سرشناسه : بستانی ، محمود، 1937 - 2011م.
عنوان و نام پديدآور : التفسیر البنائی للقرآن الکریم / تالیف محمود البستانی .
مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی: موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث ، 1422 ق. = 1380 -
مشخصات ظاهری : 5 ج.
شابک : 20000 ریال : دوره 964-444-359-4 : ؛ دوره، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.1 964-444-364-0 : ؛ 750000 ریال : ج.1، چاپ دوم 978-964-444-364-0 : ؛ ج.2 964-444-365-9 : ؛ 750000 ریال : ج.2، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.3 964-444-366-7 : ؛ 750000 ریال : ج.3 (چاپ دوم) 978-964-444-359-6 : ؛ ج.4 964-444-367-5 : ؛ 800000 ریال : ج.4، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.5 964-444-368-3 : ؛ 520000 ریال : ج.5، چاپ دوم 978-964-444-359-6 :
يادداشت : عربی .
يادداشت : ج . 2 (1422ق . = 1380).
يادداشت : ج . 3 (چاپ اول: 1423ق .= 1381)
يادداشت : ج. 1 - 5 (چاپ دوم: 1440 ق. = 1397).
يادداشت : جلد اول تا پنجم این کتاب در سالهای1398- 1397 تجدید چاپ شده است.
يادداشت : ج.5 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.4 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.1 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.2 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.3 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.1-5( چاپ چهارم: 1401).
یادداشت : کتابنامه .
موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14
Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century
موضوع : قرآن -- مسائل ادبی
Qur'an as literature
شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی
شناسه افزوده : Islamic Research foundation
رده بندی کنگره : BP98 /ب 5ت 7 1380
رده بندی دیویی : 297/172
شماره کتابشناسی ملی : 613572
محرر الرقمي: میثم الحیدري
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 2
التفسیر البنائی للقرآن الکریم
تالیف محمود البستانی
بنیاد پژوهشهای اسلامی
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
قال تعالى بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ ، يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مٰا يَشٰاءُ ، إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاٰ مُمْسِكَ لَهٰا، وَ مٰا يُمْسِكْ فَلاٰ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ . اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ ، هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ ....
بهذا المقطع تفتح سورة الملائكة، حيث تتناول هذه البداية مجموعة (أفكار) تنسحب على موضوعات السورة لاحقا... و في مقدمة هذه الأفكار أو الفكر فكرة النعم التي أغدقها الله على عباده يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ، اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ . طبيعيا، ثمّة أفكار متنوعة أخرى قد تضمنها البداية المشار إليها، و منها: مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ مِنْ رَحْمَةٍ : فَلاٰ مُمْسِكَ لَهٰا، وَ مٰا يُمْسِكْ فَلاٰ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، و هذه الفكرة (رحمة اللّه تعالى) امتداد لفكرة (النعم) التي أشرنا إليها... هذا إلى أن هناك موضوعا خاصا طرحته السورة الكريمة في الآية الأولى وهو موضوع الملائكة التي جعلها الله تعالى (رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ : مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ ) ، حيث أن افتتاح السورة بمثل هذا الموضوع يترك عند المتلقّي أثرا له أهميته، وهو لفت النظر إلى إحدى الحقائق الإبداعية لله تعالى، متمثله في جعل العنصر الملائكي رسلا بين السماء و الأرص، مع التأكيد على كونها في جعل العنصر الملائكي رسلا بين السماء و الأرض مع التأكيد على كونها ذات أجنحة متنوعة، يمكن للمتلقي أن يستخلص من هذه الحقيقة الإبداعية حقائق أخرى ذات صلة بمفهوم (الرسل) بين السماء و الأرض، حث تتطلب مهمّة الرسو قوي خاصة تسمح لها بعملية الانتقال بين السماء و الأض، متمثلة في جعل (الأجنحة) لها.
ص: 7
و الآن، بعد أن لحظنا هذه البداية للسورة الكريمة، يجدر بنا متابعة موضوعاتها التي سوف ترتبط (عماريا) بالبداية المشار إليها... ولنقرأ:
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ . إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ ، فَلاٰ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا، وَ لاٰ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّمٰا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً، فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ ، فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ ، إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ .
المقطع الجديد يطرح موضوعات متنوعة، سوف ترتبط عضويا بفكرة (النعم) التي تضمنها المقطع الأول: كما سنري.. لكن، ينبغي أن نقف عند هذه الموضوعات الجديدة التي يستهدف المقطع توصيلها إلينا، وفي مقدمتها تكذيب الكفار لرسالة محمد (ص)، ومطالبته محمدا (ص) بألاّ تذهب نفسه عليهم حسرات، والتلويح لهم بالعذاب الأخروي الذي ينتظرهم ثم (وهذا هو الموضوع الأشد أهمية في المقطع) الإشارة إلى كون الشيطان عدوا، وضرورة أنّ يتخذه الناس بدورهم عدوّا: ما دام هدفه أن (يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)...
إن اتخاذنا الشيطان عدوّأ، يظل هو الخيار الوحيد الذي ينبغي أن يصدر المؤمن عنه في سلوكه الذي خلق اللّه تعالى الإنسان من أجله (أي: من أجل أن يختبره اللّه تعالى في الحياة الدنيا عبر ممارسته للمهمة العبادية)... وحينئذ، اذا كان هدف الشيطان هو تحقيق نزعته الساديّة (أي: التلذّذ بتعذيب الآخرين من خلال دعوته حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)...
عندها، يتعيّن على الشخصية أن تحدّد موقفها من العدو المذكور، وذلك بأن تتخذه عدوا أيضا، - حتي تقهره و تحجزه من أن يتلذذ بتعذيب
ص: 8
الآخرين... طبيعيا، أن هدف الشخصية أساس، هو. ممارسة المهمة العبادية، إلاّ أنّ تحقيق الهدف المذكور يتوقف على إزاحة الحاجز الذي يقف حياله، متمثلا في قوي الشيطان، كما لحظنا.
المهمّ - بعد ذلك، أن النص القرآني الكريم، ينتقل بعد هذا الطرح، إلى ربط السورة الكريمة، أي: (فكرتها) التي تحوم على موضوع (نعم الله) تعالى، مشيرا إلى إحدى الحقائق الإبداعية المتمثلة في نزول المطر وَ اَللّٰهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ ، فَتُثِيرُ سَحٰاباً، فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ ... إلخ محقّقا بهذه النقلة الفنية إحكام السورة الكريمة من حيث عمارتها المتلاحمة عضويا.
قال تعالى: وَ اَللّٰهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، كَذٰلِكَ اَلنُّشُورُ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً، إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ ، وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولٰئِكَ هُوَ يَبُورُ... .
في هذا المقطع من سورة الملائكة جملة من الحقائق، منها: الظاهرة الإبداعية «إرسال الرياح» وتسبيبها المطر وأحياؤه الأرض، وربط هذه الظاهرة باليوم الآخر، حيث وصل المقطع بين قدرته تعالى على إحياء الأرض الميتة وبين قدرته على إحياء البشر الميّت، فيما تظل هذه الإشارة إلى الانبعاث في اليوم الآخر تمهيدا فنّيا لموضوعات لاحقة سوف تتناول قضايا اليوم الآخر، كما سنري.
هنا، ينبغي الاّ نغفل عن العنصر (الصوري) في الآية الكريمة التي أشارت إلى إحياء الأرض بعد موتها، حيث يرمز الإحياء والموت إلى الجدب والخصب، وحيث جاء رمزا الإحياء والموت مرتبطين بموت الإنسان وإحيائه، فيما يفسّر لنا هذا الانتخاب الرمزي للإحياء و «الموت»، جانبا من الأسرار
ص: 9
الفنية في صياغة الصور «الرمزية» بدلا من الصور المباشرة..
بعد ذلك، نواجه الآية الأخرى التي تضمنها المقطع، فنجد أن عنصر الصورة الفنية، يكتسب بدوره دلالة عضوية تربط بين «الصور» وبين موضوعات السورة الكريمة... فقد استهدف النص توصيل حقائق جديدة عن العمل العبادي للإنسان مشيرا إلى أنّ من يريد العزّة في الدنيا و الآخرة فليتجه إلى طاعة الله تعالى، معقبا على ذلك بقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ ، وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ . فهنا نواجه صورا فنية تنتسب إلى «الرمز» أيضا، وهي رمزا «الصعود و الرفع: يصعد الكلم الطيب، و العمل الصالح يرفعه». إن «الكلمة الطيبة» بدورها تمثّل رمزا أو استعارة تشير إلى عبارات التقديس و الحمد لله، و الحصيلة لذلك كله، هي: انّ المقطع يستهدف توصيل الحقيقة القائلة: بأنّ تمجيد الله تعالى يجسّد مهمة عبادية للإنسان، و أن هذا العمل سوف يقترن بثمين الله تعالى و تقديره... لكن، ما ينبغي ملاحظته هو: ان تثمين اللّه و تقديره قد صاغه المقطع عبر صورتين رمزيتين - كما قلنا - و هما:
صعود الكلم الطيب، ورفع العمل الصالح، حيث ينبغي أن نقف عند هذين الرمزين لملاحظة علاقتهما بعمارة السورة الكريمة، ما دمنا أساسا نعني - في هذه الدراسات - بالهيكل البنائي للنص القرآني الكريم...
في تصورنا ألفنّي المحتمل: إن السورة الكريمة بدأت بقوله تعالى اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ . فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ ...
في حينه قلنا، أن استهلال السورة الكريمة بالإشارة إلى الملائكة وكونها ذات أجنحة: لا بدّ أن ينطوي على أسرار فنية نرتبط بموضوعات السورة لا حقا، و قلنا أيضا: إن كون الملائكة (رسلا) ينطلب رسمها أن تكون ذات تركيبة جسمية تتناسب مع مهمة الملائكة التي تنتقل بسرعة زمنية خاصة بين السماء و الأرض... و الآن، نواجه مستوي آخر من الأسرار الفنية لهذا الرسم
ص: 10
الملائكي الذي استهلت به السورة، حيث نواجه رمزين هما (الصعود) و (الرفع) أي عبارة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ ) وعبارة (اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ ) ... ألا يتداعي ذهن القاريء إلى الملائكة، تصعد بأعمال الإنسان إلى السماء، وترفع أعماله إليها؟؟. وكما رأينا تجانسا بين رمزي إحياء الأرض وموتها وبين موت الإنسان وإحيائه، كذلك، نجد الآن تجانسا بين (صعود الكلم الطيب، ورفع العمل - الصالح) و بين مهمة (الملائكة) التي تصعد بالعمل و ترفعه...
إذن، بهذا النمط من التجانس بين الصور أو الرموز الفنية و بين موضوعات السورة، يحقق النص، إمتاعا جماليا للقاريء، نستكشف من خلاله مدي إحكام العمارة القرآنية الكريمة: من حيث العلاقات المتشابكة بين موضوعاتها، بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه.
قال تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ ، وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْبَحْرٰانِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ سٰائِغٌ شَرٰابُهُ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ ، وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا، وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوٰاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ...
هذا المقطع من سورة الملائكة، يحوم على «فكرة» السورة الكريمة التي بدأت ب اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وأشارت إلى مفهوم (الرحمة) مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ مِنْ رَحْمَةٍ .. ، حيث أنّ الرحمة أو النعمة و الشكر عليها تظل هي «الفكرة» التي ستدور عليها موضوعات السورة الكريمة.. و ها هو المقطع الذي نتحدث عنه يشير إلى جملة من معطيات الله تعالى، و يختم بقوله تعالى. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ... إذن: من حيث عمارة النص، فإنّ
ص: 11
الموضوعات المطروحة قد ارتبطت عضويا بهيكل السورة، إمّا من حيت نمط الموضوعات المطروحة، فيلاحظ أن المقطع طرح جملة أفكار، منها. إبداعه تعالى للإنسان، وعلمه تعالى بما تحمل الأنثي وما تضع وبعمر الإنسان طولا أو قصرا، وتثبيت ذلك في اللوح المحفوظ... ومنها: الإشارة إلى نمطي الماء (العذب والمالح).. وسنري أنّ لهذه الإشارة بين الماءين انعكاساتها على الموضوعات اللاحقة في النص، ثم. الإشارة إلى الثروة المائية من حيث الإفادة من السمك و الإفادة من اللئالي، فضلا عن وسائل الركوب في الماء اَلْفُلْكَ والإفادة منها في الأعمال التجارية والأسفار وسواها... هذه النعم أو المعطيات المتنوعة، شملت نمطي الإشباع لحاجات الإنسان: الضرورية والثانوية (مثل الماء العذب والحليّ ) مثلما شملت حاجاته المتنوعة (من أكل وشرب وملبس ومركب - أي المطعم والماء والحليّ والفلك)... وكما قلنا، فإنّ المقطع القرآني الكريم و ظّف هذه المعطيات لهدف عبادي هو (الشكر) عليها، حيث ختم سلسلة المعطيات بقوله تعالى وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ حتى يرتبط هذا المقطع بالفكرة العامة للسورة الكريمة. مع ملاحظة أنّ مطالبته تعالى بالشكر جاءت عقب سرده للنعم التي ترتبط بحاجات الإنسان المباشرة:
كالأكل والشرب ونحوهما مما لحظناه حتّى يتبلور مفهوم النعمة والشكر عليها بوضوح سافر.
بعد ذلك، واصل المقطع حديثه عن ظواهر كونية عامة مثل يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ، وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ ، وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى... ثم ربط بين هذه الظواهر الإبداعية وبين الحياة الاجتماعية المنحرفة التي يحياها المشركون المعاصرن لرسالة محمد (ص)، قائلا: ذلكم اللّه ربّكم، له الملك، والذين تدعون من دونه، ما يملكون من قطمير ان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير يا أيّها الناس: أنتم الفقراء إلى
ص: 12
الله...). لنلاحظ (قبل أن نتحدّث عن الموضوعات التي تضمّنها هذا المقطع) كيف أنّ المقطع القرآني الكريم قد ربط فنيا بين حديثه عن معطيات اللّه تعالى والمطالبة بالشكر عليها، وبين سلوك المشركين الذين لا يفقهون المعطيات المشار إليها... فالمقطع أشار (بعد أن سرد قدرات الله تعالى ومعطياته) إلى أن صاحب القدرات والمعطيات هو ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ ، و أما الأصنام أو سائر ما يدعو المشركون إليه من دون اللّه تعالى، فهم مٰا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي.
ما يملكون أية فاعلية حتى لو كانت بحجم قشرة النّواة... إنّ هذا التشبيه أو التمثيل يظل تركيبة صورية بالغة الإثارة والجمال من حيث ارتكانها إلى واقع حسّي يخبره الناس جميعا، و من حيث كونها قد لفتت نظر المتلقي إلى أصغر أو أبسط ظاهرة مثل (قشرة النواة) لا تستطيع الأصنام أو لا تملك الأصنام قدرة على تحقيق ذلك، أو ليست للأصنام حتى تملّك هذا القدر البسيط من الظواهر: قبالة قدرات الله تعالى فيما يملك الكون بأجمعه... لذلك ختم المقطع حديثه بقوله تعالى: أَيُّهَا اَلنّٰاسُ : أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ ... . وبهذا النمط من الصياغة الفنية. ربط المقطع أولا بين سلوك المشركين و بين قدرات اللّه تعالى من خلال التقابل بين من يملك الكون، وبين من لا يملك قشرة نواة، وربط المقطع ثانيا بين هذه الموضوعات وبين فكرة السورة الكريمة التي تدور حول معطيات اللّه تعالى والشكر عليها، كاشفا بهذا النمط من أشكال الربط الفنّي بين الموضوعات عن مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة أجزائه: بعضها على الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ، وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىٰ حِمْلِهٰا لاٰ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ ، إِنَّمٰا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ، وَ مَنْ تَزَكّٰى فَإِنَّمٰا يَتَزَكّٰى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ وَ مٰا يَسْتَوِي
ص: 13
اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ... .
في هذا المقطع من سورة الملائكة، - جملة من الموضوعات، كما أنه يتضمن حشدا من الصور الرمزية المدهشة، فيما يتعين الوقوف عندها:
لملاحظتها فنيا، وملاحظة موقعها الهندسي من عمارة السورة الكريمة... أما الموضوعات فتتناول ظاهرة تحمّل المسؤولية و انعكاساتها أخرويا، حيث يطرح المقطع قضية الذنوب التي يقترفها الإنسان، وكونه يتحمّلها وحده، دون أن يؤخذ بذنب سواه أو يؤخذ الآخر بذنبه. حتى مع كون الآخر على صلة قريبة به... ومن الواضح، أنّ المقطع يستهدف من طرحه لهذه الظاهرة حقيقة مزدوجة هي. أنّ كل شخص مسؤول عن نفسه من جانب، وأن الآخرين ليسوا على استعداد لتحمّل مسؤوليته: عند الحساب من جانب آخر.
بعد ذلك، يخاطب المقطع رسول اللّه (ص) قائلا: إِنَّمٰا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ، وَ مَنْ تَزَكّٰى فَإِنَّمٰا يَتَزَكّٰى لِنَفْسِهِ ، وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ . إنّ إشارة النص إلى أنه (ص) ينذر الذين يخشون ربّهم بالغيب، تظل ذات صلة بمجموعة الصور الرمزية التي أعقبت هذه الإشارة...
إذن، لنقرأ أولا: وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ .
إنّ كلا من الأعمي و البصير، و الظلمات والنور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات إلخ تشكّل رموزا أو تشبيهات أو استعارات صيغت وفق طابع استدلالي أو حكمي، لذلك اكتسب أهمية فنية كبيرة من خلال كونها ذات عناصر متنوعة من الصياغة، فهناك عنصر (التكرار)، أي تكرار التشبيهات
ص: 14
أو الرموز المتنوّعة (اَلْأَعْمىٰ ، اَلظُّلُمٰاتُ ، اَلْحَرُورُ ، اَلْأَمْوٰاتُ ... إلخ).
وهناك ثانيا عنصر (التقابل) بين الرموز، حيث تقابلت الرموز المذكورة مع رموز (البصير، النور، الظل، الأحياء).
و من الواضح، أنّ عنصر (التكرار) وحده يساهم في تعميق خبرة المتلقي، فإذا أضفنا إليه عنصر (التقابل) أو التضاد بين الأشياء، حينئذ تتعمّق خبرة المتلقي بنحو أكثر طالما نعرف أنّ الأشياء تتبلور من خلال أضدادها، فإذا أضفنا إلى ذلك، عنصرا ثالثا هو: صياغة الموضوعات من خلال التركيب الصوري (تشبيه، استعارة، رمز)، حينئذ تتضخم درجة التعميق لخبرة المتلقي، ثم إذا أضفنا إلى ذلك: عنصرا رابعا هو: صياغة هذه الصور على نحو استدلالي أو حكمي مثل (وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ .. إلخ) حينئذ تبلغ الإثارة الفنية درجتها القصوي في صعيد التعميق لخبرة المتلقي...
إذن، نحن الآن أمام صور فنية، مدهشة، مثيرة، ذات عمق و طرافة، مضافا إلى كونها صورا تستقي من التجارب أو الظواهر اليومية التي يخبرها الرجل العادي، مثل الأعمي و البصير و الظلمات و النور و الظل و الحرور و الأموات والأحياء إلخ، حيث أنّ ألفتنا لهذه التجارب التي نواجهها يوميا، يكسب الصورة مزيدا من التعميق في إدراكها و معايشتها، فإذا أضفنا إلى ذلك:
عنصرا سادسا هو أنّ لكل واحد من هذه الرموز دلالة خاصة (بالرغم من كونها تبدو و كأنها متماثلة): حينئذ يدرك المتلقي أنه أمام صياغة فنية ذات طابع إعجاري: كما سنوضح ذلك لاحقا...
لكن، حسبنا الآن أن نشير إلى هذه السمات المجملة للصور المذكورة، مع ملاحظة جانب كبير من الأهمية هو: أنّ هذه الصورة الفنية جاءت متلاحمة عضويا مع (الفكرة) التي يحوم عليها النص، حيث استهدف المقطع ؟ القرآني الكريم: التأكيد على أنّ إنذار المنحرفين يشكل وظيفة للمبلغ الإسلامي، أمّا
ص: 15
أنّ المنحرفين سوف يعتبرون بهذا الإنذار أو سوف يعرضون عنه: فأمر آخر حسب ما جاء في الآية التي سبقت هذه الصور إِنَّمٰا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ... وهذا النحو من التواشج العضوي بين عنصر «الصورة» و موضوعات النص، يكشف عن الإحكام البالغ العمارة السورة الكريمة، بالنحو لذي أوضحناه.
قال تعالى. وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ .
هذه القيمة الفنية التي نطلق عليها مصطلح (الصورة الاستدلالية) مقابل الصورة التشبيهية والاستعارية والرمزية وسواها، تطل من الصور المدهشة التي تواجهنا في الفن المعجز... أنّها تتحديث عن المؤمن والكافر، تتحدث عن النموذج الذي يحمل استعدادا لتقبل الحق والخير والإيمان مقابل نموذج آخر قد طبع على قلبه فلا يتقبل الكلمة الخيّرة... وهذان النمطان المتقابلان قد صوّرهما النص القرآني الكريم في صيغ ذات عنصر تشبيهي واستعاري ورمزي.
مع إكسابها طابعا استدلاليا أو حكميا مثل النماذج المتقدمة (النور مقابل الظلمات) الظل مقابل الحرور) (البصير مقابل الأعمي) (و الأحياء مقابل الأموات). ومن الواضح أنّ النص القرآني لا يستخدم - كما هو طابع الفن البشري - عنصر التكرار أو الكلام الزائد أو المترادف بل تظل كل صورة ذات دلالة مستقلة عن الأخرى.
ويمكن ملاحظة هذا التنوع الفنّي في الصور المشار إليها، عندما نواجه أولا الصورة القائلة وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ فقد رمز للكافر أو المنحرف بعامة ب (اَلْأَعْمىٰ ) ورمز لمقابله ب (اَلْبَصِيرُ) ... والسر الفني لهذا
ص: 16
الرمز الاستدلالي أنّ النص في صدد تبيين من يتقبل توصيات النبيّ (ص) و إنذاراته مقابل من يتمرّد عليها، لذلك كان الرمز للأول منهما بعبارة (اَلْبَصِيرُ) مقابل (اَلْأَعْمىٰ ) متجانسا مع طبيعة المستجيب للرسالة مقابل المتمرد عليها، لأنّ «البصير» يبصر الحقائق فيتقبلها والأعمي لا يبصرها فيتمرد عليها.. بعد ذلك نجد رمزا استدلاليا آخر هو (وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ) ، فالظلمات ترمز إلى الانحراف و الكفر، و النور يرمز إلى الاستواء و الإيمان... لذلك (من حيث المبني الهندسي لهذه الصورة) جاءت صورة (الظلمات و النور) استكمالا لصورة (اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ) نظرا لعلاقة (البصر) بالنور، و علاقة العمي بالظلام... ثم جاءت صورة ثالثة هي (وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ) ... هنا قد نتساءل: ما هي العلاقة العضوية بين الصورة الأخيرة والصورة السابقة ؟ أنّ (اَلظِّلُّ ) يستريح إليه الإنسان و يحقق له إشباعا من جانب و اجتنابا من الألم من جانب آخر، أي (ألم الحرّ)، و يقابله (اَلْحَرُورُ) الذي يسبب الألم للإنسان...
وفي ضوء هذه الحقيقة يستطيع المتلقي أن يستكشف بسرعة: أنّ الإيمان و الكفر يتقابلان في مستويات متنوعة: ماديا و روحيا، فهناك (اَلنُّورُ) مقابل (الظلام) حيث يرمزان إلى حقائق مادية.. والأن، بعد أن انتهى النص من تقرير هذه الحقائق التي بدأها أولا برسم (اَلْبَصِيرُ و اَلْأَعْمىٰ )، ختم الصور المذكورة بصورة هي وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ .
هذه الصورة التي ختم بها المقطع الصوري المشار إليه، تنطوي علي أسرار فنية مدهشة لا بد من الوقوف عندها.. لكن - قبل ذلك - ينبغي أن نعرض لموقعها الهندسي من الصور السابقة عليها... فالملاحظ أنّ صورة وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ قد صيغت بعبارة مماثلة للصورة الأولي وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ أي: الصورة الأولي و الصورة الأخيرة تماثلتا في الصياغة من خلال عبارة (وَ مٰا يَسْتَوِي) ... بينما نجد أنّ الصورتين اللتين
ص: 17
جاءتا في الوسط وهما وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ قد صيغتا بعبارة أخرى هي (و لا)... لذلك لا بد أن نستكشف هذا السر الفني للصياغتين المختلفتين المشار إليهما، و أول ما يمكن ملاحظته هنا، أنّ الصورتين الأولي و الأخيرة جاءتا مفصلتين لحقائق الوعي و الاستبصار و الإدراك بينما جاءت صورة النور و الظلمات وصورة الظل والحرور مفصلتين لحقائق روحية و مادية تتصل بمعطيات الإيمان و الكفر، و هذا ما جعل الصور ذات الطابع المرتبط بالوعي مشفوعة بعبارة مٰا يَسْتَوِي : تفصيلا لهذه الحقيقه التي تستهدف الإشارة إلي من يتقبل الإسلام مقابل من تمرد عليه، بينما جاءت الصور ذات المعطي المادي والروحي غير مشفوعة بعبارة الاستواء بل بمجرد الأداة النافية (و لا).
و لا شك، أنّ النص عندما استهدف ربط من يتقبل أو يرفض مباديء الإسلام برمزي البصير و الأعمي، ثم برمزي (الأحياء و الأموات) إنّما جعلهما - من خلال (بداية) و (نهاية) - تتواشجان فيما بينهما بنحو يكشف لنا عن مدي الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه، وبالنحو الذي سنوضحه لا حقا إن شاء الله تعالي..
***
قال تعالى وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلاّٰ نَذِيرٌ... .
تحدثنا عن الأسرار الفنية للصورة التشبيهية و الاستعارية و الرمزية (للأعمي) مقابل (البصير)، و الظلمات مقابل النور و «الحرور مقابل الظل»، و علاقتها العضوية بفكرة السورة الكريمة. أما الآن فنتحدث عن الصورة الأخيرة التي ختم بها العنصر الصوري من المقطع، و نعني بها صورة وَ مٰا
ص: 18
يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ... هذه الصورة الرمزية (أي عدم استواء الأحياء - وهو رمز للمؤمنين - مع الأموات - وهو رمز، للمنحرفين) تظل محتشدة بأسرار و وظائف فنية متنوعة، منها ما هو مرتبط بالصور السابقة (حيث أوضحناها في حينه) و منها: ما هو مرتبط بفكرة النص، و منها ما هو مستقل في ذاته...
وهذا الجانب الأخير يمكن ملاحظته من خلال صور أخرى قد شكلت مع صورة (الأحياء و الأموات) صورة موحدة استمرارية، حيث عقب النص علي ذلك بقوله - مخاطبا لنبي (ص) إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلاّٰ نَذِيرٌ . هذه الصورة موحدة ذات طابع استدلالي بشير إلي أنّ من يضمّه القبر لا يسمع أصوات الآخرين... تري: ما هو السر الفني لهذه الصورة الاستدلالية وما تنطوي عليه من الرموز؟. طبيعيا، ما دام المقطع القرآني الكريم قد أوضح أولا بأنه وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ حينئذ فإنّ الحيّ والميت - وهما رمزان للمؤمن و المنحرف كما قلنا أو هما رمز للواعي وعديم الوعي، سوف يعقبها كلام صوري يتناسب مع دلالات هذين الرمزين، لذلك جاء الكلام بأنّه إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ فالرمز أو الاستدلال الرمزي الذي يتوكأ علي ظاهر ظاهرة (الإسماع) جاء متجانسا مع رمزي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ طالما ندرك بأنّ الميت لا يسمع أصوات الأخرين، ولا يعي شيئا من أقوالهم، ثم، بما أنّ مهمة التبليغ تعتمد علي الكلام، حينئذ فلا بدّ من مجيء الرمز متوكئا علي ما له ارتباط بإسماع الكلام.
ومن هنا جاءت ظاهرة (الإسماع) تفسّر لنا السر الفني وراء انتخابها رمزا محددا دون سواها من الرموز، وإلاّ كان من الممكن أن يقول النص بأنّ أهل القبور لا (وعي) لديهم، و لكنه استخدم (السمع) بدلا من الوعي للسبب المتقدم. وأما رمز (القبور) فمن الوضوح بمكان، حيث أنّ (الميت) الذي لا
ص: 19
يسمع شيئا هو من يضمّه (القبر) دون سواه من الأمكنة كما هو بين، بيد أن الأهم من ذلك كله، أن هذه الرموز (الميت) (عدم الإسماع) (القبر) جاءت الأهم من ذلك كله، أن هذه الرموز (الميت) (عدم الإسماع) (القبر) جاءت ذات طابع استدلالي و ليس مجرد صور رمزية، بصفة أن النبيّ (ص) كان مضطلعا بإيصال الرسالة إلي الآخرين، وبما أن الآخرين (و هم طائفة من المنحرفين) لم يستجيبوا للرسالة، حينئذ جاء الاستدلال الصوري مسوّغا لهذا النمط من الصياغة التي تقول (مخاطبة النبيّ (ص) إنك نذير فحسب، وأن اللّه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء تبعا للاختيار الذي يملكه الشخص من تقبّل الخير و رفضه، و إنّك لا يمكن أن تسمع من يستقر في (القبر): نظرا نكونه ميتّا... طبيعيا، أن النص القرآني لا يتحدث بهذا التفصيل، بل يعتمد الاقتصاد اللغوي في رسم هذه الحقائق، تاركا القاريء أن يستوحي بنفسه هذه الدلالات، وهو سمة الفن العظيم.. فهو بدلا من أن يقول (إنك لا تسمع الموتي - كما استخدم هذه الصورة في موقع آخر) قال إنك لست بمسمع من في القبور أي جاء برمز القبر بدلا من الميت لأنه سبق أن قال (وما يستوي الأحياء و لا الأموات) و حينئذ جاء رمزا آخر لا يحمل سمة التكرار، فضلا عن كونه ذا دلالة غنيّة وطريفة، والأهم أيضا، أن هذه الصور جاءت في سياق الحديث عن كون النبيّ (ص) (نذيرا) للآخرين، حيث سبقتها عبارة تقول (إنما تندر الذين يخشون ربهم) وختمت بعبارة إِنْ أَنْتَ إِلاّٰ نَذِيرٌ . و هذه البداية والنهاية وما انتظمها من الوسط المرتبط بها، يكشف عن مدي الأحكام الهندسي للنص من حيث علاقة الموضوعات بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه
قال تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ ثَمَرٰاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهٰا، وَ مِنَ اَلْجِبٰالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهٰا وَ غَرٰابِيبُ سُودٌ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ
ص: 20
وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعٰامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ ، كَذٰلِكَ إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ ، إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ... .
هذا المقطع يتحدث عن جملة من الظواهر الإبداعية التي تعدّ امتدادا لما سبقها: حيث اختتمت السورة الكريمة بجملة من الظواهر الإبداعية للّه تعالى، وحيث جاء الوسط من السورة يواصل الحديث عنها، ومنها. هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن... طبيعيا، أن الهدف الفكري من رسم هذه الظواهر هو ربطها بالمهمة العبادية للإنسان، والمطالبة بالشكر عليها، لكن بما أنّ الناس على مستويات مختلفة من الإفادة من هذا التذكير لهم بمعطيات اللّه تعالى، حينئذ نجد أن النص القرآني الكريم يرسم هذه الظواهر ليربطها بسلوك الإنسان عباديا، فيعرض حينا للمنحرفين و أخرى للمؤمنين و الثالثة للمتراوحين بين هذا الفريق أو ذاك... والآن، لنقف عند هذه الظواهر الإبداعية و ملاحظة ربطها بسلوك الناس... يقول النص.
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً ، فَأَخْرَجْنٰا بِهِ ثَمَرٰاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهٰا... . لقد سبق للسورة الكريمة أن أشارت إلى معطي (المطر) أيضا، إلاّ أن الإشارة هناك كانت في سياق خاص هو ربط المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها بعملية إحياء الإنسان بعد موته في اليوم الأخر (فأحيينا به الأرض بعد موتها: كذلك النشور)، أمّا الآن، فإنّ النص عندما يرسم ظاهرة المطر فإنّه يرسمها في سياق جديد هو: تسبيبه لإخراج الثمرات المختلفة (فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها). إذن، جاء (عنصر التكرار) - من زاوية البناء الفنّي لهيكل السورة الكريمة - يحمل وظيفة عضوية هي. ربط الموضوعات بعضها مع الآخر. مع تأكيد على ظاهرة دون أخرى، حتى يلفت النظر إلى أهمية الظاهرة التي يكرر الحديث عنها، ومنها: ظاهرة المطر التي تحمل معطيات متنوعة... بعد ذلك: يتجه المقطع القرآني الكريم إلى عرض معطيات أخرى
ص: 21
هي (الجبال) فيقول: وَ مِنَ اَلْجِبٰالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهٰا، وَ غَرٰابِيبُ سُودٌ ثم يذكر معطيات أخرى غير ما تقدّم فيقول: (و من الناس و الدواب و الأنعام مختلف ألوانه)... فالملاحظ (من الزاوية الفنية) أن الرسم لهذه المعطيات قد تمّ من خلال عنصر مشترك بينها هو (اختلاف الألوان)، فالثمرات التي يسبّبها المطر، رسمها النص بقوله (ثمرات مختلقا ألوانها)، و الجبال قد رسمها بقوله: (... و حمر مختلف ألوانها)، والناس و الدواب و الأنعام، رسمها النص بقوله (.. و الأنعام مختلف الألوان).
إذن، عبارة (مختلف ألوانه)، جاءت عنصرا مشركا يتكرر في هذا المقطع الذي يتحدث عن معطيات اللّه تعالى في صعيد الثمرات و الجبال و الناس و الدواب و الأنعام... وما دمنا (في هذه الدراسات) نعني ببناء السورة القرآنية من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر، حينئذ ينبغي ألاّ نمرّ عابرا على هذه الظاهرة الجمالية التي أشرنا إليها، و نعني بها: هذا الرسم الفنّي للظواهر الإبداعية (الثمرات، الجبال، الدواب، الأنعام... إلخ) حيث ربط المقطع بينها جميعا، من خلال إخضاعها لعنصر مشترك يوحّد بين موضوعاتها، و هو عنصر: (اختلاف الألوان) الذي يطبعها جميعا...
إنّ (اختلاف الألوان) ظاهرة (جمالية دون ادني شك، فالثمرات بألوانها المتنوعة، والجبال بألوانها: البيض، و الحمر، و السود، ثم: الناس والدواب و الأنعام بمختلف ألوانها، يشكل ظواهر (جمالية) من حيث الإشباع الحسّي لأحد الدوافع المركبة في الإنسان وهو: الدافع أو الحاجة إلى الجمال»...
إلاّ أنّ هذا الدافع أو الحاجة لا فاعلية له إلاّ من خلال كونه وسيلة يستثمرها الإنسان لتحقيق المهمة العبادية، ولذلك ربط المقطع القرآني الكريم بين هذه الظواهر الجمالية و بين المهمة العبادية للإنسان، حينما عقبّ على ذلك مباشرة بقوله تعالى إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ . وبهذا الربط، نستكشف مدي
ص: 22
الإحكام العضوي لعمارة السورة الكريمة من حيث علاقة موضوعاتها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قلتا إنّ الهدف الفكري لرسم الظواهر الإبداعية مثل الثمرات و الجبال و الناس الدواب و الأنعام هو ربطها بالمهمة العبادية للإنسان، لذلك، ما أن انتهى المقطع القرآني الكريم من عرضه لهذه الظواهر حتى وصلها بقوله تعالى:
كَذٰلِكَ إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ ... طبيعيا، أنّ (اختلاف الألوان) التي أشار المقطع إلى تحققها في الثمرات و الجبال و الناس و الدواب و الأنعام، بالرغم من كونها ذات سمة جمالية تحقق واحدة من حاجات الإنسان الذوقية، إلاّ أنّها - في الآن ذاته - تنطوي هذه الألوان على معطيات ضرورية تتصل بطعام الإنسان و ملبسه و مركبه ومسكنه و سائر الحاجات الضرورية و الثانوية، فالثمرات (ذات الألوان المختلفة) هي في الآن ذاته ذات عناصر غذائية، والأنعام (ذات الألوان المختلفة) تنطوي على نفس المعطيات، و الدواب ذات الألوان المختلفة) تنطوي على معطيات الركوب و الحمل وسواهما...
و الجبال (ذات الألوان المختلفة) تنطوي على أحجار ثمينة تستخدم لأغراض جمالية، فضلا عن أحجارها و صخورها المستخدمة للبناء و سواه... أمّا الناس «في مختلف ألوانهم»، فإنّ معطياتهم لا تحتاج إلى تعقيب، ما دامت «العلاقات الاجتماعية» بما يواكبها من تبادل المصالح تجسّد المعطيات المذكورة. إذن: الحاجات الجمالية والحاجات الرئيسة - و هما قمة الإشباع الذي ينشده الإنسان - قد توفرت في تلكم المعطيات التي عرضها المقطع القرآني الكريم... و حيال مثل هذه المعطيات الضخمة ينبغي أن تكون استجابة الإنسان ضخمة أيضا، وهو أمر لا يعيه الإنسان العادي بقدر ما يعيه الإنسان المستبصر.
ص: 23
لذلك، عقّب المقطع القرآني الكريم على هذا الجانب بقوله تعالى:
إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ ، حيث أشار إلى (العلماء) دون سائر الناس بأنّهم يخشون اللّه تعالى نظرا لكونهم يعون كل الوعي ضخامة هذه المعطيات، وهن ثم يدركون تماما بأنّ الظواهر الإبداعية المشار إليها، ينبغي أن تقرن بإدراك السر العبادي لها، و هو. تجسيد خلافة الناس في الأرض أي. أن يلتزم الإنسان بمبادي اللّه تعالى، ممارسا مهمته العبادية التي خلق من أجلها أساسا... لذلك أيضا، نجد أنّ النص القرآني الكريم، يتابع حديثه عن الشخصيات التي أدركت مهمّتها العبادية، فيعرض لبعض سماتها، قائلا: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتٰابَ اَللّٰهِ ، وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ، وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً ، يَرْجُونَ تِجٰارَةً لَنْ تَبُورَ.. . ثم يعرض مستويات الإيمان لدى مختلف الشخوص، فيقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا، فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ... .
هذا التقسيم لطبقات الناس يكشف عن درجات الوعي العبادي لدى هذا الشخص أو ذاك، أي: مستوياتهم العليا و الوسطي والدنيا، فإذا ربطنا ذلك بالعبارة السابقة التي تقول: إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ حينئذ نستكشف السر الفني الكامن وراء العرض للظواهر الإبداعية (الثمرات، الجمال... إلخ)، حيث تتحدّد مستويات الناس تبعا لدرجة وعيهم العبادي بضخامة المعطيات التي يغدقها الله تعالى على عباده، ثم استكناه السر العبادي وراء ذلك، حيث تتصاعد درجة الإيمان باللّه تعالى تبعا لحجم الوعي الذي يصدر عن هذا الشخص أو ذاك، ومن ثم تتصاعد درجة (الخشية) من الله تعالى تبعا لضخامة الوعي بمعطياته تعالى، ويلاحظ، أنّ النص القرآني الكريم قد لوّح بالجزاء الأخروي للمؤمنين الذين تقدمت الإشارة إليهم قائلا:
جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا، يُحَلَّوْنَ فِيهٰا مِنْ أَسٰاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبٰاسُهُمْ فِيهٰا حَرِيرٌ
ص: 24
وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنٰا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اَلَّذِي أَحَلَّنٰا دٰارَ اَلْمُقٰامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ، لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا نَصَبٌ وَ لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا لُغُوبٌ . إن هذه الملامح التي رسمها النص (بالنسبة لبيئة الحنة) تتناسب فنيا مع الحاجات الجمالية التي عرضها (بالنسبة لبيئة الحياة الدنيا): من حيث تنوّعها وضخامة معطياتها، كما سنوضح ذلك لا حقا، مما يكشف ذلك عن مدي الإحكام الهندسي للنص: من حيث تلاحم جزئياته، بعضها عن الآخر بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى. قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ ، أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً، فَهُمْ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْهُ ، بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّٰالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّٰ غُرُوراً إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ، وَ لَئِنْ زٰالَتٰا إِنْ أَمْسَكَهُمٰا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً... .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة الملائكة التي استهلّت بالحديث عن فاطر السماوات والأرض، وإنّه مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاٰ مُمْسِكَ لَهٰا وَ مٰا يُمْسِكْ فَلاٰ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ... ، وها هي السورة الكريمة تختم بنفس الموضوع الذي استهلت به، حيث يقول المقطع إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ، وَ لَئِنْ زٰالَتٰا إِنْ أَمْسَكَهُمٰا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ...
لنلاحظ كيف أنّ السورة بدأت بالحديث عن السماوات والأرض و أنّ الله إذا أمسك فلا مرسل من بعده، وإن فتح فلا ممسك لها، حيث تطوّرت هذه الفكرة وتنامت عضويا خلاق الموضوعات المتنوعة، حتى تختم بفكرة الإمساك نفسها، ولكن من خلال مفهوم العطاء أو الرحمة التي عرض النص القرآني جملة من مصاديقها مثل: المطر والنبات والجبال والدواب
ص: 25
و الأنعام... إلخ، ومن جملتها أيضا ظاهرة المساوات الأرض التي فطرها، حيث تنطوي هذه الظاهرة على معطيات الله تعالى أيضا، ولذلك الحديث عن المعطيات بقول تعالى إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ، وَ لَئِنْ زٰالَتٰا إِنْ أَمْسَكَهُمٰا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً... إنّ عطاء السماوات و الأرض يتمثل في ثباتهما الذي لولاه لما اتيح للكائن الآدمي أنّ يستقر في الأرض... و المهم - بعد ذلك - أن يفيد الإنسان من هذا المعطي وسواه من المعطيات التي تقدم ذكرها في السورة الكريمة، حتى يستثمر ذلك عباديا، و يمارس مهمته الخلافية في الأرض... لذلك، اتجه النص القرآني الكريم إلى عرض سلوك المنحرفين الذين لم يفقهوا هذه الأسرار العبادية، و لفت نظرهم إلى بعض أنماط سلوكهم، فيما يتنافي مع حقائق الكون الذي أبدعه الله تعالى حيث تساءل قائلا أَ رَأَيْتُمْ شُرَكٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ؟ . إنّ النص القرآني الذي ركز على ظاهرة السماوات و الأرض، ثم على خلق اللّه تعالى، قد ربط بينها وبين موقف المشركين الذين يدعون من دون الله تعالى، قائلا لهم:
أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ . وبهذا الربط، ندرك بوضوح مدي الإحكام الهندسي للنص.
ص: 26
ص: 27
ص: 28
قال تعالى يس، وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقٰانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَ جَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ . .
بهذا المقطع تفتتح سورة ياسين، حيث تناول هذا المقطع موضوعا هو «إنذار» المنحرفين لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ ، مع ملاحظة أنّ هؤلاء المنحرفين سوف لن يعتبروا بالإنذار وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ...
إذن، من حيث العمارة الفنية للسورة الكريمة، نجد أنّ العنصر القصصي وغيره قد وظف من أجل إنارة «الفكرة» التي تحوم عليها السورة الكريمة، أي:
فكرة أنّ المنحرفين (في صعيد أحد المجتمعات المحلية) سوف لن يؤمنوا برسالة السماء، لكن، قبل أن نتحدث عن القصة المشار إليها، وعلاقتها بعمارة السورة الكريمة بشكل مفصل، ينبغي أن نعرض للعناصر الفنية الأخرى التي تضمنها هذا المقطع الذي استهل به النص، ولعل أبرز العناصر الفنية التي تواجهنا في هذه المقدمة، هو: عنصر «الصورة» حيث نواجه مجموعة من الصور الاستعارية و الرمزية التي رسمها المقطع في رصده لسمات المنحرفين وما يترتب على انحرافاتهم من الجزاءات التي تنتظرهم...
الصورة الفنية التي رسمت ملامح هؤلاء المنحرفين هي إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً، فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقٰانِ ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَ جَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ . هذه الصور قد تكون «واقعية»
ص: 29
وقد تكون «رمزية»، وفي الحالين؛ الصورة الواقعية تتمثل في كون المنحرفين في اليوم الآخر تجعل الأغلال في أعناقهم وتشد بها أذقانهم، فترفع رؤوسهم إلى الأعلى كالإبل بحيث لا يملكون حراكا لرؤوسهم: امعانا في العذاب، كما أنّهم حينما يدخلون جهنم تجعل أمامهم السدود كما تجعل من خلفهم بحيث لا يملكون حراكا لأنفسهم. إمعانا في العذاب... وهناك صورة «واقعية» أخرى أشار المفسرون إليها أيضا وهي أنّ هؤلاء المنحرفين قد تدخلت السماء في سلوكهم عندما قرّروا إيذاء النبيّ (ص) مثل إلقاء الحجر عليه أو ضربه إلخ، حيث جعل الله تعالى في أعناقهم أغلالا، وسمر رؤوسهم، وجعل السدود أمامهم وخلفهم، حتى يشلهم عن الحركة تماما...
أما التفسير الثالث لهذه الصور فيتمثل في كونها «رموزا» فنية تشير إلى أنّ الأغلال والسدود وهي حواجز معنوية تحتجز عن الهداية، ويكون تسمر الرؤوس وشد الأعناق إلى الأذقان بواسطة الأغلال: تعبيرا رمزيا عن خواء الأفكار وتحجّرها، ويكون السد من بين أيديهم و من خلفهم: تعبيرا رمزيا عن عدم إمكان استبصارهم ذات يوم حيث تحتجزهم السدود عن معاينة الهداية... ونحن إذا نظرنا إلى سياق الموضوعات التي تتضمنها السورة الكريمة، أمكننا أن نلحظها متجانسة مع جميع التفسيرات المشار إليها، حيث أنّ تفسيرها في ضوء الجزاء الأخروي يتجانس مع نهاية المقطع الذي يقول:
إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ ، وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ ، كما أنّ تفسيرها في ضوء الانغلاق الفكري والروحي الذي يطبع المنحرفين يتجانس مع وصف المقطع لهؤلاء الشخوص الذين قال عنهم سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ، حيث أن عدم هدايتهم البتة يتجانس مع الصورة الرمزية التي أشارت إلى الأغلال والسدود: بصفة أنّها (أي الأغلال والسدود) رموز لإغلال الفكر وسدوده.
إذن، في الحالات جميعا، نجد أنفسنا أمام صور فنيّة وظفها النص
ص: 30
لإنارة (فكرة) - خاصة هي: أنّ المنحرفين (في بعض نمادجهم) لا يمكن أن يهتدوا ذات يوم، كما سنجد أنّ عنصر (القصة) يتآزر مع عنصر (الصورة) في إنارة هذه الفكرة: حيث سنواجه بعد هذا المقطع قصة ممتعة تتحدث عن مجتمع بأنّه أرسل إليه أكثر من رسول، و مع ذلك لم يوفق إلى الإيمان...
و هذا النمط من التآزر بين عناصر النص والقصة والصورة ثم تآزر هذه العناصر جميعا مع موضوعات السورة الكريمة، يكشف عن مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث تلاحم أجزائه بعضها مع الآخر.
قال تعالى وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً: أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ ، إِذْ جٰاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ ، فَقٰالُوا إِنّٰا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قٰالُوا مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا وَ مٰا أَنْزَلَ اَلرَّحْمٰنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَكْذِبُونَ قٰالُوا رَبُّنٰا يَعْلَمُ إِنّٰا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ مٰا عَلَيْنٰا إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ قٰالُوا إِنّٰا تَطَيَّرْنٰا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ قٰالُوا طٰائِرُكُمْ مَعَكُمْ ، أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ... .
نواجه الآن أقصوصة في سورة ياسين التي افتتحت بالحديث عن المنحرفين الذين لا أمل في إصلاحهم، حيث جاء في آخر المقطع الافتتاحي قوله تعالى. وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ . هذه الآية تحمل وظيفة فنيّة هي إنماء وتطوير الموضوعات اللاحقة في السورة...
وفعلا، نواجه في المقطع الثاني من السورة هذه الأقصوصة التي تحوم على (فكرة) هي: أنّ المنحرفين سوف لن يؤمنوا برسالات السماء... أي نفس الفكرة التي انطوت عليها بداية السورة الكريمة، الأقصوصة تتحدث عن بعض المجتمعات البائدة، تتحدث عن مدينة خاصة أرسل إليها أكثر من رسول وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جٰاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ . وعندما تفتح القصة
ص: 31
بالحديث عن مجموعة من المرسلين و ليس عن مرسل واحد، فهذا يعني أنّ مجتمع هذه المدينة قد بلغ بهم الانحراف لدرجة أن الرسول الواحد لا يمكنه أن يعدّل من سلوكها... بل أنّ مجموعة من الرسل لم يتح لهم أن يحققوا ذلك، وهذا يعني - كما هو واضح - أنب الانحراف في مجتمع هذه المدينة بلغ درجته القصوي، مما يتجانس مع مقدمة السورة التي قالت: وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ .
لكن لنر كيفية الصياغة الفنية التي سلكها النص القرآني الكريم في معالجة هذا الموضوع... لقد أجمل النص أولا بأنّ هناك مدينة قد جاءها المرسلون... ثم بدأ يفصل الحديث عن المرسلين فقال: إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا، فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ ... . هذا التفصيل له قيمته الفنية المدهشة، حيث كان من الممكن أن يقول النص بأنّ هناك مدينة منحرفة أرسل إليها ثلاثة، فلم يفلحوا في إصلاحها، ولكنه قال أولا. إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ ثم قال فَكَذَّبُوهُمٰا، فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ أي أنّه ذكر أولا بأنّ اثنين من المرسلين قد بعثا إلى المدينة، و لكن القوم كذّبوهما، لذلك عززنا المرسلين بمرسل ثالث... هذه الصياغة الأرقام المرسلين. الاثنين، ثم الثالث، وكون هذا الثالث قد عزر من أجل الاثنين السابقين، لا بد أن تحمل أسرارا فنية تتجانس مع (فكرة) السورة التي تقول بأن المنحرفين وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ... وأول ما يتبادر إلى الذهن، أنّ السر الفني لكون المرسلين اثنين وليس واحدا هو، أن الاثنين يتآزران في توصيل الرسالة بحيث يكمل أحدهما مهمة الآخر من جانب، وكون أنّ الاثنين أشد تأثيرا في الإقناع من الشخص الواحد، لكن بما أنّ المنحرفين قد كذبوا الشخصين السابقين، حينئذ جاءت الحاجة إلى شخص ثالث يضطلع بمهمة تختلف عن المهمة السابقة للرسولين. بحيث يتوسّل بأسلوب آخر يكمّل به مهمة الرسولين، وتكون الحجة على المنحرفين كاملة.
ص: 32
طبيعيا، أن القصة لم تذكر لنا الوسائل التي استخدمها الرسولان، ولا الوسيلة التي استخدمها الرسول الثالث، إلاّ أنّ رجوعنا إلى النصوص المفسّرة يلقي الضوء على هذه الوسائل، كما أنّ الملاحظ الفني يمكنه أن يستنتج بأن الأساليب لابد أن تتفاوت بين المرسلين، و أنّ الثالث بخاصة لا بد أن يستخدم أسلوبا يختلف عن أسلوب رفيقيه.. وهو أثر سنوضحه لاحقا، إلاّ أنّنا نعتزم هنا الإشارة إلى أنّ هذا النمط من الصياغة الفنية لأعداد المرسلين، يتجانس عضويا مع مقدمة السورة الكريمة، وأنّ المنحرفين ما داموا... كما ذكرت مقدمة السورة - لم يؤمنوا برسالات السماء سواء أأنذروا أم لم ينذروا، حينئذ فإنّ إرسال أكثر من واحد سوف يتناسب مع حقيقة عدم إيمانهم... مضافا إلى أنّ النص حينما أجمل أولا بأنّ هناك مجموعة من المرسلين، ثم فصّل ذلك برسولين، فالتعزيز بثالث، هذا النمط من الصياغة يفصح عن مدي الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ. اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جٰاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ ، فَقٰالُوا: إِنّٰا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ...
قلنا إن هذا التفصيل لعدد المرسلين وكونهم اثنين أولا، ثم تعزيزهما بثالث:
إنّما ينطوي على أسرار فنية ترتبط بفكرة السورة الكريمة من جانب (حيث أن تنوعهم وكثرتهم تتجانس مع فكرة السورة الذاهبة إلى أن المنحرفين لم يؤمنوا، سواء أنذروا أم لم ينذروا)، وترتبط من جانب آخر بطبيعة الوسائل التي استخدمها المرسلون، بحيث تستوجب مثل هذا التفصيل...
تقول النصوص المفسّرة، أن الرسولين الأولّين قد سجنهما حاكم المدينة بعد أن رفض دعوتهما إلى الله تعالى... وهذه الحادثة تستوجب (من وجهة النظر الفنية) إرسال شخصية ثالثة تقوم بمهمتين، أولاهما: محاولة إنقاذهما
ص: 33
من الأذي و الأخرى: استكمال المهمّة العبادية أي: تبليغ الرسالة إلى المجتمع المنحرف المذكور... وفي ضوء هذا الاستنتاج الفني لا بدّ أن يتميز الرسول الثالث بسمات خاصة تتناسب مع تينك المهمتين... لذلك - و هذا ما أيدته النصوص المفسّرة - استخدم هذا الرسول أسلوب المجاملة السياسية مع حاكم المدينة، فصادق كبار المسؤولين أولا، ثم رفعوا خبره إلى الحاكم، فاستدعاه و أنس بمعاشرته، حتى استطاع بأسلوب أو بآخر أن يستفسر منه عن حال السجينين، و أن يحمله على استدعائهما للاستفسار عن مهمتهما، وهنا تقمص الرسول الثالث شخصية المتجاهل لهما، فسألهما عن مهمتهما، و طلب منهما تقديم أدلّة حسيّة على صدق دعوتهما من نحو إحياء الميت و إبراء المريض (بصفة أن الرسل الثلاثة بعثوا من قبل عيسى عليه السلام إلى المدينة المذكورة، و كانت معجزاته متمثلة في إبراء الأكمه و الأبرص... إلخ) النصوص المفسرة تتراوح بين الذهاب إلى نجاح المهمة التي اضطلع بها الرسول الثالث، و بين إخفاقه فيه.
و لكن - في الحالين - ما دام الهدف هو استكمال الحجة على المنحرفين، حينئذ فإنّ التفسير الفنّي الذاهب إلى أنّ التفاوت في أساليب التبليغ للرسالة، يكشف عن السر الكامن وراء التفصيل المذكور... ونحن ما دمنا نعني بالبناء الهندسي للنص وصلة أجزائه بعضها مع الآخر، حينئذ لا بدّ من ملاحظة الصلة العضوية بين موضوعات المقطع، حيث اتّضح مدي التجانس بين فكرة السورة الكريمة وبين موضوعات المقطع الذي فصّل الحديث عن المرسلين الثلاثة و الفارقية بين الأولين والثالث منهم... و الآن.
حين نتابع المقطع المذكور، نجد مستويات أخرى من التلاحم العضوي بين فكرة السورة الكريمة التي تحوم على إبراز سلوك خاص لبعض المنحرفين ممن لا يؤمنون بالحق (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، وبين الموضوعات المطروحة في النص.. وهذه الموضوعات (في المقطع الذي
ص: 34
نتحدث عنه) تتجسّد في القسم الجديد من القصة (قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون الثلاثة)... فما هي محتويات هذا القسم ؟.
بعد أن مارس الرسل الثلاثة مهمتهم في تبليغ الرسالة إلى هؤلاء المنحرفين، كان ردّ الفعل من قبل المنحرفين هو الرفض بطبيعة الحال، لأن مقدمة السورة الكريمة أو فكرتها الدائرة على أنّه (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، تستوجب فنيا أن يكون أصحاب القرية نموذجا للأشخاص الذين يرفضون الخير، سواء أأنذروا أم لم ينذروا...
و لنستمع إلى أجوبتهم للرسل الثلاثة:
قٰالُوا: مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، وَ مٰا أَنْزَلَ اَلرَّحْمٰنُ مِنْ شَيْ ءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَكْذِبُونَ ... ثم ماذا كان جواب المرسلين الثلاثة:
قٰالُوا: رَبُّنٰا يَعْلَمُ إِنّٰا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ مٰا عَلَيْنٰا إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ ).
و هنا أجاب المنحرفون من جديد:
قٰالُوا: إِنّٰا تَطَيَّرْنٰا بِكُمْ ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ ...
ومن جديد، ردّ المرسلون عليهم:
قٰالُوا: طٰائِرُكُمْ مَعَكُمْ ، أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ .
هذه الصيغ الحوارية المتنوعة بين الرسل الثلاثة و المنحرفين، تنطوي على أسرار فنية ممتعة، تتناسب مع فكرة السورة التي تؤكد استحالة الهدابة لبعض المنحرفين: سواء بلّغوا أم لم يبلغوا، كما تكشف عن ضرورة عملية تبليغ للرسالة: بغض النظر عن استجابة المنحرفين أو عدم استجابتهم، مما سنفصّل الحديث عنه لاحقا، بيد أنّنا نعتزم الإشارة هنا إلى مدي الاحكام الهندسي للنص من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي ألمحنا إليه.
ص: 35
قال تعالى وَ جٰاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعىٰ قٰالَ : يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ اِتَّبِعُوا مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ، وَ مٰا لِيَ لاٰ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ لاٰ تُغْنِ عَنِّي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يُنْقِذُونِ إِنِّي - إِذاً - لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . .
هذا. هو القسم الثالث من قصة أصحاب القرية التي جاءها عدد من المرسلين... لقد جاء المدينة رسولان أولا إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ ، فَكَذَّبُوهُمٰا ثم جاء رسول ثالث بعد أن سجن الرسولان الأولان (فعزّزنا بثالث...)، إلاّ أن هاتين المرّتين من إرسال الرسل الثلاثة لم تسفرا عن النتيجة المطلوبة... هنا تتدخل شخصية رابعة أو لنقل: هنا يتحقق إرسال ثالث بعد إرسال الرسولين و تعزيز آخر بهما.. إرسال هذه الشخصية يختلف (من حيث الهوية العبادية) عن الرسل الثلاثة، نظرا لكونه غير مرسل رسميا من قبل عيسى عليه السلام، بل تطوّع تلقائيا بالذهاب إلى أهل القرية (وهو يعيش في أطرافها البعيدة) (وجاء من أقصي المدينة رجل يسعي)... إن دخول هذه الشخصية الجديدة في القصة، ينطوي على أسرار فنية بالغة الإثارة و الدهشة و الإمتاع (من حيث الصياغة القصصية)، فالملاحظ، أن فكرة السورة الكريمة التي تدور حول الحقيقة القائلة بأن المنحرفين (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، لا تزال هي البطانة الخلفية التي تدور حولها موضوعات السورة الكريمة (ومنها: قصة أصحاب القرية) حيث يستهدف النص - كما احتملنا فنّيا - تجسيد الحقيقة المذكورة، أي: إن المنحرفين سوف لن يؤمنوا، بالرغم من الإنذارات المتنوعة... فلقد جاءهم رسولان أو لا، فرفضوهما، ثم عزّزا برسول ثالث فرضوه أيضا، وها هو الشخص الرابع يتجه إليهم أيضا...
ونتوقع فنّيا أن يرفضوه أيضا، وهو ما يتناوله هذا القسم من القصة، غير أنّ ما
ص: 36
ينبغي الالتفات إليه، أن لهذه الشخصية الرابعة (دورا) قصصيا أو اجتماعيا يختلف عن (الأدوار) التي مارسها الرسل الثلاثة، فالأولان، قد مارسا أسلوب التبليغ المباشر، أمّا الثالث فقد استخدم الأسلوب غير المباشر (حيث عقد علاقات اجتماعية مع القوم) من أجل إنقاذ زميليه من جانب ومن أجل (وهذا هو المهم) إيصال الرسالة بأسلوب المجاملة السياسية من جانب آخر... أمّا الشخصية الرابعة (في القصة) فقد تقدمت بأسلوب جديد يختلف عن سابقيه... وهذا الاختلاف في الأسلوب تفرضه طبيعة هويته غير الرسمية (حيث يعدّ واحدا من أهل المدينة، وليس رسولا من منطقة أخرى، أو من قبل شخص يحمل طابعا رسميا، أسفرت عنه مصائر الرسل الثلاثة، فالرسل الثلاثة قد استشهدوا (كما تقول بعض النصوص المفسرة، وحينئذ، فإن مثل هذا المصير لا بد أن يترك آثاره على الشخصية الجديدة: من حيث تحركاتها التي ستأخذ منحي آخر من التبليغ... لكن، قبل أن نتحدث عن أسلوب أتبليغه، لا بدّ من معرفة ملامح هذه الشخصية، والتساؤل عن سبب مجيئها أو تبليغها أو لنقل: لا بدّ من معرفة الأسباب التي جعلت من هذه الشخصية: شخصية إيجابية مؤمنة، مع أن مجتمع المدينة قد طبعه الكفر بأجمعه أو غالبيته، أو - لا أقل - فإنّ النص القصصي ساكت عن تحديد ردود الفعل المتفاوتة لدى أهل المدينة، بل ركزّ على أنهم بنحو مجمل منحرفون، وحينئذ كيف انبثق منهم (مؤمن) يضطلع بمهمة التبليغ، بحيث يسعي من أقصي المدينة ليحقق مهمته التبليغية...
هنا تتبدّي أمامنا أسرار الفن القصصي، فيما سنوضحها لاحقا.
لكن قبل ذلك، ينبغي إلاّ يغيب عن أذهاننا أنّنا أمام عمارة فنية (ونعني بها عمارة السورة الكريمة - سورة ياسين)، كما أنّنا أمام عمارة فنية داخل العمارة الرئيسية وهي عمارة (القصة - قصة أصحاب القرية)، حيث تنطوي كل
ص: 37
منهما على أبنية خاصة، و لكنها تصب في محور واحد هو: قصه المنحرفين الذين لا يؤمنون بالله: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) وها هي الشخصية الرابعة تتدخل في هذا الموقف، لتكشف لنا أنّ تعدد المبلغين و تنوّع أساليبهم:
له دخل في عمارة النص القرآني الكريم بالنسبة لبلورة الفكرة الرئيسية التي يستهدفها النص، فيما يفصح ذلك عن متانة البناء الهندسي للنص من حيث علاقة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي نوضحه لاحقا.
قال تعالى وَ جٰاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ ، يَسْعىٰ ، قٰالَ : يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ اِتَّبِعُوا مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ وَ مٰا لِيَ لاٰ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ لاٰ تُغْنِ عَنِّي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يُنْقِذُونِ ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ... .
قلنا إن شخصية جديدة دخلت في قصة أصحاب القرية التي جاءها ثلاثة مرسلين من قبل عيسى عليه السلام.. هذه الشخصية الجديدة التي لم تحمل مهمة رسمية من قبل عيسى عليه السلام بل تطوّعت لإصلاح القرية المنحرفة، تتميز بطابع خاص، كما تتميز بأسلوب تبليغي خاص ينبغي أن نقف عنده لملاحظة سياقه في القصة التي نتحدث عنها..
تقول النصوص المفسّرة، أن هذه الشخصية كانت في أقصي المدينة، وعندما دخلها الرسولان الأوّلان، عقدا لقاءا مع هذا الرجل بحيث اقتنع بدعوتهما إلى الله تعالى بعد أن لحظ الظواهر الإعجازية التي صدرت عنهما..
لذلك، عند ما رفض مجتمع المدينة التي قصدها المرسلان، ثم قصدها المرسل الثالث عند ما رفض الدعوة الخيرة لهؤلاء الرسل، بحيث استشهدوا جميعا، نتيجة للتعذيب الذي مارسه المجتمع المنحرف المذكور... عند ما وصل إلى هذا الرجل المؤمن خبر الاستشهاد، سارع من أقصي المدينة إلى هؤلاء
ص: 38
المنحرفين: ليوصل إليهم صوت الحق.. هنا، ينبغي أن نقف عند هذه الظاهرة، ظاهرة تحرّك الرجل المؤمن، لملاحظة موقعها الفنّي من عمارة القصة القرآنية.. و لعلّ أوّل ما يستوقفنا من ملامح هذه الشخصية القصصية هو: أن الإيمان بالله تعالى يجد طريقه إلى أعماق الشخصية النظيفة التي لم تتلوّث بالعقد والأمراض و التخلّف الفكريّ ، كما أن تحرّكها نحو عمل الخير - كما هو طابع هذه الشخصية التي جاءت من أقصي المدينة - يعدّ حجّة على الآخرين الذين لم يؤمنوا، بخاصة: أنّ هذه الشخصية تحدّثت بكلام إصلاحي يعدّ مكمّلا لحديث الرسل الثلاثة، بحيث يمكن القول بأنّ المهمة الفنّية لدخول هذه الشخصية في القصة، تتمثّل - في أحد أشكالها - في كون الشخص قد جسّد مهمة رسول رابع يبعث إلى هذه المدينة المنحرفة...
والآن، إذا أدركنا هذه المهمة الفنية للبطل الجديد في القصة، حينئذ علينا الوقوف عند أسلوبها التبليغي الذي مارسته حيال المنحرفين...
و أول كلام وجّهه إلى القوم هو قوله يٰا قَوْمِ : اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ اِتَّبِعُوا مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ... لقد وجّه الرجل كلامه إلى قومه... و مجرّد انتسابه إلى مجتمع المدينة، فيما خاطبه بعبارة يٰا قَوْمِ يحمل دلالة فنية مزدوجة هي: استقطاب محبّتهم من جانب (حيث نسب القوم إلى نفسه أو نسب نفسه إليهم)، كما أنه - من جانب آخر - لم يكن غريبا على قومه في دعوتهم إلى الخير، أنه يختلف عن الرسل الثلاثة الذين وفدوا من خارج المدينة، أنه واحد منهم.. لذلك: عندما يحدثهم عن عمل الخير يكون بهذا أقرب احتمالا إلى تقبّل كلامه... طبيعيا، بما أن القصة تستهدف - كما احتملنا فنيا - إبراز الفكرة الرئيسة في سورة ياسين (وهي أنّ المنحرفين: سواء أأنذروا أم لم ينذروا لا يؤمنون) حينئذ فإنّ تقديم شخصية جديدة تنتسب إلى نفس المدينة المنحرفة. يعد تجسيدا لإبراز الفكرة المذكورة، بصفة أن المنحرفين بالرغم من أنّ واحدا من مجتمعهم قد آمن بالله تعالى وبالرغم من
ص: 39
أنه أوضح لهم ما هو الحق، بالرغم من ذلك كله، فهم لم يوفقوا إلى الإيمان، مما يتجانس هذا الموقف مع الفكرة الرئيسة التي تشير إلى عدم الإمكان في إصلاح المنحرفين الذين بلغوا في انحرافاتهم درجة كبيرة بحيث تأتيهم رسل أو أشخاص أربعة، و مع ذلك لم يوفقوا إلى الإيمان...
و لنعد من جديد إلى كلام هذه الشخصية التي بدأت بمخاطبة قومها: (يا قوم: اتبعوا المرسلين اتبعوا من يسألكم أجرا... الخ) على عملهم هذا، أن هذه المخاطبة تظل مرتبطة عضويا بالهيكل العام للقضية، حيث سبق أن جاء المدينة ثلاثة مرسلين طالبوا المدينة بأن تؤمن باللّه تعالى، وبما أن المنحرفين رفضوا الانصياع للرسل، حينئذ تكون مطالبة هذا الرجل قومه بأن يتّبعوا المرسلين الثلاثة: مهمة تستكمل بها مهمة السابقين، كما أن تأكيده بأن هؤلاء الرسل لا يبتغون أجرا على عملهم، وأنّهم مهتدون. يعدّ استكمالا آخر للمهمة السابقة، حيث أن توصيفهم بالهداية من جانب. وكونهم يعملون مخلصين لله تعالى وليس من أجل المكاسب الشخصية، يعدّ عملا له قيمته في استكمال مهمة التبليغ، حتى تتعمق لديهم القناعة بمشروعية الرسل التي اضطلع بها هؤلاء المبلغون... و هذا النمط من استكمال المهمة التبليغية يكشف - كما هو واضح - عن تماسك النص وتلاحم جزئياته من حيث المبني الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ ، قٰالَ : يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا كُنّٰا مُنْزِلِينَ إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ ... .
في هذا القسم من قصة أصحاب القرية نواجه البطل الجديد (ونعني به.
الشخصية الرابعة التي مارست عملية التبليغ بعد أن استشهد الرسل الثلاثة الذين
ص: 40
أرسلهم عيسى للقرية أو المدينة المنحرفة)، هذا البطل بعد أن تطوّع، من أجل استكمال مهمة التبليغ - في المجيء من أقصي المدينة - نصح قومه بهذه العبارات: يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ اِتَّبِعُوا مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ وَ مٰا لِيَ لاٰ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ لاٰ تُغْنِ عَنِّي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً - لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . هذه النصائح التي قدمها إلى أهل المدينة ذاتها، يبدو أنها لم تؤثر في المنحرفين، و إذا كان الرسل الثلاثة - و هم أجانب بالنسبة إلى المدينة - لم يؤثروا في المنحرفين، فحينئذ يتوقع أن يكون للشخص المنتسب إليهم بعض التأثير... لكن بما أن مقدمة السورة الكريمة قالت (سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ) ، حينئذ فإن المنطق الفنّي للقصة يدلنا على أنّ المنحرفين لا سبيل إلى إصلاحهم، لذلك فإن الملاحظ الفني يتوقع هذه النتيجة السلبية للمنحرفين... وفعلا، نجد القصة: ما أن تنتهي من عرض الكلام الذي وجّهه البطل إلى قومه، حتى تنتقل إلى بيئة أخرى هي بيئة الجنة، فتقول: (قِيلَ : اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ ) وهذا يعني أن البطل قد انتقل من الدنيا إلى الآخرة و دخل الجنّة.. لكن: ما دلالة هذا من الوجهة الفنيّة ؟.
إن الإمتاع القصصي يبلغ ذروته حينما نجد أن الصياغة الفنية سلكت منحي غير مباشر في الوصول إلى هذه الحقيقة، القصة لم تقل لنا أن المنحرفين قد رفضوا كلام البطل (كما رفضوا كلام الرسل الثلاثة بصريح القول)، و لم تقل لنا أيضا أن المنحرفين قد قتلوا البطل مثلا... و إنما قالت بأنّ البطل قيل له: ادخل الجنّة... و دخول الجنّة يعني: أمّا أن البطل قد استشهد، فكان مصيره إلى الجنّة، أو أنه عذّب مثلا، أو أنّ اللّه تعالى رفعه إلى الجنة قيل محاولة قتله... لكن في الحالات جميعا، فإنّ البطل قد نقله النص من بيئة الدنيا إلى بيئة الآخرة: الجنّة.
ص: 41
هذه النقلة القصصية للبطل - من الدنيا إلى الجنّة، تحمل (فضلا عن الخصائص الفنية التي ذكرناها) خصائص فنية أخرى تتصل بالبعد الزمنيّ للقصة... فالزمن - في القصة - له دلالات متنوعة من حيث استثماره و تقطيعه (عبر الماضي و الحاضر و المستقبل) بحيث ينطوي تقطيعه أو تذويبه بهذه الصورة على دلالات ممتعة و مثيرة حقا.. وفي مقدمة ذلك: لفت نظر المتلقّي إلى مصائر الأبطال المجاهدين في سبيل اللّه تعالى، متمثلة في دخولهم الجنّة... و ها هو بطل القصة يدخل الجنة فعلا... و دخوله الجنة ينطوي - مضافا لما تقدم - على أسرار فنية أخرى لا بدّ من ملاحظتها ولو عابرا، لقد كان من الممّكن أن نشير القصة إلى أن البطل دخل الجنّة جزاء لموقفه أو استشهاده إلخ، لكن الملاحظ أن إدخال البطل إلى الجنّة قد تمّ من خلال صياغة خاصة هي أنه قيل له: ادخل الجنة، و عند دخوله الجنة وجّه البطل صياغة خاصة هي أنه قيل له: ادخل الجنة، و عند دخوله الجنة وجّه البطل نصائحه إلى قومه أيضا، أي أنه لم يكفّ عن تقديم النصائح حتى بعد أن استشهد و واجه الأذي من قومه، لقد وجّه كلامه - و هو في الجنّة - إلى قومه أو لنقل وجه كلامه إلى نفسه (من خلال الحوار الداخلي) قائلا (يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ ) هذه العبارة القصصية أو هذا الحوار الداخلي يحمل أسرار فنية بالغة الإثارة و الدهشة و الإمتاع... أنه يوضّح لنا مصائر المؤمنين أولا حيث أن الله تعالى يغفر لعباده المؤمنين و يكرمهم: نتيجة لمواقفهم في الدنيا، و يوضّح ثانيا بأن البطل نفسه يحمل مشاعر طيبة تتناسب مع طبيعة النفس المؤمنة التي تحبّ الآخرين و تتمنّي لهم الخير، بالرغم من أن قومه قد قتلوه و ركلوه بالأرجل (كما تقول النصوص المفسرة) فإنّه لا يزال يتمنّي لهم مصيرا أخرويا يستمتعون به في حياتهم الأبدية، إنه يهتف بمرارة و شوق (يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي..) إنه يتمزّق ألما من أجل قومه... إنه يتمني لهم الجنّة... إنه يشفق عليهم من المصير البائس الذي ينتظرهم نتيجة لانحرافاتهم...
ص: 42
إذن، كم جاءت هذه العبارة الحوارية مدهشة فنيا، بحيث كشفت عن سرائر الشخصيات المؤمنة مقابل الشخصية المنحرفة، مضافا إلى أنها كشفت عن مصائر المؤمنين، مثلما تكشف - من خلال التداعي الذهني - عن مصائر المنحرفين أيضا، مما تتجانس هذه الكشوفات مع أفكار السورة الكريمة التي أوضحت سابقا - كما سنوضح ذلك لاحقا - حيث تربط هذه الأفكار أو الموضوعات بين الإيمان والانحراف و انعكاسات كل منهما على مصائر الشخوص دنيويا وأخرويا: كما سنري وهو أمر يفصح عن مدي الأحكام الهندسي للنص: من حيث تلاحم أجزائه بعضها مع الآخر.
قال تعالى وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا كُنّٰا مُنْزِلِينَ إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاٰ يَرْجِعُونَ وَ إِنْ كُلٌّ لَمّٰا جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ .
بهذا القسم تنتهي قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا، فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ ، ثم جاءها المبلغ الرابع (وَ جٰاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ ، يَسْعىٰ قٰالَ . اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ ) ، حيث استشهد الأشخاص الأربعة الذين مارسوا مهمة التبليغ دون أن يوفق أهل القرية إلى الإيمان باللّه تعالى، مما ترتّب على ذلك، أن ينزل عليهم العذاب الدنيوي، فضلا عن التلويح بالعذاب الأخروي الذي ينتظر هم.. هذا العذاب بنمطيه: الدنيوي و الأخروي، تكفل القسم الأخير من القصة برسمه، في هذا المقطع الذي نتحدث عنه.. هنا ينبغي أن نتذكر جملة من القضايا المرتبطة بهذه القصة و بموقعها الهندسي من عمارة السورة الكريمة.. أما القصة، فقد سبق أن لحظنا بأن المبلغ الرابع الذي جاء من أقصي المدينة يسعي من أجل إصلاح
ص: 43
قومه، قد استشهد و قيل له ادخل الجنة، حيث تمنّي - و هو في الجنة - أن يوفّق قومه إلى الإيمان (قيل ادخل الجنة، قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)... لكن بما أن القصة قالت مقدمتها عن المنحرفين المعاصرين لرسالة محمد (ص) وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ . هذه الفكرة (فكرة أن المنحرفين لن يؤمنوا سواء أنذروا أم لم ينذروا)، حينئذ فإنّ تمنّي البطل الرابع بأن يطلع قومه على موقعه في الجنة، هذا التمنّي لن يترك أثرا على أحداث القصة، طالما تستهدف القصة التركيز على أن المنحرفين لا أمل في إصلاحهم، و إذا كان الأمر كذلك، حينئد نتوقّع - وفق المنطق الفنّي للقصة، بأنّ يترتب على المنحرفين جزاء سلبي يتناسب مع عنادهم الذي بلغ الذروة بحيث لم يتأثروا بأربعة مبلغين، وبحيث لم يكتفوا بذلك، بل قتلوهم أيضا... لذلك ما أن انتهى البطل الرابع من قوله يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ حتى علق النص على ذلك بقوله وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا كُنّٰا مُنْزِلِينَ إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ . إن إرسال (الصيحة) عليهم بحيث أصبحوا خامدين، يشكل الجزاء المناسب لموقفهم المتمرّد...
و لا نغفل هنا عن الاستعارة التي استخدمتها القصة في قوله تعالى فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ ، حيث أن الخمود يشير إلى شلهم عن الحركة تماما، إنهم كالنّار الّتي انطفأت تماما بحيث لا يرى بها إلاّ الرماد...
أمّا العذاب الأخروي، فقد لوّح به النص في نهاية القصة (وَ إِنْ كُلٌّ لَمّٰا جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ ) حيث ينتظرهم الحساب الأبدي في اليوم الآخر...
أيضا، ينبغي الاّ نغفل عن هذه العبارات التي ختمت بها القصة، أي: عبارات (إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ ) (وَ إِنْ كُلٌّ لَمّٰا جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ ) ... حيث ستكون لها أصداء تتكرر في الأجزاء اللاحقة من السورة الكريمة من نحو قوله تعالى. مٰا يَنْظُرُونَ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ
ص: 44
يَخِصِّمُونَ ونحو قوله تعالى. إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ ... إنّ تكرر هذه العبارات في مواقع متنوعة من السورة الكريمة، تكشف عن واحد من أسرار البناء الفني للنص، بحيث يستكشف القاريء بسهولة مدي تجانس الموضوعات المختلفة في السورة: من حيث ربطها بعضا مع الآخر على النحو الذي سنوضحه في حينه.
لكن يعنينا هنا - في هذا المقطع الذي نتحدث عنه - ان نشير إلى انعكاس عبارتي إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ وَ إِنْ كُلٌّ لَمّٰا جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ على الأجزاء اللاحقة من النص، فضلا عن كونها منعكسة على الأقسام السابقة من السورة، حيث قلنا أن سورة ياسين تحوم فكرتها على موضوع محدّد هو. أنّ بعض المنحرفين لا أمل في إصلاحهم سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ . وبما أن قصة أصحاب القرية قد صيغت من أجل بلورة هذه (الفكرة)، حينئذ فإنّ نهايتها المتمثلة في كون القرية المنحرفة لم توفق إلى الإيمان، تظل هذه النهاية منسجمة مع (الفكرة) المشار إليها، مما يفصح ذلك عن مدي الإحكام الهندسي للسورة لكريمة من حيث تلاحم جزئياتها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنٰاهٰا وَ أَخْرَجْنٰا مِنْهٰا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ وَ فَجَّرْنٰا فِيهٰا مِنَ اَلْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مٰا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاٰ يَشْكُرُونَ سُبْحٰانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوٰاجَ كُلَّهٰا مِمّٰا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّٰا لاٰ يَعْلَمُونَ وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهٰارَ فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ، وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّٰا حَمَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ
ص: 45
اَلْمَشْحُونِ وَ خَلَقْنٰا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مٰا يَرْكَبُونَ وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاٰ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْقَذُونَ إِلاّٰ رَحْمَةً مِنّٰا وَ مَتٰاعاً إِلىٰ حِينٍ .
