سرشناسه : بستانی ، محمود، 1937 - 2011م.
عنوان و نام پديدآور : التفسیر البنائی للقرآن الکریم / تالیف محمود البستانی .
مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی: موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث ، 1422 ق. = 1380 -
مشخصات ظاهری : 5 ج.
شابک : 20000 ریال : دوره 964-444-359-4 : ؛ دوره، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.1 964-444-364-0 : ؛ 750000 ریال : ج.1، چاپ دوم 978-964-444-364-0 : ؛ ج.2 964-444-365-9 : ؛ 750000 ریال : ج.2، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.3 964-444-366-7 : ؛ 750000 ریال : ج.3 (چاپ دوم) 978-964-444-359-6 : ؛ ج.4 964-444-367-5 : ؛ 800000 ریال : ج.4، چاپ دوم 978-964-444-359-6 : ؛ ج.5 964-444-368-3 : ؛ 520000 ریال : ج.5، چاپ دوم 978-964-444-359-6 :
يادداشت : عربی .
يادداشت : ج . 2 (1422ق . = 1380).
يادداشت : ج . 3 (چاپ اول: 1423ق .= 1381)
يادداشت : ج. 1 - 5 (چاپ دوم: 1440 ق. = 1397).
يادداشت : جلد اول تا پنجم این کتاب در سالهای1398- 1397 تجدید چاپ شده است.
يادداشت : ج.5 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.4 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.1 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.2 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.3 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).
يادداشت : ج.1-5( چاپ چهارم: 1401).
یادداشت : کتابنامه .
موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14
Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century
موضوع : قرآن -- مسائل ادبی
Qur'an as literature
شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی
شناسه افزوده : Islamic Research foundation
رده بندی کنگره : BP98 /ب 5ت 7 1380
رده بندی دیویی : 297/172
شماره کتابشناسی ملی : 613572
محرر الرقمي: میثم الحیدري
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 2
التفسیر البنائی للقرآن الکریم
تالیف محمود البستانی
بنیاد پژوهشهای اسلامی
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
تبدأ سورة الإسراء بهذا النحو: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيٰاتِنٰا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ * وَ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ أَلاّٰ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كٰانَ عَبْداً شَكُوراً.
من هذه المقدمة للسورة، يمكننا أن نقف على (الفكرة) الرئيسة لها، وهي مقدمة تتحدث عن ظاهرة إعجازية هي: إسراء النبيّ (ص) في ليلة واحدة مق المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم وصل هذا الحديث عن الإسراء بالحديث عن الإسرائيليين من حيث تحذيرهم من أن يتخذوا من دون الله وكيلا. ثم الإشارة إلى نوح (ع) من أنه كان عبدا شكورا. والسؤال هو ما هي الأسرار الفنية الكامنة في هذا النمط من عمارة السورة التي ربطت بين الإسراء و الإسرائيليين ونوح ؟.
سلفا، ينبغي أن نشير إلى أن مفهومات الإسراء، والسلوك الإسرائيلي، والشكر. سوف تنسحب على عصب السورة، بيد أن السؤال يظل باحثا عن الصلة بين هذه المنهومات الثلاثة.
إن المتلقي بمقدوره أن يستخلص بأن السلوك الإسرائيلي وهو سلوك يتسم بمفارقات ضخمة تفسّر لنا سر التشدّد على أمثلته في النصوص القرآنية:
نظرا لما نعرفه عن مجتمع الإسرائيليين الذى يتفرد في شذوذه بالقياس إلى أنماط الشذوذ الأخرى في مجتمعات غير الإسرائيليين...
وأيا كان، فما دام عرض السلوك الإسرائيلي الشاذ مستهدفا أساسا:
ص: 7
حينئذ فإن كلّا من عملية (الإسراء) و (الشكر: أي كون نوح (ع) شكورا) لابدّ أن يوظّفا لإنارة السلوك المذكور.
إن كلا من (الإسراء) و (الشكر) اللذين سبق أحدهما الحديث عن الإسرائيليين ولحقه الآخر، يمثلان ظاهرة إعجازية وعبادية. أما الظاهرة الإعجازية فهي عملية الإسراء من مسجد إلى آخر، حيث أن المكانين أو المسجدين يمثلان خارطة المجتمعين: مجتمع رسالة الإسلام ومجتمع الإسرائيليين، وهذا يعني أن الصلة العضوية أو الخط الهندسي بين الحديث عن الإسراء والإسرائيليين. تظل واضحة في النطاق الذى أشرنا إليه.
وأمّا ظاهرة (الشكر) وتخصيص نوح (ع) بها، فتظل مرتبطة بالمفهوم العبادى الذى يستهدفه النص في عرضه لهذا الجانب، فالشكر يقف مقابلا للكفران الذي يطبع مجتمع الإسرائيليين، والإشارة إليه يعني: لفت النظر إلى المفارقة بين ما ينبغي أن يتوفّر الإنسان عليه عباديا وبين ما سنلحظه من الكفران الذي طبع الإسرائيليين، وهو أمر تبدأ المقاطع اللاحقة من السورة بتحديده، حيث يواجهنا النص بهذا النحر: وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فالإشارة هنا إلى (الإفساد) تعني: أن النص يستهدف لتشدد على عرض السلوك الإسرائيلي في اشدّ أشكاله مفارقة وشذوذا، وهذا ما يمكن أن نستخلصه بوضوح من خلال العبارة القرآنية الكريمة ذاتها حينما لا تكتفي من عرض إفسادهم مطلقا، بل تحدده أولا بكونه مرتين (لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) وتحدده ثانيا - وهذا هو الأهم - بأنه سلوك قائم ليس على مجرد الاستكبار أو العلو بل أنه علوّ كبير وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ، فكون (العلوّ) كبيرا، يعني: بلوغ الفساد قمته في سلوك الإسرائيليين، وهو ما يتسق تماما مع عمارة النص التي ركّزت على الإسرائيليين دون غيرهم خلال عملية ربطها بين الإسراء والشكر، حيث يكشف
ص: 8
هذا الربط عن مدى درجة الفساد التي يصدر الإسرائيليون عنها، بالنحو الذى أشرنا إليه، و بالنحو الذي ستكشف عنه مقاطع لاحقة.
***
قال تعالى: وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولاٰهُمٰا بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلاٰلَ اَلدِّيٰارِ وَ كٰانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنٰاكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنٰاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهٰا فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمٰا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مٰا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنٰا وَ جَعَلْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ حَصِيراً .
هذا المقطع يتحدث عن المجتمع الإسرائيلي الذي تطبعه سمة العدوان الشديد لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً حيث ذكر النص هذا التعالي وكأنه رمز لتعدّد الإفساد وتكرره نظرا للطول الذي وسم تأريخهم العدواني القائم على قتل حتى الإنبياء.
المهمّ - من زاوية عمارة المقطع وصلتها بعمارة السورة التي تحدثنا عن مقدمتها سابقا - هو أن نقف عند هذه السمة العدوانية التي تطبع المجتمع الإسرائيلي وكيفية الردّ عليه أو ترتيب الجزاءات الدنيوية والأخروية عليه، وهو ترتيب يتناسق هندسيا مع سمتهم العدوانية. فقد ذكر النص أن الإسرائيليين أفسدوا في الأرض مرتين، وذكر قبالة ذلك أن الله رتب على العمل المذكور عقابين أيضا، العقاب الأول هو فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمٰا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مٰا عَلَوْا تَتْبِيراً . فالملاحظ هنا، أن الجزاء جاء متجانسا تماما مع سمة العدوان الإسرائيلي، ففي المرة الأولى وصف المقطع بأن الله بعث على الإسرائيليين جنودا أولي بأس شديد
ص: 9
وليس مجرد جنود عاديين، كما أنهم جاسوا خلال الديار، أي عملوا في الإسرائيليين قتلا حتى أنهم ليطوفون وسط الديار، يبحثون عن الإسرائيليين واحدا واحدا ليتيقنوا من عدم بقاء أحد منهم. ومن الواضح أن أمثال هذا العقاب يتناسب مع حجم الجرائم التي تصدر عن الإسرائيليين القتلة. والأمر نفسه بالنسبة إلى العقاب الآخر حيث وصف المقطع طريقة العقاب بأنها عملية تدمير وإهلاك للإسرائيليين وَ لِيُتَبِّرُوا مٰا عَلَوْا تَتْبِيراً أي ليدمروا ويهلكوا ويبيدوا كل ما استولوا عليه من البلاد المفتوحة.
إذا، جاء عدد الجزاء من جانب ونمطه من جانب آخر متجانسين مع عدد الإفساد ونمطه اللذين صدر الإسرائيليون عنهما.
ويلاحظ - مضافا لما تقدم - أن المقطع لم يرسم الجزاء المذكور منحصرا في بيئة الحياة الدنيا بل أردفه بالتلويح بالجزاء الأخروي وَ جَعَلْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ حَصِيراً ... بيد أن التلويح بالجزاء الأخروي جاء في سياق نمط هندسي آخر من التوازن الفنّي بين سلوك الإسرائيليين وبين إمكانية تعديله، فقد أوضح المقطع بأن اللّه ردّ للإسرائيليين الكرّة على قاتليهم وأعاد الدولة لهم تمحيصا واختبارا، وهذا بعد المرة الأولى، وأمّا بعد المرة الأخرى فقد سمح لهم بإمكانية تعديل السلوك أيضا عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنٰا .
إذن، فسح المجال لإمكانية تعديل السلوك، جعله الله أمرا واضحا لا لبس فيه، بيد أن قوله تعالى وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنٰا يوحي فنيا بأنّ الإسرائيليين لا أمل في تعديل سلوكهم وإلى أنهم مصرّون على ممارسة الجريمة، لذلك، عقّب اللّه على ذلك قائلا وَ جَعَلْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ حَصِيراً وهذا ما يوحي بوضوح بأنه لا أمل البتة في أن يعدّل الإسرائيليون من سلوكهم، وهو أمرّ يمكن للمتلقّي ملاحظته بوضوح حينما يواجه امتداد السلوك العدواني
ص: 10
للإسرائيليين في سنواتنا المعاصرة بالنحو الدي لا نحتاج من حلاله الى التعقيب عليه.
وأيا كان، أمكننا ملاحظة الخطوط الهندسية التي طبعت عمارة المقطع من حيث تجانس الجزاءات الدنيوية والتلويح بالجزاء الأخروي مع طبيعة العنصر العدواني الذي يطبع الإسرائيليين، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً * وَ يَدْعُ اَلْإِنْسٰانُ بِالشَّرِّ دُعٰاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ عَجُولاً * وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنٰا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنٰا آيَةَ اَلنَّهٰارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنٰاهُ تَفْصِيلاً .
في هذا المقطع من سورة الإسراء: جملة من الدلالات الفكرية، منها ما يتصل بمقدمة السورة التي تحوم على سلوك المجتمع الإسرائيلي فيما قلنا إن سمة (العدوان) هي التي تطبع المجتمع المذكور، فقد أشارت مقدمة السورة إلى أن اللّه آتى موسى الكتاب وجعله (هدى)، وها هو المقطع الجديد الذى نتحدث عنه يشير إلى أن القرآن الكريم (يَهْدِي) لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
إذا، ظاهرة (الهدى) تطرح في هذا المقطع لتسحب دلالاتها على الموضوعات الأخرى، كما أن موضوعات أخرى مختلفة يطرحها المقطع ضمن الخط الفكري العام للسورة. وبالرغم من أن السورة شدّدت على إبراز الفساد الذي يطبع مجتمع الإسرائيليين، إلا أنها تطرح موضوعات ثانوية مستقلة تستهدف توصيلها إلى القاريء ثم تعود لتربط بين أجزائها.
من الموضوعات المطروحة في هذا المقطع ظاهرة تتصل بالتركيبة
ص: 11
النفسية للإنسان وهي كون الإنسان عجولا وكونه يدعو بالشرّ نفس دعائه بالخير.
إن هذه الظاهرة لها أهميتها في ميدان السلوك، فالعجلة يقف وراءها:
الدافع إلى تحقيق الإشباع حتى لو كان الإشباع في غير صالح الشخصية، مما يعني ضرورة تعديل الشخصية لسلوكها واستبدال العجلة بما يضادها وهي (التأني) والصبر.
إلى جانب هذه الظاهرة النفسية، طرح المقطع القرآني المذكور: ظواهر إبداعية واجتماعية تتصل بفلسفة النهار والليل من حيث كون النهار وسيلة لطلب الرزق وسائر النشاط الإنساني، ومن حيث كون الليل وسيلة سكون، ثم من حيث كونهما وسيلة إحصائية لمعرفة السنين وسائر الحسابات التي يحتاجها الشخص في تعامله مع الحياة...
بعد ذلك يتّجه المقطع إلى المسؤولية العبادية للشخص ومحاسبته على ذلك في اليوم الآخر: وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً * اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اِهْتَدىٰ فَإِنَّمٰا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمٰا يَضِلُّ عَلَيْهٰا وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً .
السؤال هو: إننا أمام مقطع يتحدث عن كون القرآن هاديا، وعن كون الإنسان عجولا، وعن كون الليل والنهار وسيلة عمل وسكون وإحصاء، وعن كون الإنسان مسؤولا عن تصرفه وإلى أنه يحاسب في اليوم الآخر، وإلى أن الله لن يحاسب أحدا حتى يلقي عليه الحجة أولا.
إن هذه الموضوعات التي تبدو وكأن لا علاقة لأحدها بالآخر، يمكننا أن نتبينها مصوغة بإحكام رائع من حيث عمارة المقطع، فالقرآن يهدي لما هو أقوم - وهذا هو الموضوع الأول للمقطع - وهذا أن الإنسان قد وضعت أمامه
ص: 12
مباديء السلوك الذي ينبغي أن يمارسه في الحياة، ثم. أن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، وإلى أنه عجول - وهذا هو الموضوع الثاني في المقطع، مما يعني أن الإنسان بالرغم من كونه قد وضع أمامه هدى القرآن إلا أنه يتعجّل إشباع حاجاته حتى لو كانت في غير صالحه، وهذا ما يعرضّه لعملية حساب فيما بعد... ثم أن الإنسان قد هيا له وسائل العامل في الحياة (الليل والنهار) والإفادة منهما في تحديد الهدى الذي ينبغي أن يسير عليه، أخيرا أن الإنسان ما دام قد عرف مواقع الهدى وتهيأت له أسباب التعامل: ومع ذلك يتعجل في إشباع حاجاته حتى لو كانت في غير صالحه: حينئذ سيحاسب على سلوكه وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً وإن هذا الحساب له مسوغاته لسبب واضح هو ما ذكره المقطع في الختام وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً .
إذا، المقطع المذكور - بالرغم من اختلاف موضوعاته - يظل منصبّا في رافد فكري هو مسؤولية الإنسان وتحمله نتائج ذلك.
***
قال تعالى: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً * وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعٰاجِلَةَ عَجَّلْنٰا لَهُ فِيهٰا مٰا نَشٰاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنٰا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاٰهٰا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ مِنْ عَطٰاءِ رَبِّكَ وَ مٰا كٰانَ عَطٰاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجٰاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً * لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً .
في هذا المقطع من سورة الإسراء، يطرح النص جملة من المفهومات
ص: 13
العبادية المتصلة بكل من الحياة الدنيا و الآخرة وصلتهما بعضا بالآخر من حيث مبادئ الثواب والعقاب.
لقد طرح المقطع مبدأ اجتماعيا له خطورته في ميدان المجتمعات ومصائرها وهو تسليط المترفين على شعوبهم بحيث يعملون فيهم تدميرا وإهلاكا: جزاء لانحراف المجتمعات.
وهذا واحد من المباديء أو القوانين الاجتماعية في تحديد مصائر المجتمعات الفاسقة وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا .
وأمّا المبدأ الآخر فهو تدمير المجتمعات الفاسقة مباشرة، أي من قبل السماء وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً .
إذا، ثمة مبدءان اجتماعيان في تحديد المصائر المهلكة للمجتعات غير الملتزمة بمبادى السماء هما: تسليط العذاب عليها امّا من قبل السماء مباشرة أو ترك المترفين منهم يمارسون عملية التدمير حتى يتحمّل كل فريق (الشعوب وحكّامها) مسؤولية سلوكه المنحرف.
ويلاحظ من حيث البناء الهندسي للسورة، أن المقطع الذي نتحدث عنه عرض لقضية الجزاء المترتب مباشرة:. عرض ذلك من خلال الإشارة إلى إهلاك المجتمعات من بعد نوح وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ... ، فما هو السرّ الفنيّ في ذلك ؟ في تصورنا أن مجتمع ما بعد نوح يشكّل مجتمعا عالميا جديدا، بصفة أن الطوفان أهلك كل المجتمعات عدا مجموعة المؤمنين بنوح فيما لم يتجاوزوا المائة، بينا جاء الإهلاك في ما بعد ذلك لمجتمعات محددة موضعيا دون أن يستغرق العذاب جميع مساحة الأرض. مضافا لذلك، فإن نوحا الذي ورد ذكره في مقدمة السورة من أنه كان عبدا شكورا: تجيء الإشارة إليه الآن
ص: 14
متجانسة مع المقدمة التي طرحت مفهوم (الشكر) مقابل (الكفران)، حيث كانت نجاته مع المؤمنين تفسّر لنا سرّ كون المجتمعات فيما بعده هي المعرض للجزاء دون أن يشمل نوحا وجماعته.
وأيا كان، إذا تركنا هذا الجانب العماري من المقطع واتجهنا إلى موضوعاته نجد مبدأ اجتماعيا آخر يطرحه المقطع وهو الإشباع الدنيوي وصلته بالحياة الآخرة، فهناك عملية تفضيل لبعض على الاخر اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وهذا في الدنيا، والأمر كذلك في الحياة الآخرة وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجٰاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً ، إلا أن عملية التفضيل الدنيوى تظل خاضعة لمعيار خاص هو إمكانية أن ينسحب ذلك على المنحرفين أيضا مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعٰاجِلَةَ عَجَّلْنٰا لَهُ فِيهٰا مٰا نَشٰاءُ لِمَنْ نُرِيدُ إلا أنهم يحرمون - قبالة ذلك - من النعيم الأخروي، وهذا يعني مضافا لما تقدم - أن التفضيل الدنيوي ليس عاما يشمل المنحرفين جميعا بل يخص بعضا دون آخر، وهذا بعكس التفضيل الذى ينسحب على المؤمنين حيث يلغيه الله من حسابهم ليتجه بهم إلى الإشباع الأخروي وجعل اهتمامات المؤمنين منصبة على إرادة الحياة الآخرة ولي الإشباع الدنيوي وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ أي: أن عطاء الله يشمل المؤمن والمنحرف، كلّ ما في الأمر أن المنحرف يظل نصيبه منحصرا في الدنيا، كما أن ذلك لا يشمل كل المنحرفين حيث يظل نصيب بعضهم مفقودا حتى في الدنيا، بخلاف المؤمن الذي قد يحرم من نصيب الدنيا وقد يتوفر عليه، إلا أنه في الحالين يظل مرشّحا للنصيب الأخروي.
قال تعالى: وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً * وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صٰالِحِينَ فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ غَفُوراً .
ص: 15
قال تعالى: وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً * وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صٰالِحِينَ فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ غَفُوراً .
في هذا المقطع طرح للتعامل مع أهم الدوافع البشرية وهما: الدافع إلى الأبوة والأمومة والدافع إلى البنوّة. إن قضية الوالدين لا ترتبط بمجرّد البناء العائلي بما يستتبعه هذا البناء من تفجير عواطف خاصة بل يتجاوز ذلك إلى ما يواكبه من دلالات إنسانية متنوعة، حتى أن المقطع القرآني الكريم وصل بين عبادة اللّه التي خلق الكائن الآدمى من أجلها فجعلها الهدف الرئيس في السلوك، ووصل بينها وبين الإحسان بالوالدين، مما يعني أن الإحسان إليهما يجيء في الدرجة التالية للهدف العبادي العام، بل أن أهمية مثل هذا الإحسان وهو ظاهرة فردية لا تتجاوز العلاقة بين شخصين أو ثلاثة، يتجسّد بوضوح أشد حينما تنظر إلى موضوعات السورة فنجدها جميعا: إمّا أن تتحدث عن الإيمان بالله بمختلف مستوياته التي وقفنا عليها أو تتحدث عن ظواهر اجتماعية تتناول المجتمعات، بينا يتناول الإحسان إلى الوالدين ميدانا صغير الحجم بالقياس إلى حجم المجتمعات، مما يكشف عن أهمية هذا التعامل الذي طرحه النص.
ويلاحظ أن المقطع القرآني الكريم طرح جانبا من التعامل المذكور هو بلوغ الكبر أحد الوالدين أو هما جميعا حيث طالب الولد بعدم القول لهما بكلمة (أُفٍّ ) فيما تعدّ - كما هو بين - أهون تعبير لفظي حيالهما، ومع ذلك فإن المقطع نهى عن ممارسة هذا التعبير: نظرا لكونه كاشفا أولا عن عدم تعاطف الولد مع أبويه، أي تبرّمه من تحمل المسؤولية حيالهما، وكونه يتسبّب - ثانيا - في إلحاق الصدمة بهما. و يلاحظ أيضا أن المقطع قد انتخب جانب (اَلْكِبَرَ) في عمر الأبوين ليشدد على هذا الجانب: نظرا لما يواكب الكبر من عجز فيهما،
ص: 16
ومن انقطاع الفائدة التي كان الولد يجنيها منهما في مراحل متنوعه من عمرهما، ومن استتباعه تقديم مساعدة لهما.
ومن الواضح أن الدلالة الإنسانية سوف تكون موضع تجربة صعبة في هذا السياق: حيث يمكن استكشاف ما إذا كان الولد بمقدوره أن يمارس عملية تأجيل لحاجاته النفسية وغيرها وذلك بأن يتحمل أعباء المسؤولية حيالهما أم لا.
مضافا لما تقدم، نجد أن المقطع لا يقف عند طرحه التعامل اللفظي (كلمة أُفٍّ ) مع الوالدين، بل يطرح أيضا مطلق الاستجابة حيالهما حيث يقول وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً .
فالملاحظ هنا، أن المقطع حينما يطالب الولد بأن يخفض لهما جناح الذل إنما يصل بين ذلك وبين مفهوم (الرحمة)، وهو مفهوم متبادل بين الطرفين. الولد والأبوين، فكما أنهما ربياه صغيرا (وهذا طرف الرحمة منهما) يتعيّن عليه أن يرحمهما، (وهما في الحياة)، بل عليه أن يدعو لهما بعد الممات أيضا (وَ قُلْ . رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا) ...
طبيعيا، ما دام الأبوان بالضرورة يصدران عن الرحمة للولد، حينئذ يمكن تفسير التوصية للولد بأن يرحمهما دون التوصية لهما بأن يرحماه (بالرغم من أن توصيتهما بالولد في النطاق التربوي وغيره ملحوظة أيضا).
وأيا كان، فإن طرح مفهوم التعامل مع الوالدين في مقطع مستقل من السورة. إنما يعني أهمية ذلك عباديا كما أشرنا. والمهم بعد ذلك أن نشير إلى الموقع الهندسي لهذا التعامل: من عمارة السورة... وأدنى تأمل في هذا الصدد يقتادنا إلى القول بأن مجيء المطالبة بالإحسان إلى الوالدين في سياق قوله تعالى أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ أي في سياق المطالبة بالتعامل مع اللّه. كاف
ص: 17
لأنّ يحدّد لنا بوضوح: الموقع المتلاحم لكل من عبادة الله والإحسان إلى الوالدين، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاٰ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَ إِمّٰا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهٰا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً * وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً .
في هذا المقطع طرح لواحد من الدوافع المتصلة بالتعامل مع المال متمثلا في جملة من موارده، منها: مساعدة الفقير والغريب عن بلده، وقرابة الرسو (ص)، ومنها: عدم البخل وعدم الإسراف، ومنها التعامل الطيب مع الفقير في حالة عدم إمكان مساعدته، ومنها: أن الرزق مرتبط بتقدير اللّه تعالى حسب متطلّبات الحكمة.
إن هذه الموارد المشار إليها يعدّ تنظيمها نمطا من التدريب على السلوك السوي مقابل السلوك الشاذ الذي يطبع الشخصية في حالة عدم الأنفاق (وهو البخل) أو الانفاق الزائد على الحاجة... فالبخيل - في اللغة المرضية - يندرج في القمة من الشذوذ نظرا لانغلاقه داخل «ذاته» وتمركزه حولها ومحاولة إشباعها فحسب دون الالتفات إلى الآخرين، بعكس السخيّ الذى يجسّد قمة انفتاحه على الآخرين... بيد أنه ينبغي ملاحظة الفارق بين السخاء وبين الإسراف.
إن المقطع القرآني الكريم شدّد على هذا الجانب فتحدث عن الإسراف وجعل المسرف أخا للشيطان. والسؤال ما هو الفارق بين السخاء والإسراف ما دام المعيار بين الصحة والمرض هو الانفتاح والانغلاق بالنسبة إلى الآخرين ؟
ص: 18
بمعنى هل أنّ السخاء إذا كان مجسدا للانفتاح على الآخرين، فإن الإسراف يجسّد قدرا أكثر من الانفتاح ؟.
الحق، أن مجرد العطاء لا يكشف عن استقامة الشخصية بل يظل واحدا من السمات المفصحة عن استقامتها: لكن وفق شروط خاصة... فإذا افترضنا أن الشخصية وهبت مالا ضخما بهدف اكتساب السمعة الاجتماعية، حينئذ فإن سلوكها المذكور يعد مرضيّا لأن الحافز أو الباعث (ذاتي) وليس (موضوعيا)، إذا: المعيار هو (الذاتية) و (الموضوعية) وليس العطاء وعدمه، من هنا جاءت النصوص المفسرة لكلمة (التبذير) بأنه إعطاء المال في غير الحق، و من هنا يمكن إدراك الصلة بين المبذرين وكونهم اخوان الشياطين إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً .
إن الفقرة الأخيرة (وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) ينبغي أن نقف عندها. نظرا لموقعها الهندسي من بناء السورة الكريمة... فقد سبق أن لحظنا أن مقدمة سورة (الإسراء) طرحت مفهوم (الشكر) - مضافا إلى مفهومات أخرى تحدثنا عنها في حينه - فوصفت نوحا (ع) بأنه كان عبدا شكورا. هنا - في المقطع الذي نتحدث عنه - وصف المقطع: الشيطان بأنه كفور بنعمة اللّه... وهو مقابل (الشكر) لنعم اللّه... مع ملاحظة أن (الإسراف) وهو إعطاء المال في غير الحق إنما يجسد عدم تقدير للنعمة المذكورة وإتلافها في موارد لا يتطلّبها الموقف.
المهم، خارجا عن البناء الهندسي للسورة، يمكننا متابعة المقطع لنجد أنه يطالب - بعد النهي عن الإسراف - بألاّ تجعل الشخصية يدها مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كل البسط فتصبح متحسرة مغمومة... وهذا يعني أن المقطع من الممكن أن يكون قد اصطنع فارقا بين الإسراف وبين بسط اليد تماما، إذ يمكن أن يبذل الإنسان أموالا في غير حق فيكون (مسرفا) ولكنه قد
ص: 19
يبذلها في حق دون أن يقدّر حاجاته الضرورية إلى المال، وهذا كما لو أنفق جميع ما لديه فبقي معدما مثلا.
من هنا تحدثت الآية الكريمة في موقع مستقل عن قضية (بسط اليد) وفصلته عن (الإسراف). والمهم ان بسط اليد تماما يظل مقترنا بالمنع وفق الآية المشار إليها حيث أوضحت النتائج المترتبة على ذلك (من الزاوية النفسية) موضحة بأن من يبسط يده كل البسط فسيقعد ملوما محسورا، وهو إفصاح عن التمزق والتوتر والانشطار النفسي: نظرا لحالة العدم أو الفقر الذي سيصيبه في حالة إعطاء جميع ممتلكاته للآخرين.
قال تعالى: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كٰانَ خِطْأً كَبِيراً * وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً * وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً * وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً * وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذٰا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً * وَ لاٰ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبٰالَ طُولاً * كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً .
في هذا المقطع من سورة الإسراء، جملة من مبادىء السلوك: عقب عليها النص قائلا كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً . ومن هذا التعقيب يمكننا أن نفهم عمارة المقطع وبناءه القائم على موضوعات مختلفة إلا أنها مشدودة إلى خيط فكري واحد... المقطع يتحدث عن قتل الأولاد بسبب من الفقر، ويتحدث عن الزنى، ويتحدث عن قتل النفس بغير حق، ويتحدث عن
ص: 20
أكل مال اليتيم، و يتحدث عن نقص المكيال، ويتحدث عن البهتان، ويتحدث عن الخيلاء.
إن هذه الموضوعات المتنوعة من مفردات السلوك: يظل أحدها مستقلا عن الآخر، فالقتل للولد غير القتل للآخرين، وهما غير الزنى، وثلاثتها غير أكل مال اليتيم، وهكذا... بيد أن خطأ أو أصلا نفسيا واحدا يحكم هذه الموضوعات السبعة ألا وهو نزعة (العدوان). ولا نغفل، أن سورة الإسراء بدأت بالحديث مفصلا عن الإسرائيليين، وكان تركيزها على سمة (العدوان) في السلوك الإسرائيلي، وهذا ما يفسّر لنا تجانس جزئيات المقطع الواحد فيما بينها أيضا... أنها جميعا تندرج ضمن السلوك العدواني الذي يصدر الشخص عنه، فعملية القتل هي. نزعة عدوانية يتلذذ المنحرف بها لأنها تشبع حاجته الكريهة إلى ذاته، سواء أكانت قتلا للولد حتى لا يتكلّف مسؤولية معيشته أو قتلا للآخرين لسبب ذاتي أيضا.
ونقص المكيال وأكل مال اليتيم يتصلان بالتعامل المالي أيضا، وهما تعبير عن نزعة (العدوان) بدورها، نظرا لانطوائهما على الاعتداء على أموال الآخرين.
أما إلقاء التهمة على الآخرين ومحاول تجريحهم وذلك من خلال إطلاق الكلام عن الآخرين دون التأكد من صحة ذلك، وحتى مع التأكد منه فإنه يجسّد - في الحالة الأخيرة - مفهوم (الاغتياب) وهو نزعة عدوانية صريحة تتلذذ بإلحاق الأذى بالآخرين. كما أن الاختيال (المشي في الأرض مرحا) بالرغم من كونه تعبيرا عن الإعجاب بالذات إلا أنه يتضمن نزعة عدوانية أيضا بصفة أن المختال أو المتكبر إنما يصدر عن إحساس بالقصور في ذاته مما يضطره إلى التعويض عنه بسلوك مضاد هو. التعالي، بيد أن الإحساس بالقصور أو النقص يتضمّن بالضرورة عنصر (الكراهية) للآخر ين: نظرا
ص: 21
لتحسسه بأنه شاذ بالقياس إلى الآخرين وهو ما يدعه يسحب كراهية خاصة عليهم، وهي نفس نزعة (العدوان) التي تصدر عنها. الأنماط التي تقدمت الإشارة إليها.
إذا، نحن الآن أمام جملة مفردات من السلوك متمايزة فيما بينها، إلا أنها جميعا تصدر عن نزعة واحدة من الأعماق هي (العدوان)، بعضها:
يجسّد العدوان مباشرة مثل القتل، و الآخر يجسده لفظيا مثل. البهتان والغيبة، والبعض يجسدها ماليا مثل: سرقة الأموال بالنسبة لليتيم أو نقص المكيال بالنسبة لمطلق الناس، وبعضها يجسّد العدوان جنسيا مثل الزنى، وبعضها يجسده حركيا مثل: الخيلاء... بل حتى من قتل مظلوما - كما أشار المقطع إلى ذلك - ينبغي لوليه ألا يسرف في القصاص، لأن الإسراف نفسه نزعة (عدوانية) أيضا: بصفة أنها ممارسة زائدة عن القصاص أو الحاجة.
إذا، للمرة الجديدة، ينبغي التذكير بجمالية المقطع القرآني الكريم من حيث كونه قد طرح موضوعات متنوعة في ميدان السلوك ووصلها بخيط نفسي أو فكرى واحد هو (العدوان) فضلا عن تجانس هذا مع بداية السورة التي تحدثت عن (العدوان الإسرائيلي) أيضا بالنحو الذي تقدم الحديث عنه مفصلا.
قال تعالى: ذٰلِكَ مِمّٰا أَوْحىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً * أَ فَأَصْفٰاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ إِنٰاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً * وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * قُلْ لَوْ كٰانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمٰا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلىٰ ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً في هذا المقطع من سورة الإسراء، دلالات جديدة ينثرها النص في سياق الأفكار العامة للسورة، فقد أشار المقطع إلى مفهوم (الحكمة) في القرآن وهو مفهوم يتناسق مع مقدمة السورة التي أشارت إلى أنّ أنها أتت موسى (ع) الكتاب وجعلته (هدى)، إلا أن الإسرائيليين كما تقدم الحديث عنهم لم يستثمروا هدى الكتاب فأوغلوا في جرائمهم وهو أمر يطرحه المقطع الآن بالنسبة إلى المنحرفين العرب الذين نزل عليهم كتاب اللّه حيث كفروا به أيضا وحيث أشركوا ونسبوا الملائكة بنات لله... إلخ. والمهم أن النص - وهو يربط بين الانحرافات التي، صدرت عن كلّ من الإسرائيليين ومعاصري رسالة الإسلام - يطرح أفكارا جديدة ضمن هذا السياق ليمهّد بعد ذلك إلى الحديث عن انحرافات المشركين. لقد طرح دلالة عبادية مهمة هي. كون السماوات والأرض تمارس عملية تسبيح للّه وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . والحق أن هذه الظاهرة العبادية فضلا عن كونها إحدى حقائق الكون التي أراد المقطع القرآني تذكيرنا بها من حيث كون الوجود بكل مستوياته: (النبات والجماد) أيضا، يسبّح للّه، فإنه يتضمن تأشيرة إلى وحدانية اللّه وردا على المنحرفين وإلى أنه تعالى مستغن عن عبادة هذا النفر المنحرف، وإلى أن هذا الانحراف لا قيمة له بالقياس إلى الكون الضخم الذي يمارس العبادة بنحوها المطلوب.
ص: 22
قال تعالى: ذٰلِكَ مِمّٰا أَوْحىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً * أَ فَأَصْفٰاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ إِنٰاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً * وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * قُلْ لَوْ كٰانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمٰا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلىٰ ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً في هذا المقطع من سورة الإسراء، دلالات جديدة ينثرها النص في سياق الأفكار العامة للسورة، فقد أشار المقطع إلى مفهوم (الحكمة) في القرآن وهو مفهوم يتناسق مع مقدمة السورة التي أشارت إلى أنّ أنها أتت موسى (ع) الكتاب وجعلته (هدى)، إلا أن الإسرائيليين كما تقدم الحديث عنهم لم يستثمروا هدى الكتاب فأوغلوا في جرائمهم وهو أمر يطرحه المقطع الآن بالنسبة إلى المنحرفين العرب الذين نزل عليهم كتاب اللّه حيث كفروا به أيضا وحيث أشركوا ونسبوا الملائكة بنات لله... إلخ. والمهم أن النص - وهو يربط بين الانحرافات التي، صدرت عن كلّ من الإسرائيليين ومعاصري رسالة الإسلام - يطرح أفكارا جديدة ضمن هذا السياق ليمهّد بعد ذلك إلى الحديث عن انحرافات المشركين. لقد طرح دلالة عبادية مهمة هي. كون السماوات والأرض تمارس عملية تسبيح للّه وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . والحق أن هذه الظاهرة العبادية فضلا عن كونها إحدى حقائق الكون التي أراد المقطع القرآني تذكيرنا بها من حيث كون الوجود بكل مستوياته: (النبات والجماد) أيضا، يسبّح للّه، فإنه يتضمن تأشيرة إلى وحدانية اللّه وردا على المنحرفين وإلى أنه تعالى مستغن عن عبادة هذا النفر المنحرف، وإلى أن هذا الانحراف لا قيمة له بالقياس إلى الكون الضخم الذي يمارس العبادة بنحوها المطلوب.
بعد هذا - يتقدم المقطع القرآني الكريم إلى الربط بين سلوك المنحرفين وسلوك المؤمنين، الذين اختاروا الالتزام بمبادىء اللّه، وإلى كونه تعالى سوف يمدّ المؤمنين برعايته ويقيهم شرّ المنحرفين أيا كانت مستوياتهم وَ إِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنٰا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجٰاباً مَسْتُوراً وَ جَعَلْنٰا عَلىٰ
ص: 23
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْراً وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً .
في هذه الشريحة القرآنية طرح لمفهوم عبادي ذي دلالة خاصة هي أن اللّه يجعل حجابا ساترا بين المؤمنين وبين أعدائهم بحيث يمارس المؤمنون قراءة القرآن وتمثّل دلالاته دون أن يستطيع المنحرفون حجزهم عن ذلك.
إن هذا القرآن الذي جعله اللّه هدى وحكمة - وفق مقدمة السورة ووسطها الذي نتحدث عنه الآن - هذا القرآن أو المبادىء لا تنحصر فاعليتها في إفادة المؤمنين منها فحسب دون أن يستطيع المنحرفون حجزهم عنها بل أن المنحرفين أنفسهم جعل اللّه عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْراً .
وهذا يعني أن المقطع القرآني الكريم قد ألغى المنحرفين من إمكانية أي تعديل يطرأ على سلوكهم، إذ أن قلوبهم تحمل حجابا ساترا يحتجز دخول الإيمان إليها، كما أن اسماعهم تحمل ثقلاّ يحجزها عن الاستماع إلى مبادىء اللّه... وهو أمر سوف ينعكس - من حيث العمارة الفنية للنص - على الأجزاء اللاحقة من السورة بحيث تحدثنا عن مستويات السلوك المنحرف عند هؤلاء بحيث يتطابق سلوكهم مع هذه السمات المتعلقة لديهم وهي سمات الحجاب الذي يطبع قلوبهم، والصمم أو الوقر الذي يطبع أسماعهم، بالنحو الذي تقدمت الإشارة إليه.
قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوىٰ إِذْ يَقُولُ اَلظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً * اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ فَضَلُّوا فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجٰارَةً أَوْ حَدِيداً ** أَوْ خَلْقاً مِمّٰا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هُوَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً... .
ص: 24
قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوىٰ إِذْ يَقُولُ اَلظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً * اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ فَضَلُّوا فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجٰارَةً أَوْ حَدِيداً ** أَوْ خَلْقاً مِمّٰا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هُوَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً... .
