الاجتهاد و التقليد

اشارة

سرشناسه:خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368.

عنوان و نام پديدآور:الاجتهاد و التقليد/ تاليف روح الله الموسوي الامام خميني(قدس سره)؛ تحقيق موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني قدس سره.

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1378.

مشخصات ظاهري: 198ص.

فروست:كوثر

شابك:7000ريال(چاپ اول) ؛ 22000ريال(چاپ دوم)

يادداشت:عربي.

يادداشت:عربي.

يادداشت:چاپ اول: 1418ق.=1376.

يادداشت:چاپ دوم: 1426ق = 1384.

يادداشت:كتابنامه: ص. [180] - 195؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع:اجتهاد و تقليد

شناسه افزوده:موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س)

رده بندي كنگره:BP167/خ8الف3 1378

رده بندي ديويي:297/31

شماره كتابشناسي ملي:م 78-12276

ص: 1

مقدّمة التحقيق

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

اشارة

ص: 7

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطاهرين و أصحابه المنتجبين

مرّت فكرة الانتظار منذ غيبة ولي العصر- أرواحنا فداه- وحتّى القرن الحاضر بمراحل عديدة؛ تبعاً للفهم السلبي أو الإيجابي الذي يغيّر من تفسيرها بشكل جوهري.

حتّى إذا ظهر الإمام الخميني رضوان اللَّه عليه في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ومن ثمّ بداية الغليان الشعبي، تكون فكرة الانتظار قد تبلورت نهائياً في تفسيرها الإيجابي الذي يعني «ولاية الفقيه» و «النيابة العامة» عن المعصوم عليه السلام.

وهذا الكتاب الذي بين يديك- عزيزي القارئ- أثر مشرق من آثار الإمام الراحل قدس سره، وهو كما يتّضح من عنوانه «الاجتهاد والتقليد» يدور حول محور حيويّ هامّ في حياة المسلمين.

وقد ظهر هذا الأثر منذ نصف قرن تقريباً، وبالتحديد سنة 1370 ه. ق،

ص: 8

عندما كان الإمام الراحل يلقي دروسه في الدورة الاولى من بحوث الخارج في علم الاصول، وذلك في مدينة قم المقدّسة.

وفي كتابه هذا يطرح الإمام محاور عديدة في بحوث الاجتهاد والتقليد:

أولًا: ما يتعلّق بشؤون الفقيه والمجتهد الجامع للشرائط. وللإمام في هذا بحوث مماثلة في رسالته القيّمة: «بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر»، وقد تناول فيها وبشكل إجمالي مقامات وشؤون النبيّ الأكرم والوليّ الأعظم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وهي تنتقل بصورة عامّة إلى الفقهاء في عصر الغيبة إلّاما ثبت بالدليل.

وللإمام أيضاً بحوث مفصّلة في ولاية الفقيه كان رضوان اللَّه عليه قد ضمّنها في كتابه الجليل «البيع».

ثانياً: ما يتعلّق بشروط الاجتهاد، والعلوم الفاعلة فيه، وقد اقتصر إمامنا الراحل قدس سره في بحثه على العلوم المنضوية في إطار الاجتهاد المطلق الذي هو من شروط الإفتاء.

أمّا الفقيه الذي يُمارس الولاية العامّة وزعامة المسلمين فله شروطه الاخرى، وقد بحثها الإمام قدس سره بتفصيل قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، وفي طليعتها التدبير والإحاطة بظروف العصر؛ والتي يجدها الباحث في كتبه ومحاضراته.

ثالثاً: بحوثه التي يتناول فيها قدس سره مسألة بالغة الحسّاسيّة ألا وهي مسألة «القضاء»، فهل الاجتهاد المطلق شرط في تسنّم منصب القضاء؟ وهل يجوز للقاضي المجتهد أن يوكل هذه المهمة إلى فرد آخر غير مجتهد؟

رابعاً: بحوثه قدس سره في مسألة المرجعية، وهل أنّ التقليد كما عليه اليوم كان

ص: 9

معروفاً لدى العالَم الشيعي في عصر الأئمة الطاهرين عليهم السلام؟ وهل للاجتهاد السائد حالياً نفس مفهومه في عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام؟ أم توجد اختلافات وفروق في ذلك؟ وعندما يكون تقليد المجتهد جائزاً فهل يجوز تقليد غير الأعلم من المجتهدين؟

خامساً: وأخيراً يبحث الإمام الراحل قدس سره وفي ختام رسالته الجليلة قضية تقليد المجتهد الميّت، فيتحدّث عن ذلك بالتفصيل.

وبودّنا ونحن نقدّم لهذا الكتاب الفائق الأهميّة، أن نطلع قراءنا الكرام عموماً وطلبة الدراسات الإسلامية في الحوزة العلمية بشكل خاص، على مسألتين حيويّتين في مضمار الاجتهاد والتقليد لهما أهميّة خاصّة، هما: مسألة الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية؛ خصائصه وأبعاده، ومسألة الشروط التي يجب توافرها لدى المرجع الديني في ضوء المذهب الشيعي، والمؤهلات التي ينبغي أن يتحلّى بها، مستلهمين في كلّ ذلك أفكار ورُؤى إمامنا الراحل قدس سره، المبثوثة هنا وهناك في كتبه وخطبه وتعاليمه.

[مسألتان مهمتان في مضمار الاجتهاد و التقليد]

المسألة الاولى الاجتهاد لدى الشيعة ... المعالم والمزايا

اشارة

يُعدّ الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية في طليعة المعالم الأساسيّة التي تفتقدها سائر المذاهب الإسلامية الاخرى ... والاجتهاد لدى اتباع أهل البيت عليهم السلام يتحرك في إطار الاستفادة من ميراثهم الحديثيّ الواسع والعميق الذي ورثوه من

ص: 10

أئمتهم عليهم السلام حيث يكمن في طواياها التفسير الحقيقيّ للقرآن الكريم والسنّة النبوّية الشريفة.

وفي اتّباع أهل البيت عليهم السلام وهم العترة الطاهرة استجابة مخلصة وكاملة لحديث سيّدنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في قوله:

(إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي)

وقد تظافرت الروايات لدى جميع الفرق الإسلامية على أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه صلى الله عليه و آله و سلم الحوض. ولم يكن أهل البيت عليهم السلام وهم مفسّروا الوحي الحقيقيّون ليقتصروا في علمهم على الفقه، بل كانوا في الطليعة، وكانوا المثال الخالد والنبع الثرّ والطريق المضي ء في علوم الإسلام الاخرى، من تفسير وكلام وأخلاق.

ومن غير الممكن أبداً أن يؤدّي الاجتهاد في الفقه، ومن دون استلهام علوم الإمامين الطاهرين الباقر والصادق عليهما السلام إلى نتائج ذات قيمة.

والاجتهاد لن يؤتي ثماره أبداً إلّافي ظلال أهل البيت عليهم السلام، وفي هدي تعاليمهم التي هي امتداد لتعاليم سيّدنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

وفي هذا الإطار نرى إمامنا الراحل قدس سره يصدر وصيته الإلهية بقوله: نحن نفتخر أنّ باقر العلوم الذي هو أعظم شخصية في التاريخ وهو الذي لم يدرك ولن يدرك أحد مقامه غير اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، نحن نفتخر بأنّ هذا الإمام منّا.

كما نحن نفتخر أنّ مذهبنا جعفري منسوب إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وأنّ فقهنا الذي هو بحر لا نهاية له هو أحد آثاره عليه السلام.

ص: 11

ويُعدّ الاجتناب عن تبنّي طريقة القياس والاستفادة من المصالح المرسلة مَعلَم بارز آخر يمتاز به الفقه الشيعي، فيما يزخر الفقه لدى أهل السنّة بالاستدلال وفقاً لطرق القياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

ومن هنا نجد أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام، وفي مناسبات متعدّدة، وفي مقاطع زمنية مختلفة، يشدّدون على أتباعهم على ضرورة اجتناب القياس والاستحسان، فوضعوا بذلك تلامذتهم ومريديهم في الطريق الصحيح والجادّة الصواب، فالأحكام الإلهيّة يجب أن لا تخضع لمقاييس العقل البشري، ومن أجل هذا روي عنه صلوات اللَّه عليهم:

(أنّ السُّنّة إذا قيست مُحق الدين)

و

(أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول)

. ولا ننكر وجود بعض التناغم مع المباني الفقهية لدى أهل السنّة في كتب كبار علماء الشيعة، وبالتحديد لدى المتقدّمين منهم، كشيخ الطائفة الطوسي والعلّامة الحلّي.

إذ يبدو من خلال آثار الفقيهين العظيمين أنّهما كانا يرميان إلى إقناع فقهاء أهل السنّة فاستعمال طرق استنباط مماثلة لما هو موجود لدى أهل السنّة لا يعني تبنيّاً لها، بقدر ما يكون محاولة لردم هوّة الاختلاف بين الفريقين.

ولذا فإنّنا نجد- وبعد تنامي الكيان السياسي الشيعي وبالتحديد في العصر الذي أعقب عصر الشهيد الأوّل- نجد طرق الاستدلال الشيعي متمحّضة وفق مباني المدرسة الإمامية وفي ضوء تعاليم أهل البيت عليهم السلام، أمّا متبنيّات أهل السنّة في طرق الاستدلال فقد اختفت تماماً لتحلّ مكانها آثار الأئمة الأطهار.

ص: 12

وقد استمرّ هذا الاسلوب حتّى يومنا هذا؛ إذ نجد في آثار إمامنا الراحل قدس سره وفي مضمار الفقه اهتماماً فائقاً بهذا الاتّجاه كما سنوضّح ذلك فيما بعد.

وعلى هذا فإنّ من أبرز معالم الفقه الشيعي هو ابتعاده عن اسلوب القياس وطريقة الاستحسان، واهماله ما يدعى بالمصالح المرسلة، والتقدّم بفنّ الاستنباط خطىً واسعة نحو الأمام.

وتُعدّ حيويّة الفقه الشيعي ومسايرته لروح العصر مَعلَماً ثالثاً، فالاجتهاد في ضوء القواعد الفقهية الإمامية يحتّم على الفقيه الشيعي، متابعة مستجدّات القضايا واستنباط أحكامها الشرعية.

ولقد كان للمجتمع المسلم واهتمامه بموقف الشريعة إزاء المسائل الطارئة ومراجعته لفقهاء العصر الأثر البالغ في تقدّم الفقه الشيعي وتبحّر الفقهاء في مختلف العلوم، ومن ثمّ تضاعف أعداد المجتهدين؛ من أجل أن تكون هناك أجوبة جاهزة لمختلف المسائل والقضايا التي تهمّ المجتمع الإسلامي. وقد كان للحضور الفاعل والواسع للفقهاء في الحوزات والمحافل العلمية الشيعية آثاره الكبيرة في نموّ وتقدّم طرق الاستدلال، وفي ترشيد الرؤى والأفكار الفقهية، وأن يكتسب الاجتهاد بشكل عامّ- فيما بعد- ملامح مدرسته المتحرّكة.

ومن خلال اتباع سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وآله عليهم السلام، فقد استمرّ الشيعة في مواصلة طريق الاجتهاد، فكان نبعاً متدفّقاً فيّاضاً بالخير، وكان بحق وما يزال يمدّ الثقافة الإسلامية بالأفكار المتجدّدة والنظريات العلميّة الرائدة التي أسهمت ولاريب في إغناء حضارة الإسلام وإثراء ثقافته.

ص: 13

والاجتهاد الإمامي مدين في حيويّته وتدفّقه إلى آراء الشيعة في علمائهم ومراجعهم، وأنّهم مهما بلغت منزلتهم وسمت مرتبتهم ليسوا بفوق أن يخطئوا، وإن هم إلّاأبناء الدليل وأتباع البرهان، فهم في نَصَب مستمرّ وجهد واجتهاد وتعب في استنباط النصوص الشرعية، وتوظيف الأدلة، وقبلها في التأسيس عقلياً وشرعياً لصحة أدلّتهم، ومع كلّ هذا فهم ليسوا في مأمن من الخطأ مهما بلغوا من الشأو، وإنّ العصمة لأهل البيت عليهم السلام الذين أذهبَ اللَّه عنهمُ الرجسَ وطهّرهم تطهيراً.

ومن هنا فقد حطّم الشيعة عقدة القداسة ... قداسة الرجال غير المعصومين، والجمود على رأي عالِم معيّن مهما عظم شأنه، فبقي المجتمع الشيعي ينبض بالحياة، ما دام لا يجيز فقهاؤه تقليد المجتهد الميت، حتّى لو كان أعلم من الأحياء إلّا في نطاق ضيّق محدود. فالحياة شرط حيويّ في جواز اتّباع رأي المفتي ومرجع التقليد.

يقول الإمام قدس سره في هذا المضمار: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال، ثالثها الفصل بين البدوي والاستمراري، ولا إشكال في أنّ الأصل الأوّلي حرمة العمل بما وراء العلم خرج عنه العمل بفتوي الحيّ، وبقي غيره فلابدّ من الخروج عنه، ولما كان عمدة ما يمكن أن يُعوّل عليه هو الاستصحاب فلابدّ من تقريره وتحقيقه.

ويخلص الإمام رضوان اللَّه عليه إلى نتيجة خلاصتها انتفاء جواز تقليد الميّت إلّافي حالات استثنائية، يقول قدس سره في هذا المضمار: وغاية ما يستدلّ به لتقليد الميّت هو بناء العقلاء، فالمباني العقلية تفصّل بين التقليد الابتدائي للميّت

ص: 14

والبقاء على تقليد مجتهد كان حيّاً ثمّ تُوفّي فيما بعد، فالعقلاء وبعد تقليد مجتهدهم الحيّ الذي هو الأعلم بالأحكام لا يرون ضرورة الرجوع إلى مجتهد حيّ، وأقصى ما يستفاد من الروايات هو جواز تقليد المجتهد الحيّ والبقاء على تقليده؛ ولا توجد في أيّ من الروايات عن الأئمة الأطهار، ما يدعو المكلّفين إلى تقليد أفراد على أساس شرط الحياة؛ وكلّ ما يمكن استنتاجه: بأنّ المجتهد إذا كان واجب التقليد على المكلّفين، فإنّ أولئك المكلّفين يمكنهم حينئذٍ البقاء على تقليده، وفي غير هذه الصورة فلا يصحّ تقليد الميّت والانصراف عن تقليد المجتهد الحيّ.

وقد حظيت هذه المسألة بدعاوى إجماع، وهو أ نّه لا يجوز للمكلّف بأيّ وجه من الوجوه تقليد الميّت ابتداءً.

وقد كان لهذا بطبيعة الحال أثره الفاعل في بثّ الحيوية والروح في الفقه الشيعي ومن ثمّ نموّه وازدهاره، ليبقى في مأمن من التأثر بمجمل التغيّرات العالمية وبالتالي حيازته المكانة اللائقة به في العصر الحديث، بما ينطوي عليه من قوانين تلبّي متطلّبات الإنسان في الحياة المعاصرة.

فالإمام الخميني الكبير مع تبحّره في الفقه والاصول، وحضوره الواسع في ميادين السياسة العالمية، وتشكيله حكومة العدل الإسلامية، ومع دقّته وثاقب رأيه وفي إيمانه العميق بحاكميّة الإسلام في الحياة الإنسانية، وبسط القوانين الإلهية لتشمل كل شؤون الحياة البشرية، مع كلّ هذا فقد التفت إلى نقطة جوهرية للغاية، وعدّها من مزايا هذا الفقه.

يقول الإمام الراحل في هذا المضمار: «إنّني اؤمن بالفقه الجواهري، غير أنّ

ص: 15

الفقه الجواهري هو فقه متحرك، ومعنى هذا أنّ لعاملي الزمان والمكان أثرهما الفاعل في حركة الفقه، والاجتهاد الجواهري يتغير بتغيّر هذين العنصرين»(1)، ويوضّح ذلك قائلًا: إنّ موضوعاً ما في الفقه، قد يتّخذ في الظاهر حكماً معيّناً من الأحكام، ولكن بمرور الزمن، وتغيّر الأمكنة يخرج ذلك الموضوع- وتحت تأثير الظروف الزمانية والمكانية، والعلاقات الإقتصادية والسياسيّة العالميّة- من عنوانه السابق؛ ليدخل تحت عنوان جديد، ومن المحتّم عندئذٍ أن يكون للموضوع الجديد حكم جديد.

ويسوق- رضوان اللَّه عليه- أمثلة لذلك، فقد كان حمل السلاح في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الأطهار عليهم السلام جائزاً شائعاً، ولكن في عالم اليوم، تغيّرت ماهيّة الموضوع إلى الحدّ الذي لا يجرؤ فيه أيٌّ من الفقهاء في الإفتاء بجواز حمل السلاح، ثمّ يعدّ فتواه هذه مطابقة للموازين الفقهيّة.

وينسحب الأمر أيضاً على مسألة بيع واستهلاك المخدّرات، فقد أجاز عدد كبير من الفقهاء ذلك فيما مضى، أمّا اليوم، ومع هذا الوجود الهائل لعصابات التهريب، وما يكمن وراء ذلك من أهداف استعماريّة، لا يوجد فقيه واحد يمكنه إباحة ذلك وتجويزه.

لقد أورد الإمام الراحل- رضوان اللَّه عليه- أمثلة عديدة في هذا المضمار وكلّها تؤكّد بما لا يقبل الشكّ بأنّ مسألة الفقه المتحرك لا تنحصر في طرقه الحديثة


1- صحيفة النور 21/ 98.

ص: 16

والجديدة في الفقه الشيعي فقط، بل إنّ ذلك يتعدّى ليكون الفقه الإسلامي بأسره فقهاً متحركاً، وإنّ كلّ الفقهاء الآن وفيما مضى يتّبعون ذات الطريقة.

وهذه الخصوصيّة في الفقه، تكشف بوضوح تامّ عن حاجة المقلّدين إلى المجتهد الحيّ ... المجتهد الذي يحيط بظروف عصره وزمانه.

وعلى هذا فإنّ فتوى مجتهد مّا في زمن ومكان معيّنين، لا يمكن أن تكون لها دائماً حجّيّتها على المقلّدين في عصور اخرى.

الاجتهاد ومؤثّرات الزمان والمكان

يعدّ استنباط الحكم الشرعي من مصادره، عملية خطيرة، ومسؤولية كبيرة، إنطلاقاً من تحديد أحكام اللَّه عزّوجلّ كحدود للشريعة، وبما أنّ المقدّمات تُسفر عن نتيجة من صميمها، فإنّ الاجتهاد- كعلم وفنّ- تلزمه مقدّمات تكفل له انتهاج الطريق الصحيح الذي يقيه مواطن الزلل ومزالق الخطأ.

ومع ما أسلفنا ذكره يتّضح أنّ القضايا العالمية ومسائل العصر لها دورها المؤثرّ في اجتهاد المجتهدين، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ من خصائص الاجتهاد لدى الشيعة هو ابتعاده عن الرأي، والقياس والمصالح المرسلة والاستحسان في عملية الإفتاء، فهل هناك من طريق للمصالحة بين هذين الطريقين؟ وهل توجد نظرية يمكن أن توفّق بين الجانبين، أم أنّ نظرية تأثير

ص: 17

الزمان والمكان في الفقه تعني عقلنة(1) الفقه؟

وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال الذي يُطرح اليوم في المحافل العلمية والحوزة الشيعية وبشكل جادّ، ينبغي أن نلتفت إلى المخاطر التي تهدّد الفقه الشيعي في ظل هذه النظرية(2)؛ لأنّ فهماً مغلوطاً لتأثير نظرية تدخّل الزمان والمكان في الفقه، سيقود إلى عقلنة الفقه، ومن المؤكد- بل من البديهي- أنّ هذا سيُحدث تناقضاً مع ذات الشريعة المقدّسة، كما يتنافى وتعاليم أئمّتنا الأطهار عليهم السلام، وبالتالي يؤدّي إلى انحراف الفقه عن مهمته وسقوطه. وما أكثر الموارد والأمثلة في عصرنا الحاضر، التي يجنح فيها بعض الفقهاء باعتماد الاستدلالات المعقلنة إلى تغيير الموضوعات الفقهيّة وإصدار الأحكام انطلاقاً من إثبات عناوين وملازمات كانت تنطبق في عصر الأئمة عليهم السلام.

ومن خلال هذه الطريقة نجد كثيراً من الأحكام الشرعيّة تتّسع أو تضيق وفقاً لُاسلوب اولئك الفقهاء.

غير أ نّا نجد في آثار الإمام الراحل وملاحظات ذلك الفقيه الكبير دقّة عالية جدّاً؛ إذ نجده- رضوان اللَّه عليه- حذراً للغاية في اجتنابه الخلط(3) بين الطريقين؛ إذ نراه يتحرّى في تشخيص موضوعات الأحكام ملتزماً دائرة الآيات والروايات.


1- هيمنة العقل في عملية الإفتاء.
2- نظرية تأثير الزمان والمكان.
3- الخلط بين نظرية تأثير الزمان والمكان وعقلنة الفقه الذي يؤدّي إلى تهميش النصوص الشرعية.

ص: 18

ومن هنا فإنّنا لن نواجه أبداً في كتب الإمام الراحل قدس سره الفقهية مورداً من هذا القبيل دون استنطاق للآيات والروايات ونصوصها؛ سواء في بيان معاني الأحكام أو تعزيزها باستدلال عرفيّ وعقليّ، فالإمام- رضوان اللَّه عليه- لا يستبدل موضوعاً جاهزاً من قبل وإحلاله مكان موضوع آخر إلّافي ضوء ما اسلفنا ذكره.

إنّ مسألة تأثير الزمان والمكان في الفقه والتي حظيت باهتمام الإمام- رضوان اللَّه عليه- هي: أنّ الموضوع التي يتّخذ في الظاهر حكماً لا مناص منه، يكون بمرور الزمن وتغيّر الظروف العامّة قد خرج عن حكمه الخاصّ في ظروفه الخاصّة، وبالتالي يستلزم حكماً آخر بعد أن دخل في موضوع آخر، وبالتالي استلزامه بطبيعة الحال لحكم جديد.

والمسألة بعد التغيّر هي كسائر المسائل المستحدثة تحتاج إلى حكم فقهي ينسجم مع الموازين الفقهية ويتوجّب خضوعه للقواعد الفقهية.

وبالتالي فإنّه لا يعني عندما يفقد موضوع ما حكمه، يكون قابلًا وخاضعاً لحكم العقل على أساس القياس والاستحسان، ومن ثمّ اعتبار ذلك فقهاً متحرّكاً.

وفرق شاسع بين البحث عن حكم جديد لموضوع فَقَدَ حكمه السابق بسبب تغيّر الزمان والمكان ومجمل الظروف، وبين استغلال هذا الفقدان لإصدار حكم جديد انطلاقاً من اعتبارات القياس والاستحسان والرأي التي تتناقض مع مدرسة أهل البيت عليهم السلام الفقهية.

ص: 19

المسألة الثانية مؤهلات المرجعيّة العليا والزعامة الدينيّة

أولى الإمام الراحل قدس سره اهتماماً فائقاً في بحوثه، وأفرد في رسالته الجليلة فصولًا لبحث العلوم المختلفة التي تؤدّي دوراً حيويّاً في فهم أحاديث وفقه أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام، مشدّداً على ضرورتها في طريق تحصيل الاجتهاد المطلوب.

وسيّدنا الإمام قدس سره وهو يكتب في هذا الموضوع الحيوي ينتهج اسلوباً تربويّاً ينأى به عن الأساليب الجافّة، فهو يبحث من أجل أن يدلّ الآخرين، ويقود الجيل القادم إلى جادّة الصواب بعيداً عن مزالق الخطر ومهاوي السقوط، مؤكداً على الاقتصار في العلوم على ما ينفع وعدم تضييع الوقت في قضايا لا طائل من ورائها.

فيشدّد مثلًا على تعلّم العربيّة وسبر أغوارها وينبّه على مخاطر عدم استيعابها قائلًا: «كثيراً ما يقع المحصِّل في خلاف الواقع لأجل القصور في مهمّ اللغة وخصوصيّات كلام العرب».

وعندما يشترط الإمام الراحل قدس سره الانس بالمحاورات العرفية ينهى عن التعمّق في معرفة مواضيع الأحكام بطريقة الفلسفة التي تتعمّد الدقّة في تحديد المواضيع، ويعلّل ذلك قائلًا: إنّ أحكام الدين منصبّة على المواضيع كما يعرفها العرف العام، والرائج عند هذا العرف عدم الدقّة في تحديده لتلك المواضيع.

ويحذّر الإمام قدس سره وهو يشترط الإلمام بعلم الاصول من هدر الوقت في

ص: 20

بحوث لا طائل من ورائها ولا تسفر عن نتيجة علمية؛ ذلك أنّ علم الاصول غير مطلوب لذاته، بل هو وسيلة لمعرفة أحكام الدين وشرائع الإسلام، ومن هنا يتوجّب الاقتصار على ما ينفع منه.

ولا ينسى قدس سره أن يغتنم الفرصة فيعتذر- باسلوب اخلاقي رفيع- عن الأخباريين، فيحمل آراءهم على «محمل حسن» قائلًا: وظنّي أنّ تشديد نكير بعض أصحابنا الأخباريين على الاصوليين في تدوين الاصول، وتفرّع الأحكام عليها؛ إنّما نشأ من ملاحظة بعض مباحث كتب الاصول مما هي شبيهة- في كيفيّة الاستدلال والنقض والإبرام- بكتب العامّة، فظنّوا أنّ مباني استنباطهم الأحكام الشرعيّة أيضاً، شبيهة بمبانيهم من استعمال القياس والاستحسان والظنون.

ومن هنا فهو قدس سره يحاول تبرير موقفهم المتطرّف على أساس ردّ الفعل في قبال إفراط الاصوليين في الاستغراق بعلم الاصول بلا حدود يقول قدس سره:

«والإنصاف أنّ إنكارهم في جانب الإفراط كما أنّ كثرة اشتغال بعض طلبة الاصول والنظر إليه استقلالًا، وصرف العمر في المباحث التي لا يحتاج إليها في جانب التفريط».

وبهذا الاسلوب الهادئ يبحث الإمام الراحل مقدّمات الاجتهاد واضعاً إيّاها في إطار ثماينة شروط هي:

أولًا: الإلمام بعلوم العربية إلى الحدّ الذي يكفل للمتعلّم فهم كتاب اللَّه والسُّنّة.

ثانياً: الاطّلاع على المحاورات العرفيّة، وفهم المواضيع العرفيّة مع الابتعاد

ص: 21

عن المنحى الفلسفي الذي يعتمد الدقّة في فهم الموضوع خلافاً للعرف؛ والبقاء في دائرة العرف.

ثالثاً: تعلّم المنطق وقواعده لتوقّي السقوط في الاستدلالات المغلوطة.

رابعاً: الإحاطة بالمهمّات من مسائل اصول الفقه والقواعد التي يمكن بواسطتها فهم واستنباط الأحكام الشرعيّة.

خامساً: الإحاطة بعلم الرجال إلى الحدّ الذي ينفع في معرفة أحوال الرواة.

سادساً: معرفة الكتاب والسنّة وسبر غور الآيات والروايات وتحرّي الدقّة في فهمهما، ويعدّ هذا الشرط من أهمّ الشروط على الإطلاق؛ لإنّه يواكب الفقيه في جميع مراحل استنباط الحكم الشرعي.

سابعاً: التمرّن في عمليّات تفريع الفروع وإعادتها إلى الاصول لتعزيز ملكة الاستنباط.

ثامناً: دراسة فتاوى المتقدّمين واستنباطاتهم، ومعرفة ما اشتهر بينهم وما أجمعوا عليه لقربهم من عصر الروايات.

هذه هي مقدّمات الاجتهاد لدى الإمام الراحل قدس سره، وهي الشروط التي تؤهّل الفقيه ليكون في موقع الإفتاء فقط.

أمّا الزعامة الدينيّة والمرجعيّة العليا التي تؤهّل المجتهد إلى قيادة الامة والمجتمع، فتوجد شروط اخرى تضاف إلى ما ذكر آنفاً، فالذي يريد زعامة المذهب، وتكون فتواه هي السائدة، ويتدخّل في شؤون المجتمع ثقافيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، يتوجّب عليه أن يتحلّى بصفات اخرى وشروط اخرى، لم يتعرّض لها الإمام في حديثه الموجز هذا.

ص: 22

ويقول الإمام الراحل في نداء له في هذا المضمار إلى مراجع الشيعة وعموم العلماء: «على المجتهد أن يكون مُلمّاً بمسائل عصره محطياً بها، فلم يعدّ بمستساغ للشباب والناس عموماً أن يقول مرجعهم ومجتهدهم: إنّني لا ابدي رأياً في قضايا السياسة، فالتعرف على اسلوب التعامل في مواجهة الألاعيب والدسائس السائدة في الثقافة العالميّة، وعمق الرؤية الاقتصاديّة، وكيفيّة التعامل مع النظام الاقتصادي العالمي، والتعمّق في السياسة وحتّى معرفة السياسيّين والساسة، والمعادلات الحاكمة، وتفهّم نقاط القوّة والضعف لدى القطبين الرأسمالي والشيوعي، ودرك دورهما الاستراتيجي في إدارة العالم؛ إنّ كلّ هذا هو من خصائص المجتهد الجامع للشرائط.

كما ينبغي على المجتهد أن يتحلّى بالفطنة والذكاء والفراسة، وهو يتصدّى لتوجيه المجتمع الإسلامي الكبير بل والمجتمع العالمي بأسره.

فإضافة إلى الإخلاص والتقوى والزهد الذي هو من شأن المجتهد، فإنّ عليه أن يكون مديراً ومدبّراً حقيقيّاً.

فالحكومة في رأي المجتهد الحقيقي هي الفلسفة العملية لمجموع الفقه في نواحي الحياة البشرية. ذلك أنّ الحكومة هي التطبيق العملي الذي يجسّد موقف الفقه تجاه المشكلات الإجتماعيّة، والسياسيّة، والعسكريّة، والثقافيّة. ولأنّ الفقه هو النظريّة الواقعيّة الحقيقيّة الكاملة والشاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد»(1)


1- صحيفة النور 21: 98.

ص: 23

والإمام الراحل وهو يطرح شروط المرجعيّة العليا، فإنّه يحدّد ملامح شخصية الزعيم الديني، الذي ينبغي أن يكون ذا رؤية سياسيّة رشيدة، وعقليّة اقتصاديّة عميقة تمكّنه من فهم قوانين الاقتصاد العالميّ، من أجل أن يتعرّف على مواطن الضعف في النظم غير الإسلاميّة، فالزعيم الذي يطرح نفسه عالمياً لا ينبغي له أن يكون خاوياً من ثقافة عصره.

وكاتب هذه السطور لا يدّعي أبداً انتفاء اجتهاد من لا يلمّ بثقافة زمانه، وبالعكس فلا يثبت اجتهاد فردٍ مّا باطّلاعه على ثقافة عصره فحسب، وبالتالي يحقّ له إبداء رأيه في القضايا الإسلامية.

إنّنا في صدد توضيح آراء الإمام الراحل قدس سره التي تتلخّص في أنّه لا يحقّ لمجتهد مّا زعامة الامة والتسلّط على مقدراتها والتدخّل في شؤونها السياسيّة بمجرّد اجتهاده، بل ويجب أن لا يقتصر الفقيه على الفقه في اطره القديمة.

عليه أن يتوسّع في مساره الفقهي ليشمل رقعة الحياة العامّة، بكلّ ما تنطوي عليه الحياة من هموم في السياسية والاقتصاد والثقافة، حيث يجب على الفقيه الزعيم أن يكون قديراً في بيان الأحكام الشرعية، والقوانين العامّة للفروعات والمسائل المستحدثة في ميادين السياسة والاقتصاد، معتمداً بذلك القواعد الفقهية المنقّحة في الحوزات العلمية والحسّ الفقهي المنبثق من فهم الآيات القرآنية والروايات.

ص: 24

اسلوبنا في تحقيق الكتاب:

سبق وأن أشرنا إلى أن هذه الرسالة الموسومة ب «الاجتهاد والتقليد» قد الّفت في عام 1370 ه. قّ. وذلك في الدورة الاولى من دروس الاصول.

غير أنّ الإمام قدس سره قد أضاف إليها فصلين آخرين أحدهما مُلحق ببحثه حول تقليد الأعلم الأفضل، والآخر لاحق بالبحث حول تقليد الميّت، أضافهما قدس سره في دورته الاصولية الثانية عند تدريسه لهذين المبحثين.

ومن هنا فقد جاء الفصلان متأخّرين عن موضعيهما المناسبين؛ بسبب انتقال الكتاب إلى صيغته النهائية في سنة الإعداد والتدريس في الدورة الاولى.

وإنّنا إذ نوضّح ذلك للقُرّاء الكرام ليستبين هدفنا من إنهاء الكتاب في الفصل الثالث، ولنؤكد التزامنا الأمانة في المحافظة على تسلسله في طبعته الاولى التي أعدّها سماحة آية اللَّه الحاج الشيخ مجتبى الطهراني حفظه اللَّه.

عملنا في الكتاب:

وقد جاء منهجنا في تصحيح الكتاب وتخريج نصوصه وأقواله وإعداده للطبع ثانية محققاً منقّحاً وفقاً لما هو معهود ومتّبع في مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، فالمراحل التي يمرّ بها الكتاب كالآتي:

أولًا: مقابلة المطبوع على النسخة المصحّحة أو المخطوطة بقلم المصنّف.

والكتاب الذي بين يديك- عزيزي القارئ- حيث لم نعثر على نسخته

ص: 25

الأصلية، بل ضاعت بعد الطبعة الاولى، فجعلنا النسخة المتداولة مصدراً وصحّحنا بعض العبائر وغيّرنا بعضاً وقد اشير في المواضع المهمّة إلى ذلك.

ثانياً: عنونة الفصول والبحوث؛ وفي هذا الكتاب فإنّ بعض عناوين طبعته الاولى تعود إلى المصنّف نفسه وبعضها الآخر إلى منقّحه. وقد قامت المؤسسة بتغيير بعضها وإضافة عناوين جديدة رأتها ضروريّة مع التأكيد على صيانة النصّ من التصحيف.

ثالثاً: ضبط مصادر الآيات والروايات والأقوال سواء صُرِّح بقائلها أم لا.

رابعاً: ترجمة الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب- علماءً ورجالًا- انطلاقاً من أهمّية آثار الإمام وانتشارها في رُقعة واسعة من بلدان العالم الإسلامي، ومثل هذه التراجم ستكون ولاشكّ ضروريّة في رأي القرّاء؛ للإحاطة بموجز عن سيرة هذا أو ذاك من الفقهاء والرواة، ممّن اعتمدهم الإمام في الرواية أو أعرض عنهم.

خامساً: وضع فهرسة عامّة لخدمة العلماء والباحثين.

وفي الختام نتقدّم إلى اللَّه العلي القدير أن يمنّ علينا بالموفّقية في طريق نشر أفكار الزعيم الديني الأعظم، وداعية الإسلام الأكبر، الذي كان مناراً للدين، ومشعلًا وهّاجاً في طريق الحضارة الإسلامية، الإمام الخميني قدس سره.

مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره

فرع قم المقدّسة.

خرداد 1376- محرم الحرام 1418

ص: 1

المدخل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين

ص: 2

ص: 3

الاجتهاد والتقليد ونذكر مهمّات مباحثهما، ونترك ما لا ثمرة مهمّة فيه، ونتمّ في ضمن فصول

ص: 4

ص: 5

الفصل الأوّل ذكر شؤون الفقيه

اشارة

نريد أن نبيّن فيه من لا يجوز له أن يرجع إلى غيره في تكاليفه الشرعيّة، ومن يجوز له العمل على طبق رأيه ويكون معذوراً أو مثاباً لو عمل به، ومن يجوز له الإفتاء، ومن له منصب القضاء ويكون حكمه فاصلًا للخصومة، ومن تكون له الولاية والزعامة في الامور السياسيّة الشرعيّة، ومن يكون مرجعاً للفتيا ويجوز أو يجب لغيره الرجوع إليه.

ولمّا كانت ديانة الإسلام كفيلةً بجميع احتياجات البشر؛ من اموره السياسيّة واجتماعاته المدنيّة إلى حياته الفرديّة- كما يتّضح ذلك بالرجوع إلى أحكامه في فنون الاحتياجات، وشؤون الاجتماع وغيرها- فلا محالة يكون لها في كلّ ما أشرنا إليه تكليف، فلنذكر العناوين الستّة في امور:

ص: 6

الأمر الأوّل حكم من له قوّة الاستنباط فعلًا

إنّ الموضوع لعدم جواز الرجوع إلى الغير في التكليف، وعدم جواز تقليد الغير، هو قوّة استنباط الأحكام من الأدّلة وإمكانه، ولو لم يستنبط شيئاً منها بالفعل. فلو فرض حصولها لشخص من ممارسة مقدّمات الاجتهاد، من غير الرجوع إلى مسألة واحدة في الفقه- بحيث يصدق عليه «أنّه جاهل بالأحكام غير عارف بها»- لا يجوز له الرجوع إلى غيره في الفتوى مع قوّة الاستنباط فعلًا وإمكانه له، من غير فرق بين من له قوّة مطلقة، أو في بعض الأبواب، أو الأحكام بالنسبة إليها؛ لأنّ الدليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، هو بناء العقلاء- ولا دليل لفظيّ يتمسّك بإطلاقه-، ولم يثبت بناؤهم في مثله، فإنّ من له قوّة الاستنباط، وتتهيّأ له أسبابه، ويحتمل في كلّ مسألة أن تكون الأمارات والاصول الموجودة فيها، مخالفة لرأي غيره بنظره، ويكون غيره مخطئاً في اجتهاده،

ص: 7

وتكون له طرق فعليّة إلى إحراز تكليفه، لا يعذره العقلاء في رجوعه إليه.

وبالجملة: موضوع بناء العقلاء ظاهراً، هو الجاهل الذي لا يتمكّن من تحصيل الطريق فعلًا إلى الواقع، لا مثل هذا الشخص الذي تكون الطرق والأمارات إلى الواقع وإلى وظائفه، موجودة لديه، ولم يكن الفاصل بينه وبين العلم بوظائفه وتكاليفه، إلّاالنظر والرجوع إلى الكتب المعدّة لذلك، فيجب عليه عقلًا الاجتهاد، وبذل الوسع في تحصيل مطلوبات الشرع، وما يحتاج إليه في أعمال نفسه.

وما قد يتراء ى من رجوع بعض أصحاب الصناعات أحياناً إلى بعض في تشخيص بعض الامور، إنّما هو من باب ترجيح بعض الأغراض على بعض، كما لو كان له شغل أهمّ من تشخيص ذلك الموضوع، أو يكون من باب الاحتياط وتقوية نظره بنظره، أو من باب رفع اليد عن بعض الأغراض؛ لأجل عدم الاهتمام به، وترجيح الاستراحة عليه وغير ذلك، وقياس التكاليف الإلهيّة بها مع الفارق.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى الخبير فيها، إنّما هو لأجل إلغاء احتمال الخلاف، وكون نظره مصيباً فيه نوعاً، ومبنى العقلاء فيه هو المبنى في العمل على أصالة الصحّة، وخبر الثقة، واليد، وأمثالها، وهذا محقّق في الجاهل الذي له قوّة الاستنباط وغيره.

نعم، الناظر في المسألة إذا كان نظره مخالفاً لغيره، لا يجوز له الرجوع إليه؛ لتخطئة اجتهاده في نظره، وأمّا غيره فيجوز له الرجوع إليه؛ بمناط رجوع الجاهل إلى العالم، وهو إلغاء احتمال الخلاف.

ص: 8

لكنّه محلّ إشكال، خصوصاً مع ما يرى من كثرة اختلاف نظر الفقهاء في الأحكام، ولهذا يحتمل أن يكون للانسداد دخالة في ذلك الرجوع.

ويحتمل أن يكون مبنى المسألة سيرة المتشرّعة، والقدر المتيقّن منها غير ما نحن فيه؛ والمسألة مشكلة، وسيأتي مزيد توضيح إن شاء اللَّه (1)


1- يأتي في الصفحة 82- 87.

ص: 9

الأمر الثاني بيان مقدّمات الاجتهاد

موضوع جوازالعمل على رأيه- بحيث يكون مثاباً أومعذوراً في العمل به عقلًا وشرعاً- هو تحصيل الحكم الشرعيّ المستنبط بالطرق المتعارفة لدى أصحاب الفنّ، أو تحصيل العذر كذلك، وهو لا يحصل إلّابتحصيل مقدّمات الاجتهاد، وهى كثيرة:

منها: العلم بفنون العلوم العربيّة بمقدار يحتاج إليه في فهم الكتاب والسنّة، فكثيراً ما يقع المحصّل في خلاف الواقع؛ لأجل القصور في فهم اللّغة وخصوصيّات كلام العرب لدى المحاورات، فلابدّ له من التدبّر في محاورات أهل اللّسان، وتحصيل علم اللّغة وسائر العلوم العربيّة بالمقدار المحتاج إليه.

