، فما تقول في الأدلّة النقلية والاُصول الشرعية كأصلي الطهارة والحلّية ، فإنّ جريان الأصل العملي بالنسبة إلى الخارج عن محلّ الابتلاء ممّا لا معنى له ، ومع عدم جريانه بالنسبة إلى بعض الأطراف

ص: 207


1- تقدّم في الصفحة 204 .

يكون جريانه بالنسبة إلى البعض الآخر ممّا لا مانع منه ؛ لعدم لزوم الإذن في المخالفة القطعية ، والإذنُ في المخالفة الاحتمالية ممّا لا مانع منه .

قلت أوّلاً : إنّ عدم جريان الاُصول العملية في الخارج عن محلّ الابتلاء محلّ المنع ؛ فإنّ جعل الطهارة والحلّية الظاهريتين في المشكوك فيه بنحو الجعل العامّ ممّا لا مانع منه ، وليس لكلّ أحد أصل مجعول بالخصوص ، بل الشارع جعل الحلّية والطهارة بنحو العموم للمشكوك فيه ، ولازمه ترتيب الآثار العملي ، وليست الأدلّة ناظرة إلى آحاد الأشخاص وآحاد الوقائع المشكوك فيها ، كما ذكرنا في أدلّة الأحكام الواقعية .

وثانياً : لو سلّم عدم جريانه في الطرف الخارج فلا يجري في الطرف الآخر ؛ لعين ما ذكرنا (1) من أنّ الأدلّة العامّة لا تصلح للترخيص بالنسبة إلى أطراف المعلوم بالإجمال ، بل لا بدّ فيه من دليل دالّ على نحو الصراحة ، فراجع(2) .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ممّا لا تأثير له في منجّزية العلم الإجمالي .

وأمّا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه علیه السلام - الواردة فيمن رعف فامتخط ، فصار الدم قطعاً صغاراً ، فأصاب إناءه(3) - فحمله على العلم الإجمالي بإصابة

ص: 208


1- تقدّم في الصفحة 193 - 194 .
2- وقد ذكرنا وجهاً آخر لعدم جريان الاُصول في بعض الأطرافأ. [منه قدس سره] أ - ذكر المصنّف قدس سره هذا الوجه في ورقة على حدة وهي مع الأسف مفقودة كما ذكرنا في هامش الصفحة 193 ، والظاهر أ نّ هذا الوجه هو المذكور في تهذيب الاُصول 3 : 204 .
3- الكافي 3 : 74 / 16 ؛ وسائل الشيعة 1 : 150 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 8 ، الحديث 1 .

ظهر الإناء أو باطنه المحتوي للماء ، وحملها على خروج ظاهر الإناء عن محلّ الابتلاء - كما صنع العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه (1) - فلايخلو من غرابة ؛ فإنّ ظاهر الإناء الذي يكون تحت يد المكلّف وداخلاً في استعمالاته كيف لا يكون محلّ ابتلائه ؟!

فلا بدّ من حملها بعد ظهورها في إصابة الماء :

إمّا على ما ذهب [ إليه ] شيخ الطائفة رحمه الله علیه (2) من أنّ الأجزاء الصغار جدّاً - ممّا لا يدركها الطرف ، ولا بدّ لرؤيتها من استعمال الآلات المكبّرة - ممّا لا حكم له شرعاً ؛ لخروجها عن الموضوع العرفي ، كالأجزاء الصغار التي تكون بنظر العرف لوناً ، ولا ينافي العلم بالإصابة ؛ فإنّ العلم بها غير إدراك الطرف .

وإمّا حملها على إبداء الشكّ في أصل الإصابة مطلقاً (3) .

نعم ، حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة بعيد .

الأصل عند الشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء

ثمّ - لو قلنا بمقالة من قال بتأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم منجّزية العلم الإجمالي(4) - لو شككنا في الخروج عن محلّ الابتلاء لا من جهة الاُمور الخارجية ، بل من جهة إجمال ما هو خارج عن مورد التكليف الفعلي ، فهل الأصل العقلي يقتضي الاحتياط أو البراءة ؟

ص: 209


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 236 .
2- الاستبصار 1 : 23 ، ذيل الحديث 12 .
3- المعتبر 1 : 50 ؛ مسالك الأفهام 1 : 25 ؛ جواهر الكلام 1 : 389 .
4- تقدّم تخريجه في الصفحة 204 ، الهامش 1 .

استدلال المحقّق الحائري لوجوب الاحتياط

قد يقال بالأوّل قياساً بالشكّ في القدرة ، بأن يقال :

إنّ البيان المصحّح للعقاب عند العقل - وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين اُمور - حاصل وإن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه ، وهذا المقدار يكفي حجّةً عليه ، نظير ما إذا شكّ في قدرته على إتيان المأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى ومطلوباً له ذاتاً ، فإنّه لا يجوز له التقاعد عن الإتيان بمجرّد الشكّ في الخطاب الفعلي الناشئ من الشكّ في القدرة(1) .

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّ الأصل هو البراءة بعد البناء على كون المتعلّق في محلّ الابتلاء من قيود التكليف وحدوده ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في أصل التكليف ، ومجرّد احتمال كون المبغوض في الطرف هو المبتلى به لا يوجب تمامية الحجّة على العبد ، بل له الحجّة من جهة شكّه في أصل التكليف ؛ لاحتمال كون المعلوم في الطرف الآخر ، فلا يؤثّر العلم الإجمالي .

وأمّا قضيّة الشكّ في القدرة فهو أيضاً كذلك لو قلنا بمقالة القوم من أنّ التكليف متقيّد بالقدرة ، وأ نّها من حدوده(2) . وأمّا على ما هو التحقيق - من أنّ التكاليف الشرعية فعلية حتّى مع العجز العقلي ، لكن معه يكون المكلّف معذوراً

ص: 210


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 465 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27 : 36 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 53 ؛ نهاية الأفكار 3 : 338 - 339 .

في ترك التكليف الفعلي ، وله الحجّة عليه - فعند الشكّ في القدرة لا بدّ من الاحتياط ؛ لأنّ التكليف الفعلي حجّة إلاّ مع إحراز العذر ، ومع الشكّ فيه تكون الحجّة تامّة . فقياس باب القدرة بما نحن فيه مع الفارق إلاّ على مبناهم ، وعليه يكون الأصل البراءة في كلا المقامين .

استدلال الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني لوجوب الاحتياط

وقد يتمسّك لوجوب الاحتياط بإطلاق أدلّة المحرّمات(1) ، بأن يقال :

لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر وشموله لصورتي الابتلاء به وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد عقلاً هو ما إذا كان الخمر خارجاً عن محلّ الابتلاء بحيث يلزم الاستهجان بنظر العرف ، فإذا شكّ فيه فالمرجع هو إطلاق الدليل ؛ لأنّ المخصّص مجمل دائر بين الأقلّ والأكثر ، ولا يسري إجماله إلى العامّ ، خصوصاً إذا كان لبّياً ؛ فإنّ في المخصّصات اللبّية يتمسّك بالعامّ ولو في الشبهة المصداقية ، فضلاً عن المفهومية . والسرّ في التمسّك بالعامّ في المخصّصات اللبّية هو أنّ العقل لا يخرج العنوان عن تحت العموم ؛ بل يخرج ذوات المصاديق الخارجية ، فالشكّ يكون شكّاً في التخصيص الزائد ، ولا تكون الشبهة مصداقية كالمخصّصات اللفظية .

فإن قلت : المخصّصات اللبّية الحافّة بالكلام - كما نحن فيه - يسري إجمالها إلى العامّ كالمخصّصات اللفظية المتّصلة المجملة .

ص: 211


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 238 .

قلت - مضافاً إلى أ نّه يمكن منع كون المخصّص هنا من الضروريات المرتكزة في الأذهان - : إنّ هذا مسلّم إذا كان الخارج عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، كالفاسق المردّد بين مرتكب الكبيرة أو الأعمّ ، وأمّا إذا كان عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض مراتبه عن العامّ وشكّ في بعض آخر فلا ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى التخصيص الزائد .

فإن قلت : التمسّك بالإطلاق فرع إمكان الإطلاق الواقعي ، وفيما نحن فيه يكون الشكّ في صحّة الإطلاق النفس الأمري ؛ لاحتمال استهجان التكليف .

قلت : هذا ممنوع ؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق لو كان فرع الإمكان الواقعي لما جاز التمسّك به مطلقاً ؛ لأنّ في كلّية الموارد يكون الشكّ في إمكان الإطلاق النفس الأمري ، خصوصاً على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ فإنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجود مصلحة أو مفسدة ، ويمتنع الإطلاق مع عدمهما ، فكما أنّ الإطلاق يكشف عن المصلحة النفس الأمرية ، فكذلك يكشف عن عدم الاستهجان .

هذا محصّل تقرير كلمات بعض الأعاظم في جواز التمسّك بالإطلاق فيما نحن فيه(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ منع كون المخصّص هنا ضرورياً مرتكزاً في الأذهان قابل للمنع . مضافاً إلى أنّ التحقيق أنّ إجمال المخصّص اللبّي - الذي مثل ما نحن فيه - يسري إلى العامّ ولو كان نظرياً ؛ ضرورة أ نّه بعد النظر يكشف العقل بأنّ

ص: 212


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 57 - 62 .

الخطاب من الأوّل غير متوجّه إلى الخارج عن محلّ الابتلاء ، ففرق بين ورود المخصّص منفصلاً ، وبين الغفلة عن الواقع والعلم بمحدودية الخطاب وتقييده من أوّل الأمر . وهذا نظير كشف القرينة اللفظية الحافّة بالكلام بعد حين .

وبالجملة : إذا علم بعد النظر أنّ الخطاب لا يتوجّه إلى العاجز من أوّل الأمر ، وأنّ الخارج عن محلّ الابتلاء خارج ، والخطابَ محدود بالداخل في محلّ الابتلاء ، يسري الإجمال بلا إشكال .

وثانياً : أنّ إجمال المخصّص اللبّي الحافّ بالكلام كالمخصّص اللفظي المتّصل به يسري إلى العامّ بلا كلام ؛ ضرورة أنّ ظهور العامّ لا ينعقد إلاّ في المقدار المتقيّد ، والفرض أنّ القيد مجمل دائر بين الأقلّ والأكثر ، فلا يكون العامّ المتقيّد حجّة إلاّ في القدر المتيقّن . كما أنّ التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقية في المخصّص اللبّي لا يجوز أيضاً ، ولا فرق بينه وبين المخصّص اللفظي .

وما قال بعض المحقّقين - تبعاً للشيخ العلاّمة الأنصاري - على ما نقل عنه : من أنّ السرّ في الجواز في اللبّي أنّ العقل يخرج ذوات المصاديق ، لا العنوان حتّى تصير الشبهة فيه مصداقية ، بل تصير من قبيل التخصيص الزائد ممنوع ؛ فإنّ العقل قد يخرج الأفراد بملاك واحد ، وقد يخرج كلّ فرد بملاك يخصّه :

فإن كان من قبيل الثاني فلا إشكال في جواز التمسّك بالعامّ ؛ فإنّ الشكّ في الفرد الآخر يكون من قبيل الشكّ في التخصيص الزائد ، لكنّ المخصّص اللفظي أيضاً لو أخرج كلّ فرد بعنوان خاصّ به يكون كذلك .

وإن كان من قبيل الأوّل - أي يكون الإخراج بملاك واحد في الكلّ ، كما لو كانت العداوة ملاك الخروج - فلا إشكال في أنّ المخرج هو العنوان

ص: 213

الوحداني ، ويكون المخصّص واحداً ، لا كثيراً ، وتصير الشبهة مصداقية ، لا يمكن التمسّك بالعامّ فيها لعين ما ذكر في المخصّص اللفظي .

وما قيل : إنّ الجهات قد تكون تعليلية في اللبّيات ، ويخرج العقل نفس الأفراد بالجهة التعليلية(1) ، فليس بشيء ؛ فإنّ كلّية الجهات التعليلية عند العقل ترجع إلى الجهات التقييدية ، فلو قيل : «لا تشرب الخمر لأ نّه مسكر» فالمسكرية جهة تعليلية في القضيّة اللفظية ، لكنّ العقل يرى الموضوع بحسب الواقع هو المسكر ، ويثبت الحكم للمسكر .

وبالجملة : لا نجد فرقاً بين اللفظيات واللبّيات من هذه الجهة أصلاً .

وثالثاً : أنّ ما أفاده بعض أعاظم علماء العصر رحمه الله علیه من الفرق بين المخصّص الذي له عنوان واقعي غير ذي مراتب ، وبين الذي له مراتب مختلفة ، وجوّز التمسّك بالعامّ في الثاني حتّى في المخصّص المتّصل - لفظياً كان أو لبّياً - دون الأوّل ؛ معلّلاً بأنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى التخصيص الزائد فيما عدا المراتب المتيقّنة .

ففيه أوّلاً : لم يتبيّن الفرق بين مفهوم «الفاسق» ومفهوم «الخارج عن محلّ الابتلاء» حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأوّل ، مع أنّ الخروج عن طاعة اللّه له مراتب مختلفة : مرتبة منه ارتكاب الصغائر ، ومرتبة منه أشدّ منه هو ارتكاب الكبيرة ، ومرتبة أشدّ منهما هو ارتكاب الموبقات ، ونشكّ في مفهوم الفاسق أ نّه مطلق الخارج عن طاعة اللّه أو الخارج عنها بمرتبة شديدة ، كما أنّ

ص: 214


1- لمحات الاُصول : 273 - 274 .

البلاد مختلفة المراتب من حيث القرب والبعد ، فبعضها في أقصى بلاد المغرب ، وبعضها أقرب منه ، ونشكّ في أنّ الخارج عن محلّ الابتلاء هو البلاد النائية جدّاً أو الأعمّ منها . ولعلّ مفهوم الفاسق أولى بادّعاء كونه ذا مراتب من مفهوم الخارج عن محلّ الابتلاء .

وثانياً : أنّ دعوى عدم سراية الإجمال إلى العامّ في المخصّص المتّصل إذا كان مفهوم المخصّص ذا مراتب ، ممنوعة ، فلو ورد : «أكرم العلماء إلاّ الأبيض منهم» وشككنا في أنّ الخارج هو الأبيض الشديد أو أعمّ منه ، فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعامّ لوجوب إكرام الأبيض الناقص ؛ لرجوعه إلى التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس العامّ ، لا المخصّص ؛ لأ نّه ليس للكلام حينئذٍ إلاّ ظهور واحد ، فمع إجمال القيد لا يعقل عدم السراية .

وثالثاً : فرض كون مفهوم ذا مراتب ، وشكّ في خروج بعض مراتبه من العامّ ، خروج عن الشبهة المفهومية ؛ لأنّ معناها أنّ المفهوم مجمل في مقام مفهوميته ، فلا يعلم انطباقه على موضوع ؛ مثل مفهوم الفاسق المردّد بين كونه بمعنى مرتكب الكبائر أو الأعمّ ، فيكون الشكّ في انطباق مفهوم الفاسق على مرتكب الصغيرة . وأمّا لو علم أنّ مفهوماً له مراتب ، وشكّ في خروج بعض مراتبه بعد العلم بخروج بعضها ، فهو خارج عن الشبهة المفهومية ، وداخل في إجمال المراد بعد كون المفهوم مبيّناً .

وأمّا ما ذكر - أنّ التمسّك بالإطلاق والعموم ليس مشروطاً بإحراز إمكان الإطلاق [والعموم] وإلاّ لانسدّ باب التمسّك بهما ، خصوصاً على مذهب

ص: 215

العدلية - ففيه : أ نّه فرق واضح بين قضيّة استهجان الخطاب وغيره ؛ فإنّ في الشكّ في التقييد أو التخصيص في موارد اُخر يكون الخطاب تامّاً متوجّهاً إلى المكلّف ، ويكون الأصل العقلائي هو مطابقة الإرادة الاستعمالية للجدّية ، ثمّ إذا شكّ في التقييد أو التخصيص تكون أصالة الإطلاق أو العموم محكّمة . وكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ممّا يغفل عنه العامّة ، وإنّما هو أمر مبحوث عنه عند العلماء الباحثين عن دقائق المسائل ، فإذا ورد : «أكرم العلماء» يفهم العرف والعقلاء وجوب إكرام كلّ عالم ، وعند الشكّ في التخصيص يتمسّكون بالعامّ من غير توجّه إلى إمكان الإطلاق النفس الأمري على مسلك العدلية . وهذا بخلاف قضيّة استهجان الخطاب ممّا يكون كالضروري عندهم ، ولو شكّ في استهجانه ولغويته لا يكون بناؤهم على التمسّك بالإطلاق لكشف حاله ، فالتمسّك بأصالة الإطلاق فرع إحراز إمكانه بهذا المعنى .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ التمسّك بالإطلاق - كما أفاد الشيخ ، وقرّره بعض أعاظم العصر ، وشيّد أركانه - ممّا لا يجوز .

ص: 216

التنبيه الثالث : في الشبهة الغير المحصورة

قوله: «الثالث : أ نّه قد عرفت أ نّه مع فعلية التكليف المعلوم . . .»(13) إلى آخره.

تنقيح محلّ البحث عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة في الجملة ممّا لا إشكال فيه ، وعليه دعوى الإجماع بل الضرورة(1) ، وإنّما الكلام في وجهه . ولا بدّ أن يمحّض الكلام فيها بحيث لو كانت محصورة وجب الاحتياط ، ففرض خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ، أو الاضطرار إلى بعضها ، أو حرجية الاحتياط ، خروج عن محلّ البحث .

في الاستدلال على عدم وجوب الاحتياط في المقام

وقد اضطرب كلام القوم في ميزان الشبهة الغير المحصورة ، والسرّ في عدم وجوب الاجتناب عن بعض أطرافها أو جميعها .

وأسدّ ما قيل في المقام هو ما أفاده شيخنا العلاّمة الحائري قدّس سرّه لكنّه لأجل شبهة أشكل عليه الأمر في عدم وجوب الاحتياط .

قال قدّس سرّه : «غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط هو أنّ كثرة

ص: 217


1- روض الجنان 2 : 599 ؛ جامع المقاصد 2 : 166 ؛ الفوائد الحائرية : 247 .

الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلاً في طرف خاصّ ؛ بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي ، فيكون في كلّ طرف يُقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه»(1)، انتهى .

وإن شئت توضيح ذلك وتصديقه فارجع إلى طريقة العقلاء ، ترى أنّ كثرة الأطراف قد تكون بحدّ يعدّ الاعتناء ببعضها خروجاً عن طريقة العقلاء وحكم العقل ؛ مثلاً : لو كان الإنسان في بلد له عشرة آلاف بيت ، وسمع أ نّه وقع في واحد من بيوت البلد حريق ، فوثب للتفتيش عن الواقعة ، وأظهر الوحشة والاضطراب ؛ معلّلاً بأ نّه يمكن أن يكون في بيتي ، لعُدّ عند العقلاء ضعيف العقل ، وليس ذلك إلاّ لكثرة الأطراف وضعف الاحتمال ، وإلاّ فالعلم الإجمالي محقّق ، وبيته أحد الأطراف ، وغرضه تامّ في حفظ بيته .

ولو سمع أحد أنّ واحداً من أهل بلدة فيها مائة ألف نسمة قتل [وكان ]ولده العزيز فيها ، فاضطرب من هذا الخبر ، ورتّب عليه الأثر من التفتيش عن حال ولده وإظهار الوحشة والاضطراب ، لعدّ سفيهاً ضعيف العقل ؛ وليس ذلك إلاّ لكثرة الاحتمال ، وأنّ العقلاء لا يعتنون به لأجل موهوميته ، وهذا واضح .

وأمّا الشبهة التي أوقعت شيخنا العلاّمة في التأ مّل في ذلك فقد مرّت مع جوابها في خلال المباحث السالفة(2) ، وحاصلها : أنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد من الأطراف لا يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها .

ص: 218


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 471 .
2- تقدّم في الصفحة 177 .

وجوابه : أنّ ما لا يجتمع هو الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ من الأطراف بنحو السالبة الكلّية مع العلم بوجوده بينها ، وأمّا الاطمئنان بعدم الحرام في واحد في مقابل البقيّة ، ومقايسة احتمال واحد في مقابل مائة ألف احتمال ، فلا مانع من اجتماعه معه ، فكلّ واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل البقيّة يكون احتمالاً واحداً في مقابل الاحتمالات الكثيرة ، ولا إشكال في ضعف احتمال واحد في مقابل مائة ألف احتمال .

ضابط الشبهة الغير المحصورة

وبهذا يتّضح الضابط في الشبهة الغير المحصورة ، وهو أنّ الكثرة تكون بمثابة لا يعتني العقلاء باحتمال كون الواقع في بعض الأطراف في مقابل البقيّة ؛ لضعف الاحتمال الحاصل لأجل الكثرة(1) .

ص: 219


1- ويمكن الاستدلال على المطلوب بطوائف من الروايات : منها : صحيحة عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «كلّ شيءٍ فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه»أ فهي ظاهرة في خصوص العلم الإجمالي - كما قرّرنا سابقاً (ب) - خرج منها الشبهة المحصورة إمّا بالإجماع أو العقل ، وبقيت الشبهة الغير المحصورة . وتوهّم ندرة الغير المحصورة في غاية السقوط ؛ ضرورة أنّ غالب الشبهات غير محصورة ، وقد تتّفق المحصورة لبعض المكلّفين . ومنها : الروايات الواردة في باب الجبن ، كمرسلة معاوية بن عمّار عن أبي جعفر ، وفيها : «ساُخبرك عن الجبن وغيره : كلّ شيءٍ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه»(ج) وقريب منها رواية عبداللّه بن سليمان(د) . ومصبّ هذه الروايات هو الشبهة الغير المحصورة ، كما تشهد به رواية أبي الجارود ، قال : سألت أبا جعفر عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى أ نّه يجعل فيه الميتة ؟ فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين ؟ ! إذا علمت أ نّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشترِ ، وبِعْ ، وكُلْ ، واللّه ِ إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والجبن ، واللّه ِ ما أظنّ كلّهم يسمّون ؛ هذه البربر وهذه السودان»(ه) . وأورد عليها الشيخ الأعظم باحتمال أنّ المراد جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، فيكون خارجاً عن المدّعى ، وأمّا قوله : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» فالمراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّية ، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين ، إلاّ أن يقال : إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي ، فلا مسوّغ للارتكاب إلاّ كون الشبهة غير محصورة . ثمّ أمر بالتأ مّل(و) . وأنت خبير بأنّ احتماله الأوّل في غاية البعد عن مساق الرواية ، خصوصاً مع ذيلها ممّا هو كالنصّ في العلم الإجمالي ، ومعلوم أنّ ذيلها لم يكن أمراً أجنبيّاً عن الصدر . كما أنّ قوله : «ما أظنّ . . .» إلى آخره ظاهر في أنّ القطع حاصل بعدم التسمية ؛ فإنّ الطائفتين غير مسلمين ، فلا إشكال في دلالتها على المطلوب . نعم ، هي ضعيفة السند كرواية عبداللّه بن سليمان ، وفيهما احتمال التقيّة كما مرّ سابقاً . ومنها : موثّقة سماعة عن أبي عبداللّه في بعض عمّال بني اُميّة ، وفيها : «إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً ، فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس»(ز) . ولا يبعد أن يكون موردها الغير المحصورة . ومنها : صحيحتا الحلبي وأبي المعزى في باب الربا(ح) وموردهما أيضاً العلم الإجمالي ، والظاهر أنّ مصبّهما الغير المحصورة . إلى غير ذلك . ومقابلها روايات اُخر محمولة على المحصورة كروايات التخميس(ط) فإنّها محمولة على ما جهل المقدار واحتمل مقدار الخمس والزيادة والنقيصة ، وأمّا لو علم أنّ في ماله - الذي بلغ خمسين ألفَ دينارٍ - ديناراً من الحرام لا إشكال في عدم وجوب الخمس . وبالجملة : دلالة الروايات على الشبهة الغير المحصورة واضحة . نعم ، يخرج منها بعض الموارد ؛ كما لو عرف صاحب المال فيجب التخلّص من ماله . ومحلّ الكلام في سائر الأقسام في الفقه . [منه قدس سره] أ - الفقيه 3 : 216 / 1002 ؛ وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 1 . ب - تقدّم في الصفحة 60 . ج - المحاسن : 496 / 601 ؛ وسائل الشيعة 25 : 119 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 7 . د - الكافي 6 : 339 / 1 ؛ وسائل الشيعة 25 : 117 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 1 . ه- المحاسن : 495 / 597 ؛ وسائل الشيعة 25 : 119 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحديث 5 . و - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 263 . ز - الكافي 5 : 126 / 9 ؛ وسائل الشيعة 17 : 88 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 2 . ح - الكافي 5 : 145 / 5 و4 ؛ وسائل الشيعة 18 : 128 ، كتاب التجارة ، أبواب الربا ، الباب 5 ، الحديث 2 و 3 . ط - راجع وسائل الشيعة 9 : 505 ، كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، الباب 10 .

ص: 220

وبهذا يظهر : أنّ المكلّف لو شرع في الأطراف قاصداً ارتكاب جميعها - ولو في طول سنين - لم يكن معذوراً ؛ لأنّ التكليف باقٍ على فعليته . وكذا لو قسّم الأطراف الغير المحصورة بأقسام معدودة محصورة ، وأراد ارتكاب بعض

ص: 221

الأقسام الذي يكون نسبته إلى البقيّة نسبة محصورة ؛ كأن تكون الأطراف عشرة آلاف ، وقسّمها عشرة أقسام ، وأراد ارتكاب قسم منها ، فإنّه غير معذور فيه ؛ لأ نّه من قبيل الشبهة المحصورة ؛ لعدم كون احتمال الواقع في القسم الذي أراد ارتكابه ضعيفاً بحيث لا يعتني به العقلاء . نعم ، بناءً على أن يكون المستند الأخبار يجوز ارتكاب الجميع .

وكذا الحال في الشبهة الوجوبية : فإنّه لو كان أطرافها كثيرة ؛ بحيث لا يعتني العقلاء بكون الواجب في بعض الأطراف في مقابل البقيّة ، لم يجب الاحتياط ؛ كما لو نذر شرب كأس ، واشتبه بين غير محصور تكون جميع أطرافه محلّ ابتلائه ، ثمّ خرج جميع الأطراف عن محلّ الابتلاء وبقي واحد منها ، ففي هذه الصورة لا يكون الاحتياط واجباً ؛ لقيام الأمارة العقلائية على عدم كونه هو الواقع ، ولا يعتني العقلاء بمثل هذا الاحتمال الضعيف .

نعم ، لو تمكّن المكلّف من إتيان عدّة من الأطراف يكون نسبتها إلى البقيّة نسبة محصورة وجب الاحتياط ، فلو تمكّن من إتيان ألف من بين عشرة آلاف وجب عليه الاحتياط .

وبما ذكرنا ظهر حال الشبهة الغير المحصورة موضوعاً وحكماً .

مناقشة بعض الأعاظم في ضابط الشبهة الغير المحصورة

ولقد تصدّى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - لبيان ضابطها ، فقال ما حاصله : والأولى أن يقال : إنّ ضابطها أن تبلغ الأطراف حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال ، من أكل وشرب وأمثالهما ، فلو علم نجاسة حبّة

ص: 222

من الحنطة في ضمن حُقّة لا يكون من غير المحصور ؛ لإمكان استعمال الحقّة ، مع أنّ نسبتها إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف ، وأمّا لو علم نجاسة إناء من لبن البلد فيكون منه ، ولو لم تبلغ الأواني ألفاً ؛ لعدم التمكّن العادي من جمع الأواني في الاستعمال ، وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها ، فليس العبرة بكثرة العدد فقط ؛ إذ ربّ كثير تكون الشبهة فيه محصورة كالحقّة من الحنطة ، كما لا عبرة بعدم التمكّن من الجمع فقط ؛ إذ ربّما لا يتمكّن عادة والشبهة محصورة ، ككون أحد الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لا بدّ من الأمرين : كثرة الأطراف ، وعدم التمكّن العادي من الجمع ، وبهذا تمتاز الشبهة الغير المحصورة عمّا تقدّم في الشبهة المحصورة من أ نّه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكلّ واحدٍ من أطرافها ، فإنّ إمكان الابتلاء بكلّ واحدٍ غير إمكان الابتلاء بالمجموع ، فالشبهة الغير المحصورة ما تكون كثرة الأطراف فيها بحدّ يكون عدم التمكّن في الجمع في الاستعمال مستنداً إليها .

ومن ذلك يظهر حكمها ، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية ، وعدم وجوب الموافقة القطعية :

أمّا عدم الحرمة فلأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها .

وأمّا عدم وجوب الموافقة القطعية فلأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية ؛ لأ نّها هي الأصل في باب العلم الإجمالي ؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعية يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف ، وتعارضها يتوقّف على حرمة المخالفة القطعية ، فيلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية

ص: 223

للتكليف ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع التعارض بين الاُصول ، ومعه لا يجب الموافقة القطعية(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ المراد من عدم التمكّن من الجمع في الاستعمال : إمّا أن يكون عدم التمكّن دفعة ، وإمّا أن يكون أعمّ منه ومن عدمه تدريجاً ولو في ظرف سنين متمادية .

فعلى الأوّل يلزم أن يكون غالب الشبهات المحصورة من غيرها ، وعلى الثاني يلزم أن يكون غالب الشبهات الغير المحصورة من المحصورة ؛ فإنّه قلّما يتّفق عدم إمكان الجمع بين الأطراف ولو في ستّين سنة ، فلو كان جميع الأطراف في محلّ الابتلاء ، وتمكّن المكلّف من جمعها في الاستعمال ولو تدريجاً في سنين متمادية ، كانت الشبهة - بناءً على هذا الضابط - محصورة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به .

لا يقال : إنّ ارتكاب جميع الأطراف في السنين المتمادية ممّا لا يمكن نوعاً ؛ لفقدان بعض الأطراف في طول المدّة لا محالة . مع أنّ تأثير العلم في التدريجيات محلّ إشكال .

فإنّه يقال : - مضافاً إلى أنّ فرض الفقدان خلاف المفروض - إنّ فقدان بعض الأطراف بعد العلم لا يضرّ بتنجيز العلم الإجمالي في بقيّة الأطراف . وتأثير العلم في التدريجي من حيث الاستعمال ممّا لا إشكال فيه ، وفي التدريجي من حيث الوجود أيضاً مؤثّر على الأقوى .

ص: 224


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 117 - 119 .

وأمّا ثانياً : فلأنّ الميزان في تأثير العلم الإجمالي هو فعلية التكليف ، وعدم استهجان الخطاب ، والفرض أنّ مورد التكليف يكون محلّ الابتلاء ؛ لأنّ كلّ واحد من الأطراف ممّا يمكن استعماله ويكون محلّ الابتلاء ، فتعلّق التكليف به ممّا لا مانع منه . وأمّا الجمع بين الأطراف وعدمه فممّا لا يكون متعلّقاً لخطاب وتكليف ، وإنّما هو حكم العقل في أطراف العلم الإجمالي لا غير ، فما يكون متعلّق التكليف يكون المكلّف متمكّناً من إتيانه ؛ لأ نّه متمكّن بالنسبة إلى كلّ واحد منها ، والمكلّف به لا يكون خارجاً منها ، وما لا يكون متمكّناً منه - وهو الجمع في الاستعمال - لم يتعلّق به تكليف من المولى ، فالعلم الإجمالي منجّز بالنسبة إلى الأطراف وإن لم يتمكّن المكلّف من الجمع بينها ، ونتيجته حرمة المخالفة الاحتمالية بارتكاب بعض الأطراف ، فارتكاب بعضها لا يجوز عقلاً ؛ لتعلّق العلم بالتكليف الفعلي وكونه منجّزاً بالنسبة إلى جميع الأطراف .

فاتّضح بما ذكرنا النظر فيما ادّعى في ذيل كلامه : من عدم حرمة المخالفة القطعية ، وعدم وجوب الموافقة القطعية ؛ لأجل تفرّع الثانية على الاُولى .

كما اتّضح بما أسلفناه - من ضابط الشبهة الغير المحصورة ، وأ نّه معه لا فرق بين الشبهات التحريمية والوجوبية - النظرُ فيما ذكر في ذيل التنبيه بقوله : «ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنّما يختصّ بالشبهات التحريمية . . .»(1) إلى آخره ، فراجع .

ص: 225


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 119 .

تنبيه : في سقوط حكم الشكّ البدوي بعد سقوط العلم الإجمالي

بناءً على ما ذكرنا في الشبهة الغير المحصورة - من أنّ العقلاء لا يعتنون بالعلم الإجمالي بالنسبة إلى بعض الأطراف ، بل يكون الاعتناء به من الوسوسة وخلاف المتعارف لديهم - يسقط حكم الشكّ البدوي أيضاً عن بعض الأطراف بعد سقوط العلم الإجمالي ؛ فلو علم إجمالاً بكون مائع مضاف بين الأواني الغير المحصورة من الماء جاز التوضّي ببعض الأطراف ؛ لقيام الطريق العقلائي على عدم كونه مضافاً ، فلا يجري فيه حكم الشكّ البدوي أيضاً .

وأمّا على ما أفاد المحقّق المتقدّم من الضابط فلازمه عدم سقوط حكم الشكّ ؛ لأنّ عدم حرمة المخالفة القطعية الجائية من قِبل عدم إمكان الجمع في الاستعمال ، اللازم منه عدم وجوب الموافقة القطعية ، لا يلازم سقوط حكم الشكّ كما لا يخفى ، مع أنّ الفاضل المقرّر رحمه الله علیه قال : «إنّه رحمه الله علیه كان يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضاً»(1) وهذا ممّا لا وجه له على مبناه ، ومتّجه على ما ذهبنا إليه .

ص: 226


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 122 .

التنبيه الرابع : في ملاقي بعض أطراف المعلوم بالإجمال

قوله : «الرابع : أ نّه إنّما يجب عقلاً . . .»(14) إلى آخره .

هاهنا جهات من البحث :

الجهة الاُولى : في صور العلم بالملاقاة

إنّ العلم بالملاقاة قد يكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف ، وقد يكون قبله ، وقد يكون مقارناً له . وعلى أيّ حال : قد يكون الملاقى - بالفتح - خارجاً عن محلّ الابتلاء رأساً ، ولا يعود إليه ، وقد يكون عائداً إليه

بعد خروجه حين العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ، وأمثلتها واضحة .

الجهة الثانية : مقتضى الأصل العقلي في صور الملاقاة

قد يقال : إنّ الأصل العقلي في جميعها يقتضي البراءة ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف منجّز لها ، فإذا علم بالملاقاة ، أو بكون نجاسة الملاقي - على فرض كونه نجساً - من الملاقى ، لا يؤثّر العلم الإجمالي الثاني ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف تكون رتبته سابقة على العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ، سواءً كان بحسب الزمان مقارناً له ، أو متقدّماً عليه ، أو متأخّراً عنه ، فينجّز الأطراف في الرتبة السابقة على تأثير العلم الثاني ، وبعد تنجيز الأوّلِ الأطرافَ لا يمكن أن يؤثّر العلم الثاني ؛ لعدم

ص: 227

إمكان تنجّز المنجّز ؛ للزوم تحصيل الحاصل .

فإذا علم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ، ثمّ علم بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف ، وأنّ نجاسته - الملاقي بالكسر - على فرضها تكون من الملاقى ، ينجّز العلم المتأخّر زماناً أطرافه في الرتبة السابقة ؛ لأنّ معلومه يكون

متقدّماً على المعلوم الأوّل ، والمناط في التنجيز هو تقدّم المعلوم زماناً أو رتبةً ، لا العلم ، كما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم في أحد الأواني الثلاثة ، ثمّ علمنا بوقوع قطرة منه قبله في أحد الإناءين منها ، يكون العلم الأوّل بلا أثر ، ولا يجب الاجتناب عن الطرف المختصّ به ؛ لأنّ العلم الثاني يؤثّر في تنجيز معلومه في الزمان السابق على العلم الأوّل .

وبالجملة : بعد تقدّم تنجّز الملاقى - بالفتح - على الملاقي - بالكسر - بالرتبة ، يكون العلم المتعلّق بالملاقي والطرف في جميع الصور بلا أثر ، فيجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - والطرف دون الملاقي .

وأمّا قضيّة الخروج عن محلّ الابتلاء ، فمضافاً إلى ما أسلفناه(1) من عدم مانعيته عن تأثير العلم الإجمالي أساساً ، سيأتي(2) أنّ المقام له خصوصية لأجلها لا يكون الخروج عن محلّ الابتلاء مانعاً عن تأثير العلم .

لا يقال : إنّ العلم الثاني وإن كان معلولاً للعلم الأوّل ومتأخّراً عنه رتبةً ، لكن لِم لا يجوز أن يصيرا بجامعهما منجّزين بالنسبة إلى المعلوم الأوّل ؟

وبعبارة اُخرى : يمكن أن ينجّز العلم السابق رتبةً الطرفين حدوثاً ، وبعد تولّد

ص: 228


1- تقدّم في الصفحة 204 - 207 .
2- يأتي في الصفحة 239 .

العلم الثاني من الأوّل يؤثّر العلم الأوّل والثاني - أي المعلول والعلّة - بجامعهما في تنجيز الطرفين ، ويستقلّ المعلول في تنجيز الملاقي بالكسر ، وترتّبهما لا يضرّ بتأثير جامعهما .

فإنّه يقال : إنّ قضيّة تأثير الجامع في العلل التكوينية أيضاً ممّا لا أساس له ، وإنّما هو كلام صدر ممّن لا قدم راسخ [له] في العلوم العقلية ؛ اغتراراً ببعض الأمثلة الجزئية ممّا لا مساس لها بالصادرية والمصدرية بنحو الفاعلية الإلهية ، كتأثير النار والشمس في حرارة الماء ، وتأثير البندقتين في قتل الإنسان ، وأمثالهما من الفواعل الطبيعية ، وهذه مسألة [ليس ]هاهنا مقام التعرّض لها ، وإنّما حصل الاشتباه فيها من الخلط بين الفواعل الإلهية والطبيعية ، ثمّ بعد هذا الاشتباه انجرّ الأمر إلى أن اتّسعت دائرته ، وجرّ ذيله إلى الاُمور الاعتبارية والمعاني العقلائية المبحوث عنهما في مثل علم اُصول الفقه ، فيقال - مثلاً - : إنّ موضوع علم الاُصول لا بدّ وأن يكون واحداً ؛ لقاعدة عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد ، وإنّ الصلاة حقيقة واحدة؛ لتلك القاعدة ، وإنّ العلم في المنجّزية لا بدّ وأن يكون واحداً في التأثير ، ومع اجتماع العلمين يكون الجامع مؤثّراً ، كلّ ذلك للخلط الواقع بين مسائل العلوم العقلية الإلهية وغيرها من العلوم الرسمية المفترقة عنها موضوعاً ، ومحمولاً وبرهاناً .

ففيما نحن فيه ليس تأثير وتأثّر وأثر ومؤثّر وصدور وصادر حتّى يأتي فيه ما ذكر في غيره من تأثير الجامع عند الاجتماع ، وإن كان تأثيره أيضاً غير معقول كما هو ظاهر عند أهله ؛ فتعلّق العلم بموضوع ذي أثر شرعي يتمّ الحجّة على العبد ، وينجّز الواقع ، ويحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الأطراف ؛ لتمامية

ص: 229

الحجّة ، ولا معنى لتمامية الحجّة مرّتين بالنسبة إلى موضوع واحد ، فلو علم بنجاسة بعض الأطراف تمّت الحجّة على العبد ، ويتنجّز النجس في البين ؛ بحيث لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان مستحقّاً للعقوبة ، ولا معنى لحصول هذا الأمر مرّتين بالنسبة إلى موضوع واحد .

نعم ، لو علم بنجاسة اُخرى غير الاُولى صار العلم بها أيضاً منجّزاً للأطراف ؛ بحيث لو ارتكب الاثنين وصادفا للواقع صار مستحقّاً للعقوبة بالنسبة إليهما .

ففي باب الملاقي والملاقى يكون العلم الإجمالي بنجاسة في البين حجّة على المكلّف ومنجّزاً للأطراف ؛ بحيث لو ارتكب بعضها وصادف الواقع صار مستحقّاً للعقوبة ، وعند حصول الملاقاة يعلم إجمالاً بأنّ الملاقي - بالكسر - أو الطرف نجس ، لكن العلم الأوّل صار منجّزاً للطرف بما ذكرنا ، ولا معنى للتنجيز فوق التنجيز ، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدوية(1) .

ص: 230


1- هذا ، ولكنّ الحقّ هو التفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني رحمه اللهأ ؛ فإنّ شرط منجّزية العلم الإجمالي هو أن يكون كاشفاً فعلياً ومنجّزاً فعلياً على جميع التقادير ، ومع تعلّق العلم بالملاقي - بالكسر - والطرف يكون العلم كاشفاً فعلياً عن التكليف بينهما ومنجّزاً فعلياً على جميع التقادير ، فإذا حصل العلم بأنّ نجاسة الملاقي - على فرضها - فمن الملاقى ، يحدث علم إجمالي ، لكنّه لا يمكن أن يتّصف بالكاشفية الفعلية ولا بالمنجّزية الفعلية على جميع التقادير ؛ فإنّه على تقدير كون النجس هو الطرف يكون مكشوفاً فعلياً بالعلم الأوّل ومنجّزاً فعلياً به ، ولا يعقل تعلّق كشف فوق الكشف ، ولا تنجيز فوق التنجيز . وتوهّم انقلاب العلم والتنظير بالعلم بوقوع القطرة في غير محلّه ؛ لأنّ العلم الأوّل باقٍ على ما هو عليه بالضرورة ، بخلافه في المثال المتقدّم ؛ لأ نّه إذا علم بعد العلم بوقوع قطرة في إحدى الكؤوس أ نّه وقعت قطرة قبل القطرة المعلومة أوّلاً في إحدى الكأسين يعلم بأنّ علمه بالتكليف على أيّ تقدير كان جهلاً مركّباً ؛ لأنّ القطرة إذا كانت واقعة فيما وقعت فيه القطرة قبلاً لم تحدث تكليفاً ، فالعلم الثاني يكشف عن بطلان العلم الأوّل ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ العلم الأوّل باقٍ على ما هو عليه ، ومانع عن وقوع كشف وتنجيز بالنسبة إلى التكليف ثانياً لو كان في الطرف . وبهذا يظهر حال الصورة الثالثة ، وأنّ العلم متعلّق بتكليف فعلي منجّز إمّا في الطرف وإمّا في الملاقي والملاقى ، فالعلم كاشف فعلي ومنجّز كذلك بالنسبة إلى جميع الأطراف . ثمّ اعلم : أ نّه لا تأثير لتقدّم الرتبة عقلاً في تقدّم التنجيز - كما اشتهر في الألسن - ضرورة أنّ التنجيز إنّما هو أثر العلم في الوجود الخارجي ، وتقدّم السبب على المسبّب ليس تقدّماً خارجياً ، بل هو معنىً يدركه العقل ، وينتزع من نشوء أحدهما عن الآخر ، فالعلم الإجمالي المتعلّق بالملاقى - بالفتح - والطرف لو كان مقدّماً على العلم الإجمالي بالملاقي والطرف في الرتبة العقلية لا يوجب تقدّمه في التنجيز حتّى يصير مانعاً من تنجيز المتأخّر رتبة ، فالعلم إذا تعلّق بالأطراف بعد العلم بالملاقاة ، والعلم بأ نّه ليس للملاقي نجاسة غير ما اكتسب من الملاقى ، لكن حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف والملاقى في زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - والطرف ، يكون منجّزاً ، ويجب الاجتناب عن جميع الأطراف . وما ذكرنا من عدم تأثير التقدّم الرتبي باب واسع يتّسع نطاقه إلى الأصل السببي والمسبّبي ممّا جعل الشيخ الأعظم(ب) من وجوه تقدّمه عليه هو التقدّم الرتبي ، وتبعه شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه(ج) ويأتي التفصيل في الاستصحاب(د) إن شاء اللّه .[منه قدس سره] أ - كفاية الاُصول : 411 - 412 . ب - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 242 . ج - درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 631 . د - الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 278 .

ص: 231

الجهة الثالثة : مقتضى الأصل الشرعي في صور الملاقاة

بناءً على ما قوّيناه من عدم جريان الاُصول الشرعية في أطراف المعلوم بالإجمال ، وأنّ الأدلّة العامّة غير وافية للترخيص ولو في بعض الأطراف ، لا يبقى إشكال بالنسبة إلى جريان الاُصول في الملاقي في الصورة الاُولى والملاقى - بالفتح - في الثانية ، بعد عدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه ، وأ نّه كالشبهة البدوية عقلاً ؛ فإنّ الأصل - بناءً عليه - لا معارض له .

وأمّا بناءً على جريانها في الأطراف وسقوطها بالمعارضة ، فقد تصدّى المحقّقون لرفع التعارض(1) : بأنّ الأصل في الملاقى حاكم على الأصل في الملاقي - بالكسر - لكون الشكّ في طهارته ونجاسته ناشئاً من الشكّ في الملاقى ، فجريان الأصل فيه يرفع الشكّ عن ملاقيه ، فلا مجرى للأصل في الملاقي في رتبة جريان الأصل في الملاقى - بالفتح - فأصالة الطهارة في الملاقى - بالفتح - معارضة لمثلها في الطرف ، وبعد سقوطهما تبقى في الملاقي جارية بلا معارض ، من غير فرق بين تأخّر العلم بالملاقاة عن العلم بنجاسة بعض الأطراف أو تقدّمه أو مقارنته ، ومن غير فرق بين خروج الملاقى - بالفتح - عن محلّ الابتلاء ثمّ عوده إليه وغيره ؛ وذلك لأنّ رتبة السبب مقدّمة على المسبّب ، والأصل الجاري فيه يرفع الشكّ عن المسبّب كلّما تحقّق ؛ فإذا علم

ص: 232


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 242 ؛ نهاية الأفكار 3 : 358 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 82 .

إجمالاً بنجاسة الملاقي - بالكسر - والطرف ، ثمّ علم بأ نّه لو كان نجساً فإنّما هو من الملاقى - بالفتح - يكون الأصل فيه رافعاً للشكّ في ملاقيه ، ويصير معارضاً للأصل في الطرف ، ويصير الأصل في الملاقي - بالكسر - بلا معارض بقاءً .

شبهة التفكيك بين قاعدتي الطهارة والحلّ في الملاقي

لكن(1) هاهنا إشكال استصعب حلّه على هذا المبنى ذكره شيخنا

العلاّمة قدّس سرّه (2) : وهو أنّ الطرفين كما هما مشكوكان من حيث الطهارة والنجاسة ، كذلك هما مشكوكان من حيث الحلّ والحرمة ، والشكّ في الحلّ والحرمة فيهما مسبّب عن الشكّ في الطهارة والنجاسة ، فأصالة الطهارة فيهما حاكمة على أصالة الحلّ ، فهي جارية في الطرفين قبل جريان أصالة الحلّ قبلية بالرتبة ، فإذا تساقطا بالتعارض جرت أصالة الحلّ في الملاقى - بالفتح - والطرف وأصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - معاً ؛ لكونها في عرض واحد بلا تقدّم وتأخّر ؛ فإنّ الشكّ في الحلّية في الملاقى - بالفتح - والشكّ في الطهارة في الملاقي - بالكسر - مسبّبان عن الشكّ في الطهارة في الملاقى ، وليس بينهما سببية ومسبّبية ، فإذا تعارضت الاُصول الثلاث ؛ أي أصالتا الحلّ في الملاقى والطرف ، وأصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - جرت

ص: 233


1- وهاهنا إشكال آخر أوردناه في باب الأصل السببي والمسبّبي في الاستصحاب ، فراجعأ . [منه قدس سره] أ - الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 286 - 287 .
2- الظاهر أ نّه أفاده قدس سره في مجلس بحثه .

أصالة الحلّ في الملاقي - بالكسر - بلا معارض .

وبعبارة اُخرى : في كلّ من الطرفين والملاقي أصل موضوعي هو أصل الطهارة ، وأصل حكمي هو أصل الحلّ ، والاُصول الحكمية محكومة بالنسبة إلى الموضوعية ، والأصل الموضوعي في الملاقي - بالكسر - محكوم الأصل الموضوعي في الملاقى - بالفتح - فإذا تعارض الأصلان الموضوعيان في الطرفين تصل النوبة إلى الأصلين الحكميين فيهما وإلى الأصل الموضوعي في الملاقي - بالكسر - فتتعارض هذه الاُصول ، ويبقى الأصل الحكمي في الملاقي سليماً عن المعارض ، فالملاقي - بالكسر - محكوم بالاجتناب من حيث النجاسة ، ومحكوم بالحلّية لأصالة الحلّ .

هذا ، والجواب عن هذه الشبهة - بناءً على عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي بالتقريب الذي ذكرنا سابقاً (1) : من أنّ الأدلّة العامّة المرخّصة لا تصلح لشمول الأطراف أو بعضها - واضح ، فعليه تكون الاُصول الموضوعية والحكمية غير جارية في الملاقى - بالفتح - والطرف ، وأمّا جريانها بالنسبة إلى ملاقيه فلا مانع منه ؛ لعدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه ، فيكون - بحكم العقل - كالشبهة البدوية ، فلا مانع من جريان الاُصول الشرعية فيه(2) .

ص: 234


1- تقدّم في الصفحة 193 - 194 .
2- والتحقيق في الجواب عن الإشكال : - بعد تسليم كون الأصل المسبّبي لا يجري مع السببي ، والإغماض عمّا أوردنا عليه في الاستصحابأ ، وبعد تسليم وجود الدليل على قاعدة الحلّ في كلّ مشتبه ، والإغماض عمّا أوردنا عليه(ب) ، وبعد الإغماض عن أنّ أصالة الحلّ جارية في عرض أصالة الطهارة ، وأنّ تقديم الشكّ السببي على المسبّبي في مثل المقام لا أصل له ؛ لعدم الدليل على أنّ كلّ طاهر حلال - أنّ أصالة الطهارة في الملاقي في الصورة التي تقدّم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى - بالفتح - والطرف غير معارضة لأصالة الحلّ في الطرف ، فلا مانع لجريانها ؛ لأنّ التعارض بين أصل الطهارة فيه وأصل الحلّ في الطرف متقوّم بالعلم الإجمالي المنجّز ؛ حتّى يلزم من جريانهما المخالفة العملية الغير الجائزة ، وفي المقام لا تأثير للعلم الإجمالي الثاني لما تقدّم(ج) ، فمخالفة هذا العلم الغير المنجّز لا مانع منها ، فلا يوجب ذلك منع جريان الأصل في أطرافه ، وفي المقام يكون الملاقي - بالكسر - طرف العلم الغير المنجّز ، فيجري الأصل فيه بلا معارض ، وعدم جواز ارتكاب الطرف للملاقى - بالفتح - ليس للعلم الإجمالي الثاني ، بل للأوّل المنجّز ، فحينئذٍ يجري أصل الطهارة ولا يعارض أصل الحلّ في الطرف ، لكن يعارض أصلُ الحلّ في الطرف أصلَ الحلّ [في ]الملاقى - بالفتح - لكونهما طرفي علم إجمالي منجّز . وبهذا يظهر وجه جريان الأصل في الصورة الثانية في الملاقى - بالفتح - . وأمّا الصورة الثالثة - أي التي تعلّق [فيها] العلم بنجاسة الملاقي والملاقى والطرف في عرض واحد - فالتحقيق فيها عدم جريان الاُصول في شيء منها ؛ لما حقّقنا من قصور الأدلّة ، ومع الغضّ تجري الاُصول وتعارضُ من غير تقدّم للأصل السببي على المسبّبي ؛ لما حقّقنا(د) وجهه في الاستصحاب(ه) . [منه قدس سره] أ - الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 159 - 160 و285 . ب - راجع تنقيح الاُصول 3 : 444 و 276 . ج - تقدّم في الصفحة 227 . د - الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 287 . ه- هذه الحاشية قد انمحى بعض كلماتها ولكن صحّحناها بالمقايسة إلى متن تهذيب الاُصول 3 : 274 .

ص: 235

جواب العلاّمة الحائري ومناقشته

ولقد أجاب شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - عنها : بأ نّه يمكن أن يقال : إنّ الاُصول في أطراف العلم غير جارية حكمية كانت أو موضوعية: إمّا لأجل التناقض الواقع في مدلول الدليل ، وإمّا لأجل أنّ أصالة الظهور في عمومات الحلّ والطهارة معلّقة بعدم العلم على خلافه ، فحيثما تحقّق العلم يصير قرينة على عدم الظهور فيها ، من غير فرق بين كون العلم سابقاً على مرتبة جريانها أو مقارناً ، فحينئذٍ نقول: إنّ العلم الإجمالي المانع من جريان الأصلين الموضوعيين - لأجل التناقض ، أو لأجل عدم جريان أصالة الظهور في العمومات - مانع عن جريان الأصلين الحكميين أيضاً ؛ لكونه قرينة على عدم الظهور ، غاية الأمر تكون قرينيته بالنسبة إلى الأصل الموضوعي مقارنة ، وبالنسبة إلى الأصل الحكمي مقدّمة ، ولا فرق من هذه الحيثية ، فمورد جريان الأصل الحكمي ووجود الشكّ في الأصل المحكوم كان حين وجود القرينة على خلافه ، فلا يبقى الظهور لأدلّة الاُصول ، فيبقى الأصل الموضوعي في الملاقي سليماً عن المعارض .

وفيه أوّلاً : أنّ ما أفاد من لزوم التناقض في مدلول الدليل : إن كان مراده ما أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله علیه في أدلّة الاستصحاب من لزوم تناقض صدرها لذيلها(1)، وكذا في دليل أصالة الحلّ(2) فقد فرغنا عن جوابه فيما سلف(3)، فراجع.

ص: 236


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 409 - 410 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 201 .
3- تقدّم في الجزء الأوّل : 123 - 124 .

وإن كان مراده لزومه بواسطة جريان الأصلين للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، فهذا ليس تناقضاً في مدلول الدليل ، بل هو مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي ، وقد فرغنا عن رفع المناقضة بينهما (1) .

وثانياً : أنّ ما ادّعى من كون العلم قرينة على عدم الظهور في أدلّة الاُصول ، فيرد عليه : أنّ كلّ واحد من الأطراف لا يكون إلاّ مشكوكاً فيه ، والعلم بمخالفة بعضها للواقع لا يوجب صرف ظهورها بعد رفع المناقضة بينها وبين الواقع .

الجهة الرابعة : تعميم الأصل في الملاقي لجميع الصور

بناءً على جريان الاُصول العملية في الأطراف ، وحكومة الأصل الجاري في الملاقى - بالفتح - على الجاري في الملاقي - بالكسر - لا إشكال في جريان الأصل في الملاقي - بالكسر - من غير معارض في جميع صور الملاقاة ، من غير فرق بين تقدّم العلم بنجاسة أحد الطرفين على العلم بالملاقاة أو تأخّره عنه أو مقارنتهما ؛ فإنّ الأصل في السبب في جميع الصور يرفع الشكّ عن المسبّب ، غاية الأمر أنّ الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسبّبي من أوّل الأمر في بعض الصور ، ويرفع الموضوع ويمنع عن الجريان في مرحلة البقاء في بعضها .

فإذا علم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو شيء آخر ، ثمّ علم بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف ، وأنّ النجاسة في الملاقي لو كانت فهي من الملاقى - بالفتح - ينقلب الأمر عمّا هو عليه ، ويجري الأصل السببي في

ص: 237


1- تقدّم في الجزء الأوّل : 156 .

الرتبة السابقة ، ويرفع موضوع الأصل المسبّبي .

ولا معنى لما يقال : إنّ الأصل في المسبّب قد جرى وسقط بالتعارض ، والساقط لا يعود ؛ فإنّه كلام شعري لا يصغى إليه ؛ لأنّ التقدّم الزماني لا دخالة له بعد رفع الموضوع .

الجهة الخامسة : في خروج الملاقى عن محلّ الابتلاء

من الصور التي أوجب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه الاجتناب [فيها ]عن الملاقي - بالكسر - والطرف دون الملاقى ، ما إذا كان الملاقى - بالفتح - خارجاً عن محلّ الابتلاء ، قال رحمه الله علیه : وكذا - أي وكذا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - والطرف دون الملاقى - لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي ، ولكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلىً به بعده(1) .

فأورد عليه بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - : بأ نّه لا أثر لخروج الملاقى - بالفتح - عن محلّ الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محلّ الابتلاء بعد العلم . نعم ، لو فرض أنّ الملاقى - بالفتح - كان في ظرف حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محلّه ولو بالأصل ، فالعلم الإجمالي بنجاسته أو الطرف ممّا لا أثر له ، ويبقى الملاقي - بالكسر - طرفاً للعلم الإجمالي ، فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف(2) .

ص: 238


1- كفاية الاُصول : 412 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 86 .

أقول : - مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء ممّا لا أثر له - إنّه لو سلّم أنّ الخروج عن محلّه يؤثّر في عدم جريان الأصل بالنسبة إليه ، لكنّه فيما إذا لم يكن للخارج أثر يكون محلّ الابتلاء ، وأمّا لو فرض أنّ له أثراً في الجملة كان الأصل جارياً فيه بلحاظ ذلك الأثر ، وفيما نحن فيه يكون كذلك ؛ لأنّ أثر نجاسة الملاقى - بالفتح - الخارج عن محلّ الابتلاء هو نجاسة الملاقي الذي هو محلّ الابتلاء ، فأصالة الطهارة في الملاقى جارية بلحاظ أثره - الذي هو محلّ الابتلاء - أي نجاسة ملاقيه .

فتحصّل : أنّ الأصل في الملاقى - بالفتح - جارٍ وحاكم على الأصل في الملاقي وإن لم يعد إلى محلّ الابتلاء ، فظهر أنّ الأصل في جميع الصور في الملاقي - بالكسر - سليم عن المعارض .

الجهة السادسة : وجوه اُخرى في وجوب الاجتناب عن الملاقي

قد يستدلّ(1) على وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الأطراف : بأنّ معنى وجوب الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عنه وعن ملاقيه؛ بحيث يكون الاجتناب عن ملاقيه من شؤون وجوب الاجتناب عنه ، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ، فالاجتناب واللا اجتناب عن الملاقي هو الاجتناب واللا اجتناب عن النجس ، ويكون المرتكب للملاقي معاقباً على ارتكاب النجس لا على ارتكاب ملاقيه ؛ لعدم الحكم للملاقي مستقلاًّ .

ص: 239


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 239 .

وبالجملة : ليس في البين حكم إلاّ وجوب الاجتناب عن عين النجس ، لكن لا يتحقّق الاجتناب عنها إلاّ بالاجتناب عنها وعن ملاقيها ، فإذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين يحكم العقل بوجوب الاجتناب عنهما وعن ملاقي أحدهما بعين حكمه بوجوب الاجتناب عن الملاقى ؛ للعلم بوجوب الاجتناب شرعاً إمّا عن الملاقى - بالفتح - وملاقيه الذي يكون اجتنابه من شؤون اجتناب الملاقى ، وإمّا بوجوب الاجتناب عن الطرف ، فيتنجّز التكليف في البين ، ولازمه الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف .

واستدلّ ابن زهرة في «الغنية» على ذلك(1) بقوله تعالى : )وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ((2) ، وفيه ما فيه .

كما لا وجه للاستدلال عليه برواية جابر عن أبي جعفر علیه السلام ؛ فإنّ قوله علیه السلام : «إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيءٍ»(3) ليس للاستدلال على نجاسة الملاقي للفأرة ، بل لبيان أنّ قوله : «إنّ الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها» استخفاف بحكم اللّه تعالى ، لتعلّق حكمه بكلّ ميتة .

ويمكن أن يستدلّ على كون الملاقي نجاسة اُخرى مستقلّة بالجعل والتعبّد بالاجتناب عنه بمفهوم قوله : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(4) فإنّ

ص: 240


1- غنية النزوع 1 : 46 .
2- المدّثّر (74) : 5 .
3- تهذيب الأحكام 1 : 420 / 1327 ؛ وسائل الشيعة 1 : 206 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المضاف ، الباب 5 ، الحديث 2 .
4- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 2 ، 5 ، و6 .

المفهوم منه أنّ الماء الغير البالغ حدّ الكرّ ينجّسه بعض النجاسات ؛ أي يجعله نجساً ، فالظاهر منه أنّ الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء ، فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجاسات مختصّاً بالجعل ووجوب الاجتناب .

وبقوله : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(1) ؛ أي حتّى تعلم أ نّه صار قذراً بواسطة الملاقاة .

وكذا يمكن أن يستدلّ عليه بما دلّ على أنّ الماء والأرض والشمس وغيرها مطهّرات للأشياء ؛ فإنّ الظاهر منها أ نّها صارت نجسة فتطهر بالمطهّرات .

وبالجملة : لا إشكال في أنّ نجاسة الملاقي للنجاسات إنّما هي من نجاسة الأعيان النجسة التي يلاقيها ، كما أنّ الظاهر أ نّه مختصّ بجعل آخر ووجوب اجتناب مستقلّ به ، لا أنّ وجوب الاجتناب عنه عين وجوب الاجتناب عن الأعيان النجسة من غير جعل آخر متعلّق به .

الجهة السابعة : الأصل عند الشكّ في اختصاص الملاقي بجعل مستقلّ

إذا شككنا في أنّ الملاقي مخصوص بجعل مستقلّ حتّى لا يجب الاجتناب عنه ، أو لا حتّى يجب الاجتناب عنه ، فهل الأصل يقتضي الاحتياط أو البراءة ؟

ص: 241


1- تهذيب الأحكام 1 : 216 / 621 ؛ وسائل الشيعة 1 : 134 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، الحديث 5 .

الظاهر(1) جريان البراءة العقلية والشرعية فيه ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الأقلّ والأكثر ؛ فإنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن نفس الأعيان النجسة معلوم ، وشكّ في أنّ الوجوب هل هو متعلّق بها على نحوٍ وخصوصية يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض الأطراف أم لا ؟

وبعبارة اُخرى : تكليف المولى بوجوب الاجتناب عن النجس معلوم ، وكونه بحيث يكلّف العبد بوجوب الاجتناب عن الملاقي مشكوك فيه ، ألا ترى أ نّه لو لم يدلّ دليل على وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لم تكن نفس الأدلّة الدالّة على وجوب الاجتناب عن الأعيان النجسة حجّة على المكلّف؛ لقصورها عن إفادة ذلك ؟ !

نعم ، لو ادّعى أحد أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي إنّما هو بحكم

ص: 242


1- والتحقيق أن يقال : إنّ الاشتغال متقوّم بتعلّق العلم الإجمالي بتكليف واحد مقتضٍ للاجتناب عن النجس وملاقيه ، فيكون علم إجمالي واحد متعلّق بتكليف واحد مع هذا الاقتضاء ، ومع التردّد في أنّ الحكم على الأعيان النجسة كذلك أو لا ، لا يمكن تنجيز العلم الإجمالي الأوّل للتكليف مع تلك الخصوصية المشكوك فيها ، والعلم الإجمالي الثاني - على فرضه - غير منجّز كما مرّ سابقاً ، ومع عدم تمامية حجّة المولى وعدم منجّزية العلم الإجمالي للخصوصية تجري البراءة العقلية والشرعية ؛ لعدم المانع في الثانية بعد جريان الاُولى ، فتبصّر . فما في تقريرات العَلَمين(ب) غير وجيه جدّاً . [منه قدس سره] أ - تقدّم في الصفحة 227 . ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 89 ؛ نهاية الأفكار 3 : 365 - 366 .

العقل ، وأ نّه من كيفيات إطاعة وجوب الهجر للرجز ، لكان للاحتياط عند الشكّ وجه ، لكنّه معلوم البطلان .

واختار بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه وجوب الاجتناب عنه ، وجعل المسألة مبتنية على أمر يشبه بالأكل من القفا ، قال رحمه الله علیه ما محصّله : إنّ الأقوى وجوب الاجتناب ، ويتّضح وجهه بتمهيد مقدّمة : هي أ نّه لو دار الأمر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر ، فتارةً : كانا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ؛ كما إذا شكّ

في أنّ الجهر بالقراءة شرط في الصلاة ، أو أنّ الإخفات بها مانع ؛ لعدم الواسطة بينهما ، لعدم إمكان خلوّ القراءة عن الوصفين . واُخرى : يكون واسطة بينهما ؛ كما إذا شكّ في أنّ السورة بشرط الوحدة شرط في الصلاة ، أو أنّ القِران مانع ، فتكون الصلاة بلا سورة واسطة بينهما .

لا إشكال في جريان البراءة عن الشرطية المشكوك فيها في القسم الثاني ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ شرطية السورة بقيد الوحدة تقتضي بطلان الصلاة بلا سورة ، ومانعية القران لا تقتضي ذلك ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأثر الزائد ، ويعمّه حديث الرفع .

وبعبارة اُخرى : يعلم تفصيلاً بأنّ القران مبطل ؛ إمّا لفقد الشرط ، أو لوجود المانع ، ويشكّ في بطلان الصلاة بلا سورة ؛ للشكّ في الشرطية ، فتجري فيه البراءة .

وأمّا القسم الأوّل فالشكّ فيه يرجع إلى المتباينين ؛ لاشتراك الشرطية والمانعية في الآثار ، وليس للشرطية أثر زائد ؛ إذ كما أنّ شرطية الجهر تقتضي البطلان عند الإخفات ، كذلك مانعية الإخفات تقتضي ذلك عنده ، فلا فرق بين

ص: 243

الشرطية والمانعية في عالم الجعل والثبوت في الأثر .

نعم ، هما يفترقان عند الشكّ ؛ لأنّ الشرط لا بدّ من إحرازه ، ولا يكفي الشكّ في وجوده ، بخلاف المانع ؛ فإنّه لا يلزم إحراز عدمه بناءً على جريان أصالة عدم المانع .

ففي المثال : لو شكّ المأموم في أنّ الإمام أجهر بالقراءة أو أخفت بها ، فبناءً على المانعية يجري الأصل ويتمّ صلاته معه ، وبناءً على شرطية الجهر ليس له الإتمام معه ؛ لعدم إحراز ما هو الشرط في صحّة صلاته ، فلزوم إحراز الشرط إنّما هو من آثار نفس الشكّ في الشرطية ، لا جعل الشرطية .

وحينئذٍ يقع الكلام في أنّ هذا المقدار من الأثر الذي اقتضاه الشكّ لا الجعل ممّا تجري فيه البراءة ويعمّه حديث الرفع أو لا ؟ بأن يقال : يلزم من جعل الشرطية ضيق وكلفة ؛ للزوم إحراز الشرط ، بخلاف جعل المانعية ، ففي رفع الشرطية توسعة ومنّة .

وفيه : أ نّه يعتبر في الرفع - مضافاً إلى ذلك - أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعية ولو تبعاً ، وخصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية ولا من لوازمها ، بل هي من الآثار المترتّبة على الشكّ فيما هو المجعول الشرعي ، ومثل هذه الخصوصية لا يعمّها حديث الرفع .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الوجهين اللذين ذكرناهما في نجاسة الملاقي يشتركان في الأثر ؛ لأ نّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس على كلّ تقدير ، سواء قلنا بالسراية أو لم نقل ، وليس هنا أثر يختصّ به أحد الوجهين في عالم الجعل والثبوت . نعم ، يظهر لأحد الوجهين أثر زائد عند الشكّ ، فإنّه بناءً على

ص: 244

السراية يجب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي المعلوم بالإجمال ، ولا يجري فيه أصالة الطهارة ، وبناءً على الوجه الآخر لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة ، فيكون الشكّ في أحد الوجهين كالشكّ في شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر في الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، من حيث عدم اقتضاء أحد الجعلين أثراً زائداً ، واقتضاء الشكّ فيما هو المجعول أثراً زائداً ، وحيث قلنا بعدم جريان البراءة هناك لم تجرِ هاهنا ؛ لأ نّه طرف العلم الإجمالي وجداناً ، وإنّما أخرجناه عن ذلك بمعونة السببية والمسبّبية ، وهما مبتنيان على أن لا تكون نجاسة الملاقي بالسراية ، فلو احتمل كونها بالسراية تبقى طرفيته للعلم الإجمالي على حالها كالملاقى بالفتح(1) ، انتهى .

وفيه مواقع للنظر :

الأوّل : ما ذكر في القسم الثاني - من رجوع الشكّ إلى الأقلّ والأكثر ، ومثّل [له ]بالشكّ بين شرطية السورة بشرط الوحدة وبين مانعية القران ، وجعل الواسطة بينهما خلوّ الصلاة من السورة - خلط وتركيب بين شكّين : أحدهما الشكّ في جزئية السورة في الصلاة وعدمها ، وثانيهما على فرض الجزئية الشكّ في شرطية الوحدة للسورة ومانعية القران .

وبعبارة اُخرى : الوحدة شرط الجزء ، لا الجزء بشرط الوحدة شرط الصلاة ، ومعلوم أنّ الشكّ في شرطية شيء لجزء الصلاة بعد الفراغ عن الجزئية ، وليس الشكّ في الجزئية وشرطية شيء للجزء في رتبة واحدة ؛ حتّى يجعل أحدهما

ص: 245


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 89 - 93 .

واسطة بين الآخر وضدّه ، وإلاّ فلنا أن نقول : إنّ ما مثّل [به] للقسم الأوّل أيضاً من الضدّين اللذين لهما ثالث ، بأن يقال : إنّ الشكّ في أنّ القراءة المجهور بها شرط للصلاة أو الإخفات مانع ، وتكون الصلاة بلا قراءة واسطة بينهما ؛ لإمكان خلوّ الصلاة عن القراءة .

الثاني : أنّ ما ادّعى - من أنّ لزوم إحراز الشرط من الآثار المترتّبة على نفس الشكّ في الشرطية ، لا من آثار جعل الشرطية - فاسد ؛ ضرورة أنّ لزوم الإحراز إنّما هو من آثار الشرطية ، فإنّ الأمر إذا تعلّق بالصلاة بشرط الطهارة لا بدّ من إحرازها عند الامتثال . نعم ، إذا كانت محرزة لا معنى لإحرازها بأصل وغيره ، وعند الشكّ يجب إحرازها ولو بالأصل .

وبالجملة : أنّ لزوم الإحراز عند الشكّ من آثار جعل الشرطية ، لا من آثار الشكّ فيها ، وهذا واضح جدّاً .

ومنه يظهر : أنّ ما جعله مانعاً عن جريان البراءة وتعميم حديث الرفع - من أنّ خصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية ، ولا تنالها يد الوضع والرفع - ليس بشيء ؛ فإنّ المرفوع هو الشرطية الآتي من قِبلها لزوم الإحراز ، لا خصوصية لزوم الإحراز .

ومنه اتّضح الأمر فيما نحن فيه ؛ فإنّ لزوم الاجتناب عن الملاقي إنّما هو من آثار كيفية الجعل ، وأ نّه بما هو متعلّق بالأعيان النجسة هل تعلّق بنحو وخصوصية أوجب الاجتناب عن ملاقيها ، ويكون الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عنها ، أم لا ؟ فجريان البراءة شرعاً وعقلاً إنّما هو من الخصوصية الزائدة في الجعل .

ص: 246

الثالث : ما ذكر - أنّ الشرط لا بدّ من إحرازه ، بخلاف المانع ؛ فإنّه لا يلزم إحراز عدمه بناءً على جريان أصالة عدم المانع عند الشكّ في وجوده - لا يخفى ما فيه من سوء التعبير ؛ فإنّ عدم لزوم الإحراز ليس مبنيّاً على أصالة عدم المانع عند الشكّ ؛ فإنّها - على فرض جريانها - من وجوه الإحراز ، لا مبنى عدم لزومه .

نعم ، بناءً على المانعية لا يلزم الإحراز ولو بالأصل ؛ لجريان البراءة العقلية والشرعية بناءً عليها ، وعدمِ جريانها بناءً على الشرطية . ولكن لو بنينا على لزوم الإحراز حتّى بناءً على المانعية ، وبنينا على جريان أصالة عدم المانع ، كان من وجوه الفرق بين جعل الشرطية والمانعية هو إمكان إحراز عدم المانع بالأصل وعدم إمكان إحراز الشرط عند الشكّ . ولعلّ هذا التعبير من فلتات قلم الفاضل المقرّر رحمه الله علیه .

الرابع : أنّ ما قال : - إنّه لو شكّ المأموم في أنّ الإمام جهر بالقراءة أو أخفت بها ، فبناءً على مانعية الإخفات يجوز الائتمام ؛ لجريان أصالة عدم المانع ، وبناءً على الشرطية لا يجوز له الائتمام - لعلّه بيان مقتضى القاعدة الأوّلية مع قطع النظر عن القواعد الاُخر ، وإلاّ فلا إشكال في جواز الائتمام مع الشكّ في واجدية الإمام للشرائط أو فاقديته للموانع ، فلو شكّ في أنّ الإمام على طهر أو أنّ قراءته صحيحة جاز الائتمام به ؛ لأصالة الصحّة ، وبناء المتشرّعة على الائتمام به من دون إحراز الشرائط ولو بالأصل ، غير أصالة الصحّة .

ص: 247

تذييل استطرادي : في بيع أحد طرفي المعلوم بالإجمال حرمته

قد ذكر بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - مقدّمة على البحث عن الملاقي لبعض أطراف الشبهة ما لا يكون التعرّض له خالياً عن الفائدة ؛ قال ما محصّله : لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم بالإجمال من الآثار الشرعية على كلّ واحد من الأطراف ؛ للقطع بالفراغ ، فكما لا يجوز شرب كلّ من الإناءين المعلوم خمرية أحدهما ، كذلك لا يصحّ بيع كلّ واحد منهما ؛ للعلم بعدم السلطنة على بيع أحدهما ، فأصالة الصحّة في كلّ معارضة لها في الآخر ، وبعد سقوطهما يحكم بفساد البيع ؛ لكفاية عدم ثبوت الصحّة للحكم به .

إن قلت : ما ذكرت حقّ لو كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر ، وأمّا إذا كان جزءه فما لم يثبت الجزء الآخر لا يجب ترتيب الأثر ، ففي المثال «الخمر» لا يكون تمام الموضوع لفساد البيع بل جزءه ، وجزؤه الآخر وقوع البيع ؛ إذ الصحّة والفساد من الأحكام اللاحقة للبيع بعد صدوره ، فلا وجه للحكم بفساد بيع أحد الإناءين ؛ للشكّ في وقوعه على الخمر ، فتجري فيه أصالة الصحّة ، ولا يعارضها أصالة الصحّة في بيع الآخر ؛ لأنّ المفروض عدم وقوعه عليه ، فلا موضوع لأصالة الصحّة فيه .

قلت : لا وقع لهذا الإشكال ؛ فإنّ الخمر تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وعدم السلطنة عليه يلازم الفساد ، بل عينه ؛ لأ نّه ليس المجعول الشرعي

ص: 248

إلاّ حكماً واحداً ، غايته أ نّه قبل البيع يعبّر عنه بعدم السلطنة ، وبعده يعبّر عنه بالفساد ، فعدم السلطنة عليه عبارة اُخرى عن فساده ، والسلطنة عليه عبارة اُخرى عن صحّته ، فأصالة الصحّة في بيع كلّ منهما تجري قبل صدور البيع وتسقط بالمعارضة .

وبالجملة : لا إشكال في أنّ عدم السلطنة على بيع الخمر وفساده من الآثار المترتّبة على نفس المعلوم بالإجمال ، وقد عرفت أنّ كلّ ما للمعلوم بالإجمال من الأحكام وضعاً أو تكليفاً يجب ترتّبه على كلّ من الأطراف(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أ نّه لم يتّضح مراده من أصالة الصحّة ، هل هي عبارة عن أصالة الصحّة المعروفة الجارية في فعل الغير - التي يدلّ على اعتبارها بناء العقلاء على الأقوى(2) ، أو الإجماع على ما قيل(3) وقوّاه هذا المحقّق في مبحثها (4) - أو المراد منها قاعدة الفراغ أو التجاوز ، أو المراد منها عمومات حلّ البيع والوفاء بالعقود أو المراد منها قاعدة السلطنة على الأموال ؟

فعلى الأوّل لا معنى لجريانها في فعل نفسه .

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ فلا تجريان قبل العمل .

وأمّا العمومات فلا يجوز التمسّك بها ولو في الشبهة البدوية ؛ فإنّها مخصّصة بالنسبة إلى بيع الخمر وأشباهه ، فلا يجوز التمسّك بها في الشبهة المصداقية .

ص: 249


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 68 - 70 .
2- راجع الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 398 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 350 .
4- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 654 .

ومنه يتّضح حال قاعدة السلطنة ، فإنّها أيضاً مخصّصة ، وتكون الشبهة مصداقية . فعدم جواز بيع أحد الإناءين المشتبهين ليس لأجل العلم الإجمالي ، بل لو كانت الشبهة بدوية أيضاً لما حكمنا بالصحّة ؛ لعدم الدليل عليها ، ويكفي في الحكم بالفساد عدم ثبوت الصحّة .

وثانياً : أنّ ما ذكره - من أنّ المجعول الشرعي ليس إلاّ حكماً واحداً ، غايته أ نّه قبل البيع يعبّر عنه بعدم السلطنة وبعده يعبّر عنه بالفساد - ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية أو شرعية موضوعها الناس ومحمولها كونهم مسلّطين ، ويكون اتّصاف الناس بالسلطنة في سلسلة علل المعاملات والمعاقدات ، والصحّة والفساد ممّا تتّصف بهما المعاملات ؛ لأجل حصول النقل والانتقال الواقعيين ، والتأثير والتأثّر النفس الأمريين ، فهما واقعان في سلسلة معاليلها ، فهما مختلفان موضوعاً ومحمولاً ومورداً ، فأين أحدهما من الآخر حتّى يقال : إنّ المجعول شيء واحد يختلف اسمه باختلاف الاعتبار ؟ !

وثالثاً : أنّ ما ادّعى - من أنّ المعلوم بالإجمال إذا كان تمام الموضوع لحكم يجب ترتّبه على كلّ واحد من الأطراف وضعاً كان أو تكليفاً - ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، فإنّ وجوب الاجتناب عن الأطراف حكم عقلي من باب الاحتياط والمقدّمة العلمية ، ولا معنى لترتيب آثار الواقع على كلّ واحد من الأطراف مع أنّ الواحد منها ليس واقعاً ، ولازم ما ذكره أ نّه لو ارتكب كلا المشتبهين يكون معاقباً عليهما ، إلاّ أن يقال : إنّ العلم التفصيلي مأخوذ في موضوع حسن العقوبة ويكون الواقع جزء الموضوع ، ولازمه أن لا يكون معاقباً أصلاً ، وكلا الالتزامين خلاف الضرورة .

ص: 250

إن قلت : لولا ترتّب آثار الواقع على الطرفين ، فما وجه الحكم بفساد البيع الواقع على كلّ واحد من الأطراف ؟

قلت : عدم الحكم بالصحّة لعدم الدليل عليها ، ويكفي عدم الدليل للحكم بالفساد ، هذا إذا اُوقع البيع على واحد منها ، ولو اُوقع على كليهما لم يمكن الحكم بالصحّة لو لم يكن الواقع متميّزاً عند البائع والمشتري ؛ لعدم جواز الانتفاع بواحد منهما . نعم لو أمكن للمشتري تميّز الواقع ولو في المستقبل يجوز بيع ما هو الواقع بينهما مع ارتفاع الغرر بالتوصيف مثلاً .

حكم التوابع لأطراف المعلوم بالإجمال حرمته

ثمّ قال رحمه الله علیه في تعقيب ما أفاده ما حاصله : إنّه قد عرفت أنّ كلّ ما للمعلوم من الأحكام يجب ترتّبه على كلّ واحد من الأطراف ، سواء كان من مقولة الوضع أو التكليف ، وسواء قارن زمان الابتلاء بالتصرّف في أحد الأطراف لزمان العلم أو تأخّر عنه ؛ إذ المدار في ترتّب الأحكام عليها على فعليتها وتنجّزها ، لا زمان الابتلاء .

وعلى هذا يتفرّع وجوب الاجتناب عمّا للأطراف من المنافع والتوابع المتّصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنّه كما يجب الاجتناب عن نفسهما يجب الاجتناب عن ثمرتهما ، من غير فرق بين أن يكون كلّ منهما من ذوات الأثمار أو أحدهما كذلك ، وبين وجود الثمرة حال العلم وعدمه ، وبين ثمرة هذا السنة والسنين الآتية ، وبين بقاء الطرف الآخر أو الأصل حال وجود الثمرة وعدمهما ، ففي جميع التقادير يجب الاجتناب عن الثمرة

ص: 251

كالاجتناب عن أصلها والطرف ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب ممّا يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفسه ؛ فإنّ النهي عن التصرّف فيه نهي عنه وعن توابعه ومنافعه .

فلو فرض أنّ الشجرة المثمرة مغصوبة ، فوجوب الاجتناب عن ثمرها المتجدّد وإن لم يكن فعلياً لعدم وجود موضوعه ، إلاّ أ نّه يكفي في وجوب الاجتناب عنه فعلية وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة بما لها من المنافع والتوابع ، وحينئذٍ تسقط أصالة الحلّ عن الثمرة بنفس سقوطها عن ذي الثمرة بالمعارضة لأصالة الحلّ في الطرف الآخر ، فلا تجري أصالة الحلّ في الثمرة بعد وجودها وفقدان طرف العلم الإجمالي . وقس على ذلك الدار ومنافعها ، والحمل وذا الحمل ، وسائر ما كان لأحد الأطراف منافع متجدّدة دون الآخر .

وليس المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ؛ فإنّه معلوم البطلان ، بل المقصود منها هو [أنّ] النهي عن التصرّف في الشجرة يقتضي النهي عن التصرّف في الثمرة عند وجودها ، وكذا الدابّة ، فلا يحتاج حرمة التصرّف فيهما في ظرف وجودهما إلى تعبّد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرّف في المنافع من شؤون حرمة التصرّف في ذي المنفعة ؛ فإنّ تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الثمرة والحمل ومنافع الدار إنّما هو نفس المعلوم بالإجمال ، وقد عرفت أ نّه مهما كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم فلا بدّ من ترتّبه على الأطراف ، بخلاف ما إذا كان جزء الموضوع له ، وعلى ذلك يتفرّع عدم جواز إقامة الحدّ على من شرب أحد طرفي المعلوم بالإجمال ؛ فإنّ الخمر

ص: 252

المعلوم في البين إنّما يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى شربه وفساد بيعه ، وأمّا بالنسبة إلى إقامة الحدّ فيتوقّف على أن يكون شربه عن عمد واختيار .

وإن شئت قلت : إنّ علم الحاكم بشرب الخمر اُخذ جزء الموضوع لوجوب إقامة الحدّ ، ولا علم مع شرب أحد الطرفين(1) ، انتهى .

ثمّ فرّع على ما ذكر حكم الملاقي وبنى وجوب الاجتناب عنه على كونه بالنسبة إلى الملاقى - بالفتح - كثمرة الشجرة بالنسبة إليها .

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ دعوى كونِ وجوب الاجتناب عن التوابع والمنافع بعين وجوبه عن المتبوع وذي المنفعة؛ بحيث يكون أحدهما من شؤون الآخر من غير تعلّق جعل وتعبّد به ، وكونِ أدلّة الغصب دالّة على حرمة العين المغصوبة بمنافعها وتوابعها من غير تعلّق حكم بهما ، خالية عن البيّنة والبرهان ، وإنّما هي مجرّد الدعوى ؛ فإنّه لم يرد في باب الغصب دليل لفظي معتدّ به يكون دالاًّ على مدّعاه .