في هذا المقطع سرد لسلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، وهو سلوك وصفه اللّه بأنه (ظالم) أو منحرف نظرا لكونه غير نابع من الحقيقة التي تقرّها أعماقهم، كما أنه اعتداء على شخصية محمد (ص) حيث يتناجون فيما بينهم ويقول بعضهم للآخر إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً ... وقد سبق القول: ان سمة (العدوان) هي السمة التي ركّزت عليها صورة الإسراء من حيث عرضها لسلوك الإسرائيليين الذي افتتحت السورة به، ومن حيث عرضها لمختلف أنماط السلوك الذي وقفنا عليه في مقطع أسبق مثل قتل النفس، والزنى، ونقص المكيال وأكل مال اليتيم... إلخ.
إذا، من حيث عمارة السورة ثمة توافق هندسي بين مقاطعها التي تتوحّد في رافد فكري خاص يصبّ في مفهوم (العدوان) الذي لحظناه.
يضاف لذلك، إن عرض سلوك المنحرفين العدواني جاء جوابا لمقطع سابق لمّح النص من خلاله إلى المنحرفين إجمالا، وجاء هذا المقطع ليتحدث تفيلا عن بعض ملامح سلوكهم، فعرض لقضية اتّهام صاحب الرسالة بالسحر من خلال التناجي العدواني الذي أشرنا إليه.
وها هو النص يتابع ظاهرة أخرى من سلوكهم المنحرف إلاّ أنها تصب في رافد آخر هو: نظرتهم المريضة حيال اليوم الآخر حيث قدّموا استدلالا هزيلا في صياغة النظرة المريضة المذكورة، قائلين أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً .
هنا يتقدم النص في الإجابة على نظرتهم المذكورة بأسلوبين: الأسلوب الساخر والأسلوب الجدي، أما مسوغات الأسلوب الجدي فهو صياغة الحقيقة
ص: 25
بنحو مطلق متمثلة في أن الله تعالى سوف يبعث الخلق جديداً في اليوم الآخر، و أمّا مسوغات الأسلوب الساخر فهو إجابة على أسلوبهم الساخر حيال الحقائق التي واجههم بها محمّد (ص). لقد أمر اللّه محمدا (ص) بأن يقول للمنحرفين كُونُوا حِجٰارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمّٰا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي تجاوزوا قدراتكم المحدودة - جسميا - إلى الحجارة الصلبة أو الحديد الأشد صلبا، ثم تجاوزوا قدراتكم المحدودة - نفسيا وعقليا - إلى شيء أكبر مما تحمله صدوركم: حينئذ فماذا ستكون النتيجة ؟ النتيجة هي الإحياء في اليوم الآخر حيث ستعترفون بذلك ليس مجرد اعتراف بل الاعتراف المقرون بالحمد أيضا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ بمعنى أن المنحرفين يضطرون في اليوم الآخر إلى الاعتراف بحقيقته مقرونا باعترافهم بنعم اللّه المتمثلة في كونه (مبدعا) للكون حيث خبروا هذا الإبداع الذي طولبوا به الآن ورفضوه: انصياعا لذواتهم المريضة المتسمة بالعدوان ومنه سمة السخرية التي صدروا عنها في مناقشة صاحب الرسالة (ص) حيث جاء جواب اللّه تعالى لحقيقة اليوم الآخر:
ردا على سخريتهم الحركية واللفظية فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هُوَ . فالملاحظ أن المنحرفين مارسوا أسلوبا جسميا في السخرية هو (هزّ رؤوسهم) كما استخدموا أسلوبا لفظيا هو (مَنْ يُعِيدُنٰا) (مَتىٰ هُوَ؟) وحيث جاء الرد عليهم مقرونا بما يتوافق وأساليبهم بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى. وَ قُلْ لِعِبٰادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوًّا مُبِيناً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً * قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاٰ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاٰ تَحْوِيلاً * أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىٰ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ كٰانَ مَحْذُوراً .
ص: 26
قال تعالى. وَ قُلْ لِعِبٰادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوًّا مُبِيناً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً * قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاٰ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاٰ تَحْوِيلاً * أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىٰ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ كٰانَ مَحْذُوراً .
في هذا المقطع جملة من الأفكار المطروحة ضمن الفكرة التي تتناول سلوك المنحرفين حيال رسالة الإسلام... حيث ربط المقطع بين سلوك هؤلاء المنحرفين وسلوك المؤمنين، فأشار أولا إلى ظاهرة التدريب على السلوك السوي من خلال التعبير اللفظي قُلْ لِعِبٰادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
إن القول بالتي هي أحسن يظل تدريبا على اكتساب السلوك السوي، بصفة أنه نبذ ل (الذات) التي تحاول - تبعا لتركيبتها - جذب التقدير لها، وتحقيق السيطرة لها، أو تحقيق مطلق الإشباع لها. بخاصة في ميدان الجدال حيث يرشّح الشخصية لفرض سيطرتها على الآخرين: بما يستتبع ذلك من إغراء العداوة والبغضاء بين الطرفين، وهو ما أشار المقطع القرآني الكريم إليه حينما عقّب على ذلك بقوله إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوًّا مُبِيناً . ومن الواضح، أن القول بالتي هي أحسن يظل ذا دلالة فنيّة عامة تنسحب على المبلّغ الذي يضطلع بحمل رسالة الإسلام، كما تنسحب على مطلق الأشخاص الذين يمارسون يوميا مختلف أنماط التعامل اللفظى مع الآخرين.
ويلاحظ، أن المقطع أردف هذا الكلام بكلام آخر هو: أن الله تعالى أعلم بما في أعماق الأشخاص أو بسلوكهم ونتائجه حيث يرحمهم أو يعذبهم وفقا لإرادته الحكيمة في ذلك.
وفي تصوّرنا فنيّا، إن هذا التعقيب الذي يتضمّن التلويح بكل من الثواب والعقاب والتأرجح بينهما، إنّما صيغ في سياق مخاطبته للنبيّ (ص) وصلة ذلك بالتعامل مع المنحرفين حيال رسالة الإسلام وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
ص: 27
حيث يمكن أن نستخلص بأن الرحمة أو العذاب سيكونان مرتبطين بإرادة الله من حيث معرفته بأسباب السلوك المنحرف، وإنّ على شخصية المبلغ أن تمارس رسالتها الإسلامية بالتي هي أحسن بغض النظر عن نتائج ذلك.
ويلاحظ أيضا، أن المقطع أردف هذا الكلام بكلام يشير إلى أن اللّه أعلم بمن في السماوات والأرض، وإلى أنه فضّل بعض النبيين على بعض، وإلى أنه تعالى أعطى «داود» (ع) «الزبور».
ترى، ما هو التواشج الفنّي بين علم اللّه، والتفضيل، وداود، وعملية التبليغ التي سبقت هذا الكلام ؟.
في تصوّرنا فنيّا أن المقطع ما دام يتحدث من جانب عن رسالة المبلّغ الإسلامي فإن صياغة شخصيته تفرض فنيّا على المبلّغ نفسه وعلى الجمهور أيضا أن يعي كل طرف طبيعة السمة التي انتخبها اللّه لشخصية المبلّغ حتى لا يثار التشكيك لدى المبلّغ أو الجمهور، فاللّه (أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ) من حيث انتخاب شخصية المبلّغ (وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ ) ، كما أن إعطاء داود الزبور قد يكون مجرد نموذج محايد للاستدلال على عملية التفضيل...
أخيرا، وصل المقطع بين عملية التبليغ لرسالة الإسلام وبين الجمهور المنحرف الذي عزل نفسه عن الله تعالى واتّخذ سواه أو أشركه في فاعلية الكون، موضحا بأن القوى المذكورة من ملائكة أو أشخاص أو سواهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويلا للشيء، إنهم أنفسهم يمارسون الوظيفة العبادية التي يطالب الجمهور بها، إنهم (يَبْتَغُونَ إِلىٰ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ ) إنّهم (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ ) ، وهذا - كما هو بين - استدلال فنيّ يفضي بالضرورة إلى تحقيق عنصر الإقناع برسالة الإسلام ما دامت القوى. موضع تقدير المنحرفين تظل ذاتها مطبوعة بسمة الإيمان باللّه.
ص: 28
هنا ينبغي ألا نغفل عن التواشج الهندسي بين هذه العبارة الاخيرة التي تحدثت عن أن القوى المذكورة (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ ) والعبارة التي تصدّرها المقطع (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) حيث يمكن الربط بينهما من خلال الذهاب إلى أنّ كل شخصية ليس بمقدورها أن تجزم بكونها ذات تزكية بل أن الأمر مرتبط باللّه، وإلى أنه يتعين على كل شخصية أن ترجو رحمة اللّه وتخاف عذابه، وإلى أن هذا التأرجح بينهما هو الذي ينبغي أن يطبع الشخصية الإسلامية في غمرة الوظيفة العبادية التي أوكلتها السماء إلى الشخصية المذكورة (بالنحو الذي تقدم الحديث عنه).
قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ نَحْنُ مُهْلِكُوهٰا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهٰا عَذٰاباً شَدِيداً كٰانَ ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً * وَ مٰا مَنَعَنٰا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنٰا ثَمُودَ اَلنّٰاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهٰا وَ مٰا نُرْسِلُ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ تَخْوِيفاً * وَ إِذْ قُلْنٰا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحٰاطَ بِالنّٰاسِ ، وَ مٰا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلاّٰ فِتْنَةً لِلنّٰاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ طُغْيٰاناً كَبِيراً .
في هذا المقطع من سورة الإسراء، يتحدث النص عن ظواهر جديدة من السلوك الاجتماعي تتصل بكل من المبلّغ لرسالة الإسلام، وبالجمهور المنحرف عنها.
أمّا شخصية المبلغ لرسالة الإسلام فنموذجها محمد (ص) حيث رسمه النص من خلال عنصر (اَلرُّؤْيَا) أراها محمّدا (ص)، وهي رؤيا تتصل بفتح مكة (بصفة أنّ هذا الفتح يجسّد نموذج النصر النهائي لكلمة الإسلام)، كما أنها تتصل بالتلويح لطائفة اجتماعية تجسّد قمة الانحراف متجسدة في الأمويين:
حيث وقفوا من رسالة الإسلام موقف المناهض منذ أصحر بها محمد (ص)
ص: 29
و حيث استمروا في ذلك حتى انتهى المطاف بهم إلى قتل ذريته (ص) متمثلة في شخصية الإمام الحسين (ع).
(اَلرُّؤْيَا) - إذا - من الزاوية الفنية جسّدت وظيفة خاصة هي أن الانحراف يظل قائما من جانب وإلى أن النصر يتم في نهاية المطاف لرسالة الإسلام، إلا أن الأهم من ذلك هو أن الرؤيا جسّدت مفهوما له خطورته الكبيرة في ميدان الوظيفة العامة للآدميين ونعني بها. الاختبار أو الامتحان أو الفتنة أو الابتلاء، فالوجود البشرى - أساسا - قد صيغ من خلال مفهوم الابتلاء (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وها هي (اَلرُّؤْيَا) قد صيغت في هذا المقطع لتعبّر عن واحد من نماذج الابتلاء أو الفتنة وَ مٰا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلاّٰ فِتْنَةً لِلنّٰاسِ حيث نتوقع فنيّا أن تتمثل الفتنة في قضية رؤياه (ص) أنه سيدخل مكة فاتحا حيث أخبر أصحابه بذلك، إلا أن البعض شكك بها نظرا لعدم دخوله مكة عام الحديبية: وكان جوابه (ص) أنه لم يحدد العام بل حدد الفتح فحسب، وهذا يعني أن التشكيك أو اليقين بالفتح هو المحك الذي أفرز المؤمنين عن غيره.
وأما ما يتصل بالمنحرفين أنفسهم، فقد طرح المقطع القرآني الكريم واحدا من المبادىء الاجتماعية المتصلة بتعامل اللّه تعالى مع المنحرفين. هذا المبدأ هو أن كل أمة مجتمع منحرف لا بد أن يطاله العقاب الدنيوي (كٰانَ ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً) ... مجتمع مكة لا بد أن يخضع بدوره للقانون أو المبدأ المذكور، لكن مٰا مَنَعَنٰا - تقول الآية - أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ ، معنى هذا (من الزاوية الفنية) أن مجتمع مكة طالب بآيات إعجازية دون أن تحققها السماء لهم، كما أن المجتمع المذكور لم يتعرض لعقاب الاستئصال حيث ينبغي إخضاعه للمبدأ الاجتماعي المشار إليه وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ نَحْنُ مُهْلِكُوهٰا ، نتيجة ذلك، أن نستخلص بأنّ مجتمع الإسلام - تكريما لمحمد (ص) - سوف يستثنى من المبدأ المذكور (الاستئصال)... كما أنه من
ص: 30
حيث عدم إجابة طلب المنحرفين بإبراز ايه إعجازيه، تستخلص بوضوح من خلال الآية ذاتها وَ مٰا مَنَعَنٰا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ ، فما دام المنحرفون لا يفيدون من ظواهر الإعجاز. حينئذ ما جدوى الإجابة إلى طلبهم ؟ هنا يقدم النص القرآني - من خلال لغة الفن - نموذجا لعدم إفادة المنحرفين من الظواهر الإعجازية هو مجتمع ثمود وَ آتَيْنٰا ثَمُودَ اَلنّٰاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا .
إن هذا النموذج المستقى من تجربة اجتماعية سابقة يتجانس (من زاوية البناء الهندسي للسورة) مع المقطع السابق الذي تحدث عن تفضيل النبيين بعضهم على بعض وإيتاء داود (ع) الزبور حيث جاء الرسم لشخصية داود (ع) مجرد نموذج للتدليل على قضيّة ما، وهو ما يتجانس مع نموذج مجتمع ثمود الذي جاء بدوره تدليلا على قضية ما، كل ما في الأمر أن النموذج الأول يختص بالطابع الفردي لشخصية الأنبياء، والآخر يختص بالطابع العام للمجتمعات، وهو نمط آخر من التقابل والتوازي الهندسي بين الأفراد والمجتمعات، مضافا إلى التجانس الهندسي بين الأفكار والدلالات التي يطرحها النص متمثلة في ضرورة تقديم نماذج من الأفراد والمجتمعات تشكل دليلا أو عنصر إقناع في التدليل على قضية من القضايا بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ قٰالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قٰالَ أَ رَأَيْتَكَ هٰذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّٰ قَلِيلاً * قٰالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزٰاؤُكُمْ جَزٰاءً مَوْفُوراً وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شٰارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ وَ عِدْهُمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً * إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً .
ص: 31
قال تعالى: وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ قٰالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قٰالَ أَ رَأَيْتَكَ هٰذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّٰ قَلِيلاً * قٰالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزٰاؤُكُمْ جَزٰاءً مَوْفُوراً وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شٰارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ وَ عِدْهُمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً * إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً .
في هذا المقطع من صورة الإسراء، عرض قصصي سريع لموقف إبليس من آدم (ع).
واضح، أن القصص المتصلة بقضية إبليس وموقفه من السجود لآدم تتكرر في مواقع متنوعة من القرآن الكريم، إلا أن لكل عرض سياقه الخاص الذي يرد فيه بحيث يختلف عن السياقات الأخرى... هنا في سورة الإسراء (ونحن نعنى بإبراز التلاحم العماري بين أجزاء السورة) تجيء قصة إبليس في سياق خاص يتناسب مع مناخ السورة التي تحدثنا عن موضوعاتها المختلفة التي كان يصب أحد روافدها في إبراز سمته (العدوان) لدى الإسرائيليين، ولدى المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، ولدى مطلق الآدميين: حيث كانت موضوعات النهي عن القتل والزنى وأكل مال اليتيم ونقص المكيال...
الخ. تجسيدا لإبراز السمة المذكورة. وها هو المقطع القصصي الذى نتحدث عنه الآن يصبّ بدوره في الرافد المذكور ونعني به إبراز سمة (العدوان) في السلوك البشري. فالملاحظ في هذه القصة أنها ركّزت على مفردتين من السلوك هما وَ شٰارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ وهاتان المفردتان على صلة بمقطع سابق تحدث عن الأموال بنحو أشد تركيزا من غيره حيث كرّر ذلك في النهي عن أكل مال اليتيم وفي النهي عن نقص المكيال وفي النهي عن قتل الأولاد بسبب الخوف من عدم كفاية الأموال، كما يتحدث عن الزنى ومنحه تحذيرا خاصا حينما نعته بأنه كان فاحشة وساء سبيلا.
وهذا يعني أن المقطع القرآني الكريم حينما يركز على جانب أو أكثر من مفردات السلوك المنهي عنه إنما يكسب الجانب المذكور أهمية خاصة يستهدف لفت نظر المتلقي إليه. مضافا لما تقدم، فإن نفس عرض القصة يتضمن عنصرا فنيا هو التذكير بأن الشيطان يقف وراء السلوك الشّرير الذي يصدر الآدميون
ص: 32
عنه: بخاصة إذا كان التذكير يجيء عقب سلوك مقرون كونه من عمل الشيطان، وهذا نلحظه في مقطع أسبق كان يتحدث عن القول بالتي هي أحسن وَ قُلْ لِعِبٰادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوًّا مُبِيناً ، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مفهوم (العدوان) هو الظاهرة التي ركزت سورة الإسراء عليه: كما أشرنا إلى نماذج ذلك، فإن قضية القول بالتي هي أحسن تشكل مقابلا للعدوان بصفة أن الشيطان هو الذى يغري العداوة بين الآدميين فيحملهم على ممارسة السلوك اللفظي العدواني بدلا من السلوك اللفظي المسالم (يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .
إذا، عندما تجيء قصة إبليس في سياق كونه ينزغ بين الادميين.
حينئذ فإن جمالية البناء الهندسي للسورة تتضح بشكل ملحوظ كما هو بيّن.
أخيرا، ينبغي أن نضع في الاعتبار أيضا، أن عرض قصة إبليس لا تقف عند حدود كونها وردت في سياق الحديث عن السلوك العدواني فحسب، بل أنها تنطوى - مضافا لما تقدم - على تقديم مفردات جديدة من الظواهر كما هو شأن أي مقطع جديد يقدم موضوعات جديدة ضمن الفكرة العامة للسورة، وهنا في قصة إبليس طرح المقطع دلالات جديدة في ميدان السلوك من حيث صلته بالشيطان، حيث أوضح المقطع مثلا بأن عباد اللّه المخلصين سوف لن يكون لإبليس سلطان عليم، وهو ما ختم به المقطع أو القصة إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً . فبهذا الختام الذي تمّ من خلال عرض القصة، نستكشف أهمية هذا الجانب وهو عدم إمكان إبليس أن يمارس نفوذه على المؤمنين من عباد اللّه، كما نستكشف من خلال الختام القائل (وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً) إنّ هذا المفهوم سوف ينعكس على أجزاء لاحقة من السورة، مثلما ينعكس غيره من الموضوعات التي تضمنتها قصة إبليس على أجزاء سابقة
ص: 33
أو لاحقة أيضا من السورة الكريمة، بالنحو الذي سنقف عليه لاحقا إن شاء اللّه.
قال تعالى: رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّٰ إِيّٰاهُ فَلَمّٰا نَجّٰاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ كَفُوراً * أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جٰانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تٰارَةً أُخْرىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قٰاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمٰا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنٰا بِهِ تَبِيعاً * وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً .
هذا المقطع من السورة يتضمن دلالة جديدة تختلف عن الدلالات السابقة التي تحدثت عن اللؤم البشري (في بعده العدواني). إنه يتحدث عن (النعم) التي أسبغها اللّه على العنصر البشري، متمثلة في نموذج محدد هو «الأمن» النفسي والجسمي من حيث علاقته بنمطي المعمورة: البحر والبر، ومن حيث استجابات الكائن الآدمي حيال «الأمن» المذكور.
لقد ذكّر المقطع، الإنسان بنعم الله عليه في خصوصية البحر بأن جعله ذا قابلية على حمل السفن ونقل الإنسان حيث يشاء، كما ذكّره بنعم اللّه تعالى وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّٰ إِيّٰاهُ وهنا عاد المقطع إلى التذكير ثالثة بأن الإنسان حينما يعرض عن اللّه بعد إنقاذه من البحر، وعندما يعرض أيضا عند أمنه في البر،. عندئذ أليس من الممكن أن يعرّض الله الإنسان لخطر البحر دون أن ينقذه، كما هو الأمر في الحالة الأولى أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تٰارَةً أُخْرىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قٰاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمٰا كَفَرْتُمْ ...
ص: 34
إذا: فى الحالات جميعا لا مناص من التسليم بأن اللّه هو المنقذ من الأهوال جميعا...
وهذه هي فكرة المقطع التي حامت على قضية نعم اللّه وكفران الآدميين بها، حيث ختمت الفكرة المذكورة بالفقرة التالية وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً .
من حيث عمارة المقطع من جانب وصلته بالمقاطع السابقة من جانب آخر: نجد بأن ظاهرة النعم من خلال الأمن في البر والبحر قد استكملها المقطع حينما ختم حديثه بأن حمل الإنسان في البر والبحر يشكل عملية تكريم له حيث ربط بين نعم البر والبحر اللذين أمنهما اللّه وبين حمل الإنسان الذي يمكن أن يصيبه الخسف ونحوه مما يفقد الاستقرار أو الأمن. بيد أن عملية التذكير هذه جاءت في سياق الاستجابة المريضة التي تصدر عن الإنسان حيال النعم المذكورة، فالإنسان الذي فطره الله تعالى على التوحيد يتغافل عن اللّه وفاعليته إلا في حالة تعرّضه لخطر ماحق هو: (الغرق) مثلا وما يصاحبه من الشدة النفسية التي تفرزها أهوال البحر: عندئذ يتجه الإنسان إلى اللّه تعالى في غمرة الخوف من الغرق... لكن، ما أن ينقذه اللّه من الشدة المذكورة حتى يعرض عن اللّه تعالى، وهذا هو الكفران للنعمة بوضوح.
هنا يتقدم المقطع القرآني ليدلّل - بطريقته الفنية - بأن قضية الأمن ليست منحصرة في أهوال البحر، بل أن البرّ أيضا محفوف بأهوال مماثلة تعرّض الإنسان للخطر الماحق أيضا أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جٰانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً ، وإذا كان الأمر كذلك فبمقدور اللّه أن يعرّض الإنسان للخطر مطلقا في البرّ كان أم في البحر، حينئذ فإن التغافل عن اللّه لا يحمل أي مسوّغ للكائن الآدمي ما دام لا شعوره أو غريزته التي فطر عليها إلى التسليم
ص: 35
بينهما وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ ثم وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ ثم وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً .
إذا، انتقل المقطع من الحديث عن نعم خاصة (البر والبحر) إلى نعم عامة (التفضيل) من خلال الربط الفني الذي لحظناه بين جزئيات المقطع.
أما من حيث صلة عمارة المقطع بسابقه، فإن المقطع السابق كان يتحدث عن قصة إبليس الذي اعترض على اللّه تعالى بأنه تعالى كرّم آدم عليه أَ رَأَيْتَكَ هٰذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ . وها هو المقطع الجديد يتحدث عن هذا التكريم فعلا فيقول (وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ ...) .
إذا، التلاحم العضوي بين المقطعين من الإحكام والجمالية بمكان ملحوظ، كما أن جزئيات كل من المقطعين قصة إبليس وتكريم الإنسان تتلاحم فيما بينهما أيضا، فمثلا ختمت قصة إبليس بقوله تعالى وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً وجاء في المقطع الذي يتحدث عن تكريم اللّه للإنسان تم كفر والإنسان عندما ينقذه اللّه من الأهوال، جاء قوله تعالى ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً حيث أوضحت القصة بأن اللّه (وكيل) بالنسبة إلى المؤمنين، وأوضح المقطع بأن (الفاسقين) لا يجدون لهم وكيلا... مضافا لذلك، فإن كلا من القصة والمقطع يرتبطان بمقاطع سابقة من السورة تتحدث عمن يتخذون من دون اللّه من لا (يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاٰ تَحْوِيلاً) ... كل أولئك يكشف لنا عن مدى الإحكام العماري للنص، ومدى جمالية البناء الهندسي المذكور، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً * وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنٰا نَصِيراً * وَ إِنْ كٰادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهٰا وَ إِذاً لاٰ يَلْبَثُونَ خِلاٰفَكَ إِلاّٰ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا وَ لاٰ تَجِدُ لِسُنَّتِنٰا تَحْوِيلاً .
ص: 36
قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً * وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنٰا نَصِيراً * وَ إِنْ كٰادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهٰا وَ إِذاً لاٰ يَلْبَثُونَ خِلاٰفَكَ إِلاّٰ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا وَ لاٰ تَجِدُ لِسُنَّتِنٰا تَحْوِيلاً .
إن هذا المقطع يتناول جملة من الموضوعات المطروحة، إلا أنها تصبّ في «فكر» خاص هو تكريم بني آدم حيث كان المقطع الأسبق يقرّر بأنه وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ . أما الآن فيتحدث عن نتائج هذا التكريم وما ينبغي أن يسلكه الآدمي في تقديره لهذا الجانب. وبما أنّ غالبية الآدميين يؤثرون المتاع العابر فحينئذ نتوقع أن يحدثنا النص عن الجانب السلبي لسلوكهم وإلى أنهم لم يلتفتوا لأهمية هذا التكريم، حيث عرض المقطع أولا لسلوك العامة من المؤمنين وانعكاسات ذلك في اليوم الآخر فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ ، ثم عرض للغالبية التي تطبعها سمة الانحراف وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً .
إن هذه الآية سلكت منحى فنيّا في غاية الإمتاع الجمالي حينما أوضحت بطريقة مقتصدة وغير مباشرة بأن من يكون (أعمى) عن التكريم والتفضيل الذي خص اللّه الادمي بهما، فهو في آخرته أشد عمى وضلالة بصفة أنه لا يجد هناك فرصة لتعديل السلوك طالما تنحصر الفرصة في هذه الحياة الدنيا التي ينبغي أن نستثمرها ونقدر أهمية التكريم الذي خصّنا الله به حتى نحصد ثماره في الحياة الخالده.
أكثر من ذلك، أن الأعمى عن هذا التكريم لا يكتفي بإضاعة الفرصة الدنيوية وعدم استثمارها بل يحاول ممارسة الفساد والتضليل بكل مستوياتهما حتى أنه ليطمع أن يصدّ المؤمنين عن ممارسة السلوك الخيّر، من هنا ألمح النط إلى جانب من محاولات المنحرفين بالنسبة إلى شخصية المبلّغ
ص: 37
الإسلامي لصدّه عن إداء رسالته وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ .
إن هذا التحذير موجه (في واقعه) لشخصية المبلّغ الإسلامي بالرغم من كونه يتحدث مع النبيّ (ص)، بيد أن النص القرآني الكريم طالما يوجّه خطابا للنبيّ (ص) ويقصد به عامة المؤمنين، والمهم أنّ هذا التحذير يتضمّن خطورة بالغة الأهمية بالنسبة لدعم السماء للمؤمنين وبالنسبة لتحديد مسؤولية انحرافهم بالقياس إلى غيرهم، فاللّه تعالى (يثبت) الذين آمنوا حتى لا يركنوا إلى المنحرفين الذين يمارسون عمليات التضليل ومحاولة جرّ المؤمنين إلى الانحراف تحت التأثير العاطفي، كما لن اللّه تعالى (في حالة وقوع المؤمنين تحت التأثير العاطفي) سوف يضاعف عليهم العذاب دنيويا وأخرويا بحيث يكون أشد مرتين من عذاب المنحرفين.
سرّ ذلك، أن المنحرف قد لا يملك يقينا مماثلا لما يملكه المؤمن، لذلك سوف يحاسب على قدر وعيه، أما المؤمن فبسبب من كامل وعيه (حينما يجنح إلى الخطيئة) عندئذ سوف يحاسب بنحو أكثر شدة من المنحرف:
انطلاقا من نفس المعيار الإلهي الذي يحاسب المرء على قدر عقله.
إلى هنا، فإن المقطع تحدّث عن كل من المنحرف الذي يحاول جرّ الآخرين إلى الانحراف، وعن المؤمن الذي قد يقع ذات يوم تحت التأثير العاطفي. لكن كما سبقت الإشارة فإن اللّه (يثبت اَلَّذِينَ آمَنُوا )، كما أنّ المنحرفين سوف لن يسمح لهم بممارسة فسادهم بل أنهم يتضرّرون حتما حينما يحاولون استفزاز المؤمنين وَ إِنْ كٰادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهٰا وَ إِذاً لاٰ يَلْبَثُونَ خِلاٰفَكَ إِلاّٰ قَلِيلاً . هذه الفقرة الأخيرة لاٰ يَلْبَثُونَ خِلاٰفَكَ إِلاّٰ قَلِيلاً تعني أن اللّه تعالى سوف يستأصل هؤلاء المنحرفين إذا قدّر لهم أن
ص: 38
يستفزوا المؤمنين، وإلى أن هذا الجزاء يشكّل مبدء أو قانونا اجتماعيا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا وَ لاٰ تَجِدُ لِسُنَّتِنٰا تَحْوِيلاً .
إذا، في المقطع المتقدم، طرح لجملة من الظواهر الاجتماعية التي تحدد علاقة المؤمنين بالمنحرفين وانعكاسات ذلك دنيويا و أخرويا بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً * وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً * وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطٰاناً نَصِيراً * وَ قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ إِنَّ اَلْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً * وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاٰ يَزِيدُ اَلظّٰالِمِينَ إِلاّٰ خَسٰاراً * وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كٰانَ يَؤُساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً .
في هذا المقطع جملة من الموضوعات المختلفة التي يطرحها النص في سياق الفكرة العامة للسورة.
الموضوعات الجزئية في هذا المقطع تتمثل في ظواهر عبادية مثل الصلاة، وفي ظواهر إبداعية مثل (الروح) وفي ظواهر نفسية مثل اليأس، وفي ظواهر إعجازية مثل: القرآن الكريم. بيد أن الإعجاز القرآني يظل هو العصب الذي يشدد النص عليه في هذا المقطع وفي المقطع اللاحق المرتبط به بحيث يشكل هذا العصب الفكري عمارة فنية تتوازن وتتلاقى مع الخطوط العامة للسورة كما سنرى.
المهم، أن الموضوعات الجزئية في المقطع، تحدث أحدها عن الصلاة
ص: 39
اليومية أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ في هذه الآية: حصر للصلوات الخمس: الظهرين والعشاءين والصبح، مع ما ملاحظة، أن النص شدّد (بطريقة فنية) على صلاة الصبح حيث أفردها بفقرة مستقلة وعقّب عليها بفقرة مستقلة أيضا دون أن يعقب على سائر الصلوات، مما يعني (من الزاوية الفنية) أهمية هذه الصلاة وهو ما أكدته النصوص المفسرة بأنها الصلاة التي تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. ولعل سرّ ذلك يتمثل في كونها مصحوبة بزمان النوم الذي اعتاد الآدميون على إيقاع النوم العميق فيه بحيث يشكّل أخرياته... لذلك فإن الاستيقاظ فيه يعدّ تأجيلا للذة النوم وهو ما يستهدفه النص في صياغة الشخصية الإسلامية. ويلاحظ أن المقطع بالرغم من أنه خصص آية كاملة لمجموعة الصلوات الخمس وختمها بالحديث عن صلاة الصبح: إلا أنه أفرد آية مستقلة لصلاة مندوبة هي صلاة الليل وقرنها مع الصلوات الواجبة، وهذا يعني (من زاوية البناء الفني للنص) ان صلاة الليل تعدّ أهم الصلوات المندوبة بحيث تقرن أهميتها مع الصلاة الواجبة.
ويلاحظ أيضا (من حيث العمارة الفنية للمقطع) أن النص عقب على صلاة الليل: كما عقّب على صلاة الصبح، ليكشف بذلك عن أهمية الصلاتين، كما يلاحظ أن صلاة الليل عرضها النص بعد صلاة الصبح مباشرة، وكلّ أولئك أي: اقتران الصلاة الواجبة بصلاة مندوبة، وعرضها في سياق صلاة الصبح، والتعقيب على أهميتها بقوله تعالى لأ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً هذا التعقيب القائل عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً يعّد تعقيبا في غاية الأهمية بصفة أن المقام المحمود الذى يعد اللّه به عبده إنما شدّد النص عليه من خلال ممارسة صلاة الليل مما يكشف عن مدى الخطورة العبادية المترتبة على صلاة الليل.
سرّ ذلك (من الزاوية الفنية) أن صلاة الليل تقع - مثلما أشرنا عند حديثنا
ص: 40
عن صلاة الصبح - في المرحلة العميقة في مراحل النوم و هي مرحلة حسب ما أبرزته المسجّلات الكهربائية للدماغ، تقترن عند الناس مع عمق النوم ومنها مرحلة الأحلام أيضا، إلا أن هذا العمق لا فاعلية فيه في الواقع. كما أثبت ذلك نفس الجهاز الكهربائي الذي أشرنا إليه، لان الجهاز المذكور أظهر أن أول الليل يتسم أيضا بمرحلة النوم العميق، وهذا يعني أن العمق الذي يطبع آخر الليل لا يقترن بفاعلية صحية بل أن الفاعلية تنحصر في أول الليل كما أشارت النصوص الإسلامية إلى ذلك.
المهمّ ، يعنينا مما تقدم من الإشارة إلى أن صلاة الليل - نظرا لأهميتها بالغة الخطورة - وانعكاساتها على حقل الصحة النفسية والجسمية كما تشير النصوص الإسلامية إلى ذلك، فضلا عن انعكاساتها العبادية التي تعذ هي الهدف الرئيس لسلوك الإنسان: كل أولئك يفسّر لنا سرّ البناء الهندسي الذي لحظناه في هذا المقطع الذي وصل بين الصلوات الواجبة من جانب (بضمنها صلاة الصبح التي تتقارب أو تتواصل زمنيا مع صلاة الليل) ثم بين صلاة الليل من جانب ثان، والتأكيد على الصلاة الأخيرة وإفرادها في حقل مستقل من جانب ذلك على النحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً * وَ لَئِنْ شِئْنٰا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنٰا وَكِيلاً * إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كٰانَ عَلَيْكَ كَبِيراً * قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً .
هذا المقطع من سورة الإسراء يتحدث عن القرآن الكريم بصفته كلام اللّه
ص: 41
تعالى و تعاليمه إلى الآدميين في غمزة ممارستهم للمهمة الرئيسة (الخلافة في الأرض).
ومن الطبيعي أن يعنى النص القرآني بهذا الجانب ويفرد له حقلا مستقلا من الرسم... وقد مهّد مقطع أسبق للحديث عن القرآن حينما وسمه بأنه شفاء للناس، وهذه العبارة وحدها كافية في لفت نظر المتلقّي إلى عطاء القرآن الكريم. غير أن المقطع المذكور أردف هذا الكلام عن القرآن الموسوم بكونه (شفاء) أردفه بالقول وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كٰانَ يَؤُساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً .
وهذا يعني أن الآدميين لم يستثمروا العطاء المذكور بل أنهم في حالة انغماسهم في النعم يعرضون عن اللّه وفي حالة الشدائد يلفّهم اليأس...
ويجب أن نتذكر هنا أن مقطعا متقدما من السورة قد أشار إلى أن الإنسان إذا مسّه الضرّ في البحر اتجه إلى الله ولكنه يعرض عنه في حالة النجاة وهذا نمط من التجانس العماري بين مقاطع السورة، إلاّ أن كلا من الحالتين بالرغم من توافقهما في عملية الاتجاه إلى الله والتغافل عنه يختلف سياقها عن الآخر، ففي حالة الشدة في البحر يتجه الإنسان إلى اللّه ولكن في حالة الشدة مطلقا يلفّه اليأس، وهذا مضاد للحالة السابقة: لكنه متجانس وإيّاها من حيث كونهما عمليتين لوجه واحد هو: التغافل عن الله إلاّ في حالة تعرّض الشخصية لموت ماحق مثل الغرق حيث يدفعه التشبث بالحياة إلى الاتجاه نحو اللّه تعالى.
خارجا عن المبنى الهندسي المذكور نجد حين نتابع المقطع الذي يتحدث عن العلاج القرآني - حيث مهّد له بكوه (شفاء) وبأن الناس يعرضون عن عطاء الله - نجد أن المقطع يطرح قضية (الروح) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ وبالرغم من أن النصوص المفسرة تقدّم أكثر من تفسير للروح إلا أنّ أحدها
ص: 42
يذكر بأنه (القرآن) وهو ما ينسجم - بطبيعة الحال - مع فكرة المقطع الذى خصّص للحديث عن القرآن.
بعد ذلك يتحدث المقطع عن الوحي بالقرآن وإلى إمكانية إذهابه لولا رحمة الله وفضله، وهو ما يتسق مع كونه (شفاء) أو (عطاء) كما أشرنا.
ثم يتحدث عن إعجاز القرآن وإلى أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لما أمكنهم ذلك، وهو أمر يتسق بدوره مع كون القرآن عطاء من اللّه لا سبيل إلى الآدميين باتيان مثله.
أخيرا، يقرّر المقطع بأن القرآن الكريم يتضمن كل ما يحتاج الآدميون إليه، وهو أمر يجسّد تفصيلا فنيّا لما أجمله التمهيد القائل بأنه (شفاء) حيث جاء ختام المقطع ليبيّن ذلك من حيث كونه متضمنا كل شيء بنحو يتحقق الشفاء من خلاله دون أدنى شك.
إذا، من حيث عمارة المقطع أمكننا ملاحظة خطوطه المتلاقية عند رافد موحّد هو (القرآن)، فضلا عن مجانسته لمقاطع سابقة أشرنا إليها.
وأما من حيث الدلالة، فإن النتيجة التي رسمها المقطع تمثلت بالفقرة القائلة وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً وهذا يعني أن الناس بالرغم من تقديم القرآن لهم (شفاء ومعطى وتبيينا لكل شيء) فإنهم يكفرون بذلك، وهو أمر نجد انعكاسه (من زاوية العمارة الفنية للنص) على المقاطع اللاحقة من السورة. حيث تتحدث هذه المقاطع عن كفران الناس فعلا، وذلك من خلال نماذج معينة من السلوك حيال القرآن الكريم والتشكيك به وبمحمد (ص) وبالرسالة بالنحو الذي سنتفق عليه لا حقا إن شاء اللّه.
ص: 43
قال تعالى: وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهٰارَ خِلاٰلَهٰا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمٰاءَ كَمٰا زَعَمْتَ عَلَيْنٰا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقىٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحٰانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً * وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَ بَعَثَ اَللّٰهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كٰانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاٰئِكَةٌ يَمْشُونَ ...