ومنها: الانس بالمحاورات العرفيّة وفهم الموضوعات العرفيّة؛ ممّا جرت محاورة الكتاب والسنّة على طبقها، والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم

ص: 10

والعقليّات الرقيقة وبين المعاني العرفية العاديّة؛ فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله، كما يتّفق كثيراً لبعض المشتغلين بدقائق العلوم- حتّى اصول الفقه بالمعنى الرائج في أعصارنا- الخلطُ بين المعاني العرفيّة السوقيّة الرائجة بين أهل المحاورة المبنيّ عليها الكتاب والسنّة، والدقائق الخارجة عن فهم العرف.

بل قد يوقع الخلط لبعضهم بين الاصطلاحات الرائجة في العلوم الفلسفيّة أو الأدقّ منها، وبين المعاني العرفيّة، في خلاف الواقع لأجله.

ومنها: تعلّم المنطق بمقدار تشخيص الأقيسة، وترتيب الحدود، وتنظيم الأشكال من الاقترانيّات وغيرها، وتمييز عقيمها من غيرها، والمباحث الرائجة منه في نوع المحاورات؛ لئلّا يقع في الخطأ، لأجل إهمال بعض قواعده. وأمّا تفاصيل قواعده ودقائقه الغير الرائجة في لسان أهل المحاورة، فليست لازمة، ولا يحتاج إليها في الاستنباط.

ومنها:- وهو من المهمّات- العلم بمهمّات مسائل اصول الفقه؛ ممّا هي دخيلة في فهم الأحكام الشرعيّة. وأمّا المسائل التي لا ثمرة لها، أو لا يحتاج في تثمير الثمرة منها إلى تلك التدقيقات والتفاصيل المتداولة، فالأولى ترك التعرّض لها، أو تقصير مباحثها والاشتغال بما هو أهمّ وأثمر. فمن أنكر دخالة علم الاصول في استنباط الأحكام (1)، فقد أفرط؛ ضرورة تقوّم استنباط كثير من الأحكام بإتقان مسائله، وبدونه يتعذّر الاستنباط في هذا الزمان، وقياس زمان أصحاب


1- انظر روضات الجنّات 7: 104 والهامش التالي.

ص: 11

الأئمّة بزماننا مع الفارق من جهات.

وظنّي أنّ تشديد نكير بعض أصحابنا الأخباريّين على الاصوليّين في تدوين الاصول، وتفرّع الأحكام عليها(1)، إنّما نشأ من ملاحظة بعض مباحث كتب الاصول؛ ممّا هى شبيهة في كيفيّة الاستدلال والنقض والابرام بكتب العامّ، فظنّوا أنّ مباني استنباطهم الأحكام الشرعيّة أيضاً شبيهة بهم؛ من استعمال القياس والاستحسان والظنون، مع أنّ المطّلع على طريقتهم في استنباطها، يرى أنّهم لم يتعدّوا عن الكتاب والسّنة والإجماع الراجع إلى كشف الدليل المعتبر، لا المصطلح بين العامّة(2).

نعم، ربّما يوجد في بعض كتب الأعاظم لبعض الفروع المستنبطة من الأخبار، استدلالات شبيهة باستدلالاتهم؛ لمصالح منظورة في تلك الأزمنة، وهذا لا يوجب الطعن على أساطين الدين وقوّام المذهب.

والإنصاف: أنّ إنكارهم في جانب الإفراط، كما أنّ كثرة اشتغال بعض طلبة الاصول والنظر إليه استقلالًا، وتوهّم أنّه علم برأسه، وتحصيلَه كمال النفس (3)، وصرفَ العمر في المباحث الغير المحتاج إليها في الفقه لهذا التوهّم، في


1- الفوائد المدنيّة: 2 و 277- 278، هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار: 232- 234.
2- روضة الناظر وجنّة المناظر: 73، المحصول في علم اصول الفقه 2: 3، شرح العضديّ على مختصر ابن الحاجب: 122، شرحا البدخشيّ والأسنويّ على منهاج البيضاويّ 2: 377- 378.
3- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتيّ: 33 سطر 28.

ص: 12

طرف التفريط، والعذر بأنّ الاشتغال بتلك المباحث يوجب تشحيذ الذهن والانس بدقائق الفنّ، غير وجيه.

فالعاقل الضنين بنقد عمره، لابدّ [له من ترك صرفه فيما لا يعني، وبذل جهده فيما هو محتاج إليه في معاشه ومعاده؛ وهو نفس مسائل علم الفقه الذي هو قانون المعاش والمعاد، وطريق الوصول إلى قرب الربّ بعد العلم بالمعارف.

فطالب العلم والسعادة لابدّ وأن يشتغل بعلم الاصول بمقدار محتاج إليه- وهو ما يتوقّف عليه الاستنباط-، ويترك فضول مباحثه أو يقلّله، وصرف الهمّ والوقت في مباحث الفقه، خصوصاً فيما يحتاج إليه في عمله ليلًا ونهاراً.

ومنها: علم الرجال بمقدار يحتاج إليه في تشخيص الروايات، ولو بالمراجعة إلى الكتب المعدّة له حال الاستنباط.

وما قيل: من عدم الاحتياج إليه؛ لقطعيّة صدور ما في الكتب الأربعة، أو شهادة مصنّفيها بصحّة جميعها(1)، أو غير ذلك (2)، كما ترى

ومنها:- وهو الأهمّ الألزم- معرفة الكتاب والسنّة؛ ممّا يحتاج إليه في الاستنباط ولو بالرجوع إليهما حال الاستنباط، والفحص عن معانيهما لغة وعرفاً، وعن معارضاتهما والقرائن الصارفة بقدر الإمكان والوسع، وعدم [التقصير] فيه، والرجوعُ إلى شأن نزول الآيات وكيفيّة استدلال الأئمّة عليهم السلام بها.

والمهمّ للطالب المستنبط الانس بالأخبار الصادرة عن أهل البيت؛ فإنّها


1- كشهادة الكليني والصدوق 0 في أوّل الكافي والفقيه.
2- الفوائد المدنية: 56- 61، الحدائق الناضرة 1: 15- 22.

ص: 13

رحى العلم، وعليها يدور الاجتهاد، والانس بلسانهم وكيفيّة محاوراتهم ومخاطباتهم، من أهمّ الامور للمحصّل.

فعن «معاني الأخبار» بسنده عن داود بن فرقد(1) قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول:

(أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا؛ إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب)(2).

وعن «العيون» بإسناده عن الرضا عليه السلام قال:

(من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

ثم قال عليه السلام:

(إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا)(3)

. ومنها: تكرير تفريع الفروع على الاصول، حتّى تحصل له قوّة الاستنباط


1- داود بن فرقد: هو الشيخ الثقة الثقة؛ داود بن أبي يزيد فرقد الأسديّ النصريّ الكوفيّ. صحب الصادق والكاظم صلوات اللَّه عليهما، وكان له كتاب روته عنه جماعات كثيرة من أصحابنا، روى عن عبد الأعلى مولى آل سام، وعمرو بن عثمان الجهنيّ، والمعلّى بن خُنيس، وروى عنه الحسن بن عليّ بن فضّال، وصفوان بن يحيى ومحمّد بن أبي عمير. انظر رجال النجاشيّ: 158/ 418، ورجال الشيخ: 189 و 349.
2- معاني الأخبار: 1/ 1، وسائل الشيعة 18: 84، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 27.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 290/ 39، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضى الباب 9، الحديث 22.

ص: 14

وتكمل فيه؛ فإنَّ الاجتهاد من العلوم العمليّة، وللعمل فيه دخالة تامّة، كما لايخفى.

ومنها: الفحص الكامل عن كلمات القوم، خصوصاً قدماؤهم الذين دأبهم الفتوى بمتون الأخبار، كشيخ الطائفة(1) في بعض مصنّفاته (2)، والصدوقين (3)، ومن


1- شيخ الطائفة: هو شيخ الطائفة المحقّة، ورافع أعلام الشريعة الحقّة، إمام الفرقة بعد الأئمّة المعصومين عليهم السلام؛ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ البغداديّ الغرويّ. ولد بطوس سنة 385 ه، وحينما بلغ الثالثة والعشرين من عمره المبارك هاجر إلى بغداد، فتلمّذ عند الشيخ المفيد نحواً من خمس سنين حتّى وفاته، ثمّ التحق بالسيّد المرتضى، فلازمه نحواً من ثمان وعشرين سنة، ثمّ استقلّ بزعامة الطائفة ورئاستها، وصارت داره جامعة تضمّ أكثر من ثلاثمائة مجتهد من الخاصّة، كالشيخ آدم بن يونس النسفيّ، والشيخ أحمد بن الحسين الخزاعيّ النيسابوريّ، والشيخ أبو الصلاح الحلبيّ، والشيخ أبو عليّ الحسن ابن شيخ الطائفة نفسه، وغيرهم من علماء الامّة. وقد كان رحمه الله ذا إحاطة تامّة بمذاهب أهل السنّة، لذا عده السبكيّ- سهواً- في طبقاته من علماء الشافعية. كما كان خبيراً بعلم الكلام ملمّاً بدقائقة وخفاياه، ولعلّ أبرز ما أنجزه الشيخ الطوسي هو أنّه أدخل عنصر الاجتهاد على الفقه الإماميّ، ونحا به منحى اصوليّاً بعد أن كان أخباريّاً في نزعته؛ لا يتجاوز نقل الروايات بألفاظها أو بعبارات اخرى على أحسن تقدير، كما صرّح به الشيخ نفسه في مقدّمة كتابه المبسوط. توفيّ رحمه الله سنة 460 ه، ودفن بداره في الغريّ، التي صارت بعد ذلك مسجداً يعرف باسمه. انظر خاتمة المستدرك 3: 505، ومقدمة العلّامة الحجّة آغا بزرگ الطهرانيّ على تفسير التبيان.
2- أي النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى.
3- الصدوقان هما: عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، وولده محمّد رحمهما اللَّه تعالى أمّا الأب، فهو الشيخ الأقدم، والطود الأشم، العالم الفقيه المحدّث، صاحب المقامات الباهرة، والدرجات الرفيعة؛ أبو الحسن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي. خاطبه الإمام العسكريّ عليه السلام- على ما عن الاحتجاج- بقوله: \iُ( اوصيك يا شيخى ومعتمدي وفقيهي؛ أبا الحسن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، وفّقك اللَّه لمرضاته، وجعل من ولدك أولاداً صالحين ...)\E وكان رحمه الله أوّل من ابتكر طرح الأسانيد، والجمع بين النظائر والإتيان بالخبر مع قرينه، وذلك في رسالة الشرائع التي أ لّفها لولده وبعض فقراتها مذكور فى الفقيه والهداية والمقنع لابنه. ونظراً للثقة المطلقة التي منحها الأصحاب إيّاه، ولاعتمادهم المطلق عليه، لذا فقد كانوا يأخذون الفتاوى من رسالته إذا أعوزهم النصّ، وهذا من متفرّداته قدّس اللَّه نفسه الزكيّة. مات رحمه الله سنة 329 ه. انظر رجال النجاشي 261/ 684، وخاتمة المستدرك 3: 527- 529. وأمّا الابن، فهو شيخ من مشايخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدّثين، والصدوق فيما يرويه عن الأئمّة عليهم السلام؛ أبو جعفر محمّد بن عليّ القميّ. ولد فى حدود سنة 305 ه بدعاء صاحب الأمر عليه السلام، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر. وصفه الإمام عليه السلام في التوقيع الخارج من ناحيته: بأنّه \iُ( فقيه خيّر مبارك ينفع اللَّه به)\E فكان منذ حداثته اعجوبة عصره فى كثرة حفظه، وكلّما روى شيئاً تعجّب الناس منه قائلين: هذا الشأن خصوصيّة لك ولأخيك؛ لأنّكما ولدتما بدعاء الصاحب عليه السلام. ولا غرو في ذلك فقد ورد الصدوق بغداد وهو حدث السن، فسمع منه شيوخ الطائفة، كمحمّد بن هارون التلعكبريّ، والمفيد، والحسين الغضائرىّ، ووالد الشيخ النجّاشيّ، وجعفر بن حسكة القمّي، ومحمّد بن سليم الحمرانيّ، وغيرهم من أعاظم الطائفة. له نحو من ثلاثمائة مصنف، أهم ما وصل منها كتاب من لا يحضره الفقيه، والتوحيد، والخصال، وعلل الشرائع، وغيرها ومنها الهداية والمقنع فكثير من عبائرهما مطابق لمتون الأخبار. توفّي رحمه الله بالري سنة 381 ه. انظر تنقيح المقال 3: 154، وخاتمة المستدرك 3: 524- 525.

ص: 15

يحذو حذوهم، ويقرب عصره [من أعصارهم (1)، لئلّا يقع في خلاف الشهرة


1- كالشيخ المفيد قدس سره في كتاب المقنعة.

ص: 16

القديمة التي فيها- في بعض الموارد- مناط الإجماع (1).

ولابدّ للطالب [من الاعتناء بكلمات أمثالهم، وبطريقتهم في الفقه، وطرز استنباطهم، فإنّهم أساطين الفنّ، مع قربهم بزمان الأئمّة، وكون كثير من الاصول لديهم ممّا هي مفقودة في الأعصار المتأخّرة، حتّى زمن المحقّق (2)، والعلّامة(3)


1- راجع أنوار الهداية 1: 261- 265.
2- المحقّق: هو الإمام العلّامة المدقّق الشيخ؛ أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذليّ الحلّي. حاله في الفضل والعلم، والثقة والجلالة، والتحقيق والتدقيق، والفصاحة والشعر والأدب والإنشاء، وجميع العلوم والفضائل والمحاسن، أشهر من أن يذكر. ولد سنة 602 ه، وتلمّذ لدى والده الشيخ الحسن بن يحيى والسيّد النسّابة فخار بن معد الموسويّ، والفقيه محمّد بن جعفر بن أبي البقاء وغيرهم، وتخرّج به ابن اخته العلّامة الحلّي، والشيخ الحسن بن داود صاحب الرجال، والسيّد محمّد بن عليّ بن طاوس، والشيخ الحسن بن أبي طالب المعروف« بالفاضل الآبيّ» وآخرون غيرهم. وكان واحد أهل زمانه، وأقومهم بالحجّة، وأسرعهم استحضاراً، ولم يكن له نظير في زمانه، حتّى وصفه العلّامة في بعض إجازاته:« بأنّه كان أفضل أهل زمانه في الفقه»، ويشهد بذلك أنَّ لقب« المحقّق» عند الإطلاق، ينصرف إليه خاصّة، رغم كثرة المحقّقين من علماء الطائفة المحقّة. وقد جمع في شرائعه لبّ نهاية الشيخ التي هى مضامين الأخبار، وعصارة المبسوط والخلاف والسرائر. من مؤلّفاته شرائع الإسلام، المختصر النافع، المعتبر في شرح المختصر، المسلك في اصول الدين، المعارج في اصول الفقه ... توفّي رحمه الله سنة 676 ه. انظر رجال ابن داود 62/ 304، وتنقيح المقال 1: 214- 215، وقاموس الرجال 2: 616.
3- العلّامة: هو علّامة العالم، وفخر نوع بني آدم، آية اللَّه، أبو منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي، ولد سنة 648 ه، وأخذ عن والده سديد الدين يوسف، وخاله المحقّق الحلّي، والمحقّق الطوسي، والشيخ مفيدالدين محمّد بن الجهم وغيرهم، وعنه أخذ ولده فخرالدين محمّد، والشيخ قطب الدين الرازيّ، والسيّد عزّالدين الحسن بن زهرة الحلبي، وكان فقيهاً متكلّماً، حكيماً منطقياً، هندسيّاً رياضيّاً جامعاً لكافة الفنون متبحراً في كل العلوم العقلية والنقلية، إماماً في الفقه والاصول، ملأ الآفاق بتصانيفه، وعطّر الأكوان بتآليفه؛ فقد وزّعت تصانيفه على أيّام عمره من ولادته إلى وفاته، فكان قسط كلّ يوم منها كرّاساً، هذا مع ما كان عليه من التدريس والتعليم، والعبادات والزيارات، ورعاية الحقوق والمناظرات. من تصانيفه تذكرة الفقهاء، ومختلف الشيعة، ومنتهى المطلب في تحقيق المذهب، والجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد وغيرها. توفّي رحمه الله عام 726 ه، ودفن عند أمير المؤمنين عليه السلام. انظر تنقيح المقال 1: 314- 315، وخاتمة المستدرك 3: 459- 461.

ص: 17

وكذا الفحص عن فتاوى العامّة، [ولا] سيّما في مورد تعارض الأخبار، فإنّه المحتاج إليه في علاج التعارض، بل الفحص عن أخبارهم؛ فإنّه ربّما يعينه في فهم الأحكام.

فإذا استنبط حكماً شرعيّاً بعد الجهد الكامل وبذل الوسع فيما تقدّم، يجوز له العمل بما استنبط، ويكون معذوراً لو فرض تخلّفه عن الواقع.

ثمّ اعلم: أنّ موضوع جواز الإفتاء أيضاً عين ما ذكر؛ فإنّه إذا اجتهد واستنبط الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ، فكما يجوز له العمل به، يجوز له الإفتاء به، وهذا واضح.

ص: 18

الأمر الثالث البحث حول منصب القضاء والحكومة

اشارة

موضوع القضاء ليس هو ما تقدّم؛ لأنّه لمّا كان من المناصب المجعولة، فلابدّ من ملاحظة دليل جعله سعةً وضيقاً، وكذا الحال في الحكومة ونفوذ الحكم في الامور السياسيّة؛ ممّا يحتاج إليه الناس في حياتهم المدنيّة.

فنقول: لا إشكال في أنّ الأصل عدم نفوذ حكم أحد على غيره، قضاءً كان أو غيره، نبيّاً كان الحاكم أو وصيّ نبيّ أو غيرهما، ومجرّد النبوّة والرسالة والوصاية والعلم- بأيّ درجة كان- وسائر الفضائل، لا يوجب أن يكون حكم صاحبها نافذاً وقضاؤه فاصلًا.

فما يحكم به العقل، هو نفوذ حكم اللَّه- تعالى شأنه- في خلقه؛ لكونه مالكهم وخالقهم، والتصرّف فيهم- بأيّ نحو من التصرّف- يكون تصرّفاً في ملكه وسلطانه، وهو تعالى شأنه سلطان على كلّ الخلائق بالاستحقاق الذاتيّ، وسلطنة

ص: 19

غيره ونفوذ حكمه وقضائه تحتاج إلى جعله.

وقد نصب النبيَّ للخلافة والحكومة مطلقاً؛ قضاءً كانت أو غيره، فهو صلّى اللَّه عليه وآله سلطان من قبل اللَّه تعالى على العباد بجعله؛ قال تعالى

«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).

وَقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ»(2).

وَ قالَ: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(3).

ثمّ بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان الأئمّة عليهم السلام- واحداً بعد واحد- سلطاناً وحاكماً على العباد، ونافذاً حكمهم من قبل نصب اللَّه تعالى ونصب النبيّ؛ بمقتضى الآية المتقدّمة، والروايات المتواترة بين الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم (4)، واصول المذهب،


1- الأحزاب( 33): 6.
2- النساء( 4): 59.
3- النساء( 4): 65.
4- كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: \iُ( إنّي تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي؛ الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب اللَّه حبل محدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض).\E انظر سنن الترمذي 5: 327/ 3874، والشفا، القاضي عياضي( ط. الفارابي) 2: 105، والدر المنثور، السيوطي 2: 60، ومشكاة المصابيح، التبريزي( ط. المكتب الاسلامي): 6144، وإتحاف السادة المتّقين، الزبيدي( اوفسيت لبنان) 10: 507، والأمالي، الشجريّ( بيروت) 1: 152، وكنز العمّال 1: 173/ 873، والكافي 1: 233/ 3، والأمالي، الشيخ الطوسي: 162( مع فوارق يسيرة). وكقوله صلى الله عليه و آله و سلم: \iُ( لا يزال الدين قائماً حتّى يكون اثنا عشر خليفة من قريش).\E انظر مسند أحمد بن حنبل 5: 86، ودلائل النبوّة، البيهقيّ( ط. دار الكتب العلمية) 6: 324، والمعجم الكبير، الطبراني 2: 218/ 1896، وصحيح مسلم 4: 100- 102، وكنز العمّال 12: 33/ 33855، والسلسلة الصحيحة، الألباني( ط. المكتب الإسلامي): 964، والكافي 1: 441- 449، والخصال: 465- 480( مع فوارق يسيرة).

ص: 20

هذا ممّا لا إشكال فيه.

القضاء والحكومة في زمان الغيبة

وإنّما الإشكال في أمر القضاء والحكومة في زمان الغيبة، بعد قضاء الأصل المتقدّم، وبعد دلالة الأدلّة على أنّ القضاء والحكومة من المناصب الخاصّة للخليفة والنبيّ والوصيّ.

قال تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(1).

دلّ على أنّ جواز الحكومة بالحقّ من متفرّعات الخلافة، وغيرَ الخليفة لا يجوز له الحكم حتّى بالحقّ، فتأمّل.

وإنّما قلنا: بجوازها؛ لكون الأمر في مقام رفع الحظر، فلا يستفاد منه إلّا الجواز.


1- ص( 38): 26.

ص: 21

وتدلّ عليه أيضاً صحيحة سليمان بن خالد(1)، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

(اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين؛ لنبيّ، أو وصيّ نبيّ)(2).

ورواية إسحاق بن عمّار(3)، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (قال أميرالمؤمنين لشريح:(4)

يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ

)(5)


1- سليمان بن خالد: هو الثقة الوجيه الفقيه المقرئ؛ أبو الربيع سليمان بن خالد بن دهقان بن نافلة. روى عن الباقر والصادق عليهما السلام، وكان من خاصّة الإمام الصادق عليه السلام وبطانته، وثقاته الفقهاء الصالحين. خرج مع زيد بن عليّ رضوان اللَّه عليه فقطعت يده، ولذا سمي« بالأقطع» وروى عنهما عليهما السلام وعن أبي بصير، وروى عنه إسحاق بن عمّار وجميل بن درّاج، وهشام بن سالم، مات في حياة الصادق عليه السلام فتوجّع لفقده، ودعا لولده، وأوصى بهم أصحابه. انظر الإرشاد: 288، ورجال النجاشي: 183/ 484، ومعجم رجال الحديث 8: 252.
2- الكافي 7: 406/ 1، الفقيه 3: 4/ 7، تهذيب الأحكام 6: 217/ 511، وسائل الشيعة 18: 7، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
3- إسحاق بن عمار: هو الشيخ الفاضل الثقة؛ أبو يعقوب إسحاق بن عمّار بن حيّان الصيرفي الكوفي، مولى بني تغلب، جمع اللَّه له الدنيا والآخرة؛ فكان من بيت كبير من بيوت الشيعة، ثريّاً ورعاً تقيّاً. روى عن الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام وعن أبي بصير، وعبد اللَّه بن أبي يعفور، وعمر بن يزيد ... وروى عنه، إبراهيم بن مهزم، وعليّ بن رئاب، ويونس بن عبد الرحمان. انظر رجال النجّاشي 71: 169، ورجال الكشّي 2: 705، ومعجم رجال الحديث 3: 54- 56.
4- شريح: هو أبو امية؛ شريح بن الحارث( أو ابن شرحبيل، أو شراحيل) ابن قيس الكندي الكوفيّ القاضي. أدرك النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يلقه، وكان شاعراً محسناً قائفاً، استقضاه عمر بن الخطّاب على الكوفة ومن بعده عثمان، ثمّ أراد أمير المؤمنين عليه السلام عزله فلم يتيسّر له؛ لأنّ أهل الكوفة قالوا له عليه السلام:« لا تعزله؛ لأنّه منصوب من قبل عمر، وبايعناك على أن لا تغيّر شيئاً قرّره الشيخان» ثمّ ولي القضاء لمعاوية، ويزيد، وعبد الملك، ولمّا تولّى المختار بن أبي عبيدة الثقفي، نفاه عن الكوفة إلى بانقيا» التي لم يكن فيها غير اليهود، فقضى بينهم مدّة شهرين، فلمّا قتل المختار وتولّى الحجّاج إمارة الكوفة ردّه إليها واستقضاه، فاستعفاه شريح، وكان قد شاخ وهرم، فلم يقضِ بين اثنين حتّى مات في حدود سنة 80 ه. انظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال 12: 435/ 2725، وتنقيح المقال 2: 83، وقاموس الرجال 5: 405- 408.
5- الكافي 7: 406/ 2، الفقيه 3: 4/ 8 المقنع: 395، تهذيب الأحكام 6: 217/ 509، وسائل الشيعة 18: 6، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

ص: 22

فلابدّ في الإخراج من الأصل والأدلّة من دليل معتبر.

فنقول: إنّا نعلم علماً ضروريّاً؛ بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المبعوث بالنبوّة الختميّة أكمل النبوّات وأتمّ الأديان، بعد عدم إهماله جميع ما يحتاج إليه البشر حتّى آداب النوم والطعام، وحتّى أرش الخدش (1)، لا يمكن أن يهمل هذا الأمر المهمّ الذي يكون من أهمّ ما تحتاج إليه الامّة ليلًا ونهاراً، فلو أهمل- والعياذ باللَّه- مثل هذا الأمر المهمّ؛ أي أمر السياسة والقضاء، لكان تشريعه ناقصاً، وكان مخالفاً لخطبته في حجّة الوداع (2)


1- ففي الكافي: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟. قال: \iُ( صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللَّه( ص) وإملائه، من فلق فيه، وخطّ عليّ بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شي ء يحتاج الناس إليه؛ حتّى الأرش في الخدش ...).\E الكافي 1: 186/ 1، وسائل الشيعة 19: 271، كتاب الدّيات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 48، الحديث 1.
2- أي قوله صلى الله عليه و آله و سلم: \iُ( أيُّها الناس، واللَّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّاوقد أمرتكم به، وما من شي ء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّاوقد نهيتكم عنه ...).\E انظر الكافي 2: 6/ 2، والمحاسن 278/ 399، وبحار الأنوار 2: 171/ 11 و 67: 96/ 3.

ص: 23

وكذا لو لم يعيّن تكليف الامّة في زمان الغيبة، أو لم يأمر الإمام بأن يعيّن تكليف الامّة في زمانها- مع إخباره بالغيبة وتطاولها(1)- كان نقصاً فاحشاً على ساحة التشريع والتقنين، يجب تنزيهها عنه.

فالضرورة قاضية بأنّ الامَّة بعد غيبة الإمام عليه السلام في تلك الأزمنة المتطاولة، لم تترك سدى في أمر السياسة والقضاء الذي هو من أهمّ ما يحتاجون إليه، خصوصاً مع تحريم الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، وتسميته: «رجوعاً إلى الطاغوت»، وأنّ المأخوذ بحكمهم سحت ولو كان الحقّ ثابتاً(2)، وهذا واضح بضرورة العقل، وتدلّ عليه بعض الروايات (3).

وما قد يقال: من أنّ غيبة الإمام منّا(4)، فلايجب تعيين السائس بعد ذلك، غير مقنع، فأيّ دخالة لأشخاص الأزمنة المتأخّرة في غيبته روحي له الفداء،


1- كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: \iُ( لابدّ للغلام من غيبة)\E فقيل له: ولِمَ يا رسول اللَّه؟ قال: \iُ( يخاف القتل)\E . راجع بحار الأنوار 52: 90 وما بعدها.
2- راجع الكافي 1: 54/ 10، الفقيه 3: 5/ 2، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، الاحتجاج: 355، وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- كقوله عليه السلام: \iُ( فإن قال قائل: ولِمَ جَعل اولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة، منها أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود ... فجعل عليهم فيما يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام ...)\E والرواية طويلة، راجع علل الشرائع: 253، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 99، بحار الأنوار 6: 60، بيع الإمام قدس سره 2: 462 وما بعدها.
4- الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 62.

ص: 24

خصوصاً مثل الشيعة الذين يدعون ربّهم ليلًا ونهاراً لتعجيل فرجه؟!

فإذا علم عدم إهمال جعل منصب الحكومة والقضاء بين الناس، فالقدر المتيقّن هو الفقيه العالم بالقضاء والسياسات الدينيّة العادل في الرعيّة.

خصوصاً مع ما يرى من تعظيم اللَّه تعالى ورسول الأكرم والأئمّة عليهم السلام العلم وحملته (1) وما ورد في حقّ العلماء من كونهم

(حصون الإسلام)

(2)،

(امناء)

(3)، و

(ورثة الأنبياء)

(4)، و

(خلفاء رسول اللَّه)

(5)، و

(أمناء الرسل)

(6)، وأنّهم

(كسائرالأنبياء)

(7)، و

(منزلتهم منزلة الأنبياء في بني إسرائيل)

(8)،


1- كقوله تعالى:\i« إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»\E فاطر( 35): 28. وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: \iُ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللَّه به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضاً به، وإنّه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومَن في الأرض؛ حتىّ الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ...)\E الوافي 1: 42، الكافي 1: 26/ 1.
2- الكافي 1: 30/ 3، علل الشرائع: 462/ 2، وفي رواية: \iُ( حصون المسلمين)\E راجع قرب الإسناد 303/ 1190، بحار الأنوار 79: 177.
3- مشكاة الأنوار: 59، بحار الأنوار 67: 287/ 11.
4- الكافي 1: 24/ 2، بصائر الدرجات: 31/ 3، وسائل الشيعة 18: 35، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 36/ 94، معاني الأخبار: 374/ 1، وسائل الشيعة 18: 66، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.
6- الكافي 1: 37/ 5، نوادر الراوندي: 27، عوالي اللآلي 4: 59 و 77.
7- جامع الأخبار: 111.
8- فقه الإمام الرضا عليه السلام: 338، بحار الأنوار 75: 346/ 4.

ص: 25

وأنّهم

(خير خلق اللَّه بعد الأئمّة إذا صلحوا)

(1)، وأنّ

(فضلهم على الناس كفضل النبيّ على أدناهم)

(2)، وأنّهم

(حكّام على الملوك)

(3)، وأنّهم

(كفيل أيتام أهل البيت)

(4)، و

(أنّ مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء باللَّه الامناء على حلاله وحرامه)

(5) ... إلى غير ذلك (6)، فإنّ الخدشة في كلّ واحد منها سنداً أو دلالة ممكنة، لكن مجموعها يجعل الفقيه العادل قدراً متيقّناً، كما ذكرنا(7)


1- الاحتجاج: 458، تفسير البرهان 1: 118، بحار الأنوار 2: 89.
2- سنن الترمذي 4: 154/ 2826، بحار الأنوار 61: 245 وفيهما: \iُ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).\E
3- كنز الفوائد 2: 33، مستدرك الوسائل 17: 316، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 17.
4- مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22.
5- تحف العقول: 169، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 16.
6- كالمحكيّ عن الإمام العسكريّ عليه السلام من قوله: \iُ( فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّافي بعض فقهاء الشيعة، لا كلّهم)\E الاحتجاج: 457، تفسير البرهان 1: 118، وسائل الشيعة 18: 94، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضى، الباب 10، الحديث 20. وما عن صاحب الأمر عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف من قوله: \iُ( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا؛ فإنّهم حجّتى عليكم، وأنا حجّة اللَّه)\E إكمال الدين: 484/ 4، الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 176، الاحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
7- تقدّم في الصفحة 22- 24.

ص: 26

في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة

وممّا يدلّ على أنّ القضاء بل مطلق الحكومة للفقيه، مقبولة عمر بن حنظلة(1) وهي لاشتهارها بين الأصحاب والتعويل عليها في مباحث القضاء(2)، مجبورة من حيث السند(3)، ولا إشكال في دلالتها، فإنّه بعدما شدّد أبو عبد اللَّه عليه السلام النكير على من رجع إلى السلطان والقضاة، وأنّ

(ما يؤخذ بحكمهم سحت ولو كان حقّاً ثابتاً)

قال قلت: فكيف يصنعان؟

قال:

(ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرآمنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ...)

إلى آخره (4).

دلّت على أنّ الذي نصبه للحكومة هو الذي يكون منّا- فغيرنا ليس منصوباً


1- عمر بن حنظلة: هو أبو صخر، عمر بن حنظلة الكوفيّ العجليّ البكريّ. صحب الصادقين عليهما السلام، وكان كثير الرواية، فقد روى عن الصادق عليه السلام وحُمران بن أعين، وروى عنه الأجلّاء من أمثال زرارة، وعبد اللَّه بن مسكان، وصفوان بن يحيى. انظر رجال الشيخ: 131 و 251، ومعجم رجال الحديث 13: 27- 30.
2- الكافي في الفقه، أبو الصلاح الحلّبي: 424- 425، مسالك الأفهام 2: 284 سطر 7 و 285 سطر 7، مجمع الفائدة والبرهان 12: 10، كفاية الأحكام، المحقّق السبزواريّ: 261 سطر 15.
3- ووهن سندها من جهة ابن حنظلة؛ فإنّه لم يرد فيه توثيق يعتمد عليه.
4- الكافي 1: 54/ 10، الفقيه 3: 5/ 2، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، الاحتجاج: 355، وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 27

لها، ولايكون حكمه نافذاً ولو حكم بحكمهم- ويكون راوي الحديث، والناظر في حلالهم وحرامهم، والعارفَ بأحكامهم؛ وهو الفقيه، فإنّ غيره ليس ناظراً في الحلال والحرام، وليس عارفاً بالأحكام.

بل راوي الحديث في زمانهم كان فقيهاً؛ فإنّ الظاهر من قوله:

(ممّن روى حديثنا)

أي كان شغله ذلك؛ وهو الفقيه في تلك الأزمنة، فإنّ المتعارف فيها بيان الفتوى بنقل الرواية، كما يظهر للمتتبّع (1)، فالعاميّ ومن ليست له ملكة الفقاهة والاجتهاد خارج عن مدلولها.

وإن شئت توضيحاً لذلك فاعلم: أنّه يمكن أن يستدلّ على الاختصاص بالمجتهد وخروج العامّي، بقوله:

(نظر في حلالنا وحرآمنا)

لا من مفهوم «النظر» الذي يدّعى أنّه بمعنى الاستنباط والدقّة في استخراج الأحكام (2)، وإن كان لا يخلو من وجه.


1- وتدلّ عليه رواية عبد اللَّه بن أبي يعفور قال: قلت لأبى عبد اللَّه عليه السلام: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: \iُ( ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي؛ فإِنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً)\E رجال الكشّي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23. ورواية معاذ بن مسلم النحويّ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:( بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس) قلت: نعم ... ويجي ء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم، فاخبره بما جاء عنكم ... فقال لي:( اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع). رجال الكشّي 2: 524، وسائل الشيعة 18: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 36.
2- نهاية الدراية 6: 364- 365.

ص: 28

بل لقوله:

(حلالنا وحرآمنا)

فإنّ الحلال والحرام مع كونهما من اللَّه تعالى لا منهم، إنّما نسبا إليهم لكونهم مبيّنين لهما، وأنّهم محالّ أحكام اللَّه، فمعنى النظر في حرامهم وحلالهم، هو النظر في الفتاوى والأخبار الصادرة منهم، فجعل المنصب لمن نظر في الحلال والحرام الصادرين منهم؛ أي الناظر في أخبارهم وفتاويهم، وهو شأن الفقيه لا العامّي، لأنّه ناظر في فتوى الفقيه، لا في أخبار الأئمّة.

ودعوى إلغاء الخصوصيّة عرفاً، مجازفة محضة؛ لقوّة احتمال أن يكون للاجتهاد والنظر في أخبارهم مدخليّة في ذلك، بل لو ادّعى أحد القطع بأنّ منصب الحكومة والقضاء- بما لهما من الأهمّية، وبمناسبة الحكم والموضوع- إنّما جعل للفقيه لا العامّي، فليس بمجازف.

ويمكن الاستدلال بقوله:

(عرف أحكامنا)

من إضافة «الأحكام» إليهم كما مرّ بيانه، ومن مفهوم (عرف) فإنّ عرفان الشي ء لغة(1) وعرفاً ليس مطلق العلم به، بل متضمّن لتشخيص خصوصيّات الشي ء وتمييزه من بين مشتركاته، فكأنّه قال:

«إنّما جعل المنصب لمن كان مشخّصاً لأحكامنا، ومميّزاً فتاوينا الصادرة لأجل بيان الحكم الواقعيّ وغيرها- ممّا هي معلّلة ولو بمؤونة التشخيصات والمميّزات الواردة من الأئمّة عليهم السلام- لكونها مخالفة للعامّة، أو موافقة للكتاب»(2) ومعلوم أنّ هذه الصفة من مختصّات الفقيه، وغيره محروم منها.

وبالجملة: يستفاد من الفقرات الثلاث التي جعلت معرِّفة للحاكم


1- مفردات الراغب: 331، المصباح المنير: 481.
2- راجع التعادل والترجيح، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 181- 199.

ص: 29

المنصوب، أنّ ذلك هو الفقيه، لا العامّي.

ويدلّ على المقصود قوله فيها: «وكلاهما اختلفا في حديثكم»، فإنّ الظاهر من «الاختلاف» فيه هو الاختلاف في معناه، لا في نقله، وهو شأن الفقيه، بل الاختلاف في الحكم الناشئ من اختلاف الروايتين، لا يكون- نوعاً- إلّامع الاجتهاد وردّ كلّ منهما رواية الآخر، وليس هذا شأن العامّي، فتدلّ هذه الفقرة على أنّ المتعارف في تلك الأزمنة، هو الرجوع إلى الفقيه.

ويدلّ عليه أيضاً قوله:

(الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما)

، وقوله فيما بعد: «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» فإنّ المستفاد من جميع ذلك، كون الفقاهة مفروغاً عنها في القاضي، ولا إشكال في عدم صدق «الفقيه» و «الأفقه» على العامّي المقلّد.

ويدلّ قوله:

(فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً)

على أنّ للفقيه- مضافاً إلى منصب القضاء- منصب الحكومة أيّة حكومة كانت؛ لأنّ الحكومة مفهوماً أعمّ من القضاء المصطلح، والقضاءُ من شعب الحكومة والولاية، ومقتضى المقبولة أنّه عليه السلام جعل الفقيه حاكماً ووالياً، ودعوى الانصراف (1)، غير مسموعة، فللفقيه الحكومة على الناس فيما يحتاجون إلى الحكومة من الامور السياسيّة والقضائيّة، والمورد لايوجب تخصيص الكبرى الكلّيّة.

هذا مع منع كون المورد خصوص القضاء المصطلح؛ فإنّ قوله في الصدر:


1- منية الطالب 1: 327( الهامش).

ص: 30

«فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة» يدلّ على أعمّية المورد ممّا يكون مربوطاً بالقضاء كباب القضاء، أو إلى السلطان والوالي، فإنّ ما يرجع إليه غير ما يرجع إلى القضاة نوعاً؛ فإنّ شأنهم التصرّف في الامور السياسيّة، فمع أعميّة الصدر من القضاء، لا وجه لاختصاص الحاكميّة به.

فحينئذٍ مقتضى الإطلاق جعل مطلق الحكومة- سياسيّة كانت أو قضائيّة- للفقيه، وسؤال السائل بعده عن مسألة قضائيّة، لا يوجب اختصاص الصدر بها، كما هو واضح.

وقوله:

(إذا حكم بحكمنا)

ليس المراد الفتوى بحكم اللَّه جزماً، بل النسبة إليهم لكون الفقيه حاكماً من قبلهم، فكان حكمه حكمَهم، وردُّه ردَّهم.

هل الاجتهاد المطلق شرط أم لا؟

ثمّ إنّ الجمع المضاف وإن كان يفيد العموم، وكذا المصدر المضاف، ولازمه جعل المنصب لمن عرف جميع الأحكام، لكن لا يستفاد منهما العموم في المقام:

أمّا أوّلًا: فلأنّ وقوع الفقرات في مقابل المنع عن الرجوع إلى حكّام الجور وقضاتهم، يمنع عن استفادة العموم، بل الظاهر أن يكون المنصب- لمن عرف أحكامهم، ونظر في حلالهم وحرامهم- في مقابل المنحرفين عنهم الحاكمين باجتهادهم ورأيهم، بل الظاهر صدق قوله:

(عرف أحكامنا)

وغيره، على من عرف مقداراً معتدّاً به منها.