وما ورد : «أنّ الغصب كلّه مردود»(2) لا يدلّ على ما ذكر . وما نسب إلى صاحب الزمان روحي له الفداء : «لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(3) لا يدلّ على ذلك .

مضافاً إلى عدم ملازمة التصرّف للغصب . مع إمكان أن يقال : إنّه يدلّ على

ص: 253


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 70 .
2- الكافي 1 : 542 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 386 ، كتاب الغصب ، الباب 1 ، الحديث 3 .
3- الاحتجاج 2 : 559 / 351 ؛ وسائل الشيعة 25 : 386 ، كتاب الغصب ، الباب 1 ، الحديث 4 .

تعلّق الحرمة بكلّ ما يكون مالاً بالاستقلال ، فهو على خلاف المطلوب أدلّ . وبالجملة : لا دليل على مدّعاه بوجه .

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ينتج في باب المنافع والتوابع والملاقي هو أن يكون وجوب الاجتناب عنها من شؤون وجوب الاجتناب عن المتبوعات ؛ بحيث يعاقب المكلّف في التصرّف في التوابع على المتبوعات ، فيقال لمن تصرّف في الثمرة والحمل والملاقي : لِمَ تصرّفت في الشجرة وذي الحمل وارتكبت الملاقى - بالفتح - ؟

مع أنّ الضرورة في الشجرة وذي الحمل قاضية على خلافه ؛ لأنّ الغصب مفهومه مبيّن ، فإنّه استيلاء اليد واستقلالها على مال الغير بغير إذنه ، فلو استقلّت

اليد على ثمرة الشجرة وحمل الدابّة دون الشجرة وذي الحمل ، لا يمكن أن يؤاخذ على غصب الشجرة وذي الحمل ؛ لأ نّه لم يغصبهما وإنّما غصب منافعهما .

وبالجملة : استيلاء اليد على الشجرة وذي الحمل دون منافعهما ، وعلى المنافع دون الاُصول ، بل على الدار دون المنفعة ، وعليها دون الدار ، ممكن ، ويكون الاستيلاء على كلٍّ غير الآخر ، ولا يمكن أن يعاقب على ما ليس بمغصوب لأجل غصب آخر .

نعم ، النهي عن ارتكاب الملاقى يمكن أن يكون بوجه يكون الملاقي - بالكسر - من شؤونه ، ويكون العقاب في ارتكابه لأجل عدم هجر الرجس ، فقياس باب الشجرة والحمل بباب الملاقي مع الفارق ؛ لأنّ الحرمة بملاك الغصب لا يمكن أن تتعلّق بما ليس بمغصوب ، ولا يمكن أن تكون الحرمة من شؤون أمر غير محرّم كما في غصب الثمرة دون الشجرة ، فغصب الشجرة

ص: 254

قد يكون منفكّاً عن غصب ثمرتها ، وقد يكون توأماً معه ، فيكون غصب الثمرة غصباً مستقلاًّ وله حرمة مستقلّة .

ودعوى : أنّ في الصورة الثانية - أي إذا كانا توأمين - تكون حرمة واحدة متعلّقة بغصب الشجرة دون الثمرة ، كما ترى ، ولو سلّم إمكانه ثبوتاً لا دليل عليه إثباتاً . مع أنّ في المنافع المنفصلة لا يمكن الالتزام به قطعاً ؛ لكونه خلاف الضرورة والبداهة .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ما ذكره - من أنّ الخمر بالنسبة إلى حرمة شربه وفساد بيعه تمام الموضوع ، وبالنسبة إلى إقامة الحدّ جزؤه ، وجزؤه الآخر أن يكون الشرب عن عمد واختيار ، أو أنّ علم الحاكم جزؤه الآخر - فمنظور فيه ؛ لأنّ شرب أحد الأطراف شرب اختياري ، فلو صادف الواقع يكون شرب الخمر اختيارياً ، فلهذا لو ارتكب أحد الأطراف وصادف الواقع يستحقّ العقوبة عليه ، مع أنّ صحّة العقوبة تكون في مخالفة الواقع عن عمد واختيار .

كما أنّ أخذ علم الحاكم جزء الموضوع أيضاً واضح البطلان ؛ ضرورة أنّ موضوع الحدّ بحسب الأدلّة هو شرب الخمر عصياناً ، وفي صورة ارتكاب بعض الأطراف لا يثبت الحدّ ؛ للشكّ في حصول شرب الخمر ، ولو كان الخمر تمام الموضوع لحكم الحدّ لا يجوز إجراء الحدّ أيضاً على من شرب بعض الأطراف ؛ لعدم العلم بتحقّق الموضوع .

ودعواه - بأ نّه مهما كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم تكليفي أو وضعي ، فلا بدّ من ترتيب آثار ذلك الحكم على كلّ واحد من الأطراف - قد عرفت ما فيها ، وأ نّه ممّا لا يمكن الالتزام بها .

ص: 255

تنبيهات

ثمّ ينبغي التعرّض لتنبيهات ذكرها الشيخ العلاّمة الأنصاري(1) وتعرّض لها المحقّق المتقدّم(2) :

التنبيه الأوّل : في التفصيل بين الشرائط والموانع في وجوب الاحتياط

لا ينبغي الإشكال في عدم الفرق في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع بين الشرائط والموانع وغيرها ، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس ، ولا وجه لسقوط الشرط والمانع بمجرّد الإجمال .

فما حكي عن المحقّق القمّي رحمه الله علیه من التفصيل بين ما يستفاد من مثل قوله : «لا تُصلِّ فيما لا يؤكل»(3) فذهب إلى السقوط ، وبين ما يستفاد من مثل قوله :

«لا صلاة إلاّ بطهور»(4) فذهب إلى عدم السقوط(5) ؛ لعلّه مبنيّ على ما ذهب إليه

ص: 256


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 301 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 134 .
3- راجع وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2، الحديث 7.
4- تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ؛ وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .
5- جامع الشتات : 839 / السطر 17 ؛ اُنظر رسالة الصلاة في المشكوك : 161 - 168 .

من عدم منجّزية العلم الإجمالي وأ نّه كالشكّ البدوي، على ما هو المعروف منه(1)، ففصّل بين الشرائط والموانع ، فيكون حالهما بعد سقوط العلم الإجمالي عن الأثر كالشكّ البدوي ، فيجب إحراز الشرط دون عدم المانع ، فما هو المستفاد من مثل : «لا تصلّ فيما لا يؤكل» لا يجب إحرازه ، فيجوز أن يصلّي المصلّي في الثوبين المعلوم كون أحدهما ممّا لا يؤكل ، وما هو المستفاد من مثل قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» - حيث يستفاد منه الشرطية - يجب إحرازه ، فيجب أن يكرّر الوضوء بالماء المشتبه بالمضاف ، وأن يكرّر الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة لتحصيل الشرط .

وأمّا ما احتمل بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - من أنّ المحقّق قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة وبالعجز ، ثمّ استشكل عليه(2) فهو ساقط احتمالاً وإشكالاً :

أمّا احتمالاً : فلأنّ القياس المذكور لا يقتضي التفصيل الذي ذهب إليه المحقّق ؛ ضرورة أنّ العجز عن الشرط والمانع على حدّ سواء ، فإن كان الشرط والمانع على نحو الإطلاق - أي حتّى حال العجز - فلازمه سقوط التكليف عن المشروط والممنوع ، وإلاّ فلازمه سقوط الشرطية والمانعية .

وأمّا إشكالاً : فلأنّ محصّل إشكاله أنّ القدرة من شرائط ثبوت التكليف ،

ص: 257


1- اُنظر قوانين الاُصول 2 : 25 / السطر 3 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 280 ؛ أجود التقريرات 3 : 477.
2- فوائد الاُصول تقريرات المحقّق النائيني الكاظمي 4 : 135 .

والعلم من شرائط التنجيز ، وفيه ما مرّ سابقاً (1) من منع كون القدرة من شرائط التكليف ، بل حالها حال العلم ، ولهذا يجب الاحتياط عند الشكّ فيها .

وأمّا ما نسب المحقّق المعاصر رحمه الله علیه إلى الحلّي - من أنّ ذهابه إلى عدم وجوب الستر عند اشتباه اللباس ، لعلّه بدعوى سقوط الشرط عند عدم العلم به تفصيلاً ، فيأتي بالمشروط فاقداً للشرط(2) - فهو من غرائب الكلام ؛ فإنّ الحلّي رحمه الله علیه قد صرّح في «السرائر» بخلاف ذلك ، وجعل وجه ما ذهب إليه هو لزوم كون المكلّف عالماً بتحقّق الشرط عند إتيانه(3) .

التنبيه الثاني : في كيفية النيّة لو كان المعلوم بالإجمال أو المحتمل من العبادات

إذا كان المعلوم بالإجمال أو المحتمل من العبادات ، وقع النزاع في كيفية النيّة ، ففصّل الشيخ رحمه الله علیه بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم ، بكفاية مجرّد قصد احتمال المحبوبية والأمر في الشبهات البدوية ، فإنّه هو الذي يمكن في حقّه ، وعدم كفايته في المقرونة بالعلم ، بل لا بدّ من قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير .

قال : ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان

ص: 258


1- تقدّم في الصفحة 210 - 211 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 134 .
3- السرائر 1 : 184 - 185 .

بالمحتمل الآخر ؛ إذ مع عدم قصد ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، بل يكون قاصداً لامتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتيّ به ، وهذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر(1) .

وتنظّر فيه بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : بأنّ العلم بتعلّق الأمر بأحد المحتملين لا يوجب فرقاً في كيفية النية في الشبهات ؛ فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلاّ احتمالية كالشبهة البدوية ؛ إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتّى يقال : العلم بتعلّق التكليف بعمل واحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على تقدير تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، وإن كان متجرّياً في قصده عدم الامتثال على كلّ تقدير(2) ، انتهى .

أقول : أمّا قضيّة كيفية قصد الامتثال فلا ينبغي أن يستشكل في أنّ الداعي للإتيان بالمحتمل في الشبهة البدوية ليس إلاّ احتمال الأمر أو الأمر المحتمل ، وأمّا في الشبهة المقرونة بالعلم فالداعي ليس احتمال الأمر فقط ، بل الداعي بالنسبة إلى أصل الإتيان هو الأمر المعلوم ، لكن ينشأ من هذا الداعي داعٍ آخر لإتيان المحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه ، فالداعي الأوّل لإتيان المحتمل هو الأمر المعلوم ، والداعي الآخر المنشأ منه هو احتمال الانطباق ، فما أفاد الشيخ رحمه الله علیه - من أ نّه لا بدّ من قصد امتثال الأمر المعلوم - حقّ لو كان

ص: 259


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 303 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 136 - 137 .

مراده ذلك ، لكن مع توسّط قصد متعلّق بالطرف ؛ لاحتمال انطباق المعلوم عليه .

وما أفاد المحقّق المعاصر - من أ نّه لا يمكن للمكلّف أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي - غير تامّ؛ ضرورة أنّ الداعي للإتيان ليس إلاّ امتثال الأمر المعلوم في البين ، لكن لا يكفي هذا الداعي للتحريك نحو المحتمل ، بل لا بدّ من إرادة اُخرى منشأة منه ، وهذا بوجه نظير إرادة ذي المقدّمة التي يتولّد منها إرادة المقدّمات .

وأمّا ما أفاد الشيخ رحمه الله علیه - من أنّ إطاعة الأمر المعلوم تتوقّف على أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالمحتمل الآخر - فهو ممنوع ؛ لأنّ الداعي إلى إتيان أحد المحتملين ليس إلاّ إطاعة المولى ، فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره ، وكونه قاصداً لترك الإتيان بالمحتمل الآخر ومتجرّئاً بالنسبة إليه لا يضرّ بذلك ، فلا يتوقّف امتثال الأمر المعلوم على قصد امتثال كلا المشتبهين ، وهذا أيضاً واضح .

التنبيه الثالث : حكم ما لو كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً

لو كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً كالظهر والعصر المردّدين بين الجهات عند اشتباه القبلة ، هل يجب استيفاء جميع محتملات المترتّب عليه قبل الشروع في الآخر(1) ، أو يجوز الإتيان بهما مترتّبين إلى كلّ جهة ، فيجوز الإتيان

ص: 260


1- مسالك الأفهام 1 : 158 ؛ روض الجنان 2 : 524 ؛ راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 312 .

بظهر وعصر إلى جهة وظهر وعصر إلى الاُخرى وهكذا حتّى يستوفي جميع الجهات(1) ؟

اختار بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه أوّلهما - بناءً على ما قوّاه سابقاً من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي(2) - وأنّ فيما نحن فيه جهتين : إحداهما : إحراز القبلة ، فهو ممّا لا يمكن على الفرض ، والاُخرى : إحراز الترتيب بين الظهر والعصر ، وهو بمكان من الإمكان ، وذلك بإتيان جميع محتملات الظهر ، ثمّ الاشتغال بالعصر ، وعدم العلم حين إتيان كلّ عصر بأ نّه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر إنّما هو للجهل بالقبلة ، لا الجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه لا يوجب سقوطه في سائر الشروط مع الإمكان(3) . هذا حاصل ما ذكره .

وفيه : منع كبرى وصغرى :

أمّا ممنوعية الكبرى : فقد مرّ ذكره(4) من عدم طولية الامتثال الإجمالي بالنسبة إلى الامتثال التفصيلي ، فيجوز الاحتياط مع التمكّن من الاجتهاد والتقليد ، ويجوز الجمع بين المحتملات مع التمكّن من العلم ، ما لم ينجرّ إلى اللعب بأمر المولى ، ويكون فيه غرض عقلائي ، والشاهد عليه حكم العقل والعقلاء .

ص: 261


1- نهاية الإحكام 1 : 282 ؛ مدارك الأحكام 2 : 359 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 72 - 73 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 137 - 138 .
4- تقدّم في الجزء الأوّل : 141 .

وأمّا ممنوعية الصغرى : فلأنّ الإتيان بكلّ ظهر وعصر مترتّبين إلى كلّ جهة ممّا يكون فيه موافقة تفصيلية على تقدير ، وعدم الموافقة رأساً بالنسبة إلى الظهر والعصر على تقدير آخر ، وليس الأمر دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيلية حتّى يقال : إنّهما مترتّبتان ؛ فإنّ كلّ جهة إمّا تكون قبلة ، فيكون الظهر والعصر مترتّبين بحسب الواقع ، وإمّا لا تكون قبلة فلا يتحقّق ظهر ولا عصر ، ولا ترتيب بينهما حتّى يقال : إنّه موافقة إجمالية ، والعلم بحصول الترتيب بين الظهر والعصر حين الإتيان بهما لا يمكن على أيّ حال ، سواء أتى بجميع محتملات الظهر قبل العصر أو لا .

ولا يصغى إلى ما ادّعى رحمه الله علیه من أنّ ذلك إنّما هو من جهة الجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب ؛ ضرورة أنّ الترتيب إذا كان بين الظهر والعصر الواقعيين يكون مجهولاً عند الإتيان بكلّ عصر ؛ فإنّه لا يعلم المكلّف عند الإتيان به أ نّها صلاة واقعية عقيب الظهر ، بل يعلم إجمالاً أ نّها إمّا صلاة واقعية مترتّبة على الظهر ، وإمّا ليست بصلاة ، وهذا العلم حاصل عيناً فيما إذا أتى بكلّ ظهر وعصر مترتّبين إلى كلّ جهة ؛ فإنّه يعلم بأنّ العصر إمّا صلاة واقعية مترتّبة على الظهر ،

وإمّا ليس بصلاة ، وهذا من الوضوح بمكان .

ص: 262

المقام الثاني: دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين

قوله : «المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين . . .»(15) إلى آخره(1) .

ص: 263


1- واعلم أنّ الفرق بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين والارتباطيين ظاهر ، والفرق بينهما إنّما هو قبل تعلّق التكليف وفي مرتبة الغرض القائم بالموضوع ، فما قد يقال : إنّ الفرق إنّما هو بوحدة التكليف وكثرتهأ غير وجيه ، إلاّ أن يراد بيان فرق آخر غير مربوط بموضوع الأقلّ والأكثر . ثمّ إنّ محطّ البحث متقوّم بأخذ الأقلّ لا بشرط ، وإلاّ يرجع إلى المتباينين . وقد يتوهّم خروج ما دار الأمر بين الطبيعي والحصّة من موضوع البحث ، كتردّده بين وجوب إكرام الإنسان وإكرام زيد ، بدعوى أنّ الطبيعي - باعتبار قابليته للانطباق على حصّة اُخرى منه المباينة مع حصّة اُخرى - لا يكون محفوظاً بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر(ب) . وفيه : - مضافاً إلى أنّ ما سمّاه حصّة مخالف للاصطلاح - أنّ لازم ما ذكر خروج المطلق والمقيّد عن محطّ البحث بعين ما ذكر ؛ فإنّ المطلق لم يبق بإطلاقه في ضمن المقيّد . والتحقيق : أنّ خروج الطبيعي وفرده عن البحث لأجل أ نّه يشترط في باب الأقلّ والأكثر كون الأمر في الأكثر داعياً إلى الذات والقيد ؛ بحيث لو فرضنا الانحلال ينحلّ إلى الأمر بالذات والقيد ، والطبيعي والفرد ليسا كذلك عرفاً ، وإن انحلّ الفرد بالنظر الفلسفي إلى الذات والخصوصية ، فدوران الأمر بين الفرد والطبيعي والجنس ونوعه كالحيوان والإنسان خارج عن موضوع البحث . نعم ، لا يبعد دخول مثل الحيوان والحيوان الأبيض ؛ أي الطبيعي وحصّته ، في مورد البحث . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار3 : 373 . ب - نفس المصدر .

في جريان البراءة العقلية

تنقيح البحث يتوقّف على بيان مقدّمات :

الاُولى : أنّ وزان المركّبات الاعتبارية في عالم الاعتبار من بعض الجهات وزان المركّبات الحقيقية في الخارج ، فإنّ المركّب الحقيقي إنّما يحصل بعد كسر سورة الأجزاء بواسطة التفاعل الواقع بينها ، فتخرج من استقلال الوجود بواسطة الفعل والانفعال والكسر والانكسار ، وتحصل صورة مستقلّة اُخرى هي صورة المركّب ، فلها وجود ووحدة غير ما للأجزاء ، والمركّب الاعتباري أيضاً يحصل بكسر سورة الأجزاء في عالم الاعتبار ، وخروجها عن استقلال الوجود اللحاظي ، وفنائها في صورة المركّب ، وحصول الوحدة الاعتبارية كالوجود الاعتباري ، فما لم يحصل للمركّب صورة وحدانية في عالم الاعتبار لم يكن له وجود ؛ فإنّ ما لا وحدة له لا وجود له ، وإنّما تحصل الوحدة بذهاب حكم الأجزاء وحصول صورة اُخرى مجملة غير صورة الأجزاء ؛ أي المفصّلات .

الثانية : أنّ كيفية تحصّل المركّب في ذهن الآمر غالباً إنّما تكون عكس كيفية

ص: 264

إتيانه في الخارج ، بمعنى أنّ المكلّف إذا همّ بإتيان مركّب تتعلّق إرادته أوّلاً بوجوده الوحداني ، غافلاً عن أجزائه وشرائطه ، ثمّ ينتقل منه إليها ، وتتولّد إرادات اُخرى متعلّقة بها على وجه يحصل المركّب منها ، فإذا همّ بإتيان الصلاة تتعلّق إرادته أوّلاً بأصل طبيعتها من غير تعلّق بالأجزاء ، ويكون المحرّك للعبد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، ولمّا رأى أ نّها لا تحصل إلاّ بإتيان أجزائها وشرائطها على طبق المقرّر الشرعي تتولّد إرادات تبعية متعلّقة بها .

وأمّا الآمر إذا همّ بتعليق الأمر بالمركّب فلا بدّ له - غالباً - من تصوّر الأجزاء والشرائط أوّلاً مستقلاًّ ، ثمّ ترتيبها حسب ما تقتضي المصلحة والملاك النفس الأمريين ، ثمّ لحاظها على نعت الوحدة وإفناء الكثرات فيها ليحصل المركّب الاعتباري ، ثمّ يجعلها موضوعاً للأمر ومتعلّقاً للإرادة ، فالآمر ينتهي من الكثرة إلى الوحدة غالباً ، والمأمور من الوحدة إلى الكثرة(1) .

ص: 265


1- ثمّ إنّ الصور في المركّبات الاعتبارية غير مغايرة للأجزاء بالأسر ، بل هي هي ، والاختلاف بينهما بالوحدة والكثرة ، فلا تكون صور المركّبات بالنسبة إلى أجزائها كالمحصَّل والمحصِّل ؛ ضرورة أنّ الأمر لم يتعلّق بأمر خارج من الأجزاء تكون هي محصّلة له ، فالأمر بالعشرة عين الأمر بالوحدات في لحاظ الكثرة . وبالجملة : الفرق بينهما بالوحدة والكثرة والإجمال والتفصيل ، لا بالمحصِّلية والمحصَّلية . ولا يذهب عليك عدم تنافي ما ذكرناه هاهنا لما ذكرناه في بحث المقدّمة من إسراء النزاع إلى الأجزاءأ ، فتدبّر تعرف . وإن شئت فاجعل هذا مقدّمة اُخرى للمقصود . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 1 : 266 .

الثالثة : أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب واحد متعلّق بواحد ، وليست الأجزاء متعلّقة للأمر ؛ لعدم شيئية لها في لحاظ الآمر عند لحاظ المركّب ، ولا يرى عند البعث إليه إلاّ صورة وحدانية هي صورة المركّب فانياً فيها الأجزاء ، فهي تكون مغفولاً عنها ، ولا تكون متعلّقة للأمر أصلاً ، فالآمر لا يرى في تلك الملاحظة إلاّ أمراً واحداً ، ولا يأمر إلاّ بأمر واحد ، لكن هذا الأمر الوحداني يكون داعياً إلى إتيان الأجزاء بعين داعويته للمركّب وحجّة عليها بعين حجّيته عليه ؛ لكون المركّب هو الأجزاء في لحاظ الوحدة والاضمحلال(1) والأجزاء هو المركّب .

فلكون المركّب يتركّب من الأجزاء وينحلّ إليها يكون الأمر به حجّة عليها لا بحجّية مستقلّة ، وداعياً إليها لا بداعوية على حدة(2) .

الرابعة : أنّ الحجّة على المركّب إنّما تكون حجّة على الأجزاء ، والأمر المتعلّق به إنّما يكون داعياً إليها إذا قامت الحجّة على كون المركّب متركّباً من الأجزاء الكذائية ومنحلاًّ إليها ، وأمّا مع عدم قيام الحجّة عليه فلا يمكن أن يكون الأمر به حجّة عليها وداعياً إليها ، فمع الشكّ في جزئية شيء للمركّب لا يكون

ص: 266


1- بنحو ، وهذا لا ينافي ما ذكرنا في مبحث مقدّمة الواجبأ من أنّ كلّ جزء مقدّمة، وهو غير الكلّ ، وفيه مناط المقدّمية ، فلا تغفل . [منه قدس سره] أ - راجع مناهج الوصول 1 : 266 .
2- ومن ذلك ينبغي أن يقال : إنّ عقد البحث بأنّ الواجب يتردّد بين الأقلّ والأكثر لا يخلو من مسامحة ؛ لأنّ الأمر متعلّق بالصورة الوحدانية ، وفي هذا اللحاظ لا أقلّ ولا أكثر في البين ، وإنّما الدوران في صورة لحاظ الكثرة وباعتبار الانحلال ، والأمر سهل . [منه قدس سره]

الأمر المتعلّق به حجّة عليه ؛ ضرورة أنّ تمامية الحجّة إنّما تكون بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر بالمركّب إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم بتركّب المركّب منها ؛ لما عرفت من أنّ سرّ داعوية الأمر المتعلّق به للأجزاء ليس إلاّ كونه منحلاًّ

إليها ومتركّباً منها ، فمع الشكّ في دخالة شيء في المركّب واعتباره فيه عند ترتيب أجزائه ، لا يكون الأمر بالمركّب حجّة عليه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الأصل العقلي في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين هو البراءة ، فإذا اجتهد العبد في تحصيل العلم بأجزاء المركّب ، وبذل جهده في التفحّص عن الأدلّة بمقدار ميسوره ، وقامت الحجّة على عدّة أجزاء للمركّب ، وعلم أنّ المولى قد أخذها فيه قطعاً ، وشكّ في اعتبار شيء آخر جزءاً ، فأتى بما قامت الحجّة عليه ، وترك غيرها ممّا هو مشكوك فيه ، لا يعدّ عاصياً ، ويكون العقاب على تركه بلا بيان ولا برهان .

الإشكالات السبعة على جريان البراءة عن الأكثر ودفعها

اشارة

نعم ، هاهنا إشكالات لا بدّ من التفصّي عنها لتحقيق المقام :

الإشكال الأوّل :

أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر حجّة على التكليف ومنجّز له ، ولا بدّ من الاحتياط بإتيان الجزء المشكوك فيه ، ولا ينحلّ هذا العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقلّ والشكّ في الأكثر ؛ لتردّد وجوبه بين المتباينين ، فإنّه لا إشكال في مباينة المهية بشرط شيء للمهية لا بشرط ؛ لكونهما قسيمين ، فلو

ص: 267

كان متعلّق التكليف هو الأقلّ فالتكليف به إنّما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان الأكثر فالتكليف بالأقلّ يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقلّ يكون مردّداً بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط شيء أو بشرطه .

كما أنّ امتثاله يكون مختلفاً أيضاً حسب اختلاف الوجوب ، فإنّ امتثال الأقلّ إنّما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظاً بشرط شيء ؛ بخلاف ما إذا كان ملحوظاً لا بشرط ، فيرجع الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين إلى الشكّ بين المتباينين تكليفاً وامتثالاً(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ التكليف لم يكن ملحوظاً لا بشرط أو بشرط شيء ، بل اللا بشرطية أو بشرط الشيئية - لو كانتا - إنّما هما في متعلّق التكليف لا نفسه ، فلا يخلو ما أفاده من سوء التعبير .

وثانياً : أنّ متعلّق التكليف أيضاً لم يكن من قبيل المهية لا بشرط شيء وبشرطه ؛ فإنّ التكليف لم يكن مردّداً بين تعلّقه بالأقلّ لا بشرط انضمامه مع الزيادة ، أو بشرط الانضمام بحيث يكون الأقلّ متعلّقاً له والزيادة من قبيل الشرائط ؛ فإنّ الأجزاء كلّها في رتبة واحدة لا يكون بعضها جزءاً وبعضها شرط الجزء ، بل الأمر دائر بين تعلّق التكليف بالأقلّ - أي المركّب المنحلّ إليه - أو الأكثر - أي المركّب المنحلّ إليه - ولا تكون الأجزاء متعلّقة للتكليف بما أ نّها

ص: 268


1- هذا ما نسبه المحقّق النائيني قدس سره إلى صاحب الحاشية ، والظاهر أنّ هذا الإشكال غير ما ذكره صاحب الحاشية . اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 152 ؛ هداية المسترشدين 3 : 563 .

أجزاء ، كما عرفت في كيفية تعلّقه بالمركّبات(1) .

وثالثاً : أنّ الأقلّ اللا بشرط أو التكليف الذي هو اللا بشرط - بتعبيره - لم يكن مبايناً لما هو بشرط الشيء ؛ فإنّ معنى كون الأقلّ لا بشرط أنّ الملحوظ نفس الأقلّ من غير لحاظ انضمام شيء معه ، لا كون عدم لحاظ شيء معه ملحوظاً حتّى يصير متبايناً مع الملحوظ بشرط شيء ، ومعلوم أنّ نفس الأقلّ مع الأقلّ بشرط شيء لم يكونا متباينين ، فيكون الأقلّ متيقّناً ، والزيادة مشكوكاً فيها ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الزيادة .

هذا ، لكنّ التحقيق - كما عرفت - أنّ الأجزاء لم تكن متعلّقة للتكليف بل متعلّقه واحد هو المركّب في نعت الوحدة ، كما أنّ نفسه واحد ، لكنّه حجّة على الأجزاء المعلومة الاعتبار فيه ، ولا يكون حجّة على الزيادة المشكوك فيها .

ورابعاً : لازم كون الأقلّ والأكثر من قبيل المتباينين لزوم إتيان الأقلّ منفصلاً عن الأكثر ، لا منضمّاً إليه ، فيجب الإتيان بالصلاة مرّة مع الزيادة ، ومرّة بغيرها؛ لأنّ المتباينين غير ممكني الاجتماع في التحقّق والامتثال ، مع أنّ القائل لم يلتزم به ، هذا .

وأجاب عن الشبهة بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : بأنّ المهية لا بشرط والمهية بشرط شيء ليستا من المتباينين اللذين لا جامع بينهما ؛ فإنّ التقابل بينهما ليس تقابل التضادّ ، بل من تقابل العدم والملكة ، فإنّ المهية لا بشرط ليس معناها

ص: 269


1- تقدّم في الصفحة 266 .

لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيداً للمهية ؛ وإلاّ رجعت إلى المهية بشرط لا ويلزم تداخل أقسامها ، بل المهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها ، ومن هنا قلنا : إنّ الإطلاق ليس أمراً وجودياً ، بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد ، فالمهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة مع المهية بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع ، بل يجمعهما نفس المهية ، والتقابل بينهما بمجرّد الاعتبار واللحاظ . ففيما نحن فيه يكون الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال - سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء - فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقلّ من كونه متيقّن الاعتبار(1) ، انتهى .

وفيه : أنّ المهية لا بشرط - أي التي لم يلحظ معها شيء - هي المهية المقسمية التي هي نفس المهية ، ولا يعقل الجامع بين المهية الكذائية وغيرها ، ونفس ذات المهية عبارة اُخرى عن المهية التي لم يلحظ معها شيء بنحو السلب البسيط ، لا الإيجاب العدولي ، وأقسام المهية - أي بشرط شيء ، وبشرط لا ، ولا بشرط - من الاعتبارات الواردة على نفس المهية ، وتكون تلك الأقسام متقوّمة بالاعتبار الذهني ، وليس لها وجود في الخارج حتّى المهية بشرط شيء ؛ فإنّ المهية الملحوظة بشرط شيء إنّما تتقوّم باللحاظ .

وما قيل : إنّ اللحاظ حرفي لا اسمي ، أو إنّ هذه الاعتبارات مصحّحة لموضوعية الموضوع على الوجه المطلوب لا أ نّها مأخوذة فيه(2) ، ممّا لا ينبغي

ص: 270


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 154 .
2- نهاية الدراية 2 : 493 .

أن يصغى إليه ؛ فإنّ تحصّل الأقسام الثلاثة للمهية ليس إلاّ بتلك الاعتبارات ،وهذه الاعتبارات مقوّمة للأقسام ، وما هو موجود في الخارج لم يكن إلاّ نفس المهية ، لا المهية بشرط الوجود التي هي إحدى أقسامها واعتباراتها ، وإنّما خرجت المهية عن كونها من حيث هي بالوجود لا قبله ، كما أنّ الاعتبارات الملحقة بالمهية تخرجها عن كونها من حيث هي ، لا أ نّها خرجت عن نفس كونها مهية من حيث هي قبل الاعتبارات ، وتكون هي واردة على المهية الملحوظة بالقياس إلى أمر خارج عن ذاتها ، كما ذهب إليه بعض أعاظم فنّ المعقول(1) على ما قيل ، وتبعه بعض محقّقي محشّي الكفاية(2) ممّن له حظّ من هذا الفنّ .

وبالجملة : أنّ المهية لا بشرط شيء - التي هي مقسم الاعتبارات - إنّما هي نفس المهية من غير لحاظ شيء معها ، ولحوق الاعتبارات الثلاثة بها يجعلها أقساماً ، وهي متقوّمة بالاعتبار ، لا يمكن انسلاخ الاعتبار عنها وبقاؤها على تقرّر القسمية ؛ ولهذا لا تكون الأقسام موجودة في الخارج ، والموجودات الخارجية مصداق نفس المهية لا المهية بشرط شيء ، وإن ذهب إليه بعض المحقّقين من أهل المعقول ، واستدلّ على موجودية المهية : بأنّ المهية التي بشرط شيء موجودة ، والمقسم هو القسم ، فالمقسم موجود(3) ، لكنّه خلاف التحقيق ، كما لا يخفى على المتأ مّل الدقيق .

ص: 271


1- شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 339 .
2- نهاية الدراية 2 : 490 .
3- شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 345 .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ نفس المهية ليست جامعة للمهية بشرط شيء والمهية لا بشرط ؛ أي التي لم تلحظ معها شيء ولم تتقيّد بشيء ، وإنّما تكون جامعة للمهية بشرط شيء واللا بشرط ؛ أي التي تلحظ متقيّدة باللا بشرطية ومتقوّمة بها ، فالمهية اللا بشرط بالمعنى الأوّل ليست متقابلة مع المهية بشرط شيء بنحو من التقابل ، لا العدم والملكة ولا غيره ، فما أفاده - من تقابلهما بنحو العدم والملكة - ليس بشيء ، مع أنّ المتقابلين بنحو التضادّ أيضاً يكون لهما جامع جنسي ، كالبياض والسواد الداخلين تحت مطلق اللون .

مضافاً إلى أنّ مجرّد وجود الجامع بينهما لا يوجب سقوط الاحتياط إذا كان بين المتعلّقين تباين ولو بنحو العدم والملكة ؛ ألا ترى أ نّه لو علم إجمالاً بوجوب إكرام أحد مردّد بين كونه كوسجاً أو ملتحياً يجب الاحتياط عقلاً ، ولكن لو علم بوجوب إكرام أحد مردّد بين مطلق الإنسان والإنسان الرومي ، لا يجب إلاّ إكرام إنسان واحد رومياً كان أو غيره ؛ لعدم التقابل بينهما ، وعدم كون المتعلّق مردّداً بين المتباينين(1) .

ص: 272


1- ثمّ اعلم : أنّ ما ذكرنا في المقام في تقسيم اللا بشرط إلى الأقسام وكيفيته ، إنّما هو موافق لظاهر كلام القوم والمشهور بينهم ، وأمّا التحقيق عندنا فغير ذلك ، وقد ذكرنا نبذة ممّا هو التحقيق في باب المطلق والمقيّدأ ، وبعض موارد اُخر في مباحث الألفاظ(ب) ، فراجع تجد الحقّ . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 2 : 281 - 284 . ب - مناهج الوصول 1 : 165 .

الإشكال الثاني :

أن يقال أيضاً : إنّ متعلّق التكليف في باب الأقلّ والأكثر مردّد بين المتباينين ، فإنّ المركّب الملتئم من الأقلّ له صورة وحدانية غير صورة المركّب الملتئم من الأكثر ، فهما صورتان وحدانيتان متباينتان ، ويكون التكليف مردّداً بين تعلّقه بهذا أو ذاك ، فلا بدّ من الاحتياط .

وفيه : أنّ ما ذكرنا (1) في كيفية تركيب المركّبات الاعتبارية - من أنّ الأجزاء في لحاظ الوحدة مركّب - ليس المقصود منه أنّ المركّب الاعتباري له صورة اُخرى وحدانية تكون تلك الصورة نسبتها إلى الأجزاء نسبة المتحصّل إلى المحصّل ، ويكون الأمر متعلّقاً بالصورة التي هي حقيقة اُخرى وراء الأجزاء ؛ حتّى يكون المتحصّل من عدّة أجزاء غير المتحصّل من عدّة اُخرى أكثر ، بل ليس للمركّب تحصّل إلاّ تحصّل الأجزاء ، فهو هي ، وهي هو ، لكنّ العقل قد يرى الأجزاء في لحاظ الوحدة ، وقد يرى الكثرات ، واختلاف ملاحظة العقل لا يوجب اختلافاً جوهرياً في الملحوظ .

وبالجملة : ليس الاختلاف بين الأقلّ والأكثر إلاّ بالأقلّية والأكثرية لا غير ، فهما مشتركان في عدّة أجزاء وممتازان في بعض أجزاء اُخر ، وليس اختلافهما في الأجزاء الداخلة في الأقلّ ، بل في الزيادة ، ومجرّد لحاظ العقل للأجزاء بنحو الوحدة لا يوجب تباين الملحوظ لملحوظ آخر .

وإن شئت قلت : لا إشكال في أنّ الحجّة قائمة على وجوب إتيان الأقلّ ،

ص: 273


1- تقدّم في الصفحة 264 .

والزيادة مشكوك فيها لم تقم حجّة عليها .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ما ذكرت من إيجاب تباين الصورتين للاحتياط لازمه تكرار المركّب بإتيانه تارةً في صورة الأقلّ ، وتارةً في صورة الأكثر ، ولا يكاد يكفي إتيان الأكثر ، كما لا يخفى .

الإشكال الثالث :

أن يقال : إنّ وجوب الأقلّ دائر بين كونه نفسياً أصلياً توجب مخالفته العقاب ، وبين كونه نفسياً ضمنياً لا يعاقب على تركه؛ فإنّ العقاب إنّما هو على ترك الواجب الأصلي لا الضمني ، فلا يحكم العقل بلزوم إتيان الأقلّ على أيّ تقدير ، بل يكون أمره من هذه الجهة كالمردّد بين الواجب والمستحبّ ، فإذا لم يحكم العقل بوجوب إتيانه كذلك فلا ينحلّ به العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الخروج عن عهدته بضمّ الزيادة إليه .

والجواب عنه : أوّلاً : أنّ ترك المركّب الذي هو واجب أصلي إنّما هو بترك كلّ واحد من الأجزاء أو جميعها ، لا بمعنى أنّ للمركّب تروكاً ؛ لأنّ نقيض الواحد لا يمكن أن يكون إلاّ واحداً ، بل بمعنى أنّ المركّب له ترك واحد هو عدمه ، وهو كما يتحقّق بعدم الإتيان به رأساً يتحقّق بعين عدم الإتيان بكلّ جزء أو شرط منه ، فعدم الحمد عين عدم الصلاة ، وعدم السورة كذلك ، وهكذا .

فحينئذٍ إذا ترك المكلّف المركّب رأساً ، أو ترك الأجزاء المعلومة منه - أي الأقلّ - فقد ترك بعين تركه أو تركها المأمور به من غير عذر ، فيكون معاقباً على ترك المأمور به بلا عذر ، وأمّا لو أتى بالأقلّ المعلوم وترك الزيادة بعد الفحص

ص: 274

والاجتهاد وعدم العثور [على بيان] بكونها جزءاً ، فقد ترك المأمور به عن عذر .

ففي كلتا الصورتين يكون المكلّف تاركاً للمركّب المأمور به ، لكنّ الفرق بينهما : أ نّه في الاُولى يكون تركه عصياناً للمولى ؛ لأنّ تركه للأجزاء عين ترك المأمور [به ]سواء كان الأقلّ أو الأكثر ، فيكون معاقباً على ترك المأمور به بلا عذر وإن كان هو الأكثر ؛ لأنّ ترك الأكثر عين ترك الأجزاء . وأمّا في الثانية فلا يكون تركه عصياناً للمولى ؛ فإنّه عن عذر ، فالأقلّ واجب الإتيان بحكم العقل على كلّ حال ، والزائد مشكوك فيه .

وثانياً : أنّ مستند حكم العقل بالبراءة - فيما يحكم بها - هو القطع بالمؤمّن ، وهو لا يكون إلاّ في مورد يحكم بأنّ العقاب قبيح ، والقبيح ممتنع على اللّه تعالى ، فالعقاب ممتنع عليه ، وتمام الموضوع لحكم العقل بالاحتياط هو احتمال العقاب وعدم المؤمّن القطعي ولو كان الاحتمال ضعيفاً ، ولو كان التكليف مردّداً بين كونه ممّا يعاقب عليه أو لا ، لحكم العقل بلزوم الاحتياط .

وليعلم : أنّ ما يصحّح العقوبة ويخرجها عن كونها بلا بيان هو بيان الأحكام ، لا بيان العقوبة عليها ، فإذا بيّن المولى حكم الخمر بأ نّه محرّم يكون العقاب على ارتكابه مع البيان ، ولو احتمل العبد أنّ المولى لا يعاقبه عليه ، فالشكّ في العقوبة لا يكون مؤمّناً بعد بيان التكليف .

ألا ترى : أ نّه لو شكّ العبد في أنّ المحرّم الكذائي هل هو موجب للعقوبة الشديدة أو الضعيفة ، فارتكبه فصادف كونه ممّا يوجب العقوبة الشديدة ، لم يكن له عذر ، ويكون العقاب عليه مع البيان ؛ لأنّ المولى ليس له إلاّ بيان الحكم لا العقوبة عليه .

ص: 275

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ التكليف بالمركّب - كما عرفت(1) - عين التكليف بالأجزاء ، فالأقلّ يكون متعلّقاً للأمر بعين تعلّقه بالمركّب ، لكنّ أمره دائر بين كونه تكليفاً نفسياً أصلياً - أي كونه تمام المركّب حتّى يكون العبد معاقباً على تركه - أو كونه ضمنياً ويكون المركّب هو الأكثر ، ولا يكون معاقباً على ترك الأقلّ ، ففي مثله يحكم العقل بلزوم إتيانه ؛ لأ نّه لو صادف كونه تمام المركّب فلا يكون العقاب عليه بلا بيان؛ فإنّ ما لزم على المولى هو بيان التكليف الإلزامي، والفرض أ نّه بيّنه ، وليس عليه بيان كون الواجب ممّا في تركه عقوبة أو لا ، فإذا أمر المولى بالصلاة، وعلم العبد أنّ الأجزاء الكذائية مأمور بها بعين الأمر بالصلاة، فترك الصلاة فصادف كون تلك الأجزاء تمام حقيقة الصلاة ، يكون العقاب عليها مع البيان ، فإذا حكم العقل بلزوم إتيان الأقلّ وشكّ في الزيادة ينحلّ العلم .

ولعمري : إنّ انحلال العلم في المقام ممّا ينبغي أن يعدّ من الضروريات؛ لأنّ كون الأقلّ واجباً تفصيلياً ممّا هو واضح ، ولا يعقل أن يكون شيء واجباً تفصيلياً وطرفاً للعلم الإجمالي ، ولا ينبغي أن يصغى إلى ما قيل : إنّ تفصيله عين إجماله ؛ فإنّه كلام شعري ، وإن صدر عن بعض الأعاظم رحمه الله علیه (2) .

الإشكال الرابع :

ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - وهو أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ؛ ضرورة أنّ العلم بالاشتغال

ص: 276


1- تقدّم في الصفحة 266 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 160 .

يستدعي العلم بالفراغ ؛ لتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً ، ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه ، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتيّ به ، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان .

ففيما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً ؛ لأ نّه يشكّ معه في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصية الزائدة المشكوكة ، والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ؛ لأ نّه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسه(1) ، انتهى .

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ الاشتغال اليقيني وإن استدعى البراءة اليقينية ، لكن ثبوت الاشتغال إنّما هو بمقدار تمامية الحجّة والعلم بالتكليف ، ولا إشكال في أنّ الحجّة لا تكون قائمة إلاّ على وجوب الأقلّ ، وأمّا الزيادة فليست إلاّ مشكوكاً فيها بالشكّ البدوي ؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ الأقلّ واجب ؛ لأنّ الأكثر ليس إلاّ الأقلّ والزيادة ، ولا يفترق حال الأقلّ بالنسبة إلى تعلّق أصل التكليف به ، ضمّ إليه الزيادة أو لم تضمّ .

وبالجملة : القطع التفصيلي من غير دخول الإجمال والاحتمال حاصل بالنسبة إلى وجوب الأجزاء التي يعلم انحلال المركّب إليها ، وإنّما الشكّ في أنّ

ص: 277


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 159 .

الجزء الزائد هل يكون دخيلاً فيه حتّى يكون متعلّق التكليف بعين تعلّقه بالمركّب أم لا ؟ فلا يكون هذا إلاّ الشكّ الساذج ، كما لا يكون ما تعلّق بسائر الأجزاء المعلومة إلاّ العلم التفصيلي الساذج .

وما ادّعى - من أنّ الأقلّ المردّد بين لا بشرط وبشرط شيء هو عين العلم الإجمالي ، فيلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسه - واضح البطلان ؛ لأنّ الأقلّ متعلّق للعلم التفصيلي ليس إلاّ ، والشكّ إنّما هو في الزيادة ، لا في مقدار الأقلّ .

وإن شئت قلت : إنّ تعلّق العلم الإجمالي بالأقلّ والأكثر لا يعقل ؛ لامتناع أن يكون ما به الاشتراك بينهما طرفاً لما به الامتياز ، فما به الاشتراك مختصّ بتعلّق العلم التفصيلي ، وما به الامتياز مشكوك فيه ليس إلاّ ، فلا يكون في البين علم إجمالي من رأس ، لا أنّ العلم الإجمالي يكون متحقّقاً فانحلّ ، كما في قيام الأمارة مثلاً بأحد الأطراف .

ثمّ إنّه قدّس سرّه قرّب مدّعاه بتقريب آخر حاصله : أنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط ، وإن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ؛ للجهل بتعلّق التكليف به ، إلاّ أنّ هناك جهة اُخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلّقه بها ، وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقلّ ؛ فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز ؛ فإنّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف

ص: 278

المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلا بدّ من ضمّ الخصوصية الزائدة(1) ، انتهى موضع الحاجة .

وفيه : أ نّه بعد الاعتراف بأنّ الخصوصية مشكوك فيها لا يكون العقاب عليها إلاّ عقاباً بلا بيان ، لا وقع لدعوى العلم الإجمالي المنجّز ، واحتمال الارتباطية والقيدية أيضاً من القيود الزائدة المشكوك فيها ، ولا تكون الحجّة قائمة بالنسبة إليها .

وبالجملة : لا فرق بين الجزء الزائد وحيثية الارتباطية في جريان البراءة العقلية ، وليس معنى البراءة العقلية هو رفع التكليف حتّى يقال : إنّه ليس من وظيفة العقل ، بل كما أنّ العقل يحكم بأنّ العقاب على الجزء الزائد بلا برهان - كما اعترف به ، وجرى الحقّ على لسانه - كذلك يحكم بأنّ العقاب على الارتباطية بلا برهان بعد تعلّق العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ من غير كون الخصوصية متعلّقة للعلم ، بل تكون مشكوكاً فيها بالشكّ البدوي .

ولعمري : إنّ بين صدر كلامه وذيله مناقضة ظاهرة ، تدبّر فيها لعلّك تجد مفرّاً منها .

وهاهنا تقرير ثالث للاشتغال : وهو أنّ الأقلّ معلوم الوجوب بالضرورة ، ومع إتيانه يشكّ في البراءة عن هذا التكليف المعلوم ؛ لأنّ الأكثر لو كان واجباً لا يسقط التكليف المتوجّه إلى الأقلّ بإتيانه بلا ضمّ القيد الزائد ، فلا بدّ للعلم بحصول الفراغ من ضمّه إليه(2) .

ص: 279


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 161 .
2- اُنظر نهاية الأفكار 3 : 387 - 388 ؛ الفصول الغروية : 357 / السطر 11 .

وفيه : أنّ الأقلّ لا يكون واجباً مستقلاًّ ، بل هو واجب بعين وجوب المركّب ؛ بمعنى أنّ الوجوب المتعلّق به يكون حجّة على الأقلّ بلا إشكال وريب ، فحينئذٍ نقول : ما قامت الحجّة عليه - وهو الأقلّ - يكون المكلّف آتياً به ، وما تركه لم تقم الحجّة عليه ، وليست نسبة الأجزاء إلى المركّب نسبة المحصّل إلى المتحصّل منه ، بل المركّب عين الأجزاء ، وقيام الحجّة عليه عين قيام الحجّة عليها فيما كانت الأجزاء معلومة .

وبالجملة : لا يعقل داعوية الأمر بالمركّب بالنسبة إلى أجزائه مرّتين ، فالمكلّف إذا جدّ جهده في الفحص عن أجزاء المركّب ، وأتى بما هو معلوم وترك ما هو مشكوك فيه ، يكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان .

وإن شئت قلت : بعد الإتيان بالأقلّ لا يكون الأمر داعياً إليه ، وما لم يأت به يكون مشكوكاً فيه ، فلا دعوة للأمر بالنسبة إليه رأساً .

الإشكال الخامس :

ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : وهو دعوى تحقّق العلم الإجمالي وامتناع الانحلال :

إمّا للزوم الخُلف ، وتقريره : أنّ تنجّز التكليف مع تعلّقه بالأكثر لا بدّ وأن يكون مفروضاً حتّى لزم الأقلّ فعلاً على أيّ تقدير إمّا لنفسه أو لغيره ؛ لأ نّه مع عدم مفروضية تنجّزه لا يعقل العلم بفعلية التكليف بالنسبة إلى الأقلّ على أيّ تقدير ، فإنّ أحد التقديرين كونه مقدّمة للأكثر ، فلو لزم من فعلية التكليف بالأقلّ عدم تنجّز الأكثر كان خلف الفرض .

ص: 280

وإمّا للزوم كون وجود الانحلال مستلزماً لعدمه ، وتقريره : أنّ لازم الانحلال عدم تنجّز التكليف على أيّ تقدير ؛ أي على تقدير تعلّقه بالأكثر ، وعدمُ تنجّز التكليف على أيّ تقدير مستلزم لعدم لزوم الأقلّ على أيّ تقدير ، وهو مستلزم لعدم الانحلال ، فلزم من وجود الانحلال عدمه ، وهو محال ، فالعلم الإجمالي منجّز بلا كلام ولا إشكال(1) .

وفيه : أنّ منشأ الإشكالين إنّما هو توهّم الوجوب الغيري المقدّمي للأقلّ الناشئ من الأكثر ، ومعه لا مناص عن الإشكال ، فإنّ المقدّمة في الوجوب وتنجّزه تابعة لذيها ، ولا يعقل تنجّزه بالنسبة إليها مع عدم تنجّزه بالنسبة إليه ؛ لأنّ العلم بالتكليف الفعلي موجب للتنجّز سواء كان العلم إجمالياً أو تفصيلياً ، والعلم بالتكليف الفعلي للأقلّ على أيّ تقدير لا يمكن إلاّ مع العلم بفعلية التكليف على تقدير كون الأكثر واجباً ، ومعه يكون التكليف منجّزاً على تقدير تعلّقه بالأكثر للعلم الإجمالي ، وهو موجب لعدم الانحلال إلاّ على الوجه المحال .

وبالجملة : لا مناص عن الإشكال بعد تسليم كون وجوب الأجزاء مقدّمياً ، فما تفصّى عنه بعض أعاظم العصر على ما في تقريراته - بقوله : ثانياً . . .(2) ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه .

ولكن كون وجوبها مقدّمياً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بالمركّب ، محلّ منع

ص: 281


1- كفاية الاُصول : 413 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 158 .

كما عرفت(1) واعترف رحمه الله علیه به في غير المقام(2) .

ومع كون الأجزاء واجبة بعين وجوب الكلّ ، لا يتوقّف وجوب الأقلّ على تنجّز الأكثر ؛ فإنّ الأمر بالمركّب معلوم ، وهو أمر بالأجزاء المعلومة ؛ أي ينحلّ المركّب الذي تنجّز الأمر بالنسبة إليه إلى الأجزاء المعلومة بلا إشكال ؛ سواء كان الجزء الآخر واجباً أو غير واجب ، فتنجّز الأمر بالأقلّ عين تنجّز الأمر بالمركّب ، ولا يتوقّف وجوبه على وجوب شيء آخر ، فلا إشكال في وجوب الأقلّ على أيّ تقدير ؛ أي كان المركّب منحلاًّ إلى تلك الأجزاء فقط أو إليها وإلى أمر آخر .

الإشكال السادس :

ما أورده العلاّمة الأنصاري وأجاب عنه(3) - وتوهّم وروده المحقّق الخراساني وردّ جوابه(4) - وهو أنّ المشهور بين العدلية(5) أنّ الأوامر والنواهي تابعة لمصالح ومفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، وأنّ الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، وهذه العناوين النفس الأمرية ؛ أي المصلحة واللطف :

ص: 282


1- تقدّم في الصفحة 280 .
2- كفاية الاُصول : 115 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 319 .
4- كفاية الاُصول : 414 .
5- كشف المراد : 306 ؛ شرح المقاصد 4 : 301 - 306 ؛ شرح المواقف 8 : 202 .

إمّا هي المأمور بها بالأمر النفسي ، وتعلّق الأوامر بما تعلّقت بها ظاهراً ، كالصلاة والصوم والحجّ وأمثالها لأجل كونها محصّلات للمأمور بها النفس الأمرية ، وأنّ الأوامر إرشادية محضة ، أرشد المولى إليها ؛ لعدم علم العباد بكيفية تحصيل متعلّقات الأوامر الواقعية ، ولو اطّلع العقل على تلك المصالح وهذه المحصّلات لَحكمَ بلزوم إتيانها ، فالمصالح والألطاف هي المأمور بها بالأمر النفسي ، ومتعلّقات التكاليف في ظاهر الشرع هي المحصّلات ، وأوامرها إرشادية مقدّمية ، ومعلوم أنّه مع الشكّ في المحصّل يكون الاحتياط محكّماً .

وإمّا تكون تلك المصالح والألطاف من قبيل الأغراض الداعية إلى الأوامر ، ولا يحرز الغرض إلاّ بإتيان الأكثر .

وإن شئت قلت : إنّ تحصيل الغرض علّة تامّة لتعلّق التكليف بتلك المتعلّقات ، والأشياء ذوات العلل كما لا يمكن وجودها إلاّ بعللها لا يمكن انعدامها إلاّ بانعدامها ، فلا بدّ في سقوط الأوامر من سقوط الأغراض الداعية إليها ، فلا بدّ في إحراز سقوطها من إحراز حصولها ، فمع إتيان الأقلّ يشكّ في إحراز المصالح ، فيشكّ في سقوط الأوامر ، فمع العلم بالثبوت لا بدّ من العلم بالسقوط ، وهو لا يحصل إلاّ بإتيان الأكثر .

والفرق بين الأوّل والثاني ممّا لا يكاد يخفى ؛ فإنّ محصَّل الأوّل : أنّ المأمور بها بالأوامر النفسية هي المصالح والألطاف ، ومحصَّل الثاني : أنّ الأوامر النفسية هي التي تعلّقت بالمتعلّقات في ظاهر الشرع ، لكنّها لأجل ترتّب آثار وحصول مصالح وألطاف ، فما لم تحصل تلك الأغراض لا تسقط الأوامر . وهذا الثاني هو الموافق لما في «الكفاية» ، لكنّ العلاّمة الأنصاري قرّر الإشكال بكلا التقريرين .

ص: 283

ولا يخفى على المتأ مّل أنّ ما ذكرنا هو الموافق تقريباً لما أفاده الشيخ رحمه الله علیه بتقريب وتوضيح منّا؛ ضرورة أنّ قوله : «فاللطف إمّا هو المأمور به حقيقة ، أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف» وقوله قبيل ذلك : «كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ؛ بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أ نّه الغرض من المأمور به»(1) ظاهر بل كالنصّ في أنّ ما هو المأمور به في الشقّ الأوّل هو الغرض من الأمر في الشقّ الثاني .

وبذلك ظهر فساد ما زعم بعض أعاظم العصر : أنّ مراده لا يكون مصلحة الحكم وملاكه ، بل المراد منه التعبّد بالأمر وقصد امتثاله ، ثمّ فصّل في أطراف هذا الاشتباه تفصيلاً وتطويلاً لا يخلو من غرابة(2) ، وسيأتي - إن شاء اللّه - التعرّض لبعض كلامه .

وكيف كان ، فالجواب عن الأوّل :

أمّا أوّلاً : فإنّ مسألة كون الأوامر والنواهي تابعة لمصالح ومفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها شعبة من المسألة الكلامية المعروفة : من أ نّه تعالى يفعل لغرض ، ويمتنع عليه تعالى الإرادة الجزافية ؛ للزوم العبث في فعله والظلم على العباد في تكليفه ، فالأوامر والنواهي لكونها من الأفعال الاختيارية للّه تعالى لا بدّ لها من غرض وغاية ، في مقابل الأشاعرة النافين للأغراض والغايات في مطلق أفعاله(3) .

ص: 284


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 319 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 171 .
3- كشف المراد : 306 ؛ شرح المواقف 8 : 202 ؛ شرح المقاصد 4 : 301 - 306 .

وأمثال هذه الأدلّة الكلامية لا تثبت دعوى كون الأوامر النفسية متعلّقة بتلك العناوين والمصالح ، كما لا تثبت كون المصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها؛ لإمكان أن يكون الغرض في نفس الأمر، أو تكون تلك المتعلّقات في ظاهر الشرع محبوبات ذاتية من قبيل نفس الأغراض، أو الغرض منها أمر آخر لا نعلمه.

وبالجملة : هذه الأدلّة - على فرض تماميتها - لا تدلّ على تعلّق الأوامر بالمصالح والألطاف .

وأمّا ثانياً : فإنّ تعلّق الأوامر بتلك المصالح النفس الأمرية محال عليه تعالى ؛ للزوم اللغوية والعبث عليه ، فإنّ تعلّق الأوامر بالمتعلّقات إنّما يكون للبعث والحثّ والإغراء نحوها ، فلا بدّ وأن تكون تلك الأوامر ممّا يمكن أن تكون باعثة نحوها ، ولا يعقل أن تكون الأوامر النفس الأمرية الغير الواصلة إلى المكلّفين متعلّقةً بعناوين واقعية مجهولة لديهم ، باعثةً نحوها ، فتعلّقها بها لا يكون إلاّ لغواً ممتنعاً عليه تعالى .

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الثاني أيضاً ؛ فإنّ ما قام به الدليل الكلامي إنّما هو امتناع خلوّ فعله تعالى عن الغرض ، وأمّا كون الغرض قائماً بأيّ شيء فلا دلالة عليه .

واحتمال كون الغرض في نفس الأمر أو المأمور به - بمعنى كونه محبوباً بالذات ، من غير أن يكون محصّلاً للغرض وخارجاً عنه - ينفي الاشتغال ، ويصير من قبيل الأقلّ والأكثر(1) .

ص: 285


1- مع أنّ العقل لا يحكم إلاّ بالخروج عن العهدة بمقدار الاشتغال ، والغرض إذا لم تقمحجّة عليه لا يحكم العقل بلزوم تحصيله ، ولمّا لم تقم حجّة إلاّ على الأقلّ فلا يحكم العقل إلاّ بإتيانه ، فلو لم يسقط لأجل بقاء الغرض يكون من قِبل قصور المولى ؛ لعدم إقامة الحجّة أو إيجاب الاحتياط . وبالجملة : أنّ الكشف عن الغرض إنّما هو بمقدار قيام الحجّة ، ومع إتيان ما قامت عليه الحجّة يكون العقاب على الأزيد بلا بيان وحجّة ، والعلم بسقوط الأمر بهذا المعنى المدّعى غير ممكن لنا ؛ لاحتمال دخالة اُمور اُخر لم تصل إلينا . بل لنا أن نقول : إنّ الأمر الفعلي يسقط بإتيان الأقلّ ، ويحصل الغرض بمقداره ، ولولا ذلك لوجب على المولى إيجاب الاحتياط، وإلاّ لزم نقض الغرض عليه، فتدبّر. [منه قدس سره]

مضافاً إلى أنّ العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه مجهول العنوان بحيث لا ينقدح في ذهن المكلّف أبداً لا يكون منجّزاً ؛ فإنّ تنجيزه متوقّف على إمكان الباعثية على أيّ تقدير ؛ أي في أيّ طرف من الأطراف ، وإذا كان بعضها مجهول العنوان لا يمكن البعث نحوه .

وما نحن فيه كذلك ؛ فإنّه ما من تكليف من التكاليف المركّبة إلاّ ويحتمل أن يكون له جزء دخيل في سقوط الغرض يكون مخفيّاً عنّا لعدم العثور على دليله ، فمن الممكن أن يكون للصلاة جزء أو شرط آخر لم يصل إلينا ويكون دخيلاً في سقوط الغرض ، فالعلم بأنّ الغرض إمّا قائم بالأقلّ أو الأكثر ، أو هو مع شيء آخر لا نعلمه ، لا يمكن أن يكون منجّزاً .

وقريب ممّا ذكرنا ما أفاد الشيخ رحمه الله علیه : من احتمال دخالة قصد الوجه أو التميّز في المأمور به ، ويكون دخيلاً في سقوط الغرض ، والمكلّف لا يقدر على إتيانه(1).

ص: 286


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 320 .

وإن شئت قلت : العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه غير مقدور من أوّل الأمر لا يكون منجّزاً ، وما نحن فيه كذلك ؛ فإنّا نعلم بأنّ الغرض إمّا قائم بالأكثر ، أو الأقلّ مطلقاً ، أو مع قصد الوجه والتميّز تفصيلاً ، ومعلوم أ نّه غير مقدور من أوّل الأمر ، فلا يكون العلم الكذائي منجّزاً ، تأ مّل .

الإشكال السابع :

ما يختصّ بالواجبات التعبّدية ، وهو أنّ الواجب فيها قصد التقرّب ، ولا يحصل إلاّ بقصد إتيان ما هو تكليف نفسي للمولى ؛ إذ الواجبات الغيرية لا يتأتّى فيها قصد التقرّب ، فيجب من جهة حصول هذا المعنى المبيّن إتيان الأكثر ، وقصد التقرّب بما هو واجب في الواقع(1) .

وأجاب عنه شيخنا الاُستاذ رحمه الله علیه (2) بما لا يخلو من إشكال .

والتحقيق في الجواب : أنّ ما هو المعتبر في العبادات هو أن يكون العبد متحرّكاً بتحريك الأمر ، ويكون الأمر باعثاً فعلياً نحو المتعلّق ، أو يكون متحرّكاً بداعي العبودية ، ولا يكون الداعي في إتيانه أغراضه النفسانية ، لا بأن يكون قصد الأمر والامتثال والتقرّب وأمثالها منظوراً إليها بالحمل الأوّلي ، بل حقيقة الامتثال ليست إلاّ كون الأمر داعياً وبه يحصل التقرّب ، ويصير العبد ممتازاً عن غيره ممّن لا تحرّكه أوامر الموالي ، هذا أصل .

ص: 287


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 325 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 478 .

وقد عرفت(1) أنّ المركّب العبادي عبارة عن أجزاء وشرائط في لحاظ الوحدة ، ويكون الأمر الداعي إلى نفس المركّب داعياً إلى الأجزاء والشرائط لا بداعوية اُخرى ، بل بداعوية نفس المركّب . وهذا أصل آخر .

وإذا عرفتهما نقول : لا إشكال في أنّ الآتي بالأقلّ القائل بالبراءة ، والآتي بالأكثر القائل بالاشتغال كليهما متحرّكان بتحريك الأمر المتعلّق بالمركّب ، فإذا سئل منهما ما محرّككما في إتيان هذا الموجود الخارجي ؟ أجابا قوله تعالى : )أَقِيمُوا الصَّلَوةَ ((2) وأمثاله ، فإتيانهما للأجزاء المعلومة يكون بداعوية الأمر المتعلّق بالمركّب ، من غير فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ، وإنّما يفترقان في أنّ القائل بالبراءة لا يرى نفسه مكلّفاً بإتيان الجزء المشكوك فيه ، بخلاف القائل بالاشتغال ، وهذا لا يصير فارقاً فيما هما مشتركان فيه ، وهو الإتيان بالأجزاء المعلومة بداعوية الأمر المتعلّق بالمركّب(3) .

هذا كلّه في الأصل العقلي .

ص: 288


1- تقدّم في الصفحة 264 و266 .
2- البقرة (2) : 43 .
3- هذا هو التحقيق . وأمّا مع فرض الوجوب الغيري للأجزاء فيمكن أن يقال : إنّ الآتي بالأقلّ يمكنه قصد التقرّب ، وما لا يمكن له إنّما هو الجزم بالنيّة ، وهو غير معتبر في العبادات ، ولهذا كان التحقيق صحّة عمل الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وكما أنّ الجزم بالنيّة غير ميسور مع الإتيان بالأقلّ غير ميسور مع الإتيان بالأكثر أيضاً ؛ للشكّ في أنّ الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ، ومعه لا يمكن الجزم بالنيّة ، فقصد القربة ممكن منهما والجزم غير ممكن منهما بلا افتراق بينهما . [منه قدس سره]

جريان البراءة الشرعية في المقام

وأمّا الأصل الشرعي : فجريان مثل حديث الرفع(1) والحجب(2) ممّا لا مانع منه بناءً على ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي ، وكون الجزء أو الشرط الزائد مشكوكاً فيه .

وتوضيحه : أنّ شأن حديث الرفع في مشكوك الجزئية هو الرفع التعبّدي ، ومعناه البناء على عدم [كون] المشكوك فيه جزءاً للمركّب ، فالآتي بسائر الأجزاء - أي المعلومة - إنّما يأتي بها بداعوية الأمر المتعلّق بالمركّب الداعي إلى الأجزاء ، ويعمل مع الجزء المشكوك فيه بواسطة حديث الرفع عمل من يرى عدم جزئيته ؛ من الاكتفاء بسائر الأجزاء وعدم الإتيان بالمشكوك فيه ، من غير احتياج إلى إثبات كون الأجزاء تمام المأمور به أو مصداقاً له .

فإذا أتى بما هو المعلوم وترك ما هو المرفوع بحديث الرفع يكون مأموناً من العقاب ، ولكن كون البقيّة هو المأمور به لا يمكن إثباته بحديث الرفع .

أمّا إثبات كونها مصداقاً للمأمور به الواقعي ؛ فلأنّ حديث الرفع لا يتكفّل رفع الجزئية واقعاً ، ولا يكون مخصّصاً للأوامر الواقعية ، فضلاً عن الدلالة على تعيين ما هو المأمور به واقعاً .

ص: 289


1- الخصال : 417 / 9 ؛ التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ، وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .
2- التوحيد ، الصدوق : 413 / 9 ؛ وسائل الشيعة 27 : 163 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 33 .

وأمّا التعبّد بكونها هو المأمور به ، فلأنّ الحديث لا يتكفّل إلاّ تعبّداً واحداً هو التعبّد بنفي الجزئية ، وأمّا التعبّد بكون البقيّة حالها ما هو فلا ، وهذا واضح .

وبهذا يظهر النظر فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من كون نسبة الحديث إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء نسبة الاستثناء ، وهو معها يكون دالاًّ على جزئيتها إلاّ مع الجهل(1) ؛ ضرورة أنّ حديث الرفع لا يكون مخصّصاً للأحكام الواقعية ، وإنّما هو حكم ظاهري تعبّدي .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الحديث لا يكون مثبتاً لكون البقيّة مصداق المأمور به وتمام متعلّق الأمر(2) .

إن قلت : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس تقابل التضادّ ؛ لكي يكون إثبات أحد الضدّين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وليس الإطلاق إلاّ عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدلّ على إطلاق الأمر بالأقلّ وعدم قيدية الزائد(3) .

قلت : نعم ، هذا ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه .

وفيه أوّلاً : ليس ما نحن فيه من قبيل الإطلاق والتقييد فيما إذا كان الشكّ في

ص: 290


1- كفاية الاُصول : 417 .
2- هذا ما ذكرنا سابقاً ، لكن عدلنا عنه في باب الإجزاءأ وفي الاجتهاد والتقليد(ب) ، فراجع . [منه قدس سره] أ - مناهج الوصول 1 : 257 - 258 . ب - الاجتهاد والتقليد ، الإمام الخميني قدس سره : 109 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 163 .

الجزئية ، فإنّ الشكّ في أنّ المركّب ذو تسعة أجزاء أو عشرة ، لا أنّ التسعة مطلقاً تكون مأموراً بها أو مقيّدة بالعاشرة . نعم ، يمكن إرجاع الشكّ إليه بالعرض ، ولكنّه لا يعتنى به .

وثانياً : أنّ الإطلاق عبارة عن كون الشيء تمام الموضوع للأمر من غير دخالة شيء معه ، وسلب الجزئية لا يثبت كون البقيّة تمام الموضوع .

وثالثاً : أنّ تقابل العدم والملكة في قوّة تقابل الضدّين من هذه الجهة ؛ فإنّ سلب الجزئية لا يثبت عدم التقييد عمّا من شأنه كذلك ، وليس الإطلاق باعترافه عبارة عن السلب المطلق حتّى يكون سلب الجزئية مساوقاً له ، ويكون المدلول المطابقي لحديث الرفع هو الإطلاق .

إن قلت : يمكن أن يدّعى أنّ رفع الوجوب عن جزء المركّب بعد فرض وجوب الباقي ، يفهم منه عرفاً أنّ الباقي واجب نفسي .

ويؤيّده : قول الإمام علیه السلام في خبر عبد الأعلى : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه )مَا جَعَلَ عَلَيكُم فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((1) امسح على المرارة»(2) ؛ حيث إنّ الإمام علیه السلام دلّنا على أنّ المدلول العرفي للقضيّة رفع ما يكون حرجاً ، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة ، وإثبات الباقي وهو أصل المسح ، وهاهنا نقول أيضاً : بأنّ المجهول مرفوع ، والتكليف ثابت في الباقي بمدلول قضيّة : «رُفع ما لا يعلمون» .

ص: 291


1- الحجّ (22) : 78 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 363 / 1097 ؛ وسائل الشيعة 1 : 464 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 39 ، الحديث 5 .

قلت : نعم هذا ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه(1) - ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أ نّه لم يتّضح أنّ مراده علیه السلام من قوله : «هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه» أنّ المسح على المرارة أيضاً يعرف منه ، ولعلّ ما يعرف منه هو رفع المسح عن البشرة لا إثباته على المرارة ؛ فإنّ العرف لا يفهم هذا من كتاب اللّه كما يتّضح بالرجوع إلى الوجدان ، وليس المسح على المرارة ميسور المسح على البشرة حتّى يدّعى أنّ قاعدة «الميسور» ارتكازية .

وبالجملة : ليس قوله تعالى : )وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم((2) من الأحكام الانحلالية عرفاً من أصل المسح ومباشرة الماسح للممسوح حتّى يرفع أحدهما ويبقى الآخر .

وثانياً : لو سلّم أنّ العرف يفهم ذلك ، لكن لا يفهم أنّ الوجوب المتعلّق بالباقي وجوب نفسي إلاّ بالملازمة العقلية ، فإنّ كون بقيّة الأجزاء واجبة أمر ، وكونها تمام المكلّف به ومصداقه أمر آخر لا يمكن إثباته بحديث الرفع .

وبالجملة : ما يفهم من حديث الرفع ليس إلاّ رفع جزئية السورة - مثلاً - والأمر بالصلاة يدعو إلى بقيّة الأجزاء وأ نّها واجبة ، وأمّا كونها تمام المأمور به أو كونها واجباً نفسياً فلا يفهم منهما إلاّ بالملازمة .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الحديث يدلّ على الرفع التعبّدي للجزء ولو برفع منشئه ، والأمر بالمركّب يدلّ على وجوب الأجزاء المعلومة بعين وجوب الكلّ ، والمكلّف إذا أتى بها فهو في أمن من العقاب ، وغنىً عن إثبات

ص: 292


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 480 .
2- المائدة (5) : 6 .

كونها تمام المكلّف به ، أو كونها واجباً نفسياً .

هذا كلّه بناءً على ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي .

وأمّا بناءً على عدمه فيشكل جريان حديث الرفع ، سواء قلنا بأنّ الأجزاء واجبات عقلية من باب المقدّمة ، أو شرعية كذلك ، أو شرعية بالوجوب الضمني ؛ فإنّ رفع الوجوب النفسي عن الأكثر معارض برفع الوجوب النفسي عن الأقلّ ، ورفع جزئية الجزء لا معنى له على مذهبهم إلاّ رفع منشئه ، فإنّ الجزء غير مجعول إلاّ بالعرض ، ومعنى المجعولية العرضية هو انتساب الجعل إليه ثانياً وبالمجاز ، وإلاّ فلا جعل إلاّ للوجوب المتعلّق بالمركّب . وأمّا كون المركّب هو المأمور به والأجزاء أجزاءه ، ككون المتكلّم آمراً والمكلّف مأموراً ، فهي اُمور انتزاعية غير متعلّقة للجعل أصلاً ، ومثل هذا المجعول المجازي غير قابل للرفع إلاّ برفع ما هو مجعول حقيقة ، والمجعول ليس إلاّ الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر ، وهو معارَض بمثله .

وأمّا رفع وجوب الجزء ، فبناءً على وجوبه العقلي فلا معنى لرفعه ، وبناءً على وجوبه الشرعي المقدّمي ، فحيث كان وجوب المقدّمة - ولو شرعاً - للملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه ، لا يكون جريان الحديث في السبب رافعاً للشكّ في المسبّب إلاّ بالأصل المثبت ، وبناءً عليه يكون جريان الحديث في عرض واحد بالنسبة إلى الوجوب النفسي في الأقلّ والنفسي في الأكثر والغيري للجزء ، فتتعارض .

مضافاً إلى أنّ رفع الوجوب عن الجزء ممّا لا ينحلّ به العلم الإجمالي المتعلّق بالأقلّ والأكثر ، ولا يثبت به رفع الوجوب عن الأكثر حتّى ينحلّ العلم .

ص: 293

دوران الأمر بين المطلق والمشروط

قوله : «إنّه ظهر ممّا مرّ حال . . .»(16) إلى آخره .

أمّا دوران الأمر بين المطلق والمشروط - سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمراً مبايناً للمشروط في الوجود كالطهارة في الصلاة ، أو أمراً متّحداً معه كالإيمان في الرقبة - فالكلام فيه هو الكلام في الأقلّ والأكثر في المركّبات من جريان البراءة العقلية بالنسبة إلى الشرط المشكوك فيه :

أمّا فيما إذا كان المنشأ أمراً مبايناً فظاهر ؛ فإنّ داعوية الأمر إلى ذات المقيّد معلومة تفصيلاً ؛ سواء تعلّق الأمر بها من غير اشتراط أو تعلّق بها مشروطة ، والتقيّد والاشتراط مشكوك فيه ، أو القيد والشرط مشكوك فيه ، ومورد جريان البراءة العقلية .

وأمّا فيما إذا كان المنشأ أمراً متّحداً معه كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فقد يقال : إنّ الأصل هو الاحتياط ؛ لرجوع الدوران بين المطلق والمقيّد فيه إلى المتباينين(1) .

توضيحه يتوقّف على بيان مقدّمتين :

الاُولى : أنّ المناط في الانحلال هو صيرورة بعض الأطراف معلوماً تفصيلاً ، وبعض آخر مشكوكاً فيه بالشكّ البدوي ، كالدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء كما عرفت(2) ففيما نحن فيه - أي الدوران بين المطلق والمقيّد

ص: 294


1- كفاية الاُصول : 417 .
2- تقدّم في الصفحة 276 .

المتّحدين في الوجود ، كالرقبة والرقبة المؤمنة - لا بدّ في الانحلال من الرجوع إلى العلم التفصيلي بوجوب مطلق الرقبة ولو في ضمن الكافرة ، والشكّ في اعتبار كونها مؤمنة ، ولو لم يرجع إلى ذلك لا يمكن القول بالانحلال ، وهذا واضح .

الثانية : أنّ التحقيق في باب الكلّي الطبيعي - كما عليه أهله - أ نّه في الخارج إنّما يتحقّق بنعت الكثرة والتباين ؛ بمعنى أ نّه ليس للأفراد جامع في الخارج ، وإنّما الجامع أمر عقلي ذهني لا الخارجي ، وإلاّ لزم قول الرجل الهمداني المصادف للشيخ الرئيس في مدينة همدان(1) : من كون الكلّي بنعت الوحدة موجوداً في الخارج ، فالرقبة - فيما نحن فيه - في ضمن الرقبة الكافرة مباينة لها في ضمن الرقبة المؤمنة في الخارج .

إذا عرفت ذلك يتّضح لك عدم الانحلال ؛ فإنّ الرقبة المطلقة بما أ نّها جامعة بين الطرفين لم تتحقّق في الخارج ، وإنّما المتحقّق فيه الرقبة المؤمنة خاصّة ، والرقبة الكافرة خاصّة ، وهما متباينتان ، فالأمر دائر بين المتباينين ، فيجب الاحتياط . هذا غاية تقريب القول بالاحتياط .

لكنّه مدفوع ؛ لوقوع الخلط في المقدّمة الثانية ؛ فإنّ التحقيق في باب الكلّي الطبيعي هو أ نّه موجود في الخارج بنفس ذاته ، ولكن بنعت الكثرة لا التباين ؛ فإنّ الطبيعي هو نفس المهية ، وهي موجودة بتبع الوجود في الخارج ، وحيث إنّها لم تكن بذاتها واحدة ولا كثيرة ولا كلّية ولا جزئية ، تكون مع الواحد

ص: 295


1- راجع رسائل ابن سينا : 463 ؛ الحكمة المتعالية 1 : 273 - 274 .

واحدة ومع المتكثّر متكثّرة ، فيكون الطبيعي موجوداً مع كلّ فرد بتمام ذاته ، ويكون متكثّراً بتكثّر الأفراد .

فزيد إنسان ، وعمرو إنسان آخر ، وبكر إنسان ثالث ، لا أ نّها متباينات من حيثية الإنسانية ، فالحقيقة الإنسانية تتكثّر بتكثّر الأفراد ، لا أ نّها متباينة كما زعم القائل في المقدّمة الثانية ، ولا أ نّها واحدة بالوحدة العددية كما زعم الرجل الهمداني ، فالطبيعي في الخارج موجود بنفس ذاته مع كلّ فرد ، والكثرة والوحدة في الخارج والعقل خارجتان عن ذاته .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الرقبة المؤمنة في الخارج ينطبق عليها العنوانان : أحدهما : طبيعي الرقبة ، وثانيهما : طبيعي المؤمنة ، فهي مصداق لمفهومين ، كما أنّ الرقبة الكافرة مصداق لمفهومين : طبيعي الرقبة ، وطبيعي الكافرة ، فهما في مصداقيتهما للرقبة لا افتراق بينهما ، فالرقبة المؤمنة مصداق الرقبة ، وكذا الكافرة أيضاً مصداقها ، وليستا بمتباينتين مع كونهما رقبتين ، وإنّما افتراقهما من جهات اُخرى ، ككون إحداهما مصداق المؤمنة ، والاُخرى مصداق الكافرة ، وإحداهما متشخّصة بتشخّص خاصّ غير الاُخرى ، وأمّا في مصداقيتهما لطبيعي الرقبة فلا افتراق بينهما ؛ بمعنى أ نّهما مصداقان للرقبة .

فإذا أمر المولى بعتق مردّد بين طبيعي الرقبة والرقبة المؤمنة - أي الطبيعي مع قيد زائد - يكون طبيعي الرقبة موضوعاً للأمر ، والأمر داعياً إليه ، غايته أ نّه إذا كان المأمور به بحسب الواقع هو الرقبة المؤمنة لا ينطبق على الرقبة الكافرة ، كما أنّ الأمر كذلك في باب الأقلّ والأكثر في جميع الموارد ، وعدم انطباق المأمور به عليها ليس لأجل عدم انطباق الرقبة عليها ، بل لأجل عدم انطباق

ص: 296

القيد عليها ، فالأمر يكون حجّة على الرقبة تفصيلاً ، والقيد مشكوك فيه ، فإذا أتى المأمور بالرقبة الكافرة أتى بما قامت الحجّة عليه ، وما لم يأت به لم يقم حجّة عليه ، فتجري البراءة بالنسبة إليه .

وممّا ذكرنا يظهر الحال في المركّبات التحليلية مطلقاً ، سواء كانت بسائط خارجية كالبياض والسواد المنحلّين إلى اللون المُفرّق أو القابض للبصر ، أو لا كالإنسان المنحلّ عقلاً إلى الحيوان الناطق ، فإنّهما لم يكونا من الأجزاء الخارجية للمحدود ، بل هما من أجزاء الحدّ ، وإن كان مأخذهما المادّة والصورة بوجه ، على ما هو المقرّر في مقارّه(1) .

وقريب منهما بعض الأصناف والأشخاص المنحلّين في العقل إلى المهية والعوارض المصنّفة ، والمهية والشخصية .

وسواء توقّف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوك فيها على مؤنة زائدة ثبوتاً وإثباتاً ، كبعض الألوان والروائح والطعوم التي لم يوضع بإزائها لفظ خاصّ ، بل تعرف بإضافتها إلى أمر خارج ، كاللون الفستقي والطرنجي ، ورائحة المسك والجلاب ، أو لا كالبياض والسواد والإنسان ، ففي جميعها تجري البراءة عن الخصوصية الزائدة .

فإذا دار الأمر بين صبغ ثوب المولى بمطلق اللون أو الأسود ، يكون مطلق اللون - أي اللا بشرط المنطبق على الأسود وغيره على السواء - معلوماً تفصيلاً ، وخصوصية الأسودية مشكوك فيها ، فاللون الأحمر - مثلاً - في الخارج

ص: 297


1- الحكمة المتعالية 2 : 37 - 39 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 350 .

مصداق طبيعي اللون ، ولا افتراق في مصداقيته له بينه وبين سائر الألوان ، فيكون متيقّناً والخصوصية الزائدة مورد البراءة ، وهكذا سائر الأمثلة والموارد من غير فرق بينها .

بل التحقيق : أنّ ملاك جريان البراءة موجود في جميع الموارد المتقدّمة ، فإنّ جميع الأمثلة في الوجود الخارجي موجودة بوجود واحد ، وفي الانحلال العقلي تنحلّ إلى المعلوم والمشكوك فيه ، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين الصلاة في الخارج ، كما أنّ الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه ، والإنسان عين الحيوان . . . وهكذا ، وإنّما الافتراق في التحليل العقلي ، وهو أيضاً في جميعها على السواء ، فكما تنحلّ الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط ، كذا ينحلّ الإنسان بالحيوان والناطق ، ففي جريان البراءة وعدم تمامية الحجّة بالنسبة إلى الزائد لا فرق بين جميع الموارد ، وإنّما الاختلاف في وضوح الأمر وخفائه ، وهو صار منشأً للاشتباه والتفصيل .

وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - من أنّ الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقلّ والأكثر ، إلاّ أ نّه خارجاً بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً ، فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان ، فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان ؛ لأنّ نسبة حديث الرفع إلى كلّ من وجوب إطعام الإنسان والحيوان على حدّ سواء ، وأصالة البراءة في كلٍّ منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الاُخرى ، فيبقى العلم الإجمالي على حاله ، ولا بدّ من العلم بالخروج من عهدة التكليف ، ولا يحصل

ص: 298

ذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان ؛ لأ نّه جمع بين الأمرين ؛ فإنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً (1) ، انتهى .

فهو من غريب المقال :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الإنسان والحيوان وإن كانا بنظر العرف من قبيل المتباينين ، لكن ليس جميع موارد الترديد بين النوع والجنس كذلك ، كما إذا دار الأمر بين الحيوان والفرس ، فإنّهما ليسا بنظرهم من قبيل المتباينين ، أو دار الأمر بين مطلق اللون واللون الأبيض ، أو مطلق الرائحة ورائحة المسك .

وبالجملة : إشكاله يرجع إلى المناقشة في المثال .

وأمّا ثانياً : فلأنّ الدوران بين الإنسان والحيوان لو كان من قبيل المتباينين ، لا بدّ من الجمع بين إطعامهما في مقام الامتثال ، ولا معنى لما ذكره من أنّ طريق الاحتياط إنّما هو بإطعام الإنسان ؛ لأنّ إطعامه يستلزم إطعام الحيوان ، وهل هذا إلاّ مناقضة في المقال(2) ؟ !

وممّا ذكرنا يتّضح النظر في مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله علیه أيضاً : من أنّ الصلاة - مثلاً - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها ، وفي ضمن صلاة اُخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون مباينة للمأمور بها (3) .