هذا المقطع يتناول شريحة من سلوك المنحرفين، فيما وقفوا مناهضين لرسالة الإسلام، وهو سلوك كنا نتوقعه - من الزاوية الفنية - من هؤلاء الذين مهّد لهم مقطع سابق بالصدور عن أمثلة هذا السلوك حيث كان المقطع المذكور يتحدث عن القرآن وكونه شفاء وتبيينا لكل شيء، لكن - كما يقول المقطع - فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً وها هم الناس يجسّدون كفرانهم للقرآن ولمحمد (ص) وللرسالة عبر هذا المقطع وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً الخ.
إن سورة الإسراء التي بدأت مقدمتها تتحدث عن سمات. منها (الشكر) حيث شكّلت هذه السمة وغيرها (الفكرة العامة للسورة)، نلحظها الآن تتخلل مقاطع السورة حيث يقدم النص حصيلة سلوك المنحرفين بأنهم يأبون إلاّ «كُفُوراً» ، إن (الكفران) هو المقابل ل (الشكر)، وها هو السلوك المذكور يتجسّد في الموقف الذي تطبعه سمة (العناد) بنحوه المرضي الملحوظ. إن المنحرفين الذين يغلفهم الجهل والمرض يطالبون بتفجير الأرض ينابيع ونخيلا وعنبا وأنهارا، ويطالبون بالله والملائكة ضمانا لصحة رسالة الإسلام، ويطالبون بتحقيق التهديد الذاهب إلى سقوط السماء قطعا عليهم، ويطالبون - أخيرا - بأن يصعد محمد (ص) إلى السماء، ثم (وهنا موقف العناد المفصح عن قمة الالتواء النفسي) يقولون وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا
ص: 44
كِتٰاباً... وحتى لو صعد (ص) إلى السماء فلن يؤمنوا به حتى ينزّل عليهم كتابا.
هنا ينبغي أن نتذكر أن سورة الإسراء بدأت - في استهلالها - بالحديث عن صعود محمد (ص) إلى السماء (سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ ...) وأن التواشج الفنيّ بين مقدمة السورة التي أكّدت ظاهرة (الإسراء) وهذا المقطع الذي يوضّح بأن المنحرفين حتى لو واجهوا ظاهرة إعجازية كالصعود إلى السماء إلا أنهم لن يؤمنوا بذلك حتى ينزل محمد (ص) كتابا يقرأونه. أقول:
ينبغي ألاّ نغفل عن التواشج أو التلاحم الفني بين مقاطع السورة (ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية) بالنحو المشار إليه، ومن ثم ينبغي أن نذكّر أيضا بأنّ هذا النمط من السلوك الذى يصدر المنحرفون عنه إنما يجسّد قمة ما يمكن تصوّره من سمتي (الجهل والمرض)، وإلى أن النص القرآني الكريم يكشف لنا سرّ الموقف المنحرف المذكور عندما يقول معقّبا وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَ بَعَثَ اَللّٰهُ بَشَراً رَسُولاً .
لا نغفل أيضا أن السورة بدأت مقدمتها بالحديث عن (الهدى) (وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً ) حيث تصل الآن بين (الهدى) الذي تطالب السماء به في المقدمة، وبين رفض هؤلاء المنحرفين لسمة (الهدى) وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ وهو رفض مرضي - كما قلنا - لأنه - ببساطة - قائم على العناد كما أشرنا، وإلاّ فإن مجرد الصعود إلى السماء كاف بتحقيق المعجز الذى طالبوا به (وهو ما حدث فعلا)، وعليه فيم يمعنون في العناد قائلين وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً .
أليس مثل هذا الرفض: قائما على أبرز سمات المرض ؟ لكن مع ذلك، فإن النص القرآني الكريم يتقدم بالإجابة على سؤالهم المنحرف قُلْ لَوْ كٰانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنٰا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مَلَكاً رَسُولاً .
ص: 45
و الحق أن هذه الإجابة و نحوها تجيء بمثابة إلقاء الحجة على الآخرين حتى لو كانوا فى قمة الالتواء المرضي و هي حجة لا تقف عند عتبة المعاصرين لرسالة الإسلام بل تتجاوزهم إلى مطلق المنحرفين - قديما وحديثا - ما دامت سمة الانحراف عن الحقائق تطبع كل منحرفي الأرض، وهو أمر ينبغي أن تحذر الشخصية منه ليس في نطاق التوحيد فحسب بل في نطاق السلوك العام القائم على ضرورة أن تقف الشخصية - عبر مواجهتها لمختلف الحقائق - عند مدارستها بالنحو الموضوعي والإيمان بها بالنحو ذاته دون أن تسمح لنزواتها المرضية بالبروز، بالشكل الذي لحظناه لدى هؤلاء المنحرفين الذين طبعهم الجهل من جانب والمرض من جانب آخر، على نحو ما تقدم الحديث عنه.
قال تعالى. قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمٰا خَبَتْ زِدْنٰاهُمْ سَعِيراً * ذٰلِكَ جَزٰاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ قٰادِرٌ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاٰ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظّٰالِمُونَ إِلاّٰ كُفُوراً * قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزٰائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفٰاقِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ قَتُوراً .
في هذا المقطع موضوع جديد مرتبط بمقطع سابق يتحدث عن المنحرفين وموقفهم من رسالة الإسلام، حيث شكّكوا بظاهرة القرآن الكريم، وها هم يشكّكون الآن باليوم الآخر أيضا وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ، وحيال هذا التشكيك يتقدّم النص باستدلال حسيّ للرد على مقولة المنحرفين بقوله. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ
ص: 46
وَ اَلْأَرْضَ قٰادِرٌ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ . إلا أن هذا الاستدلال يطل بمثابة حجه على المنحرفين بغض النظر عن إمكانية إقناعهم أو عدمه بذلك، ويبدو أنّ النص يستهدف لفت نظرنا إلى عدم إمكانية التعديل لسلوكهم، طالما مهّد لذلك بأن من يضلّهم اللّه سوف يحشرهم يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا وأن مأواهم جهنم بسبب كونهم قد شكّكوا باليوم الآخر.
والمهمّ ، أن نشير إلى العمارة الفنية لهذا المقطع وصلته بالهيكل الفكري للسورة. إن مقدمة السورة التي طرحت مفهوم (الهدى) وَ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً ومفهوم (الشكر) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كٰانَ عَبْداً شَكُوراً ومفهوم السلوك المنحرف عند الإسرائيليين وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ . هذه المفهومات المطروحة في مقدمة السورة تتجدّد الآن فى هذا المقطع ولاحقه لتتقدّم موضوعات أخرى تحوم على نفس الأفكار المشار إليها، فالمقطع الذي نتحدث عنه يقرّر بأنه وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ بمعنى أن (الهداية) مرتبطة بإرادة اللّه تعالى نظرا لمعرفته تعالى بما سوف يختاره الشخص من التزام بمبادىء اللّه أو انحراف عنها، وهي حقيقة جديدة يطرحها المقطع ضمن الفكرة العامة للسورة في ذهابها إلى أن مباديء الله المنزلة إلى الآدميين إنما هي (هدي)، إلا أن الهدى - كما يقرّره المقطع الجديد - مرتبط بإرادة اللّه كما أشرنا.
وأمّا بالنسبة إلى ما يضاده وهو (الضلال) فهو بدوره مرتبط بإرادة اللّه بمعنى أن معرفة اللّه سلفا بما يختاره الإنسان من سلوك شرير فإن الله سوف يضلّه (ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه).
إذا، الجديد في هذا المقطع هو تحديد الهدى والضلال من حيث علاقته بالإنسان وانسحابه على التكييف الإلهي لسلوك الإنسان المذكور.
والأمر نفسه بالنسبة إلى المفهوم الآخر الذي طرحته مقدمة السورة وهو
ص: 47
(الشكر)، حيث طرح الآن في المقطع الذي نتحدث عنه من خلال موضوع جديد هو أن المنحرف يأبى إلاّ أن يكفر بدلا من أن يشكر فَأَبَى اَلظّٰالِمُونَ إِلاّٰ كُفُوراً والدليل على ذلك أن هؤلاء المنحرفين بالرغم من مشاهدتهم الحسية لخلق السماوات والأرض ينكرون إمكانية أن يبعث الإنسان من جديد في اليوم الآخر.
أخيرا، يلاحظ أن المقطع، طرح فكرة تبدو وكأنها منعزلة عن سياق النص وهي قوله تعالى قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزٰائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفٰاقِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ قَتُوراً .
الحق، أن هذه الفكرة وثيقة الارتباط بالأفكار العامة للمقطع، فعملية الأفكار للسماء ومعطياتها للإنسان الذي كرّمه الله (لا نغفل أن أحد المقاطع من السورة خصّص لتوضيح أن اللّه كرّم بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا) هذا الإنكار للمعطيات المذكورة يكشف عن أحد جوانب الانحطاط في شخصية المنحرف وهو (البخل)، فالبخيل (يسقط) شخصيته على الآخرين عبر تعامله مع مختلف المفردات التي يواجهها، فهو يمتنع عن العطاء ما دام بطبيعة تركيبته النفسية قتورا، وهذا الامتناع ينسحب على تعامله مع اللّه أيضا حيث ينكر معطيات اللّه التي أغدقت عليه.
إذا، ثمة ارتباط بين هذه الآية لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزٰائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ ... إلخ وبين الأفكار التي يصدر المنحرفون عنها من حيث الدلالة النفسية لعمليّتي الإنكار لمعطيات اللّه والبخل الذي تتسم به شخصية المنحرف بالنحو الذى فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى. وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِذْ جٰاءَهُمْ فَقٰالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يٰا مُوسىٰ مَسْحُوراً * قٰالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا أَنْزَلَ
ص: 48
هٰؤُلاٰءِ إِلاّٰ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصٰائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يٰا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً * فَأَرٰادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً * وَ قُلْنٰا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنٰا بِكُمْ لَفِيفاً... .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة الإسراء التي بدأت بالحديث عن الإسراء فالحديث عن إيتاء موسى الكتاب وجعله هدى، ثم بتفصيل الحديث عن إفساد الإسرائيليين مرّتين وعلوّهم في الأرض... الخ. وها هي السورة تختتم موضوعاتها بالحديث عن نفس الإسرائيليين حيث تكشف البداية و النهاية عن مدى الإحكام الهندسي للسورة وارتباط خطوطها بعضا بالآخر.
والآن ما هي الموضوعات المطروحة في ختام السورة ؟ الموضوع المطروح في ختام السورة هو علاقة موسى بفرعون من حيث تبليغه رسالة اللّه تعالى. أي: أن بداية الحدث في قصة موسى جاء رسمها في ختام السورة، بينا عرضت السورة في مستهلها خاتمة الحدث في القصة حيث عرضت لسلوك الإسرائيليين وهو متأخر زمنيا عن علاقة فرعون بموسى، فما هو السرّ الفني في ذلك ؟ بما أن النص ابتدأ بعرض الانحراف الكبير الذي يطبع المجتمع اليهودي بنحو عام حينئذ نستكشف الأهمية التي ينطوي عليها مثل هذا الاستهلال، فحينما تبدأ سورة ما بالحديث عن فساد أحد المجتمعات: فهذا يعني أن النص يستهدف التركيز على هذا الجانب ولفت انتباه القاريء عليه، وهو ما لحظناه بوضوح حينما تحدث عن المجتمع الإسرائيلي الذي وصفه النص بأنه قد اتّسم بكونه ذا علوّ كبير وبكونه قد أفسد في الأرض مرّتين.
هذا ما يفسّر لنا سرّ الاستهلال بالحديث عن مجتمع اليهود. أمّا ما يفسّر لنا سرّ الختام بنفس الحديث عن هذا المجتمع فإنه من الوضوح بمكان ما دام الهدف هو فضح المجتمع اليهودي، ولكي يعمق النص من قناعة القارىء
ص: 49
بفساد المجتمع المذكور، حينئذ نحتمل (من الزاوية الفنية) أن يكون حديثه عن فرعون وسيلة ذات فاعلية خاصة في إحداث تعميق القناعة المذكورة، مضافا إلى أن سلوك فرعون نفسه هو واحد من مفردات السلوك المنحرف أيضا.
فعرض كل من قصتي فرعون والإسرائيليين ينطوي على أداء فني مزدوج هو:
عرض فساد كل من الفرعونيين والإسرائيليين بصفتهما نماذج واضحة من انحراف المجتمعات، ثم تعميق القناعة بأن مجتمع الإسرائيليين هو أشد المجتمعات انحرافا، وذلك لسبب واضح هو أن السورة قد استهلت بالحديث عن مجتمع اليهود وختمت بالحديث عنهم أيضا عبر قصة فرعون.
وفي تصورنا فنيّا، أن واحدا من الاحتمالات المفسرة لنا سرّ التأكيد في النصوص القرآنية على المجتمع الإسرائيلي أكثر من سواه هو امتداد المجتمع المذكور في الزمن: ليس في زمن موسى وما بعده، وليس في زمن صدور رسالة الإسلام فحسب، بل في امتداد المجتمع المذكور في الزمن اللاحق ومنه: زمننا الحاضر حيث نجد الفساد الإسرائيلي ممتدا ومنسحبا على بقاع الأرض وليس منحصرا في الأرض المحتلة فحسب.
وأيّا كان، فإن فساد المجتمع الإسرائيلي من خلال العرض الذى قدمته سورة الإسراء، يظل من الوضوح بمكان. والمهم - بعد ذلك - أن نتجه إلى ملاحظة الكيفية التي ختمت بها السورة...
السورة: لوّحت للإسرائيليين باليوم الآخر فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنٰا بِكُمْ لَفِيفاً وهو تلويح ينطوي على عنصر الجزاء الذي سيلحق كل من يفسد في الأرض، بعد أن كانت مقدمة السورة قد كشفت بأن الإسرائيليين - دنيويا - يلاقون جزاء شديدا كل الشدة فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ، هذا يعني أنّ الإفساد في الأرض لن يجرّ في نهاية المطاف إلاّ الضرر على أصحابه، وهو لفت نظر لمطلق الإنسان بغية الإفادة من ذلك في عملية تعديل السلوك.
ص: 50
خارجا عن هذا، نلاحظ أن السورة الكريمة طرحت في الختام موضوعات مستقلة بعد الحديث عن الإسرائيليين مثل: الإشارة إلى القرآن وكونه حقا، وإلى أن محمدا (ص) جاء مبشرا ونذيرا، وإلى أن القرآن جاء وفق أسلوب خاص في عملية التوصيل إلى الاخرين، وإلى أن المؤمنين يخرّون سجدا عند الاستماع لتلاوته، وإلى أن اللّه يملك جملة من الأسماء الحسنى وأن الدعاء بأي منها ينطوي على الفاعلية... إلخ.
واضح، أن طرح أية مفردة عبادية في سياق قصة أو موضوع عام إنما يعني أهمية المفردة المذكورة، إلاّ أن النص القرآني يستهدف التأكيد عليها وفق طريقة فنية هي إدخالها في سياق قصة أو موضوع عام، حيث يمكن ملاحظة ذلك في المقطع الذي نتحدث عنه، وهو مقطع يتحدث عن القرآن الكريم، عن كونه بشيرا ونذيرا، عن كونه يحدّد نمط الصلة بين اللّه والعبد من حيث خشوع الأفئدة حياله، والدعاء إليه، ونمط ذلك من جهر أو إخفات وكل أولئك يتمّ وفق سياق خاص حيث يفيد منه المتلقي في تعديل سلوكه، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 51
ص: 52
ص: 53
ص: 54
سورة الكهف تمثل حجما متوسطا من سور القرآن الكريم. وهي تتناول موضوعات مختلفة بالقياس إلى بعض السور التي تتناول موضوعا واحدا...
كما أنّ هذه السورة تضمّنت كلا من النثر العام والنثر القصصي.
المهم، يمكننا أن نلحظ أن هناك خيطا فكريا عاما (يوحّد) بين موضوعات السورة المختلفة وهي موضوعات تتحدث عن رسالة النبيّ (ص)، والحياة الدنيا واليوم الآخر، كما تتحدث عن قصص أهل الكهف وذي القرنين، وموسى وغيرها من الأحداث والمواقف.
بيد أن الملاحظ أنّ هذه الموضوعات المختلفة يجمع بينها هدف فكري محدد هو (نبذ زينة الحياة الدنيا) بمعنى أن جميع موضوعاتها تصبّ في هذا الرافد الفكري سواء أكانت هذه الموضوعات تتحدّث عن أهل الكهف أو عن ذى القرنين أو عن الحياة الدنيا أو سلوك النبيّ (ص).
لقد تضمنت هذه السورة عدة موضوعات مختلفة: إلاّ أن كل موضوع منها ينطوى على فكرة (نبذ زينة الحياة الدنيا) إمّا مباشرة أو بنحو غير مباشر.
لقد جاءت هذه الفكرة في أوائل السورة وفي أول موضوع من موضوعاتها،
حيث قال تعالى: إِنّٰا جَعَلْنٰا مٰا عَلَى اَلْأَرْضِ «زِينَةً » لَهٰا، لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَ إِنّٰا لَجٰاعِلُونَ مٰا عَلَيْهٰا صَعِيداً جُرُزاً ... هذه الفكرة تقول: إن اللّه تعالى خلق الأرض (زِينَةً ) أو (متاعا) من أجل عملية (اختبار) الإنسان، ومعرفة ما إذا كان قد أحسن عمله العبادي أم لا، وتقول أيضا، إنّ اللّه تعالى جعل ما على هذه الأرض من (زينة)، جعلها - في نهاية المطاف - صعيدا جرزا، أى:
أرضا جرداء.
ص: 55
إذن، لو تأمّلنا الفكرة التي انطوت عليها هذه الآية حيث وردت في أول موضوعات السورة، لأمكننا أن نستخلص منها مفهومات ثلاثة هي:
1 - إن الحياة الدنيا هي (زينة) عابرة. - 2 - إن هذه الزينة مصيرها إلى الزوال بحيث تتحوّل إلى أرض جرداء. - 3 - إنّ الهدف من جعلها (زينة) هو من أجل الامتحان ومعرفة أيّنا أحسن عملا.
هذه المفهومات الثلاثة بما يترتب عليها من الجزاء الدنيوي والأخروي، تظل هي المفهومات التي تتخلّل كل موضوعات السورة سواء أكانت قصصا عن أهل الكهف وذي القرنين وصاحب الجنّتين وموسى (ع) أم كانت نثرا غير قصصي يتصل بموضوعات أخرى.
ولكي نتبيّن بوضوح هذا الجانب الفنّي من السورة، يحسن بنا أن نتابع موضوعاتها واحدا بعد آخر.
كان الموضوع الأوّل من السورة يتحدّث عن نزول القرآن الكريم، وكونه يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ثم يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً . ثم تذكيرنا جميعا بأنّ اللّه تعالى جعل الأرض (زِينَةً ) ليبلونا أينا أحسن عملا، وأنّه تعالى جعل ما عليها صعيدا جرزا.
هذا المفهوم نفسه، قد أعقبه موضوع ثان هو قصة أهل الكهف. وهي قصة تمثّل سلوكا عمليّا لنبذ (زينة) الحياة الدنيا، حيث اتجهت جماعة مؤمنة إلى الكهف للتخلص من مسؤولية التعاون مع الحكام الجائرين. ولا شيء أدل على نبذ زينة الحياة من اللجوء إلى كهف بعيد كل البعد عن مظاهر الحياة، حتى في أبسط مستوياتها المتّصلة بالمسكن والمطعم.
إذن - من زاوية البناء الفتي للسورة - نجد أنّ قصة أهل الكهف جاءت موضوعا ثانيا من السورة كي يجسّد عمليا، المفهوم الأوّل الذي طرحته السورة
ص: 56
في مستهلّها وهو.. زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا حيث طالبت السورة بضرورة نبذ الزينة المذكورة والاتجاه إلى الوظيفة التي أوكلتها السماء إلى الكائن الآدمي متمثلة في ممارسة (الأحسن عملا) - لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً .
وفعلا، ها هم نمط من الآدميين عاشوا في ظروف خاصة لم يكن لهما حيالها أي خيار سوى اللجوء إلى الكهف ونبذ زينة الحياة الدنيا، أو التعاون مع الظالمين، فاختاروا النمط الذى يتسق مع وظيفتهم الاجتماعية وهو: عدم التعاون مع الجائرين، وهو موقف (أملته ظروف خاصة تختلف عن ظروف أخرى يتعيّن العمل فيها على عكس الحالة السابقة).
قال اللّه تعالى: وَ اُتْلُ : مٰا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتٰابِ رَبِّكَ ، لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ ، وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ «زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا» وَ لاٰ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ ... إلخ.
هذه الآيات وما بعدها فيما تتحدث عن الجزاء الأخروي تشكّل الموضوع الثالث من الموضوعات التي تضمنتها سورة الكهف، حيث قلنا إن موضوعاتها المختلفة تحوم على مفهوم (نبذ زينة الحياة الدنيا)، وهاهو الموضوع الثالث يتحدث بدوره عن زينة الحياة الدنيا، بعد أن لحظنا أنّ أهل الكهف جسّدوا عمليا (نبذا) للحياة الدنيا...
هنا نلحظ أن اللّه تعالى خاطب نبيّه (ص) قائلا: لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا بمعنى أنّه تعالى قد أوضح في هذا المقطع الثالث من السورة ما سبق أن طرحه في بدايتها من الالتزام بالوظيفة العبادية التي أوكلها تعالى إلى الإنسان... وجاء هذا المقطع ليؤكد المفهوم السابق بتفصيل جديد هو قوله تعالى: اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
ص: 57
وَجْهَهُ ، وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا... ...
ومن الواضح أنّ النص الفنّي الذي يعنى بالقيم البنائية، عندما يطر موضوعا جديدا لا بد أن يضيف إليه عنصرا جديدا من الأفكار بالقياس إلى الأفكار التي طرحتها المقاطع السابقة من السورة...
وإذا كان المقطع الأسبق من السورة يطرح مفهوما هو لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، فإن المقطع الجديد يتقدم بتحديد وتوضيح ما هو أحسن عملا مبيّنا أنّه الصبر في طاعة اللّه والتوجّه نحوه بالغداة والعشي ابتغاء وجهه فحسب.
وإذا كان المقطع السابق يقرر حقيقة هي: أنّ ما على الأرض جعل على نحو (الزينة)، فإنّ المقطع الجديد، يطالب بسحقها ويقول: لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا...
إذن، كل مقطع جديد من السورة يضيف عناصر أخرى من نفس المفهومات التي طرحتها المقاطع السابقة مما يصطلح عليه - في لغة النقد الفني - عملية إنماء وتطوير عضوي لهيكل النص.
ونتجه إلى المقطع الرابع من سورة الكهف فنجده يتناول قصة صاحب الجنّتين أو قصة رجلين جعل اللّه لأحدهما جنّتين من أعناب، إلاّ أنّ هذا الرجل قال لأحد أصحابه مدلا عليه بالمزرعتين أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مٰالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً كما أنّه حينما دخل مزرعته قال مٰا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هٰذِهِ أَبَداً، وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً .
هذه الأقصوصة التي انتظمها المقطع الرابع أو الموضوع الرابع من موضوعات سورة الكهف، تظل بدورها حائمة على نفس فكرة زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا : كل ما في الأمر أنّها تتناول طرحا جديدا لمفهوم (زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) حيث قلنا إنّ كل مقطع يضيف جديدا إلى المقاطع السابقة... والجديد في هذا المقطع هو: تقديم نموذج مضاد لنموذج أهل الكهف... فإذا كان أهل
ص: 58
الكهف يمثلون النموذج الإيجابي من حيت موقفهم من زينة الحياة الدنيا، فإنّ صاحب الجنّتين يمثل النموذج السلبي من حيث موقفه من زينة الحياة... فأهل الكهف نبذوا زينة الحياة الدنيا بما فيها من نشوة الحكم (حيث كانوا من كبار موظفي الدولة)، بينما لم ينبذ صاحب المزرعتين زينة الحياة الدنيا، بل تشبث بهذه الزينة إلى الدرجة التي شكك من خلالها حتى بقيام الساعة حيث قال وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً .
إذن، من حيث عمارة السورة وبنائها نجد أنّ هذا المقطع من السورة في تضمّنه قصة صاحب الجنّتين قد رسم بنحو فنّي يقابل قصة أهل الكهف وهو ما يسمّى في اللغة الفنّيّة ب (التقابل) أو الموازاة الهندسية بين المواقف والأحداث والأبطال. مضافا إلى التقابل الهندسي بين قصص السورة التي تتحدث عن (زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) ، وموضوعات السورة التي تتحدث عن نفس المفهوم، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال اللّه تعالى: وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً، اَلْمٰالُ وَ اَلْبَنُونَ «زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا»، وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً...
تتحدث هذه الآيات عن (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) وتمثيلها بالماء المختلط به نبات الأرض وصيرورته هشيما في نهاية المطاف.
ويعنينا منها أولا صلتها بعمارة سورة الكهف أي: ببنائها الفني. حيث لحظنا أنّ السورة بدأت بالحديث عن زينة الحياة الدنيا، أردفته بقصة أهل الكهف الذين نبذوا زينة الحياة الدنيا، ثم بالدعوة إلى الصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وعدم الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا، ثم قصة صاحب
ص: 59
الجنتين الذي اتّجه إلى زينة الحياة الدنيا...
وها هو الموضوع الخامس يتجه إلى الحديث عن زينة الحياة الدنيا أيضا، حيث يظل مرتبطا بالفكرة الرئيسة التي انطوت عليها كل موضوعات سورة الكهف و هي: نبذ زينة الحياة الدنيا، مما يقتادنا هذا إلى التذكير من جديد أنّ السور القرآنية الكريمة تخضع لبناء هندسي تتلاحم أجزاؤه بعضها بالآخر.
وإذا كانت الموضوعات السابقة في هذه السورة: يتحدّث كل مقطع منها عن جانب من مفهوم الزينة فإن الموضوع الخامس الذي نواجهه الآن يتحدّث عن جانب جديد من المفهوم المذكور بحيث يضيف رؤية جديدة تثري أذهاننا بتجربة الحياة.
فما هو الجديد فيها؟ الجديد في هذا المقطع من سورة الكهف، أنّ مفهوم (الزينة) يطرح في نماذج عمليّة غير النماذج التي لحظناها عند أهل الكهف وصاحب الجنتين، بل يمكن القول إن أهل الكهف جاءوا تجسيدا قصصيا لمفهوم نبذ الزينة، وصاحب الجنتين، جاء تجسيدا قصصيا لمفهوم مضاد هو: التشبث بالزينة حيث كانت نتائج التشبث المذكور أن تباد مزرعة هذا الشخص... ثم جاء الموضوع الجديد ليقدّم أولا (تمثيلا) صوريا لعملية إبادة الزرع، ويقدم ثانيا.
نماذج أخرى من صور التشبث بمفهوم الزينة وهي: المال والبنون، بينما كانت النماذج السابقة تتصل بصور أخرى من (الزينة) هي. الموقع الاجتماعي أو الجاه أو المنصب الذي نبذه أهل الكهف، والأرض الزراعية التي تشبث صاحب الجنتين بزينتها.
و الآن، لنقف عند هذين البعدين من مفهوم «الزينة» ونعني بهما، تمثيل الزينة بالنبات الذي هشمته الرياح، وتجسيدها في نموذجي، المال والبنين،
ص: 60
بعد ان اوضحنا صلتهما العضويه بهيكل السورة وفكرتها الرئيسه.
إنّ كلا من (المال) و (البنين) يشكّل نموذجا من سلسلة الدوافع أو الحاجات البشرية، إلاّ أن هذه الدوافع تظل (مكتسبة) في المقام الأوّل بالرغم من كونهما ذات أصل فطري في نظر بعض الاتجاهات النفسية، مما يعني أن تعديل سلوكنا حيالها يظل أمرا ميسورا دون أدنى شك... بيد أنّه حتى في حالة افتراض كونها ذات أصل فطري فإنّ عملية التعديل تخضع لطابع الإمكان فيها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار إنّ إشباع الحاجة إلى (المال) والحاجة إلى (البنين) من الممكن أن يتم في نطاق الضرورة أي، بقدر ما يضمن استمرارية الشخص في حياته بالنسبة إلى (المال)، وبقدر ما يضمن استمرارية النسل بالنسبة إلى (البنين). هذا فضلا عن أنّ الحاجة العاطفية إلى البنين ينبغي ألاّ تتجاوز نطاق المفهوم العبادي لهذه الظاهرة، بمعنى أنّ الحاجة العاطفية ينبغي ألاّ نفصلها عن مبادىء السماء التي تقرر أن الحب أو البغض هما من أجل الله فحسب. وأيّا كان، فإن السورة الكريمة عندما عرضت لنموذجين من زينة الحياة الدنيا، إنّما اتبعت ذلك - من الزاوية النفية - بتجربة حسية أو لنقل.
بصورة حسيّة هي: الماء المنزل من السماء، واختلاط نبات الأرض به، وصيرورته هشيما تذروه الرياح، بغية تعميق قناعتنا بمفهوم (الزينة) متمثلة - في جملة ما تتمثّل به - في (المال) و (البنين)...
وأهمية هذه الصورة الحسية تكمن ليس في مجرد خضوعها لبناء هندسيّ ترتبط أجزاء السورة من خلاله بعضا بالآخر فحسب، بل في كون الصورة الحسيّة المذكورة ذات طرافة وإثارة تستتلي تعميق قناعتنا بأن كلا من المال والبنين وسائر الحاجات البشرية تظل مجرد (زينة) ينبغي ألا نعنى بها بقدر ما ينبغي أن نتجه إلى وظيفتنا الرئيسة التي أوكلتها السماء إلينا.
ص: 61
قال الله تعالى: وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ ...
لو دققنا النظر في هذا التمثيل الفني للحياة الدنيا، ثم ربطناه بمفهوم (الزينة) الذي يشكّل بطانة فكرية لكل موضوعات سورة الكهف، أمكننا أن نخلص إلى أن هذه التجربة غنية كل الغنى في التعبير عن (دوافعنا) ذات الأصل النفسى أو الحيوي وكيفية التعامل مع الدوافع المذكورة، وصلتها بزينة الحياة الدّنيا.
لقد أتبعت السورة هذا التمثيل بالإشارة على أن المال والبنين (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) ، مما يعني أن هذين الدافعين يخضعان لعملية التمثيل المذكورة.
إنّ كلا من (الماء) و (النبات) و (الأرض)، يشكّل عناصر لا مناص منها في عملية النمو والإثمار إلاّ أن حصيلتها المتمثلة في (اليبس) وهبوب (الرياح) عليها وانتثارها من بعد، لا تنطوي على أي معطى فعليّ من الرواء أو الثمر...
والأمر كذلك مع حاجاتنا غير المقترنة بما هو ضروري... فالمال والبنون - وهما النموذجان اللذان قدمتهما السورة لزينة الحياة الدّنيا - يشكّلان حاجات بشرية، إلا أن الزائد على هاتين الحاجتين، كما لو جمع المال لأهداف مترفة، وكما لو استخدمت الذرية للزهو الاجتماعي، حينئذ فإن كلا من الترف والزهو سوف يتلاشيان بالنحو الذي يتلاشى من خلاله، هشيم تذروه الرياح، فالترف في الملبس والمطعم والمركب والمسكن ونحوها قد يشبع حاجة ضعاف النفوس على مزيد من الراحة النفسية والبدنية والاجتماعية، إلا أن هذه (الراحة) تمتاز بكونها غير ضرورية أولا لأن الضرورة تنحصر في كون الأدوات المذكورة وسائل لهدف آخر، كما لا تمتاز بكونها مشروعة نظرا لأن الإشباع ينحصر - في ضوء المفهوم العبادي للسلوك - في الالتزام بمبادىء
ص: 62
السماء و أن الدار الآخرة هي المورد للإشباع، مضافا إلى أن (الراحة) التي ينشدها الآدميون لم تكتسب صفة (الديمومة)، إذ ما جدوى أن يختلط نبات بالماء مثلا دون أن تترتب على ذلك استمرارية لهما من حيث عدم استتلائها لمعطى مادي هو. الثمر، وعدم استتلائها لمعطى نفسي هو. إشباع الحاجة الجمالية لمشاهد الطبيعة مثلا.
التمثيل الفني المتقدم لم ينحصر في كونه قد وظّف من أجل المقارنة بين (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) والهشيم الذي تذروه الرياح. بل إنه قد وظّف لهدف فني آخر هو، تنميته عضويا للفكرة التي استهلت سورة الكهف بها حينما قررت أن اللّه يجعل ما على الأرض من زينة صعيدا جرزا أي: أرضا جرداء وَ إِنّٰا لَجٰاعِلُونَ مٰا عَلَيْهٰا صَعِيداً جُرُزاً .
فها هو المقطع الذي نتحدث عنه (وهو الموضوع الجديد من موضوعات سورة الكهف) يقدم نموذجا تمثيليا لتحوّل ما على الأرض من زينة إلى أرض جرداء. أي، نحن الآن أمام عيّنة حسيّة للتحوّل المذكور، وهو: النبات المختلط بالماء وتحوّله إلى هشيم تذروه الرياح.
إذن، لم يجىء هذا التمثيل منفصلا عن هيكل السورة بل جاء متلاحما مع أجزائها التي سبق الحديث عنها، كما جاء مطوّرا ومنميا لها، يفصل ما هو مجمل، ويضيف جديدا إلى السابق، ويربط بين موضوعاتها المختلفة، من خلال الفكرة الرئيسة التي تصب مختلف الموضوعات فيها.
ونتّجه إلى الموضوع اللاحق، في سورة أهل الكهف، فنجده يتناول قصة موسى وملاقاته للعالم، أي: قصة السفينة والجدار والغلام.
وقد تبدو القصة وكأنها ليست بذات علاقة بفكرة (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) ، إلاّ أنّ أدنى تأمل فيها يقتادنا إلى ملاحظة أن (العالم) الذي انبهر موسى (ع)
ص: 63
حياله بحيث كشف له أسرارا لم يدركها حتى النبي موسى، هذا (العالم) الذي يجهله موسى (من حيث هويته الاجتماعية)، يمثل (نبذا) للموقع الاجتماعي إنه (مجهول) في الحياة الدنيا لايعرفه حتى الأنبياء... وهذا هو نموذج جديا من نماذج النبذ للزينة التي لحظنا نموذجا قبلها هو (أهل الكهف) حيث جسّد كل منهما مفهوم النبذ لزينة الحياة الدنيا بنحو يختلف أحدهما عن الآخرة وهما يختلفان عن نموذج ثالث هو شخصية (ذي القرنين) حيث يمثل وجها آخرا للنبذ.
قال الله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً، إِنّٰا مَكَّنّٰا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ إلخ...
كلنا يعرف أنّ ذا القرنين - كما عرفته سورة أهل الكهف - شخصية ملكت الأرض شرقا وغربا.
هذه الشخصية ورد الحديث عنها عبر سلسلة من الموضوعات التي انتظمت السورة، حيث سبقتها موضوعات مختلفة تحوم جميعا على مفهوم (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) : وطريقة استجابة هذا الشخص أو ذاك لها...
إن هذه الشخصية التي تمثل الموضوع الجديد من موضوعات سورة الكهف، رسمت بنحو يجعل أذهاننا تتداعى فنيا إلى جملة من الخطوط الهندسية التي تتوازي وتتقابل بشكل مثير وجميل، بين شخصيات وحوادث سورة الكهف مع ملاحظة السمة الفنية التي طالما كررنا الحديث عنها ألا وهي. أن كل موضوع جديد من الموضوعات التي ترد في السورة يحوم على نفس مفهوم (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) و لكنه يتضمن تطويرا وتنمية للمفهوم السابق.
إن ذا القرنين (و قد ملك شرق الأرض وغربها) لو قابلناه بصاحب الجنتين الذي لم يتح له أن يملك سوى مزرعتين من مساحة الأرض الواسعة،
ص: 64
لو قابلنا هذين الشخصين. للحظنا الفارق الكبير في سلوكهما حيال (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) ... فصاحب المزرعتين المحدودتين من حيث المساحة، ينبهر بزينة الحياة الدنيا إلى الدرجة التي يشكك من خلالها حتى باليوم الآخر، بينما نجد ذا القرنين وقد ملك شرق الأرض وغربها - وليس مجرد مزرعتين محدودتي المساحة - لم ينبهر بزينة الحياة بل ظل تعامله إيجابيا مع اللّه تعالى.
عندما ملك ذو القرنين شرق الأرض وغربها، هتف قائلا: هٰذٰا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...
لننظر جديدا إلى الفارق الكبير بين الشخصين، بين شخص يملك الأرض جميعا فيشكر المبدع تعالى وبين شخص يملك مساحة صغيرة فيكفر بأنعم اللّه تعالى.
بكلمة جديدة: واجه كلّ من الشخصين (زينة) من الحياة الدنيا، أحدهما يجسّد قمة الملك، والآخر يجسد بساطة الملك حيث استجاب الأول استجابة عبادية حيال الدنيا فلم يستثمرها إلاّ للعمل العبادي، بينما استجاب الآخر استجابة مريضة فشكك بقيام الساعة تحت تأثير انبهاره بزينة صغيرة من متاع الحياة الدنيا.
إن التقابل الهندسي بين هذا المقطع من سورة الكهف والمقطع الذي تناول حادثة سابقة: يشكل واحدا من عمارة السورة المذكورة...
ولو تابعنا الخطوط المتوازية هندسيا بين هذا المقطع الذي يتحدث عن ذي القرنين وسائر المقاطع الأخرى في السورة، لوجدنا أن إحكام البناء الجمالي لها يأخذ أشكالا متنوعة من خطوط التوازي والتقابل... فهناك شخصيات أهل الكهف وقد (انعزلوا) عن مسرح الحياة، يقابلهم ذو القرنين وقد «حضر» في مسرح الحياة على عكس أصحاب أهل الكهف، إلاّ أنّ كلا من (عزلة) أهل الكهف، و (حضور) ذي القرنين. يصبّان في رافد واحد هو (نبذ
ص: 65
زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) مع أن أصحاب الكهف انزووا بين الجدران، وذا القرنين اخترق جدران الحياة جميعا.
إذن، نحن الآن أمام خط آخر من خطوط التوازن الهندسي يتمثل في الوحدة من خلال التضاد أو التضاد من خلال الوحدة، أي: وحدة سلوكهما العبادي من خلال الوحدة، أي: وحدة سلوكهما العبادي من خلال التضاد بين العزلة والحضور، أو التضاد بين العزلة والحضور من خلال وحدة السلوك العبادي... بينما كان عنصر (التقابل) الهندسي هو الطابع الذي وسم شخصيتي ذي القرنين وصاحب الجنتين.
وهناك توازن هندسي ثالث بين ذي القرنين وبين شخصية (العالم) الذي تعلم موسى (ع) منه، فالعالم (يختفي) عن الأنظار، بينما (يبرز) ذو القرنين على المسرح من حيث تحديد هويتهما، إلّا أنّ كليهما يمثل (الطواف) حول العالم على العكس من أصحاب الكهف فيما جسّدوا عملية (الثبات) في الكهف.