والمراد ب «رواية الحديث» ليس هو الرواية للغير؛ ضرورة عدم مدخليّتها

ص: 31

في جعل المنصب، بل المراد أن تكون فتواه على طبق الرواية، ولمّا كان المتعارف في تلك الأزمنة الإفتاء بصورة الرواية(1)، قال:

(روى حديثنا)

. وأمّا ثانياً: فلأنّ الظاهر من قوله:

(عرف أحكامنا)

هو المعرفة الفعليّة، وهي غير حاصلة بجميع الأحكام لغير الأئمّة؛ بل غير ممكنة عادة، فجعل المنصب له لغو فليس المراد معرفة جميع الأحكام، وصرفها إلى قوّة المعرفة وملكة الاستنباط، ممّا لا وجه له، فيجب صرفها- على فرض الدلالة- إلى معرفة الأحكام بمقدار معتدّ به.

وأمّا ثالثاً: فعلى فرض إمكان المعرفة الفعليّة بجميع الأحكام، لا طريق لتشخيص هذا الفقيه، فمن أين علم أنّه عارف فعلًا بجميع الأحكام؟! فلا معنى للأمر بالرجوع إليه، فلابدّ من الحمل على غيره، لكن يجب أن يكون بحيث يصدق عليه «أنّه ممّن روى الحديث، وعرف أحكامهم» وهو من عرف مقداراً معتدّاً به منها، وعليه تحمل صحيحة أبي خديجة(2)


1- انظر الصفحة 27.
2- أبو خديجة: هو الشيخ الصالح الثقة الثقة؛ سالم بن مُكْرَم بن عبد اللَّه الكُناسيّ، صاحب الغنم، مولى بني أسد الجمّال. كان يكنّى « بأبي خديجة» فكنّاه الصادق عليه السلام« أبا سلمة» وكان سالم أوّلًا من أصحاب أبي الخطّاب، فبعث والي الكوفة إليهم رجلًا فقتلهم جميعاً، ولم يفلت منهم إلّاأبو خديجة، فقد سقط على الأرض جراء الجراحات التي أصابته، فلمّا جنّه اللّيل خرج من بينهم وتاب. روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام وعن سعدالإسكاف، والمعلّى بن خنيس، وروى عنه أحمد بن عائذ، وعبد الرحمان بن أبي هاشم، وعبد الرحمان بن محمّد الأسدي. انظررجال النجّاشي 188/ 501، ورجال الكشّي 2: 641، ومعجم رجال الحديث 8: 26- 27.

ص: 32

الآتية(1).

فاعتبارالاجتهاد المطلق سواء كان بمعنى الملكة أو بمعنى العلم الفعليّ، ممّا لا دليل عليه، بل الأدلّة على خلافه، نعم لا إشكال في اعتبار علمه بجميع ما وليه.

ثمّ إنّ الرواية لمّا كانت في مقام التحديد وبيان المعرِّف للمنصوب، يجب أخذ جميع القيود فيها قيداً إلّاما يدلّ العقل أو يفهم العرف عدم دخالته كما أشرنا إليه، وفقه الحديث كَمَلًا وبيان الأحكام المستفادة منه، موكول إلى كتاب القضاء.

الاستدلال بروايتي القدّاح وأبي البختريّ

وممّا يمكن الاستدلال عليه للمطلوب صحيحة القدّاح (2) وضعيفة أبي البختريّ (3)


1- تأتي في الصفحة 34- 38.
2- القدّاح: هو الشيخ الثقة؛ عبد اللَّه بن ميمون بن الأسود المكّي، مولى بني مخزوم. كان يبري القداح( أي السهام قبل أن تُراشَ وتركّب نُصولها) فعرف« بالقدّاح». وقد ورد أنّ الإمام الصادق عليه السلام وصفه بأنّه \iُ( نور في ظلمات الأرض)\E روى عنه عليه السلام وعن أبي عبيدة الحذّاء، وروى عنه جعفر بن محمّد الأشعري، والحسن بن عليّ بن فضّال، وعبد اللَّه بن المغيرة. انظر رجال النجّاشي: 213/ 557، ورجال الكشّي 2: 514 و 687، ومعجم رجال الحديث 10: 356- 357.
3- أبو البختريّ: هو وهب بن وهب القاضي القرشيّ المدنيّ، روى عن الصادق عليه السلام، وكان من أكذب أهل البريّة عامّياً، إلّاأنّ له عنه عليه السلام أحاديث كلّها يوثق بها، كما عن ابن الغضائريّ، وله أحاديث مع الرشيد في الكذب، وكان الصادق عليه السلام قد تزوّج بأمّ وهب، روى عنه الحسن بن محبوب، وعثمان بن عيسى، ومحمّد بن أبي عمير. انظر رجال النجّاشي: 430/ 1155، ورجال الكشّي 2: 597، ورجال الشيخ: 327/ 19، ومجمع الرجال 6: 198.

ص: 33

ففي الاولى (وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر)(1).

وفي الثانية قال: (إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشي ء منها فقد أخذ حظّاً وافراً ...) الحديث (2).

بأن يقال: إنّ مقتضى إخباره ب

(أنّ العلماء ورثة الأنبياء)

أنّ لهم الوراثة في كلّ شي ء كان من شأن الأنبياء، ومن شأنهم الحكومة والقضاء، فلابدّ وأن تكون الحكومة مطلقاً مجعولة لهم، حتّى يصحّ هذا الإطلاق أو الإخبار.

وتذييلهما بقوله:

(و لكن ورّثوا العلم)

أو

(إنّما أورثوا أحاديث)

لا يوجب تخصيص الوراثة بهما؛ لعدم استفادة الحصر الحقيقيّ منهما حتّى الثانية:

أمّا أوّلًا: فلأنّهما في مقابل عدم وراثة الدرهم والدينار، فالحصر إضافيّ.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الحمل على الحقيقيّ موجب لمخالفة الواقع؛ لأنّ ميراث الأنبياء لاينحصر بهما، فالزهد والتقوى وسائر الكمالات من ميراث الأنبياء، كما أنّ الولاية والقضاء منه.


1- الكافي 1: 26/ 1.
2- الكافي 1: 24/ 2، وسائل الشيعة 18: 53، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.

ص: 34

ولكن للنظر فيه مجال واسع؛ فإنّ قوله:

(العلماء ورثة الأنبياء)

ليس إنشاءً، بل إخبار، ويكفي في صدقه كونهم ورثة في العلم والحديث، ولا يلزم الإخبار عن وراثتهم كونهم ورّاثاً في جميع شؤونهم.

نعم، لو كان في مقام الإنشاء والجعل لأمكن دعوى إطلاقه على إشكال، لكنّه ليس كذلك كما لا يخفى

بحث حول مشهورة أبي خديجة وصحيحته

ومن الروايات الدالّة على المطلوب مشهورة أبي خديجة؛ وهي ما روى الشيخ، عن محمّد بن عليّ بن محبوب (1)- وطريقه إليه صحيح في «المشيخة»(2)


1- محمّد بن عليّ بن محبوب: هوشيخ القمّيين في زمانه، الفقيه الثقة العين؛ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن محبوب الأشعريّ القمّي. كان صحيح المذهب، كثيرالرواية. روى عن أحمد بن محمّد ابن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، وعليّ بن السنديّ، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، ويعقوب بن شعيب، وروى عنه أحمد بن إدريس، وابن بطة، ومحمّد بن يحيى العطّار. انظر رجال النجاشي 349/ 940، وفهرست الشيخ 145/ 613، ومعجم رجال الحديث 17: 8- 10.
2- قال قدس سره: وما ذكرته في هذا الكتاب( يعني التهذيب) عن محمّد بن عليّ بن محبوب، فقد أخبرني به الحسين بن عبيداللَّه، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أبيه محمّد بن يحيى عن محمّد بن عليّ بن محبوب. مشيخة التهذيب: 72. والظاهر وثاقة من عدا أحمد المزبور، وأمّا هو فلم ينصّ الرجاليّون على توثيقه، ولكن يمكن استفادة وثاقته من اعتماد المشايخ عليه، وبعض القرائن الاخرى. انظر تنقيح المقال 1: 95- 96، وقاموس الرجال 1: 584.

ص: 35

و «الفهرست»(1)- عن أحمد بن محمّد؛ أي ابن عيسى (2)، عن الحسين بن سعيد(3)،


1- قال طاب ثراه: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الحسين بن عبيداللَّه، وابن أبي جيد، عن أحمد بن محمّد بن يحيى عن أبيه، عن محمّد بن عليّ بن محبوب. وأخبرنا بها أيضاً جماعة، عن أبي المفضّل، عن ابن بطة، عنه وأخبرنا بها أيضاً جماعة، عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه ومحمّد بن الحسن، عن أحمد بن إدريس، عنه. الفهرست: 145/ 613. ولا ريب في صحّة طريقة الثالث، والأوّل عين ما في المشيخة المتقدّم، وأمّا الثاني فضعيف بأبي المفضّل وابن بطة. راجع رجال النجّاشي: 396/ 1059 و 372/ 1019، الفهرست: 140/ 600.
2- الوجه في تعيّن ابن عيسى تصريح الشيخ قدس سره في المشيخة( 72- 73) بوقوع محمّد بن عليّ بن محبوب في طريقه إلى ابن عيسى وظاهره وقوع ابن عيسى في طريقه لابن سعيد فراجع. بل صرّح في الفهرست( 59) بوقوع ابن عيسى في هذا الطريق. وأحمد بن محمّد بن عيسى هو شيخ القمّيين في زمانه، ووجيههم، وفقيههم الأوحد الثقة؛ أبو جعفر أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللَّه الأشعريّ القمّي. صحب الرضا والجواد والهادي والعسكريّ عليهم السلام وكان الرئيس الذي يلقى السلطان، وذا نفوذ وهيمنة. روى عن أبناء عمير وفضّال ومحبوب، وروى عنه أحمد بن إدريس، وسعد بن عبد اللَّه الأشعريّ، ومحمّد بن يحيى العطّار ... انظررجال النجّاشي: 81/ 198، ورجال الشيخ: 366 و 397 و 409، وقاموس الرجال 1: 637.
3- الحسين بن سعيد: هو العالم الفقيه الشيخ الثقة؛ الحسين بن سعيد بن حمّاد الأهوازيّ، صحب الرضا والجواد والهادى عليهم السلام وكان من أوسع أهل زمانه علماً بالفقه والآثار والمناقب، وغيرها من علوم أهل البيت صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وكانت له كتب حسنة معتمد عليها، عوّل عليها الأصحاب، وعملوا بها، وكثيراً ما كانوا يقولون:« بأنّ لفلان كتباً ككتب الحسين ابن سعيد» وما هذا إلّاللمكانة العلميّة المرموقة التي حظيت بها كتبه عند الأصحاب. انتقل ابن سعيد في اخريات أيّامه إلى قم، فنزل على الحسن بن أبان حتّى وافته المنيّة. روى عن أخيه، وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، وصفوان بن يحيى وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، والحسين بن الحسن بن أبان، ومحمّد بن عيسى العبيدي .... انظر فهرست ابن النديم: 277، ورجال النجّاشي: 58/ 136 و 137، ورجال الشيخ: 372 و 399 و 412، ومعجم رجال الحديث 5: 245- 248.

ص: 36

عن أبي الجهم (1)، وهو بكير بن أعين، وقد مات في حياة أبي عبد اللَّه عليه السلام (2)، وهو ثقة على الأظهر(3).

لكن إدراك الحسين إيّاه بعيد، بل الظاهر عدم إدراكه، وكذا من في طبقته، كما يظهر بالرجوع إلى طبقات الرواة، ففي الرواية إرسال على الظاهر.


1- هذه الكنية مشتركة بين أبي الجهم بن الحرث الذى قيل: بأنّ اسمه عبد اللَّه، وأبي الجهم الكوفيّ؛ أي ثوير بن أبي فاخته، وأبي الجهم الشيباني؛ بكير بن أعين. مجمع الرجال 7: 20- 21. أمّا الأوّل فهو صحابي، والثاني من أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام، فيتعيّن الثالث. لو لم يستظهر أنّه شخص رابع اسمه هارون بن الجهم بن ثوير بن أبي فاخته، كما يظهر من المحاسن: 368/ 121 ومستدرك الوسائل 8: 143، باب 20 من أبواب آداب السفر، حديث 3. وما فيه:« عن ثوير بن فاخته» فهو سهو والصحيح« بن» بدل« عن».
2- ففي رجال الكشّي مسنداً: أنّ أبا عبد اللَّه عليه السلام لمّا بلغه وفاة بكير بن أعين قال:( أما واللَّه، لقد أنزله اللَّه بين رسول اللَّه وبين أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليهما) وفيه أيضاً عن الصادق عليه السلام أنّه قال:( رحم اللَّه بكيراً وقد فعل) ... رجال الكشّي 2: 419. وممّن صرح بوفاته في حياته عليه السلام الشيخان؛ الصدوق والطوسي رحمهما الله، فراجع مشيخة الفقيه: 33، ورجال الشيخ: 157/ 43.
3- لصحّة سند الرواية الاولى المذكورة في الهامش السابق، والمتضمّنة لثناء عظيم دالّ على التوثيق.

ص: 37

وأبو الجهم يروي عن أبي خديجة؛ سالم بن مُكْرَم، وهو ثقة، فلا إشكال فيها إلّا من جهة الظنّ بالإرسال، ولو ثبت اشتهار العمل بها- كما سميّت «مشهورة»(1)- فيجبر ضعفها من جهته.

قال: بعثني أبو عبد اللَّه إلى أصحابنا فقال: (قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرآمنا؛ فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)(2).

دلّت على جعله منصب القضاء لرجل عارف بحلالهم وحرامهم، وتقريب الدلالة يظهر ممّا مرّ في المقبولة، إلّاأنّها أظهر دلالة من المشهورة بجهات، كما أنّ المستفاد منها جعل الحكومة مطلقاً للفقيه، دون هذه.

بل يمكن أن يقال: بدلالتها على الحكومة أيضاً؛ فإنّ صدرها عامّ في مطلق الخصومات، سواء كانت راجعة إلى القضاة أو إلى الولاة، و «القاضي» أعمّ لغة(3) وعرفاً عامّاً من الاصطلاحيّ، وذيلها يؤكّد التعميم، فإنّ التخاصم إلى السلطان ليس في الامور القضائيّة؛ بحسب التعارف في جميع الأزمنة، ولاسيّما


1- المكاسب: 154 سطر 6، الاجتهاد والتقليد، المحقّق الأصفهاني، ضمن بحوث في الاصول: 7.
2- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3- لسان العرب 11: 209، وفيه:« القضاء في اللّغة على وجوه، مرجعها انقطاع الشي ء وتمامه ...».

ص: 38

في تلك الأزمنة.

ومن ذلك يمكن التمسّك بالصحيحة [الآتية]؛ فإنّ (أهل الجور) هم الولاة، والقاضي حاكم بالجور، والظاهر من (أهل الجور) هم المتصدّون له؛ وهم الولاة.

وقريب منها صحيحة أبي خديجة على الأصحّ (1)،

قال: قال أبو عبد اللَّه؛ جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا(2)، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه)(3)

. وهاهنا روايات اخر استدلّوا بها للمطلوب (4)، قاصرة سنداً أو دلالة أو كليهما، لابأس بذكرها تأييداً، وقد أشرنا إلى مضامينها في أوائل هذا البحث (5).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ القضاء بل الحكومة مطلقاً، من مناصب الفقهاء، وهذا ممّا لاإشكال فيه بالنسبة إلى منصب القضاء؛ فإنّ الإجماع (6)، بل الضرورة قاضيان بثبوته للفقيه في زمن الغيبة، كما أنّ الأقوى ثبوت منصب الحكومة


1- من جهة الوشّاء كما يأتي في الصفحة 42.
2- كذا في التهذيب والوسائل، والموجود في الكافي والفقيه: \iُ« قضائنا»\E بدل \iُ« قضايانا».\E
3- الكافي 7: 412/ 4، الفقيه 3: 2/ 1، تهذيب الأحكام 6: 219/ 516، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
4- عوائد الأيّام: 536، ملحقات العروة 3: 6- 7،( واستدلال السيّد اليزدي قدس سره إنّما هو في خصوص باب( القضاء).
5- تقدّم في الصفحة 24- 25.
6- مفتاح الكرامة 10: 3 سطر 23، جواهر الكلام 40: 31.

ص: 39

والولاية له في الجملة، وبيان حدودها ومتفرّعاتها موكول إلى محلّ آخر.

فيما استدلّ به على استقلال العاميّ في القضاء وجوابه

إنّما الإشكال في جواز القضاء للمقلّد مستقلًاّ، أو بنصب الحاكم، أو وكالته، واستدلّ على استقلاله بامور:

منها: قوله تعالى في سورة النساء: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ»(1).

فإنّ إطلاقه شامل للمقلّد العامّي، ومعلوم أنّه إذا أوجب اللَّه تعالى الحكم بالعدل بين الناس، فلابدّ من إيجاب قبولهم ومن نفوذه فيهم، وإلّا لصار لغواً.

وفيه: أنّ الخطاب في صدر الآية متوجّه إلى من عنده الأمانة، لا إلى مطلق الناس، وفي ذيلها إلى من له الحكم وله منصب القضاء أو الحكومة، لا إلى مطلق الناس أيضاً، كما هو ظاهر بأدنى تأمّل، فحينئذٍ يكون المراد: أنّ من له حكم بين الناس، يجب عليه أن يحكم بينهم بالعدل.

هذا مضافاً إلى أنّها في مقام بيان وجوب العدل في الحكم، لا وجوب الحكم، فلا إطلاق لها من هذه الحيثيّة.

ويدلّ على أنّ الأمر متوجّه إلى من له الأمر- مضافاً إلى ظهور الآية-: ما

روى الصدوق، بإسناده عن المُعلّى بن خنيس (2)، عن الصادق عليه السلام قال قلت له:


1- النساء( 4): 58، وقد استدلّ بها في جواهر الكلام 40: 15.
2- المعلّى بن خنيس: هو أبو عبد اللَّه؛ المعلّى بن خنيس البزّاز المدنيّ. كان مولى للإمام الصادق عليه السلام، ومن قوّامه، ممدوحاً عنده عليه السلام، وإنّما قتله داود بن عليّ بسبه، حتّى مضى على منهاجه، وقد توجّع عليه السلام لقتله، حتّى قال لداود بن على:( يا داود، على ما قتلت مولاي وقيّمي في ما لي وعلى عيالي؟! واللَّه، إنّه لأوجه عند اللَّه منك) هكذا أفاد الشيخ الطوسي في غيبته، ولكن عن ابن الغضائري أنّ سبب قتله هو دعوته إلى محمّد بن عبد اللَّه المعروف« بالنفس الزكيّة» ولعلّه لذا ضعّفه النجّاشي. وعلى أيّ حال فقد روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام وعن أبي الصامت، والمفضّل بن عمر، ويونس بن ظبيان، وروى عنه إسحاق بن عمّار، وداود بن فرقد، وجميل بن درّاج، وهشام بن سالم وغيرهم. انظر الغيبة، الشيخ الطوسي: 210، ورجال النجّاشي: 417/ 1114، وتنقيح المقال 3: 230- 232، ومعجم رجال الحديث 18: 235- 236.

ص: 40

قول اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».

فقال: (عدل الإمام أن يدافع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأمر الأئمّة أن يحكموا بالعدل، وأمر الناس أن يتّبعوهم)(1)

. وليس هذا تفسيراً تعبّدياً خلاف ظاهر الآية، بل هو ظاهرها؛ لأنّ الحكومة بين الناس لمّا كانت في جميع الطوائف، شأن الامراء والسلاطين، لايفهم العرف من الآية إلّاكون الخطاب متوجّهاً إليهم، لا إلى الرعيّة الذين ليس لهم أمر وحكم.

ومنها: مفهوم قوله في المائدة: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»(2).


1- الفقيه 3: 2/ 2، تهذيب الأحكام 6: 223/ 533، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 6.
2- المائدة( 5): 44. وانظر جواهر الكلام 40: 15.

ص: 41

و في آية: «هُمُ الظَّالِمُونَ»(1) وفي ثالثة: «هُمُ الْفاسِقُونَ»(2).

دلّت بمفهومها على وجوب الحكم بما أنزل اللَّه، وإطلاقه شامل للعامّي المقلّد.

وفيه: أنّ الآيات الكريمة في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل اللَّه، ولا يستفاد منها جواز الحكم أو وجوبه لكلّ أحد؛ لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

والإنصاف: أنّ هذه الآيات وغيرها ممّا استدلّ بها المحقّق صاحب «الجواهر» قدس سره (3)، ليس لها إطلاق يمكن أن يتمسّك به للمطلوب، مضافاً إلى أنّه لو كان لها إطلاق، ينصرف إلى من كان صاحب الأمر والحكم، دون غيره.


1- المائدة( 5): 45.
2- المائدة( 5): 47.
3- المحقّق صاحب الجواهر: هو فقيه الإماميّة الكبير، مربيّ العلماء، وشيخ الفقهاء؛ الشيخ محمّد حسن ابن الشيخ باقر النجفيّ: أخذ عن الشيخ كاشف الغطاء، وولده الشيخ موسى وعن صاحب مفتاح الكرامة وعن صاحب الرياض قليلًا، وتتلمذ عليه الميرزا حبيب اللَّه الرشتي، والسيّد حسين الكوه كمريّ، والشيخ حسن المامقاني وغيرهم، وانتهت إليه رئاسة الطائفة في منتصف القرن الثالث عشر، فصار مرجعاً للتقليد في سائر الأقطار، وأذعن معاصروه بفضله وتقدّمه. وهو صاحب الموسوعة الفقهيّة العظيمة( جواهر الكلام) التي قضى في تأليفها ثلاثين عاماً وله رسالة عملية سمّاها« نجاة العباد» مع مقالات اصوليّة ورسائل شتّى، وهو الذى سنّ الخروج إلى مسجدي الكوفة والسهلة في خصوص ليلة الأربعاء للدعاء والابتهال والتضرّع إليه سبحانه. توفّي رحمه الله سنة 1266 ه. انظر معارف الرجال 2: 225/ 326، وأعيان الشيعة 9: 149.

ص: 42

ومنها: ما روى الصدوق بسنده عن أحمد بن عائذ(1)، وليس في طريقه (2) إليه من يمكن القدح فيه إلّاالحسن بن عليّ الوشّاء، وقد قال فيه النجاشيّ (3): كان


1- أحمد بن عائذ: هو الشيخ الثقة؛ أبو عليّ أحمد بن عائذ بن حبيب الأحمسيّ العبسيّ البجليّ الكوفيّ. صحب الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام ولازم أبا خديجة؛ سالم بن مُكْرَم، وأخذ عنه، وعرف به، كما روى عن الحسين بن المختار، وعمر بن اذينة، وروى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر، والحسن بن عليّ بن فضال، والوشّاء، ومحمّد بن عمر بن بزيع. انظر رجال النجّاشي 98/ 246، ورجال الشيخ: 107 و 143، ومعجم رجال الحديث 2: 129- 130.
2- قال الصدوق قدس سره في المشيخة: وما كان فيه عن أحمد بن عائذ، فقد رويته عن أبي رضي اللَّه عنه، عن سعد بن عبد اللَّه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أحمد بن عائذ. مشيخة الصدوق: 128- 129.
3- النجّاشي: هو الشيخ الجليل الأقدم، العالم المضطلع الخبير؛ أبو العبّاس أحمّد بن عليّ بن أحمد بن العبّاس النجّاشي الأسدي. ولد سنة 372 ه وتلمّذ عند أبيه، وأحمد بن عليّ السيرافيّ المعروف بابن نوح وأحمد بن الحسين الغضائريّ، ومحمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد والسيّد المرتضى وغيرهم، وروى عنه جماعة من أصحابنا، منهم السيّد ذوالفقار بن معبد الحسينيّ المرزويّ، أحد مشايخ ابن شهر آشوب، كان رحمه الله أحد المشايخ الثقات، والعدول الأثبات، ومن أعظم أركان الجرح والتعديل، وأعلم علماء هذا السبيل، أجمع علماؤنا على الاعتماد عليه، وأطبقوا على الاستناد في أحوال الرجال إليه. وكان رحمه الله لايأخذ عن غير ثقة في الحديث، ولا يعتمد في النقل على المنحرف الضعيف، بل اقتصر على الثقات الأجلّة من الرواة. له كتاب الرجال المعروف برجال النجّاشي، وكتاب الجمعة وما ورد فيه من الأعمال، وكتاب الكوفة وما فيها من الآثار والفضائل ... توفّي رحمه الله بمطيرآباد سنة 450 ه. انظر رجال النجّاشي: 101/ 253، ورجال العلّامة الحلّي: 20/ 53، وروضات الجنّات 1: 60- 63، وخاتمة المستدرك 3: 501- 504.

ص: 43

من وجوه هذه الطائفة، وقال: كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة(1).

وقد روى عنه الأجلّة(2)، كابن أبي عمير(3)، أحمد بن محمّد بن عيسى


1- رجال النجّاشي: 39/ 80.
2- لم يعهد رواية ابن أبي عمير عن الوشاء إلّاما ذكره تنقيح المقال 1: 295 سطر 22. أمّا الباقون:
3- ابن أبي عمير: هو الشيخ الجليل الفقيه الأوحديّ الثقة، أبو أحمد محمّد بن زياد بن عيسى الأزديّ. لقي الكاظم عليه السلام وسمع منه أحاديث، كنّاه في بعضها عليه السلام بقوله:« يا أبا أحمد ...» كما روى عن الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام وعن أبي بصير، وأبان بن عثمان، وعمر بن اذينة، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى، وأحمد بن محمّد بن خالد وسهيل بن زياد ... وكان بحراً طارساً بالموقف والمذهب، جليل القدر، عظيم المنزلة عند الخاصّة والعامّة، ومن أوثق الناس وأورعهم وأعبدهم، أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عنه وتصديقه، وأقرّوا له بالفقه والعلم. وكان قد سعي به إلى الخليفة العبّاسي يومذاك أنّه يعرف أسامي عامّة الشيعة بالعراق، فأمره أن يسمّيهم فامتنع، فضرب مائة سوط، فلم يخبر، ولكنّه غرم مائة ألف درهم فخلّي عنه، وفي تلك الفترة العصيبة هلكت كتبه لسبب أو لآخر، فحدّث من حفظه وما كان سلف له في أيدي الناس، فلذا سكن أصحابنا إلى مراسيله، ولم يفرّقوا بينها وبين مسانيده؛ لأنّه لا يرسل إلّاعن ثقة. مات قدس سره سنة 217 ه. انظر رجال النجّاشي: 326/ 887، ورجال الكشّي 2: 830 و 854- 856، ومعجم رجال الحديث 14: 287- 288.

ص: 44

وأحمد بن محمّد بن خالد(1)، ومحمّد بن عيسى (2)، ويعقوب بن يزيد(3)، والحسين


1- أحمد بن محمّد بن خالد: هو الشيخ الثقة؛ أبو جعفر أحمد بن محمّد( المكنّى بأبي عبد اللَّه) ابن خالد البرقيّ صحب الإمامين الجواد والهادي صلوات اللَّه عليهما: وكان ثقة في نفسه. إلّاأنّه روى عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، شأنه في ذلك شأن أهل الأخبار، لذا طعن عليه القمّيون، وأبعده رئيس قم؛ أحمد بن محمّد بن عيسى عنها، ثمّ أعاده إليها واعتذر إليه، ولمّا مات البرقيّ سنة 274 أو 280 مشى ابن عيسى في جنازته حافياً حاسراً؛ ليبرّى نفسه ممّا قذفه به. روى عن أبيه، وعن عثمان بن عيسى، ومحمّد بن علي، وروى عنه سعد بن عبد اللَّه، وسهل بن زياد، وعليّ بن محمّد ماجيلويه. انظر رجال النجّاشي: 76/ 182، ورجال الشيخ: 398 و 410، ورجال العلّامة الحلّي: 14/ 7، ومعجم رجال الحديث 2: 266- 268.
2- محمّد بن عيسى: هو الشيخ العالم الفاضل الثقة الجليل؛ أبو جعفر محمّد بن عيسى بن عُبيد ابن يقطين العبيديّ اليقطينيّ. كان جليلًا في أصحابنا، ثقة عيناً، كثير الرواية، حسن التصانيف، وكان الفضل بن شاذان يحبّه ويمدحه ويميل إليه ويقول:« ليس في أقرانه مثله» صحب من الأئمّة الأطهار الرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام، وروى عن حمّاد وعثمان ابني عيسى، وعن يونس بن عبد الرحمان، وروى عنه سعد بن عبد اللَّه الأشعريّ، وعبد اللَّه بن جعفر الحميريّ، ومحمّد بن الحسن الصفّار. انظر رجال النجّاشي: 333/ 896، ورجال الشيخ: 393 و 422 و 435، ومعجم رجال الحديث 17: 110- 111.
3- يعقوب بن يزيد: هو الشيخ الثقة؛ أبو يوسف يعقوب بن يزيد بن حمّاد الأنباريّ السلمي القمّي، كان كاتباً من كتّاب المنتصر العبّاسي، فعرف« بالكاتب» وكان صدوقاً كثير الرواية، صحب من أئمّة آل البيت الكاظم والرضا والجواد والهادي صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وروى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، وحمّاد بن عيسى ومحمّد بن أبي عمير، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، وسعد الأشعريّ، والصفّار. انظر رجال النجّاشي: 450/ 1215، ورجال الكشّي 2: 869، وفهرست الشيخ: 180/ 782، ومعجم رجال الحديث 20: 147/ 13749.

ص: 45

ابن سعيد وغيرهم (1).

وعن العلّامة: الحكم بصحّة طرق هو فيها(2)، بل قد يقال: إنّه من مشايخ الإجازة(3) فلا يحتاج إلى التوثيق، وكيف كان فالأقوى وثاقته.

وأحمد بن عائذ ثقة، روى عن أبي خديجة سالم بن مُكْرَم الجمّال، وقد وثّقه النجّاشي قائلًا: إنّه ثقة ثقة(4)، ووثّقه الشيخ في موضع على ما عن العلّامة(5)، وإن ضعّفه في موضع كما عن «الفهرست»(6) والأرجح وثاقته.

قال: قال أبو عبد اللَّه؛ جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه)(7).


1- كأيّوب بن نوح، وعلي بن الحسن بن فضّال، وعبد اللَّه بن الصلت. انظر معجم رجال الحديث 5: 27، 72 و 22: 169 و 23: 166.
2- وذلك في طريق الصدوق قدس سره لأبي الحسن النهديّ، وأحمد بن عائذ وغيرهما. انظر رجال العلّامة الحلّي: 280 سطر 12 و 22، ومشيخة الفقيه: 102، 125، وتنقيح المقال 1: 295 سطر 23.
3- تنقيح المقال 1: 295 سطر 23.
4- رجال النجّاشي: 188/ 501.
5- رجال العلّامة الحلّي: 227، تنقيح المقال 2: 6 سطر 6.
6- فهرست الشيخ الطوسيّ: 79/ 327، تنقيح المقال 2: 5 سطر 33.
7- الكافي 7: 412/ 4، الفقيه 3: 2/ 1، تهذيب الأحكام 6: 219/ 516، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

ص: 46

فإنّها بإطلاقها تشمل المقلّد، لأنّ المراد ب «العلم» هو الأعمّ من الوجدانيّ، والمقلّد عالم بهذا المعنى لأنّ له طريقاً إلى الواقع (1).

وفيه: أنّ العلم بشي ء من قضاياهم مختصّ بالفقيه، أو منصرف إليه؛ لأنّ العاميّ إمّا أن يتّكل على فتوى الفقيه في القضاء، فلا يصدق عليه «أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم» بل هو يعلم فتوى الفقيه في القضاء، وهو طريق إلى حكم اللَّه تعالى

وإمّا أن يتّكل على إخبار الفقيه بقضاياهم، وهذا غير جائز؛ لأنّه لايزيد على رواية مرسلة غير جائزة العمل، مع أنّه على فرض صحّة السند، لا يجوز له العمل بها إلّامع الفحص عن معارضها، وإعمال سائر مقدّمات الاستنباط، وهو خارج عن المفروض.

وبالجملة: العلم بفتوى الفقيه، لا يوجب انسلاكه في قوله:

(يعلم شيئاً من قضايانا).

نعم، يمكن الاستدلال بها لثبوت منصب القضاء للمتجزّي، وهو ليس ببعيد.

ومنها: صحيحة الحلبيّ (2)،

قال قلت لأبي عبد اللَّه: ربّما كان بين الرجلين


1- انظر جواهر الكلام 40: 16- 18.
2- الحلبي: هو الشيخ الثقة الوجيه؛ أبو عليّ عبيداللَّه( عبد اللَّه) بن عليّ بن أبي شعبة الحلبيّ الكوفي. كان يتّجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب، فعرفوا« بالحلبيّين» وكان من اسرة معروفة في الكوفة، يرجع إليها في أقوالها، ويعدّ عبيداللَّه كبيرها ووجهها، صنّف كتابه المعروف، وعرضه على الإمام الصادق عليه السلام فلمّا رآه استحسنه وصحّحه قائلًا صلوات اللَّه عليه:( أترى لهؤلاء مثل هذا؟!) روى عنه عليه السلام، وروى عن عبيداللَّه هذا أحمد بن عائذ، وحمّاد بن عثمان، وعبد اللَّه بن مسكان .... انظر رجال النجّاشي: 230/ 612، ومعجم رجال الحديث 11: 88- 89.

ص: 47

من أصحابنا المنازعة في الشي ء، فيتراضيان برجل منّا.

فقال: (ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)(1).

فإنّ إطلاق قوله: «رجل منّا» يشمل المقلّد، وترك الاستفصال دليل العموم.

و أيضاً: حصر عدم الجواز فيمن يجبر الناس بسيفه وسوطه، دليل على جواز الرجوع لغيرهم مطلقاً.

وفيه: أنّ الظاهر من قوله:

(ليس هو ذاك)

كون الكلام مسبوقاً بسابقة بين المتخاطبين غير منقولة إلينا، ومعه يشكل الاعتماد على الإطلاق وترك الاستفصال.

مضافاً إلى عدم الإطلاق؛ لعدم كونه في مقام البيان، بل هو في مقام بيان حكم آخر، والحصر إضافيّ؛ ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامّة ممّن ليس لهم سيف وسوط.

ومضافاً إلى عدم جواز الاعتماد على الحصر أيضاً مع معهوديّة القضيّة بينهما، عدم نقل الرواية بجميع خصوصيّاتها لنا.


1- تهذيب الأحكام 6: 223/ 532، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 8.

ص: 48

مع أنّ معهوديّة كون شأن القضاء لأشخاص معيّنين وهم فقهاء الفريقين، يمنع عن الإطلاق، وعلى فرض الإطلاق يقيّد بمثل المقبولة.

وجه آخر لجواز الرجوع إلى المقلّد وجوابه

وقد يستدلّ لجواز الرجوع إلى المقلّد: بأنّ الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في زماننا، لم يكن في الصدر الأوّل، بل المحدّثون فيه مثل المقلّدين الآخذين أحكام اللَّه من الفقهاء، فقوله في المقبولة:

(ممّن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرآمنا، وعرف أحكامنا)(1)

، ليس المراد منه المجتهد؛ أي من له قوّة الاستنباط بالمعنى المعهود في أعصارنا؛ لعدم وجوده في زمان الأئمّة عليهم السلام بل المراد منه من علم الأحكام بأخذ المسائل من الإمام أو الفقيه، كما كان كذلك في تلك الأزمنة(2).

وفيه: إنّا لا ندّعي أنّ المناط في الفقيه المنصوب في المقبولة، هو واجديّته لقوّة الاستنباط، وردّ الفرع إلى الأصل بالنحو المتعارف في زماننا.

بل نقول: إنّ الموضوع هو من يتصف بما فيها؛ من كونه ممّن روى حديثهم، ونظر في حلالهم وحرامهم، وعرف أحكامهم، على نحو ما حرّرناه في فقه الحديث (3)، وهو صادق على المحدّثين والفقهاء في العصر الأوّل من أصحاب


1- الكافي 1: 54/ 10، الفقيه 3: 5/ 2، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، الاحتجاج: 355، وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- انظر جواهر الكلام 40: 18، ونهاية الدراية 6: 365.
3- تقدّم في الصفحة 26- 30.

ص: 49

الأئمّة، كما هو صادق على فقهاء عصرنا؛ فإنّهم مشتركون معهم فيما هو مناط المنصب.

وامتياز المجتهدين في زماننا عنهم، إنّما هو في أمر خارج عمّا يعتبر في المنصب؛ وهو تحصيل قوّة الاستنباط بالمشقّة، وبذل الجهد، وتحمّل الكلفة في معرفة الأحكام، ممّا لم يكن فقهاء العصر الأوّل محتاجين إليه.

فمعرفة الأحكام في العصر الأوّل كانت سهلة؛ لعدم الاحتياج إلى كثير من مقدّمات الاجتهاد، وعدم الاحتياج إلى التكلّف وبذل الجهد؛ ممّا نحتاج إليه في هذه الأعصار ممّا هو غير دخيل في تقوّم الموضوع، بل دخيل في تحقّقه، فقيود الموضوع- وهي ما عيّنت المقبولة من الأوصاف- كانت حاصلة لهم من غير مشقّة، ولفقهائنا مع تحمّل المشاقّ.

وأمّا المقلّد فخارج عن الموضوع رأساً؛ لعدم صدق الأوصاف عليه، كما أوضحنا سبيله سابقاً(1).

هذا مع أنّ المنصوبين للقضاء من قبل خلفاء الجور والحقّ، كانوا من الفقهاء الواجدين لقوّة الاستنباط، كشريح المنصوب من قبل أمير المؤمنين، وكابن أبي ليلى (2)،


1- تقدّم في الصفحة 26- 29.
2- ابن أبي ليلى هو محمّد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى يسار الأنصاري القاضي الكوفيّ. ولد سنة 74 ه، وصحب الصادق عليه السلام وكان من أصحاب الرأي فقيهاً مفتياً، وتولّى القضاء بالكوفة، وأقام حاكماً ثلاثاً وثلاثين سنة، ولي لبني امّية أوّلًا، ثمّ لبني العبّاس، وكان سيئ الحفظ. مات سنة 148 ه. انظر رجال الشيخ: 293/ 210، وتذهيب التهذيب 2: 43/ 6439، والكنى والألقاب 1: 202- 204.

ص: 50

وابن شُبْرُمة(1)، وقَتَادة(2)، وأضرابهم (3).

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ منصب القضاء مختصّ بالفقهاء، ولا حظّ للعامّي فيه.

هل يجوز للفقيه نصب العامّي للقضاء أم لا؟

فهل يجوز للفقيه نصب العامّي العارف بمسائل القضاء تقليداً أم لا؟

ربّما قيل: بالجواز؛ مستدلًاّ بعموم أدلّة ولاية الفقيه (4).

وتقريبه: أنّ للنبيّ والوصيّ نصبَ كلّ أحد للقضاء، مجتهداً كان، أو مقلّداً عارفاً بالمسائل؛ بمقتضى سلطنتهم وولايتهم على الامّة، وكلّ ما كان لهما يكون


1- ابن شبرمة: هو عبد اللَّه بن شُبْرُمة بن الطفيل الضبيّ الكوفيّ. كان قاضياً لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة، شاعراً جواداً، قليل الحديث، ومن أصحاب الرأى والقياس، وكان عيسى بن موسى- وليّ العهد بعد المنصور- لا يقطع أمراً دونه. توفّي سنة 144 ه. انظر الوافي بالوفيّات 17: 207/ 193، والكنى والألقاب 1: 324.
2- لم نعثر على قاض معروف سمّى« بقتادة». انظر تهذيب الكمال 23: 498- 523، وتذهيب التهذيب 2: 350- 351.
3- كعياض، وأبي يوسف ....
4- جواهر الكلام 40: 18- 19.

ص: 51

للفقيه الجامع للشرائط؛ بمقتضى أدلّة الولاية.

وردّت كلتا المقدّمتين:

أمّا الاولى: فلمنع جواز نصب العامّي من النبيّ والوصيّ؛ بمقتضى مقبولة عمر بن حنظلة الدالّة على أنّ هذا المنصب إنّما هو للفقيه لا العامّي، ويستفاد منها أنّ ذلك حكم شرعيّ إلهيّ (1).

وفيه: أنّ المقبولة لا تدلّ إلّاعلى نصب الإمام الفقيهَ، وأمّا كون ذلك بإلزام شرعيّ- بحيث يستفاد منها أنّ الفقاهة من الشرائط الشرعيّة للقضاء- فلا.

ويمكن أن يستدلّ لذلك بصحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة(2)، عن أبي عبد اللَّه قال:

(اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين؛ لنبيّ أو وصيّ نبيّ)(3).