ص: 299


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 208 .
2- بل ما ذكره هو الدليل على انحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّ إطعام الإنسان إذا كان إطعام الحيوان أيضاً لا بدّ وأن يكون عنوان الحيوان منطبقاً عليه ، ومعه يكون الحيوان متيقّناً والزائد مشكوكاً فيه . [منه قدس سره]
3- كفاية الاُصول : 417 .

فإنّك قد عرفت(1) : أنّ تكثّر المهية اللا بشرط بتكثّر الأفراد واتّحادها معها في الوجود ، غيرُ تباينها في كلّ فرد فرد ؛ فإنّ التباين بين الخصوصيات لا يجعل المهية المتّحدة مع كلّ فرد وخصوصية متباينة مع الاُخرى ؛ فإنّ الإنسان بحكم كونه مهية لا بشرط شيء غير مرهون بالوحدة والكثرة ، وهو مع الكثير كثير ، فهو بتمام حقيقته متّحد مع كلّ خصوصية ، فالإنسان متكثّر غير متباين مع الكثرة ، فافهم ؛ فإنّه دقيق جدّاً ، وقلّما يتّفق الوصول إلى مغزاه إلاّ للأوحدي من أهله . ولا يخلو صدر كلام المحقّق الخراساني وذيله من تهافت .

بقي أمران :

ص: 300


1- تقدّم في الصفحة 296 .

الأمر الأوّل : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات

الأمر الأوّل في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات(1)

ص: 301


1- ومحطّ البحث في المقام هو العلم بتعلّق الأمر بطبيعة ، ولا يكون في محطّ الأمر ومتعلّقه شكّ بين الأقلّ والأكثر ، وإنّما الشكّ في أسبابه ومحصّلاته . فلو علمنا باشتراط الصلاة بالطهر ، وشككنا في حصوله بالمسحتين والغسلتين مطلقاً ، أو مع شرط أو كيفية خاصّة ، لكان الأمر في المحصّل دائراً بين الأقلّ والأكثر لا في المحصّل - بالفتح - ومعه لا إشكال في عدم جريان البراءة ، من غير فرق بين كون العنوان البسيط - الذي هو المأمور به - ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول ، وبين كونه دفعي الحصول . فلو قلنا بحصول الطهارة في الغسل تدريجاً ، لكن شككنا في أنّ هذه الحقيقة المتدرّجة الوجود هل تحصل بمطلق الغسل ، أو يشرط بأمر آخر كقصد الوجه - مثلاً - أو تقديم بعض الأجزاء على البعض ، فلا إشكال في الاشتغال . فما في تقريرات بعض المحقّقين من التفصيلأ خلط وخروج عن محطّ النزاع على فرض ، وهو فرض الشكّ في المأمور به بين الأقلّ والأكثر ، وخلاف التحقيق على فرض آخر ، وهو فرض معلومية المأمور به والشكّ في محصِّله . كما أنّ تفصيله الآخر(ب) - وهو التفصيل بين كون العلم الإجمالي مقتضياً أو علّة تامّة - في غير محلّه ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني بعنوان معلوم بالتفصيل يقتضي البراءة اليقينية ، وليس المقام من قبيل العلم الإجمالي في المأمور به حتّى يأتي فيه ما ذكر ، والعلم الإجمالي في المحصّل عين الشكّ في البراءة ، لا الشكّ في مقدار الاشتغال ، فراجع كلامه . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 401 - 402 . ب - نهاية الأفكار 3 : 402 .

عدم جريان البراءة في الأسباب العقلية والعادية

أمّا العقليات والعاديات منها : فلا مجال لجريان البراءة فيها ؛ لأنّ المأمور به فيها مبيّن ، والشكّ إنّما هو في حصوله وامتثاله ، كما لو أمر المولى بقتل زيد وتردّد سببه بين ضربة أو ضربتين ، أو أمر بتنظيف البيت وتردّد حصوله بين كنسها أو هو مع رشّ الماء ، فالاشتغال اليقيني لا بدّ له من البراءة اليقينية .

وأمّا ما وقع في تقريرات بعض أعاظم العصر : من أنّ المجعول الشرعي فيها ليس إلاّ المسبّب(1) ، فهو منظور فيه ؛ فإنّ المسبّبات العقلية والعادية كأسبابها ليست تحت الجعل التشريعي . نعم ، قد يتعلّق الأمر بتحصيلها كما أشرنا إليه . وكيف كان فلا إشكال في وجوب الاحتياط فيها ، وعدم جريان البراءة شرعاً أو عقلاً .

عدم جريان البراءة في الأسباب الشرعية

وأمّا الشرعيات منها : فقد يقال بجريان البراءة الشرعية فيها ، وتوضيحه يحتاج إلى بيان كيفية جعل الأسباب والمسبّبات الشرعية ، فنقول :

لا إشكال في أنّ السببية والمسبّبية في الشرعيات والاُمور الاعتبارية العقلائية ، ليست بمعنى كون الأسباب مؤثّرات حقيقية في المسبّبات ؛ بحيث قبل تحقّق السبب لم يكن المسبّب في عالم التكوين ، وبعده وجد في عالم التكوين شيء هو المسبّب ، وهذا واضح .

ص: 302


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 144 .

وليست أيضاً بمعنى تأثير الأسباب في إيجاد المسبّبات في عالم الاعتبار ، لا اعتبار العقلاء ولا اعتبار الموجد للسبب ؛ وذلك لأنّ اعتبار العقلاء أمر قائم بأنفسهم وله أسباب خاصّة ، وليس جعل المنشئ للسبب مؤثّراً في نفوس العقلاء ؛ بمعنى أن يكون قول القائل : «بعت» و«اشتريت» علّة موجدة لاعتبار العقلاء ، وكذا في اعتبار نفسه ؛ فإنّ للاعتبار والمعتبَر أسباباً خاصّة من قبيل مبادئ الإرادة ، وليس وراء وجود الحقيقي والاعتباري شيء آخر يؤثّر السبب فيه نحو تأثير الأسباب في المسبّبات .

بل التحقيق: أنّ معنى السببية والمسبّبية العقلائية، أنّ الأسباب تكون موضوعاً لاعتبار العقلاء ، فإذا قال القائل : «بعت داري من زيد بكذا» بما له من المعنى الإنشائي يصير موضوعاً لاعتبار العقلاء بأنّ الدار التي كانت مضافة إلى البائع قبل إنشائه بالإضافة الاعتبارية صارت مضافة إلى زيد بواسطة بيعه له ، فإذا علم البائع هذا المعنى - أي اعتبار العقلاء عقيب إنشائه الجدّي للبيع - ويريد بيع داره لزيد، يستعمل لفظة الصيغة استعمالاً إيجادياً بالمعنى الذي ذكرنا؛ أي يريد تحقّقه الاعتباري بمعنى صيرورته كذا ، فيصير موضوعاً لاعتبار نفسه وسائر العقلاء .

وليس معنى الإيجاد الاعتباري أن يصير اللفظ موجداً لمعنىً اعتباري ؛ لعدم حقيقة للمعنى الاعتباري مع قطع النظر عن اعتبار العقلاء، والفرض أ نّه ليس اعتبار العقلاء ولا المنشئ للبيع مسبّباً عن هذا اللفظ ، بل له أسباب خاصّة تكوينية .

وبالجملة : إذا استعمل لفظ موضوع للإنشاء بداعي تحقّق المنشأ ، يصير بما له من المعنى موضوعاً للاعتبار المذكور ، من غير أن يصير اللفظ علّة

ص: 303

لتحقّق الاعتبار ولا لتحقّق شيء آخر .

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ المجعولات الشرعية في باب الأسباب والمسبّبات على قسمين :

أحدهما : أن يكون المسبّب أمراً عقلائياً يكون متعارفاً عندهم بأسباب خاصّة عقلائية ، فيردع الشارع [عن] تلك الأسباب ، ويسلب السببية عنها ، ويجعل السببية لأمر آخر ، كباب الطلاق ؛ فإنّ الطلاق - أي الهجران للزوجة وزوجيتها - متعارف عند العقلاء في كلّ ملّة منتحلة بدين وغيره ، ولم يتصرّف الشارع في تلك الحقيقة ، وليست مجعولة من قِبل الشرائع ، بل هو أمر عقلائي كسائر الحقائق العقلائية ، وإنّما تصرّف الشارع في سببها ، وسلب السببية عن الأسباب المتعارفة العقلائية ، وردعهم عن ترتيب الآثار على تلك الأسباب ، وحصر السببية على لفظ خاصّ هو «هي طالق» فاعتبر السببية الاعتبارية لتلك اللفظة دون غيرها ، فخلع سائر الأسباب عن السببية من غير تصرّف في المسبّب ، ويمكن أن لا يردع الشارع عن الأسباب العقلائية ، لكن يجعل سبباً آخر في عرض سائر الأسباب ، فيعطي السببية للفظ أو فعل آخر ، فتتّسع به دائرة الأسباب المحقّقة لتلك الحقيقة .

وثانيهما : أن لا يكون المسبّب من الاُمور العقلائية ، بل يكون من المخترعات الشرعية من غير سابقة له عند العقلاء ، ففي مثله لا بدّ وأن يكون سببه - أيضاً - أمراً مجعولاً شرعياً ، ولا يعقل أن يتعلّق الجعل بالمسبّب دون سببه ؛ لأنّ المفروض أنّ المسبّب ليس أمراً عقلائياً ، بل يكون اختراعياً ، وما كان كذلك لا يعقل أن يكون له سبب عقلائي أو عقلي أو عادي ، فلا بدّ من كون سببه

ص: 304

- أيضاً - اختراعياً ، فيجب تعلّق الجعل بالسبب ومسبّبه ، سواء تعلّق ابتداءً بالسبب أو بالمسبّب أو أدّى كلاماً يتكفّل الجعلين .

وبالجملة : في الأسباب والمسبّبات الجعلية لا يمكن أن يتعلّق الجعل بالسبب فقط أو بالمسبّب فقط ، ويكون جعل أحدهما مُغنياً عن جعل الآخر .

ومن ذلك يتّضح فساد دعوى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - : من أ نّه لا يعقل أن يتعلّق الجعل الشرعي بكلّ من السبب والمسبّب ؛ لأنّ جعل أحدهما يغني عن جعل الآخر ، فبناءً على تعلّق الجعل بالمسبّبات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة للوضع والرفع . . .(1) إلى آخره .

ضرورة أنّ المسبّب الاختراعي لا يعقل أن يكون له سبب عقلي أو عادي ، أو يكون سببه مثلهما في التناسب الذاتي بينه وبين مسبّبه ، فإذا كان المسبّب اختراعياً اعتبارياً يكون سببه أيضاً كذلك ، وإلاّ فإمّا أن يكون المسبّب بذاته متعلّقاً بسببه ، فيكون التأثير والتأثّر التكويني ، فيخرج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ المفروض أنّ المسبّب اختراعي جعلي ، وإمّا أن يكون له أسباب عقلائية ، فلا بدّ وأن يكون المسبّب أيضاً كذلك ، وهو أيضاً خلاف المفروض .

فاتّضح من ذلك : أ نّه لا يعقل أن يكون جعل المسبّب مغنياً عن جعل سببه ، ولا يخفى أنّ الجعل إنّما يتعلّق بوصف السببية ؛ أي يجعل الشارع ما ليس بسبب سبباً ، ويعطيه وصف السببية ، ف «أنتِ كظهر اُمّي» - مثلاً - قبل تعلّق الجعل به لم يكن سبباً للظهار ، وبعد إعطاء السببية به صار سبباً له ، فالجعل يتعلّق

ص: 305


1- فوائد الاُصول تقريرات المحقّق النائيني الكاظمي 4 : 145 - 146 .

بوصف السببية ، أي صيّره الشارع سبباً بعد ما لم يكن كذلك ، لا أنّ الجعل تعلّق بالسبب ويكون وصف السببية انتزاعياً كما اشتهر بينهم(1) .

وسرّ هذا الاشتهار مقايسة الأسباب التشريعية بالأسباب التكوينية ؛ فإنّ الجعل التكويني إنّما يتعلّق بوجود السبب جعلاً بسيطاً ، وسببية السبب غير مجعولة إلاّ بالعرض ، فالجاعل جعل النار ، لا النار ناراً أو مؤثّرة وسبباً ، ولمّا كان الأمر في الأسباب التكوينية كذلك صار منشأً للاشتباه في الأسباب التشريعية ، واشتهر أنّ الجعل إنّما يتعلّق بالسبب لا بالسببية .

مع أنّ الأمر في التشريع ليس كذلك ؛ فإنّ لفظة «أنتِ كظهر اُمّي» - مثلاً - ليست متعلّقة للجعل التشريعي ، لا مفرداتها ولا جملتها التركيبية ، بل هي موضوعة بالوضع اللغوي ، لكنّها لم تكن قبل اعتبار الشارع وجعله مؤثّرةً في الافتراق بين الزوجين ، فأعطاها الشارع وصف السببية بالمعنى الذي ذكرنا .

فالمجعول هو سببية تلك اللفظة بما لها من المعنى الإنشائي ، لا ذات السبب ؛ أي ذات تلك اللفظة التي تكون مجعولة بالجعل اللغوي ، وكذا الأمر في مطلق الاُمور الاعتبارية العقلائية والشرعية ، ولا إشكال في جواز جعل السببية الاعتبارية ؛ لعدم التأثير والتأثّر الحقيقي ، بل السببية في عالم التشريع عبارة عن كون السبب موضوعاً لاعتبار الشارع المقنّن ، وصيرورته كذلك يكون نافذاً في اُمّته وتابعيه ، وذلك واضح عند التأ مّل في موارد المجعولات الشرعية والعقلائية .

إذا عرفت ذلك ، فغاية ما يمكن أن يقال في جريان البراءة الشرعية : أنّ

ص: 306


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 394 .

السببية والتسبّب إذا كانتا شرعيتين ، فتردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فأتى المكلّف بالأقلّ ، يصير الشكّ في تحقّق المسبّب مسبّباً عن الشكّ في دخالة الجزء أو الشرط المشكوك فيهما ، فجريان حديث الرفع في السبب يرفع الشكّ عن المسبّب ، فيحكم بتحقّقه ؛ لوجود الأقلّ وجداناً ، ورفع الزيادة بالحديث ، فيرفع الشكّ عن تحقّق السبب ، فيحكم بأ نّه موجود ، وليست السببية عقلية حتّى يكون من الأصل المثبت .

وفيه : أنّ السببية وإن كانت شرعية ، ولكن الشكّ في تحقّق المسبّب ناشٍ عن كون الأقلّ تمام السبب وتمام المؤثّر ، ورفع الزيادة لا يثبت كونه كذلك إلاّ بالأصل المثبت .

وليس عدم دخالة الزيادة وحصول الأقلّ سبباً بنحو التركيب ؛ حتّى يقال : إنّ الموضوعات المركّبة ممّا يمكن تحصيلها بالأصل والوجدان ، فيحكم بحصول السبب وترتّب المسبّب عليه ؛ لأ نّه شرعي لا عقلي ؛ ضرورة أ نّه مع سببية الأقلّ لا تكون الزيادة - وجوداً وعدماً - دخيلة في حصول المسبّب ، وإنّما الأقلّ هو تمام السبب ، فلا بدّ من إثبات سببية الناقص وأنّ الأقلّ هو تمام السبب حتّى يترتّب عليه المسبّب ، وذلك لا يمكن بجريان حديث الرفع في الزيادة .

نعم ، لو دلّ دليل شرعي بأ نّه إذا وجد الأقلّ ولم تتحقّق الزيادة وجد المسبّب ، أمكن دعوى إثبات أحد الجزءين بالأصل والآخر بالوجدان ، لكنّه عدول عن مبحث الأقلّ والأكثر .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الأصل في باب الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات هو الاشتغال ، وليس فيه مورد جريان البراءة العقلية والشرعية .

ص: 307

الأمر الثاني : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية

والأقسام المتصوّرة فيها ، وذكر غير الارتباطي تبعاً واعلم أنّ التكليف قد يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي ؛ أي يكون لمتعلّقه متعلّق ، وإن شئت قلت : قد يكون له موضوع ، وقد لا يكون كذلك ، بل يكون له متعلّق وليس لمتعلّقه متعلّق ، فالأوّل مثل «أكرم العلماء» ، والثاني مثل «صلّ» .

وعلى أيّ حال : قد يكون التكليف أمراً وقد يكون نهياً .

وأيضاً قد يكون الشكّ في أصل التكليف ، وقد يكون في جزء المكلّف به ، وقد يكون في شرطه ، وقد يكون في مانعه ، وقد يكون في قاطعه .

وعلى أيّ حال : قد يكون الموضوع أو المتعلّق صرف الوجود ، وقد يكون تمام الوجودات ، وقد يكون مجموعها .

وجميع الأقسام متصوّرة ، وإن كان بعضها صرف التصوّر ولا واقعية له .

ولا يخفى أنّ الشبهة الموضوعية متصوّرة ؛ سواء تعلّق التكليف بموضوع خارجي أو لا ؛ وسواء كان الشكّ في الشرط أو الجزء أو المانع .

والأوّل كالشكّ في أنّ زيداً عالم أو لا ، أو أنّ المائع الكذائي خمر أو لا . والثاني مثل ما [لو] علم أنّ الغناء المحرّم هو التصنيف وشكّ في أنّ الصوت الكذائي تصنيف أو لا من جهة الشبهة الخارجية . والشكّ في الشرط والمانع معلوم . والشكّ في الجزء كما لو شكّ في أنّ سورة النورين من القرآن أو

ص: 308

سورة الناس والفلق منه أو لا .

فما ادّعى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أ نّه لا يمكن تحقّق الشبهة الموضوعية في الأجزاء ؛ لأنّ التكليف بها ليس له تعلّق بالموضوع الخارجي(1) ، منظور فيه ، كادّعاء بعض آخر من عدم تصوّر الشبهة الموضوعية مطلقاً .

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان التكليف الإيجابي بنحو صرف الوجود ، سواء كان له تعلّق بالموضوع الخارجي كقوله : «أكرم عالماً» ، أو لا كقوله : «صلّ» فلا إشكال في لزوم الإطاعة والخروج عن الاشتغال بإكرام عالم معلوم وإتيان الصلاة ، ولا يجوز الاكتفاء بإكرام من كان مشكوك العالمية ، ولا الاكتفاء بأمر يكون صدق الإكرام عليه مشكوكاً فيه ، وكذا الحال في الخروج عن عهدة الصلاة .

كما أنّ الأمر كذلك فيما إذا كان الاشتراط والجزئية بنحو صرف الوجود ، كاشتراط كون الصلاة مع الطهور ، وكجعل صرف وجود السورة جزءاً للصلاة ، فلا يجوز الاكتفاء بسورة مع الشكّ في كونها من القرآن(2) .

ص: 309


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 202 - 203 .
2- وكذا الحال فيما إذا تعلّق الأمر بالمجموع ، فإنّ الاشتغال بهذا العنوان مقتضاه البراءة اليقينية منه ، كما مرّ فيما سلف ، فراجع . ومنه يظهر الحال فيما إذا جعل الجزء أو الشرط مجموع الوجودات . والسرّ في أنّ الحكم على نحو الاستغراق عند الشكّ مورد البراءة بخلاف المجموع : أنّ الحكم في الأوّل لم يتعلّق بعنوان واحد شكّ في انطباقه على المأتيّ به ، فإنّ الكلّ في قوله : «أكرم كلّ عالم» أو «صلّ مع كلّ سورة» لم يكن له موضوعية ، بل هو وسيلة لإيصال الحكم إلى الموضوعات الواقعية ، وهي أفراد الطبيعة ، فكأ نّه أنشأ أحكاماً عديدة علم مقداراً منها وشكّ في شيء منها . وأمّا العامّ المجموعي فبخلاف ذلك ؛ فإنّ وصف الاجتماع مأخوذ في موضوع الحكم ، فيكون ما هو الموضوع أمراً وحدانياً في الاعتبار ، هو المجموع من حيث المجموع ، ومع الشكّ في الموضوع يكون الشكّ في انطباق المأمور به على المأتيّ به ، ولا إشكال في كونه مورد الاشتغال . وبهذا ظهر أنّ ما أفاد الشيخ الأعظم من لزوم الاحتياط إذا أمر بالصوم بين الهلالينأ ، في غاية المتانة ، وتكون الشبهة - مع الشكّ في تمامية الشهر ونقصانه - موضوعية ، وفي انطباق المأتيّ به للمأمور به . نعم ، مثّل قدس سره للشبهة الموضوعية بمثال آخر هو الأمر بالطهور ، وفسّره بالفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، وحكم بالاشتغال فيه أيضاً(ب) . ولا إشكال في الاشتغال في هذا المثال أيضاً ، ولا يكون الشكّ في المحصّل ؛ لأنّ المفروض بحسب تفسيره عدم تعلّق الأمر بالطهور حتّى يكون الشكّ في محصّله ، بل بالفعل الرافع ، ويكون الشكّ في انطباق المأمور به مع المأتيّ به ، ويكون كالشبهة الموضوعية بوجه ، وإن كانت الشبهة حكمية بوجه آخر ، لكن لمّا تعلّق الحكم بعنوان الفعل الرافع للحدث علم الاشتغال بهذا العنوان ، ولا بدّ من الخروج عن عهدته بإيجاد مصداق محرز ، فالإشكالات الموردة من الأعلام عليه(ج) في غير محلّها ، فراجع . وهذا الذي ذكرنا هو الميزان في البراءة والاشتغال في جميع الموارد . هذا حال الأمر . وأمّا النهي : فلمّا لم يكن طلباً بل زجراً عن الوجود - كما مرّ سابقاً(د) - فلا فرق في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية فيه بين أنحاء تعلّقه ، فإذا تعلّق بصرف وجود الخمر ، وشكّ في موجود خارجي أ نّه خمر ، يجوز ارتكابه ، وتجري البراءة . كما أ نّها تجري لو تعلّق بالمجموع وترك المشكوك فيه وارتكب الباقي ؛ للشكّ في كون الباقي موضوعاً للحكم ومتعلّقاً للنهي . وكذا الحال في الموانع ، هذا إذا قلنا بأنّ المانع للشيء هو ما كان وجوده مضادّاً له ، لا ما كان عدمه شرطاً ، فحينئذٍ تجري البراءة في الشكّ في المانع ، ولو كان المانع بنحو صرف الوجود ، أو نفس الطبيعة ، أو مجموع الوجودات ، على إشكال في الكلّ ، فلا نحتاج في جريان البراءة في اللباس المشكوك فيه إلى الذهاب إلى تحليلية النهي في قوله : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل»(ه) . نعم ، لو قلنا بأنّ المانع ما يكون عدمه قيداً ، يصير حاله حال الشرط في التفصيل بين الانحلال وعدمه . ولا يبعد أن يكون الشكّ في القاطع - أيضاً - كذلك ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى مضادّة الشيء مع الهيئة الاتّصالية المأخوذة في المركّب ، ومع الشكّ في عروض القاطع تجري البراءة ، وإن لا تخلو من إشكال لو قلنا بأنّ الهيئة الاتّصالية مأخوذة في المأمور به على وجه العنوان ، وسيأتي تتميم في ذلك في استصحاب الهيئة الاتّصالية عن قريب(و) إن شاء اللّه . [منه قدس سره] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 352 . ب - نفس المصدر . ج - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 200 ؛ نهاية الأفكار 3 : 410 . د - مناهج الوصول 2 : 89 . ه- راجع وسائل الشيعة 4 : 345 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ، الباب 2 . و - يأتي في الصفحة 337 .

ص: 310

وأمّا في بقيّة الصور فالظاهر أ نّها مورد جريان البراءة العقلية والشرعية ، سواء كان التكليف ، المستقلّ النفسي كقوله : «أكرم كلّ عالم» وشكّ في عالمية زيد ، أو «لا تشرب الخمر أو صرف وجود الخمر أو مجموع وجوداته» وشكّ في إناء أ نّه خمر .

ص: 311

أو جعل الشرط بنحو الاستغراق ، أو الجزء كذلك ، أو المانع والقاطع بنحو الصِرف أو الاستغراق أو مجموع الوجودات .

ففي جميع الصور تجري البراءة ؛ للرجوع إلى الأقلّ والأكثر .

فلو جعل المانع صِرف وجود غير المأكول ، وشكّ في شيء أ نّه من غير المأكول ، يرجع الشكّ إلى مانعية هذا الموجود ، فتجري البراءة ، وكذا الحال في سائر الصور .

إن قيل : إنّ وظيفة الشارع بيان الكبريات لا الصغريات ، فإذا قال : «أكرم العلماء» تمّ بيانه بالنسبة إلى إكرام كلّ عالم واقعي ، وكذا إذا قال : «لا تشرب الخمر» وكذا الحال في الأجزاء والشرائط والموانع للمأمور به ، فإنّ بيانه بالنسبة إلى الكبرى تامّ ، وليس من وظيفته بيان الصغرى ، فلا بدّ من الاحتياط خروجاً عن مخالفته بحسب الأفراد الواقعية التي تمّ بيانه بالنسبة إليها . وبعبارة اُخرى : لا بدّ للمكلّف من الخروج عن عهدة تلك الكبرى المعلومة يقيناً ، وهو لا يحصل إلاّ مع الاحتياط(1) .

قلت : إن أردت من كون الكبرى بياناً أ نّها بيان بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيه ، فلا إشكال في بطلان تلك الدعوى ؛ فإنّ قوله : «لا تشرب الخمر» لا يعقل أن يكون بياناً واصلاً بالنسبة إلى ما كان مصداقيته مشكوكاً فيها ، والتكليف لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه .

وإن أردت أنّ التكليف تعلّق بحسب الواقع بالفرد الواقعي سواء شكّ فيه أو

ص: 312


1- نهاية الاُصول : 329 .

لا ، فهذا مسلّم ، لكنّه لا يكفي في البيان .

وأ مّا ما ذكرت - من أنّ وظيفة الشارع بيان الكبريات - فهو أيضاً مسلّم ، لكنّ الكبرى لا تصير حجّة على الصغرى ما لم تحرز وجداناً أو بطريق متّبع .

وبالجملة : إنّ بيان الشارع بنحو الكبرى لا ينتج ما لم يضمّ إليه صغرى محرزة .

وقياس ذلك بالعلم الإجمالي - حيث يكون حجّة على المشكوك فيه مع عدم إحراز كونه واقعاً - مع الفارق ؛ لأنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بالصغرى ، وتردّد أمرها بين أمرين أو أزيد ، فالحجّة بالنسبة إلى الصغرى تامّة ، وعروض الإجمال لا تأثير له في تمامية الحجّة ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ الصغرى لم تتعلّق بها الحجّة ولم تكن معلومة لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، وذلك واضح(1) .

إن قلت : عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية - كما هو المعروف بينهم(2) - مبنيّ على كون الخاصّ حجّة بالنسبة إلى الأفراد الواقعية ، وإلاّ يلزم رفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة ، فعليه تكون الكبرى حجّة على الصغرى ، وذلك يوجب الاحتياط .

ص: 313


1- ولا يكون عنوان الكلّ مأخوذاً في الموضوع حتّى يكون الشكّ من قبيل الشكّ في الأداء ، بل يكون بالنسبة إلى المشكوك فيه الشكّ في الاشتغال . [منه قدس سره]
2- مطارح الأنظار2 : 135 ؛ كفاية الاُصول : 258 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 525 .

قلت : لا نسلّم كون المبنى فيه ذلك ، بل هو مبنيّ على أنّ بناء العقلاء في تطابق الإرادة الجدّية للاستعمالية في العامّ قاصر عن شمول مثل الشبهة المصداقية للمخصّص ، فإذا علم خروج الفسّاق من العلماء عن قوله : «أكرم العلماء» وشكّ في فرد أ نّه فاسق أو لا ، لا يكون قوله : «لا تكرم الفسّاق» حجّة على الفرد المشكوك فيه ، لكن يوجب سلب الحجّية عن قوله : «أكرم العلماء» ؛ لما ذكرنا من قصور شمول بناء العقلاء لذلك .

وإن شئت قلت : إنّ مورد الشبهة المصداقية شبهة مصداقية لبناء العقلاء على تطابق الإرادتين .

وبالجملة : بعد خروج عنوان الخاصّ عن العامّ ، والشكّ في كون المصداق من الخارج أو الداخل ، لا يحكم العقلاء بتطابق الإرادتين في العامّ بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيه ، فيخرج العامّ عن الحجّية .

إن قلت : إنّ جعل شيء مانعاً باعتبار مجموع الوجودات يرجع إلى اشتراط ترك واحد من أفراد ما جعل مانعاً ، فلا بدّ من إحرازه ؛ لأنّ أصل الاشتراط معلوم ، فاللازم منه العلم بوجود الشرط ، وهذا واضح .

قلت : لازم كون مجموع الوجودات مانعاً أن لا يكون تمام الوجودات باستثناء واحد منها مانعاً ، فيجوز الصلاة في جميع الأفراد المعلومة ، ولا يجوز الجمع بين تمام الأفراد المعلومة والمشكوك فيها ؛ لأنّ في الجمع بينها يصير مصداق المانع محرزاً .

وأمّا إتيان المشكوك فيه مع ترك واحد من المعلومات فممّا لا مانع منه فرداً

ص: 314

وجمعاً مع البقيّة ، كما أنّ ترك المشكوك فيه مع ارتكاب تمام المعلومات لا مانع منه ؛ للشكّ في تحقّق المانع لاحتمال أن يكون المشكوك فيه من تتمّة المجموع ، ومعه لا تتحقّق المانعية مع تركه .

وبالجملة : مانعية المجموع المركّب من المشكوك فيه والمعلوم معلومة ، ومع ترك واحد من المعلومات لا تكون المانعية للبقيّة قطعاً ، ومع ترك المشكوك فيه وارتكاب البقيّة تكون المانعية بالنسبة إليها مشكوكاً فيها ، فتجري البراءة بالنسبة إليها (1) .

ص: 315


1- وقد تقدّم عدم رجوع جعل المانع إلى جعل عدمه شرطاًأ ، والسرّ في جريان البراءة هو هذا . وأمّا لو جعل العدم قيداً فلا محيص من الاشتغال في مثل المقام . [منه قدس سره ] أ - تقدّم في الصفحة 311 ، الهامش .

الشكّ في الجزئية أو الشرطية في حال النسيان

قوله : «الثاني : أ نّه لا يخفى أنّ الأصل . . .»(17) إلى آخره .

الكلام في هذا التنبيه والتنبيه الثالث يقع في مقامات :

الأوّل : فيما إذا ثبت جزئية شيء في الجملة ، وشكّ في أنّ نقصه سهواً يوجب بطلان المركّب أم لا ، وما هو الأصل العقلي ؟ وبعبارة اُخرى : الأصل هو الركنية أو لا ؟

الثاني : في حال الأصل الشرعي في ذلك .

الثالث : في حال الزيادة العمدية أو السهوية ، ومقتضى الأصل العقلي والشرعي فيهما .

الرابع : في أ نّه على فرض أصالة الركنية هل قام دليل شرعي على الاجتزاء بالمأتيّ به في حال النسيان أو الأعمّ منه أم لا ؟

المقام الأوّل : فيما يقتضيه الأصل العقلي بالنسبة إلى النقيصة السهوية

أمّا المقام الأوّل : وهو أ نّه إذا ثبت جزئية شيء في الجملة ، وشكّ في أنّ نقصه سهواً يوجب بطلان المركّب أم لا ، فهل الأصل العقلي يوجب الإعادة أم الاكتفاء بالناقص ؟

ص: 316

محطّ البحث في المقام

ولا بدّ قبل تحقيق المقام من تذكّر أمر ، وهو أنّ محطّ البحث في جريان البراءة أو الاشتغال العقليين ما إذا لم يكن لدليل المركّب والجزء أو الشرط إطلاق ، وإلاّ لم يصل المجال إليهما .

ثمّ إنّه ليس [لدينا] ميزان كلّي في ثبوت الإطلاق وعدمه لدليل المركّب أو الأجزاء والشرائط . نعم ، لا يبعد أن يكون دليل المركّب غالباً بصدد مقام التشريع ، ولأدلّة الأجزاء والشرائط إطلاق غالباً ، وكيف كان لا بدّ من ملاحظة الموارد والأدلّة .

إشکال الشيخ الأعظم علی جریان البراءة بعدم إمکان خطاب الناسي

وقد يقال(1) : إنّ أدلّة إثبات الأجزاء والشرائط وكذا الموانع إن كانت بنحو التكليف ، مثل قوله : «اغسل ثوبك»(2) وقوله : )فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ . . .((3) إلى آخره ، و«لا تصلّ في وَبَر ما لا يُؤكل»(4) . . . وهكذا ، لا يمكن إثباتها لحال الغفلة والنسيان ؛ لانتزاع الوضع من التكليف ، ولا يمكن تعلّق التكليف بهما ، بخلاف ما إذا كانت بنحو الوضع ، مثل : «لا صلاة إلاّ بطهور»(5) أو

ص: 317


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 363 ؛ نهاية الأفكار 3 : 424 .
2- راجع وسائل الشيعة 3 : 405 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 8 ، الحديث 2 و3 .
3- المائدة 5: 6 .
4- راجع وسائل الشيعة 4 : 345 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ، الباب 2 .
5- تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ؛ وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

«بفاتحة الكتاب»(1) .

وهو حقّ لو سلّم امتناع إطلاق أدلّة التكاليف وعمومها لهما ، لكن قد مرّ منّا في باب الخروج عن محلّ الابتلاء تصحيح تعلّق التكليف بمثلهم(2) ، فراجع .

وقد يقال : على فرض الامتناع أيضاً لا مانع من ذلك : إمّا لأجل ظهور تلك الأدلّة في الإرشاد إلى الحكم الوضعي ، وأنّ ذلك جزء أو شرط أو مانع ، وإمّا لأجل أ نّه مع تسليم ظهورها في المولوية لا يكون امتناع تكليف الناسي والغافل من ضروريات العقول حتّى يكون كالقرينة الحافّة بالكلام المانعة من الظهور ، بل هو من النظريات المحتاجة إلى التأ مّل في مبادئها ، فتكون حاله كالقرائن المنفصلة المانعة عن حجّية الظهور ، لا أصل الظهور .

فيمكن أن يقال : إنّ غاية ما يقتضيه العقل المنع عن حجّية ظهورها في الحكم التكليفي دون الوضعي ، فيؤخذ بظهورها بالنسبة إلى إثبات الجزئية ونحوها . وعلى فرض الإغماض عنه يمكن التمسّك بإطلاق المادّة لدخل الجزء في الملاك والمصلحة حتّى حال النسيان(3) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّل الوجوه : فلأنّ الأوامر والنواهي الإرشادية ليست مستعملة في النهي الإرشادي ، ولا تنسلخ عن حقائقها ومعانيها ؛ أي البعث والزجر ، غاية الأمر أنّ

ص: 318


1- عوالي اللآلي 3 : 82 / 65 ؛ مستدرك الوسائل 4 : 158 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 5 .
2- تقدّم في الصفحة 203 .
3- نهاية الأفكار 3 : 424 .

البعث والزجر في وادي المركّبات يفهم منها الإرشاد ، فمعنى «لا تصلّ في وبر ما لا يُؤكل» هو النهي حقيقةً عن الصلاة فيه ، لكنّ العرف يفهم من هذا أنّ تعلّق النهي والزجر عن الصلاة فيه ليس لأجل مفسدة ذاتية فيه ، بل لأجل مانعيته عنها ، فحينئذٍ يكون الإرشاد إلى الجزئية وغيرها بمقدار إمكان تعلّق النهي ، وإلاّ فلا وجه للإرشاد ولا دليل عليه .

وأمّا ثاني الوجوه : فلأنّ استفادة الجزئية تبع لتعلّق التكليف ، فحينئذٍ لو سلّم نظرية الامتناع ، فالعقل - بعد النظر إلى المبادئ - يحكم حكماً جازماً على هذا المبنى بامتناع صدور التكليف متوجّهاً إلى الغافل والساهي ، ومعه كيف يمكن انتزاع الوضع مع فقد منشئه ؟ ! وما قرع الأسماع من التفكيك في حجّية الظهور بين الملزوم واللازم ليس في مثل المقام ، كما يظهر بالتأ مّل .

وأمّا ثالثها : فلأنّ كشف الملاك والمصلحة من إطلاق المادّة ، إنّما هو في مورد تعلّق التكليف بها مطلقاً ؛ لأنّ كشف المصلحة على مذهب العدلية(1) إنّما هو من الأمر والطلب الحقيقي ، ومع امتناع ذلك لا يمكن الكشف . نعم ، قد يقطع بوجود الملاك في بعض الموارد ، وهو خارج عمّا نحن فيه ، فتدبّر .

إشكال الشيخ الأعظم على جريان البراءة بعدم إمكان خطاب الناسي إذا عرفت ذلك ففي جريان البراءة وعدمه وجهان :

اختار ثانيهما العلاّمة الأنصاري ، واحتجّ عليه : بأنّ ما كان جزءاً حال العمد يكون جزءاً حال الغفلة والنسيان ؛ لامتناع اختصاص الغافل والساهي بالخطاب

ص: 319


1- كشف المراد : 306 ؛ شرح المقاصد 4 : 301 - 306 ؛ شرح المواقف 8 : 202 .

بالنسبة إلى المركّب الناقص ؛ لأنّ الخطاب إنّما يكون للانبعاث ، ويمتنع انبعاث الغافل ؛ لأ نّه يتوقّف على توجّهه إلى الخطاب بعنوانه ، ومعه يخرج عن كونه غافلاً ، فخطابه لغو ، فالأصل العقلي هو لزوم الاحتياط(1) .

التحقيق في الجواب وذكر أجوبة القوم

وأجاب عنه المحقّقون بما لا يخلو جلّها عن الإشكال .

والتحقيق أن يقال : لا يتوقّف جريان البراءة على اختصاص الغافل والساهي بالخطاب ، بل اختصاصهما بالخطاب لغو ؛ لأنّ الخطاب ليس إلاّ لأجل التحريك والبعث نحو المطلوب ، فلو فرض أنّ نفس الخطابات الباعثة للعامد والعالم نحو المركّب التامّ باعثة للغافل والساهي نحو المركّب الناقص بلا افتراق بينهما من هذه الجهة ، يكون اختصاصهما بالخطاب لغواً ، والأمر كذلك ؛ ضرورة أنّ الساهي عن جزء من المركّب والغافل عنه لا يكون محرّكه وباعثه نحو المركّب الناقص إلاّ قوله تعالى : )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ الَّيلِ((2) مثلاً ، كما أنّ العالم العامد ينبعث ويتحرّك نحو التامّ منه ، فإذا فرض أنّ المركّب التامّ ذو ملاك واقتضاء بالنسبة إلى العامد ، والمركّب الناقص ذو ملاك واقتضاء بالنسبة إلى الساهي الغافل ، ويكون باعثهما نحو ما هو المطلوب منهما هو الخطابات المتعلّقة بالطبائع ، فلا معنى لاختصاص كلّ منهما بخطاب .

وبعبارة اُخرى : ليس الغرض من الخطاب إلاّ صيرورته وسيلة إلى تحريك

ص: 320


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 363 .
2- الإسراء (17) : 78 .

المكلّف نحو ما هو المطلوب ، أو صيرورته متمكّناً من العبودية لو فرض أنّ في نفس تعلّق الأوامر بالمأمور بها ملاكاً واقتضاءً ، من جهة عدم حصول كمالات المكلّف إلاّ بالإتيان على نعت العبودية ، وهو لا يحصل إلاّ بالأمر ، وعلى أيّ حال تكون الخطابات الواقعية المتعلّقة بالطبائع محرّكة للعامد نحو ما هو المطلوب منه ، وهو المركّب التامّ ، وللغافل الساهي نحو ما هو المطلوب منه ، وهو المركّب الناقص ، فلا معنى لاختصاص الخطاب بكلّ منهما .

فإذا أتى الساهي بالمركّب الناقص ، ثمّ تنبّه وشكّ في أنّ الجزء المنسيّ هل كان له اقتضاء بالنسبة إليه في حال النسيان حتّى تكون صلاته تامّة ، أو لا حتّى تحتاج إلى الإعادة ، يمكن جريان البراءة في حقّه لعين ما ذكرنا في باب الأقلّ والأكثر(1) من غير فرق بين النسيان المستوعب لجميع الوقت وغيره ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمركّب كان داعياً إلى الأجزاء بعين داعويته إلى المركّب ، والفرض أنّ الأجزاء التي كان داعياً إليها قد أتى المكلّف بها ، والحال شاكّ في أنّ الأمر هل له دعوة اُخرى إلى إتيانها ثانياً ويكون داعياً إلى إتيان الجزء المنسيّ ، أم لا ؟ فالأصل فيه يقتضي البراءة . والحاصل : أنّ المقام من صغريات الأقلّ والأكثر إشكالاً وجواباً .

هذا إذا قلنا بأنّ التكليف ساقط عن الناسي ، وفرّق بينه وبين غيره في تعلّق التكليف .

وأمّا لو قلنا بأنّ النسيان والغفلة والعجز والقدرة كالعلم والجهل في تعلّق

ص: 321


1- تقدّم في الصفحة 267 .

التكليف ، وأ نّه فعلي بالنسبة إليهم - غاية الأمر أنّ مخالفة التكليف الفعلي قد تكون لعذر وقد تكون لا لعذر ، وأنّ الناسي معذور عقلاً في ترك تكليفه الفعلي بالطبيعة كالجاهل والعاجز ، لا أنّ التكليف يتغيّر عمّا هو عليه - فمع ترك الجزء نسياناً يجب الإعادة إذا كان لدليل الجزء إطلاق ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به بجميع أجزائه .

وهاهنا وجوه اُخر في رفع إشكال المحقّق الأنصاري :

أحدها : الالتزام بعدم الخطاب أصلاً حين الغفلة ، لا بالتامّ المغفول عنه ، ولا بالناقص المأتيّ به ؛ لأ نّه غير قادر على التامّ ، وغير قابل للخطاب بالناقص ، فتوجّه الخطاب إليه لغو ، هذا حال الخطاب . وأمّا مجرّد الاقتضاء والملاك فبالنسبة إلى التامّ والناقص سواء .

فعلى هذا إنّا نشكّ بعد ارتفاع العذر أنّ الغافل صار مكلّفاً بغير المركّب الناقص الذي أتى به ، والأصل عدمه ، وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلى الجزء الفائت لا دليل عليه ، والأصل البراءة عنه ، كما هو الشأن في الأقلّ والأكثر(1) ، هذا .

وهذا الوجه دافع للإشكال ، لكن دعوى امتناع بعثه نحو الناقص قد عرفت ما فيها .

الثاني : ما حكاه بعض أعاظم العصر عن تقريرات بعض الأجلّة لبحث الشيخ ، من إمكان أخذ الناسي عنواناً للمكلّف وتكليفه بما عدا الجزء المنسيّ ؛ بتقريب : أنّ المانع من ذلك ليس إلاّ توهّم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه

ص: 322


1- اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 491 - 492 .

في ذلك الحال ، فلا يمكنه امتثال الأمر ؛ لأ نّه فرع الالتفات إلى ما اُخذ عنواناً للمكلّف .

ولكن يرد عليه : بأنّ امتثال الأمر لا يتوقّف على الالتفات إلى ما اُخذ عنواناً له بخصوصه ، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه ولو كان من باب الخطأ في التطبيق ، فيقصد الأمر المتوجّه إليه بالعنوان الآخر ، فالناسي للجزء يقصد الأمر الواقعي له ، وإن أخطأ في تطبيق أمر الذاكر عليه .

وأورد عليه الحاكي المعظّم له : بأ نّه يعتبر في صحّة البعث والطلب أن يكون قابلاً للانبعاث عنه ؛ بحيث يمكن أن يصير داعياً لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة ، وهذا التكليف الذي يكون دائماً من الخطأ في التطبيق لا يمكن أن يكون داعياً أصلاً ، فهو لغو ، ولا يقاس هذا بأمر الأداء والقضاء ؛ لأنّ الخطأ في التطبيق فيهما قد يتّفق بخلاف ما نحن فيه(1) .

ويرد على المُورِد : أ نّه - بعد تصديق كون الأمر الواقعي المتعلّق بالناسي بعنوان أ نّه ناسٍ محرّكاً واقعاً ، وإنّما وقع الخطأ في تطبيق عنوان أمر الذاكر على الناسي - لا مجال لهذا الإشكال ؛ لأنّ المفروض أنّ المحرّك للناسي دائماً إنّما هو الأمر الواقعي المتعلّق به ، لا الأمر المتوجّه إلى الذاكر .

نعم يرد على المجيب : أنّ دعوى كون الأمر الواقعي المتوجّه إلى الناسي محرّكاً له واقعاً وإن كان الخطأ في التطبيق ، ممنوعة ؛ لأنّ المحرّك له ليس

ص: 323


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 211 - 212 .

إلاّ الأمر المتوجّه إلى الذاكر ، فإنّ خطأه إنّما هو في تطبيق عنوان الذاكر على نفسه ، وتوهّمه أ نّه متذكّر ، وبعد هذا الخطأ لا يكون محرّكه إلاّ الأمر المتوجّه إلى الذاكر .

والشاهد عليه : أنّ وجود الأمر المتوجّه إلى الناسي وعدمه سواء ؛ بمعنى أ نّه يتحرّك نحو المأمور به كان في الواقع أمر متوجّه إلى الناسي أو لا .

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق الخراساني وارتضاه بعض أعاظم العصر(1) وحاصله :

أ نّه يمكن أن يكون المكلّف به أوّلاً في حقّ الذاكر والناسي هو خصوص ما عدا الجزء المنسيّ ، ويختصّ الذاكر بخطاب يخصّه ، وإنّما المحذور في تخصيص الناسي بخطاب يخصّه(2) .

وفيه : أ نّه لا داعي إلى الخطابين مع انبعاث الذاكر والناسي بالخطاب الواحد المتوجّه إلى مطلق المكلّفين ، كما عرفت سالفاً .

في ردّ التفصيل بين نسيان المستوعب للوقت وعدمه

ثمّ اعلم : أ نّه إن لم يكن لدليل الجزء إطلاق ، واحتمل اختصاص الجزئية بحال الذكر ، فالمرجع هو البراءة ، سواء كان النسيان مستوعباً لجميع الوقت أو لا :

أمّا بناءً على عدم تكليف الناسي لا بالتامّ ولا بالناقص فواضح ؛ لأنّ الآتي

ص: 324


1- فوائد الاُصول تقريرات المحقّق النائيني الكاظمي 4 : 213 .
2- كفاية الاُصول : 418 .

بالناقص بعد تذكّره يشكّ في توجّه التكليف إليه ، ومنشأ شكّه أنّ الجزء المنسيّ هل كان له اقتضاء في حال النسيان أم لا ، والأصل يقتضي البراءة .

وكذا الحال بناءً على الوجه الثاني من كون الناسي مكلّفاً بما عدا الجزء ؛ فإنّه بعد الإتيان يشكّ في توجّه التكليف إليه ، والأصل هو البراءة .

ومن ذلك يعرف الأصل بناءً على الوجه الثالث ، فإنّ المكلّف به في حقّ الذاكر والناسي بحسب الخطاب الأوّل هو بقيّة الأجزاء ، وبحسب الخطاب الخاصّ للذاكر هو الجزء المنسيّ ، فإذا أتى الناسي بالبقيّة في حال النسيان فقد أتى بما يدعوه [ إليه ]الخطاب الأوّل ، ويشكّ بعد التذكّر في توجّه الخطاب الثاني إليه ، ومنشأ شكّه أنّ جزئية الجزء المنسيّ هل هي مختصّة بحال الذكر أم لا ، فهو من مصاديق الأقلّ والأكثر ، والمرجع هو البراءة كما عرفت .

فما أفاده بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - من التفصيل بين استيعاب النسيان لتمام الوقت وغيره بحسب الأصل العقلي ، منظور فيه ؛ فإنّ حاصل ما أفاده في وجهه :

أنّ أصالة البراءة عن الجزء المنسيّ في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التامّ في ظرف التذكّر ، بل مقتضى إطلاق الأدلّة وجوبه ؛ لأنّ المأمور به هو صرف وجود الطبيعة التامّة في مجموع الوقت ، ويكفي في وجوب ذلك التمكّن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت ، ولا يعتبر التمكّن في تمامه ، كما هو الحال في سائر الأعذار .

والحاصل : أنّ رفع الجزئية بأدلّة البراءة في حال النسيان لا يلازم رفعها في

ص: 325

ظرف التذكّر ؛ لأنّ الشكّ في الأوّل يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال النسيان ، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر .

هذا إذا لم يكن المكلّف ذاكراً في أوّل الوقت ثمّ عرض له النسيان في الأثناء ، وإلاّ فيجري استصحاب التكليف ؛ للشكّ في سقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت(1) ، انتهى .

وفيه : أ نّه بعد الاعتراف بأنّ التكليف بالنسبة إلى الجزء المنسيّ ساقط في حال النسيان ، يرجع الشكّ إلى ثبوتِ التكليف بالجزء بعد التذكّر ، وتوجّهِ داعوية اُخرى للتكليف الثابت للمركّب بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء المأتيّ بها ، والأصل يقتضي البراءة . وكونُ المأمور به هو صرف الطبيعة التامّة في مجموع الوقت وكفايةُ التمكّن فيه في الجملة حقّ لو لم يأت بالمأمور به رأساً ، وأمّا لو أتى به بعد سقوط التكليف عن الجزء ، فتوجّه التكليف إليه وتجديد داعوية اُخرى بالنسبة إلى البقيّة مشكوك فيهما ويجري فيه البراءة ، كما أنّ التمسّك باستصحاب التكليف الثابت في أوّل الوقت بعد سقوط التكليف عن المركّب التامّ كما ترى .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الأصل العقلي في الجزء المنسيّ يقتضي البراءة ، إلاّ على مسلك من ذهب إلى أنّ التكليف بالنسبة إلى الناسي وغيره سواء إلاّ في المعذورية العقلية ، وهي لا تقتضي سقوط التكليف .

ص: 326


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 220 - 221 .

المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصة السهوية

صحّة التمسّك بحديث الرفع في رفع جزئية المنسيّ

وأمّا المقام الثاني - أي مقتضى الأصل الشرعي في ذلك - فالتحقيق : أنّ التمسّك بحديث الرفع(1) لرفع الجزئية في حال النسيان - ولو نسيان الموضوع - ممّا لا مانع منه ، وتصير نتيجة الأدلّة الأوّلية - على فرض إطلاقها لحال النسيان - وحديث الرفع الحاكم عليها الدالّ على أنّ الجزء مرفوع في حال النسيان ، أنّ المأمور به في حال النسيان هو البقيّة(2) .

ص: 327


1- الخصال : 417 / 9 ؛ التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .
2- وتقريبه أن يقال : لا إشكال في أنّ النسيان إنّما يتعلّق بطبيعة الجزء لا بوجودها الخارجي ، ويصير النسيان للطبيعة منشأً لعدم الإيجاد ، فرفع النسيان يقتضي رفع جميع الآثار بعد إرجاعه إلى رفع ما يكون النسيان منشأً للابتلاء به ؛ إمّا لكونه منسيّاً ، أو لكون النسيان موجباً له : فالأوّل : مثل ترك الجزء أو الشرط ؛ حيث يكون المنسيّ هو طبيعة الجزء والشرط . والثاني : كإيجاد المانع والقاطع ؛ حيث يكون النسيان منشأً لإيجادهما . والمصحّح لذلك الإرجاع هو دعوى كون ما يلابس النسيان نسياناً ، ودعوى رفعه بواسطة رفع جميع الآثار ، على ما نبّهنا عليه سابقاًأ ، ومن آثار طبيعة الجزء والشرط الجزئية والشرطية . فما يقال : إنّ أثر وجود الجزء هو الصحّة ، ورفعها يناقض المطلوب(ب) ، ليس بشيء : أمّا أوّلاً : فلأنّ المنسيّ هو الطبيعة لا وجودها . وثانياً : أنّ وجود الطبيعة في الخارج عين الطبيعة ، والصحّة ليست أثراً جعلياً ، بل لا يمكن أن تكون مجعولة إلاّ بمنشئها ، وما هو المجعول هو الجزئية أو الشرطية ، على ما هو التحقيق من قابلية تعلّق الجعل بهما ، وكيف كان يرفع الحديث الجزئية والشرطية . لا يقال : إنّ رفع الجزئية في مقام الدخل في الملاك ممتنع ؛ لأ نّه تكويني ممتنع الرفع ، والرفع التشريعي بلحاظ الانتزاع عن التكليف فرع إمكان تكليف الناسي ، وهو ممنوع(ج) . فإنّه يقال : - مضافاً إلى ما تقدّم من إمكان تكليفه - هذا مخالف لقوله حيث قال بجواز الجزئية المطلقة إذا كان لسان الجعل نحو قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور»(د) أو كانت التكاليف إرشادية(ه ) ، بل تنبّه في مورد من كلامه بأنّ البحث عن البراءة الشرعية بعد الفراغ عن إطلاق أدلّة الجزء والشرط(و) ، فتذكّر . [منه قدس سره] أ - تقدّم في الصفحة 37 . ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 353 . ج - نهاية الأفكار 3 : 429 . د - تهذيب الأحكام 1 : 49 / 44؛ وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 . ه- نهاية الأفكار 3 : 424 . و - نهاية الأفكار 3 : 426 .

لا يقال : رفع الجزئية غير ممكن لأ نّها من الاُمور الانتزاعية ، فليست الجزئية تحت الجعل ولا تنالها يد التشريع ، وكون منشأ انتزاعها بيد الشرع عبارة اُخرى عن رفع التكليف عن المركّب ، فلا بدّ من القول بأنّ التكليف مرفوع عن المركّب بحديث الرفع ؛ لتعلّق الرفع بمنشأ انتزاع الجزئية ، وبناءً عليه لا يمكن إثبات

ص: 328

التكليف لبقيّة الأجزاء ، فلم تكن البقيّة مصداقاً للمأمور به حتّى يكون الإتيان بها مجزياً عنه(1) .

فإنّه يقال : ليس معنى رفع الجزئية في حال النسيان هو أنّ الجزء الثابت بالأدلّة الأوّلية جدّاً مرفوع بحديث الرفع جدّاً ؛ فإنّه من قبيل النسخ الممتنع ، بل الرفع رفع بحسب الإرادة الاستعمالية ، وكاشف عن سلب الإرادة الجدّية من رأس .

وإن شئت قلت : إنّ الرفع رفع بحسب التعميم القانوني ، لا الحكم الواقعي ، كما أنّ الحال كذلك في جميع الأدلّة الثانوية الحاكمة على الأدلّة الأوّلية ، فحديث الرفع يكشف عن أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ، التامّ صورة ، المطلق لحال الذكر والنسيان ، لا يكون متعلّقاً إلاّ بالمركّب الناقص في حقّ الناسي(2) .

ص: 329


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 226 .
2- وبه يدفع ما قد يقال : إنّ غاية ما يقتضي الحديث إنّما هو رفع إبقاء الأمر الفعلي والجزئية الفعلية حال النسيان ، الملازم - بمقتضى الارتباطية - لسقوط التكليف عن البقيّة ما دام النسيان ، وأمّا اقتضاؤه لسقوط المنسيّ عن الجزئية والشرطية - في حال النسيان - لطبيعة الصلاة المأمور بها رأساً ، على نحو يستتبع تحديد دائرة الطبيعة في حال النسيان بالبقيّة ، ويقتضي الأمر بإتيانها ، فلا ؛ بداهة عدم تكفّل الحديث لإثبات الوضع والتكليف ؛ لأنّ شأنه هو الرفع محضاًأ ، انتهى . ضرورة أنّ حديث الرفع لا يتكفّل الوضع على ما قرّرنا(ب) ، بل يكشف عن عدم الجزئية والشرطية لحال النسيان من أوّل الأمر ، ومعه لا معنى لرفع التكليف عن البقيّة ، بل الرفع بما ذكره يرجع إلى النسخ المستحيل والبداء المحال ، كما يظهر بالتأ مّل . فالبقيّة مأمور بها بنفس الأوامر الأوّلية ، ومع رفع الجزئية تكون البقيّة مصداقاً للمأمور به ، ويسقط الأمر المتعلّق بالطبيعة ، وهذا معنى الإجزاء . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 429 . ب - تقدّم في الصفحة 289 .

لا يقال : لا بدّ في التمسّك بحديث الرفع من كون المرفوع له نحو تقرّر وثبوت ، فلا يتعلّق الرفع بالمعدومات وإن تنالها يد التشريع ، ورفع النسيان لو تعلّق بجزئية الجزء يكون من نسيان الحكم لا الموضوع ، والحال أنّ المنسيّ نفس الجزء ؛ أي الإتيان به قولاً أو فعلاً ، ومعنى نسيانه خلوّ صفحة الوجود عنه ، فلا يعقل تعلّق الرفع به ؛ لأ نّه معدوم .

وأيضاً ليس محلّ البحث النسيان المستوعب ، ونسيان الجزء في بعض الوقت كنسيان أصل المركّب فيه ، فكما أنّ الثاني لا يوجب سقوط التكليف رأساً كذلك الأوّل(1) .

فإنّه يقال : إنّ الرفع يتعلّق بالجزئية حال نسيان الموضوع ، فالجزء المنسيّ مرفوع من المركّب الذي هو جزؤه بحسب الأدلّة الأوّلية ، ولا دليل على اختصاص الرفع بنسيان الحكم ، بل يعمّ نسيان الموضوع ، وعدم نسيان الحكم لا يقتضي ثبوت الجزء من حيثية نسيان الموضوع ، وحديث الرفع يقتضي رفعه من حيث نسيانه .

وبالجملة : الرفع إنّما يتعلّق بالجزئية حال نسيان الموضوع ، وهي أمر وجودي ، فما ادّعى - من لزوم تعلّق الرفع بالمعدوم - لا ينبغي أن يصغى إليه .

وأمّا قياس نسيان الجزء بنسيان نفس المركّب فهو من عجيب الأمر ؛ فإنّ

ص: 330


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 225 - 226 .

عدم الإتيان بالمركّب لا يمكن أن يقتضي الإجزاء ، بخلاف الإتيان به مع رفع جزئه بالحديث ؛ فإنّ الناقص يصير مصداق المأمور به بعد حكومة الحديث على الأدلّة ، والإتيان به يقتضي الإجزاء .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى جمع الحديث مع الأدلّة الأوّلية ، هو كون المكلّف به ما عدا الجزء المنسيّ في النسيان، من غير فرق بين المستوعب وغيره.

المقام الثالث : في الزيادة العمدية والسهوية

تصوير الزيادة في الجزئية والشرطية

وأمّا المقام الثالث - وهو حال الزيادة العمدية والسهوية - فلا بدّ قبل التعرّض له من التنبيه على أمر ، وهو : أنّ وقوع الزيادة على وِزان وقوع النقيصة ممّا لا يتصوّر ولا يعقل ، سواء اُخذ المركّب بشرط لا والجزء كذلك ، أو كلاهما لا بشرط ، أو اُخذا مختلفين ؛ وذلك لأنّ الجزئية من الاُمور الانتزاعية من تعلّق الأمر بمجموع اُمور في لحاظ الوحدة ، كما مرّ سابقاً (1) فإذا تعلّق به كذلك ينتزع من المجموع الكلّية ، ومن كلّ واحد منها الجزئية للمأمور به ، فالجزئية من الانتزاعيات التابعة لتعلّق الأمر بالمركّب ، فحينئذٍ نقيصة الجزء ممكنة ؛ فإنّها عبارة عن إتيان المركّب مع ترك ما اعتبر جزءاً واُخذ فيه في لحاظ التركيب .

وأمّا الزيادة بهذا المعنى فإنّها تنافي الجزئية ، فلا يعقل الإتيان بشيءٍ معتبر في

ص: 331


1- تقدّم في الصفحة 264 - 266 .

المركّب ؛ لمكان انتزاع الجزئية ومع ذلك يكون زائداً (1) فوقوع الزيادة في

ص: 332


1- وقد تصدّى بعض المحقّقين لتصوير الزيادة الحقيقية ، وأوضحه بمقدّمات : منها : لزوم كون الزيادة من سنخ المزيد فيه . ومنها : اعتبار كون المزيد فيه محدوداً بحدّ مخصوص ولو اعتباراً . ثمّ قال: الثالث: أنّ أخذ الجزء أو الشرط في المركّب في مقام الاعتبار يتصوّر على وجوه: أحدها : بنحو بشرط لا من طرف الزيادة . وثانيها : بنحو لا بشرط في طرف الزيادة ، على معنى أ نّه لو زِيد عليه لكان الزائد خارجاً عن المركّب ؛ باعتبار عدم تعلّق اللحاظ بالزائد في مقام اعتباره جزءاً للمركّب ، كما لو فرض - في جعل مهية الصلاة - الركوع الواحد لا مقيّداً بكونه بشرط عدم الزيادة ولا طبيعة الركوع ، فإنّ في مثله يكون الوجود الثاني خارجاً عن الصلاة ؛ لعدم تعلّق اللحاظ به في مقام جعل المهية . ثالثها : بنحو لا بشرط ، بنحو لو زِيد عليه لكان الزائد أيضاً من المركّب لا خارجاً عنه ، كما [ لو] اعتبر الركوع الجامع بين الواحد والمتعدّد في الصلاة ؛ أي في كلّ ركعة ، لا الركوع الواحد . فحينئذٍ لا مجال لتصوّر الزيادة على الأوّل ؛ لرجوعها إلى النقيصة ، وكذا على الثاني ؛ لأنّ الزائد عليه ليس من سنخ المزيد عليه ؛ لخروج الوجود الثاني عن دائرة اللحاظ ، فيستحيل اتّصافه بالصلاتية . وأمّا على الثالث فيتصوّر الزيادة الحقيقية ، سواء اُخذ الجزء في مقام الأمر بشرط لا أو لا بشرط بالمعنى الأوّل أو الثاني . أمّا على الأوّلين فظاهر ؛ لأنّ الوجود الثاني من طبيعة الجزء ممّا يصدق عليه الزيادة بالنسبة إلى ما اعتبر في المأمور به من تحديد الجزء بالوجود الواحد ؛ حيث إنّه بتعلّق الأمر بالصلاة المشتملة على ركوع واحد تتحدّد طبيعة الصلاة بالقياس إلى دائرة المأمور به منها بحدّ يكون الوجود بالنسبة إلى ذلك الحدّ من الزيادة ؛ لقلب حدّه إلى حدّ آخر ، وإن لم تصدق الزيادة بالنسبة إلى المأمور به بما هو مأمور به . وكذلك الأمر على الأخير ؛ إذ بانطباق صِرف الطبيعي على الوجود الأوّل في المتعاقبات تتحدّد دائرة المركّب والمأمور به بحدّ قهراً يكون الوجود الثاني زيادة في المركّب والمأمور به ، فتأ مّلأ ، انتهى ملخّصاً . ولعلّه بالتأ مّل أشار إلى وجوه من الخلط الواقع في كلامه ، نذكر بعضها : منها : أنّ اللا بشرط بالمعنى الأوّل مع تمثيله بالركوع الواحد ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ فإنّ معنى اللا بشرط هو أخذ نفس الطبيعة بلا قيد ، لا الطبيعة المقيّدة بالوحدة ، فحينئذٍ إن كان الواحد قيداً يصير بشرط الوحدة ، وهو مساوق للمهية بشرط لا عن الزيادة ، وإن لم يكن قيداً يكون المأخوذ نفس الطبيعة ، فيرجع إلى المعنى الثاني من اللا بشرط . ومنها : أنّ الظاهر من كلامه - كما صرّح به فيما يأتي(ب) - أنّ ما يعتبر قبل تعلّق الحكم غير ما تعلّق به الحكم ، وبهذا يريد تصوير الزيادة ، وهذا بمكان من الغرابة ؛ ضرورة أنّ اعتبار المهية قبل تعلّق الحكم لا بشرط ثمّ تعليق الحكم بها بنحو بشرط لا أو لا بشرط بالمعنى الثاني لغو محض ، وإنّما يعتبر العاقل قبل تعلّق الحكم موضوعاً يريد أن يحكم عليه ، فلا معنى لاعتباره بوجه ثمّ الرجوع عنه واعتباره بوجه آخر يريد أن يحكم عليه ، ولا يمكن الجمع بين الاعتبارين لتنافيهما . ومنها : أ نّه مع تسليم كلّ ذلك لا يتصوّر الزيادة ؛ لأنّ ما يوجب البطلان هو الزيادة في المكتوبة ، والزيادة في صلاة المكلّف ، والموضوع الذي اعتبره قبل تعلّق الحكم ولم يأمر به لم يكن مكتوبة ولا مرتبطة بالمكلّف حتّى يكون صلاته . ومنها : أنّ الزيادة المتخيّلة لا تكون في المأمور به كما اعترف به ، ولا يمكن أن تكون في الطبيعة اللا بشرط ؛ لفرض كونها بنحو كلّ ما اُوجد يكون من المركّب ، فأين الزيادة ؟ ! [منه قدس سره ] أ - نهاية الأفكار 3 : 436 - 438 . ب - نهاية الأفكار 3 : 440 .

الأجزاء والشرائط على وزان وقوع النقيصة فيهما ضروري البطلان ، من غير

ص: 333

فرق بين أنحاء الاعتبارات المذكورة .

كما أنّ الزيادة بالمعنى العرفي ممكنة ؛ فإنّ وجود الثاني لما اُخذ جزءاً للمركّب زائد عرفاً ، سواء اُخذ المركّب والجزء لا بشرط أو بشرط لا أو مختلفين ، فإنّ الجزء إذا اُخذ بشرط لا ، ينحلّ إلى ذات الجزء للمركّب وشرط للجزء له ، فالإتيان بالوجود الثاني يكون زيادة لذات الجزء ونقيصة لشرطه ، فالوجود الثاني كما هو منشأ انتزاع النقيصة يكون منشأ انتزاع الزيادة ، فهو بذاته زيادة وباعتبار آخر منشأً للإخلال بقيد الجزء ، ولا مانع من كون شيء زيادة ومنشأً للنقصان .

فما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه -

من اعتبار عدم الزيادة شرطاً أو شطراً في الواجب مع عدم اعتباره في جزئيته ، وإلاّ لم يكن من زيادته بل من نقصانه(1) - ليس على ما ينبغي .

عدم مبطلية الزيادة مطلقاً

نعم ، هاهنا بحث آخر وراء تصوير الزيادة ، وهو أنّ البطلان هل يستند عقلاً إلى الزيادة أو إلى النقيصة ؟

ولا إشكال في أنّ الزيادة العمدية فضلاً عن السهوية لا توجب البطلان ؛ لأنّ الفساد والبطلان إنّما ينتزع من عدم تطابق المأتيّ به للمأمور به ، والفرض أنّ الجزء الزائد بما أ نّه زائد غير دخيل في المأمور به ، فما هو الدخيل هو تقيّد الجزء أو المأمور به بعدمها ، وبهذا الاعتبار يكون المأتيّ به غير منطبق على

ص: 334


1- كفاية الاُصول : 418 .

المأمور به ، فالبطلان مستند إلى النقيصة لا الزيادة .

كما أنّ الإتيان بضميمة زائدة - مع عدم أخذ عدمها قيداً في المأمور به أو في جزئه - على نحو التشريك في الداعوية يوجب البطلان ، لا للزيادة بما هي زيادة ، بل لنقص ما هو معتبر عقلاً في الامتثال من كون الأمر مستقلاًّ في الداعوية .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الزيادة مطلقاً لا توجب البطلان ، إلاّ إذا اُخذ عدمها في المركّب أو الجزء حتّى ترجع إلى النقيصة ، فإذا شكّ في ذلك يكون من مصاديق الأقلّ والأكثر ، والمرجع فيه البراءة .

التمسّك بالاستصحاب لإثبات صحّة العمل مع الزيادة

ثمّ إنّه قد يتمسّك لصحّة ما اُتي به مع الزيادة بالاستصحاب ، ويمكن تقريره بوجوه :

أحدها : استصحاب عدم قاطعية الزيادة أو مانعيتها بنحو العدم الأزلي ، فيشار إلى ماهية الزائد بأ نّها قبل تحقّقها لم تكن متّصفة بالقاطعية ، والآن كما كان(1) .

وفيه ما عرفت سابقاً (2) : من عدم محفوظية الهذية ؛ لأنّ الشيء قبل تحقّقه

لم يكن مشاراً إليه ، ولا محكوماً بشيء إثباتاً ونفياً ، والمهية قبل وجودها لا شيئية لها حتّى يقال : إنّها قبل وجودها كانت كذا ، أو لم تكن كذا .

ص: 335


1- لقد أصرّ المحقّق الحائري أعلى اللّه مقامه على هذا التقرير ، كما صرّح به المؤلّف قدس سره ، راجع ما تقدّم في الصفحة 101 .
2- تقدّم في الصفحة 100 - 101 .

وإن شئت قلت : لا بدّ في الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، وليس في السالبة بانتفاء الموضوع - على حذو سائر القضايا - موضوع ومحمول ونسبة حاكية عن الواقع ولو بنحو من الحكاية ، فاستصحاب العدم الأزلي ممّا لا أصل له . مع إمكان أن يقال : إنّ إثبات صحّة المأتيّ به باستصحاب عدم اتّصاف الزائد بالقاطعية عقلي ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ سلب قاطعيته للصلاة الموجودة بذلك الاستصحاب أيضاً عقلي ، وفيه نظر آخر يطول ذكره .

ثانيها : استصحاب عدم وقوع القاطع في الهيئة الاتّصالية التي في الصلاة ، بناءً على اعتبارها فيها - على ما سيأتي الإشارة إليه(1) - بأن يقال : إنّ الصلاة لها هيئة اتّصالية متحقّقة حين اشتغال المصلّي بها ، ولم يكن القاطع واقعاً فيها قبل تحقّقها ؛ أي تحقّق الزيادة ، فإذا وجدت الزيادة يشكّ في حصول القاطع ، فيستصحب عدمه .

وبهذا البيان يمكن أن يستصحب عدم المانع لدى الشكّ في كون الزيادة مانعة.

لا يقال : لعلّ الصلاة تكون متقيّدة بعدم المانع ، والاستصحاب لا يثبت التقيّد .

فإنّه يقال : إنّه جارٍ في نفس التقيّد - أي الكون الرابط - فإنّ استصحاب عدم تحقّق المانع في الصلاة عبارة اُخرى عن كونها بلا مانع ، وهذا ممّا لا إشكال فيه(2) .

ص: 336


1- يأتي في الصفحة 342 .
2- إلاّ أن يقال : إنّ عدم تحقّق المانع فيها ملازم عقلاً لكونها بلا مانع ، نظير استصحاب عدالة زيد لإثبات كونه عادلاً ، فإنّ الظاهر أ نّه مثبت أيضاً . ثمّ إنّ جريان هذا الاستصحاب موقوف على البناء على أنّ المانع والقاطع منتزعان من تقيّد المأمور به بعدمهما مع نحو اختلاف في اعتبارهما . وأمّا لو قلنا : إنّ اعتبارهما من جعل الضدّية بينهما وبين المأمور به فلا يجري الاستصحاب ؛ لكونه مثبتاً . [منه قدس سره]

ثمّ إنّا لا نحتاج إلى إثبات الهيئة الاتّصالية للصلاة في جريان هذا الاستصحاب.

ولا يخفى : أنّ هذا إنّما يجري في غير ما يقارن الصلاة من أوّل وجودها ، وإلاّ فلا يجري كاللباس المشكوك فيه ، كما أنّ المفروض في القاطع أيضاً كذلك .

ثالثها(1) : استصحاب الهيئة الاتّصالية ، وهي أمر اعتباري وراء نفس الأجزاء ،يكون تحقّقها من أوّل وجود المركّب إلى آخره ، فصار المركّب بحسب هذا الاعتبار أمراً وحدانياً متّصلاً كالموجودات الغير القارّة ، يكون أوّله بأوّل جزئه ، ويكون متّصلاً ممتدّاً بلا تخلّل عدم إلى آخره .

والأجزاء مع قطع النظر عن هذا الاعتبار في المركّبات وإن كانت لها وحدة بحسب الاعتبار ؛ لأنّ المركّب يتقوّم بنحو من الوحدة ، كما ذكرنا في باب الأقلّ والأكثر(2) لكنّ السكونات المتخلّلة في البين إذا لم تعتبر الهيئة الاتّصالية تكون خارجة عن نفس المركّب ، ومعه تكون داخلة فيها ، لا على حذو سائر الأجزاء فتكون في عرضها ، بل هي أمر معتبر فيه كخيط ينظم شتات الأجزاء ويتّصل به بعضها ببعض ، فيكون الآتي بالمركّب داخلاً فيه من أوّله إلى آخره حتّى في السكونات المتخلّلة .

ص: 337


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 374 ؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 233 .
2- تقدّم في الصفحة 264 .

وهذا يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ، وقد دلّ عليه الدليل في الصلاة ؛ فإنّها بحسب ارتكاز المتشرّعة - الكاشف القطعي عن اعتبار الشارع - أمر مستمرّ من أوّلها إلى آخرها ، يصير المصلّي بتكبيره داخلاً فيها إلى أن يخرج منها بالسلام ، ويرى كلّ مصلّ نفسه داخلاً في الصلاة ومشتغلاً بها حتّى في السكونات .

ألا ترى أنّ تعبيراتهم في باب فساد الصلاة هو القطع والنقض ، فيقال : فلان قطع صلاته أو نقضها ، ممّا يكشف عن كونها بحسب ارتكازهم أمراً متّصلاً ممتدّاً قابلاً للقطع والنقض ، وهذا أمر تلقّاه المتشرّعة كلّ طبقة عن طبقة ، وكلّ خلف عن سلف ، حتّى ينتهي إلى صاحب الشريعة .

ويدلّ عليه الروايات المستفيضة المعبّرة عن جملة من المفسدات بالقواطع(1) ، ولولا اعتبار الهيئة الاتّصالية فيها لما يحسن التعبير بالقطع والقاطع .

واستشكل بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه على استصحاب الهيئة الاتّصالية :

تارةً : بأنّ مجرّد تعلّق النواهي الغيرية لا يدلّ على اعتبار الهيئة الاتّصالية فيها ؛ إذ من الممكن أن تكون الصلاة هي الأجزاء والشرائط مقيّدة بعدم تخلّل القواطع في أثنائها .

واُخرى : بأ نّه بعد تسليم ذلك يمكن أن يمنع تعلّق الطلب بها على نحو تعلّقه بالأجزاء ، بل هو إنّما تعلّق بنفس عدم تخلّل الالتفات ونحوه فيها .

وثالثةً : على فرض تسليم ذلك ، إلاّ أ نّه لا إشكال في تعلّق الطلب بعدم

ص: 338


1- راجع وسائل الشيعة 7 : 233 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 2 ، والباب 2 ، الحديث 8 ، والباب 3 ، الحديث 3 .

وقوع القواطع فيها ؛ لدلالة ظواهر الأدلّة عليه ، فلا بدّ من علاج الشبهة عند وقوع ما يشكّ في قاطعيته ، ولا ترتفع باستصحاب الهيئة الاتّصالية ؛ لأنّ الشكّ في بقائها مسبّب عن الشكّ في قاطعية الموجود ، والشكّ المسبّبي لا يرفع الشكّ السببي إلاّ بالأصل المثبت ، وعلى فرض منع السببية فلا أقلّ من كونهما متلازمين ، فلا مجال لاستصحاب الهيئة لرفع الشكّ عن قاطعية الزيادة ، ولا بدّ من علاجه ، وطريقه ينحصر بأصالة البراءة(1) ، انتهى ملخّصاً .

ويرد على اُولاها : بأنّ استفادة الهيئة ليست من تعلّق النواهي الغيرية ؛ ضرورة عدم دلالتها عليها ، بل ممّا ذكرنا آنفاً .

وعلى ثانيتها : أ نّه بعد تسليم كونها معتبرة فيها بحسب الأدلّة لا معنى لإنكار تعلّق الطلب بها على نحو سائر ما يعتبر فيها ، فإنّ الأجزاء والشرائط أيضاً لم يتعلّق بها طلب مستقلّ ، بل لم يتعلّق الطلب إلاّ بالمركّب بما أ نّه مركّب ، ومعلوم أ نّه كلّ ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط يكون متعلّقاً له بعين تعلّقه بالمركّب ، فمنع تعلّق الطلب الاستقلالي في محلّه ، لكنّ الأجزاء أيضاً لم يتعلّق بها الطلب كذلك ، وأ مّا منع تعلّقه مطلقاً على نعت تعلّقه بالأجزاء فممنوع .

وعلى ثالثتها : أ نّه بعد تسليم تعلّق الطلب بالهيئة الاتّصالية لا مجال لتعلّقه بالقواطع أيضاً ؛ لأنّ شرطية أحد الضدّين ومانعية الآخر أو قاطعيته ممّا لا يمكن ، كما اعترف به وفصّله في الأمر الثالث في رسالته المعمولة في

ص: 339


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 235 - 237 .

اللباس المشكوك فيه ، بل جعل امتناعه في الوضوح تالياً لامتناع اجتماع الضدّين فيه ، فراجع(1) .

فحينئذٍ بعد تسليم تعلّق الطلب بالهيئة الاتّصالية لا بدّ من صرف ظواهر النواهي المتعلّقة بالقواطع عن ظاهرها إلى كونها إرشادية إلى اعتبار الهيئة الاتّصالية ، فاستصحاب الهيئة كافٍ لإثبات الصحّة من غير احتياج إلى إحراز عدم قاطعية الزائد ؛ لعدم تقيّد الصلاة بعدم القواطع ، بل تتقيّد بوجود الهيئة الاتّصالية .

إن قلت : امتناع شرطية أحد الضدّين ومانعية الآخر مسلّم فيما إذا كان الضدّان تكوينيين ، وأمّا في الاُمور الجعلية الاعتبارية ، كشرطية شيء للمأمور به ومانعية شيء له ، ممّا تكون الشرطية باعتبار التقيّد بوجود شيء ، والمانعية باعتبار التقيّد بعدم شيء ، فممّا لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ الضدّية لا تتحقّق إلاّ باعتبار أخذ عدم شيء في تحقّق الآخر في عالم الاعتبار والتشريع ، فإنّ الطهور - مثلاً - لا يكون مضادّاً للحدث تكويناً ، بل الضدّية إنّما هي باعتبار أخذ عدم الأحداث في تحقّق الوضوء حدوثاً وبقاءً ، ومن ذلك ينتزع الضدّية والتمانع .

فإذاً لا يمكن تحقّق الضدّية بين الهيئة الاتّصالية والقواطع لها إلاّ باعتبار تقيّدها بعدمها ، وإلاّ فمع عدم اعتبار عدمها فيها لا يكاد يحصل الفرق بين القهقهة والتبسّم ، ولا بين البكاء لأمر الدنيا ولخوف اللّه تعالى؛ حيث يكون أحدهما قاطعاً دون الآخر ، وليس ذلك إلاّ باعتبار أخذ عدم أحدهما فيها دون

ص: 340


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 120 .

الآخر ، فحينئذٍ لا محيص من اعتبار الهيئة الاتّصالية واعتبار تقيّد الصلاة بعدم القواطع ، فلا بدّ من أخذ أحد الضدّين شرطاً والآخر قاطعاً .

قلت : ما يكون ممتنعاً هو جعل أحد الضدّين شرطاً لشيء والآخر قاطعاً له ، بحيث يكون اعتبار كلا الضدّين وجوداً وعدماً في نفس المركّب ؛ ضرورة لزوم اللغوية .

وأمّا اعتبار عدم شيء في شيء ، واعتبار المتقيّد بذلك في شيء آخر ، فلاإشكال فيه ، ففي باب الطهارة يكون عدم الأحداث المعهودة معتبراً فيها حدوثاً وبقاءً ، فتنتزع منه القاطعية وتقع الضدّية بينهما بهذا الاعتبار ، لكن ما جعل معتبراً

في الصلاة هو الطهارة لا عدم الأحداث ، فلاتكون الصلاة إلاّ مشروطة بالطهارة .

وقِس على ذلك اعتبار الهيئة الاتّصالية في الصلاة ، فإنّها هي المعتبرة فيها . وأمّا القواطع فأعدامها معتبرة في تحقّق الهيئة الاتّصالية ، لا في الصلاة في عرض الهيئة ، فعدم القواطع قيد شرط الصلاة لا قيدها ، فلا يكون ممتنعاً .

إن قلت : ظاهر أدلّة القواطع أ نّها قاطعة للصلاة نفسها ؛ ضرورة أنّ قوله : «الالتفات إذا كان بكلّه يقطع الصلاة»(1) وقوله : «لا يقطع الصلاة إلاّ أربع : الخلاء ، والبول ، والريح ، والصوت»(2) ظاهران في كونها قاطعة لنفس الصلاة ، لا أ نّها قاطعة لشرطها وينسب القاطعية إليها بالعرض والمجاز .

ص: 341


1- تهذيب الأحكام 2 : 199 / 780 ؛ وسائل الشيعة 7 : 244 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ، الباب 3 ، الحديث 3 .
2- الكافي 3 : 364 / 4 ؛ وسائل الشيعة 7 : 233 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 2 .

قلت : - مضافاً إلى أنّ ما نتعرّض [له] هاهنا إنّما هو تصوّرات في مقام الثبوت ، ولاستفادة شرائط الصلاة وقواطعها محلّ آخر - إنّه بعد إثبات كون الصلاة ذات هيئة اتّصالية بالارتكاز القطعي من المتشرّعة ودلالة أدلّة القواطع ، لا مجال لهذا الإشكال ؛ لأنّ المركّب كما أ نّه موجود بعين وجود أجزائه وشرائطه لا بوجود آخر مسبّب منهما ، كذلك عدمه بنفس عدمهما ، لا أنّ عدمه مسبّب عن إعدامهما ، فانتساب قواطع الهيئة إلى الصلاة لا يوجب مجازاً في اللفظ ولا مخالفة للظواهر .

رابعها : استصحاب الصحّة التأهّلية للأجزاء بعد وقوع ما يشكّ في قاطعيته أو مانعيته(1) ، ومعنى الصحّة التأهّلية : أنّ الأجزاء السالفة تكون لها حيثية استعدادية للحوق الأجزاء اللاحقة بها ، ولم تخرج بواسطة تخلّل ما يشكّ في قاطعيته عن تلك الحيثية ، ولم يبطل الاستعداد بواسطته .

فحينئذٍ لا يرد عليه ما أورده بعض أعاظم العصر : من أ نّه استصحاب تعليقي أوّلاً ، ولا مجال لجريانه ثانياً ؛ لأنّ معنى الصحّة التأهّلية هو أ نّه لو انضمّ إليها البقيّة تكون الصلاة صحيحة ، وهذا المعنى فرع وقوع الأجزاء السالفة صحيحة ، وهذا ممّا يقطع به ، فلا شكّ حتّى يجري الاستصحاب(2) ؛ لما عرفت أنّ معنى الصحّة التأهّلية هو الحيثية الاستعدادية المعتبرة في الأجزاء السابقة لتأهّل لحوق البقيّة إليها ، وهذا أمر مشكوك فيه ، ولا يكون تعليقياً .

ص: 342


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 372 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 232 - 233 .

نعم يرد على هذا الاستصحاب : أنّ أصالة بقاء الاستعداد في الأجزاء السابقة لا يثبت ربط الأجزاء اللاحقة بها وتحقّق الصحّة الفعلية إلاّ بالأصل المثبت .

المقام الرابع : فيما يقتضيه القواعد الثانوية في الزيادة والنقيصة

وأمّا المقام الرابع - وهو قيام الدليل على خلاف ما اقتضت القاعدة - فقد قامت الأدلّة على بطلان الصلاة بالزيادة :

مقتضى الروايات الواردة في الزيادة

منها : ما في «الكافي» بإسناده عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(1) .