هذه الخطوط الثلاثة من التقابل والتوازن الهندسي، تفصح عن جانب واحد من إحكام البناء العماري لسورة الكهف، فضلا عن سائر الخطوط التي جمعت بين موضوعات مختلفة في السورة، كان مصبّها في رافد واحد، هو (زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا) بالشكل الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 66
ص: 67
ص: 68
قال اللّه تعالى: كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا، إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ نِدٰاءً خَفِيًّا، قٰالَ رَبِّ : إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً، وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .
تبدأ سورة مريم بعنصر قصصي يتضمن عدة أقاصيص تحوم على (فكرة خاصة) تتصل ب «الإنجاب» بنحو (معجز)، يواكب ذلك حشد من (الأفكار) المتصلة بالدعاء، وبرحمة اللّه تعالى، حيث تنسحب هذه الأفكار على مجموعة القصص من جانب، كما تنسحب على مجموع السورة من جانب آخر بنحو يكشف عن جمالية مدهشة بالنسبة إلى عمارة السورة وبنائها الهندسي المحكم.
لقد بدأت القصة الأولى برسم شخصية البطل (زكريا) حيث جاءت البداية القصصية من وسط (الوقائع) وليس من أولها... والوسط القصصي الذي بدأته القصة هو ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا أي، أن اللّه تعالى [من خلال عنصر (الرحمة) المباركة] قد استجاب لدعاء زكريا... القارىء لم يقف بعد على الحاجات التي توسل بها زكريا إلى اللّه تعالى، بل أشارت القصة إلى (رحمة) اللّه فحسب بالنسبة الى زكريا، أما الخلفيات أو الأحداث السابقة على هذه الرحمة فأمر لم تكشف القصة عنه بعد... وهذا يعني (من وجهة البناء العماري للقصة) أنّ هذا الاستهلال بالوقائع من (وسطها) ينطوي على أهمية خطرة تستهدف القصة توصيلها الى القارىء ألا وهي (رحمة اللّه)... ولذلك بدأت القصة بالحديث عن رحمة اللّه قبل أن تبدأ بالحديث عن دعاء زكريا الذي ترتب عليه إبراز مفهوم (رحمة اللّه) متمثلة في إجابة طلب زكريا.
ص: 69
بعد هذه البداية ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا ترتد القصة إلى بداية (الحدث) أو (الموقف) وهو إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ نِدٰاءً خَفِيًّا، قٰالَ رَبِّ : إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً، وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .
إذا، بداية الحدث هي: إن زكريا نادى ربه بشكل خفيّ فيما بينه وبين نفسه قائلا بأنه قد ضعف لسبب من كبر السن... والإشارة إلى كبر السن جاءت بلغة (صورية) وليس بلغة مباشرة أي من خلال عنصر (الصورة الفنية) وهي: اشتعال الرأس شيبا... والواقع أن هذه الصورة (الاشتعال) تظل من الصور المدهشة المثيرة حقا... فعملية الاشتعال لا تتضمن مجرد العلاقة بين اللون للشعر واللون المواكب للاشتعال، طالما نعرف أن الاشتعال يأخذ أكثر من لون بمتزج بين الحمرة والبياض والسواد وهو ما يطبع الشعر في سياق بشرة الرأس والوجه - بالنسبة إلى الألوان الثلاثة المشار إليها... أقول، إن رصد العلاقة بين عملية الاشتعال والشيب من خلال عنصر (اللون) قد تجاوزته الصورة الفنية الى رصد آخر يتضمن (دلالة) العملية نفسها بما يواكبها من عمليات نفسية بستجيب لها الشخص في نظرته إلى غزارة الشيب، وربما تنطوى عليه عملية الشيب من دلالة ترتبط بالحركة الفيزيقية له... فالاشتعال يرتبط بهدير أو بحركة صوتية ذات دلالة من حيث العنف والقوة والفاعلية والرهبة التي تنطوي عليها عملية الاشتعال، حيث تنسحب هذه الحركات على طبيعة الاستجابة النفسية لصاحبها مما تحمله على الاهتمام بها وجعله مركزا لتفكيره، وهو ما لاحظناه فعلا من خلال الطريقة التي تحدث لها زكريا (ع) مع اللّه تعالى، ونعني بها: دعاءه المصحوب بشيء من التفصيل لظاهرة كبر السن مثل قوله وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي ثم قوله وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً حيث جمع - من خلال هذه اللغة - بين ضعف القوى البدنية من جانب (وهو وهن العظم) وبين الرمز المؤشر الى كون العمر قد بلغ مرحلته الأخيرة من جانب آخر (وهو
ص: 70
اشتعال الرأس شيبا)، ثم أضاف إلى ذلك شيئا ثالثا هو قوله وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ... إن تتويج العمليات النفسية التي صدر عنها زكريا (عبر اهتمامه الملحوظ بكبر السن)... تتويجها، بأن اللّه طالما استجاب لدعائه في مواقف سابقة، هذا التتويج أو التعقيب يعبر بوضوح عن مدى اهتمامه بهذا الجانب، وهو (هم) أو (اهتمام عبادي) دون أدنى شك وليس مجرد رغبة فردية كما سنوضح ذلك لاحقا.
قال اللّه تعالى: وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي، وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .
هذا المقطع امتداد لقصة زكريا (ع)، حيث بدأ القسم الأول منها، بالحديث عن إبراز مفهوم (الرحمة) التي خصّ اللّه بها زكريا: حيث نادى ربه نداء خفيا متمثلا في الإشارة الى كبر سنه وإلى أنّ اللّه تعالى طالما استجاب لدعائه.
و السؤال هو: ما الذي التمسه زكريا (ع) في هذا الصدد؟ هذا ما تكفّل القسم الجديد من القصة برسمه متمثلا: في طلب (وارث) له، مطبوع بسمة (الإيمان)...
إنّ طبيعة العمر الذي بلغه زكريا، ثم - وهذا هو موضع الأهمية التي تنطوي عليها فكرة السورة بكاملها، بضمنها: أقصوصة زكريا - أنّ امرأته (عاقر) لا يمكن أن تنجب بطبيعة الحال، وهو أمر يقتاد زكريا إلى أن يطلب الى اللّه أن يحقق له رغبة خارجة عن الإمكانات التي رسمها اللّه لقوانين الكون، وهي الإنجاب من قبل عاقر.
هنا (من الزاوية الفنية) نتوقع أن يتحقق هذا الدعاء ما دامت الأقصوصة
ص: 71
قد استهلت ب - ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا حيث ترهص هذه المقدمة القصصية بإجابة الدعاء: ما دامت (الرحمة) من اللّه تعالى تسع كل شيء، وما دامت المقدمة قد خصصت ذلك من خلال الإشارة إلى زكريا.
وبالفعل، جاء القسم الجديد من الأقصوصة معنيا بهذا الجانب، راسما بشارة السماء لزكريا بإجابة دعائه، ولنقرأ
يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ اِسْمُهُ يَحْيىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا .
إذن، استجاب اللّه دعاء زكريا وبشره بغلام اسمه يحيى لم يسم به أحد قبل ذلك... إن هذه البشارة تنطوي على جملة من الدلالات ذات الجانب المتميز أو المعجز، فأولا: استجابة الدعاء نفسه بصفته تحقيقا لطلب خارج عن القوانين الكونية التي صاغها اللّه وفقا لنمط خاص، ثانيا: اضطلاع السماء بتسمية الغلام، وهو أيضا تحقيق لسمة خارجة عن القوانين الكونية عدا ما خصّ اللّه تعالى به أهل البيت (ع) بأمثلة هذا التميز. ثالثا: اقتران ذلك بعلامات ذات إعجاز أو تميز أيضا، وهو ما تسرده الفقرات التالية من القصة:
قٰالَ رَبِّ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا، قٰالَ كَذٰلِكَ :
قٰالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قٰالَ : آيَتُكَ أَلاّٰ تُكَلِّمَ اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَ لَيٰالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ...
إذا، السمة المتميزة الثالثة هي: امتناع لسانه (ع) عن الكلام بسبب من السماء من دون علة بطبيعة الحال. والآن، خارجا عن السمات الإعجازية أو المتميزة، ما هي الدلالات الفنية لهذا النمط من الصياغة الدقيقة ؟ لقد أبرز النص من محاورة زكريا: تساؤله عن كيفية الإنجاب مع أنه قد بلغ من الكبر عتيا، ومع أنّ زوجته عاقر... فبالرغم من أن زكريا التمس بدعائه هذا الإنجاب، وبالرغم من أنه قال وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، لكنه
ص: 72
مع ذلك تساءل عن كيفية الإنجاب ؟ طبيعيا، أن هذا التساؤل يكشف عن رد الفعل المصحوب بفرح عظيم حيال معطيات اللّه التي لا تعد ولا تحصى، ففرح العبد بتوجه اللّه تعالى إليه يجعله ينفجر بفرح هادر حيالى التوجه المذكور.
مضافا، لذلك فإن الدلالة الفنية الأخرى لهذا الجانب تتمثل في:
محاورة اللّه تعالى لزكريا مجيبا إياه قٰالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ... إن هذه الإجابة تنطوي على تقرير حقيقة من حقائق اللّه المطلقة وهي: أنه تعالى قادر على كل شيء، فكما أنه قادر على أن يخلق الإنسان من لا شيء: كذلك، فإنه قادر على أن يجعل من العاقر ولودا، ومن الكبر استعدادا لقبول الولد.
هذا يعني أن النص استهدف غرضا فنيا مزدوجا من هذا العرض الفني هو: تحقيق دعاء زكريا من جانب، وتقرير الحقيقة التي ينبغي أن يفيد منها المتلقي عبر قراءته للقصة من جانب آخر، وهي: حقيقة أن الله تعالى قادر بشكل مطلق على أن يبدع ما يشاء وعلى أن يستجيب للشخصية المؤمنة والملتزمة بمبادئه تعالى: يستجيب لها حتى لو كان الأمر خارجا عن القوانين الكونية التي رسمها اللّه وفقا لنظام خاص يأخذ شكل القانون الثابت.
المهم، أن رد الفعل الذي صدر عنه زكريا عبر تساؤله عن كيفية الإنجاب مع (الكبر والعقم) بالرغم من كونه قد طلب ذلك من الله، قد أخذ امتدادات أخرى، لم تقف عند التساؤل عن كيفية الإنجاب بل تجاوزته إلى أن يسأل عن (العلامة) أيضا: تعبيرا عن شوقه وفرحه بمعطيات اللّه تعالى.
ومن الواضح، أن هذه التفصيلات التي أبرزتها القصة عن مدى اهتمام زكريا بهذا المعطى الإعجازي، تتجانس (من وجهة البناء الهندسي للقصة) مع مقدمتها التي استهلت السورة لها: بالحديث عن نبأ رحمة اللّه لعبده زكريا.
ص: 73
فعندنا تستهل السورة أو القصة بنبأ رحمة الله لأحد عبيده، حينئذ نتوقع أن يكون رد الفعل الصادر عن العبد حيال الرحمة المذكورة متجانسا مع الأهمية التي نسجتها مقدمة القصة: كما لحظنا.
قال اللّه تعالى: يٰا يَحْيىٰ خُذِ اَلْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ ، وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا، وَ حَنٰاناً مِنْ لَدُنّٰا وَ زَكٰاةً ، وَ كٰانَ تَقِيًّا، وَ بَرًّا بِوٰالِدَيْهِ ، وَ لَمْ يَكُنْ جَبّٰاراً عَصِيًّا وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ...
هذه الأقصوصة الجديدة تجيء متداخلة مع القصة الأولى التي استهلت بها سورة مريم؛ إنها أقصوصة «يحيى (ع)...»
إن هذه الأقصوصة تأخذ سمة (الاستقلال) و (التداخل) في آن واحد. أما استقلالها فيتمثل في كون بطلها ذا شخصية يستقل النص برسمها في هذه السورة... إنه بطل يضطلع بمهمة النبوة... وأما تداخلها مع قصة زكريا فلأن البطل هنا (وهو المولود الذي وهبه اللّه لزكريا بناء على دعائه) قد جسّد البشارة التي استهلت القصة الأولى بها.
وأيا كان، فإن أقصوصة (يحيى) تطرح جملة من الدلالات، مرتبطة بالعمارة الفنية للسورة... فقد طلب زكريا من اللّه أن يهبه غلاما رضيا، وها هو المولود لم يجسد الرضا من قبل اللّه بل جعله نبيا، أكثر من ذلك قد آتاه الله الحكم صبيا... و إذا أخذنا بالتفسير القائل بأن (الحكم) يقصد به مجرد الفهم والعقل للكتاب الذي أمر اللّه عن أن يأخذه بقوة، فحينئذ يظل مفهوم (الرضا) عند اللّه متجسدا بدوره في هذه الظاهرة، ففي الحالين ثمة ارتباط فيما بين لأقصوصة الأولى (زكريا) والأقصوصة الأخرى (يحيى).
الدلالة الأخرى التي تحملها هذه الأقصوصة من حيث ارتباطها بعمارة السورة هي: مفهوم (الرحمة) التي استهلت بها السورة ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
ص: 74
زَكَرِيّٰا ... فها هي (الرحمة) ترسم هنا (في قصة يحيى) من خلال قوله تعالى وَ حَنٰاناً مِنْ لَدُنّٰا .
الدلالة الثالثة التي تحملها أقصوصة يحيى هي مجموعة السمات التي تجسد من جانب مفهوم (الرضا) الذي التمسه زكريا من اللّه بالنسبة للوارث، ويجسد - من جانب آخر - رسما لسمات عامة يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي كي يفيد منها في تعديل سلوكه.
الدلالات هي: التقى، برّ الوالدين. التواضع، الطاعة، ثمّ : السلام الذي وهبه اللّه تعالى ليحيى (ع) يوم ولد، يوم يموت، يوم يبعث حيّا.
أما الدلالات أو السمات المتمثلة في التقى، والبرّ، والتواضع والطاعة، فإنها مفهومات إذا كان ارتباطها بالشخصية المنتخبة من قبل اللّه تعالى وبالموقع الاجتماعي الذي تحتله أمرا لا مناص منه، فإن اكتسابها والتدريب عليها من قبل الشخصية المؤمنة يظل أمرا له ضرورته العبادية دون أدنى شك ما دمنا جميعا مطالبين بالالتزام بمبادىء اللّه، فالتقوى - وهي الانتهاء عن كلّ النواهي التي منعنا اللّه من ممارستها - تظل سمة المؤمن وموضع مطالبة بتحقيقها كما هو واضح.
كما أنّ برّ الوالدين يظل في مقدمة ما يشدد اللّه فيه حتى أنه تعالى أوجب بعد إطاعته: إطاعة الوالدين كما جعل - مقابل ذلك - عقوقهما بعد درجة الشرك...
وأما (التواضع) وعدم التطاول أو التكبر على الآخرين، فمن الوضوح بمكان كبير: طالما يظل التكبر سمة أهل النار، وطالما يظل التطاول على الخلق يستجرّ الشخصية إلى إلحاق الأذى لهم: من قتل أو ظلم ونحوهما.
وأما السمة الأخيرة وهي (الطاعة) فتعني: الالتزام بمبادئ الله تعالى فيما نطالب جميعا بتحقيقها.
ص: 75
إذا، السمات المذكورة التي خلعها الله على شخصية (يحيي) تظل تستهدفنا أيضا، ونفيد منها في تعديل سلوكنا.
أخيرا، طرحت الأقصوصة ظاهرة (السلام) الذي وهبه اللّه ليحيي وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا وهو مما ينبغي أن نفيد منه أيضا في عملية التعديل للسلوك، فالولادة ما لم تقترن بطهارة المولد، والموت ما لم يقترن ببشارة اللّه والتخليص من عذابه تعالى، والانبعاث ما لم يقترن بالإنقاذ من هول المحشر والجزاءات المترتبة على ذلك. أقول، إن هذه المواطن الثلاثة ما لم تقترن برحمة اللّه المترتبة على نمط سلوكنا الذي تخبره السماء سلف: حينئذ، فإن المصائر التي ننتهي إليها تظل موضع أسى لا حدود لتصوراته.
قال اللّه تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهٰا مَكٰاناً شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا، قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قٰالَ : إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا، قٰالَ كَذٰلِكِ ، قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ رَحْمَةً مِنّٰا وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ...
هنا في قصة مريم (ونحن نتحدث عن البناء الهندسي للسورة) تجيء نفس الفكرة الرئيسية في ظواهرها الثلاث: الإعجاز، الرحمة، طهارة المولد، كما تجيء أفكار ثانوية جديدة: حيث يفصح كل هذا عن مدى الإحكام الهندسي وجمالته الفائقة التي تبعث الإثارة المدهشة عند القارىء.
إنّ شخصية (مريم) بصفتها منذورة عباديا، رسمتها القصة: عابدة قد انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، منعزلة عن الآخرين، متخذة حجابا من
ص: 76
دونهم... (هنا لا نغفل: أنّ لمحصه زكريا قد شددت على هذا الجانب العبادي أيضا حيث كان (المحراب) وما واكبه من الممارسات: إفصاحا عن هذا الجانب الذي تجانس من خلاله كل من شخصيتي زكريا ومريم: (فنيّا). أمّا البعد الآخر من التجانس الفني بين بطلي القصتين، فيتمثل في الظاهرة الإعجازية الآتية: بينما كانت مريم في عزلتها العبادية، إذا بها تواجه ما خيّل إليها بشرا سويا، بينما كان (روحا) (ملكا) بعثه اللّه.
طبيعيا - ما دامت (مريم) معنية بالنقاء العبادي - أن تستنكر دخول البشر عليها مما حملها رد الفعل العنيف حيال هذا الحدث المفاجىء أن تهتف بوجهه قائلة إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا . إلاّ أن (الروح) أجابها إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا . وطبيعيا أيضا، أن تذهلها هذه المفاجأة الثانية وتسبّب لها ردة فعل عنيفة أيضا بحيث لم تملك أن هتفت قائلة أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا . إلاّ أنّ (الروح) يجيبها بنفس الإجابة التي قدمها لزكريا عندما تساءل عن إمكانية الإنجاب مع كونه قد بلغ من الكبر عتيّا، ومع كون امرأته عاقرا.
هنا ينبغي أن نتحدّث عن أسرار فنيّة بالغة الإثارة بالنسبة لمستويات التجانس الفنّي بين القصتين: زكريا ومريم... لقد لحظنا بعدين من (التجانس) العزلة العبادية وتميّز الشخصية. وها نحن نواجه أبعادا جديدة من التجانس هي:
التجانس الثالث هو: قضية (الإنجاب) خارجا عن القوانين الكونية التي رسمها الله تعالى. فقضية الإنجاب المعجز طبعت كلا من الشخصيتين...
مضافا إلى تجانس فنّي رابع هو: التجانس من خلال (التقابل) وليس من خلال (التماثل) أي كون البطلين: ذكرا و أنثى: مع تجانس فنّي خامس هو:
اقتران كل من امرأة زكريا ومريم في قضية الإنجاب المعجز.
ص: 77
التجانس السادس بين القصتين هو: ردود الفعل حيال الأحداث المفاجئة: فبالرغم من أنّ زكريا مسبوق ببشارة الوليد، إلاّ أنّه في غمرة حدوث البشارة هتف قائلا أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ ، كما أنّ مريم هتفت بنفس العبارة أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ مع ملاحظة: أنّ كلا من الهتافين يختص بطبيعة الموقف الذى يغلّف شخصيته الحيويّة، فزكريا يربط بين تساؤله عن الغلام وبين عقر امرأته وكبره، بينما تربط مريم بين تساؤلها وبين عدم إمساس البشر وعدم كونها بغيّا...
التجانس السابع: يتمثل في نفس إجابة الملك حيث أجاب زكريا قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وأجاب مريم بنفس الإجابة قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ...
التجانس الثامن بين القصتين يتمثّل في مفهوم (الرحمة) من اللّه حيث استهلت قصة زكريا ب ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا وحيث كانت (الرحمة) تتجه إلى مريم أيضا من خلال محاورة الملك لها وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ «رَحْمَةً » مِنّٰا .
التجانس التاسع بين القصتين يتمثّل في طهارة المولد: حيث التمس زكريا من اللّه أن يهب له وليدا رضيّا وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ، وحيث قال الملك لمريم أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا .
التجانس العاشر بين القصتين يتمثّل في تميّز البطلين الجديدين المولودين بسمات خاصة لحظنا أولاهما في شخصية يحيى، وسنلحظ اخراهما في شخصية عيسى، حيث يتكفّل القسم الجديد من قصة مريم برسم ذلك.
قال اللّه تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكٰاناً قَصِيًّا، فَأَجٰاءَهَا اَلْمَخٰاضُ إِلىٰ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ ، قٰالَتْ : يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا، فَنٰادٰاهٰا مِنْ تَحْتِهٰا: أَلاّٰ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسٰاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّٰا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا ...
ص: 78
قال اللّه تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكٰاناً قَصِيًّا، فَأَجٰاءَهَا اَلْمَخٰاضُ إِلىٰ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ ، قٰالَتْ : يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا، فَنٰادٰاهٰا مِنْ تَحْتِهٰا: أَلاّٰ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسٰاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّٰا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا ...
هذا هو القسم الثاني من قصة مريم: حيث كان القسم الأول منها يرسم لنا موقف (البطلة) من قضية (الحمل) وملابساته. أمّا هذا القسم يتناول (المخاض).
ويحسن بنا قبل أن نتابع الجانب العماري من النص، أن نعرض للبيئة القصصية في هذا القسم منها، نظرا لصلتها بعملية البناء الهندسي أيضا...
تتمثّل هذه البيئة في ظواهر مثيرة ومدهشة ومعجزة فضلا عن كونها متحركة في مناخ من جمال الطبيعة الكونية التي خصّت بها البطلة دون غيرها.
عندما أحست البطلة (ع) بالحمل لا بدّ وأن دفعها الحياء إلى أن تنتبذ مكانا بعيدا عن الأنظار، وما أن اقترب (الطلق) حتى اتجهت إلى جذع نخلة هناك.
هنا تبدأ البيئة الجديدة للبطلة، وهي بيئة عادية، إلاّ أنّها سرعان ما تكتسب طابع الدهشة والإعجاز والجمالية حينما تتزامن مع عملية المخاض.
بيد أن مريم (ع) في بداية الأمر لا مناص لها من أن تصدر عن ردّ فعل مصحوب بشدائد نفسية مريرة، متجسدا في هذا الحوار الداخلي. يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ...
فبالرغم من أنّ الملك أشاع لديها الاطمئنان بتدخّل السماء في هذه القضية (بعد أن أنكرته في البدء، وتساءلت عن إمكانية الحمل)... بالرغم من ذلك كلّه، أحسّت بأن الضغط الاجتماعي يحاصرها من كل جانب مما اضطرّها إلى أن تتحاور مع ذاتها عبر ذلك التمنّي المرير بأن تكون نسيا منسيّا.
ص: 79
و في تصوّرنا أن إبراز القصة لهذا الجانب من إحساس البطلة ينطوي على دلالة خاصة هي: مشروعية مثل هذا الإحساس، تعبيرا عن شدة الحياء وكونه - ليس حرصا على مجرّد السمعة الاجتماعية - بل حرصا على السمعة العبادية، فضلا عن أنّ العملية المذكورة: ترتبت على تحمّل الشدة النفسية حيث تنفرج هذه الشدة بعد زمن - قد يطول أو يقصر - حينما يواجه الآخرون حقيقة الموقف الذي سبّب للبطلة أمثلة الشدة المشار إليها.
وأيّا كان، فإن البيئة الجديدة تبدأ أولا بتبشيرها بأنّ اللّه تعالى قد هيّأ لها نهرا تحت قدمها تشرب منه وتطهّر به، ثم أمرت بهزّ الجذع، وقد كان يابسا - حسب النصوص المفسرة فأورق، وأثمر رطبا جنيّا.
إنّ جمالية كلّ من النهر والشجر والثمر في البقعة الخاصة التي احتوت البطلة ينبغي أن نضعها في اعتبارنا: فنيّا، بصفة أنها تساهم في تفريج الشدّة عن مريم (ع)، كما أنّها تتجانس فنيّا - وهي بيئة خارجية - مع بيئتها الداخلية، أي: تبشيرها بأن تقرّ عينا...
إنّ إقرار العين أي فرح الأعماق: يجسّد بيئة داخلية، كما أن مرأى النهر والشجر والثمر والإفادة منهما: أكلا وشربا وتطهرا: يجسّد بيئة خارجية. فإذا تجانس ما هو خارجي مع ما هو داخلي (من حيث الرسم الفني لهذا الجانب) حينئذ فإنّ القصة تحقق أشد مستويات الإثارة الفنية عند المتلقّي.
أخيرا، يبرز أمامنا في نهاية هذا القسم من القصة: موقف جديد للبطلة هو: مطالبتها بأن تلتزم جانب الصمت حيال كل من يحاول إثارة الأسئلة عن حقيقة ما حدث لها... فَإِمّٰا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا . إن المطالبة بهذا الصمت يذكرنا بقصة زكريا (ع) حيث طولب البطل بألاّ يكلّم الناس ثلاث ليال سويّا (وهذا بعد جديد من أبعاد التجانس بين القصتين فيما بلغت (12) بعدا أشرنا إلى غالبيتها سابقا)...
ص: 80
المهم هو: أنّ مطالبه مريم (ع) بألاّ تكلّم الناس. إنّما يجسّد من زاوية عمارة القصة) جوابا فنّيا لذلك النمط من ردّ الفعل المرير الذي تمنّت من خلالها أن تكون نسيا منسيا...
ففضلا أن البيئة الجديدة (بيئة النهر والشجر والثمر) قد خفّف جانبا من الشدة، إلاّ أنها عزّزت بجانب آخر هو: عدم مكالمتها مع الاخرين حيث تتجنّب متاعب الردّ عليهم.
إنّ ما نودّ التأكيد عليه هو: ملاحظة هذا التنامي أو التدرّج الفنّي بين أجزاء هذا القسم من القصة: بداية القسم، وسطه، نهايته: حيث بدأ بإبراز الشدّة النفسية للبطلة، ثم تخفيفها جزئيا ثم بمحاولة إزاحتها، فضلا عمّا لحظناه من التجانس بين قسمي القصة، ثم التجانس بين القصص جميعا، ثم التلاحم بين عناصر النص جميعا: على نحو ما نتحدث عنه لاحقا إن شاء الله.
قال اللّه تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهٰا تَحْمِلُهُ قٰالُوا: يٰا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، يٰا أُخْتَ هٰارُونَ : مٰا كٰانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ ، وَ مٰا كٰانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشٰارَتْ إِلَيْهِ ، قٰالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كٰانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا ...
يمكننا أن نقول بأن هذه الشريحة القصصية المتصلة بمريم وعيسى تشكّل القسم الأخير من قصة مريم، مثلما يمكننا أن نقول بأنها بداية لقصة جديدة هي قصة عيسى (ع). وفي الحالين ثمة بناء قصصي يتسم بجمالية فائقة من حيث كونه يخضع لإمكانية ما يسمى بالقصة المتداخلة والقصة المستقلة. أما كونها (متداخلة) فلأن مريم (ع) لا تزال تلعب دورا فيها هو: إتيانها بالمولود إلى قومها، ومحاورتها مع القوم الذين تساءلوا عن غرابة هذه الحادثة، وإشارتها إلى عيسى (ع) بأن يكلّموه... وأمّا كونها (مستقلة) فلأن عيسى يبدأ بالتحرك من خلال ولادته بطلا لقصة سوف تحوم على شخصيته فحسب.
ص: 81
هنا ينبغي أن نضيف إلى ما تقدم إلى أن هذا البناء القصصي يشع بجمالية جديدة تبعث الدهشة حينما نلحظ عنصر التوازي أو التجانس بين قصتي مريم وعيسى من جانب وقصتي زكريا ويحى من جانب آخر، ففضلا عن كون زكريا ويحيى يمثّلان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين ومشابهتهما مريم وعيسى من حيث كونهما أيضا بطلين لقصة متداخلة أو لقصتين، فضلا عن ذلك، فإنّ كلا من زكريا ومريم يجسّد أحد أبوين لبطلي القصتين الأخريين، فيحيى (ع) هو ابن زكريا (ع). وعيسى (ع) هو ابن مريم (ع)، كل ما في الأمر أنّ زكريا هو الأب، ومريم هي الأمّ ، وهذا ما يمكن تسميته فنّيا بالتشابه من خلال التضاد، وبالتضاد من خلال التشابه... والآن، خارجا عن هذه الخطوط الهندسية المتجانسة في هيكل القصتين زكريا ويحيى من جانب ومريم وعيسى من جانب آخر، وفي الخطوط التفصيلية لكل منهما: حيث لحظنا أكثر من عشرة خطوط متجانسة بينهما... خارجا عن هذا البناء الهندسي المحكم، يعنينا الآن أن نتابع حركة القصة الجديدة: قصة عيسى (ع). لقد جاءت مريم (ع) بوليدها إلى القوم... وكان رد الفعل الأول لهذه المواجهة هي تساؤل القوم عن هذا الوليد... يٰا أُخْتَ هٰارُونَ : مٰا كٰانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ .. . إلخ فنّيا (أي من زاوية البناء الهندسي للنص) يجب أن نلحظ أنّ هذا التساؤل يرتبط عماريا بقلق مريم (ع) حيال حادثة المخاض حينما هتفت بمرارة يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا إنّ هذا الهتاف يحمل وظيفة فنيّة هي: انعكاسه على مستقبل الحدث القصصي، وها هو الحدث القصصي يتمثل في هذا التساؤل المصحوب بمشاعر الغرابة أو التشكيك من قبل القوم، بمعنى أنّ مريم (ع) كانت على حق حينما تمنّت الموت: نظرا لأنّ طبيعة القوم سوف تثير عملية تشكيك بهذه الحادثة... وبالفعل: تساءل القوم مٰا كٰانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ ... .
ص: 82
إذا، ثمة تنام عضويّ لموقف مريم حيال المخاض،، و موقف مجتمعها حيالها، مما يفسّر لنا أهمية هذا البناء العماري للنص. والملاحظ، أنّ القوم بدأ تساؤلهم بهذه الصيغة يٰا أُخْتَ هٰارُونَ ... هذا يعني أنّ لهذه العبارة (يٰا أُخْتَ هٰارُونَ ) وظيفة فنيّة ترتبط بعمارة القصة...
لا بد أن تتجسّد هذه الوظيفة - حسب ما تذكره نصوص التفسير - من أنّ (هارون) سواء أكان أخاها لأبيها، أو أخا موسى (ع) لأنّها من ولده، أو كان أجنبيا عنها إلاّ أنّه عرف بسمة الصلاح. أقول لا بدّ أن تتجسد وظيفة (هارون) هنا في كونها مرتبطة بمفهوم العفة أو التقوى، المرتبطة بشخصية مريم أيضا، وإن كنا نحتمل فنيّا أن تكون صلة النسب بين هارون ومريم مرجحة على غيرها من الصلات التي أشار المفسرون إليها، لأنّ النسبة الأجنبية لا ترقى فنيّا (من حيث عمارة القصة) إلى نسبة (القرابة)...
وأيّا كان، فإنّ مريم (ع) أنهت الصراع الذي كانت تحياه حيال هذه الحادثة، أنهته بإشارتها إلى القوم بأن يكلّموا وليدها... إلاّ أنّهم أجابوها مندهشين كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كٰانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا ... إنّ هذه العبارة أو الموقف (كَيْفَ نُكَلِّمُ ... الخ) تعد نهاية لدور البطلة مريم (ع)، إلاّ أنّها تجسّد لحظة (الإنارة) - حسب اللغة القصصية - للذروة التي بلغتها حوادث القصة:
حيث يتلهّف القارىء لمعرفة ما ستسفر عنه إشارة مريم إلى أن يتكلّم القوم مع الوليد، وردّهم عليها بكيفية إمكان التحدث مع وليد في المهد...
الحوادث اللاحقة للقصة، سوف (تنير) هذا الجانب كما سنرى. إلاّ أنّ المهم بعد ذلك كله، هو: ملاحظة هذه المستويات من التلاحم والتنامي بين القصص من جانب، وبين أجزاء القصة من جانب آخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 83
قال اللّه تعالى: قٰالَ : إِنِّي عَبْدُ اَللّٰهِ آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا، وَ اَلسَّلاٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ...
هذا المقطع القصصي يتناول مقطعا عرضيا من حياة عيسى (ع). لقد بدأت أقصوصة عيسى مع ولادته بذلك النحو المعجز، وما واكبه من الظروف التي أحاطت بمريم (ع)... وعندما يبدأ عيسى بهذا الحوار مع القوم الذين أثاروا التشكيك حيال مريم إنّما ينهي الدور الذي لعبته مريم (ع) في الأقصوصة السابقة (أقصوصة مريم) فيما أشرنا إلى أنّها قد ساورها القلق الشديد حيال ردّ الفعل الذي ستواجهه: وحيث انتهى القلق تماما حينما تكلّم عيسى وهو في المهمة بهذا النحو الذي رسمه المقطع.
إنّ ما يعنينا الآن من المقطع القصصي هو: محتوياته الفكرية ثم بناؤه الفنّي وصلة هذا البناء بالهيكل العام لقصص زكريا ويحيى ومريم، ثم صلته بالأفكار العامة التي انتظمتها سورة مريم...
أمّا محتوياته الفكرية فتتمثّل في طرح جملة من الدلالات التي يستهدف النص توصيلها إلى القارىء، منها:
أنّ عيسى هو (عبد) للّه تعالى.
وقد يتساءل القارىء: هل أنّ تقرير العبودية ذو صلة بالأفكار اللاحقة في السورة ؟ إنّه لكذلك.
إذا، فلنستمع إلى تعقيب النص على أقصوصة عيسى: ذٰلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، مٰا كٰانَ لِلّٰهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ... إلى آخر الآيات التي تحدثت عن المواقف المنحرفة للنصارى واليهود وسواهم ممن
ص: 84
قالوا عنه (ع) أنّه (الإبن) أو ثالث ثلاثة...
إذا، استهلال المحاورة من قبل عيسى بأنّه (عبد) إنّما ينطوي على وظيفة فنيّة لها منعكساتها على الجزء اللاحق من السورة، هي: الردّ على المنحرفين فكريا، ممن نسبه إلى الربوبية، أو البنوّة إلخ... لكن، خارجا عن ذلك، ما هي الدلالات الفكرية الأخرى، المطروحة في القصة ؟ الدلالات هي:
إتيانه الكتاب، جعله نبيّا، جعله مباركا، أيصاؤه بالصلاة والزكاة، البرّ بالأم، عدم جعله جبّارا شقيا، السلام عليه يوم ولادته وموته وبعثه...
إنّ جملة من هذه الدلالات قد طرحت في أقصوصة يحيى (ع) أيضا، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلا من يحيى وعيسى، يجسّدان شخصيتين قد ولدتا بنحو معجز: الأوّل من قبل الكبر والعقم، والآخر من دون فحل، حينئذ يمكننا أن نفسر دلالة ما طرح في قصتيهما من الأفكار...
المطروح هو، (1) إنّ كلا منهما قد أوتي الحكم والنبوة في الصغر.
(2) أنّ كلا منهما قد وصف بأنّه لم يكن (جبارا) في الأرض.
(3) أنّ كلا منهما قد وصف بأنه (بار) بالنسبة لمن ولد منه: يحيى من حيث البر بوالديه، وعيسى من حيث البرّ بوالدته...
(4) أنّ كلا منهما قد جعل موضع (تزكية) من قبل اللّه تعالى... حيث وصف يحيى بأنّه كٰانَ تَقِيًّا ، ووصف عيسى بأنّه جعل مُبٰارَكاً ...
(5) أنّ كلا منهما قد سلّم عليه. يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
إنّ هذا التجانس في الأفكار المطروحة في قصتي يحيى وعيسى، ينبغي ألاّ نفصله عن التجانس الذي لحظناه في قصتي زكريا ومريم، فزكريا ومريم بصفتهما يجسّدان ظاهرة (الوالدين) و (الوالدة)، ويحيى وعيسى بصفتهما
ص: 85
يجسّدان ظاهرة (الولد)، إنّما تجانس كلّ منهما مع الآخر في خطوط فكرية متنوعة: فلأنّ انتسابهما لظاهرة متجانسة أيضا، هو السرّ الفنّي الكامن وراء ذلك التجانس المدهش في خطوط القصتين وأبطالهما:
بقي أن نشير إلى أنّ هناك دلالة فكرية طرحها النص في قصة عيسى هي.
توصيته بالصلاة والزكاة... فنيّا، ينبغي أن نشير إلى ما كررناه سابقا من أنّ مهمة القصة هي: طرح الأفكار فيها من خلال أدوات مختلفة، منها: استثمار موقف أو حادث أو بطل أو بيئة، حيث يتم طرح الفكرة الجديدة في سياق ذلك من خلال عنصر (الحوار) أو (السرد)... ونظرا لأهمية كل من (الصلاة) و (الزكاة) حيث يقترنان في كثير من النصوص القرآنية الكريمة، حينئذ فإنّ طرحهما في سياق التوصية بجملة من الممارسات: يظل طرحا فنيّا له جماليته دون أدنى شك...
أخيرا، ينبغي أن نشير إلى أن النص عندما ختم قصة عيسى بموقف خاص هو: موقف المنحرفين من تحديد شخصيته، إنّما وصلها بفكرة جديدة هي. رسالة الإسلام وموقف المنحرفين منها، حيث توعّد النص أولئك المنحرفين الذين نسبوا عيسى (ع) إلى الربوبية والبنوّة وغيرهما، ثم استثمر النص هذا التوعّد ليصله بالمنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام: حيث توعّدهم النصّ أيضا بالجزاء الآخروي.
بعد هذا التعقيب على قصة عيسى، ثم وصلها بالبيئة الإسلامية، حيث يظل هدف العنصر القصص للبيئات السابقة (ليس مجرد القص) بل استثماره لهدف حاضر ولاحق يتصل بتذكير القارىء، وضرورة إفادته من العنصر القصصي في تعديل السلوك.
المهم، أنّ الخطورة الفنيّة للقصة المذكورة (وسائر القصص التي سبقتها) تتمثل في ذلك البناء الفخم المدهش الذي لحظناه: من حيث صلة كل
ص: 86
جزء منها بالاخر، وصلتها بقصص سابقة، وبقصص لاحقة، وبأفكار عامة تنتظم السورة الكريمة.