فإنّ الظاهر منها أنّها مختصّة بهما من قبل اللَّه، ولا تكون لغيرهما أهليّة لها، غاية الأمر أنّ أدلّة نصب الفقهاء لها، تكون مخرجة إيّاهم عن الحصر، وبقى الباقي.

بل يمكن أن يقال: إنّ الفقهاء أوصياء الأنبياء بوجه؛ لكونهم الخلفاء)(4)،


1- القضاء، الآشتياني: 12.
2- تقدّمت في الصفحة 21.
3- الكافي 7: 406/ 1، الفقيه 3: 4/ 7، تهذيب الأحكام 6: 217/ 511، وسائل الشيعة 18: 7، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
4- عيون أخبار الرضا قدس سره 2: 36/ 94، معاني الأخبار: 374/ 1، وسائل الشيعة 18: 66، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.

ص: 52

(الامناء)(1)، و (منزلتهم منزلة الأنبياء من بني إسرائيل)(2)، فيكون خروجهم موضوعيّاً.

لا يقال: بناءً عليه لا معنى لنصبهم حكّاماً؛ لأنّهم الأوصياء، فيكون المنصب لهم بجعل اللَّه.

لأنّا نقول: إنّ المستفاد من الصحيحة أنّ هذا المنصب لا يكون إلّاللنّبي والوصيّ، وهو لاينافي أن يكون بنصب النبيّ أو الإمام، لكن بأمر اللَّه تعالى وحكمه، فإذا نصب اللَّه تعالى النبيّ حاكماً وقاضياً، ونصب النبيّ الأئمّة كذلك، والأئمَّةُ الفقهاءَ، ويكون الأئمّة والفقهاء أوصياء النبي، يصحّ أن يقال: «إنّ الحكومة منحصرة بالنبيّ والوصيّ» ويراد منه الأعمّ من الفقهاء، تأمّل.

وبالجملة: حصر الحكومة بالنبيّ والوصيّ، يسلب أهليّة غيرهما، خرج الفقهاء إمّا موضوعاً أو حكماً، وبقي الباقي.

مع أنّ الشكّ في جواز نصب النبي والإمام العامّيَ للقضاء- باحتمال اشتراطه بالفقاهة، وعدم ظهور إطلاق ينفيه- يكفي في عدم جواز نصب الفقيه إيّاه، وعدم نفوذ حكمه لو نصبه.

و أمّا المقدّمة الثانية: فاجيب عنها بمنع عموم ولاية الفقيه، لأنّ المنصف المتأمّل في المقبولة صدراً وذيلًا، وفي سياق الأدلّة، يقطع بأنّها في مقام بيان


1- مشكاة الأنوار: 59، بحار الأنوار 67: 687/ 11.
2- فقه الإمام الرضا عليه السلام: 338، بحار الأنوار 75: 346/ 4.

ص: 53

وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعيّة والقضاء بين الناس، لامطلقاً.

مع أنّه لو سلّمت استفادة العموم منها، فلابدّ وأن تحمل على ذلك؛ احترازاً عن التخصيص الأكثر المستهجن، فإنّ أكثر ما للنبيّ والإمام غير ثابت للمجتهد، فلا يجوز التمسّك بها لما نحن فيه إلّابعد تمسّك جماعة معتدّ بها من الأصحاب، ولم يتمسّك بها في المقام إلّابعض المتأخّرين (1)(2).

وفيه: أنّ المستفاد من المقبولة كما ذكرناه (3)، هو أنّ الحكومة مطلقاً للفقيه، وقد جعلهم الإمام حكّاماً على الناس، ولا يخفى أنّ جعل القاضي من شؤون الحاكم والسلطان في الإسلام، فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم لجواز نصب القضاة، فالحكّام على الناس شأنهم نصب الامراء والقضاة وغيرهما ممّا يحتاج إليه الامّة، كما أنّ الأمر كذلك من زمن رسول اللَّه والخلفاء حقّاً أو باطلًا، ولعلّه الآن كذلك عند العامّة، وليس ذلك إلّالمعروفيّة ذلك في الإسلام من بدو نشئه.

فالقول: بأنّ الأخبار في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعيّة والقضاء بين الناس، ساقط: أمّا بيان الأحكام الشرعيّة فليس من المناصب، فلا معنى لجعله. وتخصيصها بالقضاء لاوجه له بعد عموم اللّفظ، ومطابقة الاعتبار.

والانصراف لو كان فهو بدويّ، ينشأ من توّهم كون مورد المقبولة هو القضاء.


1- القضاء، الآشتياني: 13.
2- جواهر الكلام 21: 394- 396 و 40: 18، عوائد الأيّام: 536.
3- تقدّم في الصفحة 29.

ص: 54

ودعوى مساوقة المقبولة للمشهورة، وهي مختصّة بالقضاء، فكذلك المقبولة(1)، كما ترى مع أنّك قد عرفت عدم اختصاص مورد المقبولة ولا المشهورة بالقضاء(2).

وأمّا تخصيص الأكثر فممنوع جدّاً؛ فإنّ مختصّات النبيّ وإن كانت كثيرة، لكن ليس شي ء منها مربوطاً بمقام سلطنته وحكومته، إلّاالنادر القليل لو كان، فما هو ثابت للنبيّ والوصيّ من الحكومة والولاية في الامور السياسيّة والحِسْبيّة، هي الشؤون الثابتة للفقهاء أيضاً، والمستثنى منها قليل جدّاً، وما هي من مختصّات النبيّ فليست من شؤون الحكومة إلّاالنادر منها، فراجع مختصّاته- وقد جمعها العلّامة في أوّل نكاح «التذكرة»(3) حتّى يتّضح لك الأمر.

وأمّا مختصّات الأئمّة فمع عدم كثرتها، فهي أيضاً غير مربوطة بمقام الحكومة، إلّاالنادر على فرضه.

هل يجوز توكيل العامّي للقضاء؟

وأمّا توكيل الفقيه مقلِّده العارف بمسائل القضاء لتولّيه، تشبّثاً بإطلاق أدلّة الوكالة(4)، ففيه ما لا يخفى على المتأمّل:


1- المكاسب والبيع( تقرير بحث النائيني)، الشيخ محمّدتقي الآملي 2: 336.
2- تقدّم في الصفحة 29- 30، 37.
3- تذكرة الفقهاء 2: 565 سطر 29.
4- انظر جامع الشتات: 695 سطر 21، وجواهر الكلام 40: 49- 50.

ص: 55

أمّا أوّلًا: فلأنّ القضاء غير قابل للتوكيل؛ لما يستفاد من الأدلّة- كما عرفت (1)- من اختصاصه بالفقيه، فتعتبر فيه مباشرة الفقيه، ولوشكّ في ذلك فليس دليل ولا أصل يتشبّث به لإحراز القابليّة، فالأصل الأوّلي محكّم مع الشكّ.

وأمّا ثانياً: فلعدم إطلاق في أدلّة الوكالة يحرز به نفوذ الوكالة في كلّ أمر؛ إذ ليس فيها ما يتوهّم (2) فيه ذلك إلّاصحيحة معاوية بن وهب (3)، عن أبي عبد اللَّه أنّه قال:

(من وكّل رجلًا على إمضاأ أمر من الامور، فالوكالة ثابتة أبداً حتّى يعلمه بالخروج منها، كما أعلمه بالدخول فيها)(4).

وصحيحة هشام بن سالم (5)، عنه عليه السلام في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر


1- تقدّم في الصفحة 24 وما بعدها.
2- جواهر الكلام 27: 378.
3- معاوية بن وهب: هو الشيخ الفقيه، العالم والعامل الثقة؛ أبو الحسن معاوية بن وهب البجليّ الكوفيّ. كان حسن الطريقة ممدوحاً، لا مطعن عليه ولا ذمّ، روى عن الإمامين الهمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، كما روى عن أبي بصير، وزرارة، وعبيد بن زرارة، وروى عنه الحسن بن محبوب، ويونس بن عبد الرحمان وابن أبي عمير. انظر رجال النجّاشي: 412/ 1097، ومعجم رجال الحديث 18: 219- 220.
4- الفقيه 3: 47/ 166، تهذيب الأحكام 6: 213/ 502، وسائل الشيعة 13: 285، كتاب الوكالة، أبواب أحكام الوكالة، الباب 1، الحديث 1.
5- هشام بن سالم: هو الشيخ العالم المتكلّم الثقة الثقة؛ أبو الحكم هشام بن سالم الكوفيّ الجواليقيّ العلّاف. صحب الصادق والكاظم عليهما السلام، وكان من الرؤساء والأعلام المأخوذ منهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم بشي ء، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم. روى عن جابر بن يزيد الجعفيّ، وسليمان بن خالد، وسَماعة بن مهران، وروى عنه. ابن أبي عمير، وصفوان، والبزنطي. انظر رجال النجّاشي: 434/ 1165، ورجال الكشّي 2: 565، ومعجم رجال الحديث 19: 297.

ص: 56

من الامور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال:

اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة.

فقال:

(إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل، فإنّ الأمر واقع ماضٍ على ما أمضاه الوكيل، كره الموكّل أم رضي).

قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه؟.

قال:

(نعم) ...

إلى أن قال:

(إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس، فأمره ماضٍ أبداً، والوكالة ثابتة، حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه بالعزل عن الوكالة)(1).

وهما كما تراهما، لا إطلاق لهما لإثبات قابليّة كلّ شي ء للوكالة، أو نفوذها في كلّ شي ء؛ لكونهما في مقام بيان حكم آخر، وهو واضح.

وتوهّم: كون التوكيل في الامور من الامور العقلائيّة الغير المحتاجة إلى


1- الفقيه 3: 49/ 170، تهذيب الأحكام 6: 213/ 503، وسائل الشيعة 13: 286، كتاب الوكالة، أبواب أحكام الوكالة، الباب 2، الحديث 1.

ص: 57

الدليل، فعدم الردع يكفي في ثبوته لكلّ شي ء(1).

فيه: أنّ التمسّك ببناء العقلاء مع عدم الردع، إنّما هو في الامور الشائعة المتداولة بين الناس بمرأى ومنظر من الشارع، وعدم ورود ردع منه، كالعمل بالظواهر، وخبر الثقة، والوكالة في مثل النكاح والطلاق والبيع والشراء وأمثالها من المعاملات تكون كذلك، وأمّا الوكالة في القضاء فلم تكن متعارفة بينهم، حتّى يتمسّك ببنائهم، وليس البناء على أمر كلي حتّى يتمسّك بإطلاقه أو عمومه، فالحقّ عدم جواز التوكيل للعامّي فيه.


1- انظر العروة الوثقى 2: 132.

ص: 58

الأمر الرابع تشخيص مرجع التقليد والفتوى

اشارة

الرابع في تشخيص موضوع جواز التقليد وأنّ من يجوز الرجوع إليه في الفتوى هل هو الأعلم، أو المجتهد المطلق وإن لم يكن هو الأعلم، أو الأعمّ منه ومن المتجزّي؟

فيقع الكلام تارة: في صورة عدم اختلافهما في الفتوى

واخرى مع عدم معلوميّة اختلافهما.

وثالثة: مع معلوميّته إجمالًا.

ورابعة: مع معلوميّته تفصيلًا.

ولابدّ قبل الورود في بيان الأدلّة من تأسيس الأصل:

فنقول: لا إشكال في أنّ الأصل حرمة العمل بما وراء العلم عقلًا ونقلًا(1)،


1- راجع أنوار الهداية 1: 223- 231.

ص: 59

كما لا إشكال في أنّ التقليد- أي الأخذ بقول الغير، ومتابعة رأيه في العمل- عمل بغير العلم، سواء كان دليله بناء العقلاء كما سنتعرّض له (1)، أو التعبّد الشرعيّ من إجماع أو غيره.

وقد خرج من الأصل تقليد الفاضل إجماعاً(2)، بل ضرورة؛ لوضوح عدم كون الناس كلّهم مكلّفين بتحصيل العلم والاجتهاد، وبطلان وجوب العمل بالاحتياط أو التجزّي فيه، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بتقليد الأعلم، وخروجه عن حرمة العمل بغير العلم، فبقي الرجوع إلى غيره تحت الأصل، ولابدّ من خروجه عنه من التماس دليل.

هذا، وأمّا التمسّك بدليل الانسداد بأن يقال: يجب على العامّي عقلًاالعمل بقول الأعلم، وإلّا لزم إمّاإهمال الوقائع، وهو باطل بالضرورة؛ للعلم الإجماليّ بالتكليف.

أو تحصيل العلم حقيقة أو اجتهاداً، وهو باطل؛ للعلم الضروريّ بعدم وجوبه على الناس، وللزوم اختلال النظام.

وإمّا الاحتياط، وهو باطل أيضاً؛ للزوم العسر والحرج، بل اختلال النظام.

وإمّا الأخذبقول المفضول، وهوباطل؛ لقبح ترجيح المرجوح على الراجح (3)


1- يأتي في الصفحة 63.
2- انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 801، ومنية المريد: 304، ومطارح الأنظار: 276، السطر الأخير.
3- انظر كشف اللّثام 2: 320 سطر 27 و 321 السطر الأوّل، وقوانين الاصول 2: 246 سطر 17، وضوابط الاصول: 414 سطر 7.

ص: 60

فهو ليس في محلّه؛ لعدم تماميّة مقدّماته، لأنّ العلم الإجماليّ منحلّ بما في فتاوى الأحياء من العلماء، وليس للعامّي زائداً على فتاويهم علم، فيكون تكليفه الاحتياط في فتاويهم؛ أي العمل بأحوط الأقوال، ولزومُ العسر والحرج منه- فضلًا عن اختلال النظام (1)- ممنوع.

ولأنّ [كون الأخذ بقول غير الأعلم من قبيل ترجيح المرجوح، ممنوع:

أمّا أوّلًا: فلأنّه كثيراً ما يتّفق موافقة فتوى غير الأعلم لفتوى الميّت الذي هو أعلم من الأحياء.

وأمّا ثانياً: فلأنّ فتوى الفقهاء من قبيل الأمارات، فقد تكون- بواسطة بعض الخصوصيّات- فتوى غير الأعلم أقرب إلى الواقع.

ثمّ على فرض تماميّة المقدّمات، لا تكون نتيجتها الأخذ بقول الأعلم، بل يلزم عليه التبعيض في الاحتياط بما دون العسر والحرج.

وقد يقرّر الأصل: بأنّ الأصل عدم حجّية رأي أحد على أحد، خرج منه رأي الأعلم، وبقي غيره (2).

تقرير الأصل في جواز تقليد المفضول

وقد تشبّث القائلون بجواز الأخذ من غير الأعلم باصول غير أصيلة:

منها: أنّ أصالة حرمة العمل بالظنّ، قد انقطعت بما دلّ على مشروعيّة


1- انظر مفاتيح الاصول: 628 سطر 31، ومطارح الأنظار: 274 سطر 31.
2- انظر ما تقدّم في الصفحة 18.

ص: 61

التقليد في الجملة، ولاريب أنّه إذا كان المجتهدان متساويين من جميع الجهات، في جواز الرجوع إلى كلّ منهما تخييراً بحكم العقل، بعد عدم جواز طرح قولهما، وعدم وجوب الأخذ بأحوطهما، ويستكشف من حكم العقل حكم شرعيّ بجواز الرجوع إلى كلّ منهما تخييراً.

فإذا صار أحدهما أعلم من الآخر، يشكّ في زوال التخيير، فيستصحب بقاؤه، ويتمّ في غيره بعدم القول بالفصل (1).

واجيب عنه: بأنّ الاستصحاب غير جارٍ في الأحكام العقليّة؛ لامتناع حصول الشك مع بقاء الموضوع بجميع حدوده، فالشكّ فيها معلول اختلاف الموضوع، ومعه لا يجري الاستصحاب (2).

وفيه: أنّ جريانه في نفس حكم العقل وإن كان ممنوعاً، لكن في الحكم الشرعيّ المستكشف منه، لامانع منه من قِبَل اختلاف الموضوع؛ لأنّ اختلافه عقلًا لا يضرّ به مع بقائه عرفاً.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الحكم الشرعيّ المستكشف من حكم العقل- بناءً على تماميّة الملازمة- لا يعقل أن يكون مناطه غيرَ مناط حكم العقل، ومع زوال المناط لايعقل بقاؤه، كما لا يعقل بقاء حكم العقل.

ففيما نحن فيه، إذا كان حكم العقل بالتخيير بمناط تساويهما، واستكشف حكم شرعيّ متعلّق بالموضوع لأجل هذا المناط، فلا يعقل بقاء حكم العقل


1- مطارح الأنظار: 273 سطر 19 و 23.
2- مطارح الأنظار: 273 سطر 19 و 23.

ص: 62

والشرع المستكشف منه مع زوال التساوي.

نعم، يمكن أن يكون مناط آخر غيره علّة للتخيير أيضاً، فمع زوال المناط الأوّل والحكم المعلول له، بقي الحكم بالتخيير لذاك المناط، فحينئذٍ لا يجري استصحاب شخص الحكم؛ لأنّ ما هو بمناط حكم العقل زال قطعاً، وغيره مشكوك الحدوث، فبقي استصحاب الكلي.

وهو وإن جرى في بعض الموارد، لكن لا يجري فيما نحن فيه؛ لأنّ الجامع بين التخييرين من المخترعات العقليّة الغير المجعولة؛ لتعلّق الجعل بكلّ من التخييرين، لا الجامع بينهما القابل للصدق عليهما، فالجامع بينهما ليس حكماً، ولا موضوعاً ذا حكم، فلا يجري استصحاب الكلي أيضاً في المقام.

وإن شئت تفصيل ذلك، فراجع باب استصحاب الأحكام العقليّة(1)، واستصحاب الكلي (2).

هذا مضافاً إلى إمكان معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب آخر؛ وهو استصحاب الحجيّة التعينيّة فيما إذا انحصر المجتهد في شخص، ثمّ وجد من هو المفضول منه، فيشكّ في جواز الرجوع إلى غيره، فيستصحب عدم الجواز الثابت للمفضول قبل اجتهاده، أو الحجّة التعيينيّة، ويتمّ في غيره بعدم القول بالفصل تأمّل.

وأمّا تمسّكهم بأصالة البراء ة وأمثالها(3)، فهو- في مقابل أدلّة حرمة العمل


1- الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 15- 16.
2- نفس المصدر: 84 و 86.
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 284، مناهج الأحكام والاصول، المحقّق النراقي: 301 سطر 2.

ص: 63

بالظنّ- غريب، فلا نطيل بالتعرّض له.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأصل مع القائلين بعدم جواز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم (1).

بحث حول بناء العقلاء

ثمّ إنّه قبل الورود في أدلّة الطرفين، لابأس بالتدبّر في بناء العقلاء، وبيان مقتضى ارتكازهم في أصل التقليد، وفي باب تقليد الأعلم.

فنقول: المعروف أنّ عمدة دليل وجوب التقليد هو ارتكاز العقلاء(2)؛ فإنّه من فطريات العقول رجوع كلّ جاهل إلى العالم، ورجوع كلّ محتاج في صنعة وفنّ إلى الخبير بهما، فإذا كان بناء العقلاء ذلك، ولم يرد ردع من الشارع عنه، يستكشف أنّه مجاز ومرضيّ.

ولا يصلح ما ورد من حرمة اتباع الظنّ للرادعيّة؛ لما ذكرنا في باب حجّية الظنّ (3): من أنّ مثل هذه الفطريّات والأبنية المحكمة المبرمة، لا يمكن فيها ردع العقلاء بمثل عموم «الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(4)*- بناءً على عدم الخدشة في


1- راجع مفاتيح الاصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 272 سطر 28.
2- كفاية الاصول: 539، درر الفوائد 702- 703، نهاية الأفكار( القسم الثاني من الجزء الرابع): 241.
3- أنوار الهداية 1: 279.
4- يونس( 10): 36 والنجم( 53): 28.

ص: 64

دلالته- وغير ذلك (1)؛ فإنّه لاينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف في تلك الفطريّات غالباً إلّامع التنبّه، فلاينقدح في بالهم أنّ مثل تلك العمومات رادعة عن مثل تلك الارتكازات، فلابدّ في ردعهم عن مثلها من التصريح والتأكيد.

ولهذا بعد ورود أمثال ما يدّعى الردع بها(2)، لم ينقدح في ذهن مَن في الصدر الأوّل، عدمُ جواز ترتيب الملكيّة على ما في يد الغير، وأثرِ الصحّة على معاملات الناس، وعدم قبول قول الثقة والعمل بالظواهر، فإذن يكون أصل التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم جائزاً.

إشكال على بناء العقلاء

اشارة

وهاهنا شكّ (3): وهو أنّ ارتكاز العقلاء وبناءهم على أمر، إنّما يصير حجّة إذا أمضاه الشارع، وإنّما يكفى عدم الردع ويكشف عن الإمضاء، إذا كان بناؤهم على عمل بمرأى ومنظر من النبيّ أو الأئمّة عليهم السلام، كبنائهم على أصالة الصحّة، والعمل بقول الثقة، وأمثالهما ممّا كان بناؤهم العمليّ متّصلًا بزمان المعصومين.


1- كقوله تعالى:\i« وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»\E الإسراء( 17): 36.
2- قال المحدّث الأسترآبادي: الفصل الأوّل في إبطال التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه تعالى، والتمسّك فيه بالظنّ يشتمل على دور ظاهر، مع أنّه معارض بأقوى منه؛ من الآيات الصريحة في النهي عن العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى، والروايات الصريحة في ذلك ... الفوائد المدنيّة: 90 سطر 5 و 92 السطر الأوّل.
3- انظر وسائل الشيعة 18: 95، وما قرّر في نهاية الأفكار( القسم الثاني من الجزء الرابع): 241.

ص: 65

وأمّا إذا كان بناؤهم على عمل في موضوع مستحدث لم يتّصل بزمانهم، فلا يمكن استكشاف إمضاء الشارع لمثله.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ علم الفقه أصبح في أعصارنا من العلوم النظريّة التي لاتقصر عن العلوم الرياضيّة والفلسفيّة، في حين كان في أعصار الأئمّة عليهم السلام من العلوم الساذجة البسيطة، وكان فقهاء أصحاب الأئمّة يعلمون فتاويهم، ويميّزون بين ما هو صادر من جراب النورة وغيره، ولم يكن الاجتهاد في تلك الأزمنة كزماننا.

فرجوع الجاهل إلى العالم في تلك الأزمنة، كان رجوعاً إلى من علم الأحكام بالعلم الوجدانيّ الحاصل من مشافهة الأئمّة عليهم السلام، وفي زماننا رجوع إلى من عرف الأحكام بالظنّ الاجتهاديّ والأمارات، ويكون علمه تنزيليّاً تعبّدياً، لا وجدانيّاً.

فرجوع الجاهل في هذه الأعصار إلى علماء الدين وإن كان فطريّاً، ولا طريق لهم بها إلّاذلك، لكن هذا البناء ما لم يكن مشفوعاً بالإمضاء، وهذا الارتكاز ما لم يصر ممضىً من الشارع، لا يجوز العمل على طبقه، ولا يكون حجّة بين العبد والمولى

ومجرّد ارتكازيّة رجوع كلّ ذي صنعة إلى أصحاب الصنائع، وكلِّ جاهل إلى العالم، لايوجب الحجّية إذا لم يتّصل بزمان الشارع، حتّى يكشف الإمضاء، وليس إمضاء الارتكاز وبناء العقلاء من الامور اللّفظيّة، حتّى يتمسّك بعمومها أو إطلاقها، ولم يرد دليل على إمضاء كلّ المرتكزات إلّاما خرج، حتّى يتمسّك به.

ص: 66

ومن ذلك يعلم عدم جواز التمسّك بإرجاع الأئمّة عليهم السلام إلى أصحابهم، كإرجاع (1) ابن أبي يعفور(2) إلى الثقفيّ (3)، وكالإرجاع إلى زرارة(4) بقوله:

(إذا


1- رجال الكشّي 1: 383، الاختصاص: 201، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23، مستدرك الوسائل 17: 314، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 11.
2- ابن أبي يعفور: هو الشيخ الجليل العالم الفقيه الثقة الثقة، أبو محمّد عبد اللَّه بن أبي يعفور، واسم أبيه واقد أو وقدان. كان من خواصّ أصحاب الإمام الصادق عليه السلام كريماً عليه، ومن أهل الورع والاجتهاد، وكان يقرئ القرآن في مسجد الكوفة. روى عنه عليه السلام وعن أخيه عبد الكريم ابن أبي يعفور، وأبي الصامت، وروى عنه إسحاق بن عمّار، والحسين بن المختار، ومنصور ابن حازم. مات رضوان اللَّه عليه في حياة الإمام الصادق عليه السلام. انظر رجال النجّاشي: 213/ 556، ومعجم رجال الحديث 10: 96/ 6680.
3- الثقفي: هو الشيخ العالم الفقيه الورع الثقة؛ أبو جعفر محمّد بن مسلم بن رياح الثقفيّ الأوقص الطحّان الطائفيّ الكوفيّ. كان من أوثق الناس، ووجهَ أصحابنا بالكوفة، ومن الفقهاء الأعلام الذين أجمعت العصابة على تصديقهم، والانقياد لهم في الفقه. صحب الإمامين الصادقيين عليهما السلام وروى عنهما، وعن أبي حمزة الثمالي، وزرارة، ومحمّد بن مسعود الطائيّ، وروى عنه أبان بن عثمان، وبريد بن معاوية، وعليّ بن رئاب، مات ابن مسلم رحمه الله سنة 150 ه. انظر رجال النجّاشي: 323/ 882، ورجال الكشّي 2: 507، ومعجم رجال الحديث 17: 247/ 11779.
4- زرارة: هو الشيخ الجليل، الفقيه المتكلّم المقرئ، الشاعر الأديب الثقة؛ أبو الحسن عبد ربّه( الملقّب بزرارة) ابن أعين بن سنسن الشيبانيّ الكوفيّ. شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم، اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، وكان صادقاً فيما يرويه، ولولاه وأمثاله لاندرست أحاديث الباقر عليه السلام. صحب من الأئمّة الميامين الباقر والصادق عليهما السلام وكان أيضاً ممّن أجمع أصحابنا على تصديقهم، والانقياد لهم في الفقه. روى عن حمران بن أعين، وعبد الكريم بن عتبة الهاشميّ، ومحمّد بن مسلم، وروى عنه أبان بن تغلب، وثعلبة بن ميمون، وعثمان بن عيسى. مات قدس سره سنة 150 ه. انظر رجال النجّاشي: 175/ 463، وفهرست الشيخ الطوسي: 74/ 302، ورجال الشيخ: 123 و 201، ومعجم رجال الحديث 7: 218- 221 و 247- 248.

ص: 67

أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس)(1)

مشيراً إليه.

وكقوله عليه السلام لأبان بن تغلب (2):

(اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك)(3)

إلى غير ذلك (4)


1- رجال الكشّي 1: 347، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
2- أبان بن تغلب: هوالشيخ المقرئ، الفقيه اللّغوي الثقة؛ أبو سيعد أبان بن تغلب بن رباح البكريّ الجريريّ الكنديّ. كان عظيم المنزلة في أصحابنا، مقدّماً في كلّ فنّ من العلوم، سواء في ذلك القرآن، والفقه، والحديث، والأدب، واللغة، والنحو، لقي الإمام زين العابدين والإمامين الصادقين عليهم السلام وكانت له عندهم منزلة وقدم، كان إذا حلّ بالمدينة تقوّضت إليه الحلق، واخليت له سارية النبي صلى الله عليه و آله و سلم. روى عن أبي حمزة الثماليّ، وزرارة، وسعيد بن المسيّب، وروى عنه جميل بن درّاج، وعليّ بن رئاب، ومنصور بن حازم مات أبان رضي اللَّه عنه سنة 141 ه، فقال أبو عبد اللَّه الصادق عليه السلام لمّا أتاه نعيه: \iُ( أما واللَّه، لقد أوجع قلبي موتُ أبان).\E انظر مشيخة الفقيه: 23، ورجال النجّاشي: 10/ 7، وفهرست الشيخ: 17/ 51، ومعجم رجال الحديث 1: 150- 151.
3- رجال النجّاشي: 10، فهرست الشيخ: 17، وسائل الشيعة 20: 116، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 14.
4- يأتي بعضها في الصفحة 78، راجع نهاية الأفكار( القسم الثاني من الجزء الرابع): 244- 245.

ص: 68

بدعوى أنّ إرجاعهم إليهم لم يكن إلّالعلمهم بالأحكام، وهو مشترك بينهم وبين فقهاء عصرنا، فيفهم العرف جوازالرجوع إلى فقهاء عصرنا بإلغاء الخصوصية.

وذلك للفرق الواضح بينهم وبين فقهائنا؛ لأنّ الإرجاع إليهم إرجاع إلى الأحكام الواقعيّة المعلومة لبطانتهم؛ لسؤالهم مشافهة منهم، وعلمهم بفتاويهم، من غير اجتهاد كاجتهاد فقهائنا، فمثل زرارة، ومحمّد بن مسلم، وأبي بصير(1)؛ ممّن تلمّذ لدى الأئمّة عليهم السلام سنين متمادية، وأخذ الأحكام منهم مشافهة، كان عارفاً بنفس فتاوى الأئمّة الصادرة لأجل الحكم الواقعيّ.

وأمّا فقهاء عصرنا، فيكون علمهم عن اجتهاد بالوظيفة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة، فلا يمكن إلغاء الخصوصيّة، بل يكون القياس بينهما مع الفارق.


1- أبو بصير: هو الشيخ الثقة الوجيه، والعالم الفقيه؛ يحيى بن القاسم( أو ابن أبي القاسم؛ إسحاق) الأسدي. ولد مكفوفاً، ورأى الدنيا مرّتين ببركة الإمامين الصادقين عليهما السلام ويمنهما. روى عنهما صلوات اللَّه عليهما، وروى عنه أبو خديجة، وأبان بن عثمان، وإسحاق بن عمّار ... وكان أيضاً ممّن أجمع الأصحاب على تصديقه، وممّن أقرّوا له بالفقه والجلالة، وكان عليّ بن أبى حمزة البطائنيّ، قائده وتلميذه والراوي عنه كثيراً مات رحمه الله سنة 150 ه. انظر رجال النجّاشي: 441/ 1187، ورجال العلّامة الحلّي: 246، ومعجم رجال الحديث 20: 75- 76 و 21: 45- 47.

ص: 69

في جواب الإشكال

وهذا الشكّ لا يرتفع إلّابإثبات أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ:

أحدهما: أنّ الاجتهاد بالمعنى المتعارف في أعصارنا أو القريب منه، كان متعارفاً في أعصار الأئمّة عليهم السلام وأنّ بناء العو امّ على الرجوع إلى الفقهاء في تلك الأعصار، وأنّ الأئمّة أرجعوهم إليهم أيضاً.

وثانيهما: إثبات أنّ الردع عن ارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم حتّى فيما نحن فيه، كان لازماً عليهم لو كان غير مرضيّ، ومع عدمه يكشف عن كونه مرضيّاً.

ص: 70

تعارف الاجتهاد سابقاً وإرجاع الأئمّة عليهم السلام شيعتهم إلى الفقهاء

اشارة

أمّا الأمر الأوّل: فتثبت كلتا مقدّمتيه بالرجوع إلى الأخبار.

تداول الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السلام

أمّا تداول مثل هذا الاجتهاد أو القريب منه، فتدلّ عليه أخبار كثيرة:

منها: ما عن محمّد بن إدريس (1) في آخر «السرائر»، نقلًا عن «كتاب هشام بن سالم» عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

(إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول، وعليكم أن تفرّعوا)(2)


1- محمّد بن إدريس: هو شيخ الفقهاء والمجتهدين، الإمام المحقّق الكامل؛ فخر الدين أبو عبد اللَّه محمّد بن إدريس العجليّ الربعيّ الحليّ. ولد سنة 543 ه وكان عديم النظير في الفقه، كما في الوافي بالوفيّات، كثير التصانيف، ولكنّه لم يعمل بخبر الواحد، وكانت تربطه بالشيخ الطوسي قدس سره صلة رحم، لذا عبّر عنه« بخالي» تارة، و« بجدّي» اخرى. روى عن عربيّ ابن مسافر، وأبي المكارم، وروى عنه محمّد بن نما، والسيّد فخار بن معد الموسويّ. من مصنّفاته السرائر، ومنتخب كتاب التبيان ... توفيّ نوّر اللَّه ضريحه سنة 598 ه. انظر الوافي بالوفيّات 2: 183، ومقابس الأنوار: 11- 12، وخاتمة المستدرك 3: 481- 482، وتنقيح المقال 2: 77( من أبواب الميم).
2- مستطرفات السرائر: 57/ 20، وسائل الشيعة 18: 40، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 51.

ص: 71

وعنه عن «كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر»(1) عن الرضا عليه السلام قال:

(علينا إلقاء الاصول، وعليكم التفريع)(2).

ولا ريب في أنّ التفريع على الاصول هو الاجتهاد، وليس الاجتهاد في عصرنا إلّاذلك، فمثل قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)(3)

أصل، والأحكام التي يستنبطها المجتهدون منه هي التفريعات، وليس التفريع هو الحكم بالأشباه والنظائر كالقياس، بل هو استنباط المصاديق والمتفرّعات من الكبريات الكلّية.

فقوله:

(على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي)(4)

، و

(لا ضرر


1- أبو نصر: هو الشيخ العالم الفقيه الثقة؛ أبو جعفر أحمد بن محمّد بن عمرو بن أبي نصر زيد البزنطيّ الكوفيّ. صحب الإمام الكاظم عليه السلام، ووقف عليه بعد وفاته، ولكنّه رجع لمّا ظهرت المعجزات على يد الرضا عليه السلام الدالّة على صحّة إمامته، فالتزم بالحجّة وقال بإمامته وإمامة مَن بعده من ولده، وصار عظيم المنزلة عنده وعند ابنه الإمام الجواد صلوات اللَّه عليهما، وهو ممّن أجمع أصحابنا على تصديقهم، والإقرار لهم بالفقه والعلم، روى عن أبان بن عثمان، وحنان بن سدير، وهشام بن سالم، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، ومحمّد بن عيسى بن عبيد، ويعقوب بن يزيد. مات البزنطي رضى الله عنه سنة 221 ه. انظر رجال النجّاشي: 75/ 180، والغيبة، الشيخ الطوسي: 47- 48، ورجال الكشّي 2: 830، ومعجم رجال الحديث 2: 236- 238.
2- مستطرفات السرائر: 58/ 21، وسائل الشيعة 18: 52، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 52.
3- تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
4- عوالي اللآلي 1: 224، 389 و 2: 345 و 3: 246، 251، مستدرك الوسائل 12: 8 و 17: 88، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

ص: 72

ولا ضرار)(1)

و

(رفع عن امّتي تسعة)(2)

، وأمثالها اصول، وما في كتب القوم من الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات، فهذا الأمر كان في زمن الصادق والرضا- عليهما الصلاة والسلام- مثل ما في زماننا، إلّامع تفاوت في كثرة التفريعات وقلّتها، وهو متحقّق بين المجتهدين في عصرنا أيضاً.

ومنها: ما عن «عيون الأخبار» بإسناده عن الرضا عليه السلام قال:

(من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

ثمّ قال:

(إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا)(3).

و معلوم: أنّ ردّ المتشابه إلى المحكم، وجعل أحد الكلامين قرينة على الآخر، لايكون إلّابالاجتهاد، كالذي يتداول في هذا الزمان.

ومنها: ما عن «معاني الأخبار» بإسناده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول:

(أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا؛ إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب)(4).


1- الكافي 5: 292/ 2، الفقيه 3: 147/ 18، تهذيب الأحكام 7: 146/ 36، وسائل الشيعة 17: 341، كتاب إحياء الموات، أبواب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
2- توحيد الصدوق: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 290/ 39، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 22.
4- معاني الأخبار: 1/ 1، وسائل الشيعة 18: 84، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 27.

ص: 73

فإنّ عرفان معاني كلامهم من بين الوجوه المختلفة، لا يكون إلّابالاجتهاد والفحص عن فتاوى العامّة، وعرض الأخبار على أخبارهم وفتاويهم، وعلى الكتاب، وغير ذلك ممّا يتداول بين أهل الاجتهاد.

ومنها: رواية عليّ بن أسباط(1) قال قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك.

قال فقال:

(ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه؛ فإنّ الحقّ فيه)(2).

ومنها: روايات النهي عن الفتيا بغير علم (3)، وهي كثيرة، يظهر منها جوازه


1- عليّ بن أسباط: هو الشيخ الفقيه المقرئ الثقة؛ أبو الحسن عليّ بن أسباط بن سالم الكوفيّ الكنديّ. كان من أوثق الناس وأصدقهم لهجة، صحب الإمامين الهمامين الرضا والجواد عليهما السلام، وكان فطحيّاً، وقد اختلف في توبته، فذهب محمّد بن مسعود إلى أنّه مات على الفطحيّة، وخالفه النجّاشي. روى عن إبراهيم بن أبي البلاد، والحسن بن الجهم، والعلاء بن رَزين، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، وإبراهيم بن هاشم، ويعقوب بن يزيد. انظر رجال النجّاشي: 252/ 663، ورجال الكشّي 2: 635، ورجال الشيخ: 390 و 403، ومعجم رجال الحديث 11: 263- 264.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 275/ 10، تهذيب الأحكام 6: 294/ 820، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 23.
3- كقوله عليه السلام: \iُ( من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللَّه، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)\E راجع وسائل الشيعة 18: 9، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، مستدرك الوسائل 17: 243، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4.

ص: 74

مع العلم، والفتوى ليس إلّابالاجتهاد والتفقّه.

ومنها: أخبار النهي عن الحكم بغير ما أنزل اللَّه (1)، ومقابله ملازم للاجتهاد.

وعن «نهج البلاغة» فيما كتب إلى قُثَم بن عبّاس (2):

(واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلّم الجاهل، وذكّر العالم)(3)

. ومنها: ما عن كتاب «الغيبة» بإسناده عن الحسين بن روح (4)، عن أبي


1- كقوله عليه السلام: \iُ( من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللَّه عزّوجلّ، فهو كافر باللَّه العظيم)\E راجع وسائل الشيعة 18: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5، مستدرك الوسائل 17: 250، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5.
2- قثم بن عبّاس: هو الصحابيّ التابعيّ الجليل، والعالم الفقيه؛ قُثَمْ بن العبّاس بن عبد المطّلب الهاشميّ. كان من وجوه الصحابة والتابعين، كريماً جواداً، أمّره أميرالمؤمنين عليه السلام على مكّة المكرّمة، فلمّا توجه بسر بن أرطاة من قبل معاوية انهزم قثم منها، ودخلها بسر، فاستعمل عليها شيبة بن عثمان، وخرج منها، ثمّ رجع قثم فغلب عليها، وبقي على مكّة إلى أن استشهد أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه. ثمّ شارك في جيش سعيد بن عثمان بن عفّان، حتّى قتل في سمرقند سنة 56 ه. انظر الكامل في التأريخ 3: 513، وتذهيب التهذيب 2: 359/ 5909، وتنقيح المقال 3: 27/ 9638، ومعجم رجال الحديث 14: 76/ 9599.
3- نهج البلاغة 4: 642، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
4- الحسين بن روح: هو السفير الثالث للحجّة المنتظر صلوات اللَّه عليه، وبابه ونائبه؛ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختيّ. كان قبل تشرّفه بمقام السفارة وكيلًا للنائب الثاني؛ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمريّ، فكان ينظر له في أملاكه سنين عديدة، ويلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة، وكان خصّيصاً به. فحصل له في أنفس الشيعة مقام جليل؛ لمعرفتهم باختصاصه بالعمريّ، وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه، فتمهّدت له الحال في طول حياة العمريّ إلى أن انتهت الوصيّة إليه بالنصّ عليه، فلم تختلف الشيعة في أمره. كان أبو القاسم رضوان اللَّه عليه من أعقل الناس عند المخالف والموافق، ويستعمل التقيّة، وكانت العامّة أيضاً تعظّمه. بقي نائباً أكثر من عشرين عاماً حتّى وافته المنيّة سنة 236 ه. انظر الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 227، وتنقيح المقال 1: 328.

ص: 75

محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام: أنّه سئل عن كتب بني فضّال فقال:

(خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا)(1)

. تدلّ على أنّ لهم آراء، وليست نفس الروايات آراءهم، واحتمال كون الآراء هي المربوطة باصول المذهب، مدفوع بإطلاقها، ولعلّ منعه عن الأخذ بآرائهم؛ لاعتبار كون المفتي على مذهب الحقّ وعلى العدالة.