هذا المقطع من سورة ياسين يتناول (فكرة) واحدة هي: الظواهر الإبداعية التي خلقها الله تعالى من أجل الإنسان... لقد جاء هذا المقطع بعد قصة (أصحاب القرية) التي جاءها المرسلون، جاء بعد قصة سيقت من أجل إنارة (الفكرة الرئيسية) في السورة، وهي: فكرة أن بعض المنحرفين لا أمل في إصلاحهم: سواء أنذروا أم أم ينذروا... هنا، عندما يعرض النص للظواهر الإبداعية أو معطياته تعالى إنما يقوم بعملية تذكير، تكون بمثابة حجة على المنحرفين، حتى ينكشفوا تماما للآخرين: من حيث انغلاقهم الذهني عن إدراك هذه الحقائق، و هذا ما تضطلع به نهاية المقطع الذي جاء فيه (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا عنها معرضين) و بهذا التعقيب يربط المقطع بين موضوعات السورة الكريمة التي تحوم - كما قلنا - على فكرة أن بعض المنحرفين لا سبيل إلى إصلاحهم البتة... لكن، خارجا عن هذا الهيكل البنائي للمقطع، يحسن بنا أن نعرض لموضوعاته وطريقة صياغتها فنيا، وصلتها بالهيكل المذكور، الموضوعات هي - كما أشرنا - مجموعة من الظواهر الإبداعية التي سخرها الله تعالى للإنسان من نحو. إحياء الأرض بالمزروعات، وتفجير الأرض بالعيون... إلخ. بيد أن النص القرآني الكريم قد استخدم أكثر من (صورة فنية) في صياغة هذه الموضوعات، متمثلة في قد استخدم أكثر من (صورة فنية) في صياغة هذه الموضوعات، متمثلة في صور التشبيه والاستعارة والرمز، فقوله تعالى في أول المقطع (و آية لهم الأرض الميتة أحييناها، وأخرجنا منها حبا... إلخ) ينطوي على صورة (رمزية) هي: الموت والإحياء حيث رمز بهما إلى الجدب و الإخصاب، كما أن قوله تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهٰارَ، فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ ينطوي على صورة استعارية (فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ ) حيث اكسب الناس في الليل صفة (الظلمة) فخلعها عليهم: كما هو واضح... كما أن قوله تعالى: وَ اَلْقَمَرَ
ص: 46
قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ينطوي على صورة تشبيهية، هذا فضلا عن أن قوله تعالى لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ، وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ تنطوي على أكثر من صورة استعارية تتصل بإكساب الشمس و القمر و الليل والنهار: صفات بشرية مثل الجري و السباحة.
هذه الصور الرمزية و التشبيهية و الاستعارية جاءت في سياق التعريف بظواهر الكون، حيث أن اللغة العلمية هي التي تتكفل ببيان حقائق الكون، بيد أن النص القرآني الكريم استخدم لغة (الفن) أيضا في عرضه للحقائق العلمية المشار إليها، مما يكسب ذلك: إمتاعا فنيا بالغ الإثارة و الدهشة... فمثلا أن عرضه لحركة القمر من حيث كونه يتحرك ضمن (منازل) مقدّرة حتى يعود كالعرجون القديم، أي: مثل العذق اليابس المتقوّس، يظل تشبيها علميا أو فنيا يبعث الإثارة دون أدني شك، نظرا لارتباطه بالحص الجمالي لدى الإنسان، حيث أوجد التشبيه علاقة بين عودة القمر نهاية المصاف: في شكله الدقيق آخر الشهر أو آخر نصف من السنة (كما تذكر ذلك: بعض النصوص المفسرة)، و بين العذق الذي يصير إلى شكله الدقيق المتقوس بعد جفافه... إن إحداث مثل هذه العلاقة الحسية بين جزءين يألفهما الإنسان:
رؤية القمر وهو يعود في نهاية المطاف إلى شكله الدقيق و رؤية العذق كذلك، تحقق - دون ادني شك - إشباعا للحاسة الجمالية عند الإنسان. بمجرد تأمله لهذا التشبيه... كذلك: عند ما يوجد النص علاقة بين الجري و السباحة للشمس و القمر والليل و النهار، وبين الجري و السباحة للإنسان، حينئذ يحقّق له إشباعا للحاسة الجمالية التي تستمتع بمشاهد الجري و السباحة... و هكذا سائر الصور الفنية التي أشرنا إليها... بيد أنّ الأهم من ذلك أن المقطع القرآني الكريم عرض لهذه الظواهر الإبداعية وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنٰاهٰا و آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهٰارَ وَ آيَةٌ لَهُمْ . أَنّٰا حَمَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُمْ ... .
ص: 47
هذه الظواهر أو الآيات الكونية قد أخضعها النص العنصر (التكرار) أي عبارة «و آية لهم»» حيث كررها ثلاث مرات، فلأنها تظل مرتبطة بفكرة السورة الكريمة من جانب و بهيكل المقطع الذي تحدّثنا عنه الآن من جانب آخر، حيث علق النص القرآني على هذه (الآيات) الكونية التي (كرّرها) قائلا (وَ مٰا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِمْ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ ) ، و هذا يعني أن المقطع القرآني ربط بين فكرة السورة الكريمة التي جاء في مقدمتها قوله تعاني: سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ، و بين هؤلاء الذين يعرضون عن الآيات الكونية: بالرغم من مشاهدتهم الظواهر الشمس و القمر والليل والنهار... إلخ.
و هذا النمط من الربط، يكشف بوضوح عن مدي الإحكام الهندسي للسورة الكريمة، من حيث ترابط موضوعاتها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ ، قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ أَطْعَمَهُ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وَ يَقُولُونَ : مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ مٰا يَنْظُرُونَ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاٰ إِلىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ .
هذا المقطع من سورة ياسين: امتداد لمقطع سابق يتحدث عن المنحرفين المعاصرين الرسالة الإسلام، حيث وصفهم النص منذ بداية السورة بألاّ أمل في إصلاحهم (وهي الفكرة التي يحوم عليها هيكل السورة الكريمة).. كما أن النص - في مقطع سابق - دلّل على سلوكهم المذكور من - خلال تذكيرهم بمجموعة من الظواهر الكونية التي سخّرها الله للإنسان، ولكنهم اعرضوا عنها. وها هو المقطع الحاليّ الذي نتحدث عنه، ينقل لنا شريحة أخرى من سلوكهم: تدلّل على عدم الأمل في إصلاحهم.. وقد
ص: 48
اعتمد النص عنصر «الحوار الفنّي» في نقل هده الحقيقة حينما قال عن المنحرفين (و إذا قيل لهم: أنفقوا ممّا رزقكم الله، قال الذين كفرو للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إن أنتم إلاّ في ضلال مبين)، أن هذا الحوار ينطوي على أكثر من مهمة فنّية، فهو - من جانب - يكشف لنا عن وجود «المؤمنين» و ممارستهم لمهمتهم العبادية وهي عملية «التبليغ»، حيث أن المؤمنين هم الذين قاموا بتوجيه الأسئلة إلى المنحرفين و طالبوهم بالإنفاق في سبيل اللّه، مضافا إلى أنّ المطالبة من قبل المؤمنين (و هم ممن ينتمون إلى نفس المجتمع الذي ينتمي المنحرفون إليه) تكون أشدّ وقعا و تأثير عليهم، و هذا ما لحظناه عند، وقوفنا على قصة أصحاب القرية، التي جاءها المرسلون حيث كان المبلغ الأخير رجلا من أقصي المدينة جاء يسعي لإصلاحهم. وهذا واحد من أبعاد التجانس الفنّي بين المواقف المختلفة السورة، حيث تتجانس فيها مواقف التبليغ لرسالات الله تعالى.
وإذا تجاوزنا هذا الجانب من الحوار و اتجهنا إلى معطياته الفنية الأخرى، وجدنا أن المنحرفين يكشفون بأنفسهم عن الواقع المظلم لأعماقهم حينما تسمع كلامهم من ألسنتهم، حيث يكون هذا أشدّ تأثيرا في السامع، صفة أن الوصف لسلوك الآخرين يختلف عن الاستماع إلى كلامهم مباشرة... و الأهم من ذلك كله، أن الحوار كشف عن سمة جديدة من سمات المنحرفين الذين لا أمل في إصلاحهم و هو: جوابهم القائل لمن طالبهم بالإنفاق أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ أَطْعَمَهُ؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إن هذا الجواب يكشف عن نزعة «العناد» في أشدّ مستوياتها المرضية... فمن الممكن أن يهرب المنحرف من هذه المسؤولية فلا يتقدّم بجواب، و من الممكن أن يعتذر ببعض الأعذار التي تقترن بتقبل اجتماعي، أمّا أن يقول المنحرف: أأطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟) فهذا يعني أنه يستهين بالله تعالى (و هو قمة الانحراف المتصور)، كما أنّه أردف ذلك الجواب بجواب آخر هو
ص: 49
مخاطبتهم للمؤمنين «ان أنتم إلاّ في ضلال مبين» يشكّل بعدا آخر من نزعة العناد المتأصلة لدى المنحرفين...
إذن، عند ما كشف الحوار عن هذا السلوك البالغ شدّته في الانحراف، يكون بذلك قد جانس بين فكرة السورة الكريمة التي تدور حول الحقيقة القائلة بأنّ المنحرفين لا أمل في إصلاحهم و بين هذه الشريحة من سلوكهم...
بعد ذلك يتجه المقطع إلى عرض شريحة أخرى من سلوكهم، وهو قولهم (مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ؟) هذا الكلام أيضا، يعبّر عن نفس نزعة العناد المتمثلة في سخريتهم من اليوم الآخر... إلاّ أنّ المقطع يجيبهم قائلا (مٰا يَنْظُرُونَ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاٰ إِلىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ لنتذكّر أن قصة أصحاب القرية قد ختمت بعبارة مماثلة لهذه العبارة (إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ ) وها هو النص يختم هذا المقطع بعبارة مماثلة لما ختم به القصة المذكورة، محقّقا بهذا التجانس بين ختام المقاطع القرآنية: الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة، حيث لوّح النص القرآني في ختام القصة بأن هناك صيحة واحدة تأخذهم فإذا هم خامدون، و لوّح هنا أيضا بأن هناك صيحة تأخذهم و هم يخصّمون، غير أن الصيحة هنا تتجانس مع سلوك المنحرفين الذين لحظنا مدي عنادهم و مخاصمتهم، لذلك فإن النص هنا أوضح بأنّ الصيحة تأتي هم يختصمون في أمورهم، و هي الصيحة الأولى: نظرا لكونهم أنكروا اليوم الآخر، أمّا الصيحة هناك (في قصة أصحاب القرية) فكانت جزاءا دنيويا يتجانس مع سلوكهم الذي أوضحناه في حينه... و بهذه المستويات المتنوعة من التجانس تبين مدي الإحكام الفنّي للنص، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
ص: 50
قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا، هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ هذا المقطع، يتحدث عن بيئة اليوم الآخر: بدءا من النفخة التي تزيل معالم الوجود، حيث أشار النص إليها في مقطع سابق إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ مرورا بالنفخة الأخرى التي يحدثنا هذا المقطع عنها بقوله تعالى: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ، و انتهاء بالوقوف في عرصات القيامة حيث تتم المحاكمة، و تساق الخلائق إلى مصائرها الأبدية: الجحيم أو النعيم...
طبيعيا يعنينا من هذا المقطع ما تضمّنه من موضوعات ترتبط بهيكل السورة الكريمة التي تحوم على فكرة مشتركة تصب في عصب السورة جميعا، و هي فكرة أنب بعض المنحرفين لا أمل في إصلاحهم، كما يعنينا من المقطع ما تضمّنه من أسرار فنية من حيث صياغة علاقته بالهيكل المذكور..
المقطع يتحدث عن أولئك المنحرفين المشككين باليوم الآخر، و برسالة السماء، و بمبادئها التي عرضنا لموقف المنحرفين منها في المقاطع السابقة من السورة... و يلاحظ، أنّ المقطع نقل لنا (حوارا جمعيا) للمنحرفين و هم يسرعون من الأجداث إلى عرصات القيامة، حيث يظل «الحوار» عنصرا فنيا قد توكأت السورة الكريمة عليه في عرضها لسلوك المنحرفين... و كما كررنا، فإن أهمية مثل هذه المحاورات تتمثل في كونها: تعرض لنا أفكار المنحرفين من خلال ألسنتهم أنفسهم، حتى يكون تأثيرها أشدّ وقعا لدى المتلقي...
و لنستمع إلى محاورتهم الجمعية. قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا؟ هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ . إنّ هذا التساؤل مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا ؟.
إلخ ينطوي على أهمية فنية كبيرة من حيث علاقته بفكرة السورة الكريمة التي ركزت على عدم الأمل في إصلاح المنحرفين، و بالفعل، فإنّ المنحرفين لو اتيح لهم أن يؤمنوا في الحياة الدنيا: لما تساءلوا عند الانبعاث يٰا وَيْلَنٰا مَنْ
ص: 51
بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا؟ . إنّ عبارة يٰا وَيْلَنٰا تكشف عن الهول الذي يواجه المنحرفين عند الانبعاث، كما أنّ قولهم مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا يكشف عن عنصر التشكيك الذي طبعهم في الحياة الدنيا... لكن، بما أنّ المنحرفين واجهوا حقيقة الانبعاث، حينئذ اضطروا إلى الإقرار بها حينما أضافوا إلى التساؤل السابق كلاما آخر هو هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ ، وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ .
إنّ بعض المفسرين ذهب إلى أنّ هذا الكلام هو كلام المؤمنين، وأنّ التساؤل الذي سبقه هو كلام الكافرين، إلاّ أنّ هذا التفسير - كما نحتمل فنيا - لا يتوافق مع سياق الموضوع الذي تحدثنا عنه، بل أنّ السياق يتطلّب - كما احتملنا أنّ يكون هذا الكلام للمنحرفين، لسبب بسيط هو: أنّ مواجهتهم لليوم الآخر - و قد كانوا ينكرونه، قد تحقق في الانبعاث الفعلي، و حينئذ لا يبقي أي معنى للتشكيك، بل لا بد أن يعقب ذلك: اعتراف منهم بالحقيقة التي وأجهوها، بخاصة أنّهم كانوا يسخرون في الحياة من الانبعاث (و هذا ما تضمنه المقطع السابق الذي جاء فيه: وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ؟ و ها هم في المقطع الجديد الذي يتحدث عن الانبعاث - يقرون بكلام شكّل جوابا لسؤالهم السابق، حيث قالوا سابقا مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ؟ أي أنّهم شككوا بمصداقية كلام المرسلين، وها هم يقولون الآن هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ إنّهم يقولون الآن صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ ، و كانوا سابقا يتساءلون مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ؟ ...
إذن، من حيث المبني الهندسي للنص، جاءت هذه المحاورة التي أقرت بأنّه صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ مرتبطة عضويا، أو لنقل: أنّها تطوير وإنماء عضويّ لمحاورة سابقة تقول: مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ...
بعد ذلك، يتحدث النص عن الانبعاث من جديد حينما يقول إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ ، الجحيم أو النعيم...
ص: 52
ومن الواضح أنّ النص قد انتقل حديث خاص بالمنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام أو مطلق المنحرفين: عند انبعاثهم، انتقل منه إلى الحديث عن الانبعاث في صورته المطلقة وما تترتب عليه من المصائر الأبدية... وبهذا الربط الذي سنتحدث عنه لاحقا، يكون النص قد أفصح عن مدي الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة التي تترابط موضوعاتها فيما بينها: سواء كان ذلك في صعيد المقطع الواحد، أو الانتقال منه إلى الآخر، أو صعيد المقاطع جميعا من حيث علاقتها بهيكل السورة الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاٰ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ... .
هذا المقطع وما بعده، يتحدث عن بيئة أصحاب الجنة وأصحاب النار مطلقا، حيث كان النص القرآني يتحدث (في المقاطع السابقة) عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، فيما نقلهم إلى بيئة الآخرة، و عرض لنا ردود أفعالهم التي تصدر عنهم حينئذ: وهم يقفون في عرصات القيامة... لذلك، ما انتهى النص من عرض ردود الفعل للمنحرفين حتى انتقل إلى تقرير حقائق عامة تتصل بمطلق المنحرفين و بمطلق ما يقابلهم من المؤمنين... و هذا النمط في الانتقال من حديث خاص إلى حديث عام. يشكل واحدا من سمات الفن العظيم، حيث يستهدف النص من عرضه للخاص أن يفيد منه عامة الناس: كما هو واضح... من هنا، فإنّ النص بعد أن عرض في هذا المقطع العام مصائر المنحرفين و المؤمنين، عاد إلى الحديث الخاص، فواصل عرضه لسلوك المنحرفين، ملوّحا بالجزاء الدنيوي لهم، بقوله تعالى:
وَ لَوْ نَشٰاءُ لَطَمَسْنٰا عَلىٰ أَعْيُنِهِمْ ، فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرٰاطَ، فَأَنّٰى يُبْصِرُونَ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَمَسَخْنٰاهُمْ عَلىٰ
ص: 53
مَكٰانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطٰاعُوا مُضِيًّا وَ لاٰ يَرْجِعُونَ ... ففي هذا المقطع يلوّح النص بإمكان أن ينزل على المنحرفين عقاب دنيوي مثل طمس الأعين، و مثل مسخهم (قردة و خنازير مثلا كما صنع بالأقوام البائدة)...
و أهمية مثل هذا التلويح بالعذاب الدنيوي تتمثل (من الزاوية الفنية) في أنّ النص القرآني الكريم عرض - قبل ذلك - المصائر التي لم تقع بعد أيضا، و هي مصائر المنحرفين في اليوم الآخر، سواء كان ذلك في نطاق الوقوف في عرصات القيامة من أجل المحاكمة أو في نطاق المصير الأبدي لهم...
و ما دام هدف النص هو: حمل المتلقي أو حمل البعض ممن يؤمل أن يعدل سلوكه من المنحرفين، على الاتعاظ بأمثلة هذه المصائر، حينئذ يمكننا أن ندرك السّر الكامن وراء هذا التلويح بنمطين من العقاب الذي لم يقع بعد: مع ملاحظة أن (فكرة) السورة الكريمة تحوم على موضوع مضاد لإمكانية التعديل في السلوك، لذلك، عاد النص من جديد ليعرض لنا شرائح جديدة من سلوك المنحرفين نلمس من خلالها عدم الأمل في تعديل سلوكهم، بالرغم من الاستدلال لهم بظواهر جديدة من الإبداع الكوني لله تعالى... يقول النص:
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا خَلَقْنٰا لَهُمْ مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً فَهُمْ لَهٰا مٰالِكُونَ وَ ذَلَّلْنٰاهٰا لَهُمْ ، فَمِنْهٰا رَكُوبُهُمْ ، وَ مِنْهٰا يَأْكُلُونَ وَ لَهُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ وَ مَشٰارِبُ أَ فَلاٰ يَشْكُرُونَ؟ ليلاحظ أن النص (في المقاطع السابقة عن السورة) عرض ظواهر كونية مثل الشمس والقمر و الليل والنهار و الثمار و الفلك إلخ، إلاّ أنّ عرض تلكم الظواهر جاء في صعيد التذكير بالمعطيات التي تحقق إشباعا للحس الجمالي لدى الإنسان، أما هنا، فقد انتخب النص ظاهرة ترتبط بإشباع الحاجات الضرورية (وليس. الجمالية)، لذلك انتخب ظاهرة (الأنعام) فأشار إلى فوائد الركوب و الأكل و الشرب وسائر المنافع العامة و عقب على ذلك بقوله تعالى. أَ فَلاٰ يَشْكُرُونَ؟ حيث أنّ الشكر يقرن بما هو أشد ضرورة لحاجات الإنسان، بينا عقب على الظواهر الجمالية وَ مٰا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِمْ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ حيث سيقت
ص: 54
تلكم الظواهر بمثابة حجج أو آيات: ينبغي أن يعبر بها في التدليل على قدرة الله تعالى...
إذن، جاء المقطع الجديد الذي ينطوي على تكرار التذكر لظواهر الإبداع الكوني جاء في سياق آخر يختلف عن السياق الذي ورد سابقا، مما يكشف مثل هذا التكرار عن واحد من خطوط التلاحم العضوي بين مقاطع السورة الكريمة... و المهم، بما أنّ فكرة السورة الكريمة، تحوم - كما كررنا - على عدم الأمل في إصلاح المنحرفين، لذلك جاء القسم اللاحق بهذا المقطع، مشيرا إلى الحقيقة المتقدمة: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فَلاٰ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّٰا نَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ . إنّ عبارة فَلاٰ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تشير إلى عدم الأمل في إصلاح هؤلاء المنحرفين، كما أن عرضه لشريحة من سلوكهم القائم على الشرك، بعد أن ذكرهم بمعطيات الله تعالى: في الأنعام التي يفيدون منها يعد تجسيدا للفكرة التي تستبعد إمكانية هداية المنحرفين.. و يلاحظ أيضا، أنّ هذا المقطع وصل بين المقاطع التي سبقتها بالنسبة إلى ما ينتظر المنحرفين من عقاب أخروي، وبين هذه القوي التي أشركوها مع الله تعالى وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ حيث أشار المقطع إلى أنّ هؤلاء الشركاء سوف يحضرون في اليوم الآخر مثل إحضار المنحرفين أنفسهم دون أن يستطيعوا أن يقدّموا أية معونة لهم...
إذن، للمرة الجديدة، أمكننا ملاحظة مدي الصلات العضوية بين مقاطع السورة الكريمة، بحيث يلتحم بعضها مع الآخر، فضلا عن التحامها بعمارة السورة الكريمة التي تحوم على فكرة أنّ المنحرفين لا أمل في إصلاحهم، فيما تفصح مثل هذه المستويات من البناء، عن مدي إحكام العمارة القرآنية الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 55
قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحٰانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
بهذا المقطع، تختم سورة ياسين التي استهلت بالحديث عن المنحرفين الذين لا أمل في إصلاحهم، أي قوله تعالى: وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ، حيث ترددت هذه الفكرة في عصب السورة جميعا، و حيث ختمت بها أيضا عبر هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن... لقد انتخب النص القرآني الكريم، شريحة جديدة من سلوك المنحرفين الذين عرض النص لنا شرائح متنوعة من انحرافاتهم، و هاهو النص يختم ذلك بإبراز هذه المقولة المنحرفة القائلة مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ؟ . واضح، أنّ إنكار اليوم الآخر، يظل واحدا من أبرز الانحرافات التي يصدر عنها هؤلاء لقوم، لذلك، فإنّ إبراز هذا النمط من السلوك (في ختام السورة) يعني: خطورة ما ينطوي عليه من المفارقات و الالتواء في السلوك، و المهم، أنّ المقطع أبرز لنا ظاهرة خلق الإنسان من (نطفة)، هي أصغر و أقذر عينة حسية يخبرها الإنسان، ثم أبرز لنا ظاهرة المخاصمة في الكلام فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ حيث ربطها ببدء خلق أو أصل الإنسان، حتى يستخلص المتلقي مدي تفاهة المنحرف الذي خلق من نطفة تافهة ثم يتحول إلى خصيم مبين بحيث يجرأ على إثارة التساؤلات السخيفة، فيضرب مثلا و يقول مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ لنلاحظ بدقة، كيف أنّ النص اختار ظاهرة أصل الإنسان (و هو:
ص: 56
النطفة)، و ربطها بأوسخ المواقف الكلامية أو الإدراكية التي استثمرها المنحرف في استدلالاته السخيفة، وبهذا الربط، أمكن للمتلقي أن يدرك مدي هزال وتفاهة ما استبدل به المنحرف. في تساؤله الهزيل المنكر الانبعاث الإنسان في اليوم الآخر... مع ذلك، فإنّ المقطع يجيب على التساؤل المذكور قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ . و بهذا الربط بين نشأة الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ ، و بين عودته من جديد في اليوم الآخر، تتم عملية الاقتناع الكامل بإمكان العودة المشار إليها... هنا يتقدم النص بعرض ظاهرة إبداعية جديدة (بعد أن لحظنا عرضه لظواهر إبداعية مثل السماء و الأرض و الليل و النهار والثمار و الأنعام.. إلخ) حيث أوضحنا في حينه صلة هذا العرض للظواهر الإبداعية: بفكرة السورة الكريمة...
والآن، يعرض لنا النص ظاهرة إبداعية هي اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً، فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . إن انتخاب هذه الظاهر الإبداعية في ختام السورة، يحمل دلالات فنية متنوعة، منها. أنّ هذه الظاهرة تحمل فاعلية (التضاد) بين شيئين هما: الرطوبة و النار، حيث أنّ أحدهما يضاد الآخر، حينئذ فإنّ الذي جعل من أحد الشيئين اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ، ضدا آخر نٰاراً ، بمقدورة أن يجعل من الميت حيا أي يجعل من العظام أو الرميم خلقا جديدا.. المقطع لم يقل هذا مباشرة بل استدل على عملية الانبعاث بقوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ .
هنا ينبغي أن نتذكر أنّ النص في مقاطع سابقة لم يعرض لظاهرة خلق السماوات والأرض، بل عرض لمفردات من ظواهر الأرض و الجوّ، أما الآن، فيعرض لما هو أوسع من ذلك، حتى يتجانس التقابل بين أوسع الظواهر الإبداعية التي يخبرها المنحرفون حسّيا وبين واحدة من الظواهر التي يشككون فيها و هي: إحياء العظام و هي رميم.
ص: 57
لكن، ينبغي ألا نغفل عن المنحي الفني الذي سلكه النص بشكل غير مباشر: حينما ذكّر المنحرفين بأنّ الله تعالى جعل من الشجر الأخضر نارا، حيث أنّ المتلقي سيخرج بحصيلة (من خلال عملية التداعي الذهني) هي: أنّ من جعل من الشجر الأخضر نارا، بمقدوره أن يجعل من العظام خلقا جديدا:
بصفة أن (التضاد) بين الأشياء تقترن بصعوبة التكيف بينهما أو امتناعه، لكن بما أن النص استشهد بما هو أكبر و أوسع خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ للتدليل استشهد بما هو أكبر و أوسع خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ للتدليل بإمكانية ما هو أصغر (إحياء العظام) حينئذ، فإن المتلقي و هو مقتنع بإمكانية التكييف أو الجمع بين المتضادين اللذين يحتفظ ذهنه بحدوثها فعلا - سوف يقرن هذا الإمكان و هو (التضاد) مع إمكان آخر خبره حسّيا أيضا وهو خلق السماوات و الأرض و هما جميعا أكثر إفصاحا عن الإدراك لقدرة الله تعالى.
إذن، جاء هذا التذكير الجديد ببعض الظواهر الإبداعية في الكون، مقرونا بأسرار فنية أمكننا ملاحظتها في هذا المقطع الذي ختمت به سورة ياسين، كما أمكننا ملاحظة الصلة الفنية بين هذا الختام أو المقطع و بين (الفكرة الرئيسية) التي حامت عليها موضوعات السورة الكريمة، و نعني بها:
عدم الأمل إصلاح بعض المنحرفين حيث أنّ صدورهم عن أمثلة ذلك عدم الأمل في إصلاح بعض المنحرفين، حيث أنّ صدورهم عن أمثلة ذلك التساؤل السخيف عمّن يحيي العظام و هي رميم، يكشف عن انغلاقهم الفكري تماما، بحيث لا أمل في إصلاحهم فعلا، و بهذا نستكشف مدي الإحكام الهندسي للسورة الكريمة من حيث صلة نهايتها ببدايتها و بمطلق أقسامها، أي:
صلة أجزائها بعضها الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 58
ص: 59
ص: 60
تبدأ سورة الصافات بهذا النحو: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ مٰارِدٍ لاٰ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جٰانِبٍ ، دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ وٰاصِبٌ إِلاّٰ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ ثٰاقِبٌ .
هذا المقطع يشكل (المقدمة) الفنية للسورة: حيث تنتظم السورة موضوعات مختلفة: بخاصة سلوك الأنبياء عليهم السلام، فضلا عن موضوعات متفرقة تصبّ جميعا في رافد فكري موحد بينها هندسيا على النحو الذي سنفصل الحديث عنه لاحقا.
المقدمة المذكورة تتناول أوّلا سلوك الملائكة في بعض ممارساتها العبادية، كما تتناول: السلوك المضاد من قبل مخلوقات مماثلة لهم غيبيا أي الشياطين... أنّ الاستهلال بعرض السلوك الملائكي من جانب و السلوك المضاد له من جانب آخر، و ربطه بالسلوك البشري من جانب ثالث، هذا النمط من الاستهلال من العرض ينطوي على أهمية كبيرة في حقل الصياغة الفنية:
بصفتها انعكاسات للأفكار التي تستهدف السورة الكريمة توصيلها إلى الملتقي.
لقد بدأ الحديث عن «الملائكة» بظاهرة (القسم) بهم. و القسم - كما هو طابع ملحوظ في استهلال كثير من السور به يعني انطواء الظاهرة التي يقسم بها: على خطورة ما تتضمنه من دلالات. فالملائكة مخلوقات (غير مرئية) أولا وتمارس فاعليات ضخمة ثانيا من - حيث كونها أدوات توظيف لإدارة
ص: 61
الكون)، و تمحضها للعبادة الحقة ثالثا...
لقد وسمها النص هنا بسمات الاصطفاف و الزجر، و تلاوة الذكر وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً فالملاحظ أنّ كل واحدة من هذه السمات ترشح بوظيفة خاصة يختلف أحدها عن الآخر، فالسّمة الأولى و هي (الاصطفاف) رمز للوقوف الذي ينتظر إصدار الأوامر إليه من قبل الله تعالى حيث يفصح هذا الرمز عن دلالة خاصة هي (عبودية) المخلوقات الله تعالى متمثلة في أبسط مصاديقها في الاستعداد لأن تمتثل أوامر الله تعالى..
أما السّمة الثانية فهي: الزجر) عن ممارسة ما يضاد العبودية أي: وقوفها حاجزا عن وصول أيّ نشاط سلبي إلى بيئة السّماء التي يحيون فيها، فالسماء أو الملأ الأعلى هي بيئة خاصة لم تتلوث بأية معصية مماثلة في بيئة الأرض، إنّها متمحضة للعناصر النظيفة فحسب. نفهم هذا من خلال الوقائع التي عرضتها مقدمة السورة ذاتها حيث تشير فيما بعد إلى أنّ الملائكة تحتجز الشياطين من الصعود و الاستماع إلى الملأ الأعلى...
و أما السّمة الثالثة للملائكة فهي تلاوة الذكر (فالتاليات ذكرا) و هذه السمة لا تحتاج إلى التعقيب من حيث دلالتها الفنية المتمثلة في أنّ (الذكر) هو التجسيد الحي للوظيفة العبادية بغض النظر عن مستوياته و أنماطه...
إنّ ما نعتزم توضيحه في هذا الاستهلال بالقسم الملائكي هو: دلالاته الفنية أولا و بناؤه أو موقعه الهندسي من عمارة السورة ثانيا. إنّ النصوص المفسرة تفاوتت في استخلاص ما هو المقصود من الاصطفاف و الزجر و تلاوة الذكر، حيث ذكر بعضها ما استخلصناه من العنصر الملائكي، و ذكر بعضها أنّ ذلك مرتبط بالعنصر البشري كاصطفاف المؤمنين في الصلاة أو الجهاد، كما ذكر بعضها دلالات أخرى، بيد أنّ ما استخلصناه فنيا يظل أقرب إلى السياق أو الموقع الهندسي الذي ينتظم مقدمة السورة، نظرا للتجانس بين عنصر
ص: 62
(الملائكة) و بين عنصر (الشياطين) من حيث كون الملائكة تقف حاجزا عن نشاط الشياطين الذين قالت المقدمة عنهم وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ مٰارِدٍ لاٰ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جٰانِبٍ دُحُوراً.. إلخ. فهذا التجانس (أو التقابل بين الملائكة و الشياطين فضلا عن كونه يفصح عن (الرمز) الذي تضمنه لفظ الاصطفاف والزجر و «تلاوة الذكر»، فإنه رمز ينطوي أيضا على جمالية مدهشة في عمارة المقطع، حيث يشع بدلالاته على أجزاء لا حقة من النص، مما يكشف عن مدي إحكام النص و (تنامي) موضوعاته، و تلاحمها بعضا مع و الآخر.
تحدثنا عن الرمز) الفني لدلالة وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً متمثلة في سلوك (الملائكة). و الآن: نواجه أفكارا خاصة طرحها هذا المقطع هي: أولا الإشارة إلى وحدانية الله تعالى إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ و إبداعه السماوات و الأرض و الشمس رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ و السؤال هو: لماذا طرح النص هذا القسم وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ وما هي دلالته الفنية ؟ لقد كان من الممكن أن يقسم النص بالشمس بدلا من (مشارق الشمس)، كما أنّه من الممكن أن يقسم بمشارق الشمس و مغاربها (كما هو الأمر في آية أخرى من غير هذه السورة).. أقول: كان من الممكن أن يقسم النص بالشمس أو بمشارقها و مغاربها جميعا، فلماذا خصص القسم ب (المشارق) فحسب ؟ إننا ما دمنا نتحدث عن البناء الفني للسورة القرآنية الكريمة لا حينئذ لا بد أن نقف عند هذه الظاهر الفنية.
إنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ سر ذلك هو أنّ (الشروق) قبل (الغروب) و لذلك تم القسم به...
من الممكن أن يكون الأمر كذلك.. لكن في تصورنا الفني أنّ التركيز
ص: 63
على (المشارق) دون (المغارب)، فضلا عن التركيز على (الشمس) دون غيرها من ظواهر الإبداع الكوني، هو: أنّ الجزء اللاحق من النص يتحدث عن ظاهرة (الكواكب) إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ و حينئذ فإنّ (الكواكب) بصفتها عنصرا مضيئا لا بدّ أن يجانسه عنصر آخر يحمل طابع الإضاءة أيضا، و هو: إشراق الشمس... مضافا لذلك: فإنّ النص يحدثنا بعد ذلك عن بيئة السماء و حفظها من كل شيطان مارد وذلك من خلال رجمه بشهاب ثاقب إِلاّٰ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ ثٰاقِبٌ فالشهاب الثاقب يجسّد بدوره عنصر إضاءة: بصفة أنّ الشهاب هو شعلة نار مضيئة. إذا، نحن الآن أمام ثلاثة عناصر من الإضاءة تتجانس فيما بينها مع تميز كل واحد منها بطابع خاص إشراق الشمس شعلة الشهاب، زينة الكواكب حيث يفصح مثل هذا التجانس عن جمالية العمارة التي انتظمت هذا المقطع الذي نتحدّث لكن خارجا عن عمارة النص ينبغي أن نتابع موضوعاته. إنّ المقطع بعد إن أقسم بالملائكة و أشار إلى الوحدانية، ثم إلى إبداع السماوات و الأرض و ما بينهما و المشارق اتجه إلى رسم بيئة السماء بصفتها: موطن الملائكة الذين استهل المقطع بهم وهذا بعد آخر من أبعاد التجانس أو التلاحم أو الإحكام الفني بين موضوعات المقطع حيث أنّ الحديث عن الملائكة يقتاد فنيا إلى الحديث عن بيئتهم. فما هي معالم هذه البيئة ؟؟.
البيئة هنا رسمت من خلال بعدين: البعد الجمالي و البعد العبادي أو الفكري. أما البعد الجمالي فيتمثل في إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ مع ملاحظة أنّ (الحاجة إلى الجمال) تجسد واحدة من الحاجات التي تطبع التركيبة البشرية. لكن: إنّ ما يفوق هذه الحاجة أهمية هو الدلالة العبادية للظواهر، و لذلك عندما رسم المقطع جمالية السماء من خلال تزينها بالكواكب
ص: 64
أتبع ذلك مباشرة بالحديث عن قدسية السماء و حفظها من كل دنس وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ مٰارِدٍ ثم أوضح الطريقة التي يتحقق من خلالها الحفظ على السماء متمثلة في حجز الشياطين من الصعود إليها و استراق السمع إلى الملأ الأعلى. إنّ عملية رجم الشياطين من خلال (الشهب) تنطوي على عنصر (جمالي) أيضا يتناسب مع جمالية الكواكب ذاتها، فرؤية الشهاب الثاقب وهو يخترق الجو بنار مضيئة خاطفة إنما تنطوي على عملية إشباع للحسّ الجمالي عند الإنسان..
إذا، نحن الآن أمام جمالية مدهشة في رسم هذا المقطع الذي تضمن حقائق فكرية: من وحدانية الله، و إبداعه السماء، و وظائف ملائكية، حيث تمّ رسم هذه الحقائق العبادية من خلال رسم بيئة جمالية تتركز في عناصر مضيئة مختلفة تطبع هذه البيئة: بدء من مشارق الشمس المضيئة، مرورا بالكواكب المضيئة وانتهاء بالشهب المضيئة، التي وظفت لطرد الشياطين...
إنّ المتلقي مدعو إلى أن يتأمل بدقة. هذه الأسرار الفنية المدهشة، المثيرة، الممتعة، وهي أسرار وظفت أساسا لتقرير حقائق عبادية يستهدف النص توصيلها إليها لكن من خلال هذا الإحكام الجمالي لعمارة النص من حيث تلاحم و تجانس و تنامي موضوعاتها بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ وَ إِذٰا ذُكِّرُوا لاٰ يَذْكُرُونَ وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَ قٰالُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبٰاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دٰاخِرُونَ فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ فَإِذٰا هُمْ يَنْظُرُونَ .
هذا المقطع وما بعده يتحدث عن المنحرفين فكريا ممن طبعهم المرض فانسحب على سلوكهم حيال رسالة الإسلام. و يعنينا منه المنحي الفني الذي
ص: 65
سلكه النص في عرض مواقف المنحرفين وصلته بمقدمة السورة التي حدثتنا عن الملائكة وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ... .
هذه ألمقدمة تنسحب (من حيث عمارة النص) على المقطع الذي يتحدث عن المنحرفين فكريا ممن يشككون بالتوحيد و برسالة الإسلام. لقد خاطبهم المقطع بقوله أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا؟ إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ أي. هل أنّ العنصر البشري أشد خلقا أم العنصر الملائكي الذي يوحد الله و يمارس وظيفته العبادية مثل الاصطفاف لتنفيذ أوامر السماء، وزجر المخلوقات عن المعاصي، والاهتمام بتلاوة الذكر...
طبيعيا، هذا الاستنتاج يظل من قبل المتلقي الذي تسوقه خبرته الفنية إلى أن يربط بين العنصر الملائكي والعنصر البشري: دون أن يحدثنا النص القرآني بذلك مباشرة. و هذه هي إحدى خصائص الفن الذي يدع المتلقي مساهما في كشف الدلالات كلا حسب خبرته الفنية، وإلاّ كان بمقدور النص أن يقول بوضوح (أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا من الملائكة) إلاّ أنّه حذف الملائكة ليدع المتلقي يستخلص بنفسه هذه الحقيقة، وأهمية هذا الإبهام للحقيقة المذكورة لا تنحصر في مجرد الكشف، بل تدع كل قاريء يستخلص الحقيقة حسب خبرته الشخصية بحيث يتفاوت القراء في كشف الحقيقة. ولذلك نجد أن من النصوص المفسرة ما يشير إلى أنّ المقصود ليس الملائكة فحسب بل الملائكة و السماء والأرض والكواكب إلخ، كما أنّ من النصوص ما يشير إلى أنّ المقصود هو الأمم الماضية.
وأيا كان فإذا تجاوزنا هذا الجانب الفني إلى الأفكار المطروحة في المقطع نجد أنّ المنحرفين يصدرون عن جملة من أنماط السلوك تدل جميعا على شدة الاضطراب النفسي الذي يطبع شخوصهم، فالرسول (ص) يعجب من
ص: 66
عدم إيمانهم وهم يسخرون منه بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ لنلاحظ الفارق بين الشخصية الناضجة التي تعجب فحسب من الانحراف (مع أنّ الانحراف يستدعي السخرية) بينما (يسخر) المنحرفون من الموقف الناصح الذي وقفه الرسول (ص) حيالهم. ومن البين أنّ المريض أو المضطرب نفسيا يتعامل مع الحقائق بشكل يخالف ما هو سوى من السلوك. لذلك (سخروا) من محمد (ص) مع أنّه (ص) تعامل بسوية كاملة مع مواقفهم. وإليك الموقف الشاذ الآخر الذي صدر المنحرفون عنه وَ إِذٰا ذُكِّرُوا لاٰ يَذْكُرُونَ و هذا كاف في دمغهم بانتفاء البصيرة عنهم. لكن لنلاحظ مزيدا من اضطراباتهم حينما يواجهون دلائل حسية مثل انشقاق القمر حيث يستسخرون من ذلك أيضا وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ فالمفروض أن الدليل الحسي يخفف من حدة الاضطراب أو التشكيك. إلا أنّ شدة اضطرابهم قد دفعهم إلى أن يستسخروا، أي. أن يعتقدوها (وهي الآية الإعجازية) سخرية، لذلك اضطروا وهم يواجهون دلائل حسية إلى أن يقولوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ . اذا، أمكننا أن نلاحظ كيف أن المقطع القرآني الكريم شخص طبيعة الاضطراب لدى المنحرفين عبر المراحل النفسية التي قطعوها في مواجهة رسالة الإسلام على الصعيد الغيبي و الحسي...
بعد ذلك يحدثنا المقطع عن تشكيكهم باليوم بالآخر أَ إِذٰا مِتْنٰا...
إلخ. إلاّ أنّ النص يجيبهم فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ فَإِذٰا هُمْ يَنْظُرُونَ . هذه الإجابة سوف يفصل النص الحديث عنها لاحقا حينما يرسم مختلف ردود الفعل منهم حيال التي يواجهونها...
هنا ينبغي لفت النظر إلى التجانس الفني بين قوله تعالى عن قيام الساعة فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ وبين مقدمة السورة التي حدثتنا عن الملائكة فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فالملاحظ أنّ الرموز أو العبارات المستخدمة في قيام
ص: 67
الساعة تختلف من سورة إلى أخرى و من موقع إلى آخر مما يعني أن السياق الفني هو الذي يحدد هذه الصورة أو تلك. ففي المقطع الذي نتحدّث عنه جاءت الصورة متمثلة في عملية (زجر) عن الحالة الدنيوية التي يحيونها في حياتهم أو موتهم، حيث (رمز) النص بالصيحة التي تقود إلى الانبعاث في اليوم الآخر (رمز) لها بصورة (الزجرة الواحدة) حيث تتجانس هذه الصورة مع صورة (الزجر) وهو أمر يكشف عن إحكام البناء الهندسي لهذا المقطع وصلته بالمقاطع السابقة حيث لحظنا أكثر من بعد يصل بين أقسام السورة الكريمة على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى وَ قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا هٰذٰا يَوْمُ اَلدِّينِ هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ مٰا كٰانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَاهْدُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْجَحِيمِ وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنٰاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ... .
هذا المقطع يتحدث عن المصير الآخروي للمنحرفين الذين وصفهم مقطع سابق بالسلوك المشكك، المكذب باليوم الآخر، المصحوب بالسخرية من رسالة الإسلام، و حينئذ فإنّ المصير الأخروي الذي ينتظرهم، نتوقع أن يكون متجانسا (عن حيث عمارة النص) مع سلوكهم الدنيوي المذكور. إنّ أول ردّ فعل يواجهونه هو هتافهم بمرارة يٰا وَيْلَنٰا هٰذٰا يَوْمُ اَلدِّينِ يقابل هذا الإقرار بأنفسهم: تأكيد من قبل الله تعالى أو الملائكة هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...
من الواضح، عندما يقر المنحرف بأنّه يواجه شدة نفسية ثم عندما يؤكد له الطرف الآخر قيمة هذه الشدة: حينئذ تبلغ الشدة النفسية منتهاها... و الأهم من ذلك أنّ النص ينتقل من هذه الواقعة الجزئية التي تخص المكذبين برسالة
ص: 68
الإسلام، إلى مطلق المنحرفين. حيث يواجه كل منحرف كافرا كان أو فاسقا يمارس هذا الذنب أو ذاك المصير السلبي الذي ينتظره اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ مٰا كٰانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَاهْدُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْجَحِيمِ فالأزواج هنا يقصد به الأشباه والنظائر أي كل من مارس الخطيئة أيا كان نوعها...
ويلاحظ أن النص هنا مزج لغة الجزاء بلغة السخرية من المنحرفين حيث قال فَاهْدُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْجَحِيمِ فالهداية هنا لغة ساخرة طالما تعني:
الذهاب بالمنحرف إلى الجحيم... وهذه السخرية تتجانس مع سلوك المنحرفين الذين وصفهم مقطع سابق بقوله. بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ و قوله:
وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ فالسخرية و الاستسخار هنا قابلته لغة ساخرة في اليوم الآخر تتجانس مع سلوك المنحرفين، و هذا واحد من أبعاد التلاحم الفني مقاطع السورة الكريمة...
.
ويتابع المقطع مزجه بين اللغة الساخرة، و المهددة، و المؤيسة حينما يقول وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنٰاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ . إنّ أمثلة هذه اللغة الفنية تنطوي على أسرار بالغة بالنسبة إلى العمليات النفسية التي تصاحب المنحرفين في غمرة مواجهتهم لهذه اللغة التي تخاطبهم جديا حينما تقول: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي: يحاسبون على كل سلوك صدر عنهم، وحينما تقول لهم بعد ذلك (ساخرة) منهم مٰا لَكُمْ لاٰ تَنٰاصَرُونَ أي. لماذا لم ينصر بعضكم بعضا في التخلص من هذا المصير؟ ثم حينما نؤيسهم أخيرا من كل أمل. بهذه اللغة بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وهذا الاستسلام إفصاح عن اليأس الذي يغلف المنحرفين وهو يقابل فنيا ذلك (التمرد) الذي صدر عنهم دنيويا، ففي حياتهم الدنيا كانوا متمردين، متعالين، مستكبرين: لا يخضعون لرسالة الحق، وها هم في اليوم الآخر على عكس الحالة الدنيوية نجدهم
ص: 69
(مستسلمين).. و هذا بدوره واحد من أبعاد الإحكام الفنّي بين مقاطع السورة...
بعد ذلك، يتقدم النص برسم موقف المنحرفين وهم (يتحاورون) فيما بينهم، حيث يكشف هذا التحاور عن شدة جديدة من شدائد اليوم الآخر وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ قٰالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنٰا عَنِ اَلْيَمِينِ قٰالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مٰا كٰانَ لَنٰا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ ... ففي هذا الحوار حقائق من السلوك المتبادل بين الضالين و المضلين، فالضال يوجّه عتابا إلى من أضله و خدعه، والمضل يرده بأنّه لا سلطان له عليه بل هو الذي اختار الضلال، وعليه فَحَقَّ عَلَيْنٰا قَوْلُ رَبِّنٰا إِنّٰا لَذٰائِقُونَ هذا الحوار بما يتضمنه من عتاب، ثم بما يتضمنه من رد من قبل المضل نفسه بأنّ الإنسان مختار في سلوكه وأنّه لولا تقبله للضلال لما أمكن لأحد أن يفرض عليه، ثم إقرار لمضل بأنّه هو و من تبعه يستحقون مثل هذا المصير: كل أولئك تشكل حقائق عبادية يستهدف النص توصيلها إلينا - نحن المتلقين - وهي: أنّ الإنسان لا يمكن أن تفرض عليه المعاصي بل هو الذي يختارها ملء إرادته، مما يترتب على ذلك تحمله لمسؤولية مثل هذا السلوك...
أخيرا ربط النصّ بين هذا المصير و بين السلوك الدنيوي الذي عرضه مقطع سابق، ثم أكدّه المقطع الحالي بقول إِنّٰا كَذٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كٰانُوا إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ يَسْتَكْبِرُونَ ... .
و بهذا الربط بين السلوك الدنيوي و الأخروي، يتحقق بعد جديد من أبعاد التلاحم بين مقاطع السورة الكريمة بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ أُولٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوٰاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ .. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ
ص: 70
إِنِّي كٰانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَدِينُونَ قٰالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ قٰالَ تَاللّٰهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَ لَوْ لاٰ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ أَ فَمٰا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاّٰ مَوْتَتَنَا اَلْأُولىٰ وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لِمِثْلِ هٰذٰا فَلْيَعْمَلِ اَلْعٰامِلُونَ ... .
إنّ هذا المقطع ينطوي على أسرار فنية بالغة الجمالية و الدهشة والإثارة والإمتاع، أنّه تحدث عن (الحوار) بين المؤمنين (وهم في الجنة) من جانب و بينهم و بين المنحرفين (و هم في النار من جانب آخر...) هذا الحوار جاء في سياق حوار سابق تمّ بيين المنحرفين حيث كان المنحرفون يعاتب بعضهم الآخر في المصير الذي انتهوا إليه. أما في المقطع الحالي فإن الحوار بين المومنين جاء مقابلا للحوار بين المنحرفين، و هو أمر يكشف عن جمالية العمارة التي انتظمت السورة من حيث تنامي وتلاحم موضوعاتها بعضا مع الآخر، و المهم هو أن نقف عند هذا الحوار الذي بدأ أولا بين المؤمنين نفسهم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ . إنّ المؤمنين وهم يتحاورون في الجنة فيما بينهم يبدأ بعضهم بعملية استحضار للذكريات الدنيوية فيقفز إلى ذهنه التساؤل التالي: قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كٰانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ؟ هذا المؤمن يداعي بأذهاننا إلى ما نخبره في حياتنا اليومية من أشخاص منحرفين يجادلوننا في الدين كأن يقول لنا أحدهم:
أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَدِينُونَ؟... يثيرون أمثلة هذا التساؤل بسخرية سواء كان ذلك في نطاق المناقشة المنطوقة أو في نطاق المناقشة المكتوبة. لكن لنتقدم إلى الموقف الأخروي لنجد كيفية المصير الذي ينتهي إليه أمثلة هؤلاء الأشخاص. لقد رسم النص ماضي هؤلاء المنحرفين من خلال تحاور المؤمنين فيما بينهم حيث يستحضر أحدهم في ذهنه بعض القرناء الدنيويين الذين كانوا يقولون أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذٰا مِتْنٰا
ص: 71
وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً... إلخ هنا، عندما يستحضر المؤمن صورة ذلك الشخص المنحرف، عندها يسرع إلى إخوانه المؤمنين فيقول لهم تعالوا لنشاهد ذلك المنحرف، عندها يسرع إلى إخوانه المؤمنين فيقول المنحرف الذين سخر منه، و إذا به ملقي في وسط الجحيم قٰالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ ... .
لكن، الحوار لا ينتهي عند هذا الموقف والمرأى، لا ينتهي عند محادثة المؤمنين بعضهم للآخر أو محادثه أحدهم للأخرين من خلال استحضاره ذلك الشخص المنحرف أو مشاهدته للمنحرف وهو في وسط النار، الحوار لا ينتهي عند هذا الموقف و المرأى، بل يتجه إلى حوار جديد بين هذا المؤمن وبين ذلك المنحرف. يقول المؤمن (وهو في الجنة) للمنحرف (و هو في النار) تَاللّٰهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَ لَوْ لاٰ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ أَ فَمٰا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاّٰ مَوْتَتَنَا اَلْأُولىٰ وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ... أي: إنّ المؤمن يقول للمنحرف كدت أن تضلني في الحياة الدنيا لولا لطف الله تعالى، ألم تقل لي أَ فَمٰا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاّٰ مَوْتَتَنَا اَلْأُولىٰ؟ .
إنّ هذا الحوار لا يعكس - فنيا - مجرد المواقف التي يستحضرها المؤمنون في اليوم الآخر بل يتجاوزه إلى بعد فني آخر هو: مضاعفة الشدة النفسية بالنسبة للمنحرف. فالمنحرفون - كما وصفهم مقطع سابق - تعرضوا لشدائد نفسية بالغة حينما عاتب بعضهم الآخر، وها هم (أي. المنحرفين) يتعرّضون لشدة نفسية جديدة حينما يجيء العتاب من قبا طرف آخر هو (المؤمن) فما إن ينتهي المنحرف من عتاب أمثاله من المنحرفين حتى يواجه عتابا من المؤمنين يذكره بنفس الموقف الدنيوي الضال...
و من الواضح أنّ العتاب حينما تتعدد أطرافه (أي حينما يشمل طرفين متضادين) حينئذ تبلغ الشدة النفسية منتهاها: كما هو بين. و الأهم من ذلك أنّ النصّ وصل بين مواقف المنحرفين (في مقطع سابق) وبين المقطع الذي
ص: 72
نتحدث عنه حاليا خلال التقابل بين المنحرفين و المؤمنين حيث شمل التحاور كل الأطراف كما لحظنا، و هو أمر يكشف عن مدي جمالية المبني الهندسي للسورة من حيث تلاحم و تواشح مقاطعها بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ إِنّٰا جَعَلْنٰاهٰا فِتْنَةً لِلظّٰالِمِينَ إِنَّهٰا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ طَلْعُهٰا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ ... .
هذا المقطع يتحدث عن بيئة جهنم (أعاذنا الله منها) بعد أن كان المقطع الذي سبق يتحدث عن بيئة الجنة.. و الملاحظ في رسم بيئة جهنم أنّ المقطع اتجه إلى صياغة (صورة فنية) هي: شجرة الزقوم التي وصفها بأنّها تخرج في أصل الجحيم أن طلعها كأنه رؤوس الشياطين.. و المهم هو: أنّ صورة (رؤوس الشياطين) تظل من الصور المتفردة التي تبعث الدهشة و الطرافة اللتين لا إلى تسجيل مداهما، حتى أنّه ليمكن القول إنّ هذه (الصورة) تنطوي على أسرار التركيب الفني الذي يعجز الدارسون استكشاف أبعاده المختلفة التي تثار عادة عند دراسة مفهوم الصورة الفنية... إن تركيب الصورة يعتمد عنصر (الواقع) كما هو واضح، أي أنّ نجاحها يتوقف على مدي ما تتضمنه من خبرات واقعية يحياها الشخص و الفارق بين الصورة الفنية التي يصوغها البشر و الصورة القرآنية هو: أنّ عنصر (الوهم) هو الذي يطبع غالبية النتاج البشري، في حين يظل (الواقع) هو العنصر الذي يطبع صور القرآن الكريم...
فالشاعر - على سبيل المثال - عندما يصوغ صورة فنية يستهدف منها إبراز عنصر البطولة لدى أحد العسكريين مثلا: كما لو قال: إنّ هذا البطل أخاف الأعداء بما فيهم النطف التي لم تر النور بعد، حينئذ فإنّ (الوهم) أو (الكذب) يطبع مثل هذه الصورة طالما لا تعتمد على (الواقع) فالنطفة لا يمكن أن تعي
ص: 73
شيئا من تجارب الحياة حتى يمكن أن تحدث لديها الخوف من بطل عسكري...
طبيعيا، إنّ (الواقع) لا ينحصر في ما هو (حسيّ )، بل يتجاوزه إلى ما هو (نفسي) أيضا فعندما تصف النصوص الشرعية بأنّ الدنيا (سجن) المؤمن مثلا، فإنّ (الواقع) هنا واقع نفسي وليس حسيا لعدم وجود السجن الحقيقي بل إنّ الإحساس بالشيء هو الذي يخلع على ما هو مادي طابعا نفسيا، لذلك تعد صورة (الدنيا سجن المؤمن) ذات (واقع) نفسي، بعكس صورة (لنطف التي تخالف البطل) لأنّ النطف أساسا لا تملك الأحاسيس الدنيوية حتى يمكن أن تترجم ما هو مادي إلى ما هو نفسي. و الأمر ذاته بالنسبة إلى الواقع الغيبي، أي أنّ الشخصية الإسلامية المؤمنة بالغيب حينما تواجه صورة فنية لا وجود لها في البيئة الدنيوية: حينئذ تظل مثل هذه الصورة ذات طابع (واقعي) أيضا إلاّ أنّه واقع (غيبي) و ليس واقعا حسيا أو نفسيا...
و الآن في ضوء هذا التمييز بين الصياغة الفنية التي يكتبها البشر من حيث كونها لا تتقيد با لواقع، و بين الصورة القنية التي تعتمد الواقع بأشكاله الثلاثة.
الحسي و النفسي والغيبي، أقول. في ضوء هذا الفارق بين ما يكتبه البشر و ما يصوعه النص القرآني الكريم بمكننا أن نتجه إلى الصورة الفنية عن شجرة الزقوم التي وصفها المقطع القرآني بقوله: طَلْعُهٰا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ لنلاحظ مدي ما تتضمنه من (واقع) نفسي أو حسي أو غيبي... لكن - قبل ذلك - ينبغي أن نقف على الصورة الكلية أو الصورة الموحدة التي تتركب من أجزاء تشكل بمجموعها صورة مركبة، فالصورة الكلية أو المركبة تتألف من الأجزاء التالية: 1 - شحرة الزقوم - 2 - إنّها شجرة تخرج في أصل الجحيم - 3 - طلعها كأنه رؤوس الشياطين - 4 - فإنّهم لآكلون منها فمالئون منها البطون...
ص: 74
هذا يعني أننا أمام صورة موحدة تتألف من أربع صورة جزئية تآزرت فيما بينها لتشكل صورة استمرارية عن شجرة في الجحيم ذات طابع خاص بالنسبة إلى العلاقة القائمة بينها و بين تناول المنحرفين من طعامها..
إنّ الصورة الفنية لشجرة الزقوم و طلعها تتطلب إلقاء مزيد من الحديث عنها، نظرا لما تنطوي عليه من الأسرار الفنية في صياغه هذا النمط من الصورة. و نحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ نجاح الصورة يعتمد على كونها (مألوفة) في تجارب البشر، حينئذ فإنّ كلا من (الشجر) و (اَلزَّقُّومِ ) يظل منتسبا لما هو مألوف في التجارب البشرية أما (الشجر) فمن الوضوح بمكان وأمّا (اَلزَّقُّومِ ) فطعام كريه إلى النفس حسب ما هو معروف في اللغة اليومية التي يحياها الناس حيث تستخدم هذه العبارة قبل نزول القرآن الكريم حسب ما ذكره المعنيون بشؤون اللغة، مثلما نستخدمها - نحن في سياق الطعام الكريه أو المضر مثلا...
إذا، من حيث (الألفة: تجيء صورة (شجرة زقوم) بنحو يرتبط بتجارب البشر و هو ما يسمها بطابع المشروعية الفنية. ببد أنّ المهم هو:
تركيب الصورة أي (الشجر) و (الزقوم) فالنصوص المفسرة يذهب بعضها إلى أنّ الزقوم هو (ثمر) شجرة أو شجرة تعرفها العرب، إلاّ أنّ البعض الآخر يذهب إلى أنّ العرب يعرفوا مثل هذه الشجرة، بقدر ما تنحصر معرفتهم بالزقوم من حيث كونه طعاما كريها أو مضرا... فإذا انسقنا مع التفسير الذاهب إلى أنّ العرب لم يألفوا الزقوم (شجرا) أو (تمرة) بل يألفونها طعاما أو رمزا لطعام كريه، حينئذ فإنّ (شجرة الزقوم) تصبح صورة (رمزية) وليس صورة مباشرة، وهو أمر يخلع على هذا الصورة دلالة فنية هي. إحداث علاقة بين طعام كريه وبين شجرة تثمر الطعام المذكور: أعدّت للمنحرفين. علما بأنّ
ص: 75
جعل الطعام مرتبطا بشجرة يظل اشد فاعلية من جعله مجرد طعام: لأنّ الشجر يمثل عنصرا استمراريا في تقديم الثمر. مضافا لذلك، فإن الشجر هنا يتجانس فنيا مع البيئة المقابلة لبيئة الجحيم أي الجنة، فما دام النص في مقطع أسبق قد تحدّث عن الجنة التي تداعي الذهن إلى كونها بيئة زراعية، حينئذ فإن مقابلتها ببيئة النار من خلال إحداث عنصر زراعي فيها (وهو شجرة الزقوم) يظل أمرا له إثارته و خطورته الفنية...
إذا، أمكننا الآن أن نتعرف جانبا من الاسرار الفنية الكامنة وراء صياغة صورة (شجرة الزقوم) في بيئة النار...
و الأمر نفسه يمكننا أن نتعرّفه حين نتجه إلى الصورة الجزئية التي ارتبطت بالشجرة المشار إليها وهي صورة إِنَّهٰا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ ...
طبيعيا، بعد أن أوجد النص علاقة فنية بين بيئة النار و بين شجرة الزقوم، حينئذ فإن إحداث العلاقات المتفرعة عن ذلك: يظل أمرا له مسوغه الفني كما هو واضح...
العلاقة الجديدة هي: أنّ الشجرة المذكورة تنبت في أرض خاصة و ليس. في مطلق الأراضي التي تكتنف بيئة النار... هذه الأرض هي (قعر) جهنم (إنّها شجرة تخرج في (أصل) الجحيم)... و أهمية هذه الصورة تتمثل في أنّ انتخاب (القعر) بدلا من الأبعاد المكانية الأخرى: ينطوي على دلالة خاصة هي: ضخامة هذه الشجرة وارتفاع أغصانها بحيث تتناسب هذه الضخامة وذلك الارتفاع:: مع نوعية الجزاء الأخروي الذي ينتظر الكافرين أو مطلق المنحرفين المنعزلين عن مباديء اللّه تعالى...
إذا، للمرة الجديدة، أمكننا نتعرف اسرارا فنيّة أخرى تقف وراء صورة الشجرة التي تنبت في أصل الجحيم، فضلا عن الأسرار الفنية التي لحظناها في صورة (الشجرة) ذاتها بصفتها (شجرة زقوم) ثم ارتباط ذلك (من حيث عمارة
ص: 76
النص) بالمقاطع السابقة مما يفصح عن مدي إحكام النص و تلاحم جزئياته النحو الذي تقدم الحديث عنه.
تحدثنا عن الصورتين الفنيتين (شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ ) و كونها (شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ ) ...
أما الآن فنتحدث عن الصورة الثالثة و هي صورة طَلْعُهٰا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ .
قلنا إنّ هذه الصورة الفنية المدهشة ترتكن إلى (و واقعية) خاصة، أي إنّها تتعامل مع (واقع) قد يكون (حسيا) وقد يكون (نفسيا) و قد يكون (غيبيا)، و قد يجمع بين ما هو حسي ونفسي وغيبي، وهذا ما يجعلها من الصور المدهشة التي تنطوي على أسرار فنية في غاية الخطورة...
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الصورة الناجحة فنيا هي الصورة التي تعتمد (الواقع) و ليس (الوهم)، حينئذ يمكننا أن نتعرّف الجوانب المختلفة لهذا التعامل الفني مع (الواقع)، وهو واقع - كما قلنا - قد يكون حسيا ندركه بحواسنا، أو نفسيا نخلع عليه أحاسيسنا، أو غيبيا تمثله تصوراتنا الذهنية التي تمدنا بها: المعرفة العبادية...
إنّ المدهش - في هذه الصورة طَلْعُهٰا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ - هو:
الركون إلى الأشكال الثلاثة من الواقع: أي النفسي و الحسي و الغيبي فالملاحظ أنّ هذه الصورة تتضمن طرفين - كما هو شأن التركيب للصورة - أحدهما: (الطلع) و هو حمل النخلة و الآخر هو (رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ ) أما (الطلع) فيظل من الواضح بمكان، ما دمنا جميعا نخبر هذا النمط من الظواهر و نحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما سبق أن كررناه من أنّ الصورة الناجحة فنيا هي التي تتركب من ظواهر مألوفة في تجارب البشر، حينئذ فإنّ (الطلع) - و هو ما
ص: 77
نشاهده في أول نمو الثمرة - يظل في الصميم من الخبرات المألوفة كما هو واضح، إلا أنّ الطرف الآخر من الصورة وهو (رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ ) قد يبدو و كأنّه غير مألوف في تجاربنا اليومية... إلاّ أننا لو دققنا النظر لوجدنا أنّ هذا الطرف من الصورة (رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ ) يظل مرتبطا بدوره بخبرات البشر، لكن: وفق احتمالات أو إيحاءات متنوعة سنقف عليها فيما بعد، غير أنّ ما نعتزم تأكيده الآن هو، أنّ هذه الإيحاءات أو الاحتمالات تظل منتسبة إمّا إلى واقع حسي أو نفسي أو غيبي أو جميعا: كما أشرنا، وهذا بخلاف الطرف الأول من الصورة (أي الطلع) حيث تظل خبراتنا ذات طابع حسي بالنسبة لظاهرة (الطلع)... والسؤال هو، لماذا جاء التشبيه برؤوس الشياطين: من خلال (الطلع) و ليس من خلال (الثمر) نفسه وهو التمر أو الرطب مثلا؟ أي:
كان بمقدور النص أن يشبه (تمر) الشجرة برؤوس الشياطين ولكنه شبه (طلع) الشجرة بدلا من ذلك، فلماذا؟ في تصورنا الفني أنّ (الثمر) ما دام مقترنا بما هو (شهي) عند التناول، حينئذ فإنه لا يتجانس مع (الزقوم) الذي يقترن بما هو (كريه) عند التناول.
صحيح أنّ (الطلع) ليس كريها أيضا بل ينطوي على جانب من التذوق الجيد، إلاّ أنّه لا يرقي البتة إلى درجة التذوق الذي ينطوي عليه التمر أو الرطب مثلا، مع ملاحظة أن (المرارة) تظل مقترنة بتذوق (الطلع) كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّ الطلع من حيث كونه حملا، وليس (ثمرا) إنّما يرمز إلى استمرارية النمو و هو يتجانس مع ما سبق أن أشرنا إليه من أنّ (الشجر) أساسا يجسّد (استمرارية) العطاء بحيث يستهدف النص تقرير الحقيقة القائلة بأنّ شجرة الزقوم تطل طعاما استمراريا لا ينضب بالنسبة إلى المنحرفين، حينئذ فإنّ انتخاب ظاهرة (الطلع) بدلا من الثمر نفسه يرمز إلى الاستمرارية المشار إليها...
ص: 78
و أيا كان الأمر، فإنّ المهم - بعد ذلك - هو أن نقف على الطرف الآخر في التشبيه وهو رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ بصفته العنصر الرئيسي الذي يستهدف النص القرآني تعميق دلالته لدى المتلقي.
تحدثنا عن الصورة الفنية لشجرة الزقوم وأصلها وطلعها..
أما الآن فنتحدث عن صورة رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ .
إنّ هذه الصورة المدهشة تتمثل طرافتها في جملة من المستويات، منها:
كون الصورة تشع بإيحاءات متنوعة تتصل إما بما هو حسي من تجارب الإنسان أو بما هو نفسي أو بما هو غيبي أو بهم جميعا. فلو انسقنا مع النصوص التفسيرية الذاهبة إلى أن رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ ثمرة يخبرها العرب آنئذ و لها شواهد شعرية تشير إليها، أو أنّ الشيطان: جنس من الحيات مثلا، حينئذ فإنّ الصورة المشار إليها تظل مرتبطة بما هو (حسّي)... لكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ ألفة هذه الصورة تختص بزمن نزول الرسالة حينئذ فإنّ استيحاء ما هو نفسي أو غيبي منها يفرض ضرورته على المتلقي، بصفة أنّ النص الفني الخالد هو ما يجمع بين الخاص والعام. أما الخاص فيتمثل في زمن نزول القرآن، وأما العام فيمتد إلى مطلق الأزمان حيث يمكن للمتلقي أن يستوحي من الصورة المشار إليها (واقعا غيبيا) أو (نفسيا). فالشيطان طالما تصوره النصوص الإسلامية عنصرا خبيثا كريها، شريرا، قبيحا إلخ و إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ (الرأس) وهو يحوي الجهاز العقلي بما في ذلك مراكز التنظيم لمختلف فعاليات النفس، حينئذ يمكننا أن تتصور رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ وهي مظاهر لكل ما هو شر وخبث. كما أنّ طلع الشجرة التي يتغذى منها المنحرفون تشبه رؤوس الشياطين في مادتها الكريهة، للنفس... و هذا يعني أنّ ما هو (كريه) هو: الواقع النفسي الذي يختزن تجارب خاصة أو تصورات
ص: 79
خاصة في الذهن، و هذا بخلاف ما هو (وهمي) من التصورات لأنّ (الوهم) هو ما لا وجود له في واقع النفس أو الحق كما لو خلعنا على الجنين) مثلا: أفكارا و أحاسيس عن تجارب الحياة خارج الرحم حيث لا وجود لمثل هذه الأحاسيس بطبيعة الحال...
و أيا كان الأمر، فإنّ الصورة المشار إليها بما تضمنته من عنصر إيحائي، و بما يشع به الأيحاء من خبرات حسية أو نفسية أو غيبية: تظل من الصورة الفنية التي تطبعها سمات الدّهشة و الإثارة و الطرافة على نحو ما أوضحناه.
و المهم، أنّ المقطع القرآني الكريم، يتجه بعد ذلك إلى استكمال الصورة الاستمرارية الموحدة، المركبة من: صور جزئية هي: شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ و تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ و فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهٰا، فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ ..
و من الواضح، أنّ الصور الثلاثة (الشجرة، و أصلها، و طلعها) انّما تستكمل من خلال عملية (التناول) منها، الأكل من الشجرة المذكورة الذي تكفلت به الصورة الأخيرة التي حددت عملية الأكل بقولها: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهٰا، فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ هنا ينبغي أن نشير إلى سمة فنية تطبع هذه الصورة و هي أنّ المقطع لم يكتف بالقول: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهٰا بل أردف ذلك بقوله:. فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ ، لأنّ الأكل وحده قد يحسس المتلقي بتناول قسم منه ثم يحسم الأمر. لكن:. عندما يقرر المقطع بأنّ المنحرفين يملأون بطونهم من الشجرة، حينئذ فإنّ ظاهرة (الامتلاء) توحي - كما هو واضح - بمزيد من الشدة التي يكابد منها المنحرفون، طالما يضاعف الامتلاء من حجم الأذي الذي يسببه التناول.....
أخيرا، يصل النص بين هذه الصورة من بيئة الجحيم و بين السلوك
ص: 80
الدنيوي الذي صدر عنه المنحرفون، وهو سلوك سبق أن عرضه النص مفصلا ووصله بهذه الصورة الفنية، إلاّ أنّه الآن (وهذا واحد من أسرر عمارة النص) يعود ليصل بين السلوك الدنيوي المنحرفين وبين سلوك السابقين عليهم إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبٰاءَهُمْ ضٰالِّينَ فَهُمْ عَلىٰ آثٰارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ .
إنّ هذا الربط بين بيئة الجحيم من جانب و بين سلوك المنحرفين عن رسالة الإسلام من جانب آخر، وربطه بسلوك المجتمعات السابقة من جانب ثالث (حيث سينسحب هذا الربط على مقاطع لاحقة تتحدث عن المجتمعات السابقة)... كل أولتك تكشف لنا عن مدي إحكام المبني لهندسي للنص القرآني من حيث تلاحم وتنامي موضوعاته المختلفة بعضا مع الآخر، بالنحو الذي تحدثنا عنه وبالنحو الذي سنفل الحديث عنه لا حقا إن شاء الله تعالى).
قال تعالى. وَ لَقَدْ نٰادٰانٰا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ جَعَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبٰاقِينَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ .
هذا المقطع يتحدّث عن نوح عليه السلام وسائر الأنبياء، ويبدأ القسم الأول بالحديث عن المجتمع الذي عاصر رسالة الإسلام...
القسم الجديد الذي تطرحه السورة يتمثّل في عنصر (قصصي) يتحدّث عن نوح، و إبراهيم، و إسحاق، و موسى، و هارون، و الياس، و لوط، و يونس عليهم السلام، حيث ينتظم هذه القصص فنّي خاص يتوزّع في خطوط تتوازن و تتقابل فيما بينها على نحو ممعن في الإحكام و الجمال و الدّهشة، يواكبها بناء (فكري) يركز على دلالات معينة: كما سنري، بحيث تتلاحم فينا
ص: 81
مع بناء السورة العام.
تتجسّد أبنية القصص في كونها من القصص الصغيرة: من حيث الحجم، وفي كونها تخضع لبدايات وخواتيم وأواسط متجانسة فكريا وأسلوبيا: فكلّ أقصوصة - إلاّ نادرا حيث سنوضح السرّ الفنّي لهذه الاستثناءات - تختم بالسلام على بطل القصة، و إثابة مطلق المحسنين، و بالإشارة إلى أنّه من العباد المؤمنين، مثل سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ . هذه العبارات الثلاث التي ختمت بها أقصوصة إبراهيم عليه السلام، تختم بها أكثر من أقصوصة أيضا مثل سَلاٰمٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ومثل سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ . والعبارات الثلاث ذاتها تختم بها أقصوصة نوح أيضا: حيث جاءت أولي القصص التي نبدأ بالحديث عنها... لكن قبل أن نتحدّث عن هذه الأقصوصة ينبغي أن نشير إلى أنّ بداية هذه الأقصوصة ووسطها سوف يخضعان أيضا لخطوط متجانسة مع سائر القصص مثل. الإشارة إلى نصرة السماء لرسلها من نحو وَ لَقَدْ نٰادٰانٰا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ مثل وَ لَقَدْ مَنَنّٰا عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُمٰا وَ قَوْمَهُمٰا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ومثل وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ . هذا فضلا عن تجانس بدايات بعض القصص مع الأخرى مثل الإشارة التي لحظناها بالنسبة إلى لوط عليه السلام وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ومثلها بالنسبة إلى إلياس عليه السلام وَ إِنَّ إِلْيٰاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ...
هذه الأبنية المتجانسة لبدايات وأواسط وخواتيم القصص أسلوبيا وفكريا ينبغي ألاّ تغيب عن أذهاننا ما دمنا نعني بعمارة السورة القرآنية الكريمة، وما دامت السورة ذاتها تعلن بوضوح عن خضوعها لهذا البناء الهندسي،
ص: 82
الجميل، المحكم، وما دام هذا البناء الفني ينطوي على دلالات فكرية يستهدف النص توصيلها إلى المتلقّي لتعديل سلوكه: بطبيعة الحال...
وأيّا كان، حين نتّجه إلى أقصوصة نوح عليه السلام، نجد أنّها طرحت المفهومات التي أشرنا إلى بعضها مثل مناداته عليه السلام لله تعالى وإجابة ذلك (وَ لَقَدْ نٰادٰانٰا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ ومثل إنقاذه ومن آمن معه وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ومثل «السلام عليه»، والإثابة، والإشارة إلى الإيمان سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ . هذه الدلالات تظل مشتركة - كما قلنا - بين غالبية القصص. لكن لا بدّ أن تتضمن كل أقصوصة طرحا جديدا أيضا بحيث يفرزها بعضا عن الآخر في نفس الوقت الذي تتوحد من خلاله بطوابع مشتركة...
فما هو البعد المستقل الذي طرحته قصة نوح ؟.
الطرح هو وَ جَعَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبٰاقِينَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ أي: أنّ الأقصوصة طرحت حقيقة تأريخية تتصل بنشأة المجتمع البشري من جانب، وبالفهم العبادي لهذه الحقيقة من جانب آخر...
الحقيقة التأريخية أو الاجتماعية تقول: إنّ ذرّية نوح فحسب هم الذين سلموا من الموت في حادثة الطوفان مما يعني أنّ البشرية هم من ولد نوح عليه السلام (في مجتمعهم الجديد. أي بعد المجتمع الأول المتمثل في آدم وزوجته وذرّيتهما)... وأما الحقيقة الأخرق فتتمثّل في قوله تعالى: وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ، وهي حقيقة عبادية يستهدفها النص أساسا في عرضه لهذ الأقصوصة، وسائر الأقاصيص حيث يظل عليه السلام نموذجا للآخرين من حيث كونه نموذجا عباديا آمن بالله تعالى، وتحمل شدائد الحياة في تبليغ رسالة السماء، ومن حيث كونه - نتيجة لإيمانه وصلابته يظل موضع تقدير من اللّه تعالى في تحقيق طلبه وهو النجاة من الكرب العظيم، ومن حيث النتائج
ص: 83
المترتبة على مطلق سلوكه متمثّلة في سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ .
اذا، ثمة دلالة فكرية قد استهدفها النص في هذه الأقصوصة، وه هي دلالة - ذات استقلال من جانب - حيث تطرح قضية الطوفان، ونشأة المجتمع البشري الجديد، وذات طابع مشترك - من جانب آخر - حيث تطرح ظاهرة نصرة السماء لعبادتها المؤمنين. وكما قلنا، فإن هذه الدلالات تظل - من حيث عمارة النص - مرتبطة بالقسم الأقل من السورة من حيث الوصل بين رسالة الإسلام والرسالات السابقة في خضوعها جميعا لأحداث و مواقف متماثلة.
كما أنّها مرتبطة بسائر الأقاصيص التي سنقف عليها، مما تفصح عن مدي إحكام النص في تلاحم موضوعاته على النحو الذي سنفصّل الحديث عنه لاحقا إن شاء الله تعالى.
قال تعالى. وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ إِذْ جٰاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا ذٰا تَعْبُدُونَ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللّٰهِ تُرِيدُونَ فَمٰا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فَقٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنْطِقُونَ فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قٰالَ أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ قٰالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيٰاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ فَأَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ .
هذه هي القصة الثانية التي يسردها هذا القسم عن السورة، حيث كانت القصة الأولى تتحدّث عن نوح عليه السلام. و أمّا هذه القصة فتتحدّث عن إبراهيم عليه السلام. هذه القصة لها تميّزها عن مجموعة الأقاصيص التي تطبعها سمات مشتركة أوضحناها في حينه، فشخصية إبراهيم ترتبط بسلوك خاص مع اللّه تعالى، فهو خليله. وهو صاحب الحنيفية التي امتدّت في الزمن.
ص: 84
وهو الذي رفع قواعد البيت. وهو الذي وصفه الله تعالى بأنّه (أمة) وحده هذه الخصائص المتميّزة لشخصية إبراهيم عليه السلام تفسر لنا سرّ تميزه عبر قصة مستقلّة تتحدث بشيء من التفصيل عن المواقف والأحداث التي و اكتب حياته...
و المهم أن نعرض لهذه التفصيلات القصصية...
لقد وصف النص شخصية إبراهيم بأنّه من شيعة نوح عليه السلام: علما بأنّ نوحا قدر رسمه النص أول شخصية نموذجية رسخت في ذاكرة الأجيال وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ بصفة أنّها ترتبط بالنشأة الجديدة للمجتمع البشري بعد أن انقرض المجتمع البشري الأول في حادثة الطوفان... المهم أنّ النص عندما يرسم إبراهيم بأنّه من شيعة نوح وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ إنّما يركز في ذهن المتلقّي: النموذج الأمثل للمجتمع الجديد الذي نشأ بعد الطوفان..
ثم بدأ النصّ القصصي يرسم معالم هذه الشخصية من خلال الجهاد الذي مارسته في مجتمعها الوثني، وهو مجتمع طبعته الوثنية بحيث شملت حتى أباه إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون.. لقد بدأ حياته بهذه الممارسة الجريئة التي جاهدت أباها وقومها حيث وصف النّص هذه الشخصية أوّلا بأنّها ذات قلب سليم (إذ جاء ربّه بقلب سليم)... والإشارة إلى سلامة القلب تنطوي على دلالة مهمة في علاقة الشخصية بمواقف و أحداث القصة، وفي مقدّمة ذلك سلوكه العبادي الذي تفرّد به بحيث كان وحده حاملا لمفهوم التوحيد الخالص دون مجتمعه الوثني الذي شمل حتى أباه - كما قلنا - كما أنّ محاربته عليه السلام لأبيه تمثّل نموذجا آخر لسلامة قلبه المتّجه إلى الله تعالى حيث لم تتدخّل عاطفة البنوّة في التأثير على سلامة قلبه حيال اللّه تعالى.
بعد ذلك عرض النص تفصيلا لمواقفه وحادثة إلقائه في الحريق ونجاته منه: حيث تحدّثنا عن ذلك في سورة سابقة.
ص: 85
إلاّ أنّ الجديد في القصة هو: عرض الشّطر الآخر من حياة إبراهيم عليه السلام، فالشطر الأول من حياته يتمثّل في مجاهدته قومه الوثنيين فيما ختمت بنجاته من المؤامرة التي دبّرها المنحرفون.
أما الشّطر الآخر من حياته فقد تكفّلت هذه القصّة برسمها من خلال الحادثة التالية: وَ قٰالَ إِنِّي ذٰاهِبٌ إِلىٰ رَبِّي: سَيَهْدِينِ .