ومنها : ما فيه بإسناده عن زرارة وبكير ابني أعين ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : «إذا استيقن أ نّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها ، واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان قد استيقن يقيناً»(2) .

ومنها : غير ذلك .

وبإزائها حديث «لا تعاد» :

وهو ما عن محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام

ص: 343


1- الكافي 3 : 355 / 5 ؛ وسائل الشيعة 8 : 231 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 19 ، الحديث 2 .
2- الكافي 3 : 354 / 2 .

أ نّه قال : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» ثمّ قال : «القراءة سُنّة ، والتشهّد سنّة ، ولا تَنقض السنّةُ الفريضة»(1) .

بيان النسبة بين حديثي «من زاد» و«لا تعاد»

والمهمّ بيان نسبة الحديثين وما هو بمضمونهما مع حديث «لا تعاد . . .» فنقول :

أمّا ما دلّ بظاهره على بطلان الصلاة بمطلق الزيادة كالحديث الأوّل ، وكقوله فيمن أتمّ في السفر : «إنّه يعيد ؛ لأ نّه زاد في فرض اللّه»(2) وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة معلّلاً بأنّ : «السجود زيادة في المكتوبة»(3) فالظاهر منها أنّ كلّ زيادة في الصلاة موجبة للبطلان ، أعمّ من أن تكون من سنخ الصلاة كالركعة والركعتين ، أو من سنخ الأجزاء كالسجدة والركوع والقراءة ، أو من غيرهما كالتكتّف وقول : «آمين» وأمثالهما إذا أتى بها بعنوان الصلاة ، فإنّ [هذه] كلّها زيادة في المكتوبة .

واستظهار شيخنا العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - من قوله : «من زاد في صلاته . . .» إلى آخره أ نّه بمعنى الزيادة التي من سنخ الصلاة ، ولا تتحقّق إلاّ

ص: 344


1- الفقيه 1 : 225 / 991 ؛ وسائل الشيعة 6 : 91 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 29 ، الحديث 5 .
2- راجع وسائل الشيعة 8 : 508 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة المسافر ، الباب 17 ، الحديث 8 .
3- الكافي 3 : 318 / 6 ؛ وسائل الشيعة 6 : 105 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 40 ، الحديث 1 .

بالركعة ، كقوله : «زاد اللّه في عمرك»(1) منظور فيه ، بل الظاهر أنّ كلّ زيادة إذا زادت بعنوان الدخول في الصلاة وكونها جزءاً منها - جهلاً كانت أو عمداً أو سهواً أو نسياناً - تعدّ زيادة في المكتوبة .

نعم ، لو لم يأتِ [بها] بعنوان الصلاة لم يصدق أ نّه زاد في صلاته ، ولم تدلّ مثل هذه الأدلّة على بطلانها بها إلاّ قوله في باب زيادة سجدة العزيمة : «إنّها زيادة في المكتوبة» فإنّه يدلّ على أنّ الإتيان بأمثالها ولو بعنوان آخر من الزيادة .

وبالجملة : أنّ قوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» ظاهر في مطلق الزيادة .

وأمّا قوله : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة . . .» إلى آخره ، فهو وإن كان شموله لمطلق النقصان والزيادة ولو عن عمد ممّا لا محذور فيه عقلاً ؛ لإمكان أن يكون الإتيان بالخمسة موجباً لاستيفاء مرتبة من المصلحة ممّا لا يبقى معه مجال لاستيفاء المصلحة ثانياً بإعادتها مع بقيّة الأجزاء ، لكنّه منصرف عن الزيادة العمدية قطعاً ، وأمّا الزيادة من غير العمد فلا إشكال في شموله لها ، إلاّ أنّ المحكيّ عن المشهور اختصاصه بالخلل السهوي(2) .

وأمّا محتملات الحديث فكثيرة ، لا يبعد كون الأظهر منها أ نّه لا تعاد الصلاة من قبل شيء زيادة أو نقيصة إلاّ من قبل الخمسة زيادة أو نقيصة ، وعدم تصوّر

ص: 345


1- الصلاة ، المحقّق الحائري : 312 .
2- نهاية الأفكار 3 : 433 .

الزيادة في بعضها لا يضرّ بالظهور .

ودعوى ظهوره في النقيصة فقط ، أو في النقيصة في المستثنى دون المستثنى منه حتّى تصير الزيادة في الخمسة داخلة في المستثنى منه(1) ، مدفوعة ؛ ضرورة أنّ الزيادة في المهية بشرط لا مضرّة عرفاً بما أ نّها زيادة فيها وإن كانت راجعة إلى النقيصة عقلاً . فإذا قيل : إنّ الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم من غير زيادة ونقيصة ، تكون الزيادة مخلّة بها عرفاً ، من غير توجّه إلى أنّ العقل بحسب الدقّة يحكم بأنّ عدم الزيادة من قيود المأمور به وترجع الزيادة إلى النقصان ، كما يشهد بذلك التعبير في الروايات بالزيادة في المكتوبة ، فإذا قيل : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة» يكون ظهوره العرفي أنّ الزيادة والنقيصة الواردتين عليها من قِبل غير الخمسة لا توجبان الإعادة ، بخلاف الخمسة فإنّ زيادتها أو نقيصتها مخلّة .

فحينئذٍ تصير النسبة بين «لا تعاد . . .» وقوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» هي العموم من وجه ، إن قلنا بأنّ المستثنى والمستثنى منه جملتان مستقلّتان يقاس كلّ منهما إلى غيره في مقام التعارض بعد ورود الاستثناء على المستثنى منه ، فتنقلب النسبة ؛ فإنّ جملة المستثنى منه حينئذٍ تختصّ بغير الأركان وتعمّ الزيادة والنقيصة ، وقوله : «من زاد . . .» يختصّ بالزيادة ويعمّ الأركان وغيرها ، فيقع التعارض بينهما في الزيادة الغير الركنية .

وإن قلنا بأ نّهما جملة واحدة لهما ظهور واحد تلاحظ النسبة بينها وبين غيرها بنسبة واحدة ولحاظ واحد ، يمكن أن يقال أيضاً : بينهما العموم من

ص: 346


1- الصلاة ، المحقّق الحائري : 319 .

وجه ؛ لأنّ «لا تعاد . . .» أعمّ من النقيصة والزيادة ، ولا يشمل الزيادة العمدية انصرافاً ، وهو بمنزلة التقييد ، وقوله : «من زاد . . .» أعمّ من العمد وغيره على الأظهر .

ولو قلنا بأ نّه منصرف أيضاً عن العمد ؛ لأنّ الزيادة العمدية لا تصدر من المكلّف الذي بصدد إطاعة المولى ، فيكون منصرفاً عنها ، والبطلان بسببها إنّما هو بالمناط القطعي أو بدلالة نفس أدلّة الأجزاء والشرائط ، فتصير النسبة الأعمّ المطلق ؛ لأنّ الموضوع في «لا تعاد . . .» هو الصلاة بلحاظ جميع الأجزاء والشرائط ، والمحمول كالمردّد بين الركنية وغيرها ، فحديث «لا تعاد . . .» كقضيّة مردّدة المحمول ، فيكون الملحوظ فيها كلّ الأجزاء والشرائط وإن كان حكمها مختلفاً ، وقوله : «من زاد . . .» أيضاً يشمل كلّ الأجزاء إلاّ أ نّه مختصّ بالزيادة ، فحينئذٍ يخصّص «لا تعاد . . .» بالنقيصة ، فتبقى الزيادة موجبة للبطلان بمقتضى الدليل الخاصّ .

وأ مّا بناءً على كون النسبة هي العموم من وجه ، فقد يقال : إنّ حديث «لا تعاد . . .» حاكم على قوله : «من زاد . . .» وعلى سائر الأدلّة الدالّة على بطلان الصلاة بالزيادة ، كما أ نّه حاكم على الأدلّة المعتبرة للأجزاء والشرائط ، فقد ذهب إليه العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه (1) وتبعه المحقّقون(2) .

وقيل في وجه حكومته : إنّ قوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» إنّما هو

ص: 347


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 385 .
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 238 - 239 ؛ نهاية الدراية 4 : 374 - 375 ؛ نهاية الأفكار 3 : 442 .

بصدد بيان كون الصلاة متقيّدة بعدم الزيادة ، فهو على وزان الأدلّة الدالّة على اعتبار الأجزاء والشرائط ، فقوله : «لا تعاد . . .» ناظر إلى تحديد حدودها بأنّ الزيادة والنقيصة السهوية لا توجب الإعادة ، فهو حاكم عليها (1) .

ولا يخفى ما فيه ؛ لأنّ قوله : «من زاد في صلاته . . .» إنّما هو متعرّض للزوم الإعادة في صورة الزيادة ، وإن كان ملازماً لتقيّدها بعدم الزيادة ، والحكومة إنّما تتقوّم بلسان الدليل ، ومعلوم أنّ لسان «لا تعاد . . .» ولسان «عليه الإعادة»

واحد ، من غير أن يتعرّض أحدهما لما لا يتعرّض الآخر .

وبالجملة : ليس فيهما ميزان الحكومة ، وفرق بين قوله : «فاتحة الكتاب - مثلاً - جزء الصلاة» ، أو «اقرأ في الصلاة» وبين قوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» ؛ فإنّ الأوّل متعرّض لاعتبار القراءة فيها من غير تعرّض لحال تركها أو زيادتها ، ولسان «لا تعاد . . .» المتعرّض لحال تركها أو زيادتها لعذرٍ لسانُ الحكومة . وأمّا الثاني فهو متعرّض لحال الزيادة وأ نّه يجب الإعادة معها ، ولسانه لسان «لا تعاد . . .» بعينه .

والميزان الذي حقّقناه في الحكومة : من كون دليل الحاكم متعرّضاً لعقد الوضع أو الحمل توسعةً أو تضييقاً ، أو متعرّضاً لسلسلة العلل أو المعلولات(2) لم يكن في المقام ، فإنّ الدليلين هاهنا كلّ منهما متعرّض لما تعرّض الآخر ، وينفي أحدهما ما يثبت الآخر مع وحدة الموضوع والمحمول .

ص: 348


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 239 .
2- الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 269 .

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ حديث «لا تعاد . . .» أقوى ظهوراً من تلك الأدلّة ؛ لقوّة ظهوره لأجل الاستثناء ، ولأجل اشتمال ذيله على قوله : «القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة» لكونه تعليلاً للحكم .

بل يمكن أن يقال : إنّ لقوله : «السنّة لا تنقض الفريضة» نحو حكومة على الأدلّة ؛ لأنّ النقض واللا نقض في سلسلة علل الإعادة ، فإذا قيل : لا ينقض الصلاةَ الزيادةُ الكذائية تنهدم علّة الإعادة .

لكن في تقديم «لا تعاد . . .» على «من زاد في صلاته . . .» إشكال آخر ، وهو لزوم تخصيص الأكثر منه في الأدلّة ؛ فإنّ في المستثنى من حديث «لا تعاد . . .» لا يتصوّر الزيادة إلاّ في الركوع والسجود ، والزيادة العمدية على فرض دخولها في تلك الأدلّة تكون نادراً .

مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ حديث «لا تعاد . . .» يكون شموله للزيادة ظهوراً ضعيفاً ؛ حتّى أنكره بعض الفحول وادّعى ظهوره في النقيصة(1) فيحمل الحديث على النقيصة حملاً للظاهر على الأظهر ، فتبقى الزيادة موجبة للبطلان مطلقاً (2) . هذا حال «لا تعاد . . .» مع قوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» .

ص: 349


1- الصلاة ، المحقّق الحائري : 319 .
2- ويمكن التخلّص عن الإشكال بحمل قوله : «من زاد في صلاته . . .» على زيادة الركعة أو الركن - كما ادّعى شيخنا ظهورها في الأوّلأ - وهذا أقرب إلى فتاوى الأصحاب ، وإن ضعّفناه سابقاً(ب) في نفسه . [منه قدس سره] أ - الصلاة ، المحقّق الحائري : 312 . ب - تقدّم في الصفحة 344 - 345 .

النسبة بين حديثي «لا تعاد» و«إذا استيقن»

وأمّا النسبة بينه وبين قوله : «إذا استيقن أ نّه زاد في صلاته . . .» إلى آخره ، فهي العموم من وجه إن اعتبرت بينهما بلحاظ المستثنى منه ؛ فإنّ «لا تعاد . . .» أعمّ من الزيادة ومختصّ بغير الخمسة ، و«إذا استيقن . . .» أعمّ من الخمسة ومختصّ بالزيادة .

وإن اعتبرت بلحاظ مجموع المستثنى والمستثنى منه - كما أشرنا إليه آنفاً (1) - فالنسبة هي العموم المطلق ؛ فإنّ «لا تعاد . . .» أعمّ من الزيادة والنقيصة ، ومتكفّل بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها ، وأعمّ من السهو وسائر الأعذار ، بل الجهل عن تقصير أيضاً بحسب الظاهر مع قطع النظر عن الجهات الخارجية ، والحديث مختصّ بالزيادة ، ومثل «لا تعاد . . .» في سائر الجهات .

فعلى الثاني يخصّ «لا تعاد . . .» بالنقيصة ، وعلى الأوّل يقع التعارض بينهما ، وقضيّة الحكومة قد عرفت حالها ، وتقديم «لا تعاد . . .» عليه موجب للتخصيص الأكثر ، وأمّا تقديمه على «لا تعاد . . .» فلا محذور فيه إلاّ إذا صحّ الإجماع على الملازمة بين مبطلية الزيادة السهوية ومبطلية النقيصة السهوية ؛ لما يلزم منه صيرورة «لا تعاد . . .» بلا مورد ، لكنّ الدعوى غير ثابتة .

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ هذا الحديث قد رواه في «الكافي»(2)

ص: 350


1- تقدّم في الصفحة 346 .
2- الكافي 3: 354 / 2.

و«التهذيب»(1) و«الاستبصار»(2) - على ما في «الوافي»(3) - كما قدّمنا (4) ، ورواه في «الوسائل» مع زيادة «ركعة» فيه(5) ، وكذا رواه في شرح «الكافي» في باب السهو في الركوع بالسند المذكور بإسقاط بكير بن أعين ، والمتن المذكور بزيادة لفظة «ركعة»(6) ، وفي باب من سها في الأربع والخمس رواها عن زرارة وبكير بلا زيادة لفظ «ركعة» مع تفاوت يسير(7) ، ممّا يطمئنّ الفقيه بأ نّهما رواية واحدة قد سها بعض الرواة فيها بزيادة أو نقص ، وفي دوران الأمر بينهما لا يبعد تقديم أصالة عدم الزيادة .

وبالجملة : من لاحظ الروايتين يطمئنّ بأ نّهما واحدة ، ولا أقلّ من أ نّه لا يبقى وثوق بالنسبة إليها فتصير مجملة ، والقدر المتيقّن منها هو زيادة الركعة ،

ولا يبعد أن تكون «الركعة» بمعنى الركوع كما اُطلقت عليه في روايات اُخر(8)

ص: 351


1- تهذيب الأحكام 2 : 194 / 763 .
2- الاستبصار 1 : 376 / 1428 .
3- الوافي 8 : 964 / 7500 . ولا يخفى أنّ النسخة التي بأيدينا من «الوافي» نقلها عن «الكافي» فقط .
4- تقدّم في الصفحة 343 .
5- وسائل الشيعة 8 : 231 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 19 ، الحديث 1 .
6- مرآة العقول 15 : 187 / 3 .
7- مرآة العقول 15 : 200 / 2 .
8- كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام : في رجل شكّ بعد ما سجد أ نّه لم يركع ، قال : «فإن استيقن فليلق السجدتين اللتين لا ركعة لهما فيبني على التمام ، وإن كان لم يستيقن إلاّ بعد ما فرغ وانصرف فليقم فليصلّ ركعة وسجدتين ولا تثنى عليه» . راجع وسائل الشيعة 6 : 314 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 11 ، الحديث 1 - 3 .

فلا معارضة بينها وبين حديث «لا تعاد . . .»(1) .

وبعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه(2) - قد ارتكب اشتباهاً في بيان النسبة بين هذه الرواية و«لا تعاد . . .» ممّا لا ينقضي منه العجب، فراجع.

وأعجب من ذلك ما وقع منه أو من الفاضل المقرّر رحمهما اللّه في ذيل قوله : «تكملة» ؛ فإنّه بعد بيان ما صدق عليه الزيادة وما لم يصدق قال ما حاصله : إنّ الظاهر من التعليل في بعض الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في الصلاة من أنّ : «السجود زيادة في المكتوبة»(3) أ نّه لا يعتبر في صدقها عدم قصد الخلاف ، بل الإتيان بمطلق مسانخ أفعال الصلاة زيادة .

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المقدار المستفاد منه صدق الزيادة على ما لا يكون له حافظ وحدة ولم يكن بنفسه من العناوين المستقلّة ، وأمّا ما كان كذلك كإتيان صلاة في أثناء صلاة الظهر ، فالظاهر عدم اندراجه فيه ؛ لأنّ السجود والركوع المأتيّ بهما لصلاة اُخرى لا دخل لهما بصلاة الظهر ، ولا تصدق عليهما الزيادة فيها .

ص: 352


1- وظنّي أنّ الكليني لم يروِ الرواية تارةً مع الزيادة واُخرى مع النقيصة ، بل رواها مع الزيادة ، ولمّا احتمل في قوله : (ركعة) أن يكون بمعنى الركوع أثبتها في باب سهو الركوع ، ولمّا كان ظاهرها زيادة الركعة أثبتها في السهو في الركعات . [منه قدس سره]
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 239 - 240 .
3- الكافي 3 : 318 / 6 ؛ وسائل الشيعة 6 : 105 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 40 ، الحديث 1 .

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : ما ورد في بعض الأخبار من أ نّه لو ضاق وقت صلاة الآيات ، وخاف المكلّف أ نّه لو أخّرها إلى فراغ اليومية يفوت وقتها ، صلاّها في أثناء الصلاة اليومية ، ويبني عليها بعد الفراغ من الآيات من غير استئناف ، وليس ذلك إلاّ لعدم صدق الزيادة ، فيمكن التعدّي إلى عكس المسألة بإتيان الصلاة اليومية في أثناء الآيات في ضيق الوقت ، فإنّ بطلان الآيات إمّا للزيادة فالمفروض عدم الصدق ، وإمّا لفوات الموالاة فلا ضير فيه إذا كان لأجل واجب أهمّ ، وعلى هذا يبتني جواز الإتيان بسجدتي السهو من صلاة في أثناء صلاة اُخرى(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ كون الشيء ذا عنوان مستقلّ لا دخل له بصدق الزيادة وعدم صدقها ، ولا مجال للتشكيك في أنّ العرف يفهم من التعليل الوارد في باب النهي عن قراءة العزيمة من أنّ «السجدة زيادة في المكتوبة» أنّ الإتيان بصلاة مشتملة على التكبير والركوع والسجود والسلام أ نّها زيادة فيها .

نعم ، لولا التعليل الوارد في هذه الرواية يمكن أن يقال : إنّ الإتيان بشيء بغير عنوان الصلاة لا يعدّ من الزيادة - كما أشرنا إليه سابقاً (2) - كان له عنوان مستقلّ أو لم يكن .

وثانياً : أنّ سجدة العزيمة أيضاً لها عنوان مستقلّ ولها حافظ وحدة ، فلِمَ صارت الصلاة عنواناً مستقلاًّ دون سجدة العزيمة ، مع أ نّها عنوان مستقلّ مسبّب عن تلاوة آية السجدة ؟ !

ص: 353


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 242 - 243 .
2- تقدّم في الصفحة 345 .

وثالثاً : ما الفرق بين سجدة العزيمة وسجدتي السهو ؟ ! حيث يظهر منه عدم إبطالهما الصلاة ، مع أ نّهما أشبه بعدم الاستقلال .

ورابعاً : أنّ ما ورد في بعض الأخبار(1) إنّما هو في عكس المسألة ، وهو ما إذا ضاق وقت الفريضة اليومية في أثناء صلاة الآيات ، فدلّ الدليل على إقحامها في وسطها والبناء عليها بعد الفراغ من اليومية ، وقد أفتى الأصحاب على طبقها (2) ولا محذور فيه ، ولكن لا يجوز إسراء الحكم إلى إقحام الآيات في اليومية ، أو إقحام يومية في يومية اُخرى ؛ لجواز أن يكون للآيات خصوصية بها جاز إقحام اليومية فيها دون العكس .

وخامساً : أنّ ما ذكره - من أنّ البطلان إمّا للزيادة فلا تصدق ، وإمّا لفوات الموالاة فلا ضير؛ لأهمّية الفريضة - ممنوع ولو على اشتباهه؛ لأنّ أهمّية الفريضة لا توجب سقوط الموالاة إذا دلّ الدليل على اعتبارها مطلقاً ، بل إنّما توجب تقديم الأهمّ على المهمّ وإتيانه خارج الوقت ، إلاّ أن يسقط لأجل أهمّية الوقت .

نعم ، لو دلّ الدليل على طبق اشتباهه لا يبعد إلغاء الخصوصية عرفاً بالنسبة إلى سائر الفرائض .

ولا يخفى : أنّ أمثال هذه الاشتباهات العظيمة من الأعاظم إنّما هي للاعتماد على الحافظة والاغترار بها ، وليكن المحصّلون على ذكر من أمثاله ، ولا يعتمدون في الأحكام الشرعية على حفظهم ؛ فإنّه لا يتّفق للإنسان العصمة من الزلل إلاّ مَن عصمه اللّه .

ص: 354


1- راجع وسائل الشيعة 7 : 490 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الكسوف والآيات ، الباب 5 .
2- مدارك الأحكام 4 : 145 - 146 ؛ رياض المسائل 4 : 144 ؛ جواهر الكلام 11 : 463 .

البحث : في تعذّر الجزء أو الشرط

قوله : «الرابع : أ نّه لو علم بجزئية شيء . . .»(18) إلى آخره .

محصّل الكلام في المقام أ نّه قد يكون للدليل الدالّ على المركّب إطلاق دون دليل اعتبار الجزء أو الشرط ، وقد يكون بعكس ذلك ، وقد لا يكون لواحد منهما إطلاق ، وقد يكون لكليهما .

لا إشكال في الأوّلين ؛ لأ نّه على الأوّل منهما يجب الإتيان بالمركّب الفاقد للجزء أو الشرط بحكم إطلاق دليله ، وعلى الثاني لا يجب ؛ لتعذّره بتعذّر جزئه أو شرطه .

وأمّا إذا كان لكلا الدليلين إطلاق : فإمّا أن يكون لأحدهما تقدّم على الآخر بنحو الحكومة أو غيرها ، أو لا .

فعلى الأوّل : فإن كان التقدّم لدليل المركّب يكون حكمه كإطلاقه ، أو لدليل الجزء أو الشرط فكإطلاق دليلهما .

وأمّا ما يقال : من أنّ إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيّد ، كحكومة إطلاق القرينة على ذيها (1) ، فممنوع في المقيس والمقيس عليه .

أمّا في باب قرائن المجاز ؛ فلأنّ التقدّم ليس على نحو الحكومة غالباً ، بل من باب تقديم الأظهر على الظاهر ، والفرق بين البابين محقّق في محلّه(2) .

ص: 355


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 250 .
2- الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 264 - 268 .

وأمّا فيما نحن فيه ؛ فلأنّ دليل المركّب قد يكون حاكماً على دليل اعتبار الجزء أو الشرط ، كقوله : «الصلاة لا تترك بحال»(1) بالنسبة إلى قوله : «إقرأ» أو «الركوع جزء الصلاة» مثلاً .

لا يقال : المركّب ينتفي بانتفاء جزئه ، وكذا المقيّد بانتفاء قيده ، فلا تكون الصلاة بلا قراءة أو ركوع أو ستر صلاةً ، فلا يكون دليل المركّب حاكماً على دليلهما ، بل العكس أولى .

فإنّه يقال : المفروض في المقام هو القول بالأعمّ في باب المهيات المركّبة ، وإلاّ لا وجه للتمسّك بالإطلاق ، فالفاقد لهما صلاة ، وقوله : «الصلاة لا تُترك بحال» حاكم على أدلّتهما ، ووجه الحكومة أنّ دليل المركّب تعرّض لما لا تتعرّض له أدلّة اعتبار الجزء والشرط ، وهو مقام الترك المتأخّر عن اعتبارهما ، وقد ذكرنا في محلّه أ نّه داخل في باب الحكومة(2) .

نعم ، قد يكون دليل اعتبارهما حاكماً على دليل المركّب ، كقوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(3) و«لا صلاة إلاّ بطهور»(4) فإنّهما حاكمان على قوله :

ص: 356


1- راجع وسائل الشيعة 2 : 373 ، كتاب الطهارة ، أبواب الاستحاضة ، الباب 1 ، الحديث 5 .
2- الاستصحاب ، الإمام الخميني قدس سره : 269 .
3- عوالي اللآلي 3 : 82 / 65 ؛ مستدرك الوسائل 4 : 158 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 5 .
4- تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ؛ وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

«الصلاة لا تترك بحال» فضلاً عن غيره من أمثال قوله : )أَقِمِ الصّلَوةَ ((1) .

وأمّا لو لم يكن لأحد الدليلين حكومة ، أو تقدّم على الآخر مع قطع النظر عن باب الترجيح ، يكون الحكم كما لو لم يكن لهما إطلاق .

ولعلّ إلى ما ذكرنا - من التفصيل بين ما إذا كان دليل اعتبارهما مثل قوله :

«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أو «لا صلاة إلاّ بطهور» وبين غيرهما ممّا لا يكون لدليل اعتبارهما حكومة على دليل المركّب - يرجع(2) ما نسب من التفصيل إلى الوحيد البهبهاني قدّس سرّه على ما في تقريرات بعض أعاظم عصرنا ، لا إلى ما ذكره من التوجيه ، فإنّه غير وجيه .

قال ما محصّله : إنّ مقتضى إطلاق دليل القيد سقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد مطلقاً ، سواء يستفاد القيد من مثل «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أو من مثل الأوامر والنواهي الغيرية ، وقد نسب التفصيل بينهما إلى الوحيد البهبهاني ، فذهب إلى سقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد في الأوّل دون الثاني .

ويمكن توجيهه بأنّ الأمر الغيري مقصور بالتمكّن من متعلّقه ؛ لاشتراط كلّ خطاب بالقدرة عليه ، فلا بدّ من سقوط الأمر بالقيد عند عدم التمكّن منه ، ويبقى الأمر بالباقي على حاله ، وهذا بخلاف القيدية المستفادة من مثل قوله : «لا صلاة

ص: 357


1- الإسراء (17) : 78 .
2- وجه رجوعه إليه : أ نّه في صورة حكومة دليل اعتبارهما يصير المركّب متعذّراً ، فيسقط الأمر به ، وفي صورة عدم الحكومة يكون قوله : «الصلاة لا تترك بحال» محكّماً ، فيجب الإتيان به . منه عفي عنه .

إلاّ بفاتحة الكتاب ، والطهور» ممّا يفيد القيدية بلسان الوضع لا التكليف ، فلا يشترط فيه القدرة ، هذا غاية ما يمكن توجيهه .

ولا يخفى ما فيه ؛ لأنّ القدرة معتبرة في متعلّقات التكاليف النفسية ؛ لكونها طلباً مولوياً وبعثاً فعلياً ، بخلاف الخطابات الغيرية ؛ فإنّه يمكن أن يقال : إنّ مفادها ليس إلاّ الإرشاد إلى دخل متعلّقاتها في متعلّق الخطاب النفسي ، كالخطابات الغيرية في باب الوضع والأسباب والمسبّبات ؛ حيث إنّ مفادها ليس إلاّ دخل المتعلّق في حصول المسبّب ، ففي الحقيقة الخطابات الغيرية مطلقاً بمنزلة الإخبار من دون بعث وتحريك حتّى تقتضي القدرة على المتعلّق .

ولو سلّم الفرق بين الوضعيات والتكليفيات ، وأنّ الخطاب في الثانية يتضمّن البعث ، فلا إشكال في أ نّه ليس في آحاد الخطابات ملاك البعث المولوي ، وإلاّ لخرجت عن كونها غيرية ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة معتبرة فيه لا فيها ، فلا فرق بين القيدية المستفادة من مثل : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أو المستفادة من الأمر والنهي الغيري(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أ نّه لو أراد الوحيد البهبهاني رحمه الله علیه أن يفصّل بين الوضعيات والتكليفيات ، فلا وجه لاختصاصه بمثل المثالين ممّا لهما جهة زائدة على إفادة الوضع ، فالظاهر منه تحقّق نحو خصوصية في مثلهما دون غيرهما ، تأمّل .

وثانياً : أنّ ما ذكره - من أنّ الخطابات الغيرية تكون بمنزلة الإخبار بالجزئية أو الشرطية ، ولا بعث فيها بوجه - ممّا تكون الضرورة على خلافه ؛ فإنّ الأوامر

ص: 358


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 251 - 253 .

مطلقاً نفسية كانت أو غيرها مولوية أو إرشادية ، إنّما هي للبعث والتحريك نحو المتعلّق من غير فرق بينها من هذه الجهة .

إنّما الفرق بينها من جهات اُخرى : فإنّ الغرض من البعث النفسي المولوي الوصول إلى المطلوب الذاتي ، ومن البعث الغيري إفادة دخالته في المطلوب الذاتي جزءاً أو شرطاً ، ومن البعث الإرشادي هو الإرشاد إلى ما يحكم به العقل ، أو الإرشاد إلى دخالته فيما هو مطلوب المكلّف ، كأوامر الأطبّاء التي هي إرشاد إلى دخالة المأمور به في إرجاع الصحّة ، فجميع الأوامر والنواهي مشتركة في كونها بعثاً وتحريكاً نحو المتعلّقات كما يحكم به الوجدان ، ويظهر بالمراجعة إلى موارد استعمال الأوامر والنواهي الإرشادية والغيرية ، ولا إشكال في عدم الفرق في اعتبار القدرة في المتعلّقات بين أنحاء البعث والتحريك .

فما ذكره أخيراً - من أ نّه لا إشكال في أ نّه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولوي ، وإلاّ لخرجت عن كونها غيرية - فيه ما لا يخفى ؛ فإنّه بعد تسليم أنّ التكاليف الغيرية أيضاً تتضمّن البعث والتحريك ، لا بدّ من تسليم اعتبار القدرة في متعلّقاتها ؛ فإنّ الملاك في اعتبارها ليس المولوية ، بل نفس البعث والتحريك .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ كلاًّ من توجيهه لكلام الوحيد وإشكاله عليه ليس على ما ينبغي .

ثمّ إنّ محلّ البحث في المسألة إنّما هو في موردين :

أحدهما : إذا لم يكن لدليل المركّب ولا لدليل اعتبار الجزء أو الشرط إطلاق .

وثانيهما : ما إذا كان لهما إطلاق ، ولكن لا يكون أحد الإطلاقين مقدّماً

ص: 359

على الآخر بنحو من التقدّم .

فالكلام إنّما يقع في مقامين : أحدهما : في مقتضى الأصل العقلي والقاعدة الأوّلية ، وثانيهما : في مقتضى القواعد الاُخر :

المقام الأوّل : في مقتضى القواعد الأوّلية

في جريان البراءة العقلية

فالحقّ فيه جريان البراءة ، سواء كان العجز من أوّل زمن التكليف ، كمن لا يقدر على القراءة من أوّل بلوغه ، أو كان طارئاً في واقعة واحدة ، كما إذا كان في أوّل الظهر قادراً على إتيان الصلاة تامّة ثمّ طرأ عليه العجز عن جزء أو شرط في الوقت ، أو في واقعتين كالقادر في الأيّام السابقة الطارئ عليه العجز في يومه ؛ لأنّ الشكّ في كلّها يرجع إلى أصل التكليف :

أمّا في الأوّل : فواضح .

وأمّا في الثالث : فلأنّ التكليف في الأيّام السابقة لم يكن حجّة عليه بالنسبة إلى يومه ، فهو في هذا اليوم شاكّ في توجّه التكليف إليه .

وأمّا في الثاني : فلأنّ التكليف وإن توجّه إليه في أوّل الوقت ، لكنّ المتيقّن منه هو التكليف بالصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، وهو ساقط للعجز عنه ، والتكليف بالفاقد للجزء أو الشرط مشكوك فيه من أوّل الأمر ، فلا يكون الشكّ في السقوط ، بل يكون في الثبوت .

ص: 360

والقياس بالشكّ في القدرة - حيث يحكم العقل فيه بالاحتياط - مع الفارق ؛ لأنّ [في] مورد الشكّ في القدرة يكون التكليف الفعلي من قِبل المولى معلوماً يشكّ في العجز عن إتيانه ، وفيما نحن فيه يكون المعلوم هو الجزئية في حال القدرة ، وفي حال العجز يشكّ في جزئيته ، فالعجز عن الجزء معلوم ، والتكليف بالفاقد مشكوك فيه مع القدرة عليه ، فلا يقاس بالشكّ فيها .

كما أنّ القياس بالعلم الإجمالي الذي طرأ الاضطرار على بعض أطرافه ؛ حيث يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية مع العجز عن الموافقة القطعية - أيضاً - مع الفارق ؛ لعدم العلم الإجمالي في المقام ، وإنّما فيه علم تفصيلي بوجوب الصلاة التامّة الأجزاء والشرائط ، وشكّ بدوي في وجوب الفاقدة لبعضها ، فلا إشكال في جريان البراءة العقلية .

في جريان البراءة الشرعية

كما لا إشكال في عدم جريان مثل حديث الرفع لإثبات وجوب البقيّة إذا لم يكن لدليل المركّب ولا لدليل اعتبارهما إطلاق ؛ لأنّ رفع الجزئية أو الشرطية لا يفيد وجوب البقيّة ، ووجوبها لم يكن مفاد دليل الرفع ؛ لأنّ مفاده ليس إلاّ الرفع لا الإثبات ، وهذا غير كونه خلاف المنّة ؛ لأنّ فرض مخالفة المنّة إنّما هو بعد فرض جريانه في ذاته ، والحال أنّ إثبات الحكم ليس مفاده .

نعم ، إذا كان للدليلين إطلاق من غير تقدّم لأحدهما على الآخر ، يمكن رفع الجزئية بالحديث والتمسّك بإطلاق دليل المركّب لإثبات وجوب البقيّة ؛ لرفع التعارض بينه وبين دليل الجزء ببركة حديث الرفع وحكومته ، وليس هذا خلاف

ص: 361

المنّة حتّى لا يجري الحديث ؛ لأنّ موافقة المنّة ومخالفتها إنّما تلحظان في مجرى الحديث ، ورفع الجزء حين الاضطرار منّة ، وإثبات وجوب البقيّة ليس بمفاده ، ولا من لوازمه العادية أو العرفية أو العقلية ، بل لازمه رفع التعارض ، ومع رفعه يكون إثبات الحكم مفاد دليل المركّب .

هذا ، لكنّ الحديث إنّما يجري في الاضطرار العادي ، وأمّا الاضطرار العقلي فيمكن أن يقال: إنّه لا يكون مجرى الحديث؛ لأنّ العقل يحكم بسقوطه، تأ مّل(1).

المقام الثاني : في مقتضى القواعد الثانوية

التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء

فربّما يتمسّك بالاستصحاب لوجوب ما عدا المتعذّر ، وبقاعدة الميسور(2) .

أمّا الاستصحاب فيقرّر بوجوه :

أحدها : استصحاب القسم الثالث من الكلّي .

ص: 362


1- ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو على فرض جريان حديث الرفع في الاضطرار على الترك ، وأمّا على عدمه فلا ، وجريان قوله : «ما لا يعلمون» وإن كان لا مانع منه ولا فرق فيه بين الموارد ، لكنّه لا يفيد في المقام على الظاهر ، ويشكل القول بحكومته على دليل الجزء ، ومعأ تعارضه مع دليل المركّب حتّى يبقى دليل المركّب قابلاً للتمسّك به لإثبات وجوب البقيّة . [منه قدس سره] أ - كذا في المخطوطة ، والظاهر أنّ الصحيح هو «رفع» بدل «مع» .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 389 .

إمّا بأن يقال : إنّ البقيّة كانت واجبة بالوجوب الغيري حال وجوب الكلّ ، وقد ارتفع ، وشكّ في حدوث الوجوب النفسي لها مقارناً لزواله ، فالجامع بينهما كان متيقّناً وشكّ في ارتفاعه(1) .

أو بأن يقال : إنّ البقيّة كانت واجبة بالوجوب الضمني النفسي ، وقد ارتفع ، وشكّ في حدوث الواجب النفسي الاستقلالي ، فالجامع بينهما كان متيقّن الوجود بوجود مصداقه ، ومشكوك فيه لأجل الشكّ في حدوث مصداقه الآخر(2) .

ويرد عليهما : أنّ الجامع بين الوجوبين لا يكون حكماً ولا موضوعاً ذا حكم ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، أمّا عدم كونه موضوعاً فواضح ، وأمّا عدم كونه حكماً فلأنّ الحكم المجعول هو كلّ واحد من الوجوبين ؛ أي ما هو بالحمل الشائع وجوب وحكم ، وأمّا الجامع بينهما فهو أمر انتزاعي غير متعلّق للجعل ، فبعد ما حكم الشارع بوجوب الصلاة ووجوب الصوم - مثلاً - ينتزع العقل منهما أمراً مشتركاً جامعاً بينهما من غير تعلّق جعل به ، فالحكم هو مصداق الجامع لا نفسه .

وإن شئت قلت : إنّ الجامع بنعت الكثرة حكم شرعي ، وبنعت الوحدة لم يكن حكماً ولا مجعولاً ، فلا يجري فيه الاستصحاب .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الوجوب الغيري للأجزاء ممّا لا محصّل له كالوجوب النفسي لها أيضاً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فسيأتي الكلام فيه .

الثاني : استصحاب الوجوب النفسي الشخصي ؛ بدعوى المسامحة العرفية

ص: 363


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 389 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 279 .

في موضوعه ، فإنّ تعذّر بعض أجزاء المركّب لا يضرّ به عرفاً ، كما إذا كان زيد واجب الإكرام فقطعت يده أو رجله فشكّ في وجوب إكرامه ، فإنّه لا إشكال في استصحاب الوجوب(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ قياس العناوين الكلّية بالموجود الخارجي مع الفارق ، فإنّ كلّ عنوان كلّي مع فقدان قيد أو جزء أو زيادة قيد أو جزء يصير عنواناً مغايراً للأوّل عرفاً ، فالإنسان العالم غير الإنسان الغير العالم ، والماء المتغيّر غير الماء الغير

المتغيّر ، والصلاة مع السورة غير الصلاة بغيرها . . . وهكذا ، وأمّا الاُمور الموجودة في الخارج فقد يكون فقدان أمر أو اُمور منه ، أو زيادة صفة أو جزء عليه ، لا يوجب اختلاف الشخصية والهذية ممّا تعتبر في الاستصحاب .

فإذا وجب إكرام زيد ، أو تنجّس الكرّ بالتغيّر ، ثمّ زال بعض أجزاء زيد أو أوصافه ، وزال تغيّر الماء ، وشكّ في بقاء الحكم ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، وذلك لبقاء الهوهوية عرفاً ، وهذا بخلاف العناوين الكلّية الغير المتحقّقة ، كالصلاة الكلّية المركّبة من الأجزاء والشرائط ، فإنّ رفع جزء أو قيد منها موجب لتبدّل الموضوع إلى موضوع آخر عرفاً .

وثانياً : أنّ ما يقال في الاستصحاب من أنّ تبدّل بعض الحالات لا يوجب تغيّر الموضوع ، إنّما يكون فيما إذا تعلّق حكم بعنوان وشكّ في كونه واسطة في الثبوت أو في العروض ، وإن شئت قلت : شكّ في أنّ العنوان دخيل في الحكم

ص: 364


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 389 ، و26 : 280 ؛ اُنظر نهاية الدراية 4 : 382 .

حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط ، فيستصحب مع زوال العنوان ، وأمّا إذا علم أنّ العنوان دخيل في الحكم ويكون جزءاً للموضوع ، فلا معنى لجريان الاستصحاب . وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّا نعلم أنّ الأمر متعلّق بالمركّب بما له من الأجزاء ، فمع انتفاء جزء منه ينتفي الحكم المتعلّق بالمركّب بالضرورة ، فلا معنى للشكّ في بقاء شخص الحكم .

ولا يمكن أن يقال : إنّ وجود الجزء المفقود وعدمه سواء لدى العرف ؛ فإنّه نظير الحالات المتبادلة ، نظير استصحاب الكرّية فيما نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على الكرّية ؛ وذلك لأنّ الجزء بالنسبة إلى المركّب - بعد تسليم كونه جزءاً -

لا يكون إلاّ مقوّماً ، لا من قبيل الحالات ، وقياسه باستصحاب الكرّية مع الفارق ؛ لأنّ دخالة المقدار المفقود في الكرّية مشكوك فيها ؛ لاحتمال كون الكرّ هو البقيّة، فيكون المقدار الناقص كالحجر جنب الإنسان، وأمّا جزء المركّب فدخالته في تعلّق الحكم به معلومة ، كما أنّ فقدان المركّب بفقدان بعض الأجزاء كذلك ، كما أنّ رفع الحكم برفع موضوعه كذلك ، فلا مجال لدعوى الشكّ في المقام .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أ نّه لا مجال لاستصحاب الحكم الشخصي من باب المسامحة العرفية في الموضوع .

الثالث : استصحاب الوجوب النفسي الشخصي أيضاً ؛ بأن يقال : إنّ البقيّة

واجبة بالوجوب النفسي ، ونشكّ في ارتفاعه ؛ لاحتمال أن تكون الجزئية مقصورة على حال التمكّن منه ، فيبقى وجوب الباقي على حاله(1) .

ص: 365


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 280 .

وفيه : أ نّه لا يعقل أن يتعلّق طلب شخصي أو إرادة شخصية بالمركّب التامّ والناقص ، وتعدّد المطلوب موجب لتعدّد الطلب والإرادة ، فيتعلّق طلب وإرادة على التامّ لمن يقدر عليه ، وطلب آخر وإرادة اُخرى على الناقص لمن لا يقدر عليه ، ولا يعقل بقاء الطلب المتعلّق بالتامّ مع فقد جزئه ، فلا مجال لاستصحاب الحكم الشخصي .

الرابع : استصحاب الحكم الشخصي النفسي أيضاً ؛ بأن يقال : إنّ الأجزاء الباقية واجبة بعين الوجوب المتعلّق بالمركّب ؛ فإنّ وجوبه ينبسط على الأجزاء بالأسر ، فإذا زال انبساطه عن الجزء المتعذّر يشكّ في زوال انبساطه عن سائر الأجزاء ، فيستصحب بلا مسامحة في الموضوع ولا في المستصحب(1) .

وفيه ما لا يخفى :

أمّا أوّلاً : فلأنّ انبساط الوجوب على الأجزاء ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ الإرادة أمر بسيط تتعلّق بالمركّب في حال الوحدة واضمحلال الأجزاء وفنائها في صورته الوحدانية ، فتعلّق الإرادة بالمركّب من قبيل تعلّق واحد بواحد لا واحد بكثير ، لا بمعنى كون الأجزاء من قبيل المحصّلات له ، بل هي عينه في صورة الوحدة ، فلا معنى لانبساط الإرادة البسيطة على الأجزاء وتجزّئها بتبعها ، ولا تعلّق إرادات بها .

وكذا الحال في الوجوب والبعث الناشئ عنها ، فإنّه أيضاً واحد متعلّق بواحد من غير قبول تجزئة ولا انبساط ، فلا يبعث الأمر إلاّ إلى نفس المركّب في

ص: 366


1- نهاية الدراية 4 : 385 .

حال رؤية الوحدة ، ولا يتعلّق الوجوب إلاّ به في هذا الحال .

نعم ، البعث إلى المركّب عين البعث إلى الأجزاء في حال الوحدة من غير تجزئة وتكثير ، وقد بسطنا القول فيه في مبحث الأقلّ والأكثر(1) ، فلا معنى لرفع الوجوب عن جزء وبقائه للبقيّة .

وثانياً : لو سلّم كونه منبسطاً على الأجزاء انبساط العرض على موضوعه ، لكنّ الوجوب المتعلّق بالأجزاء تبع لوجوب المركّب ، ولا يعقل بقاء الوجوب على المركّب مع انتفاء بعض أجزائه ، فالوجوب الشخصي المتعلّق بالمركّب ينتفي بالضرورة ، وبانتفائه ينتفي الوجوب الضمني التبعي المتعلّق بالأجزاء ، فلا معنى للشكّ في بقائه .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له في بقيّة الأجزاء.

التمسّك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب باقي الأجزاء

وأمّا القاعدة ، فقد يقال(2) : إنّ وجوب الإتيان بالبقيّة هو مقتضى النبوي المشهور : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(3) والعلويين المشهورين : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(4) و«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(5) .

ص: 367


1- تقدّم في الصفحة 264 - 266 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 389 .
3- عوالي اللآلي 4 : 58 / 206 .
4- عوالي اللآلي 4 : 58 / 205 .
5- عوالي اللآلي 4 : 58 / 207 .

فلا بدّ من بيان حدود دلالتها مع الغضّ عن ضعف أسنادها وعدم جبرها باستناد المتأخّرين عليها مع عدم ذكرها في كلام المتقدّمين على ما ذكر(1) .

الكلام في مفاد النبوي

أمّا النبوي فمع قطع النظر عن صدره المرويّ في قضيّة الحجّ ، فأظهر احتمالاته أ نّه إذا أمرتكم بشيءٍ أعمّ من المركّب ذي الأجزاء أو الكلّي ذي الأفراد ، فأتوا منه كلّ ما كان في استطاعتكم .

وما يقال : إنّ نسبة الأفراد إلى الكلّي ليست نسبة البعض إلى الكلّ ، والظاهر من لفظة «من» هو كونها تبعيضية ، فلا بدّ من حمله على المركّب دون الأعمّ(2) .

فمردود ؛ لأنّ معنى كون لفظة «من» تبعيضية ليس كونها مرادفة للفظ «بعض» فإنّه ضروري البطلان ، بل المراد أ نّه قد ينطبق على ما هو بعض المركّب ، فليس معنى «أكلت من السمكة» أ نّه أكلت بعضها ، كما يظهر بالمراجعة إلى موارد استعمالاتها في العربية ومرادفها في الفارسية ، ألا ترى أنّ قوله : «البيع الكذائي من طبيعة البيع» و«إنّ زيداً من طبيعة الإنسان» ليس تجوّزاً ، ولو قال : «إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة فأتوا منها كلّ فرد يكون في استطاعتكم» ليس مرتكباً لخلاف الظاهر .

وإن أبيت عن ذلك يمكن أن يقال : إنّ الطبيعة في نظر العرف بمنزلة مخزن يخرج منه الأفراد ، فيكون منطبقاً على التبعيض بالحمل الشائع عرفاً ، فحينئذٍ

ص: 368


1- عوائد الأيّام : 262 .
2- اُنظر نهاية الدراية 4 : 387 .

يكون قوله : «إذا أمرتكم بشيء . . .» أعمّ من المركّب والطبيعة ، ولا داعي لاختصاصه بأحدهما .

ومنه يعرف النظر في كلام بعض أعاظم العصر - من أنّ إرادة الأعمّ توجب استعمال لفظة «من» في الأكثر ؛ لعدم الجامع بين الأجزاء والأفراد ، ولحاظ الأجزاء يباين لحاظ الأفراد ، ولا يصحّ استعمال كلمة «من» في الأعمّ وإن صحّ استعمال لفظة «شيء» في الأعمّ من الكلّ والكلّي(1) - لما عرفت من أنّ لفظة «من» ليست مرادفة للبعض ، بل يكون معناها أنّ ما بعدها مقتطع ممّا قبلها بنحوٍ من الاقتطاع ، أو يكون ما قبلها مخزناً لما بعدها كالطبيعة بالنسبة إلى الأفراد عرفاً . هذا كلّه مع قطع النظر عن صدره .

وأمّا بالنظر إليه فالظاهر منه إرادة الأفراد ، لا الأجزاء ولا الأعمّ منهما ؛ لمخالفتهما لسوق الحديث ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ إعراضه رحمهما اللّه عن عكاشة أو سراقة واعتراضه رحمهما اللّه عليه لمكان أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة إذا وجبت

يسقط وجوبها بإتيان أوّل مصداق منها ، فبعد هذا الحكم العقلي لا مجال للسؤال والإصرار عليه ، ولذا قال رحمهما اللّه بناءً على هذا النقل : «ويحك ، ما يؤمنك أن أقول : نعم ؟ ! واللّه لو قلت : نعم ، لوجب»(2) أي في كلّ سنة .

وأمّا مع عدم قوله : «نعم» فيكون على طبق حكم العقل ، وهو السقوط بإتيان أوّل المصاديق ، فقوله : «إذا أمرتكم بشيء . . .» - بعد هذا السؤال والجواب -

ص: 369


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 254 - 255 .
2- راجع مجمع البيان 3 : 386 ؛ بحار الأنوار 22 : 31 ؛ صحيح مسلم 3 : 149 / 1337 ؛ سنن النسائي 5 : 110 .

قاعدة كلّية مطابقة لحكم العقل من السقوط بأوّل المصاديق ، فحينئذٍ تكون لفظة «ما» في قوله : «ما استطعتم» مصدرية زمانية ؛ أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه زمان استطاعتكم ، وليست موصولة حتّى يكون النبي رحمهما اللّه بصدد تحميل كلّ مصداق مستطاع ، فإنّه خلاف مساق الحديث ، فحينئذٍ لا معنى لإرادة المركّب ؛ فإنّ المركّب إذا وجب علينا لا بدّ لنا من إتيان تمام أجزائه لا بعض أجزائه .

الكلام في مفاد العلوي الأوّل

وأمّا العلوي الأوّل ففيه احتمالات :

أحدها : أنّ الميسور لا يسقط عن عهدة المكلّف .

والثاني : أنّ حكمه لا يسقط عن عهدته .

والثالث : أنّ حكمه لا يسقط عن موضوعه .

والرابع : أنّ الميسور لا يسقط عن موضوعيته للحكم .

أظهرها الأوّل ؛ لأ نّه يعتبر في تحقّق مفهوم السقوط أمران :

أحدهما : كون ما يتعلّق به السقوط ثابتاً بنحو من الأنحاء .

وثانيهما : كون ما ثبت في محلّ مرتفع بنحو من الارتفاع يمكن أن يسقط منه وأن لا يسقط .

والطبائع لمّا كانت ثابتة على عهدة المكلّف ورقبته بواسطة الأوامر ، فكأنّ عهدته ورقبته محلّ مرتفع يكون المكلّف به محمولاً عليه بواسطة الأمر ، فإذا ثبت المكلّف به على عهدته ثبتت أجزاؤه بعين ثبوته ، وإذا تعذّر جزء منه وسقط لتعذّره لا تثبت بقيّة الأجزاء لولا قيام الدليل عليه .

ص: 370

وأمّا بعد ورود مثل قوله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» فلا تسقط البقيّة حقيقةً من غير مسامحة ولو كان ملاك الثبوت مختلفاً ؛ فإنّ ملاكه قبل التعذّر هو الأمر المتعلّق بالمركّب ، وبعده هو الأمر المتعلّق بالبقيّة المستفاد من مثل قوله ذلك ، واختلاف جهة الثبوت لا يوجب اختلاف أصله ، كالدعائم التي تتبدّل تحت سقف محفوظ بها ، فإنّ شخص السقف محفوظ وباقٍ بواسطتها حقيقةً وإن كانت هي متبادلة .

فحاصل المعنى : أنّ الميسور من الطبيعة الذي هو ثابت على عهدة المكلّف لا يسقط عنه بالمعسور وإن كان عدم السقوط لأجل أمر آخر ؛ لتعدّد المطلوب والطلب .

وأمّا الاحتمالات الاُخر فأردؤها الأخير ، وإن اشترك الكلّ في مخالفة الظاهر والاحتياج إلى المسامحة ، وإنّما الأردئية باعتبار أنّ لفظة «السقوط» لا تلائم هذا الاحتمال ؛ لما عرفت من اعتبار كون الساقط في محلّ مرتفع ولو اعتباراً ككون الحكم بالنسبة إلى الموضوع ، وأمّا كون الموضوع موضوعاً للحكم فلا يعتبر فيه العلوّ حتّى يطلق عليه السقوط إلاّ مسامحة ؛ لأنّ الحكم يسقط عن الموضوع ، لا الموضوع عن الموضوعية إلاّ تبعاً وعرضاً . نعم ، لو كان الموضوع لأجل موضوعيته صار مكانه مرتفعاً يقال : سقط عنه ، كسقوط الأمير عن الإمارة ، وليس هذا الاعتبار فيما نحن فيه .

وأمّا خلاف الظاهر المشترك بينها ؛ فلأنّ الحكم الأوّل المتعلّق بالميسور - سواء قلنا : إنّه وجوب غيري أو نفسي ضمني - يسقط بتعذّر بعض الأجزاء ،

ص: 371

والثابت له إنّما هو حكم آخر بأمر آخر ، فنسبة [عدم] السقوط إليه يحتاج إلى المسامحة ، بخلاف الاحتمال الأوّل(1) .

ص: 372


1- وممّا ذكر يتّضح فساد ما قيل : إنّ المراد من عدم السقوط عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي أو الاستحبابى ؛ لظهور الحديث في ثبوت ما ثبت سابقاً بعين ثبوته أوّلاً ، الراجع إلى إبقاء الأمر السابق ، نظير قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»أ الشامل للوجوب والاستحباب(ب) . وذلك لأنّ الحكم الوحداني الثابت على المركّب ، والإرادة الوحدانية المتعلّقة بالمجموع الوحداني المتشخّصة بتشخّص المراد ، لا يمكن بقاؤهما مع عدم بقاء الموضوع والمتعلّق ، وعدم بقاء المركّب بعدم بعض الأجزاء ضروري ، ومعه كيف يمكن البقاء ؟ ! والقياس بأدلّة الاستصحاب في غير محلّه ؛ ضرورة أنّ مفادها التعبّد بإبقاء اليقين عند الشكّ في بقاء المتيقّن ، وفي المقام لا شكّ في سقوط ما ثبت ؛ أي الحكم ، نعم يشكّ في ثبوت البقيّة على الذمّة ؛ لاحتمال مقارنة وجود علّة اُخرى لفقد علّته الاُولى ، كما عرفت . وأمّا التشبّث بالتسامح العرفي - كما صنع الشيخ(ج) وتبعه شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه(د) - فغير واضح ؛ لمنع ذلك ؛ فإنّ الوجوب التبعي الغيري الساقط كيف يكون عند العرف عين الوجوب النفسي الثابت بدليل آخر؟! وقد عرفت سابقاً حال التسامح في الموضوع(ه ) أيضاً . [منه قدس سره] أ - الكافي 3 : 351 / 3 ؛ وسائل الشيعة 8 : 216 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 ، الحديث 3 . ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 255 ؛ نهاية الأفكار 3 : 457 - 458 . ج - فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 392 . د - درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 501 . ه- تقدّم في الصفحة 363 - 365 .

ثمّ إنّه على هذا الاحتمال لا يبعد ظهوره في الواجبات ؛ لعدم العهدة في المستحبّات ، وإن كان اعتبار العهدة فيها أيضاً لا يخلو من وجه ، وأمّا مع دعوى ظهوره في الواجبات فتسرية الحكم إلى المستحبّات - بدعوى تنقيح المناط أو إلقاء الخصوصية(1) - فمجازفة .

الكلام في مفاد العلوي الثاني

وأمّا العلوي الثاني وهو قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فلا يبعد ظهوره في الكلّ المجموعي ، لكن دلالته على حرمة ترك البقيّة مبنيّة على أظهرية «لا يترك كلّه» في مفاده من ظهور الموصول في مطلق الراجحات ، وهو غير معلوم .

وما أفاد العلاّمة الأنصاري - من أنّ قوله : «لا يترك» كما أ نّه قرينة على تخصيص الموصول بغير المباحات والمحرّمات قرينة على ذلك أيضاً (2) - ممنوع ؛ فإنّ القرينة على صَرف الموصول عن غير الراجحات هو قوله : «لا يدرك كلّه» ؛ لأنّ الدرك واللا درك إنّما يطلقان في مقام يكون للمكلّف - بما هو كذلك - داعٍ إلى إتيانه وكذا للآمر ، وهو لا يكون إلاّ في الراجحات .

فيكون معنى قوله : «ما لا يدرك كلّه» أي كلّ راجح يكون للمكلّف داعٍ إلى

ص: 373


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 394 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 393 - 394 .

إتيانه ولم يدرك كلّه لا يترك كلّه ، فيمكن أن يدّعى أنّ ظهور الصدر في مطلق الراجحات قرينة على صَرف الذيل عن الظهور في التحريم ، فيحمل على مطلق المرجوحية .

والسرّ في قرينية الصدر على الذيل غالباً - إلاّ أن يكون ظهور الذيل أقوى - أ نّه إذا توجّه ذهن المخاطب إلى الصدر وجلب ذهنه إلى ظهوره ، يمنع ذلك عن انعقاد الظهور للذيل ، فلا بدّ أن يكون للذيل ظهور أقوى منه حتّى ينصرف الذهن عمّا توجّه إليه .

وإن شئت قلت : إنّ مانعية ظهور الصدر عن انعقاد ظهور الذيل أهون من رافعية ظهور الذيل لظهور الصدر ؛ فإنّ الدفع أهون من الرفع .

ولو منع من ذلك فلا أقلّ فيما نحن فيه من عدم رجحان ظهور الذيل على ظهور الصدر في العموم .

ثمّ إنّ الكلّ في الجملتين : إمّا أن يراد منه المجموع ، أو كلّ جزء منه ، أو يراد في الاُولى المجموع وفي الثانية كلّ جزء منه ، أو بالعكس .

لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ درك المجموع بدرك جميع أجزائه ، وعدم دركه بعدم درك بعضها ، وأمّا ترك المجموع فبترك بعض أجزائه ، وعدم تركه بإتيان جميعها ، فيصير المعنى - حينئذٍ - ما لا يمكن إتيان جميع أجزائه يؤتى بجميع أجزائه ، وفساده واضح ، ومنه يظهر فساد الاحتمال الرابع .

وأ مّا الاحتمال الثاني ، وهو أ نّه ما لا يدرك كلّ جزء منه لا يترك كلّ جزء منه ، فهو ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ مقابل درك كلّ جزء منه عدم درك

ص: 374

كلّ جزء ، وهو مساوق لدرك البعض ، ومقابل ترك كلّ جزء عدم تركه المساوق لعدم ترك البعض ، ويفهم منه عرفاً عدم ترك البقيّة ؛ أي الغير المتعذّر من الأجزاء .

وما أفاد العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه - من أ نّه لا بدّ أن يراد من «ما لا يدرك كلّه» المجموع لا المتعدّد ، وإلاّ يكون المعنى ما لا يدرك شيء منه لا يترك شيء منه ، وهو فاسد(1) - ممنوع ؛ لوضوح الفرق بين قولنا : «ليس كلّ إنسان في الدار» ، وبين قولنا : «ليس واحد منه فيها» ؛ فإنّ الأوّل يفيد سلب العموم ، والثاني عموم السلب .

وما يقال : - إنّ المسلوب لمّا كان متعدّداً ، فالسلب والمسلوب عنه يجب أن يكونا كذلك ؛ لمكان التضايف الواقع بينها (2) - ممنوع ؛ ضرورة أنّ «ليس كلّ إنسان في الدار» ليس قضايا متعدّدة ولا سُلوباً كثيرة ، كما نبّهنا عليه فيما سلف(3) .

فمثل قوله : «إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء»(4) يكون مفهومه : إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ليس لا ينجّسه شيء ، ولازمه سلب تلك القضيّة السالبة الكلّية ، وهو يتحقّق بالإثبات الجزئي ، فنقيض «كلّ إنسان حيوان» هو «ليس

ص: 375


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 394 .
2- نهاية الدراية 4 : 391 - 392 .
3- تقدّم في الصفحة 204 .
4- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 ، 2 و6 .

كلّ إنسان حيواناً» ؛ فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، وهو ملازم ل «بعض الإنسان ليس بحيوان» ؛ ولهذا يكون نقيض السالبة الكلّية الموجبة الجزئية .

وبالجملة : ما ذكره الشيخ هاهنا (1) من فروع النزاع بينه وبين بعض الفحول(2) في باب المفاهيم والحقّ مع ذلك البعض .

وممّا ذكرنا يتّضح صحّة الاحتمال الثالث أيضاً ؛ فإنّ معنى ما لا يدرك مجموعه لا يترك كلّ جزء منه : أنّ ما يتعذّر بعض أجزائه لا يترك بكلّيته ، والأظهر من الاحتمالين أن يراد بالكلّ في الجملة الاُولى المجموع ، وفي الثانية كلّ جزء منه ؛ أي ما لا يدرك مجموعه لا يترك بالكلّية وبجميع أجزائه ، وبمساعدة العرف يفهم منه أ نّه لا يترك غير المتعذّر لأجل المتعذّر ، وهذا هو الاحتمال الثالث من بين الاحتمالات .

اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة

قوله قدّس سرّه : «ثمّ إنّه حيث كان الملاك . . .»(19) إلى آخره .

قد اشتهر بينهم أنّ جريان قاعدة الميسور يتوقّف على صدق الميسور - أي ميسور الطبيعة - على البقيّة عرفاً (3) ، وطريق استفادة ذلك إنّما يكون من حدود دلالة الأدلّة الدالّة عليها ، فنقول :

ص: 376


1- مطارح الأنظار 2 : 44 - 45 ؛ الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1 : 318 و321 .
2- هداية المسترشدين 2 : 460 - 461 .
3- راجع كفاية الاُصول : 422 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 256 ؛ نهاية الأفكار 3 : 458 .

أمّا قوله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1) فبعد قرينية صدره يحتمل أن يكون دالاًّ على المقصود في بادئ النظر ؛ بأن يقال : إنّ معناه إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا منها ما يكون في استطاعتكم ، أعمّ من الأفراد العرضية أو الطولية ؛ بمعنى أ نّه إذا كانت الطبيعة صادقة على الأفراد الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لا بدّ من إتيانها لدى تعذّر الواجد ، بخلاف ما إذا لم تصدق لفقد معظم أجزائها أو بعض أجزائها الركنية في نظر العرف ، [فيكون المعنى] إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة وتعذّر مصداقها الكامل ، فأتوا منها ما تصدق عليها ولو كان ناقصاً بالنسبة إلى المتعذّر .

لكن قد عرفت(2) أنّ الأظهر باعتبار سياق الرواية كون «ما» مصدرية وقتية لا موصولة .

وأمّا قوله : «ما لا يدرك كلّه . . .»(3) فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر منه أنّ كلّ مركّب لا يدرك كلّ جزء من أجزائه لا يترك ذلك المركّب بكلّيته ؛ أي لا بدّ من إتيان المركّب الناقص إذا تعذّر التامّ .

وفيه : أنّ الأظهر في معنى الحديث : أنّ كلّ مركّب لا يدرك مجموعه أو كلّ جزء من أجزائه لا يترك جميع أجزاءه ، بل يؤتى بما تيسّر منها لا من الطبيعة ، ولا إشكال في صدق جزء المركّب على كلّ جزء منه ولو أصغر صغير منها .

ص: 377


1- عوالي اللآلي 4 : 58 / 206 .
2- تقدّم في الصفحة 370 .
3- عوالي اللآلي 4: 58 / 207 .

فالعمدة في ذلك هو قوله : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(1) واحتمالاته أربعة :

الأوّل : أنّ الميسور من كلّ طبيعة مأمور بها لا يسقط بالمعسور منها ؛ بمعنى أنّ ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها .

والثاني : أنّ الميسور من أجزاء الطبيعة المأمور بها لا يسقط بالمعسور منها ؛ أي من أجزائها .

الثالث : أنّ الميسور من الطبيعة - أي الطبيعة الميسورة - لا تسقط بالمعسور من أجزائها .

الرابع : عكس الثالث .

فعلى الاحتمال الأوّل والثالث تكون الرواية دالّة على المقصود .

ولا يبعد دعوى أظهرية الاحتمال الأوّل ، أو يقال : إنّ القدر المتيقّن من القاعدة هو ما يصدق على البقيّة ميسور الطبيعة المأمور بها (2) .

ص: 378


1- عوالي اللآلي 4 : 58 / 205 باختلاف يسير .
2- ثمّ إنّ المرجع في تعيين الميسور هو العرف كما في جميع الموضوعات ، من غير فرق بين الموضوعات العرفية والشرعية ؛ لأنّ الظاهر أنّ موضوع القاعدة هو نفس الطبائع المأمور بها كما أشرنا إليه ، ولا شبهة في أنّ العرف يشخّص الميسور منها ؛ ضرورة أنّ الوضوء - مثلاً - طبيعة قد تصدق بنظر العرف على الناقص لشرط أو جزء وقد لا تصدق ، فوضوء ذي الجبيرة وضوء ناقص إذا كانت الجبيرة في بعض العضو ، وإن عمّت جميع الأعضاء وبقي منها جزء كموضوع المسح لا يصدق عليه الوضوء ، وقد يشكّ في الصدق مثل الشكّ في الموضوعات العرفية ، فالتفصيل بين الموضوعات الشرعية والعرفيةأفي غير محلّه . وليس المراد من الميسور هو ما يكون وافياً بالغرض أو ببعضه حتّى يقال : ليس للعرف تشخيصه(ب) ؛ ضرورة أ نّه خروج عن ظاهر اللفظ بلا داعٍ ، فعليه يكون ما ورد على خلاف القاعدة مخصّصاً لها . وقد يقال : إنّه بناءً عليه لا يجوز الاتّكال على القاعدة ؛ لكثرة ورود التخصيص عليها ، فلا بدّ في التمسّك بها من انتظار عمل المشهور(ج) . وفيه : أ نّه بعد ما قلنا بظهور القاعدة في الواجبات بقرينة عدم تحقّق العهدة في غيرها ، وبعد ما قلنا باعتبار الميسور بالمعنى المتقدّم فيها ، لم يتّضح ورود كثرة التخصيص عليها ؛ ضرورة عدم ورود التخصيص عليها في الصلاة ومقدّماتها ، وفي الحجّ كذلك ، وكذا سائر الواجبات . وأمّا الصوم فلا يتحقّق فيه الميسور والمعسور ؛ لأ نّه ليس عبارة عن الاجتناب عن المفطرات ، بل هو أمر بسيط وضعي تكون المفطرات مفسداته ، فلا يصدق الصوم ولو ناقصاً مع الشرب القليل مثلاً . نعم ، لو كان المراد بالميسور الأجزاء كما تقدّم ، ولم نعتبر كون البقيّة مصداقاً للطبيعة ، لكان ورود التخصيص الكثير المستهجن حقّاً ، ولكنّه خلاف التحقيق كما مرّ . نعم ، لو أنكرنا ظهور قوله : «الميسور» في الطبيعة ، وقلنا بأنّ المحتمل منها أن يكون الميسور من الأجزاء ، أو قلنا بأنّ القدر المتيقّن منها هو ما يصدق عليه الميسور ، يشكل الأمر . [منه قدس سره] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 256 - 258 . ب - اُنظر نهاية الدراية 4 : 393 . ج - نهاية الأفكار 3 : 460 .

ص: 379

خاتمة : شرائط جريان الاُصول

قوله قدّس سرّه : «أمّا الاحتياط»(20) .

في حسن الاحتياط مطلقاً ودفع الإشكالات الواردة عنه

هاهنا إشكالات ، بعضها راجع إلى مطلق الاحتياط ، وبعضها إلى الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، وبعضها إلى الاحتياط فيما قامت الأمارة على خلافه ، كما لو دلّت الأمارة على وجوب الجمعة فأراد المكلّف إتيان الظهر أيضاً احتياطاً :

أمّا الإشكال على مطلق الاحتياط :

فهو أنّ الاحتياط ليس عبارة عن إتيان العمل مطلقاً ، بل لا بدّ من إتيان العمل بانبعاث من قبل المولى ؛ لعدم صدق الإطاعة بغيره ، فإطاعة المولى إنّما تتحقّق مع كون الأمر داعياً إلى إتيان المأمور به ، وصيرورة العبد متحرّكاً بتحريكه ، مع أنّ محرّكية الأمر المجهول غير معقولة ، واحتمال الأمر وإن كان محرّكاً لكنّ

ص: 380

المحرّك نفس الاحتمال ، كان الأمر في الواقع أو لم يكن ، ولو كان الأمر الواقعي دخيلاً في تحريك العبد بنحو الاستقلال أو جزء الموضوع ، فلا يعقل تحريكه وانبعاثه بدونه ، مع أ نّه منبعث حتّى مع عدم الأمر الواقعى .

وبالجملة : نسبة احتمال الأمر إلى الأمر الواقعي وعدمه على السواء ، فكون الأمر الواقعي باعثاً ومحرّكاً ممّا لا يعقل مع استواء نسبته إليه وإلى عدمه ، فإذا امتنعت محرّكية الأمر يصير الاحتياط ممتنعاً ؛ لتوقّفه على باعثية الأمر .

وبعبارة اُخرى : أنّ الباعث هو الصورة القائمة بالنفس من غير دخالة للأمر الواقعى ولو بنحو التشريك ، ومعه لا تتحقّق الإطاعة ، فلا يمكن الاحتياط .

بل يمكن توسعة دائرة الإشكال ؛ بأن يقال : إنّ محرّك الإنسان في جميع حركاته وأفعاله ليس إلاّ الصورة الذهنية ، غاية الأمر أ نّه يتوهّم الفاعل كونها حاكية عن الواقع ، لكن وجود الواقع وعدمه على السواء .

مثلاً : من اعتقد أنّ الأسد في طريقه ، فيخاف ويفرّ منه ؛ لا يكون خوفه وفراره إلاّ من الصورة المتوهّمة التي اعتقد أ نّها حاكية عن الواقع ، فالخائف وإن توهّم أنّ خوفه من الواقع ، لكن لا يخاف حقيقةً إلاّ من توهّم الواقع ، وهو صورة قائمة بنفسه .

والدليل عليه : أنّ المعتقد المتوهّم يخاف ويفرّ ، كان أسد بحسب الواقع أو لم يكن ، فلو كان الأسد دخيلاً - ولو بنحو جزء الموضوع - في الإخافة والفرار ، لم يمكن أن تؤثّر الصورة المتوهّمة التي ليست لها واقعية فيهما ، مع أنّ وجود الأسد وعدمه في الخوف والفرار على السواء .

وكذا الكلام في إطاعة الأمر المعلوم من المولى ؛ فإنّ المكلّف إذا اعتقد وجود

ص: 381

الأمر فانبعث نحو المأمور به ، يكون انبعاثه لأجل اعتقاده بالأمر كان أمر في الواقع أو لا ، فوجوده وعدمه سواء ، فالباعث نفس الاعتقاد لا الأمر ، ولو كان الواقع دخيلاً في التحريك ولو بنحو جزء الموضوع لم يتحرّك في صورة تخلّف الاعتقاد عن الواقع ، مع أنّ الأمر ليس كذلك بالضرورة ، فالصورة المتوهّمة هي الباعثة والزاجرة ، فأين إطاعة أمر المولى ؟!

وصورة البرهان على هيئة الشكل الأوّل : إنّ كلّ إطاعة هو انبعاث ببعث المولى ، ولا شيء من الانبعاث ببعث المولى بممكن ، فلا شيء من الإطاعة بممكن .

والجواب : أمّا عن دعوى امتناع الإطاعة في صورة العلم بالأوامر والنواهي :

فأوّلاً : أنّ الصورة الذهنية الاعتقادية لمّا كانت حاكية بنظر القاطع عن الواقع ، ففي صورة مصادفتها يكون الانبعاث عن نفس الواقع ؛ لأ نّه منكشف ولو بالواسطة ، فتلك الصورة وسيلة إلى انكشاف الواقع ، والانبعاث يكون من نفس الواقع المنكشف لا بالجهة التقييدية ، كما أ نّه في صورة اعتقاد الأسد ومصادفة الاعتقاد للواقع يكون الأسد الواقعي المنكشف موجباً لخوفه وفراره ، لا الصورة الاعتقادية الفانية فيه ، فالإنسان العالم خائف من الأسد ومنبعث من أمر المولى ومطيع لأمره .

وثانياً : إن كان المراد من الانبعاث ببعث المولى - المأخوذ في صغرى البرهان - هو الانبعاث بالبعث بالذات فنمنع دخالته في الطاعة ؛ لأ نّها متقوّمة بالبعث ولو بالعرض ؛ ضرورة أنّ العقلاء لا يشكّون في أنّ المولى إذا أمر عبده فأتى بالمأمور به لأجله يكون مطيعاً له ، مع أنّ الباعث أوّلاً وبالذات هو الصورة

ص: 382

الذهنية وثانياً وبالتبع هو الواقع المنكشف بها ، فلا يعتبر في حقيقة الطاعة أن يكون أمر المولى بنفسه حاضراً في ذهن العبد وموجباً لتحريك عضلاته ؛ فإنّه غير معقول ، ولا ينال أحد شيئاً من خارج ذاته نيلاً بالذات وبلا واسطة ، بل العلم بالخارج لا يكون إلاّ بالعرض والواسطة كالبعث ، ويكفي ذلك في حقيقة الطاعة .

وإن كان المراد من البعث أعمّ ممّا بالعرض فنمنع كلّية الكبرى ؛ ضرورة إمكان تحقّق الانبعاث بالبعث بالعرض بل وقوعه دائماً ؛ لأنّ الواقع منكشف بالتبع وباعث بالعرض .

هذا كلّه في الأوامر المعلومة ولو بالعلم الإجمالي ؛ فإنّ الواقع حينئذٍ منكشف ولو بالإجمال ، وهو محرّك للعبد .

وأمّا الاحتياط في الشبهة البدوية والمحتمل المخالف لقيام الأمارة ، فلا يمكن أن يقال : إنّ الأمر المحتمل باعث ، ويكون في صورة مصادفة الاحتمال للواقع ما هو المحرّك هو نفس الواقع بالذات أو بالعرض ؛ لأنّ الأمر الواقعي غير منكشف ، ولا يكون الأمر المحتمل داعياً ، بل الداعي الباعث هو احتمال الأمر لا الأمر المحتمل ، وفرق واضح بينهما ، إلاّ أن يراد به الأمر المحتمل بما هو محتمل حتّى يرجع إلى احتمال الأمر ، وإلاّ فلو قيل : إنّ الأمر المحتمل - أي الأمر الواقعي الذي هو موصوف بكونه محتملاً - باعث ومحرّك ، فلا بدّ وأن يكون هذا الأمر الواقعي بهذه الصفة منكشفاً حتّى يكون باعثاً بالعرض ، وهو غير معقول ، فالباعث في الشبهة البدوية هو احتمال الأمر ، فلا يأتي فيه الجواب المتقدّم ، ولا تتحقّق الإطاعة - أي الانبعاث ببعث الأمر - في هذا الاحتياط .

لكنّ الذي يسهّل الخطب أنّ عبادية العبادة لا تتقوّم بداعوية الأمر وتحقّق

ص: 383

مفهوم إطاعة الأمر ، بل لو كان الداعي إلى إتيانه هو شيء آخر راجع إلى المولى كقصد التقرّب أو الوصول إلى غرضه يصير العمل عبادة ، ألا ترى أ نّه لو سقط أمر المولى بواسطة المزاحمة أو الضدّية مع القول بامتناع الترتّب ، يكون المأتيّ به عبادة صحيحة مع عدم صدق مفهوم إطاعة الأمر عليه ؟ !

فلا نحتاج في صحّة العبادة وعباديتها إلى كون الانبعاث ببعثه ، بل الانبعاث باحتمال أمر المولى أيضاً كافٍ في العبادية ، فالإتيان بالمحتمل لاحتمال تعلّق أمر المولى به إذا صادف الواقع عبادة صحيحة ، بل الذي ينبعث باحتمال الأمر كان الأتمّ في العبودية ممّن لا ينبعث إلاّ بالأمر المعلوم ، فلا إشكال في تحقّق الاحتياط المرغوب فيه من هذه الجهة .

الإشكال الثاني :

ما يختصّ بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إذا صار موجباً للتكرار : وهو أنّ تكرار العبادة فيما يمكن تحصيل العلم التفصيلي لعب بأمر المولى ، ومعه كيف تتحقّق العبادة(1) ؟ ! ألا ترى أ نّه لو علم عبد بأنّ للمولى مطلوباً ، وتردّد أمره بين اُمور كثيرة غير مرتبطة ، فترك السؤال عنه مع إمكانه ، فقام بإتيان الأطراف ، فدعا جمعاً من العلماء باحتمال أنّ منظوره انعقاد مجلس عقد النكاح ، وأخبر حملة الموتى باحتمال موت بعض أقربائه ، وأتى بعدّة من الحمّالين والبنّائين والنجّارين والمواشي والأنعام والطيور ، عُدّ لاعباً بأمر مولاه ، وتكون هذه الكيفية سخرية بالمولى مع إمكان السؤال ورفع الاشتباه .

ص: 384


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 409 .

والجواب أوّلاً : أنّ استنتاج النتيجة الكلّية من الأمثلة الجزئية ممّا لا يجوز ، فالمدّعى هي عبثية مطلق التكرار ، وهي لا تثبت بهذا المثال ، بل لا بدّ من قيام دليل على كون مطلق التكرار عبثاً ولعباً ، وهو مفقود .

وثانياً : أ نّه لو فرض كون العبد بصدد السخرية بالمولى وإهانته ، ولم يكن الباعث له للجمع بين المحتملات احتمال أمر المولى ، بل له بواعث اُخر مثل اللعب والعبث والسخرية فهو خارج عن محطّ النزاع ، ولا إشكال في استحقاقه للعقوبة لأجله ، بل لو أتى بالمعلوم بالتفصيل كذلك يستحقّ العقوبة عليه .

وأمّا لو فرض كونه بصدد إطاعة المولى ، ويكون الباعث له نحو المحتملات هو العلم الإجمالي بمطلوب المولى ، فحينئذٍ إن كان في التكرار غرض عقلائي فلا إشكال فيه ، ولو فرض عدمه وكونه لاعباً في كيفية إطاعته - وإن كان الإتيان بأصل المأمور به لأجل إطاعة المولى - فلا يضرّ بعباديته ؛ فإنّه من قبيل الضمائم المباحة ، ولا تخلو عبادة من ضمائم هي الخصوصيات الفردية الغير الدخيلة في العبادية ؛ فإنّ الأوامر إنّما تعلّقت بالطبائع وخصوصيات الأفراد خارجة عن حريمها .

ولو كانت الخصوصيات الخارجة مضرّة بالخلوص لزم عدم صحّة جميع العبادات ؛ لعدم إمكان خلوّها منها ، فتلك الخصوصيات الغير الدخيلة إذا انضمّت إلى المأمور به مع كون الداعي إلى إتيان أصل المأمور به هو الداعي الإلهي ، والداعي إلى الخصوصيات أغراضاً اُخر عقلائية أو غيرها ، لا توجب بطلانها ، مع أنّ التكرار لم يكن من قبيل الضمائم ، بل أمره أهون ، كما لا يخفى .

فما يقال : إنّ التكرار لعب بأمر المولى : إن أراد باللعب به أ نّه لا ينبعث عن أمر

ص: 385

المولى المعلوم بالإجمال ، بل يكون داعيه السخرية بالمولى واللعب بأمره ، فهو

خارج عن موضوع البحث ، وإن أراد أ نّه مع انبعاثه عن أمره يكون التكرار مع إمكان الاكتفاء بواحد منها سفهياً ، فهو لا يوجب بطلان العبادة ، بل لو فرض أنّ الداعي [ إلى] إتيان الخصوصية يكون اللعب والمزاح وإدخال السرور في قلوب الحضّار لا تكون مبطلة لها ، مثلاً : لو أتى المكلّف بصلاته في رأس منارة مرتفعة ، ويكون داعيه اللعب لكن في الخصوصية لا في أصل العبادة تكون صحيحة .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ التكرار لأجل الاحتياط ممّا لا بأس به .

الإشكال الثالث :

أنّه يعتبر في العبادات قصد الوجه عقلاً وشرعاً ، وهو لا يحصل إلاّ بالعلم التفصيلي ، وأيضاً يعتبر الجزم في النيّة ، وهو موقوف على العلم التفصيلي .

وفيه : أ نّه أمّا قضيّة اعتبار قصد وجه الوجوب والاستحباب فممنوع أوّلاً ، ومع تسليمه ممكن مع الجهل ثانياً ، سواء فرض الشكّ البدوي أو المقرون بالعلم ، نعم لو اعتبر الجزم في النيّة فيها فهو غير ممكن إلاّ مع العلم التفصيلي ، فالإشكال إنّما هو في صورة اعتبار الجزم فيها ، ولكن لا دليل عليه عقلاً ولا شرعاً :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمر لا يقتضي إلاّ الإتيان بمتعلّقه بتمام قيوده وحدوده ، والواجب التعبّدي يعتبر فيه قصد التقرّب والإخلاص ، ولا دليل على اعتبار شيء آخر فيه من قصد الأمر أو الجزم في النيّة ، فلو أتى المكلّف بالصلاة بتمام قيودها الشرعية من التكبيرة إلى التسليم باحتمال مطلوبيتها وتعلّق الأمر بها ،

ص: 386

يكون عند العقل والعقلاء مطيعاً مقرّباً ، من غير فرق في ذلك بينه وبين من أتى بها مع علمه بالوجوب ، ولا فرق عند العقل والعقلاء بين الانبعاث بالبعث المعلوم والانبعاث باحتمال البعث ولو مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي ، فالميزان في صحّة العبادة عقلاً موافقة المأتيّ به للمأمور به .

وأمّا عدم الدليل الشرعي فيظهر لمن تتبّع في مظانّه .

نعم قد يستدلّ(1) بالإجماع على اعتبار قصد الوجه في العبادة وأنّ تارك طريقي الاجتهاد والتقليد عبادته باطلة ، المعتضد بدعوى الاتّفاق المحكيّ عن أهل المعقول والمنقول المعتضدة بالشهرة المحقّقة(2) .

وفيه : أنّ دعوى الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر التعبّدي في مثل تلك المسألة العقلية التي يكون الاستدلال بحكم العقل فيها رائجاً عندهم ممّا لا يخلو من مجازفة ، أمّا اتّفاق المتكلّمين - على فرضه - فليس إلاّ لأجل عقلية المسألة ،

كما أنّ الفقهاء - أيضاً - لا يبعد أن تكون دعواهم مبنيّة عليها .

ودعوى السيّد الأجلّ الرضي قدّس سرّه إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها (3) لا يبعد أن تكون مبنيّة على وضوح اعتبار قصد الوجه وأمثاله عقلاً عندهم ، كما أنّ المنقول عن المحقّق الطوسي قدّس سرّه دعوى الإجماع أو الاتّفاق على أنّ استحقاق الثواب في العبادة موقوف على نيّة الوجه(4) ، مع

ص: 387


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 408 ؛ رياض المسائل 3 : 353 .
2- اُنظر ذكرى الشيعة 4 : 325 ؛ جامع المقاصد 1 : 202 ؛ ذخيرة المعاد : 23 / السطر 33 .
3- اُنظر ذكرى الشيعة 4 : 325 .
4- تجريد الاعتقاد : 301 .

وضوح أنّ قضيّة استحقاق الثواب عقلية لا شرعية .

فظهر : أنّ الإشكال من هذه الحيثية أيضاً مرتفع ، فالاحتياط جائز حتّى مع إمكان العلم التفصيلي .