ومنها: قول أبي جعفر عليه السلام لأبان بن تغلب المتقدّم آنفاً(2)، فإنّ الإفتاء ليس إلّا بالاجتهاد.

ومنها: بعض الروايات التي تشير إلى كيفيّة استنباط الحكم من الكتاب، مثل ما عن محمّد بن عليّ بن الحسين، بإسناده

عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: (إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟!).


1- الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 239، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 13.
2- تقدّم في الصفحة 67.

ص: 76

فضحك وقال: (يا زرارة، قاله رسول اللَّه، ونزل به الكتاب عن اللَّه عزّوجلّ، لأنّ اللَّه عزّوجلّ قال: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»(1) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل.

ثمّ قال: «وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين.

ثمّ فصل بين الكلام فقال: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» فعرفنا حين قال:

«بِرُؤُسِكُمْ» أنّ المسح ببعض الرأس، لمكان «الباء».

ثمّ وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: «وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» فعرفنا حين وصلهما بالرأس، أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّر ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم للنّاس فضيّعوه ...)

الحديث (2).

انظر إلى كيفيّة تعليمه الاستنباط من الكتاب.

ومثلها بل أوضح منها، مرسلة يونس (3) الطويلة في باب سنن


1- المائدة( 5): 6.
2- الكافي 3: 30/ 4، الفقيه 1: 56/ 212، علل الشرائع: 279/ 1، تهذيب الأحكام 1: 61/ 168، الاستبصار 1: 62/ 186، وسائل الشيعة 1: 290، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.
3- يونس: هو الشيخ المتكلّم الفقيه الثقة؛ أبو محمّد يونس بن عبد الرحمان مولى علي بن يقطين. كان وجهاً في أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، رأى الإمام الصادق عليه السلام بين الصفا والمروة، ولم يروِ عنه، وروى عن الإمامين الكاظم والرضا صلوات اللَّه عليهما. وكان الإمام الرضا عليه السلام يشير إليه في العلم والفتوى، كيف؟! وقد كان رحمه الله سلمان زمانه. روى عن أبان بن عثمان، وعبد الرحمان بن الحجّاج، وهشام بن الحكم، وروى عنه العبّاس بن معروف، ومحمّد بن خالد البرقيّ ومحمّد بن عيسى اليقطينيّ. انظر رجال النجّاشي: 446/ 1208، ومعجم رجال الحديث 20: 198.

ص: 77

الاستحاضة(1)، وفيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد فراجع (2).

وكرواية عبد الأعلى (3) في المسح على المرارة حيث قال:

(هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(4) امسح عليه)(5)

، وهل هذا إلّا الاجتهاد؟!

ومنها: روايات عرض الأخبار على الكتاب وأخبار العامّة، وترجيح


1- الكافي 3: 83/ 1، تهذيب الأحكام 1: 381/ 1183، وسائل الشيعة 2: 538، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 3، الحديث 4.
2- راجع لإيضاح هذه الموارد طهارة الإمام العلّامة الأكبر الخميني قدس سره 1: 76 وما بعدها.
3- عبد الأعلى: هو الشيخ العالم الفقيه الثقة؛ عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام. كان من فقهاء أصحاب الإمام الصادق عليه السلام والأعلام والرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق لذمّ واحد منهم. روى عن سويد بن غفلة، والمعلّى بن خنيس، وأمّ فروة، وروى عنه ثعلبة بن ميمون، وحمّاد بن عثمان، وسيف بن عميرة. انظر مصنّفات الشيخ المفيد 9: 25 و 39( أجوبة أهل الموصل في العدد والرؤية)، ومعجم رجال الحديث 9: 254 و 259.
4- الحجّ( 22): 78.
5- الكافي 3: 33/ 4، تهذيب الأحكام 1: 363/ 1097، الاستبصار 1: 77/ 240، وسائل الشيعة 1: 327، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

ص: 78

بعضها على بعض (1)، وهو من أوضح موارد الاجتهاد المتعارف بين أهل الصناعة.

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال:

(ونظر في حلالنا وحرآمنا، وعرف أحكامنا)(2)

بالتقريب المتقدّم (3) في اختصاص المنصب بالمجتهدين.

وقال: «كلاهما اختلفا في حديثكم» حيث إنّ الاختلاف في الحديث: إمّا اختلاف في معناه، أو اختلاف في أخذ كلّ بحديث؛ لمكان الترجيح بنظره على الآخر، وهو عين الاجتهاد، واحتمال عدم اطلاع كلّ على مدرك الآخر مع كونهما مجتمعين في النظر في حقّهما، غير ممكن.

... إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره، ويطّلع عليه المتتبّع.

ما يدلّ على إرجاع الأئمّة إلى الفقهاء

وتدلّ على المقدمة الثانية أخبار كثيرة أيضاً:

منها: المقبولة الظاهرة في إرجاعهم إلى الفقهاء من أصحابنا في الشبهة الحكميّة الاجتهاديّة، وجعل الفقيه مرجعاً، ونصبه للحكم في الشبهات الحكميّة ملازم لاعتبار فتواه، ومثلها ما عن أبي خديجة في المشهورة(4)


1- انظر وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، ومستدرك الوسائل 17: 302، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، الباب 9.
2- الكافي 1: 54/ 10، الفقيه 3: 5/ 2، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، الاحتجاج: 355، وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.
3- تقدّم في الصفحة 26- 30.
4- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

ص: 79

ومنها: قوله في التوقيع:

(و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(1).

ومنها: ما وردت في تفسير آية النفر(2).

ومنها: روايات كثيرة دالّة على الإرجاع إلى فقهاء أصحابنا، ويظهر منها أنّ الأمر كان ارتكازيّاً [لدى الشيعة، مثل ما عن الكشّي (3)، بإسناده عن شعيب العقرقوفيّ (4)،

قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: ربّما احتجنا أن نسأل عن الشي ء،


1- إكمال الدين: 484/ 4، الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 176، الاحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2- التوبة( 9): 122، وسائل الشيعة 18: 69، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 65، و 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 10 ويأتي بعضها في الصفحة 137- 138.
3- الكشّي: هو الشيخ المقدّم الجليل، والرجاليّ الخبير؛ أبو عمرو محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي. كان ثقة عيناً، بصيراً بالرجال والأخبار، حسن الاعتقاد، صحب العيّاشي، وأخذ عنه، وتخرج عليه. له كتاب الرجال المعروف والذي كان كثير الأغلاط، جامعاً للأخبار الواردة في حقّ رواة الخاصّة والعامّة، فعمد الشيخ الطوسي رحمه الله إلى تهذيبه، ومحّضه في رجال الخاصّة، مسميّاً إياه« باختيار معرفة الرجال». انظر رجال النجّاشي: 372/ 1018، وفهرست الشيخ الطوسي: 141/ 604، وخاتمة المستدرك: 529.
4- شعيب العقرقوفيّ: هو الشيخ الثقة العين؛ أبو يعقوب شعيب بن يعقوب العقرقوفيّ، ابن اخت أبي بصير؛ يحيى بن القاسم، صحب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام وروى عنهما، وعن أبوي بصير وحمزة، وروى عنه حمّاد بن عيسى، والحسن بن محبوب، ويونس بن يعقوب. انظر رجال النجّاشي: 195/ 520، وفهرست الشيخ الطوسي: 82/ 341، ومعجم رجال الحديث 9: 36 و 38.

ص: 80

فمن نسأل؟

قال: (عليك بالأسديّ) يعني أبا بصير

(1).

وعن عليّ بن المسيّب (2)، قال: قلت للرضا عليه الصلاة والسلام: شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟

قال: (من زكريّا بن آدم القمّي (3)، المأمون على الدين والدنيا).

قال علي بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم، فسألته عمّا احتجت إليه (4)


1- رجال الكشّي 1: 400، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
2- عليّ بن المسيّب: هو الشيخ الثقة؛ عليّ بن المسيّب الهمدانيّ، من أصحاب الرضا عليه السلام، روى عنه عليه السلام وعن زياد بن بلال، وروى عنه محمّد بن عيسى العبيدي، وأحمد بن الوليد. انظر رجال الشيخ: 382، والكافي 6: 372، ورجال الكشّي 2: 858، والمحاسن: 525.
3- زكريّا بن آدم القميّ: هو الشيخ الثقة الجليل الفقيه؛ أبو يحيى زكريّا بن آدم بن عبد اللَّه بن سعد الأشعري القميّ. صحب الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام وكان عظيم القدر، مأموناً على الدين والدنيا، وفيّاً لهما، وذا مقام رفيع ومنزلة عالية عندهما عليهما السلام. روى عن داود الرقي، والكاهلي، وروى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر، وسعد بن سعد، ومحمّد بن خالد. انظر رجال النجاشي 174/ 458، ورجال الشيخ: 377 و 401، ورجال الكشّي 2: 792 و 858- 859، ومعجم رجال الحديث 7: 274.
4- رجال الكشّي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.

ص: 81

فيعلم من أمثالهما: أنّ ارتكازهم كان على الرجوع إلى العلماء، وارادوا أن يعرِّف الإمام شخصاً ثقة مأموناً، وأنّ عليّ بن المسيّب كان يسأل عمّا احتاج إليه من الامور الفرعيّة، وأجابه زكريا بما رزقه اللَّه فهمه من الكتاب وأخبار أهل البيت؛ باجتهاده ونظره.

ومثلهما غيرهما(1)، بل إنكار رجوع عوامّ الشيعة في البلاد النائية عن الأئمّة عليهم السلام إلى علمائهم، مجازفة محضة.

هذا، لكن بقي الإشكال: وهو أنّ هذا الاختلاف الكثير الذي نشاهده بين الفقهاء في الفتوى، لا أظنّ وجوده في عصر الأئمّة عليهم السلام، ومعه لا يمكن إمضاء الرجوع في ذلك العصر، أن يكشف منه الإمضاء في هذا العصر كما لا يخفى

نعم، لا يرد هذا الإشكال على الوجه الآتي.

عدم ردع الأئمة عليهم السلام عن ارتكاز العقلاء كاشف عن رضاهم

وأمّا الأمر الثاني: أي عدم ردعهم عن هذا الارتكاز كاشف عن رضاهم بذلك، فهو أيضاً واضح؛ ضرورة أنّ ارتكازيّة رجوع الجاهل في كلّ شي ء إلى عالمه، معلومة لكلّ أحد، وأنّ الأئمّة عليهم السلام قد علموا بأنّ علماء الشيعة في زمان


1- كصحيحة ابن أبي يعفور الآتية في الصفحة 101- 102. راجع رجال الكشّي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.

ص: 82

الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام، لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب الأخبار والاصول والجوامع، كما أخبروا بذلك، ولا محالة يرجع عوامّ الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز والبناء العقلائي المعلوم لكلّ أحد.

فلولا ارتضاؤهم بذلك لكان عليهم الردع؛ إذ لافرق بين السيرة المتّصلة بزمانهم وغيرها؛ ممّا علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه، فإنّهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة(1)، وأنّ كفيل أيتام آل محمّد صلّى اللَّه عليه وعليهم علماؤهم (2)، وأنّه سيأتي زمان هرج ومرج يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم (3)، فأمروا بضبط الأحاديث وثبتها في الكتب.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الإشكال على أصل السيرة غير وارد، فيدلّ على أصل التقليد الارتكاز القطعيّ العقلائيّ.

كيفيّة السيرة العقلائيّة ومناطها

ثمّ إنّه لابدّ من البحث عن كيفيّة السيرة، وأنّها مع وجود الأفضل واختلافه مع الفاضل كيف هي؟ فلابدّ أوّلًا من بيان مناط رجوع الجاهل إلى العالم حتّى


1- انظر بحار الأنوار 51: 72 وما بعدها.
2- مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22، 23، 24، 27، 28.
3- الكافي 1: 42/ 11، وسائل الشيعة 18: 56، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 18.

ص: 83

يتّضح الحال.

لا إشكال في أنّ رجوعه إليه، إنّما هو لأجل طريقيّته إلى الواقع وكشفه عنه، وأنّ منشأه إلغاء احتمال الخلاف؛ لأجل غلبة موافقة قوله للواقع، وندرة المخالفة؛ بحيث لايعتني بها العقلاء، بل يكون نوع العقلاء في مقام العمل، غافلًا عن احتمال المخالفة، فيعمل على طبقه، ويرى وصوله إليه بارتكازه، نعم لو تنبّه يرى أنّه ليس بعالم.

ولعلّ هذا هو المراد ب «العلم العاديّ» المتداول على السنتهم (1)، ولعلّ هذا الوجه هو المعوّل عليه في نوع سيرة العقلاء وبنائهم العمليّ، كالتعويل على أصالة الصحّة، وخبر الثقة واليد، والبناء على الصحّة في باب العيوب.

وأمّا احتمال كون بنائهم على ذلك لأجل مقدّمات الانسداد، بأن يقال: يرى العقلاء احتياجهم في تشخيص أمر من الامور، ولايمكن لهم الاحتياط أو يعسر عليهم، ولايجوز لهم الإهمال؛ لأجل احتياجهم إليه في العمل، وليس لهم طريق إلى الواقع، فيحكم عقلهم بالرجوع إلى الخبير؛ لأجل أقربيّة قوله إلى الواقع من غيره (2).

أو احتمال أن يكون منشأ ذلك، هو القوانين الموضوعة من زعماء القوم ورؤسائهم السياسيّين أو الدينيّين؛ لأجل تسهيل الأمر على الناس ورغد عيشهم.


1- قوانين الاصول 1: 432 سطر 2 و 2: 229 سطر 5، مفاتيح الاصول: 328 سطر 26، مقباس الهداية 1: 126.
2- انظر قوانين الاصول 2: 246 سطر 17، وضوابط الاصول: 414 سطر 7.

ص: 84

فكلاهما بعيدان عن الصواب؛ ضرورة بطلان مقدّمات الانسداد في كثير من الموارد، وعلى فرض تماميّتها لاتنتج ذلك، وبُعدِ الوجه الثاني بل امتناعه عادة؛ ضرورة [أنّ إطباق (1) القوانين البشريّة من باب الاتفاق- مع تفرّق البشر في الأصقاع المتباعدة، واختلاف مسالكهم وعشرتهم وأديانهم- ملحق بالممتنع.

و أمّا الوجه الأوّل: فأمر معقول موافق للاعتبار، نعم لايبعد أن يكون للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد، أو في بعضها.

لكن يرد على هذا الوجه: أنّه كيف يمكن أن يدّعى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف والخطأ، مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء، بل من فقيه واحد في كتبه العديدة، بل في كتاب واحد؟!

ولهذا لايبعد أن يكون رجوع العامّي إلى الفقيه، إمّا لتوهّم كون فنّ الفقه- كسائر الفنون- يقلّ الخطأ فيه، ويكون رجوع العقلاء لمقدّمة باطلة وتوهّم خطأ، أو لأمر تعبّدي أخذه الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائي، وهو أمر آخر غير بناء العقلاء.

ودعوى قلّة خطأ الفقهاء بالنسبة إلى صوابهم؛ بحيث يكون احتماله ملغى- وإن كثر- بعد ضمّ الموارد بعضها إلى بعض، غير وجيهة، مع ما نرى من الاختلافات الكثيرة في كلّ باب إلى ما شاء اللَّه.

وقد يقال: إنّ المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي والعبيد،


1- في الطبع السابق: تصادف.

ص: 85

قيام الحجّة وسقوط التكليف والعقاب بأيّ وجه اتفق، والرجوع إلى الفقهاء موجب لذلك؛ لأنّ المجتهدين مع اختلافهم في الرأي، مشتركون في عدم الخطأ والتقصير في الاجتهاد.

ولا ينافي ذلك الاختلاف في الرأي؛ لإمكان عثور أحدهما على حجّة في غير مظانّها، أو أصل من الاصول المعتمدة، ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصه بالمقدار المتعارف، فتمسّك بالأصل العمليّ، أو عمل على الأمارة التي عنده، فلايكون واحد منهما مخطئاً في اجتهاده، ورأي كلّ منهما حجّة في حقّه وحقّ غيره.

فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجّة والعذر، وهما المطلوب لهم، لا إصابة الواقع الأوّلي، وأوضح من ذلك لو قلنا: بجعل المماثل في مؤدّى الأمارة.

وفيه أوّلًا: أنّ تسمية ذلك «عدم خطأ» في غير محلّه، نعم لا يكون ذلك تقصيراً وإن كان مخطئاً، ومع اختلافهما لامحالة يعلم بخطأ أحدهما، ومعه لا يكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيراً- ولو في غير مورد اختلافهما- للاعتداد باحتمال الخطأ حينئذٍ.

وثانياً: أنّه لو سلّم أنّ نظر العقلاء في مثل المقام إلى تحصيل الحجّة والعذر، لكنّهما متوقّفان على إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبة إلى التكاليف الواقعيّة الأوّلية، وهو في المقام ممنوع.

ومؤدّى الطرق لو فرض باطلًا كونه حكماً ثانويّاً، لا يوجب معذوريّته بالنسبة إلى الواقعيّات، إلّاللمعذور وهو المجتهد، لا للمقلّد الذي يكون مبنى عمله

ص: 86

فتواه، وهو ليس معذّراً إلّامع كونه- كسائر الأمارات العقلائيّة- قليل الخطأ لدى العقلاء، والفرض أنّ كلّ مجتهد يحكم بخطأ أخيه، لابتقصيره، ومعه كيف يمكن حجّية الفتوى !

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الأمر الثاني من الأمرين المتقدّمين يدفع الإشكال؛ فإنّ عدم ردع هذا البناء الخارجيّ، دليل على رضا الشارع المقدّس بالعمل على فتاوى الفقهاء مع الاختلاف المشهور.

لكن في صيرورة ذلك هو البناء العقلائي المعروف، والبناء على أماريّة الفتوى كسائر الأمارات، إشكال.

إلّا أن يقال: إنّ بناء المتشرّعة على أخذ الفتوى طريقاً إلى الواقع والعمل على طبق الأماريّة، والسكوت عنه دليل على الارتضاء بذلك، وهو ملازم لجعل الأماريّة لها، والمسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل.

ثمّ إنّه بناءً على أنّ المناط في رجوع الجاهل إلى العالم، هو إلغاء احتمال الخلاف والخطأ- بحيث يكون احتماله موهوماً لا يعتني به العقلاء-، لا إشكال في أنّ هذا المناط موجود عندهم في تشخيصات أهل الخبرة وأصحاب الفنون، كان الأفضل موجوداً أو لا، ولهذا يعملون على قوله مع عدم وجود الأفضل.

وهذا دليل قطعيّ على تحقّق مناط العمل عندهم في قول الفاضل، وإلّا فكيف يعقل العمل مع عدم المناط؟! فيكون المناط موجوداً، كان الأفضل موجوداً أو لا، اختلف رأيهما أو لا. فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف، فإنّما هو من باب ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى لا من باب عدم الملاك في

ص: 87

قول المفضول؛ لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل، وعدمه مع وجوده.

فقول المفضول حجّة وأمارة عقلائيّة في نفسه؛ لأجل موهوميّة احتمال الخطأ، كما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينه.

هل ترجيح قول الأفضل لزوميّ أم لا؟

نعم، يبقى في المقام أمر؛ وهو أنّه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفته مع غيره إجمالًا أو تفصيلًا، يكون بنحو الإلزام، أو من باب حسن الاحتياط؛ وليس بنحو اللّزوم؟

لايبعد الاحتمال الثاني؛ لوجود تمام الملاك في كليهما، واحتمال أقربيّة قول الأعلم- على فرض صحّته- لم يكن بمثابة يرى العقلاء ترجيحه عليه لزوميّاً، ولهذا تراهم يراجعون المفضول بمجرّد أعذار غير وجيهة، كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقّة الرجوع إليه ولو كانت قليلة، وأمثال ذلك؛ ممّا يعلم أنّه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح، لما كانت تلك الأعذار وجيهة لدى العقل والعقلاء.

هذا مع علمهم إجمالًا بمخالفة أصحاب الفنّ في الرأي في الجملة، فليس ترجيح الأفضل إلّاترجيحاً غير ملزم، واحتياطاً حسناً. ولهذا لو أمكن لأحد تحصيل اجتماع أصحاب فنّ في أمر والاستفتاء منهم، لَفَعل؛ لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتياط الراجح الحسن.

وبالجملة: المناط كلّ المناط في رجوعهم، هو اعتقاد هم بندرة الخطأ وإلغاء احتمال الخلاف، وهو موجود في كليهما.

ص: 88

فحينئذٍ مع تعارض قولهما، فمقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الاحتياط مع الإمكان، وإلّا فالتخيير، وإن كان ترجيح قول الأفضل حسناً على أيّ حال، تأمّل.

هذا، ولكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضة قول المفضول لقول الأفضل مشكل، خصوصاً في مثل ما نحن فيه؛ أي باب الاحتجاج بين العبيد والموالي، مع كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل يقتضي التعيين. فالقول بلزوم تقديم قول الأفضل لعلّه أوجه، مع أنّ الأصحاب أرسلوه إرسال المسلّمات والضروريّات (1).

مضافاً إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم التفصيلي- بل الإجماليّ المنجّز- بمخالفته مع الفاضل، لو لم [نقل (2) بإحراز عدمه.

نعم، لا يبعد ذلك مع العلم بأنّ في أقوالهم اختلافاً، لا مع العلم إجمالًا بأنّهم في هذا المورد أو مورد آخر مثلًا مختلفون.

وبعبارة اخرى: إنّ بناءهم على العمل في مورد العلم الإجماليّ غير المنجّز، نظير أطراف الشبهة غير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.


1- راجع مفاتيح الاصول 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.
2- في الطبع السابق: يعمل.

ص: 89

أدلّة جواز الرجوع إلى المفضول

اشارة

وأمّا حال الأدلّة الشرعيّة، فلابدّ من ذكر ما تشبّث به الطرفان، والبحث في أطرافهما:

أمّا ما يمكن أن يتمسّك به لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل- بل وتخالف رأيهما- فامور:

الأوّل: بعض الآيات الشريفة

منها: قوله تعالى في الأنبياء: «وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(1).

بدعوى أنّ إطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى المفضول حتّى مع مخالفة قوله للأفضل، ولاسيّما مع ندرة التساوي بين العلماء وتوافقهم في الآراء(2).

و فيه:- مضافاً إلى ظهور الآية في أنّ أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى إرجاع المشركين إليهم، وإلى ورود روايات كثيرة في أنّ أهله هم الأئمّة(3)، بحيث يظهر منها أنّهم أهله لاغير- أنّ الشبهة كانت في اصول العقائد التي


1- الأنبياء( 21): 7.
2- انظر الفصول الغرويّة: 423 سطر 37، وقرّره في مطارح الأنظار: 300 سطر 30.
3- راجع تفسير البرهان 2: 369- 372 و 3: 52.

ص: 90

يجب فيها تحصيل العلم.

فيكون المراد: «اسألوا أهل الذكر حتّى يحصل لكم العلم إن كنتم لا تعلمون» ومعلوم أنّ السؤال من واحد منهم لا يوجب العلم، ففي الآية إهمال من هذه الجهة، فيكون المراد: «أنّ طريق تحصيل العلم لكم هو بالرجوع إلى أهل الذكر» كما يقال للمريض: «إنّ طريق استرجاع الصحّة هو بالرجوع إلى الطبيب وشرب الدواء» فليس لها إطلاق يقتضي الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.

ولا يبعد أن يقال: إنّ الآية بصدد إرجاعهم إلى أمر ارتكازيّ؛ هو الرجوع إلى العالم، ولا تكون بصدد تحميل تعبّدي وإيجاب مولويّ.

ومنها: آية النفر في سورة التوبة: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).

والاستدلال بها للمطلوب يتوقّف على امور:

منها: استفادة وجوب النفر منها.

ومنها: كون التفقّه غاية له.

ومنها: كون الإنذار من جنس ما يتفقّه فيه.

ومنها: انحصار التفقّه بالفرعيّات.


1- التوبة( 9): 122، راجع الفصول الغرويّة: 423 سطر 37، وما قرّره في مطارح الأنظار: 300 سطر 30.

ص: 91

ومنها: كون المنذِر- بالكسر- كلّ واحد من النافرين.

ومنها: كون المنذَر- بالفتح- كلّ واحد من الطائفة الباقية.

ومنها: كون التحذّر عبارة عن العمل بقول المنذِر.

ومنها: وجوب العمل بقوله، حصل العلم منه أو لا، وخالف قول غيره أو لا.

فيصير مفاد الآية بعد تسليم المقدّمات: «يجب على كلّ واحد من كلّ طائفة من كلّ فرقة، النفر لتحصيل الفروع العمليّة؛ ليبيّنها لكلّ واحد من الباقين، ليعمل المنذَر بقوله، حصل العلم منه أو لا، وخالف غيره أو لا».

وأنت خبير: بعدم سلامة [مجموع (1) المقدّمات لو سلّم بعضها، فلك أن تمنع كون التفقّه غاية للنفر؛ بأن يقال: إنّ قوله: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» يحتمل أن يكون إخباراً في مقام الإنشاء؛ أي ليس لهم النفر العموميّ، كما ورد:

«أنّ القوم كانوا ينفرون كافّة للجهاد، وبقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وحده، فورد النهي عن النفر العموميّ، والأمر بنفر طائفة للجهاد»(2)، فحينئذٍ لا يكون التفقّه غاية للنفر إذا كان التفقّه لغير النافرين؛ أي الباقين.

لكنّ الإنصاف: أنّ ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أنّ المؤمنين ما كانوا بحسب اشتغالهم بامور المعاش ونظم الدنيا، لينفروا جميعاً؛ أي النفر العموميّ ليس ميسوراً لهم، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طائفةٌ منهم للتفقّه، ولا إشكال في أنّ الظاهر منه- مع قطع النظر عن قول المفسّرين- هو كون التفقّه غاية له.


1- في الطبع السابق: جميع.
2- الدرّ المنثور 3: 292، مجمع البيان 5: 125- 126.

ص: 92

وأمّا كون الإنذار من سنخ ما يتفقّه فيه؛ أي بيان الأحكام بنحو الإنذار، فليست الآية ظاهرة فيه، بل الظاهر منها أنّ غاية النفر أمران:

أحدهما: التفقّه في الدين وفهم الأحكام الدينيّة.

وثانيهما: إنذار القوم وموعظتهم.

فيكون المراد: يجب على الفقيه إنذار القوم وإيجاد الخوف من بأس اللَّه في قلوبهم، فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمّن، فلا محيص لهم إلّاالعلم بأحكام اللَّه مقدّمة للعمل بها.

وأمّا وجوب العمل بقول المنذِر بمجرّده فلا تدلّ الآية عليه.

ودعوى أنّ الإنذار لابدّ وأن يكون من جنس ما يتفقّه فيه، وإلّا فأيّة مناسبة للفقيه معه؟!(1) ممنوعة؛ لأنّ الإنذار مناسب للفقيه؛ لأنّه يعلم حدوده، وكيفيّته، وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنّ لكلامه تأثيراً في القوم لا يكون لكلام غيره؛ لعلوّ مقامه، وعظم شأنه لديهم، وأمّا التفقّه في الدين، فهو أعمّ من الاصول والفروع، فلا وجه لاختصاصه بالثاني، والأخبار الواردة في تفسيرها تدلّ على تعميمه (2)، فحينئذٍ لا يمكن أن يقال: بوجوب قبول قوله تعبّداً؛ لعدم جريانه في الاصول.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ إطلاقها على فرضه، يقتضي قبول قول الغير في الاصول والفروع، فيقيّد إطلاقها عقلًا في الاصول، وتبقى الفروع.


1- انظر فوائد الاصول 3: 188.
2- راجع تفسير البرهان 2: 171- 173، ويأتي قريباً التعرّض لبعضها.

ص: 93

وأمّا كون المنذِر- بالكسر- كلّ واحد من الطائفة، فلا إشكال في ظهور الآية فيه، لكنّ الظاهر منها أنّ كلّ واحد من المنذرين يجب عليه إنذار القوم جميعاً، ومعه لا تدلّ الآية على وجوب القبول من كلّ واحد منهم؛ فإنّه بإنذار كلّ واحد منهم قومَهم ربّما يحصل لهم العلم.

وأمّا كون «التحذّر» بمعنى التحذّر العمليّ؛ أي قبول قول الغير والعمل به، فهو خلاف ظاهرها، بل «التحذّر» إمّا بمعنى الخوف، وإمّا بمعنى الاحتراز، وهو الترك عن خوف. والظاهر أنّه بمعنى الخوف الحاصل عن إنذار المنذرين، وهو أمر غير اختياريّ لا يمكن أن يتعلّق بعنوانه الأمر. نعم، يمكن تحصيله بمقدّمات اختياريّة، كالحبّ، والبغض، وأمثالهما.

هذا كلّه مع أنّه لا إطلاق للآية؛ ضرورة أنّها بصدد بيان كيفيّة النفر، وأنّه إذا لم يمكن للنّاس نفر عموميّ، فَلِمَ لا تنفر طائفة منهم؛ فإنّه ميسور لهم؟!

وبالجملة: لا يجوز للناس سدّ باب التفقّه والتعلّم بعذر الاشتغال بامور الدنيا؛ فإنّ أمر الدين- كسائر امورهم- يمكن قيام طائفة به، فلابدّ من التفقّه والإنذار. وأمّا وجوب قبول السامع بمجرّد السماع، فلا إطلاق للآية يدلّ عليه، فضلًا عن إطلاقها لحال التعارض.

والإنصاف: أنّ الآية أجنبيّة عن حجّية قول المفتي، كما أنّها أجنبيّة عن حجّية قول المخبر، بل مفادها- والعلم عند اللَّه-: «أنّه يجب على طائفة من كلّ فرقة أن يتفقّهوا في الدين، ويرجعوا إلى قومهم، وينذروهم بالمواعظ والإنذارات والبيانات الموجبة لحصول الخوف في قلوبهم؛ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ويحصل في

ص: 94

قلوبهم الخوف قهراً، فإذا حصل الخوف في قلوبهم تدور رحى الديانة، ويقوم الناس بأمرها قهراً؛ لسوقهم عقلُهم نحو القيام بالوظائف». هذا حالها مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها.

ومع النظر إليها أيضاً لا تدلّ على المطلوب:

لأنّ منها: ما تدلّ على أنّ الإمام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم معرفة الإمام الذي بعده؛ أمّا من في البلد فلرفع حجّته، وأمّا غير الحاضر فعليه النفر إذا بلغه (1).

ومنها: ما دلّت على أنّ تكليف الناس بعد الإمام الطلب، وأنّ النافرين في عذر ما داموا في الطلب، والمنتظرين في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم (2).

ومعلوم: أنّ قول النافرين بمجرّده، ليس بحجّة في باب الإمامة.

ومنها: ما وردت في علّة الحجّ، وفيها: (مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم السلام إلى كلّ صُقع وناحية)(3).

ومنها: ما دلّت على أنّه تعالى (أمرهم أن ينفروا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إليهم فيعلّموهم) وهو معنى قوله:

(اختلاف امَّتي رحمة)(4)


1- الكافي 1: 309/ 2، تفسير البرهان 2: 171/ 4.
2- الكافي 1: 309/ 1، تفسير البرهان 2: 171/ 1.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 118، علل الشرائع: 273، وسائل الشيعة 18: 69، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 65.
4- معاني الأخبار: 157/ 1، علل الشرائع: 85/ 4، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 10( بتفاوت يسير).

ص: 95

وهذه الطائفة أيضاً لا تدلّ على وجوب القبول بمجرّد السماع، فضلًا عن حال التعارض.

هذا حال الآيات الشريفة، والآيات الاخر التي استدلّ بها(1)، أضعف دلالة منهما.

الثاني: الأخبار التي استدلّ بها على حجّية قول المفضول

وأمّا الأخبار فمنها: ما عن «تفسير الإمام عليه السلام» في ذيل قوله تعالى:

«وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ»(2) والحديث طويل.

وفيه:

(وأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه)(3).

دلّ بإطلاقه على جواز تقليد المفضول إذا وجد فيه الشرائط ولو مع وجود الأفضل، أو مخالفته له في الرأي (4)


1- كقوله تعالى:\i« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ»\E البقرة( 2): 159، راجع مطارح الأنظار: 300 سطر 31.
2- البقرة( 2): 78.
3- تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام: 120، الاحتجاج: 457، وسائل الشيعة 18: 94، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.
4- انظر الفصول الغرويّة: 423 سطر 37، وما قرّر في مطارح الأنظار: 301 سطر 27.

ص: 96

لكنّه- مع ضعف سنده، وإمكان أن يقال: إنّه في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق له لحال وجود الأفضل، فضلًا عن صورة العلم بمخالفة رأيه رأي الأفضل- مخدوش من حيث الدلالة؛ لأنّ صدره في بيان تقليد عو امّ اليهود علماءَ هم في الاصول حيث قال: ( «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمّد في نبوّته، وإمامة عليّ سيّد عترته، وهم يقلّدونهم مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم).

ثمّ بعد ما سأل الرجل عن الفرق بين عوامّنا وعوامّهم حيث كانوا مقلّدين.

أجاب بما حاصله: أنّ عوامّهم مع علمهم بفسق علمائهم وكذبهم، وأكلهم الحرام والرشا، وتغييرهم أحكام اللَّه يقلّدونهم، مع أنّ عقلهم يمنعهم عنه، ولو كان [عوامّنا](1) كذلك لكانوا مثلهم.

ثمّ قال:

(و أمّا من كان من الفقهاء ...)

إلى آخره.

فيظهر منه: أنّ الذمّ لم يكن متوجّهاً إلى تقليدهم في اصول العقائد، كالنبوّة، والإمامة، بل متوجّه إلى تقليد فسّاق العلماء، وأنّ عوامّنا لو قلّدوا علمائهم فيما قلّد اليهود علماءهم، فلا بأس به إذا كانوا صائنين لأنفسهم، حافظين لدينهم ... إلى آخره، فإخراج الاصول منه إخراج للمورد، وهو مستهجن، فلابدّ من توجيه الرواية بوجه، أو ردّ علمها إلى أهلها.

وأمّا حملها على حصول العلم من قول العلماء للعو امّ؛ لحسن ظنّهم بهم، وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع


1- في الطبع السابق: عوامّهم.

ص: 97

وعين الحقيقة(1)، فبعيد بل غير ممكن؛ لتصريحها بأنّهم لم يكونوا إلّاظانّين بقول رؤسائهم، وأنّ عقلهم كان يحكم بعدم جواز تقليد الفاسق.

مع أنّه لو حصل العلم من قولهم لليهود، لم يتوجّه إليهم ذمّ، بل لم يسمّ ذلك «تقليداً».

وبالجملة: سوق الرواية إنّما هو في التقليد الظنّي، الذي يمكن ردع قسم منه، والأمر بالعمل بقسم منه، والالتزام بجواز التقليد في الاصول أو في بعضها(2)، كما ترى فالرواية مع ضعفها سنداً، واغتشاشها متناً، لا تصلح للحجيّة.

ولكن يستفاد منها مع ضعف سندها، أمر تأريخيّ يؤيّد ما نحن بصدده؛ وهو أنّ التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا، كان شائعاً من زمن قديم؛ هو زمان الأئمّة أو قريب منه؛ أي من زمان تدوين «تفسير الإمام»(3) أو من قبله بزمان طويل.

ومنها: إطلاق صدر مقبولة عمر بن حنظلة(4)، وإطلاق مشهورة


1- انظر رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 78- 79.
2- اختاره جماعة، منهم المحقّق الطوسي في بعض رسائله، انظر قوانين الاصول 2: 173 سطر 10.
3- هذا التفسير رواه الصدوق، عن محمّد بن القاسم الأسترآبادي، عن يوسف بن محمّد بن زياد، وعلي بن محمّد بن سيار، عنه عليه السلام. انظر الاحتجاج: 16، وحيث إنّ وثاقة الأسترآبادي ومن يروى عنهما ممنوعة، فلا سبيل إلى تحديد زمان التأليف بشكل دقيق.
4- أي قوله عليه السلام: \iُ( ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرآمنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ...).\E الكافي 1: 54/ 10، الفقيه 3: 5/ 2، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، الاحتجاج: 355، وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 98

أبي خديجة(1).

وتقريب الدلالة أن يقال: إنّ الظاهر من صدرها وذيلها(2)، شمولها للشبهات الحكميّة، فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرَّض له؛ وهو صورة اختلاف الحَكَمين، وكذا المشهورة تشملها بإطلاقها.

فإذا دلّتا على نفوذ حكم الفقيه فيها، تدلّان على اعتبار فتواه في باب فصل الخصومات، وإلّا فلا يعقل إنفاذه بدونه، ويفهم نفوذ فتواه وحجّيتها في غيره؛ إمّا بإلغاء الخصوصيّة عرفاً، أو بدعوى تنقيح المناط(3).

أو يقال: إنّ الظاهر من قوله:

(فإذا حكم بحكمنا)

إلغاء احتمال الخلاف من فتوى الفقيه؛ إذ ليس المراد منه «أنّه إذا علمتم أنّه حكم بحكمنا» بل المراد «أنّه إذا حكم بحكمنا بحسب نظره ورأيه» فجعل نظره طريقاً إلى حكمهم.

هذا، ولكن يرد عليه: أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً ممنوع؛ ضرورة تحقّق خصوصيّة زائدة في باب الحكومة، ربّما تكون بنظر العرف دخيلة فيها؛ وهي رفع


1- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6. وراجع الفصول الغرويّة: 423 سطر 37، وما قرّره في مطارح الأنظار: 301 سطر 23.
2- أي قوله عليه السلام: \iُ( الحكم ما حكم به أعدلهما وأ فقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر).\E
3- مطارح الأنظار: 263 سطر 16.

ص: 99

الخصومة بين المتخاصمين، وهو لا يمكن نوعاً إلّابحكم الحاكم النافذ، وهذا أمر مرغوب فيه، لايمكن فيه الاحتياط، ولاتتّفق فيه المصالحة نوعاً.

وأمّا العمل بقول الفقيه فربّما لا يكون مطلوباً، ويكون المطلوب درك الواقع بالاحتياط، أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتياط التامّ، فدعوى أنّ العرف يفهم من المقبولة وأمثالها حجّية الفتوى، لا تخلو من مجازفة، وأوضح فساداً من ذلك دعوى تنقيح المناط القطعيّ.

وأمّا قوله:

(إذا حكم بحكمنا)

لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف، فإنّما هو في باب الحكومة، فلابدّ في التسرية إلى باب الفتوى من دليل، وهو مفقود.

فالإنصاف: عدم جواز التمسّك بأمثال المقبولة للتقليد رأساً، فكما لا يجوز التمسّك بصدرها على جواز تقليد المفضول، لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على وجوب تقليد الأعلم، لدى مخالفة قوله مع غيره.

ومنها: إطلاق ما في التوقيع:

(و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللَّه)(1).

وتقريبه: أنّ «الحوادث» أعمّ من الشبهات الحكميّة، والرجوع إلى رواة الحديث ظاهر في أخذ فتاويهم، لا أخذ نفس الرواية، ورواة الحديث كانوا من


1- إكمال الدين: 484/ 4، الغيبة، الشيخ الطوسيّ: 176، الاحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9، راجع مناهج الأحكام والاصول للنراقي: 301 سطر 2، وما قرّر في رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 77.

ص: 100

أهل الفتوى والرأي كما مرّ(1).

كما أنّ قوله:

(فإنّهم حجّتي عليكم)

يدلّ على أنّ فتوى رواة الحديث حجّة، كما أنّ فتوى الإمام حجّة، فلا معنى لحجّية رواة الحديث، إلّاحجّية فتاويهم وأقوالهم، والحمل على حجّية الأحاديث المنقولة بتوسّطهم، خلاف الظاهر.

وفيه:- بعد ضعف التوقيع سنداً(2)- أنّ صدره غير منقول إلينا، ولعلّه كان مكتنفاً بقرائن لا يفهم منه إلّاحجّية حكمهم في الشبهات الموضوعيّة، أو الأعمّ، وكان الإرجاع في القضاء، لا في الفتوى

ومنها: ما عن الكشّي بسند ضعيف (3)، عن أحمد بن حاتم بن ماهَويْه (4)، قال: كتبت إليه- يعنى أبا الحسن الثالث عليه السلام- أسأله عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه (5) أيضاً بذلك.