وتقول النصوص المفسّرة أنّه عليه السلام هاجر مع سارة ولوط إلى الشام... والمهمّ أنّ هذه المهاجرة تنطوي على جملة دلالات منها: ترك ديار الكفر ومواصلة العمل العبادي حيث أنّ السّمة التي خلعها النصّ على إبراهيم أو السّمة التي خلعها إبراهيم على ذاته وهي سَيَهْدِينِ تكشف عن دلالة هذه (المهاجرة) إلى الأرض الجديدة... وقبل أن نتحدّث عن هذه المرحلة الجديدة من حياة إبراهيم عليه السلام ينبغي ألاّ نغفل عن المبني الهندسي لهذا القسم من القصة من حيث صلته بالمقاطع السابقة من السورة. حيث لحظنا أنّ قصة نوح السابقة على قصة إبراهيم ركزت على جملة من الدلالات منها: نجاة نوح من الطوفان، وها هي قصة إبراهيم تحدّثنا أيضا عن نجاة إبراهيم من حادثة النار فَأَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ ، هذا فضلا عن التجانس الذي سنلحظه بين هذه القصة وبين ما سبقها وما تلحقها من الأقاصيص، مما تفصح جميعا عن جمالية الإحكام العماري لهذا المقطع من القصة وصلته بالمقاطع الأخرى.
قال تعالى. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّٰالِحِينَ فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ فَلَمّٰا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قٰالَ : يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ مٰا ذٰا تَرىٰ ، قٰالَ :
يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ فَلَمّٰا أَسْلَمٰا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نٰادَيْنٰاهُ أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ
ص: 86
اَلْبَلاٰءُ اَلْمُبِينُ وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ... .
هذا هو القسم الثاني من قصة إبراهيم، حيث كان القسم الأول من القصّة يتحدّث عن موقف إبراهيم عن المجتمع الوثني الذي انتهى المطاف من خلاله إلى إنقاذه من مؤامرة الوثنيين... وجاء القسم الثاني ليتحدّث عن هجرة إبراهيم، ثم بما واكبت هذه الهجرة ظواهر عبادية ركّزت القصة عليها، منها:
طلب إبراهيم من اللّه تعالى ولدا صالحا حيث استجيب له، فولد «إسماعيل»، ثم بشّر عليه السلام بولد آخر وهو «إسحاق».. وقد واكبت هذا الجانب حادثة لها خطورتها في حقل التجربة العبادية وهي. قضية الأمر بذبح إسماعيل...
ولنقف عند هاتين الحادثتين: حادثة الذريّة، أي طلب الولد، وحادثة الأمر بالذبح...
لقد طلب إبراهيم ولدا صالحا رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّٰالِحِينَ ، وجاء الجواب فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ ... أي: إنّ إبراهيم طلب ولدا تطبعه سمة (الصلاح)، فجاء الجواب بتبشيره فعلا بمجيء الولد. لكن من خلال إكسابه صفة (الحلم) فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ ...
إنّ كلا من سمتي (الصلاح) و (الحلم) لا بدّ أن تنطوي على دلالة خاصة ذات بعد فنيّ يستهدف النصّ توصيلها إلى المتلقّي... فالصلاح سمة عامة يطلبها إبراهيم لذريّته حتى تمارس الوظيفة العبادية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وأمّا (الحلم) فسمة خاصة خلعها النص على الوليد: تأكيدا لأهميّة هذه السّمة لأنّها ترتبط بأهمّ مقوّمات الشخصية المتماسكة أو الناضجة انفعاليا.
حسب اللغة النفسية... مضافا لذلك فإنّ سمة (الحلم) ترتبط عضويّا أو بنائيا بسلوك الوليد في حادثة الذبح التي يتعرض لها حيث استجاب الوليد لهذه الحادثة وفق سمة (الحلم) التي خلعها النصّ عليه... وهذا يعني (من زاوية
ص: 87
عمارة النصّ ) أنّ هناك تلاحما و تناميا فنيا بين الصفة التي خلعها النص على الوليد و بين سلوكه في حادثة الذبح، وهذا واحد من الأسرار الفنية لهذا الرسم القصصي.
و أمّا حادثة (الذبح) نفسه فتتمثّل في رواية إبراهيم أوّلا لقصة الذبح: يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ مٰا ذٰا تَرىٰ فأجابه اسماعيل: يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ ، لكن: لما استسلما للأمر الواقع فَلَمّٰا أَسْلَمٰا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، و إذا بالنداء يٰا إِبْرٰاهِيمُ : قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا حيث توقّفت عملية الذّبح، لكن عوّض عنها لعملية أخرى وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ...
إنّ هذه الحادثة تظل واحدة من الظواهر الاختبارية أو الامتحانية التي طالما يتعرّض المؤمنون لها وفق حكمة السماء... والمهم هو: اجتياز هذه التجربة العبادية بنجاح، يتمثّل في استسلامهما لأوامر الله تعالى (مع ملاحظة أنّ القضية تتّصل بعاطفتي الأبوّة و النبوّة، و هما من أشدّ الدّوافع البشرية إلحاحا كما هو بين.. فلو اقتصر الأمر على دافع أو عاطفة واحدة: كما لو افترضنا أنّ الأب يطالب بذبح الابن دون أن يستجيب الابن لذلك، أو كما افترضنا أنّ الابن يستجيب لذلك إلاّ أنّ الأب يتلكّأ في الأمر... أقول: لو اقتصر الأمر على أحد الدافعين لاستكشفنا حقيقة عبادية تشير إلى تفاوت الأشخاص في وعيهم العبادي مثل: قضية نوح مع ابنه أو قضية إبراهيم مع أبيه آزر حيث إنّ كلا من نوح وإبراهيم صدر عن وعي عباديّ يتناسب مع خطورة شخصيتهما، في حين صدر كلّ من ابن نوح وأب إبراهيم عن سلوك مضادّ... لكن بالنسبة في لإبراهيم وإسماعيل فإنّ الأمر أخذ طابعا خاصا هو صدورهما عن الوعي العبادي الجادّ دون أن يسمحا لعاطفتي الأبوّة والبنوّة بأن تحتجزهما عن تنفيذ أوامر الله تعالى
ص: 88
وأيّا كان، فإن هذه الحادثة تظل منطوية على تجربة عبادية يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي: بصفتها إحدى الدلالات الفكرية التي تستقل كل قصة بطرح نموذج منها... إلاّ أنّ كلّ قصة - في الآن ذاته - تظلّ مرتبطة با لهيكل الفكري العام للسورة، و منها. فكرة الاستجابة لدعاء المصطفين أو مطلق المؤمنين حيث استجابت السماء لطلب إبراهيم ذريّة صالحة، و هي استجابة طبعت سائر الأبطال الذين رسمهم النصّ في العنصر القصصي من هذه السورة الكريمة. و سنري أنب القسم الثالث من قصة إبراهيم يختم بنفس السّمات التي خلعها النصّ على الأنبياء و هي: السلام على الأنبياء، و مجازاتهم... إلخ، مما يفصح مثل هذا الختام عن مدى إحكام النّص و تلاحم مقاطعه.
قال تعالى. وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ وَ بٰارَكْنٰا عَلَيْهِ وَ عَلىٰ إِسْحٰاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمٰا مُحْسِنٌ وَ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ .
بهذا القسم تنتهي قصّة إبراهيم التي بدأ قسمها الأوّل بالحديث عن مجاهدته للمجتمع الوثني وجاء قسمها الثاني ليتحدّث عن تجربة الذّبح لإسماعيل ولده، و ها هو القسم الثالث تتم به القصّة لتنتقل بها إلى الحديث عن ولده إسحاق وذريّتهما...
لقد جاء ختام هذه القصّة متجانسا مع القصّة التي سبقتها وهي قصة نوح حيث جاءت هذه العبارات الأربع متكرّرة نفس الصياغة وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ ، (أو نوح - كما هي عبارة القصّة السابقة)، كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ .
إنّ الفقرة الأولى و هي وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ تعني أنّ إبراهيم
ص: 89
عليه السلام قد جعله الله أنموذجا أو مثلا أو ذكري في خاطر أو في لسان المجتمعات اللّاحقة إلى يوم القيامة، كأن يصلّي عليه أو يسلّم عليه بسلام اللّه تعالى.. و هي نفس السمة التي خلعها النصّ على نوح عليه السلام أيضا، و خلعها على أنبياء لا حقين كما سنري. و الأهمية الفنية لمثل هذا الذكر أو السلام تعكس المعطي الدنيوي الذي يغدقه تعالى على الشخوص المصطفي، مضافا للمعطي الأخروي، فضلا عن أنّ هذا المعطي الدنيوي يتجانس أيضا مع معطي دنيوي آخر هو: إنقاذ المؤمنين من المؤامرات التي . ينسجها المنحرفون عنهم أو مطلق العذاب مثل: إنقاذ نوح من الغرق و إنقاذ إبراهيم من الحريق..
من هنا يتعين على المتلقّي أن يدرك أهمية مثل هذه الأفكار التي تطرحها قصص السورة، حيث ستهدف لفت النّظر إلى أنّ الله تعالى لا يقتصر دعمه للمؤمن أو إثابته أخرويا فحسب، بل حتى في نطاق الحياة الدنيا فإنّ دعاء المؤمن لمجاب، أنّ إنقاذه من الشّدائد لمؤكّد...
أخيرا، طرحت القصّة قضية الذريّة الإبراهيم، حيث طلب إبراهيم في بداية القصة ولدا صالحا فوهبه إسماعيل عليه السلام.. و ها هو في نهاية القصّة يهبه ولدا آخر هو إسحاق.
وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ . و يلاحظ هنا، أن الله وصف إسحاق) بأنّه (نبيّ ) و أنّه (صالح)، بينما وصف (إسماعيل) بأنّه (حليم)..
...
فما هي الدلالة لفنية لهذه السّمات المتميز بعضها عن الآخر مع أنّ كليهما يجسّد ذرية طيبة و أنّ كليهما ينسب إلى النبوّة.
في حينه، أوضحنا أنّ سرّ صفة (الحلم) بالنسبة لاسماعيل إنّما يرتبط بحادثة (الذّبح) أما في قضية إسحاق فإنّ الأمر لمختلف كما هو واضح، ذلك: أنّ إبراهيم عند ما طلب من الله ذرية صالحة فإنّ الله تعالى أجاب دعاءه
ص: 90
فوهب له (إسماعيل) دون أن يذكر سمة (الصّلاح) بل سمة (الحلم) لأنّ ما يستهدف النص التركيز عليه هو أحد مصاديق الصلاح و هو (الحلم) بحيث يمكن القول بأنّ الحلم عكس ضمنا سمة (الصلاح).. لكن بالنسبة إلى إسحاق فيما لم ترتبط شخصيته بحادثة الذبح حنيئذ فإنّ سمة (الصلاح) تبعا لطلب إبراهيم جاءت لتجسّد إجابة دعائه. ولذلك و سمه الله بسمة الصلاح رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّٰالِحِينَ وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ .
وأما السر الفني وراء تأكيد سمة النبوة بالنسبة إلى إسحاق دون إسماعيل الذي تطبعه أيضا سمة النبوة لكن دون أن تذكر هنا، فإنّ سر ذلك أنّ النص يتحدث عن ذرية إبراهيم و امتداداتها النبوية وَ بٰارَكْنٰا عَلَيْهِ وَ عَلىٰ إِسْحٰاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمٰا مُحْسِنٌ وَ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ حيث أبرز النص بصورة ضمنية مفهوم الامتداد النبوي من خلال الذرية من جانب، كما أوضح إمكانية أن يخرج من ذريتهما من هو محسن أو من هو ظالم.
إذا، تضمنت هذه القصة من جانب أفكارا (مستقلة) تتصل بالجهاد، وتجربة الذبح، والذرية و امتداداتها. كما تضمنت من جانب آخر أفكارا (مشتركة) تتصل بنصرة السماء للمؤمنين وبالسلام عليهم و بمجازاتهم وبالإشارة إلى كونهم مؤمنين حيث تتكرّر هذه العبارات سَلاٰمٌ عَلىٰ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ // إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ تكرر في جميع القصص لتكشف لنا تماسك وإحكام وجمالية الهيكل الهندسي للسورة من حيث تلاحم موضوعاتها بعضها مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى وَ لَقَدْ مَنَنّٰا عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُمٰا وَ قَوْمَهُمٰا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ نَصَرْنٰاهُمْ فَكٰانُوا هُمُ اَلْغٰالِبِينَ وَ آتَيْنٰاهُمَا اَلْكِتٰابَ اَلْمُسْتَبِينَ وَ هَدَيْنٰاهُمَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِمٰا فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ مُوسىٰ
ص: 91
وَ هٰارُونَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمٰا مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ .
هذا المقطع القصصي يتحدث عن موسى و هارون مكررا فيه نفس العبارات القصصية التي تحدثت عن نوح وإبراهيم مثل إنقاذهما من الكرب و السلام عليهما ومجازاتهما إلخ... حيث تكشف هذه العبارات القصصية عن خضوع القصص جميعا لبناء هندسي في أتمّ أشكاله إحكاما ينتظم الأفكار المطروحة فيها. و بما أنّ لكل قصة عنصرا مشتركا مع سائر القصص و عنصرا مستقلا، حينئذ يجدر بنا أن نقف على ما هو مستقل في هذه القصة و استخلاص الدلالة الفكرية التي تنطوي عليها...
الملاحظ أولا أنّ هذه القصة تتحدّث عن بطلين هما موسى و هارون، في حين تتحدّث القصص الأخرى عن بطل واحد مثل نوح أو إبراهيم أو لوط أو إلياس أو يونس كما سنري.
سر ذلك فنيا إنّ الرسالة التي اضطلع بها موسى قد اقترنت بأخيه أيضا من حيث كونه عضدا لموسي. وما دام النص يستهدف تثمين مواقف الأنبياء الذين مارسوا أداء وظائفهم الاجتماعية حينئذ فإنّ (هارون) - بصفته قد مارس أو ساهم في أداء الوظيفة، لا بدّ أن يقترن - قصصيا مع شخصية موسى.. ثانيا:
الملاحظ أنّ النص القصصي في رسمه لهاتين الشخصيتين قد استهل الحديث عنهما بقوله: وَ لَقَدْ مَنَنّٰا عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ ، و (المنّ هنا قد خصّ به هذان الشخصان دون غيرهما من أبطال القصص، فما هو السر الفني في ذلك ؟ و يلاحظ أيضا: أن النص القصصي ركز على نصرة السماء لهذين الشخصين وَ نَصَرْنٰاهُمْ فَكٰانُوا هُمُ اَلْغٰالِبِينَ و يلاحظ ثالثا أنّ هذين البطلين خصا بإتيانهما الكتاب وَ آتَيْنٰاهُمَا اَلْكِتٰابَ اَلْمُسْتَبِينَ كما خصّا أخيرا بهذايتهما الصراط المستقيم وَ هَدَيْنٰاهُمَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ . إنّ هذه الخصوصيات تستوقف نظر المتلقي دون أدني شك. فما دامت رسالات السماء السابقة على الإسلام
ص: 92
تطبعها سمات مماثلة، أو ما دام الشخوص يتعرضون الشدائد متماثلة عبر أدائهم لوظائفهم الاجتماعية، و ما داموا موضع نصرة السماء جميعا: فلماذا يخص حينئذ - موسي و هارون بسمات معينة دون الأبطال الآخرين ؟.
في تصورنا الفني إنّ نهوض موسى و هارون برسالة السماء ترتبط (ليس بشخصهما) بقدر ما ترتبط بالظرون الاجتماعية التي أحاطت بهما، و بقدر ما ترتبط بنمط المجتمعات التي تحرّكا من خلالها، سواء أكانت هذه المجتمعات قبطية (كمجتمع فرعون) أو مجتمعات إسرائيلية كمجتمع موسى (ع). واجه موسى و هارون شخصيات بلغت أحط درجات الانحراف و الطغيان، ففرعون و قومه لم يكتفوا بممارسة الانحراف الوثني فحسب بل ألّهوا فرعون ذاته و هو نمط من التأليه للذي يألف مثله، أكثر من ذلك، لم ينحصر انحرافهم في الممارسات الوثينة: كما هو شأن مجتمعات نوح أو إبراهيم بل تجاوزوا ذلك إلى ممارسات عدوانية بالغة الشدة فقتلوا أعدائهم و استبعدوهم و أذاقوهم أشد ألوان العذاب جسديا و نفسيا..
هذا بالنسبة إلى مجتمع فرعون.
أما المجتمع الإسرائيلي نفسه، فقد فاق مجتمع فرعون في طغيانه وانحرافه، فما أن أنقذهم موسى من استعباد فرعون حتى تقدّموا إلى عبادة العجل، ثم واصلوا انحرافاتهم على ذلك النحو الذي يعرضه القرآن الكريم في قصص أخرى. حتى ليمكن القول بأنّ المجتمع الإسرائيلي يعد أوسخ مجتمع عرفه تأريخ البشرية. وها هي امتداداته الوسخة تحط في رحال المجتمعات المعاصرة التي لا تزال تشاهد مدي عدوانيتهم و انحرافاتهم و شرورهم الذي لا حدود له..
إذا، عندما يواجه موسى وهارون مجتمعا مثل المجتمع الإسرائيلي، ومن قبل. المجتمع الفرعوني أو القبطي حينئذ فإنّ التعامل مع أمثلة هذه
ص: 93
المجتمعات يستتبع جهدا خاصا يتناسب مع نمط الخصوصية التي خلعتها القصة على هاتين الشخصيتين بما في ذلك الإشارة إلى مفهومات عبادية مثل اَلْكِتٰابَ اَلْمُسْتَبِينَ .. اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ فالتأكيد على استبانة المباديء و استقامتها يتجانس فنيا مع السلوك المضاد الذي صدر عن هذه المجتمعات، بمعني أنّ النص عندما يؤكد على هداية المباديء وكبر حجمها: ثم نلحظ أنّ وضوح هذه المباديء لم يترك أثرا في (رشاد هذه المجتمعات المنحرفة. حينئذ نستخلص مدي حجم الانحراف الذي يطبع مثل هذه المجتمعات الفرعونية الإسرائيلية. المهم، أنّ النص عندما أبرز هذه الخصوصية فلأنّ طبيعة الشدائد التي واجهها موسى و هارون من قبل مجتمعاتهم المنحرفة: تنسجم مع هذا النمط من العرض و القصص..
و المهم أيضا، أنّ النص أبرز في الآن ذاته: العناصر المشتركة بين قصة موسى و هارون السابقة (فضلا عن القصص اللاحقة أيضا) من خلال العبارات القصصية المشتركة (السلام) و (المجازاة)... إلخ، سَلاٰمٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمٰا مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ حيث نلحظ من خلال هذا الوصل بين جميع القصص مدي إحكام النص القرآني و تلاحم موضوعاته، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى وَ إِنَّ إِلْيٰاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ لاٰ تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخٰالِقِينَ اَللّٰهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبٰائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ . مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ .
ص: 94
هذا المقطع يتحدث عن كل من إلياس و لوط بصفتهما شخصيتين نبويتين: تجانسا مع سائر شخوص الأنبياء الذين انتظمتهم الأقاصيص السابقة، بينما تماثلت - من حيث عمارة النص - بداياتها و نهاياتها بعضا مع الآخر. لكن يلاحظ أنّ هاتين القصتين: قصتي إلياس و لوط تضاف إليهما قصة ثالثة يختم بها العنصر القصص في السورة و هي قصة يونس - يلاحظ أنّ هذه القصص يأخذ كل واحد منها طابعا يميزه عن الآخر...
فبالنسبة إلى قصة إلياس طرحت القصة فضية تعامله مع مجتمعه الوثني بنحو يختلف عن تعامل كل نبي مع مجتمعه. فهنا ربطت القصة بين (البعل) الذي اتخذه الوثنيون دون الله تعالى و هو صنم من الذهب و بين الله تعالى فيما و صفته بأنّه (أحسن الخالقين) و وصفته بأنّه ربهم و ربّ آبائهم الأولين... و هنا نتساءل عن السر الفني لهذه المقارنة بين صنم من ذهب و بين الأوصاف التي ذكرها النص عن الله تعالى.. في تصورنا الفني أنّ اتخاذ هؤلاء القوم (صمنا) خاصا من الذهب: حيث منحه النص اسما خاصا أيضا و هو (البعل) دون الوثن، أو الصنم إنّما يستتبع فنيا أن تطرح المناقشة مع القوم بنحو يتناسب و نمط البعل الذي اتخذوه من حيث خصوصته الكاشفة عن ذهنية خاصة تتجه إلى صياغته من الذهب مثلا، لذلك ناقشهم النص من خلال خلع صفة (أحس الخالقين) على الله تعالى، حيث كان بإمكان النص أن يكتفي بعبارة (الله) أو (الخالق)، لكنّه عندما خلع صفة (أحسن) حينئذ نستخلص أنّ صفة (الأحسن ترتبط بالموقف الذي صدر عند الوثنيون عبر صياغتهم الوثن من أفضل مواد الأرض. هذا بالنسبة إلى قصة إلياس عليه السلام...
أما بالنسبة إلى قصة لوط عليه السلام.. فلم يعرض النص الانحراف مجتمعه، بل عرض للعقاب الدنيوي الذي مجتمعه، كما عرض لنجاته أهله إلاّ امرأته من العذاب، ثم وصل بين الجزاء الذي لحق قوم لوط و بين
ص: 95
المجتمع الذي عاصر رسالة الإسلام وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ ، أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ . ترى ما هو السر الفني الكامن وراء هذا النمط من العرض القصصي الذي وصل من خلاله بين مجتمع لوط و مجتمع محمد (ص) دون سائر القصص التي لم تربط بين المجتمعات البائدة و بين مجتمع صدر الإسلام ؟.
لو كانت قصة لوط آخر القصص من سلسلة العنصر القصصي في السورة لقلنا إنّ المسوغ الفني لهذا الربط بين قصة لوط و قصة مجتمع الإسلام هو:
الهدف من العنصر القصصي هو: ربطه بالمجتمع الإسلامي، لكن بما أنّ هناك قصة لاحقة و هي قصة (يونس عليه السلام) حينئذ لا يمكننا أن نستخلص مثل هذا السر الفني... إذا، للمرة الجديدة ما هو السر الفني هذه الظاهرة ؟.
في تصوّرنا، إنّ قصة لوط بما أنّها من جانب: تعرض لانحراف اجتماعي جنسي، مضافا إلى الانحراف العقائدي: حينئذ تكتسب بعد خاصا من الرسم القصصي، كما إنها من جانب ثان: من المحتمل أن يكون مرور المنحرفين في صدر الإسلام على مألوفة لديهم بحيث يشاهدون بوضوح آثار الهلاك الذي أصاب مجتمع لوط.. و من جانب ثالث: لجد أنّ هذه القصة تشكّل آخر سلسلة العنصر القصصي الذي يتحدث عن هلاك المجتمعات البائدة، لأنّ القصة الأخيرة التي سنتحدث عنها فيما بعد - و هي قصة يونس - لا تعرض لظاهرة الجزاء الذي لحق الأقوام البائدة بل تجعل نهاياتهم مفتوحة فَآمَنُوا فَمَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ و هو أمر ينسجم مع مجتمع رسالة الإسلام الذي تتحدث هذه القصص إليه: كما سنري لا حقا.. المهم إنّ هذه المستويات من التجانس داخل القصة الواحدة ثم: التجانس بين القصص جميعا ثم:
التجانس بين العنصر القصصي في السورة و بين الأفكار العامة لها تكشف عن مدي جمالية و إحكام المبني الهندسي للسورة، و هو أمر ستتضح مستوياته بنحو
ص: 96
ملحوظ حينما نتابع الأجزاء الآخيرة من السورة الكريمة (و هو موضع حديثنا لا حقا إن شاء الله تعالى).
قال تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنٰاهُ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ وَ أَنْبَتْنٰا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ .
بهذه القصة - قصة يونس - يختم العنصر القصصي في سورة الصافات ليعود النص فيتحدّث عن مشركي العرب زمن رسالة الإسلام رابطا بين العنصر القصصي و بين فكرة السورة الحائمة على مفهوم التوحيد و ما يضاده من مفهوم الشرك و الانحراف، حيث و وظف العنصر القصصي لهذا الهدف الفكري.
بيد أنّ السؤال هو، ما هي الدلالة الفنية لقصة يونس فيما تختلف تماما عن سائر قصص السورة التي ركزت على أنّ رسل الله مؤيدون بنصرة السماء و أنّ مجتمعاتهم المنحرفة لحقها الجزاء الدنيوي فأبادهم جميعا إلاّ رسل الله و قلّة من الذين آمنوا بهم حيث أنجاهم الله من ذلك أمّا قصة يونس فلا نتحدّث عن نجاة يونس عليه السلام و إبادة مجتمعه تشير إلى حالة أخرى هي: نجاة مجتمعه و تعرضه لتجربة الحوت، أي أنّ الأحداث هنا تضاد الأحداث التي غلفت القصص السابقة، فما هو السر الفني في ذلك ؟ في تصوّرنا الفني أنّ هدف العنصر القصصي هو إبراز نصرة السماء لعبادها المؤمنين و الإشارة إلى هلاك المنحرفين. و هذان الهدفان ينسحبان على قصة يونس أيضا. ولكن من خلال تجربة أخرى هي: موقف مجتمع يونس من رسالة السماء وموقفه من الجزاء الذي كان يتوقعه بالنسبة إلى مجتمعه، حيث نعرف جميعا أن قوم يونس حينما أخبروا بنزول العذاب عليهم: اقترح أحدهم
ص: 97
أن يتضرّعوا إلى الله تعالى لرفع العذاب عنهم، وتم ذلك فعلا، مما دفع يونس عليه السلام إلى اللجوء نحو البحر، ثم كانت قصة القرعة والتهام الحوت إياه وفقا للتفصيل القصصي الذي عرضناه في دراسات قصصية خاصة لا نعيد الحديث عنها. والمهم هو، تجربة يونس عليه السلام فسه بالنسبة إلى بيئة الحوت الذي ابتلعه وتجربة مجتمعه بالنسبة إلى رفع العذاب عنهم. فالتجربتان الفردية (يونس) والجماعية (فومه) تصبان في رافد موحد هو: الدعاء و استجابته... فكما أنّ القصص السابقة لنوح و إبراهيم ولوط و سواهم ركزت على مفهوم (النجاة) لمن يتوجّه للّه، فكذلك قصة يونس تحوم على نفس المفهوم. فبالنسبة إلى يونس (لولا أنّه كان من المسبّحين) في بطن الحوت اللبث في بطنه إلى يوم يبعثون) وبالنسبة إلى قوم يونس حيث رفع عنهم العذاب حينما اتجهوا إلى اللّه، وكذلك بعد إرساله من جديد إلى قومه رفع عنهم العذاب وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ .
إذا، لما آمن قوم يونس رفع عنهم العذاب. و هذا هو الهدف الفكري للقصة التي تساوقت مع سائر القصص المتقدمة بالنسبة إلى رفع العذاب أو نزوله لكن (من حيث عمارة النص) نجد أنّ هذه القصة التي ختمت - خلافا للقصص السابقة التي ختمت بنزول العذاب - نجد أنّ هذه القصة ختمت بزوال العذاب و هذه الخاتمة - من حيث البناء الهندسي - تنطوي على وظيفة فنية في غاية الخطورة ألا و هي. الربط بين مجمع يونس وبين مجتمع محيد (ص) حيث وجهت القصص إليه... فما دام المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام هو المستهدف، حينئذ فإنّ ربطه بقصة تشير إلى رفع العذاب عن قوم آمنوا (في زمن يونس) إنّما ينطوي على عملية تذكير وتحفيز و تشجيع لهم بأن يؤمنوا برسالة الإسلام حتى تشملهم رحمة اللّه كما شملت قوم يونس، وإلاّ فسوف يشملهم العذاب كما شمل قوم نوح و لوط و سواهما...
ص: 98
إذا، كم كانت لهذه القصة (قصة يونس) من وظائف فنية ترتبط - من جانب - بمجموعة القصص الأخرى، وترتبط - من جانب آخر - بهيكل السورة الذي انتظمته فكرة التوحيد والإيمان وما يرتبط به من الجزاء الدنيوي أو رفعه، كل أولئك يكشف لنا عن مدي تلاحم وتواشح وتنامي و تجانس المقاطع فيما بينهما. بما يواكب هذا التجانس من جمالية وإثارة فنية تفصح عن ذلك الإحكام الهندسي الجميل، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى. فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنٰاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاٰئِكَةَ إِنٰاثاً وَ هُمْ شٰاهِدُونَ ... .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة الصافات.. إنه مقطع يتحدث عن الملائكة و موقف المنحرفين أو مشركي العرب زمن رسالة الإسلام من عنصر الملائكة، و ذهابهم إلى وجهة نظر هزيلة تنسب الملائكة إلى الأنوثة، أو أنّها بنات اللّه.. إلى آخر ما ذكرته الآيات الختامية للسورة...
إنّ ما يهمنا من هذا الختام هو. الهيكل العماري للسورة وارتباط مقدمها بالوسط و بالخاتمة، ثم بما ينطوي عليه هذا الهيكل من أفكار يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي...
الملاحظ: إنّ سورة الصافات استهلّت بالحديث عن الملائكة و وظائفهم العبادية مقارنة بالوظيفة العبادية لعنصر البشر... لقد كان الاستهلال بهذا النحو: وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ .
هذا الاستهلال الذي يشير إلى مفهوم التوحيد من جانب إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ وإلى الوظيفة العبادية لعنصر الملائكة من جانب آخر وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا...
حيث أوضحنا مدي صلته بالتجربة البشرية في حينه، أما الآن فنتحدّث عن صلته بخاتمة السورة التي تحدّثت عن الملائكة أيضا: و لكن من خلال تصوّر
ص: 99
المنحرفين أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنٰاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاٰئِكَةَ إِنٰاثاً إلخ. فالسورة التي استهلت الحديث عن عنصر الملائكة تخت حديثها الآن عن عنصر الملائكة أيضا (إحكاما للبناء الهندسي للسورة) و لكن في هذا الختام يقدم النص تصحيحا لأي تصوّر مخطيء بالنسبة للملائكة... فالقضية ليست قضية إناث أو بنات بقدر ما هي قضية إيمان و ممارسة للوظيفة العبادية، ففضلا عن أن جعل النسبة بين اللّه و الملائكة بهذا النحو الهزيل الذي تصوّره قاصرو العقل، فضلا أنّ مثل هذه النسبة تشكل محض الكفر و الجهل بالحقائق، فضلا عن ذلك: لا بدّ من عملية تذكر بالحقائق العبادية التي ينبغي تعرّفها بالنسبة إلى عنصر الملائكة و ممارساتهم عباديا..
لذلك (من زاوية عمارة النص) لم يكتف النصّ بأن يردّ المنحرفين عن تصوّراتهم المريضة بالنسبة إلى الملائكة: عن خلال منطق الرسول لله فحسب بل أردفه بحوار داخلي نهض به عنصر الملائكة ذاته، موضحا من خلاله:
الوظيفة العبادية لهم، يقول الحوار:: وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ هذا الكلام أو الحوار هو للملائكة حيث يقولون أولا إنّ لهم مقاما محددا في السماوات يمارسون من خلاله وظائفهم العبادية، و يقولون ثانيا: وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ أي: القائمون صفوفا تنتظر أوامر السماء لتنفيذها گ و يقولون ثالثا: وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ أي المسبّحون للّه تعالى.
هنا ينبغي أن نتذكر بأنّ مستهل السورة بدأ بهذا النحو: وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً نفس هذا الاستهلال جسّده عنصر الملائكة عمليا في ختام السورة حيث ذكر الملائكة أنفسهم بأنهم: الصافون وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ أي إنّهم رددوا كلام الله الذي وصفهم في مستهل السورة بصفة اَلصَّافّٰاتِ وها هم يزجرون المنحرفين من خلال ردهم على المنحرفين بأنّهم
ص: 100
الصافّون. وها هم يقولون أيضا وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ مردّدين بذلك:
كلام اللّه الذي وصفهم في مستهل السورة بصفة فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً .. إذا، ينبغي أن نقف بدهشة حيال هذا المنحي الفني العظيم الذي سلكه النص في تقرير الحقائق المتصلة بعنصر الملائكة، و هي حقائق ممارساتهم العبادية التي أوكلها الله إليهم حتى يتعرف المتلقي هذه الحقائق و يفيد منها في تعديل سلوكه العبادي..
إنّ هذا المنحي الفني لا يقف عند مجرد عرض الحقائق المذكورة، بل يربط بينها و بين عمارة النص بنحو مدهش كل الدهشة: حيث لحظنا كيف ارتبطت خاتمة السورة وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ بمقدمة السورة وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا ، و كيف تمّ هذا الارتباط بحيث جاءت المقدّمة تتحدث عنهم من خلال السرد أي: عرض صفاتهم من قبل الله تعالى، وجاءت الخاتمة لتعرض صفاءهم من خلال لسان الملائكة أنفسهم: تأكيدا و تثبتا نفسيا لإيصال الحقائق المشار إليها... كل أولئك قد تم من خلال هذا النمط من التواشج و التلاحم والتنامي بين مقدمة السورة و وسطها وخاتمتها و بين مقاطعها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي فصلت الحديث عنه.
ص: 101
ص: 102
ص: 103
ص: 104
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقٰاقٍ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنٰادَوْا وَ لاٰتَ حِينَ مَنٰاصٍ وَ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَ قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً، إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ ....
بهذا المقطع تفتتح سورة صاد، و قد جاء موضوعها الأول مركزا على سلوك المنحرفين: مع التأكيد على سمتين من سماتهم، وهما: العزة و الشقاق بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقٰاقٍ أي: التكبر و العناد.. و سنري كيف أنّ هاتين السمتين تنسحبان على موضوعات السورة التي ستحوم حول هذا الجانب، ما دمنا نعرف بأنّ مقدمة السورة لا بد أن تكون ذات مهمة فنية تتمثل في كون المقدمة بمثابة دم يسري في عروق النص جميعا: كما سنري، وهو أمر يكشف - بطبيعة الحال - عن مدي الإحكام الهندسي للسورة الكريمة: من حيث ارتباط أجزائها بعضها مع الآخر...
و ها هي مقدمة السورة، تعرض لنا مفردات من سلوك المنحرفين، حيث تكشف هذه المفردات عن الطابعين المذكورين في سلوكهم.. يقول المقطع: وَ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَ قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ : هٰذٰا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً، إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ . هذا الكلام الذي نطق به المنحرفون، يكشف أولا عن مدي عقم هزال الذهن الذي يصدر عنه المنحرفون، مثلما يكشف عن سمتي التكبّر و العناد.. فاتهامهم صاحب الرسالة بالسحر و الكذب، يكشف عن عدوانيتهم: كما هو واضح، و تساؤلهم متعجّبين: كيف تجعل الآلهة إلها واحدا، يكشف عن هزالهم ذهنيا كما هو واضح أيضا... ولا شيء أدلّ على العقم و الهزال و التخلف الذهني من كونهم
ص: 105
يتعجبون كل العجب من جعل الآلهة إلها واحدا.
و لنتابع ردود فعلهم الهزيلة في هذا الصعيد: وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ . «إنّ هذا الحوار الجمعي» يكشف عن سمة المخاصمة و العناد: كما هو بين، فكل واحد منهم يتحدث مع الآخر، مصبرا إياه على مواجهة الرسالة الجديدة، الالتفاف حول الأصنام التي يعبدونها، زاعمين: أنّ هذه مؤامرة تصاغ للقضاء على آلهتهم المزعومة.
لنلاحظ من جديد، مدي هزال الذهن الذي يصدرون عنه، حينما يختل توازنهم بحيث يطالبون بالصبر على عبادة الأوثان، و يحذرون من المؤامرة التي تحبك من أجل القضاء على سلوكهم الوثني.... و لنواصل الاستماع إلى .
محاوراتهم:
مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ ، إِنْ هٰذٰا إِلاَّ اِخْتِلاٰقٌ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنٰا؟... إنّ هذا التقرير و التساؤل بأنّهم لم يسمعوا بمثل هذا الكلام الذي يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ونبذ الأصنام، و ذهابهم إلى أنه اختلاق، و هل أنزل على محمد (ص) دون سواه مثل هذا الذكر.. أمثلة هذا التقرير و التساؤل، تكشف بما لا لبس فيه عن قمة ما يمكن تصوّره من الهزال و العقم الذهني، حيث أنّ استهلالهم لا يرتكن إلى أية تأمّلات معقولة بقدر ما يتعلق على التقليد الصرف لما ألقوه من الحياة الاجتماعية القائمة على عبادة الأحجار، و بقدر ما يتعلّق على معايير ساذجة هي أنب نزول الرسالة على رجل مثلهم أمر لا يمكن تقبله..
هنا يبدأ النص فيرد على المنحرفين، إكمالا للحجة عليهم، فيتساءل أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّٰابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا ثم يحاطبهم: فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبٰابِ ، أي: أنّ المقطع القرآني
ص: 106
الكريم ذكر بأنّ هؤلاء المعترضين لا يملكون خزائن الرحمة، و لا يملكون أسباب السماوات والأرض، حتى يسوغ لهم مثل هذا الكلام، و إذا كان ذلك بإمكانهم: فليرتقوا في الأسباب أي: فليصعدوا إلى السماء، و ليصنعوا ما يشاؤون..
إنّ هذه العبارة فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبٰابِ تجسّد واحدة من الصور الفنية التي تقوم على «الاستعارة» أو على «الصورة الفرضية» التي تفترض إمكان الصعود إلى السماء، و هو أمر لا يمكن تحقيقه. كما تنطوي الصورة الفنية المشار إليها على عنصر «السخرية» من هؤلاء المنحرفين الذين يعجزون عن تحقيق ما يعترضون عليه بالنسبة إلى انتخاب الرسول..
لكن، بغض النظر عن هذا الجانب، فإنّ نمط تفكير المنحرفين يظل قائما على التكبر و العناد أو المخاصمة التي تتجانس مع سمة (العزّة و الشقاق) التي طرحت في مقدمة السورة، مما يكشف ذلك عن الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة: من حيث صلة أجزائها بعضها مع الآخر بالنحو الذي ذكرناه
قال تعالى جُنْدٌ مٰا هُنٰالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتٰادِ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ أُولٰئِكَ اَلْأَحْزٰابُ إِنْ كُلٌّ إِلاّٰ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقٰابِ وَ مٰا يَنْظُرُ هٰؤُلاٰءِ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً مٰا لَهٰا مِنْ فَوٰاقٍ .
يتناول هذا المقطع من سورة صاد عرضا قصصيا سريعا عن مصائر البائدة دون الدخول في تفصيلات ذلك، كما أنّه يلوّح في بداية المقطع بهزيمة المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، حيث أنّ العرض القصصي جاء تنويرا أو توظيفا فنيا من أجل إلقاء الضوء على سلوك المشركين، حتى
ص: 107
يتجانس المصيران اللذان ينتهي المعاصرون و البائدون إليهما، و هو: الهزيمة دنيويا. و يلاحظ، أنّ غالبية النصوص القرآنية تلوح بالعذاب الدنيوي بالنسبة إلى المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، إلاّ أنّ هذا التلويح يظل حينا بمثابة تخويف، حتى يتعدّل السلوك، وحينا آخر يتحقق ذلك. كما هو الأمر بالنسبة إلى المقطع الذي نتحدّث عنه... طبيعيا، السياق هو الذي يفرض (فنيا) إنزال العذاب أو الهزيمة الدنيوية في بعض المواقف، أو تأجيله أخرويا في مواقف أخرى.. و بما أنّ نهاية هذا المقطع يتضمن مطالبة المنحرفين إنزال العقاب قبل اليوم الآخر وَ قٰالُوا رَبَّنٰا عَجِّلْ لَنٰا قِطَّنٰا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسٰابِ ، حينئذ نحتمل (فنيا) أن يكون هذا الطلب منهم لأن يعاقبوا قبل يوم الحساب، مرتبط عضويا بنزول العقاب أو الهزيمة دنيويا. أي، أنّ السياق الفني استتلي أن تعجل العقوبة الدنيوية ما داموا قد سخروا من ذلك وطالبوا - على نحو الهزء - أن يعجّل لهم الحساب..
و الآن، إذا أدركنا السر الفني الكامن وراء تعجل العقاب دنيويا مقابل عدم تحقيقه في مواقع أخرى من نصوص القرآن الكريم، حينئذ نتساءل: ما هو السّر الفني وراء التلويح بنزول العقاب على المنحرفين قبل أن يعرض المقطع القرآني الكريم مطالبتهم بنزول العقاب ؟ أي: أنّ المقطع ذكر أولا هزيمتهم حيث قال في بداية المقطع جُنْدٌ مٰا هُنٰالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ ثم ذكر بعد ذلك: مطالبتهم بتعجيل الجزاء حيث يتوقع القاري أو السامع أن تعرض أولا سخريتهم من العقاب، ثم تعرض هزيمتهم ؟.. في تصوّرنا، أنّ هناك اسرارا فنية متنوعة وراء هذا النحو من العرض القصصي... فهناك أولا تفاوت بين الهزيمة التي لحقتهم (و هي معركة بدر: كما يقول المفسرون)، و بين مطالبتهم بالجزاء، حيث تذكر النصوص المفسرة أنّ هؤلاء المنحرفين قد طالبوا بإبراز الكتب التي يشير إليها الكتاب و السنّة من إنّها تنشر أمام الخلق في عرصات القيامة، أي أنّهم طالبوا بصحيفة أعمالهم وليس نزول العقاب، لكن بما أنّ
ص: 108
المطالبة تنطوي على السخرية، حنئذ فإنّ الإجابة لابد أن تقترن بنزول عقاب يهزمهم فكريا واجتماعيا، و لذلك كانت الهزيمة (في معركة بدر) تجسيدا للهزيمة الفكرية والاجتماعية المشار إليها... بيد أنّ المهمّ هو أنّ النص - كما نحتمل - يستهدف غرضا مزدوجا من وراء عرضه أولا للهزيمة، ثم عرضه لأقوال المنحرفين بعد ذلك، و هو: تحديد المهمة التبليغية للرسول (ص) حيث طالبه النص بالصبر على سخريتهم، اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ . .
ثم عرض بعد ذلك - كما سنري - قصة دواد ثم سليمان إلخ بالنحو الذي سنتحدث عنه لا حقا (إن شاء الله تعالى) لذلك، فإنّ عرض سخريتهم في سياق الصبر عليها يظل أمرا مفسّرا لهذا الجانب، مضافا إلى كون مطالبتهم بمشاهدة صحائف أعمالهم، غير متوافقة مع العقاب، و إنّما جاء العقاب بمثابة إجابة، متوافقة مع سخريتهم، مما يفسّر لنا عدم الضرورة الفنية لتسلسل الزمن و ترتيب الآثار على ذلك، بيد أنّ الأهم من ذلك كله: أنّ النص قد ذكر في بداية السورة أنّه تعالى قد أهلك من قبلهم أمما بائدة كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنٰادَوْا وَ لاٰتَ حِينَ مَنٰاصٍ ... هذه المقدمة ألقت الضوء على مستقبل الأحداث التي تنتظر هؤلاء المكذّبين، لذلك بعد أن عرض النص جوانب مختلفة من سلوكهم، أردفها بالتلويح بهزيمة جُنْدٌ مٰا هُنٰالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ ، فجاءت الهزيمة تجسيدا فنيا لتلكم المقدمة التي لوحت بمصائر الأقوام البائدة... و لذلك أيضا، جاء المقطع الذي نتحدث عنه يعرض لنا مرة ثانية:
مصائر الأقوام البائدة كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ . إلخ حيث نستكشف أنّ التذكير بالأقوام البائدة في مقدمة السورة يحمل سرا فنيا يختلف عن السر الفني الذي يحمله: التذكير بهم فيما بعد... وبهذا نتبين مدي الإحكام الهندسي في صياغة الموضوعات المتقدّمة من حيث علاقات التنامي و الترابط بينهما، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 109
قال تعالى اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ ، وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ إِنّٰا سَخَّرْنَا اَلْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرٰاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً ، كُلٌّ لَهُ أَوّٰابٌ وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ وَ هَلْ أَتٰاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرٰابَ ... .
نواجه - في هذا المقطع وما بعده - عنصرا قصصيا يتصل برسم شخصيات داود وسليمان وأيوب و سواهم من الأنبياء عليهم السلام، و إذا كنا ندرك - جميعا بأنّ القصص في السورة توظف - في الغالب - من أجل إنارة (الأفكار) المطروحة في السورة، حينئذ نتوقع أن تكون قصص داود و سليمان وأيوب و سواهم، موظفة لإنارة فكرة السورة التي نتحدّث عنها (سورة صاد).. لكن ينبغي أن ندرك أيضا بأنّ القصص ذاتها قد تجسّد (فكرة) ضمن السورة فتكون مستكملة لها (مثل القصص التي نتحدث عنها الآن)، و قد تستقلّ في تجسيدها لفكرة خاصة: كما هو طابع السور التي تتضمن قصة واحدة أو أكثر تستغرق السورة (مثل قصص يوسف عليه السلام و نوح عليه السلام - في سوره نوح - و سواهما...).
و حين نعمن النظر (في سورة صاد) نجد أنّ بدايتها كانت تتحدث عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام حيث وصفهم النص بأنّهم (في عزة شقاق)، وحيث اعترضوا على رسالة محمد (ص) بأنّها نازلة على واحد منهم، وحيث أجابهم النص على ذلك قائلا (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات و الأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب)...
هذا يعني أنّ النص قد طرح هنا (فكرة) خاصة هي. خزائن الرحمة التي يمتلكها اللّه تعالى، و أنّ العبد لا يمكنه أن يحقق شيئا من ذلك... هذه (الفكرة)، سوف تأخذ بالتبلور حينما نجد أنفسنا أمام مجموعة من القصص
ص: 110
التي تتحدث عن (خزائن الرحمة) التط أنكرها المنحرفون، و أنكروا أن يخص الله تعالى بها محمدا (ص) في وظائفه لتحمل الرسالة.. لكن - في الوقت ذاته - تجيء هذه القصص لتطرح أفكار جديدة من خلال مفهوم (الرحمة) ذاتها، حيث تضمّنت هذه القصص الثلاث (داود، سليمان، أيوب) «فكرة» خاصة هي إخضاع هذه الشخصيات النبوية لنوع من (الابتلاء) أو (الامتحان)، ثم الخروج من هذا الامتحان أو الابتلاء بنتيجة هي: إضفاء المزيد من (خزائن الرحمة) عليهم، بحيث جعل داود عليه السلام (خليفة في الأرض)، و منح سليمان عليه السلام ملكا لم يمنح لغيره، وأحيا أهل أيوب عليه السلام بعد أن ماتوا: كما سنوضح ذلك في حينه.
إذن، نحن الآن أمام أكثر من (فكرة) مستهدفة في هذا العنصر القصصي... و المهم هو: أنّ نتابع العرض القصصي و استخلاص التفصيلات المرتبطة بفكرتها...
القصة الأولى هي: قصة داود عليه السلام حيث استهل الحديث عنها بمجموعة من السمات التي تطبع شخصيته، و في مقدمتها: سمة (الأيد) أو القوة، فيما وصفها النص بقوله تعالى وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ أي: ذا القوة...
و نتساءل، ما هو السر الفني في هذا الاستهلال القصصي الذي ركز على صفة (الأيد أو القوة)؟. هنا، ينبغي أن نتذكّر بأنّ سورة صاد سبق أن عرضت - في سياق تذكيرها للمنحرفين - مصائر الأقوام البائدة التي كذبت رسلها ثم لحقهم العقاب الدنيوي، ومنهم (فرعون) الذي وصفه النص بقول: وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتٰادِ . لقد خص (فرعون) دون سواه بهذه الصفة التي تعني بأنّه كان متمكنا في سلطانه الدنيوي، سواء أكانت (الأوتاد) تعني و سائل التعذيب التي كان يمارسها، أو الجنود الذين كانوا يحيطون به، أو مطلق القوي التي تمكنه
ص: 111
من الفساد في الأرض.. و لكنه (مع قوته المشار إليها) فقد طاله العقاب الدنيوي...
في تصوّرنا (من زاوية الاستخلاص الفني الذي نحتمله) أنّ النص عرض في مقابل القوي التي يمتلكها المنحرفون، عرض القوي التي منحها الله تعالى للأنبياء عليهم السلام، حتى يضع القاريء أمام موازنة بين الفريقين: الفريق المنحرف الذي يخسر دنياه و أخرته في نهاية المطاف، و الفريق الذي يربحهما جميعا، حيث تبلور مفهوم (خزائن الرحمة) التي ذكر تعالى بها أولئك ح المنحرفين المعترضين على إكرام محمد (ص) بالرسالة...
إذن، (من حيث البناء الهندسي للنص) أمكننا أن نلحظ واحد من أسرار الفن الذي يربط بين مقدمة السورة و بين عنصرها القصصي، فيما يكشف مثل هذا الربط عن مدي الإحكام العضوي للنص: من حيث علاقة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
لقد أوضحنا صلة هذه الأقصوصة بفكرة السورة الكريمة.. أمّا الآن فنتحدّث عن المبني الفني للأقصوصة من خلال موضوعاتها المطروحة.. لقد رسمت القصة شخصية داود عليه السلام بجملة من السمات الخارجة الداخلية، و هي: أنّه ذو أيد أي قوة: سواء أكانت هذه القوة جسمية أو عسكرية أو موقعا اجتماعيا أو سوى ذلك، و رسمته (أوّابا): أي توابا راجعا عن كلّ ما لم يرتضه الله تعالى أو مسبحا، ثم رسمته - من خلال هذه السمة - و قد شاركته الطير و الجبال في التسبيح، ترجع تسبيحه: تقديرا من الله تعالى لشخصيته العبادية، ثم رسمته بسمتين داخليتين هما (الحكمة و فصل الخطاب حيث جاء رسم هاتين السمتين من خلال سمة ثالثة (ذات طابع اجتماعي) هي:
الملك وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ ، وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ . أما الحكمة فتعني:
ص: 112
إمّا الاستبصار في الأمور أو النبوّة، بينما يعني (فصل الخطاب). العلم بالقضاء أي ممارسة الفصل بين الخصومات و نحوها...
إذن، نحن الآن أمام شخصية قصصية تمتلك مجموعة من السمات الفردية و الاجتماعية و العبادية المميزة، حيث انشطرت سماتها إلى ظواهر ذات طابع (إعجازي) من جانب، و ذات طابع متفرد أو خاص من جانب آخر...
أما الطابع الإعجازي فيتمثّل في تسخير الجبال معه يسبحّن بالعشي و الإشراق، و في حشر الطير معه (كل له أوّاب). هذه الطوابع الإعجازية، ينبغي ألاّ نمرّ عليها عابرا بل نتبين دلالتها العبادية وصلة ذلك بشخصية داود عليه السلام أو صلة ذلك معطيات الله تعالى و انعكاسها على الشخصيات التي اصطفاها الله تعالى.. فهناك أولا: كشف لبعض الأسرار الكونية المتمثلة في: أنّ ما يسمّي ب (عنصر الجماد) - في التصوّر العلمي إنّما هو يمارس عملية تسبيح وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ : كما هو صريح الآية الكريمة في سورة الإسراء، كما أنب (العضوية الحيوانية، و منها: الطير) تمارس عملا مماثلا أيضا... هناك - ثانيا - معطيات متميزة يهبها الله تعالى بعض عباده المصطفين دون سواهم من الآدميين، و منهم: داود عليه السلام حيث منحه تعالى معطي إعجازيا هو:
مشاركة الجبال و الطير في تسبيحه... مضافا إلى الدعم الخاص لسلطانه أو حكومته، ثم مضافا إلى إيتائه الحكمة و فصل الخطاب...
خارجا عن هذه المعطيات ذات الطابع الإعجازي و المتميز، ينبغي أن نقف عند البناء العماري و الهندسي للأقصوصة: من حيث صلة أجزائها:
بعضها مع الآخر، فضلا عن صلتها ببناء السورة الكريمة (سورة صاد)...
أمّا صلة أجزائها، بعضها مع الآخر، فيلاحظ أنّ النص بعد أن ينتهي من عرض القسم الأول من الأقصوصة (وهو: العرض القصصي الذي تناول رسم شخصية داود عليه السلام)، يبدأ القسم الثاني منه، بعرض قضية خاصة ترتبط
ص: 113
بالقضاء - كما سنري وَ هَلْ أَتٰاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرٰابَ ..
إلخ)... لكن قبل أن نبدأ بالحديث ن هذا القسم من الأقصوصة، ينبغي أن نذكر القاريء أو المستمع بأنّ النص القرآني الكريم قد ختم القسم الأول من الأقصوصة بقوله تعالى: وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ مع ملاحظة أنّ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ جاءت عبارته هي العبارة الأخيرة من الآية، أو لنقل: جاءت السمة الأخيرة التي رسمها النص في سياق عرضه لمجموعة السمات الداخلية و الخارجية... و فَصْلَ اَلْخِطٰابِ يعني - كما أشرنا - العلم بالقضاء أو الفصل بين الخصومات.
و يلاحظ أيضا، أنّ القسم الثاني من الأقصوصة (كما سنفصل الحديث عنه لاحقا) قد تناول قضية ترتبط بالقضاء: حيث تسور رجلان خصمان محراب داود عليه السلام ذات ليلة من أجل القضاء بينهما في قضية خاصة...
هذا يعني (من حيث العمارة الهندسية للقصة)، أنب القسم الأول من القصة:
حيث ختم بعبارة وَ آتَيْنٰاهُ ، اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ قد شكل تمهيدا عضويا تنعكس دلالاته على القسم الثاني من الأقصوصة، وهو القسم الخاص بقضية مرتبطة بفصل الخطاب.. و هذا النمط من الربط الفني بين قسمي القصّة يعد (من حيث البناء الهندسي) قمة في الإمتاع القصصي، مفصحا عن مدي الإحكام العضوي للنص: من حيث تلاحم و تنامي موضوعاته، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ هَلْ أَتٰاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرٰابَ إِذْ دَخَلُوا عَلىٰ دٰاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ، قٰالُوا لاٰ تَخَفْ ، خَصْمٰانِ بَغىٰ بَعْضُنٰا عَلىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ ، وَ لاٰ تُشْطِطْ، وَ اِهْدِنٰا إِلىٰ سَوٰاءِ اَلصِّرٰاطِ إِنَّ هٰذٰا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وٰاحِدَةٌ ، فَقٰالَ : أَكْفِلْنِيهٰا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطٰابِ ... ..
ص: 114
بهذا المقطع وما بعده، يبدأ القسم الثاني من قصة داود عليه السلام...
وكان القسم الأول من القصة يتحدّث عن شخصية داود، و المعطيات الإعجازية وغيرها مما منحها الله تعالى للشخصية المذكورة: من مشاركة الجبال والطير لتسبيحه، ومن شدّ ملكه، ومن إيتائه الحكمة وفصل الخطاب... وها هو النص يعرض لنا جانبا من ممارسة (القضاء) لداود عليه السلام، حيث منحه الله تعالى فَصْلَ اَلْخِطٰابِ الذي يعني ممارسة القضاء والفصل بين الخصومات... وقد سبق أن قلنا أنّ قصة داود و سواها من القصص التي تضمّنتها سورة صاد «تتناول جانبين من الرسم القصصي لشخوص الأنبياء عليهم السلام، أحدهما: المعطيات المتميّزة التي يهبها الله تعالى للمصطفين من عباده، والأخرى. تعرضهم لبعض الاختبارات أو الامتحان... وبالنسبة لداود عليه السلام تعرّض - في هذا القسم من القصة - لتجربة القضاء بين خصمين... وكانت النتيجة هي. أن ينتبه داود على سر التجربة أو الامتحان الذي تعرض له، حيث استغفر سريعا من ممارسته الحكم لأحد الخصمين بنحو كان المطلوب هو: أن يتحفظ في الحكم لأحدهما. كما تقول النصوص المفسرة. والمهم أنّ النص القصصي عقب على ذلك بقوله تعالى فَغَفَرْنٰا لَهُ ذٰلِكَ ، وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ ...
هذا التعقيب ينطوي على أهمية كبيرة بالنسبة إلى (فكرة) القصة التي تحوم على عملية (الامتحان العبادية) من حيث انتباه الشخصية القصصية على سر (الامتحان) المذكور، مما يترتب عليه أن يغفر اللّه تعالى للشخصية التي استغفرت من ممارستها فيما أخضعت للامتحان من أجلها... ليس هذا فحسب، بل إنّ ما ترتب على إدراك السر هو. أن تكون للشخصية المذكورة قربي وحسن مآب في الآخرة...
أيضا، ليس هذا فحسب، بل جاءت العبارات الآتية لتكشف لنا عن أنّ
ص: 115
الله تعالى منح داود عليه السلام موقعا اجتماعيا خطيرا كل الخطورة، هو. يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ ... . أنّ الاختبار أو الامتحان يفضي إلى أن تنتبه الشخصية على أبسط ما يمكن أن يتنافي مع متطلّبات الممارسة ألقضائية بحيث يترتب على الانتباه المذكور:
ممارسة القضاء - في المستقبل - في أفضل شروطه المطلوبة، وهذا ما تقرّر فعلا حينما عقب النص القصصي قائلا يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ ...
بعد ذلك تأتي قصة جديدة تتحدّث عن شخصية سليمان بن داود عليهما السلام: وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ ، نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ لناحط و نحن نعني بالبناء الهندسي للنص إنّ قصة داود قد رسمت شخصيته (كما لحظنا) من خلال مجموعة من السمات وفي مقدمتها سمة أَوّٰابٌ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ . صحيح إنّ القصة رسمته أولا بأنّه ذو (أيد) أي قوّة، إلاّ أنّ رسم هذه السمة (و هي القوّة) إنّما جاءت في سياق كونه (أوابا) كما هو واضح...
و الآن حينما نواجه القصة الجديدة (قصة سليمان) نلحظ أنّ صفة أَوّٰابٌ قد رسمها النص بالنسبة إلى سليمان عليه السلام أيضا... و لنقرأ من جديد وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ ، نِعْمَ اَلْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ ...
إذن، ثمة عنصر مشترك بين القصتين قد طرحه النص القرآني الكريم في رسمه لشخصيتي داود وسليمان، العنصر أو السمة هو أَوّٰابٌ ... كما أنّ الشخصيتين تخضعان لطابع آخر يشتركان فيه هو. الطابع النسبي (أب و ابن)، وهذا يعني أنّ التجانس بين الشخصيتين قد تكثّف في أكثر من طابع، مما يفضي على الهيكل الهندسي للنص. جمالية فائقة دون أدني شك... و سنري عند متابعتنا لقصة، أنّ تجانس القصتبن يأخذ طوابع أخرى: ترتبط -
ص: 116
من جانب بهيكل القصتين، كما ترتبط - من جانب آخر - بهيكل السورة الكريمة (سورة صاد)، و ذلك جميعا، يفصح عن أسرار فنية بالغة الدهشة بالنسبة إلى عمارة النص القرآني الكريم. من حيث تجانس و تلاحم وتنامي أقسامه وموضوعاته وعناصره بعض مع الآخر.
قال تعالى وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصّٰافِنٰاتُ اَلْجِيٰادُ فَقٰالَ : إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّٰى تَوٰارَتْ بِالْحِجٰابِ ، رُدُّوهٰا عَلَيَّ ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنٰاقِ .
هذا القسم الأول من قصة سليمان عليه السلام، حيث يتضمن هذا القسم (مقدمة) تتحدث عن سليمان من خلال رسم شخصيته العبادية، فيما وصف بكونه (نعم العبد) وبأنّه (أواب)... ثم جاء الرسم لشخصيته التي تعرضت لامتحان أو اختبار إلهيّ هو: قضية الاستعراض العسكري لخيوله... وقد سبق أن قلنا: أنّ العنصر القصصي الذي تخلل سورة صاد قد تضمن ثلاث قصص (داود، سليمان، أيوب). طبعها عنصر مشترك هو: تعرض هذه الشخصيات للامتحان أو الاختبار من جانب، ثم: مضاعفة المعطيات التي وهبها اللّه تعالى لهذه الشخصيات من جانب آخر تقديرا لانتباههم على سرّ التجربة، والخروج منها بسلوك جديد، حيث لحظنا أنّ داود عليه السلام قد استغفر ربه تعالى من ممارسته للقضاء بين خصمين، وحيث نلحظ الآن تعرض سليمان لأكثر من تجربة: ثم انتباهه على السّر الكامن وراء ذلك...
التجربة الأولى هي أنّ سليمان قد استعرض ذات يوم (من أجل هدف عسكري) خيوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصّٰافِنٰاتُ اَلْجِيٰادُ أي. الخيل التي تقف على ثلاث قوائم، السريعة الجري... وتقول النصوص المفسرة أنّ هذا الاستعراض قد شغله عن الصلاة في وقتها حتى غابت الشمس... وإزاء
ص: 117
ذلك، علق سليمان قائلا إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، حَتّٰى تَوٰارَتْ بِالْحِجٰابِ هذا الحوار الداخلي لسليمان، ينطوي على هدف فني مزدوج، فهو - من جانب - قد كشف عن (تطور) الحدث في القصة حيث عرفنا من خلال الحوار أنّ الشمس قد غابت خلال استعراضه للخيل، كما أنّ الحوار - من جانب آخر - كشف عن (انتباه) سليمان عليه السلام على هذه الظاهرة، و هي أنّ حبّه للخيل قد شغله عن ذكر اللّه تعالى... ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الانتباه رد فعل حاد يتناسب مع وعي سليمان عباديا، لذلك هتف قائلا: رُدُّوهٰا عَلَيَّ أي: طلب إحضار الخيل... وعند ذلك - يقول النص - فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنٰاقِ أي: أخذ يمسح سيقانها وأعناقها... وبهذا ينتهي هذا القسم من القصة... بيد أنّ أكثر من سؤال فني يثار حيال هذه الصياغة القصصية، من ذلك مثلا، أنّ القصة لم تشر إلى «الصلاة» التي فات وقتها بل اكتفت بالقول على لسان سليمان بأنّ الشمس توارت، و أنّ حبّ الخيل حجزه عن ذكر اللّه تعالى... ومن ذلك، أنّ القصة لم تشر إلى دلالة المسح لأعناق الخيل و سيقانها، حيث يظل القاريء متطلعا إلى معرفة التفصيلات المرتبطة بعملية المسح... طبيعيا قد تكفلت النصوص المفسرة بتوضيح كل التفصيلات، ولكن السر الفني وراء هذا الصمت عن التفصيلات المذكورة، يتمثل - كما نحتمل - في أنّ هدف القصة هو التأكيد على أنّ حبّ الخيل قد شغل سليمان عليه السلام عن ذكر اللّه تعالى، سواء أكان الذكر صلاة أم غيرها من الأعمال العبادية، لذلك لا ضرورة فنية لتحديد الصلاة أو سواها.
بل يترك للقاريء أن يستوحي ويستخلص ذلك تحقيقا لعنصر المساهمة في الكشف عن دلالات القصة... كذلك، حينما يسكت النص عن تحديد دلالة المسح لسيقان الخيل وأعناقها، فإنّما يترك ذلك للقاريء حتى يستخلص ويستنتج أكثر من تفسير، لأنّ المهم هو أنّ سليمان عليه السلام قد انتبه على هذا الجانب وأدرك بأنّ حبّ الخيل ينبغي (وإن كان لهدف عبادي) ألاّ يشغله
ص: 118
عن ذكر الله تعالى، ومن ثم لا بد أن يتم التكفير عن ذلك بعمل ما بحيث يتناسب هذا العمل عكسيا مع حبّ الخيل،. ولذلك مسح سيقانها وأعناقها.
أمّا ما هي تفصيلات هذا المسح، فأمر يمكن للقاريء أن يستنتج أكثر من دلالة من ذلك... وأمّا النصوص المفسّرة فتحدد ذلك في أكثر من تفسير حيث ذهب بعضها إلى أنّه عليه السلام قد جعلها في سبيل الله تعالى، وذهب بعضها إلى نفي هذه الحادثة، وأنّ سليمان عليه السلام قد طلب ردّ الشمس وليس رد الخيول، وإنّه تعالى قد استجاب لطلبه... والمهم هو، إبراز الفكرة الذهبة إلى سليمان عليه السلام قد انتبه على موقفه من حب الخيل وأنّه رتب أثرا على ذلك... و هذا هو الهدف الرئيسي.. و المهم أيضاف أن ندرك (من الزاوية الفنية) أنّ هذه الحادثة تظل مرتبطة بقصة سابقة (قصة داود) و بقصة لاحقة (قصة أيوب). حيث تصب هذه القصص في هدف واحد هو تعرض هذه الشخصيات لتجربة عبادية ترتبت عليها آثار متنوعة، فيما يفصح مثل هذا التجانس القصص عن مدي الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ وَ أَلْقَيْنٰا عَلىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنٰابَ ، قٰالَ :
رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ فَسَخَّرْنٰا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ وَ اَلشَّيٰاطِينَ كُلَّ بَنّٰاءٍ وَ غَوّٰاصٍ وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ .
هذا هو القسم الأخير من قصة سليمان عليه السلام، حيث كان الأول يتضمن حادثة استعراضه للخيل وما ترتب عليها من نتائج تتصل بالاختبار الإلهي لعباده المصطفين، وهذا هو القسم الآخر من القصة يتضمن
ص: 119
حادثة اختبار أخرى هي وَ أَلْقَيْنٰا عَلىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً، ثُمَّ أَنٰابَ لقد صرحت القصة بوضوح: إنّها قد أخضعت سليمان عليه السلام للفتنة وَ لَقَدْ فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ وَ أَلْقَيْنٰا عَلىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ، كما أنّها صرحت بوضوح أيضا عند ما قالت عن داود (في القصة السابقة) (وظن داود إنّما فتناه)... فإذن، نحن الآن أمام شخصيتين قصصيتين: إحداهما تمثل الأب، و الأخرى تمثل الابن، وهذا هو التجانس الأول بين الشخصيتين... والبعد الثاني من التجانس بينهما أنب داود و سليمان من الشخصيات النبوية، و البعد الثالث من التجانس إنّهما قد وصفا بصفة (العبد) وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ ، و البعد الرابع من التجانس بينهما هو صفة (الأواب) لكليهما، وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ ، نِعْمَ اَلْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ .. و البعد الخامس من التجانس بينهما إنّهما تعرضا للفتنة وَ ظَنَّ دٰاوُدُ أَنَّمٰا فَتَنّٰاهُ وَ لَقَدْ فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ ، والبعد السادس من التجانس بينهما، أنّ كلا منهما قد (أناب) للّه تعالى بعد وقوع الفتنة حيث ذكرت القصة عن داود عليه السلام بأنّه استغفر و أناب، و ذكرت عن سليمان عليه السلام بأنّه ثم (أناب)، و البعد السابع من التجانس بينهما أنّ كلا منها قد أشير إلى أنّ له زلفي و حسن مأب، حيث قالت القصة بعد حادثة الفتنة لداود وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ . و البعد الثامن من التجانس بينهما، أنّ كلا منهما قد منحه الله تعالى معطي دنيويا (فضلا عن المعطي الأخروي)، حيث عقبت القصة على داود بعد الفتنة يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً ، حيث عقبت القصة على سليمان بعد الفتنة فقالت فَسَخَّرْنٰا لَهُ اَلرِّيحَ ... إلخ. إذن، نحن الآن أمام ثمانية أبعاد من التجانس الفني بين شخصيتي داود و سليمان، وهذا الرقم الكبير من التجانس يكشف عن أسرار فنية بالغة الإثارة و الدهشة في صعيد البناء الهندسي للقصص.
لكن، بعض النظر عن هذه الأبعاد الثمانية من التجانس بين القصتين، ينبغي أن نقف عند (حادثة) الفتنة التي تعرض لها سليمان عليه السلام،
ص: 120
و النتائج المترتبة عليها... أما الحادثة تقول النصوص المفسرة أنّ الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام (و ألقينا على كرسيه جسدا) هو جسد ابنه الميت، حيث ورد أنّ الجن لما رأوا وليد سليمان، أشفقوا من أن يسبب لهم متاعب جديدة مثلما سبب لهم سليمان ذلك حيث و وظفوا لخدمته، لذلك استرضع سليمان ولده في السحاب: خوفا من الجن، و كانت النتيجة أن الولد قد توفي و ألقي جسده على كرسي سليمان... و هذه هي الفتنة التي تعرض لها سليمان... أي أنّ سليمان الذي أشفق على ولده من الجن فاسترضعه في السحاب، قد واجه ولده ميتا أمامه، مما يعني أنّ الأسباب بيد الله تعالى من جانب (حيث لا ينفع الهروب من قوة مخلوقة - مثل الجن، إلى قوة مخلوقة أخرى - مثل السحاب)، وحيث يترتب على ذلك ردّ فعل خاص من قبل سليمان من حيث ملاحظة كونه قد واجه مصيرا لابنه خلاف ما توقعه: من جانب آخر... و لكن سليمان عليه السلام قد نجح في هذه التجربة - كما نجح داود من قبل - بحيث انتبه على السر الكامن وراء هذه الفتنة، ذلك (أناب) إلى اللّه تعالى، حيث عقبت القصة على هذه الحادثة بعبارة ثُمَّ أَنٰابَ وَ لَقَدْ فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ ، وَ أَلْقَيْنٰا عَلىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً، ثُمَّ أَنٰابَ ...
إذن، للمرة الجديدة، أمكننا ملاحظة نجاح سليمان عليه السلام في هذه التجربة وما ترتب عليها من نتائج سنعرض لتفصيلاتها لاحقا، مما يكشف مثل هذا الموقف عن تجانس هذه القصة مع سابقتها (قصة داود) كما قلنا، فضلا عن تجانسه مع سائر موضوعات السورة الكريمة: من حيث علاقة بعضها مع الآخر، بالنحو الذي سنوضحه لاحقا إن شاء الله تعالى).
قال تعالى وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطٰانُ بِنُصْبٍ وَ عَذٰابٍ اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هٰذٰا مُغْتَسَلٌ بٰارِدٌ وَ شَرٰابٌ وَ وَهَبْنٰا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
ص: 121
رَحْمَةً مِنّٰا وَ ذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاٰ تَحْنَثْ ، إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً، نِعْمَ اَلْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ .
هذه هي القصة الثالثة من قصص سورة صاد، حيث انصبت القصص الثلاث في فكرة واحدة هي: إخضاع الشخصيات القصصية (وهم ثلاثة أنبياء) لتجربة صعبة، خرجوا عن خلالها بنجاح، حيث ترتب على ذلك أن الله تعالى مزيدا من المعطيات ذات الطابع الإعجازي و الآن، لنقف عند قصة أيوب عليه لسلام لملاحظة موقعها الهندسي من القصص من جانب، و ملاحظة أحداثها و أفكارها الأخرى من جانب آخر... أمّا أحداثها فتتمثل في الشدة التي تعرض لها أيوب، وهي شدة جسمية ونفسيه لا يتحملها إلاّ من أصطفاه الله تعالى... حيث هجره الناس لمرضه، وذهب أهله.. وحيث ساقه ذلك إلى يهتف مناديا. يا رب مَسَّنِيَ اَلشَّيْطٰانُ بِنُصْبٍ وَ عَذٰابٍ وقد خرج أيوب من هذه المحنة بنجاح، بحيث صبر على بلائه صبرا لا مماثل له، مما نلحظ ذلك في السمة التي خلعها اللّه تعالى عليه و هي الصبر.. قال تعالى: إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً، نِعْمَ اَلْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ . هذه السمات الثلاث سنتحدث عنها بعد قليل، لكن ما ينبغي أن نلحظه الآن هو أنّ الله تعالى رفع عنه الشدة حينما أمره أن يضرب برجله الأرض، حيث نبعت من الضرب عينان، أحداهما للشرب وأخرى للاغتسال، فبريء من مرضه، كما رد إليه أهله و مثلهم معهم (أي أهد الذين ماتوا قبل شدته و أثناء شدته)، اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هٰذٰا مُغْتَسَلٌ بٰارِدٌ وَ شَرٰابٌ وَ وَهَبْنٰا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، رَحْمَةً مِنّٰا .
و يلاحظ أنّ النص عقب على هذه الحوادث بقوله تعالى إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً، نِعْمَ اَلْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوّٰابٌ هذا التعقيب ينبغي أن نقف عنده بشيء من التفصيل... نظرا لارتباطه عضويا بسائر للقصص التي تضمنتها سورة صاد... لقد وصف النص (أيوب) بسمة الصبر أولا، نظرا لارتباط الامتحان الذي تعرض له بسمة الصبر - كما قلنا. ثم وسمه بصفتين، أحداهما: العبودية
ص: 122
(نعم العبد) والأخرى سمة «الأواب» إِنَّهُ أَوّٰابٌ . وهاتان الصفتان قد خلعهما النص على شخصيتي داود وسليمان أيضا، حيث قال النص عن داود عليه السلام وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ فقوله تعالى: عَبْدَنٰا و إِنَّهُ أَوّٰابٌ هو نفس قوله تعالى عن أيوب نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ ، كما أنّ قوله تعالى عن سليمان وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ . نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ يحمل نفس الصفتين اللتين خلعهما على أيوب...
إذن، ثمة تجانسات قصصية في رسم الأشخاص الثلاثة، جاءت مشتركة بين الأبطال المشار إليهم... وهذا التجانس بين سمات الأبطال: له أهميته الفنية من حيث (وحدة العنصر القصصي) بحيث يمكن القول إننا أمام قصص متداخلة فيما بينها أو أمام قصة واحدة ينتظمها أبطال ثلاثة من الأنبياء، يحملون سمات مشتركة بينهم.. ليس هذ فحسب، بل أنّ الحوادث التي تعرضوا لها، ثم النتائج التي رتبها اللّه تعالى على الحوادث المشار إليها:
تتجانس أيضا فيما بينها، فكما جعل اللّه تعالى داود (خليفة) بعد تجربته في القضاء، وكما منح لسليمان الريح والشياطين والملك. بعد تجربته في مواجهته الجسد الميت (وهو ابنه)... كذلك: منح أيوب عليه السلام: المغتسل البارد و الشراب ورجوع الأهل: بعد تجربته في مكابدة المرض و سواه. إذن، للمرة الجديدة، نحن الآن أمام عمارة تعبيرية بالغة الإحكام والامتاع: من حيث تجانس الصفات المخلوعة على شخصيات القصص الثلاث ومن حيث تجانس الحوادث التي تعرضوا لها، و من حيث النتائج التي ترتبت على ذلك، مما يكشف مثل هذا التجانس بين الأبطال والحوادث والنتائج، عن مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة موضوعاته. بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 123
قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ، وَ اُذْكُرْ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيٰارِ، هٰذٰا ذِكْرٌ، وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ... .
هذا القسم من سورة «صاد» يمكن أن نجعله امتداد للعنصر القصصي الذي تحدث عن داود و سليمان وأيوب عليهم السلام، حيث تم عرض عليهم السلام شخصياتهم بشيء من التفصيل... أما القسم الذي نتحدث عنه الآن، فلا يعرض للشخصيات إلاّ عابرا بحيث يكتفي بسرد أسمائهم و إكسابهم صفة مشتركة، مثل صفة أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ بالنسبة إلى كل من إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و كونهم مخلصين و أخيارا... ومثل صفة (الأخيار) لكل من. إسماعيل و اليسع وذا الكفل... طبيعيا لا بد أن يكون لانتخاب هذه الأسماء من جانب، ثم شطرها إلى مجموعتين من جانب آخر (أي: إبراهيم و إسحاق ويعقوب مقابل إسماعيل واليسع و ذي الكفل)، لا بد أن يكون لهذا العرض و التقسيم و الصفات للشخصيات المذكورة أكثر من سر فنيّ فيما يتطلب كشف هذه الأسرار متابعة خاصة لحياة كل منهم مما لا يسمح حديثنا بذلك... من هنا، نتجاوز هذا الجانب لنتحدث عن السمات التي خلعت عليهم وصلتها بالعنصر القصصي في السورة و بهيكل السورة أساسا... لقد رسم هؤلاء من خلال سمات (القوة، و الاستبصار، و الخيرية، و الإخلاص).
مع ملاحظة أنّ عرض هذه السمات ينطوي - بداهة - على هدف تركز السورة عليه، يماثل الأهداف التي أبرزها العنصر القصصي في شخصيات داود و سليمان و أيوب. و إذا كانت الشخصيات الثلاث الأخيرة قد عرضت في سياق تعرضهم إلى تجربة (امتحان)، وما ترنب عليه من المزيد من معطيات الله تعالى بحيث سخر لهم مختلف القوي من جبال وطير و جن و ريح (بالنسبة إلى
ص: 124
داود وسليمان)، بحيث تم الإبراء من المرض و إعادة الحياة إلى الموتي (بالنسبة إلى أيوب).
نقول: إذا كانت هذه الشخصيات قد عرض لها في سياق خاص من الامتحان و المعطيات الدنيوية، فإن التلويح بالجزاء الأخروي لهم، و بالمعطيات هناك أيضا، يظلل عنصرا مشتركا بينهم و بين الشخصيات النبوية التي عرضها هذا القسم من السورة، وبينهم جميعا و بين مطلق المؤمنين الذين تطبعهم (التقوي) من جانب آخر، و هذا ما نلحظه في التعقيب القصصي القائل هٰذٰا ذِكْرٌ، وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ و التعقيب القائل إِنَّ هٰذٰا لَرِزْقُنٰا مٰا لَهُ مِنْ نَفٰادٍ إن قوله تعالى: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ينبغي ألا نفصله من سياق العنصر القصصي الذي ركز على سمة مشتركة من داود و سليمان عليهما السلام حينما قال عنهما - في صدد الجزاء الأخروي: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ ، فعبارة حُسْنَ مَآبٍ جاءت الآن - في المقطع الذي نتحدث عنه - بنفس الصيغة التي وردت فيها بالنسبة إلى شخصيتي داود وسليمان... و هذا يعني (من حيث الهيكل الهندسي عمارة القصص، والسورة أيضا) أنّ النص القرآني الكريم قد وصل بين أقسام السورة الكريمة، و أخضعها لبناء فني متجانس متلاحم، و تتنامي فيه الموضوعات والفكر:
بعضها مع الآخر، من حيث انصبابها في (فكرة) تقول: أنّ لعباد الله الأخيار حُسْنَ مَآبٍ سواء كانوا أنبياء أو عاديين: مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ للأنبياء تميزهم الخاص في الجزاء المذكور...
كذلك، يمكننا ملاحظة بعد آخر من التجانس، وهو قوله تعالى في هذا القسم الذي نتحدث عنه: إِنَّ هٰذٰا لَرِزْقُنٰا مٰا لَهُ مِنْ نَفٰادٍ حيث وردت هذه الآية في سياق الحديث عن الجزاء الأخروي: الجنة، لكن ينبغي أن نتداعى بأذهاننا إلى قصة سليمان عليه السلام حيث عقب النص عليها بقوله تعالى.
ص: 125
هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ . فبالرغم من أن العطاء المذكور ورد في صعيد الجزاء الدنيوي: حيث وهب اللّه تعالى له ملكا متفردا، و سخر له الريح و الجن... فإنّه لمجانس للجزاء الأخروي الذي يقول إِنَّ هٰذٰا لَرِزْقُنٰا مٰا لَهُ مِنْ نَفٰادٍ فعدم نفاد الرزق يتجانس مع العطاء بغير حساب، بصفة أنّ كلا منها لا حدود له بالنسبة إلى معطيات اللّه تعالى...
إذن، ثمة تجانس وتلاحم بين الموضوعات يتم من خلال (الوحدة) بينهما، مقابل «تجانس وتلاحم» يتم من خلال (التضاد) بين المعطيين دنيويا و أخرويا، إلاّ أن (التجانسين) كليهما، يخضعان لطابع مشترك هو عطاء اللّه تعالى في الحالات جميعا، وهذا النمط من التجانس، يكشف عن مدي الإحكام الهندسي للنص القرآني الكريم، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: هٰذٰا، وَ إِنَّ لِلطّٰاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا، فَبِئْسَ اَلْمِهٰادُ هٰذٰا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسّٰاقٌ وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوٰاجٌ هٰذٰا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ، لاٰ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صٰالُوا اَلنّٰارِ قٰالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاٰ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنٰا فَبِئْسَ اَلْقَرٰارُ قٰالُوا: رَبَّنٰا مَنْ قَدَّمَ لَنٰا هٰذٰا فَزِدْهُ عَذٰاباً ضِعْفاً فِي اَلنّٰارِ وَ قٰالُوا: مٰا لَنٰا لاٰ نَرىٰ رِجٰالاً كُنّٰا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرٰارِ أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زٰاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصٰارُ إِنَّ ذٰلِكَ لَحَقٌّ تَخٰاصُمُ أَهْلِ اَلنّٰارِ... .