قال اللّه تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لاٰ يَسْمَعُ وَ لاٰ يُبْصِرُ وَ لاٰ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا، يٰا أَبَتِ لاٰ تَعْبُدِ اَلشَّيْطٰانَ ، إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ عَصِيًّا، يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطٰانِ وَلِيًّا، قٰالَ : أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا، قٰالَ : سَلاٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا، وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىٰ أَلاّٰ أَكُونَ بِدُعٰاءِ رَبِّي شَقِيًّا، فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا نَبِيًّا، وَ وَهَبْنٰا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنٰا وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ لِسٰانَ صِدْقٍ عَلِيًّا .
هذه هي الأقصوصة الخامسة من قصص سورة مريم: إنّ القصص الأربع المذكورة كانت بمثابة (وحدة قصصية) تتناول موضوعا متجانسا هو (الإنجاب) بنحوه المعجز، وتتحرك شخصياتها وفق (وحدة البطل) من حيث تجانس الأبطال زمانيا ونسبيّا...
أما أقصوصة إبراهيم، فتتجه وجهة موضوعية أخرى، إلاّ أنّها (من حيث البناء الهندسي للسورة) تصبّ في رافد (فكريّ ) مشترك بين مجموعة القصص... ومن الواضح أنّ (الموضوع) المطروح في القصة شيء، و (الفكرة) التي يحوم الموضوع عليها شيء آخر... فموضوع القصص الأربع هو (الإنجاب) وموضوع قصة إبراهيم هو مناقشة إبراهيم لأبيه في قضية عبادة الأصنام، وأمّا (الأفكار) المستهدفة في كل من القصص الأربع ثم في قصة
ص: 87
إبراهيم تحوم على جملة من الدلالات تشكل عنصرا مشتركا بين القصص الخمس.
الدلالة الأولى هي: قول إبراهيم لأبيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا ، إنّ حفاوة اللّه تعالى بإبراهيم تذكرنا بحفاوته تعالى بالأبطال الأربعة:
بدء من رحمته تعالى عبده زكريا، مرورا بيحيى حيث سكب عليه (حنانا من لدنه) إلى مريم التي (أقرّ عينها)، وانتهاء بعيسى الذي جعله (مباركا).
الدلالة الثانية هي: قول إبراهيم لأبيه وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىٰ أَلاّٰ أَكُونَ بِدُعٰاءِ رَبِّي شَقِيًّا ، وهو نفس العبارة التي قالها زكريّا وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ...
الدلالة الثالثة هي قول إبراهيم لأبيه وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، وهي تماثل العزلة التي غلّفت زكريا في محرابه وصومه، ومريم في انتباذها مكانا شرقيا...
الدلالة الرابعة: تتمثّل في عملية الإنجاب أيضا، إلاّ أنّه إنجاب لم يقترن بالإعجاز، بل الإنجاب المقترن بما طلبه زكريا من اللّه بأن يهبه ذرية طيبة، وها هو إبراهيم (ع) يهبه اللّه ذرية طيبة. يقول تعالى عنه فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا نَبِيًّا .
الدلالة الخامسة: هي أنّ ذرية زكريا ومريم ينتسبون إلى الأنبياء، كذلك: ذرية إبراهيم (إسحاق ويعقوب).
الدلالة السادسة: إنّ الذرية ترتبت - في أبطال القصص الثلاثة - على العزلة الاجتماعية أو العبادية، حيث وصل النص بين عزلة إبراهيم وبين الذرية فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ .
الدلالة السابعة: إنّ مفهوم (الرحمة) التي استهلّت بها سورة مريم ذِكْرُ
ص: 88
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا من حيث انعكاساتها على كل الأبطال، تنعكس الان على إبراهيم، وأيضا ذرية إبراهيم؛ حيث عقب النص على إبراهيم وذريته بقوله تعالى وَ وَهَبْنٰا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنٰا وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ لِسٰانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ، حيث شملت (الرحمة) إبراهيم.
الدلالة الثامنة: هي أنّ ذرية إبراهيم قد شملتهم (الرحمة) أيضا، وفقا للعبارة القصصية السابقة.
الدلالة التاسعة: هي أنّ دعاء زكريا ربّه بأن يجعله و ذريته (مرضيّين) قد انسحب على إبراهيم وذريته حيث جعل اللّه لهم لِسٰانَ صِدْقٍ عَلِيًّا .
الدلالة العاشرة: قال إبراهيم لأبيه يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ ... ، وهو مجانس لما آتاه اللّه الأبطال السابقين مثل يحيى وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ .
إذا، نحن الآن أمام عشرة خطوط فكرية تنتظم القصص الخمس بالرغم من انشطارها إلى قصص متماثلة (القصص الأربع) وقصص مستقلة (قصة إبراهيم) وقصة موسى التي تليها كما سنرى...
أمّا الدلالات الخاصة التي تميزت بها قصة إبراهيم فتتمثل في: الموقف الفكري الذي وقفه إبراهيم حيال أبيه، المجسّد للموقف الوثني، حيث ناقشه وفق لغة منطقية تقول له لِمَ تَعْبُدُ مٰا لاٰ يَسْمَعُ وَ لاٰ يُبْصِرُ ... إلاّ أنّ أباه - بدلا من الانصياع للغة المنطق - هدده بالعبارة التالية لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ .
هذا الموقف سنرى منعكساته في الأجزاء اللاحقة من السورة... لكن خارجا عن ذلك، نلحظ أيضا أنّ إبراهيم ذكّر أباه بالجزاء الاخروي، وهو نفس التذكير الذي صدر النبيّ (ص) عنه حيال معاصريه: حيث لحظنا أنّ النص وصل بين قصة عيسى وبين البيئة الإسلامية من خلال التذكير بالجزاءات الأخروية
ص: 89
التي تنتظر (المنحرفين) عن مباديء اللّه تعالى، و هو بعد آخر من أبعاد التجانس أو التلاحم العضوي بين أجزاء السورة الكريمة.
قال اللّه تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مُوسىٰ إِنَّهُ كٰانَ مُخْلَصاً وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا، وَ نٰادَيْنٰاهُ مِنْ جٰانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنٰاهُ نَجِيًّا، وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ نَبِيًّا ...
هذه الأقصوصة، هي الأقصوصة السادسة من الأقاصيص التي استهلّت بها سورة مريم.
لقد كان مفهومات (الرحمة) التي أغدقها اللّه على (زكريا) و (مريم) وابنيهما، ثم قضية الإنجاب للذريّة الطيّبة، فضلا عن تأكيد سمات خاصة من نحو (الرضى) و (التقى) و (المباركة) والعناية من قبل السماء بهذه الشخصيات وذريتها... هذه المفهومات نجد انعكاساتها على قصة موسى وما يليها من الحكايات التي تنظم سورة مريم، ممّا يفصح ذلك كله عن إحكام العمارة الفنية للسورة فيما نعنى بإبرازها في هذه الدراسة.
لقد وسم النص شخصية موسى بطابع (الإخلاص) إِنَّهُ كٰانَ مُخْلَصاً ،... كما وسمه بكونه قد نودي من جانب الطور وَ نٰادَيْنٰاهُ مِنْ جٰانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ ،... ووسمه بأنّه قد قرب إلى اللّه من خلال مناجاته وتكلمه وَ قَرَّبْنٰاهُ نَجِيًّا ...
هذه السمات - كما أشرنا - تظل مرتبطة لما لحظناه من السمات التي خلعها النص على شخصيات زكريا ومريم وابنيهما... كما أنّ الأقصوصة ختمت ذلك بقولها وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ نَبِيًّا... .
إن هذه الخاتمة تظل أيضا في مقدمة الرسم الذي طبع الأقاصيص المشار
ص: 90
إليها... حيث وهب اللّه يحيى لزكريّا وحيث وهب عيسى لمريم أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا وحيث وهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ .
إنّ هؤلاء الذين وهبهم اللّه لزكريا ومريم وإبراهيم: تطبعهم سمة (النبوّة) وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ نَبِيًّا : كل ما في الأمر أنّ الأبطال السابقين (يحيى، عيسى، إسحاق ويعقوب) يجسّدون (النبوّة) من حيث (الانتساب)، بينما يمثل هارون سمة (الإخوّة).
ومن البيّن أنّ جمالية البناء الهندسي لأيّ نص لا يقف عند الخطوط المتماثلة، بل يتجاوزه إلى خطوط التضاد أو التقابل أو التباين. لكن من خلال (الوحدة) التي تنتظم الخطوط، أو من خلال ما يسمى بخطوط (التباين) من خلال (التماثل)، والتماثل من خلال التباين. هنا في قصة موسى نلحظ (التباين) في قضية ما وهبه اللّه لموسى (وهو الأخ، أي هارون) مقابل (الولد) بالنسبة لغيره من شخوص القصص، ونلحظ (التماثل) وهو (ما وهبه اللّه لموسى) من خلال (التباين) بين الأخ والولد، وهذا هو ما نقصده من المصطلح الفني المذكور. مصطلح (التباين) من خلال (التماثل)، والتماثل من خلال التباين... وهو عنصر له أهميته في كل الأشكال الأدبية، قصة كانت أم غيرها.
إنّ أهمية ذلك تتمثل في أن المسوّغ لتقديم قصة جديدة أو شخصية جديدة هو: طرح فكرة جديدة مضافا لأفكار أخرى تضمنتها القصص أو الشخصيات السابقة... وهذا هو ما يجسّد أهمية (التباين).
أخيرا: لا بدّ أن يكون تقديم شخصية جديدة مثل (موسى) في سياق شخصيات إبراهيم وعيسى ويحيى ومريم وزكريا: مقرونا بطرح جديد وهو.
الشخصية التي تؤازره في تبليغ رسالة السماء (هارون) من حيث كونه (أخا)،
ص: 91
و هذا مفهوم (التباين) بين كونه اخا من جانب و مؤازرا لموسى في تبليغ الرسالة من جانب آخر.
وأمّا ما يفرض مفهوم (التماثل) فهو: ضرورة إخضاع السورة أو قصصها إلى فكرة عامة يستهدفها النص حتى تترك تأثيرها في المتلقّي، وإلاّ ينتفي مفهوم (الهدف) الذي تحوم السورة أو القصة عليه.
من هناك جاء (التماثل) بين مفهومات (الرحمة) و (الهبة) و (الإخلاص) منسحبا على كل الشخصيات. لا فارق في ذلك بين زكريا أو عيسى أو موسى أو غيرهم...
إذا، يظل المفهوم الفنّي الذاهب إلى فاعلية (التماثل) بين الظواهر من خلال (تباين) موضوعاتها، أو تباين الظواهر من خلال (تماثل) موضوعاتها... يظل هذا المفهوم الفني مطبوعا بفاعلية لها أهميتها في ميدان التأثير على المتلقي وتحقيق الغرض الفكري الذي تستهدفه القصة أو السورة، فضلا عن أنّ ذلك كله يشيع لدى المتلقي إحساسا بجمالية الأداء ما دام الإحساس بالجمال يمثل واحدا من الدوافع البشرية: كما هو واضح.
إذا: أمكننا أن نلحظ مدى إحكام البناء العمارى للعنصر القصصي في النص سواء أكان ذلك في نطاق القصة الواحدة أو جميعا، ثم صلة ذلك بالفكرة التي تحوم عليها السورة...
قال اللّه تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا، وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا، وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، وَ رَفَعْنٰاهُ مَكٰاناً عَلِيًّا ...
بهاتين الحكايتين عن شخصيتي إسماعيل وإدريس ينتهي العنصر
ص: 92
القصصي الذي استهلّت به سورة مريم و استغرقت تسع أقاصيص. زكريا، يحيى، مريم، عيسى، إبراهيم، إسحاق ويعقوب، موسى، إسماعيل، إدريس... حيث كانت أقاصيص زكريا ومريم وابنيهما تحومان على موضوع الإنجاب، وحيث كانت سائر الأقاصيص تحوم على موضوعات أخرى، إلاّ أنّها جميعا تحمل طابعا مشتركا من جانب وتستقل من جانب آخر.
ويعنينا الآن أن نقف مع أقصوصتي أو حكايتي إسماعيل وإدريس.
أمّا أقصوصة إسماعيل، فقد ارتبطت بعمارة النص في جملة من الخطوط: ذكره في الكتاب، نبوته، رسالته: حيث تشكّل هذه جميعا، الخطوط العامة لأبطالى القصص. ومنها: الرسم الأخير الذي ختمت به أقصوصته ونعني به: وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ...
إنّ هذه الخاتمة القصصية لشخصيّة إسماعيل (ونحن نتحدّث عن الهيكل الهندسي للسورة وأقاصيصها) ترتبط عضويا أولا بأهم سمة استهلّت بها السورة حيث طلب زكريا (ع) ذريّة مرضية عند اللّه وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ، وها هو إسماعيل يرسمه النص بهذه السمة وَ كٰانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا . ثانيا: سبق أن لحظنا أنّ عيسى (ع) كان قد أوضح خلالى تكلّمه في المهد إلى أنّ الله تعالى رفده بجملة من التوصيات، منها: وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا .
وها هو إسماعيل يرسمه اللّه بذات السمة، إلاّ أنّ ذلك من خلال توصيته لأهله وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ ...
والسرّ الفنّي لأن تجيء التوصية بهما (الصلاة والزكاة) إلى (الأهل) أن توصية عيسى تتضمّن - بنحو غير مباشر - التوصية بهما لجميع شخوص المصطفين، وأمّا توصية إسماعيل فتتضمّن دلالة أخرى هي: توصيل هذه التوصية إلى الأهل، نظرا لخطورتها من جانب، وكونها تعبيرا عن مسؤولية
ص: 93
الأولياء أو القوّامين حيال اُسرهم.
هنا، ينبغي أن نلحظ بأنّ الأقصوصة طرحت سمة خاصة أفردتها في رسم إسماعيل (ع) ووسمته بأنّه (صادق) الوعد وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ اَلْوَعْدِ ...
إنّ تخصيصه بهذه السمة يعني أنّ النص يستهدف التشدّد على أهمية (صدق الوعد) في ميدان السلوك، بصفة أن (الصدق) بشكل عام تعبير عن صدق الشخصية في تعاملها مع اللّه، كما أنّ الكذب على الاخرين يعني. كذب التعامل مع اللّه تعالى. من هنا جاءت التوصيات الإسلامية القائلة بأن (الكذب) أشدّ أنماط السلوك شذوذا، من نحو ما ورد من أنّ شر الشر هو تناول المسكر وإلى أنّ الكذب أشد شرا، ومن أنّ المؤمن قد يمارس أنماطا من الذنوب إلاّ أنّه لا (يكذب).
وامّا من حيث صلته ب (الوعد)، فإنّ ذلك قد ربطته بعض التوصيات الإسلامية بسمة (النفاق) الذي يعدّ قمة الشذوذ في السلوك، بصفته إظهارا مضادا لما تستبطنه الشخصية من النوايا.
المهم (من الوجهة الفنية) يظل طرح مفهوم (الصدق في الوعد) في سياق سمات عامة طبعت كل أقاصيص السورة: تعبيرا عن أهمية هذا النمط من السلوك.
أخيرا، يختم العنصر القصصي بحكاية أو أقصوصة عن شخصية إدريس (ع)... حيث يمكن ملاحظة الارتباط العضوي بين هذه (الحكاية) وسائر حكايات أو أقاصيص السورة. بنحو واضح.
تقول الحكاية أو الأقصوصة وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، وَ رَفَعْنٰاهُ مَكٰاناً عَلِيًّا ...
ص: 94
إنّ كلا من (اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ ) و (التصديق) و (النبوّة) تظل سمات طبعت غالبية الشخوص الذين وقفنا على ملامحهم في أقاصيص سابقة.
كما أنّ رفعه (ع) مكانا عليّا، يظل حاملا طابعا فنيّا مزدوجا من حيث الخصوصية في السمة من جانب ومن حيث الاشتراك مع سمات الشخوص القصصية الأخرى من جانب... فعملية (الرفع) تشير إلى الموقع المتميز لكل شخوص الأقاصيص حيث جاءت سمات (المباركة) و (التقريب) و (الحفاوة) و (الرضى) و (الرحمة) والتفرّد في التسمية: طوابع متميّزة بالنسبة للشخوص المذكورين: وحيث تجيء سمة وَ رَفَعْنٰاهُ مَكٰاناً عَلِيًّا متجانسة مع الطوابع المذكورة من حيث (التميّز)... إلاّ أنّها في الحين ذاته تحمل طابعا خاصا بإدريس (ع) حيث تشير النصوص المفسرة إلى أكثر من وجهة نظر في تحديد دلالة هذا الموقع لإدريس. وسواء أكانت دلالة (رَفَعْنٰاهُ مَكٰاناً عَلِيًّا) تعني:
الرفع إلى السماء كما رفع عيسى مثلا، أو موقعه في إحدى السماوات، أو الرفعة المعنوية، ففي الحالات جميعا ثمة (تميّز) خصّ به إدريس (ع) في الآن ذاته، في سمات عامة أشرنا إليها في حينه.
قال اللّه تعالى: أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ .... فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ شَيْئاً، جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ عِبٰادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كٰانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً إِلاّٰ سَلاٰماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا... .
هذا المقطع من سورة مريم يجيء بعد أن تقدّمه عنصر قصصيّ واستهلّت السورة به وأفكار طرحتها أقاصيص السورة تجد لها منعكسات متنوعة على القسم المتبقّي من السورة: حيث يعقب النّص القرآني على ذلك وفق مفهومي
ص: 95
(الرحمة) من اللّه، و سلوك العبد إيجابيا أو سلبيا، و ترتيب الجزاءات على ذلك، أي: يجيء التعقيب حائما على نفس المفهومات التي طرحتها الأقاصيص.
ففي المقطع الذي نتحدّث عنه، يقول النص: إنّ الشخصيات التي أبرزتها الأقاصيص، قد أنعم اللّه عليها بالرحمة واستجابوا له بالطاعة. أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْرٰائِيلَ ... . لكن: هؤلاء الذي استجابوا للّه تعالى بالطاعة، قابلهم نمط آخر جاء خلفا لهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ ... .
هنا، ينبغي أن نقف عند هذه الدلالة الفكرية التي طرحها المقطع، من حيث مادتها: نجد أنّ المقطع أشار إلى أنّ النبيّين الذين تقدم الحديث عنهم هم من ذرية آدم، وممّن حمل مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل.
ترى، ما هي الدلالات الفنيّة لهذ الأفكار؟؟ يجب أن نتذكر أولا أن سورة مريم بدأت بالحديث عن زكريا وطلبه ذرية مرضيّة... هذا يعني أن مفهوم (الذريّة) يحمل دلالة في استمرارية العمل العبادي الذي أوكلته السماء إلى الآدميين... لا غرابة - إذا - إذا ما ربط النص بين شخصيات آدم، نوح، إبراهيم وبين ذرياتهم... أمّا المسوّغ الفني لذرية آدم فلأنّه (ع) في تصورنا فنيّا أب للبشر... وأمّا المسوّغ الفنّي لقوله تعالى وَ مِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ فلأنّ ذرية آدم (ع) قد أبيدت خلال حادثة الطوفان، عدا من حمل مع نوح.
وأمّا المسوّغ الفنّي لقوله تعالى وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ فلأنّه أب للحنيفيّة التي شكّلت امتدادا لما يليها وهو الإسلام، الذي أقرّ المبادىء التي انطوت عليها. وأما ذرية إسرائيل فلأنّ موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى
ص: 96
يجسّدون اهم شخصيّاتها... بيد أن الملاحظ أن النص عقّب بعد ذلك، قائلا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ ... ... ترى هل ثمة صلة بين ما ذكره بعض المفسرين من أنّ الخلف الضالّ الذي أعقب أولئك النبيين، هم: «اليهود»؟؟ لا نستبعد ذلك، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ اليهود جسّدوا خلال مختلف أطوار التأريخ قديما وحديثا أحط مستويات السلوك وأشدها إيذاء للإنسانية... بيد أن ذلك لا يتنافى مع الذهاب إلى مطلق المنحرفين أيضا: ما دام الانحراف يشكّل غالبية المجتمع البشري: كما هو واضح.
وأيّا كان، فالملاحظ أيضا أنّ المقطع ركّز خلال ذلك على مفهوم (الصلاة) حيث لحظنا تركيزا سابقا عليه قد تضمنّته قصتا عيسى وإسماعيل فيما كانت التوصية لعيسى وهو يتكلم في المهد وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ ... وفيما كان إسماعيل (يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاٰةِ ) ... وهذا كله يكشف عن التلاحم العضوي بين جزئيات السورة التي تنتظمها عمارة فنيّة تتلاقى خطوطها بعضا مع الآخر... مضافا إلى أن هذا البناء الهندسي مرتبط بطرحه دلالات يستهدفها النص مثل دلالة (الصلاة) التي وردت نصوص التفسير حيالها من أنّ المقصود بذلك هو. تأخيرها عن مواقيتها التي ندب اللّه إليها.
هنا، بعد أن قارن النص بين أولياء اللّه الذين شملتهم رحمته، وبين الخلف الذين تمردوا على أوامر اللّه تعالى، وصلته بالجزاءات المترتبة على كل من الأولياء والمنحرفين، وهي جزاءات سبق أن أشار النص إليها في العنصر القصصي، وأعاد الحديث عنها الآن، ولكن وفق تفصيل لما أجملته القصص... حيث نلحظ في هذا التفصيل حقائق جديدة يستهدفها النص...
فمثلا حينما تحدث المقطع عن الجزاء الإيجابي وهو (الجنّة) طرح خلال ذلك جملة من المفاهيم، منها:
ص: 97
لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً إِلاّٰ سَلاٰماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا . إنّ كلا من المسالمة أو السلام ثم الرزق. ذو دلالة مهمة في ميدان السلوك الذى تحياه البشرية... ففي تصورنا أنّ المقطع القرآني الكريم حينما يتحدّث عن (الجنّة) وإلى أنّه لا يسمع فيها اللغو بل السلام، إنّما يجعلنا - نحن القرّاء - نتداعى بأذهاننا الى تعديل السلوك دنيويا، بمعنى أن المتلقّي سوف يستخلص - من خلال الطريفة الفنيّة غير المباشرة - أنّ (اللغو) ممارسة مبغوضة وإلى أنّها تعبير عن نزعة عدوانية أو خواء نفسيّ ، وإلى أنّ الشخصية الإسلاميّة ينبغي أن تتقابل بسلام مع المؤمنين.
و أمّا مفهوم (الرزق) الذى ورد في السياق المتقدم إِلاّٰ سَلاٰماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا فمن الممكن أيضا أن نستخلص منه دنيويا: طريقة التنظيم للطعام. بصفته حاجة لا مناص من إشباعها لاستمرارية العمل العبادي في الحياة الدنيا، حيث ورد عن الإمام (ع) من أن تناول الطعام من المستحسن أن يتم في وجبتين فحسب. في الغداة والعشي مستشهدا في ذلك بالآية الكريمة المتقدمة. إنّ استشهاده (ع) بالآية وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا عبر نقله بيئة (البرزخ) إلى بيئة (الحياة) يفصح عن أهمية مثل هذا التنظيم للحاجة الحيوية المذكورة، نظرا لانعكاساتها - ليس في نطاق الصحة الجسمية فحسب - بل تجاوز ذلك إلى الصحة النفسية، بل إلى الصحة الروحية، أى (العبادية) أيضا... حيث نعرف جميعا بأن تأجيل شهوة الطعام. من خلال تقليله ينسحب على صفاء النفس وتصاعدها، بالنحو الذى تشير إليه مختلف التوصيات الإسلامية في هذا الصدد.
قال الله تعالى. رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا، فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبٰادَتِهِ ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا .
ص: 98
هذا المقطع أو الآية من سورة مريم يشكّل ظاهرة (فكرية) لها خطورتها في ميدان العمل العبادى، أي: ممارسة الوظيفة الخلافية للإنسان من حيث ارتباطها أساسا بالتعامل مع اللّه...
إن سورة مريم التي استهلّت بمجموعة من قصص زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس إلخ، إنّما حامت على كون هؤلاء الأشخاص المصطفين. نموذجا للعمل العبادي الجاد، لقد وهبهما الله من (رحمته) ما جعلهم موضع إعجاز لكل حاجاتهم التي توجّهوا بها إلى الله تعالى فمنحهم ذريّة طيّبة لا تعنى إلاّ بالتعامل مع اللّه تعالى.
وها هو النص يطالبنا بأن نعنى بالتعامل مع اللّه تعالى بنحو جاد بحيث يشدّد على ظاهرة التعامل بهذه العبارة: وَ اِصْطَبِرْ لِعِبٰادَتِهِ ثم يعلّل ذلك بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ... وقبل ذلك وسم سبحانه و تعالى ذاته بأنّه رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا .
إن مجرّد كونه ربا للسماوات والأرض وما بينهما، يستتلي نمطا عباديا جادا هو قوله تعالى وَ اِصْطَبِرْ لِعِبٰادَتِهِ ، كما أن كونه تعالى لا سمّي له، أي لا نظير له في الوجود الذي نحياه ونتحسّسه يظل تفسيرا لدلالة أن نصطبر لعبادته.
والآن، خارجا عن هذا المبنى الهندسي للآية، ينبغي أن نعي دلالة العبارة المذكورة وَ اِصْطَبِرْ لِعِبٰادَتِهِ ...
إنّ التركيبة الإنسانية تقوم أساسا على التجاذب بين عنصر (الخير والشر) أو (العقل والشهوة)، ولا بدّ من حيث تغليب العنصر الأول (الخير) من مكابدة الشدائد وتحمّل ما يواكب ذلك من جهد يتطلّبه العمل الخير. إنّ الاصطبار على نمطين: صبر على الطاعة وصبر عن المعصية. تبعا للتوصيات الإسلامية... كما أنّ الطاعة (عباديا) قد تتمثّل في ممارسات من نحو.
صلاة، صوم، حج إلخ، وقد تتمثّل في ممارسات اجتماعية من نحو: الجهاد،
ص: 99
المساعدة، الإصلاح إلخ... و المهم في الحالتين ثمة (جهد) لا بدّ من التوفّر عليه: مصحوبا بالشدة التي تتطلبها الممارسة العبادية واستمراريتها، وهي شدّة لا يمكن مقايستها بما تفرضه طبيعة وعينا بعظمة الله رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وبتفرده في العظمة المذكورة هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا .
بعد هذا المقطع يتقدّم النص القرآني الكريم إلى عرض نماذج بشريّة منحرفة فاقدة لأبسط متطلبات الوعي بحقيقة اللّه تعالى... من نحو النموذج الاي وَ يَقُولُ اَلْإِنْسٰانُ : أَ إِذٰا مٰا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟ و يجيبه الله تعالى: أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ...
هنا ينبغي أن نتذكر بأنّ سورة مريم بدأت بقصص زكريا ومريم وابنيهما:
حيث كان الأوّل قد بلغ من الكبر عتيا وكانت امرأته عاقرا، فأنجبا يحيى (ع)، وحيث أنجبت مريم عيسى بدون فحل، وحيث تساءل كل منهما. أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وحيث أجاب اللّه زكريا قٰالَ رَبُّكَ : هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً .
هنا، تتكرر هذه الإجابة حيال القائل أَ إِذٰا مٰا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا يتكرّر نفس الإجابة بقوله تعالى أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ... إلاّ أنّ الفارق بين الأشخاص المصطفين مثل (زكريا) والأشخاص المنحرفين هو: أنّ زكريا (ع) وغيره من المصطفين حينما يقرّون بعظمة اللّه تعالى في صوغه للقوانين الكونية من خلق وإحياء، إنّما يتساءلون عن إعجاز خاص قد شملهم اللّه إيّاهم حينما جعلهم خارجا عن القوانين العامة للإعجاز، ولذلك أجابهم تعالى بأنّ تجاوزه حتى للقوانين العامة إنّما يستند إلى مفهوم (القدرة المطلقة) ومنها: خلقهم أساسا ولم يكونوا من قبل شيئا.
أمّا بالنسبة للمنحرفين فإنّ إجابته تعالى تحوم على (القدرة المطلقة) أيضا لكن من خلال إنكارهم أو تغافلهم عن هذه القدرة المطلقة.
ص: 100
إذا، ثمة فارق بين الموقفين... بيد إنّ ما نعتزم لفت الانتباه عليه هو: عمارة السورة الكريمة، أي البناء الهندسي لها حيث ربط النصّ بين موضوعات متباينة من خلال صبّها في (وحدة فكرية) هي قوله تعالى عن الإنسان أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً وقوله عن زكريا حينما ولد له يحيى وهو قد بلغ من الكبر عتيّا وكانت امرأته عاقرا، قوله نفس المفهوم وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً .
إذا، للمرة الجديدة، إنّ المفهوم القائل (بأنّ اللّه خلق الإنسان ولم يكن شيئا) هو (الوحدة الفكرية) التي تنتظم عمارة السورة القرآنية الكريمة، وتهبها جمالية فائقة في جعل التعبير فنّيا.
قال اللّه تعالى: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا، وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثٰاثاً وَ رِءْياً، قُلْ مَنْ كٰانَ فِي اَلضَّلاٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ مَدًّا حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذٰابَ وَ إِمَّا اَلسّٰاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ...
هذا المقطع من السورة، يظل مرتبطا بالأفكار العامة التي طرحتها السورة، ومنها: رحمة اللّه تعالى لعباده.
هنا، يطرح المقطع نموذجا مضادا لعباده المصطفين، أي: يرسم سلوك الشخوص المنحرفين: ثم ما يترتب على سلوكهم من جزاء مضاد للجزاء الدنيوي والأخروي اللذين يمنحهما الله للمصطفين.
الشخوص المؤمنة يمنحها اللّه رعاية دنيوية من نحو ما لحظناه من إجابة لطلبات زكريا ومريم وسائر المخلصين (فضلا عن الجزاء الأخروي)... وأمّا
ص: 101
الشخوص المنحرفة، فيخاطبهم اللّه بهذا النحو قُلْ مَنْ كٰانَ فِي اَلضَّلاٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ مَدًّا ... معنى هذا، أنّ اللّه يمدّ هؤلاء المنحرفين بما يخيّل إليهم أنّه في صالحهم وهو المتاع الدنيوي من موقع اجتماعي أو أموال ونحوها... أولئك (أي الشخوص المؤمنة) يمدّها اللّه تعالى بما يحقق لها إشباعا روحيا مثل: التقى، والرضى، والمباركة، والصلاة، والزكاة ونحو ذلك مما يهبه اللّه لزكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وموسى وإدريس... وأمّا المنحرفون فيمدهم - عكس ذلك - يمدّهم بمزيد من العمر الضال، ليزدادوا إثما.
سرّ ذلك (من زاوية البناء الهندسي للسورة) أنّ هؤلاء المنحرفين عندما يطالبهم الرسول (ص) بالاستجابة لرسالة السماء، يجيبون قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا .
لنلاحظ، أنّ المنحرف يتباهى مدلّا بالموقع الاجتماعي الذي يحتله بالقياس إلى المؤمنين الذين استجابوا لرسالة الإسلام فيما لا يعنيهم الموقع الاجتماعي بقدر ما يعنيهم أن يستجيبوا لرسالة الحق...
طبيعيا، لا نتوقع من الشخوص الذين يتباهون بمواقعهم أو بأموالهم: أن يصدروا عن أي فكر سويّ بقدر ما يمكن أن نحكم عليهم بأنّهم مجموعة من المرضى المصابين بالاضطراب النفسي: حيث يحاولون بهذا التباهي أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا أن يخففوا من توتّراتهم الداخلية التي يكرهونها، معوضين عن ذلك بهذا النحو من المشاعر الباحثة عن التفوق والتعالي بموقع مالي أو اجتماعي، مثل ضخامة الثروة والمسكن والعقار ونحو ذلك.
المهم، أنّ المقطع القرآني الكريم حينما يقول لهم: فلنمدّ لكم من هذا المتاع الدنيوي بما تشاؤون. إنّما يذكّرنا بما قاله على نحو مضاد لأولئك
ص: 102
المصطفين من عباده الذين أمدهم بدريّة طيبة بل حتى بالإشباع الدنيوي الطيّب من نحو ما لحظناه (في قصة مريم) التي أمدها بالرزق: من تفجير للنهر، وإثمار للجذع، وسائر متطلبات الإشباع.
إذا، (من الزاوية الهندسية لعمارة السورة) نلحظ هذا التقابل بين ما يمدّه الله للمؤمنين من إشباع خيّر مقابل ما يمدّه للمنحرفين من إشباع عابر يعقبه عذاب دنيوي وأخروي على هذا النحو الذي يقرره المقطع:
حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذٰابَ وَ إِمَّا اَلسّٰاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ...
ففي هذا التقرير: مقابلة فنيّة بين الموقع الاجتماعي الذي يتباهى المنحرفون به حيال المؤمنين (هو موقع يخيّل إليهم إنّه) خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ، وبين نتائج هذا التباهي عندما يواجه المنحرفون عذابا لاحقا هو: إمّا العذاب الدنيوي العاجل وإمّا العذاب الأخروي إِمَّا اَلْعَذٰابَ وَ إِمَّا اَلسّٰاعَةَ ، وعندئذ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً .
لننظر، للمرة الجديدة إلى هذا التقابل الهندسي بين قول المنحرفين أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا وبين المصير الذي سيواجهونه عبر قوله تعالى: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ، حيث قابل اللّه تعالى بين (الموقع الدنيوي) الذي يحتله المنحرفون (خيرا) وبين المقام الأخروي الذي وصفه الله (شرا) لهم، وحيث قابل جند المؤمنين الذين استجابوا لرسالة اللّه تعالى فيما عيّرهم المنحرفون بأنّهم لا أهمية لهم وبين كونهم في اليوم الآخر (جندا) لهم موقعهم الذي يقترن بما هو خير لهم... لذلك، نجد أنّ النص يختم حديثه عن هذا الجانب بتأكيد جديد على المصائر الإيجابية للمؤمنين وعلى الهداية أو الإمداد الخيّر لهم،
حيث يقول تعالى وَ يَزِيدُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً ، وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا ...
ص: 103
هذا التأكيد، يمثّل (من حيث بناء السورة) ما سبق أن قرّره النص من أنّ اللّه يمدّ المؤمنين برعايته دنيويا وأخرويا.
قال اللّه تعالى: أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيٰاتِنٰا وَ قٰالَ لَأُوتَيَنَّ مٰالاً وَ وَلَداً، أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمٰنِ عَهْداً، كَلاّٰ سَنَكْتُبُ مٰا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذٰابِ مَدًّا، وَ نَرِثُهُ مٰا يَقُولُ وَ يَأْتِينٰا فَرْداً .
هذا المقطع من سورة مريم يتحدّث عن شخصية منحرفة قد تكون (نموذجا) أو رمزا فنيّا لمطلق المنحرفين الذين بهرتهم زينة الحياة الدنيا، فشغلوا بأموالهم ومواقعهم عن إدراك المهمة العبادية للإنسان...
إنّ المقطع يتحدث عن شخصية هزيلة فقدت فاعلية الإدراك السليم للظواهر، فاتجهت إلى السخرية - كما تقول النصوص المفسرة - من اليوم الآخر: عبر حادثة تتصل بأداء الحقوق المالية...
ما يعنينا من هذه الحادثة: فكريا وفنيّا هو: صلتها أولا بعمارة السورة الكريمة التي عرضت لنا مجموعة أقاصيص عن المصطفين وكيفية تعاملهم مع اللّه تعالى وتعامله تعالى حيال ذلك، حيث كان مفهوم (إمدادهم) بالرحمة إلى درجة تجاوزت القوانين الكونية التي رسمها اللّه على نحو الثبات، مقابل إخلاصهم العبادي.
هنا في هذه الحكاية التي أبهمها النص، أي: أبهم هوية الشخصية المنحرفة نواجه نموذجا مضادا تماما للنماذج القصصية المشار إليها... حيث نواجه مفهوم (الإمداد) مضادا لمفهومه حيال النماذج الإيجابية... هناك: في قصص زكريا ومريم ويحيى الخ... كان (الإمداد) رحمة لعباده تعالى...
وأما هنا فالإمداد على هذا النحو الذى تسرده الأقصوصة: سَنَكْتُبُ مٰا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذٰابِ مَدًّا .
ص: 104
هذا المدّ من العذاب يجيء متجانسا مع سلوك الشخصية المنحرفة المشار إليها، إنّها تسخر فتقول لَأُوتَيَنَّ مٰالاً وَ وَلَداً في اليوم الآخر،...
ويجيبها النص وَ نَرِثُهُ مٰا يَقُولُ وَ يَأْتِينٰا فَرْداً ...
والآن إذا عدنا إلى النصوص المفسرة التي تقرّر بأنّ الشخصية المنحرفة المشار إليها قد طولبت بأداء حقوق مالية عليها لأحد الأشخاص، وإجابتها الشخص بأنّها ستؤدي الحقوق في ذلك اليوم سخرية منها... حينئذ يمكننا (من الزاوية الفنيّة) أن نتبيّن هيكل هذه الأقصوصة وتجانس خطوطها بعضا مع الآخر من جانب، وصلتها بالأقاصيص التي عرضتها السورة الكريمة عن الشخصيات الإيجابية من جانب آخر.
إن أقصى ما يعنى به المنحرفون عن مبادىء اللّه هو: المال والبنون بصفتهما تعبيرا آليا عن الموقع الاقتصادي والاجتماعي الذي ينبهر به مرضى النفوس.
وقد سبق أن لحظنا في مقطع متقدم أن المنحرفين يتباهون بأمثلة هذا الموقع الاقتصادي والاجتماعي مقابل المؤمنين حيث يتحاورون على هذا النحو. قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ...
هذا التحاور الجمعي قدّم له النص نموذجا فرديا من خلال الأقصوصة التي أشرنا إليها كاشفا لنا من خلالها طبيعة الانحطاط الذهني عند المنحرفين من جانب، وطبيعة تعاملهم مع الموقع الاجتماعي والاقتصادي من جانب آخر... فهم (أي: الشخصيات المنحرفة) يتباهون بهذا الموقع إلى الدرجة التي تغلق نفوسهم عن إدراك ما وراء الوجود تماما... كما أنّهم نتيجة لهذا الحرص على تملّك الزخارف الدنيوية يتعاملون مع الآخرين بنحو يعزلهم حتى عن صعيد بشريّتهم بحيث نجد أنّ الشخصية المنحرفة المذكورة (وهي مدينة
ص: 105
ماليا لأحد الأشخاص) ترفض أداء الحقوق المالية، متوسلة من خلال ذلك بأكثر من أسلوب مرضيّ في هذا التعامل، فهي من جانب تتستّر بالسخرية من اليوم الآخر، تخلصا من أداء الحقوق وهو أسلوب لا واع للاحتفاظ بالمال، كما أنّها من جانب آخر تتغافل وتتعامى حقيقة عن إدراك مسؤوليات اليوم الآخر في غمرة اهتمامها بهذا المال العابر...