الإشكال الرابع :

أ نّه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجّة شرعية أن يعمل المكلّف أوّلاً بمؤدّى الحجّة ، ثمّ يعقّبه بالعمل على خلاف مقتضى الحجّة إحرازاً للواقع ، إلاّ إذا لم يستلزم منه تكرار العمل واستئناف جملته ، فإذا قامت الحجّة على وجوب الجمعة لا يجوز الابتداء بالظهر ، نعم إذا أتى بالجمعة لا بأس بإتيانه من باب الاحتياط .

والسرّ فيه : أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملاً وعدم الاعتناء به ، والعمل على طبق الاحتمال المخالف للحجّة عين الاعتناء به ، وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق ؛ فإنّه حيث أتى بما هو وظيفته فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط رعاية للواقع .

هذا ، مع أ نّه يعتبر في حسن الإطاعة الاحتمالية عدم التمكّن من الإطاعة التفصيلية ، فإنّ للإطاعة مراتب عقلاً :

الأوّل : الامتثال التفصيلي .

الثاني : الامتثال الإجمالي .

الثالث : الامتثال الظنّي .

الرابع : الامتثال الاحتمالي .

ص: 388

ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلاّ بعد تعذّر السابقة ؛ لأنّ حقيقة الإطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى ، بانبعاثه عن بعثه وتحرّكه عن تحريكه ، وهذا يتوقّف على العلم بالبعث ، ولا يمكن الانبعاث بلا بعث واصل ، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثاً ، فلا تتحقّق معه الإطاعة ، نعم هو أيضاً نحو من العبودية فيما إذا تعذّر الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبودية(1) .

هذا ، والجواب عنه : أوّلاً : أنّ معنى اعتبار الأمارة ليس إلقاء احتمال الخلاف بمعنى عدم جواز العمل على طبق الاحتمال ، بل مفاد أدلّته وجوب العمل على طبقها وترتيب أثر الواقع عليه عملاً . وأمّا عدم جواز العمل على الاحتمال المخالف من باب الاحتياط فلا دليل عليه ، ولا يكون ذلك معنى اعتبار الأمارة .

نعم ، لا يجوز الاكتفاء بالعمل على طبق الاحتمال المخالف ، لا من باب عدم جواز العمل على طبقه ، بل من باب ترك العمل بالأمارة المعتبرة ، وذلك واضح .

وثانياً : أ نّه لو فرض أنّ معنى اعتبار الأمارة إلقاء احتمال الخلاف لزوماً ، فالعمل على طبقه عين الاعتناء به ، سواء لزم منه التكرار أو لا ، أو كان الاعتناء قبل العمل أو لا ، فلا وجه للتفصيلين المذكورين . اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ أدلّة الاعتبار - الدالّة على إلقاء احتمال الخلاف - منصرفة عن الموردين ، وهو كما ترى .

وما ذكر - أنّ العقل بعد العمل بالوظيفة يستقلّ بحسن الاحتياط رعاية

ص: 389


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 265 و269 .

للواقع - حقّ ، لكنّه مستقلّ بحسنه قبل العمل بالوظيفة أيضاً ؛ فإنّ الاحتياط لا ينافي العمل بها ، فلا فرق بينه قبل العمل بها وبعده .

وثالثاً : أنّ ترتّب مراتب الامتثال عقلاً بما ذكر ممنوع ؛ فإنّ العقل يستقلّ بكفاية إتيان الماهية المأمور بها بجميع قيودها ولو باحتمال الأمر ، فمع احتمال وجوب الجمعة يجوز الإتيان بها احتياطاً ولو مع التمكّن من العلم التفصيلي .

وكون الإطاعة انبعاثاً عن بعث الآمر ، وهو لا يحصل إلاّ مع العلم ، فمع ممنوعيته - لما ذكرنا سالفاً (1) : أنّ الانبعاث له مبادٍ اُخر من مثل الخوف والطمع في نفس المكلّف ، وإنّما الأمر يكون موضوعاً لتحقّق الطاعة ، فمع احتمال الأمر يكون بعض تلك المبادئ محرّكاً - يرد عليه : أنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على باعثية الأمر ، ولو لم يصدق على الإتيان حينئذٍ إطاعة أمر المولى ، بل صحّتها متوقّفة على إتيان الماهية موافقة لغرض المولى مع جميع قيودها ، كما لو فرض أنّ المولى كان غافلاً عن الأمر بمتعلّق له مصلحة ملزمة بحيث لو توجّه إليه لأمر به قطعاً كإنقاذ ولده الغريق ، يجب عليه القيام به ، ومعه يكون مقرّباً ومستحقّاً للثواب ، ولو كان المأتيّ به عبادة تقع صحيحة ، كما أنّ الأمر بالصلاة لو سقط للابتلاء بالضدّ ، لا يوجب بطلانها ولو مع امتناع الترتّب ، مع احتمال أن تصدق الطاعة على المأتيّ به باحتمال الأمر عرفاً إذا صادف الواقع ؛ لأنّ الباعث لا يكون الأمر على أيّ حال كما عرفت ، والمبادئ الباعثة موجودة في كلتا الصورتين كالإتيان بالمأمور به مع جميع قيوده ، فالمسألة خالية من الإشكال .

ص: 390


1- تقدّم في الصفحة 120 - 121 .

شرائط جريان البراءة العقلية

قوله : «وأمّا البراءة العقلية»(21) .

اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية

أمّا البراءة في الشبهة الحكمية فشرط جريان الأصل فيها الفحص ، واستدلّ عليه بالأدلّة الأربعة :

أمّا العقل : فبأن يقال : إنّ مناط قبح العقاب بلا بيان وإن كان البيان الواصل عقلاً ، لكن ميزان وصول البيان ليس إيصاله إلى مسامع المكلّفين ومداركهم ، بل المعتبر فيه هو الإيصال المتعارف بحسب اختلاف الموالي والعبيد والأحكام .

فالمولى المقنّن للعباد جميعهم يكون إيصاله للأحكام بوسيلة أنبيائه ورسله ، وكتبه المنزلة ، والأحاديث المرويّة عنهم المحفوظة في الزبر والكتب المعدّة لها ، لا الإرسال إلى كلّ واحد واحد من المكلّفين كتاباً مخصوصاً به وخطاباً مسموعاً لديه ، فبيان المولى المقنّن هو التقنين والإيصال إلى رسله ، وإيصال الرسل هو البثّ في العباد بنحو متعارف ، وهو تعليمها لعدّة من العلماء وكَتبها في الدفاتر والزبر وبسطها بين الناس .

فلو لم يصل البيان من قبل المولى ، أو وصل إلى الرسول ولم يبلّغ ، أو بلّغ دون المتعارف ، يكون العقاب على المخالفة بلا بيان ، وأمّا مع إيصال اللّه تعالى وتبليغ الرسول والأئمّة ، وحفظ الأحكام في الكتب والصحف ، وترك العبد وظيفته من الفحص والتفتيش ، فلم يكن عقابه بلا بيان ، وليس عند العقلاء معذوراً ، فالعقل

ص: 391

يحكم بوجوب الفحص لدى الشبهة ، ولا تجري البراءة العقلية حينئذٍ(1) .

وقد يستشكل بأنّ الحكم ما لم يعلم غير قابل للباعثية والمحرّكية ؛ ضرورة أ نّه بوجوده الواقعي غير باعث ولا زاجر ، بل بوجوده العلمي يكون كذلك ، وإنّما تتّصف الأوامر الخارجية بالباعثية بالعرض بواسطة كشفها بوجودها العنواني الفاني فيها كما في المعلوم بالعرض ، والكشف عن الواقع إنّما يكون مع الوجود العلمي التصديقي لا الاحتمالي ؛ فإنّه غير كاشف عن الواقع ، وما كان حاله كذلك لا يمكن أن يكون منجّزاً للواقع ؛ فإنّ الواقع بنفسه لا يكون باعثاً بالضرورة ، والفرض أنّ احتمال تحقّقه ليس كاشفاً عنه ، فلا يكون الاحتمال موجباً لاتّصاف الواقع بالباعثية ولو بالعرض ، فالواقع ليس باعثاً بالذات ولا بالعرض ، فلا يكون الاحتمال منجّزاً له ، فاحتمال الواقع ليس مساوقاً لاحتمال المنجّز ، ولا يعقل فعلية الأمر الواقعي الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية والمحرّكية إلاّ بعد وصوله حقيقةً ، فإذا لم يكن فعلياً وباعثاً حقيقةً فكيف يعقل أن يكون منجّزاً حتّى يكون احتماله احتمال المنجّز(2) ؟ !

وفيه : أنّ تنجّز الحكم كفعليته لا يتوقّف على علم المكلّف ، فالأحكام التي تكون من قبل المولى تامّة وقابلة للإجراء فعلية منجّزة ، ومعنى تنجّزها كون مخالفتها موجبة لصحّة العقوبة ؛ اتّصفت بالباعثية أو لا ، بل قد عرفت(3) أنّ الأوامر والنواهي ليست باعثة ولا زاجرة بذاتها حتّى في صورة العلم بها ، بل

ص: 392


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 278 .
2- نهاية الدراية 4 : 406 .
3- تقدّم في الصفحة 120 .

الزاجر والباعث مبادٍ اُخرى موجودة في نفس المكلّف .

وبالجملة : أنّ تنجّز التكليف - أي صيرورته بحيث يحكم العقل بأنّ مخالفته موجبة لصحّة العقوبة - لا يتوقّف على الباعثية والمحرّكية ، بل قد يكون احتمال التكليف موجباً للتنجيز كما فيما نحن فيه ؛ ضرورة أنّ العقل يحكم بأنّ العبد غير معذور في مخالفة حكم المولى الذي هو مكتوب في صحيفة مرسلة إليه مع احتماله لذلك ، وليس للعبد أن يترك قراءته قائلاً بأ نّه لا يكون التكليف بوجوده الواقعي منجّزاً ولا داعي لي إلى تحصيله ، فنفس الاحتمال قبل الفحص موجب لصحّة العقوبة على التكليف الواقعي لو صادف الواقع .

ولو توقّف التنجيز على المحرّكية والباعثية الفعلية للزم منه أن لا تصحّ العقوبة على التكليف الواقعي في صورة قيام الأمارة المعتبرة عليه مع الشكّ فيه أو الظنّ بخلافه ؛ لأنّ التكليف الطريقي المعلوم لا يوجب صحّة العقوبة ، والتكليف الواقعي مع الشكّ فيه لا يكون محرّكاً ومنكشفاً ولو بالعرض ، ومجرّد معلومية الأمارة لا يوجب انكشاف التكليف عقلاً حتّى يصير لأجله محرّكاً ، ومدّعى هذا القائل أنّ الحكم ما لم يصر محرّكاً وباعثاً فعلياً لا يصير منجّزاً ، مع

أ نّه ضروري البطلان ، فالتنجيز لا يتوقّف على المحرّكية الفعلية كما ادّعى القائل .

فتلخّص من ذلك : أنّ احتمال التكليف قبل الفحص منجّز ، موجب لصحّة العقوبة عقلاً على التكليف الواقعي .

وقد يقرّر حكم العقل على وجوب الفحص بوجه آخر : وهو أنّ الاقتحام قبل الفحص خروج عن زيّ الرقّية ورسم العبودية فيما إذا كان التكليف لا يعلم عادةً إلاّ بالفحص ، فالاقتحام بلا فحص ظلم على المولى .

ص: 393

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : أنّ العقوبة على الوجه الأوّل إنّما هي على مخالفة التكليف الواقعي المنجّز ، وعلى الثاني على الإقدام بلا فحص ؛ لأ نّه بنفسه ظلم وملاك لاستحقاق العقوبة ، سواء خالف الواقع أو لا ، كما في التجرّي ، فمناط صحّة العقوبة هو تحقّق عنوان الظلم ، لا مخالفة التكليف الواقعي حتّى يقال : إنّها قبيحة بلا بيان ، فعقاب المولى عبدَه على مخالفة التكليف الواقعي قبيح وظلم ، كما أنّ إقدام العبد أو تركه بلا فحص ظلم على المولى ، ولكلّ منهما حكمه . نعم ، التحقيق أنّ الظلم لا ينطبق على الإقدام ، بل على ترك الفحص عن التكليف الذي لا يعلم عادةً إلاّ به(1) .

وفيه نظر واضح ؛ ضرورة أ نّه ليس تحقّق الظلم إلاّ باعتبار احتمال مخالفة المولى ، ولا ينطبق عنوان الظلم على ترك الفحص بالذات ، بل بلحاظ احتمال المخالفة ، وبعد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحكم العقل بأنّ التكليف الواقعي على فرض وجوده لا أثر له ، والعبد في سعة من مخالفته ، لا معنى لتحقّق عنوان الظلم على ترك الفحص عنه .

وبالجملة : تحقّق عنوان الظلم والتجرّي متفرّع على تنجّز التكليف ، والتكليف الغير المنجّز الذي يحكم العقل بعدم قبح ارتكابه لا يعقل أن يصير منشأً لتحقّق عنوان قبيح على ترك الفحص منه ، فدعوى أنّ لكلّ من مخالفة التكليف الواقعي وترك الفحص حكمه ، ممنوعة بعد وضوح تفرّع عنوان الظلم والتجرّي على الأوّل ؛ أي على تنجّز التكليف الواقعي ؛ إذ قد عرفت أنّ عنوان الظلم والتجرّي

ص: 394


1- نهاية الدراية 4 : 405 - 406 .

فيما نحن فيه لا يكون مستقلاًّ في مقابل تنجّز التكليف حتّى لا يتنافى تحقّقه مع عدم تحقّق ذلك .

ثمّ إنّه لا يخفى ما في تحقيقه أخيراً من أنّ عنوان الظلم ينطبق على ترك الفحص دون الإقدام ؛ ضرورة أنّ نفس ترك الفحص لم يكن ظلماً مع احتياط المكلّف بإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ، بل الظلم ينطبق على مخالفة المحتمل ؛ لأ نّه لا نفسية لترك الفحص ، بل إنّما هو بلحاظ التحفّظ على التكليف .

وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بتقرير ثالث : وهو حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد - قبل الأخذ في استعلام المسائل - بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة ؛ لأنّ الشكّ في المكلّف به لا التكليف(1) .

وهو من الضعف بمكان ؛ لأنّ كلامنا في المقام إنّما هو في شرائط جريان أصل البراءة بعد المفروغية عن مجراه ، وهو الشكّ في التكليف لا المكلّف به ، فالاستدلال بالعلم الإجمالي خروج عن موضوع البحث ، فالنقض والإبرام في أطرافه في غير محلّهما ، لكنّ المحقّقين لمّا تعرّضوا له فلا محيص عنه بنحو الإجمال .

فقد نوقش فيه أوّلاً : بأ نّه أخصّ من المدّعى ؛ فإنّه وجوب الاستعلام عن كلّ مسألة كان علم إجمالي أو لا ، والدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة

ص: 395


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 414 .

من الأحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه لانحلال العلم الإجمالي بذلك .

وثانياً : أ نّه أعمّ منه ؛ لأ نّه هو الفحص عن الأحكام في خصوص ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم بالإجمال هو الأحكام الثابتة في الشريعة مطلقاً ، والفحص في تلك الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي(1) .

وردّهما بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه بما حاصله : ولا يخفى ما في كلا وجهي المناقشة من الضعف :

أمّا في الأوّل : فلأنّ استعلام مقدار من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم فيها لا يوجب الانحلال ؛ إذ متعلّق العلم تارة يتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر ، كما لو علم بأنّ في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردّد بين العشرة والعشرين ، واُخرى يكون المتعلّق عنواناً ليس بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر من أوّل الأمر ، بل المعلوم هو العنوان بما له من الأفراد الواقعية ، كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع وتردّدت بين العشرة والعشرين .

ففي الأوّل ينحلّ العلم الإجمالي دون الثاني ؛ فإنّه لا ينحلّ بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه ، بل لا بدّ من الفحص التامّ عن كلّ محتمل ؛ لأنّ العلم يوجب تنجّز متعلّقه بما له من العنوان .

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هي الأحكام الموجودة

ص: 396


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 415 ؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 278 - 279 .

فيما بأيدينا من الكتب ، ولازم ذلك هو الفحص التامّ ؛ ألا ترى أ نّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم اشتغاله لزيد بما في الطومار وتردّد بين الأقلّ والأكثر ، بل لا بدّ له من الفحص [في] الطومار كما عليه بناء العقلاء ، وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه .

وأمّا في الوجه الثاني : فلأ نّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام في الشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب ، إلاّ أ نّه يعلم إجمالاً بأنّ فيما بأيدينا أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ ، ويرتفع الإشكال ، ويتمّ الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أ نّه لا فرق في الانحلال بين تعلّق العلم بعنوان ويكون العنوان بما له من الأفراد الواقعية مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، وتردّد المتعلّق من أوّل الأمر بينهما فيما إذا كان العنوان ممّا ينحلّ بواسطة انحلال التكليف ، فإذا علم بوجوب إكرام العالم بما له من الأفراد وتردّدت بين الأقلّ والأكثر ، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي .

نعم ، إذا كان نسبة العنوان إلى المعنون نسبة المحصَّل والمحصِّل وتردّد المحصَّل بين الأقلّ والأكثر لا بدّ من الاحتياط ، وأمّا العنوان المنحلّ إلى التكاليف المستقلّة كالبيض من الغنم ، فلا إشكال في كونه كالمردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر .

ص: 397


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 279 - 280 .

وثانياً : لو سلّم ذلك فلا إشكال في عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ معنى تعلّق العلم بعنوان وتنجّزه به أن يكون العنوان بذاته متعلّق الحكم ، وأمّا تعلّق العلم بعنوان غير ذي حكم فلا أثر له .

فحينئذٍ نقول : إنّ العلم بوجود أحكام في الكتب التي بأيدينا لا يوجب تنجّزها بهذا العنوان ؛ فإنّ عنوان كون الأحكام في الكتب ليس من العناوين التي تعلّق بها الحكم حتّى يتنجّز بما له من العنوان ؛ ضرورة أ نّه من الانتزاعيات بعد جمع الأحكام في الكتب ، وهذا ممّا لا يتعلّق به حكم ، ولا تكون الأحكام بذلك العنوان مورداً لتكليف ، فالعلم الإجمالي المؤثّر متعلّق بنفس الأحكام بوجودها الواقعي ، ويتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ البدوي .

وممّا ذكرنا يتّضح : أنّ ما ذكره من المثالين المتقدّمين مورد للمناقشة ؛ فإنّ عنوان البيض ليس ممّا تعلّق به الحكم حتّى يكون العلم المتعلّق به منجّزاً له بعنوانه ، فإنّه عنوان عرضي مقارن من باب الاتّفاق مع ما تعلّق به التكليف ، وهو عنوان الموطوء ، فالمتعلّق هو الموطوء لا الأبيض ، فالعلم المتعلّق به موضوع الأثر ؛ أي التنجّز ، فحينئذٍ لو صحّ ما ذكره - من أ نّه لو كان العلم متعلّقاً بعنوان

كان منجّزاً لأفراده الواقعية ، ولا ينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ - كان المثال الأوّل كذلك ؛ لتعلّق العلم بالموطوء وتردّده بين الأقلّ والأكثر ، كما أنّ المثال الثاني أيضاً كذلك ؛ لما ذكرنا ، لا لتعلّق العلم بعنوان البيض من الغنم ، كما هو واضح .

وثالثاً : بناءً على صحّة دعواه لا يبقى مجال لدعوى انحلال العلم الإجمالي

ص: 398

العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ الذي تعلّق بما في الكتب التي بأيدينا ؛ لإمكان أن يقال : إنّ العلم الإجمالي العامّ تعلّق بعنوان واحد هو الأحكام التي في الكتب مطلقاً أو الأحكام الصادرة عن الشريعة وأمثال ذلك ، والمفروض أنّ تعلّقه به موجب لتنجّزه بما له من الأفراد الواقعية ، وتردّده بين الأقلّ والأكثر لا يوجب الانحلال .

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ كون الأحكام في الكتب التي بأيدينا عنوان واحد ، دون كونها في مطلق الكتب أو غير ذلك من العناوين ، وهو كما ترى .

وأمّا ما ذكره - من أ نّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغاله بما فيالطومار - فهو أجنبيّ عن المقام ، بل هو من قبيل الشبهات الموضوعية - التي سيتعرّض هذا المحقّق لها ، ويختار وجوب الفحص فيها (1) - ممّا لا يحتاج حصول العلم بالموضوع [فيها] إلى مقدّمات كثيرة ، بل يحصل بمجرّد النظر ، فالفحص فيها لازم ولو مع عدم العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي من قبيل الحجر المضموم لجنب الإنسان(2) .

ص: 399


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 302 .
2- وقد يقال في الجواب عن إشكال أخصّية الدليل : «بأ نّه متّجه لو كان متعلّق العلم الإجمالي مطلقاً ، أو كان مقيّداً بالظفر به على تقدير الفحص ، ولكن كان تقريب العلم الإجمالي هو كونه بمقدار من الأحكام على وجه لو تفحّص ولو في مقدار من المسائل لظفر به ، وأمّا لو كان تقريبه بأ نّا نعلم بمقدار من الأحكام في مجموع المسائل المحرّرة على وجه لو تفحّص في كلّ مسألة تكون مظانّ وجود محتمله لظفر به فلايرد إشكال»أ . وفيه : أنّ هذا مجرّد تقريب وفرض يرجع إلى أمر واضح الخلاف ، وهو العلم بأنّ في كلّ مسألة دليلاً إلزامياً لو تفحّصنا لظفرنا به ، وهو - كما ترى - مخالف للوجدان ، فكأنّ القائل أراد دفع الإشكال بأيّ وجه وتقريب ممكن ، طابق الواقع أو لا . والإنصاف أ نّه لا علم إجمالي إلاّ بأحكام بنحو الإجمال ، ومع التفحّص في أبواب الفقه لا يتّفق انحلاله بالضرورة ، فلو كان المستند هو العلم الإجمالي فلا محيص عن الإشكال ، لكن قد عرفت أنّ الاستناد [إلى ]العلم الإجمالي خروج عن الفرض ، وهو شرط أصالة البراءة . هذا حال الشبهات الحكمية . وأمّا الموضوعية : فالظاهر أنّ حكم العقل فيها أيضاً الفحص ، وعدم معذورية الجاهل قبل الفحص ؛ لحكومة الوجدان بأنّ المولى إذا أمر عبده بإكرام كلّ ضيف [له] وشكّ في كون زيد ضيفه ، لا يجوز له بحكم العقل - مع إمكان تفحّص حاله ، والعلم بأ نّه ضيفه أو لا - غضّ البصر عنه ، خصوصاً إذا كان رفع الشبهة سهلاً أو المشتبه مهمّاً . فحكم العقل بمعذورية الجاهل ، وقبح العقاب بلا حجّة وسبب ، إنّما هو فيما إذا لم يكن جهله في معرض الزوال ، ولم يكن العبد مقصّراً في تحصيل غرض المولى ، نعم بعد جدّ العبد واجتهاده في تحصيل غرضه ، وعدم حصول العلم له ، يكون حكم العقل بالبراءة محكّماً . فملاك لزوم الفحص عقلاً هو عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا حجّة وسبب قبل الفحص ، ومعه لا أمن من العقاب إلاّ بعد الفحص ، وسيأتي حال البراءة الشرعية . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 471 - 472 .

ثمّ اعلم : أ نّه بعد تمامية حكم العقل بوجوب الفحص ، وعدم معذورية الجاهل قبل الفحص كما عرفت ، لا تتمّ دعوى الإجماع القطعي على وجوبه(1) ؛ ضرورة قوّة احتمال كون مستند المجمعين هو الدليل العقلي لا الشرعي ، كما أنّ دعوى كون الآيات والروايات الدالّة على لزوم التفقّه والتعلّم إرشاديةً إلى حكم

ص: 400


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 412 .

العقل(1) لا تأسيسيةً تعبّديةً ، غير بعيدة .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الأمر إذا تعلّق بالعناوين المرآتية كالتفقّه والتعلّم يكون ظاهراً في المقدّمية للتحفّظ على العناوين المستقلّة الذاتية ، فإذا قيل : «تفقّهوا في الدين»(2) أو «طلب العلم فريضة»(3) يكون ظاهراً في الوجوب المقدّمي لحفظ الدين وأحكام اللّه والعمل بها .

مع أنّ في نفس الأدلّة شواهد على ما ذكرنا ، مثل آية النفر(4) الدالّة على أنّ غاية وجوب التفقّه في الدين تحذّر المستمعين ، ومعلوم أنّ نفس التحذّر ليس مطلوباً ، بل المطلوب هو العمل بالأحكام .

ومثل ما ورد في تفسير قوله تعالى : )فَللّه الحُجَّةُ البَالِغَةُ((5) أ نّه : «يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت ؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلاّ عملت ، وإن قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلّمت حتّى تعمل»(6) ؛ فإنّه صريح في أنّ التعلّم إنّما هو للعمل ولا نفسية له .

ص: 401


1- نهاية الأفكار3 : 474 .
2- الكافي 1 : 31 / 6 .
3- الكافي 1 : 30 / 1 و 5 .
4- التوبة (9) : 122 .
5- الأنعام (6) : 149 .
6- الأمالي ، الطوسي : 9/10 ؛ تفسير نور الثقلين 1 : 775 / 330 ، مع تفاوت يسير فيهما .

في استحقاق عقاب التارك للفحص ومناطه

واتّضح ممّا ذكرنا : أنّ استحقاق عقاب التارك للفحص إنّما هو على ترك الواقع لا الفحص كما نسب(1) القول به إلى المدارك(2) ولا على ترك الفحص والتعلّم المؤدّيين إلى ترك الواقع كما ذهب إليه بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه (3) .

أمّا كونه على ترك الواقع فلما عرفت من أنّ الواقع منجّز مع الاحتمال قبل الفحص ، ومعنى تنجّزه صحّة العقوبة على تركه ولا يكون الجهل به عذراً .

وأمّا عدم العقاب على ترك الفحص فلعدم الدليل على حرمته ، بل ظاهر الأدلّة هو الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص ، وهو لا يكون إلاّ لحفظ الواقعيات ، ولا نفسية له .

ومن ذلك يعلم : أنّ دعوى قبح ترك الفحص لأجل التجرّي(4) أيضاً ممّا لا أساس لها ؛ فإنّ تحقّق التجرّي أيضاً إنّما يكون بعد تنجّز التكليف الواقعي على فرض وجوده ، فترك محتمل الوجوب كإتيان محتمل الحرمة قبل الفحص تجرٍّ على المولى مع عدم المصادفة ومعصية في صورة المصادفة ، فلا يكون العقاب على ترك الفحص .

وأمّا ما ذهب إليه بعض الأعاظم - من كون العقاب على ترك الفحص المؤدّي

ص: 402


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 418 .
2- مدارك الأحكام 2 : 345 و3 : 219 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 285 .
4- كفاية الاُصول : 425 - 426 .

إلى ترك الواقع ، قائلاً : إنّ العقاب على ترك الفحص ينافي وجوبه الطريقي الذي لا نفسية له ، ولا يجوز على ترك الواقع للجهل به ، فلا بدّ وأن يكون لترك الفحص المؤدّي إلى ترك الواقع(1) - فممّا لا محصّل له ؛ لأنّ الواقع ممّا لا عقاب عليه فرضاً ، وترك الفحص أيضاً لا عقاب عليه ، فكيف يعقل أن يكون العقاب على مثل ذلك ؛ أي على ترك الفحص الذي لا عقاب عليه المؤدّي إلى ترك الواقع الذي لا عقاب عليه ؟ !

مضافاً إلى أنّ التعلّم إذا كان وجوبه طريقياً محضاً فلا يمكن تبدّل طريقيته إلى النفسية بمجرّد أدائه إلى ترك الواجب ، فالعقاب عليه ممّا لا معنى له وإن أدّى إلى ترك واجب نفسي .

هذا ، مع أنّ إنكار استحقاق العقوبة على الواقع قبل الفحص إنكار للضروري كما عرفت(2) .(3) هذا حال التبعة .

ص: 403


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 285 .
2- تقدّم في الصفحة 391 - 392 .
3- والتحقيق : أ نّه مع قطع النظر عن روايات الباب وملاحظة حكم العقل أنّ حكمه يدور مدار مخالفة الواقع ، وأ نّها مع البيان توجب الاستحقاق وبلا بيان لا توجبه ، ولمّا كان وصول البيان إنّما هو بوروده في الكتاب والسنّة يحكم العقل بلزوم الفحص ، ومع عدمه يحكم باستحقاقه العقاب على الواقع ؛ لعدم كون العقاب عليه بلا بيان ، فلا قبح لترك الفحص بذاته ، ولا نفسية للفحص عند العقل . وما قيل : - إنّه ظلم على المولى بنفسهأ - أ - نهاية الدراية 4 : 405 . كلام شعري ممنوع . ثمّ يقع الكلام في أ نّه مع ترك الفحص يستحقّ العقاب على الواقع - على فرض مخالفته - ولو لم يكن بيان عليه بحيث لو تفحّص وصل إليه ، بل ولو كان طريق على ضدّه بحيث وصل إليه مع الفحص ، فلو كان شرب التتن حراماً واقعاً ، فشربه بلا فحص ، استحقّ العقوبة ولو لم يكن فيما بأيديه طريق إلى حرمته ، بل ولو كان طريق إلى حلّيته ، أو يستحقّ إذا كان طريق إلى حرمته لو تفحّص عنه وصل إليه . يمكن أن يقال بالاستحقاق مطلقاً : إمّا لأجل أ نّه خالف الواقع بلا عذر ، والطريق الواقعي على الحلّية ليس عذراً وحجّة يمكن أن يتّكل عليه في مقام الاعتذار وإمّا لأجل حكم العقل بالاحتياط على فرض ترك الفحص ، وهو بيان على الواقع . نعم ، لو تفحّص لم يحكم بالاحتياط ، ويختصّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان [بما] لو لم يصل إليه بيان ، وأمّا قبل الفحص فيحكم العقل على سبيل التخيير بلزوم الفحص أو الاحتياط ، ومع عدم الفحص لزم عليه الاحتياط ، فمخالفة الواقع مع حكم العقل بالاحتياط موجبة للاستحقاق . اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكم العقل بالاحتياط في المقام ليس لأجل التحفّظ على الواقع مستقلاًّ ومستقيماً ، بل لاحتمال وصول البيان وضبطه في الكتاب والسنّة ، ومعه يتمّ البيان ويرفع موضوع القاعدة ، وفي مثله لا يوجب ترك الاحتياط استحقاق العقاب على الواقع بلا بيان ، فضلاً عن ورود بيان الضدّ . ثمّ إنّه يتمّ الكلام بذكر أمرين ذكرهما في «الكفاية»(أ) : الأوّل : ظاهر «الكفاية» أنّ المخالفة فيما نحن فيه تكون مغفولاً عنها ، لكن لمّا كانت منتهية إلى الاختيار يستحقّ العبد العقوبة عليها . ------------------------------- أ - كفاية الاُصول : 425 - 426 . وهو غير وجيه على إطلاقه ؛ لأنّ الكلام في شرائط جريان الأصل ، ولا إشكال في أنّ المورد ملتفت إليه ، واحتمال المخالفة مورد الالتفات وإن كانت المخالفة غير معلومة ، ففرق بين كونها غير معلومة وكونها مغفولاً عنها ، والمقام من قبيل الأوّل . وكيف كان : لو فرض أنّ ترك الفحص صار موجباً لبقاء الغفلة عن تكليف ، كما لو فرض أنّ الفحص عن حرمة شرب التتن يصير موجباً للعثور على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وكان الثاني مع عدم الفحص عن الأوّل مغفولاً عنه ، فشرب العبد التتن مع عدم الفحص ، وترك الدعاء عند رؤية الهلال غفلة عن وجوبه ، فهل يستحقّ العقاب على ترك الدعاء باعتبار أنّ هذه الغفلة الباقية بتقصير منه ولو في ترك الفحص عن تكليف آخر ليست عذراً ، فهو ترك الواقع وخالف المولى بلا عذر ، أو أ نّها عذر ومجرّد عدم الفحص والتقصير في تكليف آخر لا يوجب انقطاع عذره ؟ لا يبعد عدم معذوريته عند العقل ؛ لأنّ المعذورية : إمّا لأجل عدم فعلية الأحكام الواقعية في حال غفلة المكلّف عنها ، وقد ذكرنا في محلّه(أ) عدم دخل الغفلة والجهل والعجز في عدم فعليتها ومقابلاتها في فعليتها ، وأنّ مناط الفعلية والشأنية أو الإنشائية ليس ما ذكر . والدليل على بقاء فعلية الأحكام في مثل تلك الأعذار : أنّ إيجاد تلك الأعذار اختياراً موجب لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، فلو أعجز العبد نفسه ثمّ تركه عجزاً يكون معاقباً عقلاً . فلو كان القدرة شرطاً لفعلية الأحكام لجاز له تعجيزه ؛ لعدم لزوم إبقاء شرط واجب المشروط . وقضيّة إطلاق المادّة(ب) لا ترجع إلى محصّل . وإمّا لأجل كون الغفلة مطلقاً - بأيّ سبب كان - عذراً عند العقل مع فعلية الأحكام ، ففيه: ------------------------------- أ - تقدّم في الجزء الأوّل : 154 - 157 ؛ مناهج الوصول 2 : 17 - 18 . ب - نهاية الأفكار 3 : 424 . منع كونها بنحو الإطلاق كذلك، ألا ترى أ نّه لو أوجد سبب الغفلة باختياره كما لو شرب اختياراً دواءً يوجب الغفلة فترك المأمور به غفلة لا يعذره العقل ، ففيما نحن فيه يكون سبب بقاء الغفلة وترك المأمور به عن غفلة هو تركه الفحص طغياناً وبلا عذر ، وفي مثله لا يكون معذوراً في ترك المأمور به وفعل المنهيّ عنه الفعليين ، بل العقاب في مثله لا يكون بلا بيان وبلا مناط . الثاني : لو صار ترك الفحص موجباً لترك واجب مشروط أو موقّت ؛ بمعنى أ نّه ترك الفحص قبل تحقّق الشرط والوقت مع احتمال كون تركه موجباً لترك المشروط والموقّت في زمان تحقّق الشرط والوقت ، فصار كذلك ، فهل يكون مستحقّاً للعقوبة كما في ترك الفحص في الواجب المطلق أو لا ؟ قد يقال بالتفصيل بين ما إذا قلنا في المشروط والموقّت بفعلية الوجوب وإن كان الواجب استقبالياً وبين ما [إذا] قلنا فيهما بمثل مقالة المشهور في الواجب المشروط من عدم الوجوب إلاّ عند تحقّق الشرط خصوصاً لو قلنا بأنّ وجوب الفحص غيري من باب وجوب المقدّمة ؛ لأنّ تبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذيها كالنار على المنار(أ) . أقول : التحقيق : استحقاقه العقوبة مطلقاً ؛ سواء قلنا بمقالة المشهور أو لم نقل ، وسواء قلنا بأنّ مناط وجوب الفحص هو المقدّمية أو لا ؛ فإنّا لو قلنا بمقالة المشهور في الواجب المشروط ، وقلنا بالوجوب المقدّمي أيضاً ، نقول : إنّا قد حقّقنا في باب وجوب المقدّمة(ب) أنّ ما هو المعروف - من أنّ وجوبها مترشّح من وجوب ذيها وعليه لا يعقل وجوبها قبل وجوبه ؛ للزوم كون المعلول قبل علّته - ليس على ما ينبغي ، بل لوجوب المقدّمة - كوجوب ذيها - مبادٍ ومقدّمات خاصّة بها ، إذا وجدت وجد الوجوب وإلاّ فلا؛ ------------------------------- أ - نهاية الأفكار 3 : 479 - 481 . ب - راجع مناهج الوصول 1 : 261 . وجب ذو المقدّمة فعلاً أو لا . فلو قلنا بوجوب المقدّمة وسلّمنا التلازم نقول : إنّ المولى إذا تصوّر توقّف الواجب المشروط - الذي سيتحقّق شرطه - على شيء قبل مجيء الشرط ؛ بحيث لو تركه العبد في الحال يوجب سلب القدرة عنه في حال تحقّق الشرط ، فلا ريب في تعلّق إرادته بإيجاده بمناط المقدّمية ؛ لحصول مبادئ إرادتها من التصوّر والتصديق بالفائدة وغيرهما ، وعدم تحقّق الوجوب في الحال لا يوجب عدم حصول مبادئ إرادة المقدّمة وإيجابها . نعم ، بناءً على ما قيل من معلولية وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها ، وترشّح وجوبها عن وجوبه ، تكون التبعية كالنار على المنار ، لكنّ التأ مّل في إرادة ذي المقدّمة ومبادئها وإرادة المقدّمة ومبادئها ، يرفع الريب عن عدم وجاهة ما ذكروا ، فحينئذٍ يكون ترك الفحص - الموجب لفوات الواجب في محلّه بلا عذر - موجباً لاستحقاق العقوبة . ولو لم نقل بوجوب المقدّمة أو كون وجوبها بمناطها - كما هو الحقّ في المقامين - فلا شبهة أيضاً في استحقاقه العقوبة ؛ لحكم العقل والعقلاء بأنّ تفويت الواجب المشروط - الذي يأتي شرطه في محلّه - بلا عذر موجب للاستحقاق ، ولا عذر لمن يعلم أنّ شرط الواجب يحصل غداً أن يتساهل في مقدّماته الوجودية المفوّتة ولو صرّح المولى بأنّ الواجب المشروط قبل شرطه ليس بواجب أصلاً . وذلك لا للقاعدة المعروفة : إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما توهّم بعض أهل التحقيق(أ) ؛ لما ذكرنا في محلّه(ب) من أنّ تلك القاعدة العقلية غير مربوطة بمثل المقام ، بل هي مربوطة بمسألة عقلية فلسفية في قبال توهّم بعض المتكلّمين المنكر للإيجاب ------------------------------- أ - اُنظر نهاية الأفكار 3 : 480 . ب - راجع مناهج الوصول 2 : 129 . والامتناع السابقين ، بتوهّم أنّ التزامه موجب لصيرورة الفاعل موجَباً - بالفتح - فأنكر على مثله أهل الفنّ بأنّ الوجوب بالاختيار وكذا الامتناع بالاختيار لا ينافيان الاختيار . وأمّا مثل المقام فلا شبهة أنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار ، فمن ترك السير إلى أن ضاق الوقت خرج إتيان الحجّ عن اختياره ولو كان الامتناع باختياره ، لكن لا يكون هذا الامتناع عذراً عند العقل والعقلاء ، وهو قاعدة اُخرى غير القاعدة المشتهرة . فاتّضح من ذلك دفع ما قال المحقّق المتقدّم [من أنّ مورد القاعدة] ما إذا كان الامتناع بسوء اختياره ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد فعلية التكليف وتساهله في تحصيل المقدّمات حتّى عجز عن امتثاله(أ) ؛ وذلك لأنّ العقل لا يفرّق بين الواجب المشروط المعلوم تحقّق شرطه وبين الواجب المطلق في عدم معذورية العبد ، والعقلاء حاكمون بالاستحقاق ، فارجع إليهم حتّى يتّضح الحال . وأمّا ما عن الأردبيلي وصاحب «المدارك» من الالتزام بالوجوب النفسي التهيّئي واستحقاق العقوبة على تركه مطلقاً(ب) ، فغير وجيه ، لا لما قال المحقّق المتقدّم من لزوم محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، وأنّ تبعية وجوبها عن وجوبه كالنار على المنار(ج) ؛ ضرورة عدم مناط المقدّمية فيه ؛ لعدم التوقّف الوجودي ، لكن لمّا رأى المولى أنّ ترك الفحص موجب للوقوع في ترك المأمور به أو فعل المنهيّ عنه أحياناً ، ولا يكون في الفحص مناط المقدّمية حتّى يجب بناءً على الملازمة ، فلا محالة يأمر به لسدّ الاحتمال ، كالأمر بالاحتياط في الشبهة البدوية . لكن يرد عليهما: - مضافاً إلى عدم دليل من عقل أو نقل عليه : أمّا العقل فواضح ، وأمّا ------------------------------- أ - نهاية الأفكار 3 : 481 . ب - مجمع الفائدة والبرهان 1 : 342 ، و2 : 110 ؛ مدارك الأحكام 2 : 345 ، و3 : 219 . ج - تقدّم في الصفحة 406 . النقل فسيأتي [عند ]بيان مفاد الأدلّة - أنّ مخالفة الوجوب النفسي التهيّئي لا توجب عقوبة عقلاً ؛ لعدم المحبوبية الذاتية فيه ، ولا يكون تعلّق الأمر به لأجله حتّى يكون مولوياً ذاتياً موجباً لاستحقاق العقوبة ، بل يكون لأجل التحفّظ على الغير كالأمر بالاحتياط ، فالالتزام بما ذكرا - مع كونه بلا موجب - لا يدفع الإشكال . مع أنّ إنكار استحقاق العقوبة على مخالفة نفس الواقع غير وجيه . هذا كلّه حال حكم العقل مع قطع النظر عن الأدلّة الشرعية . وأمّا حال الأدلّة فملخّص الكلام فيها : أنّ مقتضى التدبّر في الأخبار الكثيرة المتفرّقة في أبواب متفرّقة ، أنّ التفقّه وتحصيل مرتبة الفقاهة والاجتهاد في الأحكام ، مستحبّ نفسي أكيد أو واجب كفائي نفسي . ويدلّ على المطلوبية النفسية أخبار كثيرة في فضل العلم والعلماء ، كقول أبي جعفر في مرسلة ربعي : «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة»(أ) وكقول أبيعبداللّه عليه السلام : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء»(ب) وكقوله عليه السلام : «العلماء أمناء اللّه»(ج) وقوله عليه السلام : «العلماء منار»(د) وكقول رسول اللّه : «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنّة»(ه) وكأخبار فضل العالم على العابد(و) وغيرها ممّا لا تعدّ، ولا ريب في دلالتها على المطلوبية النفسية ، ولا يبعد استفادة ------------------------------- أ - الكافي 1 : 32/4 . ب - الكافي 1 : 32/2 . ج - الكافي 1 : 33/5 . د - نفس المصدر . ه- - الكافي 1 : 34 / 1 . و - الكافي 1 : 33 / 8 ، 9 و: 34 / 1 . الوجوب الكفائي من طائفة منها بل من آية النفر(أ) أيضاً . وهنا طائفة منها تدلّ على أنّ ترك السؤال والفحص لا يكون [عذراً ، كما يدلّ عليه مرسلة يونس عن بعض أصحابه ، قال : سئل أبو الحسن عليه السلام هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه ؟ فقال : «لا»(ب) . وصحيحة الفضلاء قالوا : قال أبو عبداللّه عليه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأ نّهم لا يسألون»(ج) . ورواية المجدور الذي غسّلوه ولم ييمّموه(د) . وما ورد في تفسير قوله تعالى : )فَللّه الحُجَّةُ البَالِغَةُ((ه ) أ نّه : «يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت ؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلاّ عملت ، وإن قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلّمت حتّى تعمل»(و) . . . إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر في أنّ العلم للعمل . وهذه الروايات إرشاد إلى حكم العقل من لزوم السؤال والتعلّم ؛ لتمامية الحجّة على العبد على فرض ورود البيان من المولى ، ولا تدلّ على الوجوب النفسي ، ولا النفسي التهيّئي ؛ لأنّ مفادها تابع لحكم المرشد إليه ، وهو حاكم بعدم وجوبه نفسياً . وهاهنا روايات كثيرة لا يسع المقام لإيرادها وتوضيح مقاصدها ، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء اللّه تعالى] (ز) . [منه قدس سره] ------------------------------- أ - التوبة (9) : 122 . ب - الكافي 1 : 30 / 3 . ج - الكافي 1 : 40 / 2 . د - الكافي 3 : 68 / 5 ؛ وسائل الشيعة 3 : 346 ، كتاب الطهارة ، أبواب التيمّم ، الباب 5 ، الحديث 1 . ه - الأنعام ((6)) : 149 . و - الأمالي ، الطوسي 1 : 9/10 ؛ تفسير نور الثقلين 1 : 775 / 330 . ز - ما بين الحاصرتين أخذناه من تهذيب الاُصول 3: 444 ؛ لتتميم السقط الموجود هنا .

ص: 404

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 405

ص: 406

ص: 407

ص: 408

ص: 409

ص: 410

في بطلان عمل الجاهل إلاّ في موردين

وأمّا حال الأحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة في العبادات فيما لا يتأتّى منه قصد القربة ؛ وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به ، مع عدم الدليل على الصحّة والإجزاء إلاّ في الإتمام في موضع القصر ، أو الإجهار والإخفات في موضع الآخر ؛ لورود الدليل(1) وفتوى الأصحاب(2) على صحّة الصلاة في الموردين وتماميتها مع الجهل ولو عن تقصير ، مع استحقاق العقوبة على ترك المأمور به على ما هو عليه ، فصار الموردان [منشأً للإشكال في المقام ؛ لأ نّه لو كان المأتيّ به هو المأمور به فلا وجه لاستحقاق العقاب ، وإلاّ فلا وجه للصحّة .

وإن شئت قلت : إنّ وجوب الجهر والإخفات ]و]كذا القصر إن توقّف على العلم به فهو يستلزم الدور المعروف ، وإن كان غير متوقّف عليه فيلزم عدم صحّة الصلاة؛ لعدم الإتيان بالمأمور به، وإن كان من باب تقبّل العمل الناقص بعد وجوده بدلاً عن الكامل ، وسقوط ما كان واجباً من قبل ، فهو ممّا يأباه العقل من سقوط الواجب مع بقاء وقته مع المؤاخذة على تركه ، وإن قلنا بعدم استحقاقه العقوبة فهو يتنافى مع ما تسالموا عليه من عدم معذورية الجاهل واستحقاقه للعقوبة .

ص: 411


1- راجع وسائل الشيعة 6 : 86 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 26 ، و8 : 506 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة المسافر ، الباب 17 ، الحديث 4 .
2- راجع الحدائق الناضرة 8 : 143 ، و11 : 429 ؛ رياض المسائل 3 : 401 ، و4 : 452 ؛ جواهر الكلام 10 : 24 - 25 ، و14 : 349 .

والحاصل : أ نّه كيف تجتمع الصحّة والعقوبة مع بقاء الوقت ؟ فإنّ الناقص لو كان وافياً بمصلحة التامّ لصحّ العمل ولا يستحقّ العقاب ، وإلاّ فلا وجه للصحّة إلاّ إذا كان الناقص مأموراً به ، وهو خلاف الواقع ؛ للإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد .

ولقد أجاب عن هذه العويصة ثلّة من المحقّقين ، لا بأس بالإشارة إلى تلك الأجوبة :

منها : ما أفاده المحقّق الخراساني من احتمال كون الناقص واجداً لمصلحة ملزمة مضادّة في مقام الاستيفاء مع المصلحة القائمة بالتامّ ، والتامّ بما هو تامّ مشتمل على مصلحة ملزمة ، ويكون مأموراً به لا الناقص ، لكن مع الإتيان بالناقص يستوفى مقدار من المصلحة المضادّة لمصلحة التامّ ، فيسقط أمر التامّ لأجله ، وتكون الصلاة صحيحة لأجل استيفاء تلك المصلحة(1) ، انتهى .

وهذا الجواب يدفع الإشكال بحذافيره : أمّا صحّة الصلاة المأتيّ بها فلعدم توقّفها على الأمر واشتمالها على المصلحة الملزمة ، وأمّا العقاب فلأ نّه ترك المأمور به عن تقصير ، والإتيان بالناقص أوجب سقوط أمره قهراً ، وعدمَ إمكان استيفاء الفائت من المصلحة ؛ لأجل عدم اجتماعها مع المستوفاة .

وأورد عليه بعض أعاظم العصر بأنّ الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتيّ به في حال الجهل ؛ إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب ، فلا يعقل سقوطه بالفاقد لها ، خصوصاً مع إمكان استيفائها في

ص: 412


1- كفاية الاُصول : 428 .

الوقت ، كما لو علم بالحكم في الوقت .

ودعوى عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء - لأنّ استيفاء أحدهما يوجب سلب القدرة عن استيفاء الاُخرى - واضحة الفساد ؛ لأنّ القدرة على الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة التامّة حاصلة ، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلّقها .

وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والإتمام ، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير(1)(2)] .

وفيه : أنّ الخصوصية الزائدة لازمة الاستيفاء ، لكن لا دخالة لها في حصول المصلحة القائمة بالناقص ، فالمصلحة القائمة به تستوفى مع الإتيان به فاقداً للخصوصية الزائدة اللازمة الاستيفاء بحسب الغرض الأكمل ، ومع الإتيان به تكون المصلحة القائمة بالخصوصية الزائدة غير ممكنة الاستيفاء ؛ للتضادّ الواقع بين المصلحتين ، أو لعدم إمكان استيفائها إلاّ في ضمن المجموع ، وإعادة الناقص بعد إتيانه ممّا لا مجال لها ؛ لاستيفاء المصلحة القائمة به ، فإعادته لغو ، ولا يمكن استيفاء المصلحة الزائدة بإتيانها مستقلاًّ أو في ضمن الناقص الغير القائم به المصلحة ، وهذا معنى عدم القدرة على استيفاء الخصوصية بعد الإتيان بالناقص ، فما أفاده - من أنّ هذه الدعوى واضحة الفساد ؛ لأنّ القدرة على إتيان الصلاة المقصورة حاصلة - خلط بين القدرة على صورة الصلاة المقصورة وبين

ص: 413


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 291 - 292 .
2- ما بين الحاصرتين مقتبس من تهذيب الاُصول 2 : 430 - 432 تتميماً للنقص الحاصل في المخطوطة .

القدرة على ما قامت به المصلحة ، والقدرة حاصلة بالنسبة إلى الاُولى لا الثانية(1) .

ومن الأجوبة عن الإشكال ما نقل(2) عن كاشف الغطاء من الالتزام بالأمر الترتّبي ، وأنّ الواجب على المكلّف أوّلاً هو القصر ، وعند العصيان وترك الصلاة

ص: 414


1- وقد يدفع الإشكال بتعدّد الطلب والمطلوب ؛ بتعلّق أمر بالطبيعة الجامعة وأمر آخر بالواجد للخصوصية . وهذا إنّما يصحّ لو قلنا بكون المطلق والمقيّد عنوانين دافعين للتضادّ بين الأحكام ، وقد رجّحنا عدم كون المطلق والمقيّد العنواني داخلاً في محلّ النزاع في باب الاجتماع(ب) ، بدعوى عدم كون المطلق عنواناً مغايراً للمقيّد ، بل المقيّد هو هو مع قيد ، فلا يدفع التضادّ بين الأمر والنهي المتعلّقين بهما . اللهمّ إلاّ [أن] يفرّق بين الأمر والنهي والأمرين ؛ بدعوى امتناع تعلّق إرادة البعث والزجر بالمطلق والمقيّد ، دون إرادة أمرين بهما مع تعدّد المطلوب ؛ لعدم التضادّ المتوهّم بين الأحكام ، وعدم إمكان تعلّق إرادة البعث والزجر ليس للتضادّ بل لأمر آخر . وبالجملة : يمكن دعوى شهادة الوجدان بإمكان تعلّق أمرين بهما ؛ ضرورة أنّ من كان مطلق الماء دافعاً لهلاكه يطلبه بنحو الإطلاق ، وكان مطلوبه الآخر الماء البارد يطلب المقيّد ، ولا تنافي بين مطلوبيتهما ، بخلاف المطلوبية والمبغوضية ، فإنّهما لا يجتمعان في نفس الماء والمقيّد منه مع بقاء الإطلاق على إطلاقه . فلو قيل : إنّ تشخّص الإرادة بالمراد ؛ فمع وحدته لا يمكن تعلّق الإرادتين ، ومع كثرته لا فرق بين الأمرين والأمر والنهي . يقال : يكفي في تشخّصهما اختلاف المتعلّق هوية ، ولا يكفي ذلك في جواز تعلّق البعث والزجر ؛ أي تعلّق الإرادتين المتضادّتين . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 484 . ب - مناهج الوصول 2 : 109 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 439 - 440 .

المقصورة ولو لجهله بالحكم يجب عليه الإتمام(1) .

واستشكل عليه : تارةً بعدم تعقّل الترتّب(2) وتارةً مع تسليم إمكانه أنّ المقام أجنبيّ عنه ؛ لأ نّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون كلّ من المتعلّقين واجداً لتمام ما هو ملاك الحكم ، ويكون المانع من تعلّق الأمر بكلّ منهما هو عدم القدرة على الجمع للتضادّ بينهما ، والمقام ليس كذلك ؛ لعدم ثبوت الملاك فيهما ، وإلاّ لتعلّق الأمر بكلّ منهما ؛ لإمكان الجمع بينهما وليسا كالضدّين ، فعدم تعلّق الأمر بهما يكشف عن عدم الملاك .

هذا ، مع أ نّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ ، وفي المقام لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي ؛ فإنّه لا يلتفت إليه ، وإلاّ يخرج عن عنوان الجاهل ، ولا تصحّ منه حينئذٍ الصلاة التامّة ، فلا يندرج المقام في صغرى الترتّب(3) .

والجواب أ مّا عن الإشكال الأوّل : فبأ نّه مبنيّ على إمكان الترتّب ، فالإشكال بنائي .

وأمّا عن الثاني : فبأ نّه لا يعتبر فيه أن يكون كلّ من المتعلّقين واجداً للملاك في عرض الآخر ومقارناً له ، بل لو حدث الملاك - عند الجهل بحكم القصر ، أو عند العصيان - بنحو ما يعتبر في الترتّب ، كفى في الخطاب الترتّبي ، ويمكن

ص: 415


1- كشف الغطاء 1 : 171 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 440 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 293 .

أن يكون ما نحن فيه كذلك ، بل لا إشكال في واجديتهما للملاك ؛ لصحّة صلاة القصر لو فعل ، وصحّة التمام مع عدم إتيان القصر نصّاً وإجماعاً ، وقد تقدّم كونهما متضادّين ومعنى تضادّهما .

وأمّا الإشكال بأ نّه لا يعقل أن يخاطب التارك بعنوان العاصي ، ففيه : أ نّه لا يعتبر في صحّة توجّه الخطاب أن يكون المخاطب متوجّهاً إلى العنوان بما أ نّه هو ، بل لو كان الشرط حاصلاً بحسب الواقع يجوز توجّه الخطاب إليه .

وما نحن فيه كذلك ؛ فإنّ عنوان الجهل بحكم القصر أو العصيان للأمر القصري حاصل بحسب الواقع ، والمكلّف ينبعث باعتقاد الأمر التمامي ، فإذا توجّه إليه هذا الأمر يكون انبعاثه بهذا البعث المتوجّه إليه ولو لم يعلم بأ نّه عاصٍ للأمر القصري ، ولا يحتاج في البعث أن يتوجّه المبعوث إلى شرائط البعث لو كان الشرط حاصلاً بحسب الواقع ، فالتصحيح بالأمر الترتّبي - على فرضه - بمكان من الإمكان ، تأ مّل(1) .

ثمّ إنّ هاهنا وجوهاً اُخر لدفع الإشكال بعضها تامّ وبعضها غير تامّ تركناها مخافة التطويل .

هذا كلّه في البراءة العقلية .

ص: 416


1- قوله : «تأ مّل» وجهه : أنّ الترتّب مع فرض معقوليته غير صحيح في المقام ؛ إذ العصيان - المنوط به الأمر بالإتمام - بترك القصر في تمام الوقت ، والمفروض بقاء الوقت ، ولا يحصل العصيان إلاّ بخروجه . ويمكن أن يقال : إنّ هذا الإشكال وارد على كبرى صحّة الترتّب ، فراجع .أ [منه قدس سره] أ - راجع مناهج الوصول 2 : 29 - 31 .

شرائط جريان البراءة الشرعية

وأمّا البراءة الشرعية فقد يقال : إنّ مقتضى إطلاق أدلّتها عدم وجوب الفحص ؛

فإنّ قوله : «رفع . . . ما لا يعلمون»(1) و«الناس في سعة ما لا يعلمون»(2) هو رفع ما لا يعلم والتوسعة فيه ، كان قبل الفحص أو لا .

واُجيب عنه بقيام الإجماع على وجوب الفحص(3) وبه تقيّد الإطلاقات ، وهو كما ترى ، كما أ نّه لا مجال للتمسّك بالعلم الإجمالي(4) ؛ لما عرفت(5) أنّ الكلام في شرائط جريان أصل البراءة بعد تحقّق مجراه ، وهو مع فقد العلم الإجمالي .

ويمكن أن يقال : إنّ أدلّة البراءة ممّا لا يمكن إطلاقها لما قبل الفحص ؛ ضرورة أنّ حكم العقل بوجوب اللطف على اللّه تعالى في بعث الرسل وإنزال الكتب لئلاّ يكون الناس كالبهائم والمجانين إنّما هو للانتفاع بأحكام اللّه في العاجل والآجل ، والعمل على طبقها صلاحاً لحال معاشهم ومعادهم ، وإنّما

ص: 417


1- التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .
2- الكافي 6 : 297 / 2 ؛ وسائل الشيعة 3 : 493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 50 ، الحديث 11 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 412 ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 424 .
4- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 414 .
5- تقدّم في الصفحة 395 .

أرسل اللّه تعالى رسله وأوحى إليهم لهذه الغاية ، فهل يجوز عند العقل بعد ذلك أن يكون من أحكامه تعالى رفع ما لا يعلم ، بمعنى أنّ قاطبة الناس يجوز لهم عدم سماع قول الأنبياء والعلماء ، وترك تعلّم أحكام اللّه ، وجعل أصابعهم في آذانهم ، والذهاب إلى أقطار لا يسمعون [فيها] من أحكامه شيئاً ؟ ! فهل هذا إلاّ الإذن بأن يصير الناس كالبهائم والمجانين ؟ !

وإن أبيت عن التقييد العقلي ، وقلت : لا امتناع عند العقل - بعد وضوح كثير من الأحكام والعلم الإجمالي بكثير منها - أن تجري البراءة بالنسبة إلى البقيّة ، فلا أقلّ من انصراف أدلّة البراءة عمّا قبل الفحص(1) .

ص: 418


1- بل التحقيق أنّ في مثل قوله : «رفع . . . ما لا يعلمون» لا يكون الموضوع هو عدم العلم الوجداني حتّى تكون أدلّة الأمارات والاُصول الحاكمة عليه من قبيل المخصّص له ؛ لاستهجان مثله ولو كان بنحو الحكومة ، بل الموضوع هو عدم الحجّة ، فكأ نّه قال : رفع ما لا حجّة عليه، ولا إشكال في أنّ الحجّة الموجودة في الكتاب والسنّة حجّة واصلة بحسب المتعارف ، فمع عدم الفحص لا يعلم تحقّق موضوع الأصل ، وهذا واضح لدى التأمّل . ولو فرض الإطلاق فيقيّد بما في نفس أدلّة البراءة ، مثل قوله تعالى : )مَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً((أ) فجعل بعث الرسول غاية لرفع التعذيب ، وبمناسبة الحكم والموضوع يكون المراد أنّ الرسول إذا بلّغ من اُرسل إليه بحسب المتعارف تتمّ الحجّة ووقع التعذيب على فرض المخالفة ، والمفروض - كما تقدّم - أنّ التبليغ المتعارف تحقّق ، ووجود الأحكام في الكتاب والسنّة حجّة تامّة على الاُ مّة ، ولا يجوز لهم غضّ البصر عنها . ومثله قوله : )لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا((ب) بناءً على كونه من الأدلّة ، ومثلهما الروايات التي بهذا المضمون أو قريبة منه، كقوله : «إنّما يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم»(ج) وقوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(د) فإنّها صالحة لتقييد الإطلاقات على فرضها . [منه قدس سره] أ - الإسراء ((17)) : 15 . ب - الطلاق ((65)) : 7 . ج - الكافي 1 : 164/4 ، باختلاف يسير . د - الفقيه 1 : 208 / 938 ؛ وسائل الشيعة 27 : 173 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 67 .

ثمّ مع الغضّ عنها فلا إشكال في تقدّم أدلّة وجوب التعلّم والتفقّه عليها ؛ لحكومتها عليها ، كقوله رحمهما اللّه في المستفيضة المشهورة : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(1) .

وكمرسل «الكافي» عن علي علیه السلام : «ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال - إلى أن قال : - والعلم مخزون عند أهله ، وقد اُمرتم بطلبه من أهله ، فاطلبوه»(2) .

وما في «الكافي» عن أبي عبداللّه علیه السلام : «تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي»(3) .

وما في «الكافي» عن يونس ، عن بعض أصحابنا ، قال : سئل أبو الحسن : هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه ؟ فقال : «لا»(4) .

ص: 419


1- الكافي 1 : 30 / 1 و5 .
2- الكافي 1 : 30 / 4 .
3- الكافي 1 : 31 / 6 .
4- الكافي 1 : 30 / 3 .

وما في «الكافي» في الصحيح : قال أبو عبداللّه علیه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأ نّهم لا يسألون»(1) . إلى غير ذلك من الروايات .

ومعلوم أ نّها حاكمة على إطلاق أدلّة البراءة على فرضه ؛ فإنّ روايات البراءة بإطلاقها تدلّ على رفع ما لا يعلم حتّى قبل الفحص ، وهذه الروايات تحكم بوجوب التفقّه والتعلّم والفحص ، فهذه تتعرّض لموضوع أدلّة البراءة وتتقدّم عليها بالحكومة(2) .

ص: 420


1- الكافي 1 : 40 / 2 .
2- وقد يقال : إنّ هذه الأدلّة لا تصلح لتقييد المطلقات ؛ لظهورها في الإرشاد إلى حكم العقل ، فتكون المطلقات واردة عليها كما وردت على حكمه . مضافاً إلى إمكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الإجمالي ، فتكون إرشادية أيضاً . مع أ نّها قاصرة عن إفادة تمام المطلوب ؛ لأ نّها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص مؤدّياً إلى العلم بالواقع ، والمطلوب أعمّ من ذلكأ ، انتهى . وفيه ما لا يخفى ، أمّا في دعوى ورودها عليها فلأ نّه على فرضه لا معنى لتعيير العبد على عدم العلم(ب) ولا وجه لهلاك العبد بعدم السؤال(ج) ولا للدعاء عليه بقوله : «قاتلهم اللّه»(د) فكيف يجمع بين ما ذكره وبين إطلاق أدلّة الرفع وورودها عليها ؟ ! بل يكشف من ذلك أن لا إطلاق لها ، أو هي مقيّدة على فرضه . وأمّا دعوى الاختصاص بالعلم الإجمالي فساقطة ؛ لعدم شاهد عليها ، بل إطلاقها يعمّ الشبهة البدوية . وأمّا ما ذكره أخيراً - من اختصاصها بصورة كون الفحص مؤدّياً - ففيه منع واضح ؛ لإطلاق الأدلّة لصورة الشكّ في الوصول وعدمه . نعم ، لا إشكال في عدم وجوبه مع العلم بعدم الوصول ؛ لأنّ إيجاب التعلّم مقدّمة للعلم على فرض الواقع ، ومع العلم بعدم النتيجة لا وجه للتعلّم والسؤال ولا موضوعية له ، وأمّا مع الشكّ في الحكم واحتمال الوصول فالإطلاق محكّم كما لا يخفى ، فلا إشكال في تقديم الأدلّة على الإطلاقات لو سلّمت ، فتدبّر . [منه قدس سره] أ - نهاية الأفكار 3 : 474 - 475 . ب - راجع الكافي 1 : 40/1 . ج - راجع الكافي 1 : 40/2 . د - راجع الكافي 3 : 68/4 .

وقد ذُكِر لجريان أصل البراءة شرطان آخران(1) ، لا يخفى [ما] فيهما من الضعف .

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) تبع العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه (3) في الاستطراد بذكر قاعدة الضرر ، ولمّا كانت مباحثها كثيرة أفردنا لها رسالة مستقلّة كافلة لجميع مطالبها .

هذا تمام الكلام في مباحث البراءة والاشتغال

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً

وقد فرغت من تبييضها صبيحة يوم الحادي عشر من شهر رمضان

المبارك سنة «1368» القمرية في قرية «دركه» من محالّ شميران .

«والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً»

ص: 421


1- الوافية في اُصول الفقه : 193 .
2- كفاية الاُصول : 430 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 457 .

ص: 422

كفاية الاُصول(*)

* - بما أنّ هذا الكتاب تعليقة على المباحث العقلية من «كفاية الاُصول» ضممنا هذه المباحث منها هنا مع ترقيم التعليقات تتميماً للفائدة وتسهيلاً للمراجعين الأعزّاء .

ص: 423

ص: 424

كفاية الاُصول

المقصد السابع : في الاُصول العملية

في الاُصول العملية(1)

وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ممّا دلّ عليه حكم العقل أو عموم النقل . والمهمّ منها أربعة ، فإنّ مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وإن كان ممّا ينتهي إليها فيما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته ، إلاّ أنّ البحث عنها ليس بمهمّ ؛ حيث إنّها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام ؛ بخلاف الأربعة - وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب - فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجّة وبرهان . هذا ، مع جريانها في كلّ الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها ، فافهم .

ص: 425

فصل [في البراءة]

لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض حجّة عليه ، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل وفعل الثاني ، وكان مأموناً من عقوبة مخالفته ، كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ ، أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح بناء على التوقّف في مسألة تعارض النصّين فيما لم يكن ترجيح في البين .

وأمّا بناءً على التخيير ، كما هو المشهور ، فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها ؛ لمكان وجود الحجّة المعتبرة وهو أحد النصّين فيها كما لا يخفى .

وقد استدلّ على ذلك بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب فبآيات أظهرها : قوله تعالى : )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً( .

وفيه : أنّ نفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ببعث الرسل لعلّه كان منّة منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك ؛ ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية لما صحّ الاستدلال بها إلاّ جدلاً ، مع وضوح منعه ؛ ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم ممّا علم بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلاّ كالوعيد به فيه ، فافهم .

ص: 426

وأمّا السنّة فروايات :

منها : حديث الرفع(2) .

حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه ؛ فالإلزام المجهول من «ما لا يعلمون» فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً فلا مؤاخذة عليه قطعاً .

لا يقال : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية ، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً ، فلا دلالة له على ارتفاعها .

فإنّه يقال : إنّها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلاّ أ نّها ممّا يترتّب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من إيجاب الاحتياط شرعاً ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته .

لا يقال : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول ، بل على مخالفة نفسه ، كما هو قضيّة إيجاب غيره .

فإنّه يقال : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقياً ، وإلاّ فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطريقيين ؛ ضرورة أ نّه كما يصحّ أن يحتجّ بهما صحّ أن يحتجّ به ويقال : لم أقدمت مع إيجابه ؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما .

وقد انقدح بذلك أنّ رفع التكليف المجهول كان منّةً على الاُمّة حيث

ص: 427

كان له تعالى وضعه بما هو قضيّته من إيجاب الاحتياط فرفعه ، فافهم .

ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون» ، فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقاً - كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية - بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً وإن كان في غيره لا بدّ من تقدير الآثار ، أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنّه ليس «ما اضطرّوا وما استكرهوا . . .» إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة .

نعم ، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه لكان أحد الأمرين ممّا لا بدّ منه أيضاً .

ثمّ لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحد غيرها ؛ فلا محيص عن أن يكون المقدّر هو الأثر الظاهر في كلّ منها ، أو تمام آثارها التي تقتضي المنّة رفعها . كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا كما لا يخفى ؛ فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منّة على الاُمّة ؛ كما استشهد الإمام عليه السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق .

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره ممّا اُخذ بعنوانه الثانوي إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّلي ؛ ضرورة أنّ الظاهر أنّ هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للأثر مستدعٍ

ص: 428

لوضعه ، فكيف يكون موجباً لرفعه ؟ !

لا يقال : كيف! وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنسيان يكون أثراً لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها .

فإنّه يقال : بل إنّما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أنّ الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلاّ يفوت على المكلّف كما لا يخفى .

ومنها : حديث الحجب .

وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرفع ، إلاّ أ نّه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته تعالى بمنع اطّلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنّه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إليه تعالى .

ومنها : قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام بعينه . . .» الحديث .

حيث دلّ على حلّية ما لم يعلم حرمته مطلقاً ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته ؛ وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتمّ المطلوب ؛ مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته فهو حلال ، تأمّل .

ومنها : قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» .

ص: 429

فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ؛ ومن الواضح أ نّه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعةٍ أصلاً ، فيعارض به ما دلّ على وجوبه كما لا يخفى .

لا يقال : قد علم به وجوب الاحتياط .

فإنّه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله ؟ نعم لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ؛ لكنّه عرفت أنّ وجوبه كان طريقياً لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً ، فافهم .

ومنها : قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» .

ودلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أ نّه ممنوع ، لوضوح صدقه على صدوره عنه ، سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره .

لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به وتمّ .

فإنّه يقال : وإن تمّ الاستدلال به بضميمتها ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ، إلاّ أ نّه لا بعنوان أ نّه مجهول الحرمة شرعاً ، بل بعنوان أ نّه ممّا لم يرد عنه النهي واقعاً .

لا يقال : نعم ، ولكنّه لا يتفاوت فيما هو المهمّ من الحكم بالإباحة في

ص: 430

مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان .

فإنّه يقال : حيث إنّه بذاك العنوان لاختصّ بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلاً ، ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحته في آخر واشتبها من حيث التقدّم والتأخّر .

لا يقال : هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته .

فإنّه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلاّ أ نّه إنّما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل ، فافهم .

وأمّا الإجماع :

فقد نقل على البراءة إلاّ أ نّه موهون ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة ، فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة - ممّا للعقل إليه سبيل ومن واضح النقل عليه دليل - بعيد جدّاً .

وأمّا العقل :

فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجّةً عليه ، فإنّهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان .

ولا يخفى أ نّه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهّم أ نّها تكون بياناً ، كما أ نّه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة

ص: 431

المصادفة استحقّ العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل .

وأمّا ضرر غير العقوبة فهو وإن كان محتملاً إلاّ أنّ المتيقّن منه ، فضلاً عن محتمله ، ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً ؛ ضرورة عدم القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً .

مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أنّ المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام - وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كانت ذات المفاسد - ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ ، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر ؛ نعم ربما يكون المنفعة أو المضرّة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً .

إن قلت : نعم ولكنّ العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأ نّه كالإقدام على ما علم مفسدته ، كما استدلّ به شيخ الطائفة - قدّس سرّه - على أنّ الأشياء على الحظر أو الوقف .

قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان ، حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف! وقد أذن الشارع بالإقدام عليه ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح فتأمّل .

ص: 432

واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجّة بالأدلّة الثلاثة :

أمّا «الكتاب» فبالآيات الناهية(3) عن القول بغير العلم وعن الإلقاء في التهلكة والآمرة بالتقوى .

والجواب : أنّ القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً ليس قولاً بغير علم ؛ لما دلّ على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلاً ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى .

وأمّا «الأخبار» فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة معلّلاً في بعضها بأنّ «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة» من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقةً أو التزاماً .

وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة .

والجواب : أ نّه لا تهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة كما عرفت .

وما دلّ على وجوب الاحتياط(4) - لو سلّم - وإن كان وارداً على حكم العقل ، فإنّه كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول .

ولا يصغى إلى ما قيل : من أنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمةً للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسياً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع .

ص: 433

وذلك لما عرفت ؛ من أنّ إيجابه يكون طريقياً وهو عقلاً ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والاُصول العملية .

إلاّ أ نّها تعارض بما هو أخصّ وأظهر ؛ ضرورة أنّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخصّ ، بل هو في الدلالة على الحلّية نصّ ، وما دلّ على الاحتياط غايته أ نّه ظاهر في وجوب الاحتياط .

مع أنّ هناك قرائن دالّة على أ نّه للإرشاد فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يرشد إليه .

ويؤيّده أ نّه لو لم يكن للإرشاد لوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً مع أ نّه آب عن التخصيص قطعاً ؛ كيف لا يكون قوله : «قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة» للإرشاد! مع أنّ التهلكة ظاهر في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلّل إيجابه بأ نّه خير من الاقتحام في التهلكة ؟!

لا يقال : نعم ، ولكنّه يستكشف منه على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصحّ به العقوبة على المخالفة .

فإنّه يقال : إنّ مجرّد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحّح العقوبة ، ولا يخرجها عن أ نّها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله بما

ص: 434

يتنجّز فيه المشتبه - لو كان - كالشبهة قبل الفحص مطلقاً أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتأمّل جيّداً .

وأمّا «العقل»(5) فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه ، تفريغاً للذمّة بعد اشتغالها ؛ ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلاّ من بعض الأصحاب .

والجواب : أنّ العقل وإن استقلّ بذلك ، إلاّ أ نّه إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، وقد انحلّ هاهنا فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذٍ لا علم بتكاليف اُخر غير التكاليف الفعلية في موارد المثبتة من الطرق والاُصول العملية .

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف .

قلت : إنّما يضرّ السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثاً ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً ، فلا محالة قد انحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ البدوي .

إن قلت : إنّما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ، ذلك إذا كان قضيّة قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً .

ص: 435

وأمّا بناءً على أنّ قضيّة حجّيته واعتباره شرعاً ليس إلاّ ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً ، وهو تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً كما لا يخفى .

قلت : قضيّة الاعتبار شرعاً على اختلاف ألسنة أدلّته وإن كان ذلك - على ما قوّينا في البحث - إلاّ أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ، يكون عقلاً بحكم الانحلال وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف - مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين ، وقامت البيّنة على أنّ هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشكّ في أ نّه كما إذا علم أ نّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلاّ عن خصوصه دون الآخر - ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤدّيات أحكاماً شرعية فعلية ، ضرورة أ نّها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشرعية .

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلاّ فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال ، كما لا يخفى .

وربما استدلّ بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع ، ولا أقلّ من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالإباحة ، ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته ، فإنّ ما دلّ على الإباحة

ص: 436

معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط .

وفيه أوّلاً : أ نّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والإشكال ، وإلاّ لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة .

وثانياً : أ نّه ثبتت الإباحة شرعاً ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دلّ على التوقّف أو الاحتياط ، للمعارضة لما دلّ عليها .

وثالثاً : أ نّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان .

وما قيل من «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة» .

ممنوع ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً ، ضرورة أنّ المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة . واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالباً لا يعتنى به قطعاً .

مع أنّ الضرر ليس دائماً ممّا يجب التحرّز عنه عقلاً ، بل يجب ارتكابه أحياناً فيما كان المترتّب عليه أهمّ في نظره ممّا في الاحتراز عن ضرره مع القطع به فضلاً عن احتماله .

ص: 437

[تنبيهات البراءة]

بقي اُمور مهمّة لا بأس بالإشارة إليها :

الأوّل : أ نّه إنّما تجري أصالة البراءة(6) شرعاً وعقلاً فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقاً ولو كان موافقاً لها ، فإنّه معه لا مجال لها أصلاً ، لوروده عليها - كما يأتي تحقيقه - فلا تجري مثلاً أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حلّيته مع الشكّ في قبوله التذكية ، فإنّه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية فأصالة عدم التذكية تدرجه فيما لم يذكّ وهو حرام إجماعاً كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعاً ؛ ضرورة كفاية كونه مثله حكماً ، وذلك بأنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثّر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلّية ؛ ومع الشكّ في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد الفري بسائر شرائطها كما لا يخفى .

نعم ، لو علم بقبوله التذكية وشكّ في الحلّية فأصالة الإباحة فيه محكّمة ، فإنّه حينئذٍ إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلاّ أصالة الإباحة ، كسائر ما شكّ في أ نّه من الحلال أو الحرام .

ص: 438

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شكّ مثلاً في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها أم لا ؟ فأصالة قبوله لها معه محكّمة ، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحقّقها ؛ فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها فالأصل أ نّه كذلك بعده .

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حلّيته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان ، وأنّ أصالة عدم التذكية محكّمة فيما شكّ فيها لأجل الشكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعاً . كما أنّ أصالة قبول التذكية محكّمة إذا شكّ في طروّ ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما اُحرز الفري بسائر شرائطها عداه كما لا يخفى ، فتأمّل جيّداً .

الثاني : أ نّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ، في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي .

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات(7) عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالاً .

وحسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال ولو قيل بكونه موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً ، بداهة توقّفه على ثبوته توقّف العارض على

ص: 439

معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ؟!

وانقدح بذلك أ نّه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول بتعلّق الأمر به من جهة ترتّب الثواب عليه ، ضرورة أ نّه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ جريانه ؟!

هذا ، مع أنّ حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به بنحو اللمّ ، ولا ترتّب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة ، فإنّه نحو من الانقياد والطاعة .

وما قيل في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة .

فيه : - مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها ، بداهة أ نّه ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر لو دلّ عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً عبادياً ؛ والعقل لا يستقلّ إلاّ بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلاّ إليه ، نعم لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما كان محيص عن دلالته اقتضاءً على أنّ المراد به ذاك المعنى بناءً على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقةً كما لا يخفى - أ نّه التزام بالإشكال وعدم جريانه فيها ، وهو كما ترى .

قلت : لا يخفى أنّ منشأ الإشكال هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها ،

ص: 440

فيشكل جريانه حينئذٍ ؛ لعدم التمكّن من قصد القربة المعتبر فيها ، وقد عرفت أ نّه فاسد ؛ وإنّما اعتبر قصد القربة فيها عقلاً لأجل أنّ الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه ، وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان ، ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ؛ غاية الأمر أ نّه لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً ؛ بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له تعالى ، فيقع حينئذٍ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره تعالى وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه تبارك وتعالى ويستحقّ الثواب على كلّ حال إمّا على الطاعة أو الانقياد .

وقد انقدح بذلك أ نّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمر بها ، بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء ، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها كما لا يخفى .

فظهر أ نّه لو قيل بدلالة أخبار «من بلغه ثواب . . .» على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان - عليه - مستحبّاً ، كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه .

لا يقال : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه ، وأمّا لو دلّ على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أ نّه محتمل الثواب ، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط ،

ص: 441

كأوامر الاحتياط لو قيل بأ نّها للطلب المولوي لا الإرشادي .

فإنّه يقال : إنّ الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولوياً لكان توصّلياً ، مع أ نّه لو كان عبادياً لما كان مصحّحاً للاحتياط ومجدياً في جريانه في العبادات ، كما أشرنا إليه آنفاً .

ثمّ إنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «من بلغه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يقله» ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أ نّه ذو ثواب .

وكون العمل متفرّعاً على البلوغ وكونه الداعي إلى العمل ، غير موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه فيما إذا أتى برجاء أ نّه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، بداهة أنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان ؛ وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي - كما قيّد به في بعض الأخبار - وإن كان انقياداً إلاّ أنّ الثواب في الصحيحة إنّما رتّب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما : بل لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود - كما قيّد به في بعضها الآخر - لاُوتي الأجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف

ص: 442

عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعةً ، فيكون وزانه وزان «من سرح لحيته ؛ أو من صلّى أو صام فله كذا» ، ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمّل .

الثالث : أ نّه لا يخفى أنّ النهي عن شيء(8) إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلاً كان اللازم على المكلّف إحراز أ نّه تركه بالمرّة ولو بالأصل ، فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّ معه في تركه إلاّ إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به .

نعم لو كان بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة لما وجب إلاّ ترك ما علم أ نّه فرد ، وحيث لم يعلم تعلّق النهي إلاّ بما علم أ نّه مصداقه ، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة .

فانقدح بذلك أنّ مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة ، أو كان الشيء مسبوقاً بالترك وإلاّ لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً .

فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه ، غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل كذلك يحرز ترك الحرام به .

ص: 443

والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلاّ أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللازم ، وجوب التحرّز عنه ، ولا يكاد يحرز إلاّ بترك المشتبه أيضاً ، فتفطّن .

الرابع : أ نّه قد عرفت حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً . ولا يخفى أ نّه مطلقاً كذلك حتّى فيما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على أ نّه ليس فرداً للواجب أو الحرام ما لم يخلّ بالنظام فعلاً ؛ فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً ، كان في الاُمور المهمّة كالدماء والفروج ، أو غيرها ، وكان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً كانت الحجّة على خلافه أو لا ، كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً ، فافهم .

فصل [في التخيير]

إذا دار الأمر بين(9) وجوب شيء وحرمته ، لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً بعد نهوضها عليه إجمالاً ، ففيه وجوه : الحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً ، والتخيير

ص: 444

بين الترك والفعل عقلاً مع التوقّف عن الحكم به رأساً ، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعاً .

أوجهها الأخير ؛ لعدم الترجيح بين الفعل والترك وشمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام» له ، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً . وقد عرفت أ نّه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً ولو وجب لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً . والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرّماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً .

وقياسه بتعارض الخبرين الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل ، فإنّ التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجّةً من باب السببية يكون على القاعدة ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى تقدير أ نّها من باب الطريقية فإنّه وإن كان على خلاف القاعدة إلاّ أنّ أحدهما تعييناً أو تخييراً حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط جعل حجّة في هذه الصورة بأدلّة الترجيح تعييناً أو التخيير تخييراً ؛ وأين ذلك ممّا إذا لم يكن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً وهو حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل .

نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محلّه ؛ لدلالة الدليل

ص: 445

على التخيير بينهما على التخيير هاهنا ، فتأمّل جيّداً .

ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه لا قصور فيه هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعية كمخالفتها ، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى .

ثمّ إنّ مورد هذه الوجوه وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّدياً ؛ إذ لو كانا تعبّديين أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ؛ لأ نّها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاُستاذ «قدّس سرّه» إلاّ أنّ الحكم أيضاً فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربي - بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه - وتركه كذلك ؛ لعدم الترجيح ، وقبحه بلا مرجّح .

فانقدح أ نّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصّليين بالنسبة إلى ما هو المهمّ في المقام وإن اختصّ بعض الوجوه بهما كما لا يخفى .

ولا يذهب عليك أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيّنه ، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام . ولكنّ الترجيح إنّما يكون لشدّة الطلب في أحدهما وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة

ص: 446

المزاحمة ، ووجب الترجيح بها ، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران .

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً ، لأجل أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أ نّه رُبّ واجب يكون مقدّماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدّم على احتماله احتمالُه في صورة الدوران بين مثليهما ، فافهم .

فصل [في الاشتغال]

لو شكّ في المكلّف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم ، فتارةً لتردّده بين المتباينين واُخرى بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المتباينين(10)

لا يخفى : أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كانا فعل أمر وترك آخر - إن كان فعلياً من جميع الجهات بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو [عليه] من الإجمال والتردّد والاحتمال ، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته . وحينئذٍ لا محالة

ص: 447

يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصّصاً عقلاً لأجل مناقضتها معه . وإن لم يكن فعلياً كذلك - ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته - لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعية للأطراف .

ومن هنا انقدح أ نّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، إلاّ أ نّه لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي ؛ فإذا كان الحكم الواقعي فعلياً من سائر الجهات لا محالة يصير فعلياً معه من جميع الجهات ، وله مجال مع الإجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعلياً معه ، لإمكان جعل الظاهري في أطرافه وإن كان فعلياً من غير هذه الجهة ، فافهم .

ثمّ إنّ الظاهر أ نّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعلياً من جميع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً ولو كانت أطرافه غير محصورة .

وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أنّ عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعلياً لولاه من سائر الجهات .

وبالجملة : لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه فيما كان المعلوم إجمالاً فعلياً يبعث المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه .

والحاصل : أنّ اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في

ص: 448

ناحية العلم . ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلّةً وكثرةً في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك ؛ وقد عرفت آنفاً أ نّه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً ، فتأمّل تعرف .

وقد انقدح أ نّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ، ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً ، وإلاّ لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً .

ومنه ظهر أ نّه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالاً - إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه ، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيّناً أو مردّداً ، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالاً في هذا الشهر ، كأيّام حيض المستحاضة مثلاً - لما وجب موافقته بل جاز مخالفته ؛ وأ نّه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية لكان منجّزاً ووجب موافقته ، فإنّ التدرّج لا يمنع عن الفعلية ، ضرورة أ نّه كما يصحّ التكليف بأمر حالي كذلك يصحّ بأمر استقبالي ، كالحجّ في الموسم للمستطيع ، فافهم .

ص: 449

تنبيهات

الأوّل : أنّ الاضطرار(11) كما يكون مانعاً عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معيّن ، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معيّن ، ضرورة أ نّه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعييناً أو تخييراً ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً .

وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم أو لاحقاً ، وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها من أوّل الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه ؛ فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً ، لاحتمال أن يكون هو المضطرّ إليه فيما كان الاضطرار إلى المعيّن أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين .

لا يقال : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلاّ كفقد بعضها ؛ فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه قبل عروضه .

فإنّه يقال : حيث إنّ فقد المكلّف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلّق به مطلقاً ، فإذا اشتغلت الذمّة به كان قضيّة الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه ، فإنّه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الأوّل إلاّ مقيّداً بعدم

ص: 450

عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلاّ إلى هذا الحدّ ، فلا يجب رعايته فيما بعده ولا يكون إلاّ من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمّل ، فإنّه دقيق جدّاً .

الثاني : أ نّه لمّا كان النهي(12) عن الشيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه لو لم يكن له داع آخر ، ولا يكاد يكون ذلك إلاّ فيما يمكن عادةً ابتلاؤه به ؛ وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلاً ، ضرورة أ نّه بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل كان الابتلاء بجميع الأطراف ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم ، فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعلي لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به .

ومنه قد انقدح أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً ، هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال .

ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ؛ ضرورة أ نّه لا مجال للتشبّث به إلاّ فيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه ، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته ، تأمّل لعلّك تعرف إن شاء اللّه تعالى .

الثالث : أ نّه قد عرفت أ نّه مع فعلية التكليف المعلوم(13) لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة .

ص: 451

نعم ربما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلّها أو ارتكابه أو ضرر فيها أو غيرهما ممّا لا يكون معه التكليف فعلياً بعثاً أو زجراً فعلاً ، وليس بموجبة لذلك في غيره . كما أنّ نفسها ربما تكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر . فلا بدّ من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أ نّه يكون ، أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون مع كثرة أطرافه ، وملاحظة أ نّه مع أيّة مرتبة من كثرتها كما لا يخفى .

ولو شكّ في عروض الموجب ، فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان ، وإلاّ فالبراءة لأجل الشكّ في التكليف الفعلي .

هذا هو حقّ القول في المقام ، وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف .

الرابع : أ نّه إنّما يجب عقلاً(14) رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً .

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال :

وأ نّه تارةً يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه فيما كانت الملاقاة

ص: 452

بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها ، فإنّه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه ، فإنّه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فرداً آخر من النجس قد شكّ في وجوده ، كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر .

ومنه ظهر أ نّه لا مجال لتوهّم أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضاً ، ضرورة أنّ العلم به إنّما يوجب تنجّز الاجتناب عنه ، لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل .

واُخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه فيما لو علم إجمالاً بنجاسته أو نجاسة شيء آخر ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضاً ، فإنّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي وأ نّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة أصلاً ، لا إجمالاً ولا تفصيلاً .

وكذا لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي ، ولكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده .

وثالثةً يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة أ نّه حينئذٍ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين وهو الواحد أو الاثنان .

ص: 453

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين(15)

والحقّ أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلا ً بإتيان الأكثر لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً .

وتوهّم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً والشكّ في وجوب الأكثر بدواً ، ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً أو لغيره كذلك أو عقلاً ، ومعه لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر .

فاسد قطعاً ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلاّ إذا كان متعلّقاً بالأقلّ كان خلفاً .

مع أ نّه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجّز التكليف على كلّ حال المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال .

نعم إنّما ينحلّ إذا كان الأقلّ ذا مصلحة ملزمة ، فإنّ وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له ، وإنّما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ ، فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة بلا كلام إلاّ أ نّه خارج عمّا هو محلّ النقض والإبرام في المقام ، هذا .

ص: 454

مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية ، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه ، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها كما لا يخفى .

ولا وجه للتفصّي عنه تارةً بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين لذلك ، أو بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به .

واُخرى بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلاّ بإتيانها على وجه الامتثال ، وحينئذٍ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلاً ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال ، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر ، فلم يبق إلاّ التخلّص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلّقه به ، فإنّه واجب عقلاً وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً ، لتنجّزه بالعلم به إجمالاً . وأمّا الزائد عليه - لو كان - فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإنّ العقوبة عليه بلا بيان .

وذلك ضرورة أنّ حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية ، بل من ذهب إلى ما

ص: 455

عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته على هذا المذهب أيضاً هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافاً ، فافهم .

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها على وجه الامتثال ، إلاّ أ نّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف! ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره ، هذا .

مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك . والمراد بالوجه في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به هو وجه نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها الغرضي . وإتيان الواجب مقترناً بوجهه غايةً ووصفاً بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقلّ ، فيتأتّى من المكلّف معه قصد الوجه .

واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر إذا قصد وجوب المأتيّ على إجماله بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه ، لا سيّما إذا دار الزائد بين كونه جزءاً لماهيته وجزءاً لفرده حيث ينطبق الواجب على المأتيّ حينئذٍ بتمامه وكماله ، لأنّ الطبيعي يصدق على الفرد بمشخّصاته .

نعم لو دار بين كونه جزءاً أو مقارناً ، لما كان منطبقاً عليه بتمامه لو لم يكن جزءاً ، لكنّه غير ضائر ، لانطباقه عليه أيضاً فيما لم يكن ذاك الزائد

ص: 456

جزءاً ، غايته لا بتمامه بل بسائر أجزائه .

هذا ، مضافاً إلى أنّ اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه .

مع أنّ الكلام في هذه المسألة لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات .

مع أ نّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد والاحتمال فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً ولو بإتيان الأقلّ لو لم يحصل الغرض ، وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه ، فافهم . هذا بحسب حكم العقل .

وأمّا النقل : فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شكّ في جزئيته ؛ فبمثله يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر ، ويعيّنه في الأوّل .

لا يقال : إنّ جزئية السورة المجهولة -

مثلاً - ليست بمجعولة ، وليس لها أثر مجعول ، والمرفوع بحديث الرفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب الإعادة إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم ، مع أ نّه عقلي ، وليس إلاّ من باب وجوب الإطاعة عقلاً .

لأ نّه يقال : إنّ الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها ، إلاّ أ نّها مجعولة بمنشأ انتزاعها ، وهذا كافٍ في صحّة رفعها .

ص: 457

لا يقال : إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه ، وهو الأمر الأوّل ، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه .

لأ نّه يقال : نعم وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ، إلاّ أنّ نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء إليها نسبة الاستثناء ، وهو معها تكون دالّة على جزئيتها إلاّ مع الجهل بها كما لا يخفى ، فتدبّر جيّداً .

وينبغي التنبيه على اُمور :

الأوّل : إ نّه ظهر ممّا مرّ حال(16) دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه ، وبين الخاصّ - كالإنسان - وعامّه - كالحيوان - وأ نّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً ، بل كان الأمر فيهما أظهر ، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يتوهّم هاهنا ، بداهة أنّ الأجزاء التحليلية لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً . فالصلاة مثلاً في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها وفي ضمن صلاة اُخرى فاقدة لشرطها أو خصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها ، كما لا يخفى .

نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره ، دون الدوران بين الخاصّ وغيره ، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شكّ في شرطيته ؛ وليس كذلك خصوصية

ص: 458

الخاصّ ، فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ ، فيكون الدوران بينه وغيره من قبيل الدوران بين المتباينين ، فتأمّل جيّداً .

الثاني : أ نّه لا يخفى أنّ الأصل(17) فيما إذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه عقلاً ونقلاً ما ذكر في الشكّ في أصل الجزئية أو الشرطية ؛ فلو لا مثل حديث الرفع مطلقاً و«لا تعاد» في الصلاة لحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسياناً ، كما هو الحال فيما ثبت شرعاً جزئيته أو شرطيته مطلقاً ، نصّاً أو إجماعاً .

ثمّ لا يذهب عليك أ نّه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع ، كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلّة الاجتهادية . كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً ، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر ، أو وجّه إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر عامّ أو خاصّ ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان ، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة . كما توهّم لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسيّ على الناسي ، فلا تغفل .

الثالث : إ نّه ظهر ممّا مرّ حال زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً في الواجب مع عدم اعتباره في جزئيته وإلاّ لم يكن من

ص: 459

زيادته بل من نقصانه ، وذلك لاندراجه في الشكّ في دخل شيء فيه جزءاً أو شرطاً ، فيصحّ لو أتى به مع الزيادة عمداً تشريعاً ، أو جهلاً قصوراً ، أو تقصيراً ، أو سهواً وإن استقلّ العقل - لولا النقل بلزوم الاحتياط لقاعدة الاشتغال .

نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه ، لكان باطلاً مطلقاً ، أو في صورة عدم دخله فيه ، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال ، وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أيّ حال ، كان صحيحاً ولو كان مشرّعاً في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه بدخله ، فإنّ تشريعه في تطبيق المأتيّ مع المأمور به ، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب به على كلّ حال .

ثمّ إنّه ربّما تمسّك لصحّة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحّة ، وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عمّا هو المهمّ في المقام ، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه «تعالى» .

الرابع : أ نّه لو علم بجزئية شيء(18) أو شرطيته في الجملة ودار بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه - فيسقط الأمر بالعجز عنه على الأوّل لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به ، لا على الثاني فيبقى متعلّقاً بالباقي -

ص: 460

ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين من إطلاق دليل اعتباره جزءاً أو شرطاً ، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقلّ العقل بالبراءة عن الباقي ، فإنّ العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان .

لا يقال : نعم ، ولكنّ قضيّة مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلاّ في حال التمكّن منه .

فإنّه يقال : إنّه لا مجال هاهنا لمثله ، بداهة أ نّه ورد في مقام الامتنان ، فيختصّ بما يوجب نفي التكليف ، لا إثباته .

نعم ربما يقال : إنّ قضيّة الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذّر أيضاً ، ولكنّه لا يكاد يصحّ إلاّ بناءً على صحّة القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب وكان ما تعذّر ممّا يسامح به عرفاً بحيث يصدق مع تعذّره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي ، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه ، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام .

كما أنّ وجوب الباقي في الجملة ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، وقوله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» ، وقوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» .

ص: 461

ودلالة الأوّل مبنيّة على كون كلمة «من» تبعيضية ، لا بيانية ولا بمعنى الباء ، وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى ، إلاّ أنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد .

ولو سلّم فلا محيص عن أ نّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد ، حيث ورد جواباً عن السؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به .

فقد روي أ نّه خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال : «إن اللّه كتب عليكم الحجّ ،فقام عكاشة - ويروى سراقة بن مالك - فقال : أفي كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه ، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً ، فقال : ويحك! وما يؤمنك أن أقول : نعم ، واللّه لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .

ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً ، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العامّ بالمعسور منها . هذا ، مضافاً إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوماً ؛ لعدم اختصاصه بالواجب ، ولا مجال معه لتوهّم دلالته على أ نّه بنحو اللزوم ، إلاّ أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور بأن

ص: 462

يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ؛ حيث إنّ الظاهر من مثله هو ذلك - كما أنّ الظاهر من مثل «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما له من تكليف أو وضع - لا أ نّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف ، كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه ، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر ، فافهم .

وأمّا الثالث ، فبعد تسليم ظهور الكلّ في المجموعي لا الأفرادي ، لا دلالة له إلاّ على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجباً كان أو مستحبّاً - عند تعذّر بعض أجزائه ، لظهور الموصول فيما يعمّهما ؛ وليس ظهور «لا يترك» في الوجوب لو سلّم موجباً لتخصيصه بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعمّ قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي ؛ وكيف كان فليس ظاهراً في اللزوم هاهنا ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام .

ثمّ إنّه حيث كان الملاك(19) في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً ، كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشرط أيضاً لصدقه حقيقة عليه مع تعذّره عرفاً ، كصدقه عليه كذلك مع تعذّر الجزء في الجملة وإن كان فاقد الشرط مبايناً للواجد عقلاً ؛ ولأجل ذلك ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها مورداً لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور

ص: 463

عرفاً وإن كان غير مباين للواجد عقلاً .

نعم ربما يلحق به شرعاً ما لا يعدّ بميسور عرفاً تخطئةً للعرف ، وأنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع على ما هو عليه الفاقد من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال ، وإلاّ عدّ أ نّه ميسوره ، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك ، أي للتخطئة ، وأ نّه لا يقوم بشيء من ذلك .

وبالجملة ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق ويستكشف منه أنّ الباقي قائم بما يكون المأمور به قائماً بتمامه أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحبّ .

وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصاً في الأوّل، وتشريكاً في الحكم من دون الاندراج في الموضوع في الثاني ، فافهم .

تذنيب

لا يخفى أ نّه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته ، لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين ، مع ذاك الشيء مرّةً وبدونه اُخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى .

ص: 464

خاتمة في شرائط الاُصول

أمّا الاحتياط(20) ، فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً ، بل يحسن على كلّ حال إلاّ إذا كان موجباً لاختلال النظام . ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها .

وتوهّم كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، فاسد ؛ لوضوح أنّ التكرار ربما يكون بداعٍ صحيح عقلائي ؛ مع أ نّه لو لم يكن بهذا الداعي ، وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داعٍ له سواه ، لما ينافي قصد الامتثال وإن كان لاغياً في كيفية امتثاله ، فافهم .

بل يحسن أيضاً فيما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف ، لئلاّ يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة .

وأمّا البراءة العقلية(21) ، فلا يجوز إجراؤها إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجّة على التكليف ، لما مرّت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلاّ بعدهما .

وأمّا البراءة النقلية ، فقضيّة إطلاق أدلّتها ، وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها ، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، إلاّ أ نّه استدلّ على اعتباره بالإجماع ، وبالعقل ، فإنّه لا مجال لها بدونه

ص: 465

حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحّص عنه لظفر به .

ولا يخفى أنّ الإجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة ممّا للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ لولا الكلّ هو ما ذكر من حكم العقل .

وأنّ الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز ، إمّا لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، أو لعدم الابتلاء إلاّ بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها .

فالأولى الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقّه والتعلّم والمؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى - كما في الخبر - : «هلاّ تعلّمت» . فيقيّد بها أخبار البراءة ، لقوّة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالاً ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً ، فافهم .

ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر في البراءة فلا تغفل .

ص: 466

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام .

أمّا التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلّم والفحص مؤدّياً إليها ، فإنّها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار إلاّ أ نّها منتهية إلى الاختيار ، وهو كافٍ في صحّة العقوبة ، بل مجرّد تركهما كافٍ في صحّتها وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة مع احتماله ، لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها .

نعم ، يشكل في الواجب المشروط والموقّت لو أدّى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلاً عمّا إذا لم يؤدّ إليها ، حيث لا يكون حينئذٍ تكليف فعلي أصلاً ، لا قبلهما وهو واضح ولا بعدهما وهو كذلك ؛ لعدم التمكّن منه بسبب الغفلة ولذا التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك قدّس سرّهما إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسياً تهيّؤياً فتكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه ، لا على ما أدّى إليه من المخالفة ، فلا إشكال حينئذٍ في المشروط والموقّت ، ويسهل بذلك الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه وليس بالاختيار .

ولا يخفى أ نّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكال إلاّ بذلك أو الالتزام بكون المشروط أو الموقّت مطلقاً معلّقاً ، لكنّه قد اعتبر على نحو لا يتّصف

ص: 467

مقدّماته الوجودية عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلّم ، فيكون الإيجاب حالياً وإن كان الواجب استقبالياً قد اُخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه ولا غير التعلّم من مقدّماته قبل شرطه أو وقته .

وأما لو قيل بعدم الإيجاب إلاّ بعد الشرط والوقت - كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور - فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسياً ، لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه ، لا على ما أدّى إليه من المخالفة ، ولا بأس به كما لا يخفى .

ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلّم إنّما هو لغيره لا لنفسه ، حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيرياً يترشّح وجوبه من وجوب غيره ، فيكون مقدّمياً ، بل للتهيّؤ لإيجابه ، فافهم .

وأمّا الأحكام ، فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة بل في صورة الموافقة أيضاً في العبادة فيما لا يتأتّى منه قصد القربة ، وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به ، مع عدم دليل على الصحّة والإجزاء إلاّ في الإتمام في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح - وقد أفتى به المشهور - صحّة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقاً ، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها ، لأنّ ما اُتي بها وإن

ص: 468

صحّت وتمّت إلاّ أ نّها ليست بمأمور بها .

إن قلت : كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها؟! وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي اُمر بها حتّى فيما إذا تمكّن ممّا اُمر بها - كما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً؟! ضرورة أ نّه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة .

وبالجملة كيف يحكم بالصحّة بدون الأمر ؟ ! وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة لولا الحكم شرعاً بسقوطها وصحّة ما اُتي بها ؟ !.

قلت : إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمّة في حدّ ذاتها وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها لأجل أ نّه اُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتمّ .

وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة ، فإنّها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلاً مع تمكّنه من التعلّم فقد قصّر ولو علم بعده وقد وسع الوقت .

فانقدح أ نّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام ،

ص: 469

ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات وإن كان الوقت باقياً .

إن قلت : على هذا يكون كلّ منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلاً ، وما هو السبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام .

قلت : ليس سبباً لذلك ، غايته أ نّه يكون مضادّاً له ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلاً .

لا يقال : على هذا فلو صلّى تماماً أو صلّى إخفاتاً في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر .

فإنّه يقال : لا بأس بالقول به لو دلّ دليل على أ نّها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم . لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به كما لا يخفى .

وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتيّ في غير موضعه مأموراً به بنحو الترتّب .

وقد حقّقنا في مبحث الضدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً ولو بنحو الترتّب بما لا مزيد عليه ، فلا نعيد .

ثمّ إنّه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران : أحدهما أن لا يكون موجباً

ص: 470

لثبوت حكم شرعي من جهة اُخرى . ثانيهما أن لا يكون موجباً للضرر على آخر .

ولا يخفى أنّ أصالة البراءة عقلاً ونقلاً في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جاريةً ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والإباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية لو كان موضوعاً لحكم شرعي أو ملازماً له فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه . فإن لم يكن مترتّباً عليه بل على نفي التكليف واقعاً فهي وإن كانت جارية إلاّ أنّ ذاك الحكم لا يترتّب ، لعدم ثبوت ما يترتّب عليه بها ؛ وهذا ليس بالاشتراط .

وأمّا اعتبار أن لا يكون موجباً للضرر ، فكلّ مقام تعمّه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة - كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّة الاجتهادية - إلاّ أ نّه حقيقةً لا يبقى لها موردٌ بداهة أنّ الدليل

الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو ظاهراً .

فإن كان المراد من الاشتراط ذلك فلا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبّر .

والحمد للّه على كلّ حال .

ص: 471

ص: 472

الفهارس العامّة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 473

ص: 474

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(أَقِيمُوا الصَّلَوةَ) 43 288

آل عمران (3)

(وَللّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ

اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) 97 138

(اتَّقُوا اللّه َ حَقَّ تُقاتِهِ) 102 82، 84

المائدة (5)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) 1 204

(أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) 4 - 5 113

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) 6 317

(وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) 6 292

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

أَيْدِيَهُما) 38 31

ص: 475

الآية رقمها الصفحة

الأنعام (6)

(فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) 149 401

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ

أَمْثَالِهَا) 160 126

الإسراء (17)

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) 13 16

(اقْرَأ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ

حَسِيباً) 14 16

(مَا كُنَّا) 15 16

(مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) 15 15، 22

(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) 15 13، 14، 22

(لاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا) 32 205

(أَقِمِ الصَّلَوةَ) 78 46، 357

(أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى

غَسَقِ اللَيْلِ) 78 46، 320

الحجّ (22)

(وَجَاهِدُوا فِى اللّه ِ حَقَّ جِهادِهِ) 78 82

(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ

حَرَجٍ) 78 36، 291

ص: 476

الآية رقمها الصفحة

النور (24)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) 2 31

الحجرات (49)

(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ

تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) 6 9

التغابن (64)

(فَاتَّقُوا اللّه َ مَا اسْتَطَعْتُمْ) 16 82

الطلاق (65)

(لِيُنْفِقْ ذُوسَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ

عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه ُ لاَ

يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ

اللّه ُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) 7 18

(فَليُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه) 7 19

(لاَ يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا) 7 18، 19، 21

المدّثّر (74)

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) 5 240

ص: 477

ص: 478

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

أخوك دينك فاحتطْ لدينك بما شئت 85

إذا استيقن أ نّه زاد في صلاته . . . 350

إذا استيقن أ نّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها 343

إذا أمرتكم بشيء . . . 369

إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم 367، 371، 377

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء 375

إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثاً 112

إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء 240

اغسل ثوبك 317

ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال 419

الالتفات إذا كان بكلّه يقطع الصلاة 341

أنّ الغصب كلّه مردود 253

إنّ الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها 240

إنّ اللّه تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً 59

إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيءٍ 240

إنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سُفرة وجدت في الطريق مطروحة . . . 107

ص: 479

إن كان خلط الحلال بالحرام ، فاختلطا جميعاً . . . 61

إنّما الشكّ في شيء لم تَجُزْهُ 10

إنّما يهلك الناس لأ نّهم لا يسألون 420

إنّها زيادة في المكتوبة 345

تفقّهوا في الدين 401

تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي 419

خذ معالم دينك من فلان ، وأنّ ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي 128

رفع عن اُمّتي . . . النسيان ، وما استكرهوا عليه 48

رُفع عن اُمّتي تسعة أشياء . . . 26

رفع عن اُمّتي . . . ما لا يعلمون 58

رُفع . . . ما لا يعلمون 168، 291، 417

السجدة زيادة في المكتوبة 353

السجود زيادة في المكتوبة 344، 352

السنّة لا تنقض الفريضة 349

الصلاة لا تُترك بحال 356، 357

طلب العلم فريضة 401

طلب العلم فريضة على كلّ مسلم 419

فشكُّك ليس بشيء 10

فهو موضوع عنهم 60

القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة 349

كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر 114

كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال 165

كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام بعينه 60

ص: 480

كلّ شيء لك حلال 117، 168

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام 166

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه 181

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام 60

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه 60، 191

كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي 61

كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر 167

كلّ ما حجب اللّه ُ علمَه عن العباد. . . 59

لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه 61

لا تُصلِّ فيما لا يؤكل 256، 257

لا تصلّ في وَبَر ما لا يُؤكل 317، 319

لا تعاد . . . 47، 49، 346، 347،

348، 349، 350، 352

لا تعاد الصلاة . . . 49

لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة . . . 345، 346

لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود 344

لا تنقض اليقين بالشكّ 10

لا صلاة إلاّ بطهور 256، 257، 317، 356،

357

لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب 318، 356، 357، 358

لا يترك كلّه 373

لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه 253

لا يحِلّ مال إلاّ من حيثُ ما أحلّه اللّه 116، 118

ص: 481

لا يحِلُّ مالُ امرِئ إلاّ بطيب نفسه 116، 117، 118

لا يدرك كلّه 373

لا يقطع الصلاة إلاّ أربع : الخلاء ، والبول ، والريح ، والصوت 341

لا ينقض اليقين بالشكّ 26، 169، 182

لا ينقض اليقين بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين مثله 181

لم ينجّسه شيء 113

الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر 241

ما استطعتم 370

ما استكرهوا عليه 23، 25

ما اضطرّوا إليه 23، 25، 27

ما حجب اللّه علمه 59

ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم 58

ما لا يدرك كلّه . . . 373، 375، 377

ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه 367، 373

ما لا يطيقون 23، 25

ما لا يعلمون 23، 25، 26، 27، 29، 32

من بلغ . . . 127

من زاد . . . 346، 347

من زاد في صلاته . . . 344، 348، 349

من زاد في صلاته فعليه الإعادة 343، 345، 346، 347،

348، 349

الميسور لا يسقط بالمعسور 367، 371، 378، 417

الناس في سعة ما لا يعلمون 417

ص: 482

وإن لم يكن المؤدّى عنّي 128

ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ، فيبني عليه 169

ويحك ، ما يؤمنك أن أقول : نعم ؟ ! واللّه لو قلت : نعم ، لوجب 369

هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه 292

هو موضوع عنهم 58

يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه . . . امسح على المرارة 291

يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت ؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلاّ عملت 401

ص: 483

ص: 484

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، محمّد، رسول اللّه رحمهما اللّه = محمّد بن عبداللّه رحمهما اللّه ، نبي الإسلام

محمّد بن عبداللّه رحمهما اللّه ، نبي الإسلام 1، 25، 65، 73، 125،

126، 127، 128، 173،

174، 370، 391، 409

أمير المؤمنين علیه السلام = علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 107، 419

أبو عبداللّه الحسين علیه السلام = الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 126

أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 75، 76، 219، 220، 240،

343، 409

الصادق، أبو عبداللّه علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 62، 64، 65، 66، 67،

73، 75، 76، 107، 219،

220، 343، 409، 410،

419، 420

ص: 485

أبو إبراهيم علیه السلام = موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع

موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع 74

أبو الحسن علیه السلام = علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن

علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن 410، 419

وليّ العصر = صاحب الزمان (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر

صاحب الزمان (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر 73، 253

ص: 486

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 89، 126، 173، 176

200، 230، 238، 280،

282، 290، 299، 300،

324، 334، 412، 421

أبان الأحمر = أبان بن عثمان

أبان بن عثمان 65

ابن إدريس، محمّد بن أحمد 258

ابن الطيّار 64، 65

ابن بابويه، محمّد بن علي 67

ابن زهرة، حمزة بن علي 48، 240

ابن سنان = عبداللّه بن سنان

ابن سينا، الحسين بن عبداللّه 295

أبو الجارود 220

أبو المعزى = حميد بن المثنّى

أبو بصير 343

الأردبيلي، أحمد بن محمّد 48، 408

ص: 487

الأصفهاني، محمّد تقي 376

الأصفهاني، محمّد حسين 271

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 11، 18، 20، 48، 63،

76، 77، 119، 128،

130، 181، 194، 209،

211، 213، 216، 220،

231، 236، 256، 258،

259، 260، 282، 283،

284، 286، 310، 319،

322، 347، 372، 373،

375، 376، 421

البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد 76

البزنطي، أحمد بن محمّد 29، 37، 39

بكير بن أعين 343، 351

البهبهاني، محمّد باقر بن محمّد أكمل 357، 358، 359

بعض الأساطين = الشهيد الثاني، زين الدين بن علي

بعض أعاظم العصر = النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم فنّ المعقول = السبزواري، هادي بن مهدي

بعض الأعاظم = النائيني، محمّد حسين

بعض أهل التحقيق = العراقي، ضياء الدين

بعض علماء العصر = النائيني، محمّد حسين

بعض الفحول = الحائري، عبدالكريم

بعض الفحول = الأصفهاني، محمّد تقي

ص: 488

بعض محقّقي محشّي الكفاية = الأصفهاني، محمّد حسين

بعض مشايخ العصر = النائيني، محمّد حسين

بعض المحقّقين = العراقي، ضياء الدين

بعض محقّقي العصر = العراقي، ضياء الدين

جابر = الجعفي، جابر بن يزيد

الجعفي، جابر بن يزيد 240

جميل = جميل بن درّاج

جميل بن درّاج 65

الحائري، عبدالكريم 6، 27، 37، 38، 57، 82،

97، 117، 210، 217،

218، 231، 233، 236،

287، 292، 344، 349،

372

الحذّاء، زياد بن عيسى 61

الحلبي، عبيداللّه بن علي 220

الحلّي = ابن إدريس، محمّد بن أحمد

حمران بن أعين 410، 420

حمزة بن محمّد = ابن الطيّار

حميد بن المثنّى 220

الخراساني = الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

ربعي بن عبداللّه 409

زرارة 169، 343، 351

الساباطي، عمّار بن موسى 55

ص: 489

السبزواري، هادي بن مهدي 271

سراقة بن مالك 369

سماعة بن مهران 61، 220

السيّد الرضي = الشريف الرضي، محمّد بن الحسين

السيّد اليزدي = اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم

شارح الروضة = الفاضل الهندي، محمّد بن الحسن

الشريف الرضي، محمّد بن الحسين 387

الشهيد الثاني، زين الدين بن علي 111

الشيخ = الطوسي، محمّد بن الحسن

الشيخ الأعظم = الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ الأنصاري = الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ = الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ الرئيس = ابن سينا، الحسين بن عبداللّه

شيخ الطائفة = الطوسي، محمّد بن الحسن

شيخنا العلاّمة = الحائري، عبدالكريم

الصدوق = ابن بابويه، محمّد بن علي

صفوان بن يحيى 37

صفوان = صفوان بن يحيى

الطباطبائي = اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم

الطوسي، محمّد بن الحسن 167، 209

عبد الأعلى = عبدالأعلى بن أعين مولى آل سام

عبدالأعلى بن أعين مولى آل سام 64، 291

عبدالرحمان بن حجّاج 74، 84

ص: 490

عبدالصمد بن بشير 62

عبداللّه بن سليمان 75، 76، 77، 219، 220

عبداللّه بن سنان 75، 77، 219

عبداللّه بن وضّاح 85

العراقي، ضياء الدين 19، 45، 75، 164، 301،

332، 407

عكاشة 369

العلاّمة الحائري = الحائري، عبدالكريم

العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف 48

علم الهدى، علي بن الحسين 48

علي بن جعفر 208

عمّار = الساباطي، عمّار بن موسى

الفاضل المقرّر = الكاظمي، محمّد علي

الفاضل الهندي، محمّد بن الحسن 111، 113، 116

القمّي = الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

كاشف الغطاء، جعفر بن خضر 414

الكاظمي، محمّد علي 12، 37، 167، 226،

247، 352

الكليني، محمّد بن يعقوب 352

المحقّق الحلّي، جعفر بن الحسن 48

المحقّق الطوسي = نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد

محمّد بن علي بن الحسين 67، 343

مسعدة بن صدقة 60، 76، 77

ص: 491

معاوية بن عمّار 76، 219

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن 256

النائيني، محمّد حسين 11، 14، 21، 24، 26،

33، 35، 40، 42، 47،

50، 103، 105، 112،

122، 127، 134، 143،

146، 149، 153، 154،

157، 161، 162، 170،

171، 181، 183، 189،

194، 211، 212، 214،

216، 222، 226، 238،

243، 248، 249، 256،

257، 259، 261، 269،

276، 281، 284، 290،

298، 302، 305، 309،

322، 324، 325، 338،

342، 352، 357، 369،

396، 399، 402، 412

نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد 387

الوحيد البهبهاني = البهبهاني، محمّد باقر بن محمّد أكمل

اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم 61

اليماني، إبراهيم بن عمر 66

يونس بن عبدالرحمان 410، 419

يونس = يونس بن عبدالرحمان

ص: 492

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 308، 309

الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني(سلام اللّه عليه) 290

الاستبصار 351

الاستصحاب للإمام الخميني(سلام اللّه عليه) 231، 233، 234، 235

بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر 421

تحف العقول 112

تقريرات بحث المحقّق العراقي = نهاية الأفكار

تقريرات بحث المحقّق النائيني = فوائد الاُصول

التهذيب = تهذيب الأحكام

تهذيب الأحكام 351

حاشية المكاسب للمحقّق اليزدي 61

رسالة التقيّة للإمام الخميني(سلام اللّه عليه) 56

رسالة في التسامح في أدلّة السنن للشيخ الأنصاري 130

رسالة الصلاة في المشكوك 340

رسالة لا ضرر للإمام الخميني(سلام اللّه عليه) = بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

السرائر 258

شرح الكافي = مرآة العقول

ص: 493

الغنية = غنية النزوع

غنية النزوع 48، 240

فوائد الاُصول 24، 26، 33، 35، 40،

42، 103، 105، 122،

134، 143، 146، 153،

154، 157، 161، 162،

171، 222، 238، 242،

248، 257، 276، 281،

298، 302، 305، 322،

325، 352، 357

الكافي 65، 66، 107، 343،

350، 351، 419، 420

الكفاية = كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 271، 283، 404

المدارك = مدارك الأحكام

مدارك الأحكام 402، 408

مرآة العقول 351

المعتبر 48

المكاسب للشيخ الأنصاري 61

الناصريات 48

نهاية الأفكار 242، 301

الوافي 66، 351

الوسائل = وسائل الشيعة

وسائل الشيعة 66، 351

ص: 494

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم» .

«أ»

1 - الاجتهاد والتقليد ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . = موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني) . السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413) ، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مطبعة ستارة ، 1419 ق .

3 - الاحتجاج . أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ( القرن السادس) ، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، منشورات اُسوة ،

1413 ق .

4 - الأربعون حديثاً. أبو الفضائل محمّد بن الشيخ حسين الجبعي العاملي المعروف ب-«الشيخ البهائي» (953 - 1031) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1415 ق .

5 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الثالثة ، 4 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1390 ق .

6 - الاستصحاب ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . = موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

ص: 495

7 - الأمالي . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق مؤسّسة البعثة ، الطبعة الاُولى ، قم ، دار الثقافة ، 1414 ق .

«ب»

8 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار . العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110) ، الطبعة الثانية ، إعداد عدّة من العلماء ، 110 مجلدٍ (إلاّ 6 مجلّدات ، من المجلّد 29 - 34) + المدخل ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ق / 1983 م .

9 - بحر الفوائد في شرح الفرائد . الميرزا محمّد حسن الآشتياني ، الطبعة الحجرية ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، قم ، 1403 ق .

«ت»

10 - تجريد الاعتقاد . الشيخ أبو جعفر محمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين المحقّق الطوسي (597 - 672) ، تحقيق محمّد جواد الحسيني الجلالي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1407 ق .

11 - تحف العقول عن آل الرسول . أبو محمّد بن الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 ق .

12 - تذكرة الفقهاء . جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي (648 - 726) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، صدر منه حتّى الآن 20 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 - 1433 ق .

13 - تفسير العيّاشي . أبو النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السمرقندي ( أواخر قرن الثالث) ، تصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي ، مجلّدان ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية .

14 - تفسير نور الثقلين . الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (م 1112) ، تحقيق

ص: 496

السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، 1412 ق / 1370 ش .

15 - تنقيح الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ) . حسين التقوي الاشتهاردي (1304 - 1378 ش) ، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1418 - 1419 ق / 1376 - 1377 ش .

16 - التوحيد . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، الشيخ الصدوق (م 381) ، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1398 ق .

17 - تهذيب الأحكام . أبو جعفر محمّد بن الحسن ، الشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1365 ش .

18 - تهذيب الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ) . الشيخ جعفر السبحاني التبريزي ، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1424 ق .

«ج»

19 - جامع الشتات . الميرزا أبو القاسم بن الحسن الجيلاني المحقّق القمّي (1151 - 1231) ، الطبعة الحجرية ، 1324 ق .

20 - جامع المقاصد في شرح القواعد . المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبدالعالي الكركي (868 - 940) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 13 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1408 - 1411 ق .

21 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام . الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266) ، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني ، الطبعة الثالثة ، 43 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1367 ش .

ص: 497

«ح»

22 - الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة . الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (1107 - 1186) ، تحقيق محمّد تقي الإيرواني ، الطبعة الاُولى ، 25 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1406 ق .

23 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة . صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050) ، الطبعة الثانية ، 9 مجلّدات ، قم ، مكتبة المصطفوي .

«خ»

24 - الخصال . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1403 ق .

«د»

25 - درر الفوائد . العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي ، تعليق آية اللّه الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف ، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي ، الطبعة الخامسة ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1408 ق .

26 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد . الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329) ، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ، 1410 ق / 1990 م .

«ذ»

27 - ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد . المحقّق السبزواري محمّد باقر بن محمّد مؤمن (1017 - 1090) ، الطبعة الحجرية ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

28 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة . الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 ق .

ص: 498

«ر»

29 - رسائل ابن سينا . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ، قم ، نشر مكتبة البيدار ، 1400 ق .

30 - الرسالات الفقهية والاُصولية ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . = موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

31 - رسائل فقهية ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 23 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتبة الفقهية ، 1414 ق .

32 - رسالة الصلاة في المشكوك . الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (1276 - 1355) ، تحقيق الشيخ جعفر الغروي النائيني ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1418 ق .

33 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان . الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965) ، تحقيق مركز الأبحاث والآثار الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ق .

34 - الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية . الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965) ، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي، 1424 ق .

35 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل . السيّد علي بن محمّد علي الطباطبائي (1161 - 1231) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 14 مجلّداً ، قم ،

مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1412 - 1423 ق .

«س»

36 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي . أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598) ، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1410 - 1411 ق .

ص: 499

37 - سنن النسائي . أبو عبدالرحمان أحمد بن شعيب النسائي (214 - 303) ، الطبعة الاُولى ، 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الفكر للطباعة والنشر ، 1348 ق / 1930 م .

«ش»

38 - شرح الشمسية . قطب الدين محمود بن محمّد الرازي (م 766) ، الطبعة الحجرية ، طهران ، انتشارات علميه إسلامية ، 1304 ق .

39 - شرح المقاصد . مسعود بن عمر بن عبداللّه المعروف ب- «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793) ، تحقيق عبدالرحمان عميرة ، الطبعة الاُولى ، 5 أجزاء في 4 مجلّدات ، قم ، منشورات الشريف الرضيّ ، 1370 - 1371 ش .

40 - شرح المنظومة . المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289) ، تصحيح و تعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، طهران ، نشر ناب ، 1369 - 1379 ش .

41 - شرح المواقف . السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812) ، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني ، الطبعة الاُولى ، 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، قم ، انتشارات الشريف الرضيّ ، 1412 ق / 1370 ش ، «بالاُفست عن طبعة مصر ، 1325» .

«ص»

42 - صحيح مسلم . أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (206 - 261) ، تحقيق وتعليق الدكتور موسى شاهين لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة عزّ الدين ، 1407 ق / 1987 م .

43 - الصلاة . المحقّق الحائري (م 1355) ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1362 ش .

«ط»

44 - الطهارة ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 1 - 5 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، المكتبة الفقهية ، 1415 ق .

ص: 500

45 - الطهارة ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » .= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ع»

46 - عوائد الأيّام . المولى أحمد بن محمّد مهديّ بن أبي ذرّ النراقي (1185 - 1245) ، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ق / 1375 ش .

47 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية . محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر) ، تحقيق مجتبى العراقي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء ، 1403 ق .

«غ»

48 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع . أبو المكارم السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المعروف بابن زهرة (511 - 585) ، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1417 ق .

«ف»

49 - فرائد الاُصول ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1419 ق / 1377 ش .

50 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية . محمّد حسين بن عبدالرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم ، دار إحياء العلوم الإسلامية ، 1404 ق . «بالاُفست عن الطبعة الحجرية» .

51 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه) . أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 4 مجلّدات ، النجف الأشرف ، دار الكتب الإسلامية ، 1377 ق / 1957 م .

52 - فوائد الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تصحيح السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع

ص: 501

والنشر من وزارة الإرشاد الإسلامي ، 1407 ق .

53 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 ق .

54 - الفوائد الحائرية . الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل المشتهر بالوحيد البهبهاني ، تحقيق لجنة تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1415 ق .

55 - الفوائد الطوسية . المحدّث الأكبر محمّد حسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) تعليق السيّد مهديّ اللاجوردي والشيخ محمّد درودي ، قم ، المطبعة العلمية ، 1403 ق .

«ق»

56 - قوامع الفضول في علم الاُصول . الشيخ محمود بن جعفر الميثمي الطهراني (1240 - 1308) ، الطبعة الحجرية ، طهران ، 1305 ق .

57 - قوانين الاُصول . المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231) ، مجلّدان ، الطبعة الحجرية ، المجلّد الأوّل ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية ، 1378 ، والمجلّد الثاني ، طهران ، المستنسخة سنة 1310 ق .

«ك»

58 - الكافي . ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الخامسة ، 8 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

59 - كامل الزيارات . أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي ، الشيخ جواد القيّومي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة نشر الفقاهة ، 1417 ق .

60 - كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء . الشيخ جعفر بن خضر المعروف بكاشف الغطاء (1156- 1228) ، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان ، الطبعة

ص: 502

الاُولى ، 4 مجلّداً ، قم ، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ق / 1380 ش .

61 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1414 ق .

62 - كفاية الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

«ل»

63 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » .

‘ موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

64 - مجمع البيان في تفسير القرآن . أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548) ، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد فضل اللّه اليزدي الطباطبائي ، الطبعة الاُولى ، 10 أجزاء في 5 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة للطباعة والنشر .

65 - مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان . أحمد بن محمّد المعروف بالمقدّس الأردبيلي (م 993) ، تحقيق مجتبى العراقي وعلي پناه الاشتهاردي وحسين اليزدي ، الطبعة الاُولى ، 14 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1402 - 1414 ق .

66 - المحاسن . أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م274 أو 280) ، تحقيق جلال الدين الحسيني الاُرموي ، الطبعة الثانية ، قم ، دار الكتب الإسلامية .

67 - المحصول في علم اُصول الفقه . فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606) ، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمّد معوض ، الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات ، بيروت ، المكتبة العصرية ، 1420 ق / 1999 م .

68 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام . السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي

ص: 503

(م 1009) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 8 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1410 ق .

69 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول . العلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقيّ المجلسي (1037 - 1110) ، تصحيح السيّد هاشم الرسولي والسيّد جعفر الحسيني والشيخ علي الآخوندي ، الطبعة الثانية ، 26 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

70 - مسائل الناصريات . أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى و علم الهدى (355 - 436) ، تحقيق مركز البحوث والدراسات العلمية ، قم ، مؤسّسة الهدى ، 1417 ق .

71 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام . الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965) ، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 15 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة المعارف الإسلامية ، 1413 - 1419 ق .

72 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل . الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254-1320) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 25 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1407 ق .

73 - المستصفى من علم الاُصول . أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505) ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، انتشارات دار الذخائر ، 1368 ش .

74 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري) . الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292) ، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مجمع

الفكر الإسلامي ، 1425 ق .

75 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول» . أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011) ، الطبعة الحادي عشر ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1416 ق .

76 - المعتبر في شرح المختصر . المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676) ، تحقيق عدّة من الأفاضل ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ،

ص: 504

مؤسّسة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1364 ش .

77 - مقالات الاُصول . الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1414 - 1420 ق .

78 - المقنع . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (311 - 381) ، تحقيق لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، قم ، مؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، 1415 ق .

79 - المناهج السوية في شرح الروضة البهيّة . الفاضل الهندي ، من مخطوطات مكتبة آستان قدس رضوي ، المحفوظ في مكتبة ملي ملك ، طهران ، تحت الرقم 1323 .

80 - مناهج الوصول إلى علم الاُصول ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » .

‘ موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

81 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش .

«ن»

82 - نهاية الإحكام في معرفة الأحكام . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726) ، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة إسماعيليان ، 1410 ق .

83 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي) . الشيخ حسينعلي المنتظري ، الطبعة الاُولى ، قم ، نشر تفكّر ، 1415 ق .

84 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي) . الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 4 أجزاء في 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1405 ق .

85 - نهاية الدراية في شرح الكفاية . الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361) ،

ص: 505

تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 ق .

«و»

86 - الوافي . محمّد بن المرتضى المولى محسن المعروف بالفيض الكاشاني (1006 - 1091) ، إعداد ضياء الدين الحسيني ، الطبعة الاُولى ، 26 مجلّداً ، أصفهان ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، 1412 ق .

87 - الوافية في اُصول الفقه . المولى عبداللّه بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، الطبعة الاُولى ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1412 ق .

88 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 30 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1409 ق .

«ه»

89 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين . الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1420 - 1421 ق .

ص: 506

7 - فهرس الموضوعات

المقصد السابع

في الاُصول العملية

ينبغي التنبيه على اُمور :

الأمر الأوّل : في بيان حالات المكلّف وذكر مجاري الاُصول ··· 5

الأمر الثاني : في وجه تقديم الأمارات على الاُصول ··· 8

الأمر الثالث : في وحدة مناط البحث في جميع أقسام الشبهات ··· 12

القول في أصل البراءة

حول استدلال الاُصوليّين على البراءة ··· 13

الاستدلال بالكتاب ··· 13

كلام المحقّق النائيني في المقام ··· 21

الاستدلال بالسنّة على البراءة ··· 23

حديث الرفع ··· 23

بيان اُمور يتمّ بها ما يستفاد من الحديث :

ص: 507

الأمر الأوّل : في شمول الحديث للشبهات الحكمية ··· 23

الأمر الثاني : في معنى الرفع في الحديث ··· 30

الأمر الثالث : في كيفية حكومة حديث الرفع ··· 35

الأمر الرابع : في مصحّح نسبة الرفع إلى العناوين المأخوذة في الحديث ··· 37

الأمر الخامس : في شمول الحديث للاُمور العدمية ··· 40

الأمر السادس : في تصحيح العبادة المنسيّ منها جزء أو شرط بالحديث ··· 42

القول : في شمول الحديث للأسباب والمسبّبات ··· 50

الأمر السابع : تصحيح العبادة بالحديث عند الشكّ في المانعية ··· 57

حديث الحجب ··· 58

حديث الحلّية ··· 60

حول استدلال الأخباريّين على وجوب الاحتياط ··· 82

الاستدلال بالكتاب ··· 82

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنّة ··· 84

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالدليل العقلي ··· 86

فيما اُجيب عن استدلال الأخباريّين بالدليل العقلي ··· 88

تنبيهات البراءة :

التنبيه الأوّل : في اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي ··· 93

حول أصالة عدم التذكية ··· 94

في بيان اعتبارات القضايا ··· 97

التحقيق في جريان أصالة عدم التذكية في المحتملات ··· 102

أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية ··· 108

تتمّة : في التفصيل بين الطهارة والحلّية ··· 111

التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط ··· 119

تقرير إشكال الاحتياط في العبادة ··· 119

ص: 508

تصحيح عبادية الشيء بأوامر الاحتياط ··· 121

الاستدلال لإمكان الاحتياط بأخبار «من بلغ...» ··· 125

البحث عن أخبار «من بلغ...» ··· 125

التنبيه الثالث : في أنحاء متعلّق الأمر والنهي ··· 131

اختلاف الاُصول العملية باختلاف متعلّقات الأحكام ··· 134

مسألتان :

المسألة الاُولى : في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ··· 142

تنقيح البحث يستدعي رسم اُمور :

الأمر الأوّل : حقيقة الواجب التخييري ··· 142

الأمر الثاني : أقسام الواجب التخييري ··· 143

الأمر الثالث : حكم الشكّ في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء ··· 146

الأمر الرابع : في أنحاء الشكّ في التعيين والتخيير ··· 148

في مقتضى الأصل في الأنحاء الثلاثة ··· 149

المسألة الثانية : في دوران الأمر بين الواجب العيني والكفائي ··· 158

تحقيق المقام يبتني على تصوير الواجب الكفائي :

في تصويرات الواجب الكفائي ··· 158

اختلاف الأصل باختلاف الوجوه في الكفائي ··· 160

القول في أصل التخيير

دوران الأمر بين المحذورين ··· 162

نقد كلام المحقّق النائيني في عدم جريان الاُصول في المقام ··· 162

تنبيه : فيما لو كان لأحد الحكمين مزيّة ··· 170

تتميم : في كون التخيير استمرارياً ··· 171

ص: 509

القول في أصل الاشتغال

فيه مقامان :

المقام الأوّل : دوران الأمر بين المتباينين ··· 173

في مراتب الحكم ··· 173

حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ··· 175

تفصيل بعض الأعاظم ··· 181

وجوب الموافقة القطعية ··· 186

استفادة الترخيص في بعض الأطراف من الأدلّة العامّة ··· 186

حول رجوع الترخيص في البعض إلى جعل البدلية ··· 194

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال ··· 196

ردّ على المحقّق الخراساني ··· 200

التنبيه الثاني : في اشتراط الابتلاء بتمام الأطراف لتنجيز العلم الإجمالي ··· 203

الخلط بين الخطابات القانونية والشخصية ··· 204

الأصل عند الشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء ··· 209

استدلال المحقّق الحائري لوجوب الاحتياط ··· 210

استدلال الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني لوجوب الاحتياط ··· 211

التنبيه الثالث : في الشبهة الغير المحصورة ··· 217

تنقيح محلّ البحث ··· 217

في الاستدلال على عدم وجوب الاحتياط في المقام ··· 217

ضابط الشبهة الغير المحصورة ··· 219

ص: 510

مناقشة بعض الأعاظم في ضابط الشبهة الغير المحصورة ··· 222

تنبيه : في سقوط حكم الشكّ البدوي بعد سقوط العلم الإجمالي ··· 226

التنبيه الرابع : في ملاقي بعض أطراف المعلوم بالإجمال ··· 227

هاهنا جهات من البحث :

الجهة الاُولى : في صور العلم بالملاقاة ··· 227

الجهة الثانية : مقتضى الأصل العقلي في صور الملاقاة ··· 227

الجهة الثالثة : مقتضى الأصل الشرعي في صور الملاقاة ··· 232

شبهة التفكيك بين قاعدتي الطهارة والحلّ في الملاقي ··· 233

جواب العلاّمة الحائري ومناقشته ··· 236

الجهة الرابعة : تعميم الأصل في الملاقي لجميع الصور ··· 237

الجهة الخامسة : في خروج الملاقى عن محلّ الابتلاء ··· 238

الجهة السادسة : وجوه اُخرى في وجوب الاجتناب عن الملاقي ··· 239

الجهة السابعة : الأصل عند الشكّ في اختصاص الملاقي بجعل مستقلّ ··· 241

تذييل استطرادي : في بيع أحد طرفي المعلوم بالإجمال حرمته ··· 248

حكم التوابع لأطراف المعلوم بالإجمال حرمته ··· 251

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في التفصيل بين الشرائط والموانع في وجوب الاحتياط ··· 256

التنبيه الثاني : في كيفية النيّة لو كان المعلوم بالإجمال أو المحتمل من العبادات ··· 258

التنبيه الثالث : حكم ما لو كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً ··· 260

المقام الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ··· 263

في جريان البراءة العقلية ··· 264

الإشكالات السبعة على جريان البراءة عن الأكثر ودفعها ··· 267

ص: 511

جريان البراءة الشرعية في المقام ··· 289

دوران الأمر بين المطلق والمشروط ··· 294

بقي أمران :

الأمر الأوّل : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات ··· 301

عدم جريان البراءة في الأسباب العقلية والعادية ··· 302

عدم جريان البراءة في الأسباب الشرعية ··· 302

الأمر الثاني : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية ··· 308

تنبيهات الأقلّ والأكثر :

الشكّ في الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ··· 316

وفيه مقامات :

المقام الأوّل : فيما يقتضيه الأصل العقلي بالنسبة إلى النقيصة السهوية ··· 316

محطّ البحث في المقام ··· 317

إشكال الشيخ الأعظم على جريان البراءة بعدم إمكان خطاب الناسي ··· 319

التحقيق في الجواب وذكر أجوبة القوم ··· 320

في ردّ التفصيل بين نسيان المستوعب للوقت وعدمه ··· 324

المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصة السهوية ··· 327

صحّة التمسّك بحديث الرفع في رفع جزئية المنسيّ ··· 327

المقام الثالث : في الزيادة العمدية والسهوية ··· 331

تصوير الزيادة في الجزئية والشرطية ··· 331

عدم مبطلية الزيادة مطلقاً ··· 334

التمسّك بالاستصحاب لإثبات صحّة العمل مع الزيادة ··· 335

المقام الرابع : فيما يقتضيه القواعد الثانوية في الزيادة والنقيصة ··· 343

ص: 512

مقتضى الروايات الواردة في الزيادة ··· 343

بيان النسبة بين حديثي «من زاد» و«لا تعاد» ··· 344

النسبة بين حديثي «لا تعاد» و«إذا استيقن» ··· 350

البحث في تعذّر الجزء أو الشرط ··· 355

الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في مقتضى القواعد الأوّلية ··· 360

في جريان البراءة العقلية ··· 360

في جريان البراءة الشرعية ··· 361

المقام الثاني : في مقتضى القواعد الثانوية ··· 362

التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء ··· 362

التمسّك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب باقي الأجزاء ··· 367

الكلام في مفاد النبوي ··· 368

الكلام في مفاد العلوي الأوّل ··· 370

الكلام في مفاد العلوي الثاني ··· 373

اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة ··· 376

خاتمة : في شرائط جريان الاُصول ··· 380

في حسن الاحتياط مطلقاً ودفع الإشكالات الواردة عنه ··· 380

شرائط جريان البراءة العقلية ··· 391

اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية ··· 391

في استحقاق عقاب التارك للفحص ومناطه ··· 402

في بطلان عمل الجاهل إلاّ في موردين ··· 411

شرائط جريان البراءة الشرعية ··· 417

ص: 513

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 475

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 479

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 485

4 - فهرس الأعلام ··· 487

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 493

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 495

7 - فهرس الموضوعات ··· 507

ص: 514

صورة

ص: 515

ص: 516

صورة

صورة الصفحة الأولى من الأصل

ص: 517

صورة

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل

ص: 518

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ،

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء

والمرسلين محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعدُ : فيقول العبد المفتاق إلى ربّه روح اللّه ابن المرحوم السيّد مصطفى الموسوي الخميني نزيل قم حرم أهل البيت :

إنّي لمّا انتهيت في الدورة الاُصولية إلى ما جرى على قلم المحقّق الخراساني قدّس سرّه استجراراً واستطراداً في قاعدة نفي الضرر والضرار ؛ تبعاً لشيخه العلاّمة الأنصاري - رحمة اللّه عليه - أحببتُ أن اُفرد رسالةً مستقلّة فيها مفرزة عن تعليقتي على «الكفاية» ؛ لطول المباحث المتعلّقة بها ، وخروج استيفاء البحث عن جميعها عن طور التعليقة ورسم التحشية ، فحرّرت مبانيها ومطالبها حسب ما أدّى إليه نظري القاصر ، ورتّبتُها على مقدّمة ، وفصول ، وتنبيهات :

ص: 519

ص: 520

المقدّمة : في ذكر الأحاديث المربوطة بالمقام

وهي كثيرة :

منها : ما رواه في «الكافي» عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبداللّه بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : «إنّ سَمُرة بن جُندَب كان له عَذْق(1) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سَمُرة .

فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه رحمهما اللّه فشكا إليه ، وخبّره الخبر .

فأرسل إليه رسول اللّه رحمهما اللّه وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا (إن خ . ل) أردتَ الدخول فاستأذنْ ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عَذقٌ يُمدّ لك في الجنّة ، فأبى

أن يقبل .

ص: 521


1- العَذق : كفَلْس ، النخلة بحملها . [منه قدس سره]

فقال رسول اللّه رحمهما اللّه للأنصاري : اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه ؛ فإنّه لا ضررَ ولا ضِرار»(1) .

قال في «الوسائل» : ورواه الصدوق(2) بإسناده عن ابن بكير نحوه ، ورواه الشيخ(3) بإسناده عن أحمد بن محمّد بن خالد مثله(4) .

وعن علي بن محمّد بن بندار(5) ، عن أحمد بن أبي عبداللّه ، عن أبيه ، عن بعض أصحابنا ، عن عبداللّه بن مسكان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : «إنّ سَمُرة ابن جُندَب كان له عَذْق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيء ويدخل إلى عذْقه بغير إذن من الأنصاري .

فقال الأنصاري : يا سَمُرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ، فإذا دخلتَ فاستأذن . فقال : لا أستأذنُ في طريق وهو طريقي إلى عذقي .

قال : فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه رحمهما اللّه فأرسل إليه رسول اللّه رحمهما اللّه فأتاه فقال له : إنّ فلاناً قد شكاك ، وزعم أ نّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردتَ أن تدخل .

فقال : يا رسول اللّه أستأذنُ في طريقي إلى عَذقي ؟ !

فقال له رسول اللّه رحمهما اللّه : خلِّ عنه ولك مكانه عذقٌ في مكان كذا وكذا .

ص: 522


1- الكافي 5 : 292 / 2 .
2- الفقيه 3 : 147 / 648 .
3- تهذيب الأحكام 7 : 146 / 651 .
4- وسائل الشيعة 25 : 429 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، ذيل الحديث 3 .
5- هذا عطف على «عدّة من أصحابنا» في سند الكافي في الصفحة السابقة .

فقال : لا . قال : فلك اثنان . قال : لا اُريد . فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق .

فقال : لا . قال : فلك عشرة في مكان كذا وكذا ، فأبى . فقال : خلِّ عنه ولك

مكانه عذق في الجنّة . قال : لا اُريد . فقال له رسول اللّه رحمهما اللّه : إنّك رجل مُضارّ ، ولا ضررَ ولا ضِرار على مؤمن» .

قال : «ثمّ أمر بها رسول اللّه رحمهما اللّه فقُلعت ، ثمّ رمى بها إليه ، وقال له رسول اللّه رحمهما اللّه : انطلق فاغرسها حيث شئت»(1) .

ومنها : ما في «الوسائل» عن محمّد بن علي بن الحسين ، بإسناده عن الحسن ابن زياد الصيقل ، عن أبي عبيدة الحذّاء(2) ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «كان لسَمُرة ابن جُندَب نخلة في حائط بني فلان ، فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل» .

قال : «فذهب الرجل إلى رسول اللّه رحمهما اللّه فشكاه ، فقال : يا رسول اللّه إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني ، فلو أرسلتَ إليه ، فأمرتَه أن يستأذن ؛ حتّى تأخذ أهلي حِذرها منه .

فأرسل إليه رسول اللّه رحمهما اللّه فدعاه ، فقال : يا سمرة ما شأن فلانٍ يشكوك ،

ويقول : يدخل بغير إذني ، فترى من أهله ما يكره ذلك ، يا سمرة استأذنْ إذا أنت دخلت .

ثمّ قال رسول اللّه رحمهما اللّه : يسرّك أن يكون لك عذق في الجنّة بنخلتك ؟

ص: 523


1- الكافي 5 : 294 / 8 .
2- زياد بن عيسى ثقة . [منه قدس سره]

قال : لا . قال : لك ثلاثة . قال : لا . قال : ما أراكَ يا سمرة إلاّ مُضارّاً ، اذهب يا فلان فاقطعها ، واضرب بها وجهه»(1) .

ومنها : ما في «الكافي» عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عبداللّه بن هلال ، عن عقبة بن خالد(2) ، عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «قضى رسول اللّه رحمهما اللّه بين أهل المدينة في مشارب النخل أ نّه لا يمنع نفع الشيء(3) ، وقضى رحمهما اللّه بين أهل البادية أ نّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء . وقال(4) : لا ضرر ولا ضرار»(5) .

ص: 524


1- الفقيه 3 : 59 / 208 ؛ وسائل الشيعة 25 : 427 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 1 .
2- لا يخلو من مدح . [منه قدس سره]
3- هكذا في النسخ الموجودة عندي ، وفي رواية عبادة بن الصامت الآتية : «وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يُمنع نقع بئر ، وقضى بين أهل البادية . . .» إلى آخره ، وهي أظهر ، ولا يبعد تصحيف «نقع البئر» بذلك ، لقربهما في الكتب العربي . وقوله : «لا يمنع . . .» إلى آخره معناه - كما في «التذكرة»أ ، وعن الشهيد(ب) - أنّ الماشية إنّما ترعى بقرب الماء ، فإذا منع من الماء فقد منع من الكلأ ، وحازه لنفسه . ونقع البئر : أي فضل البئر كما في المجمع(ج) . [منه قدس سره] أ - تذكرة الفقهاء 19 : 420 . ب - مسالك الأفهام 12 : 445 ؛ اُنظر مرآة العقول 19 : 398 . ج - مجمع البحرين 4 : 398 .
4- في الوسائل : فقال . [منه قدس سره]
5- الكافي 5 : 293 / 6 ؛ وسائل الشيعة 25 : 420 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، الحديث 2 .

ومنها : ما في «الوسائل» عن محمّد بن يعقوب - بالسند المتقدّم - عن أبي عبداللّه ، قال : «قضى رسول اللّه رحمهما اللّه بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضررَ ولا ضِرار . وقال : إذا اُرِّفت الاُرف(1) وحُدّت الحدود فلا شفعة»(2) .

قال : ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يحيى مثله(3) .

ورواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد ، وزاد : «ولا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم»(4) .

ومنها : ما في «المستدرك» عن «دعائم الإسلام» روينا عن أبي عبداللّه : أ نّه سئل عن جدار الرجل - وهو سُترة بينه وبين جاره - سقط ، فامتنع من بنيانه ؟

قال : «ليس يُجبر على ذلك ، إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاُخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل : استُر على نفسك في حقّك إن شئت» .

قيل له : فإن كان الجدار لم يسقط ، ولكنّه هدمه أو أراد هدمه ؛ إضراراً بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه .

قال : «لا يترك ، وذلك أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قال : لا ضررَ ولا ضِرار

ص: 525


1- أي حُدّدت الحدود . [منه قدس سره]
2- الكافي 5 : 280 / 4 ؛ وفيه : «رفت» بدل «اُرّفت» ؛ وسائل الشيعة 25 : 399 ، كتاب الشفعة ، الباب 5 ، الحديث 1 .
3- تهذيب الأحكام 7 : 164 / 727 .
4- الفقيه 3 : 45 / 154 .

(إضرار خ . ل) وإن هدمه كلّف أن يبنيه»(1) .

وعنه قال : روينا عن أبي عبداللّه ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قال : «لا ضرر ولا ضرار»(2) .

ومنها : ما في أوّل مواريث «الوسائل» قال : قال الصدوق : وقال النبي رحمهما اللّه : «الإسلام يزيد ولا ينقص» .

قال : وقال : «لا ضرَرَ ولا ضِرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً»(3) .

وقال الشيخ في «الخلاف» في باب خيار الغبن : دليلنا ما روي عن النبي رحمهما اللّه

أ نّه قال : «لا ضرَرَ ولا ضِرار»(4) .

وقال ابن زهرة في باب خيار العيب : ويحتجّ على المخالف بقوله : «لا ضرر ولا ضرار»(5) .

وعن «التذكرة» مرسلاً عن النبي رحمهما اللّه : «لا ضَررَ ولا ضرار في الإسلام»(6) .

ص: 526


1- دعائم الإسلام 2 : 504 / 1805 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 118 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 9 ، الحديث 1 .
2- دعائم الإسلام 2 : 499 / 1781 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 118 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 9 ، الحديث 2 .
3- الفقيه 4 : 243 / 1 و2 ؛ وسائل الشيعة 26 : 14 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب موانع الإرث ، الباب 1 ، الحديث 9 و10 .
4- الخلاف 3 : 42 .
5- غنية النزوع 1 : 224 .
6- تذكرة الفقهاء 11 : 68 و71 .

وعن «نهاية ابن الأثير» : فيه - أي في الحديث - «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1) .

وفي «مجمع البحرين» : وفي حديث الشفعة : «قضى رسول اللّه بالشفعة بين الشركاء في الأرَضين والمساكن» وقال : «لا ضرر ولا ضِرار في الإسلام» .

قال : وفي بعض النسخ : «ولا إضرار»(2) ولعلّه غلط(3) .

ومنها : ما عن «مسند أحمد بن حنبل» برواية عبادة بن الصامت في ضمن نقل قضايا كثيرة عن رسول اللّه رحمهما اللّه قال : «وقضى أن لا ضرَر ولا ضرار»(4) .

ومنها : ما في «الكافي» عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن يزيد بن إسحاق شَعر (شغر خ . ل)(5) ، عن هارون بن حمزة الغنوي ، عن أبي عبداللّه علیه السلام : في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجِلد ، فقضي أنّ البعير برئ ، فبلغ ثمنه دنانير .

قال : فقال : «لصاحب الدرهمين خُمس ما بلغ ، فإن قال : اُريد الرأس والجِلد

فليس له ذلك؛ هذا الضرار ، وقد اُعطي حقَّه إذا اُعطِيَ الخُمس»(6) .

ص: 527


1- النهاية ، ابن الأثير 3 : 81 .
2- الفقيه 3 : 45 / 154 .
3- مجمع البحرين 3 : 373 .
4- المسند ، أحمد بن حنبل 16 : 421 / 22677 .
5- لا يبعد وثاقته . [منه قدس سره]
6- الكافي 5 : 293 / 4 ؛ وسائل الشيعة 18 : 275 ، كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ، الباب 22 ، الحديث 1 .

ومنها : ما فيه عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عبداللّه بن هلال ، عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبداللّه : في رجل أتى جبلاً ، فشقّ

فيه قَناة ، فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأوّل .

قال : فقال : «يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب البئر ليلة ليلة ، فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها ، فإن رئيت الأخيرة أضرّت بالاُولى فلتعوّر»(1) .

قال في «الوسائل» : ورواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد نحوه ، وزاد : «وقضى رسول اللّه رحمهما اللّه بذلك وقال : إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيل»(2) .

وعن محمّد بن الحسن بإسناده عن أبي عبداللّه علیه السلام قريب منه(3) .

ومنها : ما فيه عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام : رجل كانت له قناة في قرية ، فأراد رجل أن يحفر قناة اُخرى إلى قرية له ، كم يكون بينهما في البعد ؛ حتّى لا يضرّ بالاُخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة ؟

فوقّع علیه السلام : «على حسب أن لا يضرّ إحداهما بالاُخرى إن شاء اللّه» .

ص: 528


1- الكافي 5 : 294/ 7 ؛ وسائل الشيعة 25 : 432 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 16 ، الحديث 1 .
2- الفقيه 3 : 58 / 205 ؛ وسائل الشيعة 25 : 433 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 16 ، الحديث 2 .
3- تهذيب الأحكام 7 : 145 / 644 ؛ وسائل الشيعة 25 : 433 ، كتاب إحياء الموات، الباب 16 ، الحديث 3 .

قال : وكتبت إليه : رجل كان له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ، ويعطّل هذه الرحى ، أله ذلك ، أم لا ؟

فوقّع علیه السلام : «يتّقي اللّه ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضرّ أخاه المؤمن»(1).

ومنها : ما فيه عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن يحيى(2) ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبداللّه ، عن أبيه علیهما السلام : قال : «قرأت في كتاب لعلي علیه السلام : أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب : أنّ كلّ غازية غزت بما يعقّب بعضها بعضاً بالمعروف والقسط بين المسلمين ، فإنّه لا يجوز حرب إلاّ بإذن أهلها ، وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، وحرمة الجار على الجار كحرمة اُمّه وأبيه ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على عدل وسواء»(3) .

والظاهر زيادة لفظة «بما» بعد قوله : «غزت» . وعن «التهذيب» : «غزت معنا» . وفي بعض النسخ : «لا تُجار حرمة» بدل «لا يجوز حرب» ، كما عن أكثر نسخ «التهذيب»(4) .

ومنها : ما في «الوسائل» في كتاب الخلع : عن محمّد بن علي بن الحسين في

ص: 529


1- الكافي 5 : 293 / 5 .
2- الخزّاز ثقة . [منه قدس سره]
3- الكافي 5 : 31 / 5 ؛ تهذيب الأحكام 6 : 140 / 238 ؛ وسائل الشيعة 15 : 68 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب 20 ، الحديث 5 .
4- راجع مرآة العقول 18 : 358 - 359 .

«عقاب الأعمال» عن النبي رحمهما اللّه في حديث قال : «ومن أضرّ بامرأةٍ حتّى تفتدي منه نفسها لم يرضَ اللّه له بعقوبة دون النار . . . - إلى أن قال - ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة»(1) .

هذه جملة ما عثرنا عليه من الروايات المربوطة بالمقام ، وقد نقل(2) عن الفخر في «الإيضاح» دعوى تواتر حديث نفي الضرر والضرار(3) .

ص: 530


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : 336 / 1 ؛ وسائل الشيعة 22 : 282 ، كتاب الخلع والمباراة ، الباب 2 ، الحديث 1 .
2- عوائد الأيّام : 47 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 457 .
3- إيضاح الفوائد 2 : 48 .

فصل : في حال ورود «لا ضرر» في ضمن القضايا ومستقلاًّ

لا ينبغي الإشكال في صدور قوله : «لا ضرر ولا ضرار» لاشتهاره بين الفريقين وورود الروايات المستفيضة المتضمّنة له ، كما أنّ وروده في ضمن قضيّة سمرة بن جندب ممّا لا إشكال فيه ؛ فقد ورد من طرقنا بتوسّط «الكافي» و«الفقيه» و«التهذيب» بأسانيد مختلفة ، مع اختلاف في المتون اختلافاً غير جوهري ، يطمئنّ الناظر فيها بأنّ هذا الاختلاف إنّما وقع لأجل النقل بالمعنى واختلاف دواعي الناقلين في نقل تمام القضيّة وإسقاط بعضها .

فمرسلة زرارة(1) مشتملة على خصوصيات أكثر من موثّقته(2) ومن رواية الحذّاء(3) ؛ فإنّها - مع اشتمالها على غالب خصوصيات القضيّة - جمعت في نقل قول رسول اللّه رحمهما اللّه بين قوله : «إنّك رجل مُضارّ» وقوله : «لا ضرر ولا ضرار» وكلمة «على مؤمن» وقوله : «انطلق فاغرسها حيث شئت» ممّا قد أهملت الموثّقة ورواية الحذّاء كلَّ [أو] بعضَ فقراتها ، وسيأتي التعرّض لذلك(4) ، وقد ورد في ضمن ثلاث قضايا اُخرى :

ص: 531


1- تقدّمت في الصفحة 4 .
2- تقدّمت في الصفحة 3 .
3- تقدّمت في الصفحة 5 .
4- يأتي في الصفحة 24 .

إحداها : في ضمن قضيّة الشفعة(1) .

وثانيتها : في ضمن قضيّة عدم منع فضل الكلاء(2) .

ونرجع إلى البحث فيهما(3) .

وثالثتها : في ضمن قضيّة هدم الجدار لإضرار الجار ، كما في رواية «الدعائم» المتقدّمة(4) .

ويمكن أن يقال : إنّ ما في «الدعائم» ظاهر في استقلال ورود «لا ضرر» عن رسول اللّه ، لكنّه احتمال لا يعوّل عليه ، وليس ظهوراً لفظياً ، واستشهاده بقوله رحمهما اللّه لا يدلّ على كونه قضيّة مستقلّة من قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه . هذا حال وروده في ضمن القضايا .

وقد ورد في موارد مستقلاًّ :

منها : مرسلة «دعائم الإسلام» الثانية ومراسيل الصدوق والشيخ وابن زهرة والعلاّمة وابن الأثير(5) .

ومنها : ما في «مسند أحمد بن حنبل»(6) .

هذا ما وقفنا عليه من نقله مستقلاًّ .

ص: 532


1- الكافي 5 : 280 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 399 ، كتاب الشفعة ، الباب 5 ، الحديث 1 .
2- الكافي 5 : 293 - 294 / 6 ؛ وسائل الشيعة 25 : 420 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، الحديث 2 .
3- يأتي في الصفحة 15 .
4- تقدّمت في الصفحة 7 .
5- تقدّمت المراسيل في الصفحة 8 - 9 .
6- المسند ، أحمد بن حنبل 16 : 421 / 22677 .

لكن إثبات استقلاله بها مشكل ؛ لعدم حجّية تلك المراسيل ، وعدم ظهورها في كونه صادراً مستقلاًّ ، ولعلّ استشهادهم إنّما يكون بما في ذيل قضيّة سَمُرَة ابن جُندَب ، واحتمال أخذ بعضهم من بعض ، ولا تكون إلاّ مرسلة واحدة ، وكتاب «المسند» لا يجوز الاستناد إليه عندنا . وبالجملة : لا طريق لنا إلى إثبات كونه قضيّة مستقلّة .

فما ادّعى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر من قوله : «وعلى أيّ حال وروده مستقلاًّ على الظاهر ممّا لا إشكال فيه»(1) إن كان مراده من الورود هو الأعمّ من الحجّة ، فهو كذلك ؛ لوروده في «مسند أحمد» وغيره كذلك ، وإن كان مراده ثبوت الورود فلا دليل عليه يمكن الاستناد إليه .

فصل : في الإشكالات الواردة على وروده في ذيل الشفعة ومنع فضول الماء

قد عرفت(2) ورود «لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قضيّة الشفعة وقضيّة عدم منع فضل الماء ، والظاهر منهما أ نّه من تتمّتهما ، وبمنزلة كبرى كلّية يندرج فيها الموردان كاندراج قضيّة سَمُرَة فيها .

فيلزم منه إشكالات :

ص: 533


1- منية الطالب، قاعدة لا ضرر 3 : 367 .
2- تقدّم في الصفحة 6 - 7 .

منها : أ نّه لو كان بمنزلة العلّة للحكم لزم كونها معمّمة ومخصّصة ، واللازم منه

في باب الشفعة أن يخصّص حقّ الشفعة بموارد لزم [فيها] من الشركة الثانية ضرر دون غيرها ؛ ضرورة أنّ الضرر لم يكن لازماً لمطلق الشركة مع غير الشريك الأوّل ، فربما تكون الشركة مع الثاني أنفع له من الأوّل ، وربما لا يكون ضرر أصلاً ، مع عدم التزامهم بذلك ، وأيضاً يلزم منه ثبوت الشفعة في غير البيع من سائر المعاوضات إذا لزم منها الضرر . وبالجملة : قضيّة العلّية دوران الحكم مدارها .

ومنها : أ نّه يلزم أن يكون «لا ضرر» مشرّعاً للحكم الثبوتي ؛ فإنّ جواز أخذ الشفعة حكم ثبوتي زائد على نفي اللزوم في البيع بالغير اللازم منه الضرر .

ومنها : أ نّه يلزم أن ترفع بالضرر الأحكام التي يلزم منها عدم النفع ؛ فإنّ في منع فضل الماء عدم وصول النفع إلى الماشية ، مضافاً إلى أنّ المشهور - على ما قيل(1) - على كراهة منع فضل الماء ، فيلزم منه سدّ باب الاستدلال ب «لا ضرر»

إلى غير ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به .

ولقد أصرّ العلاّمة شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه في «رسالة لا ضرر» [على] أنّ الحديثين لم يكونا حال صدورهما عن النبي رحمهما اللّه مذيّلين بحديث الضرر ، وأنّ الجمع بينهما وبينه وقع من الراوي بعد صدور كلٍّ في وقت خاصّ به .

وعمدة ما استدلّ به لهذه الدعوى هو أ نّه يظهر بعد التروّي والتأمّل

ص: 534


1- مرآة العقول 19: 398 .

التامّ في الروايات : أنّ الحديث الجامع لأقضية رسول اللّه رحمهما اللّه في مواضع

مختلفة وموارد متشتّتة كان معروفاً بين الفريقين : أمّا من طرقنا : فبرواية عقبة بن خالد عن الصادق علیه السلام ، ومن طرق أهل السنّة برواية عُبادة بن الصامت ، ثمّ روى قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه عن «مسند أحمد» برواية عُبادة وبرواياتنا عن أبي عبداللّه علیه السلام .

ثمّ قال : قد عرفت بما نقلنا مطابقة ما روي من طرقنا لما روي من طرق القوم من رواية عبادة من غير زيادة ونقيصة ، بل بعين تلك الألفاظ غالباً ، إلاّ الحديثين الأخيرين المرويّين عندنا من زيادة قوله : «لا ضرر ولا ضرار» ، وتلك المطابقة بين الفقرات ممّا يؤكّد الوثوق بأنّ الأخيرين - أيضاً - كانا مطابقين لما رواه عبادة

من عدم التذييل بحديث الضرر .

وقال أيضاً : والذي أعتقده أ نّها كانت مجتمعة في رواية عَقَبة بن خالد عن أبي عبداللّه علیه السلام كما في رواية عبادة بن الصامت ، إلاّ أنّ أئمّة الحديث فرّقوها على الأبواب(1) .

أقول : إنّه قدّس سرّه قد نقل من قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه من طرق القوم برواية عبادة عشرين قضيّة تقريباً ، ونقل من طرقنا برواية عَقَبة بن خالد ستّ أو سبع قضايا ، اثنتان منها قضيّة الشفعة(2) وعدم منع فضول الماء(3) . وقد تفحّصت في

ص: 535


1- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 19 - 23 .
2- الكافي 5 : 280 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 399 ، كتاب الشفعة ، الباب 5 ، الحديث 1 .
3- الكافي 5 : 293 / 6 ؛ وسائل الشيعة 25 : 420 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، الحديث 2 .

الأخبار الحاكية لقضايا رسول اللّه رحمهما اللّه من طرقنا ، فوجدت أنّ غالبها غير منقولة برواية عقبة بن خالد ، وهو - أيضاً - غير متفرّد غالباً فيما نقله ، فكيف يمكن مع ذلك دعوى الوثوق بأنّ قضاياه كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد ، ففرّقها أئمّة الحديث على الأبواب ؟ ! فمن راجع الأخبار الحاكية لقضايا رسول اللّه ، ورأى أنّ عقبة بن خالد لم ينقل إلاّ نادراً من قضاياه ، ولم يكن في نقل تلك النوادر متفرّداً غالباً ، يطمئنّ بخلاف ما ادّعى ذلك المتبحّر ، فلو كان لنا

مجال واسع لسردتُ الروايات المتضمّنة لقضايا رسول اللّه ؛ حتّى تجد صدق ما ادّعيناه .

هذا مع أ نّه بناءً على أن تكون التجزئة على الأبواب من فعل أئمّة الحديث لا معنى لتكرار «لا ضرر» في ذيل قضيّتين ، فإنّ عقبة بن خالد لم يذكر حينئذٍ تلك القضيّة إلاّ مرّة واحدة .

وأمّا ما قيل في تأييد قوله : بأنّ سند الكليني إلى عقبة في جميع القضايا المنقولة منه واحد(1) ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّ الطريق إلى أرباب الكتب والاُصول من أصحاب الجوامع قد يكون واحداً ، وقد يكون متعدّداً ، فوحدة طريقهم إلى كتب الرواة لا تدلّ على اجتماع رواياتهم ، كما هو واضح .

فحينئذٍ بقيت الروايتان المذيّلتان بحديث «لا ضرر» في قالب الإشكال .

ص: 536


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 370 .

فصل : في تأييد عدم وروده في ذيل القضيّتين

قد عرفت أنّ ما تشبّث به المتبحّر المتقدّم للوثوق بكون الحديثين غير مذيّلين ب «لا ضرر» لا يمكن الاعتماد عليه(1) فالظهور السياقي يقتضي كونه من تتمّتهما ، ولا يرفع اليد عن هذا الظهور ولو كان ضعيفاً إلاّ بدليل موجب له .

نعم ، لو امتنع جعله كبرى كلّية وعلّة للحكم وكذا علّة للتشريع ، فلا بدّ من رفع اليد عنه ، فلا بدّ من التعرّض لذلك حتّى يتّضح الحال .

فنقول : أمّا امتناع كونه كبرى كلّية يندرج فيها الموردان فواضح ؛ ضرورة عدم اندراج الموردين فيه اندراج الصغرى في الكبرى ؛ فإنّ معنى اندراجها فيها كون الأصغر من مصاديق الأوسط ، ويحمل هو عليه حملاً شائعاً حتّى يسري الحكم الثابت عليه في الكبرى إلى الأصغر ، فينتج النتيجة المطلوبة ، كقوله : «كلّ خمر مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فكلّ خمر حرام» ، فحرمة الخمر ليست بعنوانه الذاتي ، بل بعنوان كونه مُسكراً ، ولأجل اندراجه في كبرى كلّية هي «كلّ مسكر حرام» . وأخذ مال الشريك شفعة ومنع فضول الماء لا يندرجان في قوله : «لا ضرر ولا ضرار» ، وكذا حكمهما ، وأيضاً لا يكون نفي الضرر علّة موجبة

لأخذ الشفعة ومنع فضل الماء أو لحكمهما ؛ لعدم التناسب بينهما .

وأمّا امتناع كونه علّة للتشريع ، فلأنّ الميزان في كون شيء علّة للتشريع

ص: 537


1- تقدّم في الصفحة 17 .

- على ما يعلم من تصفّح مواردها - هو أن يكون الموضوع مندرجاً في كلّي لا على نحو الكلّية ، أو يترتّب على متعلّق الحكم أو موضوعه لا بنحو الترتّب الكلّي والعلّي ، ولا يمكن تشخيص الموارد المترتّبة عن غيرها وتعريفه للمكلّف بحيث لا يقع بخلاف الواقع .

وبالجملة : لا بدّ وأن يكون ما لأجله التشريع ممّا يترتّب على مورد التشريع لا كلّياً ، كتشريع العِدّة لعدم اختلاط المياه(1) ، وتشريع الحجّ للتفقّه في الدين وبسط أمر الولاية(2) وتشريع الصلاة لعدم نسيان ذكر النبي رحمهما اللّه والتطهير من الذنوب(3) ، وتشريع الصوم لحصول التساوي بين الفقراء والأغنياء ومسّ الأغنياء ألم الجوع(4)، وتشريع الزكاة لاختبار الأغنياء وتحصين أموالهم(5) ، وتشريع الصدقة لازدياد المال ودفع الأمراض(6) ، وتشريع غسل الجمعة لإزالة أرياح الآباط(7) ، وتشريع طهارة الحديد لدفع الحرج(8) . . . إلى غير ذلك من مواردها

ص: 538


1- راجع وسائل الشيعة 22 : 235 ، كتاب الطلاق ، أبواب العدد ، الباب 30 ، الحديث 2 .
2- راجع وسائل الشيعة 11 : 12 ، كتاب الحجّ ، أبواب وجوبه وشرائطه ، الباب 1 ، الحديث 15 .
3- راجع وسائل الشيعة 4 : 9 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ، الباب 1 ، الحديث 8 .
4- راجع وسائل الشيعة 10 : 7 ، كتاب الصوم ، أبواب وجوب الصوم ونيّته ، الباب 1 .
5- راجع وسائل الشيعة 9 : 11 ، كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الباب 1 .
6- راجع وسائل الشيعة 9 : 367 ، كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، الباب 1 .
7- راجع وسائل الشيعة 3 : 315 ، كتاب الطهارة ، أبواب الأغسال المسنونة ، الباب 6 ، الحديث 15 .
8- راجع وسائل الشيعة 3 : 528 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 83 ؛ اُنظر منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 371 .