هذا المقطع من السورة الكريمة امتداد لما سبق من المقطع الذي تحدث عن مصائر المؤمنين في الجنة ووصفها بعبارة وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ .
هنا - في المقطع الذي نتحدث عنه - يقابل النص بين أولئك المؤمنين وبين الفاسقين، حيث وصف مصائرهم في النار بصفة وَ إِنَّ لِلطّٰاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ .
هذا التقابل بين المؤمنين و المنحرفين قد خضع - هندسيا - لنوع من التجانس الفني الذي يفصح عن الإحكام العضوي لبناء النص، أي: نحن الآن أمام
ص: 126
ظاهرة فنية هي. «التماثل من خلال التضاد» أو «التضاد من خلال التماثل»، فالتضاد هو. الجنة والنار، الشر و الخير: الشر بالنسبة إلى مصائر المنحرفين، و الخير بالنسبة إلى مصائر المؤمنين، وأما التماثل فهو (المآب) أو المصائر، فقول اللّه حسن مآب بالنسبة إلى المؤمنين، وقوله تعالى: لَشَرَّ مَآبٍ بالنسبة إلى المنحرفين، يعد (تضادا) من خلال (التماثل) في المآب، إنّ لكل منهما مآبا (وهذا هو التماثل)، لكن مآب المؤمن إلى الجنة، ومآب الكافر إلى النار، وهذا هو التضاد... علما بأنّ هذا المقطع و سابقه، يظلان مرتبطين عضويا بالعنصر القصصي في السورة الكريمة، حيث تحدثت السورة عن شخصيات داود وسليمان وأيوب وسائر الأنبياء، وأشارت في حينه إلى مواقعهم أخرويا، وربطت بين تلكم المواقع أو المصائر، وبين مصائر مطلق المؤمنين... لكن، خارجا عن هذا المبني الهندسي الذي يربط بين أجزاء السورة أو مقاطعها: بعضها مع الآخر، يعنينا أن نتابع العرض الفني الذي قدّمه المقطع بالنسبة إلى بيئة النار التي يحياها المنحرفون، و ما يواكبها من رسم المواقف المثيرة في هذا الصعيد.
و أول ما يلفت النظر هنا، أنّ المقطع عرض ردود الفعل التي تصدر عن الرؤساء و المرؤوسين أو قادة الضلال و أتباعهم، حيث يتناول الفريقان: إلقاء اللوم فيما بينهما، فالرؤساء أو الشياطين عندما يقول لهم. هٰذٰا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ في دخول النار، حينئذ يقول الرؤساء لاتباعهم الذين اقتحموا النار:
لاٰ مَرْحَباً بِهِمْ ، ولكن الاتباع يردّون عليهم بنفس العبارة بَلْ أَنْتُمْ لاٰ مَرْحَباً بِكُمْ ثم يضيف هؤلاء الأتباع قائلين أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنٰا أي: أنتم أيها الرؤساء أو الشياطين قدمتم لنا هذا المصير البائس... ليس هذا فحسب، بل يتكرر هذا الكلام للمرة الجديدة عندما يتجه الأتباع إلى اللّه تعالى قائلين رَبَّنٰا مَنْ قَدَّمَ لَنٰا هٰذٰا، فَزِدْهُ عَذٰاباً ضِعْفاً فِي اَلنّٰارِ . و هذا التكرار ينطوي على أكثر من سر فني، منه. أنّ توجه الاتباع إلى الله بمضاعفة العذاب على رؤسائهم،
ص: 127
جاء بعد دخولهم النار و استقرارهم فيها، حيث كان الموقف الأول هو أثناء دخولهم النار فيما قالوا لرؤسائهم: لاٰ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ . و من الممكن أن يكون هذا الكلام قد قالوه مباشرة بعد كلامهم السابق، حيث تعني هذه العبارة «فزده عذابا ضعفا من النار» إنهم قالوا: إنّ الرؤساء ما داموا قد تسبّبوا في دخولنا النار، فعليه: زدهم - يا رب - عذابا مضاعفا... ثم ينقل المقطع لنا موقفا آخر لأصحاب النار، حيث يتحاور هؤلاء قائلين: مٰا لَنٰا لاٰ نَرىٰ رِجٰالاً كُنّٰا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرٰارِ أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا، أَمْ زٰاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصٰارُ -.
إنّ هذه المحاورة الداخلية أو الجمعية تنطوي أيضا على أكثر من سر فني، منها: أنّ الإحساس بالندم يتنوع لدى المنحرفين، حيث أنّهم حينا يتلاومون رؤساء واتباعا: بعضهم مع الآخر، وحينا آخر يلتفتون إلى ماضيهم الدنيوي فيتذكرون أشخاصا كانوا يعدونهم أشرارا - في المقايس الدنيوية، و لكن لا وجود لهم في النار، بل هم في الجنة، مما يعني أنّ إحساسهم بخطأ مقاييسهم قد جرّ عليهم عذابا نفسيا آخر - حيث يتداعي الذهن تلقائيا إلى المقارنة بين مقاييسهم الدنيوية وبين ما يشاهدونه الآن في الآخرة، كل ذلك في نطاق الضلالة الفكرية التي قادتهم إلى عدم الإيمان برسالة الإسلام أو في نطاق تصوّراتهم عن المؤمنين الذي خيل إليهم أنّهم أشرار في الدنيا. ومن الواضح، أنّ هذا المنحي من صياغة ردود الفعل التي يصدر عنها المنحرفون يظل على صلة عضوية بمقدمة السورة التي وصفتهم بأنّهم في (عزة و شقاق) حيث أن تصوراتهم المخطئة التي بدأوا يحسونها هي إلا انعكاسات لصقة العزة و الشقاق: كما هو واضح، وهو أمر يكشف لنا عن مدي الإحكام العضوي للنص، من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر: بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 128
قال: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مٰا كٰانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ، إِنْ يُوحىٰ إِلَيَّ ، إِلاّٰ أَنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ ... إلخ.
بهذا المقطع تختم سورة صاد التي بدأت بقوله تعالى: ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقٰاقٍ حيث ختمت بالإشارة إلى القرآن الكريم وموقف المنحرفين منه، فيما وصفهم بسمات العزة والشقاق...
وها هو الآن يعرض لنا نفس موقفهم بعبارة إنّه نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ . طبيعيا، أنّ إعراضهم هنا جاء متجانسا مع المقطع السابق الذي عرض فيه مصير المنحرفين الذين غفلوا عن الآخرة، و نعني به: جهنم التي بدأوا يتحسسون من خلالها مدي العزة والشقاق اللذين دفعا بهم إلى أمثلة هذا المصير البائس... بيد أنّ الملاحظ، أنّ النص أو المقطع الختامي للسورة، طرح فيها موضوع جديد هو: موقف إبليس من آدم عليه السلام، حيث يدفعنا ذلك إلى التساؤل عن السر الفني لعرض هذه القصة في ختام السورة... في تصوّرنا، أنّ قصة إبليس و موقفه من عدم السجود لآدم (ع)، قد ركز فيها على ظاهرة (التكبر) من جانب، وظاهرة (جهنم) من جانب آخر، وبالرغم من أن هاتين الظاهرتين تتكرران في قصص آدم، إلاّ أنّ التركيز هنا جاء ملحوظا بحيث نستكشف وجود علاقة عضوية بين أفكار السورة وبين هذه القصة...
أمّا سمة (التكبر) فتتضح علاقتها بسمتي (العزة و الشقاق) اللّذين طبعا المنحرفين، وأمّا التركيز على (جهنم) فإنّه يتناسب مع سمة العزة والشقاق اللذين يقودان المنحرف إلى جهنم: مع ملاحظة أنّ هذه القصة جاءت بعد مقطع تناول بالتفصيل. مخاصمات المنحرفين - وهم في جهنم - حيث كانوا يتبادلون التهم فيما بينهم، بخاصة أنّ الاتباع كانوا يشيرون بنحو متكرر إلى أنّ
ص: 129
الشياطين أو الرؤساء هم الذين قادوهم إلى الانحراف... لذلك، عندما يركز النص على (جهنم)، نستكشف وجود علاقة بين هذه القصة وبين المقطع السابق الذي القي المنحرفون فيه تبعة سلوكهم على الشيطان... لنستمع إلى المحاورة الآتية: قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قٰالَ فَالْحَقُّ - وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ... لنلاحظ، أنّ المقطع قد أشار بعبارة مِمَّنْ تَبِعَكَ إلى نفس المضمون الذي لحظناه في المقطع الأسبق الذي ألقي الاتباع اللوم فيه على الشيطان...
إذن، من حيث المبني الهندسي للنص، نجد أنّ هناك خيطا عضويا يربط بين القصة التي ختمت بها السورة، وبين موضوعات السورة: سواءا كان ذلك في بداياتها أو في وسطها... فالبداية تضمنت الإشارة إلى سمتي (العزة و الشقاق)، والوسط تضمن الإشارة إلى أتباع الشيطان... و كل منهما - أي بداية السورة ووسطها - مرتبط بختام السورة التي تحدثن عن إغواء الشيطان للمنحرفين، ثم عن التلويح بالمصير الذي ينتهي إليه المنحرفون وهو جهنم... مضافا لما تقدم، ينبغي ألا نغفل عن ملاحظة بعد فني آخر في هذا المقطع الختامي، حيث لحظنا أنّ بداية المقطع قد أشار إلى أنّ القرآن أو تعاليمه هو نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي أشار إلى اعراض المنحرفين عن الحق، ورمز للحق بعبارة (نبأ)، ثم ختم السورة بآية تقول وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ . هذا التجانس بين (النبأ) وبين العلم به بعد حين، يشكل بعدا جديدا من أبعاد التجانس أو الترابط العضوي في النص، فهو أشار إلى أنّ المنحرفين (معرضون عن النبأ العظيم) هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ . و ها هو في آخر آية من السورة الكريمة، يعرض لنا المقطع نتائج الأمراض المذكورة، بقوله: وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ، أي: في اليوم الآخر.
ص: 130
إذن، أمكننا ملاحظة مختلف الأبعاد الفنية التي ربطت بين ختام السورة وبين موضوعاتها في البداية والوسط، مما يكشف مثل هذا الترابط بين أقسام السورة الكريمة، عن مدي الإحكام الهندسي فيها، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 131
ص: 132
ص: 133
ص: 134
لقد استهلت هذه السورة الكريمة بهذا النحو.
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ ، فَاعْبُدِ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ .
إن عبارة فَاعْبُدِ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ تظل هي المحور الفكري الذي سيربط بين أجزاء السورة الكريمة، أنه (التمهيد) الذي يرهص بموضوعات النص ومدي التركيز عليها... إنه (أي التمهيد) ما دا قد أشار إلى نزول الكتاب بالحق - وهي إشارة عامة تتكرر في النصوص القرآنية كثيرا - حينئذ فإنّ التركيز على أحد وجوه «الحق» هو الذي سوف يجعل «خصوصية» لهذا المفهوم، متمثلة في عبارة أو مفهوم «اعبد الله مخلصا له الدين»، إذن، لنتجه إلى وسط السورة لنري مدي علاقتها ب (البداية) المذكورة...
ونقف مع.
القسم الأول القسم الأول من السورة، جاء ليفصّل الإجمال الذي صرحه ««التمهيد» وها هو يطرح هذا المفهوم ذاته، بادئا بهذا النحو:
أَلاٰ لِلّٰهِ اَلدِّينُ اَلْخٰالِصُ ، وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ ، إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مٰا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ كٰاذِبٌ كَفّٰارٌ، لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىٰ مِمّٰا يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ سُبْحٰانَهُ هُوَ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ .
لقد طرح النص مفهوم «الدين الخالص» هنا، ليربطه بما يضاده من سلوك المشركين الذي يخلط بين ما هو (دين) - وهو وجود الله تعالى وبين ما هو غير دين - وهو الشرك المتمثل في العبارة التي أجراها النص على لسان
ص: 135
المنحرفين وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ، مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ . فالملاحظ هنا، أنّ النص قد طرح ما يضاد الدين الخالص حينما نقل لنا تصورات الذين يتخذون من دون اللّه أولياء قائلين بأنهم يتقربون إلى الله تعالى زلفي بعبادتهم الأوثان أو مطلق السلوك المشرك... إذن، جاء القسم الأول من السورة مفصّلا لمفهوم (فاعبد اللّه مخلصا له الدين) حيث أوضح أولا بأن الدين الخالص للّه تعالى، وأوضح ثانيا بأن هناك نماذج يضادّون هذه المقولة وهم الذين لم يجعلوا الدين الخالص لله تعالى بل شابوا سلوكهم باتخاذ غير اللّه تعالى وليا لهم ليقربوهم إلى اللّه تعالى... ويلاحظ أيضا، أن النص قدّم هنا أحد النماذج المشركة وهم الذين زعموا بأن لله تعالى أولادا، حيث ردّهم اللّه تعالى بقوله تعالى (لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً... إلخ).
كما يلاحظ أن النص لوّح بالجزاء الأخروي لأولئك الذين اتخذوا من دونه أولياء... حيث أن مفهومات، الدين الخالص وما يضاده «الشرك» ثم ما يترتب على ذلك من الجزاء، ستظل موضوعات تلقي بانعكاساتها على الأقسام اللاحقة من السورة حسب سياقات جديدة ترد فيها الموضوعات السابقة كما سنري.
القسم (2). لقد جاء القسم الأول من السورة (منميا) عضويا لمفهوم (فاعبد الله مخلصا له الدين) كما لحظنا... وأما القسم الجديد من السورة فيتناول ظاهرة الإبداع الكوني (السماء، الأرض، الليل، النهار، الشمس، القمر، الإنسان، الأنعام) مع ملاحظة أن النص ركز على بعض الحقائق العلمية المتصلة بخلق (الجنين) (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث) معقبا على هذه الظواهر التي تشمل الإنسان والحيوان والجماد بقوله تعالى. ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ . ومن الواضح أن هذا التعقيب هو ردّ على ظاهرة من يتخذون من دون الله وليا، و بذلك يكون
ص: 136
النص - من حيث العمارة الفنية - قد أحكم بناؤه وفق هذا الترابط العضوي بين مقدمته ووسطه... ونتابع الوسط، فنجد أن النص يطرح موضوعات جديدة متنوعة مثل. الكفران أو الشكر لنعم اللّه تعالى، عدم تحمل الإنسان وزر غيره، توجّه الإنسان إلى اللّه تعالى عند الشدائد ثم إشراكه غيره عند انقشاعها، عدم المساواة بين من هو قانت آناء الليل... الخ. مضافا إلى كون هذه الموضوعات تتخللها الإشارة إلى اليوم الآخر وجزاءاته، فيما قلنا أنها انعكاسات لما طرحته مقدمة السورة وقسمها الأول... ولسنا بحاجة إلى التذكير بأنّ جمالية النص الأدبي تتمثل - في جملة ما تتمثل به من حيث العمارة الفنية لموضوعاته - في طرح الموضوعات المتنوعة التي تستهدف توصيلها. مع ربطها بطبيعة الحال بهيكل النص العام، حيث نجد أن هذه الموضوعات طرحت في سياق نعم اللّه تعالى وكونها تعبيرا عن مفهوم لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ مقابل مفهوم (الشرك)، مفهوم أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ مقابل من اتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى.
القسم (3): ونواجه القسم الجديد من النص وقد استهل بقوله تعالى قُلْ يٰا عِبٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةٌ ، وَ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةٌ ، إِنَّمٰا يُوَفَّى اَلصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ ... إلخ. واضح، أن هذا القسم قد ارتبط عضويا بمقدمة السورة فَاعْبُدِ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ حيث أجري النص هذا المفهوم بنفس العبارة على لسان النبيّ (ص) مطالبا إياه بأنّ يقول أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ حيث أن استقلال هذا القسم من جانب يتمثل في كونه قد تميّز عماريا بصياغة (قل) فيما ورد أولا بقوله تعالى.
قُلْ : يٰا عِبٰادِ.... ثانيا، بقوله تعالى.
(قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ .... ثالثا، بقوله تعالى:
ص: 137
قُلْ : إِنِّي أَخٰافُ ... رابعا، قوله تعالى.
قُلِ اَللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي خامسا، قوله تعالى:
قُلْ : إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ... .
ثم ارتبط - من جانب آخر - بعمارة السورة الكريمة، حيث أن مفهوم فَاعْبُدِ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ قد تكرر هنا مرتين، إحداهما قوله تعالى قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ ، و الأخرى قوله تعالى قُلِ : اَللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ... ويعنينا من هذا التكرار لمفهوم العبادة المخلصة، أنه يظل تعبيرا واضحا عن الإحكام الهندسي للسورة من حيث تواشج جزئياتها بعضها مع الآخر، أنه يطرح عبارة أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ ليربطها بصياغة مماثلة هي عبارة (أمرت) حيث كررها مرتين، أحداهما. بعبادة الله مخلصا له الدين، والأخرى بأن يكون أول المسلمين... ثم جاء التكرار لعبادة اللّه مخلصا له الدين في سياق آخر هو: عبادة المشركين، فيما قابل بين عبادة المسلم الذي يعبد الله مخلصا له الدين، و بين عبادة من يعبدون من دون اللّه فَاعْبُدُوا مٰا شِئْتُمْ ... لنقرأ العبارة من جديد:
قُلِ : اَللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مٰا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ .
إذن أمكننا أن نلحظ هذه الخطوط الهندسية التي و شحت عمارة هذا القسم السورة، حيث أن عبارة.
أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ .
تكررت:
أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ .
وحيث أن عبارة:
أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ .
تكررت.
ص: 138
أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ .
وحيث أن عبارة:
قُلْ : يٰا عِبٰادِ...
قُلْ . إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ...
قُلْ . إِنِّي أَخٰافُ ...
قُلِ . اَللّٰهَ أَعْبُدُ...
قُلْ . إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ ... .
هذه العبارة الأخيرة التي شكلت واحدا من الخطوط الهندسية المكونة لعمارة هذا القسم من السورة من جانب، ورابطة إياه بالأقسام السابقة من السورة من جانب ثان، تظل - من جانب ثالث - رابطا عضويا بين هذا القسم من السورة، وبين القسم اللاحق لها، إلاّ وهو.
القسم (4). حيث تمحض هذا القسم لموضوع خاص هو: رسم الجزاءات الأخروية. إيجابا وسلبا، حيث يظل هذا الموضوع (الجزاءات الأخروية) واحدا من محاور السورة التي تشكّل بناءها الهندسي - كما كررنا - مضافا إلى أن الربط العضوي الذي تم بينه وبين القسم الثالث يتمثل أولا في عبارة (قل) كما أشرنا، ويتمثل ثانيا في عملية الربط بين من يعبد اللّه مخلصا له الدين وبين من يعبدون من دون اللّه، حيث أوضح النص بأنهم خسروا أنفسهم بمثل هذا السلوك، متجها من خلال ذلك إلى رسم الخسائر التي تلحق هؤلاء مقابل الفوز الذي يظفر به المؤمنون... وبهذا النمط من الربط العضوي يستقل هذا القسم - كما قلنا - بطرح الجزاءات الأخروية، على هذا النحو:
قُلْ : إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ... لٰكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ ، مِنْ فَوْقِهٰا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ، وَعْدَ اَللّٰهِ ، لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ اَلْمِيعٰادَ .
ص: 139
القسم (5): لحظنا مدي الترابط العضوي بين الأقسام الأربعة من السورة الكريمة،...
ونتجه إلى القسم الجديد من السورة، فنجده يبدأ بقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطٰاماً، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ فَهُوَ عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ . فَوَيْلٌ لِلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ .... وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ .
هذا القسم من السورة يتسم بالإشارة إلى الجزاء الأخروي الذي شكل أحد محاور السورة من جانب، واستقل به القسم الرابع من السورة من جانب آخر... وسنري (من زاوية البناء الهندسي للنص) أن الأقسام اللاحقة من السورة، بما في ذلك ختام السورة سوف ترسم هندسيا من خلال جعل الجزاءات الأخروية (محطة توقف) لكل مقطع أو قسم من السورة...
أما الموضوعات الجديدة المطروحة هنا فتتمثل في الإشارة إلى: أن الله تعالى أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج ثم يصفر ثم يتلاشي، مشيرا إلى أن في ذلك لذكري لأولي الألباب...
واضح، أن النص ذكر هنا ظاهرة إبداعية جديدة (بعد أن ذكر جملة من الظواهر الإبداعية في قسم سابق من السورة)... إلاّ أن الطرح هنا جاء في سياق الذكري لأولي الألباب، وهناك جاء في سياق الشكر لنعم الله وتوحيده... ومما طرح في هذا القسم: الإشارة إلى أن من شرح الله صدره للإسلام ليس كالقاسية قلوبهم، وأن الله تعالى نزّل الكتاب متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون الله، وأن قلوبهم وجلودهم تلين إلى ذكر اللّه
ص: 140
تعالى... ثم ربط بين هذه الموضوعات وبين الجزاء الأخروي الذي ختم به القسم أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذٰابِ ... ، حيث نلحظ - مضافا إلى عملية الربط بين الموضوعات وبين المحطة التي تقف عندها ختام القسم - تجانسا بين طرحه للموضوعات وللجزاءات، فالموضوع الذي طرحه في أول القسم هو أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ ... حيث وازن بين نمطين: المؤمن و الفاسق... وحيث اعتمد عنصرا فنيا هو (حذف) «المشبه به» أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ فَهُوَ عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ، فَوَيْلٌ لِلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فالذي يتوقعه المتلقي هنا أن يجد (المشبه به) وهو ما يقابل من شرح الله صدره للإسلام مذكورا، إلاّ أن النص حذفه تاركا للمتلقي أن يستلخص ذلك بنفسه تحقيقا للمتعة الجمالية، كذلك نجده عند الجزاء قد سلك نفس المنحي فقال تعالى: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ، وَ قِيلَ لِلظّٰالِمِينَ ذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ حيث حذف (المشبه به) وهو مثلا (كمن هو لا يتقي بوجهه إلخ)، إذن، أمكننا ملاحظة جملة من أبعاد التجانس والترابط العضوي بين أجزاء المقطع من جانب وبينه وبين هيكل السورة من جانب آخر:
القسم (6): ونتجه إلى القسم الجديد من السورة، فنجده يبدأ بقوله تعالى.
وَ لَقَدْ ضَرَبْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لِيُكَفِّرَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ ...
وقد ختم هذا القسم - كما هو طابع الأقسام السابقة - من النص بعنصر صوري وظف لإنارة هدف النص... وأما الموضوعات المطروحة فيه، فتتمثل في الإشارة إلى قوله تعالى (ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكٰاءُ مُتَشٰاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيٰانِ ...؟) .
هذا المثل يظل متجانسا عضويا مع المقطع السابق الذي عرض النص فيه
ص: 141
تشبيها بين المؤمن و الكافر من حيث انشراح الصدر ومن حيث قساوة القلب، ومن حيث الاتقاء لسوء العذاب ومن حيث عدم ذلك، فهنا يقدم النص أيضا تشبيها بينهما من حيث الرجل الذي يخدم واحدا و الرجل الذي يخدم جماعة مختلفة الأهواء حيث تستتبع الخدمة الا خيرة مخاصمة ومشاكسة فيما بينهم... وهذا المثل يظل مرتبطا بمفهوم التوحيد و الشرك كما هو واضح، وبذلك يمثّل امتدادا عضويا لمقدمة السورة التي لصرحت مفهومي، العبادة الخالصة و الشرك. ونتجه إلى قسم جديد من السورة، يبدأ بقوله تعالى:
أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ ، وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ،... مَنْ يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذٰابٌ مُقِيمٌ .
و هكذا يختتم هذا القسم أيضا بالإشارة إلى المصير الأخروي الذي يشكّل محطة توقف بين أجزاء السورة في رحلتها التي طرحت من خلالها في هذا الجديد من السورة مفهوما هو (إن الله كاف عبده) مقابل من يخوفون الآخرين بالأوثان وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وهكذا نجد في هذا القسم (مقارنة) أيضا بين الموحدين و المشركين، فيما يظل هيكل السورة الكريمة يحوم حوله في الأقسام جميعا كما لحظنا.. وقد فصّل النص حديثه هذا الجانب حينما تساءل قائلا: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ أَرٰادَنِيَ اَللّٰهُ بِضُرٍّ - هَلْ هُنَّ كٰاشِفٰاتُ ضُرِّهِ ، أَوْ أَرٰادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكٰاتُ رَحْمَتِهِ ، لا نغفل أن عنصر «التقابل» هنا بين (الضر) والرحمة، التقابل بين (كاشفات) و (ممسكات)، يظل عنصرا (يتجانس) مع عناصر (التقابل) بين التوحيد و الشرك، بين انشراح الصدر و القساوة، بين اتقاء العذاب وعدمه، بين رجل سلم لرجل ورجل فيه شركاء متشاكسون... إلخ إذن لا نزال نواجه في كل قسم من أقسام السورة، ترابطا عضويا بين أجزاء القسم نفسه وبينه و بين الأقسام الأخرى، على نحو ما أوضحناه.
ص: 142
و نتجه إلى قسم جديد من السورة.
إِنّٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ لِلنّٰاسِ بِالْحَقِّ ، فَمَنِ اِهْتَدىٰ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمٰا يَضِلُّ عَلَيْهٰا وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ... وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا المقطع الذي ختم - كما هو طابع جميع الأقسام التي وقفنا عندها - بالإشارة إلى الجزاء الأخروي الذي يشكل رابطا بين أجزاء السورة الكريمة، طرح حملة موضوعات، منها: ظاهرة النوم والموت، الشفاعة، نفور المشركين من ذكر اللّه تعالى و سرورهم بذكر الأوثان، ثم اختتامه بالإشارة إلى الجزاء الأخروي، حيث تتم الإشارة في كل مقطع وفق سياق خاص، وحيث جاء السياق هذا من خلال عدم جدوي ما يفتدي به المنحرفون من سوء العذاب الذي ينتظرهم وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذٰابِ ... .
ونتجه إلى المقطع الجديد.
فَإِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰانٰا، ثُمَّ إِذٰا خَوَّلْنٰاهُ نِعْمَةً مِنّٰا، قٰالَ : إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ... وَ يُنَجِّي اَللّٰهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفٰازَتِهِمْ لاٰ يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ .
الملاحظ هنا، أن النص طرح مفهوم «أن الإنسان يدعو ربه إذا مسّه الضر، و لكنه يتناسي الله تعالى بعد كشفه، هذا المفهوم قد طرحه النص في القسم الثاني من السورة، و طرحه هنا في القسم الحالي الذي نتحدث عنه...
لكن ينبغي أن نشير - و نحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية - أن ما طرح في القسم السابق إنما جاء في سياق الحديث عن أن المشركين يدعون الله تعالى إذا مسّهم الضر، و يشركون به إذا انقشع عنهم... أما هنا، فإنّ الطرح جاء في سياق آخر هو: أن المنحرف يدعو الله تعالى إذا مسّه الضر، فإذا انقشع قال أنه بتدبيري أو استحقاقي.. وهذا يعني أن الطرح المتكرر جاء في سياق
ص: 143
مختلف، مما يضفي مثل هذا النمط من التكرار المختلف. مزيدا من التماسك العضوي بين أجزاء النص...
وإذا تركنا (بداية) القسم و اتجهنا إلى (نهايته) وجدناه يختتم كما هو طابع جميع أقسام السورة - بالحديث عن الجزاء، الأخروي، ولكن أيضا في سياق جديد يختلف عن السياقات التي وردت به خواتيم الأقسام السابقة مق السورة، فالسياق هنا يتمثل في قول المنحرف يوم القيامة (يا حسرتي على ما فرطت. -.) وقوله. لَوْ أَنَّ اَللّٰهَ هَدٰانِي... ، فضلا عن السياق الجديد الذي يرتبط بالجزاء الإيجابي للمؤمنين حيث تحدث عن نجاتهم وعدم امساسهم السوء وعدم الحزن، وهي سياقات جديدة كما هو واضح.
القسم الأخير. و نواجه مقطعا جديدا هو:
اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ ، وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقٰالِيدُ، اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجٰاهِلُونَ وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ بَلِ اَللّٰهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ .
هذا المقطع يشكل نقطة لقاء بين مقدمة السورة ووسطها ونهايتها، فنهاية السورة - كما سنري - تمحض للحديث عن الجزاء الأخروي: ولكن في سياق جديد ومفصّل... وأما (المقدمة) فقد طرحت مفهوم (العبادة المخلصة للدين)، وأما الوسط «فقد فصّل الحديث عن هذا الجانب وربطه بما يضاده وهو السلوك المشرك مقابل السلوك الخالص أو الموحد، وجاء الحديث عن اليوم الأخر وجزاءاته محطات توقف تربط بين نتائج كل من السلوكين:
الموحّد و المشرك... وفي ضوء هذه الحقائق المتصلة ببناء وعمارة السورة الكريمة من حيث ترابط موضوعاتها، نجد أن مقدمة القسم الذي نتحدث عنه قد طرحت هذين السلوكين: العبادة للّه تعالى وما يقابلها من الشرك. انظر إلى
ص: 144
عبارة أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ؟ و انظر عبارة لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و انظر عبارة بَلِ اَللّٰهَ فَاعْبُدْ ثم قارن بين هذه العبارات و بين ما تضمنته مقدمة السورة و وسطها من العبارات المطالبة بعبادة الله مخلصا له الدين، و العبارات المشيرة إلى من يعبدون من دون اللّه تعالى، تجد إن ختام السورة يلخص أو يقدم نتائج ما طرح في الأقسام السابقة، و من ثم يختم بالحديث عن الجزاء الأخروي الذي يشكل محطة توقف تربط بين أقسام السورة الكريمة لكن في تفصيل جديد مهد له بأنّ هؤلاء المنحرفين مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ، وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ فهنا ربط النص بين سلوك المشركين الذي يمثل أحد المحاور الفكرية للسورة كما هو واضح، و بين كونهم ما قدروا الله حق قدره: مع أن لأرض جميعا قبضته يوم القيامة... وهكذا وصل النص بين المشركين و بين القيامة أو اليوم الآخر. ثم يحدّثنا بعد ذلك عن اليوم وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ... وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً... وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً... وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .
هنا، ينبغي أن نكرر الإشارة إلى (عنصر التقابل) الذي لحظناه محتشدا في الأقسام السابقة من السورة قد اعتمده النص في ختام السورة ليجانس بين أجزائها، حتى أنك لتجد أبعادا متعددة من التقابل بين العبارات تصل إلى 14 عبارة على هذا النحو الذي بدأه أولا بالحديث عن الكافرين، ثم بالحديث عن المتّقين.
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها..
و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها...
ص: 145
فإذا استبدلنا عبارتي «الكافرين» و (جهنم) مقابل (المتّقين) و (الجنة) وجدنا أن هناك (12) عبارة كتبت بصياغة واحدة وهي عبارات (وَ سِيقَ ) (اَلَّذِينَ ) (كَفَرُوا) (إِلىٰ ) (جَهَنَّمَ ) (زُمَراً) (حَتّٰى) (إِذٰا) (فُتِحَتْ ) (أَبْوٰابُهٰا) (وَ قٰالَ ) (لَهُمْ ) (خَزَنَتُهٰا) ...
أي هذا النوع من (التقابل) من جانب بين الجنة والنار، بين الكافرين و المتقين)، ثم هذا النوع من (التجانس) بين العبارات البالغة (12) كلمة، من جانب آخر، مضافا إلى ما لحظناه من (التجانسات) الأخرى في الأقسام السابقة، فضلا عما لحظناه من ترابط الجزئيات في كل قسم، تم الترابط بين الأقسام جميعا، كل أولئك يشكل بناء عماريا مدهشا سواء أكان ذلك من زاوية العنصر اللفظي الذي أسهم في جمالية البناء، أو العنصر الفكري أو الموضوعي الذي انتظم السورة الكريمة، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
ص: 146
ص: 147
ص: 148
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقٰابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ ، فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ.
بهذا المقطع تبدأ سورة «المؤمن» من حيث تتضمن أولا التأكيد على أن الله تعالى رحيم شديد في الآن ذاته، و تتضمّن ثانيا طرحا لسلوك المنحرفين فيما وصفهم بالمجادلة والمخاصمة... و تتضمّن ثالثا التذكير با الأقوام البائدة التي حاربت رسلها فعاقبهم الله تعالى دنيويا، ثم التلويح بالعذاب الآخروي بالنسبة إلى المنحرفين...
هذه هي الموضوعات المطروحة في بداية السورة، وسنري انعكاس تلكم الموضوعات على وسط السورة وخاتمتها... وهذا ما ينبغي الآن متابعته من خلال (وسط) السورة الذي يبدأ بقوله تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا: رَبَّنٰا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تٰابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ ... هذه الآية وما بعدها تظل انعكاسا - كما قلنا - لبداية السورة التي أكّدت أن الله تعالى: غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ . وها هو مفهوم الغفران و قبول التوبة يتردد الآن على لسان الملائكة الذين يستغفرون للذين آمنوا و يهتفون داعين (رَبَّنٰا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تٰابُوا) ...
لنقارن بين عبارة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تٰابُوا حيت تضمنت «الغفران» و «التوبة»،
ص: 149
وبين العبارة التي وردت في مقدمة السورة غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ حيث تضمنت الغفران و التوبة» أيضا... وهكذا تتلاحم (بداية) السورة مع (وسطها) من حيث توحّد الموضوع (الغفران والتوبة) بهذا النمط من النماء العضوي للمفهوم المذكور... حيث تحول مفهوم الغفران وقبول التوبة» - و هما من صفات الله تعالى - إلى مطالبة الملائكة أو إلى دعاء للملائكة الذين «يستغفرون للمؤمنين» ويدعون اللّه تعالى إلى أن «يغفر» للذين «تابوا» واتبعوا سبيل اللّه تعالى... و الأمر نفسه بالنسبة إلى قوله تعالى حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ ، إلى دعاء الملائكة الذين طالبوا بأنّ يقي الله تعالى المؤمنين عذاب النار «وَ قِهِمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ » .. وهذا النماء العضوي قد تم عن خلال طرح لقضية جديدة أبرزها المقطع الذي نتحدث عنه، وهي: أن إحدى وظائف الملائكة الذين يحملون العرش و يسبّحون بحمداللّه تعالى. هي:
إنهم «يستغفرون» للمؤمنين أيضا... أي: أنّ النص قدّم لنا حقيقة ترتبط بمهمّة الملائكة من حيث كونهم يمارسون وظائف متنوعة بالشكل الذي لحظناه.
وهذا كله بالنسبة إلى صلة الملائكة بالمؤمنين... أما العلاقة أو الصلة بالكافرين، فقد أوضحها المقطع أيضا، حينما نقل لنا المقطع: الحوار الآتي بين الملائكة و المنحرفين في يوم القيامة «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنٰادَوْنَ : لَمَقْتُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمٰانِ فَتَكْفُرُونَ » ... أي أنّ الملائكة عندما يشاهدون الكافرين - وقد دخلوا النار - يقولون لهم «لَمَقْتُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ » أي: أن بغض اللّه لأعمالكم في الدنيا أكبر من بغضكم أنفسكم اليوم - اليوم الآخر، وهذا التشبيه الذي نطلق عليه «التشبيه المتفاوت» أي التشبيه الذي يكون أحد طرفيه متفاوتا بالنسبة إلى الطرف الآخر و هو: كون البغض من قبل الله «أشدّ» من بغض الإنسان لنفسه. هذا التشبيه قد جسد أيضا نماء عضويا للموضوع الذي طرح في «مقدمة» السورة التي لوحت بالعذاب
ص: 150
للكافرين، ثم جاء الوسط» - وسط السورة، ليبلور لنا هذا الموضوع من خلال نقله لما يحدث في اليوم الآخر من مواقف: تتمثل في مخاطبة الملائكة للمنحرفين بالكلام المذكور... ويلاحظ - مضافا لما تقدم - أن هذا التشبيه الفنيّ قد تضمن جملة من أسرار الفن، فهو بالإضافة إلى كونه قد حدّد لنا وظيفة الملائكة في الدنيا، قد حدّدها في الآخرة أيضا، كما أن الحوار - من جانب آخر - قد اختزل لنا المواقف من خلال كشفه لما يحدث في اليوم الآخر، فبدلا من أن يقول لنا النص مباشرة أنّ الكافرين سوف يمقتون أنفسهم في اليوم الآخر، ذكر لنا أن الملائكة يقولون لهم: «المقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم»، وبهذا استكشفنا بأن المنحرفين سوف يمقتون أنفسهم في اليوم الآخر..
وبهذا النمط من الصياغة الفنية ندرك مدي جمالية النص، فضلا عن إدراكنا لمدي إحكامه الهندسي: من حيث ترابط و تلاحم و تنامي موضوعات النص وعلاقة بعضها بالآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: قٰالُوا رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا، فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ، ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ، هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ رِزْقاً، وَ مٰا يَتَذَكَّرُ إِلاّٰ مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ ، رَفِيعُ اَلدَّرَجٰاتِ ذُو اَلْعَرْشِ ، يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاٰقِ ، يَوْمَ هُمْ بٰارِزُونَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ ، لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ؟ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ... .
هذا المقطع وما بعده من سورة المؤمن امتداد لمقطع سابق يتحدث عن بيئة اليوم الآخر وما ينتظر الكافرين فيه من جزاء، و ما يكتنفهم من مواقف وأهوال، حيث تضمنت مقدمة السورة تلويحا بالعذاب الذي ينتظرهم، وحيث
ص: 151
جاء وسط السورة ليفصل الإجمال الذي طبع التلويح المذكور... وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يقدم تفصيلات جديدة من مواقف اليوم الآخر...
الموقف الجديد هو قول الكافرين يومئذ: رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا، فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟ النص يعتمد عنصر «الحوار» في عرض الموقف حتى يكسبه حيوية أشد ما دمنا ندرك بأنّ السماح للشخصية بأن نتحدث بلسانها يظل أكثر تعبيرا عن الحقيقة، بخاصة أنّه يتضمن اعترافات تدين الكافر بلسانه، فالكفار يومئذ يتجهون بالكلام إلى الله تعالى قائلين رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ إنّ مجرد مخاطبتهم الله تعالى ينطوي على سر فني هو اعترافهم بحقيقة الله تعالى فيما أنكروها في دنيا و فيما كانوا يجادلون في آيات الله تعالى حيث ذكرت المقدمة مجادلة القوم في هذا الميدان مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا . وها هم يقرون الآن بحقيقة الله تعالى و يخاطبونه رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ . ترى: ما هو المقصود من هذه العبارة ؟ قد تكون الإماتة الأولى في الدنيا، و الإماتة الثانية في القبر.. كذلك قولهم أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ حيث يكون الاحياء الأول: محاسبتهم في القبر، و الاحياء الآخر محاسبتهم في الحشر، وقد تكون الإماتة الأولى مرحلة ما قبل الميلاد، و الأخرى: الموت، والإحياء الأول: الحياة، والإحياء الآخر: الانبعاث...
وقد يكون المقصود شيئا آخر... إلاّ أنّه في الحالات جميعا: ثمة حقائق تتصل بالحياة و الموت، ترجّح أن تكون هذه الحالات مقرونة بشدائد تحمل الكافرين على مثل هذا التساؤل المرير فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا، فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟ . لذلك، نحتمل أن يكون المقصود من عبارة الإماتة و الاحياء مرتين هو التفسير الأول الذي يقترن بمواجهة الشدائد، بصفة أنّ الموت في الدنيا من الممكن أن يكون عقابا قد استأصل الكافرين مثل الصيحة و الريح و سواهما مما تعرضت له الأمم البائدة: بخاصة أنّ مقدمة السورة ذكّرت الكافرين بعذاب الاستئصال في الأمم السابقة... كذلك الموت الآخر في القبر حيث يتعقبه
ص: 152
عذاب البرزخ - كما هو واضح، كذلك. فإنّ الاحياء مرتين تقترن بالعذاب ضرورة لأنّه تمهيد للموت الذي يتعقبه العذاب، أي أنّ كلا من الموت و الحياة يتسبّب في مواجهتهم للعذاب حيث أنّ أحدهما لا ينفصل الآخر: كما هو بين.
و المهم، أنّ تقرير الكفار للحقيقة المذكورة قد و واكبه أولا: اعتراف بذنوبهم فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا ثم واكبه تساؤل فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟ هذا التساؤل المشفوع بمرارة: يعني أنّ أولئك المجادلين في آيات الله قد رسمهم النص الآن (معترفين) بعد أن كانوا (مجادلين). لذلك، ينبغي ألا نغفل عن هذا الملمح الفني في صياغة الموقف، حيث جاء عنصر (التقابل) بين الموقفين:
موقف (المجادلة) في الدنيا و موقف (التسليم) الذي هو ضد (المجادلة) تماما في الآخر، جاء هذا (التقابل) بينهما: معبرا عن حقيقة فنية هي: ربط الموضوعات بعضها مع الآخر، ربط مقدمة السورة (وهي تتحدث عن مجادلة القوم) في الدنيا ربطها بوسط السورة التي تنقل لنا موقف الكافر (و هو يعترف بذنوبه) في اليوم الآخر. لكن: خارجا عن هذه الحقيقة الفنية المرتبطة بعمارة السورة الكريمة، نجد أنّ المقطع يقوم بعملية ربط أخرى بين بيئة الدنيا و الآخرة حينما يجيبهم على تساؤلهم السابق قائلا: ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا . هذا الربط بين قولهم رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ إلخ. ثم الجواب القائل: بأنّه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به آمنتم، يظل تعبيرا فنيا مدهشا عن مدي: العلاقة العضوية بين مقدمة السورة ووسطها، فالمشركون الذين جادلوا في آيات اللّه تعالى في الدنيا: كانوا قد اشركوا مع أللّه تعالى قوي أخرى، و لكنهم الآن يخاطبون الله تعالى وحده و يعترفون بذنبهم... وقد ذكرهم اللّه تعالى بهذه الحقيقة و أجابهم بأنّه لا سبيل إلى العودة ثانية. ما دمتم قد أشركتم بالله تعالى في الدنيا
ص: 153
إذن، جاء هذا الجواب وصلا فنيا بين بيئة الدنيا و الآخرة من جانب، فضلا عن كونه وصلا فنيا بين مقدمة السورة ووسطها، مما يكشف ذلك عن مدي الأحكام الهندسي للنص.
قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بٰارِزُونَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ ، لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ؟ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ ، لاٰ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ ، إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنٰاجِرِ كٰاظِمِينَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ وَ اَللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ، وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاٰ يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ ، إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ .
لا تزال المقاطع - في سورة المؤمن - تتوالي واحدا بعد الآخر لتحدّثنا عن أهوال اليوم الآخر وما ينتظر المشركين من الجزاء... وفي هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن، يبرز النصّ جملة من الحقائق والمواقف، منها: بروز الناس على حقائقهم بحيث لا يخفى منها شيء، ومنها، أنّ الظالمين لا سبيل إلى إنقاذهم حيث لا حميم ولا شفيع يطاع، ومنها، إنّ الأهوال تتكثّف بحيث تبلغ القلوب الحناجر... ومنها لفت النظر إلى ظاهرة تملأ القلوب رهبة ألا وهي هذا التساؤل الرهيب القائل. لمن الملك اليوم ؟ ثم الجواب عنه. لله الواحد القهّار... إلاّ أنّ هذا التساؤل قد تمّ من خلال ما نسمّيه ب «الحوار الفرضي» أي: أنّ الموقف الرهيب الذي يواجهه الإنسان في عرصات القيامة حيث تبرز الخلائق جميعا، يفرض عليهم أن يتساءلوا: لمن الملك اليوم ؟ حيث كانوا يحيون بمعزل عن اللّه تعالى، هؤلاء يكتشفون الآن حقيقة الكون، يكتشفون بألاّ حقيقة إلاّ الله. يكتشفون بأنّ الملك هو لله تعالى و ليس لأية قوة كونية.. و هذا ما تجسّده عبارة لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ ، وعبارة «القهّار» نتجانس
ص: 154
هنا مع الحقيقة التي تساءلوا عنها «لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ؟» حيث أنّ الله تعالى «يقهر» الناس على الانصياع لحقيقته تعالى...
ثم لنتّجه إلى الصورة الفنية التي تنتسب إلى «الاستعارة» أو «الرمز» وهي الصورة التي تقول إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنٰاجِرِ، كٰاظِمِينَ ...
هذه الصورة الرمزية أو الاستعارية تتجانس بدورها مع عنصر «الحوار الفرضيّ » الذي أشار إلى أنّ الملك للّه الواحد القهّار.. و ها هي حقيقة الله تعالى «تقهر» المنحرفين - ليس في صعيد التسليم حقيقة الله تعالى فحسب - بل تقتادهم إلى أن يحيوا الأهوال بكل شدائدها، حيث رسمها النص من خلال الرمز و الاستعارة المشار إليها، أي عبارة «إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنٰاجِرِ، كٰاظِمِينَ » ... إنّ الهول أو الخوف عندما يبلغ درجته القصوي، حينئذ فإنّ القلب يكاد ينخلع من مكانه ليصعد إلى آخر نقطة من البدن، إلا وهي الحنجرة لأنّ ما بعدها - وهو فضاء الفم - يشكّل بوّابة الخروج، لذلك لا صورة فنية أشدّ واقعية من هذه الصورة التي تقول «إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنٰاجِرِ» ... ثم ماذا؟ لنتأمل التعقيب على أنّ هؤلاء المنحرفين - وقد بلغت قلوبهم الحناجر - قد أمسكوا على ما في قلوبهم وهو معنى (الكظم) أي. بلغوا قمة الشدة من حيث الهموم أو الكروب التي يتحسّسونها فيما لا يملكون أي خيار حيالها.
قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ قٰارُونَ ، فَقٰالُوا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا: اُقْتُلُوا أَبْنٰاءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اِسْتَحْيُوا نِسٰاءَهُمْ ، وَ مٰا كَيْدُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىٰ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسٰادَ وَ قٰالَ مُوسىٰ : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ .. ..
ص: 155
بهذا المقطع يبدأ العنصر القصصي في سورة المؤمن التي تضمنت مقدمتها جملة من الموضوعات، منها: مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ ... وها هو العنصر القصصي يجسّد هذه الحقيقة المتمثلة في كون الكفار يجادلون في آيات الله، و أنّ تقلّبهم في البلاد ينبغي ألاّ نغرر به حيث ينتظرهم العقاب في نهاية الأمر، هذا يعني أنّ العنصر القصصي جاء توظيفا فنيا لبلورة الفكرة المذكورة مما يكشف ذلك عن مدي متانة الهيكل العماري للسورة الكريمة... إذن، لنتابع العنصر القصصي و ملاحظة هذا الجانب الهندسي من النص...
نحن الآن أمام قصتين متداخلتين أو أمام قصة ذات فصلين، الفصل الأول منها يتحدث عن موسى عليه السلام و علاقته بفرعون وهامان وقارون، و أما الفصل الآخر منها فيتحدث عن شخصية أخرى هي «مؤمن آل فرعون» حيث تكمّل هذه الشخصية الدور التبليغي الذي اضطلع به موسى واختفي من القصة ليسمح لمؤمن آل فرعون بالتحرّك...
أمّا موسى عليه السلام، فإنّ دوره في القصة جاء مختزلا يقتصر على كونه قد أرسل إلى فرعون وهامان وقارون، وأنّ هؤلاء الثلاثة قد اتهموه بالسحر والكذب، و اقترحوا بأن يقتلوا أبناء الّذين كانوا معه وأن يستحيوا نساءهم، ثم اقترح فرعون بأن يقتل موسى، زاعما أنّه يخاف منه أن يبدّل دينهم المنحرف، حيث أجابهم قائلا: «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ » ... هذا هو ملخص القصة الأولى أو القصة في فصلها الأول المتعلّق بشخصية موسى عليه السلام...
أما الفصل الآخر من القصة فيبدأ - كما قلنا - مع شخصية جديدة هي مؤمن آل فرعون، حيث عرضها النصّ على هذا الشكل.
وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ : أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ
ص: 156
رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ ..
إلخ.
ثم تستمر القصة في عرض المواقف لكل من «مؤمن آل فرعون» وفرعون نفسه على النحو الذي سنتحدّث عنه لاحقا «إن شاء الله..» بيد أنّ الأهم في القصة هو. دور هذه الشخصية الجديدة من حيث علاقتها بشخصية موسى عليه السلام أو لنقل من حيث كونها مكملة للدور الذي قام به موسى في عملية التبليغ لرسالة السماء. مادامت هذه النقطة ترتبط بعمارة النص التي تتكفّل هذه الدراسات بتناولها... لكن قبل ذلك ينبغي أن نشير أيضا إلى جانب آخر من عمارة النص حيث قلنا بأنّ مقدّمة السورة ركزت على ظاهرة (الجدل) الذي يطيع الكافرين.. وهذا ما نلحظه بوضوح في قسمي، أو فصلي القصة، ففي فصلها الأول نجد نوعا من «المجادلة» المضحكة التي صدرت عن فرعون حينما زعم للتخلص من الشدّة... بأنّه يخاف من موسى أن يبدّل دين قومه المنحرفين.. قوم فرعون، وزعم أيضا أنه يخاف من موسى أن يظهر في الأرض الفساد.. ولا شيء بطبيعة الحال - ادّعي إلى السخرية من هذا الكلام الصادر من فرعون فيما يتهم موسى بالفساد في الأرض مع أنّ فرعون هو أكبر مفسد في الأرض كما هو معلوم، أنه يقوم بعملية «إسقاط» لعيوبه، فيخلعها على الآخرين حتى يسدّ النقص الذي يجده، في داخله... و المهم، أن عملية «الإسقاط» المذكورة تفصح عن عنصر «المجادلة» التي قلنا أنّ مقدمة السورة قد خلعتها على الكفار المعاصرين لرسالة الإسلام، وجاءت بهده القصة لتنمي و تبلور مفهوم «المجادلة» عند الكفار البائدين من أمثال فرعون وهامان وقارون.
بيد أننا - كما سنري لاحقا - أنّ عنصر «المجادلة» عند فرون يبلغ قمّته
ص: 157
في الفصل الثاني من القصة حيث هذي بعبارات واقتراحات تمثّل الذروة من السخرية و الإشفاق على شخصيته المجادلة بالباطل... لذلك نجد أنّ موسى عليه السلام - في القسم الأول من القصة يعقّب على مجادلات فرعون بقوله «إنّي عذت بربّي و ربّكم من كلّ متكبّر...» حيث أن «التكبّر» يعني: المكابرة في القول - في إحدى دلالاته، وهذا التأكيد من قبل موسى عليه السلام على تكبّر فرعون. حيث حكم به الفصل أو القسم الأول من القصة، يكشف لنا عن مدي ترابط النص. من حيث صلة مقدمته بالعنصر القصصي، ومن ثمّ يكشف عن إحكام عمارة السورة الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ . أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً... الخ.
هذا هو القسم الثاني أو القصة الثانية التي تداخلت مع قصة موسى عليه السلام، حيث انتهت قصة موسى بتهديد فرعون إيّاه بالقتل... و بتهديد فرعون موسى بالقتل، يختفي موسى من القصة ليسمح لبطل جديد هو. «مؤمن آل فرعون» بالدخول إلى القصة.. وما دمنا نعني بعمارة النص القرآني الكريم من حيث صلة أقسامه بعضها مع الآخر، حينئذ يجدر بنا أن نتبيّن هيكل الأحداث في هذه القصة، حيث جاء البطل الجديد ليربط بين القسم الأول من القصة وبين قسمها الثاني... القسم الأول منها - كما قلنا - انتهى بتهديد فرعون لموسي بالقتل... البطل الجديد جاء ليقول لهؤلاء الذين همّوا بقتل موسى: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ ..؟ إلخ ومعني هذا أن دخول البطل إلى القصة جاء مكمّلا للقصة الأولى، أنه جاء لينقذ موسى (ع) من القتل... أنّ القتل ليس بالأمر الهين... وإذا كانت «التقيّة» تفرض في بعض الظروف أن يكتم الشخص إيمانه، فإن تطوّر الأحداث إلى مرحلة محاولة القتل، تفرض على الآخرين المتكتمين في إيمانهم أن يبرزوا إلى الميدان، وهذا ما صنعه «مؤمن آل فرعون»، حيث وصفه النص بقوله. «وقال رجل
ص: 158
مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه»... هذا الوصف القائل بأنّه «يكتم إيمانه» ليس وصفا عاديا بل إنّه يرتبط بعمارة القصة ارتباطا فنيا وثيقا... أن كون الرجل «يكتم إيمانه» يعني «من وجهة النظر الفنية» أنّ القصة تريد أن تقول لنا:
أنّ حكم فرعون قد اقترن بالإرهاب الشديد بحيث أنّ المؤمن يضطر أن يكتم إيمانه و إلاّ تعرض للفتك به... طبيعيا لا مانع من أنّ يستشهد المؤمن. بل انّ الجهاد هو الفريضة عليه، بيد أن ملاحظة الظرف المناسب ينبغي أن يأخذ بنظر الاعتبار حتى لا يمضي الاستشهاد هدرا... لذلك عندما حانت الفرصة المناسبة وهي أن موسى عليه السلام قد هدّد بالقتل: حينئذ فإنّ إظهار الإيمان أو بالأحري: حينئذ فإنّ تدخّل المؤمنين للحيلولة دون القتل يؤخذ مشروعيته تماما، وهذا ما صنعه مؤمن آل فرعون حينما تدخل في هذا الموقف وجاء لينقذ موسى من القتل... لكن، ما هي الوسيلة أو الأسلوب الذي اتبعه هذا البطل للحيلولة من قتل موسى... أنّ البطل الجديد - كما تقول النصوص المفسّرة - كان أحد كبار موظفي الدولة ومن أقارب فرعون بالذات.. وبحكم موقعه النسبي والسياسي كان بمقدوره أن يتدخّل في الموقف، و لكنه تدخّل خاص لا يقترن بالعنف أو بإبراز الهوية الفكرية بنحوها السافر، بل أن البطل سلك منحي سياسيا خاصا هو: اصطناعه الموقف المحايد حيث قال لهم.
كيف تقتلون رجلا يقول ربّي اللّه؛ وقال لهم. إن كان كاذبا فهو يتحمّل مسؤولية كذبه، وإن كان صادقا يصبكم ما يعدكم، و قال لهم أيضا: يٰا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظٰاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنٰا مِنْ بَأْسِ اَللّٰهِ إِنْ جٰاءَنٰا؟ أي أنّ البطل راعي عقليّة الفراعنة و تشبّثهم بالحكم فخوّفهم من زوال ملكهم في حالة عدم إيمانهم برسالة موسى... وهذا النمط من التعامل يجسّد قمة الإدراك السياسي للموقف... لقد جاءهم بلغة الناصح الحريص على بقاء ملكهم حتى لكأنه واحد منهم.
وهذا الأسلوب ادعي إلى «الإقناع» كما هو واضح، كما أنّه لا يستدعي
ص: 159
ردود فعل انتقامية من قبل فرعون و بطانته بقدر ما يفضي إلى تصعيد العناد و المخاصمة منهم، و بالفعل، نجد أنّ مؤمن آل فرعون ما أن ينتهي من كلامه المذكور حتى يتصدّي فرعون قائلا: (قال فرعون: ما أريكم إلاّ ما أري، و ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد) أي أنّ فرعون أصرّ على رأيه الضالّ السابق و هو أنّه على حق و أنّ موسى جاء ليبدّل دينهم... لكنّ البطل لم يسكت حيال هذا الموقف بل صعّد لغته و هدّدهم بنزول العقاب عليهم على نحو ما نزل بالأمم السابقة.. لكن قبل أن نتابع أسلوبه الجديد هذا ينبغي أن نذكّر بأنّ كلام كل من مؤمن آل فرعون و فرعون ذاته قد تمّ من خلال عرض قصصي العرض القصصي الذي نلحظه في نصوص أخرى، أنّه عرض، يتم من خلال مناخ «مسرحي» يفترض وجود قاعة رسمية للاجتماع يحضرها كبار المسؤولين، بحيث يتناسب هذا العرض المسرحي مع طبيعة الموقف المتصل بأخذ «قرار» في قتل موسى،.. و هذا النمط من العرض، يكشف عن مدي الأحكام الهندسي للنص: من حيث تجانس مواقفه.
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِي آمَنَ : يٰا قَوْمِ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزٰابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عٰادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ وَ يٰا قَوْمِ : إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنٰادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مٰا لَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ عٰاصِمٍ ، وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ وَ لَقَدْ جٰاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّٰا جٰاءَكُمْ بِهِ ، حَتّٰى إِذٰا هَلَكَ ، قُلْتُمْ : لَنْ يَبْعَثَ اَللّٰهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً، كَذٰلِكَ يُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتٰابٌ ، اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا، كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ.
هذا هو القسم الثاني من وقائع الجلسة التي عقدها فرعون مع كبار
ص: 160
المسؤولين عندما همّ بقتل موسى وعندما جاء «مؤمن آل فرعون» ليتدخّل في الموقف... لقد كان القسم الأول من الجلسة يتضمن تساؤل مؤمن آل فرعون عن كيفية محاولة قتل موسى مع أنّه لم يصنع شيئا سوى قوله: «رَبِّيَ اَللّٰهُ » ، حيث ذكرهم موسى بأنّ ملك آل فرعون مهدّد بالزوال في حالة رفضهم لدعوة مواسي... ولكن فرعون تجاهل كلام البطل، فأصرّ على رأيه... ثم استأنف البطل كلامه مخاطبا أعضاء الجلسة. بأنّه يخاف عليهم مصيرا يشبه الأقوام البائدة حيث نزل العقاب الدنيوي عليهم، مثلما ذكّرهم بأنّه يخاف عليهم مصيرا أخرويا لا عاصم لهم فيه من اللّه تعالى، كما ذكّرهم بتجربة سابقة تتصل بيوسف عليه السلام حيث بعثه الله تعالى إلى الأقباط (مجتمع الفراعنة) حيث شكّكوا به، منهيا كلامه بالقول اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا، كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ ... هذه الآية الأخيرة التي ختم بها كلام البطل، تحتلّ موقعا هندسيا له خطورته في عمارة القصة من جانب و عمارة السورة الكريمة من جانب آخر.
فمن حيث علاقتها بهيكل القصة، سبق أن لحظنا أنّ موسى عليه السلام (في القسم الأول عن القصة) علّق على كلام فرعون وجماعته قائلا: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ وها هو البطل الجديد «مؤمن آل فرعن» يقدّم مثل هذا التعليق أيضا (كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ) ... وسواء أكان هذا الكلام تعليقا من البطل أو كان تعليقا من النص القرآني، ففي الحالين، نجد تجانسا بين التعليق على موقف فرعون من موسى حينما زعم بأنّه يخاف من موسى «أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد»، وحيث علّق موسى على موقفه بأنّه «متكبّر»، و بين التعليق على موقف فرعون من البطل الجديد «مؤمن آل فرعون» حيث أصرّ على موقفه السابق قائلا: «مٰا أُرِيكُمْ إِلاّٰ مٰا أَرىٰ وَ مٰا أَهْدِيكُمْ إِلاّٰ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ» ، وحيث جاء الرد بأنّ الله تعالى (يَطْبَعُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ) حيث جاءت سمة «المتكبر»
ص: 161
طابعا مشتركا قد تكرّر في الموقفين المختلفين - كما لحظنا، و مثل هذا التجانس بين الموقفين يفصح عن متانة الإحكام الهندسي للقصة بقسميها الأول والثاني (قصة موسى وقصة مؤمن آل فرعون)...
وهذا ما يتصل بعمارة العنصر القصصي.
و أمّا ما يتصل بعمارة السورة الكريمة، فإنّ مقدّمتها قد ذكرت: «مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا» وهو أمر يرتبط بموقف الكفار المعاصرين لرسالة الإسلام، كما ذكرت المقدمة بأنّ هؤلاء المنحرفين كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... إلخ. هذان الموضوعان المذكوران في مقدمة السورة بالنسبة إلى الكفار المعاصرين لرسالة الإسلام، قد تكرّرا الآن بالنسبة إلى فرعون وقومه... فمؤمن آل فرعون ذكّر جماعته قائلا: إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزٰابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ... إلخ و مقدّمة السورة ذكرت نفس هذا المضمون «كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب»... فالتذكير بالأحزاب وبقوم نوح جاء عنصرا مشتركا يتكرّر بالنسبة إلى مجتمع محمد (ص) ومجتمع موسى عليه السلام... كذلك، نجد أن العنصر المشترك المرتبط بسمة «الجدال» التي تطبع سلوك المنحرفين، قد تكرّر بالنسبة إلى قوم محمد (ص) وموسي عليه السلام، فمقدّمة السورة ذكرت بأنّه مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وكذلك جاءت هذه السمة ذاتها لتطبع سلوك فرعون وقومه حيث تقول قصة مؤمن آل فرعون اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ ...
إلخ فالمجادلة في آيات اللّه تعالى هي: العنصر الفنّي المشترك بين المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام وبين المنحرفين المعاصرين لموسي...
إذن، أمكننا أن نلحظ جوانب متنوّعة من التجانس بين مقدّمة السورة أو مجتمع الانحراف زمن نزول الرسالة وبين وسط السورة أو عنصرها القصصي الذي عرض لنا مجتمع الانحراف زمن فرعون، مما تكشف مثل هذه الجوانب
ص: 162
المتنوّعة من التجانس. عن مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة أجزائه. بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى. وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ : يٰا هٰامٰانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبٰابَ ، أَسْبٰابَ اَلسَّمٰاوٰاتِ فَأَطَّلِعَ إِلىٰ إِلٰهِ مُوسىٰ ، وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كٰاذِباً، وَ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ ، وَ مٰا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّٰ فِي تَبٰابٍ وَ قٰالَ اَلَّذِي آمَنَ : يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ... إلخ.
هذا المقطع من قصة أل فرعون امتداد لمقاطع سابقة تنقل لنا وقائع الجلسة التي عقدها فرعون وكبار المسؤولين للنظر في قضية موسى عليه السلام ومحاولة قتله، حيث كان «مؤمن آل فرعون» إحدى الشخصيات التي تدخّلت لإنقاذ موسى، وقدّمت نصائح للقوم حتى يؤمنوا بموسي... ويبدو أنّ متكلّمي الجلسة الذين أبرزهم النصّ ينحصرون في مؤمن آل فرعون وفرعون... وقد تحدّث كلّ واحد منهما بكلام يتناسب وهويته الفكرية..
فمؤمن آل فرعون يحث الحاضرين على أن يؤمنوا بموسي... وفرعون يركب رأسه فيصرّ على قتل موسى، وها هو فرعون - بعد أن يحذّر «المؤمن» قومه من العقاب الذي نزل بالأمم السابقة - نجده يقاطع كلام «المؤمن» ليقدّم اقتراحا سخيفا هو طلبه من هامان وزيره أن يبني له صرحا يطلع من خلاله إلى إله موسى... هذا الاقتراح يكشف عن أن فرعون يستهدف السخرية من موسى بطبيعة الحال، كما أنّه - من حيث الموقع الهندسي للقصة - يدلّنا على أنّ فرعون يريد أن يتجاهل كلام «المؤمن»، فبدلا من أن يرفض كلام المؤمن، يلجأ إلى السخرية ليردّ بها على كلامه.
طبيعيا، أنّ القصة لم تقل لنا أنّ كلا من «فرعون» و «المؤمن» قد دخلا في مناقشة مباشرة بينهما، بل تركتنا - نحن القرّاء - نستنتج ذلك، يدلنا على
ص: 163
ذلك، إنّ كلام أحدهما لا علاقة له بكلام الآخر، فبينما يتحدّث المؤمن عن الأمم البائدة و يذكّر قومه بمصائرهم، نجد فرعون يقترح على هامان بناء الصرح، حيث لا علاقة لهذا الاقتراح بكلام المؤمن، كما أنّ المؤمن - بعد أن ينهي فرعون كلامه السخيف - يواصل تحذيره فيقول قَوْمِ : اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا مَتٰاعٌ .. إلخ، حيث لا علاقة لهذا الكلام باقتراح فرعون السخيف... و هذا يعني (من الزاوية الفنيّة) أننا أمام نص «مسرحي» وليس أمام نص (قصصي) لأنّ القصة تنقل - في الغالب - المحاولات التي يتبادلها الطرفان، أما «المسرحية» فإنّها تنقل «الوقائع» كما حدثت بالفعل، و الذي حدث - كما نحتمل فنيا لأنّ منطق الحوار المذكور يفرض مثل هذا الاحتمال - أنّ الجلسة التي عقدها فرعون و المسؤولون لم يكن ينتظمها منهج محدّد في الكلام، وإنّما سمح للمؤمن بأن يتحدّث في هذه الجلسة، و لكن فرعون - وهو المتكبّر المعاند - لم يرقه كلام المؤمن، لذلك لم يردّ عليه منطقيا بل أراد التعريض به أو بالأحري أراد مقاطعته أولا و السخرية منه ثانيا، لذلك قاطعه بذلك الاقتراح السخيف بأن... كذلك المؤمن، لم يأبه بكلام فرعون ولم يردّه مباشرة، بل واصل كلامه قائلا: (يٰا قَوْمِ : اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ ... إلخ) إذن، من هذا النمط من الحوار، نستكشف بأنّ النّص يستهدف (مسرحية) الموقف، ونقله بواقعيته، لذلك لم يصغ الحوار بنحوه المنطقي القائم على تناول الكلام المرتبط بعضه بالآخر، بل نقله وكأن كل كلام لا علاقة بالآخر، و هذا يعني أنّ كلا من المؤمن وفرعون قد تجاهل الآخر و أراد أن يحقق هدفه الخاص، كلّ ما في الأمر أنّ كلام فرعون كان مضطربا و سخيفا وهازلا يتناسب مع شخصيته المضطربة، بينما كان كلام المؤمن جادّا منطقيا حريصا على إنقاذ قومه من الضلال...
ص: 164
و الآن، إذا أدركنا هذه الأسرار الفنية المرتبطة بمسرحة القصة، يجدر بنا أن نتابع وقائعها الأخيرة التي ختمت بكلام «مؤمن آل فرعون»: حيث أنهي نصائحه قائلا: فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ ، وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ ثم عقّب النص على هذا الكلام فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ . هذا يعني أنّ القصة أو المسرحية قد ختمت بالإشارة إلى أن فوم فرعون لم يهتدوا، وأنّ العقاب قد نزل بهم في النهاية، وأنّ الله تعالى قد أنقذ مؤمن آل فرعون منهم... لكن ما يعنينا من ذلك كلّه هو:
ارتباط هذا التعليق - مضافا إلى كلام المؤمن «فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ » - بعمارة القصة، حيث سنري لاحقا أنّ قول المؤمن «فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ » سوف ينعكس على مستقبل فرعون وقومه، حيث سيتذكّرون فعلا ما قال لهم المؤمن...
وهذا النمط من الانعكاس يكشف عن تقنية خاصة في صياغة القصة، حيث (يتنامى) هذا الموضوع «كلام المؤمن» ليتحوّل إلى حقيقة تستكشف فيما بعد - كما سنري، مما يفصح مثل هذا «النّمو» عن مدي الإحكام الهندسي لعمارة القصة، من حيث تلاحم أجزائها، ومن حيث علاقتها بالسورة أيضا، و من حيث علاقة الموضوعات جميعا. بعضها مع الآخر.
قال تعالى: اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا، وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ وَ إِذْ يَتَحٰاجُّونَ فِي اَلنّٰارِ، فَيَقُولُ اَلضُّعَفٰاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا نَصِيباً مِنَ اَلنّٰارِ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا: إِنّٰا كُلٌّ فِيهٰا، إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبٰادِ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنّٰارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّٰا يَوْماً مِنَ اَلْعَذٰابِ قٰالُوا: أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ؟ قٰالُوا: بَلىٰ ، قٰالُوا: فَادْعُوا، وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ ... .
ص: 165
هذا المقطع من سورة المؤمن امتداد لما سبقه من المقاطع التي تضمّنت عنصرا قصصيا هو: قصة «مؤمن آل فرعون»، حيث جاء في نهاية القصة أنّ بطلها حذّر قومه المنحرفين (وهم آل فرعون) قائلا: فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ كما أنّ القصة نفسها عقّبت على هؤلاء القوم الذين أصرّوا على سلوكهم المنحرف قائلة وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ ... وها هو المقطع الذي نتحدّث عنه، تنعكس عليه هاتان العبارتان الواردتان في نهاية القصة، وهما عبارتا فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ و حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ ، حيث يتكفّل المقطع بإنماء وتطوير المحتوي لتلك العبارتين، فيما حدّثنا المقطع أولا عن (سوء العذاب) الذي ينتظرهم في بيئة البرزخ وفي بيئة اليوم الآخر... ففي صعيد العذاب الدنيوي لحقهم عقاب الغرق في البحر، وفي صعيد العذاب الأخروي لحقهم عقابا البرزخ والنار... أما البرزخ فقد أوضحته العبارة الآتية: (اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا) و أمّا النار فتوضحه العبارة التي أعقبتها وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ . أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ .. إنّ عبارة اَلْعَذٰابِ تتكرّر هنا لتشكّل رابطا عضويا بين ختام القصة التي قالت.
وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ وبين هذا المقطع الجديد الذي يقول.
وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ . أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ .
وفي سياق هذا الربط بين المقطع السابق والجديد، ينقل لنا المقطع جانبا من مواقف المنحرفين في اليوم الآخر، وهي. المحاجات التي تصدر عنهم - وهم في النار. فهناك الضعفاء الذين انصاعوا لضلالات أسيادهم في الدنيا، و هناك الأسياد أو المستكبرون الذين خدعوا أتباعهم، حيث تجري في النار مناقشات و معاتبات فيما بينهم، فالضعفاء يخاطبون المستكبرين إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا نَصِيباً مِنَ اَلنّٰارِ؟ و يجيبهم المستكبرون: إِنّٰا كُلٌّ فِيهٰا، إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبٰادِ . ومن الواضح، أنّ هذه المناقشة أو
ص: 166
التلاوم بين الأسياد و الاتباع: لها صلتها بقصة مؤمن آل فرعون الذي نصح قومه وحذّرهم من عاقبة النار التي تنتظرهم، كما أنّ لها صلتها بمستكبري آل فرعون الذين انصاعوا لهم. و أخيرا: لها صلتها بعبارة مؤمن آل فرعون القائلة فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ حيث جاء في نهاية المقطع هذا الحوار بين خزنة جهنم وبين الكافرين.
وَ قٰالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنّٰارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّٰا يَوْماً مِنَ اَلْعَذٰابِ ... و لكن خزنة جهنّم يذكّرونهم قائلين: أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ ، قٰالُوا: بَلىٰ ، قٰالُوا: فَادْعُوا، وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ ...
وهكذا نجد، أنّ المقطع ربط بين سلوك المنحرفين في الدنيا وبين موقفهم في النار، حيث طلب المنحرفون من خزنه جهنّم أنّ يخفّف الله عنهم يوما من العذاب، وحيث أجابهم الخزنة: ألم تأتكم رسلكم البينات ؟ فيقرّ المنحرفون بذلك و يقولون. بلي، و عندئذ تسخر منهم الخزنة ويقولون لهم هازئين (ادعوا) أيها المنحرفون، ثم يعقّب المقطع على ذلك قائلا: وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ . ومن الواضح، أنّ عنصر (السخرية) هنا يذكّرنا بسخرية فرعون من مؤمن آل فرعون الذي دعاه إلى الإيمان، و لكن فرعون سخر منه وقال لوزيره هامان: ابن لي صرحا لعلّي اطّلع إلى إله موسى...
فهذه السخرية من فرعون قابلتها سخرية من خزنة جهنّم حينما قالوا لهم: ادعوا ربّكم ليخفّف عنكم يوما من العذاب، فيما جاء التعقيب بعد ذلك: بأنه وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ ...
إذن، نحن الآن أمام أكثر من عنصر فنّي من أبعاد التجانس بين المقاطع السابقة و اللاحقة من السورة، حيث لحظنا مدي الارتباط فيما بينها في أكثر من جانب، فيما يكشف منك هذا الارتباط عن مدي الإحكام الهندسي للنص. من حيث علاقة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
ص: 167
قال تعالى: إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهٰادُ يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ اَلظّٰالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ ، وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْهُدىٰ وَ أَوْرَثْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْكِتٰابَ هُدىً وَ ذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكٰارِ .
هذا المقطع من سورة المؤمن يطرح موضوعا جديدا في سباق حديثه عن الجزاء الأخروي الذي ينتظر المنحرفين، حيث كان المقطع الأسبق يتحدث عن مصائر آل فرعون في النار حيث حذرهم كل من موسى ومؤمن آل فرعون من المصير المذكور... لذلك نجد أنّ هذا المقطع يربط بين مصير المنحرفين من جانب وبين وظيفة التبليغ لرسالات أللّه ووظيفة موسى عليه السلام ومن ثم وظيفة النبيّ (ص) من جانب آخر، وبهذا الربط يتم إحكام العمارة الهندسية للسورة من حيث علاقة أجزائها. بعضها مع الآخر... المقطع يقول: بأنّ اللّه تعالى ينصر رسله و الذين آمنوا، كما يطالب المبلغين لرسالات الله بالصبر و بالاستغفار والتسبيح بحمد الله تعالى... كما يذكر بموسي عليه السلام حيث كانت قصته مع آل فرعون تشير إلى هزيمة المنحرفين دنيويا فضلا عن العقاب الآخروي، و حيث يعود المقطع الآن ليذكر القاريء بأنّ المنحرفين ينتظرهم سوء الدار يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ اَلظّٰالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ ، وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ إنّ عبارة سُوءُ اَلدّٰارِ تتكرر هنا لتنسجم مع عبارات مماثلة جاءت في مواقع سابقة من قصة فرعون مثل قوله: وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ و سواها من العبارات المشددة على درجة العذاب مثل أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ . و هذا التشدد في تحديد درجة العذاب يظلّ منسجما مع (فكرة السورة) التي لحظنا مقدمتها تقول مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حيث أنّ (عنصر المجادلة) في آيات اللّه، يشكل أحد أعصبة السورة التي تدور
ص: 168
الموضوعات عليها... وبالفعل، نجد أنّ هذا المقطع الذي نتحدث عنه، سرعان ما يربط بين (فكرة المجادلة) وبين الموضوع الجديد الذي يقول إِنَّ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّٰ كِبْرٌ...
لنلاحظ كيف أنّ فرعون قد وسمه موسى عليه السلام بسمة (التكبر).
وهنا نلحظ أنّ هذا المقطع يشير إلى سمة (الكبر) من خلال ربطها بفكرة السورة التي تحوم على مفهوم (المجادلة) في آيات الله، حيث يتسم المجادلون في آيات الله تعالى بسمة الكبر، سواء أكانوا من أمثال فرعون (عن الأمم السالفة) أو من أمثال المعاصرين لرسالة الإسلام فيما تحدث النص عنهم في أول السورة مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وتحدث عنهم الآن إِنَّ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّٰ كِبْرٌ.. ... هكذا نجد أنّ التكرار لمفهوم (المجادلة) جاء الآن في سياق جديد هو (الكبر)، بينما كان في أول السورة واردا في سياق الكفر... لكن بما أنّ فرعون قد تميز بكل من سمتي الكفر و التكبر، حينئذ جاء الحديث عن الكبر - في هذا المقطع - متناسبا مع الموقف، حيث جاء نتيجة طبيعية لموضوعات السورة التي تحدّثت عن مطلق الكافرين ثم عن كافر متميز مثل فرعون، ثم: نتائج الكفر والتكبر: بالشكل الذي لحظناه، مما يكشف ذلك كله عن مدي تشابك وتلاحم الخطوط المختلفة فيما بينها، وحيث يجمع بينها خط فكري مشترك هو (المجادلة في آيات اللّه تعالى)... و لنتابع المقطع: لَخَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنّٰاسِ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ، وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ قَلِيلاً مٰا تَتَذَكَّرُونَ هنا، يفرح المقطع خلق السماوات و الأرض، بقدم تشبيها بينه وبين خلق الإنسان، مشيرا إلى أنّ إبداع الكون أكبر من إبداع الإنسان متوسلا في هذا التشبيه، بتشبيهين آخرين هما. التشبيه بين الأعمي و البصير، و التشبيه بين الصالح والمسيء، وبما أنّ هذه التشبيهات الثلاثة تنطوي على أسرار فنية
ص: 169
ضخمة ترتبط بهيكل السورة الكريمة، حينئذ يجدر بنا أن نقف عندها، لملاحظتها فنيا وعماريا...
هذه التشبيهات الثلاثة تنتسب أولها إلى ما نسميه ب (التشبيه المتفاوت أي التشبيه القائم على طرفين أحدهما متفاوت عن الآخر، حيث يتفاوت خلق الكون عن خلق الإنسان... كما ينتسب التشبيهان الآخران منها إلى ما نسميه - (التشبيه المضاد) أي: التشبيه القائم على طرفين. أحدهما يقف مضادا للآخر كالأعمى الذي يضاد البصير، والصالح الذي يضاد المسيء، إنّ أمثلة هذه التشبيهات المتمايزة تنطوي على مهمات فنية تتناسب مع طبيعة الموضوع الذي يطرحه المقطع القرآني الكريم، كما تتناسب مع طبيعة الفكرة العامة للسورة: من حيث علاقة أجزائها بعضها الآخر.
نواجه - في هذا المقطع - ثلاثة تشبيهات «واقعية» مقابل «التشبيهات المجازية» التي تستند إلى «الواقع» أيضا. إنّ ما يميز التشبيهات في القرآن والحديث أنّ ما هو «مجازي» منها يستند إلى واقع حسي أو نفسي أو غيبي بعكس التشبيهات التي تصدر عن البشر العادي حيث تطبع تشبيهات البشر العادي مبالغة أو وهم أو إحالة أو أسطورة ونحو ذلك.
وأما التشبيه غير المجازي، فإنّ القرآن الكريم و الحديث يتوفر عليه بنحوه الواقعي الذي يحمل فاعلية خاصة من نحو التشبيهات الثلاثة التي نتحدّث عنها الآن... فالتشبيه الأول هو «لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس» فعبارة أكبر هي أداة التشبيه هنا، وهي أداة التشبيه المتفاوت الذي يعني أنّ الطرف الأول (وهو المشبه) لا يلحظ فيه «التماثل» بينه و بين الطرف الآخر (وهو المشبه به) بل يلحظ التفاوت بينهما، فيكون أحد الطرفين أكثر بروزا من الآخر. كما لو قلنا. «هذا الرجل أكثر سماحة من البحر»، فتكون
ص: 170
«السماحة» هي وجه الشبه و لكنه في الرجل أكثر منه في البحر، و هكذا بالنسبة للآية الكريمة التي شبهت خلق السماوات والأرض بخلق الناس، ولكنها أبرزت التفاوت في وجه الشبه بينهما فقالت بأنّ خلق السماء والأرض «أكبر» خلق الناس... وأهمية مثل هذا التشبيه الواقعي تتمثل في كون التشبيه، يستهدف إبراز حقيقة ملموسة قد تغيب عن الأذهان، حيث يتكفل التشبيه بإبراز ذلك، لذلك عقب النص على هذا التشبيه العائب عن غالبية البشر، فقال.
وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ أي: لا يعون بأنّ خلق السماوات والأرض هو أكبر من خلق الناس...