1- تقدّم في الصفحة 27- 29، 48- 49، 70- 78.
2- هذا التوقيع مرويّ عن الكليني رحمه الله في غير الكافي، عن إسحاق بن يعقوب، وضعفه بإسحاق فإنّه لم يوثّق.
3- فقد رواه الكشّي، عن جبريل بن محمّد الفاريابي، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن أحمد ابن حاتم بن ماهويه، ولم يثبت توثيق من عدا الكشّي. ودعوى وثاقة جبريل لرواية الكشّي عنه كثيراً، واعتماده عليه، وروايته لما وجده بخطّ جبريل، ووثاقة موسى لوقوعه في أسانيد كامل الزيارة، ووثاقة أحمد لما أفاده المحقّق الداماد في ترجمته، ممنوعة.
4- أحمد بن حاتم بن ماهويه: هو أبو الحسن أحمد بن حاتم بن ماهويه القزويني. كان كثير الرواية، مستقيماً في العقيدة، سالماً من الطعن روى عن الرضا عليه السلام، وروى عنه موسى بن جعفر بن وهب. راجع رجال الكشّي 1: 15( تعليقة المحقّق الداماد قدس سره).
5- لأحمد بن حاتم بن ماهويه القزويني ثلاثة إخوة: أحدهم: طاهر بن حاتم، الذي كان مستقيماً من أصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام وكان له كتاب وروايات، ثمّ تغيّر وأظهر القول بالغلوّ، روى عن الرجل، وروى عنه سهل بن زياد، ومحمّد ابن عيسى بن عبيد اليقطينيّ. انظر رجال النجّاشي: 208/ 551، وفهرست الشيخ 86، ومعجم رجال الحديث 9: 156- 157. ثانيهم: فارس بن حاتم نزيل العسكر، الذي هو من أصحاب الهادى عليه السلام ولم يروِ الحديث إلّاشاذّاً، وكان مستقيماً أيضاً، ثمّ غلا وخلط، وفسد مذهبه؛ حتّى لعنه الإمام عليه السلام وأمر بقتله فقتل. انظر رجال النجّاشي: 310/ 848، ورجال الشيخ: 420/ 3، ومعجم رجال الحديث 13: 238- 244. ثالثهم: سعيد بن حاتم بن ماهويه، وهو مهمل لم نعثر له على شي ء. انظر قاموس الرجال 1: 413.

ص: 101

فكتب إليهما:

(فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، وكلّ كثير القدم في أمرنا؛ فإنّهما كافوكما إن شاء اللَّه)(1)

. وفيه:- بعد ضعف السند- أنّ الظاهر من سؤاله أنّ الرجوع إلى العالم كان مرتكزاً في ذهنه، وإنّما أراد تعيين الإمام شخصَه، فلا يستفاد منه التعبّد، كما أنّ الأمر كذلك في كثير من الروايات، بل قاطبتها على الظاهر.

ومنها: روايات كثيرة عن الكشّي وغيره، فيها الصحيحة وغيرها، تدلّ على إرجاع الأئمّة إلى أشخاص من فقهاء أصحابهم، يظهر منها أنّ الرجوع إليهم كان متعارفاً، ومع وجود الأفقه كانوا يراجعون غيره، كصحيحة ابن أبي يعفور: قال


1- رجال الكشّي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

ص: 102

قلت لأبي عبد اللَّه: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجي ء الرجل من أصحابنا، فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه.

فقال:

(ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ؛ فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً)(1).

وكرواية عليّ بن المسيّب المتقدّمة(2)، حيث أرجعه الرضا عليه السلام إلى زكريّا ابن آدم (3) ... إلى غير ذلك (4).

ويستفاد منها: أنّ أخذ معالم الدين- الذي هو عبارة اخرى عن التقليد- كان مرتكزاً في ذهنهم، ومتعارفاً في عصرهم.

ويستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور، تعارف رجوع الشيعة إلى الفقهاء من أصحاب الأئمّة، مع وجود الأفقه بينهم، وجواز رجوع الفقيه إلى الأفقه إذا لم يكن له طريق إلى الواقع.

وهذا ليس منافياً لما ذكرنا في أوّل الرسالة: من أنّ موضوع عدم جواز


1- رجال الكشّي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.
2- تقدّمت في الصفحة 80.
3- رجال الكشّي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.
4- راجع وسائل الشيعة 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4، 5، 15، 19، 24، 30، 33، 34، 35، 42، 46، 47، وانظر ما قرّره في مطارح الأنظار: 300 السطر ما قبل الأخير.

ص: 103

الرجوع إلى الغير نفس قوّة الاستنباط(1)؛ وذلك لأنّ ما ذكرنا هناك إنّما هو فيمن له طريق إلى الاستنباط مثل زماننا، فإنّ الكتب الراجعة إليه مدوّنة مكتوبة بين أيدينا، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كعصر محمّد بن مسلم؛ حيث إنّ الأحاديث فيه كانت مضبوطة عنده وعند نظرائه، ولم يكن للجاهل طريق إليها إلّابالرجوع إليهم.

مع إمكان أن يقال: إنّ إرجاع مثل ابن أبي يعفور، إنّما هو في سماع الحديث، ثمّ استنباطه منه حسب اجتهاده، ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء- بل إلى الفقيه مع الأفقه- من تلك الروايات.

لكن استفادة ذلك مع العلم الإجماليّ أو التفصيليّ بمخالفة آرائهما مشكلة؛ لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصاً من مثل اولئك الفقهاء والمحدّثين الذين كانوا من بطانة الأئمّة، فالاتكال على مثل تلك الأدلّة في جواز تقليد المفضول مشكل، بل غير ممكن.


1- تقدّم في الصفحة 6.

ص: 104

فيما استدلّ به على ترجيح قول الأفضل

واستدلّ على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بالمخالفة:

تارة: بالإجماعات المنقولة(1)، وهو كما ترى في مثل المسألة العقليّة مع تراكم الأدلّة.

واخرى بالأخبار كالمقبولة وغيرها(2)؛ بأن يقال: إنّ الشبهة فرضت حكميّة في المقبولة، فنفوذ حكمه تعييناً، ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألة، فنتعدّى إلى غيرها بإلغاء الخصوصيّة، أو القطع بالملاك، [ولا] سيّما مع تناسب الأفقهيّة والأصدقيّة في الحديث لذلك.

و فيه:- مضافاً إلى أنّ ظاهر المقبولة، أنّ الأوصاف الأربعة مجتمعة توجب التقديم؛ بمقتضى العطف ب «الواو» وفرض الراوي صورة التساوي، لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها- أنّه يمنع التلازم هاهنا؛ لأنّ الملازمة إنّما تكون في صورة إثبات النفوذ، لاسلبه؛ لأنّ سلب المركّب أو ما بحكمه بسلب أحد أجزائه، فسلب نفوذ حكمه كما يمكن أن يكون لسلب حجّية فتواه، يمكن أن يكون لسلب


1- الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم، ضمن مجموعة رسائل: 71، مطارح الأنظار: 298 سطر 23 و 303 سطر 20.
2- مجموعة رسائل: 71، مطارح الأنظار: 303 سطر 21، درر الفوائد: 711- 713. وقد تقدّم تخريج المقبولة والمشهورة أخيراً في الصفحة 97، 98.

ص: 105

صلاحية حكمه للفصل.

وعدم جواز الأخذ بالفتوى في المقام، ليس لعدم صلاحيتها للحجّية، بل لعدم كونها فاصلًا، بل فتوى الأعلم أيضاً ليست بفاصل، والتناسب بين الأفقهيّة وذلك لم يصل إلى حدّ كشف العلّية التامّة.

هذا كلّه مع أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً، أو القطع بالملاك، ممّا لا وجه لهما بعد وضوح الفرق بين المقامين. ولعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق الناس، فجعل حكم الأعلم فاصلًا؛ لأقربيّته إلى الواقع بنظره، ولم يلاحظه في أحكامه؛ توسعةً على الناس. فدعوى إلغاء الخصوصيّة مجازفة، ودعوى القطع أشدّ مجازفة.

وثالثة: بأنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الصواب؛ لأنّ نظره طريق محض إلى الواقع كنظر غيره، سواء الأوّليات منه، أو الثانويّات، أو الأعذار الشرعيّة والعقليّة، فحينئذٍ تلازم الأعلميّة الأقربيّة، وهو المتعيّن في مقام الإسقاط والإعذار، وجواز الرجوع إلى غيره يساوق الموضوعيّة(1).

والجواب عن الصغرى بمنع كلّيتها؛ لأنّ رأي غير الأعلم قد يوافق رأي الأعلم من الأموات أو الأحياء، إذا لم يجز تقليدهم لجهة، بل إذا كان رأي غير الأعلم موافقاً لجميع الفقهاء، ويكون الأعلم منفرداً في الأحياء في الفتوى مع كون مخالفيه كثيرين جدّاً.


1- انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 801، ومعالم الدين: 241 السطر الأوّل.

ص: 106

وتنظّر بعض أهل النظر(1)، في الصغري: بأنّ حجّية الفتوى لأجل كونها من الظنون الخاصّة، لا المطلقة، فمطابقة قول غير الأعلم للأعلم الغير الصالح للحجّية، غير مفيدة، فلاعبرة بقوّته ولا أصله، كالظنّ من الأمارات الغير المعتبرة، والأقوائيّة بمطابقة قوله لسائر المجتهدين الذين مثله غير مسلّمة؛ إذ المطابقة لوحدة الملاك وتقارب الأنظار، فالكلّ في قوّة نظر واحد، ولا يكشف توافق آرائهم عن قوّة مدركهم، وإلّا لزم الخلف؛ لفرض أقوائيّة نظر الأعلم.

ومنه يعلم فساد قياسه بالخبرين المتعارضين، المحكيّ أحدهما بطرق متعدّدة؛ إذ ليست الخطابات بمنزلة حكاية واحدة، فلا محالة توجب كلّ حكاية


1- هو آية اللَّه الشيخ الفقيه الاصوليّ الأديب، جامع المعقول والمنقول؛ محمّد حسين بن محمّد حسن الأصفهاني الكمپاني. ولد في النجف الأشرف سنة 1296 ه، من أسرة كريمة وثريّة، وتعلّم الخطّ منذ حداثته، فأظهر في جميع أنواعه براعة فائقة، حتّى صار من مشاهير الخطّاطين البارعين. كما طلب العلم في سنّ مبكّرة، فحضر- ولمّا يبلغ العشرين- على المحقّق الخراسانيّ فقهاً واصولًا، واختصّ به، ولازمه مدّة ثلاثة عشر عاماً إلى حين وفاته، وحضر قليلًا على السيّد المحقّق الفشاركي الأصفهاني، وأمّا في الفلسفة فقد تخرّج على الفيلسوف المعروف محمّد باقر الاصطهباناتيّ، ثمّ استقل- بعد وفاة استاذه الآخوند- بالبحث والتدريس، فحضر عليه الكثيرون من مشاهير علماء العصر، وأنهى عدّة دراسات في الفقه والاصول، حتّى وافاه الأجل المحتوم في فجر الخامس من ذي الحجّة عام 1361 ه، أهمّ وأبرز ما خلّفه من تراثه العلميّ حاشيتاه على الكفاية والمكاسب. انظر مقدّمة المحقّق العلّامة المظفّر لحاشية المترجم له على المكاسب، ونقباء البشر 2: 560- 562.

ص: 107

ظنّاً بصدور شخص هذا الكلام، من غير لزوم الخلف (1). انتهى

وفيه ما لا يخفى إذ المنظور في ردّ الصغرى إنكار كلّية دعوى أقربيّة قول الأعلم، وكذا ردّ التوافق، لا دعوى تقدّم قول غير الأعلم في مقام الاحتجاج، فما ذكره أجنبيّ عن المقام، بل المناقشة فيه منحصرة بإنكار الأقربيّة، وهو مسقط لأصل دعواه في الصغرى إذ إنكاره مساوق لإنكار أقربيّة فتوى الأعلم.

وأمّا إنكار الأقربيّة في المثال الأخير فغير وجيه؛ لأنّ أنظار المجتهدين لمّا كانت طريقاً إلى الواقعيّات والحجج، فلا محالة إذا اجتمع جلّ أهل الفنّ على خطأ الأعلم، لا يبقى وثوق بأقربيّة قوله، لو لم نقل: بالوثوق بالخلاف.

وإن شئت قلت: لا تجري أصالة عدم الغفلة والخطأ في اجتهاده، وتوهّم كون أنظارهم بمنزلة نظر واحد- كتوهّم لزوم الخلف- في غاية السقوط.

وعن الكبرى بأنّ تعيّن الرجوع إلى الأقرب، إن كان لأجل إدراك العقل تعيّنه جزماً- بحيث لايمكن للشارع التعبّد بخلافه، ولو ورد دليل صريح على خلافه فلابدّ من طرحه- فهو فاسد؛ لأنّ الشارع إذا رأى مفسدة في تعيّن الرجوع إلى الأعلم، أو مصلحة في التوسعة على المكلّف، فلا محالة يرخّص ذلك من غير الشبهة الموضوعيّة، كتجويز العمل بخبر الثقة وترك الاحتياط.

نعم، لو علمنا وجداناً: بأنّ الشارع لايرضى بترك الواقعيّات، فلا يمكن معه احتمال تجويز العمل بقول العالم، ولا بقول الأعلم، بل يحكم العقل بوجوب


1- نهاية الدراية 6: 412- 413، الاجتهاد والتقليد، ضمن بحوث في الاصول: 53- 54.

ص: 108

الاحتياط ولو مع اختلال النظام، فضلًا عن لزوم الحرج.

لكنّه خلاف الواقع، وخلاف المفروض في المقام، ولهذا لا أظنّ بأحد ردّ دليل معتبر قام على جواز الرجوع لغير الأعلم، فعليه كيف يمكن دعوى القطع بلزوم تعيّن الأقرب، مع احتمال تعبّد في المقام ولو ضعيفاً؟!

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل النظر، حيث قال ما ملخّصه: أنّ القرب إلى الواقع إن لم يلحظ أصلًا، فهو منافٍ للطريقيّة، وإن كان بعض الملاك، وهناك خصوصيّة اخرى تعبّدية، فهو غير ضائر بالمقصود؛ لأنّ فتوى الأعلم حينئذٍ مساوية لغيرها في جميع الخصوصيّات، وتزيد عليها بالقرب، سواء كانت تلك الخصوصيّة التعبّدية جزءَ المقتضي، أو شرطَ جعله أمارة، فتكون فتوى الأعلم متعيّنة؛ لترجيحه على غيره بالملاك الذي هو ملاك الحجّية.

ولهذا فقياسها على البصر والكتابة مع الفارق؛ لكونهما غير دخيلين في ذلك الملاك، لأنّ معنى «الأعلميّة» ليس الأقوائيّة بحسب المعرفة؛ بحيث لاتزول بتشكيك، حتّى تقاس عليهما، بل بمعنى أحسنيّة الاستنباط وأجوديّته في تحصيل الحكم من المدارك، فيكون أكثر إحاطة بالجهات الدخيلة فيه المغفولة عن نظر غيره، فمرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم والجاهل.

وهذا وجه آخر لتعيّن الأعلم ولو لم نقل: بأقربيّة رأيه، أو كون الأقربيّة ملاك التقديم؛ لأنّ العقل يذعن بأنّ رأيه أوفق بمقتضيات الحجج، وهو المتعيّن في

ص: 109

مقام إبراء الذمّة، ويذعن بأنّ التسوية بينهما كالتسوية بين العالم والجاهل (1). انتهى

وفيه مواقع للنظر:

منها: أنّ الخصوصيّة التعبّدية لايلزم أن تكون جزء المقتضي، ولا شرط التأثير، بل يمكن أن تكون مانعة عن تعيّن الأعلم، كالخصوصيّة المانعة عن الإلزام بالاحتياط الموجبة لجعل الأمارات والاصول، من غير لزوم الموضوعيّة.

ومنها: أنّ أحسنيّة الاستنباط، وكون الأعلم أقوى نظراً في تحصيل الحكم من المدارك، عبارة أخرى عن أقربيّة رأيه إلى الواقع، فلا يخلو كلامه من التناقض والتنافي.

ومنها: أنّ إذعان العقل بما ذكره، مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق رأي غير الأعلم؛ لقبح التسوية بين العالم والجاهل، بل امتناعه، وهو كما ترى، ولا أظنّ التزام أحد به.

والتحقيق: أنّ تجويز العمل بقول غيره ليس لأجل التسوية بينهما، بل لمفسدة التضييق، أو مصلحة التوسعة، ونحوهما ممّا لا تنافي الطريقيّة، كما قلنا في محلّه (2).

وليعلم: أنّ هذا الدليل الأخير، غير أصالة التعيين في دوران الأمر بين التخيير والتعيين، وغير بناء العقلاء على تعيّن الأعلم في مورد الاختلاف، فلا تخلط بينه وبينهما، وتدبّر جيّداً.


1- نهاية الدراية 6: 413- 414.
2- أنوار الهداية 1: 192- 193، تهذيب الاصول 2: 62- 63.

ص: 110

فالإنصاف: أنّه لا دليل على ترجيح قول الأعلم إلّاالأصل، بعد ثبوت كون الاحتياط مرغوباً عنه، وثبوت حجّية قول الفقهاء في الجملة، كما أنّ الأمر كذلك.

وفي الأصل أيضاً إشكال؛ لأنّ فتوى غير الأعلم إذا طابقت الأعلم من أعلم الأموات، أو في المثالين المتقدّمين (1)، يصير المقام من دوران الأمر بين التخيير والتعيين، لا تعيّن الأعلم، والأصل فيه التخيير.

إلّا أن يقال: إنّ تعيّن غير الأعلم حتّى في مورد الأمثلة، مخالف لتسالم الأصحاب واجماعهم (2) فدار الأمر بين التعيين والتخيير في مورد الأمثلة أيضاً، وهو الوجه في بنائنا على الأخذ بقول الأعلم احتياطاً، وأمّا بناء العقلاء فلم يحرز في مورد الأمثلة المتقدّمة.

هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلًا، بل أو إجمالًا أيضاً بنحو ما مرّ.

وأمّا مع احتماله، فلا يبعد القول: بجواز الأخذ من غيره أيضاً؛ لإمكان استفادة ذلك من الأخبار، بل لاتبعد دعوى السيرة عليه هذا كلّه في المتفاضلين.


1- وذلك في الصفحة 105 بقوله قدس سره: أو الأحياء إذا لم يجز تقليدهم لجهة، بل ....
2- راجع مفاتيح الاصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.

ص: 111

في حال المجتهدين المتساويين مع اختلاف فتواهما

وأمّا في المتساويين، فالقاعدة وإن اقتضت تساقطهما مع التعارض، والرجوع إلى الاحتياط لو أمكن، وإلى غيره من القواعد مع عدمه، لكن الظاهر أنّ الاحتياط مرغوب عنه، وأنّ المسلّم عندهم حجّية قولهما في حال التعارض (1)، فلابدّ من الأخذ بأحدهما؛ والقول بحجّيته التخييريّة.

وقد يقال: بدلالة قوله في مثل رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه:

(فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبنّا)(2)

- وغيرها من الروايات العامّة(3)- على المطلوب؛ فإنّ إطلاقها شامل لحال التعارض.

والفرق بينهما وبين أدلّة حجيّة خبر الثقة- حيث أنكرنا إطلاقها لحال التعارض (4)- أنّ الطبيعة في حجّية خبر الثقة اخذت بنحو الوجود الساري، فكلّ فرد من الأخبار مشمول لأدلّة الحجّية تعييناً، فلا يعقل جعل الحجّية التعيينيّة في


1- مناهج الأحكام والاصول المحقّق النراقيّ: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.
2- رجال الكشّي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.
3- كصدر مقبولة ابن حنظلة، ومشهورة أبي خديجة، والتوقيع الشريف، وخبر تفسير العسكريّ عليه السلام، وقد تقدّمت في الصفحة 95- 99.
4- درر الفوائد: 648.

ص: 112

المتعارضين، ولا جعل الحجّية التعيينيّة في غيرهما والتخييريّة فيهما بدليل واحد، فلامناص إلّامن القول: بعدم الإطلاق لحال التعارض.

وأمّا الطبيعة في حجّية قول الفقهاء، فاخذت على نحو صِرْف الوجود؛ ضرورة عدم معنى لجعل حجّية قول كلّ عالم بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعيينيّ، حتّى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع العلماء؛ فإنّه واضح البطلان، فالمأموربه هو الوجود الصرف، فإذا اخذ بقول واحد منهم فقد أطاع، فلا مانع حينئذٍ من إطلاق دليل الحجّية لحال التعارض.

فقوله:

(و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)

مفاده جعل حجّية قول العالم على نحو البدليّة أو صرف الوجود، كان مخالفاً لقول غيره أو لا، يعلم تفصيلًا مخالفته له أو لا(1).

هذا ما أفاده شيخنا العلّامة(2)، على ما في تقريرات بعض فضلاء بحثه.


1- الاجتهاد والتقليد، آية اللَّه العظمى الأراكي، ضمن كتاب البيع 2: 467- 468.
2- هو آية اللَّه العظمى المحقّق، الزاهد العابد الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ. ولد في قرية مهرجرد سنة 1276 ه، وكان مبدأ تحصيله في يزد، ثمّ هاجر إلى العراق فتلمّذ في المتون على العلّامتين الميرزا إبراهيم الشيرواني، والشيخ فضل اللَّه النوري، وفي الأبحاث الخارجة على المحقّقين السيّد الفشاركيّ والآخوند الخراساني. وكان له مقام سام ودرجة رفيعة عند الميرزا محمّد تقيّ الشيرازي، لذا أرجع الميرزا مقلّديه إليه في موارد الاحتياط من فتاواه، فحاز بذلك ثقة العامّة من الناس. هاجر إلى إيران أثناء الحرب العالميّة الاولى فسكن مدينة أراك مدّة، ثمّ استقرّ به المقام في مدينة قم المشرّفة، فتقاطر إليه العلماء الفضلاء من كلّ صوب وحدب، وغصّت المدارس بهم، وقام بأعباء تعليمهم وإعاشتهم، وقرّر الامتحان السنويّ والإشراف على التعليم، ويعدّ إمامنا الراحل الخميني العظيم طاب ثراه من أكابر تلاميذه والمتخرّجين به ومنهم أيضاً آية اللَّه العظمى الأراكي وآية اللَّه الثقفيّ وغيرهم كثيرون. وكانت له خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، ومآثر خالدة، وصفات حميدة. التحق بالرفيق الأعلى سنة 1355 ه. له درر الفوائد، وكتاب الصلاة، وتقرير أبحاث استاذه السيّد الفشاركيّ. انظر أعيان الشيعة 8: 42، ومعارف الرجال 2: 65- 67.

ص: 113

وأنت خبير: بأنّ هذا بيان لإمكان الإطلاق، على فرض وجود دليل مطلق يمكن الاتكال عليه، ونحن بعد الفحص الأكيد، لم نجد دليلًا يسلم دلالة وسنداً عن الخدشة.

مثلًا: قوله في الرواية المتقدمة:

(فاصمدا في دينكما ...)

إلى آخره، بمناسبة صدرها وهو قوله: «عمّن آخذ معالم ديني» لا يستفاد منه التعبّد، بل الظاهر منه هو الإرجاع إلى الأمر الارتكازيّ؛ فإنّ السائل بعد مفروغيّة جواز الرجوع إلى العلماء، سأل عن الشخص الذي يجوز التعويل على قوله، ولعلّه أراد أن يعيّن الإمام له شخصاً معيّناً- كما عيّن الرضا عليه السلام زكريّا بن آدم (1)، والصادق عليه السلام الأسديّ (2)، والثقفيّ (3)،


1- رجال الكشّي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.
2- رجال الكشّي 1: 400، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
3- رجال الكشّي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.

ص: 114

وزرارة(1)- فأرجعه إلى من كان كثير القدم في أمرهم، ومسنّاً في حبّهم.

والظاهر من «كثرة القدم في أمرهم» كونه ذا سابقة طويلة في أمر الإمامة والمعرفة، ولم يذكر الفقاهة؛ لكونها أمراً ارتكازيّاً معلوماً لدى السائل والمسؤول عنه، وأشار إلى صفات اخر موجبة للوثوق والاطمئنان بهم، فلا يستفاد منها إلّا تقرير الأمر الارتكازيّ.

ولو سلّم كونه بصدد إعمال التعبّد والإرجاع إلى الفقهاء، فلا إشكال في عدم إطلاقها لحال التعارض، بل قوله ذلك كقول القائل: «المريض لابدّ وأن يرجع إلى الطبيب ويشرب الدواء» وقوله: «إنّ الجاهل بالتقويم لابدّ وأن يرجع إلى المقوّم».

ومعلوم: أنّ أمثال ذلك لا إطلاق لها لحال التعارض، هذا مع ضعف سندها(2)، وقد عرفت حال التوقيع (3).

وبالجملة: لا إطلاق في الأدلّة بالنسبة إلى حال التعارض.

الاستدلال على التخيير بين المتساويين بأدلّة العلاج

وقد يتمسّك للتخيير في المتساويين بأدلّة علاج المتعارضين (4)، كموثّقة


1- رجال الكشّي 1: 347، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
2- تقدّم في الهامش الأوّل من الصفحة 102.
3- وذلك في الصفحة 101.
4- درر الفوائد: 714- 715.

ص: 115

سَماعة(1)، عن أبي عبد اللَّه

قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر، كلاهما يرويه؛ أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال: (يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه)(2).

تقريبه: أنّ التخالف بينهما لايتحقّق بصرف نقل الرواية مع عدم الجزم بمضمونها، ومعه مساوق للفتوى فاختلاف الرجلين إنّما هو في الفتوى.

ويشهد له قوله: «أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه» وهذا لاينبطق على صرف الرواية والحكاية، فلابدّ من الحمل على الفتوى

فأجاب عليه السلام بأنّه في سعة ومخيّر في الأخذ بأحدهما.

بل يمكن التمسّك بسائر أخبار التخيير في الحديثين المختلفين؛ بإلغاء الخصوصية، فإنّ الفقيه أيضاً تكون فتواه محصّل الأخبار بحسب الجمع والترجيح، فاختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الرواية.

هذا وفيه ما لا يخفى


1- سَماعة: هو الشيخ العالم الفقيه، الثقة الثقة؛ أبو ناشرة سَماعة بن مِهْران الحضرميّ. كان من أصحاب الاصول المدوّنة، والمصنّفات المشهورة، ومن الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، وكان يتّجر بالقزّ، وسكن الكوفة، روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام، وروى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر، والحسن بن محبوب، ومحمّد بن أبي عمير. انظر رجال النجّاشي: 193/ 517، وقاموس الرجال 5: 302/ 3420.
2- الكافي 1: 53/ 7، وسائل الشيعة 18: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 5.

ص: 116

أمّا التمسّك بموثّقة سماعة، ففيه أنّ قوله:

(يرجئه حتّى يلقى من يخبره)

معناه: يؤخّره ولا يعمل بواحد منهما، كما صرّح به في روايته الاخرى (1)، والمظنون أنّهما رواية واحدة، ومعنى «الإرجاء» لغة(2) وعرفاً هو تأخير الشي ء، فقوله بعد ذلك:

(فهو في سعة)

ليس معناه أنّه في سعة في الأخذ بأيّهما شاء، كما أفاده المستدلّ، بل المراد أنّه في سعة بالنسبة إلى نفس الواقعة.

ومحصّله: أنّ الروايتين أو الفتويين ليستا بحجّة، فلا تعمل بواحدة منهما، ولكنّه في سعة في الواقعة، فله العمل على طبق الاصول، فهي على خلاف المطلوب أدلّ.

وأمّا دعوى إلغاء الخصوصيّة، وفهم التخيير من الأخبار الواردة في الخبرين المتعارضين.

ففيه:- مع الغضّ عن فقدان رواية دالّة على التخيير جامعة للحجّية، كما مرّ في باب التعارض (3)- أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً ممنوع؛ ضرورة تحقّق الفرق الواضح بين اختلاف الأخبار واختلاف الآراء الاجتهاديّة، فما أفاده: من شمول روايات العلاج لاختلاف الفتاوى محلّ منع، مع أنّ لازمه إعمال مرجّحات باب التعارض فيهما، وهو كما ترى


1- حيث قال عليه السلام:( لاتعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل عنه). راجع الاحتجاج: 357، وسائل الشيعة 18: 88، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 42.
2- النهاية الأثيريّة 2: 206، المصباح المنير: 263.
3- التعادل والترجيح، العلّامة الإمام الخمينيّ قدس سره: 119- 126، 211.

ص: 117

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه ليس في أخبار الباب ما يستفاد منه ترجيح قول الأعلم عند التعارض لغيره، ولا التخيير في الأخذ بأحد المتساويين، فلا محيص إلّا العمل بالاصول الأوّلية، لولا تسالم الأصحاب على عدم وجوب الاحتياط(1)، ومع هذا التسالم لامحيص عن الأخذ بقول الأعلم؛ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، مع كون وجوبه أيضاً مورد تسالمهم (2).

كما أنّ الظاهر، تسالمهم على التخيير في الأخذ بفتوى أحد المتساويين، وعدم وجوب الاحتياط، أو الأخذ بأحوط القولين (3)


1- مطارح الأنظار: 300 سطر 18، مستمسك العروة الوثقى 1: 29.
2- راجع مفاتيح الاصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.
3- مناهج الأحكام والاصول: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.

ص: 118

ص: 119

الفصل الثاني في أ نّه هل تشترط الحياة في المفتي أم لا؟

اشارة

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال (1)، ثالثها: التفصيل بين البدويّ والاستمراريّ (2).

لا إشكال في أنّ الأصل الأوّلي حرمة العمل بما وراء العلم، خرج عنه العمل بفتوى الحيّ، وبقي غيره، فلابدّ من الخروج عنه من دليل التمسك بالاستصحاب لإثبات الجواز. ولمّا كان عمدة ما يمكن أن يعوّل عليه هو الاستصحاب، فلابدّ من تقريره وتحقيقه.


1- راجع الوافية في اصول الفقه: 299- 308، مفاتيح الاصول: 618- 619.
2- الفصول الغرويّة: 422 سطر 28، العروة الوثقى 1: 10 مسألة 9.

ص: 120

التمسّك بالاستصحاب على الجواز

فنقول: قد قرّر الأصل بوجوه:

منها: أنّ المجتهد الفلانيّ، كان جائز التقليد لكلّ مكلّف عامّي في زمان حياته، فيستصحب إلى ما بعد موته.

ومنها: أنّ الأخذ بفتوى المجتهد الفلانيّ، كان جائزاً في زمان حياته فيستصحب.

ومنها: أنّ لكلّ مقلِّد جواز الرجوع إليه في زمان حياته، وبعدها كما كان.

إلى غير ذلك من الوجوه المتقاربة(1).

وقد يستشكل: بأنّ جواز التقليد لكلّ بالغ عاقل، إن كان بنحو القضيّة الخارجيّة؛ بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً في زمانه جاز له الرجوع إليه، فلا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة، وبعبارة اخرى

الدليل أخصّ من المدّعى

وإن كان بنحو القضيّة الحقيقيّة؛ أي «كلّ من وجد في الخارج، وكان مكلّفاً في كلّ زمان، كان له تقليد المجتهد الفلاني» فإن اريد إجراء الاستصحاب التنجيزيّ فلا يمكن؛ لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته، فلا يقين بالنسبة إليهم.


1- راجع الفصول الغرويّة: 422 سطر 30، مفاتيح الاصول: 624 سطر 15، مطارح الأنظار: 259 سطر 15، درر الفوائد: 704، مقالات الاصول 2: 208 سطر 12، رسالة الاجتهاد والتقليد، المحقّق الأصفهاني، ضمن بحوث في الاصول: 21، مستمسك العروة الوثقى 1: 15.

ص: 121

وإن كان بنحو التعليق، فإجراء الاستصحاب التعليقيّ بهذا النحو محلّ منع.

وفيه: أنّ جعل الأحكام للعناوين على نحو القضيّة الحقيقيّة، ليس معناه أنّ لكلّ فرد من مصاديق العنوان، حكماً مجعولًا برأسه، ومعنى الانحلال إلى الأحكام ليس ذلك، بل لايكون في القضايا الحقيقيّة إلّاجعل واحد لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلّفين، لكن ذاك الجعل الواحد يكون حجّة- بحكم العقل والعقلاء- على كلّ من كان مصداقاً للعنوان.

مثلًا قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»(1)، ليس إلّاجعلًا واحداً لعنوان واحد هو «مَنِ اسْتَطاعَ» ولكنّه حجّة على كلّ مكلّف مستطيع، فحينئذٍ لو علمنا بأنّ الحجّ كان واجباً على مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وشككنا في بقائه؛ من أجل طروّ النسخ مثلًا، فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان لنفس ذلك العنوان، فيصير- بحكم الاستصحاب- حجّةً على كلّ من كان مصداقه.

ولهذا لايستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ، مع ورود هذا الإشكال بعينه عليه، بل على جميع الاستصحابات الحكميّة.

والسّر فيه ما ذكرنا: من أنّ الحكم على العنوان، حجّة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحجّ على عنوان «المستطيع» جارٍ بلا إشكال، كاستصحاب جواز رجوع كلّ مقلِّد إلى المجتهد الفلانيّ، وسيأتي كلام في هذا الاستصحاب


1- آل عمران( 3): 97.

ص: 122

فانتظر(1).

إشكال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه

اشارة

فالعمدة في المقام هو الإشكال المعروف؛ أي عدم بقاء الموضوع.

وتقريره: أنّه لابدّ في الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها، و موضوع القضيّة هو «رأي المجتهد وفتواه» وهو أمر قائم بنفس الحيّ، وبعد موته لايتّصف- بحسب نظر العرف المعتبر في المقام- بعلم ولا ظنّ، ولا رأي له بحسبه ولا فتوى.

ولا أقلّ من الشكّ في ذلك، ومعه أيضاً لا مجال للاستصحاب؛ لأنّ إحراز الموضوع شرط في جريانه، ولا إشكال في أنّ مدار الفتوى هو الظنّ الاجتهاديّ، ولهذا يقع المظنون- بما هو كذلك- وسطاً في قياس الاستنباط، ولا إشكال في عدم إحراز الموضوع، بل في عدم بقائه (2).

وفيه: أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته، هو أماريّته وطريقيّته إلى الواقع، وهو المناط في فتوى الفقهاء، سواءً أكان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى أو الأدلّة اللّفظية؛ فإنّ مفادها أيضاً كذلك، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة، طريق إلى الحكم الشرعيّ وحجّة عليه، وإنّما تتقوّم طريقيّتها وطريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع، إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم.


1- يأتي في الصفحة 126- 130.
2- مطارح الأنظار: 259- 260.

ص: 123

لكنّ الوجود الحدوثيّ للفتوى بنحو الجزم، يوجب كونها طريقاً إلى الواقع أبداً، ولاينسلخ عنها ذلك إلّابتجدّد رأيه، أو الترديد فيه، وإلّا فهي طريق إلى الواقع، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً.

فإذا شككنا في جواز العمل به؛ من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه، فلا إشكال في جريان الاستصحاب، ووحدةِ القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها، فرأي العلّامة وقوله وكتاب «قواعده» كلّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة، ووجوده الحدوثيّ كافٍ في كونه طريقاً، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ولدى العقلاء.

وإن شئت قلت: جزم العلّامة أو إظهار فتواه جزماً، جعل كتابه حجّة، وطريقاً إلى الواقع، وجائزَ العمل في زمان حياته، ويشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته، فيستصحب.

والعجب من الشيخ الأعظم (1)، حيث اعترف بأنَّ الفتوى إذا كانت عبارة


1- الشيخ الأعظم: هو الاستاذ الإمام المؤسّس، والفقيه الاصوليّ المتبحّر، شيخ مشايخ الإماميّة؛ مرتضى ابن الشيخ محمّد أمين الأنصاريّ التستريّ الدزفوليّ النجفيّ. ولد سنة 1214 ه. ودرس عند السيّد المجاهد، وشريف العلماء، والشيخين موسى وعليّ كاشف الغطاء، والموسى النراقيّ وجمع بين الحفظ وسرعة الانتقال، واستقامة الذهن، وجودة الرأي، فلم يعيه حلّ مشكلة، ولا جواب مسألة، وكان يُضرب به المثل في زهده، وتقواه، وورعه، وعبادته، وقداسته، عالي الهمة أبيّاً. وقد انتهت إليه رئاسة الإماميّة على الإطلاق، وأطبقت الشيعة على تقليده في شرق الأرض وغربها، وكان له في التدريس والتأليف طريق خاصّ؛ لما تمتّع به من طلاقة في القول، وفصاحة في النطق، وحسن تقريب آراء المحقّقين، وهو واضع أساس علم الاصول الحديث عند الشيعة، وطريقته الشهيرة المعروفة. أبرز تلامذته السيّد المجدّد الشيرازي، والميرزا حبيب اللَّه الرشتي، والآخوند الخراساني. له مصنّفات مشهورة، صارت مدار حركة التدريس في حال حياته إلى يومنا هذا ألا وهي المكاسب والفرائد، بالإضافة إلى كتاب في الطهارة، وآخر في الصلاة ... توفّي رحمه الله سنة 1281 ه. انظر معارف الرجال 2: 399- 404، وأعيان الشيعة 10: 117- 119.

ص: 124

عن نقل الأخبار بالمعنى يتمّ القول: بأنّ القول موضوع للحكم، ويجري الاستصحاب معه (1).

مع أنّ حجّية الأخبار وطريقيّتها إلى الواقع، أيضاً متقوّمتان بجزم الراوي، فلو أخبر أحد الرواة بيننا وبين المعصوم بنحو الترديد، لا يصير خبره أمارة وحجّة على الواقع، ولاجائز العمل.

لكن مع إخباره جزماً، يصير كاشفاً عنه، وجائز العمل ما دام كونه كذلك، سواءً أكان مخبره حيّاً أو ميّتاً، مع عدم بقاء جزمه بعد الموت، لكنّ جزمه حين الإخبار كافٍ في جواز العمل وحجّية قوله دائماً، إلّاإذا رجع عن إخباره الجزميّ.

وهذا جارٍ في الفتوى طابق النعل بالنعل، فقول الفقيه حجة على الواقع وطريق إليه، كإخبار المخبر، وهو باقٍ على طريقيّته بعد الموت، ولو شكّ في جواز العمل به- لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعاً- جاز استصحابه، وتمّت أركانه.

وإن شئت قلت: إنّ جزم الفقيه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم، واسطة في حدوث جواز العمل بقوله وكتابه، وبعد موته نشكّ في بقاء الجواز؛ لأجل الشكّ


1- مطارح الأنظار: 260 سطر 6.

ص: 125

في كونه واسطة في العروض أو الثبوت، فيستصحب.

وأمّا ما أفاد: من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك، وأنّ مظنون الحرمة حرام، أو مظنون الحكم واجب العمل (1).

ففيه: أنّ إطلاق «الحجّة» على الأمارات، ليس باعتبار وقوعها وسطاً في الإثبات كالحجّة المنطقيّة، بل المراد منها هو كونها منجّزة للواقع؛ بمعنى أنّه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شي ء، وكان واجباً بحسب الواقع فتركه المكلّف، تصحّ عقوبته، ولا عذر له في تركه، وبهذا المعنى تطلق «الحجّة» على القطع، كإطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضاً.

وبالجملة: الحجّة في الفقه ليست هي القياس المنطقيّ، ولا يكون الحكم الشرعيّ مترتّباً على ما قام عليه الأمارة بما هو كذلك، ولا المظنون بما [هو] مظنون.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد وفتواه- بمعنى حاصل المصدر- وعلى طبق كتابه، الكاشفين عن الحكم الواقعيّ أو الوظيفة الظاهريّة، ممّا لا مانع منه.

لايقال: بناءً على ما ذكرت، يصحّ استصحاب حجّية ظنّ المجتهد الموجود في زمان حياته، فلنا أن نقول: إنّ الحجّية والأماريّة ثابتتان له في موطنه، ويحتمل بقاؤهما إلى الأبد، ومع الشكّ تستصحبان.


1- مطارح الأنظار: 260 سطر 3.

ص: 126

فإنّه يقال: هذا غير معقول؛ للزوم إثبات الحجّية وجواز العمل فعلًا لأمر معدوم، وكونُه في زمانه موجوداً لايكفي في إثبات الحجّية الفعليّة له مع معدوميّته فعلًا.

وإن شئت قلت: إنّ جواز العمل كان ثابتاً للظنّ الموجود، فموضوع القضيّة المتيقّنة هو الظنّ الموجود، وهو الآن مفقود.

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ الظنّ في حال الوجود- بنحو القضيّة الحينيّة- موضوع للقضيّة، لابنحو القضيّة الوضعيّة والتقييديّة، وهو عين الموضوع في القضيّة المشكوك فيها، وقد ذكرنا في باب الاستصحاب: أنّ المعتبر فيه هو وحدة القضيّتين، لا إحراز وجود الموضوع، فراجع (1).