إن أمثلة هذه الآليات أو ما يسمّى - في اللغة النفسية - باليات الدفاع اللاواعي، تجسّد مدى اضطراب الشخصيات المنحرفة عن مباديء اللّه، وإلى اهتمامها المرضي بالشهوات ومحاولة إشباعها بأيّ ثمن كان حتى ليصل الأمر إلى أن تتغافل عن التنبؤ بمستقبلها وإلى أن تتمزق حتى في علاقاتها الدنيوية بحيث تبتزّ حقوق الآخرين وتحاول إنكار ذلك من خلال الآليات أو الفعاليّات الشاذة التي أشرنا إليها.
وأيّا كان، فإنّ هذه الأقصوصة أو الحكاية القصيرة تجسّد - في تصورنا الفني - مبنى عماريا مقابل الأقاصيص التي استهلّت بها سورة مريم، لتبين من خلال هذا الهيكل الفنّي مدى الفرق بين الشخصية المؤمنة والشخصية المنحرفة: من حيث الإمداد الغيبي الذي يهبه الله تعالى لكل منهما. حسب نمط التعامل الذي يصدر عند الشخص.
قال الله تعالى: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلاّٰ سَيَكْفُرُونَ بِعِبٰادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، أَ لَمْ تَرَ أَنّٰا أَرْسَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، فَلاٰ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمٰا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا .
بهذا المقطع وبما بعده تختم سورة مريم التي بدأت بعنصر قصصى يتحدّث عن رحمة اللّه عبده زكريا وسائر عباده المخلصين... وبالمقابل جاءت خاتمة السورة لتشير إلى أنّ المنحرفين عن مبادىء اللّه سوف لن تشملهم الرحمة
ص: 106
المذكورة، بل على الضد من ذلك: سوف يتركون على نحو يتعرّضون من خلاله إلى دعم الشياطين وجرّهم في النهاية إلى أشد العذاب.
كم هو الفارق بين ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا التي استهلّت بها سورة مريم، وبين أَنّٰا أَرْسَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ... إنّ هذا التقابل الهندسي بين بداية السورة وخاتمتها تكشف (ليس عن جمالية البناء العماري وإحكامه فحسب) بل عن مدى الفارق بين الانتماء للّه تعالى والانسلاخ عنه تعالى، كم هو الفارق بين (الرحمة) التي تشيع الأمن والتوازن في النفس الإنسانية، وبين تسليط الأفكار الشريرة من قبل الشيطان تؤز المنحرف أزّا، أي تغريه وتغويه وتمزّقه بنثر الأفكار الشريرة في أعماقه.
وقد جسّد المقطع هذا التمزق الداخلي للمنحرف عبر البيئة الأخروية أيضا حيث ينقلنا المقطع إلى البيئة المذكورة، موضحا كيفية الاستجابة الصادرة عن الأوثان التي منحوها الودّ من خلال أولئك الشياطين الذين زينوا للمنحرف سلوكه:
وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلاّٰ سَيَكْفُرُونَ بِعِبٰادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ...
إنّ هذا الرسم يوضح لنا أكثر من دلالة... منها أنّ السلوك الوثني (ومثله سائر أنماط السلوك الذي يشرك الإنسان من خلاله ما هو للّه تعالى مع ما هو لسواه: مثل جلب رضا الآخرين مثلا) إنّما يبحث عن موقع اجتماعي (العزّ)، وهو موقع دنيويّ أساسا بخاصة إذا تذكرنا أنّ المنحرف حسب ما رسمته مقاطع سابقة من السورة إنّما يبحث عن موقع مالي واجتماعي يستاقه إلى أن يبتعد عن مبادىء اللّه... وهذا الموقع الاجتماعي ذاته يستهوي المنحرف الذي يشرك مع اللّه: أوثانا لا فاعلية لها.
ص: 107
المقطع القرآني الكريم، يوضّح لأمثلة هؤلاء الحمقى أنّ الأوثان أو الأشخاص أو سائر ما يشركه المنحرف في أعماله مع اللّه تعالى: سوف تكفر بعبادة المنحرف نفسه، وستقف على الضد من سلوكه الذي انتخبه في حياته الدنيا كَلاّٰ سَيَكْفُرُونَ بِعِبٰادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ...
لا شك، أنّ الموقف المضادّ الذي تقفه هذه القوى المختلفة التي منحها المنحرف كلّ اهتمامه، هذا الموقف المضاد سوف يساهم مساهمة كبيرة في تمزيق الشخصية وجعلها تعاني أشد الأشكال مرارة في النفس...
أخيرا، يختم النص رسمه لهذا الجانب بالتذكير من جديد برحمة اللّه لعباده، وبالجزاء الأخروي، وبلفت الانتباه على ضرورة أخذ العظة من مصائر الأقوام البائدة التي لم يبق لها أثر في الحياة، ملخصا لهذا التذكير جميع الدلالات الفكرية التي طرحتها سورة مريم: بدء من العنصر القصصي الذي تحدّث عن المصطفين من عباد اللّه، وانتهاء بالرسم الذي قدّمه عن المنحرفين، حيث يمكن ملاحظة حصيلة ذلك في هذا المقطع الذي اختتمت السورة به، ولنقرأ:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصٰاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا، وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَرْداً، إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمٰنُ وُدًّا، فَإِنَّمٰا يَسَّرْنٰاهُ بِلِسٰانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا، وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ...
إنّ هذه الخاتمة - كما قلنا - تلخّص لنا جميع الأفكار التي طرحتها سورة مريم: حيث أشارت الخاتمة إلى (الود) الذي يمنحه اللّه للمتقين، وهو نفس (الرحمة) التي استهلّت بها السورة في قوله تعالى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا ، كما أشارت الخاتمة إلى المنحرفين أيضا، وإلى مصائرهم الدنيوية،
ص: 108
فضلا عن المصائر الأخروية، مذكّرة المتلقّي بضرورة الاعتبار بأمثلة هذه المصائر، كل أولئك من خلال هيكل عماري تتلاحم جزئياته بعضا مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
ص: 109
ص: 110
ص: 111
ص: 112
قال اللّه تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ ، طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ إِلاّٰ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ ، تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمٰاوٰاتِ اَلْعُلىٰ ، اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ ، لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ مٰا تَحْتَ اَلثَّرىٰ ، وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ ، اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ ، وَ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ ....
هذا هو المقطع الأول من سورة طه، حيث يتضمّن (تمهيدا) سوف تنعكس موضوعاته على السورة الكريمة، وفي مقدمة ذلك. العنصر القصصيّ الذي يتناول الحياة الطولية لشخصية موسى (ع).
يتضمّن (التمهيد) أفكارا متنوعة، منها: أنّ مبادىء القرآن لم تصغ لشقاء الشخص، بل إنّها عملية تذكير لمن يخشى الله تعالى، ومنها: إبداع اللّه تعالى للأرض والسّماء وما بينهما وما تحت الثرى، ومنها: استواء اللّه تعالى على العرش، ومنها: معرفة الله تعالى بأسرار الشخص وما هو أخفى من ذلك...
ومنها: توحيد اللّه تعالى وامتلاكه للأسماء الحسنى.
هذه الظواهر الفكرية - كما قلنا -، سوف تنعكس أصداؤها على موضوعات السورة الكريمة التي بدأت بالحديث عن شخصية موسى (ع)...
وَ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ إِذْ رَأىٰ نٰاراً، فَقٰالَ لِأَهْلِهِ : اُمْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهٰا بِقَبَسٍ ، أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنّٰارِ هُدىً ، فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ : يٰا مُوسىٰ ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ، إِنَّكَ بِالْوٰادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ، وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمٰا يُوحىٰ ، إِنَّنِي أَنَا اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي، إِنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ أَكٰادُ أُخْفِيهٰا لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا تَسْعىٰ ، فَلاٰ يَصُدَّنَّكَ عَنْهٰا مَنْ لاٰ يُؤْمِنُ بِهٰا،
ص: 113
وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ ، فَتَرْدىٰ ... .
هذا القسم من القصة، يظلّ صدى لما تضمّنه (التمهيد) من فكر متنوعة أشرنا إليها، كما يتضمّن فكرا أخرى طرحها النص ضمن رسمه لشخصية موسى... لقد جاء في التمهيد اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ ، وجاء في القصة إِنَّنِي أَنَا اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا ... جاء في التمهيد فَلاٰ يَصُدَّنَّكَ عَنْهٰا مَنْ لاٰ يُؤْمِنُ بِهٰا، وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ ، فالمطالبة بتوحيد اللّه تعالى، وعبادته، والخشية منه تظلّ فكرا مشتركة بين التمهيد والعنصر القصصي، والمهم - بعد ذلك - أنّ القصّة تقطع رحلة طويلة من حياة موسى ليطرح خلالها أفكارا متنوعة، يتعيّن الوقوف عندها، لملاحظتها من جانب، وملاحظة ارتباطها بمقدمة السورة أو بفكرتها التي تحوم عليها من جانب آخر... إنّ أوّل ما يواجهنا من القصة هو، تساؤل النص وَ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ ، وبكلمة جديدة: ما هي علاقة قصة موسى (ع) بقضية محمد (ص)؟. في تصوّرنا فنيّا: أنّ قصة موسى بدأت تتحدّث عن مقطع خاص من حياته هو. بحثه عن الدفء لامرأته، ثم المفاجأة بنزول الرسالة عليه، علما بأنّ القصة تناولت بعد ذلك مراحل سابقة من حياته:
منذ أن ألقي في البحر عند ولادته، مرورا برجوعه إلى أمّه، وانتهاء بسكناه في مدين... هذا يعني أنّ قضية البحث عن الدفء واستتباعها لنزول الرسالة أو التكليم، لا بدّ أن تكون ذات صلة بمقدمة السورة التي تخاطب الرسول (ص) مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ ... لقد كان موسى في صدد البحث عن الدفء، ولكنّه فوجىء بالتكليم وهو أعظم معطى عباديّ للشخص، وإذا أخذنا بالتفسير القائل بأنّ مشركي العرب كانوا يقولون عن محمد (ص) بأنه قد تعرّض للشقاء بسبب نزول القرآن عليه، حينئذ فإنّ الجواب بأنّ نزول القرآن هو تذكرة أو هو معطى دنيوي وأخروي، يظل متجانسا مع قصة موسى حيث اقترن بحثه عن الدفء بالتكليم من جانب، وحيث جاء تكليفه بالرسالة عصرئذ متجانسا مع تكليف النبيّ (ص) برسالة الإسلام من جانب آخر، وسنرى عند متابعتنا
ص: 114
للقصة كيف أنّ التماثل بين المقدمة و القصة مستوياته اللافتة للنظر، فيما تفصح - دون أدنى شك - عن الإحكام الهندسيّ الفائق للنص القرآني الكريم، بالنحو الذي نفصّل الحديث عنه لاحقا إن شاء اللّه.
قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبٰادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لاٰ تَخٰافُ دَرَكاً وَ لاٰ تَخْشىٰ ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مٰا غَشِيَهُمْ ، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مٰا هَدىٰ ، يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ ، كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ ، وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ... (طه: 77).
بهذا المقطع من قصة موسى (ع)، يبدأ عرض قصصيّ لحياة موسى يتناول مرحلة ما بعد فرعون، حيث كان العرض القصصي السابق يتناول حياته: منذ الولادة، وحتى مواجهته لفرعون وما ترتّب على ذلك من انتصاره عليه في قضية السحرة، ثم في قضية غرق فرعون وقومه في البحر، حيث تشكّل هذه الحادثة - حادثة الغرق - وصلا فنيّا بين عهدين أو مرحلتين: مرحلة علاقة موسى مع فرعون ومرحلة علاقته مع الإسرائيليين... لقد عقّب النص القصصيّ على حادثة غرق فرعون وقومه، بقوله تعالى: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مٰا هَدىٰ ، ثم بدأ بعرض مرحلة جديدة هي علاقة موسى بالإسرائيليين، فقال تعالى: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ... ... هذان التعقيبان (أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ) و (يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ ...) ينطويان على دلالات فكرية وفنيّة كبيرة. من حيث انعكاساتهما على الهيكل العماري للقصة. لقد انتصر موسى على فرعون الذي سيطر على مجتمعه من خلال القوة والتضليل، وكانت حادثة انقلاب السحرة على فرعون أهم معلم لهذا الانتصار، كما كانت
ص: 115
أوضح نموذج لعملية التضليل التي مارسها فرعون حيال قومه... من هنا جاء التعقيب بأنّ فرعون قد أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مٰا هَدىٰ بخاصة: أنّ التضليل قد انكشف من قبل قومه أنفسهم من جانب، وأتبع بانتصار عسكري (من خلال عملية الغرق) من جانب آخر.
أقول، جاء مثل هذا التعقيب نموذجا بيّنا للكشف عن المصائر التي ينتهي إليها المنحرفون (فرعون و قومه)... بيد أنّ الإسرائيليين - وقد أنقذهم اللّه تعالى من فرعون وقومه - لا يزالون (من خلال المنطق الفنّي للقصة) عرضة لتجربة تبدو أنها مماثلة لتجربة فرعون وقومه... نفهم هذا، من خلال التعقيب القائل يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ ، كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ ، وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ... إنّ العبارات الأخيرة لهذا التعقيب، ونعني بها وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ... هذه العبارات ذات مغزى فنيّ كبير (في اللغة القصصية) حيث أنّها تمهّد للقارىء أو المستمع مناخا ذهنيا خاصا لأن يتوقع حدوث مفارقات ضخمة في سلوك الإسرائيليين، بدليل أنّ العبارات المذكورة تحذّر من طغيان الإسرائيليين وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ ، كما تحذّر من المصائر الكسيحة التي تنتظر هؤلاء الطغاة مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ إن هذه التعقيبات فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ليس مجرّد كلام ينطوي على التحذير أو الإرشاد، بل هي عبارات هادفة، رامزة، تلقي بإناراتها الفخمة على مستقبل الأحداث والمواقف التي تنظّم حركة القصة، إنها ترهص - كما سنرى فعلا - بحدوث مفارقات في سلوك الإسرائيليين لا تقلّ عن المفارقات التي طبعت سلوك الفراعنة بل إنّها تتجاوز ذلك إلى سلوك أشدّ التواء من سلوك الفراعنة - بالقياس إلى البراهين والحجج التي واجهوها (وفي مقدمتها: إنقاذهم من فرعون الذي استعبدهم،
ص: 116
ثم اقتران ذلك بالإعجاز المتمثّل في غرق فرعون و قومه و غيره من أشكال الإعجاز الأخرى التي سنعرض لها لاحقا، مما يكشف أولئك جميعا عن أن التعقيب القائل وَ لاٰ تَطْغَوْا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ، يحمل دلالة خاصة هي: انعكاس هذه العبارات على حركة القصة لاحقا، فيما تفصح بدورها عن إحكام المبنى الهندسي لها، بالنحو الذي سنوضحه لاحقا إن شاء الله.
قال اللّه تعالى: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ ، كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ ، وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ، وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىٰ ، وَ مٰا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يٰا مُوسىٰ ، قٰالَ هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ ... .
هذا المقطع من قصة موسى، ينطوي على أسرار فنيّة مدهشة، ينبغي أن نقف عندها لملاحظتها وملاحظة صلتها بعمارة القصة وعمارة السورة الكريمة... لقد سبق أن قلنا، بأنّ القصة قد مهّدت لنا (في عرضها لقضية الإسرائيليين وإنقاذهم من فرعون) توقعا بمستقبل السلوك الإسرائيلي القائم على المفارقات والكفر بنعم اللّه تعالى، وذلك من خلال قوله تعالى وَ لاٰ تَطْغَوْا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي حيث ترهص هذه العبارات بأنّ الإسرائيليين سوف يمارسون أعمالا تستوجب غضب اللّه تعالى عليهم، وقد سردت القصة لنا (قبل هذه العبارات) جانبا من نعم اللّه تعالى، وهي إنقاذهم من فرعون قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ، ثم مواعدتهم جانب الطور الأيمن وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ ، ذلك حيث واعد اللّه تعالى موسى بأن ينزل عليه مبادىء رسالته عصرئذ، ثم إنزال المن والسلوى عليهم وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ حيث تمت هذه العطاءات عشية التيه في صحراء مصر... لقد
ص: 117
سردت القصة هذه العطاءات بنحو العرض السريع لها: تذكيرا للإسرائيليين بالنعم المشار إليها، ولذلك لم تفصّل الحديث عنها بل أجملتها على النحو الذي لحظناه، تاركة للقارىء بأن يستكشف بنفسه نمط العطاء وتفصيله مثل المواعدة جانب الطور الأيمن حيث يجهل القارىء تفصيل المواعدة وأسبابها، إلاّ أنّه من خلال النصوص القصصية الأخرى يستكشف بأنّ المواعدة هي من أجل نزول الكتاب عليهم، كما يستكشف من خلال النصوص الأخرى أن نزول المن والسلوى قد تم في زمن التّيه في صحراء مصر... وأمّا إنقاذهم من فرعون فأمر لا يحتاج إلى الاستكشاف من قبل القارىء لأن غرق فرعون وقومه قد فصّلت القصة الحديث عنه... والسرّ الفنّي وراء هذا التفصيل لقضية الغرق، والإجمال لقضيتي نزول المن والسلوى ومواعدتهم جانب الطور الأيمن، هو: أنّ عملية الغرق تعدّ أضخم عطاء ملحوظ نظرا لكونه يرتبط بزوال سلطة الفراعنة وإنقاذ البشرية منهم، بينما يظل نزول المن والسلوى، والمواعدة جانب الطور الأيمن: أمرا مصحوبا بنمط آخر من العطاءات الضخمة التي ترد في سياق آخر غير السياق القصصي الذي يتطلّب تفصيلا لشريحة أو لمرحلة جديدة من حياة موسى ومجتمعه.
والمهم، أنّ سرد هذه العطاءات، يتضمّن سرّا فنيّا تنعكس آثاره على مستقبل الأحداث والمواقف في القصة... فما دام النص قد حذّر الإسرائيليين - بعد ذلك - من الطغيان، و من حلول غضب اللّه عليهم، حينئذ كان لا بدّ (من الزاوية الفنيّة) من التذكير بعطاءات الله تعالى، حيث أنّ هذا التذكير بالعطاءات يستهدف لفت نظرهم إلى ضرورة تقديرها وعدم التفكير بأية ممارسة تتناقض مع تثمين العطاءات المشار إليها... ومن الواضح أنّ منطق القصة الفنّي سوف يلفت انتباهنا على أن تذكير اليهود بهذه العطاءات ثم تحذيرهم من الطغيان ومن حلول غضب اللّه عليهم، سوف يلفت انتباهنا على أنّ الحجّة قد تمّت عليهم، وأنّ مشروعية العقاب الذي ينتظرهم - في حالة طغيانهم - سوف تأخذ
ص: 118
محدداتها الواضحة، بحيث يقتنع القارىء تماما بمشروعية العقاب من جانب، وبكون المفارقات التي يصدر عنها الإسرائيليون تشكّل أبشع أشكال السلوك الملتوي الذي عرف به مجتمع الإسرائيليين... كل أولئك سوف نلحظه عند متابعتنا لحوادث القصة ومواقفها لاحقا، فيما يكشف مثل هذا الإرهاص بمستقبل السلوك الإسرائيلي، يكشف عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم جزئياته: بعضها مع الآخر.
قال اللّه تعالى: وَ مٰا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يٰا مُوسىٰ ، قٰالَ هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ ، قٰالَ : فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ ... .
هذا القسم من قصة موسى مع قومه، يتناول حادثة اختبارية تتصل بسلوك الإسرائيليين - وقد أنقذهم الله تعالى من فرعون الذي استعبدهم - سبق للقصة أن حذّرتهم من الطغيان - كما ذكّرتهم بنعم اللّه تعالى عليهم، ومن هذه النعم:
مواعدتهم جانب الطور الأيمن حتى ينزّل كتاب اللّه عليهم وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ ... هذه المواعدة التي ذكّرهم اللّه تعالى بها - في القسم السابق من القصة قد بدأت القصة الآن بتفصيل الحديث عنها في هذا القسم الجديد من القصة، حيث تجري محاورة بين السماء وبين موسى، قالت السماء: وَ مٰا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يٰا مُوسىٰ؟ فأجاب موسى: هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي، وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ ، ثمّ أجابته السماء من جديد: فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ ... هذه المحاورة الفنيّة بين اللّه تعالى وبين موسى، تنطوي على أسرار جمالية فائقة، ينبغي أن نقف عندها... فالملاحظ أنّ المحاورة بدأت من اللّه تعالى بقول: لماذا تعجّلت يا موسى في المجيء إلى الطور الأيمن دون قومك ؟. القارىء يستنتج من هذه المخاطبة، أنّ موسى قد
ص: 119
أسرع إلى الطور، و أنّ قومه لم يلحقوا به بعد، كما يستنتج القاريء أنّ السماء لا بدّ أن أخبرت موسى بأن يجيء مع قومه إلى الطور ليتسلّم مبادىء الشريعة في ذلك العصر... كل هذه الاستنتاجات متروكة للقارىء دون أن يذكر النص القصصي أيّ تفصيل عنها... لذلك، فإن المتلقّي، لا بدّ أن يتساءل عن السرّ الفنّي الكامن وراء هذا الاختزال للحوادث والمواقف، وهو أمر يمكن الإجابة عليه، بأنّ المهم هو إبراز السلوك الإسرائيلي القائم على المفارقة، وليس تفصيل المواقف المرتبطة بهذا السلوك، لذلك، فإنّ القصة أبرزت من الحوادث أو المواقف ما يكون ذا صلة بسلوك الإسرائيليين المنحرف: بخاصة أن القسم السابق من القصة قد مهّد - كما كررنا - بإمكانية بروز السلوك الملتوي لدى هذه الحفنة من البشر: مع أنّ السماء أغدقت عليهم مختلف المعطيات، ولذلك فإنّ القارىء يتوقّع من القصة أن تتقدم لتحدثنا عن سلوك هؤلاء القوم، وهذا ما حدث بالفعل عندما بدأت القصة تلقي بإنارتها لهذا الجانب، إلاّ أنّ القصة بدأت أولا بالحديث عن شخصية موسى باعتباره بطل القصة التي تحوم عليها حوادثها أو مواقفها... واختارت القصة موقفا أو حادثا خاصا يتصل بسلوك موسى ألا وهو: إسراعه قبل قومه إلى الطور حرصا على كسب رضاه تعالى... وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ و... وهنا أجابه الله تعالى فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ حيث تكشف هذه العبارة عن أنّ الإسرائيليين قد تعرضوا لاختبار خاص، سقطوا - من خلاله - في هذه العملية، فيما أضلّهم السامريّ .
هنا تجيء شخصية (السامري) بنحو مفاجىء لتدخل في مسار الأحداث القصصية، إلاّ أنّ القارىء سوف يستكشف بأنّ هذه الشخصية تتميز بكونها ضالة بحيث استطاعت أن تسقط الإسرائيليين في الفتنة أو الطغيان الذي حذّرهم اللّه تعالى منه... أما ملامح هذه الشخصية وهوّيتها وسماتها الخارجية والداخلية فأمر سكتت القصة عنه، علما بأنّ هذا النمط من تقديم شخوص
ص: 120
القصة أي تقديمهم بملامح إجمالية ثم تفصيلها بعد ذلك: يعدّ عنصرا فنيا بالغ الأهمية نظرا لكونه يشدّ القارىء إلى محاولة تعرّفها فيما يطلق عليه مصطلح (التشويق القصصي) كما هو واضح... إلاّ أنّ المهم - بعد ذلك - هو أنّ إشارة القصة إلى أنّ الإسرائيليين قد أضلّهم «السامريّ » يظل انماء عضويا للقسم السابق من القصة، أي القسم الذي مهّد للقارىء بأن الإسرائيليين سوف يصدرون عن سلوك منحرف، وها هي القصة تشير أو تقدّم شريحة من هذا الانحراف لديه، حيث يكشف مثل هذا العرض القصصي عن إحكام العمارة الفنيّة للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى: فَرَجَعَ مُوسىٰ إِلىٰ قَوْمِهِ غَضْبٰانَ أَسِفاً، قٰالَ : يٰا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قٰالُوا: مٰا أَخْلَفْنٰا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنٰا، وَ لٰكِنّٰا حُمِّلْنٰا أَوْزٰاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ ، فَقَذَفْنٰاهٰا، فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ ... ...
هذا القسم الجديد من قصة موسى (ع)، يتناول رسم العلاقة بينه وبين قومه المنحرفين... لقد كان القسم الأسبق من القصة يتناول محاورة بين السماء وبين موسى تتصل بتوجيه اللّه تعالى سؤالا إلى موسى عن سبب إسراعه في المجيء إلى الطور الأيمن دون قومه الذين تخلّفوا عن المجي، حيث أخبره اللّه بعد ذلك بأنّ الإسرائيليين قد أضلّهم السامريّ ، أي: انحرفوا بالنحو الذي حذرهم اللّه تعالى حينما قال لهم وَ لاٰ تَطْغَوْا وقال لهم فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ... إنّ هذه التحذيرات قد جسّدها النص القصصي في عرضه الإجمالي لقوم موسى حينما أوضح لموسى بأنّ قومه قد أضلّهم السامريّ ...
في حينه قلنا، إنّ شخصية السامري تظل مجهولة لدى القارىء لأسباب
ص: 121
فنية أوضحناها و أنّ تفصيل الحديث عنه و عن إضلاله للإسرائيليين الذين يمتلكون استعدادا للانحراف، سوف يعرض في الأقسام اللاحقة من القصة...
وها هي القصة تبدأ - في قسمها الجديد الذي نتحدّث عنه الآن - بالكشف عن ملامح الشخصية المضلّة المشار إليها، كما تبدأ بالكشف عن تفصيلات السلوك المنحرف الذي صدر عنه الإسرائيليون... ويلاحظ أنّ عنصر «الحوار» هو الذي يضطلع بمهمة الكشف عن الأحداث والمواقف والشخصيات، حيث سبق أن قدّمت القصة شخصية السامريّ من خلال محاورة السماء مع موسى، كما أنّ مجيء موسى إلى الطور ومساءلة السماء عن سبب إسراعه وتخلّف قومه، ثم إخباره موسى بأنّ السماء قد أخضعت الإسرائيليين لفتنة سقطوا فيها: كل أولئك قد تمّ من خلال عنصر (الحوار)... وها هو العنصر المذكور نفسه يتكفّل الآن بالكشف عن أحداث القصة وشخصياتها ومواقفها، حيث يوجّه موسى إلى قومه السؤال الآتي: أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ؟ .
والسؤال هو، ماذا يستكشف القارىء من هذا الحوار أو الخطاب الذي وجّهه موسى إلى قومه المنحرفين ؟ وإذا كانت أهمية «الحوار» تتمثّل - في الكشف عن أعماق الشخوص - فضلا عن الحوادث والشخصيات، فإنّ الحوار المذكور تكفّل بكشف الكثير من ملابسات الموقف، إلاّ أنّه كشف لا يزال ملفعا بالغموض الفنّي...
لقد قال موسى لهم أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ، وقال لهم:
أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ وقال لهم: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ... القارىء سوف يستخلص بنحو إجماليّ أنّ ثمة مواعدة حسنة من قبل الله تعالى وهي المجي إلى الميقات لتسلّم شريعتهم، وسوف
ص: 122
يستخلص أيضا أن إسراع موسى إلى الميقات دون قومه من الممكن أن يكون قد ترك تأثيرا خاصا فيهم هو. طول العهد الذي فارقهم من خلاله بدليل قوله أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ ، كما يستخلص القارىء بأنّ هؤلاء المنحرفين قد أخلفوا موعده، بدليل قوله فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ، إلاّ أنّ القارىء يظل ملفعا بضبابية فنيّة حيال هذا الإخلاف للموعد، حيث يجهل تماما مادّة الاتفاق الذي تمّ بينه وبينهم، ولا بد أن يكون هذا الإخلاف للموعد ذا تأثير كبير على حركة الأحداث في القصة، بدليل أنّه قال لهم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ، وهذا يعني أنّ إخلاف الموعد قد استوجب أن يحل غضب اللّه تعالى عليهم.
هنا ينبغي ألاّ نغفل عن الموقع العضوي لهذه الفقرة أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ حيث سبق للقصة في قسم متقدم أن حذّرت الإسرائيليين من الطغيان فيما قالت في حينه وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ، وها هو موسى يكرّر عبارة اللّه تعالى فيما حذّر من غضبه تعالى، حيث يكشف مثل هذا التأكيد لعبارة سابقة عن الإحكام الفائق لعمارة النص من حيث صلة أقسامه، بعضها مع الآخر.
قال اللّه تعالى: فَرَجَعَ مُوسىٰ إِلىٰ قَوْمِهِ غَضْبٰانَ أَسِفاً، قٰالَ : يٰا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قٰالُوا: مٰا أَخْلَفْنٰا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنٰا، وَ لٰكِنّٰا حُمِّلْنٰا أَوْزٰاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ ، فَقَذَفْنٰاهٰا فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ ... .
لقد رسمت القصة - فى هذا القسم منها - شخصية موسى (غضبان أسفا)، وهذا الرسم يتضمّن ملمحا خارجيا هو (الغضب) وملمحا داخليا هو (الأسف)، ومتى اجتمع الرسمان: الخارجي والداخلي، يكون رسم الشخصية
ص: 123
قد اكتمل فنّيا، نظرا لتآزر الملمحين في سلوك الإنسان غالبا حيث ينعكس ما هو نفسي على ما هو حسّي كما هو واضح، بيد أن المهم هو أن يحتل الرسم أيّا كان: خارجيا أو داخليا، موقعه العضوي من القصة، وهذا ما يمكن ملاحظته بالنسبة لموسى (ع)، حيث عاتبه اللّه تعالى على إسراعه في المجي إلى الميقات وأخبره بأن القوم قد أضقهم السامريّ ، مما جعل موسى ينفعل بالموقف فيرجع إلى قومه غضبان أسفا، يوجّه إليهم مجموعة من الأسئلة أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ إلخ... والمهم أيضا أن الأجوبة التي تلقّاها من القوم تبدأ بالكشف عن ملابسات الموقف (وهذه هي الوظيفة الفنيّة للحوار)، بيد أن الأجوبة ذاتها تظل موشحة بالضبابية الفنية مر جانب، كما تظل خاضعة لأسلوب متدرّج في الكشف عن مزيد من التفصيلات، بحيث يتكفّل كل قسم من القصة بأن يجعل القارىء متابعا بمزيد من الشوق أحداثها ومواقفها اللاحقة... لقد قال القوم لموسى عندما عاتبهم على إخلاف الموعد، قالوا له مٰا أَخْلَفْنٰا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنٰا، وَ لٰكِنّٰا حُمِّلْنٰا أَوْزٰاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ ، فَقَذَفْنٰاهٰا، فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ ... القارىء سوف يخبر بعض الحقائق المتصلة بالموقف ولكنه يجهل تفصيلاتها، فقد أجاب القو بأنهم لم يخلفوا الموعد بمحض إرادتهم ولكنّهم اضطروا إلى ذلك، وهذا يعني أن بعض القوم لم ينحرفوا من خلال إضلال السامريّ ، بدليل أنّهم نفوا عنهم إخلاف الموعد، والقصة بهذا المنحى من الحوار الفنّي تكون اقتصدت لغويا فحذفت ما لا ضرورة له من الحوار وأبقت ما يلقي الإنارة على الموقف، فهي بدلا من أن تقول إنّ القوم انشطروا إلى منحرفين بهروا بالعجل الذي صنعه السامريّ وبين نفر لم يستطع مقاومتهم، بدلا من ذلك: اكتفت بعرض الحوار الذي ينفي عن نفسه مسؤولية الانحراف، لكن، خارجا عن ذلك، يعنينا أن نتعرف تفصيلات الموقف، أي: كيفية حدوث الانحراف لدى القوم... القصة - في قسم سابق - أشارت إلى أنّ «السامري» قد أضلّ القوم، وهي في القسم
ص: 124
الجديد الذى نتحدّث عنه تضيف إلى ذلك قولها على لسان القوم وَ لٰكِنّٰا حُمِّلْنٰا أَوْزٰاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ ، فَقَذَفْنٰاهٰا، فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ ... من هذا الحوار نستكشف أنّ هناك (زينة)، وأنّها ألقيت بشكل أو بآخر، وأنّ (السامري) قد ألقى بدوره (الزينة)... إلاّ أنّ السؤال هو: ما هي هذه الزينة، وما هي علاقتها بالانحراف، وعلاقة كل من السامريّ والقوم ؟ كل هذه الأسئلة لا تزال تلحّ على القارىء، بيد أنّ الأقسام اللاحقة من القصة هي التي تتكفّل تدريجيا بالكشف عن الملابسات... لذلك، نواجه بعد هذا، القسم الجديد من القصة ليعرض لنا مباشرة ما يلي: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ ... إنّ إخراج العجل يشكّل مفتاحا لحلّ الملابسات التي تغمر الموقف، حيث يتعرّف القارىء بأنّ الانحراف يتمثّل في إخراج عجل له مواصفات خاصة. بدأ القوم بعبادته... وهكذا، نجد أنّ النص يواشج ويوصل بين أقسامه بهذا المنحى المتدرّج من العرض، مما يفصح ذلك عن مدى الإحكام العماري الذي يطبعه، من حيث صلة أجزائه بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ قٰالَ لَهُمْ هٰارُونُ مِنْ قَبْلُ : يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا فُتِنْتُمْ بِهِ ، وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمٰنُ ، فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي، قٰالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عٰاكِفِينَ حَتّٰى يَرْجِعَ إِلَيْنٰا مُوسىٰ ... .
في هذا القسم من (قصة موسى مع قومه)، تدخل شخصية هارون (ع) لتكشف عن حركة المواقف والأحداث التي واكبت سلوك الإسرائيليين المنحرفين في عبادتهم للعجل... إنّ القصة - كما لحظنا في قسم متقدّم منها - أشارت إلى أنّ القوم قد أضلّهم السامريّ وأخرج لهم عجلا... وها هي الآن ترتدّ بحركتها إلى الوراء لتكشف لنا عن تفصيلات الموقف المنحرف لدى الإسرائيليين بما واكبته من محاولات التدخّل من قبل الشّخصيات الإيجابية
ص: 125
لإنقاذ الموقف، و في مقدمتهم هارون (ع)، و هو وزير موسى (ع).
إنّ لدخول هذه الشخصية أكثر من سرّ فنّيّ يرتبط بالقصة و هيكلها الهندسي... فقد مهّد النص القصصي في مقدمته، مهّد لشخصية هارون حينما أجرت القصة على لسان موسى الحوار الآتي: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هٰارُونَ أَخِي، اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي... إلخ إن مطالبته بوزير، بهارون، بمساعدته، بمشاركته في الأمر، يعني أن القصة سوف تسمح لهذه الشخصية بالتحرك دون أدني شك، و إلا لم يكن هناك مسوغ فني لرسم هذه الشخصية... إن وجود عقدة في لسان موسي (ع)، يشكل واحدا من المسوغات الفنية لوجود شخصية هارون بصفته أفصح منه لسانا، كما أن لمساندته أخاه في مطلق تحركاته: مسوغه الفني أيضا. بيد أن أ هم المسوغات لرسم هذه الشخصية تتمثل في تأثيرها علي الأحداث والمواقف التي و ا كبت سلوك الإسرائيليين بالنسبة لانحرافهم ا لعبادي، حيث أن موسي قد خلفه في قومه عشية ذهابه إلي ا لميقات ليتولي إدارة الموقف، و هذا أحد التجسيدات لمفهوم المشاركة في الأمر وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ... بيد أنّ هارون (ع) - كما نتبيّن ذلك من خلال الأحداث والمواقف اللاحقة في القصة - قد واجه - صعوبات وشدائد متنوعة في هذا الميدان، خلال غياب موسى، وبعد رجوعه... والمهمّ (من الزاوية الفنيّة) أنّ «هارون» يدخل بطلا في القصة ليكشف لنا عن ملابسات الموقف الانحرافي لدى الإسرائيليين (وهذا الدخول يشكّل سمة فنيّة أخرى غير المساهمة في حركة القصة)، إنّها سمة الكشف عن الأحداث، كما قلنا، وهو كشف يتكفّل به عنصر (الحوار) الذي أجراه مع قومه، حيث قال لهم يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا فُتِنْتُمْ بِهِ ، وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمٰنُ ، فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي ... هذه المحاورة تكشف عن أن (هارون) عند غياب موسى وذهابه إلى الميقات قد نصح قومه وحذّرهم من الفتنة المتمثّلة في إضلال السامريّ للقوم، إلاّ أنّ الإسرائيليين ركبوا رؤوسهم وأصروا على موقفهم
ص: 126
المنحرف حينما أجابوه قائلين قٰالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عٰاكِفِينَ حَتّٰى يَرْجِعَ إِلَيْنٰا مُوسىٰ ... إنّ هذا الجواب يدلّ على عنادهم والتماسهم مسوّغا لعبادة العجل ألا وهو: اشتراطهم ذلك إلى حين عودة موسى من الميقات... كما أنّه (من الزاوية الفنيّة) يشكّل إنماء عضويا لحركة القصة التي مهدت لهذا الموقف بقولها، وهي تخاطب الإسرائيليين وَ لاٰ تَطْغَوْا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ، حيث إنّ إصرارهم على هذا الانحراف المتمثّل في عبادة العجل يجسّد أبرز أشكال الطغيان والكفر بنعم اللّه تعالى بعد أن أنقذهم من فرعون، وأغدق عليهم المعطيات المتنوعة.
هنا، ينبغي ألا نغفل أيضا، عن الأهمية الفنيّة لحوار هارون (من حيث علاقة الحوار بعمارة القصة)، حيث أنّ القصة سبق أن أجرت حوارا للسماء مع موسى عندما قالت له: فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ ، وها هو الحوار الذي أجراه هارون مع قومه يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا فُتِنْتُمْ بِهِ ، يفسّر لنا معنى (الفتنة) التي لخصت السماء نظر موسى إليها، مما يكشف مثل هذا التفسير عن مدى إحكام العمارة القصصية من حيث تنامى وتلاحم أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى: قٰالَ . يٰا هٰارُونُ ، مٰا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّٰ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي، قٰالَ : يَا بْنَ أُمَّ لاٰ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاٰ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ ، وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ...