بعد ذلك، يقدم النص تشبيهين أخرين هما: أنّه لا يستوي الأعمي والبصير، ولا يستوي المؤمن الذي يعمل صالحا مع المسيء... طبيعيا، أنّ التشبيه بين «اَلْأَعْمىٰ » و «اَلْبَصِيرُ» ليس تشبيها (حقيقيا) بل هو تشبيه. مجازي أو رمزي، حيث يرمز «اَلْأَعْمىٰ » إلى الرجل الجاهل أو المغفل، ويرمز «اَلْبَصِيرُ» إلى الرجل العالم أو الواعي، وهذا بعكس التشبيه الآخر الذي قارن بين «المؤمن» وبين «المسيء» حيث ينتسب هذا التشبيه إلى ما هو «واقعي»، بصفة أنّ «المؤمن» - وهو الطرف الأول من التشبيه. حقيقة واقعية، كذلك، فإنّ الطرف الآخر «وهو المسيء» حقيقة واقعية كما هو واضح... إلاّ أنّ التشبيهين كليهما ينتسبان إلى نمط من التركيب الذي نسميه ب (التشبيه المضاد)، أي: أنّ طرفي التشبيه لا يقومان على وجه (التماثل) بينهما بل يقومان على التضاد بينهما: كما لو شبهنا بين الطرفين المضادين: البياض والسواد مثلا...
وأهمية «التشبيه المضاد» تتمثل في أنّ الأشياء - في كثير من الحالات - تعرف بأضدادها، حيث تعرف قيمة البياض من خلال مقارنته بالسواد، وهكذا تعرف قيمة «البصير» من خلال مقارنته بالأعمى، وتعرف قيمة «المؤمن» من خلال مقارنته بالمسيء... وهكذا... والآن، إذا عرفنا هذه المستويات من التشبيهات: التشبيه المتفاوت من جانب لَخَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ
ص: 171
أَكْبَرُ.. ، و التشبيه المضاد من جانب آخر وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ، وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ ثم: التشبيه المجازي وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ ثم التشبيه الواقعي. من جانب ثالث. أمكننا حينئذ أن نتبين الأسرار الفنية للتشبيهات الثلاثة بمختلف أقسامها التي أشرنا إليها.
لقد جاءت هذه التشبيهات في سياق (الفكرة) التي تحوم عليها السورة الكريمة، حيث استهلت السورة بالحديث عن الكافرين المعاصرين لرسالة الإسلام، ووصفتهم بسمة خاصة هي «المجادلة في آيات اللّه»، وها هو المقطع الذي نتحدث عنه. طرح مفهوم «المجادلة في آيات اللّه» من جديد: بعد أن حدثنا سابقا عن شخصيات منحرفة مثل فرعون وهامان وقارون، وصفهم أيضا بسمة «المجادلة في آيات الله» حتى يربط بين أول السورة ووسطها (من حيث العمارة الفنية للنص»، ثم جاء بعنصر «التشبيه» ليوظفه في إنارة مفهوم «المجادلة في آيات اللّه» فجاءت التشبيهات الثلاثة لتقرر لنا بأنّ المجادلين في آيات الله هم مثل الأعمي، وأنّهم «مسيئون»، وأنّهم «مغفلون» لا يعون بأنّ خلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس، لذلك قارن بينهم وبين البصير «الذي يعي هذه الحقيقة» و قارن بينهم و بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين «المسيء» الذي يجسد هؤلاء المنحرفين...
إذن، أدركنا الآن، جانبا من الأسرار الفنية لهذه التشبيهات (العنصر الصوري) مضافا إلى «العنصر القصصي» الذي تحدث عن موسى و مؤمن آل فرعون، و توظيف هذين العنصرين من أجل فكرة النص، ثم علاقة ذلك بسائر الموضوعات التي تحوم على فكرة «المجادلة في آيات اللّه» حيث تكشف ذلك عن مدي إحكام العمارة القرآنية الكريمة بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي
ص: 172
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً، إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ ... .
هذا المقطع وما بعده، يتناول مجموعة من الظواهر الكونية التي سخرها اللّه تعالى للإنسان... لكن، ينبغي أن نتذكر بأنّ السورة الكريمة (سورة المؤمن) إنّما تحوم فكرتها على «المجادلين في آيات الله تعالى» وأنّ ما ورد فيها من عناصر قصصية وصورية وغيرها إنّما وظفت لأجل الفكرة المشار إليها،... إنّ كل طرح جديد للموضوعات إنّما يتم في هذا السياق الفكري... وأول ما يلفت النظر في هذا المقطع الذي نتحدث عنه هو: إيراده لموضوع جديد هو: «الدعاء» حيث ركز عليه بقوله تعالى. اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ثم تحدث بعد ذلك عن خلق الظواهر الكونية، وعاد فأكد الدعاء من جديد قائلا: فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كما أنّه في مقدمة السورة ذكر هذا الجانب فقال تعالى بالصياغة ذاتها فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ إنّ هذا التكرار للدعاء في سياقات مختلفة يعني: أنّ النص يستهدف توصيل هذه الحقيقة العبادية إلى الدعاء «و الإخلاص» العبادي... أمّا «الدعاء» فلأنّه الوسيلة المحدّدة للعلاقة المباشرة بين الله تعالى والعبد، وأما «الإخلاص» العبادي فلأنّه التجسيد الفعلي للالتزام بمبادىء الله تعالى.
و هذه الحقائق تعرض هنا مقابل الفكرة التي تحوم عليها السورة ونعني بها «المجادلة في آيات الله تعالى»، وهذا يعني أنّ النص يوازن بين سلوك المنحرفين و بين ما ينبغي أن يسلكه المؤمن... و خلال ذلك، يعرض - كما أشرنا مجموعة من الموضوعات التي تنبّه العاملين أو المجادلين في آيات الله تعالى، حيث تشكل هذه النكرة محور السورة الكريمة - كما قلنا... وقد سبق للنص أن أشار - في مقطع متقدم إلى خلق السماوات و الأرض و أنّه أكبر من خلق الناس، و علق عن ذلك بأنّ أكثر الناس يعلمون بهذه الحقيقة..
ص: 173
وها هو الآن - في المقطع الذي نتحدث عنه الآن - يشير إلى ظاهرة كونية أخرى هي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً ثم علق قائلا وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ ...
إذن، لقد تكرر الحديث عن الإبداع الكوني، ولكن ذلك يجيء - في سياقات مختلفة، ففي عرضه لخلق السماء والأرض جاء ذلك في سياق التذكر بأنّ أكثر الناس لا يعلمون، وأما في عرضه لظاهرة لليل والنهار، فقد جاء ذلك في سياق التذكر بأنّ أكثر الناس لا يشكرون... وكل من السياقين يرتبط بالحديث عن «المجادلين في آيات اللّه تعالى»، حيث وصفهم من جانب بعدم الوعي أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ ووصفهم من جانب آخر بعدم الشكر أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ ، وكل من هذين السياقين جاء متناسبا مع الظاهرة الكونية، حيث قرن عدم الوعي لدى المجادلين بجهلهم أنّ خلق السماء والأرض هو أكبر من خلق الناس، وقرن عدم شكرهم بعدم تقديرهم لفضل الله تعالى حيث جعل الليل سكنا والنهار مبصرا... و هذا يعني أنّ الحديث عن الظواهر الكونية يجيء حينا للتدليل على قدرة اللّه تعالى، وأخرى للتدليل على نعمه... لذلك، نجد النص يتابع الجانب الأخير (وهو صلة الظواهر الكونية بنعم الله تعالى) فيقول: اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرٰاراً وَ اَلسَّمٰاءَ بِنٰاءً ، وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ ... يعرض لنا - للمرة الثالثة - قضية الإبداع ألكوني في سياق جديد على هذا النحو. هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ ، وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى، وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ، فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ أَنّٰى يُصْرَفُونَ ... .
لنلحظ بدقة، كيف أنّ النص ربط بين حديثه عن الظواهر الكونية وبين
ص: 174
فكرة السورة الكريمة التي جاء في مقدمتها قوله تعالى مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، وجاء في وسطها قوله تعالى أيضا إِنَّ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ ، وجاء في هذا المقطع الذي نتحدث عنه أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ ، أَنّٰى يُصْرَفُونَ وللمرة الجديدة، ينبغي أن ننتبه على هذا المحور الفكري الذي يربط بين أجزاء السورة (أي: فكرة المجادلة في آيات اللّه تعالى) حيث يجيء الحديث عنها في كل مقطع متناسبا مع الموضوع الجديد المطروح... ففي المقطع الأخير الذي نتحدث عنه جاء الحديث عن «المجادلة في آيات اللّه تعالى» من خلال التذكير بنعم الله تعالى إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ ، ومن خلال التذكر يتعقل المغزى العبادي لخلق الإنسان بمختلف أطواره (التراب، النطفة، العلقة، الطفولة، الشيخوخة... إلخ) حيث علق قائلا وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثم ربط ذلك بالمجادلين في آيات اللّه تعالى قائلا: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ ، أَنّٰى يُصْرَفُونَ أي: كيف ينحرفون عن إدراك هذه الظواهر و دلالاتها العبادية ؟...
إذن أمكننا ملاحظة مدي الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة، من حيث التحام موضوعاتها. بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتٰابِ وَ بِمٰا أَرْسَلْنٰا بِهِ رُسُلَنٰا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، إِذِ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وَ اَلسَّلاٰسِلُ يُسْحَبُونَ ، فِي اَلْحَمِيمِ ، ثُمَّ فِي اَلنّٰارِ يُسْجَرُونَ ... .
هذا المقطع من سورة المؤمن ينقل لنا مرأي من بيئة العذاب الأخروي الذي ينتظر المجادلين في آيات الله تعالى... و في كل مرة تعرض فيها بيئة العذاب يحاول النص من خلالها أن يربط بين العذاب و بين سلوك المنحرفين، ولكن في كل مقطع يأتي بجديد من بيئة العذاب وبجديد من السلوك الذي
ص: 175
يصدر عنه المنحرفون ففي مقطع أسبق عرضت فيه بيئة العذاب النفسي و الجسدي: مع التركيز على معاتبة المنحرفين بعضهم للآخر حيث يتبادل الرؤساء والأتباع فيما بينهم: إلقاء اللوم على الآخر في إضلاله... أما في البيئة التي يتحدث عنها هذا المقطع الجديد، فإنّ النص يبرز فيها طبيعة العذاب الجسدي الذي يتعرض له المنحرفون، حيث يقول النص إِذِ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وَ اَلسَّلاٰسِلُ يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ، ثُمَّ فِي اَلنّٰارِ يُسْجَرُونَ فهذا الوصف الحسي لبيئة النار، بالرغم من كونه وصفا واقعيا لما يحدث، ولكنه ينتقي من الأوصاف ما يحقق الإثارة الفنية المطلوبة... فهناك الأغلال وهي الطوق الذي يلتف حول العنق، وهناك السلاسل التي يسحبون بها، حيث أنّ كلا من السلسلة و الطوق ينطوي على مرأي مثير: من حيث شكله أولا و من حيث آثاره ثانيا، أن عملية تطويق العنق بالأغلال، ثم ربط الجسد بالسلسلة ثم عملية سحب الشخص و هو في شكله المقيد (بالأوصاف السابقة) إلى (الحميم) و هو الماء الحار، ثم الالقاء في النار، حيث يسجر فيها... و السجر هو إلقاء الحطب في النار، وحيث يصوغ المقطع من هذه الظاهرة «استعارة فنية»، أي خلع صفة السجر في التنور، على الشخص المنحرف، حينئذ تبلغ الإثارة الفنية قمتها: من حيث جعل المنحرف بمثابة (حطب) لاشتعال النار... إذن، عملية التطويق عملية ربط العنق بالأغلال، ثم عملية السحب (و هما عمليتان جسديتان) مرتبطتان بالعذاب الجسدي الصرف: بغض النظر عما يتبعهما من العذاب، ثم الإلقاء في الماء الحار ثم الإلقاء بمثابة حطب لها (و هما عمليتان مرتبطتان بالاحتراق).. هذه العمليات الأربع التي يتجانس فيها نمطان من العذاب. جسديا و ناريا، تبعث الإثارة الفنية لدى المتلقي الذي يمعن النظر في الأوصاف صاف المشار إليها، بعد ذلك. يربط النص بين هذا العذاب و بين سلوك المنحرفين من الدنيا، حيث يشير إلى «الشرك» الذي طبع سلوكهم، ثم إلى فرحهم و مرحهم في الدنيا ذٰلِكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ، وَ بِمٰا
ص: 176
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ... إن عمليتي (الفرح) و (المرح) تظلان - من حيث العمارة الهندسية - للسورة مرتبطتين بمقدمة السورة التي تحوم على فكرة «المجادلة في ايات اللّه تعالى»، حيث وصفت المجادلين «بما يلي» فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ ومعني (تَقَلُّبُهُمْ ) هو. تحرّكاتهم المصحوبة بالحرية باتباع شهواتهم بالنحو غير المشروع، لذلك عندما قال لمقطع الذي نتحدث عنه بأن «الفرح» و «المرح» هو سمة المنحرفين في الدنيا، إنما ربط بين ظاهرة (التقلب في البلاد) وبين الفرح والمرح المجسّدين للظاهرة المذكورة... فالفرح هو البطر الذي يميت الإحساس بالمسؤولية عند الشخص بحيث لا يعني إلاّ بما هو زائد عن الحاجة في الإشباع، كما أنّ «المرح» هو شدة الإشباع، ومعني هذا أنّ المنحرف لا شغل له إلاّ الإشباع المتخم لشهواته، و لا شيء سوى ذلك...
ومن الطبيعي، حينئذ أن يترتب على مثل هذا السلوك المتحلل من كل قيد أخلاقي وعبادي: جزاء يتوافق مع الانحراف المذكور، من هنا ندرك السر الفني الكامن وراء الوصف المذهل لعمليات العذاب. جسديا وناريا لأنّه عذاب أو جزاء يتجانس تضخمه وتنوعه واستغراقه لكل مستويات العذاب مع تضخم وتنوع واستغراق الشهوات التي صدر عنه المنحرفون، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذه الأوصاف قد ربطها المقطع ببداية السورة التي تحدثت عن المجادلين في آيات اللّه تعالى، وتقلبهم في البلاد»، أمكننا أن نكتشف مدي الإحكام الهندسي لعمارة السورة الكريمة من حيث علاقة أقسامها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ ، فَإِمّٰا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنٰا يُرْجَعُونَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنٰا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ، وَ مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، فَإِذٰا
ص: 177
جٰاءَ أَمْرُ اَللّٰهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعٰامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهٰا وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهٰا حٰاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهٰا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ ، فَأَيَّ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُنْكِرُونَ ... .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة المؤمن التي تحوم فكرتها على «المجادلين في آيات اللّه تعالى» حيث قطعت السورة رحلة طويلة في الموضوعات التي تفاوتت فيما بينها ولكنها تلاقت عند موضوع محدد هو المجادلة كما قلنا... وقد كان الحديث عق «إبداع الظواهر الكونية» واحدا من الموضوعات التي عرضها النص في سياق رصده لسمات «المجادلين» الذين لم يعتبروا بهذه الظواهر الكونية مثل خلق السماوات والأرض، ومثل الأمطار، والليل والنهار... إلخ. أما الآن فيعرض المقطع لنا معطي إبداعيا هو «الأنعام» فيما أشار المقطع إلى جملة من معطياتها أو فوائدها مثل: الركوب عليها، ومثل الأكل من لحومها وألبانها، ومثل الانتفاع بجلودها من حيث الملبس وسواه... إلخ، ثم عقب قائلا: فَأَيَّ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُنْكِرُونَ . ومن الواضح، أن التساؤل عن إنكارهم للآيات المذكورة جاء متناسبا مع الخاتمة التي ينتهي عندها الحديث عن ظواهر الكون، حيث يذكرهم بكل الظواهر الكونية (السماء، الأرض، خلق الإنسان، الليل والنهار، المطر، الأنعام...).
أما الموضوع الآخر الذي طرحه المقطع في خاتمة السورة، فهو تذكير «المجادلين» بمصائر الأمم السابقة... وهذا الموضوع بدوره يتكرّر في الخاتمة بعد أن لحظناه في مقدمة السورة ووسطها، ولكنه في كل موقع يطرح في سياق جديد، والجديد في المقطع الذي نتحدّث عنه هو أن النص يذكر «المجادلين» بموقف خاص لدى الأمم السابقة هو فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا،
ص: 178
سُنَّتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ ، وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْكٰافِرُونَ . وبهده الآية السورة الكريمة التي جاء ختامها متجانسا مع ختام المصير الذي ينتهي إليها المنحرفون... فالمنحرفون المنتسبون إلى الأمم السابقة قد انتهوا إلى مصير بائس في الدنيا قبل الآخرة، وذلك حينما رأوا العذاب قد حاط بهم، وعندها قالوا. آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ أي. أق النص أبرز لنا موقفا مثيرا كل الإثارة هو إقرار المنحرفين بخطأ سلوكهم و هم في الدنيا بعد قبل الآخرة، حيث أنّ إبراز هذا الموقف يترك تأثيره على المتلقي (من حيث عنصر الإقناع الفني، فما دامت الدنيا تجسد تجربة حسية يحياها الناس (بخلاف الإيمان بالآخرة) حينئذ فإنّ الاستشهاد بتجاربها. يحقق «عملية الإقناع» بالنسبة للمتلقي...
وهذا الإقناع «يتحقق من خلال كونه أولا يستشهد بآثار الأمم المائدة، فيما لا تزال موجودة يراها المنحرفون في بعض الأماكن التي نزل فيها العذاب على الأمم السابقة، ثم ثانيا بردود الفعل الصادرة عن أولئك المنحرفين ألا وهي: إقرارهم بخطأ سلوكهم المشترك... طبيعيا، إنّ «الإقرار» لا سبيل إلى لمسه حسيا بخلاف الآثار الباقية من حيث مساكن الذين ظلموا، فيما هي ملحوظة للعيان... لكن عندما يقتنع المتلقي بوجود الآثار الحسية، حينئذ سوف يقتنع بما واكبها من مواقف لا سبيل إلى معرفتها حسيا و هي: الإقرار أو الندم على خطأ سلوكهم المشرك... وكذلك، إذا تحقق «الإقناع» دنيويا حينئذ عندما ينقل النص ما يحدث في الآخرة، سوف يترك أثره على المتلقي ما دام قد سبقه إقناع بما حدث في الدنيا... بخاصة، أنّ المقطع يؤكد بأنّ إقرار المنحرفين بخطأ سلوكهم عند مواجهة العقاب سوف لا ينفعهم أبدا، لأنّهم آمنوا عندما رأوا البأس... وهذا التأكيد على جانب عدم انتفاعهم بهذا الإقرار، سوف يتداعي بذهن المتلقي إلى أن المنحرف سوف لا ينفعه الإقرار بالحقائق عند مواجهته عذاب اليوم الآخر... وبهذا المنحي من التدرج بما هو
ص: 179
حسي إلى ما هو غير حسّي من العذاب الدنيوي والإقرار بخطأ السلوك، ومن التدرج بما يحصل دنيويا إلى ما سوف يحصل أخرويا من العقاب، يحقق النص عنصر «الإقناع الفني» بما يستهدفه من الدلالات، كاشفا بذلك عن مدي الإحكام الهندسي في عمارة السورة الكريمة، من حيث ترابط وتنامي موضوعاتها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 180
ص: 181
ص: 182
تبدأ السورة على هذا النحو: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ : حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَ نَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ ....
من هذا التمهيد، يمكننا أن نلم بالخيط الفكري الذي ستحوم عليه السورة وتصاع عمارتها وفق الخيط الفكري المذكور... إنه يتحدث عن الكتاب الكريم (أي مباديء السماء أو الإسلام) وكونه من الرحمان آل حيم، أي: أن يتسم بصفتي الرحمة بكل مستوياتها التي تغمر الخلائق، ثم كون الكتاب (مفصلا) لا إجمال في مبادئه المنزلة إلى الناس، وكونه (عربيا) يفقهونه لا غموض فيه.
هذا التشدد على صفة الرحمة من جانب، ثم كون المباديء من التفصيل و الوضوح من جانب آخر: يعني إحكام الحجة على الآخرين وسد جميع الاحتمالات التي يتوسل بها المنحرفون في تسويغ عدم إيمانهم بمبادىء الله...
وأخيرا، كون هذا القرآن (بَشِيراً وَ نَذِيراً) يشكل نتيجة منطقية ترتب على مصائر الآدميين الذين خبروا دلالة (الرحمة) في مباديء الله و اتضحت لهم بجلاء لا سبيل إلى التشكيك فيه، مما يستتلي (بشارة) لمن آمن بالله والتزم بمبادئه، و (نذيرا) لمن ركب رأسه وتمرّد عليه بلا مسوغ إلآ اتباع حاجاته الدنيوية العابرة.
لكن، ما هي الاستجابة التي صدرت عن الناس حيال هذا كله ؟ يقول النص فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ .
ص: 183
و لعل أول المقاطع التي تواجهنا، نجدها قد تكفلت بتفصيل ما أجمله التمهيد، حيث يبدا المقطع بهذا النحو. وَ قٰالُوا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ ، وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ .. .
إنّ هذه الآية - كما هو واضح تفصيل لما أجمله التمهيد عند ما قال لنا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ ، فأغلبية الناس لا يستجيبون لنداء الخير (و هي ظاهرة اجتماعية لا تحتاج إلى التعقيب)، إنّهم - كما يقول - (لاٰ يَسْمَعُونَ ) و ها هو النص يوضح لنا كيف أن أكثرية الناس (لاٰ يَسْمَعُونَ ) ، يوضح ذلك بقوله عن لسانهم قٰالُوا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ ، وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ، وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ إننا كررنا هذا الكلام الذي قدّمه النص. نظرا لأهميته الفنية و الفكرية، فالنص يستهدف أن يوضح لنا كيف أنّ الناس (لاٰ يَسْمَعُونَ ) ، و لا بد حينئذ من أن يقدم لنا مفردات من المواقف التي تصدر عنهم بحيث تحسّد هذه المواقف مفهوم (لاٰ يَسْمَعُونَ ) في أدق دلالاته..
و فعلا، نجد صياغة فنية لثلاثة من الأجوبة المعبرة عن (عدم السمع)... كان من الممكن أن يقول هؤلاء: إننا لا نؤمن مثلا و يحسم الأمر... أو إننا لا نرغب في الاستماع لنداء السماء... ويحسم الأمر أيضا، لكن عندما يقولون أولا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ و يقولون ثانيا فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ ويقولون ثالثا مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ أقول حينما نواجه ثلاثة أجوبه تصاغ على النحو المتقدم، حينئد سوف يدرك الملاحظ العابر (لا نقول:
الخبير المختص بشؤون النفس البشرية) أنّ هؤلاء بلغوا من الانغلاق النفسي و الفكري ما لا حدود له من التصور... أما الانغلاق النفسي فيتمثل في تلك الدرجة من الاضطراب بحيث يهتفون قائلين قلوبنا في أغطية مما تدعونا إليه و هذا لا يختلف عن هذيان المصابين بالهستيريا أبدا بحيث يقولون بانفعال و تشنج إنّ قلوبنا محاطة بأغطية مما تطالبنا به - يا محمد - من إيمان
ص: 184
بالله، و لم يكتفوا بذلك بل تابعوا قولهم المذكور بمزيد من الانفعال و التشنج حينما هتفوا أيضا وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ أي. أنّ في آذاننا ثقلا وصمما مما تدعونا إليها يا محمد... إنّه لأمر عجيب حينما يبلغ الاضطراب النفسي عند هؤلاء إلى الدرجة التي لا يكتفون من خلالها بتوضيح أن قلوبهم ذات أغطية، بل أنّ آذانهم ذات صمم أيضا... إلاّ أنّ العجيب كله أنّهم لا يكتفون حتى تكون قلوبهم ذات أغطية، وأسماعهم ذات صمم، بل أضافوا إلى ذلك أنّ هناك (حاجزا) شاملا، عاما بيننا وبينك يا محمد وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ . إنهم يشبهون تماما تلكم الأقوام المتخلفة في عصر نوح عليه السلام عند ما جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ ، وها هم بعض المعاصرين لرسالة محمد (ص) (بما فيهم نماذج المعاصرين لأزمنتنا الحاضرة) يمارسون نفس السلوك المضطرب الشاذ، و قد ذكرت النصوص المفسرة أنّ بعض الجاهلين وضع بالفعل ثوبا بينه وبين النبيّ (ص) حتى لا يواجهه، وهذا - كما قلنا - يجسد قمة ما يمكن تصوره من حالات الانفعال والتشنج والاضطراب الذي لا يصدر إلاّ من كبار المرضي الذين لا أمل البتة في علاجهم...
و أيا كان، فإنّ عنصر (الصورة الفنية) الذي استخدمه النص القرآني الكريم بالنحو الذي لحظناه ونعني به: الصور الثلاث: الأغطية على لقلب، الصمم في الآذان، الحجاب بين أوجه المنحرفين يفسر لنا جانبا من البناء العضوي للنص حيث تجانس مفهوم (المقدمة للسورة) التي ذكرت بأنّ أكثر الناس لاٰ يَسْمَعُونَ تجانس مفهوم (عدم السمع) مع الصور الثلاث التي تجسد عدم السمع بكل أشكاله: من غطاء للقلب، و صمم في الآذان، و حجاب يمنع حتى المواجهة بينهم وبين النبيّ (ص) على النحو الذي تقدم.
قال تعالى: قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ
ص: 185
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ...
في هذا المقطع من السورة، طرح لموضوع جديد إلاّ أنّه امتداد فني لما سبقه... الطرح الجديد هو: أنّ عملية التعديل للسلوك أمر لا سبيل إلى التشكيك به، حيث يطالب النص بالاستقامة إلى اللّه أي الالتزام بمبادئه، و الاستغفار عن السلوك المنحرف عن مباديء الله..
صحيح أنّ بعض المنحرفين الذين بلغوا قمة الشذوذ في السلوك من نحو أولئك الذين وصفهم النص في مقطع سابق بأنّهم قالوا بأنّ قلوبهم في أكنّة مما يدعوهم النبيّ (ص)، و أنّ في آذانهم وقرا، وأنّ بينهم وبينه حجابا... صحيح أنّ أمثلة أولئك لا سبيل إلى تعديل سلوكهم نظرا لبلوغهم قمة الاضطراب، إلاّ أنّ النص القرآني الكريم حينما يعرض لنا أمثلة السلوك المتقدم إنّما يستهدف حمل المتلقي على تعديل سلوكه، وهو ما توفر المقطع المذكور عليه حينما طالب بالتعديل للسلوك قائلا: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ ، وأما بالنسبة إلى من بلغ قمة الانحراف فقد توجه المقطع إليه قائلا وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ ، حيث ردم بينهم وبين إمكانية التعديل حينما مهّد لذلك بقوله. وَ وَيْلٌ ، وعلى العكس من ذلك توجه النص إلى الأصحاء نفسيا وفكريا ممن آمن مباشرة أو عدل من سلوكه قائلا عنهم إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ...
لا نغفا أنّ مقدمة السورة أوضحت بأنّ القرآن الكريم جاء بَشِيراً وَ نَذِيراً ، وأن هذا المقطع الذي تحدثنا الآن عنه قد جسد مفهوم البشارة و الإنذار من خلال تلويحه بالجزاء الّذي ينتظر كلا من المنحرفين و المؤمنين كما لحظنا، لكن خارجا عن المبني الهندسي المذكور للسورة، نجد أنّ المقطع الذي تحدثنا عنه قد طرح ضمنا. أي: بطريقة غير مباشرة مفهومين عن الزكاة
ص: 186
والإيمان باليوم الآخر، أما الطرح لمفهوم الزكاة أو الانفاق فأمر يفصح عن كون هذه الممارسة ذات اهمية كبيرة في السلوك العبادي وإلى أنّه واحد من الوجوه المجسدة للإيمان، وأما طرحه لمفهوم الإيمان باليوم الآخر فلكونه أيضا واحدا من الوجوه المجسدة للإيمان ليس في نطاق الحياة الدنيوية التي نزلت رسالة الإسلام فيها بالرحمة (كما أشارت مقدمة السورة إلى ذلك) فحسب، بل في النطاق الأخروي الذي تطبعه سمة الجزاء على السلوك الدنيوي... لذلك - من زاوية البناء الفني - ختم المقطع حديثه عن الظاهرة المذكورة بالتلويح الأخروي للمؤمنين بقوله إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ...
والآن، نواجه مقطعا جديدا من السورة، يقدم لنا من خلاله تفصيلا جديدا لما أجملته (مقدمة) السورة التي قالت فيها فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ ...
أي، أن النص في صدد بيان تفصيلات عن الموقف المذكور، موقف المنحرفين الذي أعرضوا عن مباديء السماء التي جاءت بها رسالة الإسلام...
ولنستمع إلى ذلك: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدٰاداً ذٰلِكَ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ مِنْ فَوْقِهٰا وَ بٰارَكَ فِيهٰا وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا فِي أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ سَوٰاءً لِلسّٰائِلِينَ . إنّ هذا التلويح بالإبداع الكوني للأرض وتحديده بسته أيام، ينطوي أولا على حقائق علمية يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي، وينطوي ثانيا على ردم الموقف الذي يصدر عنه المنحرفون في موقفهم من رسالة الإسلام...
بعد ذلك يتابع المقطع عرضه للإبداع الكوني للسماء بعد أن انتهى من عرضه لإبداع الأرض، فقال. ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
ص: 187
وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا، وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً، ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ . هذه الشريحة المتصلة بإبداع السماء ينطوي على نفس الهدفين الفكريين الذين أشرنا إلى أنّ النص قد شدد عليهما، ونعني بهما. توصيل الحقائق العلمية من جانب، وردم الموقف الذي يصدر عنه المنحرفون من جانب آخر...
بيد أنّ الملاحظ أنّ النص قد استخدم عنصر (الصورة الفنية) في رسمه لظاهرة الإبداع الكوني حينما قال. فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ . إن هذه الصورة الفنية لا تحمل مجرد الجمال الذهني الذي يستمتع به المتلقي، بل تحمل دلالة فكرية في غاية الخطورة تتصل بعملية الإيمان بالله وعدمه حيث أنّ المتلقي يستخلص من ذلك أنّ السماء والأرض حينما خيرهما الله بين أن يستويا طائعين أو مكرهين، قد اختارا أن يستويا طائعين، وهو أمر لا بدّ أن يحمل المتلقي على الاتعاظ بهذا الموقف فيختار الإيمان باللّه طوعا. طالما لا يترك عدم الإيمان أيما أثر على فاعلية الله تعالى في تقدير الأحداث وصياغتها...
إذن - من الزاوية الفنية - جاءت هذه الصورة متجانسة مع الهيكل الفكري للمقطع، منصحة عن تجانسها مع الهيكل الفكري للسورة بكاملها وهو ما سنلحظه بوضوح في المقطع اللاحق من السورة أيضا.
قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ إِذْ جٰاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ ، قٰالُوا لَوْ شٰاءَ رَبُّنٰا لَأَنْزَلَ مَلاٰئِكَةً فَإِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَأَمّٰا عٰادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قٰالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنّٰا قُوَّةً ، أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيّٰامٍ نَحِسٰاتٍ لِنُذِيقَهُمْ
ص: 188
عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزىٰ وَ هُمْ لاٰ يُنْصَرُونَ وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىٰ عَلَى اَلْهُدىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صٰاعِقَةُ اَلْعَذٰابِ اَلْهُونِ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ ...
هذا المقطع من السورة يتحدّث عن مجتمعي عاد و تمود اللذين أعرضا عن رسالات السماء، قعما ترتّب على ذلك من جزاء دنيوي هو إبادة المجتمعين المذكورين...
وما يهمنا من هاتين الأقصوصتين هو. موقعهما الهندسي من السورة بما تنطويان عليه من أهداف فكرية، حيث لحظنا في مقدمة السورة أن النص أشار إلى موقف المعاصرين لرسالة الإسلام: فمع أن هذه الرسالة نزلت بطابع (الرحمة)، وبلغة واضحة، و ببشارة وإنذار تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَ نَذِيراً . لكن مع ذلك - كما قالت المقدمة المذكورة (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) ...
وها هو المقطع الحالي من السورة يفصل لنا ما أجمله قائلا (فإنّ أعرضوا فقل: أنذرتكم صاعقة.. إلخ).
إذن، ينبغي أن نقف مليا عند هذا التلاحم الفني بين قوله تعالى في مقدمة السورة (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) وبين المقطع الجديد من السورة (فَإِنْ أَعْرَضُوا) ، ثم ينبغي أن نقف مليّا عند مقدمة السورة التي تقول (بَشِيراً وَ نَذِيراً) وبين قوله في المقطع الجديد فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ... .
إن أمثلة هذا التلاحم العضوي حتى في نطاق العبارات (أعرض) (أنذر)... إلخ. بين مقدمة السورة وبين وسطها الذي يتكفل بتنمية المواقف والأحداث التي تتضمنها المقدمة، يعدّ من الأسرار الفنية التي ينبغي أن نقف حيالها بانبهار ودهشة، إذ من الممكن أن يمز عليها غالبية المتلقين دون أن
ص: 189
يدركوا أمثلة هذه الأسرار الفنية التي يتحسسونها بنحو مجمل دون أن يستكنهوا دقائقها و تفصيلاتها...
والآن إذا انتقلنا إلى مقطع آخر من السورة نواجه أسرار فنية أخرى في هذا المقطع عن حيث تلاحم الموضوعات فيما بينها، حيث لحظنا أن المقطع السابق يلوّح بأنّ عذاب الآخرة أشد من العذاب الدنيوي الذي لحق البائدين، وها هو المقطع الجديد من السورة يتقدم لعرض العذاب، الأشد حزنا حينما يقول.
وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدٰاءُ اَللّٰهِ إِلَى اَلنّٰارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ وها هو المقطع الجديد يعرض أيضا. المواقف التي سوف يصدر عنها أعداء اللّه في اليوم الآخر عند مواجهتهم العذاب، وهي مواقف ذات صلة بمقدمة السورة أيضا حيث أشارت المقدمة إلى وضوح الرسالة، في أذهان الناس، وإلى كونهم صدروا - صع ذلك - عن تجاهل للرسالة المذكورة. وها هو المقطع الجديد يتقدم بإبراز المواقف المذكورة على هذا النحو.
حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا؟ قٰالُوا: أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُكُمْ وَ لاٰ جُلُودُكُمْ . وَ لٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّٰا تَعْمَلُونَ وَ ذٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدٰاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمٰا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ وَ قَيَّضْنٰا لَهُمْ قُرَنٰاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كٰانُوا خٰاسِرِينَ ...
الملاحظ أن خاتمة هذا المقطع ربط بين الجزاء الأخروي و بين الموقف الدنيوي الذي صدر عنه المنحرفون، من حيث سدّ النوافذ الخيرة أمامهم، أنهم
ص: 190
عندما أعرضوا عن مباديء الله: مع وضوحها في أذهانهم، فإن اللّه قد (قيض لَهُمْ قُرَنٰاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ )، وهذا الربط بين الجزاء والموقف الدنيوي يطرح - فضلا عما تقدم - دلالة جديدة يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي، متمثلة في أن الابتعاد عن اللّه تعالى يستجرّ الشخصية إلى أن تمارس مزيدا من الأفعال المنحرفة بتوجيه من قرناء، أي: وساوس ترسم لهم مزيدا من السلوك المنحرف بحيث لا طريق لها إلى تعديل سلوكها... ونحن سوف نلحظ في المقطع اللاحق من السورة صدي هذه الوساوس أو القرناء أو الأفكار الشريرة التي تلاحق شخصيات المنحرفين، بحيث تصدر عنهم ردود فعل بالغة الشدّة حيال القرناء الذين أمدّوهم بالأفكار المنحرفة التي أفضت بهم إلى مواجهة العذاب الأخروي الذي حدّثنا المقطع المتقدم عنه.
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذٰاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ أَعْدٰاءِ اَللّٰهِ اَلنّٰارُ لَهُمْ فِيهٰا دٰارُ اَلْخُلْدِ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا لِيَكُونٰا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ ... .
هذا المقطع من السورة، ينتظمه بناء هندسي جميل قائم، على التقابل أو التوازن بين موقفين للمنحرفين أو الكفار: الموقف الدنيوي الذي صدروا عنه وهم يواجهون رسالة الإسلام. حيث كان موقفهم منه على هذا النحو وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ثم الموقف الأخروي حيث قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا: رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا لِيَكُونٰا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ .
إن هذا التقابل الهندسي بين الموقفين الدنيوي والأخروي ينطوي على
ص: 191
جملة من الأسرار الفنية المتصلة بعمارة السورة، فأولا نواجه موقفهم الدنيوي القائل: لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ فيما ينبغي أن نتذكر أن مقدمة السورة قالت عن المعاصرين لرسالة الإسلام بما يلي فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ ، وها هو المقطع الجديد يجسّد واحدا من أنماط السلوك المتصل بمفهوم فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ حيث يقول المنحرفون عن رسالة القرآن لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ ...
إذن، واصل النص القرآني بين مقدمة السورة وبين وسطها بالنسبة، للفكرة التي حامت السورة عليها وهي: عدم استماع الأكثرية لرسالة الإسلام...
إلآ أن الوصل الفنّي بين موضوعات السورة يأخذ جماليته بشكل أشدّ حينما نجد أن المقطع الذي نتحدث عنه يوازن (بطريقة فنية ممتعة) بين الموقف الدنيوي للمنحرفين: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وبين الموقف الأخروي لهم.
وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا. رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا... إلخ أن الموازنة الهندسية هنا تتمثل في ذلك الصلف أو الغرور أو الاعتداء الذي صدر الكافرون عنه حينما خيّل إليهم أنهم سوف ينتصرون لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ... خيّل إليهم أنّهم (يغلبون)، ولكن ما هي نتيجة هذا التخيّل ؟.
لقد واجهوا نتيجة معاكسة تماما، حيث هتفوا بمرارة في اليوم الآخر قائلين: (رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ ، نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا...
إلخ).
إن هذا الرد من الفعل أو الاستجابة المريرة، توضح لنا جانبا من الأسرار الفنية في هذه الموازنة بين الموقفين. موقفهم من رسالة الإسلام دنيويا، وردّ
ص: 192
فعلهم أخرويا حيال الموقف السابق. إنه موقف يقطر بمرارة إلى الدرجة التي يفقد المنحرفون من خلالها أية سيطرة على ذواتهم بحيث يهتفون بما لا فائدة فيه، يهتفون قائلين: ربنا أرنا الأشخاص الذين أضلونا لكي نجعلهم تحت أقدامنا... ترى. ما فائدة أن يجعلوهم تحت أقدامهم: مع أن الضالّ و المضلّ مسوقان لمصير واحد هو (النار) - أعاذنا اللّه منها؟ مضافا لذلك، ينبغي أن نتذكر أيضا أنّ مقطعا أسبق من السورة حدّثنا عن هؤلاء المنحرفين قائلا عنهم بأنّ أللّه قيض لهم قرناء يزينون لهم أفعالهم، وها هو المقطع الذي نتحدث عنه الآن، يجعلنا - نتداعى ذهنيا - إلى الربط بين أولئك القرناء الذين زينوا للمنحرفين أعمالهم، و بين هذا الرد من الفعل حيال أولئك القرناء حيث هتف المنحرفون قائلين: ربنا أرنا أولئك لكي نجعلهم تحت أقدامنا...
إذن، ينبغي للمرة الجديدة أن ننبه على هذا السر الفنّي المتصل بعمارة السورة و جماليتها من حيث تلاحم و تجانس و تواشج موضوعاتها التي تبدو بوضوح حينا من خلال الموازنة المباشرة بين الموقفين الدنيوي و الأخروي، وتبدو حينا آخر بخفاء حينما يتأمل الملاحظ بدقة: التداعيات الذهنية التي يفرضها النص عليه عند مواجهته لهذا النمط من بناء السورة و أيا كان، فإنّ المهم هو أن نتابع الآن: المقاطع الجديدة من السورة لملاحظة البناء الهندسي المذكور فيها حيث نواجه المقطع الجديد متحدثا عن الجزاء الأخروي للمؤمنين، بعد أن كان المقطع الذي تحدّثنا عنه يتناول الجزاء الأخروي للمنحرفين، وهو نمط آخر من التقابل الهندسي بين الأشخاص بعد أن كان المقطع السابق يوازن بين الموقفين الدنيوي و الأخروي.
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ
ص: 193
تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيٰاؤُكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهٰا مٰا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهٰا مٰا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ .
هذا المقطع من السورة يتناول عرض البيئة الأخروية للمؤمنين من حيث المنبّه الذي يواجهونه... لقد كان المقطع الأسبق من السورة يتناول عرض المنبّه الذي يواجهه الكافرون، و هو منبّه قد استجابوا له بمرارة حينما طلبوا أن يجعلوا من أضلوهم تحت أقدامهم، بينا نجد المؤمنين على عكس ذلك تماما، فهناك تقابل على نحو التضاد بين من يتمزق مرارة و بين من يواجه سلسلة من المنبهات السارة حيث يبدأ أولها بأن تنزّل عليهم الملائكة قائلين أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، ثم بعد هذه البشارة التي تلتحم عضويا مع مقدمة السورة التي قالت عن القرآن بأنّه (بشير). حيث تجسدت في البشارة الملائكية، يأتي تأكيد آخر عليها ليضاعف السرور في قلوب المؤمنين حينما تقول لهم الملائكة. نَحْنُ أَوْلِيٰاؤُكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ . لا نغفل هنا، أن النص القرآني الكريم ربط في مقطع أسبق بين السلوك الدنيوي للكافرين وبين استجابتهم الأخروية: حينما ذكر لنا بأنّه قيض لهم قرناء بزينون لهم أعمالهم، بينا نجد هنا - عند الحديث عن المؤمنين - نفس الربط بين السلوك الدنيوي و الاستجابة الأخروية. حينما يهيئ للمؤمنين ملائكة يشكلون أنصارا لهم، و يوصلون الخيرات إليهم: حيث يتحسس المتلقّي بوضوح كيف أنّ الموازنة بين الفريقين دنيويا وأخرويا تأخذ جمالية فائقة من الرسم حيث أن الكافر يقيض له قرين السوء من الشياطين، و المؤمن يهيأ له عنصر ملائكي يرشده إلى طريق الخير.
بعد هذه الموازنة بين الموقفين دنيويّا وأخرويا بين فريقي المؤمنين و المنحرفين، يتجه النص إلى السلوك لدنيوي للمؤمنين مفصلا الحديث عن
ص: 194
بعض جوانبه بعد أن أجمله في الآيات السابقة بقوله: اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا و ببشارته نَحْنُ أَوْلِيٰاؤُكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ...
ترى ما هي أصداء أو انعكاسات هذه الاستقامة و البشري بها في اليوم الآخر؟.
إن انعكاساتها تتمثل في المفردات التالية من السلوك: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً وَ قٰالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لاٰ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلاّٰ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ .
في هذا المقطع، يطرح النص جملة من أنماط السلوك الذي ينبغي أن يختطه الشخص حتى تنسحب عليه تلكم السمة المبشّرة له بالجنّة، و السمة المساعدة له في الحياة الدنيا أيضا...
منها، أن يدعو إلى مباديء اللّه تعالى ممارسا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ومنها (وهذا هو الأهم الذي يشدّد عليه النص) أن يتم ذلك من خلال الخلق الحسن: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نظرا إلى أن الممارسة الحسنة في أداء و توصيل رسالة الإسلام إلى الآخرين سوف تفضي إلى نتائج إيجابية بحيث فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ إن هذه التوصية الإسلامية بممارسة الأساليب الحسنة في عملية التبليغ لا تستتبع مجرد النتائج الإيجابية على الآخرين، بل تعد أيضا أسلوبا عباديا في التدريب أو في التعليم للسلوك السوي بالنسبة إلى المبلّغ نفسه... لذلك عقب النص على مثل هذا السلوك المتعلم، أي. التدريب على تعلم السلوك الحسن في التبليغ عقب عليه النص بقوله وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلاّٰ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ بصفة أن الصبر على ممارسة السلوك الحسن حيال الآخرين الذين لم يخبروا الإسلام
ص: 195
بعد لا يتأتي إلاّ لمن بلغ درجة عالية من السوية في سلوكه...
أخيرا، طرح النص ظاهرة سلوكية طالما تعترض ممارسات الإنسان (و هو يقع تحت تأثير لحظات الضعف) حيث يوسوس له الشيطان ببعض الخواطر، التي تحجزه عن الوصول إلى مرتبة السلوك الحسن. فحينئذ يرسم له النص طريقة العلاج و الوقاية من المرض، من الشيطان... من الوسوسة..
من الهمّ بعمل السيئة... فائلا له وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نَزْغٌ ، فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ...
إذن، رسم هذا المقطع جانبا من السمات التي ينبغي أن تتوفر عليها الشخصية الإسلامية و طريقة التخلص من لحظات الضعف التي قد تغلّف الشخص: لكي يندرج ضمن تلكم البشارة التي تنتظره في اليوم الآخر، بل حتى في الحياة الدنيا حيث تخاطبه الملائكة: نَحْنُ أَوْلِيٰاؤُكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ على نحو ما فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهٰارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لاٰ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاٰ لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّٰهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا، فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ هُمْ لاٰ يَسْأَمُونَ .
في هذا المقطع والآية طرح لظواهر إبداعية هي الشمس و القمر والليل و النهار... وقد سبق أن طرح النص أيضا بعض الظواهر الإبداعية بالنسبة إلى خلق الأرض و السماء إلاّ أن السياق هناك كان في صدد الربط بين مطلق الإيمان و بين المنحرفين الذين لم يتعظوا بهذه الظواهر، أما الطرح الجديد في هذه الآية التي نتحدث عنها، فيأتي في سياق آخر هو أن المستكبرين عن عبادة الله لا يتركون أثرا في الحياة العبادية التي استهدفها اللّه في إبداعه للوجود.
حيث أن الملائكة يتوفرون على الممارسة العبادية بنحو لا سأم منه ولا ملل:
ص: 196
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ هُمْ لاٰ يَسْأَمُونَ ...
إذن، فالسياقان اللذان ورد من خلالهما طرح الظواهر الإبداعية مختلفان...
والأمر نفسه عندما نواجه للمرة الثالثة طرحا جديدا للظواهر الكونية في مقطع آخر.
وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خٰاشِعَةً ، فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ ، إِنَّ اَلَّذِي أَحْيٰاهٰا لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ... .
وهكذا نجد، أن النص عندما يطرح للمرة الثالثة ظاهرة إبداعية. إنما يصوغها في سياق جديد يتطلبه الموقف، وهو. الربط بين ظاهرة إحياء النبات وطاهرة إحياء الموتي عند اليوم الآخر... و لا نغفل أن النص يتحدّث عن جملة من الظواهر المتصلة بالإيمان وعدمه مطلقا، و منها: الإيمان باليوم الآخر، ومنها الجزاء المترتب على ذلك، و منها: مفردات متنوعة من السلوك الذي ينبغي أن يختطه الشخص في ممارساته الدنيوية... لذلك جاء الربط بين اليوم الآخر وبين ظاهرة إحياء النبات: أمرا يتجانس تماما مع البناء الهندسي للسورة الكريمة.
وأيا كان فإنّ النص بعد أن يصل بين ظاهرتين أحياء النبات وإحياء الموتي، يعقب على المنحرفين الذين سبق لهم أن استكبروا: فردّهم بأنّ الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، وعلى المنحرفين الذين يلحدون من آياته التي عرضها قبل قليل: عقب على ذلك بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيٰاتِنٰا لاٰ يَخْفَوْنَ عَلَيْنٰا، أَ فَمَنْ يُلْقىٰ فِي اَلنّٰارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ، حيث يرد على هؤلاء بأنّ إلحادهم لا يضر اللّه تعالى شيئا بقدر ما يضرّ بأنفسهم، كما رد المستكبرين سابقا بأنّ عدم عبادتهم لا يحتجز العمل العبادي الذي تتوفر الملائكة عليه بلا سام.. بعد ذلك، يتقدم النص إلى تفصيلات جديدة
ص: 197
الموقف المنحرف الذي يصدر عنه الكافرون برسالة الإسلام، إلاّ أن ذلك يتم في سياق خاص، فقد سبق لمقدمة السورة أن أشارت إلى أن القرآن الكريم نزل بلسان عربيّ ، كما أشارت إلى أن أكثر الناس يعرضون عن ذلك كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ ... نتحدث عنه الآن بتفصيل إجماله: بعد أن كانت المقاطع السابقة قد تكفلت بتفصيل الإجمال المرتبط بالبشارة والأنذار وغيرهما مما وقفنا عليه سابقا... أما الجديد الذي يطرحه المقطع فهو.
مٰا يُقٰالُ لَكَ إِلاّٰ مٰا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقٰابٍ أَلِيمٍ وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقٰالُوا لَوْ لاٰ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ ، وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفٰاءٌ ، وَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْرٌ، وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولٰئِكَ يُنٰادَوْنَ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ .
إذن، نحن الآن أمام سياق جديد من الأفكار المطروحة في مقدمة السورة و المفصّلة في مقاطعها المختلفة... السياق الجديد هو: ان القرآن الكريم نزل بلغة عربية يخبرها المعاصرون الرسالة الإسلام: و هذا ما نطقت مقدّمة السورة به: كما أشرنا، وها هو المقطع الجديد يطرح ظاهرة اللغة التي نزل بها القرآن فيوضح بأنّ المنحرفين كان من الممكن أن يعترضوا على لغة القرآن فيما لو كانت لغته أعجمية: أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ مما يعني أنهم - كما أوحي النص بذلك - لن يؤمنوا برسالة الإسلام في الحالين: بدليل أنهم - مع مواجهتم لغته العربية - لم يؤمنوا به أيضا...
إذن في الحالات جميعا، نواجه المنحرفين وقد صدروا عن مواقف شتي لا سبيل إلى تعديلها البتة، ففي آذانهم وقر وهو عليهم عمي وهي نفس السمة التي اعترف بها المنحرفون في مقطع أسبق من السورة: حيث خاطبوا النبيّ (ص) قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ ، وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ، وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ
ص: 198
حِجٰابٌ ...
هنا ينبغي - بطبيعة الحال - تذكير المتلقي بجمالية البناء الهندسي للسورة من حيث التلاحم الفني الذي يلحظه بين هذا المقطع ومقاطع سابقة من السورة، تدعنا نقف أمام عمارة فنيّة يرتبط كل قسم منها بالقسم الآخر، بالنحو الذي لحظناه في هذا المقطع وسائر مقاطع السورة الكريمة.
قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ .
الملاحظ أن هذه الآية التي تحدثت عن موسى عليه السلام وموقف مجتمعه من بين مؤمن برسالته وغير مؤمن بها. وهذا التذكير بموسي دون باقي الأنبياء من جانب مجيء هذه الأقصوصة أو الحكاية مستقلة من حيث كونها لم تجيء في سياق عرض قصص سابقة عرضها النص في موقع آخر. لا بد أن ينطوي على سرّ فنّي يتصل بعمارة السورة...
إن ادني تأمل نهذه الحكاية عن موسى عليه السلام، تقتادنا إلى القول بأنّ حكاية موسى وردت في سياق خاص يتصل بتأجيل الجزاء الدنيوي عن مجتمع محمد (ص)... بينا وردت قصتا عاد وثمود في سياق التهديد بالعقاب... هناك في قصتي عاد وثمود مجرّد إنذار، مجرد تلويح بإمكانية أن يلحق مجتمع محمد نفس الجزاء الذي لحق مجتمعي عاد وثمود، أما هنا في مجتمع موسى فإنّ الحكاية ترسم الموقف بحسم حيث تذكر لنا أن الجزاء الدنيوي قد رفع عن مجتمع محمد (ص) كرامة له... (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم).
و هذا من حيث الجزاء المقارن بين مجتمع سابق ومجتمع حاضر...
ص: 199
أما من حيث كون النص قد اعتمد حكاية مجتمع موسى دون غيره، فنحتمل - فنيّا - أن ذلك عائد إلى توافق مجتمعي موسى ومحمد (ص) حيث ذكر النص وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي: «شطر» المجتمع إلى مؤمن برسالة السماء آنذاك وبين متمرّد عليها، وهو نفس الموقف الذي طبع مجتمع رسالة الإسلام...
المهم، أن المقطع المذكور تحدث عن الجزاء الدنيوي خاتما بذلك:
الحديث عنه من حيث مستوياته المترتبة على الإيمان و الكفر...
و الآن، لو تابعنا القسم المتبقي من السورة لوجدنا أن مقاطعها تتحدث عن مفردات من السلوك الذي تطبعه سمة (الريب) حيال الرسالة أو اليوم الآخر» و هي سمة تفصح عن الاضطراب النفسي الشديد الذي يطبع المنحرفين عن مباديء السماء حيث ينسحب شكّهم على الموقف العقائدي أيضا...
من زاوية البناء الهندسي للنص، نجد أن المقطع الذي تحدّثنا عنه قد ختمه النص بقوله: وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ . و لذلك فإنّ المقاط المتبقية من السورة تحوم على فكرة (الشك) أو الريب الذي ختم به النص حكاية موسى... بل أن السورة تختم أيضا بآية تشير إلى السمة المذكورة بقولها أَلاٰ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقٰاءِ رَبِّهِمْ ، أَلاٰ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ . ويمكننا ملاحظة هذه السمة في مقاطع السورة مثل محاورة المنحرف القائلة. وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىٰ ... فهو لا يظن قيام الساعة، لكنه مع ذلك يقول لَئِنْ رُجِعْتُ ... إلخ وهذا يجسّد قمة (الشك) كما هو واضح... ويمكننا ملاحظة ذلك أيضا في هذا المقطع الذي ينقله النص عن المنحرف. لاٰ يَسْأَمُ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ دُعٰاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ فهو يسأل الله الخير، لكنه ييأس في حالة الإحباط، وهذا بدوره يجسد الشك في أبرز خطوطه... ويمكننا ملاحظة نموذج ثالث توضحه
ص: 200
هذه الآية وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ ، وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ فهو يستكبر عن الاعتراف بالله في حالة الخير، و لكنه يتجه إلى الدعاء الكثير في حالة الشر، و هذا بدوره يفصح عن حالة الشك، و هكذا...
خلال هذه العرض الشرائح السلوك، المتصل بسمة (الشك) عند المنحرفين، يقدّم النص مجموعة من الحجج و الأدلة الإبداعية لردم الشك المذكور، حيث يذكر ذلك ضمنا حينا مثل إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ ، وَ مٰا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٰاتٍ مِنْ أَكْمٰامِهٰا، وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ مع ملاحظه التنوع لهذه الظواهر التي يتصل بعضها بظواهر النبات، وبعضها بظواهر التكوين البشري، كما يذكر ذلك صراحة حينا آخر مثل قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أي: حتى يزول (الشك) الذي أشرنا إلى صدور المنحرفين عنه..
وأيا كان، فقد لحظنا أن هذه السورة التي تحدثنا عن مقاطعها جميعا.
قد شددت على إبراز سلوك الكافرين في مختلف أنماطه التي لا حاجة إلى إعادة الكلام فيها... إلاّ أن ما ينبغي لفت الانتباه عليه هو أنّ السورة تستهدف في الآن ذاته إبراز الجوانب السلبية في سلوك الإنسان مطلقا بما في ذلك سلوك بعض الإسلاميين الذين لا يحملون وعيا عباديا حادا أو ممن تنتابهم لحظات الضعف، بخاصة ما لحظناه من الآيات التي تشير إلى أن الإنسان لا يسأم من دعاء الخير ولكنه يؤوس عند مواجهة للشر أو أن الإنسان إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض... أن مجرد إطلاق كلمة (الإنسان) في هذه الآيات بدلا من لفظه (الكافر) يعني إمكانية انسحاب هذه الأنماط من السلوك على الإسلاميين أيضا، و هو ما يمكننا ملاحظته في السلوك اليومي لمجتمعاتنا، والمهم بعد ذلك هو إن ندرك بأنّ الآية القرآنية الكريمة تستهدف حمل المتلقي على الإيمان أو على تعديل سلوكه، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 201
ص: 202
ص: 203
ص: 204
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ حم عسق كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ ، وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ ، أَلاٰ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بهذا المقطع تفتح سورة الشوري، حيث أشارت إلى أنّ للّه ما في السماوات والأرض، وأن السماوات تكاد تنفطر، وأن الملائكة يسبّحون، ويستغفرون لمن في الأرض، وأن الذين اتخذوا من دون الله أولياء، سوف يحاسبهم اللّه، وإنك يا محمد - لست عليهم بوكيل... لا شك، أن هذه الموضوعات متفاوتة، وكل واحد منها مستقلّ في دلالته، ولكنها سوف تسحب آثارها على عمارة السورة الكريمة، بحيث تشكّل مقدمة مجملة، تتكفّل مقاطع السورة اللاحقة بتفصيل الحديث فيها... وأمّا انتخاب هذه الموضوعات (في مقدمة السورة) دون غيرها، فيعني أن النص يستهدف التركيز على هذه الموضوعات، حيث تتكفّل كلّ سورة من سور القرآن الكريم بطرح موضوع واحد أو أكثر. حسب الهدف الذي يرسمها الله تعالى في هذا النص أو ذاك... والمهمّ هو: أنّ عمارة السورة القرآنية تأخذ أشكالا مختلفة من البناء، حيث أنّ قسما منها يتناول موضوعا واحدا، وقسما واحدا يتناول موضوعات متنوعة ولكنها تخضع لوحدة فكرية تجمع بين خيوط الموضوعات جميعا، وقسما ثالثا منها يتناول عدة موضوعات مستقلة ولكن الانتقال من أحدها إلى الآخر يتّم وفق مبني هندسي خاضع لطبيعة العمليات الذهنية لدى الإنسان حيث يتمّ الربط بين موضوع وآخر أما من خلال (التداعي الذهني) أو
ص: 205
«التدرج» في مشاعر الإنسان بحيث ينتقل الذهن من موضوع إلى آخر على نحو تدريجي... والمقطع أو المقدمة التي استهلت بها سورة الشوري تنتسب إلى النمط الثالث من البناء، أي النمط الذي يتضمن موضوعات متنوعة يتم الانتقال من أحدها إلى الآخر وفق مبني هندسي، نعرض له الآن:
الموضوع الأول هو «الوحي» و الموضوع الذي يليه هو ملكية اللّه تعالى لما في السماوات والأرض... أما الوحي فلأنه وسيلة توصيل المباديء إلى الناس، و أمّا ملكية الله تعالى، فهي أوّل موضوع يستهدف النص أن يوصله إلى الناس.. لكن حينما نواجه الموضوع الثالث نجده يقول: تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ... والسؤال هو، ما هي الصلة بين الموضوع الذي سبقه و هو ملك السماوات و الأرض و الموضوع الذي تتحدث عته الآن تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ... إن الصلة الفنية بينهما هي إن النص عندما تحدث عن ملكية السماوات و الأرض، بدأ بالحديث عن أحد شطري الملكية والسماوات، وبعدها تحدث عن كليهما عندما قال تعالى وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَ يَسْتَغْفِرُونَ ... الخ).
والمهم أنّ تتحدث أولا عن كل موضوع عن موضوعات المقدّمة التي استهلت بها سورة الشوري، وأن نتحدث بعد ذلك عن سائر مقاطع السورة (من حيث صلتها الفنية) بالمقدمة المشار إليها... أما الموضوع الذي نعرض له الآن فهو: الصورة الفنية التي تنتسب إلى ما نسميه (في اللغة الأدبية) ب (الصورة التقريبية)، وهي ما تتركب من ظاهرتين، أو طرفين يقوم أحدهما على إكساب الآخر صفة خاصة على نحو المقاربة للشيء دون أن يكون ذلك منطويا على (واقع خارجي)، وهذا ما تمثّله عبارة (تكاد) في قوله تعالى.
تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ، فالسماوات لا تتفطر بالفعل، و لكنها توشك أو تقارب أن تتفطر: نظرا لخطورة الظاهرة التي يستهدف النص أن
ص: 206
يوصلها إلينا... و قد يتساءل القاريء أو السامع: هل المقصود من كون السماوات تكاد تتفطّر: من أجل كونها مخلوقات أشدّ وعيا من مخلوقات الأرض بحقيقة الله تعالى ؟ أم أن المقصود من ذلك أنّ السماوات تكاد تتفطّر مق مواقف المنحرفين في الأرض ممن اتّخد من دون الله تعالى أولياء لهم كما هو مفاد الموضوع الأخير من موضوعات المقدمة التي ختمت بقوله تعالى وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ... إلخ. إن كلا من هذين الاحتمالين من الممكن أن يكون صحيحا، فالاحتمال الأول يشير إلى أن مخلوقات السماء تكاد تتفطر لشدّة وعيها بحقيقة الله تعالى، وفي هذا تعريض بمواقف البشر الذين ينحرفون عن مباديء اللّه تعالى، والاحتمال الثاني يشير إلى مدي المفارقة الضخمة التي تطبع البشر حينما يتّخذ شريكا لله تعالى... ومع الاحتمال الأخير، يمكننا أن نتبيّن واحدا من أسرار البناء الهندسي للسورة، حيث تشكّل هذه الإشارة إلى أنّ السماوات تكاد تتفطر انعكاسا لما سوف يطرحه النص من موضوع الشرك، وهذا ما يفصح عن مدي الإحكام الهندسي للنص. من حيث علاقة الموضوعات بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ ، فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشٰاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَ اَلظّٰالِمُونَ مٰا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ، فَاللّٰهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ، وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللّٰهِ ، ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ... .
هذا المقطع يتضمن جملة من الموضوعات، إلاّ أنّها تظل مرتبطة عضويا
ص: 207
بمقدمة السورة التي قلنا أنها مهدت بجملة من الموضوعات على نحو الإجمال، ليجيء وسط السورة فيفصّل الكلام فيها... و أول موضوع طرحته المقدمة هو «الوحي» (حم عسق كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... إلخ). وها هو المقطع الذي نتحدث عنه، يفصّل جانبا من «الوحي» ومهمته، فيقول وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا، وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ ...
إذن، بدأ مفهوم «الوحي» يفصّل لما ما يتضمنه الوحي: من تقديم لحقائق يستهدف النص توصيلها إلينا، وهي أولا: إنّ القرآن نزل بلغة عربية لينذر أمّ القري (وهي مكة) وما حولها، و نتساءل: ما هو السر الفني الكامن وراء قوله تعالى بأنّ القرآن عربي ؟... الجملة التي تلي ذلك تفسّر لنا السر وهو (لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ ) فبما أن البيئة التي نزل فيها الوحي عربية اللغة، حينئذ جاءت العبارة قُرْآناً عَرَبِيًّا تفسّر السر، و إلاّ نجد أن ذكر القرآن في مواقع كثيرة لا يجيء مقرونا بكونه عربيا، وهذا هو أحد أسرار البناء الفني للموضوعات من حيث تجانس أجزائها: بعضها مع الآخر، مضافا إلى تجانس المقدمة للسورة، حيث تضمنت طرحا إجماليا ل الوحي ثم (فُصِّلَتْ ) الكلام بعد ذلك في مقاطع لاحقة من السورة... و المهم، أن الموضوع الأول الذي طرحه المقطع من حيث مفهوم «الوحي» هو: نزوله بلغة خاصة، ثم إنذاره للناس (أهل مكة وما حولها) في البداية، ثم إنذاره يوم الجمع، و المقصود (يَوْمَ اَلْجَمْعِ ) هو يوم القيامة، و هذا يعني أن النص يستهدف التركيز على «اليوم الآخر» وليس مجرد الإيمان بمبادىء السماء منفصلا عن أهم مبادئه المتمثلة في الإيمان باليوم الآخر، ثم: ذكر حقيقة من حقائق اليوم الآخر، ألا و هي: أن الناس فريقان، فريق في الجنّة و فريق في السعير...
طبيعيا ينبغي أن ندرك بأنّ المقطع حينما يقول بأنّ الناس فريقان، أحدهما في الجنة والآخر في السعير، فهذا يعني (من حيث المبني الهندسي للسورة
ص: 208
الكريمة) أن النص سوف يتحدث لاحقا عن الأسباب التي تجعل الناس فريقين، لذلك يجمل الكلام هنا أولا، تم يفصل ذلك، حيث تحدث عن أحد الفريقين أولا، وهو (يُدْخِلُ مَنْ يَشٰاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) ... وهذا هو الفريق الداخل في الجنة، وأمّا الفريق الآخر فيقول عنه المقطع (وَ اَلظّٰالِمُونَ مٰا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ...؟) إذن، بدأ السبب يتضح من حيث الفريق الآخر الداخل في السعير... إنه الفريق الذي اتخذ من دون اللّه تعالى أولياء...
إذن، بدأنا نلحظ أسرار الفن في صياغة هذه الموضوعات التي (أجملت) ثم (فصلت)... فأولا نلحظ وجود علاقة فنية بين هذا المقطع وبين مقطع سابق جاء في نهايته وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي: أن النبيّ (ص) وسائر المبلغين ليسوا مسؤولين عن سلوك المنحرفين بل اللّه تعالى هو الذي يتولي محاسبتهم... هذا الكلام الذي ورد في مقطع سابق، جاء الآن ليأخذ تفصيلاته في المقطع الذي نتحدث عنه، فالذين اتخذوا من دون الله أولياء... ها هم الآن يجسدون ذلك الفريق الداخل في السعير حيث أوضحنا كيف أن المقطع قد أشار إلى أن الظالمين الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء ليس لهم من وليّ ولا نصير في يوم القيامة... وأما قوله في المقطع الأسبق بأنّ المبلغ ليس بوكيل على هؤلاء، فإنّ المقطع الذي نتحدّث عنه الآن، شرح ذلك بقوله تعالى وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً أي: أن اللّه تعالى بمقدوره أن يجعل الناس أمة واحدة و ليس فريقا في الجنّة وفريقا في السعير، لذلك لست - أيها المبلّغ - مسؤولا عن انحرافهم، بل الله تعالى هو الذي سيحاسبهم في اليوم الآخر...
إذن، أمكننا أن ندرك هذه المستويات المختلفة من طرح الموضوعات المجملة تم تفصيلها فيما بعد، حيث نستكشف منها مدي إحكام المبني
ص: 209
الهندسي للسورة: من حيث علاقة موضوعاتها بعضها مع الآخر.
قال تعالى: وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللّٰهِ ، ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ فٰاطِرُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً، وَ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ أَزْوٰاجاً، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً، وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ، وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ... .
هذا المقطع من سورة الشوري امتداد لما سبقه من المقاطع التي نتحدث عن موضوعات شتّي تضمّنتها المقدمة للسورة، منها. مهمّة «الوحي» بمبادىء الله تعالى وإنذار المشركين، وعدما الإكراه في الدين، و ملكيته السماوات و الأرض للّه تعالى.
هذه الموضوعات التي طرحتها المقدمة: لا تزال منعكسة على مقاطع السورة حيث يتكفل كل مقطع بطرح جديد لها... فمن حيث ملكيته تعالى للسماء و الأرض، يشير المقطع إلى كونه تعالى مبدعا لهما فٰاطِرُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كما يشير إلى أن (مقاليدهما) بيده تعالى لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ...
هنا ينبغي ألاّ نغفل عن هذه الصورة الفنية أي «الاستعارة» التي تتمثل في عبارة (لَهُ مَقٰالِيدُ...) فالمقاليد هي المفاتيح، ومعني هذا أنّ المقطع خلع صقه «الفتح» للأبواب (و هي المقاليد) على ظاهرة (الهيمنة) أو (السيطرة) من قبل الله تعالى لما في السماوات والأرض، و هذه الاستعارة تتميز بوضوحها و ألفتها، و لكنها ملأي بالدلالة العميقة، فالأبواب لا تفتح الاّ بالمقاليد، و كل
ص: 210
من المقاليد بيد - الله تعالى فضلا عن أنّ السماوات و الأرض له تعالى أيضا، لا أنّ أحدهما بيده والآخر بيد سواه، مما يعني أن كل شيء لله تعالى لا يشاركه أحد في ذلك، وهذه الدلالة سوف تنعكس على ما يطرح المقطع بعد ذلك من سلوك المشركين الذين يشركون مع اللّه تعالى قوي أخرى، حيث أشار المقطع بعد ذلك إلى أنه «كبر على المشركين ما تدعو إليه...».
و الآن إذا تركنا هذا الموضوع الذي لحظنا مدي ارتباطه عضويا بعمارة السورة الكريمة، و اتجهنا إلى الموضوعات الأخرى، وجدنا أن النص يتجه إلى جملة من الموضوعات، منها قضية بسط الرزق لمن يشاء الله تعالى و عدم بسطه الآخرين حسب متطلبات الحكمة، ومنها. قضية جعل الإنسان و الأنعام «أزواجا» مع ملاحظة أن أمثلة هذا الطرح تجيء «ثانوية» في سياق الموضوعات الرئيسة التي تضمنتها المقدمة، حتى يلفت النظر إلى اهميتها...
و يلاحظ، أن المقطع طرح موضوعا ثالثا هو قوله تعالى. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً، وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ، وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا... هذا الموضوع هو أهم ما يتضمنه المقطع من طرح، حيث جاء متناسبا أولا مع مقدمة السورة التي قالت (حم عسق كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) ... وها هو المقطع يشير إلى ما أوحي إلى النبيّ (ص) وإلى من قبله نوح، إبراهيم، موسى، عيسى... ثم جاء متناسبا ثانيا مع عملية الإنذار أو توصيل مباديء الله تعالى إلى الناس، حيث أشارت المقدمة إلى ذلك (وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لِتُنْذِرَ...
إلخ).
لكن، إذا غضضنا النظر عن صلة (مقدمة السورة) بهذا المقطع (من حيث العمارة الفنية) واتجهنا إلى مضمون المقطع، لحظنا أن النص أشار إلى خمسة أنبياء هم. نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد (ص)...
ص: 211
و هذا ما يدعونا إلى التساؤل عن السر الفنّي لذكر هؤلاء دون سواهم...؟ أن الأنبياء المذكورين قد طبعتهم سمة «أولي العزم» أي: أولي القوة، و هذا يعني أنّ لهم تميّزهم من هذا الجانب، مضافا إلى ذلك فإنّ الأنبياء.
المذكورين جاءت رسالاتهم لعامة البشر بالقياس إلى رسالات أخرى تخص زمانا ومكانا معيّنين، هذا فضلا عن أن لكل واحد منهم خصوصيات ينفرد بها، فمحمد (ص) يجسّد خصوصية الرسالة الناسخة للأديان السابقة وجعلها خاتمة الرسالات، وأما نوح عليه السلام فيجسد خصوصية التجربة البشرية الجديدة بعد حادثة الطوفان، حيث سلم من الطوفان عدد ضئيل بحيث شكّل التجربة البشرية جديدا، أمّا موسى وعيسى فقد استمرت رسالتهما إلى حين ظهور الأخيرة، فهما (أي رسالة عيسى عليه السلام) واستمرار الأخيرة إلى ظهور الإسلام... وأمّا إبراهيم عليه السلام، فإنّ (حنيفيته) تميزت من بين جميع الأديان باستمراريتها إلى حين ظهور الإسلام، بل أن مباديء الحنفية قد تداخلت مع رسالة الإسلام أو لنقل أنّ الإسلام، احتفظ ببعض مبادئها التي لم تنسخ...
إذن، أمكننا الآن أن ندرك جانبا من الأسرار الفنية الكامنة وراء ذكر المقطع لهؤلاء الأنبياء دون سواهم في غمرة حديثه عن رسالة الإسلام و موقف المشركين منها، ثم موقف الكتابيين منها أيضا، فيما سنتعكس هذه المواقف على الأقسام اللاحقة من السورة، فضلا عن أن طرح الرسالات السابقة قد ارتبط بمقدمة السورة التي أشارت إلى ظاهرة الوحي لأصحاب هذه الرسالات (كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) حيث يكشف مثل هذا الارتباط عن مدي الإحكام الهندسي للسورة: من حيث علاقة أجزائها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
ص: 212
قال تعالى: وَ مٰا تَفَرَّقُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذٰلِكَ ، فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ ، وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنْ كِتٰابٍ ، وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّٰهُ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ ، لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ ، لاٰ حُجَّةَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ ، اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا، وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ .
هذا المقطع من سورة الشوري، امتداد لمقاطع سابقة تتحدث عن رسالة القرآن وكيفية التعامل مع الطوائف الاجتماعية التي لم تستجب للرسالة المذكورة، لقد سبق أن طالب النص بالالتزام بالدين، وبوحدة الكلمة أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ . أمّا الآن، فيبيّن الأسباب الكامنة وراء التفرّق الذي طبع الأمم السابقة: بالرغم من أن الأديان جميعا قد خضعت لهدف واحد هو الإيمان باللّه تعالى وبمبادئه... يقول المقطع عن تفرّق هذه المجتمعات وَ مٰا تَفَرَّقُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ... أي أن هؤلاء تفرقوا عن كلمة التوحيد بسبب نزعة (البغي) أو العدوان بينهم.
ومن الواضح، أن كلا من «العدوان» و «الذاتية» هما اللذان يطبعان غالبية الأفراد والمجتمعات، وهما اللذان يقفان سببا وراء تمزّق الفرد وتفكك المجتمعات، حيث يشير جميع علماء النفس والاجتماع إلى أن هاتين الظاهرتين هما السبب وراء الانحرافات الفردية والاجتماعية... ومن الواضح أيضا أن العدوانية والذاتية ليستا مفروضتين على الفرد والمجتمعات، بل أن الإنسان بسبب من بحثه لإشباع شهواته يمارس هاتين الرذيلتين، ولذلك قال النص - في مقطع أسبق: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً أي: كان بمقدور اللّه تعالى أن يجعل الناس أسوياء لا انحراف فيهم، ولكن الحكمة تتطلّب أن
ص: 213
يترك الإنسان ليمارس حرّيته بملء اختياره، ثم يتحمّل مسؤولية سلوكه في اليوم الآخر، والمهم (من الزاوية الفنية) أن هذا المقطع الذي نتحدث عنه و هو وَ مٰا تَفَرَّقُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يظل مرتبطا فنيا بالمقطع السابق الذي يقول: لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً أي: أن النص يقدم الآن جوابا لتفسير الظاهرة الاجتماعية القائلة: «لماذا لم يصبح الناس أمة واحدة ؟» حيث يجيء الجواب (أن البغي - وهو يشمل العدوان و الذاتية - هو السبب وراء ذلك...
والآن، إذا تركنا هذه الظاهرة الاجتماعية المتصلة بمطلق الناس، واتجهنا إلى ظاهرة محدّدة تخصّ أهل الكتاب، وهم المسيحيون و اليهود، لوجدنا أن المقطع القرآني الكريم، يقدّم أيضا جوابا لتفسير الظاهرة المذكورة في ضوء علاقتها أيضا بمقطع أسبق أشار إلى الرسالات السابقة كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ حيث أشار إلى أن انحراف أهل الكتاب (و هم الذين أوحي إلى أنبيائهم بمثل ما أوحي إلى محمد (ص) يتمثل في تشكيكهم بالرسالة الجديدة.
و هذا يعني (من زاوية البناء الهندسي للسورة) أن النص فصّل الحديث عن المجتمعات الثلاثة (مجتمع محمد (ص): في بداية ظهور الرسالة، ثم مجتمع الكتابيين، ثم المجتمع العالمي المنحرف مطلقا و قدّم إجابات واضحة للسؤالات المطروحة في مقدّمة السورة، وكان من جملتها تقرير الحقيقة القائلة بأنّ الله تعالى هو الذي يتكفّل بمحاكمة المنحرفين، و أن المبلغ ليس مسؤولا عنهم.. لنتذكر أن مقدمة السورة جاء فيها وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي:
لست يا محمد بوكيل على الناس، بل الله تعالى هو المحاسب على ذلك اَللّٰهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ...
هذه الحقيقة التي وردت في مقدمة السورة، يبدأ الآن المقطع الذي
ص: 214
نتحدث عنه، بإلقاء الضوء عليها من خلال الإشارة إلى أنّ الناس تفرّقوا بسبب (البغي). العدوان و الذاتية، حيث يخاطب النبيّ (ص)، فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ ، وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنْ كِتٰابٍ ، وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اَللّٰهُ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ ، لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ ، لاٰ حُجَّةَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ ، اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا . لنلاحظ بدقة: العبارات الثلاث الأخيرة لَنٰا أَعْمٰالُنٰا، وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ لاٰ حُجَّةَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا ، فبغض النظر عن جمالية هذه العبارات من حيث الإيقاع الصوتي الذي يوازن بين الجمل الثلاث، و بغض النظر عن جماليتها (من حيث التقابل الفنّي بينها) أي: التقابل بين (أَعْمٰالُنٰا) و (أَعْمٰالُكُمْ ) وبين (بَيْنَنٰا) و (بَيْنَكُمُ ) ، بغض النظر عن الأسرار الفنية لهذه العبارات. إيقاعيا و صوريا، يعنينا منها ارتباطها بالهيكل الهندسي للسورة، حيث جاءت الإشارة إلى أنّه لَنٰا أَعْمٰالُنٰا ، لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ ثم عبارة اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا وَ بينكم، جاءت هذه العبارات تفصيلا لما أجملته مقدمة السورة التي قالت: أن الله تعالى هو الذي يحاسب المنحرفين وأن المبلّغ ليس وكيلا عليهم، حيث لحظنا الآن أن النص يطالب النبيّ (ص) بأن يقول للمنحرفين لست وكيلا عليكم، فلكم أعمالكم و لنا أعمالنا وأن يقول لهم: اللّه تعالى هو الذي يحاسبكم اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ . إذن، امكنتا ملاحظة مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة موضوعاته بعضها مع الآخر، ومدي الارتباط العضوي فيما بين مقدّمة السورة ووسطها، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزٰانَ ، وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهٰا، وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهٰا، وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ ، أَلاٰ إِنَّ اَلَّذِينَ يُمٰارُونَ فِي اَلسّٰاعَةِ لَفِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ .
هذا المقطع من سورة «الشوري» يختص بالحديث عن «قيام الساعة»،
ص: 215
حيث كانت المقاطع التي سبقتها، تتحدث عن مفهومات الشرك و التشكيك برسالة الإسلام، وهذا المقطع ينقل لنا جانبا آخر من سلوك المنحرفين، ألا وهو التشكيك بقيام الساعة...
ويعنينا من هذا الموضوع أسلوبه الفنّي من جانب، و علاقته بعمارة السورة الكريمة من جانب آخر... أمّا علاقته بعمارة السورة، فتتضح من خلال إشارة المقطع إلى أنّه تعالى: أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزٰانَ حيث استهلّت السورة بموضوع نزول «الوحي» وما يتضمّنه من مباديء، وها هو المقطع يتحدّث عن الكتاب أو القرآن الكريم الذي نزل بالحق والميزان، رابطا بين مقدمة السورة عن نزول الكتاب، وبين نزوله بالميزان والحق... و أمّا فنيا فيلاحظ أن المقطع قد اعتمد الصورة الرمزية والصورة الحقيقية في رسمه أو طرحه لقضية نزول الكتاب بالحق والميزان... فالميزان، هو «رمز فنّي» يشير إلى مفهوم «العدل»، و هذا المفهوم ستكون له انعكاساته على الموضوع اللاحق ألا وهو. قيام الساعة، حيث أنّ أحد مصاديق «العدل» أو «الميزان» هو: محاسبة الناس في اليوم الآخر وفق الميزان الذي يفرز أعمال الناس.
خيرها و شرّها... لذلك نجد أن الآية الكريمة، قالت مباشرة بعد إشارتها إلى نزول الكتاب بالحقّ والميزان، قالت وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ فالقارىء قد يتساءل: ما هو السر الفني الذي يكمن وراء هذا الكلام الذي كان يتحدث عن نزول الكتاب بالحق والميزان وبين انتقاله مباشرة إلى الكلام عن قيام الساعة، لكن - في ضوء ما شرحناه - يمكن أن نفسّر سرّ ذلك، حيث أن هناك علاقة بين الحق والعدل وبين انعكاسهما في اليوم الآخر على محاسبة الناس لأعمالهم...