ولكن كون الموضوع كذلك في المقام محلّ إشكال ومنع، مع أنّه لايدفع الإشكال المتقدّم به.

تقرير إشكال آخر على الاستصحاب

ثمّ إنّ هاهنا إشكالًا قويّاً على هذا الاستصحاب (2): وهو أنّه إمّا أن يراد به استصحاب الحجّية العقلائيّة، فهي أمر غير قابل للاستصحاب.

أو الحجّيةِ الشرعيّة، فهي غير قابلة للجعل.


1- الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 203- 207.
2- انظر مستمسك العروة الوثقى 1: 15- 18، إلّاأنّه قدس سره أجاز إجراءه في الحكم الظاهريّ فراجع.

ص: 127

أو جوازِ العمل على طبق قوله، فلا دليل على جعل الجواز الشرعيّ، بل الظاهر من مجموع الأدلّة، هو تنفيذ الأمر الارتكازيّ العقلائيّ، فليس في الباب دليل جامع لشرائط الحجّية، يدلّ على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبه على رأي المجتهد، فها هي الأدلّة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّى تعرف صدق ما ذكرناه (1).

أو استصحابُ الأحكام الواقعيّة، فلاشكّ في بقائها؛ لأنّها لو تحقّقت أوّلًا، فلاشكّ في أنّها متحقّقة في الحال أيضاً؛ لأنّ الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشكّ في النسخ، أو الشكّ في فقدان شرط، كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، أو حدوث مانع، والفرض أنّه لاشكّ من هذه الجهات.

أو الأحكام الظاهريّة؛ بدعوى كونها مجعولة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب سائر الأمارات، فهو أيضاً ممنوع؛ لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلّة على خلافه؛ لأنّ الظاهر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، والمرتكز لديهم هو أماريّة رأي المجتهد للواقع، كأماريّة رأي كلّ ذي صنعة إلى الواقع في صنعته.

وبالجملة: لابدّ في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم، وليس في المقام شي ء قابل له:

أمّا الحكم الشرعيّ فمفقود؛ لعدم تطرّق جعل وتأسيس من الشارع.

وأمّا ما لدى العقلاء من حجّية قول أهل الخبرة، فلعدم كونه موضوعاً لحكم


1- راجع ما تقدّم في الصفحة 78- 81.

ص: 128

شرعيّ، بل هو أمر عقلائيّ، يتنجّز به الواقع بعد عدم ردع الشارع عنه.

وأمّا إمضاء الشارع وارتضاؤه لما هو المرتكز بين العقلاء، فليس حكماً شرعيّاً حتّى يستصحب تأمّل (1)، بل لايستفاد من الأدلّة إلّاالإرشاد إلى ما هو المرتكز، فليس جعل وتأسيس كما لا يخفى

إن قلت: بناءً عليه ينسدّ باب الاستصحاب في مطلق مؤدّيات الأمارات، فهل فتوى الفقيه إلّاإحداها؟! مع أنّه حقّق في محلّه جريانه في مؤدّياتها(2)، فكما يجري فيها لابدّ وأن يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيه.

قلت: هذه مغالطة نشأت من خلط الشكّ في بقاء الحكم، والشكّ في بقاء حجّية الحجّة عليه، فإنّ الأوّل مجرى الاستصحاب، دون الثاني، فإذا قامت الأمارة- أيّة أمارة كانت- على حكم، ثمّ شكّ في بقائه لأحد أسباب طروّ الشك، كالشكّ في النسخ، يجري الأصل؛ لما ذكرنا في الاستصحاب: من شمول أدلّته مؤدّيات الأمارات أيضاً(3).

وأمّا إذا شكّ في أمارة- بعد قيامها على حكم وحجّيتها- في بقاء الحجّية لها في زمان الشكّ، فلا يجري فيها؛ لعدم الشكّ في بقاء حكم شرعيّ كما عرفت (4)،


1- وجهه: أنّ استصحاب رضا الشارع بالعمل ممّا لامانع منه؛ فإنّه وإن لم يكن حكماً، لكن مع التعبّد به يحكم العقل بجواز العمل، فهو مثل الحكم في ذلك منه قدس سره .
2- راجع الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 81- 83.
3- راجع الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 81- 83.
4- تقدّم في الصفحة 127.

ص: 129

فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة وحكمها، على الاستصحاب في مؤدّاها، مع الفارق؛ فإنّ المستصحب في الثاني هوالحكم الواقعيّ المحرز بالأمارة، دون الأوّل.

إن قلت: بناءً على عدم استتباع قيام الأمارات- فتوى الفقيه كانت أو غيرها- للحكم، يلزم عدم تمكّن المكلّف من الجزم في النيّة، وإتيان كثير من أجزاء العبادات وشرائطها رجاءً، وهو باطل، فلابدّ من الالتزام باستتباعها الحكم؛ لتحصيل الجزم فيها.

قلت أوّلًا: لادليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره، ودعوى الإجماع (1)، ممنوعة في هذه المسألة العقليّة.

وثانياً: أنّ الجزم حاصل؛ لما ذكرناه (2): من أنّ احتمال الخلاف في الطرق العقلائيّة، مغفول عنه غالباً، ألا ترى أنّ جميع المعاملات الواقعة من ذوي الأيادي على الأموال، تقع على سبيل الجزم، مع أنّ الطريق إلى ملكيّتهم هو اليد التي تكون طريقاً عقلائيّاً؟! وليس ذلك إلّالعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلًا بحسب الغالب.

وثالثاً: أنّ المقلِّدين الآخذين بقول الفقهاء، لا يرون فتاويهم إلّاطريقاً إلى الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم، ليس إلّابملاحظة طريقيّتها إلى الواقع، وكاشفيّتها عن أحكام اللَّه الواقعيّة، كعملهم على طبق رأي كلّ خبير فيما يرجع


1- فرائد الاصول: 306 سطر 11، وفيه نفي الخلاف.
2- تقدّم في الصفحة 82- 83.

ص: 130

إليه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استتباع فتاويهم للحكم الظاهريّ في ذهنهم بوجه، حتّى يكون الجزم باعتباره.

فالحكم الظاهريّ على فرض وجوده، ليس محصّلًا للجزم؛ ضرورة كون هذا الاستتباع مغفولًا عنه لدى العقلاء، العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام؛ وفتاويهم طريق إلى الواقع.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جارٍ؛ لفقدان المستصحب، أي الحكم، أو الموضوع الذي له حكم.

التفصّي عن الإشكال

وغاية ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال: أنّ احتياج الفقيه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب، إنّما يكون في مورد اختلاف رأيه مع رأي الميّت.

وأمّا مع توافقهما، فيجوز له الإفتاء بالأخذ برأي الميّت؛ لقيام الدليل عنده عليه، وعدم الموضوعيّة للفتوى والأخذ برأي الحيّ، فلو فرض موافقة رأي فقيه حيّ لجميع ما في رسالة فقيه ميّت، يجوز له الإرجاع إلى رسالته، من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّته، فما يحتاج في الحكم بجواز البقاء إلى الاستصحاب، هو موارد اختلافهما.

فحينئذٍ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغه مجتهدَين حيّين، متساويَين

ص: 131

في العلم، مختلفَين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء، وأرسلوه إرسال المسلّمات، من غير احتمال إشكال فيه (1)، مع أنّه خلاف القاعدة؛ فإنّها تقتضي تساقطهما.

فالحكم بالتخيير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة، لايكون إلّا بدليل شرعيّ وصل إليهم، أو للسيرة المستمرّة إلى زمن الأئمّة عليهم السلام، كما هي ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييريّ، وهذا الاستصحاب جارٍ في الابتدائيّ والاستمراريّ.

نعم، جريانه في الابتدائيّ الذي لم يدركه المكلّف حيّاً، محلّ إشكال؛ لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتّى يستصحب، فما ذكرنا في التفصّي عن الإشكال الأوّل في الباب: من استصحاب الحكم الثابت للعنوان، إنّما هو على فرض ثبوت الحكم له، وهو فرض محض.

فتحصّل ممّا ذكرنا تفصيل آخر: هو التفصيل بين الابتدائيّ الذي لم يدرك المكلّف مجتهده حيّاً حال بلوغه، وبين الابتدائيّ المدرك كذلك والاستمراريّ.

هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائيّ مطلقاً، تصير النتيجة التفصيل بين الابتدائيّ والاستمراريّ، هذا كلّه حال الاستصحاب.


1- مناهج الأحكام والاصول: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.

ص: 132

حال بناء العقلاء في تقليد الميّت

وأمّا بناء العقلاء، فمحصّل الكلام فيه: أنّه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء وحكم العقل، بين فتوى الحيّ والميّت؛ ضرورة طريقيّة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما.

لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقليّ بعدم الفرق بينهما، لايكفي في جواز العمل، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحيّ، وتعارفه لديهم، حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائه، وإلّا فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت- وإن لم يتفاوت في ارتكازهم مع الحيّ- لايكون للردع مورد حتّى يكشف عدمُه عن إمضاء الشارع.

والحاصل: أنّ جواز الاتكال على الأمارات العقلائيّة، موقوف على إمضاء الشارع لفظاً، أو كشفه عن عدم الردع، وليس ما يدلّ لفظاً عليه، والكشف عن عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملًا على طبق ارتكازهم، ومع عدمه لامعنى لردع الشارع، ولايكون سكوته كاشفاً عن رضاه.

فحينئذٍ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحيّ، ويمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحيّ في زمان حياته ثمّ مات؛ ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم مايحتاج إليه من الحيّ، يرى نفسه عالماً، فلا داعي له في الرجوع إلى الآخر.

ص: 133

بل يمكن إثبات ذلك من الروايات، كرواية عليّ بن المسيّب المتقدّمة(1).

فإنّ إرجاعه إلى زكريّا بن آدم- من غير ذكر حال حياته؛ وأنّ ما يأخذه منه في حال الحياة، لايجوز العمل به بعد موته، مع أنّ في ارتكازه وارتكاز كلّ عاقل عدمَ الفرق بينهما- دلالةٌ على جواز العمل بما تعلّم منه مطلقاً؛ فإنّ كون شقّته بعيدة، بحيث أنّه بعد رجوعه إلى شقّته، كان يصير منقطعاً عن الإمام عليه السلام في مثل تلك الأزمنة، كان يوجب عليه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطاً.

واحتمال أنّ رجوع عليّ بن المسيّب إليه كان في نقل الرواية، يدفعه ظهور الرواية، ومثلها مكاتبة أحمد بن حاتم وأخيه (2).

وبالجملة: إرجاع الأئمّة عليهم السلام في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء عموماً وخصوصاً- مع خلوّها عن اشتراط الحياة- كاشف عن ارتضائهم بذلك.

نعم لايكشف عن الأخذ الابتدائيّ بفتوى الميّت؛ فإنّ الدواعيّ منصرفة عن الرجوع إلى الميّت مع وجود الحيّ، ولم يكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب الفتوائيّة متعارفاً، حتّى يقال: إنّهم كانوا يراجعون الكتب؛ فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بناؤهم على تدوين كتب نحو متون الأخبار، ككتب الصدوقين، ومن في طبقتهما، أو


1- تقدّمت في الصفحة 80، راجع رجال الكشّي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.
2- تقدّمت في الصفحة 100، راجع رجال الكشّي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

ص: 134

قريب العصر بهما(1).

ثمّ بعد مرور الأزمنة، جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّة والاستدلاليّة، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً، ممكناً في الصدر الأوّل، ولا متعارفاً أصلًا.

نعم، من أخذ فتوى حيّ في زمان حياته، فقد كان يعمل بها على الظاهر؛ ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحيّ والميّت، ولم يرد ردع عن ارتكازهم وبنائهم العمليّ، بل إطلاق الأدلّة يقتضي الجواز أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميّت، هو بناء العقلاء، فلابدّ من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميّت في زمان حياته وغيره.

والإنصاف: أنّ جواز البقاء على فتوى الميّت بعد الأخذ منه في الجملة، هو الأقوى، وأمّا الأخذ الابتدائيّ ففيه إشكال، بل الأقوى عدم جوازه.

وأمّا التمسّك بالأدلّة اللّفظية كالكتاب والسنّة(2)، فقد عرفت في المبحث السالف؛ عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعيّ في هذا الباب، فراجع (3)


1- كمحمّد بن الحسن بن الوليد، وجعفر بن محمّد بن قولويه، والشيخ المفيد وغيره.
2- الفصول الغرويّة: 422 سطر 31.
3- راجع الصفحة 127.

ص: 135

الفصل الثالث في تبدّل الاجتهاد

تكليف المجتهد عند تبدّل رأيه

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق، وتبدلّ رأي المجتهد، فلايخلو إمّا أن يتبدلّ من القطع إلى القطع، أو إلى الظنّ المعتبر، أو من الظنّ المعتبر إلى القطع، أو إلى الظنّ المعتبر.

حال الفتوى المستندة إلى القطع

فإن تبدّل من القطع إلى غيره، فلا مجال للقول بالإجزاء؛ ضرورة أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه بحسب العلم والجهل، فإذا قطع بعدم كون السورة جزءً للصلاة، ثمّ قطع بجزئيّتها، أو قامت الأمارة عليها، أو تبدلّ قطعه، يتبيّن له في الحال الثاني- وجداناً أو تعبّداً- عدم كون المأتيّ به مصداق المأموربه، ومعه

ص: 136

لا وجه للإجزاء.

ولايتعلّق بالقطع جعل حتّى يتكلّم في دلالة دليله على إجزائه عن الواقع، أو بدليّته عنه، وإنّما هو عذر في صورة ترك المأموربه، فإذا ارتفع العذر يجب عليه الإتيان بالمأموربه في الوقت، وخارجه إن كان له قضاء.

حال الفتوى المستندة إلى الأمارات

وإن تبدّل من الظنّ المعتبر، فإن كان مستنده الأمارات كخبر الثقة وغيره، فكذلك إذا كانت الأمارة عقلائيّة أمضاها الشارع؛ ضرورة أنّ العقلاء إنّما يعملون على ماعندهم- كخبر الثقة والظواهر- بما أنّها كاشفة عن الواقع، وطريق إليه، ومن حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، وإمضاءُ الشارع هذه الطريقة لايدلّ على رفع اليد عن الواقعيّات؛ وتبديل المصاديق الأوّلية بالمصاديق الثانويّة، أو جعل المصاديق الناقصة منزلة التامّة.

وربّما يقال: إنّ الشارع إذا أمر بطبيعة كالصلاة، ثمّ أمر بالعمل بقول الثقة، أو أجاز المأمور بالعمل به، يكون لازمه الأمر أو الإجازة بإتيان المأموربه على طبق ما أدّى إليه قول الثقة، ولازم ذلك هو الإجزاء(1). ففي مثل قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ»(2)، يكون أمر بصلاتين إلى غسق اللّيل


1- نهاية الاصول: 143- 144.
2- الإسراء( 17): 78.

ص: 137

لاغير، فإذا أمر بالعمل على قول الثقة، فقد أمر بإتيان المأموربه بالكيفيّة التي أدّت إليها الأمارة، فلا محالة يكون المأتيّ به مصداقاً للمأمور به عنده، وإلّا لما أمر بإتيانه كذلك، فلا محيص عن الإجزاء؛ لتحقّق مصداق المأموربه، وسقوط الأمر.

ولكنّك خبير: بأنّ إمضاء طريقة العقلاء، ليس إلّالأجل تحصيل الواقعيّات؛ لمطابقة الأمارات العقلائيّة نوعاً للواقع، وضعف احتمال تخلّفها عنه، وفي مثل ذلك لاوجه لسقوط الأمر إذا تخلّف عن الواقع، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء، والفرض أنّ الشارع لم يأمر تأسيساً.

بل وكذا الحال لو أمر الشارع بأمارة تأسيساً، وكان لسان الدليل هو التحفّظ على الواقع، فإنّ العرف لا يفهم منه إلّاتحصيل الواقع، لاتبديله بمؤدّى الأمارة.

وأنت إذا راجعت الأدلّة المستدلّ بها على حجّية خبر الثقة، لرأيت أنّ مفادها ليس إلّاإيجاب العمل به؛ لأجل الوصول إلى الواقعيّات، كالآيات على فرض دلالتها، وكالروايات، فإنّها تنادي بأعلى صوتها بأنّ إيجاب العمل على قول الثقة، إنّما هو لكونه ثقة وغير كاذب، وأنّه موصل إلى الواقع، وفي مثله لايفهم العرف، أنّ الشارع يتصرّف في الواقعيّات على نحو أداء الأمارة.

هذا مع أنّ احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائيّة، مجرّد فرض، وإلّا فالناظر فيها يقطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس وتحكيم، بل في مقام إرشاد وإمضاء ما لدى العقلاء، والضرورة قاضية بأنّ العقلاء لايعملون على طبقها

ص: 138

إلّا لتحصيل الواقع، وحديث تبديل الواقع بما يكون مؤدّى الأمارة(1)، ممّا لا أصل له في طريقتهم، فالقول بالإجزاء فيها ضعيف غايته.

وأضعف منه التفصيل بين تبدّل الاجتهاد الأوّل بالقطع فلايجزي، وبين تبدلّه باجتهاد آخر فيجزي، بدعوى عدم الفرق بين الاجتهادين الظنّيين، وعدم ترجيح الثاني حتّى يبطل الأوّل (2).

وذلك لأنّ تبدّل الاجتهاد لايمكن إلّامع اضمحلال الاجتهاد الأوّل؛ بالعثور على دليل أقوى أو بالتخطئة للاجتهاد الأوّل، ومعه لاوجه لاعتباره، فضلًا عن مصادمته للثاني، هذا حال الفتوى المستندة إلى الأمارات.

حال الفتوى المستندة إلى الاصول

وأمّا إذا استندت إلى الاصول، كأصالتي الطهارة والحلّية في الشبهات الحكميّة، وكالاستصحاب فيها، وكحديث الرفع (3)، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد:

أمّا في أصالتي الطهارة والحلّ؛ فلأنّ الظاهر من دليلهما، هو جعل الوظيفة الظاهريّة لدى الشكّ في الواقع؛ فإنّ معنى قوله:

(كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه


1- راجع فرائد الاصول: 27 سطر 10.
2- حاشية السيّد على المكاسب: 93 سطر 2.
3- التوحيد 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.

ص: 139

قذر)(1)

، و

(كلّ شي ء ... حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه ...)(2)

، ليس أنّه طاهر وحلال واقعاً، حتّى تكون النجاسة والحرمة متقيّدتين بحال العلم بهما؛ ضرورة أنّه التصويب الباطل، ولامعنى لجعل المحرزيّة والكاشفيّة للشكّ مع كونه خلاف أدلّتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفّظ على الواقع.

بل الظاهر من أدلّتهما، هو جعل الطهارة والحلّية الظاهريّتين، ولامعنى لهما إلّا تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلّية على المشكوك فيه، ومعنى تجويز ترتيب الآثار، تجويز إتيان ما اشترطت فيه الطهارة والحليّة مع المشكوك فيه، فيصير المأتيّ به معهما مصداق المأموربه تعبّداً، فيسقط أمره.

فإذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شكّ في طهارة ثوبه، دلّ قوله:

(كلّ شي ء طاهر)

- الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيه- على جواز إتيان الصلاة معه، وتحقّق مصداق الصلاة به، فإذا تبدّل شكّه بالعلم، لايكون من قبيل كشف الخلاف، كما ذكرنا في الأمارات؛ لأنّها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقه أو لا تطابقه، بخلاف مؤدّى الأصلين، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلّية بلسان جعلهما، فتبديل الشكّ بالعلم من قبيل تبديل الموضوع، لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاكمة على أدلّة


1- تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2- الكافي 5: 313/ 40، تهذيب الأحكام 7: 226/ 989، وسائل الشيعة 12: 60، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4 وفيه:« تعلم» بدل« تعرف».

ص: 140

جعل الشروط والموانع في المركّبات المأمور بها.

وبالجملة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة، وأجاز الإتيان بها في ظرف الشكّ مع الثوب المشكوك فيه بلسان جعل الطهارة، وأجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعيّة عليه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهريّة، ومعاملة المكلّف معها معاملة الطهارة الواقعيّة، فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأموربه معها، فيسقط الأمر، وبعد العلم بالنجاسة لايكون من قبيل كشف الخلاف، كما في الأمارات الكاشفة عن الواقع.

ولايبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب؛ فإنّ الكبرى المجعولة فيه وهي قوله:

(لاينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً)(1)

ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبة إلى زمان الشكّ؛ ضرورة عدم كاشفيّته بالنسبة إليه عقلًا؛ لامتناع كونه طريقاً إلى غير متعلّقه، ولا معنى لجعله طريقاً إلى غيره، فلا يكون الاستصحاب من الأمارات.

بل ولا يكون جعله للتحفّظ على الواقع، كإيجاب الاحتياط في الشبهة البدويّة في الأعراض والدماء، فإنّه أيضاً خلاف مفادها، وإن احتملناه بل رجّحناه سابقاً(2)


1- تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2- أنوار الهداية 2: 181.

ص: 141

بل الظاهر منها: أنّه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين، رفع اليد عن آثاره، فيجب عليه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملة بقاء اليقين الطريقيّ معه في زمان الشكّ، وهو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأموربه- المشروط بالطهارة الواقعيّة مثلًا- مع الطهارة المستصحبة، ولا زم ذلك صيرورة المأتيّ به معها مصداقاً للمأمور به، فيسقط الأمر المتعلّق به.

وبالجملة: يكون حاله في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحلّ؛ من حيث كونهما أصلين عمليّين، ووظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، ولا أصلًا للتحفّظ عليه، حتّى يأتي فيه كشف الخلاف.

ويدلّ على ذلك صحيحة زرارة الثانية، حيث حكم فيها بغسل الثوب، وعدم إعادة الصلاة معلّلًا: ب

(أنّه كان على يقين من طهارته فشكّ، وليس ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ)(1).

وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع، فإنّ قوله:

(رفع ... ما لايعلمون)

- بناء على شموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة(2)- لسانه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم.

لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبة إلى الشبهات


1- علل الشرائع: 361/ 1، تهذيب الأحكام 1: 421/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 641، وسائل الشيعة 2: 1053، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 1.
2- راجع أنوار الهداية 2: 33- 39.

ص: 142

الموضوعيّة؛ لأنّ لازمه طهارة ما شكّ في نجاسته موضوعاً واقعاً، ولا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيه في زمان الشكّ بعد كشف الخلاف، فلابدّ من الحمل على البناء العمليّ على الرفع، وترتيب آثار الرفع الواقعي.

فإذا شكّ في جزئيّة شي ء في الصلاة، أو شرطيّته لها، أو مانعيّته، فحديث الرفع يدلّ على رفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي، لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهريّ، نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة والحليّة، فيرجع إلى معاملة الرفع في الظاهر، وجواز إتيان المأموربه كذلك، وصيرورة المأتيّ به مصداقاً للمأمور به؛ بواسطة حكومة دليل الرفع على أدلّة الأحكام.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ التحقيق هو التفصيل بين الأمارات والاصول، كما عليه المحقّق الخراسانيّ رحمه الله (1)


1- كفاية الاصول: 110- 111. والمحقّق الخراساني: هو العلّامة المحقّق الشهير، والاصوليّ المدقّق النحرير، آية اللَّه العظمى الآخوند؛ محمّد كاظم بن حسين الهرويّ الخراساني النجفي. ولد بطوس، وفيها قرأ مقدّماته العلميّة حتّى بلغ الثالثة والعشرين، ثمّ أقام في طهران ستّة أشهر، درس في أثنائها بعض العلوم الفلسفيّة، ثمّ قصد العراق، فحضر عند الشيخ الأعظم فقهاً واصولًا أكثر من سنتين، وبعد وفاته لازم المجدّد الشيرازي، كما أخذ في الفقه أيضاً عن الشيخ راضي ابن الشيخ محمّد، وحينما خرج المجدّد وأكثر تلامذته إلى سامرّاء لم يخرج الآخوند معهم، وبقي في النجف، واستقلّ بالتدريس في الفقه والاصول، الذي كان له قدس سره مسلك خاصّ بتدريسه، وتخرّج عليه عدد كبير لا يحصى من العلماء والمحقّقين والمجتهدين، ولما احتلّ الروس بلاد إيران، تهيأ مع جماعة من العلماء للخروج وإعلان الجهاد، فاغتالته يد المنيّة في فجر نفس اليوم الّذي عزم فيه على السفر، عام 1329 ه. له مؤلّفات عديدة، منها الكفاية، والشذرات، وشرح التبصرة، وحاشية على المكاسب وتعاليق على شرح المنظومة والأسفار والحاشية على المكاسب. انظر أعيان الشيعة 9: 5- 6، ومعارف الرجال 2: 323- 325.

ص: 143

هذا كلّه بحسب مقام الإثبات وظهور الأدلّة، وأمّا بحسب مقام الثبوت، فلابدّ من توجيهه بوجه لا يرجع إلى التصويب الباطل (1).

في الإشارة إلى الخلط الواقع من بعض الأعاظم في المقام

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا: أنّ القائل بالإجزاء، لا يلتزم بالتصرّف في أحكام المحرّمات والنجاسات، ولا يقول: بحكومة أدلّة الاصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة التي هي في طولها، وليس محطّ البحث في باب الإجزاء بأدلّة اصول الطهارة والحلّية والاستصحاب، هو التضييق أو التوسعة في أدلّة النجاسات والمحرّمات، حتّى يقال: إنّ الأمارات والاصول وقعت في رتبة إحراز الأحكام الواقعيّة، والحكومة فيها غير الحكومة بين الأدلّة الواقعيّة بعضها مع بعض، وإنّ لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعيّ إذا لاقى في زمان الشكّ ...

وغير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثه (2)


1- راجع المستصفى 2: 307- 309 و 380- 392، فرائد الاصول: 25- 26.
2- فوائد الاصول 1: 249- 251. والمراد ببعض الأعاظم: هو شيخ الإسلام المحقّق والعلّامة الاصولي الفقيه؛ الميرزا محمّد حسين بن عبد الرحيم النائينيّ الأصفهانيّ النجفيّ. ولد بنائين في حدود سنة 1273 ه. وفيها تلقّى مبادئ العلوم، ثمّ هاجر إلى أصفهان، فحضر عند الشيخ محمّد باقر الأصفهانيّ، والميرزا أبي المعالي وغيرهما. ثمّ قصد العراق، فحضر عند المجدّد الشيرازيّ، والسيّد الفشاركيّ، والميرزا النوريّ، وبعدها حضر المجلس الخاصّ الذي كان يعقده الآخوند الخراسانيّ في داره لأجل المذاكرة في مشكلات المسائل، وكان رحمه الله من أكبر الدعاة إلى السلطنة المشروطة في إيران. ابعد هو والسيّد أبو الحسن الأصفهانيّ من العراق إلى إيران، فبقيا بقم المشرّفة عاماً كاملًا، ثمّ عادا إلى العراق. توفي رحمه الله سنة 1355 ه. أشهر آثاره التي هي بخط تلامذته: فوائد الاصول، وأجود التقريرات، ومنية الطالب، وكتاب الصلاة. انظر أعيان الشيعة 6: 54- 55، ومعارف الرجال 1: 284- 288.

ص: 144

بل محطّ البحث: هو أنّ أدلّة الاصول الثلاثة، هل تدّل- بحكومتها على أدلّة الأحكام- على تحقّق مصداق المأموربه تعبّداً، حتّى يقال بالإجزاء، أم لا؟

هذا مع بقاء النجاسات والمحرّمات على ما هي عليها، من غير تصرّف في أدلّتها.

فالشكّ في الطهارة والحلّية بحسب الشبهة الحكميّة، إنّما هو في طول جعل النجاسات والمحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي، وبكونه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، وفي كلامه محالّ أنظار تركناها مخافة التطويل.

تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده

ثمّ إنّ هذا كلّه حال المجتهد بالنسبة إلى تكاليف نفسه، وأمّا تكليف مقلّديه،

ص: 145

فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، وبين كونه مستنداً إلى الاصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً وظاهراً، فكما أنّ في وظائفه الظاهريّة نحكم بالإجزاء؛ بواسطة أدلّة الاصول وحكومتها على الأدلّة، فكذا في تكاليف مقلّديه، طابق النعل بالنعل؟

أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً، هو رأي المجتهد، وهو أمارة على تكاليفه بحسب ارتكازه العقلائيّ، والشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز والبناء العمليّ العقلائيّ.

وليس مستند المقلّدين في العمل هو أصالة الطهارة أو الحلّية، ولا الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكميّة التي هي مورد بحثنا هاهنا؛ لأنّ العامّي لا يكون مورداً لجريان الاصول الحكميّة؛ فإنّ موضوعها الشك بعد الفحص واليأس من الأدلّة الاجتهاديّة، والعامّي لا يكون كذلك، فلا تجري في حقّه الاصول حتّى تحرز مصداق المأموربه.

ومجرّد كون مستند المجتهد هو الاصول، ومقتضاها الإجزاء، لايوجب الإجزاء بالنسبة إلى من لم يكن مستنده إيّاها؛ فإنّ المقلّد ليس مستنده في العمل هي الاصول الحكميّة، بل مستنده الأمارة- وهي رأي المجتهد- على حكم اللَّه تعالى فإذا تبدّل رأيه فلا دليل على الإجزاء:

أمّا دليل وجوب اتباع المجتهد، فلأنّه ليس إلّابناء العقلاء الممضى كما يظهر للناظر في الأدلّة، وإنّما يعمل العقلاء على رأيه لإلغاء احتمال الخلاف،

ص: 146

وإمضاء الشارع لذلك لايوجب الإجزاء كما تقدّم (1).

وأمّا أدلّة الاصول، فهي ليست مستنده، ولا هو مورد جريانها؛ لعدم كونه شاكّاً بعد الفحص واليأس من الأدلّة، فلا وجه للإجزاء، وهذا هو الأقوى

فإن قلت: إذا لم يكن المقلّد موضوعاً للأصل، ولا يجري في حقّه، فَلِمَ يجوز للمجتهد أن يفتي مستنداً إلى الأصل بالنسبة إلى مقلّديه، مع أنّ أدلّة الاصول لا تجري إلّاللشاكّ بعد الفحص واليأس؛ وهو المجتهد فقط، لا المقلّد؟!

ولو قيل: إنّ المجتهد نائب عن مقلّديه (2)، فمع أنّه لا محصّل له، لازمه الإجزاء.

قلت: قد ذكرنا سابقاً، أنّ المجتهد إذا كان عالماً بثبوت الحكم الكلي المشترك بين العباد، ثمّ شكّ في نسخه مثلًا، يصير شاكّاً في ثبوت هذا الحكم المشترك بينهم، فيجوز له الإفتاء به، كما له العمل به (3)، فكما أنّ الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلي، يجوز له الإفتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان ذلك مقتضى الاستصحاب، فله العمل به، والفتوى بمقتضاه، فإذا أفتى يجب على المقلّدين العمل على طبق فتواه؛ لبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم.

فتحصّل من ذلك: أنّ المجتهد له الإفتاء بمقتضى الاصول الحكميّة،


1- تقدّم في الصفحة 137.
2- فرائد الاصول: 320 سطر 13.
3- تقدّم في الصفحة 128.

ص: 147

ومقتضى القاعدة هو الإجزاء بالنسبة إليه، دون مقلّديه؛ لاستناده إلى الاصول المقتضيّة للإجزاء، واستنادهم إلى رأيه الغير المقتضي لذلك.

وقد تمّت مهمّات مباحث الاجتهاد والتقليد، وبقيت بعض الامور غير المهمّة، تركناها لذلك، وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الجمعة؛ عيد الفطر، سنة 1370 في «محلّات» والحمد للَّه أوّلًا وآخراً، وظاهراً وباطناً.

ص: 148

ص: 149

الضميمة

ص: 150

ص: 151

الفصل الرابع هل التخيير بدويّ أو استمراريّ؟

بعد البناء على تخيير العامّي في الرجوع إلى مجتهدين متساويين، هل يجوز له العدول بعد تقليد أحدهما؟

اختار شيخنا العلّامة التفصيل بين العدول في شخص واقعة بعد الأخذ والعمل فيه، كما لو صلّى بلا سورة بفتوى أحدهما، فأراد تكرار الصلاة مع السورة بفتوى الآخر، وبين العدول في الوقائع المستقبلة التي لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ.

فذهب إلى عدم الجواز مطلقاً في الأوّل، وعدم الجواز في الأخيرين إن قلنا: بأنّ التقليد هو الالتزام والأخذ، والجواز إن قلنا: بأنّه نفس العمل مستنداً

ص: 152

إلى الفتوى

ووجّهه في الأوّل: بأنّه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخيّر؛ لعدم إمكان تكرار صِرْف الوجود، وامتناع تحصيل الحاصل، وليس كلّ زمان قيداً للأخذ بالفتوى حتّى يقال: إنّه ليس باعتبار الزمان المتأخّر تحصيلًا للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ، يكون الزمان ظرفاً له بحسب الأدلّة.

نعم، يمكن إفادة التخيير في الأزمنة المتأخّرة بدليل آخر، يفيد التخيير في الاستدامة على العمل الموجود، ورفع اليد عنه والأخذ بالآخر، وإذ هو ليس فليس.

وإفادته بأدلّة التخيير في إحداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع؛ للزوم الجمع بين لحاظين متنافيين، نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد.

ولا يجري الاستصحاب؛ لأنّ التخيير بين الإحداثين، غير ممكن الجرّ إلى الزمان الثاني، وبالنحو الثاني لا حالة سابقة له، والاستصحاب التعليقيّ لفتوى الآخر غير جارٍ؛ لأنّ الحجّية المبهمة السابقة، صارت معيّنة في المأخوذ، وزالت قطعاً، كالملكيّة المشاعة إذا صارت مفروزة.

ووجه الأخيرين هذا البيان بعينه إن قلنا: إنّ المأموربه في مثل قوله:

(فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)(1)

وغيره (2)، هو العمل الجوانحيّ؛ أي الالتزام


1- إكمال الدين: 484/ 4، الغيبة، الشيخ الطوسي: 176، الاحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2- كقوله عليه السلام:( بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً) راجع الغيبة، الشيخ الطوسي: 232، الاحتجاج: 483، وسائل الشيعة: 18: 87، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 39.

ص: 153

والبناء القلبيّ.

وإن قلنا: بأنّه العمل، فلا إشكال في بقاء الأمر التخييريّ في كلا القسمين بلا محذور، ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب (1)، انتهى ملخّصاً من تقرير بحثه.

أقول: ما يمكن البحث عنه في الصورة الاولى هو جواز تكرار العمل بعد الإتيان به مطابقاً لفتوى الأوّل، وأمّا البحث عن بقاء التخيير، وكذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غير صحيح؛ ضرورة أنّ التخيير بين الإتيان بما أتى به، والعمل بقول الآخر، ممّا لا معنى له، وطرح العمل الأوّل وإعدامه غير معقول بعد الوجود، حتّى يتحقّق ثانياً موضوع التخيير، وكذا لايعقل العدول بحقيقته بعد العمل، فلابدّ وأن يكون البحث ممحّضاً في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأوّل.

قد يقال: بعدم الجواز؛ لأنّ الإتيان بأحد شقّي الواجب التخييريّ، موجب لسقوط التكليف جزماً، فالإتيان بعده- بداعويّة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعويّته، أو بداعويّة المحتمل- غير معقول.

ومع العلم بالسقوط لا معنى لإجراء الاستصحاب: لا استصحاب الواجب التخييريّ، وهو واضح، ولا جواز العمل على طبق الثاني؛ لفرض عدم احتمال أمر آخر غير التخييريّ الساقط، وكأنّ الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.


1- الاجتهاد والتقليد، آية اللَّه المحقّق الأراكي، ضمن كتاب البيع 2: 471- 475.

ص: 154

وفيه: أنّ ذلك ناشئ من الخلط بين التخيير في المسألة الفرعيّة، والمسألة الاصوليّة، فإنّ ما ذكر وجيه في الأوّل، دون الثانىّ؛ لأنّ الأمر التخييريّ في الثاني لا نفسيّة له، بل لتحصيل الواقع- بحسب الإمكان- بعد عدم الإلزام بالاحتياط، فمع الإتيان بأحد شقّي التخيير فيه، يبقى للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم يكن المكلّف ملزماً به؛ تخفيفاً عليه.

نعم لو قلنا: بحرمة الاحتياط، أو بالإجزاء في باب الطرق ولو مع عدم المطابقة، لكان الوجه ما ذكر، لكنّهما خلاف التحقيق.

وبهذا يظهر: أنّ استصحاب جواز الإتيان بما لم يأتِ به، لا مانع منه لو شكّ فيه.

نعم، لايجري الاستصحاب التعليقي؛ لأنّ التعليق ليس بشرعيّ.

وأمّا الصورتان الأخيرتان، بناءً على كون التقليد الالتزام والعقد القلبيّ، فقياسهما على الصورة الاولى مع الفارق؛ لإمكان إبطال الموضوع وإعدامه بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب، فصار حينئذٍ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما، من غير ورود الإشكال المتقدّم- أي لزوم الجمع بين اللحاظين (1)- عليه، وليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل وإهماله، بل في إمكانه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.

ومّما ذكرنا يظهر: أنّ ما أفاده رحمه الله؛ من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وجدانيّ


1- تقدّم في الصفحة 152.

ص: 155

ممتدّ، إذا حصل في زمان لايعقل حدوثه ثانياً، غير وجيه؛ لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل، إحداث لا إبقاء؛ لامتناع إعادة المعدوم.

هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّة إثباتاً، وإلّا فقد مرّ: أنّه لادليل لفظيّ في باب التقليد يمكن الاتكال عليه- فضلًا عن الإطلاق- بالنسبة إلى حال التعارض بين فتويين (1).

وإنّما قلنا: بالتخيير؛ للشهرة والإجماع المنقولين (2). وهما معتبران في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد، والمتيقّن منهما هو التخيير الابتدائيّ؛ أي التخيير قبل الالتزام.

والتحقيق: عدم جريان استصحاب التخيير ولا الجواز؛ لاختلاف التخيير الابتدائيّ والاستمراريّ موضوعاً وجعلًا، فلا يجري استصحاب شخص الحكم، وكذا استصحاب الكلي؛ لفقدان الأركان في الأوّل، ولكون الجامع أمراً انتزاعيّاً، لا حكماً شرعيّاً، ولاموضوعاً ذا أثر شرعيّ، وترتيب أثر المصداق على استصحاب الجامع مثبت، ولافرق في ذلك بين استصحاب جامع التخييرين، أو جامع الجوازين الآتيين من قبلهما.


1- تقدّم في الصفحة 113.
2- راجع مناهج الأحكام والاصول، المحقّق النراقي: 300 السطر الأخير، مطارح الأنظار: 273 سطر 20، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.

ص: 156

ص: 157

الفصل الخامس في اختلاف الحيّ والميّت في مسألة البقاء

اشارة

إذا قلّد مجتهداً كان يقول: بوجوب الرجوع إلى الحيّ فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعة و لوازمها، ورجع عنه بتوهّم جواز تقليده في الرجوع، فلا كلام إلّا في صحّة أعماله وعدمها.

وإن ذكر عدم جواز تقليده في ذلك؛ فإنّه أيضاً تقليد للميّت، أو تحيّر ورجع إلى الحيّ في هذه المسألة، وهو كان قائلًا: بوجوب البقاء، فمع تقليده الحيّ فيها، يجب عليه البقاء في سائر المسائل.

وأمّا في هذه المسألة الاصوليّة، فلا يجوز له البقاء؛ لأنّه قلّد فيها الحيّ، ولا تحيّر له فيها حتّى قلّد الميّت، ولا يجوز للمفتي الحيّ الإفتاء بالبقاء فيها؛ لكون

ص: 158

الميّت على خطأ عنده، فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب.

وكذا لايجوز له إجراء الاستصحاب للمقلّد؛ لكونه غير شاكّ فيها، لقيام الأمارة لديه؛ وهي فتوى الحيّ.

بل لايجري بالنسبة إليه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحيّ، لأنّ المجتهد في الشبهات الحكميّة، يكون مشخصاً لمجاري الاصول، وأمّا الأحكام- اصوليّة، أو فرعيّة- فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركة بين العالم والجاهل، فحينئذٍ لو رأى خطأ الميّت، وقيام الدليل على خلافه، فلا محالة يرى عدم جريان الاستصحاب؛ لاختلال أركانه، وهو أمر مشترك بينه و بين جميع المكلّفين.