التي ترى أ نّها مشتركة في ترتّب الفوائد على ذيها جزئية .

ومعلوم أنّ الموردين ليسا بهذه المثابة ؛ فإنّ أخذ ملك الشريك شفعة لا يترتّب

عليه دفع الضرر في مورد من الموارد ؛ فإنّه على فرض تحقّق الضرر يكون هو دائماً مرفوعاً بأمر متقدّم طبعاً على الأخذ بالشفعة ، وهو عدم لزوم بيع الشريك . ومنع فضل الماء لا يكون موجباً للضرر ، بل لعدم النفع ، تأمّل . اللهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في نكتة التشريع أدنى مناسبة ، وهو كما ترى(1) .

وبعد ما عرفت من عدم تناسب هذا الذيل مع صدر روايتي ثبوت الشفعة(2) وكراهة منع فضل الماء(3) فلا يبعد الالتزام بعدم كونهما مذيّلين به ، خصوصاً مع عدم هذا الذيل في سائر الروايات في البابين :

فعن محمّد بن علي بن الحسين ، قال : «قضى رسول اللّه في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماء ولا يبيعوا فضل كلاء»(4) .

وعن ابن أبي جمهور في «درر اللآلي» عن النبي رحمهما اللّه قال : «من منع فضل

ص: 539


1- لكن يمكن أن يقال : إنّ نكتة التشريع ليست سلب الضرر عن الشريك فقط ؛ حتّى يقال ما ذكر ، بل هو وسلب الضرر عن صاحب المال ، فإنّه لو جعل الخيار للشريك بفسخ المعاملة بقي ملك صاحب المال الشريك له بلا مشترٍ ، فربما يقع في ضرر أو ضرار وضيق ، فجعل الشفعة بالشرائط التي فيها إنّما هو لملاحظة حال كليهما . [منه قدس سره]
2- تقدّمت في الصفحة 7 .
3- تقدّمت في الصفحة 6 .
4- الفقيه 3 : 150 / 661 ؛ وسائل الشيعة 25 : 420 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، الحديث 3 .

الماء ليمنع به الكلاء منعه اللّه فضل رحمته يوم القيامة»(1) .

وعن «مسند أحمد بن حنبل» برواية عبادة بن الصامت ، قال في ضمن قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه : «وقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور . . .» ثمّ بعد ذكر عدّة من قضاياه ، قال : «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وقضى أ نّه ليس لعرْقٍ ظالمٍ(2) حقّ ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يُمنع نقع بئر ، وقضى بين أهل البادية أ نّه لا يمنع فضل ماءٍ ؛ ليمنع به فضل الكلاء»(3) .

وفي رواياتنا في كتاب الشفعة ليس عين ولا أثر من هذا الذيل .

فما أفاد العلاّمة شيخ الشريعة قدّس سرّه من دعوى الوثوق باجتماع قضايا رسول اللّه في رواية عقبة كرواية عبادة(4) وإن كان خلاف التحقيق - كما عرفت(5) - لكن دعوى عدم تذييل الحديثين بهذا الذيل بمثابة ارتباط علّة الحكم أو التشريع بمعلولها قريبة ، فلا يبعد أن يدّعى : أنّ عقبة بن خالد قد سمع عدّةً من قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه في موارد مختلفة عن أبي عبداللّه علیه السلام ، وحين نقله روايتي الشفعة

ص: 540


1- درر اللآلي 2 : 96 (مخطوط) ؛ مستدرك الوسائل 17 : 116 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 6 ، الحديث 5 .
2- قال ابن الأثير : «وفي حديث إحياء الموات : «وليس لعرق ظالمٍ حق» هو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله ، فيغرس فيها غرساً غصباً ليستوجب به الأرض ، والرواية «لعرقٍ» بالتنوين ، وهو على حذف المضاف ، أي لذي عِرق . . . وهو أحد عروق الشجرة» . النهاية ، ابن الأثير 3: 219 .
3- المسند، أحمد بن حنبل 16 : 421 / 22677 .
4- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 19 - 22 .
5- تقدّم في الصفحة 17 - 18 .

ومنع فضل الماء كان في ذهنه قضاء رسول اللّه رحمهما اللّه أ نّه «لا ضرر ولا ضرار» ، فألحقه بهما وذيّلهما به ؛ زعماً منه أ نّه سمع من أبي عبداللّه علیه السلام كذلك .

وبالجملة : بعد ما عرفت من عدم الارتباط بينه وبينهما ، وورود إشكالات غير منحلّة عليه ، وخلوّ الروايات الاُخر من هذا الذيل ، وافتراق «لا ضرر» عن الحكمين في حديث عُبادة بن الصامت ، لا يبعد دعوى الوثوق بعدم تذييلهما بهذا الذيل ، ولا أقلّ من صيرورة هذه الجهات موجبةً لرفع اليد عن هذا الظهور السياقي الضعيف .

مضافاً إلى إمكان دعوى ظهور الروايتين في كون «لا ضرر ولا ضرار» قضيّةً مستقلّةً ؛ حيث تخلّل بين الصدر والذيل لفظة «وقال»(1) ، وفي «الوسائل» وإن ذكر بدل الواو الفاء(2) ، لكن لا يبعد كونه تصحيفاً ؛ فإنّ في بعض نسخ «الكافي»

- الذي عندي - يكون بالواو .

وقال المتبحّر المتقدّم : إنّ ما في النسخ من عطف قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بالفاء تصحيف قطعاً ، والنسخ الصحيحة المعتمدة من «الكافي» متّفقة على الواو(3) .

هذا كلّه مضافاً إلى ضعف الروايتين بمحمّد بن عبداللّه بن هلال المجهول وعقبة بن خالد الذي لم يرد فيه توثيق ، فلا تصلحان لإثبات حكم .

ص: 541


1- الكافي 5 : 294 / 6 و280 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 399 ، كتاب الشفعة ، الباب 5 ، الحديث 1 .
2- وسائل الشيعة 17 : 333 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، الحديث 2 (ط - مكتبة الإسلامية) .
3- قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الأصفهاني : 16 .

فصل : في حال كلمتي «في الإسلام» و«على مؤمن» في الحديث

لم نجد في شيء من الروايات المعتمدة كلمة «في الإسلام» في ذيل حديث «لا ضرر» فإنّ ما نقل مذيّلاً بها إنّما هي مرسلة الصدوق(1) والعلاّمة(2) ومرسلة ابن الأثير(3) ، ولا يبعد أخذ العلاّمة من الصدوق ، وهي : قال النبي : «الإسلام يزيد ولا ينقص» . قال : وقال : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً» ، ومن المحتمل أن تكون تلك الزيادة من بعض النسّاخ ، ومنشأ الاشتباه كلمة «فالإسلام» ؛ فإنّ كثيراً ما يتّفق للكاتب أن يقع نظره على كلمة ، فيكتبها مرّتين ثمّ بعد هذا الاشتباه والتكرار صحّح النسخة بعض من تأخّر عنه بظنّه ، فبدّل الفاء ب «في» ، ولم يتوجّه إلى كون الغلط في التكرار ، والعجب من الطريحي ؛ حيث أضاف تلك الكلمة في ذيل حديث الشفعة(4) ، ونقل عين الحديث الموجود في «الكافي» بلا هذه الزيادة معها(5) ، وإنّما سبق قلمه إليها لما ارتكزت في ذهنه ، ولعلّ غيره - كابن الأثير - مثله .

فإنّ العلاّمة شيخ الشريعة قال : قد تفحّصت في كتبهم - أي العامّة - وتتبّعت

ص: 542


1- تقدّم في الصفحة 8 .
2- تقدّم في الصفحة 8 .
3- تقدّم في الصفحة 9 .
4- تقدّم في الصفحة 9 .
5- الكافي 5 : 280 / 4 .

في صحاحهم ومسانيدهم ومعاجمهم وغيرها فحصاً أكيداً ، فلم أجد روايته في طرقهم إلاّ عن ابن عبّاس وعن عبادة بن الصامت ، وكلاهما رويا من غير هذه الزيادة ، ولا أدري من أين جاء ابن الأثير في «النهاية» بهذه الزيادة(1) ؟ !

أقول : ولعلّه جاء بها ممّا جاء بها صاحب «مجمع البحرين» في حديث الشفعة ، وبعد اللتيا والتي لا تكون مرسلة ابن الأثير منهم كمرسلة الشيخ الصدوق منّا ممّا يجوز الاعتماد عليها ، ولم تثبت الزيادة حتّى تقدّم أصالة عدمها على أصالة عدم النقيصة في مقام الدوران .

وأمّا كلمة «على مؤمن» فلم يشتمل عليها - أيضاً - إلاّ مرسلة أبي عبداللّه عن ابن مسكان عن زرارة في قضيّة سَمُرة بن جُندب(2) ، وهذه وإن كانت مرسلة ، لكن مضمونها ومطابقتها لموثّقة زرارة(3) ورواية أبي عبيدة الحذّاء(4) في جوهر القضيّة ممّا يورث الوثوق بصدقها وصدورها ؛ وأنّ أبا جعفر الباقر علیه السلام قد نقل

هذه القضيّة لزرارة وأبي عبيدة ، وهما أو سائر الرواة نقلوا بالمعنى ، فصارت مختلفة اختلافاً غير جوهري ، وهذه المرسلة أجمع من غيرها في نقل خصوصياتها ، فكأنّ رواتها أرادوا نقل تمام خصوصياتها ، فلا يبعد دعوى الوثوق بوجود كلمة «على مؤمن» ، وقوله : «انطلق فاغرسها حيث شئت» فيها المتفرّدة بنقلهما ، فترَكَهما الرواة اختصاراً ، كما تركوا تفصيلها ، ففي رواية الحذّاء سقط

ص: 543


1- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 12 .
2- تقدّم في الصفحة 4 .
3- تقدّم في الصفحة 3 .
4- تقدّم في الصفحة 5 .

«لا ضرر ولا ضرار» ، وفي موثّقة زرارة سقط «أنت رجل مُضارّ» ، وهذه المرسلة شاهدة على اشتمالها عليهما .

هذا مع أنّ بناء العقلاء في دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة .

لا يقال : «إنّ تقديمها عليها من باب بناء العقلاء وأبعدية الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن الغفلة بالنسبة إلى النقيصة ، وهذا البناء لا يجري فيما إذا تعدّد الراوي

من جانب مع وحدة الآخر كما في المقام ؛ لأنّ غفلة المتعدّد عن سماع كلمة «على مؤمن» في غاية البعد ، مع احتمال وقوع الزيادة من الراوي لمناسبة الحكم والموضوع ، وأنّ المؤمن هو الذي تشمله العناية الإلهية ، ويستحقّ أن ينفى عنه الضرر امتناناً»(1) .

فإنّه يقال : أمّا أوّلاً : فإنّ تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ليس من جهة الدوران بين الغفلتين فقط وأبعدية إحداهما ؛ حتّى ينعكس الأمر في صورة تعدّد طرف النقيصة ، بل لأنّ الزيادة لا تقع إلاّ غفلة أو كذباً وافتراءً ،

وأمّا النقيصة فهي مشاركة معها في ذلك وتختصّ بدواعٍ اُخر : من قبيل الاختصار ، أو عدم كونه في مقام بيان تمام القضيّة ، أو توهّمه أنّ وجود الكلمة وعدمها سواء في إفادة المقصود ، إلى غير ذلك ، ولا إشكال في تقديم أصالة عدم الزيادة في الدوران .

وثانياً : إنّ ترجيح جانب المتعدّد إنّما يتعيّن إذا كان المتعدّد متوافقين في النقل ، وأمّا مع اختلافه فلا ، ولو مع التوافق من هذه الجهة ، وما نحن فيه كذلك ؛

ص: 544


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 365 .

فإنّ موثّقة زرارة ورواية الحذّاء وإن توافقتا في عدم زيادة كلمة «على مؤمن» لكنّهما مختلفتان في جهات اُخرى ، فالموثّقة مشتملة على قوله : «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» متعقّباً بالأمر بالقلع ، دون رواية الحذّاء ، وهي مشتملة على قوله : «ما أراك يا سَمُرة إلاّ مُضارّاً» مقدَّماً على الأمر بالقلع ، والمرسلة مشتملة على الفقرتين ، ومن ذلك - بل ومن التفصيل الذي فيها في مقاولة كلٍّ من الأنصاري وسَمُرة مع الآخر ، وهما مع رسول اللّه - يظهر أنّ رواة المرسلة كانوا بصدد بيان تفصيل القضيّة ، دون رواة الروايتين الاُخريين ، وذلك يؤكّد سقوط كلمة «على مؤمن» منهما ، ويؤيّد تقديم أصالة عدم الزيادة .

وثالثاً : إنّ ما ذكر من مناسبة الحكم والموضوع، ليس بشيء ؛ فإنّ المدّعى : إن كان أنّ الازدياد وقع عمداً للمناسبة بينهما ، فهو بمكان من البطلان ، كما لا يخفى .

وإن كان أنّ المناسبة المذكورة صارت موجبة لسبق لسان الراوي إلى تلك الكلمة ، ففيه : أنّ سبق اللسان إنّما يكون فيما إذا ارتكزت المناسبة في الذهن كاللازم البيّن ؛ بحيث تحضر الكلمة في الذهن عند تصوّر المزيد عليه ، وما نحن فيه ليس كذلك ؛ ضرورة أ نّه عند ذكر «لا ضرر ولا ضرار» لا تسبق كلمة «على

مؤمن» إلى الذهن حتّى يتبعه اللسان .

نعم ، لأحد أن يقول : إنّ مرسلة زرارة لا تصلح لإثبات هذه الكلمة لو كانت مثبتة لحكم شرعي على فرض وجودها ، لكن قد عرفت أ نّه لا يبعد دعوى الوثوق بصدورها ؛ لموافقة مضمونها مع الروايتين الاُخريين وأنّ نفس مضمونها ممّا يشهد بصدقها .

ص: 545

فصل : في معنى مفردات الحديث

أمّا معنى «الضرر» فهو معروف لدى العرف ، ولعلّ معناه العرفي هو النقص في الأموال والأنفس ، كما أنّ النفع الذي مقابله كذلك ، يقال : ضرّه البيع الكذائي وأضرّ به ، والبيع ضرري ، ونفعه كذا ، وضرّه الغذاء الكذائي وأضرّ به ، وهو ضارّ ، ونفعه الغذاء ، وهو نافع ، ولا يقال لمن هتك حرمته أو وردت الإهانة عليه : إنّه ورد عليه ضرر أو أضرّ به فلان إذا هتكه ، أو نظر إلى أهله ، كما لا يقال لمن بجّله وجلّله ووقّره : إنّه نفعه ، وهو نافع . وهذا واضح لدى العرف .

نعم ، جاء الضرر لغة بمعانٍ ، وهي : الضيق ، والشدّة ، وسوء الحال ، والمكروه .

قال في «الصحاح» : «مكان ذو ضرر ؛ أي ضيّق ، ويقال : لا ضرر عليك ولا ضارورة ولا تَضِرَّة»(1) .

وظاهره : أنّ في هذه الاستعمالات يكون الضرر بمعنى الضيق .

ص: 546


1- الصحاح 2 : 720 ، وفيه «ذو ضرار» بدل «ذو ضرر».

وقال في «القاموس» : «الضرر الضيق»(1) .

وفي «المنجد» : «الضَرّ والضُرّ والضرر ضدّ النفع ، الشدّة والضيق وسوء الحال ، النقصان يدخل في الشيء»(2) .

أقول : ولعلّ منه الضرّاء في مقابل السرّاء ، بمعنى الشدّة والقحط .

وعن «المصباح» : «الضرّ بمعنى فعل المكروه ، وضرّه فعل به مكروهاً»(3) .

وممّا ذكرنا يعلم : أنّ استعمال «الضرر» و«الضرار» و«المضارّ» في حديث الضرر ليس باعتبار أنّ الضرر أعمّ من الضرر [في] العِرض كما شاع في الألسن ؛ فإنّ استعماله بمعنى الهتك والانتقاص في العِرض ممّا لم يعهد في لغة ولا عرف ، وإنّما استعماله في قضيّة سمرة بمعنى الضيق والشدّة وإيصال الحرج والمكروه ، فقوله : «ما أراك يا سَمُرة إلاّ مُضارّاً» ؛ أي مضيّقاً ومورثاً للشدّة والحرج والمكروه على أخيك ؛ أي لا تريد إلاّ التشديد والتضييق على الأنصاري ، وليس معنى كونه مضارّاً ؛ أي هاتكاً للحرمة بدخوله منزل الأنصاري ونظره إلى أهله .

ولعلّ الناظر إلى ألفاظ الرواية والمتدبّر في كلمات أهل اللغة وأئمّة اللسان يصدّق ما ادّعيناه . وإن كنت في شكّ ممّا تلونا عليك فانتظر ما سنقرئك في معنى الضرار ، ثمّ راجع موارد استعمال «الضرر» و«الضرار» في اللغة والكتاب والحديث ، وانظر هل ترى مورداً استعملا [فيه ]مكان هتك الحرمة والإهانة في العِرض ؟ !

ص: 547


1- القاموس المحيط 2 : 77 .
2- المنجد : 477 .
3- المصباح المنير : 360 .

وأمّا الضرار وسائر تصاريفه من بابه : فلم أجد بعد الفحص مورداً استعمل بمعنى باب المفاعلة أو المجازاة على الضرر ، وكثير من المتبحّرين من أهل اللغة قد صرّحوا بكونه بمعنى الضرر(1) ، وقد ورد في «القرآن الكريم» من هذا الباب في ستّة موارد كلّها بمعنى الإضرار ، وهي :

قوله تعالى : )لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ((2) .

وقوله تعالى : )وَلاَ تُضَارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ((3) .

وقوله تعالى : )وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ((4) .

وقوله تعالى : )وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ((5) .

وقوله تعالى : )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً ((6) .

وقوله تعالى : )مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أوْ دَيْنٍ غَيرَ مُضارٍّ ((7) .

وما رأيت في الأحاديث إلاّ كذلك :

كقوله في مرسلة زرارة : «إنّك رجل مُضارّ»(8) .

ص: 548


1- المصباح المنير : 360 ؛ لسان العرب 8 : 45 ؛ تاج العروس 3 : 348 ؛ مجمع البحرين 3 : 373 ؛ مجمع البيان 2 : 587 .
2- البقرة (2) : 233 .
3- الطلاق (65) : 6 .
4- البقرة (2) : 282 .
5- البقرة (2) : 231 .
6- التوبة (9) : 107 .
7- النساء (4) : 12 .
8- تقدّم في الصفحة 4 - 5 .

وفي رواية الحذّاء : «ما أَراكَ يا سَمُرَةُ إلاّ مُضارّاً»(1) .

وفي رواية هارون بن حمزة في البعير : «فليس له ذلك ؛ هذا الضرار»(2) .

وفي رواية طلحة بن زيد في باب إعطاء الأمان : «إنّ الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم»(3) .

وفي باب كراهة الرجعة بغير قصد الإمساك روى الصدوق بإسناده عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «لا ينبغي للرجل أن يُطلّق امرأته ، ثمّ يُراجعها وليس له فيها حاجة ، ثمّ يُطلّقها ، فهذا الضرار الذي نهى اللّه - عزّ وجلّ - عنه»(4) .

وفي باب ولاية الجدّ في النكاح قال: «الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مُضارّاً»(5).

وفي الرواية المتقدّمة عن «عقاب الأعمال» : «من ضارّ مسلماً فليس منّا»(6) .

وفي كتاب الوصيّة في رواية قال علي علیه السلام : «من أوصى ولم يُحْفِ ولم يضارّ كان كمن تصدّق في حياته»(7) . . . إلى غير ذلك من الروايات التي سيمرّ بعضها عليك .

ص: 549


1- تقدّم في الصفحة 5 - 6 .
2- تقدّم في الصفحة 9 .
3- تقدّم في الصفحة 11 .
4- الفقيه 3 : 323 / 1568 ؛ وسائل الشيعة 22 : 171 ، كتاب الطلاق ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، الباب 34 ، الحديث 1 .
5- الكافي 5 : 395 / 1 ؛ وسائل الشيعة 20: 289 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح ، الباب 34 ، الحديث 2 .
6- تقدّم في الصفحة 12 .
7- الكافي 7 : 62 / 18 ؛ وسائل الشيعة 19 : 264 ، كتاب الوصايا ، الباب 5 ، الحديث 2 .

الفرق بين الضرر والضرار

ثمّ اعلم : أنّ غالب استعمالات الضرر والضرّ والإضرار وسائر تصاريفهما هي في الضرر المالي والنفسي ، بخلاف الضرار وتصاريفه ؛ فإنّ استعمالها في التضييق وإيصال الحرج والمكروه والكلفة شائع ، بل الظاهر غلبته فيها ، والظاهر أنّ غالب استعمال هذا الباب في «القرآن الكريم» إنّما يكون بهذه المعاني لا بمعنى الضرر المالي أو النفسي ؛ فإنّ قوله تعالى : )لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ((1) قد فسّر بذلك ، فعن أبي عبداللّه ، قال : «لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة ، فيضارّ بها إذا كان لها ولد مُرضع (مرتضع - ظ) ، ويقول لها : لا أقربك ، فإنّي أخاف عليك الحَبَل ، فتقتلي ولدي ، وكذلك المرأة لا يحلّ لها أن تمنع على(2) الرجل ، فتقول : إنّي أخاف أن أحبل ، فأقتل ولدي وهذه المضارّة في الجِماع على الرجل والمرأة»(3) وبهذا المضمون غيره(4) أيضاً .

وفي رواية اُخرى عن أبي عبداللّه فسّر المُضارّة بالاُمّ ينزع الولد عنها ، قال في «مجمع البحرين» في الآية : «أي: لا تضارّ بنزع الرجل الولدَ عنها ،

ص: 550


1- البقرة (2) : 233 .
2- وفي تفسير القمّي «أن تمتنع عن».
3- تفسير القمّي 1 : 76 - 77 ؛ وسائل الشيعة 21 : 458 ، كتاب النكاح ، أبواب أحكام الأولاد ، الباب 72 ، الحديث 2 .
4- الكافي 6 : 41 / 6 ؛ تفسير العيّاشي 1: 120 / 382 ؛ وسائل الشيعة 21 : 457 ، كتاب النكاح ، أبواب أحكام الأولاد ، الباب 72 ، الحديث 1 .

ولا تضارّ الاُمّ الأبَ ، فلا ترضعه»(1) .

وعن أبي عبداللّه علیه السلام : «المطلّقة الحبلى يُنفق عليها حتّى تضع حملها ، وهي أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اُخرى ، يقول اللّه - عزّ وجلّ - : )لاَ تُضارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ( لا يضارّ بالصبيّ ، ولا يضارّ باُمّه في رضاعه . . .»(2) الخبر .

فعلى التفسيرين - خصوصاً أوّلهما - تكون المضارّة بمعنى التضييق وإيصال الحرج والمكروه ، لا الضرر المالي أو النفسي ، وكذا قوله تعالى : )وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ((3) يكون بمعنى ذلك ، فعن محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن قول اللّه - عزّ وجلّ - : )وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ( قال : «الرجل يطلّق حتّى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ، ثمّ طلّقها ، يفعل ذلك ثلاث مرّات ، فنهى اللّه - عزّ وجلّ - عن ذلك»(4) .

وفي «مجمع البيان» : «)لاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ( أي لا تُراجعوهنّ لا لرغبة فيهنّ ، بل لطلب الإضرار بهنّ ؛ إمّا بتطويل العِدّة ، أو بتضييق النفقة في العدّة»(5) .

ص: 551


1- مجمع البحرين 3 : 371 .
2- الفقيه 3 : 329 / 1594 ؛ وسائل الشيعة 21 : 455 ، كتاب النكاح ، أبواب أحكام الأولاد ، الباب 70 ، الحديث 7 .
3- البقرة (2) : 231 .
4- الفقيه 3 : 323 / 1567 ؛ وسائل الشيعة 22 : 172 ، كتاب الطلاق ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، الباب 34 ، الحديث 2 .
5- مجمع البيان 2 : 582 .

والظاهر أنّ الضرار في قوله تعالى : )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً ((1) هو بمعنى إيصال المكروه [إلى] المؤمنين بإيقاع الشكّ في قلوبهم وتفريق جمعيتهم واضطرابهم في دينهم ، كما روي : «أنّ بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قُبا ، وصلّى فيه رسول اللّه رحمهما اللّه فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجد الضرار ، وأرادوا أن يحتالوا بذلك ، فيفرّقوا المؤمنين ، ويوقعوا الشكّ في قلوبهم ؛ بأن يدعوا أبا عامر الراهب من الشام ؛ ليعظهم ويذكر وهْنَ دين الإسلام ؛ ليشكّ المسلمون ويضطربوا في دينهم ، فأخبر اللّه نبيّه بذلك ، فأمر بإحراقه وهدمه بعد الرجوع من تبوك»(2) .

وفي «مجمع البيان» : «ضِراراً؛ أي مضارّة ؛ يعني الضرر بأهل مسجد قُبا أو مسجد الرسول ؛ ليقلّ الجمع فيه»(3) .

ويظهر من القضيّة أنّ الضرار هاهنا بمعنى إيصال المكروه والحرج ، والتضييق على المؤمنين بتقليل جمعيتهم وتفرقتهم ، وإيقاع الاضطراب في قلوبهم والشكّ في دينهم ، لا الضرر المالي والنفسي .

وفي قوله تعالى : )وَ لاَ يُضَارَّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ((4) احتمالان :

أحدهما : أ نّه بالبناء للفاعل ، فيكون النهي متوجّهاً إلى الكاتب والشهيد .

وثانيهما : بالبناء للمفعول ، فيكون المعنى لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر .

قال في «مجمع البحرين»: قوله : )وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ( فيه قراءتان:

ص: 552


1- التوبة (9) : 107 .
2- راجع تفسير القمّي 1 : 305 ؛ مجمع البيان 5 : 109 .
3- مجمع البيان 5 : 110 .
4- البقرة (2) : 282 .

إحداهما : «لا يُضارِرْ» بالإظهار والكسر والبناء للفاعل على قراءة أبي عمرو ، فعلى هذا يكون المعنى : لا يجوز وقوع المضُارّة من الكاتب ؛ بأن يمتنع من الإجابة ، أو يُحرّف بالزيادة والنقصان ، وكذا الشهيد .

وثانيتهما : قراءة الباقين : «لا يُضارَّ» بالإدغام والفتح والبناء للمفعول ، فعلى هذا يكون المعنى : لا يُفعل بالكاتب والشهيد ضررٌ ؛ بأن يكلّفا قطع مسافة بمشقّة من غير تكلّف بمؤنتهما أو غير ذلك(1) .

وفي «مجمع البيان» : «نقل عن ابن مسعود ومجاهد : أنّ الأصل فيه «لا يُضارَر» بفتح الراء الاُولى ، فيكون معناه لا يكلّف الكاتب الكتابة في حال عذر لا يتفرّغ إليها ، ولا يضيّق الأمر على الشاهد بأن يدّعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر ، ولا يعنّف عليهما»(2) .

ولا يبعد أن يكون المُضارّة في قوله تعالى : )وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ((3) هي عدم إسكانهنّ في بيوت مناسبة لحالهنّ ليقعْنَ في المضيقة ، وهو - أيضاً - يرجع إلى ما ذكرنا .

قال في «مجمع البيان» : «)وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ( أي لا تُدخلوا الضرر عليهنّ بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهنّ ليخرجن . وقيل : المعنى اُعطوهنّ من المسكن ما يكفيهنّ لجلوسهنّ ومبيتهنّ وطهارتهنّ ، ولا تضايقوهنّ حتّى يتعذّر عليهنّ السكنى .

ص: 553


1- مجمع البحرين 3 : 371.
2- مجمع البيان 2 : 684 .
3- الطلاق (65) : 6.

عن أبي مسلم»(1) ، انتهى .

نعم ، الظاهر أنّ «المضارّ» في آية الوصيّة(2) بمعنى الإضرار المالي بالورثة . والمقصود من التطويل المملّ : هو إثبات شيوع استعمال الضرار وتصاريفه في التضييق وإيصال المكروه والحرج والتكلّف وأمثالها ، كما أنّ الشائع في الضرر والضرّ والإضرار هو استعمالها في المال والنفس ، كما هو واضح .

فاتّضح ممّا ذكرنا : أنّ الضرر في الحديث هو النقص في الأموال والأنفس ، والضرار فيه هو التضييق والتشديد وإيصال المكروه والحرج ، وقضيّة سَمُرة بن جُندَب إنّما تكون ضراراً على الأنصاري وتشديداً وتضييقاً وإيصالاً للمكروه [إليه] ؛ بدخوله في منزله بلا استئذان ، والنظر إلى شيء من أهله يكرهه الرجل .

وليس الضرار بمعنى الضرر في الحديث(3) ؛ لكونه تكراراً بارداً ، ولا بمعنى الإصرار على الضرر(4) ، ولا مباشرة الضرر ، ولا المجازاة عليه ، ولا اعتبر فيه كونه بين الاثنين كما قيل(5) .

ولا أظنّك بعد التأمّل والتدبّر فيما ذكرنا - والفحص في موارد استعمال الكلمتين في القرآن والحديث ، والتدبّر في قضيّة سَمُرة وإطلاق خصوص المُضارّ عليه - أن تتأمّل في تصديق ما ذكرناه .

ص: 554


1- مجمع البيان 9 : 464 .
2- النساء (4) : 12 .
3- كفاية الاُصول : 432 .
4- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 378 - 379 .
5- النهاية ، ابن الأثير 3 : 81 .

نعم ، هنا أمر لا بدّ من التعرّض له والتفصّي عنه ، وهو أنّ أئمّة اللغة ومَهَرة اللسان صرّحوا : بأنّ الضرار في الحديث بمعنى المجازاة ، وبمعنى باب المفاعلة :

فعن «النهاية الأثيرية» : «معنى قوله : «لا ضرر» أي لا يضرّ الرجل أخاه ، فينقصه شيئاً من حقّه ، والضرار فعال من الضرّ ؛ أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه ، والضرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه . وقيل : الضرر ما تضرّ صاحبك ، وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع أنت به . وقيل : هما بمعنى واحد ، والتكرار للتأكيد»(1) .

وعن «لسان العرب» : «معنى قوله : «لا ضرر» أي لا يضرّ الرجل أخاه ، وهو ضدّ النفع ، وقوله : «لا ضِرار» أي: لا يضارّ كلّ منهما صاحبه»(2) .

وعن السيوطي : «لا ضرر» أي لا يضرّ الرجل أخاه ، فينقصه شيئاً من حقّه ، و«لا ضِرار» أي لا يُجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه»(3) .

وعن «تاج العروس» مثل ما عن السيوطي بعينه(4) .

و «المجمع» عبّر بعين ألفاظ ابن الأثير(5) .

هذا ، ولكن التأمّل في كلامهم يوجب الوثوق بأنّ المعنى الذي ذكروه إنّما هو

ص: 555


1- النهاية ، ابن الأثير 3 : 81 - 82 .
2- لسان العرب 8 : 44 .
3- الدرّ النثير 3 : 17 .
4- تاج العروس 3 : 348 .
5- مجمع البحرين 3 : 373 .

على قاعدة باب المفاعلة ، وأنّ الضرار فِعال من الضرّ ، وهو فعل الاثنين ، والمظنون أنّ ابن الأثير ذكر هذا المعنى بارتكازه من باب المفاعلة ، والبقيّة نسجوا على منواله ، فترى أنّ السيوطي وصاحب «تاج العروس» قد أخذا العبارة منه بعينها ، واقتصرا على بعض كلامه ، والطريحي قد عبّر بعين ألفاظه من غير زيادة ونقيصة .

وبالجملة : الظاهر أنّ هذا الكلام قد صدر منهم لقاعدة باب المفاعلة ، وتبعاً لابن الأثير من غير تدقيق وفحص في موارد استعمالات الضرار .

هذا ، مضافاً إلى أنّ إطلاق «المُضارّ» في رواياتنا على سَمُرة بن جُندَب ممّا

يوجب القطع بأنّ الضرار الواقع في هذه القضيّة ليس بمعنى المجازاة على الضرر أو بمعنى إضرار كلٍّ بصاحبه ، وأنّ قوله : «إنّك رجل مُضارّ» بمنزلة الصغرى لقوله : «ولا ضرر ولا ضِرار» .

وقد عرفت(1) عدم ثبوت ورود «لا ضررَ ولا ضِرار» مستقلاًّ من رسول اللّه رحمهما اللّه بل لم يثبت عندنا إلاّ في ذيل قضيّة سَمُرة ، م-ع أ نّه قد أشرنا سالفاً(2) إلى أ نّه بعد الفحص الأكيد لم أرَ مورداً استعمل الضرار وتصاريفه بالمعنى الذي ذكره ابن الأثير وتبعه غيره .

فقد تبيّن من جميع ما ذكرنا : أنّ الضرار تأسيس ، لا تأكيد وتكرار للضرر ، ولا يكون إلاّ بمعنى التضييق وإيصال المكروه والحرج [إلى] الغير ، فتدبّر .

ص: 556


1- تقدّم في الصفحة 14 - 15 .
2- تقدّم في الصفحة 30 .

فصل : في البحث عن مفاد الجملة التركيبية في الحديث

فنقول : إنّه محتمل لمعانٍ :

أحدها : ما احتمله الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من إبقاء النفي على حاله ، ويراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد ، وأ نّه ليس في الإسلام مجعول ضرري ، وبعبارة اُخرى : حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد ، كلزوم البيع مع الغبن ، ووجوب الوضوء مع إضرار مالي ، وإباحة الإضرار بالغير ؛ فإنّ كلّها أحكام ضررية منتفية في الشريعة .

هذا كلّه إذا كان الحديث «لا ضررَ ولا ضِرار» من غير تقييد ، أو مع التقييد بقوله : «في الإسلام» .

وأمّا قوله : «لا ضررَ ولا ضِرار على مؤمن» فهو مختصّ بالحكم الضرري بالنسبة إلى الغير ، فلا يشمل نفي وجوب الوضوء والحجّ مع الضرر .

ص: 557

قال رحمه الله علیه : هذا الاحتمال هو الأرجح في معنى الرواية ، بل المتعيّن ؛ بعد تعذّر حمله على حقيقته لوجود الحقيقة في الخارج بديهة(1) .

تحليل نظرية الشيخ الأنصاري ومحتملات كلامه

أقول : كلامه هذا صريح في أمرين ، ومحتمل لوجوه :

فأوّل ما صرّح به : هو أنّ حمل هذا الكلام على الحقيقة متعذِّر ؛ ضرورة وجودها في الخارج ، فتقوية بعض أعاظم العصر قول الشيخ ، وتوجيهه مع تطويلات مُملّة ، والذهاب إلى كون هذا المعنى ممّا لا يلزم منه المجاز(2) ، توجيه لا يرضى به صاحبه ، مع أنّ في كلامه مواقع للنظر ربما نشير إلى بعض منها .

والثاني : أنّ المنفيّ هو الحكم الشرعي الذي لزم منه الضرر على العباد .

وأمّا الوجوه المحتملة :

فمنها : أن يراد من قوله : «لا ضرر» لا حكمَ ضرري بنحو المجاز في الحذف.

ومنها : أن يراد منه المجاز في الكلمة ؛ بمعنى استعمال الضرر المسبّب من الحكم وإرادة سببه .

ومنها : كونه حقيقة ادّعائية ، ومصحّح الادّعاء هو علاقة السببية والمسبّبية ، كما هو التحقيق في سائر أبواب المجازات ، فلمّا كانت الأحكام الشرعية بإطلاقها سبباً للضرر - لكونها باعثة للمكلّف إلى الوقوع فيه - ادّعى المتكلّم أنّ الأحكام هي نفس الضرر فنفاها بنفيه .

ص: 558


1- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 114 و116 .
2- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 383 - 396 .

وهذه الحقيقة الادّعائية غير التي ادّعاها المحقّق الخراساني(1) ؛ لأنّ المصحّح فيها هو السببية والمسبّبية ، وفيما ذكره أمر آخر ، كقوله : «يا أشباه الرجال ولا رجال»(2) فإنّ المصحّح فيه ليس علاقة السببية ، بل هو كون الشجاعة أو المروّة تمام حقيقة الرجولية ؛ لأ نّها من أظهر خواصّ الرجل وأعظمها ، كأ نّها هي لا غيرها .

وبالجملة : مصحّح الادّعاء في الحقائق الادّعائية مختلف باختلاف المقامات ، حتّى أنّ قوله تعالى : )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا ((3) يكون من قبيل الحقيقة الادّعائية ؛ بدعوى أنّ القرية - أيضاً - مطّلعة [على] القضيّة ؛ لغاية اشتهارها وكمال ظهورها ، كقول الفرزدق :

هذا الذي تعرف البطحاءُ وَطْأتَهُ والبيتُ يعرفُهُ والحِلّ والحَرمُ(4)

وكون أمثاله من قبيل حذف المضاف وقيام المضاف إليه مقامه ممّا يخرج الكلام عن الحُسن والحلاوة ، ويجعله مبتذلاً بارداً خارجاً عن فنون البلاغة .

ولعلّ الشيخ رحمه الله علیه لم يكن في مقام بيان كيفية المجازية ، وكان بصدد بيان أنّ النفي إنّما بقي على حاله في مقابل القول بأنّ المستفاد منه النهي ، كقوله : )لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدالَ فِى الْحَجِّ ((5) وفي مقابل القول بأنّ المنفيّ هو

ص: 559


1- كفاية الاُصول : 432 .
2- نهج البلاغة : 70 ، الخطبة 27 .
3- يوسف (12) : 82 .
4- ديوان الفرزدق 2 : 238 .
5- البقرة (2) : 197 .

الضرر الغير المتدارك(1) وغرضه بيان ما يستفاد من الحديث بنحو نتيجة البرهان ، لا كيفية استعمال «لا ضررَ ولا ضِرار» وبيان العلاقة المحقّقة في البين بنحو مبدأ البرهان .

نعم ، يوهم ظاهر تعبيراته إرادته المعنى الأوّل ؛ أي المجاز في الحذف ، لكنّ التأمّل في كلامه وفيما ذكرنا يرفعه .

وليعلم : أنّ الاحتمال المذكور - أي إرادة نفي الأحكام الضررية - إنّما هو في مقابل إرادة النهي ، وفي مقابل كونه كناية عن لزوم التدارك ، وأمّا كيفية استفادة هذا المعنى من الحديث - أي كونه بنحو المجاز في الحذف أو الكلمة أو الحقيقة الادّعائية - فليست في عرض الاحتمالات الثلاثة ، بل في طولها ، ومن متفرّعات الاحتمال الأوّل وبيان استفادته وبيان ترجيحه على سائر الاحتمالات ، فالقائل بالمجاز في الحذف كالقائل بالمجاز في الكلمة ، والقائل بالحقيقة الادّعائية من أصحاب هذا الاحتمال في مقابل الاحتمالين الآخرين .

ثمّ إنّ في بيان الحقيقة الادّعائية وجوهاً :

منها : ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه في «الكفاية» من أ نّها من قبيل نفي الموضوع ادّعاءً كناية عن نفي الآثار ، كقوله : «يا أشباه الرجال ولا رجال» ومراده من الآثار هي الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأوّلية ، كوجوب الوفاء بالعقد الضرري ، ووجوب الوضوء الضرري ، كما صرّح به في «الكفاية»(2) ، وهذا

ص: 560


1- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 114 .
2- كفاية الاُصول : 432 - 433 .

يرجع إلى ما أفاده الشيخ قدّس سرّه بالنتيجة ظاهراً وإن يوهم كلامه خلافه ؛ حيث عبّر عن «لا ضرر» في «الرسائل» : «بأنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد»(1) لكنّ الظاهر من لزوم الضرر ليس لزومه ولو بالوسائط ، كما يشهد به ما أفاده في «رسالته المعمولة في قاعدة الضرر» حيث قال :

«الثالث : أن يراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد ، وأ نّه ليس

في الإسلام مجعول ضرري . وبعبارة اُخرى : حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد»(2) .

حيث جعل نفي حكم يلزم من العمل به الضرر عبارةً اُخرى من نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد ، فما جعله المحقّق الخراساني قدّس سرّه فارقاً بين احتماله واحتمال الشيخ(3) ممّا لا طريق إلى إثباته .

ومنها : ما جعلنا من وجوه احتمال كلام الشيخ قدّس سرّه وهو ادّعاء نفي حقيقة الضرر لأجل نفي أسبابه ، فإنّ سبب تحقّق الضرر : إمّا الأحكام الشرعية الموجبة بإطلاقها وقوع العباد في الضرر ، وإمّا المكلّفون الذين بإضرارهم يقع العباد فيه ، فإذا نفى الشارع الأحكام الضررية ، ونهى المكلّفين عن إضرار بعضهم بعضاً ، يصحّ له دعوى نفي الضرر لحسم مادّته وقطع أسبابه ، فلذلك ادّعى أنّ أسباب الضرر هي الضرر ، فنفى تلك الأسباب بنفي الضرر على سبيل الحقيقة الادّعائية ، ومصحّحها علاقة السببية والمسبّبية .

ص: 561


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 460 .
2- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 114 .
3- كفاية الاُصول : 432 .

ومنها : ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه في تعليقته على «الرسائل» : من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحقيقة الادّعائية ، مثل )لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحَجِّ ( بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمّل الضرر عنه(1) والفرق بينه وبين ما ذكره في «الكفاية» واضح ، كالفرق بينهما وبين ما ذكرنا آنفاً .

ومنها : ما أفاده شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه -

على ما ببالي - من أنّ نفي الضرر والضرار إنّما هو في لحاظ التشريع وحومة سلطان الشريعة ، فمن قلع أسباب تحقّق الضرر في صفحة سلطانه بنفي الأحكام الضررية والمنع عن إضرار الناس بعضهم بعضاً ، وحكم بتداركه على فرض تحقّقه ، يصحّ له أن يقول : لا ضرر في مملكتي وحوزة سلطاني وحمى قدرتي .

وهو رحمه الله علیه كان يقول : إنّه بناءً على هذا يكون نفي الضرر والضرار محمولاً على الحقيقة ، لا الحقيقة الادّعائية .

ولكنّك خبير بأنّ الحمل على الحقيقة غير ممكن ؛ لتحقّق الضرر في حمى سلطانه وحوزة حكومته رحمهما اللّه ، ومجرّد النهي عن إضرار بعضهم بعضاً لا يوجب قلع الضرر والحمل على الحقيقة ، بل لو خصّ نفي الضرر بالأحكام الضررية ؛ حتّى يكون المعنى : أ نّه لا حكم ضرري في الإسلام لا يكون على نحو الحقيقة ؛ لوجود الأحكام الضررية في الإسلام كالزكاة والخمس والكفّارات وغيرها .

بل لو اُغمض عن ذلك - أيضاً - لا يمكن الحمل على الحقيقة ؛ لأنّ المراد من

ص: 562


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 282 .

نفي الضرر نفي الأحكام ، ولهذا يكون دليله حاكماً على أدلّة الأحكام ، وإطلاق لفظ «لا ضررَ ولا ضِرار» وإرادة نفي الأحكام الضررية مع كون الاستعمال على وجه الحقيقة ممّا لا يجتمعان ، فإذن يكون ذلك من الحقيقة الادّعائية .

والفرق بينه وبين ما ذكرنا في ضمن احتمالات كلام الشيخ : أ نّه بناءً على ما ذكرنا ترجع دعوى المتكلّم إلى أنّ الأحكام المؤدّية إلى الضرر هي عين حقيقة الضرر ، ومصحّح الادّعاء هي علاقة السببية والمسبّبية ، وعلى ما ذكره رحمه الله علیه ترجع إلى أنّ ما هو موجود بمنزلة المعدوم ؛ لقلع مادّته وقطع أسبابه ، فما ذكرنا من قبيل تنزيل السبب منزلة المسبّب وتطبيق عنوان المسبّب عليه بعد الادّعاء ، وما ذكره من قبيل تنزيل الموجود منزلة المعدوم لقلع موجباته وقطع أسبابه .

ومنها : أن يقال : إنّ الحقيقة الادّعائية بمعنى تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لكن لا باعتبار ما ذكرنا آنفاً ، بل باعتبار أنّ الضرر الواقع قليل طفيف ؛ بحيث ينزّل منزلة المعدوم ، ويدّعى أ نّه لا ضرر في الإسلام ، ويجعل هذه الدعوى كناية عن نفي الأحكام الضررية .

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه قد أتعب نفسه الشريفة وأطال البحث حول كلام الشيخ وحديث نفي الضرر ، وزعم أنّ ما ذكره موافق لكلامه قدّس سرّه وادّعى أنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» - بناءً على تحقيقاته - محمول على الحقيقة وبعد اللتيا والتي لم يأت بشيء ، ولو بنينا على التعرّض لتمام كلامه ونقده لانجرّ إلى التطويل المملّ بلا طائل فيه ، ولهذا لم نتعرّض إلاّ للُبّ كلامه ومرمى هدفه ، وهو أنّ «لا ضرر» محمول على نفي الأحكام الضررية ، ولا يلزم منه مجاز أصلاً ؛

ص: 563

لأ نّها بشراشر هويتها وتمام حقيقتها ممّا تنالها يد الجعل ؛ فإنّ تشريعها عين

تكوينها ، ونفيها بسيطاً عين إعدامها ، فنفي الأحكام الضررية نفي حقيقتها من صفحة التكوين ، وأمّا متعلّقات الأحكام أو موضوعاتها فليس نفيها تحت جعل الشارع ، بل هي اُمور تكوينية مع قطع النظر عن الجعل ، فهي ممّا لا تنالها يد الجعل ، فلا يكون نفيها - نفياً بسيطاً - عينَ إعدامها ، بل نفي تركيبي ، ولا تصل النوبة فيما إذا دار الأمر بين الحمل على نفي الأحكام أو نفي الموضوعات إلى الثاني مع إمكان الأوّل .

ثمّ نسج على هذا المنوال ورتّب اُموراً بعنوان المقدّمات ممّا لا دخل لها فيما

نحن بصدده ، مع كون كثير منها مورداً للخدشة والمناقشة ، فراجع كلامه(1) .

أقول : إنّ الكلام الموجود الملقى من المتكلّم هو قوله : «لا ضررَ ولا ضِرار» والأحكام اُمور ضررية بالمبنى الذي سنشير إليه(2) لا هي نفس الضرر ، فإطلاق لفظ موضوع للضرر وإرادة الأحكام التي هي ضررية ممّا لا مسرح له إلاّ المجازية ولو سوّد في أطرافه ألف طومار .

وما أفاد - من أنّ الأحكام تشريعها عين تكوينها ونفيها عين إعدامها - ممّا لا ربط له بما نحن فيه ، ولا يوجب صيرورة المجاز حقيقة .

وما ذكر : «من أنّ قوله : «رفع»(3) أو «لا ضرر» ليس إخباراً حتّى يلزم تجوّز

ص: 564


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 383 - 397 .
2- يأتي في الصفحة 48 .
3- راجع وسائل الشيعة 15 : 370 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 و2 .

أو إضمار حتّى لا يلزم الكذب ، فإذا لم يكن «لا ضرر» إلاّ إنشاءً ونفياً له في عالم التشريع فيختلف نتيجته . . .»(1) كقوله في خلال كلماته : «إنّه لا إشكال أنّ الإنشاء والإخبار من المداليل السياقية ، لا ممّا وضع له اللفظ»(2) ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ ضرورة أنّ الجملة المصدّرة ب «لا» التي لنفي الجنس جملة إخبارية موضوعة للحكاية عن الواقع ، واستعمالها وإرادة إنشاء السلب منها مجاز بلا إشكال .

وأهون منه قوله الآخر ؛ ضرورة أنّ هيئة الجملة الخبرية موضوعة دالّة على الحكاية التصديقية عن الواقع بحكم التبادر بل البداهة ، فالالتزام بعدم الوضع : إمّا لازمه الالتزام بكون الهيئة مهملة فهو خلاف الوجدان ، وإمّا الالتزام بوضعها لأمر آخر غير الإنشاء والإخبار ، والأمر الآخر : إمّا أجنبيّ عنهما ، وهو كما ترى ، أو جامع بينهما ، ولا جامع بين الإخبار والإنشاء ، بل قد حقّق في محلّه عدم تعقّل الجامع بين المعاني الحرفية إلاّ الجامع الاسمي العَرَضي ، ولو وضعت له صارت اسماً ، وهو خلاف الواقع .

وما ذكره «من أنّ الضرر عنوان ثانوي للحكم ، ونفي العنوان الثانوي وإرادة العنوان الأوّلي ليس من باب المجاز ، وإنّما يستلزم المجاز لو كان الحكم من قبيل المُعدّ للضرر أو إذا كان سبباً له وكانا وجودين مستقلّين أحدهما مسبّب عن الآخر ، وأمّا مثل القتل أو الإيلام المترتّب على الضرب فإطلاق أحدهما على

ص: 565


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 383 .
2- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 388 .

الآخر شائع متعارف . وبالجملة : نفس ورود القضيّة في مقام التشريع وإنشاء نفي

الضرر حقيقة يقتضي أن يكون المنفيّ هو الحكم الضرري ، لا أ نّه استعمل الضرر واُريد منه الحكم الذي هو سببه»(1) ، انتهى .

من غرائب الكلام : أمّا أوّلاً : فلأنّ إطلاق اللفظ الموضوع للعنوان الثانوي وإرادة العنوان الأوّلي كإطلاق القتل على الضرب مجاز بلا إشكال ، ومجرّد تعارفه وشيوعه لا يوجب أن يكون حقيقة ، مع أنّ دعوى الشيوع - أيضاً - في محلّ المنع .

نعم ، إطلاق القاتل على الضارب المنتهي ضربه إلى القتل شائع ، لا إطلاق القتل على الضرب ، وبينهما فرق .

وثانياً : أنّ الأحكام لا تكون سبباً للضرر وعلّة له ، فوجوب الوضوء ليس سبباً للضرر ، وإنّما السبب هو نفس الوضوء ، بل الوجوب لا يكون سبباً لانبعاث المكلّف وعلّة لتحرّكه نحو المكلّف به ، وإنّما التكليف والبعث محقّق موضوع الطاعة في صورة الموافقة ، وكاشف لمطلوبية المكلّف به ، والباعث المحرّك مبادٍ اُخر في نفس المكلّف بعد تحقّق الأمر ، مثل الخوف من مخالفة المولى ، والطمع في طاعته ، وحبّه ، ووجدان أهليته لها ، وأمثال ذلك من المبادئ التي في نفوس العباد بحسب اختلاف مراتبهم ، فالأمر الوجوبي المتعلّق بالموضوع يكون دخيلاً في انبعاث العبد بنحو من الدخالة ، لا بنحو السببية والمسبّبية ، فليست نسبة الأحكام إلى الضرر كنسبة الضرب إلى القتل والإيلام ، بل ولا كنسبة حركة اليد

ص: 566


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 396 - 397 .

وحركة المفتاح ، فالأحكام لها وجودات من غير أن يترتّب عليها الضرر ، ثمّ يتعلّق علم المكلّف بها ، فيرى أنّ إتيان متعلّقاتها موضوع طاعة المولى ، وتركها موضوع مخالفته ، ويرى أنّ في طاعته ثواباً ودرجات ، وفي مخالفته عقاباً ودركات ، فيرجّح الطاعة على المعصية ، فينبعث نحوها ويأتي بالمتعلّق ، فيترتّب على إتيانه ضرر أحياناً ، وما كان هذا حاله كيف يمكن أن يقال : إنّ إطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما على الآخر ليس مجازاً ، وورود القضيّة في مقام التشريع قرينة على كون المراد من الضرر الحكم الضرري ، لا أ نّه موجب لكون الاستعمال على نحو الحقيقة ؟ ! وهو واضح .

هذا فيما يمكن أن يقال في «لا ضرَرَ ولا ضِرار» إذا اُريد منه نفي الحكم الضرري ، وإن شئت قلت : في محتملات كلام العلاّمة الأنصاري .

والاحتمال الثاني : ما نقل عن بعض الفحول من أنّ المنفيّ هو الضرر الغير المتدارك ، فيكون لا ضرر كناية عن لزوم تداركه ، ومصحّح دعوى نفي الحقيقة هو حكم الشارع بلزوم التدارك ، فينزّل الضرر المحكوم بلزوم تداركه منزلة العدم ، ويقال : «لا ضررَ ولا ضِرار»(1) .

وأجاب عنه الشيخ وجعله أردأ الاحتمالات(2) ، وسيأتي التعرّض لكلامه(3) حتّى يتّضح أ نّه رديفه وزميله في ورود الإشكال عليه .

ص: 567


1- الوافية في اُصول الفقه : 194 .
2- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 114 .
3- يأتي في الصفحة : 57 .

والاحتمال الثالث : هو الحمل على النهي كقوله : )لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحَجِّ ( إمّا باستعمال النفي في النهي ، وإمّا ببقاء النفي على حاله والتعبير بالجملة الخبرية في مقام الإنشاء لإفهام شدّة التنفّر عنه والمبالغة في عدم الرضا بتحقّقه ؛ لينتقل السامع إلى الزجر الأكيد ، كما أنّ المطلوب إذا اُريد المبالغة في طلبه ، وأ نّه لا يرضى بتركه ، ينزّل منزلة الموجود ، ويعبّر عنه بما يدلّ

على وقوعه ؛ لينتقل السامع إلى الأمر الأكيد .

وهذان الاحتمالان كلاهما تجوّز ، وإن كان الثاني راجحاً ، بل متعيّناً على فرض كونه بمعنى النهي .

فقد رجّح الاحتمال الثالث فريد عصره شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله علیه وارتضاه ، مدّعياً أ نّه موافق لكلمات أئمّة اللغة ومَهَرة أهل اللسان ، ونقله

عن «نهاية ابن الأثير» ، و«لسان العرب» ، و«الدرّ النثير» للسيوطي ، و«تاج العروس» ، و«مجمع البحرين»(1) .

وهاهنا احتمال رابع : يكون راجحاً في نظري القاصر - وإن لم أعثر عليه في كلام القوم - وهو كونه نهياً لا بمعنى النهي الإلهي حتّى يكون حكماً إلهياً ، كحرمة شرب الخمر وحرمة القمار ، بل بمعنى النهي السلطاني الذي صدر عن رسول اللّه رحمهما اللّه بما أ نّه سلطان الملّة وسائس الدولة ، لا بما أ نّه مبلّغ أحكام الشرع ، وسنرجع إلى توضيحه وتشييده(2) ، فانتظر .

ص: 568


1- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 24 و25 - 27 .
2- يأتي في الصفحة 66 .

وأمّا ما احتمله المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في تعليقته على «الرسائل» وجعله أظهر الاحتمالات : «من أنّ المعنى أنّ الشارع لم يشرّع جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمّل الضرر عنه»(1) فإن كان المراد عدم وجوب التحمّل عن الشارع برجوع ضمير «عنه» إلى الشارع ، أو إلى الغير والمراد منه الشارع ، فهو يرجع إلى احتمال الشيخ(2) والاختلاف بينهما في التعبير ، وان كان المراد عدم تشريع

وجوب تحمّل الضرر عن الغير ؛ أي الناس ؛ بمعنى جواز الدفاع عن الضرر المتوجّه إليه وجواز تداركه مع وقوعه بالتقاصّ والقصاص مثلاً ، فهو احتمال ضعيف ربما يكون أردأ الاحتمالات .

فصل: في البحث في محتملات كلام الشيخ

المهمّ في المقام التعرّض لما ورد على وجوه احتمالات كلام العلاّمة الأنصاري(3) ؛ حتّى يتّضح حقيقة الحال في المقام ، لا لمجرّد إيراد الإشكال على الأعلام ، فنقول : إنّ الإشكال فيها على ضربين : أحدهما ما يكون وارداً على الجميع ، وثانيهما ما يختصّ ببعضها .

في الإشكالات المشتركة

فمن الأوّل : لزوم كثرة التخصيص المستهجن ، وتوضيحه : أنّ الأحكام

ص: 569


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني : 282 .
2- تقدّم في الصفحة 39 .
3- تقدّمت في الصفحة 40 .

- كما عرفت - لم تكن عللاً تامّة ولا أسباباً توليدية للضرر ، كما هو واضح ، بل تكون ضرريتها باعتبار كونها منتهية إلى الضرر ولو بواسطة أو وسائط ، فإنّها - كما أشرنا إليه(1) - محقّقة لموضوع الطاعة وحصول بعض المبادئ في نفس المكلّف - كالخوف ، والطمع ، وغيرهما - موجبة لانبعاثه بعد تحقّق مقدّمات الانبعاث : من التصوّر ، والتصديق بالفائدة ، والشوق ، والإرادة ، ثمّ الانبعاث والإيجاد خارجاً ، وإنّما يكون وجود المتعلّق في الخارج ضررياً ، فحينئذٍ قد يكون المتعلّق علّة وسبباً توليدياً للضرر ، وقد يكون معدّاً أو منتهياً إليه ولو بوسائط .

مثلاً : قد يكون نفس الصوم ضررياً ، وقد يكون موجباً لليبوسة ، وهي ضررية ، وكذا الكلام في لزوم البيع ، فإنّ نفس اللزوم لا يكون ضررياً ، بل البيع نفسه ضرري ، فحينئذٍ قد يكون البيع ضررياً بذاته ، وقد يترتّب عليه الضرر ترتّباً ثانوياً ، أو ترتّباً مع الوسائط ، بل قد يكون بيع متاعٍ بقيمة رخيصة موجباً لتنزّل المتاع والضرر الفاحش على واجديه ، وقد يكون موجباً للغلاء والقحط وحصول الضرر على فاقديه ، وقد يكون بيع الدار المحبوبة موجباً للضرر على الأهل والأولاد ، وقد يكون موجباً للإضرار بالجار والشريك .

إذا عرفت ذلك نقول : لو كانت الأحكام قد توجب الضرر بنحو العلّية والسببية التوليدية ، وقد توجب بنحو الإعداد ، وقد تلزمه لزوماً أوّلياً ، وقد تلزمه لزوماً ثانوياً ، يمكن أن يدّعى أنّ المنفيّ بقوله : «لا ضرر» هو الأحكام الموجبة

ص: 570


1- تقدّم في الصفحة 47 - 48 .

للضرر إيجاباً علّياً أو أوّلياً ، وأمّا بعد ما عرفت من عدم ترتّب الضرر على الأحكام كذلك ، بل الترتّب عليها بنحو من الدخالة وبنحو من الإعداد ، فلا ترجيح لاختصاص نفي الضرر بحكمٍ دون حكم ، وضررٍ دون ضرر ، ومُعدٍّ دون مُعدّ . ودعوى اختصاص نفي الضرر بأحكام تكون متعلّقاتها ضررية بنحو السببية ، لا بنحو الإعداد كما ترى .

فاتّضح لزوم تخصيصات كثيرة عليه ، وإلاّ لزم تأسيس فقه جديد ، ولا محيص عن هذا الإشكال بما أفاده الشيخ رحمه الله علیه من أنّ الخارج إنّما خرج بعنوان واحد ، ولا استهجان فيه(1) فإنّ الواقع خلافه ؛ لأنّ موارد التخصيصات ممّا لا جامع لها ظاهراً ، ولو فرض أن يكون لها جامع واقعي مجهول لدى المخاطب ، ووقع التخصيص بحسب مقام التخاطب بغير ذلك الجامع ، لا يخرج عن الاستهجان .

هذا ، مع أنّ الخروج بعنوان واحد - أيضاً - لا يخرج الكلام عن الاستهجان إذا كان المخصّص منفصلاً ، فلو قال : أكرم كلّ إنسان ، ثمّ قال بدليل منفصل : لا تكرم من له رأس واحد ، وأراد بإلقاء الكبرى إكرام من له رأسان ، كان قبيحاً مستهجناً .

ومن الإشكالات المشتركة : أنّ «لا ضرر» - بما أ نّه حكم امتناني على العباد ، وأنّ مفاده أ نّه تعالى لعنايته بالعباد لم يوقعهم في الضرر ، ولم يشرّع الأحكام للإضرار بهم - آبٍ عن التخصيص مطلقاً ، فهو كقوله تعالى : )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى

ص: 571


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 465 .

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ((1) ولسانه كلسانه ، ويكون آبياً عن التخصيص ، مع أنّ كثيراً من الأحكام الإلهية ضررية ، كتشريع الزكاة ، والخمس ، والحجّ ، والجهاد ، والكفّارات ، والحدود ، والاسترقاق ، وغير ذلك ، كسلب مالية الخمر والخنزير وآلات القمار وآلات الطرب وسائر الأعيان النجسة ، وما يلزم منه الفساد على مذاق الشرع ، بل لو لم يكن التخصيص أكثرياً ، ولا يكون «لا ضرر» في مقام الامتنان ، لكان نفس خروج تلك المعظمات التي هي اُصول الأحكام الإلهية ومهمّاتها من قوله : «لا ضرر ولا ضرار» مستهجناً ، فمن أخبر بعدم الضرر في الأحكام ، سواء كان إخباره في مقام الإنشاء أم لا ، ثمّ يكون معظم أحكامه واُصولها ضررياً لم يخرج كلامه عن الاستهجان .

وما قيل : إنّ «لا ضرر» إنّما هو ناظر إلى الأحكام التي نشأ من إطلاقها الضرر ، دون ما يكون طبعه ضررياً ، كالأمثلة المتقدّمة(2) كما ترى ؛ فإنّ قوله : «لا ضرر» إذا كان معناه أ نّه تعالى لم يشرّع حكماً ضررياً على العباد ، فلا معنى لإخراج الأمثلة إلاّ بنحو التخصيص ؛ فإنّ ما يكون بتمام هويته ضررياً أولى بالدخول فيه ممّا هو بإطلاقه كذلك .

كما أنّ ما يقال: من أنّ الزكاة والخمس حقّ للفقراء وإخراج مال الفقراء وتأدية حقوقهم ليس بضرر عرفاً(3) كلام شعري ؛ فإنّ الإشكال إنّما هو أنّ جعل عُشر المال الزكوي وخمس المال الذي تعلّق به الخمس ملكاً لغير مالكه

ص: 572


1- الحجّ (22) : 78 .
2- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 402 .
3- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 403 .

العرفي ضرر على العباد ، وهذا الجعل حكم شرعي ضرري .

نعم ، يمكن أن يدّعى : أنّ دليل نفي الضرر منصرف عن مثل تلك الأحكام المعروفة المتداولة بين المسلمين ، فلايكون خروجها تخصيصاً ، وهو ليس ببعيد .

لكن هذا لا يدفع أصل الإشكال ؛ لورود تخصيصات غيرها عليه خصوصاً على ما قرّرناه .

في الإشكالات الغير المشتركة

وأمّا الإشكالات الغير المشتركة بين الاحتمالات :

أمّا كونه مجازاً في الحذف أو في الكلمة بإطلاق اللفظ الموضوع للمسبّب على السبب .

فهما احتمالان ضعيفان لا يصار إليهما ، بل التحقيق أنّ جُلّ المجازات - [لو لم يكن كلّها] - حقائق ادّعائية ، كما حقّق في محلّه ، وقد عرفت في قوله تعالى : )وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتى كُنَّا فِيهَا والعِيرَ الَّتى أَقْبَلْنا فِيهَا ((1) أ نّه حقيقة ادّعائية ، كما أنّ قوله : «جرى الميزاب» ليس بإطلاق اللفظ الموضوع للميزاب على الماء بعلاقة المجاورة ؛ فإنّه مستهجن مبتذل ، بل ادّعى المتكلّم أنّ الميزاب بنفسه جرى ، ومصحّح هذه الدعوى : إمّا كثرة المطر وغزارته ، أو علاقة المجاورة مثلاً .

وأمّا كونه حقيقة ادّعائية ، كما أفاد المحقّق الخراساني في «الكفاية» : من نفي الآثار - أي الأحكام - بنفي الموضوع(2) .

ص: 573


1- يوسف (12) : 82 .
2- تقدّم في الصفحة 42 .

ففيه : أنّ الأحكام ليست من آثار الضرر ، ولا يكون الضرر موضوعاً لها حتّى يصحّح كونها كذلك ذلك الادّعاء ، ففي قوله : «يا أشباهَ الرجال ولا رجال»(1)

يدّعي القائل : أنّ تمام حقيقة الرجولية عبارة عن الشجاعة والإقدام في [ساحات] القتال والجدال ، فمن تقاعد عنها خوفاً وجبناً فلا يكون رجلاً ، فيسلب الرجولية لسلب آثارها البارزة التي يمكن دعوى كونها تمام حقيقة الرجولية ، وأمّا الأحكام فليست من آثار الضرر حتّى يصحّ فيها هذه الدعوى .

نعم ، لو فرض أنّ للضرر أثراً بارزاً غير مرتّب عليه ، أو كان الضرر لقلّة وجوده ممّا يعدّ معدوماً ، يمكن دعوى عدمه . فقياس المقام بقوله : «يا أشباه الرجال ولا رجال» مع الفارق .

وقد عرفت الإشكال فيما ذكره رحمه الله علیه في تعليقته على «الرسائل»(2) .

وأمّا الحقيقة الادّعائية بالأنحاء الاُخر كنفي الضرر لنفي أسبابه وقلعها(3) ، فالمصحّح لدعوى : أ نّه لا ضرر في دائرة سلطاني وحِمى حكومتي ، هو قلع مادّة أسبابه وقطع اُصول علله برفع الأحكام الشرعية الموجبة للضرر ، والنهي عن إضرار الرعية بعضهم بعضاً ، فالشارع قد قطع علل الضرر بما هو وظيفته ، فيمكن أن يدّعي أ نّه لا ضررَ ولا ضِرار .

فيرد على ذلك بجميع تقريراته المتقدّمة : أنّ دعوى نفي الحقيقة بتمام هويتها مع وجودها في الخارج إنّما تستحسن وتصحّ إذا صحّ تنزيل الموجود منزلة

ص: 574


1- نهج البلاغة : 70 ، الخطبة 27 .
2- تقدّم في الصفحة 51 .
3- تقدّم في الصفحة 44 .

المعدوم : إمّا لقلّة وجوده ، أو قطع علله وأسبابه ؛ بحيث يقلّ وجوده ، ومع كون الأحكام البارزة المهمّة في الإسلام - التي هي اُصول الأحكام الفرعية كالزكاة ، والخمس ، والحجّ ، والجهاد ، والكفّارات ، والحدود ، بل والاسترقاق ، وأخذ الغنائم ، وغيرها - ضرريةً في نظر العقلاء ، لا مصحّح لهذه الدعوى ولا حسن لها ، فهل هذه الدعوى إلاّ كدعوى السلطان عدم السارق في حومة سلطانه مع كون غالب أعاظم مملكته ومقرّبي حضرته من السارقين .

ثمّ إنّ نهي الشارع عن الإضرار لا يوجب قلع مادّة الإضرار حتّى تصحّ تلك الدعوى ، كما أنّ حكم الشارع بلزوم التدارك لا يوجب نفي الضرر ، بل الانتهاء الواقعي يوجبه ، فهذا الوجه والوجه الذي جعله الشيخ العلاّمة قدّس سرّه أردأ

الاحتمالات(1) شقيقان في ورود الإشكال عليهما، مع ورود إشكالات اُخر عليه .

وبالجملة : لا مصحّح لدعوى نفي الضرر والضرار لا مطلقاً ولا في الإسلام وفي صفحة التشريع .

ودعوى : أنّ الأمثلة المذكورة ليست ضررية(2) كدعوى أنّ الحديث ليس ناظراً إليها ، وأ نّه حاكم على الأدلّة التي بإطلاقها موجبة للضرر ، كالوضوء والصوم الضرريين ، لا التي بتمام هويتها ضررية ، وأنّ ما يكون الضرر يقتضيه لا يمكن أن ينفيه(3) كما ترى ؛ فإنّ الكلام في مصحّح دعوى نفي الحقيقة ، فهل يجوز دعوى نفي حقيقة الضرر عن صفحة الكون أو عن صفحة التشريع مع

ص: 575


1- تقدّم في الصفحة 49 .
2- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 402 .
3- نفس المصدر .

شيوعه في الخارج وكثرة الأحكام الضررية في صفحة الشريعة ؟ !

فمن كانت صفحة تشريعه مملوّة من الأحكام الضررية ؛ مما هو أساس أحكامه وقوام شريعته ، كيف يدّعي عدم حقيقة الضرر والضرار ؟ ! وكيف ينزّل الأحكام التي هي كالاُصول منزلة العدم ؟ !

وعندي : أنّ هذا الوجه أردأ الوجوه ، وأنّ هذه الدعوى من أبرد الدعاوى وأقبحها ؛ ممّا لا يمكن حمل الكلام العادي عليه ، فكيف بكلام صدر ممّن هو أفصح من نطق بالضاد ؟ ! وما ذكرنا من إمكان دعوى الانصراف(1) - مع عدم سلامته من المناقشة - لا يخرج الكلام من البرودة ، والدعوى من القبح ، مع أنّ إضرار الناس بعضهم بعضاً - مع هذا الشيوع والكثرة - يكفي في فساد هذا الوجه وبرودة هذه الدعوى .

هذا حال الاحتمال الأوّل الذي اختاره العلاّمة الأنصاري وجُلّ من تأخّر عنه رحمهما اللّه باختلاف تعبيراتهم .

وأمّا الاحتمال الثاني الذي نسبه الشيخ إلى بعض الفحول(2) فقد اتّضح ضعفه بما ذكرنا وما أورد عليه الآخرون .

وأمّا الاحتمال الثالث الذي اختاره شيخ الشريعة رحمه الله علیه (3) فهو أقرب الاحتمالات الثلاثة ، وسليم عن الإشكالات المتقدّمة ، لكنّ الشأن في ظهور الكلام فيه كما ادّعى .

ص: 576


1- تقدّم في الصفحة 55 .
2- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 114 .
3- قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الأصفهاني : 24 - 25 .

فصل: في حال الاحتمال الثالث

قال العلاّمة شيخ الشريعة في رسالته المعمولة في حديث الضرر ما ملخّصه : إنّ حديث الضرر محتمل عند القوم لمعانٍ :

أحدها : أن يراد به النهي عن الضرر ، فيكون نظير قوله تعالى : )لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحَجِّ ((1) .

وقوله تعالى : )فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ((2) ؛ أي لا تقربني ولا تمسَّني .

ومثل قوله رحمهما اللّه : «لا جَلَبَ ، ولا جَنَبَ ، ولا شِغارَ(3) في الإسلام»(4) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا جَلَبَ ، ولا جَنَبَ ، ولا اعتراض»(5) .

ص: 577


1- البقرة (2) : 197 .
2- طه (20) : 97 .
3- قوله : «لا جلب . . .» : الجَلَب في الرهان : هو أن يركب فرسه رجلاً ، فإذا قرب من الغاية تبع فرسه فجلب عليه - أي صاح به - ليكون هو السابق ، وهو ضرب من الخديعة ، وقيل غير ذلك . والجَنَب : أن يجعل الرجل بجانبه مع فرسه عند الرهان فرساً آخر ، لكي يتحوّل عليه إن خاف أن يُسبق على الأوّل ، وقيل غير ذلك . والشغار : تزويج الاُخت أو البنت في مقابل الآخر بضعاً ببضع . [منه قدس سره]
4- الكافي 5 : 361 / 2 ؛ وسائل الشيعة 20 : 303 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، الباب 27 ، الحديث 2 .
5- المعجم الكبير ، الطبراني 17 : 17 / 15 ؛ سنن الدار قطني 3 : 75 / 284 ؛ كنز العمّال 6 : 335 / 15919 .

وقوله رحمهما اللّه : «لا إخصاء في الإسلام ، ولا بنيان كنيسة»(1) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا حمى في الإسلام ولا مُناجشة(2)»(3) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا حمى في الأراك»(4) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا حمى إلاّ ما حمى اللّه ورسوله»(5) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا سَبْقَ إلاّ في خُفّ أو حافر أو نصل»(6) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا صُماتَ يومٍ إلى الليل»(7) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا صرورة(8) في الإسلام»(9) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(10) .

ص: 578


1- السنن الكبرى ، البيهقي 10 : 24 ؛ كنز العمّال 16 : 273 / 44417 .
2- المناجشة : مدح الطعام . [منه قدس سره]
3- المعجم الكبير ، الطبراني 17 : 178 ؛ كنز العمّال 4 : 383 / 11025 .
4- سنن أبي داود 2 : 191 / 3066 ؛ سنن الدارمي 2 : 269 ؛ المعجم الكبير ، الطبراني 1 : 278 / 808 ؛ كنز العمّال 4 : 383 / 11026 .
5- صحيح البخاري 3 : 238 / 595 ؛ سنن أبي داود 2 : 196 / 3083 ؛ كنز العمّال 3 : 901 / 9107 .
6- سنن أبي داود 2 : 34 / 2574 ؛ السنن الكبرى ، البيهقي 10 : 16 .
7- وسائل الشيعة 23 : 219 ، كتاب الأيمان ، الباب 11 ، الحديث 4 ؛ سنن أبي داود 2 : 128 / 2873 ؛ السنن الكبرى ، البيهقي 6 : 57 .
8- الصرورة: أي الإصرار على ترك التزويج. [منه قدس سره]
9- المسند ، أحمد بن حنبل 3 : 260 / 2845 ؛ سنن أبي داود 1 : 540 / 1729 ؛ السنن الكبرى ، البيهقي 5 : 164 .
10- الفقيه 4 : 273 / 828 ؛ وسائل الشيعة 16 : 154 ، كتاب الأمر والنهي ، أبواب الأمر والنهي ، الباب 11 ، الحديث 7 .

وقوله رحمهما اللّه : «لا هَجْر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام»(1) .

وقوله رحمهما اللّه : «لا غشّ بين المسلمين»(2) .

هذا كلّه ممّا في الكتاب والسنّة ، ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظماً ونثراً ، لطال المَقال وأدّى إلى الملال ، وفيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب ؛ أعني تركيب «لا» التي لنفي الجنس ، وفي ردّ مَن قال - في إبطال احتمال النهي - : إنّ النفي بمعنى النهي وان كان ليس بعزيز ، إلاّ أ نّه لم يعهد من مثل هذا التركيب(3) .

ثمّ نقل سائر الاحتمالات فقال : والظاهر الراجح عندي بين المعاني الأربعة هو الأوّل ، وهو الذي لا تسبق الأذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلاّ إليه .

ثمّ أيّد ما ذكره بقوله في قضيّة سَمُرة : «إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرَرَ ولا ضرار على مؤمن» وقال : إنّه بمنزلة صغرى وكبرى ، فلو اُريد التحريم كان معناه أ نّك رجل مضارّ ، والمضارّة حرام ، وهو المناسب لتلك الصغرى ، لكن لو اُريد غيره ممّا يقولون صار معناه : أ نّك رجل مضارّ ، والحكم الموجب للضرر منفيّ أو الحكم المجعول منفيّ في صورة الضرر ، ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضاءه .

ثمّ أيّد مدّعاه بقول أئمّة اللغة ومَهَرة أهل اللسان ، كما تقدّم .

ثمّ قال : وليعلم أنّ المدّعى : أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه ، سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً ، أو أ نّه استعمل في معناه الحقيقي ،

ص: 579


1- كنز العمّال 9 : 47 / 24870 ؛ موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 7 : 293 .
2- سنن الدارمي 2 : 248 .
3- كفاية الاُصول : 433 .

وهو النفي ، ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي . . . إلى أن قال : فالمدّعى أنّ الحديث يراد به إفادة النهي ، لا نفي الحكم الضرري ، ولا نفي الحكم المجعول للموضوعات عنها ، ولا يتفاوت في هذا المدّعى أنّ استعمال النفي في النهي بأيّ وجه ، وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي - مقدّمةً للانتقال إلى طلب الترك - أدخلَ في إثبات المدّعى ؛ حيث لا يتّجه حينئذٍ ما يستشكل في المعنى الأوّل من أ نّه تجوّز لا يصار إليه(1) ، انتهت الموارد الحسّاسة من كلامه رحمه الله علیه .

والإنصاف : أنّ في دوران الأمر بين محتملات القوم الترجيح فيما أفاده وبالغ في تحقيقه ، لكن لا يتمّ ما ذكره إلاّ بمساعدة ما ذكرنا من وجوه إبطال محتملات القوم ، وإلاّ فمجرّد كثرة استعمال النفي في النهي لا يوجب ظهوره فيه مع كونه مجازاً ، سواء اُريد منه النهي ، أو النفي وجعل كناية عن النهي ؛ فإنّ ذلك لا يوجب كونه حقيقة ، كما لا يخفى .

ولو كان نظره إلى أنّ كثرة الاستعمال في هذا المعنى صيّرته من المجازات الراجحة التي يحمل عليها اللفظ مع تعذّر المعنى الحقيقي .

ففيه : أنّ استعمال هذا التركيب في هذا المعنى وإن كان شائعاً ، ولكن استعماله في غيره أكثر شيوعاً ، وها أنا أسرد قليلاً من كثير ممّا ورد [فيه ]هذا التركيب من الروايات واُريد غير ما ذكره :

وهو قوله : «لا سهوَ لمن أقرّ على نفسه بسهو»(2) .

ص: 580


1- قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الأصفهاني : 24 - 28 .
2- السرائر 3 : 614 ؛ وسائل الشيعة 8 : 229 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 16 ، الحديث 8 .

وقوله : «لا سهوَ في سهو»(1) .

وقوله : «لا سهوَ في نافلة»(2) .

وقوله : «لا نذر في معصية اللّه»(3) .

وقوله : «لا يمين لمكرَه»(4) .

وقوله : «لا يمين في قطيعة»(5) .

وقوله : «لا يمين في معصية اللّه»(6) .

وقوله : «لا يمين فيما لا يبذل»(7) .

ص: 581


1- الفقيه 1 : 231 / 1028 ؛ وسائل الشيعة 8 : 242 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 24 ، الحديث 8 .
2- الكافي 3 : 360 / 9 ؛ وسائل الشيعة 8 : 242 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 24 ، الحديث 8 .
3- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام : 273 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 91 ، كتاب الأيمان ، أبواب النذر والعهد ، الباب 11 ، الحديث 1 .
4- دعائم الإسلام 2 : 95 / 297 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 51 ، كتاب الأيمان ، الباب 12 ، الحديث 1 .
5- الفقيه 3 : 227 - 228 / 1070 ؛ وسائل الشيعة 23 : 218 ، كتاب الأيمان ، الباب 11 ، الحديث 1 .
6- تهذيب الأحكام 8 : 288 / 1060 ، و311 / 1154 ؛ وسائل الشيعة 23 : 222 ، كتاب الأيمان ، الباب 11 ، الحديث 13 .
7- الجعفريات، ضمن قرب الإسناد : 113 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 42 ، كتاب الأيمان ، الباب 7 ، الحديث 1 .

وقوله : «لا يمين في استكراه ، ولا على سكر ، ولا على معصية»(1) .

وقوله : «لا يمين إلاّ باللّه»(2) .

وقوله : «لا نَذْر فيما لا يملكه ابن آدم»(3) .

وقوله : «لا رضاع بعد فطام»(4) .

وقوله : «لا يُتْمَ بعد احتلام»(5) .

وقوله : «لا طلاق قبل النكاح»(6) .

وقوله : «لا عِتقَ قبل المِلْك»(7) .

وقوله : «لا يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها»(8) .

ص: 582


1- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام : 305 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 45 ، كتاب الأيمان ، الباب 7 ، الحديث 17 .
2- دعائم الإسلام 2 : 521 / 1860 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 66 ، كتاب الأيمان ، الباب 24 ، الحديث 11 .
3- روض الجنان وروح الجنان 5 : 243 ؛ مستدرك الوسائل 16 : 83 ، كتاب الأيمان ، أبواب النذر والعهد ، الباب 1 ، الحديث 11 ؛ سنن ابن ماجة 1 : 686 / 2124 .
4- الفقيه 3 : 227 / 1070 ؛ وسائل الشيعة 23 : 218 ، كتاب الأيمان ، الباب 11 ، الحديث 1 .
5- نفس المصدر .
6- نفس المصدر .
7- نفس المصدر .
8- نفس المصدر .

وقوله : «لا نكاح للعبد ولا طلاق إلاّ بإذن مولاه»(1) .

وقوله : «لا طلاق إلاّ على طُهر»(2) .

وقوله : «لا طلاق إلاّ بخمس: شهادة شاهدين . . .» إلى آخره(3) .

وقوله : «لا طلاق فيما لا تملك ، ولا عتق فيما لا تملك ، ولا بيع فيما لا تملك»(4) .

وقوله : «. . . لا طلاق السكران الذي لا يعقل»(5) .

وقوله : «لا ظِهار إلاّ في طهر»(6) .

وقوله : «لا طلاق إلاّ ما اُريد به الطلاق ، ولا ظِهار إلاّ ما اُريد به الظهار»(7) .

ص: 583


1- دعائم الإسلام 2 : 299 / 1125 ؛ مستدرك الوسائل 15 : 314 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ، الباب 33 ، الحديث 1 .
2- الكافي 6 : 62 / 3 ؛ وسائل الشيعة 22 : 24 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشروطه ، الباب 9 ، الحديث 3 .
3- مناقب آل أبي طالب 4 : 383 ؛ مستدرك الوسائل 15 : 291 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشروطه ، الباب 11 ، الحديث 5 .
4- عوالي اللآلي 1 : 233 / 136 ؛ مستدرك الوسائل 15 : 293 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ، الباب 12 ، الحديث 5 .
5- دعائم الإسلام 2 : 268/ 1010 ؛ مستدرك الوسائل 15 : 307 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشروطه ، الباب 28 ، الحديث 2 .
6- دعائم الإسلام 2 : 276 / 1043 ؛ مستدرك الوسائل 15 : 390 ، كتاب الظهار ، الباب 2 ، الحديث 4 .
7- الكافي 6 : 153 / 2 ؛ وسائل الشيعة 22 : 308 ، كتاب الظهار ، الباب 3 ، الحديث 1 .

وقوله : «لا إيلاء حتّى يدخل بها»(1) ، . . . إلى غير ذلك من الموارد التي يطّلع عليها المتتبّع .

والمقصود من الإطالة إثبات أنّ هذا التركيب وإن كان استعماله وإرادة النهي به - بأيّ معنى كان - ليس بعزيز ، لكن شيوعه ليس [إلى] حدٍّ يكون ظاهراً فيه ابتداءً أو مع تعذّر الحقيقة ولو فرض المناقشة في بعض الأمثلة المتقدّمة .

لكن بعد الإشكالات الواردة على الاحتمالين الآخرين لو دار الأمر بين الاحتمالات الثلاثة يكون هذا الاحتمال أرجحها .

فصل : حول المذهب المختار في معنى الرواية

اعلم: أنّ هاهنا احتمالاً آخر قد أشرنا إليه(2) والآن نرجع إلى توضيحه وتشييده ، ربما كان أقرب الاحتمالات بملاحظة شأن صدور الرواية من طرقنا ، وبملاحظة لفظها الوارد من طرق الناس ، ولا بدّ لبيانه من ذكر مقدّمات :

الاُولى : أنّ لرسول اللّه رحمهما اللّه في الاُمّة شؤوناً :

أحدها : النبوّة والرسالة ؛ أي تبليغ الأحكام الإلهية من الأحكام الوضعية والتكليفية حتّى أرش الخدش .

وثانيها : مقام السلطنة والرئاسة والسياسة ؛ لأ نّه رحمهما اللّه سلطان من قبل

ص: 584


1- الكافي 6 : 134 / 4 ؛ وسائل الشيعة 22 : 345 ، كتاب الإيلاء والكفّارات ، الباب 6 ، الحديث 3 .
2- تقدّم في الصفحة 50 .