بعد ذلك يتحدّث المقطع عن قيام الساعة نفسه وموقف المنحرفين والمؤمنين منه... حيث أشار أولا إلى أنّه: «لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ » أي من
ص: 216
الممكن أن تكون قريبة الوقوع، ثم أشار ثانيا إلى أن عير المؤمنين يستعجل وقوعها، وأنّ المؤمنين يشفقون منها ويعلمون أنها «الحق»... هنا ينبغي أن نطرح جملة من الحقائق الفنية في هذا الصدد، فأوّلا: يلاحظ أنّ النص ذكر بأنه: «لعلّ الساعة قريب»، وطبيعيا، أن نتساءل عن السر الفني وراء صياغة العبارة بهذه الصيغة (صيغة لعلّ ) ثم صيغة (قريب)، فلعل هي أداة تقريب للشيء، وهذا يعني أن النص لم يحدّد زمنا خاصا لها، لكن بما أن عبارة (قريب) نشير إلى وقوع الساعة قريبا، حينئذ نستكشف بأنّ قرب الساعة أو بعدها أمر غير محدّد: مع ترجيح قربها بطبيعة الحال... لكن بما أن عنصر «الزمن» في حساب الله تعالى (وفي حساب اليوم الآخر الذي يضاعف زمن الدنيا)، حينئذ نستكشف بأن «القرب» لا يتحدد بمعاييرنا الدنيوية للزمان، بل يتحدد بمعايير اليوم الآخر نفسه...
ثانيا. نلحظ أن الآية الكريمة، قالت عن المنحرفين بأنهم: يستعجلون بقيام الساعة: والاستعجال أيضا هو معيار دنيوي، لذلك فإنّ النص ذكر سلفا بأنّ وقوعها «قريب» حتى يتجانس مفهوم «الاستعجال» مع مفهوم «القرب»...
ثم نلحظ أن النص قال عن ردود الفعل حيال قيام الساعة بالنسبة إلى المؤمنين بأنهم مُشْفِقُونَ مِنْهٰا، وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ . منا ينبغي أن نتذكر بأنّ المقطع القرآني ذكر في الآية الأولى بأنّ الكتاب قد نزل بالميزان والحق، أما الميزان فقد ذكرنا علاقته بقيام الساعة، وأما «الحق» فإنّ الآية الأخيرة التي نتحدث عنها، ذكرت عبارة «الحق». وقالت بأنّ المؤمن يعلم بأنّ قيام الساعة «حق»، حيث ربطت بينهما وبين نزول الكتاب بالحق..
وهكذا نجد مدي الترابط والتلاحم بين أجزاء المقطع الذي نتحدث عنه.
من حيث علاقة نزول الكتاب بالحق والميزان، بالميزان والحق المرتبطين بقيام الساعة، وهذا ما يفصح عن أشدّ مستويات الإحكام الهندسي للنص القرآني
ص: 217
الكريم: من حيث علاقة موضوعاته بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه
قال تعالى: اَللّٰهُ لَطِيفٌ بِعِبٰادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا، وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكٰاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّٰهُ ، وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ تَرَى اَلظّٰالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا كَسَبُوا وَ هُوَ وٰاقِعٌ بِهِمْ ، وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي رَوْضٰاتِ اَلْجَنّٰاتِ لَهُمْ . مٰا يَشٰاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ... .
هذا المقطع يوازن بين الدنيا و الآخرة، بين الظالمين و الصالحين، بين النار و بين الجنّة.. إنه يستهل بظاهرة (الرزق) - و هي تشمل العطاء الدنيوي و و الأخروي - حيث أنّ (التقابل) الفنّي في هذا المقطع بين الدنيا و الآخرة، و النار والجنّة، والمؤمن و المنحرف، يفرض (من الزاوية البنائية لعمارة المقطع) أن يشمل الرزق كلا من أبناء الدنيا والآخرة، كما يركّز على ظاهرة (الرزق) الأخروي بصفته يحقق إشباعا خالدا لحاجات الإنسان مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وأمّا في الدنيا، فكذلك يرزق الله من يشاء ذلك.
إن الله تعالى يرزق من يريد الحياة الدنيا، و يرزق من يريد الحياة الأخرى، لكن: من يريد الدنيا ماله في الآخرة من نصيب، و أمّا من يريد الآخرة، فلا يعطاها فحسب بل يزاد في رزقه منها أيضا.
للمرة الثانية ينبغي أن نلتفت لعمارة المقطع التي بدأت بالحديث عن أن الله لطيف بعباده ورازق لمن يشاء، حيث يتجسّد رزقه للمؤمن و الفاسق عل حدّ سواء، كل ما في الأمر أن الفاسق لا حظ له رزق الآخرة، و هذا ما يستهدفه المقطع...
ص: 218
هنا، ينبغي أيضا أن نلتفت للاستعارة الحية التي رمزت للرزق بعبارة (الحرث) حيث خلعت طابع (الزرع - وهو الحرث) على المعطيات أو المكاسب أو الإشباعات التي يبحث عنها الإنسان. فبالرغم من أن الصورة الفنية (الحرث أو الزرع) تعدّ من الظواهر المألوفة جدا، إلاّ أنها تكتتر بدلالات عميقة كلّ العمق، حيث أن عملية الحرث ترمز إلى الجهد الذي يبذله الإنسان من جانب، فضلا عن الثمر الذي يجنيه منه من جانب آخر، حيث يستوحي المتلقّي منها (ليس مجرد الرزق) بل (العمل) الذي يصدر عنه الإنسان وهو يمارس عملية الحرث، فالمؤمن (يعمل) و (يرزق)، و الفاسق يعمل ويرزق أيضا، إلاّ أن عمل الأول يقترن بالعمل من أجل الله تعالى فيترتب عليه الرزق المضاعف في الآخرة، بينا عمل الآخر (أي الدنيوي) يستتبع أيضا الرزق و لكنه رزق عابر ينتهي مع نهاية العمر فيترتب عليه العذاب في اليوم الآخر...
إذن، جاءت (الاستعارة) أو (الرمز) هنا متجانسة مع دلالة (الرزق) الذي طرحه المقطع من خلال تركيزه على العمل من أجل الآخرة...
بعد ذلك، يتحدث النص عن كل من لعاملين لحرث الدنيا و العاملين لحرث الآخرة، فيشير إلى مواقعهم الأخروية وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ تَرَى اَلظّٰالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا كَسَبُوا وَ هُوَ وٰاقِعٌ بِهِمْ وأما المؤمنون فهم فِي رَوْضٰاتِ اَلْجَنّٰاتِ لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ . هذا التقابل بين المؤمنين و المنحرفين (من حيث مواقعهم الأخروية) يظل بمثابة نموّ فنّي لفكرة (الرزق) التي تنامت و انتهت إلى تحديد الموقع الأخروي لكل من المرزوقين من أبناء الدنيا وأبناء الآخرة.
هنا يستثمر المقطع عبر حديثه عن الموقع الأخروي للمؤمنين، ليلفت النظر إلى (موقع أهل البيت عليهم السلام) حيث يتميزون عن سائر المؤمنين بالعصمة و بتصاعد أعمالهم الأخروية، فيتقرر حقيقة هي قوله تعالى: قُلْ : لاٰ أَسْئَلُكُمْ
ص: 219
عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ مطالبا الآخرين بمودّتهم، بصفتها واحدا من أبرز الأعمال الصالحة المرتبطة بحرث بالآخرة، ولذلك عقب على العبارة المذكورة مباشرة، بقوله تعالى. وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً . نَزِدْ لَهُ فِيهٰا حُسْناً . إن هذه العبارة لها موقع هندسي ضخم في عمارة المقطع، حيث لحظنا أنّ النص قال في أول المقطع. مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ . نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . والآن يكرّر نفس العبارة بالنسبة إلى مودة أهل البيت عليهم السلام فيقول: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً . نَزِدْ لَهُ فِيهٰا . إذن: عبارة نَزِدْ لَهُ فِيهٰا تظل رابطة عضوية بين أول المقطع وآخره، ملفتة النظر إلى الأهمية العبادية بالنسبة إلى مودة أهل البيت عليهم السلام... وهذا النمط من الربط العضوي بين أجزاء المقطع، يكشف عن مدي إحكام النص.
قال تعالى. وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَ اَلْكٰافِرُونَ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ لَوْ بَسَطَ اَللّٰهُ اَلرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ ، وَ لٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ بِعِبٰادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ وَ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مٰا قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ .
هذا المقطع من سورة الشوري، يرتبط عضويا بمقطع سابق يتحدث عن ظاهرة (الرزق)، حيث كان الحديث فيه عن (الرزق) الأخروي وإيثاره على ما هو دنيوي... أما الآن، فإنّ المقطع يتحدث عن الرزق الدنيوي: من حيث تقسيمه من قبل اللّه تعالى وفقا لمتطلبات الحكمة، حيث أشار إلى أنّ بسط الرزق في حالات خاصة يفضي إلى طغيان الشخص وانحرافه، كما أشار إلى عطائه الذي يعمّ الناس جميعا، ألا وهو. المطر»... وخلال ذلك: كان المقطع يتحدث عن ظاهرة (التوبة)، وظاهرة (الدعاء)... والسؤال هو: ما
ص: 220
هي الروابط الفنية التي تجمع بين الرزق والتوبة و الدعاء؟ للإجابة عن ذلك ينبغي أن نعود إلى (مقدمة) السورة الكريمة التي جاء فيها:
وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ ... أي.
يطلبون المغفرة من اللّه تعالى لعباده... ومن الواضح، أن طلت المغفرة يرتبط بممارسة الذنب من جانب، كما يرتبط بمفهوم (التوبة) من جانب آخر...
لذلك، نجد الربط النّي بين مقدمة السورة التي تتحدث عن الملائكة الذين يستغفرون لمن في الأرض، وبين هذا المقطع الذي يتحدث عن تقبّل اللّه تعالى لتوبة عباده، حيث يصبّان في مجري واحد هو: توبة الإنسان ومغفرته تعالى للتائبين... وأمّا ظاهرة الدعاء عبر قوله تعالى وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فإنّ ارتباطها بمفهوم التوبة من الوضوح بمكان، حيث إن إجابة اللّه تعالى لمطلق المؤمنين (في حاجاتهم المتنوعة) تظل - في أحد مصاديقها - متجانسة مع (التوبة) التي يستجيب لها اللّه تعالى:
كما هو واضح... أمّا صلة هذه ب (الرزق)، فينبغي أن نعود إلى المقطع الأسبق الذي كان يتحدث عن (الرزق) الأخروي وأنه تعالى يزيد الإنسان في رزقه لمن طلب الآخرة... وها هو الآن يكرّر هذا المعي بقوله تعالى:
وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... هناك (في المقطع الأسبق) كان النص يتحدث عن زيارة الرزق الأخروي... هنا (في المقطع الحالي) فيتحدث النص عن زيادة الرزق الدنيوي... إذن: ثمة (تقابل) بين الزيادتين في الرزق (رزق الدنيا والآخرة)، حيث ربط المقطع بين الدعاء الذي يستجيب له اللّه تعالى:
وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وبين الرزق أو الفضل الذي يزيده اللّه تعالى لمن يدعو...
إذن، اتضحت العلاقة القنية بين ظواهر الرزق والدعاء والتوبة..
لكن، لنتابع المقطع الجديد بعد ذلك، حيث يقول:
ص: 221
وَ مِنْ آيٰاتِهِ : خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ مٰا بَثَّ فِيهِمٰا مِنْ دٰابَّةٍ ، وَ هُوَ عَلىٰ جَمْعِهِمْ - إِذٰا يَشٰاءُ - قَدِيرٌ وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ثم بتحدث بعد ذلك عن ظاهرة أخرى هي: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا، وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِنٰا مٰا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ .
هذا المقطع يتضمن سمات فنية متنوعة، منها: ما يرتبط بعنصر (الصورة) من تشبيه و استعارة، و منها ما يرتبط بعمارة السورة الكريمة، حيث قدّم المقطع بعض الظواهر الإبداعية مثل: خلق السماوات الأرض و مطلق الدواب و تسخير البحر لركوب السفن، و لكنه علق على بعض هذه المعطيات الإبداعية بأنّه تعالى بمقدوره أن يسكن الرياح مثلا فيتعذر تسخير البحر: و ذلك بسبب الذنوب، كما أشار إلى أنّ المصائب التي تصيب الإنسان: بسبب الذنوب أيضا، ثم كرر العبارة الآتية وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ كررها مرتين في هذا المقطع، حيث يدلّنا ذلك: على أن المقطع يستهدف الربط بين مفهومات الرزق و الدعاء و التوبة وبين مفهوم (العفو) الذي يعني: التجاوز عن الذنب.
إذن، للمرة الجديدة، أمكننا ملاحظة مدي الربط الفنّي بين هذه الموضوعات المختلفة التي تصبّ في حقول العطاء والعفو مقابل التوبة و العمل الصالح، فيما يكشف ذلك عن مدي الإحكام الهندسي للسورة الكريمة، من حيث علاقة موضوعاتها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ مِنْ آيٰاتِهِ : اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ أَوْ
ص: 222
يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِنٰا مٰا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ .
يتضمن هذا مقطع عرضا لظواهر الإبداع الكوني و تسخيره للإنسان، حيث جاء في سياق الحديث عن جملة من الظواهر التي تحدّثنا عنها و أوضحنا مدي صلتها بهيكل السورة الكريمة، أما الآن فنتحدّث عن العنصر (الصوري) منها، حيث يتمثل في التشبيه القائل وَ مِنْ آيٰاتِهِ : اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ وحيث يتمثل في الاستعارة أو الرمز القائل إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ .
أما «التشبيه» فإنه يتناول تشبيه (السفن) في البرّ بالجبال في البحر...
طبيعيا، إن السفن هي صنع الإنسان الذي وهبه الله تعالى قابلية على الصنع، لذلك فإن تشبيه «السفن» - و هي من صنع الإنسان (أو صنع الله تعالى بنحو غير مباشر) أو (بالواسطة) - بما هي صنع مباشر (الجبال)، يظلّ نمطا من التشبيه الفني الذي يستجرنا إلى التساؤل عن سرّه، أي: لو أنّ البحر مثلا (و هو صنع الله تعالى مباشرة) شبّه أو استعير له أو رمز له أو مثلّ له بالجبال أو غيرها من الظواهر التي تنشأ فيما بينها علاقات تشابه لغرض خاص، حينئذ يمكن أن نفسّر ذلك بوضوح، لكن عندما يشبّه ما هو «صنع غير مباشر» مثل (السفن) بما هو مباشر مثل (الجبال)، حينئذ لا بدّ من وجود سرّ فنّي يستهدفه النص في هذا التشبيه...
في تصوّرنا أنّ هناك أكثر من سرّ فنّي في مثل هذا التشبيه، فهناك أوّلا مؤشّر إلى أن (ما هو صنع الله تعالى مباشرة) هو السبب وراء هذا التشبيه، حيث ذكر المقطع في الآية الثانية التي تتضمّن (استعارة) هي: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ ، أي (تحرّك) الرياح، هو السبب في جرى السفن، واللّه تعالى هو المبدع لها مباشرة... يترتّب على ذلك ثانيا: أنّ النص
ص: 223
يستهدف الإشارة إلى أنّ ما يصنعه الإنسان لتيسير مصالحه يظل مرتبطا بقوي اللّه تعالى وحده، مما يعني أنّ الإنسان لا يمتلك قوي ذاتية منعزلة عن قوي الله تعالى... و هذه دلالة ذات مغزي كبير يستهدف النص لفت النظر إليه حتى يدرك الإنسان أن كلّ ما يدور حوله إنما هومن عطاء الله تعالى - كما هو واضح... أما «التشبيه» نفسه، فينطوي - فضلا عن إشارته إلى عطاء ألله تعالى - على ظاهرة (جمالية) تتصل بحاجته إلى ما هو (جميل) من المرائي، فهو عندما يشبّه (السفن) «بالجبال» إنما يلفت الحاسة الجمالية إلى (المرأى) الجميل لكل من الجبال في البر، والسفن في البحر. و مع أنّ الجبال تبدو (وكأنها ثابتة من حيث البصر)، و (السفن) تبدو متحرّكة، إلاّ أنّ أوجه الشبه تتمثّل (ليس في الحركة أو الثبات) بالرغم من أنّ الحركة غير المرئية متحققة في الطرف الآخر، بيد أن المهم في أي تشبيه ليس هو تطابق الطرفين، بل انتخاب ظاهرة (مشتركة) ذات إثارة، وهذا ما يتمثل في: (تجسيم السفن والجبال. من حيث ارتفاعهما عن سطح البحر والبرّ) حيث يمثّلان مرأي جماليا ملحوظا: كما هو واضح... مضافا لذلك، فإن كلا منهما (أي السفن والجبال) ينطويان على فائدة مسخّرة لصالح الإنسان، أما «السفن» ففائدتها من الوضوح بمكان، وأمّا الجبال فلأنها تمسك الأرض، بحيث تترتّب على هذه الفائدة حرية التحرّك في البر، مقابل فائدة السفن التي تجسّد حرية التحرّك في البحر...
إذن، ثمة أسرار فنية متنوّعة واكبت «التشبيه» المتقدّم... وأما الاستعارة - وهي الآية التي تشير إلى أن اللّه تعالى لو شاء لأسكن الريح بحيث تظل السفن رواكد على ظهر البحر، فتتضمّن بدورها: أسرار فنية متنوّعة، منها. نفس العلاقة الاستعارية التي تتمثّل في «إعارة» الظهر - وهو ظاهرة - جسمية، فيما خلعها على البحر، هذه العلاقة أو الإعارة تنطوي على سرّ فني مثير و طريف وممتع، حيث أنّ «الظهر» هو العضو الجسمي الذي يحمل الشيء
ص: 224
أو يحمل عليه الشيء من أجل نقله إلى الجهة التي يستهدفها الحامل، فإذا فقدت القوي المحرّكة: انتفي النقل و تعطّلت الفائدة من الحمل، وحينئذ لا قيمة البتّة لصنع الإنسان السفن: ما دام لم يمتلك القوي المحرّكة للسفن، و هذا ما تستهدفه «الاستعارة» المذكورة التي جاءت توظيفا لإنارة الفكرة القائلة بأنّ الله تعالى هو الذي سخّر الظواهر الكونية لصالح الإنسان...
و يلاحظ أيضا أنّ النص: عرض بعد ذلك هذه الصورة الثالثة: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا أي: أو يدمّرهنّ : و يعني بذلك: تدمير السفن، حيث نستخلص من هذه العبارة (و هذا واحد من أسرار الفن القائم على الاقتصاد اللغوي) أنّ الله تعالى إذا شاء أن يجعل الرّيح عاصفة - مقابل جعله إياها ساكنة - حينئذ فإنّ السفن تتحطّم في البحر، فبسكون الريح تتعطّل عملية النقل و بهبوبها قوية:
تتحطّم عملية النقل هذا التقابل بين المعطيين: عدم إسكان الريح مقابل عدم جعلها عاصفة، يضفي بعدا جماليا جديدا على الصور الفنية الثلاث:
(السفن و تشبيهها بالجبال، و عدم ركودها على ظهر البحر وعدم تحطيمها)... وقد ربط هذا المقطع بين تدمير السفن و بين الذنوب التي يمارسها الإنسان، حيث كان مفهوم الذنب و التوبة و الدعاء: موضوعات تناولتها المقاطع السابقة من السورة الكريمة، مما يكشف مثل هذا الربط الفني: عن مدي الإحكام الهندسي للنص من حيث علاقة موضوعاته بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: فَمٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ ، وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ، وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ ، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
ص: 225
وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا، فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ ، إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ، فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ ، وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ : أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ: إِنَّ ذٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ .
هذا المقطع من سورة الشوري، يتمحّض للحديث عن سمات نفسية و اجتماعية للشخصية المؤمنة.. طبيعيا هناك قوائم بسمات السلوك التي تستقطب الشخصية، بيد أنّ النص القرآني الكريم لا يحصر هذه القوائم في نصّ محدّد بل يوزّعها في سور متنوّعة... يجيء كل مجموعة منها في سياق خاص يتناسب مع الهيكل الفكري للسورة الكريمة... والسورة التي ورد فيها هذا المقطع: كانت تتحدث - في مقطع أسبق - عن ظواهر الإبداع الكوني، ومنها.
تسخير البحر الحركة السفن، حيث عقّب عليها النصّ بقوله: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ . وهذا يعني أنّ (الصبر) و (الشكر) قد استهدف النصّ . التأكيد عليهما في هذه السورة، فما يمكن أن نفسّر في ضوء ذلك: هذه الموضوعات التي تضمنها المقطع الحاليّ الذي نتحدث عنه، حيث جاءت ظاهرة (الصبر) هي المحور الفكري الذي تقوم عليه سمات الشخصية المؤمنة التي عدّدها أولا بهذا النحو، وهي: التوكّل على الله تعالى، اجتناب كبائر الإثم و الفواحش، التجاوز عن الآخرين عند الغضب، الاستجابة إلى الله تعالى، إقامة الصلاة، التشاور مع الآخرين، مساعدة الآخرين ماليا، العفو، الصبر على أذي الآخرين... فالملاحظ هنا، أنّ الصبر على الأذي، والعفو، و التجاوز عن الآخرين، هي. أكثر الصفات المذكورة عددا، فيما نستشف منها: التأكيد على ظاهرة (الصبر) حيث ختم المقطع بقوله تعالى عن الصبر:
إِنَّ ذٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ أي: أعلى ما يمكن تصوّره من السلوك المطلوب، حيث لا يتوفّر ذلك إلاّ للأفذاذ و المتميزين من البشر... و السر في ذلك: من الوضوح بمكان، لبداهة أن «الصبر» هو. أن يؤجّل الإنسان شهواته: مادية
ص: 226
كانت أم معنوية، بحيث يسيطر عليها و لا يسمح لها بالبروز إلى خارج النفس...
بعد ذلك، يتحدّث النص عن اليوم الآخر، رابطا بين الشخصية المؤمنة التي تطبعها السمات المذكورة وبين الشخصية المنحرفة التي تتساءل (عندما يحين الحساب) قائلة. هَلْ إِلىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أي: هل إلى الرجوع إلى الدنيا من سبيل، حتى يتاح لها أن تلتزم بمبادىء الله تعالى..؟ ثم يصف المقطع أمثال هؤلاء المنحرفين بقوله تعالى: وَ تَرٰاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا، خٰاشِعِينَ مِنَ اَلذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ، وَ قٰالَ اَلَّذِينَ آمَنُوا: إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ .. .
هنا يتعين علينا أن نقف عند السّمات الفنية لهذا المقطع الذي يعرض لنا بيئة اليوم الآخر: بالنسبة إلى ردود الفعل التي يصدر المنحرفون عنها، و الحوارات التي تنقل لنا كلام المنحرفين، و التعليق الذي يسوقه المؤمنون حيال المنحرفين، حيث نواجه خلال هذه الحوارات و عرض المواقف:
مجموعة من الصور (الاستعارية)، و (الرمزية) من نحو «خٰاشِعِينَ مِنَ اَلذُّلِّ » و «يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ » فيما تنطوي على أسرار فنية ذات إثارة: دون أدني شك...
أما «الاستعارة» وهي (خٰاشِعِينَ مِنَ اَلذُّلِّ ) فتعني: الخضوع و الانكسار من الذل، حيث تعبّر عن أشدّ حالات اليأس، وأما الرمز و هو (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) فهو تجسيد لقمة اليأس و الانكسار و التردّي، فالنظر من طرف خفيّ ، يرمز إلى حالة داخلية تنعكس على المظهر الخارجي و هو: النظر الذي يتحرّك بخفاء: من حيث امتداد البصر إلى رؤية النار من جانب، و الإحساس بالذلّ و الهوان أمام الآخرين. من جانب آخر، فينكسر النظر بالضرورة، حيث يتجانس مظهر (خفاء النظر) مع خفاء الأعماق و الأحاسيس التي لا تجد لها
ص: 227
منفذا إلاّ من خلال الانكسار المذكور..
إذن، جاءت الصور الفنية (الاستعارة و الرمز) عنصرا يتجانس مع الحالة الداخلية للمنحرفين من جانب، و جاءت متجانسة مع الهيكل الفكري للنص القرآني من جانب آخر، حيث كان النص يتحدّث عن متاع الدنيا مقابل العطاء الأخروي، و ها هو يعكس الآن: نتائج المتاع الدنيوي على المصير الأخروي للمنحرفين، حيث جعل المؤمنين (و هم ممن نبذ متاع الدنيا) يعلّقون على مصير المنحرفين بقولهم إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ : اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ حيث يجيء هذا التعليق (على لسان المؤمنين) تجسيدا أشدّ حيويّة للتعبير عن انعكاسات السلوك الدنيوي على الآخرة، فيما يفصح مثل هذا الانعكاس بين الدنيا و الآخرة، عن مدي إحكام لنص من حيث علاقة أجزائه. بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ ، وَ إِنّٰا إِذٰا أَذَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً فَرِحَ بِهٰا، وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَإِنَّ اَلْإِنْسٰانَ كَفُورٌ... .
بهذا المقطع وما بعده تنتهي سورة الشوري التي طرحت جملة من الموضوعات في المقدّمة، حيث جاء وسط السورة و آخرها: مفصّلا ما أجملته المقدّمة...
و من جملة ما طرحته المقدّمة هو: أنّ المبلّغ الإسلامي ليس مسؤولا عن هداية المنحرفين بل الله تعالى هو المتكفل بذلك، قالت المقدّمة: اَللّٰهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ، وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ... وها هي نهاية السورة، تقول أيضا: فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ وهذا يعني أنّ النص القرآني
ص: 228
الكريم قد ارتبط أوّله بآخره من حيث البناء الفنّي للموضوعات... وهذا ما نستهدف التأكيد عليه - بطبيعة الحال... بيد أن المهمّ هو أن نوضّح مستويات هذا البناء الفنّي، وفي مقدمة ذلك: ملاحظة السياق الذي ورد فيه كلّ من الموضوعين المتكرّرين المشار إليهما.
مقدمة السورة كانت تتحدّث عن المشركين... أمّا خاتمتها فتتحدّث عن مطلق المنحرفين الذين أنذرتهم بالقول: اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ ... ، حيث كانت المقاطع التي سبقتها تتحدّث عن أهوال اليوم الآخر...
وهذا يعني أنّ قوله تعالى في المقدمة وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ جاء في سياق يختلف كل الاختلاف عن السياق الجديد الذي نتحدّث عنه... حيث تنامي الموضوع الأول (مفهوم الشرك)، وتطوّر إلى مختلف أشكال الانحراف، و ترتّب عليه الجزاء الأخروي، ثم جاء المقطع لينبّه المنحرفين أو مطلق الناس إلى اليوم الآخر الذي تحدّث المقطع الأسبق عنه...
خلال ذلك، نواجه موضوعات أخرى طرحتها السورة الكريمة، مثل قوله تعالى. وَ إِنّٰا إِذٰا أَذَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً فَرِحَ بِهٰا، وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَإِنَّ اَلْإِنْسٰانَ كَفُورٌ ، هذا الموضوع، مرتبط أيضا بموضوع أسبق يقول - وهو يعدّد نعم اللّه تعالى: «ومنها» تسخير البحر للسفن، - أو يوبقهنّ - أي يدمّر السفن - بما كسبوا، و يعفوا عن كثير)، حيث.، أشار إلى أنّ بمقدور اللّه تعالى أن يجعل الرياح عاتية بحيث تتحطّم السفن بسبب ذلك.، وهذا في حالة المعصية، ومعني هذا: أنّ السيئات التي تصيب الإنسان إنما هي بسبب من معصيته، وهذا ما بلورته وأوضحته خاتمة السورة حينما فصّلت الحديث عن ردود الفعل التي يصدر عنها الإنسان حينما تصيب السيئة والحسنة، أمّا السيّئة فإنّها تقتاده إلى أن يكفر بنعم الله تعالى، وأمّا الحسنة
ص: 229
فتقتاده إلى البطر و المرح و سائر أشكال السلوك المترف الذي يجعل صاحبه:
(غافلا) عن المهمة العبادية للإنسان..
كذلك، نلحظ موضوعا ثالثا جاء في نهاية السورة، هو: وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ . هذا الموضوع (أي: الوحي) قد استهلت به السورة الكريمة كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فالوحي له و لمن قبله - حيث أجملته البداية بهذا النحو، جاءت الآن: الخاتمة السورة، لتفصّل لطريقة التعامل حيث أشارت إلى أشكاله الثلاثة (الكلام وحيا، من وراء حجاب، إرسال رسول)...
طبيعيّا، أنّ النص القرآني الكريم، يستهدف بالنسبة إلى المتلقّي توصيل حقائق عبادية و علمية أيضا، أي تقديم ما هو مطالب بالتزامه، و تقديم ما ينفعه علميا من حقائق الوجود... كل ما في الأمر أنّ تقديم هذه الحقائق:
بنمطها، يتم وفق طريقة فنية تتلاحم من خلالها الموضوعات: بعضها مع الآخر، من حيث التفصيل لما هو «مجمل»، و من حيث تطوير و إنماء الفكرة التي تبدأ في مقدمة السورة بشكل بسيط، ثم تتعقّد و تتطوّر إلى ما هو مكتمل الصورة، مما يكشف مثل هذا البناء للموضوعات: عن مدي الإحكام الفنّي للنص، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
ص: 230
ص: 231
ص: 232
قال تعالى: حم وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ وَ كَمْ أَرْسَلْنٰا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنٰا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضىٰ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ .
هذا هو المقطع الأول الذي افتتحت به سورة الزخرف».. وقد طرحت في هذا المقطع: ظاهرة عبادية هي قوله في أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ... هذه الظاهرة ستكون هي المحور الذي تلتقي عنده أفكار السورة الكريمة، ما دامت قد استهلّت السورة بها أو ما دامت قد انتظمتها (المقدّمة) التي تشكّل في كل سورة (محورا) لأفكارها..
و إذا تركنا هذا الجانب المتّصل بعمارة السورة و هيكلها الهندسي الذي تقوم عليه حينئذ ينبغي أن نقف عند نفس الظاهرة المشار إليها: لنتبين دلالاتها... تقول هذه الفكرة: إنّ الانحراف الذي يطبع الناس لا يستتلي التوقّف عن إرسال سال الحجة عليهم و هي نزول القرآن و تبيين مباديء الله تعالى.. بمعني أنّ هناك مهمة عبادية موكولة إلى الناس: بغضّ النظر عن التزامهم بالمهمة المذكورة أو عدم التزامهم بذلك...
طبيعيا، إنّ هذه الفكرة هي الأساس الذي تقوم عليها تجربة الحياة البشرية، ومن ثمّ فإنّ أهميتها تظل من الوضوح بمكان كبير فيما ينبغي أن نقف عند مفردات هذا الجانب وكيفية معالجة النص القرآني الكريم للموضوعات المرتبطة بها.
لكن قبل ذلك ينبغي أن نقف عند العنصر (الصوري) الذي تضمّنته الآية
ص: 233
المذكورة أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ لقد تضمّنت هذه الآية صورة فنّية هي أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أي هي (رمز) أو (كناية) عن التخلّي عن الأمر أو الإعراض عنه... و هذا ما يتّصل بالقول أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً .. - بيد أنّ الآية الكريمة أوردت عبارة (اَلذِّكْرَ) أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً ... فما هو المقصود من (اَلذِّكْرَ) هنا؟؟
النصوص المفسّرة تتراوح بين الذهاب إلى أنّ المقصود منه هو «القرآن الكريم» أو ما يتّصل بمطلق المباديء التي صاغها الله تعالى و بين الذهاب إلى أن المقصود منه هو (العذاب)، فيكون التساؤل هو: هل يخيل إليكم أنّ اللّه تعالى سوف لن يعذّبكم على إسرافكم ؟... أنّ كلا من التفسيرين محتمل، فنيا... فالتفسير الأول يساعد عليه سياق المقطع. حيث أردف النصّ عبارته المذكورة بقوله تعالى: وَ كَمْ أَرْسَلْنٰا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ حيث أنّ إرسال الأنبياء يتناسق مع ذهاب الآية إلى أنّه لن يترك الناس المجرّد إسرافهم بل لا بدّ من نزول الرسالات، كما أنّ التفسير الآخر: يساعد عليه سياق المقطع أيضا حيث يقول النصّ بعد ذلك في فَأَهْلَكْنٰا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، فالإهلاك هو العقاب الدنيوي مما يتناسق مع التساؤل: أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً . لكن، تظل الدلالة الأولى (و هي: القرآن أو مباديء الله تعالى بعامة) أقرب إلى سياق السورة الكريمة كما سنلحظ ذلك لاحقا...
المهم، أنّ السورة الكريمة تخاطب المجتمع المعاصر لمحمّد (ص) و تصفه بالإسراف أو الكفر... لكن بما أنّ الإسراف يعني. بلوغ الظلم أكثر من الحدّ: فحينئذ نستخلص بأنّ هذا المجتمع المنحرف لم يكتف بمجرد الرفض لرسالة الإسلام بل (أسرف) في موقفه المنحرف... أمّا ما هو نوع هذا الإسراف، فأمر يذكره النص تصريحا بل سلك منحي فنيا جعلنا - نحن القرّاء - نستخلص بأنّ هؤلاء المنحرفين قد استهزأوا بالرسالة: بدليل قوله
ص: 234
تعالى بعد ذلك: وَ كَمْ أَرْسَلْنٰا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ إنّ هذا المنحي الفني في التعبير يعتمد على (الاقتصاد اللغوي)، فبدلا من أن يكرّر القول بأنّ المعاصرين لرسالة الإسلام قد استهزأوا بذلك:
اكتفي بأن يذكر المجتمعات البائدة و موقفهم من رسالات السماء حينئذ، حتى يستخلص القاريء بنفسه أنّ معاصري رسالة الإسلام قد طبعهم نفس السلوك المنحرف.. و المهم - بعد ذلك - أنّ النص القرآني الكريم: طرح في هذا المقطع فكرة رئيسة هي أنّ إصرار الفاسق على فسقه لا يستدعي إيقاف الرسالة بل لا بدّ من تمرير التجربة العبادية على الإنسان، كما أوضح المقطع جانبا من سلوك المنحرفين وما يترتب عليه من العقاب: رابطا بين هذه الجانب وبين فكرة السورة، بنحو يفصح عن تلاحم الموضوعات بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ :
خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ . اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهٰا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ، فَأَنْشَرْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوٰاجَ كُلَّهٰا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعٰامِ مٰا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا: سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا، وَ مٰا كُنّٰا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا لَمُنْقَلِبُونَ .
هذا المقطع من سورة الزخرف يتناول معطيات أللّه الإبداعية في غمرة حديثه عن المنحرفين الذين أسرفوا في انحرافاتهم... إلاّ أنّ الملاحظ، أنّ هذا المقطع - وهو يتحدث عن الظواهر الإبداعية - لم يوجه الخطاب إلى المنحرفين فحسب بل اتّجه بالخطاب إلى مطلق الناس: كافرهم و مؤمنهم، مستهدفا من ذلك إمكانية أن يعدّل الكافر من سلوكه وإمكانية أن يزداد المؤمن
ص: 235
في يقينه بالله تعالى...
وأول ما يطرحه النص في هذا الصدد هو: إجراء حوار بين محمد (ص) وبين المنحرفين وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ . مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ :
خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ ... وأهمية هذا الحوار تتمثّل في تقرير حقيقة عامة هي: أنّ المنحرف يقرّ بأنّ اللّه تعالى هو المبدع للسماوات والأرض،.. و هذا يعني أنّ التركيبة البشرية قائمة على فطرة (توحيد اللّه تعالى)، و أنّ الانحراف عن هذه الحقيقة إن هي إلاّ مكابرة من الكافرين لا غير.
وأما الأهمية (الفنيّة) للحوار المذكور فتتمثّل في أن النص القرآني الكريم قد جعل تقرير هذه الحقيقة (وهي حقيقة التوحيد) قائما على لسان الكافرين أنفسهم: حتى يحقق عنصر الإقناع الفني لدى القاريء، وإلّا كان بمقدور النص أن يقرّر هذه الحقيقة بدون أن يجري ذلك على ألسنة الكافرين...
إذن، أمكننا أن ندرك جانبا من الأسرار الفكرية و الفنية لعنصر الحوار المذكور.
بعد ذلك، تحدّث النص عن الظواهر الإبداعية الأخرى، إلاّ أنّه قرن ذلك بما تنطوي عليه هذه الظواهر من معطيات قد سخّرها اللّه تعالى للإنسان ذاته... وقد قرّر النصّ هذه الحقيقة من خلال عنصر (الحوار) أيضا حيث قال: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا: سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا . فالملاحظ هنا، أنّ النص أوحي إلى الإنسان أن يذكر نعمة أللّه وأن يتحاور مع نفسه قائلا: سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا . وهذا الحوار يختلف عن سابقه بأنّه يجري أوّلا على لسان المؤمن، وبكونه - ثانيا - (حوارا داخليّا) و ليس حوارا خارجيا يجري بين طرفين (محمد (ص) و الكافرين)...
طبيعيّا، ثمة مسوّغ فنّي لمثل هذا (الحوار الداخلي) بالقياس إلى الحوار السابق، فالحوار الخارجي فرضه موقف المناقشة والاحتجاج، ولا بدّ حينئذ
ص: 236
من وجود طرفين يتناقشان ويتحاجان... أما التذكّر لنعمة الله تعالى فأمر يحياه الإنسان مع نفسه حيث انّ المؤمن وهو يلحظ كيفية جعل الأرض مهدا، وجعل السبل فيها، ونزول المطر عليها، وتسخير الفلك والأنعام من خلالها... كل أولئك عندما يلحظه المؤمن، حينئذ لا بدّ أن يشكر للّه تعالى معطياته المشار إليها، وأن يهتف في قرارة نفسه قائلا. سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا ..
إذن، المسوغات الفنية للحوار الداخلي الذي أجراه النص على لسان المؤمنين مقابل الحوار الخارجي الذي أجري على لسان الكافرين: قد اتّضح جانب من أسرارهما الفنية... لكن. ينبغي أن نقف بعد هذا على البناء الفنّي لهذا المقطع من حيث صلته بفكرة السورة الكريمة التي تحدّثت عن الكافرين... فماذا نجد؟ نجد أولا أن المقطع القرآني الكريم حينما تحدّث عن نعمة المطر وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً قد عقب على ذلك بفقرة تقول كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ أي: ربط النص بين إحياء الأرض بواسطة المطر، وبين إحياء الموتي في اليوم الآخر... وبهذا يكون النص قد وصل فنيا بين سلوك الكافرين المشكك باليوم الآخر وبين هذه المعطيات التي سردها... تم نجد ثانيا أنّ المقطع قد علق على قوله تعالى. وَ تَقُولُوا:
سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا علّق على ذلك بقوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا لَمُنْقَلِبُونَ حيث وصل أيضا بين معطيات الله تعالى وبين كون الإنسان ينقلب أخيرا إلى اللّه تعالى، أي: يرجع إلى اللّه تعالى في اليوم الآخر... وهكذا يكون المقطع بهذا الوصل الفنّي بين معطيات الله تعالى وبين الإيمان باليوم الآخر. قد ربط بين موضوعات السورة والفكرة التي تحوم عليها، مفصحا بذلك عن مدي إحكام النص و تلاحم موضوعاته بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 237
قال تعالى: وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبٰادِهِ جُزْءاً، إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اِتَّخَذَ مِمّٰا يَخْلُقُ بَنٰاتٍ وَ أَصْفٰاكُمْ بِالْبَنِينَ وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَ جَعَلُوا اَلْمَلاٰئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ إِنٰاثاً، أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهٰادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ ... .
في هذا المقطع من سورة الزخرف: يتناول النصّ القرآني الكريم جانبا آخر من سلوك المنحرفين وهو. تصوّرهم الهزيل عن الملائكة و الإناث وصلتهما بالله تعالى... بيد أنّ النص طرح خلال ذلك اكثر من ظاهرة عبادية، منها قوله تعالى:
وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ . ففي هذا الطرح ظواهر فنية و فكرية ينبغي الوقوف عندها...
الظاهرة الأولى هي ظاهرة فكرية تتّصل بالتعامل مع الأنثى... فقد استثمر النصّ : هزال الفكر الذي يصدر عنه الجاهليون بالنسبة للانوثة، فعرض واحدة من الأعراف والعادات الجاهلية التي ترتبط برد الفعل الذي تحدثه ولادة البنت عند المنحرفين، فقال: وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ . ففي هذه الآية (رمز) و (استعارة) أي: أنّها تتضمن صورتين فنّيتين هما: الرمز والاستعارة، أما (الرمز) فيتمثّل في عبارة وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً حيث تجسّد فقرة بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً ما يصطلح عليه (في اللغة البلاغية القديمة): «الكناية» أو ما نطلق عليه مصطلح (الرمز) حيث ترمز الفقرة إلى (ولادة البنت) كما هو واضح: و أما الاستعارة فتتمثّل في فقرة ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ... حيث أكسب الوجه صفة شيء آخر و هو (السواد): تعبيرا عن الهم و التوتّر والتمزّق الذي يصيب
ص: 238
الشخص حينما يبشر بولادة ابنة له...
طبيعيّا، لا تعليق على أمثلة هذا الردّ من الفعل بالنسبة لولادتها، إذ يفصح ذلك عن مدي انغلاق الذهن لدى الجاهليين حيال الأنثى، بحيث يغيب عن ذهنهم أنّ استمرارية النسل البشري تتوقّف على طرفين: ذكر و أنثى، و لا يمكن أن يستغني عن أحدهما البتّة، وحينئذ هل هناك مسكة من العقل يمتلكها أمثال هؤلاء الجاهليين حينما يتعاملون مع ولادة الابنة بهذا النحو من التعامل الذي - لو رتّب أثر عليه - لا تتقطع النسل البشري...
إذن، حينما قدّم النصّ هذه الصورة الاستعارية و الرمزية إنّما سلك منحي فنيّا غير مباشر ليدلل على مدي انغلاق الفكر لدى المنحرفين عن مباديء السماء...
وهناك صورة فنية ثالثة تنتسب إلى (الرمز) قد قدّمها النص ليدلل بها على الهزال الفكري و انغلاقه لدى الجاهليين، ألا وهي صورة أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ حيث تجسّد هذه الصورة (رمزا) أو (كناية) عن المرأة التي لا تملك مقدرة تعبيرية في الخصام والمناقشة، فبدلا من أن يشير إلى (المرأة) مباشرة، (رمز) لها ب (النشأة في الحلية) بصفة أنّ الاهتمام بالزينة وبالحلية هو من سمات المرأة: كما هو واضح، و ذلك قبالة السمة الفكرية التي تفتقر إليها المرأة و هي: التمكّن من المناقشة والمجادلة، وهذا يعني أنّ النص قد أضاف عنصرا صوريّا آخر هو (الصورة الاستدلالية، مضافا إلى الصورة (الرمزية) أو (الكنائية)، حيث استدل بهذه الصورة على عدم إمكانية من ينشأ في الحلية: على أن يمارس عمليات فكرية...
بعد ذلك، يتّجه النصّ القرآني الكريم إلى عرض الحجج التي يقدّمها هؤلاء المنحرفون: لتسويغ سلوكهم المشار إليه، و منها: أنّهم مقلّدون لآبائهم، ثم يربط النص بين هذا التسويغ و بين الامم البائدة التي تصدر عن
ص: 239
نفس هذا السلوك، ملوّحا بالجزاء الذي لحق البائدين، رابطا بذلك بين بداية السورة التي تحوم على إبراز السلوك المنحرف لدى هؤلاء، وبين جوانب جديدة من انحرافاتهم، فيما يكشف مثل هذا الربط عن الإحكام الهندسي للنص من حيث صلة موضوعاته بعضا بالآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ : إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هٰؤُلاٰءِ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ وَ لَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ قٰالُوا: هٰذٰا سِحْرٌ وَ إِنّٰا بِهِ كٰافِرُونَ .
في هذا المقطع من سورة الزخرف (حكاية) أو أقصوصة عن إبراهيم عليه السلام لم تتجاوز عرض جانب من سلوكه حيال أبيه و مجتمعه المنحرف، حيث أبرز المقطع حوار إبراهيم وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ :: إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ .
ثم علّق المقطع على هذا الحوار قائلا:: وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . ثم ربط بين هذه الحكاية أو الأقصوصة و بين المشركين المعاصرين لرسالة الإسلام، موضحا بأنّ هؤلاء قد متّعهم الله في الدنيا حتى جاءهم محمد (ص) فاتّهموه بالسّحر، و كفروا بالرسالة...
و السؤال هو: ما هو الموقع الفنّي لهذه الأقصوصة من عمارة السورة الكريمة ؟ لقد طرحت السورة منذ مقدّمتها، موضوعات تتصل بسخرية المنحرفين من رسالات السماء، و بكونهم جعلوا للّه تعالى شركاء، و بكونهم مقتدين بآبائهم في هذا السلوك، ثم - برغم ذلك كلّه - كانوا إذا سئلوا: مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ ...
ص: 240
إنّ تسليمهم بحقيقة أنّ الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، يظل على صلة بهذه الأقصوصة التي تبرز مفهوم الخلق للإنسان...
لنستمع من جديد إلى قول إبراهيم: إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فالقوم ما داموا يقرّون بأنّ الله - خلق السماوات و الأرض، حينئذ فإنّ أقصوصة إبراهيم تستدل بعملية (الخلق) التي يقرونها، تستدل بذلك على (توحيد اللّه تعالى) والبراءة مما يعبد هؤلاء القوم، و حينئذ يكون الاستدلال على بطلان الشرك من خلال تسليمهم بخلق اللّه تعالى متجانسا - فنيّا - مع طبيعة، الموضوعات المطروحة في السورة الكريمة: حيث تشكّل الأقصوصة ردّا فنيا غير مباشر على ادّعاءات المنحرفين، وهذا ما يفسّر لنا جانبا من الأسرار الفنية لهذه الأقصوصة وصلتها بعمارة السورة الكريمة...
والواقع أنّ هناك وظيفة فنية لأقصوصة إبراهيم - مضافا لما أشرنا إليه من الوظائف - هي قضية التقليد للآباء، فهؤلاء المشككون برسالة الإسلام أصرّوا على أنّهم مقلّدون لآبائهم (إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ لمهتدون)، لذلك عندما يستشهد النص بأقصوصة إبراهيم دون غيره من الأنبياء: فلأنّ إبراهيم عليه السلام انفرد من بينهم بكونه كان وحده (امّة) قبالة مجتمعه الكافر، و يكون (أبيه) واحدا من كبار الوثنيين، و مع ذلك لم يقلّد أباه بل سار وفق الفطرة التوحيدية التي فطر اللّه الخلق عليها... حينئذ يمكننا أن نفسّر السرّ الفني من وراء إبراز الأقصوصة لحواره مع أبيه وقومه وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ حيث أنّ إبراز الحوار مع الأب ينطوي على ردّ غير مباشر على هؤلاء المقلّدين لآبائهم...
إذن، أمكننا أن ندرك جملة من الأسرار الفنية وراء صياغة هذه الأقصوصة: من حيث موقعها العضوي من عمارة السورة الكريمة، مضافا لكون النص نفسه قد وصل بينها وبين موضوعات السورة حينما قال بعدها:
ص: 241
بَلْ مَتَّعْتُ هٰؤُلاٰءِ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ وَ لَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ قٰالُوا: هٰذٰا سِحْرٌ وَ إِنّٰا بِهِ كٰافِرُونَ ، ويكون النصّ بهذا الوصل بين الأقصوصة و بين المشككين برسالة الإسلام، قد أحكم عمارة السورة الكريمة من حيث تلاحم و تواشج موضوعاتها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
بعد هذه القصة يواصل النص رسمه لسلوك المشككين برسالة الاسلام، فينقل لنا شريحة جديدة من العقليات المتخلفة لديهم، حيث: قٰالُوا: لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ و حيث عقّب المرض: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا... الخ... في هذه الشريحة و ما بعدها، نلاحظ ان النص طرح خلال ذلك مجموعة من الأفكار، منها: الكشف اولا عن عقلية المنحرفين حيث خيل إليهم ان النبوة ينبغي أن توكل إلى شخصية اجتماعية متميزة، فيما أجابهم النص بأن الموقع الاجتماعي و الاقتصادي و نحوهما ليس معيارا في انتخاب النبوة، و ان الله تعالى فضل البعض على البعض الآخر لتحقيق التوازن الاجتماعي حيث يحتاج أحدهم الآخر: طبقا لمتطلبات الحكمة كما طرح النص بعد ذلك: مبدأ اجتماعيا هو: ان الله تعالى لو كان يقيم للمنحرفين لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ . وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰاباً وَ سُرُراً عَلَيْهٰا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً... و لكن إِنْ كُلُّ ذٰلِكَ لَمّٰا مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ...، بهذا الرسم يكون النص قد ربط بين رسمه لمواقف المنحرفين و بين ابراز حقائق عبادية و اجتماعية تتصل بموقف الله تعالى من المنحرفين دنيويا، و بتوازن المجتمعات من حيث مستوياتهم الاجتماعية و الاقتصادية... الخ.
بعد ذلك يتقدم النص بمجموعة من المواقف المتصلة بتعامل النبيّ (ص) مع المنحرفين، حاثّا إياه على ان يستمسك بالذي أوحي إليه، بالرغم من مواجهته لإسراف المشككين، و بهذا يربط النص بين المحور الفكري الذي رسمته المقدمة من ان الانحراف لا يستتلي التوقف عن إرسال الحجة اليهم، و هي الفقرة
ص: 242
القائلة في مقدمة السورة أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ، وبين الموقف الذي يواجهه النبيّ (ص مع قومه...
خلال ذلك يطرح النص مبدأ في غاية الأهمية و هو وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . هذا المبدأ العام بنسحب - بطبيعة الحال - على البشرية جميعا ممن يعزف عن مباديء الله تعالى...
أيضا: يتقدم النص بحكايته أو أقصوصته عن فرعون وقومه ليربط بين المنحرفين المعاصرين لرسالة الاسلام و بين المنحرفين الغابرين من حيث تماثلهم في العقلية المتخلفة و في التمرد على الرسل... بقول النص وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَضْحَكُونَ وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلسّٰاحِرُ... وَ نٰادىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هٰذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاٰ يَكٰادُ يُبِينُ فَلَوْ لاٰ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ...
هنا يتعين علينا ملاحظة هذه الأقصوصة و موقعها العضوي من عمارة السورة الكريمة، حيث تكشف لنا عن التجانس بين عقليات المنحرفين، فكما ان قوم محمد (ص) اعترضوا عليه بأن النبوة لم تنزل عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ كذلك مجتمع فرعون اعترض على موسى بأنه (مهين) اجتماعيا و ليست عليه أسورة الذهب الخ،... و لا نغفل التجانس أيضا بين هذه الإشارة إلى الذهب ومطلق الزخرف و بين الإشارة إليها في مقطع اسبق حيث أوضح النص بأن الله تعالى لو أقام للمنحرفين ورنا لزخرف بيوتهم و سقفهم و أبوابها و سررها الخ...
بعد ذلك يتقدم النص بحكاية أو أقصوصة جديدة تتصل بعيسي (ع)، و موقفه من قومه و اختلافهم حياله، و ردّ الفعل الصادر عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الاسلام حياله أيضا وَ لَمّٰا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذٰا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَ قٰالُوا:
أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ... الخ. و في هذا السياق يسرد لنا النص عقلية المنحرفين حيال آلهتهم، و حيال عيسى (ع) من حيث اتخاذهما (معبودا) عند المشركين و النصاري، أو كونه (ع) كمثل آدم (ع) من غير أب، أو قوله (ص) لعلي (ع) بأن
ص: 243
مثله كمثل عيسى (ع) من حيث احبه قوم و أبغضه قوم إلى حد الإفراط... الخ،..
اولئك جميعا تكشف لنا جانبا من سلوك المنحرفين و انحطاطهم الذهني...
أخيرا: تختتم السورة بجملة من الموضوعات المتصلة بالجزاءات الاخروية للمؤمنين و المنحرفين، و بالرسم لمواقف المنحرفين، و هو رسم جديد يتصل باتخاذهم للرحمن ولدا، و خوضهم و لعبهم في الحياة الدنيا، و اعترافهم بالله تعالى و جحدهم إياه، حيث ختم النصّ ذلك بمخاطبة النبيّ (ص) بأن يصفح عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي ينتظرهم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ... و بهذا امكننا ان نتبين عمارة السورة الكريمة من حيث الصلة بين مقدمتها و وسطها و ختامها، حيث بدأت الحديث عن تعامل محمد (ص) مع قومه، و مخاطبتهم بأن الانحراف لا يستتلي التوقف عن إرسال الحجة على الناس،... ثم بدا (وسط) النص ليقدم اقاصيص و حوادث عن استمرارية إرسال الرسل في المجتمعات المنحرفة، و إسراف بعضها و هداية بعضها الآخر كما ختم النص بالموضوعات المرتبطة بتلكم المجتمعات و مواقفها، حيث كان البعض منها يجسد (تناميا) لما ورد في وسط النص مثل وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ و ما ورد في ختام النص وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ، لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ ثم تعقيب النص عليهم فَأَنّٰى يُؤْفَكُونَ حيث ان مقولتهم التعقيب يشكلان إنحاء عضويا لموقفهم في البدء عندما أثروا بان العزيز الحكيم هو الخالق للكون، ثمّ هو الخالق إياهم، و لكن مع ذلك فلا يزالون منحرفين، مما يستتبع ذلك أن يعقب النص عليهم ب: أَنّٰى يُؤْفَكُونَ ...
و الأمر كذلك بالنسبة إلى التقابل بين المقدمة الملوّحة بالجزاء الدنيوي فَأَهْلَكْنٰا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً و بالختام الملوّح بالجزاء الأخروي فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ... مضافا إلى ما لا حظناه مفصلا في الوسط الذي تناول علاقة المنحرفين برسلهم قد قديما و لرسالة الإسلام، و تواشج الخطوط التي ربطت بين أجزاء النص، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 244
ص: 245
ص: 246
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ حم وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبِّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبٰائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ...
هذه هي مقدمة سورة الدخان. و قد طرح فيها جملة ظواهر تتصل با بالقرآن الكريم و ليلة نزوله (مع ملاحظة ان النصّ قد قرن نزوله بعبارة إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ حيث ستنعكس هذه العبارة على محتويات السورة كما سنري) و ورد فيها أيضا:
الاستدراك القائل بالنسبة إلى المنحرفين من خلال عبارة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ حيث سنري انعكاسها على النص بدورها.
بعد ذلك نتجه إلى وسط النص، فتواجهنا الحكاية الأولى أو الأقصوصة القائلة: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ يَغْشَى اَلنّٰاسَ هٰذٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذٰابَ إِنّٰا مُؤْمِنُونَ أَنّٰى لَهُمُ اَلذِّكْرىٰ وَ قَدْ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قٰالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرىٰ إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ ...
هذه الأقصوصة أو الحكاية، تحتل موقعا هندسيا مهما من عمارة النصّ ، فهي تبدأ بالخطاب القائل [فارتقب] حيث تتكرر في القسم الأخير من النص حينما يهدد المنحرفين بالعقاب الاخروي في الفقرة القائلة فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ و بها يختم النص...
كما أنها تجيء جوابا فنيا مباشرا للمقدمة التي ختمت بعبارة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ حيث تواجههم (و هم الشكاك و اللاعبون) بالجزاء المترتب على انحرافهم متمثلا في حادثة (الدخان) (يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ يَغْشَى اَلنّٰاسَ هٰذٰا عَذٰابٌ ... الخ)،... و بالرغم من ان النصوص التفسيرية تأرجحت بين الذهاب إلى ان المقصود من هذا العذاب (الدخان) الجزاء الدنيوي الذي طال معاصري
ص: 247
الرسالة الإسلامية (أي مجتمع محمد (ص) حيث دعا النبيّ (ص) على قريش فأصابتها المجاعة إلى درجة ان الناس كانوا - كما تقول النصوص المفسرة - يرون ما بينهم و بين السماء كأنّه الدخان... و هناك من يذهب إلى ان المقصود ب (الدخان) هو: احدي آيات العذاب عند أشراط الساعة... بيد ان التفسير الأول هو المنسجم مع وقائع النص لجملة أسباب، منها: ان العذاب المرتقب لا معنى له إذا كان يطال مجتمعا غير مجتمع قريش لأنهم هم المخاطبون، فلا معنى لو تدعه عند أشراط الساعة، مضافا إلى ما قررته الأقصوصة من ان الله تعالى سوف يكشف العذاب عنهم، و لكنهم عائدون إلى انحرافهم، و اتهامهم محمدا (ص) بأنّه معلّم مجنون... و هذا كله ينسحب على مجتمع صدر الاسلام بخاصة ان النص يسرد لنا بعد هذه الأقصوصة، أقصوصة قوم فرعون بقوله تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنّٰا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ... و موقفهم من موسى (ع)، مما يكشف ذلك عن تماثل الموقفين: قوم محمد (ص) و قوم فرعون..
بعد ذلك يتجه النصّ إلى رسم حكاية أو أقصوصة عن مجتمع غابر هو مجتمع فرعون وَ لَقَدْ فَتَنّٰا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ... الخ كما قلنا. و يرسم مصيرهم السلبي... و بذلك يكون النص قد قدّم أقصوصتين: معاصرة و غابرة لتعميق القناعة بمصائر المشككين اللاعبين...
بعد ذلك، يتجه النصّ إلى رسم أقصوصة متفرقة من أقصوصة قوم فرعون، ليقدم نموذجا آخر من الجزاءات الدنيوية، و هي: الجزاءات الإيجابية مقابل الجزاءات السلبية، ليوازن هندسيا بين من يستجيب إلى الرسالة و بين من يتمرد عليها...
و لنقرأ:
ص: 248
قال تعالى: وَ لَقَدْ نَجَّيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كٰانَ عٰالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ آتَيْنٰاهُمْ مِنَ اَلْآيٰاتِ مٰا فِيهِ بَلٰؤُا مُبِينٌ .
هذا المقطع هو الأقصوصة الثالثة من قصص سورة الدخان التي وظفت لإنارة الأفكار الرئيسة فيها و هي أنّ كثيرا من المنحرفين (هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) كما ذكرت مقدمة السورة... وقد جاءت هذه الأقصوصة لتدلل على المعطيات الدنيوية المترتبة على الإيمان برسالات السماء مقابل الأقصوصتين اللتين سبق الحديث عنهما فيما جاء بهما النص ليدلل على الجزاءات السلبية التي تلحق عديمي الإيمان...
إذن - من زاوية البناء الهندسي للسورة - جاءت هذه الأقصوصة بمثابة خط إيجابي مقابل خط سلبي، أي. رسم المصائر الدنيوية للمؤمنين، وهو النجاة، مقابل المصائر الدنيوية للمنحرفين وهو. الهلاك... من هنا قال النص عن الشخوص الذين استجابوا لرسالة موسى وَ لَقَدْ نَجَّيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ ... إلخ.
ومن الواضح أنّ بني إسرائيل يشكّلون أشدّ الخطوط انحرافا في التاريخ:
قديمه وحديثه، وهو ما تكفلت بتوضيحه مفصلا قصص أخرى في نصوص قرآنية متنوعة، لكن: بما أن هذه السورة - سورة الدخان - في صدد تحديد الاستجابات الصادرة عن الناس حيال رسالات السماء، وإلى أنّ البعض منهم يستجيب للرسالات المذكورة. حينئذ انتقي النص من مواقف و حوادث الإسرائيليين ما شكّل - في البدء - موقفا إيجابيا وهم الشخوص القليلون الذين
ص: 249
آمنوا بموسي عليه السلام، و أمّا مواقف الإسرائيليين - بعد ذلك فأمر ليس النص في صدد تحديده الآن، بل - كما قلنا - تتكفل نصوص أخرى بتوضيح ذلك... و لا نستبعد - من الزاوية الفنية - أن نفسّر صمت النص عن متابعة سلوك الإسرائيليين فيما بعد، بأنّ انتقال النص مباشرة - بعد عرضه للإسرائيليين - إلى الحديث عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، بأنّه إيحاء فنّي يدع المتلقي مستوحيا من خلال التداعي الذهني بأنّ الإسرائيليين لم يتعظوا بالماضي أو لم يقدروا معطيات السماء التي أنقذتهم من فرعون بالنحو الذي لم يقدر معاصروا رسالة الإسلام أيضا: معطيات النجاة من (المجاعة) التي أصابتهم، وهي ما تكلفت القصة الأولى برسمه: كما لحظنا...
و أيا كان، فإنّ النص بعد أن عرض لنا ثلاث قصص موظفة لإنارة الأفكار الرئيسة في السورة، وهي كون أن الناس (فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) ... بعد أن عرض ذلك. عاد إلى الفكرة الرئيسة المذكورة ليحدثنا عن نماذج (الشك) و (اللعب) الذي يصدر عنه المنحرفون الذين عاصروا رسالة الإسلام قائلا عنهم:
إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَيَقُولُونَ : إِنْ هِيَ إِلاّٰ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىٰ وَ مٰا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنٰاهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ .
في هذا المقطع يشدّد النص على ظاهرة الانبعاث في اليوم الآخر حيث اختار من سلوك المنحرفين هذه الظاهرة المعبرة عن أحد وجوه (الشك) و (اللعب) (بل هم في شك يلعبون) حيث شكّكوا في ذلك، وحيث ذكّر النص سريعا بمصائر الماضين ممن شكّكوا أيضا...
و هنا ينبغي أن نلفت النظر إلى أن انتخاب هذه المفردة من سلوك المنحرفين (التشكيك) باليوم الآخر: سوف ينعكس فنيا على المقاطع اللاحقة
ص: 250
من السورة حيث تتحدث عن اليوم الآخر و الجزاءات المترتبة عليه بعد أن كانت القصص التي تقدم الحديث عنها تتحدث عن الجزاءات الدنيوية...
للكن، قبل أن يتحدّث النص عن اليوم الآخر. طرح الحقيقة العبادية التي تحمل معنى وجودنا في هذه الأرض وهي قوله وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقٰاتُهُمْ أَجْمَعِينَ .
وهكذا من خلال هذه الطريقة الفنية التي ربط النص خلالها بين تقرير الحقيقة الكونية المفسرة لمعني وجودنا في الأرض و يوم الفصل، من خلال ذلك. اتجه النص إلى رسم الجزاءات الاخروية بعد أن لحظنا أنه مهد بذلك بالحديث عن المنحرفين المشككين بهذا اليوم إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاّٰ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىٰ ... إلخ مع الملاحظ أن رسم الجزاء الأخروي بنمطيه الإيجابي والسلبي قد عقب عليه النص قائلا: فَإِنَّمٰا يَسَّرْنٰاهُ بِلِسٰانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ . وبهذه العبارة التي ختمت بها السورة فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ يربط النص بينها وبين عبارة سابقة جاءت من أوائل السورة فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ حيث كانت العبارة الأخيرة تهديدا بجزاء دنيوي قد حصل فعلا وهو (المجاعة) بينا تفصح العبارة التي حتمت بها السورة عن تهديد أخروي سوف يحصل لاحقا... وبهذا النمط من الوصل بين الجزاءين الدنيوي والأخروي و ما يعكسانه من آثار نفسية في تعميق القناعة، ندرك أهمية ذلك و مساهمته في حمل المتلقي على الإيمان باللّه أو على تعميق إيمانه بالله تعالى، على النحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 251
ص: 252
ص: 253
ص: 254
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ إِنَّ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مٰا يَبُثُّ مِنْ دٰابَّةٍ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيٰاتُ اَللّٰهِ نَتْلُوهٰا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ يُؤْمِنُونَ .
بهذا المقطع تبدأ سورة الجاثية، بحيث نستطيع أن نتبين عمارة السورة الكريمة من خلال هذه المقدمة أو الافتتاحية للسورة، و هي، مقدّمة تركز على آيٰاتُ اَللّٰهِ تعالى أو براهينة أو دلائله التي تظهر للعيان بوضوح، ألا و هي:
إبداع السماء، و الأرض و الإنسان و الدواب، و الليل، و النهار، و المطر، و إحياء الأرض، وتصريف الرياح، هذه الظواهر الإبداعية للكون ساقها النص بمثابة دلائل على وجود الله تعالى وقدراته و تستخيرها الصالح الإنسان، حيث عقب عليها قائلا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ يُؤْمِنُونَ و من هذا التعليق نستكشف أن السورة الكريمة تحوم موضوعاتها على فكرة محدّدة هي: ان هناك من البشر من يشكّك باللّه و قدراته و رسالة الإسلام، بحيث لا يفقه هذه الدلائل أو الآيات الكونية... لذلك، جاء القسم الثاني من السورة الكريمة، يتحدث عن هؤلاء المنحرفين المشككين بآيات اللّه تعالى، حيث يقول:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا، فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ وَ إِذٰا عَلِمَ مِنْ آيٰاتِنٰا شَيْئاً اِتَّخَذَهٰا هُزُواً، أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ ... لنلاحظ مدي تماسك و متانة البناء الفنّي لهذا النص، حيث أنّ آيات الله تعالى تظل عبارة تتكرر و كأنها الدم الذي يمدّ السورة بالحياة، ففي المقدمة نقرأ عبارات من أمثال لَآيٰاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ
ص: 255
يُوقِنُونَ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و في القسم الثاني نقرأ عبارات مماثلة مثل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ و يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ و إِذٰا عَلِمَ مِنْ آيٰاتِنٰا شَيْئاً ...
إذن، عبارة (آيات) تكررت ستّ مرات في مقطعي السورة الكريمة، حيث يكشف هذا التكرار عن أن هناك (فكرة) تمتد بشرايينها في جسم السورة بنحو ملحوظ...
بيد أن المهم هو، أن النص يستهدف من وراء ذلك، إبراز حقيقة هي:
سلوك المنحرفين الذين يشكّكون بهذه (الآيات) أو الدلائل... وقد استخدم النص جملة من العناصر الفنية لبلورة هذا الموضوع، و في مقدمتها عنصر «الصورة» متمثلة في «التشبيه» الذي يقول عن هؤلاء المشكّكين المعاندين:
يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا، فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ ...
هذه الفقرة تتضمّن «تشبيها» مألوفا، إلاّ أنّه يكتنز بدلالات فنية ضخمة... فقد استخدم أداة التشبيه (كأن)... وهذه الأداة بالقياس إلى أدوات التشبيه الآخري مثل (الكاف) و غيرها، تتميز بكونها نترصّد «العلاقة» بين الشيئين (المشبه و المشبه به) بدرجة أقلّ من المتوسط، لأن الأداة المتوسطة، هي (الكاف) حيث يتكافأ فيها طرفا التشبيه، أمّا (كأن) فهي: لا تنقل درجة الشبه إلاّ بأقل من المتوسط، لذلك فإنّ السر الفنّي الكامن وراء تشبيه الكافر بأنّه يشبه عن لم يسمع بآيات اللّه تعالى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا إنما هو تشبيه حيّ ينقل «الواقع» بكل دقائقه التي يتطلبها الموقف، فالكافر، «ليسمع» آيات الله يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ عَلَيْهِ و لكنه يصرّ مستكبرا على عدم الإقرار بحقيقتها، لذلك شبهه بقوله كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا أي: كأنه يماثل من لم يسمع الآيات، مع أنه قد (سمعها) بالفعل، ومعني هذا، أنّ التشبيه بعدم استماعه
ص: 256
للآيات، يظل ناقلا لحقيقة هي: إنه في الواقع ليس مشابها لمن لم يسمع بآيات اللّه، بل إنه يحاول أن يكون مثل من لم يسمع بها، وهذا ما يتسق و أداة التشبيه (كأن) ما دامت تنقل درجة الشبه بأقل من المتوسط أو المألوف..
و الأهم من ذلك، أن هذا التشبيه جاء متناسقا مع (فكرة) السورة التي تستهدف توضيح أنّ المنحرف الذي يواجه آيات الله تعالى و دلائله، يظل موسوما بطابع الاستكبار والعناد، حيث يفصح مثل هذا التناسق بين عناصر السورة و فكرتها عن مدي الأحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى اَللّٰهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ أَيّٰامَ اَللّٰهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ .
هذا المقطع من سورة الجاثية امتداد لمقطع سابق يتحدث عن ظواهر الإبداع الكوني (السماوات و الأرض و الليل و النهار و المطر.... إلخ). هنا يتحدث عن هذه الظواهر و لكن من خلال تسخيرها للإنسان، حيث أشار المقطع إلى تسخير البحر و علاقته بالسفن التي تجري فيه، وإلى تسخير جميع القوي لكونية عن أجل الإنسان، حيث عقب على ذلك بقوله تعالى إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ... و هذا التعليق هو الرابط الفني بين أقسام السورة التي لحظنا مقدمتها تؤكّد بأنّ إبداع القوي الكونية هي (آيات) للناس، ينبغي أن يتعقلوها، حيث جاءت عبارات من نحو آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لَآيٰاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، بمثابة محطة (توقف) في الرحلة التي تقطعها موضوعات السورة المختلفة، حيث يكشف ذلك عن مدي الإحكام الهندسي للسورة: من حيث تلاحم أجزائها التي لحظناها...
ص: 257
و نتابع السورة الكريمة فنجدها تنتقل إلى حكاية أو أقصوصة عن بني إسرائيل، فتقول: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ آتَيْنٰاهُمْ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْأَمْرِ، فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ... .
هذه الحكاية عن الإسرائيليين من الممكن أن تثير التساؤل النسبة إلى موقعها الهندسي من السورة، حيث تتحدث السورة عن موقف معاصري الإسلام من رسالته التي يشكك بها هؤلاء المنحرفون: بالرغم من ملاحظتهم الظواهر الإبداعية التي تكشف عن عظمة الله تعالى و صدق الرسالة التي بشّر بها محمد (ص)...
إن الإسرائيلين يتميزون - كما كرّرنا - عن سواهم من الامم بكثرة انحرافاتهم و شدّتها، لذلك فإنّ الاستشهاد قصصهم يحمل دلالة فنية هي:
إضاءة الموقف بسلوكهم، أي: أن قصصهم عبرة لمعاصري رسالة الإسلام، حيث آتاهم الله تعالى الكتاب و الحكم و النبوة، ثم فضلهم - عصرئذ - على غيرهم، ولكن مع ذلك: انحرفوا و استكبروا فسبّبوا المتاعب لأنبيائهم من جانب و ووقفوا موقفا مضادا من رسالة الإسلام من جانب آخر... لذلك، فإنّ الاستشهاد بسلوكهم المنحرف في هذا الموقع من السورة، يعني: الاتعاظ بمصائرهم هم التي لوّح بها المقطع القرآني بالنسبة إلى ما ينتظرهم من الجزاء في اليوم الآخر...
بعد ذلك، ينتقل النص إلى ربط هذه الحكاية، بموقف المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، فيطالب بعدم اتباع أهوائهم، مقارنا بينهم وبين المؤمنين: من خلال (التشبيه) الفنّي الآتي:
أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا
ص: 258
اَلصّٰالِحٰاتِ .. .
هذه الصورة تتضمن (استعارة) هي اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ و تتضمن تشبيها هو ما نسميه بالتشبيه المضاد حيث قارن بين المنحرفين أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ وبين المؤمنين كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ...
أمّا الاستعارة وهي (اجتراح السيئة) فتتمثل في خلع طابع (الجرح) على السييء،، حيث أن العلاقة بين (الجرح) - و هو إيذاء للبدن - وبين العمل السييء - وهو إيذاء للنفس أو الروح، تظلّ من الطرافة والعمق من الوضوح بمكان كبير... وأما (التشبيه المضاد) الذي اعتمد عنصر التساؤل و هو أَمْ حَسِبَ ... إلخ ؟ فهو تشبيه عمليّ حيّ قد اعتمد الوضوح و البساطة، إلاّ أنه اكتنز بدلالات عميقة و طريفة في الآن ذاته، تشير إلى الفارقية الكبير بينهما:
من حيث انعكاس ذلك على المصائر الاخروية التي تنتظر الفريقين...
و يلاحظ، أن هذه الصورة الفنية (الاستعارة والتشبيه) قد وظفها النص لإنارة الموضوع الذي طرحه سابقا و هو: المصائر الاخروية للمنحرفين، وبهذا التوظيف للصورة الفنية، نتبيّن مدي الإحكام الهندسي للنص. من حيث تجانس عناصره وموضوعاته بعضها مع الآخر، بالنحو الذب أوضحناه.
قال تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ ، وَ أَضَلَّهُ اَللّٰهُ عَلىٰ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ ، وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّٰهِ ، أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ ...
هذا المقطع أو الآية من سورة الجاثية، تشكّل قسما مستقلا من السورة التي تحوم (فكرتها) على نفر من المنحرفين الذين لم يتعظوا بآيات الله تعالى أو الظواهر الكونية التي أبدعها تعالى وسخّرها للإنسان، حتى يتعظ بها و يمارس
ص: 259
مهمّته العبادية... لقد وصف النص في هذه الآية أو المقطع هذا النفر من المنحرفين، بسمات ملفتة للنظر: من حيث الرصد لأدقّ الصفات التي طبع الله تعالى بها سلوك المنحرفين، معتمدا العنصر «الصوريّ » المدهش في هذا الصدد، حيث جاءت الاستعارات والرموز، محتشدة بشكل ملحوظ في رسم سلوك المنحرفين..
فأوّلا، لقد رسم سلوك المنحرف: من خلال «الصورة الاستعارية أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ ، و لا حاجة إلى إلقاء الضوء على هذه الاستعارة المدهشة التي خلعت سمة (المعبود) على أهواء المنحرف، حيث أن «المعبود» هو: القوّة الوحيدة التي يتجه إليها الإنسان، وحين يخلع صفة «المعبود» عل (هوي) الإنسان، حينئذ يكون قد ألغي العنصر الإنساني من شخصية المنحرف، و جعله حيوانا لا يعني إلاّ باتباع هواه و عبادته إياه، و لا يمكننا حينئذ أن نتصور إمكانية أن ترسم صورة مجازية مستقطبة لسلوك المنحرف أبلغ من الصورة التي تجعل من هواه و انحرافه «معبودا يتخذه الشخص المذكور...
ليس هذا فحسب، بل نجد بعد ذلك مجموعة: من صور استعارية رمزية ترتبط بالصورة السابقة، حيث جاءت الصور على هذا النحو من التركيب) وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ ، وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً ... .
إن هذه الصورة الاستعارية أو الرمزية، تشكّل أيضا عملية استقطاب لسلوك المنحرف الذي لا أمل في إصلاحه البتة، فصورة خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ إلى جانب صورة وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً ينطويان على دلالات مثيرة و طريفة، فالختم هو الطبع» أو وضع علامة فارقة على الشيء، و الغشاوة «هي» الغطاء حيث يتجانس كلّ من «الختم» و «الطبع» من حيث كونهما تعبيرا عن الانغلاق أو الانسداد للشيء بحيث لا توجد فتحة للخير لدى
ص: 260
المنحرف.. و يلاحظ أن الصورة الأولى، و هي «الختم» قد رسمها النص بالنسبة إلى سمع المنحرف و قلبه»، و الصورة الثانية وهي «الغشاوة» جعلها على «بصره»، و السر الفنّي في ذلك، أن «الطبع» أو «الختم» بالنسبة إلى السمع والقلب، يتجانس مع وظيفة السمع التي تعني: أن المنحرف لا يفقه الخير من خلال عملية «الغلق» للأولين، و يتجانس مع وظيفة القلب التي تعني: إنه لا يفقه الخير من خلال «الغلق» للقلب، حيث أن استخدام الغلق - كما ورد في سورة أخرى «أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا» ، يتجانس مع عدم انفتاحه للخير..
وأمّا «الغشاوة» أو «الغطاء» بالنسبة إلى «البصر»، فلأن البصر بطبيعته تجسيد لعملية الإبصار أو النظر للشيء، وحينئذ لا يتجانس معه إلاّ ما هو «حاجز» يحتجزه عن النظر، وهذا ما يتمثل في «الغطاء» و ليس «الختم» أو «الطبع»، أي ما يتمثل في صورة «الغشاوة»...
إذن، جاءت الصورتان وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ ثم جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً ، متماثلتين من جانب، و متخالفتين من جانب آخر، تماثلهما (من حيث خضوعهما لسمة مشتركة هي وضع علامة أو حاجز)... و تخالفهما من حيث أن «العلامة» أو «الحاجز» يختلف نمط أحدهما عن الآخر، لأن «الختم» يختلف عن «الغطاء»، بالرغم من خضوعهما لصفة مشتركة... وهذا النمط من الصورة» يتجسّد في ما يطلق عليه مصطلح «التماثل من خلال التضاد» أو «التضاد من خلال التماثل»، حيث يعني أن هناك سمات مشتركة مع أنها خاضعة لطابع واحد، وأن هناك سمات مختلفة: مع أنها خاضعة لطابع مشترك... وهذا التجانس يكشف عن أحد أشكال البناء الفّني الكاشف عن مدي الإحكام العضوي و الهندسي للنص.
قال تعالى. وَ قٰالُوا: مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا، وَ مٰا يُهْلِكُنٰا
ص: 261
إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ ، مٰا كٰانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا: اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلِ : اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ .
هذا كذا المقطع و ما بعده، يتناول موقف المنحرفين من اليوم الآخر. و ما يهمّنا فنيا هو: موقعه عن عمارة السورة الكريمة التي تدور فكرتها عن حتمية اليوم الآخر الذي يشكّك به المنحرفون...
لقد سبق - في مقدمة السورة - وصف هؤلاء المنحرفين بأنّ الشخص منهم يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا .. هذا الوصف للمنحرفين، يلقي بظلاله على هذا المقطع الذي نتحدّث عنه، حيث يفصّل ما أجملته المقدمة من استماع المنحرفين لآيات الله تعالى وعنادهم حيال ذلك، و التفصيل هو: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ ، مٰا كٰانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا: اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ، أي: أنهم يسخرون من قضية الانبعاث في اليوم الآخر، إنّ طلبهم بالاحياء في الدنيا، نموذج واضح للعناد، ولمفهوم العبارة التي وصفتهم ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ، فالإصرار و الاستكبار هما نموذجان للعناد - كما هو واضح، كما أن طلب إحياء الموتي في الدنيا:
نموذج للعناد أيضا...
و نتابع المقطع، فنجد تفصيلات أخرى لاستماع المنحرفين آيات الله تعالى و عنادهم حيالها، و منها: وَ إِذٰا قِيلَ : إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اَلسّٰاعَةُ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا، قُلْتُمْ : مٰا نَدْرِي مَا اَلسّٰاعَةُ ، إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا... . هذا الموقف من المنحرفين، يشكّل جوابا فنيا لموقفهم السابق الذي شكّكوا من خلال بقضية الإحياء في اليوم الآخر، حيث قالوا: بأنهم يظنون ذلك و لا يتيقنون منه..
وهو أيضا جواب فنيّ لما وصفهم الله تعالى قبل ذلك حينما نقل حواراتهم
ص: 262
وتعليقه عليها: وَ قٰالُوا: مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا، وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ، وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ . نقد وصفهم النص بأنهم لا علما لهم بل يطنون ظنا... وها هو ينقل اعترافاتهم بأنهم يظنون أو يشككون باليوم الآخر إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ... واضح، أن النص هنا يربط (من حيث البناء الهندسي لموضوعات السورة) بين عدم معرفتهم بالامور على نحو اليقين حينما وصفهم بأنهم يظنون ظنا في ادعائهم بأنهم لا يهلكهم إلاّ الدهر، و وبين زعمهم بأنهم لا يملكون غير الدهر إلاّ أنّ النص قد ألغي كل اعتبار بظنونهم المذكورة، أي: الشك باليوم الآخر...