هل يرجع بفتوى الثالث إلى الأوّل أو الثاني؟

وبما ذكرناه تظهر مسألة اخرى وهي أنّه لو قلّد مجتهداً في الفروع فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع، فرجع إليه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء، يجب عليه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل؛ لقيام الأمارة الفعليّة على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أنّ رجوعه عن الميّت الأوّل كان باطلًا، فالميزان على الحجّة الفعليّة؛ وهي فتوى الحيّ.

والقول: بجواز البقاء على رأي الثاني برأى الثالث (1)، غير صحيح؛ لأنّ الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألة الاصوليّة، وعدم صحّة رجوع المقلّد


1- الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم الأنصاريّ، ضمن مجموعة رسائل: 66، العروة الوثقى 1: 22 مسألة 61.

ص: 159

عن تقليد الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلًا أمارة على بطلانه، فلا معنى لبقائه فيها.

كلام العلّامة الحائري قدس سره

هذا، وأمّا شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه،- فبعدما نقل كلام شيخنا الأعظم قدس سره (1): من كون المقام- إشكالًا وجواباً- نظير ما قيل (2) في شمول أدلّة حجّية خبر الثقة، لخبر السيّد(3) بعدم حجّيته (4)، وأجاب عنه بمثل ما أجاب في


1- مطارح الأنظار: 272 سطر 23.
2- فرائد الاصول: 74 سطر 14، حاشية الآخوند على الرسائل: 63 سطر 5، فوائد الاصول 3: 177.
3- المراد به سيّد علماء الامّة، وعلم هداها، الإمام الفقيه، المتكلّم الأديب؛ أبوالقاسم عليّ بن الحسين بن موسى الموسوي المرتضى ولد سنة 355 ه، وتخرّج بالشيخ المفيد قدس سره، حتّى تفرّد بالعلوم، وحاز منها ما لم يدانه فيها أحد. كان رحمه الله معروفاً بالعلم مع العمل الكثير في السرّ، وبالمواظبة على تلاوة القرآن، وقيام اللّيل، وإفادة العلم، مع ما كان عليه من البلاغة وفصاحة اللهجة. انتهت إليه الرئاسة في المجدوالشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، ولمّا يبلغ العشرين. وهو أوّل من جعل داره داراً للعلم، وقدّرها للمناظرة، كما أ نّه طاب ثراه أوّل من بسط كلام الشيعة الإماميّة في الفقه، وناظر الخصوم، واستخرج الغوامض، وقيّد المسائل، لذا عدّه ابن الأثير مجدّدمذهب الإماميّة على رأس المائة الرابعة للهجرة. له كتب في علوم القرآن وتفسيره والكلام والفقه واصوله والأدب والشعر، تنوف على الثمانين كتاباً توفيّ رحمه الله سنة 436 ه. انظر فهرست الشيخ 98/ 421، وجامع الاصول 11: 323، وتتمّة اليتيمة 1: 53، ولسان الميزان 4: 223.
4- الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 528 وما بعدها، رسائل الشريف المرتضى، ضمن المجموعة الاولى 24 والمجموعة الثالثة: 309.

ص: 160

ذلك المقام (1).

وبعد بيان الفرق بين المقامين: بأنّه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللّغز والمعمّى لعدم عموم صادر من المعصوم فيه- قال ما ملخّصه:

المحقّق في المقام فتوى: أنّه لايمكن الأخذ بكليهما؛ لأنّ المجتهد بعد ما نزّل نفسه منزلة المقلّد في كونه شاكّاً، رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتتين للمقلّد:

إحداهما: فتوى الميّت في الفروع.

وثانيتهما: الفتوى في الاصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع، والمسقطة لها عن الحجّية، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامّة.

ثمّ قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الاصوليّة؛ فإنّه لو اريد في الفرعيّة استصحاب الأحكام الواقعيّة، فالشكّ في اللّاحق موجود، دون اليقين السابق:

أمّا الوجدانيّ فواضح.

وأمّا التعبّدي، فلارتفاعه بموت المفتي، فصار كالشكّ الساري.

وإن اريد استصحاب الحكم الظاهريّ الجائي من قبل دليل اتباع الميّت، فإن اريد استصحابه مقيّداً بفتوى الميّت، فالاستصحاب في الاصوليّة حاكم عليه؛ لأنّ الشكّ في الفرعيّة مسبّب عن الشكّ فيها.

وإن اريد استصحاب ذات الحكم الظاهريّ، وجعل كونه مقول قول الميّت جهة تعليليّة، فاحتمال ثبوته إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابه الاستصحاب الحاكم،


1- درر الفوائد: 386- 387.

ص: 161

أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم؛ إذ مفروض الكلام صورة مخالفة فتوى الميّت للحيّ.

نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعيّ، لكن لايكفي ذلك في الاستصحاب؛ لأنّه مع الحكم الظاهريّ في رتبتين وموضوعين، فلايكون أحدهما بقاء الآخر، لكن يجري استصحاب الكلي، بناءً على جريانه في القسم الثالث.

وإن اريد استصحاب حجّية الفتاوى الفرعيّة، فاستصحاب الحجّية في الاصوليّة حاكم عليه؛ لأنّ شكّه مسبّب عنه، لأنّ عدم حجّية تلك الفتاوى أثر لحجّية هذه، وليس الأصل مثبتاً؛ لأنّ هذا من الآثار الثابتة لذات الحجّة، الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة.

ثمّ رجع عمّا تقدّم، واختار عدم جريان الاستصحاب في الاصوليّة؛ فإنّ مقتضى جريانه الأخذ بخلاف مدلوله، ومثله غير مشمول لأدلّة الاستصحاب؛ فإنّ مقتضى الأخذ باستصحاب هذه الفتوى، سقوط فتاويه عن الحجّية، ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحيّ، وهو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في الاصوليّة- التي مفادها عدم الأخذ بفتاويه في الفرعيّات- لازمه الأخذ في الفرعيّات بها.

وهذا باطل وإن كان اللّزوم لأجل الرجوع إلى الحيّ، لالكون مفاد الاستصحاب ذلك؛ إذ لافرق في الفساد بين الاحتمالين.

هذا مضافاً إلى أنّ المسؤول عنه في الفرعيّات المسألة الاصوليّة؛ أعني من المرجع فيها، فلا ينافي مخالفة الحيّ للميّت في نفس الفروع مع إفتائه بالبقاء في

ص: 162

المسألة الاصوليّة، وأمّا الفتوى الاصوليّة، فنفسها مسؤول عنها، ويكون الحيّ هو المرجع فيها، وفي هذه المسألة لامعنى للاستصحاب بعد أن يرى الحيّ خطأ الميّت، فلاحالة سابقة حتّى تستصحب [338]. انتهى

الإيراد على مختار العلامة الحائري قدس سره

وفيه محالّ للنظر:

منها: أنّ الاستصحاب في الأحكام الواقعيّة في المقام، لايجري ولو فرض وجود اليقين السابق؛ لعدم الشكّ في البقاء، فإنّ الشكّ فيه إمّا ناشئ من احتمال النسخ، أو احتمال فقدان شرط، أو وجدان مانع، والكلّ مفقود.

بل الشكّ فيه ممحّض في حجّية الفتوى وجواز العمل بها، وإنّما يتصوّر الشكّ في البقاء إذا قلنا: بالسببيّة والتصويب.

ومنها: أنّ حكومة الأصل في المسألة الاصوليّة عليه في الفرعيّة ممنوعة؛ لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد- كما هو مفروض الكلام- يكون شكّه في جواز العمل على فتاوى الميّت في الاصول والفروع، ناشئاً من الشكّ في اعتبار الحياة في المفتي، وجوازُ العمل في كلّ من الطائفتين مضادٌّ للآخر، ومقتضى جواز كلّ عدم جواز الآخر.

ولو قيل: إنّ مقتضى إرجاع الحيّ إيّاه إلى الميّت، سببيّة شكّه في الاصوليّة.

ص: 163

قلنا: هذا خلاف المفروض، وإلّا فلا يبقى مجال للشكّ له في هذه المسألة، ففرض الشكّ فيما لم يقلّد الحيّ فيها.

هذا مضافاً إلى أنّ مطلق كون الشكّ مسبّباً عن الآخر، لايوجب التحكيم، كما قرّرنا في محلّه مستقصىً (1).

وملخّصه: أنّ وجه تقدّم الأصل السببيّ؛ هو أنّ الأصل في السبب منقّح لموضوع دليل اجتهاديّ ينطبق عليه بعد التنقيح، والدليل الاجتهاديّ بلسانه حاكم على الأصل المسببيّ، فإذا شكّ في طهارة ثوب غسل بماء شكّ في كرّيته، فاستصحاب الكرّية ينقّح موضوع الدليل الاجتهاديّ الدالّ على أنّ ما غسل بالكرّ يطهر، وهو حاكم على الأصل المسبّبي بلسانه.

وإن شئت قلت: إنّه لامناقضة بين الأصل السببيّ والمسبّبي؛ لأنّ موضوعيهما مختلفان، والمناقض للأصل المسبّبي إنّما هو الدليل الاجتهاديّ بعد تنقيح موضوعه؛ حيث دلّ- بضمّ الوجدان وتطبيقه على الخارج- على «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» والاستصحاب في المسبّبي مفاده «أنّ هذا الثوب المشكوك في نجاسته وطهارته نجس» ومعلوم أنّ لسان الأوّل حاكم على الثاني.

وتوّهم: أنّ مقتضى الأصل السببيّ، هو ترتيب جميع آثار الكرّية على الماء، ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب (2)


1- الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 244، 245، 252.
2- فرائدالاصول: 424 سطر 22، كفاية الاصول: 49، درر الفوائد: 631، فوائدالاصول 4: 681.

ص: 164

مدفوع أوّلًا: بأنّ مفاد الاستصحاب، ليس إلّاعدم نقض اليقين بالشكّ، فإذا شكّ في كرّية ماء كان كرّاً، لايكون مقتضى دليل الاستصحاب إلّاالتعبّد بكون الماء كرّاً، وأمّا لزوم ترتيب الآثار، فبدليل آخر هو الدليل الاجتهاديّ.

والشاهد عليه:- مضافاً إلى ظهور أدلّته- أنّ لسان أدلّته في استصحاب الأحكام والموضوعات واحد، فكما أنّ استصحاب الأحكام ليس إلّاالبناء على تحقّقها، لا ترتيب الآثار، فكذلك استصحاب الموضوعات.

نعم، لابدّ في استصحابها من دليل اجتهادي، ينقّح موضوعه بالاستصحاب.

وثانياً: بأنّ لازم ذلك، عدم تقدّم السببيّ على المسبّبي؛ فإنّ قوله: «كلّما شككت في بقاء الكرّ فابنِ على طهارة الثوب المغسول به» لايقدّم على قوله: «إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي فابنِ على نجاسته».

ولايراد باستصحاب نجاسة الثوب سلب الكرّية، حتّى يقال: إنّ استصحاب النجاسة لايسلبها إلّابالأصل المثبت (1)، بل يراد إبقاء النجاسة في الثوب فقط، ولايضرّ في مقام الحكم الظاهريّ التفكيك بين الآثار، فيحكم ببقاء كرّية الماء، وبقاء نجاسة الثوب المغسول به.

إذا عرفت ذلك اتضح لك، عدم تقدّم الأصل في المسألة الاصوليّة على الفرعيّة؛ لعدم دليل اجتهاديّ موجب للتحكيم، ومجرّد كون مفاد المستصحب في الاصوليّة «أنّه لايجوز العمل بفتاواي عند الشكّ» لايوجب التقدّم على ما كان


1- فوائد الاصول 4: 684- 685.

ص: 165

مفاده: «يجوزالعمل بفتاواي الفرعيّة لدى الشكّ» فإنّ كلًاّ منهمايدفع الآخر وينافيه.

وممّا ذكرناه يظهر النظر فيما أفاده: من حكومة استصحاب حجّية الفتوى في المسألة الاصوليّة، على استصحاب حجّيتها في المسائل الفرعيّة؛ فإنّ البيان والإيراد فيهما واحد لدى التأمّل.

هذا مضافاً إلى ما تقدّم: من عدم جريان استصحاب الحجّية؛ لاالعقلائية منها، ولا الشرعيّة(1).

ومنها: أنّ ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الاصوليّة ولو اريد استصحاب الحكم الظاهريّ بجهة تعليليّة، غير وجيه وإن قلنا: بتقديم الأصل السببيّ في الفرض المتقدّم على الأصل المسبّبي؛ لأنّ نفي المعلول باستصحاب نفي العلّة، مثبت وإن كانت العلّة شرعيّة؛ فإنّ ترتّب المسبّب على السبب، عقليّ ولو كان السبب شرعيّاً.

نعم، لو ورد دليل على «أنّه إذا وجد ذا وجد ذاك» لايكون الأصل مثبتاً، كقوله:

(إذا غلى العصير أو نشّ (2) حرم)(3)

وهو في المقام مفقود.

ومنها: أنّ بناءه على جريان استصحاب الكلي الجامع بين الحكم الظاهريّ


1- تقدّم في الصفحة 126- 127.
2- أي صوّت عند الغليان، راجع أقرب الموارد 2: 1301.
3- الكافي 6: 419/ 4، تهذيب الأحكام 9: 120/ 515، وسائل الشيعة 17: 229، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، الباب 3، الحديث 4، هذا والموجود في المصادر تقديم النشيش على الغليان، فراجع.

ص: 166

والواقعيّ، غير وجيه:

أمّا أوّلًا: فلما مرّ من عدم الشكّ في بقاء الحكم الواقعي (1).

وثانياً: أنّه بعد فرض حكومة الأصل السببيّ على المسبّبي، يسقط الحكم الظاهريّ، وبسقوطه لادليل فعلًا على ثبوت الحكم الواقعيّ؛ لسراية الشكّ إلى السابق، كما مرّ منه قدس سره (2)، فلايقين فعلًا بالجامع بينهما، فاستصحاب الكلي إنّما يجري، إذا علم بالجامع فعلًا، وشكّ في بقائه، وهو غير نظير المقام الذي بانعدام أحد الفردين ينعدم الآخر من الأوّل، أوينعدم الدليل على ثبوته من الأوّل.

هذا مع الغضّ عن الإشكال في استصحاب الجامع في الأحكام، ممّا مرّ منّا مراراً(3).

ومنها: أنّ إنكاره جريان الاستصحاب في المسألة الاصوليّة، معلّلًا: بأنّه يلزم من جريانه الأخذ بخلاف مفاده، ومثله غير مشمول لأدلّته (4)، غير وجيه؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّية الفتاوى الفرعيّة، وهو غير اعتبار فتاواه، ولا لازمه ذلك، ولا الأخذ بفتوى الحيّ؛ لإمكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجّية.


1- تقدّم في الصفحة 162.
2- وذلك في الصفحة 160- 161.
3- راجع على سبيل المثال الاستصحاب، العلّامة الإمام الخميني قدس سره: 83- 84، وهذه الرسالة في الصفحة 62، 155.
4- تقدّم في الصفحة 161.

ص: 167

وبالجملة: سقوط الفتاوى عن الحجّية، أمر جاء من قبل الاستصحاب، والرجوع إلى الحيّ أمر آخر غير مربوط به وإن كان لازم الرجوع إليه البقاء على قول الميت.

والعجب، أنّه قدس سره تنبّه على هذا الإشكال (1)، ولم يأتِ بجواب مقنع!!

ولو ادعى انصراف أدلّة الاستصحاب عن مثل المقام، لكان انصرافها عن الأصل السببيّ وعن الأصلين المتعارضين أولى؛ لأنّ إجراء الاستصحاب للسقوط، أسوأ حالًا من إجرائه في مورد، كان المكلفّ ملزماً بالأخذ بدليل آخر مقابل له في المفاد.

والحلّ في الكلّ: أنّه فرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد، وبين ماشملها بإطلاقه، والإشكال متّجه فيها على الأوّل، لا الثاني.

ومنها: أنّ ما ذكره أخيراً في وجه عدم جريان الاستصحاب في المسألة الاصوليّة: من أنّ المفتي الحيّ كان يرى خطأ الميّت (2)، إنّما يصحّ لو كان المفتي أراد إجراء الاستصحاب لنفسه، وقد فَرَض في صدر المبحث أنّه نزّل نفسه منزلة العاميّ في الشكّ في الواقعة(3).

والتحقيق: هو ما عرفت من عدم جريان الأصل- لا بالنسبة إلى المفتي، ولا بالنسبة إلى العامّي- في المسألة الاصوليّة.


1- تقدّم في الصفحة 161.
2- تقدّم في الصفحة 161.
3- تقدّم في الصفحة 158.

ص: 168

ص: 169

الفهارس العامّة

اشارة

1- الآيات الكريمة

2- الأحاديث الشريفة

3- أسماء الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام

4- الأعلام

5- الكتب

6- مصادر التحقيق

الموضوعات

ص: 170

ص: 171

1- فهرس الآيات الكريمة

الآية ..... رقمها ..... الصفحة

البقرة (2)

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ..... 78 ..... 95، 96

آل عمران (3)

وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ..... 97 ..... 121

النساء (4)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ..... 58 ..... 39، 40

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى ..... 65 ..... 19

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ..... 59 ..... 19

المائدة (5)

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ..... 6 ..... 76

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ..... 44 ..... 40

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ..... 45 ..... 41

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ..... 47 ..... 41

ص: 172

الآية ..... رقمها ..... الصفحة

التوبة (9)

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ..... 122 ..... 90

يونس (10)

الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ..... 36 ..... 63

الإسراء (17)

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ..... 78 ..... 136

الأنبياء (21)

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا ..... 7 ..... 89

الحجّ (22)

ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..... 78 ..... 77

الأحزاب (33)

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..... 6 ..... 19

ص (38)

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ..... 26 ..... 20

ص: 173

2- فهرس الأحاديث الشريفة

ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، ........ 73

اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما ........ 21، 51

اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس ........ 67

إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس ........ 67

إذا غلى العصير أو نشّ حرم ..... 165

إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه ........ 56

إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول ........ 70

إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ........ 38، 45، 46

أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا؛ ........ 13، 72

الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ..... 29

خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا ..... 75

رفع عن امّتي تسعة ........ 72، 141

عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، ........ 40

على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي ..... 71

عليك بالأسديّ ........ 80

علينا إلقاء الاصول، وعليكم التفريع ..... 71

فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما ........ 101، 111، 113

ص: 174

قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة ........ 37

كلّ شي ء ... حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه ..... 139

كلّ شي ء طاهر ..... 139

كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ..... 138

لا ضرر ولا ضرار ..... 71

لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً ..... 140

لا ينقض اليقين بالشكّ ..... 71

ليس هو ذاك، إنّما هو الذي ........ 47

ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ؛ ........ 102

ممّن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، ........ 26، 27، 28، 29، 30، 31، 48، 78، 99، 100

من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه ........ 13، 72

من زكريّا بن آدم القمّي، المأمون ........ 80

من وكّل رجلًا على إمضاء أمر من الامور، ........ 55

واجلس لهم العصرين، فأفت ........ 74

وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء ........ 33، 34

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها ........ 79، 99، 100، 112، 152

وأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، ........ 95، 96

هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللَّه، ........ 77

يا زرارة، قاله رسول اللَّه، ونزل به الكتاب عن اللَّه عزّوجلّ، ........ 76

يا شريح، قد جلست مجلساً ........ 21، 52

يرجئه حتّى يلقى من يخبره، ........ 115، 116

ص: 175

3- فهرس أسماء الأنبياء والمعصومين عليهم السلام

رسول اللَّه، النبيّ، محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ..... 19، 22، 24، 51، 52، 76، ..... 82، 91، 94، 96

الأئمة، أهل البيت عليهم السلام ..... 12، 13، 19، 24، 25، 28، ..... 48، 52، 54، 64، 65، 66، ..... 68، 69، 70، 81، 94، ..... 101، 102، 131، 133

أمير المؤمنين، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ..... 21، 49

الإمام الباقر، أبو جعفر عليه السلام ..... 75

الإمام الصادق، أبوعبد اللَّه عليه السلام ..... 13، 21، 26، 36، 37، 38، ..... 39، 45، 46، 51، 55، 70، ..... 72، 79، 102، 113، 115

الإمام الرضا، أبو الحسن عليه السلام ..... 13، 71، 72، 73، 80، ..... 102، 113

الإمام الهادي، أبو الحسن الثالث عليه السلام ..... 100

الإمام العسكري، أبو محمّد، الحسن بن علي عليه السلام ..... 75

داود عليه السلام ..... 20

ص: 176

4- فهرس الأعلام

أبان بن تغلب ..... 67، 75

ابن أبي عمير ..... 43

ابن أبي ليلى ..... 49

ابن أبي يعفور ..... 66، 101، 102، 103

ابن شبرمه ..... 49

أبو البختري ..... 32

أبو بصير الأسدي ..... 68، 80، 113

أبو الجهم بكير بن أعين ..... 36، 37

أبو خديجة، سالم بن مكرم الجمّال ..... 31، 34، 37، 38، 45، 78، ..... 98

أحمد بن حاتم بن ماهويه ..... 100، 111، 133

أحمد بن عائذ ..... 42، 45

أحمد بن محمّد بن أبي نصر ..... 71

أحمد بن محمّد، ابن عيسى ..... 35، 43

أحمد بن محمّد بن خالد ..... 44

ص: 177

إسحاق بن عمّار ..... 21

الثقفي، محمّد بن مسلم ..... 66، 68، 102، 103، 113

الحسن بن علي الوشّاء ..... 42

الحسين بن روح ..... 74

الحسين بن سعيد ..... 35، 36، 44

الحلبي ..... 49

داود بن فرقد ..... 13، 72

زرارة ..... 66، 68، 75، 76، 114، ..... 141

زكريّا بن آدم ..... 80، 81، 102، 113، 133

سليمان بن خالد ..... 21، 51

سماعة بن مهران ..... 115، 116

السيد المرتضى ..... 158

شريح ..... 21، 49

شُعيب العقرقوفي ..... 79

الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي شيخنا العلّامة ..... 112، 151، 153، 158، 162

شيخ الطائفة الشيخ الطوسي ..... 14، 34، 45

الشيخ المرتضى الأنصاري الشيخ الأعظم ..... 123، 158

الصدوق محمد بن علي بن الحسين ..... 14، 39، 42، 75، 133

عبد الأعلى ..... 77

العلّامة الحلّي ..... 16، 45، 54، 123

ص: 178

علي بن أسباط ..... 73

علي بن المسيّب ..... 80، 81، 102، 133

عمر بن حنظلة ..... 26، 51، 78، 97

قتادة ..... 49

قثم بن عباس ..... 74

القدّاح ..... 32

الكشّي ..... 79، 100، 101

المحقق الحلّي ..... 16

المحقق صاحب الجواهر ..... 41

محمّد بن إدريس ..... 70

محمّد بن علي بن محبوب ..... 34

محمّد بن عيسى ..... 44

محمّد كاظم الخراساني المحقق الخراساني ..... 142

معاوية بن وهب ..... 55

المعلّى بن خنيس ..... 39

النجاشي ..... 42، 45

هشام بن سالم ..... 55، 70

يعقوب بن يزيد ..... 44

يونس بن عبد الرحمان ..... 76

ص: 179

5- فهرس الكتب

تذكرة الفقهاء ..... 54

تفسير الإمام العسكري عليه السلام ..... 95، 97

جواهر الكلام ..... 41

السرائر ..... 70

عيون أخبار الرضا عليه السلام ..... 13، 72

الغيبة ..... 74

الفهرست ..... 41، 45

قواعد الأحكام ..... 123

معاني الأخبار ..... 13، 72

نهج البلاغة ..... 74

ص: 180

6- مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم.

«أ»

2- الاجتهاد والتقليد، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (م 1361)، ضمن «بحوث في الاصول»، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1409 ه.

3- الاحتجاج على أهل اللجاج، أبو منصور، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (م 588)، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1403 ه.

4- الاختصاص، المنسوب إلى أبي عبد اللَّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (336- 413)، تحقيق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

* اختيار معرفة الرجال رجال الكشي.

5- الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد، أبو عبد اللَّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (336- 413)، الطبعة الثالثة، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1399 ه.

6- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460)، إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان،

ص: 181

الطبعة الثالثة، 4 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390 ه.

7- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1417 ه.

8- أعيان الشيعة، السيد محسن بن عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي الشقرائي (1284- 1371)، إعداد السيد حسن الأمين، الطبعة الخامسة، 10 مجلّدات، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1403 ه.

9- أقرب الموارد، سعيد خوري شرتوني اللبناني (1849- 1912 م)، 3 مجلّدات، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1403 ه.

10- إكمال الدين وتمام النعمة «كمال الدين»، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري، طهران، مكتبة الصدوق، 1390 ه.

11- الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، الطبعة الخامسة، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1400 ه.

12- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، مجلّدان، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1414 ه.

«ب»

13- بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمة الأطهار، العلّامة محمّد باقر محمّدتقي المجلسي (1037- 1110)، الطبعة الثالثة، 110 مجلّد، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ه.

14- بدائع الأفكار، الميرزا حبيب اللَّه الرشتي (م 1312)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.

ص: 182

15- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد الحسيني البحراني (م 1107)، قم، دار الكتب العلمية، 1392 ه.

16- بصائر الدرجات، أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار (م 290)، تحقيق الميرزا محسن كوچه باغي، الطبعة الثانية، 1391 ه.

«ت»

17- تحف العقول عن آل الرسول عليهم السلام، أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شُعبة الحراني (م 381)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه.

18- تذكرة الفقهاء، جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر، العلّامة الحلّي (648- 726)، مجلّدان، طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1388 ه.

19- تذهيب التهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد اللَّه الخزرجي (ولد 900)، القاهرة، مكتبة القاهرة، 1392 ه.

20- التعادل والترجيح، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1417 ه.

21- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام، المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري عليه أفضل صلوات المصلّين (232- 260)، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، 1409 ه.

* تفسير البرهان البرهان في تفسير القرآن.

22- التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقريراً لبحث السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1413)، بقلم الميرزا علي الغروي التبريزي، قم، دار الأنصاريان، 1410 ه.

23- تنقيح المقال في علم الرجال، الشيخ عبد اللَّه بن محمّد حسن المامقاني (1290- 1351)، 3 مجلّدات، النجف الأشرف، مكتبة المرتضوية، 1352 ه.

ص: 183

24- تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385- 460)، إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364 ه. ش.

25- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجّاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزّي (654- 742)، تحقيق بشّار عوّاد، الطبعة الاولى، 35 مجلّداً، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1400- 1413 ه.

26- التوحيد، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري والسيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1398 ه.

«ج»

27- جامع الأخبار، تاج الدين محمّد بن محمّد الشعيري (م القرن الرابع)، النجف الأشرف، مكتبة الحيدرية.

28- جامع الاصول، مجدالدين أبو السعادات المبارك بن محمّد ابن الأثير الجزري (544- 606)، مجلّدان، بيروت، دار الفكر.

29- جامع الشتات، الميرزا أبو القاسم بن الحسن الجيلاني، المحقق القمّي (1151- 1231)، الطبعة الحجرية، 1324 ه.

30- جواهر الكلام، الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (1200- 1266)، تحقيق الشيخ عباس القوچاني، الطبعة السابعة، 43 مجلّداً، دار إحياء التراث العربي، 1981 م.

ص: 184

«ح»

31- حاشية كتاب فرائد الاصول، الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255- 1329)، قم، مكتبة بصيرتي.

32- حاشية المكاسب، العلّامة السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337)، الطبعة الحجرية، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1378 ه.

33- الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (1107- 1186)، 23 مجلّداً، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1406 ه.

«خ»

34- الخصال، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403 ه.

35- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، أبو منصور حسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي (648- 726)، إعداد السيّد محمد صادق بحر العلوم، قم، منشورات الشريف الرضي، 1402 ه.

«د»

36- دُرر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي المهرجردي الميبدي (1276- 1355)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1408 ه.

37- الدّر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911)، 8 مجلّدات، بيروت، دار الفكر، 1403 ه.

ص: 185

«د»

38- الذريعة إلى اصول الشريعة، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الشريف المرتضى (355- 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، الطبعة الاولى، مجلّدان، طهران، جامعة طهران، 1348 ه. ش.

«ر»

39- رجال ابن داود، تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي (م 707)، إعداد السيد محمّد صادق آل بحرالعلوم، قم، منشورات الشريف الرضي.

40- رجال الطوسي، أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385- 460)، الطبعة الاولى، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1380 ه.

* رجال العلّامة خلاصة الأقوال في معرفة الرجال.

41- رجال الكشي، أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385- 460)، إعداد حسن المصطفوي، الطبعة الاولى، مشهد المقدسة، جامعة مشهد، 1348 ه.

42- رجال النجاشي، أحمد بن علي بن أحمد بن عباس النجاشي (372- 450)، تحقيق السيد موسى الشبيري الزنجاني، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه.

43- رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ محمّد علي الأراكي (م 1415)، ضمن «كتاب البيع»، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1415 ه.

44- روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات، السيد محمّد باقر الموسوي الخوانساري الأصفهاني (1226- 1313)، إعداد أسد اللَّه إسماعيليان، 8 مجلّدات، قم، إسماعيليان، 1390.

45- روضة الناظر وجنّة المناظر، موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي (م 620)،

ص: 186

مصر، المطبعة السلفية، 1342 ه.

46- رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214- 1281)، ضمن «مجموعة رسائل فقهية واصولية»، الطبعة الاولى، قم، مكتبة المفيد، 1404 ه.

«س»

47- سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209- 279)، تحقيق أحمد محمد شاكر، 5 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

«ش»

شرحا البدخشي والأسنوي مناهج العقول.

48- شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب، القاضي عضد الملة والدين، اسلامبول، مطبعة العالم، 1310 ه.

«ص»

49- صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيشابوري (206- 261)، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية، 5 مجلّدات، بيروت، دار الفكر، 1398 ه.

«ض»

50- ضوابط الاصول، السيد إبراهيم بن محمّد باقر القزويني الحائري (1214- 1262)، الطبعة الحجرية.

ص: 187

«ع»

51- العروة الوثقى، السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337)، مجلّدان، إيران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1399 ه.

52- علل الشرائع، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، الطبعة الاولى، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1386 ه.

53- عوائد الأيّام، المولى أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي (1185- 1245)، الطبعة الاولى، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1417 ه.

54- عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي، ابن أبي جمهور (م أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة سيد الشهداء، 1403 ه.

55- عيون أخبار الرضا عليه السلام، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح السيد مهدي الحسيني اللاجوردي، الطبعة الثانية، جزء ان في مجلّد واحد، قم، مطبعة الطوسي، 1363 ه. ش.

«غ»

56- الغيبة، أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385- 460)، قم، مكتبة بصيرتي، 1405 ه.

«ف»

57- الفصول الغروية في الاصول الفقهية، الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ه.

ص: 188

58- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، مشهد المقدسة، المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام، 1406 ه.

59- الفقيه «كتاب من لا يحضره الفقيه»، أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري، 4 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390 ه.

60- فوائد الاصول، الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309- 1365)، تقريرات بحث الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (م 1355)، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه.

61- الفوائد المدنية، محمّد أمين بن محمّد شريف الأسترآبادي (م 1033)، الطبعة الحجرية، طهران، 1321 ه.

62- الفهرست، أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385- 460)، إعداد السيد محمّد صادق بحرالعلوم، قم، منشورات الشريف الرضي.

63- الفهرست، أبو الفرج محمّد بن إسحاق، ابن النديم (م 385)، تحقيق رضا تجدد، طهران.

«ق»

64- قاموس الرجال، الشيخ محمّد تقي التستري (1320- 1415)، الطبعة الاولى، 11 مجلّداً، طهران، مركز نشر الكتاب، 1379- 1391 ه.

65- قرب الإسناد، أبو العباس عبد اللَّه بن جعفر الحميري القمّي (م. بعد 304)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1413 ه.

* القضاء كتاب القضاء.

ص: 189

66- قوانين الاصول، المحقق ميرزا أبو القاسم القمّي ابن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151- 1231)، الطبعة الحجرية، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378 ه.

«ك»

67- الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1388 ه.

68- الكافي في الفقه، تقي الدين بن نجم، أبو الصلاح الحلبي (374- 447)، تحقيق رضا الاستادي، إصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، 1403 ه.

69- الكامل في التأريخ، عزالدين أبو الحسن علي بن أبو الكرم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، ابن الأثير (555- 630)، 13 مجلّداً، بيروت، دار صادر، 1399 ه.

70- كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، 5 مجلّدات، قم، مؤسسة إسماعيليان.

71- كتاب القضاء، الحاج ميرزا محمّد حسن الآشتياني (م 1319)، قم، دار الهجرة.

72- كشف اللثام، بهاء الدين محمّد بن حسن الأصفهاني، الفاضل الهندي (1062- 1137)، مجلّدان، طهران، فراهاني، 1391 ه.

73- كفاية الأحكام، محمّد مؤمن الشريف الخراساني، المحقق السبزواري (1017- 1090)، الطبعة الحجرية.

74- كفاية الاصول، الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255- 1329)، إعداد مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاولى، مؤسسة النشر الإسلامي،

ص: 190

1409 ه.

75- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي (م 975)، الطبعة الخامسة، 16 مجلّداً، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405 ه.

76- كنز الفوائد، أبو الفتوح الشيخ محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي (م 449)، تحقيق عبد اللَّه نعمة، مجلّدان، بيروت، در الأضواء، 1405 ه.

77- الكنى والألقاب، الشيخ عباس بن محمّد رضا القمّي (1294- 1351)، 3 مجلّدات، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1376 ه.

«ل»

78- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (م 711)، 15 مجلّداً، بيروت، دار صادر.

79- لسان الميزان، أبو الفضل أحمد بن علي بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852)، الطبعة الثالثة، 7 مجلّدات، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1406 ه.

«م»

80- مجمع البيان، أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548)، تحقيق الميرزا أبي الحسن الشعراني، الطبعة الخامسة، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، طهران، المكتبة الإسلامية، 1395 ه.

81- مجمع الرجال، زكي الدين المولى عناية اللَّه علي القهپائي، علّق عليه السيّد ضياء الدين، قم، مؤسسة إسماعيليان.

82- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، أحمد بن محمد المحقق الأردبيلي (م 993)، الطبعة الاولى، صدر منه 11 مجلّداً حتى الآن، قم، مؤسسة

ص: 191

النشر الإسلامي، 1402- 1414 ه.

83- المحاسن، أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م 274 أو 280)، تحقيق جلال الدين الحسيني، المحدّث الارموي، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب الإسلامية.

84- المحصول في علم اصول الفقه، فخرالدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (544- 606)، بيروت، دار الكتب العلمية، 1408 ه.

85- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، زين الدين علي بن أحمد العاملي، الشهيد الثاني (911- 965)، مجلّدان، قم، مكتبة بصيرتي.

86- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، المحدّث النوري (م 1320)، 3 مجلّدات، طهران، المكتبة الإسلامية، والنجف الأشرف، المكتبة العلمية، 1382 ه.

87- المستصفى من علم الاصول، أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (450- 505)، مجلّدان، قم، مطبعةدار الذخائر، 1368 ه. ش.

88- مستطرفات السرائر، أبو عبد اللَّه محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلّي (543- 598)، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، الطبعة الاولى، قم، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، 1408 ه.

89- مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، (1306- 1390)، الطبعة الخامسة، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1411 ه.

90- مسند أحمد، أحمد بن محمّد بن حنبل (164- 214)، 6 مجلّدات، مصر، المطبعة الميمنية، 1313 ه.

91- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، أبو الفضل علي الطبرسي (م أوائل القرن السابع)، الطبعة الثانية، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية، 1385 ه.

92- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمّد بن علي القيومي

ص: 192

(م 770)، جزء ان في مجلّد واحد، بيروت، دار الكتب العلمية، 1398 ه.

93- مصنفات الشيخ المفيد، أبو عبد اللَّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري (336- 413)، الطبعة الاولى، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، 1413 ه.

94- مطارح الأنظار، العلّامة أبو القاسم كلانتري (1236- 1316)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.

95- معارف الرجال في تراجم العلماء والادباء، الشيخ محمّد حرزالدين (1273- 1365)، علّق عليه محمّد حسين حرزالدين، 3 مجلّدات، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1405 ه.

96- معالم الدين وملاذ المجتهدين، أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959- 1011)، قم، منشورات الشريف الرضي.

97- معاني الأخبار، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1361.

98- معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، السيد أبو القاسم ابن السيد علي أكبر الموسوي الخوئي (1317- 1413)، الطبعة الثالثة، 23 مجلّداً، بيروت، دار الزهراء للطباعة والنشر، 1403 ه.

99- المعجم الكبير، الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260- 360)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1405 ه.

100- مفاتيح الاصول، السيد محمّد ابن آقا مير سيد علي السيد محمّد الطباطبائي (1180- 1242)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالاوفست عن طبعته الحجرية».

101- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة، السيد محمّد جواد الحسيني العاملي (م

ص: 193

حوالي 1227)، 10 مجلّدات، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالاوفست عن طبعته السابقة».

102- مفردات ألفاظ القرآن، أبو القاسم حسين بن محمّد بن المفضل الراغب الأصفهاني (م 503)، تحقيق نديم مرعشلي، دار الكتب الإسلامية، 1392 ه.

103- مقالات الاصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، (1278- 1361)، قم، مكتبة الكتبي النجفي.

104- المقنع، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، طهران وقم، المكتبة الإسلامية ومؤسسة المطبوعات الدينية، 1377 ه.

105- مقباس الهداية في علم الدراية، الشيخ عبد اللَّه بن محمّد حسن المامقاني (1290- 1351)، تحقيق محمّد رضا المامقاني، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1411 ه.

106- المكاسب، الشيخ مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214- 1281)، الطبعة الحجرية، تبريز، 1375 ه.

107- المكاسب والبيع، تقرير أبحاث الاستاذ الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (م 1355)، بقلم الشيخ محمّد تقي الآملي، جزء ان، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1413 ه.

108- مناهج الأحكام والاصول، المولى أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي (1185- 1245)، الطبعة الحجرية.

109- مناهج العقول، محمّد بن الحسن البدخشي (م 922)، المطبوع على «نهاية السُؤل»، لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي (م 772)، كلاهما شرح «منهاج الوصول في علم الاصول»، للقاضي البيضاوي (م 685)، الطبعة الاولى، 3 مجلّدات، بيروت، دار الكتاب العربي، 1405 ه.

ص: 194

* من لا يحضره الفقيه الفقيه.

110- منية الطالب «في شرح المكاسب»، الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري، تقريرات أبحاث استاذه آية اللَّه الشيخ محمّد حسين الغروي النائيني (م 1355)، مجلّدان، طهران والنجف الأشرف، المكتبة الحيدرية والمكتبة الرضوية.

111- منية المريد، زين الدين بن علي بن أحمد العاملي، الشهيد الثاني (911- 965)، تحقيق رضا المختاري، قم، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1409 ه.

«ن»

112- نقباء البشر، الشيخ محمّد محسن آقا بزرگ الطهراني (1293- 1389)، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي.

113- نوادر الراوندي، السيد فضل اللَّه بن علي الحسيني الراوندي (كان حياً في القرن الخامس)، ضمن «الفصول العشرة»، قم، مؤسسةدار الكتاب.

114- نهاية الأفكار، الشيخ محمّد تقي بن عبد الكريم البروجردي النجفي، تقريرات بحث استاذه آية اللَّه آغا ضياء الدين العراقي (م 1361)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ه.

115- نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (م 1361)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414 ه.

116- النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات مجدد الدين المبارك بن محمّد بن محمّد ابن الأثير الجزري (544- 606)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّدالطناحي، الطبعة الرابعة، 5 مجلّدات، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1363 ه. ش.

117- نهج البلاغة، أبو الحسن الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي

ص: 195

(359- 406)، تحقيق صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1395 ه.

«ه»

118- هداية الأبرار إلى طريقة الأئمة الأطهار، الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي (م 1076)، الطبعة الاولى، النجف الأشرف، 1396 ه.

«و»

119- الوافي، محمّد بن المرتضى المولى محسن، الفيض الكاشاني (1007- 1091)، 3 مجلّدات، طهران، المكتبة الإسلامية.

120- الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (م 764)، بيروت، دار صادر، 1411 ه.

121- الوافية في اصول الفقه، مولى عبد اللَّه بن محمّد البشروي الخراساني، الفاضل التوني (م 1071)، تحقيق السيد محمّد حسين الرضوي الكشميري، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1412 ه.

122- وسائل الشيعة «تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة»، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033- 1104)، 20 مجلّداً، طهران، المكتبة الإسلامية، 1383- 1389 ه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.