اللّه تعالى ، والاُمّة رعيّته ، وهو سائس البلاد ورئيس العباد ، وهذا المقام غير مقام الرسالة والتبليغ ، فإنّه بما أ نّه مبلّغ ورسول من اللّه ليس له أمر ولا نهي ، ولو أمرَ أو نهى في أحكام اللّه تعالى لا يكون ذلك إلاّ إرشاداً إلى أمر اللّه ونهيه ، ولو خالف المكلّف لم يكن مخالفته مخالفة رسول اللّه ، بل مخالفة اللّه تعالى ؛ لأنّ رسول اللّه رحمهما اللّه ليس بالنسبة إلى أوامر اللّه ونواهيه ذا أمر ونهي ، بل هو مبلّغ ورسول ومخبر عنه تعالى ، كما أنّ أوامر الأئمّة علیهم السلام ونواهيهم في أحكام اللّه كذلك ، وليست أوامر النبي والأئمّة - عليه وعليهم الصلاة والسلام - من هذه الجهة إلاّ كأوامر الفقهاء مقلّديهم ، فقول الفقيه لمقلّده : اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه ، كقول النبي والأئمّة من حيث إنّه إرشاد إلى الحكم الإلهي ، وليس مخالفة هذا الأمر إلاّ مخالفة اللّه ، لا مخالفة الرسول رحمهما اللّه والأئمّة علیهم السلام والفقيه .

وأمّا إذا أمرَ رسول اللّه أو نهى بما أ نّه سلطان وسائس يجب إطاعة أمره بما أ نّه أمرُه ، فلو أمرَ سريّةً أن يذهبوا إلى قطر من الأقطار تجب طاعته عليهم بما أ نّه سلطان وحاكم ، فإنّ أوامره من هذه الجهة كأوامر اللّه واجبة الإطاعة ، وليس مثل هذه الأوامر الصادرة عنه أو عن الأئمّة إرشاداً إلى حكم اللّه ، بل أوامر مستقلّة منهم تجب طاعتها ، وقولُه تعالى : )أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ((1) ناظر إلى تلك الأوامر والنواهي الصادرة عن الرسول واُولي الأمر ، بما أ نّهم سلاطين وأولياء على الناس ، وبما أ نّهم ساسة العباد ، قال تعالى : )وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلاَ مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه ُ ورَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ

ص: 585


1- النساء (4) : 59 .

وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ((1) .

ثالثها : مقام القضاء والحكومة الشرعية ، وذلك عند تنازع الناس في حقّ أو مال ، فإذا رفع الأمر إليه وقضى بميزان القضاء يكون حكمه نافذاً لا يجوز التخلّف عنه ، لا بما أ نّه رئيس وسلطان ، بل بما أ نّه قاضٍ وحاكم شرعي ، وقد يجعل السلطانُ الإمارة لشخص فينصبه لها ، والقضاء لآخر ، فيجب على الناس إطاعة الأمير في إمارته ، لا في قضائه ، وإطاعة القاضي في قضائه ، لا في أوامره ، وقد يجعل كلا المقامين لشخص أو لأشخاص .

وبالجملة : إنّ لرسول اللّه - مضافاً إلى المقامين الأوّلين - مقام فصل الخصومة

والقضاء بين الناس . قال تعالى : )فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ((2) .

الثانية : كلّ ما ورد من رسول اللّه وأمير المؤمنين بلفظ «قضى» أو «حكم» أو «أمر» وأمثالها ليس المراد منه بيان الحكم الشرعي ، ولو اُريد منه ذلك لا يكون إلاّ مجازاً أو إرشاداً إلى حكم اللّه ؛ فإنّ الظاهر من تلك الألفاظ : هو أ نّه قضى أو أمر أو حكم من حيث إنّه سلطان وأمير ، أو من حيث إنّه قاضٍ وحاكم شرعي ، لا من حيث إنّه مبلّغ للحرام والحلال ؛ لما عرفت [من] أنّ الأحكام الإلهية ليست أحكام رسول اللّه ، وأ نّه رحمهما اللّه لا يكون ذا أمرٍ ونهي وحكم وقضاء بالنسبة إليها حقيقة ، بل هو مبيّن ومبلّغ .

ص: 586


1- الأحزاب (33) : 36 .
2- النساء (4) : 65 .

وأمّا بالنسبة إلى الأحكام الصادرة عنه في مقام القضاء أو في مقام السلطنة والرئاسة ، فيكون قاضياً وحاكماً وآمراً وناهياً حقيقة ، وإن كان فرق بين هذين المقامين .

وما ذكرنا - مضافاً إلى كونه موافقاً للتحقيق والظهور اللفظي - يتّضح بالتتبّع والتدبّر في موارد استعمال تلك الكلمات في الروايات الناقلة لقضايا رسول اللّه وأمير المؤمنين وأوامرهم السلطانية .

ولذا قلّما ترى ورود تلك التعبيرات بالنسبة إلى سائر الأئمّة علیهم السلام ؛ حيث لم تكن لهم الرئاسة والسلطنة الظاهرية ، ولا القضاء والحكم بحسب الظاهر وإن اُطلق نادراً يكون باعتبار كونهم حكّاماً وقضاة بحسب الواقع .

وربما يقال : أمر رسول اللّه رحمهما اللّه أو أحد الأئمّة علیهم السلام بكذا في الأحكام الإلهية ، فيكون الحكم أو الأمر إرشاداً إلى حكم اللّه تعالى ، والمدّعى أنّ الظاهر من «أمر فلان بكذا ، أو قضى بكذا» هو الأمر المولوي والقضاء والحكومة ، لا الإرشاد إلى أمر آخر أو حكم إلهي .

الثالثة : قد يعبّر في مقام الأوامر الصادرة عنه رحمهما اللّه أو عن أمير المؤمنين علیه السلام - بما أ نّهما السلطان والحاكم - بغير الألفاظ المتقدّمة ، فيقال : «قال رسول اللّه» أو «قال أمير المؤمنين» لكن قرينة الحال والمقام تقتضى الحمل على الأمر المولوي أو القضاء وفصل الخصومة .

فلو ورد : أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قال لفلان : أنت رئيس الجيش ، فاذهب إلى كذا ، يكون بقرينة المقام ظاهراً في أنّ هذا الأمر صدر مولوياً من حيث إنّه سلطان ، ولو ورد : أنّ رجلين تخاصما عنده في كذا ، وأقام أحدهما البيّنة ، فقال رحمهما اللّه : إنّ

ص: 587

المال لصاحب البيّنة ، يكون ظاهراً بحسب المقام في أ نّه قضى بذلك ، ويكون قوله ذلك هو القضاء بالحمل الشائع .

وبالجملة : الألفاظ المتقدّمة مع قطع النظر عن القرائن ظاهرة في الحكم والأمر منه ، ويمكن أن يقال : إنّ قوله : «أمر بكذا» ظاهر في الأمر المولوي السلطاني ، و«قضى بكذا» ظاهر في فصل الخصومة ، و«حكم» مردّد بينهما يحتاج إلى قرينة معيّنة ، وأمّا ما هو من قبيل «قال» فدلالته على القضاء أو الأمر المولوي تحتاج إلى قرينة حال أو مقال . نعم ، صيغ الأمر في حدّ نفسها ظاهرة في الأمر المولوي ، وكونها إرشادية يحتاج إلى القرينة .

الرابعة : لا بأس لتأييد ما ذكرنا بنقل بعض الروايات الواردة بالألفاظ المتقدّمة وبعض ما يكون بقرينة المقام دالاًّ على أنّ الأمر الصادر أمر مولوي سلطاني أو حكم وقضاء ، وإن لم يرد بلفظ «قضى» أو «أمَرَ» أو «حكَمَ» فنقول : أمّا ما ورد بلفظ «قضى» و«حكم» فأكثر من أن يحصى ، فمن ذلك :

ما في «الكافي» عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «قال رسول اللّه رحمهما اللّه : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) .

وعن «تفسير الإمام» عن أمير المؤمنين علیه السلام قال : «كان رسول اللّه رحمهما اللّه يحكم بين الناس بالبيّنات والأيمان . . .»(2) الخبر .

ص: 588


1- الكافي 7 : 414 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 2 ، الحديث 1 .
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 673 / 375 ؛ وسائل الشيعة 27 : 233 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 2 ، الحديث 3 .

وعن «الكافي» عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «كان رسول اللّه رحمهما اللّه يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ»(1) .

وعنه حدّثني أبي : «أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قد قضى بشاهد ويمين»(2) إلى غير ذلك .

وقضايا أميرالمؤمنين مشهورة(3) ، وفي بعض الروايات : «أجاز رسول اللّه رحمهما اللّه شهادة شاهد مع يمين طالب الحقّ»(4) .

وعن أبي جعفر علیه السلام قال : «لو كان الأمر إلينا أجزْنا شهادة الرجل الواحد إذا عُلم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأمّا ما كان من حقوق اللّه - عزّ وجلّ - أو رؤية الهلال ، فلا»(5) .

هذه الرواية تدلّ على أنّ هذا التنفيذ وهذه الإجازة هو تنفيذ وليّ الأمر والسلطان .

ص: 589


1- الكافي 7 : 385 / 4 ؛ وسائل الشيعة 27 : 264 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14 ، الحديث 2 .
2- الكافي 7 : 385 / 2 ؛ وسائل الشيعة 27 : 265 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14 ، الحديث 4 .
3- راجع وسائل الشيعة 27 : 285 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 21 ، الحديث 5 و10 .
4- تهذيب الأحكام 6 : 273 / 744 ؛ وسائل الشيعة 27 : 267 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14 ، الحديث 9 .
5- تهذيب الأحكام 6 : 273 / 746 ؛ وسائل الشيعة 27 : 268 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14 ، الحديث 12 .

وممّا ورد من قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه بما أ نّه سلطان وسائس :

ما في «الكافي» عن عقبة بن خالد : «أنّ النبي رحمهما اللّه قضى في هوائر النخل(1) أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الآخر ، فيختلفون في حقوق ذلك ، فقضى فيها أنّ لكلّ نخلة من اُولئك من الأرض مبلغَ جريدة من جرائدها حين بعدها»(2) .

وعن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «قضى النبي رحمهما اللّه في رجل باع نخلاً ، واستثنى عليه نخلة ، فقضى له رسول اللّه رحمهما اللّه بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها»(3) .

وعن أبي عبداللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : «قضى رسول اللّه رحمهما اللّه في سيل وادي مهزور للزرع إلى الشراك وللنخل إلى الكعب ، ثمّ يرسل الماء إلى أسفل من ذلك» . قال ابن أبي عمير : «ومهزور موضع وادٍ»(4) . . . إلى غيرها من الروايات .

وأمّا ما ورد بلفظ «قال» أو «يقول» وأمثال ذلك ، وكان المستفاد منه هو القضاء أو الأمر المولوي السلطاني ، فكثير - أيضاً - يطّلع عليه المتتبّع ، من ذلك :

ص: 590


1- هوائر النخل : مسقط ثمرتها . [منه قدس سره]
2- الكافي 5 : 295 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 424 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 10 ، الحديث 1 .
3- الكافي 5 : 295 / 1 ؛ وسائل الشيعة 18 : 91 ، كتاب التجارة ، أبواب أحكام العقود ، الباب 30 ، الحديث 2 .
4- الكافي 5 : 278 / 3 ؛ وسائل الشيعة 25 : 420 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 8 ، الحديث 1 .

رواية عقبة بن خالد المتقدّمة في المقدّمة برواية الصدوق الراجعة إلى شقّ القَناة بجنب قَناة الآخر ، وفيها «قضى رسول اللّه بذلك ، وقال : إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيل»(1) .

ومنه ما عن الشيخ بإسناده عن أبي جعفر علیه السلام عن أبيه عن آبائه : «أنّ النبي رحمهما اللّه قال : اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم»(2) .

والظاهر أنّ هذا أمر سلطاني متوجّه [إلى] الجيوش .

ومنه ما عن «الكافي» بإسناده عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «كان رسول اللّه إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم ، فأجلسهم بين يديه ، ثمّ يقول : سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه رحمهما اللّه لا تغلّوا ، ولا تُمثّلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ

أن تضطرّوا إليها»(3) .

وعنه ، عن عبد

الرحمان(4) بن جُندَب ، عن أبيه : أنّ أمير المؤمنين علیه السلام

كان يأمر في كلّ موطن لقينا فيه عدوّنا ، فيقول : «لا تقتلوا القوم حتّى يبدؤوكم ، فإنّكم - بحمد اللّه - على حجّة ، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم

ص: 591


1- الفقيه 3 : 58 / 205 ؛ وسائل الشيعة 25 : 432 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 16 ، الحديث 1 .
2- تهذيب الأحكام 6 : 142 / 241 ؛ وسائل الشيعة 15 : 65 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب 18 ، الحديث 2 .
3- الكافي 5 : 27/ 1 ؛ وسائل الشيعة 15 : 58 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب 15 ، الحديث 2 .
4- جاء في الأصل «إبراهيم» بدل «عبد الرحمان» ، وما أثبتناه من المصدر .

حجّة اُخرى لكم ، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مُدبراً ، ولا تُجهِزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تُمثّلوا بقتيل»(1) .

نتيجة ما أصّلناه

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ حديث نفي الضرر والضرار قد نقل عن «مسند أحمد بن حنبل» برواية عبادة بن الصامت في ضمن قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه ولفظه : «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار»(2) وقد اتّضح أنّ لفظة «قضى» أو «حكم» أو «أمر» ظاهرة في كون المقضيّ به من أحكام رسول اللّه بما أ نّه سلطان أو قاض ؛ وليس من قبيل تبليغ أحكام اللّه وكشف مراده تعالى . والمقام ليس من قبيل القضاء وفصل الخصومة ، كما هو واضح ، فيكون قوله : «قضى أن لا ضرر ولا ضرار» ظاهراً في أ نّه من أحكامه بما أ نّه سلطان ، وأ نّه نهى عن الضرر والضرار بما أ نّه سائس الاُمّة ورئيس الملّة وسلطانهم وأميرهم ؛ فيكون مفاده أ نّه حكم رسول اللّه وأمر بأن لا يضرّ أحد أحداً ، ولا يجعله في ضيق وحرج ومشقّة ، فيجب على الاُمّة طاعة هذا النهي المولوي السلطاني بما أ نّها طاعة السلطان المفترض الطاعة .

فالحمل على النهي الإلهي وكونه نهياً من قِبل اللّه وإنّما أخبر به رسول اللّه رحمهما اللّه كما اختاره العلاّمة شيخ الشريعة(3) تبعاً لشُرّاح الحديث ، خلاف الظاهر ،

ص: 592


1- الكافي 5 : 38 / 3 ؛ وسائل الشيعة 15 : 92 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب 33 ، الحديث 1 .
2- المسند ، أحمد بن حنبل 16 : 421 / 22677 .
3- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 18 و24 - 27 .

مع أنّ شُرّاح الحديث - كابن الأثير(1) والسيوطي(2) وغيرهما(3) - لم يظهر من عبارتهم المنقولة إلاّ كون «لا ضرر» بمعنى لا يضرّ أخاه ، وأمّا كون النهي من قِبل اللّه ، أو من قِبل رسول اللّه بما أ نّه سلطان وحاكم ، فلم يظهر منهم اختيار فيه ، ولعلّ المتبحّر المتقدّم ذكره أيضاً لم يكن بصدد ذلك ، بل مقصوده أيضاً كون «لا ضرر» نهياً في مقابل الأقوال الاُخر وإن كان المتبادر منه هو كون النهي إلهياً .

وبالجملة : كون النهي إلهياً خلاف ظاهر قوله : «قضى بذلك» ، كما أنّ نفي الحكم الشرعي الضرري بقوله : «قضى أ نّه لا ضرر ولا ضِرار» خلاف الظاهر ؛ لعدم التناسب بين قضائه وبين نفي الحكم الضرري .

هذا حال ما ورد من طرقهم .

وأمّا ما ثبت وروده من طرقنا فهو قضيّة سَمُرة بن جُندَب ، وورود الحديث في ذيلها من غير تصديره بلفظ «قضى» أو «أمر» أو «حكم» ، بل ورد بلفظ «قال»(4) لكنّ «التأمّل» في صدر القضيّة وذيلها وشأن صدور الحديث ممّا يكاد أن يشرف بالفقيه على القطع بأنّ «لا ضرر ولا ضرار» حكم صادر منه رحمهما اللّه بنحو الآمرية والحاكمية بما أ نّه سلطان ودافع للظلم عن الرعية ؛ فإنّ الأنصاري لمّا ظُلم ووَقع في الحرج والمضيقة بورود سَمُرة بن جُندَب - هذا الفاسق الفاجر -

ص: 593


1- النهاية ، ابن الأثير 3 : 81 .
2- الدرّ النثير 3 : 17 .
3- اُنظر مجمع البحرين 3 : 373 .
4- تقدّم تخريجها في أوّل هذه الرسالة مفصّلاً ، فراجع .

على أهله من غير استئذان منه ، وفي حالة يكره وروده عليه وهو فيها ، شكا إلى رسول اللّه رحمهما اللّه بما أ نّه سلطان ورئيس على الملّة ؛ حتّى يدفع الظلم عنه ، فأرسل رسول اللّه إليه فأحضره ، وكلّمه بما هو في الأخبار ، فلمّا تأبّى حكم بالقلع ودفع الفساد ، وحكم بأ نّه لا يضرّ أحد أخاه في حمى سلطاني وحوزة حكومتي ، فليس المقام بيان حكم اللّه ، وأنّ الأحكام الواقعية ممّا لا ضرر فيها ، وأ نّه - تعالى - لم يشرّع حكماً ضررياً ، أو أخبر أ نّه - تعالى - نهى عن الضرر ؛ فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن المقام ، فليس فيهما شبهة حكمية ولا موضوعية ، بل لم يكن شيء إلاّ تعدّي ظالم على مظلوم وتخلّف طاغٍ عن حكم السلطان بعد أمره بالاستئذان ، فلمّا تخلّف حكَمَ بقلع الشجرة ، وأمر بأ نّه لا ضرَرَ ولا ضِرار - أي الرعية ممنوعون عن الضرر والضرار - دفاعاً عن المظلوم وسياسة لحوزة سلطانه وحمى حكومته .

فيكون ما في أحاديثنا موافقاً للمنقول عن العامّة بطريق عبادة بن الصامت الذي صرّحوا بإتقانه وضبطه ، وأ نّه من أجلاّء الشيعة :

وعن الكشي ، عن الفضل بن شاذان : أ نّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام كحذيفة ، وخزيمة بن ثابت ، وابن التيِّهان ، وجابر بن عبد اللّه ، وأبي سعيد الخُدري(1) .

وهو ممّن شهِد العَقَبة الاُولى والثانية ، وشهِد بدراً واُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللّه رحمهما اللّه (2) .

ص: 594


1- اختيار معرفة الرجال : 38 / 78 .
2- الفوائد الرجالية ، بحرالعلوم 3 : 56 ؛ تنقيح المقال 2 : 125 / السطر 13 (أبواب العين) .

ويؤيّد إتقانه وضبطه : أنّ القضايا التي نقلها عن رسول اللّه - على ما في «مسند أحمد»(1) - وجمعها في حديث واحد ، تكون غالباً بألفاظها أو قريباً منها في أحاديثنا متفرّقةً في الموارد المحتاج إليها ، منقولةً عن الصادقين علیهما السلام .

المختار وآراء الأعلام

وأنت إذا تأمّلتَ فيما ذكرناه من المقدّمات ، وتدبّرت الأخبار الحاكية لقضيّة الأنصاري وسَمُرة بن جُنْدَب ، وراجعت الإشكالات الواردة على احتمالات القوم ، لا أظنّك أن تشكّ في ترجيح ما ذكرنا :

أمّا على احتمال الشيخ قدّس سرّه بالوجوه المتقدّمة(2) فواضح ؛ لما ذكرنا من الإشكالات الغير المنحلّة(3) مضافاً إلى عدم التناسب بين صدر القضيّة وذيلها على هذا الاحتمال ، وعدم تناسب تعليل قلع الشجرة بقوله : «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» ، ومخالفته لكون هذه القضيّة - أي لا ضرر ولا ضرار - من قضايا رسول اللّه رحمهما اللّه ، بل قيل : «إنّها من أشهر قضاياه»(4) وعدم معهودية استعمال هذا التركيب وإرادة هذا المعنى ، كما يظهر من التدبّر فيما تقدّم من موارد استعماله وفي غيره ممّا هو متفرّق في الأخبار والآثار وكلمات الفصحاء ؛ فإنّ غالبها يكون من قبيل نفي الأثر والحكم بنفي الموضوع ، وكثير

ص: 595


1- المسند ، أحمد بن حنبل 16 : 421 / 22677 .
2- تقدّم في الصفحة 39 .
3- تقدّم في الصفحة 51 .
4- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 370 .

منها من قبيل النهي بلسان النفي ، وأمّا نفي عنوان وإرادة نفي الحكم الذي يكون مُنشأً لهذا العنوان ، لا بنحو السببية والعلّية ، بل بنحو من الدخالة في بعث المكلّف نحو الموضوع الذي هو سبب للضرر ، فلم أجد استعمال هذا التركيب فيه .

وقد عرفت(1) أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الذي يكون هذا التركيب شائع الاستعمال فيه ، ممّا لا وجه له في حديث «لا ضرر» ؛ فإنّ الأحكام الشرعية ليست من آثار الضرر وأحكامه ، ولا الضرر موضوعها .

نعم ، لو كان الحكم الضرري في الإسلام نادراً جدّاً - بحيث ينزّل منزلة المعدوم - يمكن نفي الضرر وإرادة نفي الحكم الضرري بنحو تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لكنّه - أيضاً - يحتاج إلى دعويين : إحداهما دعوى كون المسبّب عين السبب ، وثانيتهما كون النادر معدوماً .

وإن شئت قلت : لا بدّ في هذا المجاز من استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب في السبب على المشهور ، وبعد هذا المعنى المجازي لا بدّ من تنزيل الموجود منزلة المعدوم .

ولا يخفى ما في هذا المجاز الوحشي الغريب عن ارتكاز العرف والعقلاء ، مضافاً إلى عدم معهوديته أصلاً ، فلا يمكن أن يصار إليه .

وأ مّا إرادة النهي من النفي - كما عن ابن الأثير ، والسيوطي ، وغيرهما من مَهَرة أهل اللسان(2) - فهو ليس ببعيد ، بل الظاهر منه ذلك ، والاختلاف بين ما

ص: 596


1- تقدّم في الصفحة 55 .
2- تقدّم تخريجها في الصفحة 75 .

رجّحناه وبين ما ذكره هؤلاء إنّما هو في كون النهي من نواهي اللّه - تعالى - كالنهي عن شرب الخمر والقمار ، فطبّق رسول اللّه رحمهما اللّه الكبرى الكلّية على المورد ، واتّكل في ردع سَمُرة بن جُندَب فقط أو في أمره بقلع الشجرة - أيضاً - على قوله رحمهما اللّه : «لا ضرر ولا ضرار» كما يظهر من شيخ الشريعة(1) ، ولعلّه الظاهر - أيضاً - منهم ، أو أنّ النهي مولوي صدر منه رحمهما اللّه بما أ نّه سلطان في الرعية وسائس في الملّة كما هو أرجح عندي ، وعرفت وجهه مستقصىً ، فإن رجح ذلك في نظرك فالشكر للّه تعالى وله المنّة ، وإلاّ فاجعله أحد المحتملات في قبال سائرها ، ولعلّ اللّه يُحدث بعد ذلك أمراً .

إشكال ودفع

لعلّك تقول : إنّ الظاهر من صحيحة زرارة : أ نّه رحمهما اللّه اتّكل في حكمه بقلع الشجرة والرمي بها إلى سَمُرة على قاعدة شرعية وحكم إلهي ؛ حيث قال للأنصاري : «اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه ؛ فإنّه لا ضرَر ولا ضرار»(2) فإنّ ظاهر التعليل أ نّه اتّكل على القاعدة الشرعية والحكم الإلهي ، لا [على ]حكم نفسه ؛ فإنّ تعليل عمله بحكم نفسه غير مناسب كما لا يخفى ، فلا بدّ أن يحمل «لا ضرر» إمّا على النهي الإلهي ، أو نفي التشريع الضرري .

لكنّك غفلت عن ممنوعية هذا الظهور ، وأنّ الظاهر خلافه ؛ لأنّ المقام لمّا كان

ص: 597


1- قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الأصفهاني : 26 .
2- الكافي 5 : 292 / 2 ؛ وسائل الشيعة 25 : 429 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 3 .

مقام عرض [أحد] الرعية شكواه إلى السلطان ، لا السؤال عن الحكم الشرعي ، كان قوله : «فاقلعها وارمِ بها إليه» ، حكماً سياسياً تأديبياً صادراً منه بما أ نّه سلطان ، علّل بالحكم السياسي الكلّي ؛ أي أنّ الضرر والضرار لا بدّ وأن لا يكون في حمى سلطاني وحوزة حكومتي ، ولمّا كان سَمُرة مُضارّاً ، ومتخلّفاً عن حكم السلطان ، فاقلع نخلته وارمِ بها إليه ، وهذا أنسب من تعليل القلع بالنهي الشرعي أو رفع الحكم الضرري ؛ لعدم التناسب حينئذٍ بين العلّة والمعلول أبداً ، فهذا التعليل ممّا يؤيّد ما ذكرنا ، ويُبعد محتملات القوم ؛ فإنّ تعليل حكمه بالقلع بأنّ الشارع لم يشرّع حكماً ضررياً ، أو أ نّه - تعالى - نهى عن الضرر والضرار ، مع أنّ نفس القلع ضرر ، والحكم به ضرري ، تعليل باطل ، يحتاج إلى التأويل ، ونرجع إلى توضيح ذلك عن قريب(1) .

وممّا يؤيّد ما ذكرنا : قوله - في رواية ابن مسكان عن زرارة - : «إنّك رجل مُضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(2) فإنّ التقييد بقوله : «على مؤمن» ممّا يوجب الظهور في النهي ، وهي وإن كانت مرسلة ، لكن ملاحظة مضمونها وموافقتها لموثّقة زرارة ربما توجب الوثوق بصدورها ، ولا أقلّ من صلاحيتها للتأييد لما قلنا في مقابل قول الشيخ وبعض الفحول ، وبضميمة قرينة الصدر والمورد يؤكّد كون النهي مولوياً سلطانياً .

بقي التنبيه على اُمور :

ص: 598


1- يأتي في الصفحة 81 .
2- الكافي 5 : 294 / 8 ؛ وسائل الشيعة 25 : 429 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 4 .

تنبيهات

التنبيه الأوّل في الإشكال على القاعدة

قال الشيخ الأنصاري في «رسالة لا ضرر» : في هذه القصّة إشكال من حيث [حكم] النبي رحمهما اللّه بقلع العَذق ، مع أنّ القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك ، لكن لا يُخلّ بالاستدلال(1) .

أقول : أمّا عدم إخلاله بالاستدلال ، فهو كما ترى .

وأمّا الإشكال فلا يرد على ما ذكرنا ؛ ضرورة أنّ المورد مندرج تحت الحكم السلطاني الكلّي ، فيكون الأمر بالقلع لقطع مادّة الفساد المتوقّع في مثل المقام .

وأمّا على غيره فالإشكال وارد ؛ لأنّ عدم تشريع الحكم الضرري ونهي اللّه - تعالى - عن الإضرار بالغير ، لا يقتضيان الإضرار بالغير بقطع شجرته .

ويؤكّد الإشكال ظهور موثّقة زرارة في كون المستند للقلع هو قوله : «لا ضرر ولا ضِرار» ؛ لوقوعه تعليلاً لقوله : «فاقلع الشجرة» ، ولهذا وقعوا

ص: 599


1- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 111 .

[عند] الجواب عنه في حَيْصَ بَيْصَ .

وأحسن الأجوبة ما يقال : إنّ أمره بالقلع يكون لحكومته وسلطنته الإلهية(1) ، مع أ نّه مخالف للتعليل في الموثّقة ، فيبقى الإشكال بحاله .

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال

ولقد تصدّى للجواب عنه بعض أعاظم العصر بما حاصله :

أ نّه أوّلاً : أنّ «لا ضرر» ليس علة للقلع ، بل علة لوجوب الاستئذان ، وإنّما أمر بالقلع لسقوط احترام ماله بإصراره على الإضرار ، فأمر به من باب الولاية العامّة حسماً للفساد .

وثانياً : لو سلّمنا علّيته للقلع إلاّ أ نّه لا ينافي القواعد ؛ لحكومة «لا ضرر»

على قاعدة السلطنة التي من فروعها احترام مال المسلم الذي هو عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره من التصرّف في ماله ، وقاعدة السلطنة وإن كانت مركّبة من أمر وجودي هو كون المالك مسلّطاً على التصرّف في ماله ، وأمر سلبي هو سلطنته على منع غيره منه ، والضرر يرد على الأنصاري من تصرّف سَمُرة في ماله بما يشاء ، لا من منع الأنصاري عن قلع عَذقه ، ولا بدّ أن يرفع بدليل الضرر الجزء الأخير من علّة الضرر ، وليس إلاّ دخوله بلا استئذان ، لا كون ماله محترماً ، لكن هذا التركيب انحلالي عقلي ، لا أ نّها مركّبة من حكمين ، فلا معنى لحكومة «لا ضرر» على أحد الجزءين ، والدخول بلا استئذان وإن كان هو الجزء الأخير من العلّة ، لكنّه متفرّع على إبقاء النخلة ، فالضرر نشأ من علّة

ص: 600


1- بحر الفوائد، القسم الثاني : 244 / السطر 12 .

العلل ، فينفى حقّ الإبقاء ؛ لأنّ سَمُرة لم يكن مالكاً إلاّ للنخلة ، وله حقّ إبقائها في البستان ، وهذا علّة لجواز الدخول بلا استئذان ، فلو كان المعلول مستلزماً للضرر ، فدليل الضرر رافع لعلّته ؛ لأنّ الضرر في الحقيقة نشأ من استحقاق سَمُرة لإبقاء عَذقه ، فقاعدة الضرر ترفع هذا الاستحقاق ، والنقض برفع دليل الضرر اللزوم في العقد الغبني دون الصحّة ، غير وارد ؛ لأنّ الصحّة واللزوم حكمان مستقلاّن ملاكاً ودليلاً ، ولا ربط بينهما ولا علّية بينهما ، وأ مّا جواز الدخول بلا استئذان مع كونه مترتّباً على استحقاق إبقاء العَذق يكون من آثاره ، فالضرر معلول الاستحقاق ، كما أنّ الضرر في الوضوء معلول الإيجاب الشرعي وإن نشأ من اختيار المكلّف(1) ، انتهى ملخّصاً .

مناقشة الجواب المتقدّم

وفيه مواقع للنظر:

الأوّل : أنّ الظاهر من موثّقة زرارة هو كون «لا ضرر» علّة للأمر بالقلع ، وهذا لفظها ، قال - بعد إحضار سَمُرة وإخباره بقول الأنصاري وما شكا - : «إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه ، حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عَذق يُمدّ لك في الجنّة ، فأبى أن يقبل .

فقال رسول اللّه رحمهما اللّه للأنصاري : اذهب فاقلعها ، وارمِ بها إليه ؛ فإنّه لا ضرر ولا ضرار» .

وهذا - كما ترى - ظاهر غاية الظهور في كونه علّة للأمر بالقلع ، ولا يجوز

ص: 601


1- منية الطالب، قاعدة لا ضرر 3 : 397 .

حمله على كونه علّة لوجوب الاستئذان ؛ لأنّ وجوبه المستفاد من قوله : «فاستأذن» ، إنّما يكون في ضمن مقاولته رحمهما اللّه سَمُرةَ ، ثمّ بعد ما ساومه بكلام طويل ، أعرض عنه وأقبل إلى الأنصاري ، وقال له مستأنفاً : «اذهب فاقلعها ، وارمِ بها إليه ؛ فإنّه لا ضررَ ولا ضِرار» ، فكيف يمكن أن يكون هذا الكلام المستقلّ مع الأنصاري تعليلاً للوجوب المستفاد من كلام مستقلّ مع سَمُرة مع هذا الفصل الطويل ؟ ! وهل هذا إلاّ خروج عن طريق المحاورة وقانون التكلّم ؟ !

الثاني : أنّ الإصرار على الإضرار بالغير لا يوجب سقوط احترام مال المُضرّ ، فأيّة قاعدة عقلية أو شرعية تقتضي ذلك ؟ ! نعم ، للسلطان أن يأمر بالقلع حسماً لمادّة الفساد ، لكن حمل «لا ضرر» على ما ذكر القوم لا يناسب كونه تعليلاً للأمر بالقلع ، وأمّا بناءً على ما ذكرنا فالمناسبة بين العلّة والمعلول - مع حفظ ظهور الموثّقة - واضحة .

الثالث : أنّ عدّ قاعدة «احترام مال المسلم» من فروع قاعدة السلطنة وتفسير الاحترام بأ نّه عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره من التصرّف في ماله ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، فإنّهما قاعدتان مستقلّتان عند العقلاء وفي الشريعة دليلاً

وملاكاً ؛ فإنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية هي من أحكام المالكية عند العقلاء ؛ فإنّ المالك للشيء مسلّط عليه بأنحاء التسلّط عندهم ، وقد أمضاها الشارع وأنفذها بقوله في النبوي المشهور : «الناس مسلّطون على أموالهم»(1) وقاعدة حرمة المال عبارة عن كونه في حريم المملوكية ومحترماً ، لا يجوز لأحد

ص: 602


1- عوالي اللآلي 1 : 222 / 99 ، و3 : 208 / 49 ؛ بحار الأنوار 2 : 272 / 7 .

التصرّف فيه بلا إذن من مالكه ، ومع الإتلاف كان ضامناً .

وهذا غير سلطنة المالك على ماله وجواز دفع الغير عن التصرّف فيه ، وهذه - أيضاً - قاعدة عقلائية أمضاها الشارع ، والدليل عليها كثير :

منه قوله رحمهما اللّه في حجّة الوداع : «فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، إلى يوم يلقونه»(1) .

وكمرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه رحمهما اللّه : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه من معصية اللّه ، وحرمة ماله كحرمة دمه»(2) .

وفي موثّقة أبي بصير عن أبي جعفر نحوها(3) .

وما عن صاحب الزمان - روحي له الفداء - : «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(4) . . . إلى غير ذلك .

فعدُّ أحدهما من فروع الآخر في غير محلّه ، وممّا ذكرنا يعلم أنّ تفسير احترام مال المسلم بما ذكر - أيضاً - في غير محلّه ، فحكومة دليل نفي الضرر على قاعدة السلطنة غير مربوطة بقاعدة حرمة مال المسلم .

ص: 603


1- دعائم الإسلام 2 : 59 / 160 ، و : 484 / 1729 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 87 ، كتاب الغصب ، الباب 1 ، الحديث 1 .
2- الفقيه 4 : 300 / 909 ؛ وسائل الشيعة 12 : 297 ، كتاب الحجّ ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 158 ، الحديث 3 .
3- الكافي 2 : 359 / 2 ؛ وسائل الشيعة 12 : 297 ، كتاب الحجّ ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 158 ، الحديث 3 .
4- كمال الدين 2 : 521 / 49 ؛ الاحتجاج 2 : 559 / 351 ؛ وسائل الشيعة 9 : 541 ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال ، الباب 3 ، الحديث 7 .

الرابع : أنّ القول - بأنّ قاعدة السلطنة مركّبة من أمر وجودي هو كون المالك مسلّطاً على التصرّف في ماله ، وأمر سلبي هو سلطنته على منع غيره من التصرّف في ماله ، أو انحلالها إلى أمر وجودي وسلبي عقلاً - غريب ؛ فإنّ السلطنة على منع الغير من أنحاء تسلّط المالك على ماله ، والكثرة إنّما هي في المتعلّق ، مع أنّ السلطنة على منع الغير ليست أمراً سلبياً ولو كان متعلّقها - أي منع الغير ودفعه - سلبياً ، والحال أنّ متعلّقها - أيضاً - ليس بسلبي ، كما هو واضح .

الخامس : أ نّه لو سلّم كون القاعدة مركّبة من أمر وجودي هو السلطنة على تصرّفه في ماله بما يشاء ، وأمر سلبي هو السلطنة على منع الغير عن التصرّف فيه ، لكن دخول سَمُرة بلا استئذان في منزل الأنصاري ليس من أنحاء سلطنته على التصرّف في عَذقه ، بل من المقدّمات الوجودية للتصرّف فيه ، ولا يعقل أن تكون القاعدة منحلّة إلى السلطنة على الشيء ومقدّمته الوجودية بما أ نّها مقدّمته .

هذا ، مضافاً إلى أنّ السلطنة على العذق لا توجب السلطنة على مال الأنصاري وجواز الدخول في بيته بلا استئذان منه ، ولو كان الدخول مقدّمة للتصرّف في عذقه ، فلا محالة كان له حقّ الجواز إلى عذقه ما دام موجوداً في بستانه ، ودليل نفي الضرار ينفي السلطنة على دخوله بلا استئذان ، وأ مّا الدخول مع الاستئذان ، وأنحاء التصرّف في عذقه ، وحرمة ماله ، كلّها باقية على حالها من غير دليل حاكم عليها .

ص: 604

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية

بناءً على ما ذهبنا إليه في حديث نفي الضرر لا يكون دليله حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّلية سوى قاعدة السلطنة ؛ فإنّ دليل نفي الضرر ورد لكسر سَورة تلك القاعدة الموجبة للضرر والضرار على الناس ، وهو رحمهما اللّه بأمره الصادر منه - بما أنّه سلطان على الاُمّة ، وبما أنّ حكمه على الأوّلين حكمه على الآخرين - منع الرعية عن الإضرار والضرار ، فدخول سَمُرة بن جُندَب في دار الأنصاري فجأة ، والإشراف على أهله ضرار وإيصال مكروهٍ وحرجٍ [إلى] المؤمن ، فهو ممنوع .

وأ مّا نفي اللزوم في المعاملة الغبنية ، ونفي وجوب الوضوء الضرري ، وأمثالهما ، فأجنبيّ عن مفاد الحديث ، ولا يلزم منه فقدان الدليل في كثير من الفروع المسلّمة الفقهية ، كخيار الغبن ؛ لأ نّه لم تجد - ظاهراً - مورداً يكون الدليل منحصراً به ؛ بحيث يلزم من عدم التمسّك به فقدان الدليل فيه ، وهذا خيار الغبن ، وهو من أوضح موارد النقض لا يكون ثبوته متقوّماً بدليل الضرر ؛ لإمكان دعوى كون خيار الغبن عرفياً عقلائياً ، لا لأجل الشرط الضمني على مساواة الثمن والمثمن ، كما قيل(1) حتّى يكون خيار الغبن من قبيل خيار تخلّف الشرط ؛ فإنّ ذلك ممنوع ، بل لأنّ خيار الغبن بعنوانه عرفي عقلائي ، فإنّ العقلاء يرجع بعضهم إلى بعض في صورة الغبن بعنوان المغبونية ، لا بعنوان تخلّف الشرط ، كما

ص: 605


1- منية الطالب 3 : 107 .

أنّ الرجوع في العيب إنّما يكون بعنوانه ، لا بعنوان تخلّف الشرط الضمني ، كما قيل به أيضاً(1) .

نعم ، حكم العقلاء في باب العيب هو الخيار ؛ أي السلطنة على حلّ العقد ، وأ مّا في الغبن فالظاهر أنّ حكمهم بالخيار معلّق على عدم بذل الغابن التفاوت .

واستفادة أمر زائد على ذلك من دليل الضرر مشكل ، كما اعترف به بعض الأعاظم ، منهم العلاّمة الأنصاري(2) ، ومنهم شيخنا العلاّمة الحائري(3) ، ونقل عن العلاّمة أيضاً ؛ حيث استشكل في «التذكرة» في ثبوت الخيار مع بذل التفاوت(4) ، ويظهر من ابن زهرة في «الغنية»(5) عدم اعتماده على دليل الضرر في الخيار ؛ حيث استدلّ لثبوته بالإجماع ، وقال : ويحتجّ على المخالف بقوله رحمهما اللّه : «لا ضررَ ولا ضِرار» ؛ تأمّل .

ويظهر من «الجواهر» - أيضاً - عدم اعتماده [عليه] في خيار الغبن ، بل اعتمد على الإجماع المحقّق عنده(6) .

نعم استدلّ الشيخ في «الخلاف» لثبوت خيار الغبن بقول النبي : «لا ضررَ ولا ضِرار»(7) ، وهو لا يدلّ على انحصار الدليل به .

ص: 606


1- المكاسب ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18 : 271 .
2- المكاسب ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18 : 162 .
3- الخيارات ((تقريرات المحقّق الحائري)) الأراكي : 181 .
4- تذكرة الفقهاء 11 : 70 - 71 .
5- غنية النزوع 1 : 224 .
6- جواهر الكلام 23 : 41 - 42 .
7- الخلاف 3 : 42 .

وبالجملة : كون دليل الضرر مثبتاً لحكم لولاه لبقي بلا دليل محلّ منع ، مع أنّ بقاء مسألة أو مسائل بلا دليل لا يوجب انعقاد ظهور لدليل الضرر أو أنّ الحكم بخلاف ظاهره ، اللهمّ إلاّ أن يكون المنظور الاستدلال بفهم الفقهاء ، وهو - أيضاً -

غير تامّ .

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير

إنّ مقتضى ما ذكرنا في معنى الحديث هو ممنوعية الضرر والضرار على الناس ، أو على المؤمن ، وأ مّا لزوم تحمّل الضرر عن الغير أو دفعه عنه فأجنبيّ عن مفاده ، فلو توجّه ضرر إلى الغير لا يجب دفعه عنه ، ولا يجب تحمّل الضرر لئلاّ يتوجّه إلى غيره ، فلو توجّه السيل إلى دار الغير لا يجب عليه دفعه ولا توجيهه إلى داره لئلاّ يتضرّر جاره ، ولو توجّه إلى داره يجوز دفعه عنها وإن توجّه بنفسه إلى دار الغير ، ولا يجوز دفعه إلى دار الغير وتوجيهه إليها ؛ لكونه إضراراً عليه . كلّ ذلك واضح ؛ لأنّ الممنوع هو الإضرار بالغير مباشرة أو تسبيباً ، لا تحمّل الضرر عنه أو وجوب الدفع عنه .

وإذا اُكره على الإضرار بالغير ، فهل يجوز له ذلك ، أو لا ؟

مقتضى حديث الرفع الجواز وعدم وجوب التقاعد عنه وتحمّل الضرر من المكرِه : إمّا لحكومة حديث الرفع(1) على دليله بناءً على كونه نهياً

ص: 607


1- الخصال : 417 / 9 ؛ التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .

شرعياً (1) ، بل وبناءً على ما ذكرنا من كونه نهياً سلطانياً (2) لحكومته عليه أو على دليل وجوب اتّباع السلطان ، وهو قوله تعالى : )أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ ((3) .

وإمّا لدعوى انصراف دليل منع الإضرار عن مثل المقام ممّا توجّه الضرر إلى الغير من قبل المُكره - بالكسر - ويكون المُكره - بالفتح - غير ضارّ عرفاً ، كالمتولّي عن الجائر .

لكن يجب أن يعلم أنّ حديث الرفع وغيره - ممّا له حكومة على الأدلّة الأوّلية - لا يمكن أن يعمل على حكومته والجمود عليها في جميع الموارد ، فربّ مورد يتحقّق الإكراه بأوّل وجوده ؛ بحيث لو أوجد معه طلاقاً أو عتاقاً يحكم بالبطلان ، ولكن لا يمكن رفع اليد معه عن الأدلّة الأوّلية فيما إذا اُحرز المقتضي فيه مع أهمّيته ، كما لو اُكره على هدم الكعبة وقبر النبي والأئمّة - عليه وعليهم الصلاة والسلام - أو على إحراق المصحف ، أو على ردّ القرآن ، أو تأويله بما يقع الناس به في الضلالة ، أو على إبطال حجج اللّه ، أو على بعض القبائح العقلية والموبقات الشرعية ، ولو أوعده بما لو أوعده به في ترك طلاق امرأته ، أو عتق عبده ، أو بيع داره ، فأوقعها تقع باطلة ، كالإيعاد على الشتم والهتك والضرب وأخذ عشرة دنانير ؛ فإنّ الإيعاد بما ذكر ممّا يُدخل الطلاق ومثله في موضوع الإكراه ، ويرفع حكمه ، فهل يمكن الالتزام بمجرّد هذا الإيعاد بجواز ما ذكر من

ص: 608


1- قاعدة لا ضرر ، شيخ الشريعة الأصفهاني : 26 - 27 .
2- تقدّم في الصفحة 74 .
3- النساء (4) : 59 .

المهمّات والموبقات ؟ ! بل في بعض الموارد لا يمكن الالتزام بالجواز مع الإيعاد بالقتل - أيضاً - وإن ورد : أنّ «التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم ، فقد أحلّه اللّه»(1) فلو أمر الوالي المتولّي من قبله بهتك حرمات الناس وضربهم وشتمهم وسبي نسائهم وهدم بيوتهم ونهب أموالهم ، وأوعده بما يتحقّق به أوّل مصداق من الإكراه ، فلا يمكن أن يلتزم بجوازه لدليل الرفع ، فلا يبعد الالتزام بالفرق بين الأحكام الوضعية فيقال برفعها بمجرّد الإكراه ، وبين الأحكام التكليفية فيفصّل بين مهمّاتها وغيرها .

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير

لو استلزم التصرّف في ملكه الضرر على غيره ، فالمشهور - على ما قيل(2) - على الجواز ، ونقل عن الشيخ(3) والحلّي(4) وابن زهرة(5): أنّ له التصرّف بلا خلاف ، فها هنا صور لا بأس بذكرها وذكر ما تقتضي القاعدة فيها :

الاُولى : أن يكون في تصرّفه ضرر على الجار ، وفي تركه ضرر عليه .

ص: 609


1- الكافي 2 : 220 / 18 ؛ وسائل الشيعة 16 : 214 ، كتاب الأمر والنهي ، أبواب الأمر والنهي ، الباب 25 ، الحديث 2 .
2- رسائل فقهية ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23 : 126 .
3- المبسوط 3 : 272 - 273 .
4- السرائر 2 : 382 - 383 .
5- غنية النزوع 1 : 295 .

الثانية : أن يكون في تركه حرج ومشقّة عليه ، وفي التصرّف ضرر على الجار .

الثالثة : أن يكون في تصرّفه حرج ومشقّة على الجار ، وفي تركه ضرر عليه .

الرابعة : أن يكون في ترك تصرّفه حرج عليه ، وفي تصرّفه على الجار .

الخامسة : أن يكون في تصرّفه ضرر أو حرج على الجار ، وفي تركه فقدان منفعة له .

السادسة : أن يكون في تصرّفه ضرر أو حرج على الجار ، ولا يكون في تركه شيء عليه ولا فقدان نفع منه ، فحينئذٍ قد يكون تصرّفه لغواً ، وقد يكون للإضرار أو إيصال الحرج إلى الجار .

فبناءً على ما ذكرنا في معنى حديث نفي الضرر(1) لا يبعد انصرافه عمّا إذا كان ترك تصرّفه في ملكه موجباً لتضرّره أو وقوع الحرج عليه ؛ لأنّ النهي عن الإضرار بالغير لا يقتضي تحمّل التضرّر أو الحرج والمشقّة ، فلا يجب على المالك تحمّلهما بترك التصرّف في ملكه لأجل وقوع الضرر على جاره .

نعم ، لا يجوز إيقاع الضرر ابتداءً على الغير ولو لزم من تركه الضرر عليه ، وهذا غير لزوم الضرر عليه من التصرّف في ملكه ، كما هو ظاهر .

هذا إذا لزم من ترك التصرّف في ملكه ضرر أو حرج عليه ، ومنه ما إذا لزم من تركه فقدان المنفعة المعتدّ بها ، فإنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه حرج عليه . وأمّا مع عدم لزومهما فلا يجوز له التصرّف الموجب لهما .

ص: 610


1- تقدّم في الصفحة 74 .

وكذا على مسلك القوم في معنى الحديث يمكن دعوى ذلك الانصراف ؛ لأ نّه قاعدة امتنانية ، ومقتضى الامتنان ذلك .

وبالجملة : دليل الضرر منصرف عمّا يلزم من رفعه إثبات الضرر ، وأمّا إذا لم يلزم ذلك - كما لو حفر بئراً لمجرّد الإضرار بالجار أو لغواً - فلا يجوز .

إشكال ودفع

وقد يقال فيما يلزم الضرر : إنّ جواز حفر البئر ضرري ؛ لتضرّر الجار به ، ومنع تصرّف المالك في ملكه ضرري لتضرّر المالك به ، فيتعارض الضرران ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة أو إلى الاُصول العقلية والشرعية .

ولو لزم من الحفر وتركه الحرج لَتعارضَ الحرجان ، ولو كان أحدهما حرجياً والآخر ضررياً تعارضا ، إلاّ أن يقال : دليل الحرج حاكم على دليل الضرر ، فيختلف حكم صور المسألة :

ففي صورة تعارض الضررين أو الحرجين يقدّم حقّ المالك لقاعدة السلطنة أو الاُصول .

وفي صورة حرجية أحدهما يقدّم جانب الحرج لو قلنا بالحكومة ، وإلاّ فيرجع إلى قاعدة السلطنة أو الاُصول .

وقد يقال : إنّ منع المالك عن التصرّف في ملكه بنفسه حرج ، ففي جميع الصور يقدّم جانب المالك ؛ لحكومة دليل الحرج ، أو للتعارض والرجوع إلى قاعدة السلطنة أو الاُصول(1) .

ص: 611


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 467 .

أقول : أمّا دعوى : كون منع المالك عن التصرّف في ملكه هو بنفسه حرج منفيّ بدليل الحرج ، ممنوعة ؛ فإنّ الحرج هو الضيق والكُلفة والمشقّة ، ومطلق المنع ليس كذلك . نعم ، قد يلزم منه الحرج .

وأمّا حديث تعارض الضررين فتقريره : أنّ جواز حفر البئر ضرري منفيّ بدليل نفي الضرر ، ودليل الضرر الرافع للجواز ضرري على المالك ، فينفى هذا المصداق بدليل نفي الضرر ، فيتعارض دليل الضرر في مصداقين من نفسه ، وذلك لأنّ القضيّة حقيقية منحلّة إلى قضايا متكثّرة .

وفيه أوّلاً : أ نّه لا يعقل أن يتكفّل دليلٌ نفي نفسه أو مصاديقه ، فقوله : «لا ضرر ولا ضرار» إنشاء لنفي الأحكام الضررية على مسلكهم ، فهذا الإنشاء لا يمكن أن ينفي نفس «لا ضرر» فيكون الدليل النافي نافياً لنفسه أو مُعدماً لذاته أو مصاديقه التي هي هو .

لا يقال : حكومة مصداقٍ من «لا تنقض اليقين بالشكّ»(1) على مصداق آخر في الشكّ السببي والمسبّبي من هذا القبيل .

والحلّ : أنّ حكومة مصداق من الدليل على مصداق آخر لا يلزم منه إعدام الشيء نفسه ، بل إعدام مصداق للشيء مصداقاً آخر ، وذلك غير ممنوع .

فإنّه يقال : قضيّة الشكّ السببي والمسبّبي ليست من قبيل ما نحن فيه ، بل الاستصحاب الجاري في السبب يرفع الشكّ الذي هو موضوع الأصل المسبّبي ،

ص: 612


1- راجع وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1، و 8 : 217 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 ، الحديث 3 .

فلا يجري لعدم الموضوع ، وهذا ممّا لا مانع منه .

وأ مّا لو فرض في موردٍ نفى «لا تنقض» نفسه - أي [تكفّل] إنشاء عدم نقض اليقين بالشكّ إعدامَ عدم النقض - فهو أيضاً محال ، وما نحن فيه من هذا القبيل .

وممّا ذكرنا : يظهر حال الحلّ ؛ فإنّ انحلال القضيّة إلى قضايا لا يوجب إمكان إعدام الشيء نفسه ، وليس معنى الانحلال إنشاء قضايا متكثّرة ، بل ليس في البين إلاّ إنشاء واحد ، ولا يمكن أن تنحلّ قضيّة إلى مصداق ومُعدِم لمصداق آخر .

وثانياً : على فرض صحّة تلك الحكومة لا معنى للتعارض بين المصداقين ؛ لأنّ أحدهما الرافع للآخر حاكم عليه ، وبعد الحكومة تصير النتيجة عدم جواز تصرّف المالك .

وهاهنا تقرير آخر لبيان التعارض : وهو أنّ جواز التصرّف منفيّ ب- «لا ضرر» ، ومنع التصرّف الناشئ من «لا ضرر» أيضاً منفيّ ب- «لا ضرر» ، فيتعارضان .

وفيه : أنّ مفاد «لا ضرر» هو نفي الجواز لا المنع من التصرّف بمعنى إثبات الحكم ، ونفي الحكم ليس حكماً حتّى يُنفى ب- «لا ضرر» .

وقد يقال : إنّ الحكم الناشئ من قِبل «لا ضرر» لا يمكن أن ينفى ب- «لا ضرر» ؛ لأنّ المحكوم لا بدّ أن يكون في الرتبة المتقدّمة [على] الحاكم ؛ حتّى يكون شارحاً له وناظراً إليه(1) .

وفيه : أنّ الحكومة لا تتقوّم بالنظر والشرح ، مع أنّ النظر إلى المتأخّر رتبة

ص: 613


1- منية الطالب ، قاعدة لا ضرر 3 : 429 .

وشرحه ممّا لا يمتنع ، فإذا تحقّق بدليل نفي الضرر حكم ضرري لا مانع من نفيه بدليل الضرر ؛ فإنّه قضيّة حقيقية تنفي كلّ حكم ضرري محقّق الوجود أو مقدّره في ظرف تحقّقه ، مثل قوله : «صدّق العادل» بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة .

وممّا ذكرنا : يتّضح حال تعارض دليل الحرجين ؛ فإنّ الكلام فيه كالكلام في الضرر ، وكذا الحال في تعارض الضرر والحرج .

وأمّا حديث حكومة دليل نفي الحرج على نفي الضرر فهو - أيضاً - ممّا لا أصل له بناءً على مسلك القوم .

أمّا إذا كان دليل نفي الحرج «لا ضرار» الذي قد عرفت أ نّه بمعنى نفي الحرج ؛ فواضح .

وأ مّا إذا كان دليله قوله تعالى : )وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ((1) فلأنّ لسانه كلسان «لا ضرر» بناءً على كون «لا ضرر» بمعنى نفي تشريع الأحكام الضررية ؛ فإنّ لسانهما نفي تشريع الأحكام الحرجية أو الضررية ، فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر .

هذا آخر ما أردنا إيراده ، فلنختم الكلام بحمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله وآله الطاهرين .

وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الأربعاء ، غُرّة جُمادي الاُولى ، سنة ألف وثلاثمائة وثمان وستّين قمرية من الهجرة النبوية ، على مُهاجرها الصلاة والسلام والتحية .

ص: 614


1- الحجّ 22 : 78 .

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 615

ص: 616

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى

الْحَجِّ ( 197 41، 44، 50، 59

(وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) 231 30، 33

(لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ

لَهُ بِوَلَدِهِ ) 233 30، 32

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ

لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) 233 33

(وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) 282 30، 34

النساء (4)

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ

غَيرَ مُضَارٍّ ) 12 30

(أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى

الْأَمْرِ مِنْكُمْ) 59 67، 90

ص: 617

الآية رقمها الصفحة

(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمنُونَ حَتَّى

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ

لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) 65 68

التوبة (9)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً ) 107 34

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً

وَكُفْراً ) 107 30

يوسف (12)

(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا) 82 41

(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ

الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا ) 82 55

طه (20)

(فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَنْ تَقُولَ

لاَمِسَاسَ ) 97 59

الحج ّ (22)

(وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ

حَرَجٍ ) 78 53، 96

ص: 618

الآية رقمها الصفحة

الأحزاب (33)

(وَمَا كَانَ لِمُؤمنٍ وَلاَ مُؤمنةٍ إِذَا قَضَى

اللّه ُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرَةُ

مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ

فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) 36 68

الطلاق (65)

(وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) 6 30، 35

ص: 619

ص: 620

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

أجاز رسول اللّه رحمهما اللّه شهادة شاهد مع يمين طالب الحقّ 71

إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه 83

اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه ؛ فإنّه لا ضرَر ولا ضرار 79، 84

الإسلام يزيد ولا ينقص 8، 24

إنّ الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم 31

أنّ النبي رحمهما اللّه قال : اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم 73

أنّ النبي رحمهما اللّه قضى في هوائر النخل أن تكون النخلة والنخلتان للرجل 72

أنت رجل مُضارّ 26

أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قد قضى بشاهد ويمين 71

إنّ سَمُرة بن جُندَب كان له عَذْق في حائط لرجل من الأنصار . . . 3

إنّ سَمُرة بن جُندَب كان له عَذْق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل . . . 4

انطلق فاغرسها حيث شئت 13، 25

إنّك رجل مُضارّ 13، 30، 38

إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرَرَ ولا ضرار على مؤمن 61، 80

التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم ، فقد أحلّه اللّه 91

الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مُضارّاً 31

ص: 621

الرجل يطلّق حتّى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها . . . 33

سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه من معصية اللّه 85

على حسب أن لا يضرّ إحداهما بالاُخرى إن شاء اللّه 10

على مؤمن 13، 25، 26، 27، 80

غزت معنا 11

فاقلع الشجرة 81

فاقلعها وارمِ بها إليه 80

فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا 85

فإنّه لا ضرر ولا ضرار 27، 77

فذهب الرجل إلى رسول اللّه رحمهما اللّه فشكاه 6

فليس له ذلك ؛ هذا الضرار 31

في الإسلام 39

قال رسول اللّه رحمهما اللّه : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان 70

قرأت في كتاب لعلي علیه السلام : أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه كتب كتاباً . . . 11

قضى النبي رحمهما اللّه في رجل باع نخلاً ، واستثنى عليه نخلة 72

قضى أ نّه لا ضرر ولا ضِرار 75

قضى بذلك 75

قضى رسول اللّه رحمهما اللّه بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن 7، 9

قضى رسول اللّه بذلك، وقال: إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة . . . 73

قضى رسول اللّه رحمهما اللّه بين أهل المدينة في مشارب النخل أ نّه لا يمنع نفع الشيء 6

قضى رسول اللّه في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماء ولا يبيعوا فضل كلاء 21

قضى رسول اللّه رحمهما اللّه في سيل وادي مهزور للزرع إلى الشراك 72

كان رسول اللّه إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم ، فأجلسهم بين يديه 73

كان رسول اللّه رحمهما اللّه يحكم بين الناس بالبيّنات والأيمان . . . 70

ص: 622

كان رسول اللّه رحمهما اللّه يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ 71

كان لسَمُرة بن جُندَب نخلة في حائط بني فلان 5

لا إخصاء في الإسلام ، ولا بنيان كنيسة 60

لا إيلاء حتّى يدخل بها 66

لا تجار حرمة 11

لا تقتلوا القوم حتّى يبدؤوكم ، فإنّكم - بحمد اللّه - على حجّة 73

لا تنقض اليقين بالشكّ 94

لا جَلَبَ ، ولا جَنَبَ ، ولا اعتراض 59

لا جَلَبَ ، ولا جَنَبَ ، ولا شِغارَ في الإسلام 59

لا حمى إلاّ ما حمى اللّه ورسوله 60

لا حمى في الأراك 60

لا حمى في الإسلام ولا مُناجشة 60

لا رضاع بعد فطام 64

لا سَبْقَ إلاّ في خُفّ أو حافر أو نصل 60

لا سهوَ في سهو 63

لا سهوَ في نافلة 63

لا سهوَ لمن أقرّ على نفسه بسهو 62

لا صرورة في الإسلام 60

لا صُماتَ يومٍ إلى الليل 60

لا ضرار 14، 16، 18، 19، 23،

24، 37، 40، 43، 45،

47، 52، 54، 75، 78،

79، 82، 83، 84، 94،

95، 96

ص: 623

لا ضرر ولا ضرار 8، 13، 15، 17، 19، 23،

26، 27، 38، 39، 42،

45، 46، 49، 54، 75،

79، 81، 88، 94

لا ضررَ ولا ضِرار على مؤمن 39

لا ضرر ولا ضرار في الإسلام 9

لا ضرَرَ ولا ضِرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً 8، 24

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 60

لا طلاق إلاّ بخمس: شهادة شاهدين . . . 65

لا طلاق إلاّ على طُهر 65

لا طلاق إلاّ ما اُريد به الطلاق ، ولا ظِهار إلاّ ما اُريد به الظهار 65

لا طلاق السكران الذي لا يعقل 65

لا طلاق فيما لا تملك ، ولا عتق فيما لا تملك ، ولا بيع فيما لا تملك 65

لا طلاق قبل النكاح 64

لا ظِهار إلاّ في طهر 65

لا عِتقَ قبل المِلْك 64

لا غشّ بين المسلمين 61

لا نَذْر فيما لا يملكه ابن آدم 64

لا نذر في معصية اللّه 63

لا نكاح للعبد ولا طلاق إلاّ بإذن مولاه 65

لا هَجْر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام 61

لا يترك ، وذلك أنّ رسول اللّه رحمهما اللّه قال : لا ضررَ ولا ضِرار 8

لا يُتْمَ بعد احتلام 64

ص: 624

لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه 85

لا يمين إلاّ باللّه 64

لا يمين في استكراه ، ولا على سكر ، ولا على معصية 64

لا يمين في قطيعة 63

لا يمين فيما لا يبذل 63

لا يمين في معصية اللّه 63

لا يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها 64

لا يمين لمكرَه 63

لا ينبغي للرجل أن يُطلّق امرأته ، ثمّ يُراجعها وليس له فيها حاجة 31

لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة 32

لصاحب الدرهمين خُمس ما بلغ 9

لو كان الأمر إلينا أجزْنا شهادة الرجل الواحد 71

ليس يُجبر على ذلك ، إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاُخرى .. . 7

ما أراك يا سَمُرة إلاّ مُضارّاً 27، 29، 31

المطلّقة الحبلى يُنفق عليها حتّى تضع حملها 33

من أوصى ولم يُحْفِ ولم يضارّ كان كمن تصدّق في حياته 31

من ضارّ مسلماً فليس منّا 31

من ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة 12

من منع فضل الماء ليمنع به الكلاء منعه اللّه فضل رحمته يوم القيامة 22

الناس مسلّطون على أموالهم 84

وقضى أن لا ضرَر ولا ضرار 9، 74

وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وقضى أ نّه ليس لعرْقٍ ظالمٍ حقّ 22

وقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور . . . 22

ص: 625

وقضى رسول اللّه رحمهما اللّه بذلك وقال : إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة . . . 10

ولا إضرار 9

ولا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم 7

ولا ضرر ولا ضِرار 38

ومن أضرّ بامرأةٍ حتّى تفتدي منه نفسها لم يرضَ اللّه له بعقوبة دون النار 12

ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة 12

يا أشباه الرجال ولا رجال 35، 42، 56

يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب البئر ليلة ليلة 10

يتّقي اللّه ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضرّ أخاه المؤمن 11

ص: 626

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، محمّد، رسول اللّه رحمهما اللّه = محمّد بن عبداللّه رحمهما اللّه ، نبي الإسلام

محمّد بن عبداللّه رحمهما اللّه ، نبي الإسلام 1، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9،

10، 11، 12، 13، 14، 16

17، 18، 20، 21، 22،

23، 24، 27، 34، 38،

50، 60، 66، 67، 68،

69، 70، 71، 72، 73،

74، 75، 76، 77، 79،

81، 83، 85، 88، 90،

96

أمير المؤمنين علیه السلام = علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 8، 11، 31، 68، 69، 70،

71، 73، 76

الباقر ، أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 3، 4، 5، 25، 71، 73، 85

الصادق ، أبو عبداللّه علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

ص: 627

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 6، 7، 8، 9، 10، 11، 17،

22، 23، 25، 31، 32،

33، 70، 71، 72، 73

الصادقين (محمّد بن علي علیه السلام الإمام الخامس / جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس) 77

أبو محمّد علیه السلام = الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر 10

صاحب الزمان (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر 85

ص: 628

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 1، 41، 42، 43، 44، 51،

55

ابن أبي جمهور، محمّد بن زين الدين 21

ابن أبي عمير، محمّد 72

ابن أثير 9، 14، 24، 25، 37، 38،

50، 75، 78

ابن إدريس، محمّد بن أحمد 91

ابن التيهان، أبو الهيثم 76

ابن بابويه، محمّد بن علي 4، 5، 7، 8، 10، 11، 14،

21، 24، 25، 31، 33،

73، 85

ابن بكير 3، 4

ابن حنبل، أحمد بن محمّد 9، 14، 15، 17، 22، 74،

77

ابن زهرة، حمزة بن علي 8، 14، 88، 91

ابن شاذان، الفضل بن شاذان 76

ص: 629

ابن عبّاس، عبداللّه بن عبّاس

25

ابن مسعود، عبداللّه 35

ابن مسكان = عبداللّه بن مسكان

أبو بصير 85

أبو سعيد الخدري = الخدري، أبو سعيد

أبو عامر الراهب 34

أبو عبيدة الحذّاء = الحذّاء، زياد بن عيسى

أبو عمرو، عامر بن شراحيل 35

أبو مسلم، محمّد بن بحر الأصفهاني 36

أحمد بن أبي عبداللّه = البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد

أحمد بن حنبل = ابن حنبل، أحمد بن محمّد

أحمد بن محمّد بن خالد = البرقي، أحمد بن محمّد

أحمد بن محمّد بن عيسى 11

أحمد بن محمّد = أحمد بن محمّد بن عيسى

الأنصاري، جابر بن عبداللّه 76

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 1، 39، 40، 41، 43، 45،

49، 51، 53، 57، 58،

77، 80، 81، 88

البرقي، أحمد بن محمّد 3، 4

البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد 4

بعض أعاظم العصر = النائيني، محمّد حسين

جابر بن عبداللّه = الأنصاري، جابر بن عبداللّه

الحائري، عبدالكريم 44، 88

ص: 630

الحذّاء، زياد بن عيسى 5، 13، 25، 27، 31

حذيفة بن اليمان الصحابي 76

حذيفة = حذيفة بن اليمان الصحابي

الحلّي = ابن إدريس، محمّد بن أحمد

الخدري، أبو سعيد 76

الخراساني = الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الخزّاز، محمّد بن يحيى 11

خزيمة بن ثابت 76

زرارة 3، 4، 13، 25، 26، 27،

30، 79، 80، 81، 83

زياد بن عيسى 5

سمرة بن جندب 3، 4، 5، 6، 13، 15، 25،

27، 29، 31، 36، 38،

61، 75، 77، 79، 80،

82، 83، 84، 86، 87

السيوطي، عبدالرحمان بن أبي بكر 37، 38، 50، 75، 78

الشريعة الأصفهاني، فتح اللّه بن محمّد جواد 16، 22، 24، 50، 58،

59، 74، 79

الشهيد = الشهيد الثاني، زين الدين بن علي

الشهيد الثاني، زين الدين بن علي

الشيخ = الطوسي، محمّد بن الحسن

الشيخ الأنصاري = الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

شيخ الشريعة الأصفهاني = الشريعة الأصفهاني، فتح اللّه بن محمّد جواد

ص: 631

شيخ الطائفة = الطوسي، محمّد بن الحسن

شيخنا العلاّمة = الحائري، عبدالكريم

الشيخ = الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

صاحب تاج العروس = المرتضى الزبيدي، محمّد بن محمّد

صاحب مجمع البحرين = الطريحي، فخر الدين بن محمّد

الصدوق = ابن بابويه، محمّد بن علي

الصيقل، الحسن بن زياد 5

الطريحي، فخر الدين بن محمّد 24، 25، 38

طلحة بن زيد 11، 31

الطوسي، محمّد بن الحسن 4 ،7، 8، 10، 14، 73، 88،

91

عبادة بن الصامت 6، 9، 17، 22، 23، 25،

74، 76

عبدالرحمان بن جندب 73

عبداللّه بن بكير = ابن بكير

عبداللّه بن مسكان 4، 25، 80

عقبة بن خالد 6، 7، 10، 17، 18، 22،

23، 72، 73

العلاّمة الحائري = الحائري، عبدالكريم

العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف 14، 24، 88

علي بن محمّد بن بندار 4

عمرو بن عوف 34

غنم بن عوف 34

ص: 632

الغنوي، هارون بن حمزة 9، 31

فخر الدين = فخر المحقّقين، محمّد بن الحسن

فخر المحقّقين، محمّد بن الحسن 12

الفخر = فخر المحقّقين، محمّد بن الحسن

الفرزدق، همام بن غالب 41

الفضل بن شاذان = ابن شاذان، الفضل بن شاذان

الكشّي، محمّد بن عمر 76

الكليني، محمّد بن يعقوب 7، 18

مجاهد 35

محمّد بن الحسن = الطوسي، محمّد بن الحسن

محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب 6، 9، 10

محمّد بن الحسين = محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب

محمّد بن عبداللّه بن هلال 6، 10، 23

محمّد بن يحيى العطّار 6، 7، 9، 10

محمّد بن يحيى = الخزّاز، محمّد بن يحيى

محمّد بن يحيى = محمّد بن يحيى العطّار

محمّد بن يعقوب = الكليني، محمّد بن يعقوب

المرتضى الزبيدي، محمّد بن محمّد 38

النائيني، محمّد حسين 15، 40، 45، 82

يزيد بن إسحاق شعر 9

ص: 633

ص: 634

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 30 ،32، 36، 90

أنوار الهداية 1

الإيضاح = إيضاح الفوائد

إيضاح الفوائد 12

تاج العروس 37، 38، 50

التذكرة = تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء 6، 8، 88

التعليقة على الرسائل = درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

التعليقة على الكفاية = أنوار الهداية

تفسير الإمام العسكري علیه السلام 70

التهذيب = تهذيب الأحكام

تهذيب الأحكام 11، 13

الجواهر = جواهر الكلام

جواهر الكلام 88

الخلاف 8، 88

الدرّ النثير 50

ص: 635

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 44، 51، 56

درر اللآلي 21

دعائم الإسلام 7، 14

الرسائل = فرائد الاُصول

رسالة لا ضرر للشيخ الأنصاري 43، 81

رسالة لا ضرر للشيخ الشريعة الأصفهاني 16، 59

رسالة لا ضرر للمحقّق النائيني 15

الصحاح 28

عقاب الأعمال 12، 31

الغنية = غنية النزوع

غنية النزوع 88

فرائد الاُصول 43، 44، 51، 56

الفقيه = من لا يحضره الفقيه

القاموس المحيط 29

الكافي 3، 6، 9، 13، 23، 24، 70،

71، 72، 73

الكفاية = كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 1، 42، 44، 55

لسان العرب 37، 50

مجمع البحرين 6، 9، 25، 32، 34، 37،

50

المجمع = مجمع البحرين

مجمع البيان 33، 34، 35

ص: 636

المستدرك = مستدرك الوسائل

مستدرك الوسائل 7

المسند لأحمد بن حنبل 9، 14، 15، 17، 22، 74،

77

مسند أحمد بن حنبل = المسند لأحمد بن حنبل

المصباح المنير 29

المنجد 29

من لا يحضره الفقيه 13

النهاية = النهاية في غريب الحديث والأثر

النهاية في غريب الحديث والأثر 9، 25، 37، 50

الوسائل = وسائل الشيعة

وسائل الشيعة 4، 5، 6، 7، 8، 10، 11،

23

ص: 637

ص: 638

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم» .

«أ»

1 - الاحتجاج . أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ( القرن السادس) ، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، منشورات اُسوة ،1413 ق .

2 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي) . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تصحيح حسن المصطفوي ، جامعة مشهد ، 1348 ش .

3 - إفاضة القدير في أحكام العصير ، المطبوع مع «قاعدة لا ضرر» . العلاّمة شيخ الشريعة الأصفهاني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

4 - إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد . فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (682 - 771) ، إعداد عدّة من العلماء ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، المطبعة العلمية ، 1387 ق .

«ب»

5 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار . العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110) ، الطبعة الثانية ، إعداد عدّة من العلماء ، 110 مجلدٍ ( إلاّ

ص: 639

6 مجلّدات ، من المجلّد 29 - 34) + المدخل ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ق / 1983 م .

6 - بحر الفوائد في شرح الفرائد . الميرزا محمّد حسن الآشتياني ، الطبعة الحجرية ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، قم ، 1403 ق .

«ت»

7 - تاج العروس من جواهر القاموس . السيّد محمّد بن محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي (1145 - 1205) ، الطبعة الاُولى ، 10 مجلّداً ، بيروت ، منشورات دار مكتبة الحياة ،

1306 ق .

8 - تذكرة الفقهاء . جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي (648 - 726) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، صدر منه حتّى الآن 20 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 - 1433 ق .

9 - تفسير العيّاشي . أبو النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السمرقندي ( أواخر قرن الثالث) ، تصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي ، مجلّدان ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية .

10 - تفسير القمّي. أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي (م 307) ، تصحيح السيّد طيّب الموسوي الجزائري ، الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة دار الكتاب ، 1404 ق .

11 - التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام . تحقيق مدرسة الإمام المهديّ علیه السلام ، الطبعة الاُولى ، قم ، مدرسة الإمام المهديّ علیه السلام ، 1409 ق .

12 - تنقيح المقال في علم الرجال . الشيخ عبداللّه بن محمّد حسن المامقاني (1290 - 1351) ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، بالاُفست عن طبعة النجف الأشرف ، المطبعة

المرتضوية ، 1352 ق .

ص: 640

13 - التوحيد . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، الشيخ الصدوق (م 381) ، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1398 ق .

14 - تهذيب الأحكام . أبو جعفر محمّد بن الحسن ، الشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1365 ش .

«ث»

15 - ثواب الأعمال وعقاب الأعمال . أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، طهران ، مكتبة الصدوق ، 1391 ق .

«ج»

16 - الجعفريات أو الأشعثيات المطبوع مع «قرب الإسناد» . أبو علي محمّد بن محمّد الأشعث ( القرن الرابع) ، طهران ، مكتبة نينوى الحديثة .

17 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام . الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266) ، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني ، الطبعة الثالثة ، 43 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1367 ش .

«خ»

18 - الخصال . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، جزءان في مجلّد واحد ،

قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1403 ق .

19 - الخلاف . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق جماعة من المحقّقين ، الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر

الإسلامي ، 1407 ق .

ص: 641

20 - الخيارات (تقريرات المحقّق الحائري) . الشيخ محمّد علي الأراكي ، الطبعة الاُولى ، قم ، المطبعة مهر ، 1414 ق .

«د»

21 - الدر النثير . جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي (م 911) ، القاهرة ، نشر دار المعارف ، 1383 ق .

22 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد . الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329) ، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ، 1410 ق / 1990 م .

23 - الدرر اللآلي . الشيخ محمّد بن علي الأحسائي ، مخطوط في المكتبة المرعشيّة ، تحت رقم 267 ، قم .

24 - دعائم الإسلام . أبو حنيفة القاضي النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي (م 363) ، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي ، مجلّدان ، القاهرة ، دار المعارف ، 1383 ق / 1963 م .

25 - ديوان الفرزدق . إعداد مجيد طراد ، الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1419 ق / 1999 م .

«ر»

26 - رسائل فقهية ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 23 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتبة الفقهية ، 1414 ق .

27 - روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن (تفسير أبي الفتوح رازي) . حسين بن علي بن محمّد بن أحمد الخزاعي النيسابوري المشهور ب- «أبو الفتوح الرازي» (م قرن ششم) ، تحقيق دكتر محمّد جعفر ياحقي ودكتر محمّد مهديّ ناصح ، چاپ دوم ، 20 جلد مشهد ، انتشارات آستان قدس رضوى ، 1377 ش .

ص: 642

«س»

28 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598) ، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1410 - 1411 ق .

29 - سنن ابن ماجة . أبو عبداللّه محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني (207 - 275) ، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلمية .

30 - سنن أبي داود . أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (م 275) ، إعداد كمال يوسف الحوت ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الجنان ، 1409 ق / 1988 م .

31 - سنن الدارقطني . علي بن عمر الدارقطني (306 - 385) ، 4 أجزاء في مجلّدين ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1413 ق / 1993 م .

32 - سنن الدارمي . أبو محمّد عبداللّه بن عبد الرحمان السمرقندي الدارمي (181 - 255) ، مجلّدان ، بيروت ، دار الفكر ، 1398 ق .

33 - السنن الكبرى. أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (384 - 458) ، إعداد الدكتور يوسف عبدالرحمان المرعشلي ، الطبعة الاُولى ، 10 مجلّدات + الفهرس ، بيروت ، دار المعرفة ، 1413 ق / 1992 م .

«ص»

34 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) . إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393) ، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار ، الطبعة الرابعة ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار العلم للملايين ،

1407 ق / 1987 م .

35 - صحيح البخاري . أبو عبداللّه محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي (م 256) ، تحقيق وشرح الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي ، الطبعة الاُولى ، 9 أجزاء في 4 مجلّدات ، بيروت ، دار القلم ، 1407 ق / 1987 م .

«ع»

36 - عوائد الأيّام . المولى أحمد بن محمّد مهديّ بن أبي ذرّ النراقي (1185 - 1245) ،

ص: 643

تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ق / 1375 ش .

37 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية . محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر) ، تحقيق مجتبى العراقي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء ، 1403 ق .

«غ»

38 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع . أبو المكارم السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المعروف بابن زهرة (511 - 585) ، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1417 ق .

«ف»

39 - فرائد الاُصول ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1419 ق / 1377 ش .

40 - الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام . تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، مشهد المقدّس ، المؤتمر العالمي للإمام الرضا علیه السلام ، 1406 ق .

41 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه) . أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 4 مجلّدات ، النجف الأشرف ، دار الكتب الإسلامية ، 1377 ق / 1957 م .

42 - الفوائد الرجالية . السيّد محمّد المهديّ بحر العلوم الطباطبائي (م 1212) ، تحقيق محمّد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، طهران ، مكتبة الصادق ، 1363 ش .

«ق»

43 - القاموس المحيط والقابوس الوسيط . أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (729 - 817) ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الجيل .

ص: 644

«ك»

44 - الكافي . ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م329) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الخامسة ، 8 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

45 - كفاية الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

46 - كمال الدين وتمام النعمة . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الشيخ الصدوق (م 381) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مكتبة الصدوق ، 1390 ق .

47 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال . علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975) ، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا ، الطبعة الثالثة ، 16 مجلّداً + الفهرس ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1409 ق / 1989 م .

«ل»

48 - لسان العرب . أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (630 - 711) ، الطبعة الاُولى ، 15 مجلّداً + الفهرس ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1408 ق / 1988 م .

«م»

49 - المبسوط في فقه الإمامية . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد محمّد تقي الكشفي ، الطبعة الثانية ، 8 أجزاء في

4 مجلّدات ، طهران ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية ، 1387 - 1393 ق .

50 - مجمع البحرين ومطلع النيّرين . فخر الدين الطريحي (972 - 1085) ، الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار ومكتبة الهلال ، 1985 م .

ص: 645

51 - مجمع البيان في تفسير القرآن . أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548) ، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد فضل اللّه اليزدي الطباطبائي ، الطبعة الاُولى ، 10 أجزاء في 5 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة للطباعة والنشر .

52 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول . العلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (1037 - 1110) ، تصحيح السيّد هاشم الرسولي والسيّد جعفر الحسيني والشيخ علي الآخوندي ، الطبعة الثانية ، 26 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

53 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام . الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965) ، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 15 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة المعارف الإسلامية ، 1413 - 1419 ق .

54 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل . الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 25 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1407 ق .

55 - المسند . أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241) ، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين ، الطبعة الاُولى ، 20 مجلّداً ، القاهرة ، دار الحديث ، 1416 ق .

56 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير . أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيّومي (م 770) ، الطبعة الاُولى ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، دار الهجرة ، 1405 ق .

57 - المعجم الكبير . الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260 - 360) ، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي ، الطبعة الثانية ، 25 مجلّداً ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1397 م .

58 - المكاسب ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 14 - 19 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ،

ص: 646

الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مكتبة الفقهية ، 1415 - 1420 ق .

59 - مناقب آل أبي طالب . أبو جعفر رشيد الدين محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (م 588) ، إعداد محمّد حسين دانش الآشتياني والسيّد هاشم الرسولي المحلاّتي ، 4 مجلّدات ، قم ، مكتبة العلاّمة .

60 - المنجد في اللغة . لوئيس معلوف وعدّة من الأساتذة ، الطبعة الثالثة والثلاثون ، بيروت ، دار المشرق ، 1992 م .

61 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1424 ق .

62 - موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف . إعداد أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول ، الطبعة الاُولى ، 11 مجلّداً ، بيروت ، عالم التراث ، 1410 ق / 1989 م .

63 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش .

«ن»

64 - النهاية في غريب الحديث والأثر . مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد بن محمّد الجزري المعروف بابن الأثير (544 - 606) ، تحقيق طاهر أحمد التراوي ومحمود محمّد الطناحي ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة إسماعيليان ، 1364 ش .

65 - نهج البلاغة ، من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام . جمعه الشريف الرضي ، محمّد بن الحسين (359 - 406) ، إعداد الدكتور صبحي صالح ، انتشارات الهجرة ، قم ، 1395 ق «بالاُفست عن طبعة بيروت 1387 ق » .

ص: 647

«و»

66 - الوافية في اُصول الفقه . المولى عبداللّه بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، الطبعة الاُولى ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1412 ق .

67 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة . الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 30 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1409 ق .

ص: 648

7 - فهرس الموضوعات

بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

وفيها مقدّمة وفصول وتنبيهات :

المقدّمة : في ذكر الأحاديث المربوطة بالمقام ··· 3

فصل : في حال ورود «لا ضرر» في ضمن القضايا ومستقلاًّ ··· 13

فصل : في الإشكالات الواردة على وروده في ذيل الشفعة ومنع فضول الماء ··· 15

فصل : في تأييد عدم وروده في ذيل القضيّتين ··· 19

فصل : في حال كلمتي «في الإسلام» و«على مؤمن» في الحديث ··· 24

فصل : في معنى مفردات الحديث ··· 28

الفرق بين الضرر والضرار ··· 32

فصل : في البحث عن مفاد الجملة التركيبية في الحديث ··· 39

تحليل نظرية الشيخ الأنصاري ومحتملات كلامه ··· 40

فصل : في البحث في محتملات كلام الشيخ ··· 51

في الإشكالات المشتركة ··· 51

في الإشكالات الغير المشتركة ··· 55

فصل : في حال الاحتمال الثالث ··· 59

فصل : حول المذهب المختار في معنى الرواية ··· 66

ص: 649

نتيجة ما أصّلناه ··· 74

المختار وآراء الأعلام ··· 77

إشكال ودفع ··· 79

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في الإشكال على القاعدة ··· 81

في جواب بعض الأعاظم عن الإشكال ··· 82

مناقشة الجواب المتقدّم ··· 83

التنبيه الثاني : في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية ··· 87

التنبيه الثالث : في تحمّل الضرر وفيما إذا اُكره على الإضرار بالغير ··· 89

التنبيه الرابع : فيما يكون التصرّف في ملكه موجباً لتضرّر الغير ··· 91

إشكال ودفع ··· 93

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 99

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 103

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 109

4 - فهرس الأعلام ··· 111

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 117

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 121

7 - فهرس الموضوعات ··· 131

ص: 650

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.