و المهم - بعد ذلك - أن النص بدأ يقدّم إجابات تتركّز على حتمية ما أنكروه (و هو اليوم الآخر) حيث أومأ إلى أن الله تعالى هو الذي يحيي و يميت و يبعثهم و يحاسبهم: فيما يخسر هؤلاء المنحرفون عند المحاسبة. و من جملة ما ينقله من مواقف اليوم الآخر، هو:
وَ تَرىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جٰاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعىٰ إِلىٰ كِتٰابِهَا، اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . هذا الموقف قد رسمه النص وفق صياغة فنية تعتمد عنصرا الصورة الاستعارية أو الرمزية، كما تعتمد عنصرا التقابل و «التكرار» و غير هما من أدوات الفن... أما الصورة الاستعارية أو الرمزية، فتتمثل في صورة وَ تَرىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جٰاثِيَةً . فالأمة هي طائفة اجتماعية كبيرة، أي أنّ مفهومها يقوم على شخصية معنوية هي مجموع الناس وليس شخصا محددا، لذلك، حينما وصف الأمّة بأنها (جاثية)، أي: جالسة على ركبها أو قائمة على أطراف أصابعها، يكون بذلك قد استعار لها أو رمز لها بحركة أو بهيئة جسمية خاصة، يستكشف منها:
الخضوع و الانقياد و الخوف من أهوال الموقف، لأنّ (الجثوّ) هو: جلوس العبد أو المتهم أو أيّ شخص يتملكه الخوف و يفقد كل قدراته الذاتية، و يستسلم لمن يحاكمه استسلاما كاملا، بحيث يجلس على ركبتيه أو يقوم على
ص: 263
أطراف أصابعه منتظرا النتيجة النهائية التي تحكم عليه... لذلك، فإنّ الاستعارة أو الرمز (من خلال صورة الجثو) يعدّ تعبيرا فنّيا مدهشا للموقف المذكور... وهو موقف يتجانس مع طبيعة السلوك المنحرف الذي رسمه النص لأولئك المشككين باليوم الآخر، حيث أن «عناد» دنيويا قابله «اخرويا»: موقف مضاد هو الاستسلام الكامل المرموز له بصورة «الجثو»، وهذا التجانس بين الموقفين: دنيويا واخرويا، يكشف عن مدي الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة عناصره وموضوعاته مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا، وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَ قِيلَ : اَلْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ ، كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا، وَ مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ، وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ ذٰلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ هُزُواً، وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا، فَالْيَوْمَ لاٰ يُخْرَجُونَ مِنْهٰا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ... .
بهذا المقطع تختم سورة «الجاثية» التي جاء في مقدمتها التي تتحدث عن الكافر: وَ إِذٰا عَلِمَ مِنْ آيٰاتِنٰا شَيْئاً، اِتَّخَذَهٰا هُزُواً، أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ ... لقد كانت مقدمة السورة، تتحدّث عمّن اتّخذ آيات الله تعالى هزوا و بأنّ له العذاب المهين الذي ينتظره...
وها هي خاتمة السورة تتحدث عن نفس الموضوع، أي: تقدم جوابا لأولئك الذين وعدتهم بالعذاب، ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوا، حيث تجيبهم: وَ مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ، وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ ذٰلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ هُزُواً .
إذن، العلاقة الفنية بين فاتحة السورة و خاتمتها من الإحكام و الإتقان و الوثاقة بمكان ملحوظ. (من زاوية النظر إلى عمارة السورة الكريمة)...
ص: 264
و أمّا من زاوية التعبير الفني لهذا الجانب، فإنّ الملاحظ، أن النص قد استخدم أدوات «الصورة» و «التقابل» و «التكرار» وغيرها من أدوات الفنّ التي تساهم في إضفاء الجمالية على هيكل السورة المباركة.. ويمكن ملاحظة هذا الجانب بوضوح، في العبارة الآتية: وَ قِيلَ : اَلْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ ، كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا . هذه العبارة، بالرغم من بساطة و وضوح دلالتها في تصوّر القاريء، إلاّ أنها تحتشد بسمات فنيّة متنوعة تبعث الإثارة و الدهشة و الإمتاع، أنها تتضمن «استعارة» أولا، و هي نَنْسٰاكُمْ ، و نَسِيتُمْ ، كما تتضمّن «تشبيها» هو كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا . و تتضمّن (تقابلا) و هو: نسيان السماء للمنحرف مقابل نسيانه السماء في حياته لدنيا... وتتضمّن «حوارا» هو «و قيل: اليوم ننساكم... إذن، نحن الآن أمام «أدوات» فنية متنوعة، من «صورة»، «وتكرار» و «تقابل» و «محاورة»... إلخ.
و المهم هو، إن هذه «الأدوات» توظّف فنيا من أجل إنارة الهيكل الفكري العام للسورة الكريمة.
أما عنصر «الصورة» وهي: الاستعارة القائلة: اَلْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا ، فتتمثل جماليتها و توظيفها الفنّي في: كونها تتضمّن استعارتين و تشبيها، حيث ربطت بين موقف المنحرفين في دنياهم وهو (نسيانهم) لليوم الآخر، أي: عدم إيمانهم بحتمية اليوم الآخر، وبين (النسيان) لهم، أي: عدم النظر إليهم من قبل اللّه تعالى في اليوم الآخر، ما داموا قد نسوا هذا اليوم... والمهم هو، إن النص قد استعار «النسيان وجعله رمزا لموقف خاص هو: (عدم الإيمان)، و أهمية هذه الاستعارة أو الرمز هي أنه خلع طابع «النسيان» - وهو سمة ترتبط بالجهاز العقلي للشخصية - خلعه على موقف الكافر من رسالة الإسلام و منها: التشكيك باليوم الآخر، كما أنه خلع نفس الطابع (وهو النسيان) على موقف السماء من هذا الكافر: عند المحاكمة في
ص: 265
اليوم الآخر، حيث جعل عدم الالتفات إلى مطالب الكافر وعدم تحقيق أمنياته التي لخصها في عبارة فَالْيَوْمَ لاٰ يُخْرَجُونَ مِنْهٰا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يخرجون من النار، ولا يسمح لهم بالعذر، جعل هذا كله لسيانا، أي: خلع طابع عدم النظر إلى مطالب الكفار، (نسيانا) لها، فالنسيان هنا (رمز) أو (استعارة) لعدم الالتفات إليهم و ليس (نسبانا) بالمعني الحقيقي - كما هو واضح... وجمالية مثل هذه الاستعارة أو الرمز هي المقابلة بين (نسيان الكافر) الذي هو عدم الالتزام، وبين (نسيان السماء) الذي هو عدم تحقيق مطالبهم، فما داموا لم يتقيدوا بالعمل للّه تعالى، فإنّ السماء أيضا لم تلتزم.
بالعمل من أجلهم... وهذا (التقابل) بين الموقفين أو (النسيانين) واكبه (التشبيه) بينهما، أي: شبّه نسيان السماء، بنسيان الكافر، مع ملاحظة الفارق بينهما، حيث أن نسيان الكافر سمة سلبية ونسيان السماء سمة إيجابية، الأولى: موقف العصيان، والثانية: موقف الجزاء عليه...
إذن، أمكننا أن نتبين مدي جمالية هذه الصور الاستعارية و التشبيهية، بما واكبها من عناصر التكرار و التقابل و المحاورة: حيث وظفت جميعا من أجل إنارة فكرة السورة الكريمة التي ربطت بين موقف المنحرفين و بين انعكاساته اخرويا، حيث علاقة موضوعاته وعناصره: بعضها مع الآخر بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
ص: 266
ص: 267
ص: 268
تبدا سورة الأحقاف بهذا النحو. بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ . حم، تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمّٰا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ اِئْتُونِي بِكِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ...
من هذا التمهيد نفهم بأنّ السورة الكريمة تطرح (فكرة) العمل العبادي الهادف في تجربة الإنسان على الأرض، فالسماء والأرض وما بينهما لم تصغ إلاّ بالحق و أجل مسمى أي: فترة اختبارية محددة، لكن بما أنّ هناك من يغفل عن هذا الهدف العبادي ويتجه إلى من هو دون اللّه، حينئذ يتساءل النص قائلا:
أَ رَأَيْتُمْ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ ؟.
إذن، عندما يطرح النص فكرة الهدف العبادي من نشأة الكون ويقرر بأنّ نشأة السماء والأرض هي من قبل اللّه تعالى حينئذ يظل من المنطقي جدا أن يتساءل هل أنّ ما يعدون من دونه تعالى بمقدورهم أن يخلقوا الأرض أو هل لهم مساهمة في خلق السماء؟ من الزاوية الفنية: يظل الطرح والسؤال مرتبطين بعضهما مع الآخر كما لحظنا، لكن ينبغي أن نتابع الاستدلال الفني في كل من الطرح والتساؤل لنقف على الدلالة الفكرية الشاملة التي يستهدفها النص من وراء ذلك...
إنّ أول ما يقرره النص في هذا الصدد هو. الرد الفني على من يدعو من دون اللّه، قائلا. وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مَنْ لاٰ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ ... .
ص: 269
إذن: ما يدعي من دون الله لا فاعلية له في الإجابة، بعد أن تساءل النص في المقدمة بأنّ ما يدعي من دون اللّه لا فاعلية له في خلق الأرض ولا مساهمة له في خلق السماوات...
لكن، ذلك كله في تجربة الحياة الدنيا... وماذا عن الآخرة ؟.
يقول النص وَ إِذٰا حُشِرَ اَلنّٰاسُ كٰانُوا لَهُمْ أَعْدٰاءً وَ كٰانُوا بِعِبٰادَتِهِمْ كٰافِرِينَ ... ففي الحياة الدنيا لا فاعلية للقوي التي يتجه إليها المنحرفون، وفي الآخرة: سوف تهزأ القوي المذكورة بعبادة المنحرفين وقف مضادة لهم في الحصيلة، هناك طرح فكري يستهدفه النص في هذه المقاطع التي استهلت بها السورة الكريمة متمثلة في كون الوجود ذا هدف عبادي و إن المنحرفين عن الهدف المذكور يتجهون إلى قوي لا فاعلية لها في نشأة الوجود، وإلى أنّ هذه القوي سوف تكفر بعباده المنحرفين...
والان، حين نتجه إلى الوسط بعد أن لحظنا الفكرة التي طرحتها مقدمة السورة نجد أنّ الوسط سوف يتكفل فنيا بإنارة الفكرة المتقدمة وإلقاء الأضواء عليها من خلال السلوك البشري قديما وحديثا (أي بالنسبة إلى المعاصرين لزمن رسالة الإسلام) حيث يعرض لنا النص أولا جانبا من سلوك المنحرفين في زمن الرسالة.
يقول النص فيهم وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلاٰ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً، هُوَ أَعْلَمُ بِمٰا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، قُلْ مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَ لاٰ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ وَ مٰا أَنَا إِلاّٰ نَذِيرٌ مُبِينٌ إنّ هذا العرض لسلوك المنحرفين حيث اتهموا الرسالة بالسحر ثم الرد عليهم من خلال الاستدلال الفني بالرسالات السابقة،
ص: 270
هذا العرض و الرد يجسّد امتدادا لمقدمة التي استدلت أيضا باللغة التي تردم أي ادعاء يصدر المنحرفون عنه، فهناك - في المقدمة - إتجاه إلى قوي غير فاعلة: كان الرد عليها بأنّها لم تساهم في عملية خلق الكون وهنا - في الوسط - ادعاء بأنّ القرآن سحر، والرد عليه بأنّه وحي على نسق رسالات السماء السابقة...
أكثر من ذلك، يقدم النص دليلا آخر لتعميق القناعة بتفاهة الادعاء المنحرف المذكور حيث يقول. قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ ، وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ ، وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ ... .
وبهذا الدليل الحسي، أي الاستشهاد بأشخاص لهم ثقلهم العلمي أقروا بصحة و مشروعية رسالة الإسلام أو برسالة سابقة عليها، ثم يستكبر الأخرون ممن يوازنهم أو ممن هو دونهم.. مثل هذا الاستكبار يشكل سلوكا لا قيمة له البتة كما هو واضح ما دام المتميزون علميا قد أقروا بحقيقة الرسالة، هذا ما أكده النص للمرة الجديدة حينما عرض لنا رد فعل المنحرفين على هذا الدليل:
وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كٰانَ خَيْراً مٰا سَبَقُونٰا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هٰذٰا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً ... . ففي هذا المقطع إبراز لمزيد من الاستكبار لدى المنحرفين الذين عقبوا على إيمان البعض بأهمية الرسالة بأنّها لو كانت خيرا ما آمن بها النفر المذكور، وقد جاء الرد بأنّ رسالة موسى عليه السلام قد سبقت ذلك، وهذا يعني أنّ النص قد ردم أيضا أية حجة يمكن أن يتوصل بها المنحرفون في تعزيز ادّعاءاتهم المذكورة... المهم: أنّ النص بهذا النمط من الاستدلال الفني وصل عضويا بين مقدمة السورة ووسطها، على النحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ
ص: 271
يَحْزَنُونَ ، أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ، وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ، أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مٰا عَمِلُوا وَ نَتَجٰاوَزُ عَنْ سَيِّئٰاتِهِمْ فِي أَصْحٰابِ اَلْجَنَّةِ وَعْدَ اَلصِّدْقِ اَلَّذِي كٰانُوا يُوعَدُونَ ، وَ اَلَّذِي قٰالَ لِوٰالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمٰا أَ تَعِدٰانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُمٰا يَسْتَغِيثٰانِ اَللّٰهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مٰا هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ، أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ ، فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كٰانُوا خٰاسِرِينَ وَ لِكُلٍّ دَرَجٰاتٌ مِمّٰا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ .
في هذا المقطع من سورة (الأحقاف)، عرض لسلوك المؤمنين بعد أن كان المقطع الأسبق يتحدث عن سلوك الكافرين المشككين برسالة الإسلام... إنّ أي نص فني قائم على عمارة خاصة من الموضوعات الفكرية المختلفة إنّما تتجسد جماليته في ربط الموضوعات بعضها بالآخر، مع ملاحظة إدخال أفكار جديدة في النص تأخذ موضعها الهندسي وفق نحو خاص...
والمقطع الذي نتحدث عنه يستهدف الموازنة بين سلوك المنحرفين (وهم فئة وقفت مناهضة لرسالة الإسلام بعامة) و بين سلوك المؤمنين الذين آمنوا برسالة الإسلام، إلاّ أنّ النص يستهدف في الآن ذاته أن يعرض شرائح خاصة من مباديء الإسلام، ليقدم أكثر من (فكرة) مستهدفة في السورة، لذلك طرح واحدا من المباديء المهمة في هذا الصدد و نعني به: سلوك الشخصية حيال أبويها... فالأبوان يحملان دلالة إنسانية خاصة - بغض النظر عن موقفهما الفلسفي الكون - مما يتعين على الشخص أن يسلك حيالهما سلوكا نابعا من الدلالة الإنسانية التي أشرنا إليها. من هنا أكد النص على الشدائد التي
ص: 272
واجهها أحدهما - وهو الام مثلا - من حيث حملها الإنسان كرها، ووضعه كرها، و إرضاعه... إلخ. إلاّ أنّه - وهو يشدد على إبراز هذه الدلالة الإنسانية: من حيث خدمات الأبوين للشخص ومن حيث المطالبة بالإحسان إليهما: جزاء للخدمات المذكورة - يربط المقطع (في الآن ذاته) بين ظاهرة الإيمان وظاهرة الكفر التي طرحها في مقطع سابق، لتحقق بذلك تلاحما عضويا بين موضوعات السورة... لذلك ربط النص بعد ذلك بين الأشخاص الذين لا يحسنون إلى الأبوين وبين الأشخاص الذين لم يؤمنوا برسالة اللّه قائلا: وَ اَلَّذِي قٰالَ لِوٰالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمٰا أَ تَعِدٰانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُمٰا يَسْتَغِيثٰانِ اَللّٰهَ وَيْلَكَ آمِنْ بمعني أنّ المقطع هنا أبرز ظاهرة محددة من سلوك الشخص حيال أبويه وهو (الإيمان باللّه) لتجانس موضوعات السورة فيما بينها، وبما أنّ السورة تتحدث عن الإيمان باللّه و الموقف المضاد له وهو:
الكفر، حينئذ تبرز من السلوك المختص بالشخص وأبويه. ما يتعلق بظاهرة الإيمان والكفر اللذين تحوم عليهما السورة بكاملها.
إذن، جاء طرح السورة لقضية الأبوين وموقف الإنسان منهما مطبوعا بسمة فنية مزدوجة هي: أولا طرح موضوع جديد يستهدف النص توصيله إلى المتلقين بعامّة كي يفيدوا منه تعديل سلوكهم و هو: التعامل الحسن مع الأبوين. ثانيا: طرح هذا الموضوع من خلال سياق خاص يتجانس مع (فكرة) السورة بكاملها، و هي: الإيمان و الكفر بعامة..
من هنا نجد أنّ النص ما أن انتهى من هذا الطرح الفني حتى عاد من جديد إلى الفكرة الرئيسية التي تحوم عليها السورة، متجها إلى عرض سلوك المنحرفين الذين شككوا برسالة الإسلام، فعرض لجانب جديد من سلوكهم هو: الحافز أو الدافع الكامن وراء اختيارهم للمواقف المنحرفة متمثلا في حرصهم على إشباع حاجاتهم الدنيوية، ملوحا بالجزاء الأخروي الذي
ص: 273
ينتظرهم: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّٰارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ اَلدُّنْيٰا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهٰا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ اَلْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ ... .
إذن، طرح المقطع الآن جانبا جديدا من المواقف التي يصدر عنها المنحرفون، وربطه بالاستكبار الذي يغلف سلوكهم العام حيال رسالة الله حيث أوضح بطريقة فنية غير مباشرة أنّ سبب انحرافهم عائد إلى أنّهم آثروا طيبات الحياة الدنيا و حرصوا على الاستمتاع بها دون أن يذعنوا لنداء الحق.
لنلاحظ أنّ النص أبرز ظاهرة (الهون) أي العذاب المقرون بالهوان و الذل وهو عذاب يتجانس مع ما يقابله من (الاستكبار) في الحياة الدنيا، بمعني أنّ النص قابل ووازن بين نمط العذاب الأخروي وهو (الذل) ونمط السلوك الدنيوي و هو (الاستكبار) محققا بهذا التجانس جمالية فائقة من حيث البناء الهندسي للموضوعات...
و المهم، أنّ النص بعد أن عرض لهذا الجانب وفق الطريقة الفنية المشار إليها، اتجه إلى العنصر القصصي المتصل بحكاية بعض الأقوام البائدة التي مارست سلوكا منحرفا بدورها، و لحقها الجزاء الدنيوي المترتب على ذلك، مستهدفا من هذا العرض إلقاء مزيد في الإنارة على سلوك المشككين برسالة الإسلام، بغية الإفادة منه في حمل المتلقي على الإيمان أو على تعديله.
قال تعالى. وَ اُذْكُرْ أَخٰا عٰادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقٰافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قٰالُوا:
أَ جِئْتَنٰا لِتَأْفِكَنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ ، قٰالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لٰكِنِّي أَرٰاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ، فَلَمّٰا رَأَوْهُ عٰارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قٰالُوا هٰذٰا عٰارِضٌ مُمْطِرُنٰا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهٰا
ص: 274
عَذٰابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّهٰا فَأَصْبَحُوا لاٰ يُرىٰ إِلاّٰ مَسٰاكِنُهُمْ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ .
هذا المقطع من سورة الأحقاف يتضمن أقصوصة تتحدث عن مجتمع هود عليه السلام في بقعة يقال لها (الأحقاف)، ولا بدّ أن تكون هذه القصة (موظفة) لإنارة الفكرة الرئيسية في السورة... وقد سبق أن لحظنا أنّ مقدمة السورة ووسطها قد عرضا لمجتمع الانحراف الذي عاصر رسالة الإسلام ووقف منها موقف المناهض و المشكك بها... وها هي القصة تعرض لنا موقفا مماثلا لمجتمع بائد هو مجتمع هود حيث أنذرهم عليه السلام بالجزاء الدنيوي، إلاّ أنّهم أصروا على موقفهم المنحرف، حتى أنّهم حينما رأوا عارضا من السماء وهو سحاب أظلهم بعد جدب خيل إليهم أنّه ممطر إمعانا في سخريتهم من رسالة السماء حينئذ، ولكن هودا عليه السلام أوضح لهم خطأ تصورهم قائلا أنّه (ريح فيها عذاب اليم) و فعلا: عصفت الريح بهم فأبادتهم من الأرض بحيث أصبحوا لا يرى إلا مساكنهم...
إذن، هذه الأقصوصة جاءت بمثابة إنارة تنطوي على عظة ذات صلة بمصائر المكذبين السابقين على مجتمع الإسلام، و عنصر التماثل بين الموقفين لا ينحصر في مجرد التكذيب بل في تماثل العقلية والاستجابة لدى المجتمعين أيضا، فالمجتمع المشكك برسالة الإسلام اختلط عليه عقله فخيل إليه أنّ القرآن سحر، ومجتمع هود خيل إليه أنّ الريح عارض ممطر، المجتمع الأول قد اتجه إلى قوي لا فاعلية لها في خلق الكون، والمجتمع الثاني اتجه إلى قوي مماثلة أيضا قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِتَأْفِكَنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا .
ويلاحظ، أنّ النص القرآني الكريم بعد أن انتهى من عرض الأقصوصة المذكورة تقدم بعرض أقصوصة أخرى تتصل بعنصر غير بشري هو عنصر (الجن) حيث نقل لنا قصة إيمان هذا العنصر برسالة الإسلام...
ص: 275
و من الواضح أنّ النص عندما يستشهد حينا بقصة غابرة تجسد الموقف السلبي للمجتمعات، ثم حينما يستشهد تارة أخرى بقصة معاصرة لرسالة الإسلام من خلال الموقف الإيجابي، فضلا عن كونها تتصل بعنصر غير بشري حينئذ يمكننا أن ندرك بوضوح مدي جمالية هذا البناء الهندسي للسورة من حيث توازن و تقابل القصص فيما بينها، فهناك خط تتقابل من خلاله قصة غابرة و قصة حاضرة، و هناك خط تتقابل من خلاله عناصر بشرية عناصر غير بشرية، وهناك خط تتقابل فيه مواقف إيجابية ومواقف سلبية، وهكذا...
المهم، قبل أن نتحدث عن الأقصوصة الجديدة ينبغي أن نقف على مقطع يسبق هذه الأقصوصة لنلاحظ الإنارة التي وظفتها هاتان الأقصوصتان بالنسبة لفكرة السورة..
يقول المقطع معقبا على قصة (الأحقاف)، رابطا بينهما و بين سلوك المعاصرين لرسالة الإسلام...
وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاهُمْ فِيمٰا إِنْ مَكَّنّٰاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصٰاراً وَ أَفْئِدَةً فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُهُمْ وَ لاٰ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كٰانُوا يَجْحَدُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا مٰا حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْقُرىٰ وَ صَرَّفْنَا اَلْآيٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، فَلَوْ لاٰ نَصَرَهُمُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قُرْبٰاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ ... فالمقطع يذكّر مجتمع رسالة الإسلام بمجتمع عاد الذي تميز بضخامة الأجسام و غيرها مما لا يمتلكه مجتمع رسالة الإسلام ومع ذلك لم تغنهم القوة المذكورة من المصير الكسيح الذي انتهوا إليه، كما أنّه يذكرهم بالقوي المعنوية - مقابل القوي المادية التي تقدم الحديث عنها - من أنّها لم تكن لتغنيهم أيضا فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُهُمْ وَ لاٰ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ .
هنا ينبغي أن ينتبه المتلقي على هذا التذكير بالقوي المعنوية (السمع
ص: 276
و الأبصار والأفئدة) من حيث كونها ستعكس إضاءاتها على القصة اللاحقة المتصله بعنصر (الجن) الذين آمنوا برسالة الإسلام حيث استخدموا قوا المعنوية المذكورة (مع أنّهم عير العنصر البشري و أنّ محمّدا (ص) ليس من عنصرهم)، بينما لم يستخدم العنصر البشري المنحرف: قواه المعنوية، وهو ما يكشف عن مدي التخلف الذهني والفني الذي يطبع سلوك المنحرفين قديما وحديثا بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى. وَ إِذْ صَرَفْنٰا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ فَلَمّٰا حَضَرُوهُ قٰالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّٰا قُضِيَ وَلَّوْا إِلىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قٰالُوا يٰا قَوْمَنٰا إِنّٰا سَمِعْنٰا كِتٰاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يٰا قَوْمَنٰا أَجِيبُوا دٰاعِيَ اَللّٰهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ .
هذا المقطع من سورة الأحقاف يعرض لنا أقصوصة عن عنصر (الجن) الذين استجابوا لرسالة الإسلام... وأهمية هذه الأقصوصة - من الزاوية الفنية أو البناء الهندسي للسورة - أنّها تنطوي على وظيفة فنية مزدوجة، الأول أنّها تعرض إحدى حقائق الحياة وهي كون الإسلام لم ينحصر في العنصر البشري بل أنّ رسالته تمتد لتشمل عنصر (الجن) أيضا... وهذه الحقيقة لم يذكرها النص لنا مباشرة بل تدع المتلقي يستوحي بنفسه هذه الدلالة... وأما الوظيفة الفنية الأخرى لهذه القصة فهي كونها تتضمن عنصر (إنارة) لفكرة السورة الرئيسية، وهي قضية المنحرفين في صدر رسالة الإسلام حيث وقفوا منه موقف المناهض، بخاصة أن المقطع الذي سبق هذه القصة ذكر أنّ المنحرفين قد جعا لهم اللّه سَمْعاً وَ أَبْصٰاراً وَ أَفْئِدَةً فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُهُمْ وَ لاٰ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كٰانُوا يَجْحَدُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ . وهذا يعني أنّ الأقصوصة
ص: 277
تريد أن تلفت النظر - بطريقة فنية غير مباشرة - إلى أنّ المنحرفين بالرغم من تملكهم للسمع و الأبصار و الأفئدة فلم تغنهم عن شيء بل جحدوا بآيات الله بينما نجد أنّ عنصر الجن قد أفادوا من السمع أو الأبصار و الأفئدة التي يملكونها فأرشدتهم إلى رسالة الإسلام...
وها هو النص يعرض لنا هذه الحقائق من خلال القصة الفنية بما تتضمنها من سرد و حوار يوظفان للكشف عن ذلك... فأولا يقدم النص لنا (حوارا) جميعا بين شخوص الجن يكشف عن كونهم قد استخدموا عقولهم بعمق عندما و اجهوا رسالة الإسلام فَلَمّٰا حَضَرُوهُ قٰالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّٰا قُضِيَ وَلَّوْا إِلىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فهم قد أنصتوا أولا، وبعد معرفتهم بحقيقة الأمر وجدوا أنّ من وظيفتهم أن ينذروا قومهم الجن... وفعلا بدأوا بعملية الإنذار قٰالُوا يٰا قَوْمَنٰا إِنّٰا سَمِعْنٰا كِتٰاباً إلخ... ثم استخدموا عنصر (التأكيد) عند ما قالوا:
يٰا قَوْمَنٰا أَجِيبُوا دٰاعِيَ اَللّٰهِ ، وَ آمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ ... .
الملاحظ - في هذه الأقصوصة - أنّها تنطوي على سمات فنية بالغة الدلالة بالنسبة إلى وظيفتها المرسومة في النص، فهي تطرح نفس مستويات السلوك الذي اختطه النبيّ (ص) في الرسالة وتبليغها، أنّها تحدثت عن الإيمان باللّه، وإلى أنّه يغفر الذنوب السالفة، و إلى أنّه يجيرهم من الجزاء و هي نفس الدلالات التي انتثرت في تضاعيف السورة عبر معالجتها لسلوك المنحرفين... مضافا لذلك، فإنّ الطرائق الفنية التي انطوت القصة عليها ساهمت بشكل ملحوظ في بلورة الدلالات المذكورة فعنصر (الحوار) نفسه قد فرض ضرورته حينما جعل المتلقي يواجه نفس كلام الجن و مستويات تفكيرهم بدلا من السرد الذي يصف لنا السلوك، إذ أنّ الإفصاح عن السلوك بلسان الشخوص أشد تأثيرا من وصف السلوك، كما أنّ طرائق التبليغ التي
ص: 278
سلكها شخوص الجن ساهمت بنحو ملحوظ في تعميق ما يستهدفه النص من أفكاره، من حيث تلقيهم أولا خبر الرسالة، ثم إنصاتهم، ذهابهم إلى قومهم ونقل النبأ لهم، ثم التعقيب على ذلك بأنّها تهدي إلى الحق، ثم تأكيدهم بضرورة إجابة الرسالة، لما يستتبع ذلك من غفران الذنب و الإجارة من العذاب الأليم..
أخيرا، بعد أن أنهي النص هذه الأقصوصة التي وظفت لإنارة السلوك الذي صدر المنحرفون عنه في صدر رسالة الإسلام، عاد النص إلى التعقيب على السلوك المذكور، مكررا التذكير بما سبق أنّ طرحه في مقدمة السورة وسطها و نعني به: التفكير في خلق السماوات و الأرض، ترتيب الجزاء على ذلك، مع طرحه في الختام ظاهرة (الصبر) وهي ظاهرة تتصل بسلوك المبلغين، ما دام المنحرفون مصرّين على مواقفهم مما يستتبع ممارسة المبلغ بعملية (الصبر) على ذلك، وبهذا يكون النص قد طرح قضية الرسالة و طريقة تبليغها ضمن الفكرة الرئيسية للسورة، بحيث يفيد منها المتلقي في تعديل سلوكه: سواء أكان التعديل متّصلا بإيمانه أو بطريقة توصيل مباديء الله إلى الآخرين (بالنحو الذي تقدم الحديث عنه).
ص: 279
ص: 280
ص: 281
ص: 282
تتناول سورة (محمد) (ص) مثل كثير من السور القرآنية - ظاهرة (الجهاد في سبيل الله). حيث تتخللها موضوعات أخرى تصب في نهاية المطاف في الظاهرة المذكورة...
تبتدئ سورة محمد (ص) بهدا النحو: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ آمَنُوا بِمٰا نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ - وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ - كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بٰالَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْبٰاطِلَ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ أَمْثٰالَهُمْ .
في هذا المقطع الذي استهلت السورة به نلحظ هيكلا فنيا قائما على التقابل بين (الكافرين) و (المؤمنين)، و موضوع التقابل هو الباطل والحق اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْبٰاطِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ . ترتب على ذلك أنّ اللّه أضلّ أعمال الكافرين و كفّر السيئات عن المؤمنين و أصلح بالهم...
و عند ما نوازن بين الفريقين نجد أنّ الكافرين قد تاهت أعمالهم حتى لو كانت ذات دلالة مقبولة في تصورهم بينما يعكس الأمر بالنسبة إلى المؤمنين الذين قد صدورا عن بعض السيئات: حيث تكفر عنهم سيئاتهم مضافا إلى أنّ أمورهم؛ دنيويا أو أخرويا أو كليهما - قد شملتها عناية اللّه تعالى...
هذا يعني أن المؤمنين في الحالات جميعا مشمولون بالرعاية، و أنّ الكافرين في الحالات جميعا محكومون بالنبذ...
من هنا يتقدم النص في مقطع جديد من السورة بعد التمهيد المتقدم إلى ظاهرة الجهاد في سبيل الله منطلقا من المقدمة التي مهّد لها بأنّ الكافرين اتبعوا
ص: 283
الباطل و إلى أنّهم محكومون بالنبذ دنيويا و أخرويا... أما دنيويا، فتعين مقاتلتهم و القضاء عليهم، لنستمع إلى المقطع الجديد:
فَإِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقٰابِ ، حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثٰاقَ ، فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، ذٰلِكَ . وَ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بٰالَهُمْ وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَهٰا لَهُمْ .
هذا المقطع الذي تلاحم مع المقدمة قي إشارته إلى أنّ الجهاد في سبيل الله يفضي إلى عدم إضلال أعمال المقاتلين، و إلى اصلاح بالهم، و إلى إدخالهم الجنة (وهي الأفكار التي تضمنتها مقدمة السورة)... هذا المقطع فضلا عن تلاحمه العضوي مع المقدمة بالنحو الذي أشرنا إليه، يتضمن جملة من الدلالات المتصلة بمفهوم (الجهاد): من حيث المباديء التي تحكمه و من حيث فلسفته في غمرة الوظيفة العبادية التي أوكلها الله إلى خلقه... أما من حيث مباديء الجهاد، فقد ذكر النص جملة منها هي:
- المطالبة بالقضاء على الكافرين - 2 بعد الإمعان في قتلهم: يجيء دور الأسر 3 - في حالة الأسر: إمّا المن أو الفداء على النحو الذي تفصّله الأحكام الفقهية في هذا الصدد من حيث التفريق بين الأسر حالة القتال و بين الانتهاء منه... المهم أنّ النص يشدد على قتال الكافرين، مطالبا بالإمعان و قتلهم، و من ثم أسر ما أتيح من ذلك بعد ضعفهم...
أما من حيث الفلسفة أو الفكرة التي ينطوي عليها مفهوم الجهاد فقد أوضحها النص بقوله عن الكافرين وَ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ..
الواقع، أن هذا المفهوم ينبغي الوقوف عنده طويلا، لأنّه يضع تفسيرا غموض فيه بالنسبة إلى حالات عدم النصر الدنيوي، فاللّه تعالى يؤكد بأنّه لو
ص: 284
شاء: لنصر الإسلاميين عسكريا على الكافرين، إلاّ أنّه تعالى يريد أن يختبر الإسلاميين لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ، و عملية الاختبار تتمثل في جملة من السلوك منها: مكابدة الشدة، فالشخصية المؤمنة: تظل الحياة الدنيا سجنا لها كما هو واضح مما لا مناص من تحمل ذلك، و في مقدمته: الشدائد التي تواكب النشاط العسكري... فالمهم ليس هو إزاحة الكفر أساسا بالرغم من مطالبة النص بالتشدد في قتل أربابه بل هو: الالتزام بالتوصية المطالبة بممارسة الجهاد، أي: أنّ المهم هو: ممارسة النشاط المقرون بالشدة (شدائد الحياة العسكرية) و ليس تحقيق النصر العسكري بالضرورة لأنّ إبادة الكافرين من الممكن أن تتم بسهولة عندما يريد الله ذلك، إلاّ أنّه تعالى أوكل الاّمر إلى نمط من النشاط البشري يختبر من خلاله أينا أحسن عملا أينا يمارس الطاعة فيتقدم إلى ساحة الجهاد، و أينا يتخاذل أو يتردد أو يتخوف من ذلك... و أمّا النصر أو عدمه فمن الممكن أن أحدهما وفقا لسياقات خاصة: يتوقف بعضها على مماسة المزيد من الإخلاص العبادي، و بعضها يتطلب مجرد الصبر، و عرضها يظل مجرد محك لفرز درجات الإيمان لدى الإسلاميين...
وأيا كان، فإنّ النص بعد أن يقرر بأنّ الله لو شاء لهزم الكافرين، يبدأ فيطالب بمقاتلتهم و يعلق النصر من الله على مدي الالتزام بمبادىء اللّه دون أن يعني ذلك أنّ الالتزام يفضي بالضرورة إلى النصر العاجل: ما دام الاختبار هو الميزان في الموقف، كل ما في الأمر أنّ الالتزام (حسب التجارب اليومية) لم يأخذ تكامله في السلوك بحيث يترتب عليه النصر إلاّ في مواقف محددة ترتب عليها فعلا أكثر من نصر، وفي مقدمة ذلك: «فتح مكة» و غيرها مما لا يدخل في نطاق تناولنا للسورة الكريمة...
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ
ص: 285
وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ ..
هذا المقطع امتداد المقطع سابق أوضح بأنّ اللّه لو شاء لهزم الكافرين في ساحات القتال إلاّ أنّ الاختبار لمعرفة المؤمن عن غيره يستتبع مكابدة الشدة... أما في المقطع الجديد فيوضح المقطع أنّ المؤمنين: إن ينصروا الله فإن الله تعالى ينصرهم أيضا.. من البيّن لا منافاة بين نوع من الملازمة بين تدخّل السماء لنصرة الإسلاميين في حالة نصرتهم الله و بين تحديد النصر أو الهزيمة العسكرية تبعا لمتطلّبات الاختيار... بمعني أنّ العمل لله يستتبع نصرا للعامل دون أن يعني ذلك تحديدا لنمط النصر: فقد يتحدد النصر عسكريا وقد يتحدّد أخرويا... لذلك ترك النص ظاهرة (النصر) مجملة دون أن يحدّدها عسكريا أو غيره دون أن يحدّدها دنيويا و أخرويا بل اكتفي بالقول بأنّه: إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ ...
سرّ ذلك: أنّ الهدف العبادي مادام منحصرا في الالتزام بمبادىء الله (ومنه: الجهاد في سبيل اللّه)، حينئذ فإنّ الإثابة عليه لا تتحدد دنيويا فحسب بل من الممكن أن تتحدد أخرويا فحسب و من الممكن أيضا أن يتحدد على صعيد الحياة الدنيا...
و أيا كان: فإنّ النص بعد أن تحدث عن قضية التلازم بين نصرة المؤمنين لمبادىء الله تعالى ونصرته إياهم: يتجه إلى مقارنتهم بالكافرين فيمسح عنهم الإثابة نهائيا بل يضل أعمالهم: بسبب كراهتهم لمبادىء اللّه تعالى...
وبعد أن يوضح النص مصائر كل من المؤمنين و الكافرين من خلال المقارنة دنيويا و أخرويا: نواحه التعقيب الآتي:
إِنَّ اَللّٰهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ، وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ اَلْأَنْعٰامُ وَ اَلنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ ،
ص: 286
أهمية هذا التعقيب تتمثل في طرح النص: مفهوما له خطورته في النشاط العبادي فيه عن السلوك غير العبادي...
فالنص يتحدث عن الجنة بالنسبة إلى المؤمنين دون أن يشير إلى موقعهم الدنيوي، بينما يتحدث عن الكافرين مع أنه في صدد المقارنة الأخروية بين الكافرين و المؤمنين يتحدث عن الكافرين في صعيد دنياهم، ويشير إلى أنهم يحققون أشباعا لحاجاتهم... لنقرأ من جديد.
اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ اَلْأَنْعٰامُ وَ اَلنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ . إنّ ما ينبغي أن نقف عنده هو. أنّ قضية (الإشباع) للحاجات البشرية ليست هدفا عباديا، بل ممارسة مباديء الله هو الهدف عند الإسلاميين، أما الآخرون، فإنّ قضية إشباع حاجاتهم تظلّ هي الهدف لديهم، لذلك يصف النص هذا الإشباع أو السعي إليه بأنه إشباع بهيمي يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ اَلْأَنْعٰامُ . هذا التقرير ير للحقيقة المتقدّمة من الممكن أن يجهلها بعض القاصرين عباديا بحيث يأسون لعدم تحقق الإشباع لحاجاتهم المتصلة بالحياة، و الأمن، والصحة، والتملّك، والسيطرة، دون أن يدركوا بأن إشباع هذه الحاجات لا يطمح إليها إلاّ (الأنعام) التي يعنيها أن تتمتع «وتأكل»: كما وسم النص الكافرين بذلك...
ولعلّه - من زاوية البناء الهندسي للنص - علينا أن نقرّر بأن صياغة هذه الحقيقة المتصلة بالإشباع وعدمه تظل إجابة فنية لمقطع أسبق أوضح بأن اللّه لو يشاء لهزم الكافرين في ساحات القتال ولكنه يستهدف اختبار المؤمنين المقاتلين، حيث جاء المقطع الجديد الذي يقرّر بأنّ الكافرين يعنون بدنياهم فحسب. بمثابة تقابل بين الإسلاميين والكافرين من خلال تقرير الحقائق التي أشرنا إليها.
بعد ذلك يتّجه إلى مخاطبة النبيّ (ص).
ص: 287
وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ ، أَهْلَكْنٰاهُمْ فَلاٰ نٰاصِرَ لَهُمْ . الملاحظ هنا أنّ النص بعد أن يصوغ لنا حقيقة الفارق بين الإشباع الذي يميز الكافرين من المؤمنين، يتّجه إلى تذكير الإسلاميين بأنّ الإشباع الدنيوي من الممكن الاّ يتمّ لدى الكافرين (بالرغم من أنّهم يسعون إلى ذلك) وإلى أنّه بالرغم من عدم سعي الإسلاميين إلى الإشباع فإن الله يحقق لهم. هذه الحقيقة لم يقرّرها النص مباشرة بل استخلصناها من خلال الطريقة الفنية غير المباشرة التي سلكها النص في هذا الصدد، بالنص يشير إلى أنّ الله أهلك أمما سالفة كانت أشدّ قوة من المكيين الذين أخرجوا محمدا (ط) من مكة، وإلى أنّه لا ناصر لهم، وهذا يعني أنّ قضية النصر العسكري (بصفته واحدا من أشكال البحث عن الإشباع) لا يتحدد تبعا لمعيار ثابت بل لمعيار اختباري كما كرّرنا. و المهم هو أنّ النص يحوم على إبراز هذه الدلالات فق صياغته و تكراره لجملة من الوقائع: حيث لحظنا كيف أنّ كل مقطع أو جزء منه يتحدّث عن واقعه أو موقف على ظاهرة الاختبار وموقع المؤمنين و الكافرين منه، وفي مقدّمته. قضية النصر و الهزيمة في ساحات القتال، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ ، فِيهٰا أَنْهٰارٌ مِنْ مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ ، وَ أَنْهٰارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَ لَهُمْ فِيهٰا مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ ، وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ : كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ فِي اَلنّٰارِ وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ .
هذا المقطع المؤلّف من آيتين يتضمّن مبني هندسيا خاصا من حيث تداخل جزئياته بنحو يتجاوز التركيب العادي للغة إلى التركيب الزمني لها: بغية
ص: 288
إفراز بعض الدلالات التي تصل بين المصير الدنيوي و الأخروي بكل من المؤمنين والكافرين... فقد بدأ المقطع بالتساؤل عمّن هو على بيّنة من ربّه وبين من زيّن له سوء عمله واتّبع هواه... هنا اتّجه النّص بعد ذلك إلى الحديث عن الجنة قائلا مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ - إلخ ثم ختمها بقوله - كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ فِي اَلنّٰارِ وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ فالملاحظ: أنّ المقطع تحدّث عن الجنة كما أنه يتحدّث عمن هو على بينة من ربه وبين من زين له سوء عمله، كما أنّه عندما تحدّث عن الجنة: إذا به يقدم تمثيلا لمن هو خالد في النار كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ فِي اَلنّٰارِ مع أنّ هذا التمثيل - من حيث اللغة - امتداد للآية السابقة، والحديث عن الجنة يبدو وكأنّه مستقل عن الآية المذكورة أيضا، فما هو السّر الفني وراء ذلك ؟ الواقع أن هذا النمط من الصياغة القرآنية له تميزه الذي ينبغي الوقوف عند أسراره الفنيّة... فالمقطع يستهدف الوصل بين من هو على بينة من ربّه (وهو: السلوك الدنيوي) وبين الجنة التي رسمها النص في أربعة أشكال من السوائل مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ عَسَلٍ مُصَفًّى مضافا إلى اَلثَّمَرٰاتِ ثم مضافا إلى مَغْفِرَةٌ مِنْ الله - وهي نتائج السلوك في الحياة الأخروية... فالملاحظ أنّ هذا التفصيل عن الجنة من حيث تنوعّ نعيمها لم يجيء لمجرد العرض بل لمهمة مزدوجة هي. عرض الحقائق المتصلة بالنعيم من جانب وللربط بين من هو على بيّنة من أمر رته وبين وضوح المظاهر وتفصيلاتها التي رسمها النص عن الجنّة من جانب آخر...
والأمر ذاته بالنسبة لمن زين له سوء عمله في الدنيا، وانعكاسه أخرويا.
على من سقي ماء حميما فقطّع أمعاءه. إذ أنّ هناك تجانسا بين من زيّن له سوء عمله (وهو وهم دون أدني شك) وبين انعكاساته التي يقابلها ماء حميم يقطّع أمعاء الكافرين: فيما هو على خلاف أهوائهم التي أوهموا فيها أيضا...
ص: 289
و أيا كان، فإنّ المقطع المذكور يظل في الواقع امتدادا لمقاطع سابقة تحوم على فكرة الجهاد (في سبيل الله) وتحديد الفئات الملتزمة بمبادىء الله وما يقابلهم من الفئات المنحرفة... لذلك يبدأ النص بمواصلة حديثه عن الفئة المقابلة (أي: الكافرة) في ضوء المقارنة بينها وبين الإسلاميين وهي مقارنة تطبع جميع أجزاء السورة، عارضا جانبا آخر من المواقف التي يصدر عنها الكافرون، بعضها يتصل بسلوكهم حيال النبيّ (ص)، وبعضها يتصل بموقفهم من القتال في سبيل اللّه...
الجانب الأول، يقول النص عنه وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، حَتّٰى إِذٰا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ، قٰالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مٰا ذٰا قٰالَ آنِفاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ .
وقال عن الجانب الآخر: فَإِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتٰالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ ... .
هذان الجانبان يرتبط أحدهما بالآخر دون أدني شك... فمن الزاوية الفنية نجد أنّ النص يعقب على الجانب الأول من السلوك بقوله عن أصحابه:
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ . وأما في الموقف الآخر أي: الموقف من القتال فيقول النصّ عنهم (رأيت الذين في قلوبهم مرض) إن من الواضح أنّ (الطبع على القلب) يعني: انغلاق الخير في أعماق الشخص وهي سمة (المنافق) الذي طالما وسمه النص بالطبع على قلبه، كما أنّ الآية الأخيرة التي وسمت الأشخاص الذين إذا ذكر الجهاد في سبيل الله أمامهم. يكاد يغشي عليهم خوفا من الموت، وسمهم النص بأنّهم (في قلوب مرض)، و مرض القلب هو أيضا سمة (النفاق) التي طالما وصف النصّ القرآني الكريم اَلْمُنٰافِقِينَ بها في مواقع متنوّعة من السور...
ص: 290
إذن، من حيث المبني الهندسي للمقطع، نجد أنّ النص قد مهّد بسمة (الطبع على فؤاد) المنحرفين في موقفهم من الرسول (ص)، ليدلل على كونهم (مرضي) في الموقف الآخر المتمثّل في غشيتهم: خوفا من الموت في حالة سماعهم آية تطالب بالقتال...
أما من حيث الدلالة الفكرية، فإنّ الموقفين اللذين صدر المنحرفون عنهما لا يحتاجان إلى التعقيب نظرا لوضوح ذلك... أما الموقف الأول فهو:
سخريتهم من النبيّ (ص) حيث يهزأون قائلين عنه (مٰا ذٰا قٰالَ آنِفاً؟) . حيث يعبّر هذا الموقف عن سمة الانحطاط الذي بلغته أعماقهم، لذلك عقب النص عليهم قائلا: أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ ولا نغفل أنّ النص كان قد رسم مصيرا أخرويا هو: أنّ الذين اتّبعوا أهواءهم سقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم: مما يعني أنّ النص قرّر سلفا مصائر هؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم... وأما موقفهم من الجهاد في سبيل الله فسيتضح بما يلي:
قال تعالى: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتٰالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلىٰ لَهُمْ .
هذا النص يتحدّث عن المنافقين (اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) بخاصة فيما يتصل بالقتال في سبيل الله... طبيعيا، من الممكن ألاّ يعني هؤلاء بالقتال وتبعاته، إلاّ أنّهم بصفتهم (اَلْمُنٰافِقِينَ ) يلهثون وراء إشباع رغباتهم: يضطرون إلى مصانعة الإسلاميين والتظاهر بالإيمان، لذلك ما أن يواجهوا موقفا جديّا يعرض دنياهم للإحباط مثل اَلْقِتٰالُ : حتى يكاد يغشي عليهم، حيث يتعرّضون لصراع مديد بين الاحتفاظ بمواقعهم الاجتماعية التي نٰافَقُوا من أجلها، وبين ممارسة اَلْقِتٰالُ وهو ما يتعارض أساسا مع دنياهم التي يلهثون
ص: 291
وراء إشباعها... إزاء مثل هذا الصراع نجد أنّ النص القرآني الكريم لا يترك هؤلاء دون تعقيب على سلوكهم. بغية أن يفيد الآخرون منه عند مواجهتهم لأمثلة هذا الصراع، لذلك يعقب قائلا: فَأَوْلىٰ لَهُمْ طٰاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، فبدلا من معاناة أمثلة هذا الصراع كان من الأولى أن يطيعوا أوامر الله ويجيبوا الرسول (ص) بالقول المعروف، ويبدو أنّ المنافق من الممكن أن يصدر عنه مثل هذا القول أو الطاعة: على نحو (النفاق) أيضا: لذلك عقب النص على ذلك قائلا: فَإِذٰا عَزَمَ اَلْأَمْرُ: فَلَوْ صَدَقُوا اَللّٰهَ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ بمعني أن الطاعة والقول المعروف لو كانا صادقين فعلا - لا نفاقا - لكان خيرا لهم من النفاق...
هنا لا بذ من الإشارة إلى أن من طبع على قلبه من الصعب أن ينفتح لعما الخير إلا في حالات نادرة، لذلك نحتمل أن تظل أمثلة هذا الخطاب موجهة إلى الضعاف نفسيا ممن يحيون ظاهرة الصراع بين الخير والشر، بين الآخرة والدنيا، بين الجهاد والقعود... المهم، أنّ النص يتابع تعقيبه على هؤلاء المتصارعين في داخلهم، قائلا:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا؟ .
من هذا النص الذي يشير إلى أنّه تعالى أصمّهم وأعماهم أبصارا، نستخلص صعوبة تعديلهم للسلوك، بخاصة أنّه قدم صورة فنية حينما قال عنهم أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ : أَقْفٰالُهٰا فهذا الرمز أو الصورة الملأى بالدلالات العميقة.
(الأقفل) على القلب تعني: أنّ الخير مغلق في ننوس هؤلاء تماما وهو نفس الظاهرة التي تنطوي عليها فقرة سابقة طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ... حيث تتآزر كل هذه المستويات الرمزية (الطبع على القلب) (الأقفال على القلب) (أصمّهم
ص: 292
وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ ) تتآزر جميعا لتقول لنا: أنّ هؤلاء من المستبعد أن يوفقوا لعملية تعديل في السلوك... كل ما في الأمر، أنّ النص يستهدف - كما كرّرنا - لفت النظر للضعاف نفسيا ممن يعانون الصراع دون أن يصلوا إلى مرحلة الطبع على أفئدتهم...
هنا ينبغي ألاّ يغيب عن أذهاننا بأنّ ظاهرة الطبع على الأفئدة إنّما تأخذ فاعليتها بعد أن تكون الشخصية على وعي بمبادىء الحق إلآ أنها تصرّ على الانسلاخ عنها إيثارا لمتاع الدنيا، لذلك نجد أنّ النص القرآني الكريم يشير إلى هذا الجانب حينما يتابع أو يعقب على الفئة المذكورة قائلا:
إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ : مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدَى اَلشَّيْطٰانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلىٰ لَهُمْ بمعني أنّهم وعوا (الهدي) ولكنّهم آثروا شهواتهم متمثلة في تسويل الشيطان و إملائه، كما يقرّر النص... ثم ذكر موقفا من مواقفهم في هذا الميدان: ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مٰا نَزَّلَ اَللّٰهُ ، سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ، وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِسْرٰارَهُمْ حيث تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء «المنافقين» تعاونوا مع الكفار الذين يظهرون انحرافهم، قائلين لهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ ،... قالوا ذلك سرا بطبيعة الحال وهو المظهر الواضع للنفاق حيث يسرّون الكفر من خلال موقفهم المتقدّم، ويظهرون الإيمان من خلال ادّعائهم الطاعة والقول المعروف...
وأيّا كان، فالنّص القرآني الكريم، عقّب على السلوك المتقدّم قائلا:
وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِسْرٰارَهُمْ : حيث لا ينفعهم مثل هذا الإسرار. مادام اللّه على إحاطة بكل شيء، بل لا ينفعهم دنيويا أيضا حيث هدّدهم النص:
أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللّٰهُ أَضْغٰانَهُمْ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَأَرَيْنٰاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ ، وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ ... در الواقع أنّ هذا التهديد للمنافقين، ينفذ إلى الصميم من أعماقهم: لأنّه كشف عن واقع
ص: 293
عانوا صراعا شديدا من خلال محاولة ستره، وإذا بهم يهدّدون بكشفه. الكشف عن كونهما يحملون حقدا على الإسلاميين وكونهم أشخاصا معروفين بأعيانهم فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ وكونهم معروفين في لغتهم وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ : وحينئذ مع أمثلة هذا الكشف لواقعهم. تنتفي فاعلية السلوك المنافق الذي دأبوا على ستره وعانوا من خلاله أشدّ الصراعات.
قال تعالى. وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدىٰ لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمٰالَهُمْ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ فَلاٰ تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ .
في هذا المقطع جملة من الظواهر المتصلة بفكرة (الجهاد في سبيل اللّه) وهي فكرة تركّز على المقارنة بين المؤمنين أو المجاهدين وبين الكفار أو المتخلّفين من حيث الممارسات المتّصلة بعملية (الجهاد)...
وأوّل ما يطالعنا منها هو. الاختبار أو الامتحان الذي تفرضه عملية الجهاد، حيث أوضح النص بصراحة أن اللّه يبتلي المؤمنين حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين ويختبر أعماقهم، بصفة أن الجهاد بما تواكبه من شدائد ترتبط بأهم دوافع الشخص وهو الدافع إلى الحياة والأمن، سوف يكشف عن مدي استعداد الشخص للتنازل عن الدفع المذكور و الاتجاه بدلا منه إلى الله والالتزام بمبادئه...
بعد ذلك: يتّجه لنص إلى المقارنة بين الإسلاميين والكفار، موضحا أنّ الكفار لن يضرّوا اللّه شيئا بمواقفهم المنحرفة وإلى أنهم لن يغفر لهم، مطالبا
ص: 294
قبالة ذلك - الإسلاميين بإطاعة الله و الرسول: حيث أنّ الموازنة بين كون الكفار لن يضرّوا اللّه شيئا و بين مطالبة المؤمنين بالطاعة، تفصح عن سمة فنية تتصل بعمارة النص متمثّلة في عملية الامتحان الذي أشارت إليه مقدّمة المقطع، وهي عملية مادامت تشدّد على مفهوم «الامتحان» و ليس على مجرد النصر أو الهزيمة الدنيوية، فحينئذ لا بدّ أن يتجسّد الامتحان في إطاعة اللّه و الرسول دون أن يترك العصيان الذي يصدر عنه الحافر أو المتخلّف عن ساحة الجهاد، أي أثر على إرادة السماء التي تعني باختبار العبد وليس بمجرّد الكسب أو الخسائر الدنيوية...
والآن، بعد هذه المقارنة المشار إليها، يطرح المقطع جانبا جديدا من مفهومات الجهاد هو: الجانب العسكري المتمثّل في المطالبة بعدم المصالحة مع العدوّ: فَلاٰ تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ أي: ينبغي على الإسلاميين ألاّ يكفّوا عن قتال الكفّار وألاّ يدعوهم إلى الصلح ما داموا الأعلين أو الغالبين بإذن الله تعالى... و أهمية هذا المبدأ العسكري تظل من الوضوح بمكان، ما دمنا نعرف بأنّ مقاتلة الكفار تستهدف إعلاء كلمة الإسلام ونشرها في الأرض، فإذا وهن المسلمون وطالبوا بالصلح مع العدو فهذا يعني أولا:
كونهم متخاذلين وهو ما يضاد سمة الشخصية الإسلامية التي ينبغي أن تطبعها سمة «المثابرة» و «الجدية» ومواصلة الجهاد بكل متطلباته، كما أنّ المطالبة بالسلم أو الصلح تستتبع ثانيا: احتفاظ الكافر بموقعه الاجتماعي وهو ما يضاد أيضا فلسفة الجهاد التي تستهدف عزل الكافر عن نشاطه الاجتماعي المنحرف.
أخيرا، تختم سورة محمد (ص) بالمقطع الآتي:
إِنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ، وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لاٰ يَسْئَلْكُمْ أَمْوٰالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوهٰا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغٰانَكُمْ هٰا أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمٰا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ،
ص: 295
وَ اَللّٰهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ ، وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاٰ يَكُونُوا أَمْثٰالَكُمْ .
هذا المقطع يتّصل بظاهرة اقتصادية هي (الانفاق) وما يقابله من «البخل»... وبالرغم من أن السورة الكريمة تحوم على فكرة (الجهاد العسكري) كما لحظنا إلاّ أنّ إنهاءها بمقطع اقتصادي يطالب بالانفاق في سبيل اللّه من جانب وبأنّ الانفاق المطالب به نسبيّ ومحدود في نطاق الزكاة من جانب آخر: ثمّ بأنّ هذه النسبية تحتجز الشخص من إبراز لحظات الضعف لديه. حيت أنّ المطالبة بمزيد من الانفاق من الممكن أن يفضي إلى إفراز النزعات العدائية عند الشخص: حينئذ فإنّ الانفاق في الحدود النسبية، المذكورة: يظل متناسبا مع إمكانات الشخص دون أن يحقله ما لا طاقة له...
وأيّا كان، يعنينا الآن أن نوضح بأنّ إنهاء السورة الكريمة بظاهرة (الإنفاق في سبيل اللّه) تنطوي على جملة من الأسرار الفنية المتصلة بعمارة النص. فأولا تأتي عملية «الإنفاق» مقترنة بعملية الجهاد البدني بصفة أنها تنازل عن ممتلكات (الذات) مقابلا للتنازل عن (الذات) في نطاق الدافع إلى الحياة والأمن، أي أنه يجيء في المرتبة التالية للجهاد بالنفس، مضافا لذلك، فإن عملية (الاختبار) التي شكلت واحدا من الروافد الفكرية التي تتصل «بالجهاد» تجيء الآن محكا بدوره لفرز المؤمن عن غيره ممن لا يلتزم بإطاعة اللّه، بمعني أن فكرة (الانفاق في سبيل اللّه) جاءت في سياق (الاختبار الإلهي) الذي تكفّل المقطع ما قبل الأخير بتوضيحه حينما قال النص: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ ... إذن، من حيث عمارة السورة ثمة تلاحم بين الأفكار الجزئية المطروحة فيها، كما أنه من حيت الدلالة، ثمة تأكيد على عملية (الإنفاق في سبيل اللّه) مقترنا مع الأهمية التي تنطوي عليها عملية الجهاد العسكري في ساحات القتال... وفي الحالتين،
ص: 296
فإن هناك فكرة تخللت السورة الكريمة أشرنا إلى أنها تمثل في عملية الاختبار وإلى أنه في النطاق العسكري لا تنحصر القضية في النصر أو الهزيمة، كما أنه في النطاق الاقتصادي فإن القضية لا تنحصر في مجرد الانفاق بمكتسباته الدنيوية بل إنه يتصل بعملية «الاختبار» ذاتها، ولذلك - ختم النص هذا الجانب بالتهديد المتمثل في. أن اللّه هو الغني، وليس ثمة حاجة إلى الإنفاق في سبيله بل هو وسيلة لعملية الاختبار، ولذلك، فبمقدور الله أن يستبدل قوما آخرين يملكون استعدادا للالتزام بمبادئه، مما يعني أن المهم هو، معرفة الملتزم عن غيره، وليس مجرد الانفاق المادي، أو النصر والهزيمة العسكرية، بنحو ما تقدم الحديث عنه.
ص: 297
ص: 298
ص: 299
ص: 300
تظل سورة «الفتح» واحدة من السور الحائمة على موضوع (الجهاد) في سبيل الله... وتظل سائر الموضوعات مصوغة أو منصبّة على الفكرة المذكورة بحيث تتناول جوانب مختلفة ذات صلة بها...
وقد بدأت السورة بهذا النحو بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اَللّٰهُ نَصْراً عَزِيزاً.
لقد استهل النصّ حديثه عن الفتح أو النصر العسكري للإسلاميين، وبالرغم من أنّ «الفتح» المشار إليه مردد بين كونه فتحا لمكة أو صلح الحديبية وفقا للتفاسير المأثورة في هذا الصدد، إلاّ أنّه في الحالتين مؤشّر إلى كونه نصرا يبشّر اللّه به محمدا (عن) والإسلاميين مقرونا بغفران الذنب لأمّته (ص)، وبإتمام النعمة، والهدي إلى الصراط المستقيم...
بعد هذا التمهيد يتّجه النص إلى تفصيل الحديث عن المعطيات المذكورة، ملقحا إلى المعطيين: الدنيوي والأخروي، قائلا عن الأول: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ ، وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً كما قال عن الآخر: لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ فَوْزاً عَظِيماً أمّا الإشارة إلى المعطي الدنيوي فتتمثّل في ظاهرتين هما: إشاعة الأمن في قلوب الإسلاميين وازدياد درجة إيمانهم...
واضح، أن (الحاجة إلى الأمن) تظل في مقدمة الدوافع البشرية التي لا
ص: 301
يتردد أحد في السعي لإشباعها، كما أن زيادة الإيمان التي تترتب على إشباع الحاجة المذكورة تظل الهدف الرئيس للشخصية الإسلامية التي تحرص على ممارسة وظيفها العبادية بالنحو الأفضل...
وأمّا الإشارة إلى المعطي الأخروي فتتمثّل في ظاهرتين أيضا هما:
التبشير بالجنة والتكفير عن السيّئات...
من حيث عمارة أو هيكل المقطع فنيّا: لا بدّ من الإشارة إلى جملة من الخطوط التي تحكم البناء المذكور... فهناك أولا. التواشج العضوي بين مقدّمة السورة التي أشارت إلى غفران اللّه لما تقدّم من ذنب أمّة محمّد (ص) وما تأخر وبين التكفير عن السيّئات التي ألمح المقطع الأول من السورة إليها عند حديثه عن المعطي الأخروي: مع ملاحظة جانب هندسي آخر هو: إشراك (المؤمنات) في هذا المعطي مع (المؤمنين) في حين قد اقتصر النص في حديثه عن المعطي الدنيوي على عنصر (المؤمنين)... سرّ ذلك فنيا: أنّ النص ما دام يتحدّث عن غفران الذنب للإسلاميين، حينئذ فإنّ التبشير بالجنة يظل عاما يشمل الجنسين، بينما يظل (الأمن النفسي) منحصرا في (المؤمنين) بصفتهم الممارسين لعملية الجهاد العسكري...
ويلاحظ أيضا أنّ المقطع المذكور عندما تحدّث عن المعطي الدنيوي (الأمن وازدياد درجة الإيمان) وصله بقوله تعالى: وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... هذه الفقرة لها أهميّتها الفنية في هيكل السورة التي ستعرض لاحقا لجند اللّه اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، بصفة أنّ الفتح أو النصر مرتبط باللّه فحسب: كما هو واضح...
والآن لنتقدّم إلى مقطع لاحق:
وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ اَلظّٰانِّينَ بِاللّٰهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ ، عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ ، وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ
ص: 302
مَصِيراً وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً . فالملاحظ هنا أنّ المقطع الجديد تكرّر فيه تأكيد الحقيقة المذكورة وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... ، مع أنّه يتحدّث عن الطرف الآخر، من الآدميين، أي. الطرف المعادي للإسلاميين، وهم المنافقون والمشركون ذكورا وإناثا، ففضلا عن هذا التقابل الهندسي بين الإسلاميين والمنحرفين من حيث تبشير الأول بالجنة وتعذيب الآخر: نجد أنّ التلميح إلى كون السماوات والأرض (جنودا) للّه قد تقابل بين الحديث عن الإسلاميين وبين الحديث عن المنحرفين أيضا: بغية أن نستخلص دلالة عامة هي أنّ خذلان المنحرفين مرتبط باللّه فحسب أيضا قبالة كون النصر للإسلاميين مرتبطا باللّه: كما أشرنا في مقطع أسبق...
وأيّا كان، فالملاحظ - مضافا لما تقدّم - أنّ المقطع الجديد من السورة:
عرض لفئتين معاديتين هما: أهل الشرك وأهل النفاق، كما عرض لهم ذكورا وإناثا... ترى: ما هي الدلالة الفكرية لهذا العرض ؟ إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ غفران الذنب للإسلاميين شمل كلا من الذكور والإناث: تثمينا لشخصية محمد (ص) ورسالته، حينئذ فإن ما يقابلهم - من الفئات المنحرفة - سوف يشمل الجنسين أيضا: جزاءا لكفرانهم بالإسلام...
أما بالنسبة إلى شطر المنحرفين إلى منافقين ومشركين، فإنّ دلالة ذلك فنيا سوف تتضح حينما نتابع المقاطع اللاحقة من السورة: حيث سنجد أنّ ظاهرة (الفتح) أو (النصر) الذي استهلّت به السورة الكريمة قد ارتبطت بوقائع عسكرية: كان طرفاها السلبيان كلا من المنافقين والمشركين، أي: منافقي المدينة ومشركي مكّة، ومن ذلك نستخلص دلالة فنية أخرى كان المفسّرون كما أشرنا - قد تردّدوا في تحديد ما يقصد بالفتح المبين من السورة، وهو أمر قلنا أنّه ينسحب على مطلق الفتح: مكة أو الحديبية ما دام الأمر مرتبطا بوقائع ومواقف تخصّ محمدا (ص) وامّته الإسلامية من حيث التبشير بمصير هذه الأمة
ص: 303
دنيويا (وهو النصر في نهاية المكان) وأخرويا وهو (الظفر بالجنة) بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ ، يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً .
يتحدث هذا المقطع من سورة الفتح عن بيعة الرضوان أو الحديبية فيما بايع الإسلاميون النبيّ (ص) على الموت في سبيل اللّه...
(وقد سبق الحديث عن البيعة) التلميح إلى أن اللّه أرسل محمدا (ص) شاهدا على أمته، مبشرا بالجنة، نذيرا من النار، مطالبا الإسلاميين بالإيمان بالله ورسوله وبممارسة النصرة والتعظيم والتسبيح...
هذه المفردات من السلوك المطالب به ومن ثم الإشارة إلى بيعة الرضوان تظل على صلة بمقدمة السورة التي تحدثت عن الفتح المبين وزيادة حجم الإيمان لدى الإسلاميين... المهمّ أن هذه البيعة تشكّل نموذجا واعدا من السلوك الإسلامي في صعيد الجهاد في سبيل الله، لذلك: ترتب عليها الفتح أو النصر العسكري الذي استهلت به السورة... والملاحظ من زاوية المبني الهندسي للنص أن السورة بدأت بعرض الأحداث من خاتمتها وهي حادثة الفتح إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ثم ارتدت إلى بداياتها وهي بيعة الرضوان:
من حيث ترتب آثار الفتح على هذه البيعة: سواء أكان الفتح هو فتح مكة أو كان صلح الحديبية الذي مهّد لفتح مكة...
والسؤال، ما هو السر الفنّي لهذا العرض للأحداث التي صيغت من خاتمتها وارتدّت إلى بدايتها؟.
ص: 304
في تصورنا: إن الفتح بصفته حصيلة ما يطمح إليه الإسلاميون من جانب وبصفته الحصيلة العامة للسلوك المطالب به عباديا: حينئذ فإن استهلال العرض به يكسب أهمية هذه الحصيلة المشار إليها... صحيح أن الفتح يرتّب زمنيا على استقامة السلوك متمثلا في بيعة الإسلاميين للنبيّ (ص)، إلاّ أن التبشير به بصفته حصيلة للسلوك المتقدم، مضافا إلى أنه مقدمة لازدياد حجم الإيمان لديهم لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ يمكن أن يفسّر لنا السببية الفنيّة للاستهلال بالفتح قبل مقدمته... يضاف إلى ذلك أن النص وهو يتجه إلى مقابلة الإسلاميين بأعدائهم، يستتبع الحديث عن البيعة وغيرها في سياق الحديث عن المؤمنين والناكثين لذلك، المهم، أن النص حذّر - بعد أن بارك بيعة الإسلاميين - من نكثها قائلا فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ..
هنا نتوقع - من الزاوية الفنية - أن يتحدث النص عن السلوك السلبي الذي حذّر منه، كما نتوقع الحديث عن السلوك الإيجابي الذي باركه اللّه تعالى...
بالفعل، بدأ النص يتحدث عن السلوك السلبي، أولا:
سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ شَغَلَتْنٰا أَمْوٰالُنٰا وَ أَهْلُونٰا فَاسْتَغْفِرْ لَنٰا، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرٰادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً .
هنا ينبغي أن نتذكر أن النص كرّر في مقاطع سابقة قوله: وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... هذه الفقرة تلقي بظلها من جديد في هذا المقطع الذي يتحدث عن المتخلّفين عن صحبة رسول اللّه إلى مكة، مبيّنة بأنّه لا يملك لهؤلاء المتخلفين أحد شيئا ان أراد اللّه بهم ضرا أو نفعا ما دامت السماوات والأرض جنودا للّه تعالى... ويجب أن نتذكر أيضا أن النص ذكر لنا في مقطع
ص: 305
سابق نمطين من الأعداء، منافقين ومشركين وها هو النص يتحدث عن المنافقين أولا، راسما لنا جانبا من سلوكهم الكاشف عن النفاق حيث قالوا للنبيّ (ص) شَغَلَتْنٰا أَمْوٰالُنٰا وَ أَهْلُونٰا فَاسْتَغْفِرْ لَنٰا وحيث فضحهم النص بقوله يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .
إذن، أوضح النص بطريقة فنية سمة (النفاق) التي طبعت هؤلاء المتخلفين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ثم واصل الكشف عن أعماقهم قائلا بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ... لقد أوضح حقيقة أعماقهم التي خالفت ألسنتهم بأنها ظنت بأنّ النبيّ (ص) والإسلاميين سوف لن يعودوا إلى المدينة لأن المشركين في مكة سوف يبيدونهم... هذا الظن الذي فضحه النص بالنسبة إلى المتخلفين نعت أصحابه بأنهم قوم هلكي تأكيدا للحقيقة السابقة التي أشارت إلى أنه لا يملك أحدا غير اللّه ضرا ونفعا للآدميين وأكده النص جديدا حينما تابع قوله وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... .
إذن، للمرة الجديدة ينبغي ألاّ نغفل هذه الدلالات التي كررها النص في مقاطع السورة وأكدها مرتين في هذا المقطع الذي نتحدث عنه من أنه لا أحد سوى الله يمتلك فاعلية في صياغة الأحداث والمصائر: حيث تتوفر لدى المتلقي قناعة كاملة بأنّ كل من يهرب من ساحة المعركة: فسوف لن يجديه الهرب شيئا، كما أن كل من يتجه إليها سوف تدعمه السماء بأسباب النصر.
قال تعالى: سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلىٰ مَغٰانِمَ لِتَأْخُذُوهٰا ذَرُونٰا نَتَّبِعْكُمْ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاٰمَ اَللّٰهِ ، قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونٰا كَذٰلِكُمْ قٰالَ اَللّٰهُ مِنْ قَبْلُ ، فَسَيَقُولُونَ : بَلْ تَحْسُدُونَنٰا، بَلْ كٰانُوا لاٰ يَفْقَهُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ
ص: 306
اَلْأَعْرٰابِ سَتُدْعَوْنَ إِلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقٰاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّٰهُ أَجْراً حَسَناً، وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً .
هذا المقطع من سورة الفتح امتداد لمقطع سابق يتحدث عن نمط من المنافقين أسماهم النص ب (المخلفين)، وهذه التسمية واضحة كل الوضوح من حيث صلتها بسلوك خاص من المنافقين هو: التخلف العسكري عن الجهاد، وإلاّ فإن سمات النفاق الأخرى لديهم سوف تستتبع تسميتهم ب (المنافقين) وليس المخلفين...
وأيا كان، فالنص بعد أن بيّن في مقطع سابق بأنّ هؤلاء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، بدأ الآن برسمهم في موقفين عسكريين للكشف عن مزيد من سمة (النفاق) التي تطيع هؤلاء المخلّفين من الاعراب، أحدهما: الجانب الاقتصادي المعبّر عن (نفعيتهم) في السلوك، الآخر: الجانب العسكري.
طبيعيا الجانب الاقتصادي مرتبط بالجانب العسكري ونعني به: غنائم الحرب، فهؤلاء المخلّفون عندما شاهدوا الإسلاميين الذين صالحوا المشركين عام الحديبية، أنهم خصوا بغنائم (خيبر) بعد ذلك، حينئذ قالوا لهم: «ذَرُونٰا نَتَّبِعْكُمْ » ... ومن البين أن هذه المطالبة من المخلّفين تفصح بوضوح عن (البعد النفعي) لشخصيتهم المنافقة... إلاّ أن النص تكفّل بالردّ على مطالبتهم مبيّنا أن غنائم خيبر تخصّ من حضر الحديبية تبعا لوعد اللّه تعالى... لكن مع ذلك لم يدع النص هؤلاء المخلّفين يغلّفهم اليأس عن تعديل السلوك: إذا قدّر للبعض أن يخلص فعلا في سلوكه، لذلك اقترح النص ما يلي: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ سَتُدْعَوْنَ إِلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقٰاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّٰهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا - كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً ...
الواقع أن هذا الاقتراح ينطوي على هدف مزدوج هو: إفساح المجال لأيّ ادّعاء من الممكن أن يصحّ من بعضهم من حيث رغبتهم في ممارسة
ص: 307
الجهاد حقّا، ثم كشفهم - في الآن ذاته - أمام الآخرين: في حالة عدم موافقتهم على الاقتراح... والاقتراح هو: المساهمة في قتال قوم أشدّاء سوف يدعون إليه... مع ملاحظة أن النص وسم أصحاب المعركة المذكورة بأنهم أولوا بأس شديد... وأهمية هذه الصفة التي قدّمها النص أمام المخلّفين تتمثل في كونها محكا حقيقيا لصدق المشاعر التي يصدر المخلّفون عنها أو كذبها، فمن الممكن مثلا أن يتجه هؤلاء المخلفون إلى مقاتلة بعض الأقوام غير المتسمة بالبأس الشديد، إلاّ أن مقاتلة أولي البأس الشديد سوف لا تسمح للمخلّفين بالمساهمة في الجهاد: إذا لم يكونوا مخلصين فعلا...
هنا يتقدم النص إلى رسم الفئات التي يحق لها أن تتخلّف عن الجهاد... مقابلا: لرسمه الفئات التي تخلفت بغير عذر بالنحو الذي لحظنا عند المخلّفين من الاعراب... يقول النص لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىٰ حَرَجٌ ، وَ لاٰ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ ، وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ، يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذٰاباً أَلِيماً... .
من الزاوية العمارية أو الهندسية للنص نجد أن هذا المقطع ينطوي على وظيفة فنيّة تصل بينه وبين المقطع السابق، فأوّلا جاء الحديث عن المعذّرين مقابلا للحديث عن غير المعذّرين... ثانيا: عندما رسم النص فئات المعذرين مثل: الأعمي والأعرج والمريض، عقب على ذلك بقوله تعالى وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذٰاباً بمعني أن المتلقّي سوف يستخلص بأن غير الأعمي والأعرج والمريض: إذا أعرض عن المساهمة في ساحات القتال سوف يقابل المخلّفين من الأعراب الذين هددهم النص أيضا بنفس العبارة حينما قال عنهم في المقطع الأسبق وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً ...
إذن، نحن الآن أمام تقابل وتواصل بين مقاطع السورة التي تتحدث في جانب من موضوعاتها عن قضية التخلف عن الجهاد بعذر أو غير عذر..
ص: 308
والمهم هو: أن هذا التلاحم الفنّي بين جزئيات الموضوع لا يكشف عن إحكام البناء العماري للنص فحسب بل أن ما يطرح من دلالات فكرية تظل في الصميم من ظاهرة الجهاد في سبيل اللّه من حيث فرزه للمشاعر الصادقة أو الكاذبة أو المتردّدة، والمهم أيضا أن النص عندما عرض للمخلّفين من الأعراب في سياق حديثه عن الفتح المبين وتبشيره الإسلاميين بأضخم المعطيات الدنيوية والأخروية. إنّما كان ذلك من خلال المقارنة بين أسوياء الإسلاميين وبين ضعافهم أو المنافقين، لذلك يتجه النص بعد المقارنة المذكورة إلى الحديث عن الإسلاميين متابعا رسم السمات التي بدأها في مستهل السورة عنهم.
قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اَللّٰهُ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهٰا فَعَجَّلَ لَكُمْ هٰذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّٰاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً وَ أُخْرىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهٰا قَدْ أَحٰاطَ اَللّٰهُ بِهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً وَ لَوْ قٰاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً .
هذا المقطع تتحدث بدايته عن بيعة الرضوان... وقد سبق أن لحظنا في موقع سابق من هذه السورة عرضا للواقعة المذكورة، إلآ أن العرض المذكور كان في سياق الالتزام بالبيعة ونكثها، أما الآن، فإن عرض الحادثة المذكورة يجيء في سياق آخر هو: ترتيب الآثار العسكرية على الموقف الإيجابي الذي صدر الإسلاميون عنه في بيعتهم للنبيّ (ص) وهذه الآثار المترتبة هي حصيلة ما ألمحت المقاطع السابقة من السورة إليه، أي من حيث عمارة النص؛ جاء العرض القصصي لهذه الحادثة مطبوعا بالتسلسل الزمني لها، بينا كان العرض الأول موسوما بالزمن النفسي فهناك جاءت خاتمة الحادثة (وهي الفتح) بداية
ص: 309
قصصية ارتدّت بعد ذلك إلى التسلسل الزمني، بداية قصصية ارتدّت بعد ذلك إلى التسلسل الزمني، أما هنا فقد جاء عرض الحادثة خاضعا للتسلسل الزمني فيما تمثل في:
1 - بيعة الرضوان لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ ومغانم كثيرة وفي كونها صادرة عن أعماق مخلصة فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ ثم في ترتيب الآثار النفسية والعسكرية عليها فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ... ثم واصل النص عرض الأحداث اللاحقة وفقا للتسلسل الزمني الذي أشرنا إليه...
والسؤال هو، لماذا خضع النص في هذا المقطع للتسلسل الزمني بعد أن لحظنا أن بيعة الرضوان في بداية السورة قد خضع عرضها للزمن النفسي لا الزمن الموضوعي ؟.
في تصوّرنا، أن النص بعد أنّ قارن بين الأقوياء أو المخلصين الإسلاميين وبين المخلّفين من الأعراب، واتجه إلى رسم سماتهم: حينئذ فإن طبيعة الحديث عنهم تستتبع ربط النتائج بأسبابها وفقا لمنطق الأحداث نفسها، والمهم - خارجا عن المبني الهندسي المذكور - يعنينا أن نتابع الآن سلسل العرض لسائر الجزئيات التي رتّبها النص على بيعة الرضوان، وهي جزئيات ألمح النص عابرا إليها في مواقع متقدمة من السورة ذكرنا سياقها في حينه، أمّا الآن: فيعرض النص تفصيلا كما يعرض للجديد منها... لقد أشار النص إلى (الغنائم) ووسمها بأنها (مَغٰانِمَ كَثِيرَةً ) وهي معطي دنيوي؛ كما هو واضح، ومع أن النص لم يشجع المقاتل على التفكير «بالغنيمة» كما لحظنا سابقا، إلاّ أنه عندما يبشر الإسلاميين بها إنما يهبها قيمة خاصة في سياق الإخلاص الذي صدر الإسلاميون عنه في مواقفهم من البيعة والمعركة (وهي معركة خيبر التي اقترنت بالغنائم الكثيرة، وقد تكون معركة أخرى قد اقترنت بكثرة الغنائم
ص: 310
أيضا: كما احتمل ذلك بعض المفسرين، إلا أنّه في الحالين ليس المهم هو تحديد هذه المعركة أو تلك بل الدلالة الفكرية التي يستهدفها النص من المعركة، متمثلة في: إثابة الله الإسلاميين الفتح، وإنزال السكينة عليهم، وأخذهم الغنائم الكثيرة: تبعا للوعد الذي منحته السماء للإسلاميين بالنسبة إلى الغنائم التي سيحصلون عليها...
وأيا كان، فإنّ هذه الدلالة الفكرية المتمثلة في إثابة اللّه الإسلاميين:
معطيات متنوعة تثمينا لإخلاصهم، قد جسّدها النص في إشارته لقضية الفتح والسكينة، و «الغنائم»: ثم في قضايا غيرها مثل وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّٰاسِ وهي إشارة إلى إلقاء اللّه الرعب في قلوب بعض القبائل التي همّت بالهجوم على المدينة المنورة عندما غادرها الإسلاميون «لخيبر»: كما تقول النصوص المفسّرة... مضافا لذلك، فهناك معطيات أخرى تتصل بالفتوحات العسكرية أيضا، أشار النص إليها بقوله وَ أُخْرىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهٰا قَدْ أَحٰاطَ اَللّٰهُ بِهٰا حيث نستخلص منها أن هذه الفتوحات لو أخضعناها لحساب مادّي لم يتح للإسلاميين التوفر عليها لولا أن الله تعالى خذل الأعداء ونصر الإسلاميين...
قائلا: وَ لَوْ قٰاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً ... وقد ألمح المفسرون إلى أن المقصود من ذلك هو الإغارة التي اقترفها بعض القبائل على المدينة كما أشرنا أو القتال الذي اعتزمه المشركون في الحديبية فحجزهم اللّه عن ذلك... والمهم هو - كما كررنا - ليس تحديد المعركة بل دلالتها الفكرية المتمثلة في أن اللّه تعالى يلقي الرعب في قلوب الأعداء ويحجزهم عن النصر مقابل نصرته تعالى للإسلاميين: في حالة التزامهم بمبادىء اللّه...
صحيح أن تحديد المعركة ينطوي على الأهمية: حينما تضع في الاعتبار أن النص وهو يعتزم سرد سلسلة من المعطيات التي يستهدف تذكير الإسلاميين
ص: 311
بها: لغرض حملهم على تعميق الطاعة وحفزهم على المزيد منها: إنما يتجسّد في فرز هذه المعركة عن تلك لكي يبيّن لهم بوضوح نمط النعمة ودرجتها، إلاّ أنّ ذلك لا يتم إلا من خلال التحديد الذي يميّز بين سلسلة النعم بحيث يحجزهم عن ممارسة القتالي، وهي نعم بعضها يتمثل في القاء الرعب في قلوب الكافرين بحيث يحجزهم عن ممارسة القتال، أو يخذلهم خلال المعركة في حالة حدوث القتال...
وأيّا كان، فإنّ النص يبدأ بتفصيل الحديث عن المعطيات العسكرية المختلفة التي أفاضها اللّه على الإسلاميين، مشدّدا على الوقائع المتصلة بمكة المكرمة قبل الفتح وبعده على نحو ما نفصل الحديث عنه.
قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لاٰ رِجٰالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسٰاءٌ مُؤْمِنٰاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اَللّٰهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً .
في هذا المقطع يتحدث النص عن المعطيات التي أفاضها الله على الإسلاميين: تتميما لالتزامهم بمبادىء البيعة لرسول اللّه، حيث كان المقطع الأسبق يتحدث عن المعطيات أيضا إلاّ أنها كانت في سياق (الغنائم) التي مكنهم منها... وأمّا في هذا المقطع فيتحدث النص عن الأمن أو السكينة أو الاستقرار، حيث أوضح بأنّ اللّه تعالى كف أيدي المشركين عن الإسلاميين ومنع الإسلاميين أيضا من التورط في مقاتلتهم: من خلال واقعة الحديبية التي أفضت في نهاية المطاف إلى فتح مكة... كما أوضح المعطي المتصل بالمكيين أيضا: حيث يوجد بينهم مستضعفون مؤمنون: كان القتل من نصيبهم
ص: 312
لو قدّر للإسلاميّين أن يقاتلوا مشركي مكة، وهذا ما يحقق هدفا مزدوجا هو:
الحفاظ على أرواح المستضعفين من جانب وعدم تحمل الوزر عن قتلهم من جانب آخر... مضافا إلى معطي ثالث هو: رفع العذاب عن المكيّين بسبب وجود المؤمنين بينهم... هذه المعطيات لها خطورتها الكبيرة دون أدني شك، حيث عرض النص لها في سياق تثمينه للإسلاميين الذين أخلصوا لمبادئهم في بيعة الرضوان، وهو أمر يكشف عن أهمية الإلتزام بمبادىء اللّه وانعكاسه على المعطيات الدنيوية فضلا عن الأخروية...
وقد تابع النص عرض المعطيات الأخرى، قائلا:
إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ وَ كٰانُوا أَحَقَّ بِهٰا وَ أَهْلَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً .
ففي هذه الآية معطي آخر من الأمن والسكينة أو الاستقرار النفسي يتمثل في عملية الكفّ عن مقاتلة أولئك الذين تغلّفهم حميّة الجاهلية وهي الأنفة أو الرفض الأحمق لما هو خير، حيث ترتب على الكف المذكور تحقيق السكينة أو الأمن في نفوس الإسلاميين...
أخيرا، ختم النص عرضه للمعطيات المذكورة بالإشارة إلى أشدها خطورة في الحقل النفسي وانعكاسه من ثم على كلمة الإسلام ونشره ونعني به دخول الإسلاميين (مكة) بعد واقعة الحديبية التي أفضت إلى الدخول المذكور، ثم ما ترتب على ما بعد الدخول من الفتح اللاحق... يقول النص لَقَدْ صَدَقَ اَللّٰهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ : لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاٰ تَخٰافُونَ ، فَعَلِمَ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ...
لنلاحظ - من زاوية البناء الهندسي للنص - أن هذه الآية أشارت إلى
ص: 313
دخول الإسلاميين مكة (آمِنِينَ ) كما أشارت إلى تحليق رؤوسهم وتقصيرها بغير خوف (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاٰ تَخٰافُونَ ) ... إن عبارة (آمِنِينَ ) و (لاٰ تَخٰافُونَ ) تظل العصب الفكري الذي يتحرك في جزئيات هذا المقطع الذي تحدثنا عنه، بينما كان المقطع السابق عليه يتحدث عن معطي مادي هو الغنائم وحيث أردفه بعد ذلك معطي نفس هو الأمن...
هنا، ختم النص القرآني الكريم سورة الفتح بالآيتين الآتيتين: الأولى هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً فهذه الآية تعد تتويجا لكل محتويات السورة التي بدأت بالحديث عن الفتح الإسلامي إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ووظّفت جزئياتها جميعا - كما لحظنا - للحديث عن الفتح المذكور من حيث نتائجه التي أفضت إلى المعطيات التي تقدم الحديث عنها مفصلا... ولكنها - في الواقع - تظل معطيات يلحقها ما هو أكثر شمولا أو فاعلية في ميدان النشر لرسالة الإسلاما، فالأشدّ أهمية هو: نشر الرسالة الإسلامية، وهو ما أوضحه النص بقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ أي: إعلاء كلمة الإسلام وغلبته على سائر الاتجاهات الأرضية...
إذن، من حيث البناء العماري العام لسورة الفتح لحظنا كيف أن النص القرآني المذكور قد بدأ بالإشارة إلى الفتح وانتهى إلى إظهار الإسلام على جميع التيارات: من حيث تجانس كل من (الفتح) و (إظهار الإسلام على الدين كله)، كما أن الموضوعات التي تخلّلت البداية والنهاية: جاءت منصبّة في روافد متشعبة أفضت في نهاية المطاف إلى صياغة النتيجة النهائية وهي الفتح أو إعلاء كلمة الإسلام على سواه...
بيد أن الملاحظ أن هذه السورة التي أوضحنا خطوط عمارتها الفنية، لم تتم بعد، بل هناك آية قد اختتمت السورة بها تختص بالحديث عن أصحاب
ص: 314
محمد (ص) وترسمهم بسمات خاصة: من خلال صور فنيّة لا بدّ أن نقف عندها، لملاحظة الجانب الفني مضافا إلى الجانب الفكري: فضلا عن الجانب الهندسي الذي يربط بين هذه الخاتمة التي تخصّ شخوص الإسلاميين وبين الفكرة العامة التي حامت السورة عليها ما دام هدفنا أساسا هو: دراسة السورة من حيث بناؤها وصلة أجزائها بعضا بالآخر.
قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ، وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً .
هذه الآية ختمت بها سورة الفتح التي كانت تتحدث عن النصر الذي حققه اللّه للإسلاميين: نتيجة لإخلاصهم لمبادىء اللّه من خلال الموقف الذي صدروا عنه في بيعة الرضوان... وها هو النص الآن: يختم السورة المذكورة برسم سمات الإسلاميين الملتزمين بمبادىء الله: بصفتهم النموذج المتميّز الذي يفرزهم عن غيرهم، وهو نموذج يمكننا أن نستخلصه - وفقا للطريقة الفنية غير المباشرة التي سلكها النص - من مجمل الموقف الذي بايعوا من خلاله رسول الله على الموت حينما ثمّنت السماء الموقف المذكور ورتبت عليه آثار الفتح...
هذا من حيث صلة الآية بهيكل السورة وموقعها الهندسي من ذلك...
أما من حيث صلة دلالتها الفكرية فإنّها تقرّر بأنّ محمدا (ص) وأصحابه أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم، طالما تراهم ركعا سجّدا بحيث تلحظ آثار السجود في جباههم... أنهم كزرع أخرج شطأه وقواها حتى كبر الزرع
ص: 315
وقام على أصوله بنحو يعجب الزارعين وهو ما يغيظ الكفار دون أدني شك...
هذه الدلالة الفكرية صاغها النص بلغة فنية تعتمد عنصر (الصورة بنمطيها: المباشر وغير المباشر، أي: الصورة الواقعية والصورة الرمزية...
فالصورة الواقعية هي ظواهر أو مشاهد الركوع والسجود وآثار ذلك في وجوه المؤمنين وهي مشاهد حسيّة حركية تمثل ما يسمّي بالملمح الخارجي للشخصية، وإلى جانبها ملمح داخلي للشخصية هو: كون الإسلاميين رحماء.
فيما بينهم أشداء على الكفار... ونحن لا نحتاج إلى التعقيب على هذا الرسم للصورة الخارجية والداخلية للإسلاميين ما دامت تعبّر بوضوح عن المظهر العبادي الذي تطلبه السماء من الآدميين، فالصلاة هي المظهر المباشر لتحديا العلاقة بين اللّه تعالى والعبد، كما أن سيماء السجود على الجبهات مظهر عن عمق العلاقة المذكورة بصفتها تكشف عن طول السجود وليس عن مجرد السجود العابر...
إذن، الملمح الخارجي المتصل بالركوع والسجود وأثر ذلك على الوجه يفصح عن علاقة عميقة بين العبد وإدراكه لوظيفته العبادية في تعامله مع الله تعالى...
أما الملمح الداخلي يعبّر عن تحديد العلاقة الاجتماعية بعد أن كان الملمح الخارجي معبرا عن العلاقة الذاتية بين اللّه والعبد... هذه العلاقة الاجتماعية تفصح عن أشد مستوياتها لدى الإسلاميين: فهم (رُحَمٰاءُ ) بينهم فلا نتصور إمكانية أية علاقة مفصحة عن عمق دلالة الإنسان وصلته بأخيه الإنسان أكثر من عنصر (الرحمة) المتبادلة بين الأطراف الاجتماعية ما دمنا نعرف أن (الحب) أساسا هو جوهر التركيبة البشرية، وها هم المؤمنون يعبّرون عن أشد مستوياتها عمقا متمثلة في (الرحمة) المتبادلة بينهم... وبالمقابل
ص: 316
فإنّ (الكفار) ما داموا أساسا منعزلين عن اللّه تعالى فيتعين حينئذ أن ينعكس هذا على سلوك الإسلاميين من حيث علاقتهم بالكفار: حيث وسمهم بأنهم (أَشِدّٰاءُ ) على الكفار، وهو ما ينبغي أن يكونوا عليه فعلا ما دامت علاقة الإسلاميين بالآخرين مرتبطة، بموقف الآخرين من اللّه تعالى، وما دام الآخرون منعزلين عن الله فحينئذ يتعين على الإسلاميين أن ينعزلوا عنهم وأن يكونوا (أشداء) عليهم...
هذا كله من حيث الرسم للصورة الواقعية التي صاغها النص للإسلاميين.
أما من حيث الرسم للصورة الرمزية أو الفنية فتتمثل في تلك الصورة التي جعلها كالزرع الذي يخرج شطأوه فيشتد ويكبر الزرع ويستوي على سوقه:
ليعجب الزرّاع من جانب ويغيظ الكفار من جانب آخر...
وأهمية هذه الصورة أو التشبيه تمثل في كونها معبّرة عن تنامي كلمة الإسلام التي عبّرت عنها سورة الفتح بصورة عامة، وجاءت هذه التركيبة الصورية مفصحة عن ذلك، مضافا إلى كونها مفصحة عن تحديد العلاقة الاجتماعية بين الإسلاميين والكفار: حيث يمكن ملاحظة ذلك في كون (الزرع) يعجب الزراع ويغيظ الكافرين: فإعجاب الزرّاع به يرتبط بكون الإسلاميين (رحماء) بينهم، وإغاظته للكفار يرتبط بكون الإسلاميين (أشداء) على الكفار...
إذن، جاء هذا (الرمز) أو (الصورة الفنية) متجانسا مع الدلالة الفكرية التي انطوت عليها موضوعات سورة الفتح من جانب، وما انطوت عليها الصورة التي رسمت الملامح الداخلية الإسلاميين من جانب آخر...
وبهذا يمكننا أن ندرك خطورة وأهمية العبارة القرآنية الكريمة التي ختمت
ص: 317
بها السورة من حيث صلتها بالهيكل العام للسورة، وصلتها بجزئيات الهيكل الخاص بالمقطع: ثم صلة ذلك جميعا بتلاحم الأجزاء بعضها مع الآخر، مما يفصح عن خطورة وأهمية البناء المذكور.
ص: 318
ص: 319
ص: 320
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا: لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ، وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا. لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اَللّٰهِ ، أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ اَلْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
هذا المقطع من سورة الحجرات: يتعلق بقضية خاصة ترتبط بنمط السلوك الذي ينبغي أن تختطه الشخصية في تعاملها مع رسول الله (ص)...
متمثلا في عدم رفع الصوت أمامه وعدم مناداته بمثل ما ينادي به الرجل العادي... وبالرغم من أنّ هذه القضية (ذات طابع خاص)، وبالرغم من كونها ترتبط بأحد الوفود الذين جاءوا إلى النبيّ (ص) بعد الفتح (فتح مكة) من أجل المفاخرة... إلاّ أنّ الأهمية الفنية لمثل هذا النمط من السلوك هي.
إمكان انسحابها على مطلق التعامل مع الشخصيات المصطفاة أو التي تحتل موقعا عباديا، ذلك أنّ جهر الصوت يتنافي حتى في المواقف العادية. مع رصانة الشخصية الإسلامية التي ينبغي أن تتعامل وفق معايير النصح الانفعالي:
فتتحدث بهدوء، وتخاطب الآخرين بالتؤدة و الإناة، ولا تتعجل اللقاء، ولا تسبب حرجا لهم...
من هنا يمكن القول بأنّ أهمية هذا الطرح لسلوك الناس حيال النبيّ (ص) تنسحب على مطلق السلوك الذي تستهدفه توصيات الإسلام. تبعا لدرجة الشخصية التي تحتلها لدى اللّه من حيث موقعها العبادي، حيث يكون رسول
ص: 321
اللّه (ص) هو التجسيد الأرفع في هذا الميدان.
بعد ذلك يتجه النص القرآني الكريم إلى طرح ظواهر مختلفة من سلوك الإنسان (بخاصة في ميدان العلاقات الاجتماعية وما تواكبها من أشكال التفاعل المفضية إلى تحقيق المجتمع المتوازن)... لذلك، يستطيع الملاحظ الاجتماعي أن يستخلص من هذه السورة الكريمة (سورة الحجرات) دلالات اجتماعية يتركز الحديث حيالها، بحيث تكون هذه السورة (بحثا) اجتماعيا يتعلق بتحديد أفضل أشكال التعامل بين الآدميين، حيث مهد للحديث عن هذا الجانب الاجتماعي: بعرض قضية اجتماعية خاصة بتعامل الناس مع النبيّ (ص) بصفته الطرف الاجتماعي المجسّد لرسالة السماء، مقابل الأطراف الاجتماعية الأخرى... مستثمرا هذا الجانب: لكي ينطلق منه إلى رسم سائر العلاقات الاجتماعية، وهي علاقات ستقوم - أساسا - على معيار محدد هو: الاحترام والتقدير المتبادل بين الأطراف الإنسانية.
إنّ من الحقائق المعروفة (في ميادين الاجتماع البشري)، هو: محاولة صياغة المجتمعات وفق علاقات (التعاون) بدلا من (الصراع)، وهو أمر من الصعب تحقيقه في المجتمعات المنعزلة عن مباديء السماء. نظرا لعدم توفّرها على وعي عبادي يسمح لها بتحقيق علاقات التعاون المشار إليها...
من هنا تتجه هذه السورة الكريمة لعرض مباديء الاجتماع البشري وفق علاقات التعاون، وذلك: من خلال طرح ظواهر يتصل بعضها بتركيبة الإنسان فطريا مثل قوله تعالى (في المقطع الجديد من هذه السورة): وَ اِعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَللّٰهِ : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ اَلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ ...
إنّ هذه الظاهرة تتصل بالتركيب الوراثي للإنسان (من حيث جهازه الفكري - كما سنشير إلى ذلك لاحقا)، ولكنها تشكل أرضية للدخول إلى
ص: 322
ميدان التعامل الاجتماعي الذي ستوضحه السورة الكريمة عندما تتحدث عن الحرب والسلم، والصراع والتعاون، ونزعات الحقد و الحب... إلخ مما يتصل بعلاقات الإنسان مع أخيه...
المهم هو، أم نشير - قبل أن نتحدث عن التفصيلات التي تنطوي عليها موضوعات هذه السورة الكريمة - إلى أن هذه السورة بدأت بطرح موضوع اجتماعي خاص، ثم انطلقت منه إلى الحديث عن موضوعات اجتماعية عامة، تجمع بينها فكرة مشتركة تنصب عليها موضوعات السورة المختلفة، مما يفصح ذلك عن إحكام السورة وتلاحم جزئياتها بالنحو الذي سنوضحه لاحقا إن شاء اللّه تعالى.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ، فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ اَلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ ، أُولٰئِكَ هُمُ اَلرّٰاشِدُونَ .
في هذا المقطع (من سورة الحجرات) طرحت ظاهرتان، إحداهما تتصل بخبر الفاسق، والأخرى تتصل بتركيبة الإنسان فطريا من حيث نزوعه إلى الإيمان وكراهيته للكفر والفسوق والعصيان...
والسؤال أولا، ما هي العلاقة بين هاتين الظاهرتين: مجيء الفاسق بنبأ ثم تزيين الإيمان في القلوب ؟ لنتحدث أولا عن هاتين الظاهرتين، ثم نتبين صلة أحدهما بالأخري، ثم صلتهما بفكرة السورة الكريمة...
الظاهرة الأولى هي. أنّ الفاسق إذا جاء بخبر فينبغي ألاّ يصدقه السامع
ص: 323
إلاّ بعد أن يتبين الحقيقة... ويلاحظ أنّ النص القرآني الكريم علل ذلك بإمكان أن يترتب على تصديق الفاسق: ضرر على الناس فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ ... وهذا يعني أنّ النص ركز على قضية اجتماعية (و ليست فردية فحسب) هي: عدم إلحاق الضرر بالقوم... وهذه الدلالة (أي: عدم إلحاق الضرر بالناس) سنجد انعكاساتها في موضوعات السورة التي سنقف عندها لاحقا...
وأما الظاهرة الثانية وهي تزيين أو تحبيب الإيمان في القلب وتنفيره من الكفر و الفسوق والعصيان، فأمر ينبغي أن نقف عنده...
إنّ هذه الظاهرة تشكل أهم ملاحظة نفسية ترتبط بالإنسان بمعرفة تركيبته... فمن الواضح أنّ الإنسان يولد - وهو مزود بجهاز عقلي (هو آلية التفكير من استجابة ونسيان و تذكر... إلخ)، كما أنّه مزوّد بجهاز نفسي (هو آلية الاستجابة للأشياء بشكل طبيعي لا خلل فيه)، ثم أنه مزوّد أيضا (وهذا ما ينبغي التشدد فيه) بجهاز فكري أو عبادي هو: نزوعه الفطري إلى الإيمان بالله تعالى، ونفوره الفطري من الكفر والفسوق والعصيان... لذلك فإنّ بعض الاتجاهات النفسية التي تزعم عدم فطرية الجهاز الفكري، تظل بمنأى عن الحقيقة التي أكّدها القرآن الكريم، وحينئذ إذا أتيح للبعض أو للكثير من الناس بأن يلحدوا أو يفسقوا، فإنّما يكشف هذا السلوك عن (الشذوذ): تماما كما كان الإنسان يرث جهازا عقليا مضطربا أو جهازا نفسيا مضطربا (كما هي حال الأمراض العقلية والنفسية ذات الأصل الوراثي فطريا)...
ولكن خارجا عن هذه التركيبة البشرية، يثار سؤال آخر هو: ما هي الفوارق بين المصطلحات الثلاثة التي وردت من هذه الآية الكريمة: وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ .
إنّ الكفر هو (عدم الإيمان باللّه تعالى)، وأما العصيان فهو: عدم الالتزام
ص: 324
بمبادىء الله تعالى، وأما الفسوق: فقد تفاوتت النصوص المفسرة في تحديده حيث ذهب بعضها إلى أنّه هو: الخروج من الطاعة إلى المعصية، وذهب الآخر إلى أن المقصود منه (الكذب)، وهذا الرأي الأخير هو الصائب:
لاعتبارين، أولهما ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسيره بأنّ المقصود من ذلك هو الكذب... أما الاعتبار الآخر فهو اعتبار فني محض، وذلك أنّ الآية ذكرت (العصيان) إلى جانب (الفسوق) وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ ، وحينئذ لا معنى لأن يكون (الفسوق) معصية، لأنّ المعصية قد ذكرها النص تحت مصطلح (العصيان)، وحينئذ يتعين أن يكون المقصود من (الفسوق) هو (الكذب) كما فسّره الإمام الباقر عليه السلام... ويدلنا على ذلك أيضا (من ناحية فنية) أنّ الظاهرة الأولى من الآية وهي: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ قد تضمنت مفهوم (الكذب) من سلوك الفاسق، وحينئذ (من حيث التجانس الفني بين العبارتين) نستكشف بأنّ المقصود من (الفسوق) هو الكذب في سياق هذه السورة فحسب، وإلاّ فإنّ مصطلح (الفسق) يظل مرتبطا بمفهوم (المعصية) دون أدني شك...
وبهذا نكون قد لحظنا علاقة الظاهرتين (مجيء الفاسق بنبأ) ثمّ (تركيبة الإنسان الفكرية: من حيث تحبيب الإيمان وتكريه المعصية، وهو أمر يفصح دون أدني شك عن إحكام السورة عماريا من حيث علاقة أجزائها بعض مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه، فضلا عن صلة ذلك بمجموع السورة الكريمة بالنحو الذي سنوضحه لاحقا (إن شاء اللّه تعالى).
قال تعالى. وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ ، فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ ، وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ
ص: 325
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ، وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .
هذا المقطع من سورة الحجرات امتداد لمقاطع سابقة تتناول ظاهرة (العلاقات الاجتماعية في الإسلام) وهي الموضوع أو الفكر التي تحوم عليها هذه السورة بخاصة. وما دمنا نعني - في هذه الدراسات - ببناء السور القرآنية الكريمة، فحينئذ ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنّ هذه السورة تتمحض لدراسة العلاقات الاجتماعية: كل ما في الأمر أنّها تتناول جوانب معينة من هذ العلاقات بحيث يتم التركيز عليها نظرا لأهميتها الخاصة: من وجهة النظر الإسلامية... المهم، أنّ الجديد في هذا المقطع هو صياغة مبدأ اجتماعي (لا يزال علماء الاجتماع الأرضي يحومون على صياغة مماثلة دون أن يفلحوا في ذلك)، المبدأ الاجتماعي الذي قدمته السورة هو قوله تعالى: اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ونحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ علماء الاجتماع يشطرون العلاقات الاجتماعية إلى شطرين (علاقات التعاون) و (علاقات التنافر) أمكننا حينئذ أن ندرك أهمية هذا المبدأ الاجتماعي الذي طرحته السورة الكريمة وهو يركز على (علاقات التعاون)، لكن. بين المؤمنين بطبيعة الحال، و إذا كان (علم الاجتماع الأرضي) - في بعض اتجاهاته - يقرّر بأنّ (علاقات التنافر لها فاعليتها الإيجابية أيضا، فإنّ الإسلام - وفق المبدأ الاجتماعي اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ لا يقر علاقات التنافر بين المؤمنين بقدر ما يقرها بينهم وبين العدو..
وهناك فارق بين من يذهب إلى أن (التنافر) يشكل محفّزا لتنمية المجتمعات وبين الاتجاه الإسلامي الذاهب إلى أن «التعاون» هو الصياغة الوحيدة لتحقيق توازنها عدا حالات خاصة من (التنافس) من أجل عمل الخير. لذلك، فإنّ المبدأ الاجتماعي القائل: اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يظل هو الصياغة الوحيدة - كما كررنا لتحقيق التوازن، وهو أمر لا يمكن تصوره إلاّ من خلال (علاقات التعاون) وليس (التنافر) كما هو واضح.
ص: 326
طبيعيا، من الممكن أن تدخل علاقات (التنافر) في صياغة بعض الأحداث، وهذا من نحو ما طرحه المقطع من بدايته الذاهبة إلى أنّه لو تنافرت جماعتان من المؤمنين (وهو أمر أوضحته النصوص المفسرة من أن الآية نزلت في جماعتين من الأوس والخزرج أو غيرهما) بيد أنّ مثل هذا التنافر يظل مبدأ سلبيا وليس إيجابيا: بدليل أنّ المبدأ القائل: اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ هو الذي أمر باتباعه في حسم التنافر، عدا شيء واحد أشارت الآية إليه الا وهو: بغي إحدى الجماعتين، وحينئذ فإنّ محاربة البغاة يظل أمرا ضروريا لتحصين علاقات التعاون): نظرا لأنّ الباغي أو المعتدي يظل عاملا كبيرا في حجز أية إمكانية للتوازن الاجتماعي... ومن هنا فإنّ محاربته هو قضاء على (التنافر)، ومن ثم: تتمحض العلاقات في نطاق (التعاون) بعد أن يمنع الباغي من ممارسة عدوانه...
وأيا كان الأمر، يعنينا - من هذا المقطع الذي نتحدث عنه - جانبان، أولهما: طرحه لأهم مبدأ اجتماعي يتحقق من خلاله. توازن المجتمعات التي لا تزال (منذ أن نشأ المجتمع البشري) تعاني من انشطاراتها وانحرافاتها، وذلك لغيابها تماما عن المبدأ القائل: اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... والآخر هو:
صلة هذا المبدأ الاجتماعي بموضوعات السورة الكريمة وأفكارها، وهي موضوعات وأفكار تحوم على جملة من مباديء الاجتماع الإسلامي أو البشري بعامة (كما سنري في مقاطع لاحقة من هذه السورة الكريمة)، حيث يترتب على مبدأ اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أكثر من تجسيد أو أكثر من مبدأ اجتماعي تصب بمجموعها في هدف واحد هو: تحقيق المجتمع المتوازن. والمهم بعد ذلك أنّ السورة الكريمة - في طرحها لأمثلة هذه المباديء الاجتماعية، تفصح عن إحكام هندسي بالغ الأهمية والجمال: من حيث تلاحم هذه الموضوعات
ص: 327
بعضها مع الآخر، كما لحظنا، وكما سنري ذلك في المقاطع اللاحقة من النص القرآني الكريم.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ، وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ ، بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ ، وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ .
هذه الآية من سورة الحجرات: تشكل مقطعا من مقاطع السورة الكريمة التي يقوم هيكلها الهندسي على فكرة (العلاقات الاجتماعية) وتحديدها وفق تصوّر إسلامي خاص قائم على مفهوم (التعاون) بدلا من العلاقات الاجتماعية القائمة على مفهوم (التنافر)..
وفي ضوء هذه الفكرة التي لحظنا - في مقاطع سابقة - تجسيدات متنوعة لها: يتقدم النص القرآني في هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن، بعرض نموذج آخر من (العلاقات الاجتماعية) التي يطالب المجتمع الإسلامي بها.
مقابل العلاقات التي يطالب النص: مجتمع الإسلام بالتخلي عنها وفق هذ الخطاب: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا: لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ، وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ ... .
نواجه هنا ثلاث ظواهر سلبية يحذر المقطع القرآني منها، وهي السخرية، اللمز، التنابز بالألقاب، وهذه الظواهر - بالرغم من تفاوت أشكالها - إلاّ أنّها جميعا تصب في سلوك اجتماعي واحد هو (العلاقات القائمة على التنافر) أو لنقل: العلاقات التي تفرزها نزعات (العدوان) بدلا من (المسالمة) فالنزعة العدوانية لا تأخذ مظهرا واحدا من السلوك، بل تأخذ مظاهر متنوعة
ص: 328
قد تكون حركية (كما هو الحال في العدوان باليد) وقد تكون (لفظية) - كما لو تم ذلك من خلال اللسان... وهذا الأخير أيضا (أي: العدوان اللفظي) يتخذ مظاهر مختلفة مثل: الشتم صريحا، (والسخرية، أو الفخر، أو المزاح، أو الغيبة... إلخ).
والمهم، أنّ النص القرآني الكريم طرح أكثر من مظهر عدواني لفظي:
حذّر منه، وعقّب عليه وعلى نتائجه بالنحو الذي نعرض له الآن...
وأول مظهر عدواني لفظي أبرزه المقطع، هو: عنصر السخرية... أو الاستهزاء... والسخرية تعني. أنّ يقلّل الإنسان من قيمة إنسان آخر من خلال الازدراء لشخصيته: كمأ لو كان فقيرا أو مهملا من حيث الموقع أو النسب أو سوى ذلك...
وأما المظهر الآخر الذي ورد النهي عنه، هو: اللمز، ويعني: الانتقاص من الإنسان من خلال ذكر عيوبه...
والمظهر الثالث هو: التنابز بالألقاب، ويعني. الانتقاص منه من خلال إطلاق اسم عليه يؤذي صاحبه... هذه المظاهر الثلاثة تشكل ممارسات عدوانية لفظيه، تضاد تماما مفهوم اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فيما طرحته السورة الكريمة في مقطع سابق، حيث قدّم النص تجسيدات واضحة لكل ممارسة تتنافي مع الحب والمسالمة ونحوهما من النزعات التي تساهم في إحكام البنيان الاجتماعي...
هنا ينبغي أن نقف عند المظهر الأول (ونعني به عنصر السخرية) لنلاحظ السرّ الفني الكامن وراء جعل الرجال على حدة، وجعل النساء على حدة:
موضعا للمطالبة لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ حيث فرز الرجلان كما فرز النساء - مع أنّ الجميع خاضع لنزعة مشتركة لا يفترق فيها الرجل عن المرأة، فما هو السر في هذا الفرز؟.
ص: 329
في تصورنا، أنّ عنصر «السخرية» - بما أنّ المرأة ذات نصيب ملحوظ فيها من حيث كونها تعني بالزخرف والشكل والمظهر الخارجي - حينئذ لا بد أن يتضخم لديها مثل هذه الممارسة، فضلا عن أنّ سبب نزول الآية الكريمة - حسب النصوص المفسر يرتبط ببعض النسوة اللواتي مارسن هذه النزعة العدوانية...
وأيا كان الأمر، يعنينا - في النهاية - أن نلفت الانتباه إلى عمارة السورة القرآنية الكريمة وصلة هذا المقطع بها، حيث أشرنا إلى أنّ النص طرح موضوع أو مبدأ اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في مقطع سابق مشددا في قضية الإصلاح بين المؤمنين، وحينئذ قدّم النص - مقابل الإصلاح - مفهومات عن الضد أيضا حتى يتبلور هذا المفهوم الذي يستهدف توصيله، مفصحا بذلك عن جمالية البناء الفني للسورة التي تتلاحم موضوعاتها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ ، وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؛ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ .
هذه الآية من سورة الحجرات تشكل مقطعا جديدا من مقاطع السورة الكريم التي تحوم فكرتها على (العلاقات الاجتماعية في الإسلام) بخاصة على المبدأ المعروف الذي طرحته السورة في مقطع أسبق وهو مباديء اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ .
وها هو النص يقدم نماذج من السلوك المضاد للمبدأ المذكور - وهي إساءة الظن، التجسس، الغيبة... وقد سبق للسورة أن قدمت نماذج أخرى من السلوك المضاد لمبدأ «الأخوة» في الإيمان، مثل السخرية، واللمز،
ص: 330
والنبذ.. و إذا كانت السخرية واللمز و النبذ نجسّد سلوكا عدوانيا (لفظيا) من خلال المواجهة المباشرة، فإنّ الظن، والتجسس والغيبة، تشكل سلوكا لفظيا من خلال المواجهة غير المباشرة، وهذا ما يسوّغ جمع المفردات المتجانسة من السلوك في مقطع خاص مقابل مفردات أخرى من السلوك ينتظمها مقطع خاط أيضا، وهو أمر يجعل عمارة السورة الكريمة خاضعة لبناء محكم كما هو واضح.
المهم، أنّ المقطع طرح ثلاثة أنماط من السلوك: إساءة الظن. بصفتها تعبيرا عن نزعة عدائية حيال الشخص الأخر، ثم «التجسس» بصفته تعبيرا صارخا عن النزعة العدائية لأنّ تتبع العيوب هو. تعبير حاد عن نزعة العدوان كما هو واضح... ثم: «الغيبة» وهي قمة النزعة العدوانية، بحيث خصص لها المقطع كلاما مفصلا يعتمد عنصر الصورة الفنية التالية: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ... هذه الصورة التي يطلق عليها البلاغيّون مصطلح (التشبيه) ونسميها نحن بالصورة «الاستدلالية» تظل من الصور المدهشة، المثيرة، الغنية الطريفة. في القرآن الكريم... والواقع أنّ بشاعة الغيبة من حيث كونها من أشد المعاصي. فرضت صياغتها في صورة مدهشة كل الدهشة... أنّ لحما الميت يقترن بثلاثة مظاهر منفرة تختص كا منها بحاسة من حواس الإنسان: حاسة البصر، وحاسة الشم، وحاسة الذوق، أي:
الحواس المرتبطة باللون، والرائحة، والطعم، فاللحم الميت من حيث (المنظر) يقرن بالبشاعة، كما أنّه من حيث الرائحة يقترن بما هو نتن، ومن حيث الطعم يقترن بما لا يمكن تذوقه بأي شكل من الأشكال...
وعندما يتساءل النص أو يقول مستدلا. أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً حينئذ يستحضر في ذهن السامع أبشع الصورة المنفرة بخاصة أنّه يستفهم إمكانية أن يأكل الإنسان لحم أخيه، وإلاّ لو قدم تشبيها فقال: «إنّ من
ص: 331
اغتاب أخاه كما أكل لحمه ميتا» لا تتحقق الإثارة الفنية بمثل تحققها: لو تساءل عن إمكانية ذلك، والسرّ في هذا أن كل لحم الميت لم يخبر علميا أي لما يكن ممارسة تجريبية، لذلك ينبغي أن تنتخب للموضع صورة أخرى غير التشبيه وهي «الاستدلال» كما قلنا، متمثلة في التساؤل عما إذا كان يحب الإنسان أن يأكل لحم أخيه ميتا...
إذن، عندما انتخب المقطع القرآني الكريم صورة «استدلالية»: إنّما رعي بذلك سياق الموضوع الذي يتطلب مثل هذا الاستدلال، وعندما قدّم صورة ذات أطراف متنوعة ترتبط بحاسة الشم والذوق والبصر: إنّما رعي أيضا طبيعة الموضوع الذي تطلّب مثل هذه الصورة المكثفة: نظرا لكون الغيبة من أشد مفارقات السلوك كما أشرنا.. والأهم من ذلك كله، أنّ المقطع القرآني الكريم بهذا الطرح لمفهوم (الغيبة) فضلاّ عن مفهوم «أساءة الظن» ومفهوم «التجسس» قد راعي أيضا: الفكرة الرئيسية التي تحوم عليها السورة الكريمة، أي فكرة (العلاقات الاجتماعية) المنطلقة من مبدأ اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فيما أوجبت (التعاون) بدلا من المنازعة والعدوان. وهو بهذا الطرح. يكون قد أحكم بناء النص من حيث تلاحم موضوعاته بعضا مع الأخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ ، وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .
هذه الآية الكريمة. تشكل مقطعا جديدا من سورة الحجرات التي تحوم فكرتها على «العلاقات الاجتماعية في الإسلام»، وهي علاقات «التعاون» بين الأطراف الاجتماعية...
والسؤال هو، ما هي الدلالة الاجتماعية الجديدة التي يتضمنها هذا المقطع ؟
ص: 332
هناك دلالتان يتضمنهما هذا المقطع وهما. «التعارف» بين الأسرة الإنسانية، ثم تحديد المعيار الذي يميز كائنا أو أمة عن الاخري، وهو معيار «التقوي»...
إنّ البحوث الاجتماعية (قديما وحديثا) طالما تطرح سؤالا عن نشأة المجتمعات وعن إمكانية تحققها والمباديء التي تحكمها بحيث تجعلها قائمة:
بالرغم من تصادم المصالح التي تحكم أفرادها وجماعاتها... وهذه البحوث تقدم إجابات مختلفة في هذا الصدد، كما أنّها تتفاوت في تحديد ما ينبغي أن يختط لها من المباديء التي تتكفل باستمرارية قيامها وتحقيق التوازن فيها، إلاّ أنّ هذه البحوث أو المجتمعات نفسها فشلت في تحديد الإجابة الحاسمة، مثلما فشلت في تحقيق التوازن الاجتماعي الذي تتطلع إليه الأفراد والجماعات: وذلك لسبب واضح هو: عزلتها عن مباديء السماء التي رسمت مباديء خاصة في تحقيق التوازن، وفي مقدمتها (أي: المباديء الاجتماعية) هو: (التعارف) بين الأفراد والجماعات، أي: أنّ المبدأ الاجتماعي الذي ينبغي أن يحكم المجتمعات ويضمن استمراريتها وتوازنها هو التعارف بين الأفراد والجماعات في ضوء المبدأ الرئيسي الذي تضمنه مقطع أسبق وهو «مبدأ» اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...
وفي صعيد نظرية (التعارف الاجتماعي) يقدم النص. تعليلا لجعل الناس شعوبا وقبائل بدلا من صهرهم في رابطة مبهمة لا تحديد فيها لهوية الشخص أو الجماعة: حيث أن ضياع الهوية أو النسب أو الرابطة يجعل استمرارية التعامل أمرا متعذرا كما هو واضح... والمهم بعد ذلك - هو أنّ النص يشير إلى أن التمييز النسبي يستهدف حقيقة إيجابية هي (التعارف) وليس حقيقة سلبية هي التفاخر بالأنساب وسواها...
هنا ينبغي أن نتذكر بأن مقطعا سابقا من السورة قد حذّر من السخرية،
ص: 333
واللمز، والتنابز بالألقاب يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... إلخ حيث ربط النص فنيا بين المقطع السابق والحالي حتى يحكم البناء الهندسي للسورة الكريمة...
والآن، حينما يحدّد النص هدف جعل الناس شعوبا وقبائل بأنّه من أجل (التعارف) وليس من أجل التفاخر نجده يقدم معيارا عباديا هو «التقوي» بحيث تصبح إطاعة اللّه تعالى هي المعيار الفاصل بين الناس من حيث موقعهم من الله تعالى... إنّ البحوث الأرضية طالما تشير إلى معايير اقتصادية أو سلالية أو سواهما مما تفرز طبقة اجتماعية عن أخرى وتكسبها قيمة اجتماعية خاصة تشكل ما هو (أعلى) أو (أدني) من الطبقة الأخرى... بيد أنّ النص القرآني الكريم ألغي هذه المعايير البشرية في التمييز وحصر الموضوع في العمل الصالح فحسب أي مدي الالتزام بمبادىء الله تعالى... ومن الواضح أنّ حصر التمييز في «التقوي» يعني أنّ كل أشكال الصراع أو التنافر الاجتماعي سوف تختفي بالضرورة بحيث ينحصر السلوك الاجتماعي في التسابق إلى الخيرات وهو قمّة ما يتطلع الجنس البشري إليه. كما هو واضح... الأنّ التسابق إلى عمل الخير يفضي إلى تحقيق مبدأ «التعاون» بين الأسرة الإنسانية على العكس من التسابق إلى الحصول على الإنجازات المادية أو الذاتية التي تطبع سلوك المجتمعات البشرية المنعزلة عن مباديء اللّه تعالى...
المهم، أنّ المقطع القرآني الكريم الذي حدّد ظاهرة «التقوي» و «التعارف» مقابل التصارع أو التفاخر: إنّما ربط - كما قلنا - بين مقاطع سابقة حذّرت من التفاخر والذاتية، كما ربط بين مبدأ «التعارف» و «التقوي» وبين مبدأ اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مفصحا: عن إحكام السورة الكريمة من حيث تلاحم موضوعاته بعضا مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.
ص: 334
قال تعالى: قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَ لٰكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنٰا، وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَ إِنْ تُطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ، لاٰ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمٰالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا، وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ، أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ ... .
بهذا المقطع تختم سورة الحجرات التي بدأت بالحديث عن بعض الأعراب الذين جهلوا كيفية التعامل مع النبيّ (ص)، وانتهت بالحديث عن الأعراب الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم... وخلال هذه البداية المرتبطة بالأعراب، والنهاية المرتبطة بهم. طرحت السورة مفهوما عن (العلاقات الاجتماعية في الإسلام) في ضوء المبدأ القائل اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ : كما هو نص التعبير الذي طرحته هذه السورة الكريمة... لكن، بغض النظر عن هذا البناء العماري للنص، ينبغي أن نعرض لما طرحه المقطع الأخير من الموضوعات... لقد طرح المقطع قضية تتصل بالفارق بين الإسلام والإيمان، حين نزلت الآيات المرتبطة بهذا الموضوع. في طائفة أظهرت الإسلام من أجل مساعدتهم ماديا في إحدى السنوات المجدبة، لكن يظل النص القرآني الكريم ذا صفة (عامة) يتجاوز ما هو (الخاص) من الظواهر. ليطرح قضايا كليّة، منها: الفارق بين الإسلام والإيمان، فالإسلام هو الإنقياد أو الاستسلام للرسالة بسبب أو بآخر: كما لو كان من أجل الحفاظ على حياة الإنسان أو الخوف من السبي مثلاّ أو الطمع بالمال... إلخ. وأما الإيمان فهو قناعة داخلية بالرسالة... لذلك من الممكن أن ينتفع الشخص دنيويا حينما يظهر الشهادتين فيحقن دمه وماله إلخ... أما الإيمان فينتفع به دنيويا و أخرويا. كما هو واضح...
بعد ذلك: طرح النص موضوعا آخر هو قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ : لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ ، بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ ،
ص: 335
إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ .
هذه الآية تتضمن طرحا له أهميته الكبيرة، سواءا كان ذلك من حيث «القيمة الفكرية» أو «القيمة الفنية» أي: من حيث علاقة ذلك بالمبني الهندسي للنص...
أما من حيث القيمة الفكرية فيلاحظ أنّ هؤلاء النفعيين يمنون على النبيّ (ص) بأنّهم أسلموا... وهذا النوع من الإسلام أو الانقياد لا قيمة له حتى يمن به هؤلاء على النبيّ (ص)، فالانقياد للشيء من أجل الرغبة أو الرهبة الدنيويتين لا فائدة فيه ما دامت الرسالة الإسلامية لم تستهدف التحكم أو السيطرة على الناس حتى يمنّ أحد عليها بذلك... والمنّ إنّما يحتفظ بفاعليته في حالة واحدة هي: السيطرة الدنيوية للناس، فحيث يبحث الدنيويون عن متاع عابر هو التحكم والسيطرة، حينئذ سوف يهتزون طربا لكل من يمنّ عليهم بالانقياد لهم... أما رسالة السماء فليست بحاجة إلى الآخرين بقدر ما يحتاج الآخرون إليها... ولذلك قالت الآية تعقيبا على هؤلاء الّذين يمنّون على النبيّ (ص) بإسلامهم، لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ ، بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ .
هنا نواجه خصيصة فنية في هذا الجواب... فالملاحظ أنّ الآية لم تقل للناس أنّ اللّه هداكم للإسلام بل قالت أنّ اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان، في حين أنّ القوم قد منّوا على النبيّ (ص) بالإسلام... لنقرأ من جديد لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ ، بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ ، فسياق الآية هو المنّ بالإسلام، والقاريء يتوقع أن يقول النص بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ مقابل منّهم بالإسلام.. إلاّ أنّ النص أجابهم بأنّ الله يمن عليهم بالإيمان. مع أنّ الإيمان لا يطبع سلوك هؤلاء القوم بل الإسلام بمنأى عن الإيمان... فما هو السرّ الفني في ذلك ؟ السرّ واضح في هذا الميدان..
ص: 336
وذلك، أنّ هدف «الرسالة» هو «الإيمان» وليس مجرد «الإسلام» أو «الانقياد» لذلك لا يمن اللّه على الشخص في صفة لا يرتضيها الله (وهي مجرد الانقياد) بل يمن على صفة إيجابية يغدقها اللّه على الإنسان وهي «الإيمان»، وأما الصفة السلبية فمن هوي النفس أو الشيطان...
والآد، إذا أدركنا هذا الجانب الفني للآية، أمكننا أن نربط بينها وبين فكرة السورة الكريمة التي تحوم على مفهوم (العلاقات الاجتماعية) من خلال مبدأ اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ حيث أنّ هذا المبدأ لا يأخذ فاعليته من خلال العلاقات الزائفة - أي الانقياد المجرد عن «الإيمان» بل في خلال العلاقات الإيجابية التي يفرضها «الإيمان» باللّه تعالى... وبذلك، يكون النص قد أحكم الهيكل العماري. من حيث تلاحم موضوعاته بعضا مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
ص: 337
ص: 338
ص: 339
ص: 340
قال تعالى: ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقٰالَ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ .
هذه الفقرة الأخيرة التي جاءت في مقدمة السورة تقول عن المكذبين برسالة الإسلام فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: أنّ المكذبين برسالة الإسلام هم في موقف مضطرب، وقد اختلط عليهم الأمر... (فكرة الاضطراب الذهني الذي يواجهه المنعزلون عن مباديء اللّه) سوف تتجسد محورا تحوم عليه موضوعات السورة كما سنري، فهم - كما تقول المقدمة - عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ قالوا عن اليوم الآخر بأنّه: ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، فالعجب من رسالة الله التي أنذر بها محمد (ص)، والتساؤل عن اليوم الأخر بأنّه رجع بعيد يكشفان عن سمة الاضطراب أو اختلاط الأمر عليهم بحيث يصدق على ذلك وصفهم بأنهم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ كما يقول النص... والآن: لنتابع مقاطع السورة المختلفة التي ستحوم - كما قلنا - على فكرة الاختلاط الذهني لديهم، ثم ما يواكب ذلك من موضوعات يطرحها النص في الردّ عليهم، وفي التذكير بتجارب المجتمعات المماثلة لهم من حيث المصائر الكسيحة، التي واجهتهم، فضلا عن المصائر الاخروية التي ستواجه جميع المنحرفين قديما وحديثا...
إذن، لنستمع إلى المقطع الجديد من السورة، وهو يبدأ بالرد عليهم ملفتا النظر إلى الظواهر الكونية التي ينبغي أن يتعظ بها المشككون أو المضطربون ذهنيا...
ص: 341
يقول الرد:
أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمٰاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا وَ زَيَّنّٰاهٰا وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَ نَزَّلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ وَ اَلنَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبٰادِ، وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذٰلِكَ اَلْخُرُوجُ ...
إننا إذا تأملنا هذا المقطع بدقة نجد جملة من السمات الفنية الخطيرة قد طبعته... فأولا من حيث البناء الهندسي - نجد أنّ هذا المقطع قد نهض بمهمة فنية هي: الربط بين مقدمة السورة التي عرضت الموقف المضطرب والمشكك للمنحرفين وبين الرد عليهم من خلال لفت نظرهم إلى السماء وكيفية بنائها، والأرض وكيفية مدّها، والجبال وكيفية إسرائها، والزرع وكيفية إنباته، والمطر وكيفية إنزاله وسقيه للأرض وإنباته الجنات وحبّ الحصيد والنخل والباسقات ذات الطلع... كل أولئك عرضه النص وعقب عليه قائلا بأنّ ذلك تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ...
إذن، الربط العضوي بين مقدمة السورة وهذا المقطع من الوضوح بمكان كبير...
مضافا لجمالية العمارة الهندسية بالنحو المذكور. نواجه جمالية جديدة في عرض الحقائق الكونية المتقدمة، فالمقطع لم يكتف بالعرض. الكوني وما تنطوي عليه الظواهر من المعطيات المختلفة مثل المطر والنبات والرزق بل رسم هذه الظواهر الإبداعية بما تنطوي عليه من الجمال الطبيعي أيضا، فالسماء رسمت من خلال (الزينة)، والأرض رسمت من خلال كونها أنبتت مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، والمطر رسم من خلال كونه قد أنبت جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ ، والنخل رسمت من خلال كونها بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ ...
ص: 342
لننظر إلى عبارات من أمثال زَيَّنّٰاهٰا بَهِيجٍ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ ... لننظر إلى أمثلة هذه العيارات حتى نكتشف سريعا مدي جمالية الطبيعة الكونية التي رسمها النص بهذا الشكل.
أخيرا، لننظر أيضا كيف ربط النص بين هذه الظواهر الكونية التي ختمها بقوله وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ اَلْخُرُوجُ . أقول لننظر إلى هذا الربط العضوي المحكم الجميل بين إحياء الأرض الميتة وإحياء الأموات في اليوم الآخر الذي شكك به المنحرفون: كما لحظنا ذلك في مقدمة السورة...
وللمرة الجديدة، نلفت الانتباه إلى الإحكام العضوي وجماليته أيضا في هذا المقطع من السورة على النحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ اَلرَّسِّ وَ ثَمُودُ وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ وَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ : كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ .
هذا المقطع من سورة ق يتناول عرضا قصصيا سريعا لمجتمعات نوح، ولوط، وفرعون... إلخ... وكيفية تكذيبهم لرسالات السماء وما يترتب على التكذيب المذكور من الجزاء... والمهم - من الزاوية الهندسية لهذا المقطع - هو موقعه العضوي من السورة: حيث وظف المقطع لإلقاء الإنارة على فكرة السورة، وهي (فكرة) تحوم على صياغة الاضطراب الذهني الذي يطبع المنحرفين، ومنه: الاضطراب الذي يصدر عنهم حيال اليوم الآخر... فالنص يعقب على المجتمعات البائدة التي كذبت برسالات السماء:
بما ترتب على ذلك من الجزاءات التي خبرها الناس يعقب على ذلك قائلا أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ بمعني: هل يعجز اللّه الذي خلق البشر أولا عن بعثهم من جديد، وهو ما شكك به المنحرفون كما
ص: 343
قالت مقدمة السورة عنهم أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ... وها هو المقطع الجديد يقرر بأن هؤلاء هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: في اضطراب ذهني يطبع سلوكهم... وقبل ذلك، قالت السورة عنهم في مقطع سابق بأنّهم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ...
إذن، في كل مقطع من السورة يعرض النص لنا موضوعا جديدا ثم يعقب عليه بأنّ المنحرفين يعانون اضطرابا أو اختلاطا أو تشكيكا ذهنيا في سلوكهم حيال رسالة الإسلام وحيال اليوم الآخر، فهم حينا فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ وهم حينا فِي لَبْسٍ ، هكذا... وهذا ممّا يقتادنا إلى ضرورة ملاحظة هذا الإحكام العضوي في النص ما دمنا نعني بدراسة السورة القرآنية من خلال بنائها الفني وتلاحم موضوعاتها بعضا مع الآخر...
ولو ذهبنا نتابع المقاطع اللاحقة من السورة، لأمكننا ملاحظة هذا الجانب الفني بوضوح... ولنقرأ.
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْوَعِيدِ .
إنّ هذا المقطع ختم حديثه عن تركيبة الإنسان وسلوكه بحديث النفخ في الصورة ويوم الوعيد، أي اليوم الآخر الذي شكك به المكذبون برسا الإسلام، وهو نفس (الفكرة) التي تحوم عليها السورة بكاملها: حيث تستهدف رسم الظواهر التي تفصح من جانب. عن الاضطراب الذهني عند المنحرفين وعن تثبيت مفهوم اليوم الآخر من جانب أيضا...
وإذا تجاوزنا هذا الجانب الهندسي من المقطع واتجهنا إلى الأفكار الأخرى المطروحة فيه نجد أنّ النص يتحدث عن جملة من حقائق التركيب
ص: 344
البشري وسلوكه أي أنّه يستهدف طرح حقائق مختلفة نتعرفها من خلال تأكيده فكرة الشك عند المنحرفين وتكذيبهم اليوم الآخر...
فمن هذه الحقائق: ظاهرة الوسوسة أو الأفكار الداخلية الخبيئة في أعماق الإنسان، وهذه الأفكار أو الخواطر بما تستتليه من الأفعال لا تترك للإنسان عبثا بل وكّل الله ملائكة يراقبونها في سلوك الشخص إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ...
إذن، طرح النص في هذا المقطع إحدى حقائق السلوك البشري المتصل بعنصر (المراقبة) لهذا السلوك، فأوضح لنا أنّ السلوك البشري مراقب دون أدني شك، وأنّ الشخص ما يلفظ من قول إلاّ يتحمل مسؤوليته في اليوم الآخر، وهذه الحقيقة - في الواقع - لا ترتبط بالمشككين برسالات السماء، بل تتجاوزهم إلى مطلق الناس بما في ذلك المؤمن أو المسلم الذي يتحمل بدوره مسؤولية سلوكه من حيث انحرافه عن مباديء السماء، مما يعني أنّ النص طرح في آن واحد إحدى الحقائق التي ينبغي أن يفيد الإنسان منها في تعديل سلوكه سواء كان ذلك متصلا بالإيمان باللّه، أو متصلا بمطلق سلوكنا - نحن الإسلاميين، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْوَعِيدِ وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ وَ قٰالَ قَرِينُهُ هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيٰاهُ فِي اَلْعَذٰابِ اَلشَّدِيدِ قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ قٰالَ لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مٰا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ .
ص: 345
إنّ هذا المقطع يتضمن جملة من الحقائق الفنية التي ينبغي الوقوف عندها... فمن حيث البناء الهندسي له، نجده يحوم على (الفكرة الرئيسة) في السورة، وهي فكرة الاضطراب الذهني عند المنحرفين وموقفهم من اليوم الآخر، وها هو (كفار، عنيد، مناع للخير، معتد، مريب الذي جعل مع اللّه إلها آخر)... إنّ هذا (المريب) الذي أشرك باللّه: يجسد أولئك الشخوص الذين وصفهم النص في مقاطع سابقة بأنّهم فِي لَبْسٍ وأنّهم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ وأنهم (مريبون) في هذا المقطع الذي نتحدث عنه...
لكن، خارجا عن العمارة الهندسية للمقطع، يحسن بنا أن نعرض لسائر الأفكار المطروحة فيه، حيث طرح النص من خلال الفكرة الرئيسية له.
أفكارا أخرى لا بدّ من الوقوف عندها للإفادة منها في تعديل السلوك البشري.
لقد كشف النص عن جملة من حقائق (الموقف) في اليوم الآخر، منها:
أنّ كل شخص سوف تسوقه الملائكة يومئذ نحو (الحساب) وسوف تشهد على سلوكه الذي سبق أن عرضه نص أسبق بأنّه (مراقب) من قبل إثنين إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ . سوف يشهد عليه المتلقيان أو الملائكة في هذا الصدد... عندئذ: ماذا سيكون موقف الشخص من هذا السوق والشهادة ؟ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ ، فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ . إنّه - في لحظة الموقف - يفيق تماما من غفلته التي صدر عنها في حياته الدنيوية فإذا بالملك الموكل به يقول هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ ، هذه هي قائمة سلوكه بكل تفصيلاتها (لنتذكر: أنّ المقطع الأسبق من السورة ذكر في حينه أن الشخص (ما يلفظ - مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ...
لكن، هناك (قرين) آخر ونعني به: الشيطان أو الخواطر الشريرة التي دفعته إلى ممارسة الانحراف، يتقدم في الموقف أيضا حيث يتحاور قائلا
ص: 346
رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ . لا نغفل، أن هذه المحاورة تكشف لنا عن مدي المرارة التي سيواجهها المنحرف عندما يتبرأ منه شيطانه أو خواطره حينما ترد على المنحرف قائلة: (ما أنا أضللته بل هو الذي اختار ذلك الضلال). ثم لا نغفل عن ملاحظة المزيد من المرارة الشديدة التي ستواجه هذا المنحرف عندما يردّ اللّه على كلّ من الإنسان المنحرف وشيطانه الذي تقدمت محاورته. يردّ عليهما اللّه تعالى قائلا لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ...
إنّ هذا الرد: يزيد - دون أدني شك - من تمزقات الشخص وشيطانه أيضا: عندما يواجهان: بأنّ كلا منهما قد أهمل بهذا الشكل، وردّ بهذا النحو من الكلمة، الحاسمة، المهشمة لشخصيتها...
أخيرا، يختتم المقطع بهذه الصورة الفنية التي ينبغي ألاّ يغفلها المتلقي أيضا وهو يواجه هذا الرسم للموقف لدى المنحرفين بما يستتبعه من الجزاء الذي سينتهون إليه، حيث يقول النص: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ؟ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ إنّ هذه الصورة الفنية تنطوي على أكثر من إثارة مدهشة...
فهي باعتمادها عنصر التحاور بين اللّه تعالى وجهنم: (اللّه تعالى) حيث يقول لها: هَلِ اِمْتَلَأْتِ؟ وجهنم حيث تقول له: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ . هذا النمط من التحاور يقدم بطريقة غير مباشرة: (فكرة) أنّ (الانحراف) لا يضر اللّه تعالى شيئا بقدر ما يضر المنحرفين أنفسهم، وإلى أنّ (جهنم) - أعاذنا اللّه منها - مستعدة لتلقي المزيد من المنحرفين بنفس الاستعداد الذي صدر عنه المنحرفون حينما أصروا على إشباع رغباتهم الشريرة في الحياة الدنيا...
مضافا لذلك، فإنّ المحاورة ذاتها بما تنطوي عليه من جمالية في الصياغة، تساهم بشكل ملحوظ في تعميق الدلالة التي استهدفها النص، بصفة أنّ (التحاور) بدلا من مجرد (الرد) يفصح بشكل أشد عن دقائق الموقف
ص: 347
وتفصيلاته مما يفضي بالمتلقي إلى مواجهة المزيد من الإثارة التي يستهدفها النص من هذه الصياغة.
قال تعالى: وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّٰابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمٰنَ بِالْغَيْبِ وَ جٰاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُلُودِ لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ فِيهٰا وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ .
هذا المقطع يتحدث عن بيئة الجنة بعد أن كان المقطع الذي سبقه يتحدث عن بيئة جهنم... المهم ليس هو البيئة بقدر ما تتجسد الأهمية في السياق الفكري الذي ورد فيها هذا الرسم لبيئة الجنة... لقد قدم المقطع مجموعة من السمات التي يشدّد الإسلام عليها في مطالبة الإنسان بممارسة وظيفته العبادية في الأرض، فالجنة أزلفت - كما يقول المقطع - للمتقين الذين تطبعهم السمات التالية (الأواب) (الحفيظ) (الذي يخشي اَلرَّحْمٰنَ بِالْغَيْبِ (الذي يجيء بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ). وهذه السمات - كما هو بيّن - تتصل بالشخصية الإسلامية (مع أنّ فكرة السورة تحوم على عرض سمات الكافرين، المشككين، المتمردين على حقيقة اليوم الآخر) إلاّ أنّ النص يستهدف في الآن ذاته تقديم حقائق عبادية يفيد منها المؤمنون في غمرة وقوفهم على جانب من سلوك المنحرفين... إنّه لا يستهدف مجرد حمل الشخص على الإيمان بالله تعالى، بل الالتزام بأرفع مستويات العمل العبادي مثل الأواب إلى الله، والحافظ لمبادئه، والخائف منه، والمواظب على ذلك... ويلاحظ أنّ الجنة التي رسمها اللّه في هذا المقطع للأشخاص المذكورين قد عقب عليها بقوله لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ فِيهٰا وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ . إنّ تلويح المقطع بأنّ للمتقين (المزيد لما يشاؤون، إنما هو في الواقع موازنة فنية بين مقطع أسبق ختم حديثه عر المنحرفين بقوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ بينما
ص: 348
يختم المقطع المتحدث عن الجنة بقوله وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ إذن. هناك مقابلة بين طلب جهنم المزيد من المنحرفين لاحتوائهم فيها، وبين طلب الجنة: المزيد من النعيم للمؤمنين... وهذا التقابل بينهما فضلا عما ينطوي عليه من موازنة هندسية تربط بين أجزاء السورة - ينطوي أيضا على دلالات مهمة ترسم الفارق بين جزاء الكافرين الذين لا تبالي جهنم باستقبالهم وبين جزاء المؤمنين الذين لا تبالي الجنة باستقبالهم أيضا، مما يؤكد الحقيقة الذاهبة إلى أنّ المعصية لا تضر إلاّ صاحبها وأن الطاعة لا تنفع إلا صاحبها دون أن يؤثر ذلك على فاعلية الله تعالى...
بعد أن تحدثت المقاطع السابقة عن الجزاء الأخروي بنمطه: السلبي والإيجابي، عاد النص إلى عرض حقائق جديدة تتصل بسلوك المنحرفين، قائلا وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلاٰدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ .
إنّ هذه العودة التي رسم من خلالها سلوك المنحرفين، جاءت في سياق جديد، هو مواجهتهم الموت الذي لا تشكيك فيه، بينما كانت المقاطع السابقة تتحدث عن مواجهتهم العقاب الدنيوي. لذلك استثمر المقطع هذا الجانب ليؤكد على ضرورة التأمل الذهني لمواجهة الموت إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ ...
بعد ذلك: عاد النص أيضا إلى الاستشهاد بفاعلية الله في خلق السماوات والأرض، قائلا: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ مٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ ... وقد سبق للنص أن استشهد بالظواهر الإبداعية في هذا الصدد، إلاّ أنّ إشارته لخلق السماء والأرض هنا، جاءت في سياق جديد أيضا هو الربط بين الإيجاد والأمانة، بينما كانت المقاطع السابقة تتناول الربط بين الإيجاد والإحياء من جديد...
ص: 349
المهم، أنّ النص عقب على ذلك كله بمخاطبة النبيّ (ص) فَاصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ اَلسُّجُودِ فهذا المقطع ينطوي على جملة من الوظائف الفنية... إنّه أولا يرسم للمبلغين الإسلاميين طبيعة الوظيفة التي ينبغي أن يمارسوها حيال الأشخاص الذين لم يتعظوا بما أمرهم اللّه به حينما قال لهم في مقطع سابق إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ ... إلخ. والوظيفة هي: (الصبر) على أداء الرسالة بغض النظر عن تمرد المنحرفين... ثم: ممارسة الوظيفة الشخصية التي رسم المقطع هنا جانبا جديدا منها في غمرة المباديء المتنوعة التي طرح النص في كل مقطع من السورة: قسما منها... هنا، يطرح النصر ظاهرة التسبيح بحمد الله في الأوقات الخمسة: عند صلاة الصبح، الظهر، العصر، المغرب، العشاء... بمعني أنّ النص يستهدف رسم الأبعاد المختلفة للعمل العبادي، سواء أكان ذلك العمل: اجتماعيا يتصل بتبليغ رسال الإسلام، أم عملا فرديا يتصل بالصلاة، وسواء أكان ذلك عائدا إلى الإسلاميين أم إلى المنحرفين، ففي الحالات جميعا ثمة (دلالات فكرية) تستهدف السور طرحها من خلال (فكرة رئيسية) تحوم عليها، ثم تطرح في تضاعيفها جملة من المباديء التي وقفنا على تفصيلاتها، بغية حمل المتلقي على تعديل سلوكه إن كان منحرفا وتصعيده: إن كان ملتزما.
قال تعالى: وَ اِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنٰادِ اَلْمُنٰادِ مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ اَلصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرٰاعاً ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ .
هذا المقطع الذي ختمت به السورة، يقدم خلاصة الأفكار المطروحة في
ص: 350
أقسام السورة جميعا... فالسورة بدأت تتحدث عن المشككين الذين قالوا:
أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ . وها هي الآن في ختام السورة تقدم جوابا لأولئك الذين قالوا أولا أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً فتجيبهم: وَ اِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنٰادِ اَلْمُنٰادِ ، ثم قالوا ثانيا. ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ فأجابتهم السورة الآن:
يَوْمَ يُنٰادِ اَلْمُنٰادِ مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ ...
لننظر إلى هذه الموازنة الهندسية الدقيقة بين السؤال المطروح في أول السورة والجواب عنه في آخر السورة، السؤال الذي يقول عن الانبعاث ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ والجواب الذي يقول عن الانبعاث أنّه مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ ...
السؤال الذي ينفي أو يشكك بإحياء النفوس بعد الموت، والجواب الذي يقول في ختام السورة يَوْمَ يَسْمَعُونَ الذي يؤكد قائلا في ختام السورة إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ ثم يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرٰاعاً ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ . لننظر جديدا كيف أنّ النص يؤكد بأنّ انشقاق الأرض عن الناس يتميز بكونه (سريعا) مقابل قول المنحرفين بأنّ ذلك (بعيد)، ثم كيف يؤكد لهم أنّ ذلك حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ مقابل قولهم باستحالة ذلك...
أخيرا، تختم السورة بالعبارة الآتية التي تطرح من جديد وظيفة المبلغ الإسلامي مقابل الانحراف الذي يصر عليه المستكبرون... فقد طالبت السورة المبلغ في مقطع اسبق بضرورة ممارسة (الصبر) على السلوك الصادر عن المنحرفين، أما الآن - في هذا المقطع الأخير من السورة - فإنّ المقطع يطرح مبدءا آخر للمبلغ حيالي المنحرفين المذكورين... إنّه يقول للمبلغ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ ، وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ فهنا جانبان، جانب يتصل بوظيفة المبلغ، وجانب يتصل بسلوك الآخرين ممن يمكن أن يهتدي إلى الصواب...
ص: 351
أمّا الجانب المتصل بوظيفة المبلغ فإنّ الجديد فيه ينسحب على المنحرفين، وهذا المبدأ له خطورته دون أدني شك في عملية التبليغ...
صحيح أنّ الاهتداء إلى الحق يظل طموحا كبيرا عند المبلغ من حيث حرصه على إشاعة الحق، إلاّ أنّ ذلك لا يعني مشروعية (القهر) أو (الإكراه) في الدين، نظرا لعدم إنسحاب الضرر أو النفع من ذلك على فاعلية اللّه وإرادته، فقد سبق أن لحظنا أنّ السورة حرصت على أن تبرز للمتلقي دلالة معينة هي:
أنّ الطاعة أو المعصية لا تضر اللّه شيئا ولا تنفعه بقدر ما تنسحب المنفعة أو الضرر على الشخص نفسه وحينئذ لا قيمة البتة لأي تمرّد يصدر عنه المنحرفون...
وهذا من حيث الزاوية المتصلة باللّه تعالى.
وأما من الزاوية المتصلة بالمنحرف نفسه، فإنّ عملية (الإكراه) لا يمكن أن تعطي ثمارها البتة إلاّ في حالات تتصل بما يسمي - في لغة الاجتماع - بمبادىء الضبط الاجتماعي، أي تحقيق التوازن أو الأمن الاجتماعيين من خلال ضبط الانحراف في نطاق الحياة الدنيوية الصرف... وأمّا في نطاق الحياة الأخروية، فلا قيمة البتة لأية ممارسة انحرافية ما دام الأمر لا يعكس أي تأثير على بيئة الآخرة حيث يتلاشي المنحرفون ويفقدون جميع فعالياتهم. ليس هذا فحسب، بقدر ما يواجهون عملية (العقاب) عليها...
إذن، لا قيمة البتة لأي انحراف دنيوي: حتى يستتبع (إكراها) على تركه في نطاق الضبط الاجتماعي...
مضافا لذلك، فإنّ (الإكراه) لا يفضي إلى معرفة الحق الذي يحرص المبلغون عليه، أي أنّه مضاد تماما لما يحرض المبلغ عليه، وحينئذ ما جدوي الإكراه في الدين ؟.
من هنا أشار نصّ القرآن الكريم إلى عدم مشروعية ذلك، وحصر الأمر
ص: 352
في الأشخاص المرشحين لتعليم السلوك الخير، حيث قال تعالى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ أي: أنّ الأشخاص الذين يملكون استعدادا لتقبل السلوك الخير، ينبغي أن يذكروا بالقرآن، بمبادىء الإسلام، لأنّ المعيار هو (الاستعداد) أو عدمه، فمع حالة عدم الاستعداد لا فائدة من (الإكراه) في الدين، نظرا لعدم إمكانية تحقيق الهدف العبادي، وأمّا مع الاستعداد فإنّ إمكانية الإفادة من التبليغ، من التذكير بالقرآن، من التذكير بمبادىء الإسلام، تظل موضع مطالبة بالنسبة للمبلغ، وهو ما أكدته السورة في ختام حديثها عندما خاطبت محمدا (ص) قائله فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ .
ص: 353
ص: 354
ص: 355
ص: 356
سورة الذاريات على هذا النحو:
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً فَالْجٰارِيٰاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوٰاقِعٌ يمكننا أن نقسّم هذه السورة (من حيث الهيكل الهندسي لها) إلى مقطعين أو قسمين، حيث يتناول كل مقطع منها موضوعا خاصا يتم الربط الفني بينهما بالنحو الذي نبدأ بتوضيحه لاحقا... ولذلك نبدأ بالحديث عن المقطع الأول من السورة الكريمة، فنقول:
من الواضح أن الاستهلال بالشيء يكشف - كما عرفنا ذلك في غالبية النصوص القرآنية - عن كونه ذا أهمية يستهدف توصيلها والتأكيد عليها... فإذا سبق هذا الاستهلال (قسم) ببعض الظواهر، حينئذ سنستكشف بأنّ الموضوع بالغ الأهمية وأنه سيكون موضع تأكيد النص، ومحورا تحوم غالبية الموضوعات الأخرى عليه... وها هو النص يبدأ بالقسم بظواهر الرياح والسحاب والسفن والملائكة ليؤكد حقيقة هي:
إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ ، ليس هذا فحسب، بل يؤكده ثانية من خلال التكرار لعبارة تحوم على المعني ذاته لكن في تفاصيل أخرى منه، ففي الآية الأولى أكد النص على (صدق) الوعد باليوم الآخر، وفي الآية الآخري أكد النص على (مفروضية ا لواقع) لليوم المشار إليه، و بهذا التكرار من جانب، والتمهيد له بالقسم من جانب آخر، والتأكيد عليه بأدوات بلاغية مثل (أن) و (لام التأكيد) من جانب ثالث، واستهلال الموضوعات به من جانب رابع:
يكشف عن أن الحديث عن اليوم الآخر سوف يحتل موقعا مهما من النص
ص: 357
القرآني الكريم.
فلنتابع موضوعات السورة...
إن أول ما يواجهنا من الموضوعات بعد القسم والإشارة إلى اليوم الآخر، هو قوله: وَ اَلسَّمٰاءِ ذٰاتِ اَلْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ اَلْخَرّٰاصُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيّٰانَ يَوْمُ اَلدِّينِ ... .
الملاحظ، أن النص يعود إلى (القسم) من جديد وَ اَلسَّمٰاءِ ذٰاتِ اَلْحُبُكِ ... وهذا يعني أن موضوعا آخر أو أن الموضوع الذي طرح سابقا، ستكون له أهميته وتأكيده أيضا... وبالفعل، نجد أن الموضوع نفسه مسبوقا بموضوع آخر يرتبط به هو الذي أعقب ظاهرة القسم... الموضوع الجديد هو: اختلاف الناس في مواجهة رسالة محمد (ص)، وكونهم ساهين عن ممارسة مهمتهم العبادية، وأما الموضوع السابق (اليوم الآخر) فقد برز هنا، ليكون الطرح الوحيد الذي يعبّر عن غفلة وسهو المنحرفين، وهذا يعني (من زاوية العمارة الفنية للسورة) أن (اليوم الآخر) هو المستهدف أساسا... وهذا ما يتسق تماما مع (استهلال) السورة الكريمة بموضوع إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوٰاقِعٌ .
إذن، أمكننا أن نتبيّن تماسك وجمالية البناء الهندسي للنص من حيث الخطوط التي طرحها النص وطريقة ذلك في صياغتها المفضية إلى تأكيد حقيقة (اليوم الآخر) وكونها (محورا) يحوم النص عليه...
فلنتابع - إذن - موضوعات السورة...
يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنّٰارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هٰذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ .
وهكذا نجد أن النص ينتقل من الحديث عن (اليوم الآخر) - من حيش صدقه وواقعيته - إلى ما يتعيّن فيه من الجزاء الذي كان المنحرفون يسخرون منه قائلين (أَيّٰانَ يَوْمُ اَلدِّينِ ) ، بعد ذلك يطرح النص الجزاء الإيجابي في اليوم
ص: 358
الآخر: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ ، إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُحْسِنِينَ كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ لِلسّٰائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ... لنلاحظ جمالية البناء الهندسي للنص من خلال هذا المنحي الفني الذي سلكه في طرح ظاهرة (اليوم الآخر) و (جزاءاته) وأسباب ذلك... إنه بدأ الحديث عن أن اليوم الآخر حقيقة لا شك فيها، وبدأ يطرح ظاهرة المشككين به، ثم بدأ يطرح الجزاء السلبي للمشككين به، ثم بدأ يطرح ما يقابل هؤلاء وهو الجزاء الإيجابي للموقنين به، ثم بدأ يطرح (الأسباب) التي جعلت المؤمنين يظفرون بمثل هذا الجزاء الإيجابي، ثم حددها في مفردتين من السلوك هما: ممارسة صلاة الليل، والإنفاق...
وهكذا - من خلال المنحي الفني الذي ربط الموضوعات بعضها مع الآخر - وصل بنا النص إلى طرح ظواهر عبادية تمثل أهمية كبيرة لدى الله... إنها ظاهرة قيام الليل وظاهرة الانفاق، لكن أيّ قيام وأيّ إنفاق ؟ القيام هنا يعني صلاة الليل (حسب النصوص المفسرة)... و «الإنفاق» هنا يعني الانفاق المندوب وليس «الواجب» «حسب النصوص المفسرة» أيضا...
إذن، نحن أمام طرح لموضوعين (مندوبين) مما يكشف عن أهمية هذين الموضوعين وكونهما سمة للمتقين... فالصلاة الواجبة (كاليومية وغيرها) تظل أمرا يتطلبه أبسط مباديء العبادة، وكذلك الانفاق الواجب: كالخمس والزكاة يظل أمرا لا مناص من ممارسته لما هو الأدني في من متطلبات العبادة، لذلك، فإنّ تجاوز ما هو (واجب) إلى ما هو مندوب يظل هو الهدف الذي يؤكّده النص متمثلا في صلاة الليل والإنفاق المندوب...
بعد ذلك يتجه النص إلى طرح ظواهر عبادية أخرى في سياق طرحه للظاهرتين المذكورتين، وهذا من نحو قوله تعالى متابعا وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ وَ فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ
ص: 359
اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ...
هنا نواجه جمالية فائقة (من حيث العمارة الفنية للنص) حيث نجد أن طرح الموضوعات الجديدة (إبداع الأرض) وكونه دليلا واضحا لحقيقة اللّه تعالى والإسلام، و (إبداع) الإنسان ثم (الرزق) أو (المطر)، كون أولئك جميعا (أدلة) على الوحدانية، من جانب و (عطاءا) من الله تعالى من جانب آخر، كل ذلك تم طرحه من خلال الربط بين (اليوم الآخر) وبين هذه الموضوعات التي يستهدف توصيلها إلى المتلقي... لكن مما يضفي مزيدا من الجمالية على مثل هذا البناء الهندسي للموضوعات هو: رسمها من خلال خطوط (التناسق) بينها وبين الخطوط العامة التي رسمها في مقدمة السورة... فالقسم تكرّر هنا للمرة الجديدة رَبِّ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ليتناسق مع (القسم) السابق وَ اَلذّٰارِيٰاتِ وَ اَلسَّمٰاءِ ذٰاتِ اَلْحُبُكِ ... وصياغة العبارات جاءت هنا تتناسق مع العبارات التي وردت في مقدمة السورة، حيث نجد أن ما ورد في المقدمة إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوٰاقِعٌ قد تجانس مع ما ورد في هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن، متمثلا في عبارة إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فجواب القسم من جانب، واقترانه ب «أنّ » و «اللام» التوكيديّتين من جانب ثان، ومجانسة عبارة (لَحَقٌّ ) لعبارتي (لَصٰادِقٌ ) و (لَوٰاقِعٌ ) من جانب ثالث: تكشف جميعا عن مدي جمالية النص الفائقة وما يواكبها من الإمتاع الفني الذي يتحسسه المتلقي عبر مواجهته لهذه الصياغة (البنائية) للموضوعات...
المقطع (2): يتناول هذا المقطع من السورة واحدة من الشرائح الاجتماعية التي واكبت حياة الرسالة، حيث سلك النص من خلالها منحي فنيا خاصا هو: توظيف (العنصر القصصي) لإنارة هذه الشريحة، وجعله (مقدّمة للحديث عن الإسلام ومبادئه، عن الإيمان وظواهره، عن السلوك و انعكاساته
ص: 360
على (اليوم الآخر)، حيث قلنا بأن هذا الموضوع (أي: اليوم الآخر) سيظل هو المحور الفكري الذي يقوم عليه «هيكل» السورة الكريمة... ولذلك نلاحظ جملة من الطرائق الفنية التي سلكها النص في عملية الربط العضوي بين مقدمة السورة ونهايتها، بين المقطع الأول والثاني منها، بين موضوعاتها المختلفة التي (وصل) النص بينها جميعا بنحو فائق وممتع...
لقد ختم النص موضوعاته بالآية الكريمة: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ... لننظر إلى هذا الختام الفنّي للسورة وصلته ب (الاستهلال) لها، حيث لحظنا أن أول موضوعات السورة تمثل في الآية إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ و حيث نلحظ الآن آخر موضوعات السورة تمثل في الآية... يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ... لاحظ العبارة (تُوعَدُونَ ) في مقدمة السورة، وعبارة (يُوعَدُونَ ) في نهاية السورة، تجد أن العلاقة بين بداية السورة ونهايتها قد بلغت قمة الإحكام والتماسك والتواشج والترابط في عملية البناء الهندسي للنص... أنها العلاقة المتمثلة في ما يطلق عليه مصطلح (النمو القصصي) ويقصد به أن الموضوع الذي يطرح في البداية يمرّ بمراحل من النمو أو الرشد - تماما كما هو طابع الكائن الحيّ الذي يبدأ من مرحلة الطفولة فالرشد إلخ -... فالموضوع الذي طرح في مقدمة يقول إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ ، إنه يخبر بأنّ اليوم الآخر وجزاءاته: حيث توعدون بمجيئه لصادق... وها هو - في نهاية السورة - يقول فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ، هذا (الوعد) بدأ في السورة مجرد تلويح بأنّه (سيقع)... ثم جاء وسط السورة ليوضح بأنّ ما وعدوا به واقع فعلا يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنّٰارِ يُفْتَنُونَ ثم جاءت نهاية السورة لتقول ويل مما يُوعَدُونَ به، حيث جاء اَلْوَيْلُ نتيجة للعذاب الذي يقع، وحيث جاء العذاب نتيجة لما وعدوا به، وحيث جاء ما (وعدوا) به: نتيجة لتكذيبهم به وسخريتهم منه (يَسْئَلُونَ أَيّٰانَ يَوْمُ اَلدِّينِ ) ، والأهم من ذلك أن عبارة (تُوعَدُونَ ) التي وردت في أول الموضوعات
ص: 361
وآخرها من السورة الكريمة تشكّل الرابط العضوي المحكم بين قسمي السورة الكريمة...
وأمّا الموضوعات التي طرحت في القسم أو المقطع الثاني، فإنّ البناء الهندسي لخطوطها يتمثل في الإشارة إلى قصص ا