في هذا المقطع من قصة (موسى مع قومه) نواجه موقفا وحدثا جديدا يكشفه الحوار الذي جرى بين موسى وهارون بالنسبة إلى حادثة الانحراف الذى طبع الإسرائيليين عندما تركهم موسى وخلّف هارون فيهم، عشية ذهابه إلى الميقات، حيث ترتّب على ذلك أن أضلّهم السامريّ وفتنهم بعبادة
ص: 127
العجل... إنب المنحى الفني الذي سلكته القصة في هذا الحوار ينطوي على أسرار فائقة في حقل الصياغة القصصية، حيث اختزلت القصة أكثر من موقف وحدث، تاركة القارىء أن يستوحي بنفسه تفصيلات ذلك... لقد خاطب موسى أخاه هارون قائلا: يٰا هٰارُونُ ، مٰا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّٰ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ القارىء أو السامع، ماذا يستنتج من هذا الحوار؟ القص ساكتة عن التفصيلات، بيد أنّنا سوف نكتشف أنّ هارون قد أوصاه موسي بالإصلاح وعدم اتباع سبيل المفسدين... هذا الاستكشاف نتبيّنه من خلال قصص أخرى أشارت إلى أنّ موسى طالب أخاه بأن يخلفه في قومه، و أن يصلح، وألاّ يتبع سبيل المفسدين... بيد أنّ المتلقي لا يعنيه هنا أن يستكشف مثل هذه التفصيلات، بدليل أنّ القصة سكتت عنها ولم تذكرها في هذا النص لذلك فإنّ المهم ليس هو عملية الإصلاح التي طولب بها هارون، بل هو معالجة الموقف في ضوء عملية أخرى هي: معاتبة هارون بعدم اتباعه لموسى عندما شاهد الانحراف الإسرائيلي... والسؤال هو: ما هو المقصود من مطالبة موسى أخاه هارون باتّباعه ؟ النصوص المفسّرة متفاوتة في تحديد هذا الجانب، فالبعض منها يشير إلى أنّ المقصود من ذلك هو: عدم لحوق هارون بموسى في الميقات حتى يخبره بخطورة الموقف وطريقة معالجته، والبعض الآخر منها، يذهب إلى أنّ المقصود من ذلك هو: عدم مقاتلتهم، والبعض الثالث يذهب إلى أنّ المقصود منه هو: عدم لحوقه مع جماعة المؤمنين بموسى في الميقات... هذه الوجهات المتفاوتة من النظر، تكشف عن الثراء الفني للقصة دون أدنى شك، حيث أنّ تغليفها بهذه الضبابية الفنيّة، يكسب القصة بعدا حيويا ملحوظا... والمهم، أنّ ثمة توصية من موسى لهارون وأنّ هارون قد تصرّف وفق مقتضيات الموقف... أمّا ما هي تفصيلات ذلك فأمر لم تعن القصة به، ما دام هدفها إبراز ردود الفعل الصادرة عن كل من موسى وهارون... أمّا هارون، فقد اتّضح بأنّه تصرّف وفقا لمتطلبات الموقف
ص: 128
التي لم تسمح له بأن ينفّذ التوصية، و أمّا موسى، فإنّ رد فعله تمثّل في حادثة ملفتة للنظر هي العملية التي كشفها حوار هارون مع موسى، بقوله لاٰ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاٰ بِرَأْسِي ، حيث تكشف هذه الفقرة عن أنّ موسى قد غضب للّه تعالى، حيث أنّ فقرة سابقة فَرَجَعَ مُوسىٰ إِلىٰ قَوْمِهِ غَضْبٰانَ أَسِفاً قد مهّدت فنيّا للتعبير عن أنّ تصرّفات موسى قد طبعتها سمة الغضب، ومنها: تعامله مع أخيه هارون بهذا النحو (أي: أخذه بلحية أخيه ورأسه)، ومع أنّ النصوص المفسرة تتفاوت في تفسيرها لعملية جرّه أخاه بين الذهاب إلى أنّه فعل ذلك كما يفعل مع نفسه حينما ينفعل من أجل الحق فيمسك رأسه ولحيته أو يعضّ أصبعه إلخ تعبيرا عن درجة الإحساس بالألم الداخلي، أو أنّه فعل ذلك مودة وتخفيفا لحالة هارون وليس معاتبة، أو أنّه صنع ذلك لإلفات نظر الآخرين وتنبيههم دون أن يستهدف أخاه هارون حقيقة... إلخ. أقول: بالرغم من هذه التفسيرات المتفاوتة، فإنّ السياق الفنّي للقصة يحملنا على الاقتناع بأن عملية (الأخذ يلحية أخيه ورأسه) جاءت تعبيرا عن غضب موسى من أجل الحق، دون أن يعني ذلك أنّ أخاه هارون قد تصرّف خلاف التوصية بل تصرّف وفقا لمتطلبات الموقف كما قلنا، والمهم، أنّ سياق القصة (من حيث الجواب الذي قدمه هارون وهو قوله) إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ : فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ يعزّز وجهة النظر التي اخترناها؛ نظرا لعدم تجانس التفسيرات الأخرى مع جواب هارون لأخيه موسى... والمهم أيضا، أنّ التفسير الذي اخترناه يتوافق تماما مع المبنى الهندسي للقصة الكريمة التي يفصح تنامي أقسامها (مثل:
الصلة بين الغضب وعملية الأخذ برأس أخيه ولحيته) عن مدى إحكام المبنى الهندسي المذكور، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى: قٰالَ : فَمٰا خَطْبُكَ يٰا سٰامِرِيُّ ، قٰالَ : بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ ، فَنَبَذْتُهٰا، وَ كَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قٰالَ : فَاذْهَبْ ، فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لاٰ مِسٰاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ، وَ اُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً، إِنَّمٰا إِلٰهُكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً، كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ مٰا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً... .
ص: 129
قال اللّه تعالى: قٰالَ : فَمٰا خَطْبُكَ يٰا سٰامِرِيُّ ، قٰالَ : بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ ، فَنَبَذْتُهٰا، وَ كَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قٰالَ : فَاذْهَبْ ، فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لاٰ مِسٰاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ، وَ اُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً، إِنَّمٰا إِلٰهُكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً، كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ مٰا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً... .
بهذا المقطع، يختم العنصر القصصي الذي تضمنته سورة طه، ونعني به: قصة موسى مع فرعون ومع قومه، حيث لحظنا كيف أنّ القصة قد وظفت لإنارة الأفكار التي تضمنتها السورة، وكيف أنّ القصة ذاتها تضمنت أفكارا متنوعة أيضا، منها: سلوك الإسرائيليين المنحرف، المتمثّل في عبادتهم للعجل، حيث يختم بهذا المقطع الذي نتحدّث عنه الآن عنصر القصة...
فماذا نواجه في هذا المقطع ؟. المقطع يتضمّن حوارا بين موسى وبين الشخصية التي أضلّت قومها وهي شخصية (السامريّ ) الذي استغل غياب موسى عن قومه في ذهابه إلى الميقات، فصنع عجلا له جسد خوار، فأضل به قوم موسى الذين عبدوا العجل المذكور.
ويلاحظ، أنّ القصة قد استخدمت عنصر (التشويق) بنحو ملحوظ، حيث تدرّجت فى الكشف عن هذا الحدث المتصل بانحراف الإسرائيليين، ثمّ احتفظت بالسرّ الذي حمل السامريّ على صنع العجل، وكشفته في نهاية القصة، حيث سأله موسى عن السرّ المذكور، فقال: بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ ، فَنَبَذْتُهٰا... . والسؤال هو: ماذا يستكشف القارىء أو السامع من هذا الحوار؟ ما هو الشيء الذي بصره السامريّ ، وما هو المقصود من أثر الرسول ؟. النصوص المفسرة تقول: إنّ جبرائيل (ع) عندما عبر البحر بالقوم (في حادثة انشقاق البحر وغرق فرعون وقومه) قبض السامريّ من أثر قدمه ترابا فنبذه في العجل الذي كان قد صنعه
ص: 130
من الحليّ الذي غنمه الإسرائيليون من الأقباط بعد إغراقهم في البحر...
الحادثة تحمل دلالات متنوعة، أهمّها: الدلالة التي تكشف عن الهزال أو الجدب الفكري لدى الإسرائيليين فيما أنقذهم اللّه تعالى توّا من فرعون، وأراهم آياته المتنوعة من خلال شخصية موسى (ع)، إلاّ أنّهم ما إن شاهدوا آخر آية إعجازية (وهي انشقاق البحر، وغرق فرعون، ونجاتهم) حتى بهروا (في سذاجة ملحوظة) بالعجل، مع أنّه لم تمض مسافة زمنية طويلة على مشاهدتهم الآيات الإعجازية، وهو أمر يكشف - مضافا إلى هزالهم الفكري - عن مدى التواءاتهم، والسقوط سريعا في هذا الانحراف... والمهم أنّ هذا السقوط قد مهّدت له القصة - كما كررنا - في بداياتها عندما حذّرت الإسرائيليين من حلول غضب الله تعالى عليهم، وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ ، كما أنّ موسى نفسه خاطبهم (في أواسط القصة) قائلا لهم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، وها هي أواخر القصة تلفت الانتباه على المصائر الكسيحة التي ينتهي إليها هؤلاء المغضوب عليهم من قبل اللّه تعالى... وقد رسمت القصة أولا مصير السامريّ نفسه ومصير العجل الذي أضلّ به الإسرائيليين، ثم انتقلت - كما سنرى - إلى الحديث عن الجزاء الأخروي الذي سيلحق المنحرفين... أمّا السامريّ ، فقد عوقب بالعزلة الاجتماعية، حيث قال له موسى: فَاذْهَبْ ، فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لاٰ مِسٰاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ... وتقول النصوص المفسرة، أنّ السامري هام في الصحارى لا يمس أحدا ولا يمسّه أحد: عقوبة له... فضلا عن الجزاء الأخروي الذي ينتظره... كما أنّ العجل قد أحرق وذرّي في البحر ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً ... وهذا يعني أنّ المنبّه أو المحرّك الذي أشاع الانحراف الإسرائيلي قد تلاشى تماما (وهو السامري وعجله)، حيث يحمل هذا التلاشي دلالة واضحة بالنسبة إلى المصائر التي سوف ينتهي المنحرفون بعامة إليها دنيويا، فضلا عن الجزاء الأخروي الذي ينتظرهم.
ص: 131
و كما قلنا، فإنّ النص ينتقل بعد هذه الخاتمة القصصية إلى الحديث عن اليوم الآخر وجزاءاته التي تنتظر المنحرفين، وذلك من خلال ربطه بين قصة موسى (ع) وبين المعاصرين لرسالة الإسلام كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ مٰا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وِزْراً خٰالِدِينَ فِيهِ وَ سٰاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ حِمْلاً ... وبهذا الربط بين قصة موسى (ع) وبين قصة محمد (ص) مع قومه، يكون النص قد أحكم بناء السورة القرآنية الكريمة، من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ، وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخٰافَتُونَ بَيْنَهُمْ : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ عَشْراً، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ يَوْماً، وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً، لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّٰاعِيَ لاٰ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ لِلرَّحْمٰنِ فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً، يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً، يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ ، وَ قَدْ خٰابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلاٰ يَخٰافُ ظُلْماً وَ لاٰ هَضْماً ...
هذا المقطع من سورة طه يتناول البيئة في اليوم الآخر، وقد جاء بعد رحلة قصصية تتناول حياة موسى (ع) وعلاقته بفرعون وبقومه، حيث ربط النص بين المصير الأخروي الذي ينتظر الإسرائيليين المنحرفين ممن عبدوا العجل، وبين مطلق المنحرفين عن مبادىء اللّه تعالى ومنهم: الفئات المعاصرة لرسالة الإسلام حيث ينصبّ الحديث أساسا على سلوكهم المنحرف... ثم ما يترتّب على السلوك المذكور من جزاء أخرويّ ... وفي هذا السياق يتناول
ص: 132
المقطع بيئة اليوم الآخر بما يواكبها من عمليات الانبعاث، وردود الفعل حيالها، ثم بما يواكبها من مواقف متنوعة، يجدر الوقوف عندها لملاحظة الصياغة الفنية لها...
وأوّل ما يواجهنا من الرسم لهذه البيئة هو: عملية النفخ في الصور، والموقف الذي يحشر المنحرفون فيه... ويلاحظ، أنّ المقطع رسم شخوص المنحرفين بالسمة الآتية وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ... وهذه السمة أو الرسم الخارجي لملمح الشخوص ينطوي على دلالات فنيّة دون أدنى شك... وأول ما يثار من أسئلة في هذا الميدان هو: ضرورة ملاحظة الصلة العضوية بين الوصف الخارجي للشخصية ونعني به وصف المجرمين بكونهم (زرقا)، وبين الوصف الخارجي الداخلي لهم أي حالاتهم النفسية والفكرية، بصفة أنّ الفن التعبيري في القرآن الكريم لا يتناول الأوصاف الخارجية للشخوص لمجرّد تحقيق المتعة الجمالية في عملية الوصف، بل لا بدّ من انطواء الوصف الخارجي على دلالات ذات مغزى دون أدنى شك، لذلك لا بدّ من التساؤل عن الدلالة التي ينطوي عليها وصف المجرمين بكونهم يحشرون (زرقا)... النصوص المفسرة تتفاوت في تقديرها لهذه الصفة، حيث يذهب بعضها إلى أن الزرقة في العيون تعد رمزا للعمى، وبعضها يذهب إلى أنّها رمز لتشويه الخلقة، وبعضها يذهب إلى أنّها رمز للعطش الذي ينعكس زرقة في عيون المنحرفين... والمهم، أنّ أيّا من هذه الاستخلاصات يمكن أن يتّسم بالصواب ما دام الوصف المذكور (رمزا) للشدائد التي يواجهها المنحرفون في اليوم الآخر... بيد أنّ متابعتنا للرسم الفني الذي سلكه المقطع في وصف هؤلاء، يقتادنا إلى القناعة بأنّ الرمز المذكور (زرقا) يظل تعبيرا عن الاضطراب النفسي والفكري لدى هؤلاء المنحرفين، منعكسا على ملامحهم الخارجية في سمة (الزرقة) المشار إليها... إذن: لنتابع رسم الشخوص... يقول المقطع عن هؤلاء: يَتَخٰافَتُونَ بَيْنَهُمْ : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ عَشْراً، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ ، إِذْ
ص: 133
يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ يَوْماً .
إنّ هذا الحوار الجمعي بين الشخوص ينطوى بدوره على دلالات متنوعة، منها: ما ينطوي عليه الحوار الجمعي نفسه من دلالة فنّية... حيث صيغ الحوار جميعا وليس انفراديا أو تحددا في طرفين... والمسوّغ الفنّي لصياغة الحوار بهذا النحو المبهم أو المشترك بين الشخوص هو أنّ الشدّة التي يواجهها المنحرفون تظل عامة لا تخصّ أحدا دون آخر، لذلك لا معنى لأن يصاغ الحوار محددا في طرفين أو أكثر بل لا بدّ من صياغته حوارا مشتركا بين الشخوص جميعا، متمثّلا في العبارة القائلة (يَتَخٰافَتُونَ فيما بَيْنَهُمْ ) أي يتكلم كل واحد منهم مع الآخرين على نحو سرّي غير مسموع، وهذه السرّية في الكلام تكشف عن دلالة خاصة هي: اضطراب القوم نتيجة الرعب الذي يغلّفهم حينئذ... فالخائف لا يمتلك توازنا داخليا يسمح له بالحديث العادي بل يلجأ إلى الهمس كما هو واضح... لذلك، فإنّ سريّة الحوار الدائر فيما بينهم تظل متجانسة مع الوصف الأسبق لهم ونعني به قوله تعالى وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ، حيث تعبّر هاتان الصفتان (الجسمية واللفظية) عن الاضطراب الذي يغلّف المجرمين في اليوم الآخر، وهو أمر يكشف - كما هو بيّن - عن احكام البناء الهندسي للنص من حيث تجانس وتلاحم أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال الله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ، وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخٰافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ عَشْراً، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ يَوْماً... .
في هذا الحوار الذي يجري بين المنحرفين عند الحشر نلاحظ جملة من الخصائص الفنيّة، ينبغي الوقوف عندها حتى نتبيّن دلالتها وموقعها الهندسي
ص: 134
من عمارة السورة الكريمة... وأوّل ما ينبغي طرحه هنا، هو: ظاهرة (الإحساس بالزمن) وما تنطوي عليه من دلالات فنيّة، حيث نلحظ أنّ المتحاورين يخيّل إليهم بنحو عام بأنّهم لم يلبثوا إلاّ عشرة أيام، وأنّ أمثلهم عقلا يخيّل إليه أنهم لبثوا يوما واحدا لا عشرة أيام... ترى: لماذا يجيء الإحساس بالزمن منحصرا في العدد المذكور أولا، ثم: لماذا يتحسّس الأمثل طريقة بعدد أقلّ؟ لا بدّ أن يكون الإحساس بالضئالة منطويا على سرّ فنيّ ، كما أنّ التفاوت بين الإحساس بالأقل والأكثر منطويا على سرّ مماثل أيضا...
والمطلوب هو أن نتبيّن السرّ الفنيّ المشار إليه... إنّ النصوص المفسرة تتفاوت في تقديرها لهذه الظاهرة، فالبعض منها يذهب إلى أنّ الإحساس بالزمن يتناول فترة تاريخية معينة هي فترة ما بين النفختين. النفخة الأولى التي يتلاشى الكون خلالها، والنفخة الثانية التي تنبعث الخلائق من خلالها، وهناك من يذهب إلى أنّ الإحساس بقصر المدة يتناول التاريخ الدنيوي بالقياس إلى الأهوال التي ترافق اليوم الآخر، كما أنّ هناك من يذهب إلى أنّه يتناول حياة القبر بالقياس إلى كونهم نياما ينتبهون بعد ذلك على صحو يوم القيامة... بيد أنّ كلا من التفسيرين الأخيرين يظل مصحوبا بعدم اليقين ما دمنا نعرف تماما - من خلال النصوص القرآنية الأخرى ومن خلال نصوص الحديث أيضا - أنّ للبرزخ مثلا فاعلية ملحوظة من حيث العذاب الذي يلحق المنحرفين، وهو أمر لا يتناسب مع إحساسهم بقصر المدة التي لبثوا فيها، لأنّ العذاب منبّه قويّ يضخم الإحساس لديهم بطول المدة وليس بقصرها، كما أن التفسير الذاهب إلى أنّ المقصود من ذلك هو لبثهم في الدنيا، يظل مصحوبا بعدم اليقين أيضا، وذلك لأنّ وعي الشخص وتذكيره بانحرافاته لا بدّ أن يجعله محسّا بالزمن وفق حقيقته، وليس وفق بعده النفسي... من هنا، فإنّ التفسير القائل بأنّ الإحساس بقصر المدة يتناول الفترة الممتدة بين النفختين حيث يرتفع العذاب عنهم، يظل أقرب إلى اليقين من التفسيرين الآخرين، بصفة أنّه فترة استراحة
ص: 135
لم يشاهد خلالها هول القبر و لا هول الموقف... أمّا الدلالة الفنية للتفاوت بين أحاسيس المنحرفين حيث يحس البعض وكأنّه لبث عشرة أيام، والبعض الآخر وكأنه لبث يوما واحدا، فيمكن تفسيره بأنّ الأرجح عقلا أو الأمثل طريقة يتحسّس بضئالة الزمن أكثر من سواه، نظرا لإدراكه الأكثر بمدى الفارق بين حياة خالية من الأهوال وبين حياة يتحسسها الآن وهو يواجه اليوم الآخر.
طبيعيا، ينبغي ألاّ نستبعد إمكانية تفسير آخر لهذا الإحساس بالزمن، وهو التفسير الذاهب إلى أنّ بيئة اليوم الآخر بما أنّها تقترن بحقائق جديدة من حيث التحديد الزمني لها حيث يعدّ اليوم الواحد منها مضاعفا بعدد كبير، حينئذ يظل الإحساس بالزمن خاضعا للنسبية المذكورة بغضّ النظر عن إحساسهم بالعذاب السابق لهذا اليوم، أي: العذاب في البرزخ... والمهمّ ، أنّ الإحساس بقصر المدة بالنسبة لما قبل الموقف، وبطولها بالنسبة إلى الموقف، يكشف بوضوح عن الإحساس بالأهوال التي يواجهها المنحرفون، وهو أمر يتجانس فنيّا مع الرسم الخارجي لملامحهم حينما وصفهم النص - في عبارة متقدمة - بقوله تعالى وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً حيث يفصح هذا التجانس بين الملمح الخارجي للشخوص وبين الملمح الداخلي لهم، عن إحكام المبنى الهندسي للنص القرآني الكريم، من حيث تنامي وتلاحم أقسامه:
بعضها مع الآخر، بالشكل الذي تقدم الحديث عنه.
قال اللّه تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً، لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّٰاعِيَ لاٰ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ لِلرَّحْمٰنِ فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً، يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً، يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ ، وَ قَدْ خٰابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلاٰ يَخٰافُ ظُلْماً وَ لاٰ هَضْماً ...
ص: 136
قال اللّه تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً، لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّٰاعِيَ لاٰ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ لِلرَّحْمٰنِ فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً، يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً، يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ ، وَ قَدْ خٰابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلاٰ يَخٰافُ ظُلْماً وَ لاٰ هَضْماً ...
هذا المقطع امتداد لمقطع سابق يتحدّث عن بيئة اليوم الآخر، حيث عرض النص ردود الفعل التي يصدر المجرمون عنها وهم يواجهون أهوال اليوم الآخر... أمّا المقطع الذي نتحدّث عنه الآن فيعرض لنا جانبا آخر من مواقف هذا اليوم، كما يعرض لنا ظاهرة نسف الجبال عند قيام اليوم المذكور.
من أهوال هذا اليوم: انصياع الناس لصوت الداعي الذي ينفخ في الصور ويحشرهم في الموقف... ومنها. خشوع الناس للّه تعالى بحيث تنخفض أصواتهم فلا يتكلّمون إلاّ همسا... ومنها: خضوع الوجوه للحيّ القيوم...
وأمّا مواقف ذلك اليوم، فمنها: أنّ الظالم يخسر الصفقة، وأنّ المؤمن لا يخاف مؤاخذته بذنب لم يرتكبه ولا بخسا لحسنة عملها... ومنها: أنّ الشفاعة لا تنفع من أحد لآخر إلاّ من سمح له اللّه تعالى بالشفاعة.
هذه الموضوعات طرحها النص للفت النظر إلى ملابسات اليوم الآخر حتى يفيد المتلقّي منها في تعديل سلوكه... إنّها تصبّ جميعا في حقيقة واحدة هي: أنّ كل شيء خاضع للّه تعالى، إنّ المصائر البشرية جميعا رهن إرادته تعالى... إنّ البشر جميعا تلفّه الرهبة والخشوع والانصياع للّه تعالى... وأولئك جميعا - لو تأملناها بوعي حاد - تجعل المتلقّي متحسّسا بهول عظيم يشيعه هذا العرض لبيئة اليوم الآخر... ويلاحظ أنّ النص صدّر حديثه عن هذه الأهوال بوصف ممتع فنيّا لإحدى الظواهر الكونية ألا وهي تلاشي الجبال عند قيام الساعة: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً، لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً .
القارىء قد يتساءل عن السرّ الفنّي الكامن وراء التأكيد على ظاهرة تلاشي الجبال دون غيرها من الظواهر الكونية كالأرض أو البحار أو السماء وغيرها.
ص: 137
و يمكن الإجابة عن ذلك، بأنّ الحديث عن الجبل دون سواه قد ارتبط بسؤال الناس أنفسهم حيث أنّهم سألوا النبيّ (ص) عن مصيرها عند قيام الساعة، فأجابهم عن ذلك، بيد أن إبراز هذا الجانب - في هذا العرض - من قبل المقطع القرآني الكريم لا بد أن ينطوي على أهمية خاصة يستهدف النص توصيلها إلى المتلقّي... ولعل لشموخ الجبل وصلابته وحجمه وموقعه: أثره المتفرد بالنسبة إلى وعي المجتمعات عصرئذ بالقياس إلى غيره من الظواهر... والمهم هو أنّ المقطع قدّم لنا - كما قلنا - وصفا ممتعا لتلاشي الجبال يجسن بنا أن نقف عنده، لملاحظته وملاحظة موقعه العضوي من عمارة السورة الكريمة. لقد جاء الوصف أولا بكون الجبال يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً أي يذريها بأن يجعلها هباء أو ذرات تتفرّق هنا وهناك... فالمرحلة الأولى هي:
تذرّيها... وأمّا المرحلة الثانية فهي فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً أي يجعلها اللّه تعالى أرضا ملساء مستوية... إن الإملاس يعني جعل الجبل ذرات في أصغر وحداتها، وأمّا الاستواء فيعني جعل الجبل مستويا مع الأرض... وأمّا المرحلة الثالثة من الوصف، فهي لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً ... إنّ الجبل عندما يملس ويستوي حينئذ لا ترى فيه انخفاضا (وهو العوج) ولا ارتفاعا (وهو الأمت)... والأهمية الفنيّة للمرحلة الثالثة من الوصف تتمثّل في رصد أدقّ المظاهر للجبال المتلاشية... فقد يتصور القارىء بأنّ الوصف القائل فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً هو نفس الوصف القائل لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً ، بصفة أنّ (القاع) هي الأرض الملساء، و (الصفصف) هي الأرض المستوية، وأنّ العوج والأمت وصفان للانخفاض والارتفاع، فتكون النتيجة هي: أرضا مستوية... بيد أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، بقدر ما ينطوي على سرّ فنّي هو: أنّ النص يستهدف لفت النظر إلى أنّ الإملاس و الاستواء يبلغان درجة قصوى بحيث لا يرى أي ارتفاع أو انخفاض عن السطح المشار إليه...
ومن الواضح، أنّ مثل هذا الوصف البالغ درجته القصوى في الدقة ينطوي على
ص: 138
جملة من الدلالات الفنية، منها: إشباع الحسّ الجمالي لدى المتلقي، و منها:
إبراز الإبداع للّه تعالى، حيث أنّ إنشاء الجبال و نسفها يخضعان لنفس المصدر الإبداعي، فكما أنشأها تعالى بهذا الشكل فإنّه تعالى ينسفها وفق شكل آخر، ويؤكد هذه الدلالة أنّ النص ذكر عبارة (ربي) في قوله تعالى يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً ، ملفتا النظر بكلمة (ربي) إلى الحقيقة التي أشرنا إليها، محققا بهذا النوع من التجانس بين الوصف الخارجي للشيء وبين دلالاته الفكرية، الإحكام الهندسي لعمارة النص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال اللّه تعالى. وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، وَ صَرَّفْنٰا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً، فَتَعٰالَى اَللّٰهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ ، وَ لاٰ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ، وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ، وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ...
هذا المقطع من سورة طه يشكّل خيطا فنيّا يربط بين موضوعات السورة وعنصرها القصصي، حيث لحظنا قصة موسى مع فرعون وقومه، وسنلاحظ قصة جديدة تتعلق بآدم (ع)، ونلاحظ الآن موضوعا يرتبط بقضايا المجتمع المعاصر لنزول القرآن الكريم، وهو الموضوع الذى يربط بين القصص المختلفة التي يتوسّل بها النص لإنارة الأفكار الرئيسة للسورة... الموضوع هو: نزول القرآن الكريم، والإشارة إلى أنّه يتضمّن وعيدا يستهدف حمل الناس على التقوى أو الاتعاظ بقصص الماضين وغيرها... كما أنّ هناك موضوعا آخر طرحه المقطع وهو خاص بمحمد (ص) من حيث علاقته بنزول الوحي حيث يطالبه النص بعدم التعجل بقراءة القرآن قبل أن يتم وحيه، وحيث يطالبه بأن يقول وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ... ثم هناك موضوع ثالث هو الإشارة إلى أنّ اللّه تعالى عهد إلى آدم (ع) أن يلتزم بشيء ولكنه نسي ذلك
ص: 139
وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ، وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ... هذه الآية أو العبارة تشكّل (تمهيدا) لعنصر قصصي جديد يتصل بشخصية آدم (ع)، - حيث سبقتها مطالبة من اللّه تعالى بعدم التعجل في قراءة القرآن، ومطالبة بزيادة العلم من اللّه تعالى... وسنرى أنّ هذه المطالبة تشكّل الخيط الفني الذي يربط بين الأقصوصة الجديدة (أقصوصة آدم) وبين موضوعات السورة الكريمة.
إذن، لنتقدم إلى الأقصوصة التي مهّد لها - كما قلنا - بقوله تعالى وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ ... . ترى: ماذا عهد اللّه تعالى لآدم ؟ هذا ما سكتت القصة عنه وجعلته مجملا، محتفظة بالسرّ، لنكشف عنه في تضاعيف القصة حتى تحقق بذلك عنصر الإمتاع القصصي.
إذن فلنتابع الأقصوصة... يقول النصّ : وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ : اُسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ ، فَقُلْنٰا: يٰا آدَمُ ، إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ ، فَلاٰ يُخْرِجَنَّكُمٰا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقىٰ ، إِنَّ لَكَ أَلاّٰ تَجُوعَ فِيهٰا وَ لاٰ تَعْرىٰ ، وَ أَنَّكَ لاٰ تَظْمَؤُا فِيهٰا وَ لاٰ تَضْحىٰ ... .
إنّ هذا القسم من الأقصوصة يتكفّل بكشف السرّ الذي أبهمه (التمهيد) القائل وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ ... حيث يستخلص القارىء أو السامع بأنّ الشيء الذي عهده اللّه لآدم هو: لفت نظر آدم إلى أنّ الشيطان عدوّ له ولزوجته، وحذّرهما من وسوسته التي تستتلي إخراجهما من الجنّة: الجنة التي لا جوع فيها ولا عطش، ولا ظمأ فيها ولا حرّ الشمس...
واضح، أنّ هذا القسم من الأقصوصة يطرح جملة من الحقائق المتصلة بشخص إبليس وسمته المضلّلة، وبضرورة الحذر منه، كما يطرح حقائق تتصل ببيئة الجنّة: من حيث عناصر الإشباع فيها بنحو لا وجود فيه للجوع والعطش والعري والحرّ... بيد أنّ مثل هذه البيئة المحفوفة بالنعيم المطلق، سرعان ما عرض لساكنها ما سحب أثره السلبيّ عليها، ألا وهو وسوسة الشيطان
ص: 140
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ ، قٰالَ : يٰا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىٰ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاٰ يَبْلىٰ ... إنّ هذه الوسوسة من قبل الشيطان قد مهّد لها النص أولا حينما نقل لنا قضية المولد البشري ومطالبة الملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس من ذلك وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ : اُسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ ... هذا التمهيد يبدأ الآن بسحب أثره على القصة، فيبدأ إبليس بوسوسته التي تظل صدى لسلوكه الممتنع عن السجود لآدم، كما أنّ القصة حذّرت في التمهيد السابق من إبليس فقالت مخاطبة آدم (ع) فَقُلْنٰا يٰا آدَمُ ، إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ ... وها هو التمهيد السابق يسحب أثره على القصة أيضا، فيتجسد مفهوم (العدو) في عملية الوسوسة لآدم فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ ... ...
طبيعيا، ينبغي ألاّ ننسى بأنّ القصة لم تحصر الحديث في آدم (ع) بل أدخلت بطلا آخر هو (زوجة آدم) حينما قالت القصة إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ حيث يستخلص القارىء وجود بطلين هما آدم وزوجته قد تعرّضا لتجربة طارئة هي: موقفهما من إبليس...
والمهم هو: أنّ التمهيد لهؤلاء الشخوص، والتمهيد لسمات كل منهما ينعكس على القسم الأوّل من القصة، فيما يكشف مثل هذا التنامي لموضوعات القصة عن إحكامها الهندسي من حيث علاقة موضوعاتها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ ، قٰالَ : يٰا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىٰ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاٰ يَبْلىٰ ، فَأَكَلاٰ مِنْهٰا فَبَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا، وَ طَفِقٰا يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ ، وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ ، ثُمَّ اِجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَتٰابَ عَلَيْهِ وَ هَدىٰ ، قٰالَ : اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدٰايَ ، فَلاٰ يَضِلُّ وَ لاٰ يَشْقىٰ ...
ص: 141
في هذ القسم من قصة آدم (ع)، نواجه طرحا يتضمّن أكثر من حادث و موقف يرتبط و موقف يرتبط بتجربة المولد البشري، إنّه يتضمّن وسوسة الشيطان لآدم في حمله على الأكل من الشجرة المنهيّ عنها، ويتضمّن نزوله إلى الأرض بعد حادثة الأكل، ويتضمّن التجربة العبادية المترتبة على النزول المشار إليه...
يعنينا من هذه الحوادث والمواقف صياغتها الفنية من جانب، وصلتها بعما السورة الكريمة من جانب آخر... أمّا صياغتها الفنية: فمن حيث العرض القصصي نجد - من خلال مقارنة هذه الأقصوصة عن آدم مع الأقاصيص التي وردت في سور أخرى - أنّ هناك حوادث ومواقف، قد اختزلت هنا (و الأقصوصة التي نتحدث عنها الآن) لأسباب فنيّة بطبيعة الحال... لقد اكتفى النص بالإشارة إلى أنّ الشيطان عدوّ لآدم وحواء، وحذّرهما من محاولته إخراجهما من الجنة (وهذا هو القسم الأول من الأقصوصة)، واكتفى - فى القسم الثاني منها - بالإشارة إلى أنّ الشيطان قد وسوس لآدم قائلا له هَلْ أَدُلُّكَ عَلىٰ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاٰ يَبْلىٰ ... واكتفى النص - في القسم الثالث من الأقصوصة، بالإشارة إلى أن آدم وحواء قد أكلا من الشجرة فَبَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا، وَ طَفِقٰا يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وأنّ آدم قد عصى ربه فغوى، وأنّ اللّه تعالى قد اجتباه من بعد فتاب عليه وهدى... واكتفى النص - في القسم الرابع من القصة - بالإشارة إلى هبوط آدم وحواء إلى الأرض و ما يستتبع ذلك من العداوة القائمة بين الخير والشر في شتى صعد السلوك وضرورة الالتزام بمبادىء الخير المفضية إلى سعادة الإنسان...
هذه هي مستويات العرض القصصي للأحداث والمواقف، حيث ندرك بوضوح بأنّ أيّ تفصيل أو اختزال للحادثة والموقف لا بدّ أن ينطويا على أسرا فنيّة ترتبط بهيكل السورة الكريمة من جانب (حيث أنّ القصة تعرض لإنارة فكرة السورة)، وترتبط - من جانب آخر - بالحرص على تقديم فكر خاصة
ص: 142
يستهدف النص إبرازها إلى المتلقّى، و هي ما تسمى بالفكر الثانوية فى النص:
علما بأنّ الفكرة الثانوية لا تعني أنّها أقلّ من الفكرة الرئيسة أهمية بقدر ما تعني أنّ هناك فكرا قد استهدف إبرازها في هذه السورة أو تلك فتصبح رئيسة، وما عداها تصبح ثانوية، في حين يحدث العكس أيضا في سورة أخرى، وهكذا...
المهمّ ، أنّ القسم الذي نتحدث عنه الآن، يظل متجسّدا في قوله تعالى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ ، قٰالَ : يٰا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىٰ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاٰ يَبْلىٰ؟ أي: أنّ هناك وسوسة من الشيطان لآدم، تتمثّل في اقتراحه بأن يدلّ آدم (ع) على شجرة الخلد، وعلى ملك لا يبلى... هذا الاقتراح قد أجمله النص، يحث يظل القارىء محاطا بضبابيّة فنية ممتعة حيال مفهوم (الوسوسة) أولا، وحيال ظاهرة (شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ) ثانيا، وحيال (الملك الذي لاٰ يَبْلىٰ ) ثالثا... طبيعيا، تظل النصوص المفسرة عنصرا مهما في إلقاء الضوء على هذه الضبابية الفنيّة، بيد أن الأهم من ذلك هو: أنّ النص القرآني الكريم يصوغ الأقصوصة وفق مستوى خاص يسمح للمتلقّي بأن يستكشف بنفسه دلالات عامة يفيد منها - دون أدنى شك - في تعديل سلوكه... لكن، قبل أن نعرض للإمكانات الذوقية التي سوف يستخلصها القارىء من مفهومات «الوسوسة» و «شجرة الخلد» و «الملك الذي لا يبلى»، ينبغي أن ينتبه للصلة البنائية بين هذه المفهومات وبين القسم الأول من الأقصوصة حيث حذّر هذا القسم آدم (ع) من عداوة الشيطان ومحاولة إخراجه وإخراج حواء من الجنة، وهو تحذير ينعكس الآن على المفهومات التي تضمنها هذا القسم (الوسوسة وسواها) فيما تكشف مثل هذه الانعكاسات، عن إحكام البناء الفنّي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 143
ص: 144
ص: 145
ص: 146
قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ ، وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ... ..
تبدأ سورة الأنبياء بهذه المقدّمة التي تتضمّن رسما لغالبية البشر المنعزلين عن السماء وعن إدراك وظيفتهم العبادية التي أوكلها اللّه إليهم...
هذا الرسم، يبين ثلاث سمات من السلوك المنعزل عن اللّه: الغفلة، اللعب، اللهو... (وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ ) (وَ هُمْ يَلْعَبُونَ ) (لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) ... وسنرى (ونحن نتحدث عن البناء الهندسي للسورة) إنّ هذه الدلالات الفكرية المطروحة في المقدمة: تنعكس إنارتها على مجموع النص.
لكن قبل ذلك ينبغي أن نقف عند خطوط هذه المقدمة جميعا... فأولا يستهل النص الحديث عن السمات الثلاث المذكورة بأنه قد اقترب قيام الساعة، بل الحساب في الواقع (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ ) ، إن استهلال السورة بهذا التحذير المصحوب بالهول (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ ) يعني لفت النظر إلى أشدّ ألوان المسؤولية التي يتحملها الإنسان وترتيب الآثار على ذلك في القريب...
فالإشارة إلى قرب الساعة كافية لشدّ الانتباه على خطورة ما سوف يواجهه الإنسان لا محالة، كما أن الإشارة إلى (الحساب) دون الإشارة إلى قيام الساعة تعني المزيد من شدّ الانتباه على خطورة السلوك الذي سيحاسب الشخص عليه، ولا شيء أدلّ على التوتّر الذي يصيب الشخصية من توقّعها لمحاسبة السلوك الصادر عنها... لكن مع ذلك، مع أنه قد (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ ) ... فهم «مُعْرِضُونَ » ، «يَلْعَبُونَ » ، «لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ » .
ص: 147
هذه السمات الثلاث: الغفلة، اللعب، اللهو، تظل موشحة بما هو عام و كليّ و مطلق، أي تتحدث إلى كافة الآدميين، في جميع الأزمنة... إلا أنها - في الآن ذاته - تتحدث عن مجتمع خاص هو المجتمع الذي عاصر رسالة الإسلام حيث وصل النص بين كون الناس قد اقترب حسابهم وبين المجتمع الجاهلي الذي وسمه النص بما يلي: وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ .
طبيعيا، أن النقلة الفنية الضخمة الممتعة التي وصلت بين مطلق الناس وبين مجتمع خاص من جانب، ثم رسم هذا المجتمع الخاص من خلال الحوار الداخلي الجمعيّ من جانب آخر: تظل أمرا مندهشا من حيث الصياغة... ويعنينا منها الآن أن الحوار كشف عن أن هناك نفرا قد تحدثوا فيما بينهم سرّا، ويعني بهم المشركين، بأن محمدا (ص) من البشر لأنه من جنس آخر مثلا، وإلى أنه ساحر، وأنّهم مندهشون من كيفية تقبّل الناس للسحر أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ... هذا الكشف تمّ من خلال شطر من آية واحدة (وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى، اَلَّذِينَ ظَلَمُوا، هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) .
لنلاحظ أن هذه الفقرات الأربع المصاغة بهذا النحو من فرز الجمل بعضها عن البعض: قد. اختزلت كثيرا من التفصيلات التي كان من الممكن رسمها، إلا أن النص - من خلال الاقتصاد اللغوي - قد حذفها ليدلل فنيّا على الكلمة المدهشة التي تبتعث الإثارة لدى المتلقي.
والآن خارجا عن الصياغة الفنية المذكورة، ماذا نواجه من الدلالات الأخرى في هذه المقدمة من سورة الأنبياء؟ النص يقدّم لنا جواب النبيّ (ص) على الحوار الجمعي السرّي الذي صدر
ص: 148
عن المنحرفين: (قٰالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ) ...
إذا، الحوار السرّي لا يخفى على اللّه تعالى، ومن ثم فإن فاعلية ما هو (سريّ ) لديهم قد انتفت دون أدنى شك... لكن النص يواصل - بعد هذه الجملة الاعتراضية التي تنطوي على سرّ فنّي هو عدم فاعلية ما هو سرّي بين المنحرفين - يواصل تقديم جوانب أخرى من حوارهم: بَلْ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ ، بَلِ اِفْتَرٰاهُ ، بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ ... هذا التسلسل للتهم التي وجهها المنحرفون (أضغاث، افتراء، شعر)، يكشف بوضوح عن أن المنحرفين لا يملكون أدنى يقين علمي بهذه التهم بدليل أنهم لم يتفقوا على تهمة واحدة محددة، فحينا يقولون انه حلم، وحينا آخر أنه افتراء، وحينا ثالثا أنه شعر... ومع هذا التشكيك أو التردد في تحديد التهمة، تنتفي فاعلية الموقف الذي يصدرون عنه، بما في ذلك تحدّيهم الأخير القائل (فَلْيَأْتِنٰا بِآيَةٍ كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ ) ... فمطالبتهم بالإتيان بآية تنتفي أهميتها أيضا ما داموا أساسا لا يصدرون عن اليقين العلمي في ذلك، وهذا ما سوف يرد النص عليه عندما يعقّب قائلا (مٰا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) ، فالأمم البائدة بدورها قد طالبت بظاهرة إعجازية، وحقّق طلبها فعلا، لكن لم تؤمن أيضا، فكيف نتوقع أن يؤمن هؤلاء الجاهليون ؟؟ هذا هو الردّ الذي قدمه النص جوابا على المنحرفين... وهذا ما يتصل بمطالبتهم بظاهرة إعجازية، - أمّا ما يتصل بالتهم التي وجهوها إلى النبيّ ، فإن الأجزاء اللاحقة من السورة سوف تتكفل بالرد عليها أيضا (بالنحو الذي سنقف عليه لاحقا).
قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ * وَ مٰا جَعَلْنٰاهُمْ جَسَداً لاٰ يَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ مٰا كٰانُوا خٰالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنٰاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنٰاهُمْ وَ مَنْ نَشٰاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ * لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ كِتٰاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ .
ص: 149
قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ * وَ مٰا جَعَلْنٰاهُمْ جَسَداً لاٰ يَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ مٰا كٰانُوا خٰالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنٰاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنٰاهُمْ وَ مَنْ نَشٰاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ * لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ كِتٰاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ .
هذا المقطع من سورة الأنبياء يشكّل جوابا فنيّا لمقدمة السورة التي رسمت سلوك المنحرفين بأنه غفلة ولعب ولهو حيث اتهموا رسالة الإسلام بأنها سحر وبأنها صادرة عن بشر مثلهم... وها هو النص الآن يجيبهم قائلا:
بأنّ الرسل السابقين كانوا منتسبين إلى العنصر البشري أيضا، وإلى أن اللّه لم يجعلهم جسدا لا يأكل الطعام، ولم يجعلهم خالدين لا يموتون.
ومن الواضح أن هذا الجواب تتطلبه الضرورة الفنيّة لقول المنحرفين [(هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) ] لأن تصوراتهم قائمة على أن إمكانية الرسالة لا بد أن تقترن بغير ما هو عادي من الشخوص... وبالرغم من تفاهة هذه التصورات إلا أنّ النص يستهدف تقديم الحجة والدليل عليهم حتى لا يتشبّثوا عند المحاسبة بأيّ عذر في هذا الميدان.
ويلاحظ أن النص عقب على كل ذلك بفقرة ذات خطورة بالغة الشدة في قوله تعالى [(لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ كِتٰاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ ) ] فإن مجرد اهتمام السماء بالعنصر البشري من خلال نزول الرسالة عليهم كاف بأن يحملهم على تقدير هذه المهمة بدلا من إنكارها واتهام صاحبها بالسحر والافتراء والحلم والشعر...
على أية حال، بعد هذه الإجابة يتقدم النص بتذكير المنحرفين بجزاءات السماء التي ألحقتها بالبائدين ممن وقفا نفس الموقف المشكك برسالات السماء وَ كَمْ قَصَمْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ كٰانَتْ ظٰالِمَةً وَ أَنْشَأْنٰا بَعْدَهٰا قَوْماً آخَرِينَ ... ثم ينتقل النص إلى تفصيل حدث الجزاء من حيث ردود الفعل السابقة عليه، بهذه الصورة: فَلَمّٰا أَحَسُّوا بَأْسَنٰا إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَرْكُضُونَ * لاٰ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلىٰ مٰا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسٰاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ * قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا
ص: 150
كُنّٰا ظٰالِمِينَ فَمٰا زٰاَلَتْ تِلْكَ دَعْوٰاهُمْ حَتّٰى جَعَلْنٰاهُمْ حَصِيداً خٰامِدِينَ .
إن رسم المراحل السابقة على هلاك البائدين بهذا النحو ينطوي على أسرار فنية بالغة الأهمية، فحينا نجد النص القرآني في مواقع أخرى يتحدث عن ردود فعل المنحرفين وهم في الموقف الأخروي أو النار، وحينا يرسم النص القرآني ردود فعل المنحرفين وهم في المرحلة السابقة على الجزاء الدنيوي، وفي الحالتين فإن رسم أمثلة هذه المواقف تعمق من قناعة المتلقّي بالحقائق المطروحة، فالأقوام السابقون قبل أن يحصدهم الموت أو العقوبة (إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَرْكُضُونَ ) ، أي عندما يواجهون الجزاء الدنيوي يهربون سراعا من العقوبة [(فَلَمّٰا أَحَسُّوا بَأْسَنٰا إِذٰا هُمْ مِنْهٰا - أي العقوبة - يَرْكُضُونَ ) ]، لكن ما هو جواب رسل الموت أو العقوبة لهم ؟ «لاٰ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلىٰ مٰا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسٰاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ » .. إن هذا الجواب ينطوي على سخرية رسل الموت من المنحرفين حيث يهزأون بهم - عندما يجدونهم يفرّون من الموت - قائلين لهم: لا تهربوا، بل ارجعوا إلى مساكنكم وحياتكم المترفة.
طبيعيا، لا مساكن ولا حياة مترفة يمكن أن يرجع المنحرفون إليها بعد أن واجهوا الجزاء الدنيوي في إبادتهم، وإنما هي سخرية من رسل الموت يوجهونها إلى هؤلاء المنحرفين... وأهمية مثل هذه السخرية (من الزاوية الفنية) تتمثل في أكثر من جانب... فمن جانب نجد أن هذه السخرية تتناسب مع موقف المنحرفين الذين تحدثت مقدمة السورة عنهم «وَ هُمْ يَلْعَبُونَ » ، في «غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » ، «لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ » ، وهم يتهمون الرسالة بأنها أضغاث أحلام، أو افتراء، أو شعر، أو سحر... إلخ. إن أمثلة هذا السلوك القائم على اللعب واللهو والغفلة وعدم تقديرهم لمسؤولية الكلمة التي يلقونها حيال رسالة الإسلام، أمثلة هذا السلوك تتطلب إجابة متجانسة بحيث تتجاهل تماما ردود فعل المنحرفين، وتسخر منهم كما كانوا يسخرون من رسالة الإسلام.
ص: 151
مضافا لهذا التجانس المتّصل بالعمارة الفنية للسورة، نجد أن لغة السخرية السخرية التي يصدر عنها رسل الموت بالنسبة إلى المنحرفين، تساهم فنيّا في مضاعفة التوترات الداخلية للمنحرفين، فهم - مضافا لكونهم يعانون شدائد الموت الذي سيواجههم - يواجهون سخرية تضاعف من شدائد الموت، وهو أمر ينعكس أيضا على المتلقّي حيث يرسم له النص أمثلة هذه المصائر الكسيحة للمنحرفين. بغية حمله على الإيمان، وتعديل سلوكه، وهو الهدف الرئيس الذي يكمن وراء كل نص قرآني يعتمد أدوات الفن لتحقيق الهدف المذكور، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ .
هذا المقطع الجديد من سورة الأنبياء يطرح فكرة تتصل بفلسفة الوجود من حيث جدّيته وعدم انتسابه للعب واللهو... وهنا يجب أن نتذكّر أنّ مقدّمة سورة الأنبياء أشارت إلى أن المنحرفين (مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) فقوله (يَلْعَبُونَ ) وقوله (لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) يتضمّنان ظاهرة اللعب واللهو اللذين أنكرهما النصّ ، وها هو الآن يتحدّث عن إنكار اللعب واللهو أيضا ولكن من خلال فلسفة الوجود مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا ...
إذا، من حيث البناء الهندسيّ للسّورة، أمكننا الآن أن نتبين مدى الإحكام فيها من حيث تجانس الموضوعات المطروحة وإنمائها، فيما ربط النص بين إنكار اللعب واللهو عند الآدميين وبين إنكارهما من حيث الوجود...
ص: 152
ولنتابع المقطع: وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ لاٰ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ (19-20) إذا، أوضح النص الآن فلسفة الوجود بعد أن أنكر ظاهرتي اللعب واللهو حيث أبان بأنّ من في السماوات والأرض لا يستكبرون عن عبادة اللّه ولا يستحسرون وأنهم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون، وهذا يعني أن هدف خلق السماوات والأرض وغيرهما هو ممارسة الوظيفة العبادية، وها هم شخوص الملائكة وغيرهم يواصلون ممارسة وظيفتهم العبادية ليلا ونهارا لا يفترون، لا يملّون، لا يضعفون، لا يتوقّفون عن ذلك... وهكذا يصل النص بين مقدمة السورة ووسطها منميّا موضوعاتها بهذا النحو المحكم الذي لحظناه.
ولنتابع النص أيضا: أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ * لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ إلخ... هذه الآيات و ما بعدها امتداد للمقطع الذي نتحدث عنه، إنها تقدم تفصيلات جديدة عن الفكرة النافية للعب و اللهو، حيث تشير إلي الفكر الوثني غير المسؤل مما يترتب عليه الفساد في حالة الانسياق مع مفهوم الشرك (لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا...) .
وهنا يتقدم النص بعرض جانب من الظواهر الإبداعية التي يفضي التأمل فيها إلى تحقيق عنصر القناعة بفكرة التوحيد من جانب وبفكرة الجديّة المضادة للعب واللهو من جانب آخر،
ولنقرأ: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا وَ جَعَلْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ * وَ جَعَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا فِجٰاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَ جَعَلْنَا اَلسَّمٰاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَ هُمْ عَنْ آيٰاتِهٰا مُعْرِضُونَ ... .
إن عرض هذه الظواهر الإبداعية ينطوي على جملة من أسرار الفن المتصل بعمارة السورة... فقد سبق أن لحظنا أنّ مقدمة السورة ذكرت بأن
ص: 153
المنحرفين (معرضون) عن التفكر و التأهب لقيام الساعة، وها هو المقطع الذي نواجهه الآن يربط بين كون المنحرفين معرضين عن قيام الساعة والحساب (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) وبين كون المنحرفين معرضين أيضا عن التفكر في الظواهر الكونية (وَ هُمْ عَنْ آيٰاتِهٰا مُعْرِضُونَ ) ، كما يطرح المقطع من الآن ذاته حقائق علمية عن الكون مثل كون السماوات والأرض رتقا في السابق حيث لا تمطر السماء وحيث لا تنبت الأرض، ثم فتقتا بالمطر والنبات، ومثل جعل الجبال مانعة عن اضطراب الأرض، ومثل جعل السماء سقفا محفوظا من السقوط إلى الأرض... إلخ.
إذا، في هذا المقطع ربط هندسي بين مقدمة السورة ووسطها، كما أنّ فيه طرحا لحقائق علمية عن الكون، كما أن فيه ربطا بين هذه الجوانب التي تستهدف لفت الانتباه على الحقيقة العبادية المتمثلة في كون السماء والأرض وغيرهما من ظواهر الوجود لم تخلق عبثا (اللهو واللعب) وبين كون الإنسان (موظفا) لممارسة مهمته العبادية في الكون: حيث يختتم المقطع المذكور بهذه الفقرة كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ ، وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنٰا تُرْجَعُونَ ... هذه الفقرة - كما هو ملحوظ - تقرر حقيقة الموت من جانب واقتراب الساعة المطروحة في مقدمة السورة، كما تقرر حقيقة الاختبار أو الابتلاء أو الامتحان أو التجربة البشرية من جانب آخر، حيث يترتب على هذه الاختبار جزاء أخروي طرحت مقدمته السورة، ويطرحه هذا المقطع بقوله وَ إِلَيْنٰا تُرْجَعُونَ ، وبمثل هذا الربط بين أجزاء السورة نتبيّن مدى الإحكام الهندسي فيها (بالنحو الذي تقدم الحديث عنه)...
قال تعالى. وَ إِذٰا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ هُزُواً أَ هٰذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ هُمْ كٰافِرُونَ خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ
ص: 154
آيٰاتِي فَلاٰ تَسْتَعْجِلُونِ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاٰ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّٰارَ وَ لاٰ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهٰا وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ .
في هذا المقطع من سورة الأنبياء عرض لسلوك المنحرفين الذين سبق أن تحدّث النص عن جانب منه: حيث كان اللعب واللهو والغفلة والسخرية طابعا لسلوكهم، وها هو النص يعرض لنا جانبا آخر من غفلتهم أو لعبهم حيث يذكر ظاهرة السخرية - عند المنحرفين - من رسالة الإسلام إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ هُزُواً ، إلا أن النص سرعان ما يربط بين هذا الموقف المنحرف وبين إحدى سمات التركيبة البشرية القائمة على ظاهرة (العجلة) (خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ عَجَلٍ ) ، بحيث يستخلص المتلقي بأن الدافع إلى التعجل في إطلاق التهم هو الكامن وراء سلوك المنحرفين، لذلك يستثمر النص هذه السمة الملتوية عند المنحرفين ليهددهم من خلالها بالجزاء الذي سيترتب على سلوكهم، حيث قال سَأُرِيكُمْ آيٰاتِي فَلاٰ تَسْتَعْجِلُونِ وهذا يعني أن ظاهرة (العجلة) التي دفعتهم إلى السخرية من رسالة الإسلام، هي ذاتها تدفعهم إلى حلول العذاب فيهم، وإنها ذاتها ستريهم نتائج هذا السلوك، وهو الجزاء الأخروي الذي ينتظرهم... وقد جسّد المقطع هذه الحقيقة القائمة على (العجلة): جسّدها بصورة فنية حينما ذكر محاورتهم في هذا الصدد قائلا (وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ) .. لذلك سرعان ما عقّب النص على هذا التعجل بالعذاب قائلا لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاٰ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّٰارَ وَ لاٰ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ... لنلاحظ كيف أن المقطع جانس فنيّا بين عجلة المنحرفين وبين إتيان الساعة بغتة بحيث يتحيّرون فيها، فإتيان الساعة بغتة ينطوى على عنصر السرعة والمباغتة، كما أن «العجلة» تحمل دلالة التسرع، ولكن هذا التضاد بين السرعتين هو الذي ينير لنا حقائق الموقف بشكل مدهش، فعنصر (السرعة) يظل من جانب (ظاهرة سلبية) بالنسبة للمنحرفين، سواء أكانت (السرعة) قائمة
ص: 155
على كونها دافعا لديه، أو كانت جزاء ماحقا لهم بالنسبة إلى إتيان الساعة سريعا، لكن - من جانب آخر - تظل السرعة في إصدار التهم مضادة للسرعة في إتيان الساعة من حيث كون الأولى سمة سلبية تصدر عن المنحرفين ومن حيث كون الثانية سمة إيجابية يرتّبها اللّه على المنحرفين: جزاء مجانسا لسلوكهم.
والآن، خارجا عن هذا المبنى الهندسي، ينبغي أن نتذكر مبنى هندسيا آخر يقوم على عنصر (التعاقب) بين الجزاءات التي يرتبها النص على المنحرفين... ففي مقطع أسبق تحدث النص عن الجزاء الدنيوي للمنحرفين)، فَلَمّٰا أَحَسُّوا بَأْسَنٰا إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَرْكُضُونَ وهي ظاهرة هروبهم من الموت وندمهم على الانحراف في اللحظات الأخيرة من حياتهم، أما في هذا المقطع فيحدثنا النص عن البأس الأخروي وهو محاولتهم الهروب أيضا لكن من نار جهنم بعد أن حاولوا الهروب ومن نار الدنيا، وفي هذه الحالة أيضا لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم من الجزاء أو الساعة فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهٰا وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ ... لنلاحظ أيضا كيف أنّ النص جانس هنا بين عنصر (السرعة) الذي تقدم الحديث عنه وبين عنصر (السرعة) من ترتيب الجزاء حيث لا يؤخر المنحرفون. عن العذاب بل يعصف بهم سريعا دون أن تعطى لهم مهلة لتلافي الموقف.
أخيرا، يعود النص إلى الحديث عن (السخرية) التي طبعت سلوك المنحرفين - بعد أن ربط بينها وبين الميل إلى العجلة في إلقاء التهم - يعود إلى تذكير المنحرفين بالنتائج المترتبة على أقوام بائدين سبق لهم أن سخروا من الأنبياء أيضا قائلا: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحٰاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ .
إذا، أمكننا الآن ملاحظة هذا الإحكام الجميل في هندسة المقطع الذي بدأ بالحديث عن نتائج السلوك الساخر عند المنحرفين وربطه بأحد الدوافع أو
ص: 156
الميول البشرية الملتوية (حب العجلة)، ثم الانتهاء بالحديث عنه عبر ربطه بوقائع حسيّة واجهتها أقوام بائدة مارسوا نفس السلوك الآخر، وهو سلوك طرحه النص في مقدمة السورة وفصل الحديث عنه في المقطع المتقدم، بالنحو الذي أشرنا إليه.
قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنٰا لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاٰ هُمْ مِنّٰا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنٰا هٰؤُلاٰءِ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى طٰالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاٰ يَرَوْنَ أَنّٰا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهٰا مِنْ أَطْرٰافِهٰا أَ فَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ قُلْ إِنَّمٰا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاٰ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا مٰا يُنْذَرُونَ وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذٰابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ ...
هذا المقطع من السورة يقدم دلالات جديدة إلاّ أنها تحوم على الفكرة الرئيسة للسورة ونعني بها تلكم الفكرة التي طرحتها السورة في مقدمتها وهي كون الناس معرضين عن قيام الساعة من حيث محاسبتهم على السلوك... وها هو المقطع يتحدث عن هذه الفكرة في سياق جديد... الجديد هنا هو تذكير الناس بأن اللّه هو الحافظ الوحيد لهم من كل آفة تحلّ بهم: إلا أن هذا التذكير قد واكبه نفس رد الفعل المنحرف من قبل الكافرين. وهو كونهم (معرضين) عن ذلك (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) فكما أنّه حين (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) حيث استهلت السورة بهذه الدلالة، كذلك (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) بالنسبة إلى تذكيرهم بفاعلية اللّه وحفظه الناس من الآفات.
إذا، ثمة تجانس عضوي بين مقدمة السورة التي تحدثت عن اقتراب
ص: 157
المحاسبة في اليوم الآخر و كون الناس معرضين عن ذلك و بين كونهم معرضين عن ذكر الله أيضا... كما أن عملية (الحساب) نفسها قد واكبها التجانس العضوي حينما طرح المقطع الجديد الذي نتحدث عنه: قضية وضع الموازين يوم القيامة وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ فإشارة الآية إلى كون اللّه (كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ ) هي تطوير وإنماء عضوي لمفهوم (المحاسبة) التي طرحته مقدمة السورة، مقدمة السورة أشارت إلى أنه قد اقترب للناس حسابهم، أما هذا المقطع فيوضح جانبا من المحاسبة المذكورة مانحا هذه الدلالة أبعاد جديدة هي أنّ عملية المحاسبة قائمة على العدل (وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ) ، وإلى أنها لا تترك أدنى عمل يمارسه الإنسان حتى لو كان (مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) ...
إذا، ثمة طرح جديد لفكرة السورة القائمة على كون الناس غافلين عن (الحساب) لسلوكهم يوم القيامة...
والآن، بعد أن لحظنا هذا الجانب الفكري للسورة، نجد أن النص يقطع سلسلة الحديث عن اليوم الآخر ليعود إليه في خاتمة السورة بعد أن يمرّ علينا بمرحلة قصصية عن مجموعة من شخوص الأنبياء في ضوء الأحداث الاجتماعية التي واجهوها.
طبيعيا، أنّ العنصر القصصي - وهذا ما يستطيع غالبية نصوص القرآن المتضمنة للعنصر القصصي - يوظف فنيّا لإنارة الفكرة الرئيسة أو الأفكار الثانوية للسورة: مع ملاحظة أن القصة من الممكن أيضا أن تستقل في نفسها لتقدم فكرة خاصة ضمن مجموعة الأفكار التي تنتظمها هذه السورة أو تلك... كما أن القصص قد تكون في حجم الحكاية السريعة أو القصة القصيرة أو الطويلة مثلا: حسب ما يتطلبه الموقف الفكري في السورة.
ص: 158
و الآن حينما نمعن النظر فى القصصي لسورة الأنبياء، نجد أن هذه الأحجام الثلاثة من القصة قد انتظمت في النص، بل أن بعضها قد يعرض لشخصية الأنبياء بمجرد الذكر لأسمائهم والطابع العام لرسالاتهم...
ولعل أولى القصص التي استهل بها الحديث. قد طبعته السمة المذكورة وهي حكاية موسى وهارون حيث اكتفى النص بقوله عنهما: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ وَ هٰارُونَ اَلْفُرْقٰانَ وَ ضِيٰاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّٰاعَةِ مُشْفِقُونَ لكن بالرغم من هذه الإشارة السريعة لموسى وهارون: نجد رسم هاتين الشخصيتين قد وظّف لإنارة الفكرة العامة للسورة، حيث ذكر النص بأن ما أعطيا إيّاه هو ضياء وذكرى للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون... إن قوله. (وَ هُمْ مِنَ اَلسّٰاعَةِ مُشْفِقُونَ ) يحوم على نفس فكرة المحاسبة التي تتضمنها مقدمة السورة وتضمنها وسطها الذي سبق القصة، وتضمنته الآن هذه الإشارة القصصية السريعة...
إذا، أمكننا الآن أن نتبيّن أولا مدى الإحكام الهندسي الجميل الذي جانس ووصل بين أجزاء السورة، ومدى مساهمة العنصر القصصي أيضا في جمالية البناء الهندسي المذكور، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا بِهِ عٰالِمِينَ * إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا هٰذِهِ اَلتَّمٰاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهٰا عٰاكِفُونَ * قٰالُوا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا لَهٰا عٰابِدِينَ * قٰالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّٰعِبِينَ * قٰالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلىٰ ذٰلِكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ * وَ تَاللّٰهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنٰامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً إِلاّٰ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ .
هذه القصة تتحدث عن شخصية إبراهيم (ع) وموقفه من الفكر الوثني
ص: 159
الذي طبع مجتمعه... و نحن ما دمنا نتحدث عن سورة الأنبياء و الموقع الهندسي لهذه القصة من السورة، حينئذ يجدر بنا تحديد هذا الموقع و ينطوي عليه من دلالات فكرية تستهدفها القصة.
لقد ذكرت القصة بأن إبراهيم كان (راشدا) وأن اللّه قد آتاه رشده (وَ لَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ ) ، وبما أنه (راشد) حينئذ نتوقع أن تصدر عنه ممارسات تطبعها سمة (الرشد)، وبالفعل: بدأت القصة تتحدث عن موقفه الراشد من ظاهرة الأوثان التي عكف عليها أبوه وقومه، فهو لم يقلّد أباه في عبادة الأوثان، وهذا من أبرز معالم «الرشد» بصفة أن الأب أو القريب أشد تأثيرا من سواه على الشخصية، كما أنه لم يقلّد مجتمعه في عبادة الأوثان، وهذا بدوره من معالم «الرشد»... وعلى العكس من إبراهيم: كان مجتمعه غير راشد البتة بحيث قلّد الأجداد في عبادة الأوثان، وهذا ما أكده النص فى الحوار الذي أجراه على لسان مجتمعه (قٰالُوا: وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا لَهٰا عٰابِدِينَ ) ...
إذا، من حيث البناء الهندسي للقصة نجد تقابلا هندسيا جميلا بين شخصية إبراهيم غير المقلدة لأبيها ومجتمعها (إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا هٰذِهِ اَلتَّمٰاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهٰا عٰاكِفُونَ ) وبين المجتمع المقلد للآباء في عبادة الأوثان...
وقد أبرز النص نتائج هذا الحوار الفكري بين إبراهيم الراشد و بين مجتمعه المقلّد: حيث أجابهم إبراهيم (ع) بأنهم (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ) وأجابوه (أَ جِئْتَنٰا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّٰعِبِينَ ) .. لنقف هنا عند إجابة مجتمع إبراهيم الذي تساءل قائلا: (أَ جِئْتَنٰا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّٰعِبِينَ ) لنقف عند قولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّٰعِبِينَ ) لنربط هندسيا بين هذا الكلام وبين مقدمة سورة الأنبياء التي طرحت فكرة أن الناس (مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ ) ، ففي هذه المقدمة تأكيد على أن الناس
ص: 160
(لاعبون) لا أنهم جديون، و هذا ما طبع مجتمع إبراهيم - كما وجدنا - لكن الملاحظ أن مجتمع إبراهيم طرح عليه مفهوم (اللعب) على نحو التساؤل (أَمْ أَنْتَ - يا إبراهيم - مِنَ اَللاّٰعِبِينَ )، وهذا يعني أنهم (أسقطوا) ما في نفوسهم من سمات على شخصية إبراهيم.
ومن الواضح - من اللغة النفسية - أن المريض لكي يتحرر أو يخفف من آلامه وتوتراته وعيوبه يحاول أن (يسقط) عيوبه على الآخرين، وهذا ما فعله مجتمع إبراهيم بالنحو الذي لحظناه.
إذا، هذه الفقرة الحوارية الصادرة عن لسان القوم، الموجهة لإبراهيم، قامت بوظيفة فنية مزدوجة، حيث ربطت (من حيث البناء الهندسي) بين مقدمة السورة وبين العنصر القصصي فيها، حيث كشفت عن واحدة من ظواهر السلوك الشاذ عند المجتمع المذكور...
والآن، خارجا عن ذلك، لو تابعنا الحوار المذكور بين إبراهيم الذي نهاهم عن عبادة التماثيل وبين مجتمعه الذي أقرّ بكونه مقلدا لآبائه في عبادة التماثيل، نجد أن إبراهيم يتّخذ موقفا حاسما شجاعا هو (تَاللّٰهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنٰامَكُمْ ) وبالفعل نفّذ هذا التهديد (فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً إِلاّٰ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) ...
إن إبراهيم (ع) بهذا الموقف والممارسة لم يكشف عن كونه بطلا شجاعا فحسب بل دلّل على كونه (راشدا) أيضا: وفقا للسمة التي خلعها اللّه عليه (وَ لَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ ) ... حيث أبقى كبير الأصنام على حاله ولم يحطّمه مع باقي الأصنام (فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً إِلاّٰ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) ، مستهدفا من ذلك أن يرجعوا إلى الصنم الكبير الذي بقي على حاله، فلعلهم يسألونه عن البطل المكسّر لسائر الأصنام، وبما أنه (ع) مطمئن إلى أن الصنم الكبير لا فاعلية له: حينئذ سيلقي الحجة على القوم ويبرهن لهم عمليا: أصالة الفكر
ص: 161
الذي يصدر عن إبراهيم و سخافة الفكر الذي يصدر عن مجتمعه، و هذا النوع من التدبير (أي إبقاء كبير الأصنام على حاله) يتجانس مع مفهوم (الرشد) الذى خلعه الله على شخصية إبراهيم بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: قٰالُوا مَنْ فَعَلَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ * قٰالُوا سَمِعْنٰا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقٰالُ لَهُ إِبْرٰاهِيمُ قٰالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلىٰ أَعْيُنِ اَلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قٰالُوا: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا يٰا إِبْرٰاهِيمُ قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقٰالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّٰالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلىٰ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا هٰؤُلاٰءِ يَنْطِقُونَ قٰالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ * قٰالُوا: حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ * قُلْنٰا يٰا نٰارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ أَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ .
في هذا القسم أكثر من موقف وواقعة يتضمّن دلالات فكرية في غاية الخطورة... فإبراهيم الذي وصفته القصة بأنّ اللّه قد آتاه (رشدا): يقوم الآن بعمل راشد هو تحطيم الأصنام إلا كبيرا لهم، وها هو (رشده) ساقه إلى أن يجعل القوم (بعد مشاهدتهم تحطيم الأصنام) - وكانوا قد خرجوا في يوم العيد من مدينتهم حيث تمّ تحطيم الأصنام في غيابهم - فيتساءلوا (مَنْ فَعَلَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا ؟) وعندما أخبروا بأن إبراهيم (ع) هو بطل الحادثة، اقترحوا حينئذ محاكمته بحضور الجمهور، وسألوه (أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا يٰا إِبْرٰاهِيمُ ؟) فأجابهم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) ، لكن بما أنهم يعرفون جيدا أنّ الأصنام لا تتكلم، حينئذ (فَرَجَعُوا إِلىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقٰالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّٰالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلىٰ رُؤُسِهِمْ . لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا هٰؤُلاٰءِ يَنْطِقُونَ ) ... وهذه المحاكمة فضحت مجتمع إبراهيم، وأرادتهم بدلا من إبراهيم.
ص: 162
لقد كان إبراهيم (راشدا) - كما وصفه الله - حينما دبّر قضية إبقاء الصنم الكبير حتى يدين مجتمعه الوثني الهزيل، وهل يمكن لنا أن نتصور مجتمعا يبلغ هزاله الفكري درجة الانغلاق تماما عن إدراك أبسط الحقيقة. لقد تحاوروا مع أنفسهم، مخاطبين أنفسهم، قائلين لها إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّٰالِمُونَ ... لقد اتسموا بكونهم ظالمين حيث يعبدون أصناما لا تملك فاعلية على النطق، حتى أنهم نكسوا رؤوسهم من شدة الذهول الذي أصابهم حيال إبراهيم حيث قال لهم فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ وحيث أجابوه بعد الاعتراف بظلم أنفسهم قائلين (لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا هٰؤُلاٰءِ يَنْطِقُونَ ) ... والآن بدلا من أن ينصرفوا خجلا من فضيحة الموقف، نجدهم يصرّون على معاقبة إبراهيم (قٰالُوا. حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) لنلاحظ مدى الانغلاق الفكرى لدى المجتمعات الوثنية، إنهم بالرغم من الاعتراف بأنهم ظالمون في عبادة الأوثان: حيث يعبدون ما لا يستطيع النطق، وبالرغم من اعترافهم أمام إبراهيم أيضا بهذه الحقيقة، بالرغم من ذلك، يقولون بصلف ووقاحة وغباء لا نظير له (اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) و (حرّقوا) إبراهيم... إنه لموقف يستدر الإشفاق والرثاء حينما يتعطّل فكر الإنسان تماما عن ممارسة أبسط المهارات العقلية، وحينما يتحرك الكائن الآدمي نحو «العدوان» بحيث لا نتوقع حتى من مجتمع البهائم صدور ردود فعل عدوانية مماثلة لاقتراح هؤلاء القوم... إنهم يطالبون بإحراق شخصية تكسّر حجرا على الأرض، حجرا يعترف الحمقى المذكورون - بأنه لا ينطق ولا يملك فاعلية الدفاع عن كيانه.
المهم، أن القصة بهذا الرسم للموقف المذكور تقدّم لنا. النموذج العقلي للمجتمعات المنحرفة، وهي مجتمعات يتعطل فكرها عن الحركة تماما، يستوي في ذلك أن تكون هذه المجتمعات قديمة - كما لحظنا - أو حديثة تمارس نفس العدوان في دفاعها عن الوثنية المعاصرة...
ص: 163
و أيا كان، فإن القصة في ختام رسمها لحادثة الإحراق التي اقترحها المنحرفون، تعقّب على ذلك قائلة: قُلْنٰا يٰا نٰارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ أَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ ...
هذه الحادثة تقدم بدورها حقيقة أخرى هي: أن اللّه تعالى يمدّ الشخصية المخلصة له برعايته التي لا حدود لها، لقد جاهد إبراهيم - في حادثة تحطيمه للأصنام - من أجل اللّه، وها هو اللّه تعالى يثيبه دنيويا على جهاده. حيث يحوّل النار إلى برد وسلام، وحيث يحوّل النصر الذي توقعه الحمقى إلى هزيمة تلحقهم ونصر يلحق إبراهيم.
إذا، أمكننا الآن أن نتبيّن الدلالات الفكرية التي استهدفها النص في عرضه لقصة إبراهيم وقومه، كما يمكننا ملاحظة الموقع الهندسي لها بالنسبة إلى أجزاء السورة الأخرى: حيث جانست بين الخسار الدنيوي الذي لحق مجتمع إبراهيم وبين الخسار الذي أشارت إليه في مقدمة السورة بالنسبة لأقوام آخرين وقفنا عليه في الأقسام السابقة.
قال تعالى: وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا لِلْعٰالَمِينَ وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ .
بهذا المقطع تختم قصة إبراهيم التي وقفنا على تفصيلاتها سابقا حيث مارس عملا بطوليا هو تحطيم الأصنام، وحيث أنقذه اللّه من النار التي أعدّها المنحرفون لإلقائه فيها... وها هو النص يختم القصة بالإشارة إلى إنقاذ إبراهيم - من الظالمين - إلاّ أنه يدخل بطلا جديدا إلى القصة هو لوط (ع) حيث أشركه مع إبراهيم في إنقاذهما من الظالمين.
ص: 164
فما هو السر الفني لإدخال هذا البطل الجديد فى القصة ؟ سرّ ذلك هو أن إبراهيم (ع) كان وحده هو البطل الذي عارض حتى أباه في مجتمع الوثنية... وعندما يدخل (لوط) بطلا آخر في عملية الإنقاذ فهذا يعني أن المتلقي بإمكانه أن يستخلص وجود شخص آخر له أهميته الاجتماعية في ذلك العصر وهو لوط ابن أخي إبراهيم حيث تذكر النّصوص أنه بإبراهيم (ع)...
بعد ذلك، ذكرت القصة أن اللّه قد وهب لإبراهيم وإسحاق ويعقوب نافلة، وجعلهم صالحين، وجعلهم أئمة يعملون بأوامره. وأوحى إليهم شرائع النّبوة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة...
والنص - من الوجهة الفنية - أبرز قضية الصلاة والزكاة بصفتهما من أشد الظواهر العبادية أهمية بالنسبة إلى السماء، ولذلك استثمر النص سمة لهؤلاء الأبطال الذين اغتذوا من إبراهيم: فأبرز قضية (النبوة) كما أبرز قضية الصلاة والزكاة: تأكيدا لأهمية هاتين العبادتين من جانب وتحقيقا للتجانس القصصي بين شخصيات الأنبياء من جانب آخر، فالملاحظ أننا الآن لدى عنصر قصصي خاص بشخصيات الأنبياء: بدأهم النص بشخصيتي موسى وهارون، ثم بشخصية إبراهيم وبعدئذ بشخصيتي إسحاق ويعقوب، كما لحظنا الآن، حيث تم مع رسم الشخصيتين سلسلة الشخوص الذين وظفهم النّص في المادة القصصية لإبرازهم مقابل المنحرفين، فقد سبق أن لاحظنا أن السورة بدأت برسم النص مقابل أولئك شخوص الأنبياء فهذا يعني أنه يقدّم شخوصا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ليقابل بين من هو لاعب ولاه وغافل أساسا وبين من هو يمارس توصيل رسالة اللّه إلى مجتمعه وهم الأنبياء.
والآن لنتابع، سلسلة شخوص الأنبياء... وَ لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ
ص: 165
وَ أَدْخَلْنٰاهُ فِي رَحْمَتِنٰا إِنَّهُ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ ... إن شخصية لوط (ع) - و قد مهد لنا النص من خلال صلتها النسبية بإبراهيم - رسمها النص الآن مستقلة مع شخوص القصة بعد أن رسمها ثانوية آمنت بإبراهيم... ويلاحظ أن النص يشدد - في رسمه لجميع شخوص الأنبياء كما سنلاحظ لاحقا - على سمات خاصة مثل كونهم (صالحين) (عابدين) الخ، كما يشدد على قضية (إنقاذهم) من الأذى الذي يحاول الظالمون إلحاقه بهم أو إنقاذهم من العذاب الدنيوي الذي يلحقه اللّه بالظالمين، فقد لحظنا مثلا أن النص عقّب على حادثة النار التي أنقذ اللّه إبراهيم منها بقوله (وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ لُوطاً) ، وها هو الآن يكرر هذا الإنقاذ بالنسبة إلى شخصية لوط التي رسمها مستقلة، فيقول (وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ ) .
إن التشدّد على كل من سمتي (الإصلاح) (الإنقاذ) بالنسبة لشخوص الأنبياء يعني أن النص يستهدف لفت الانتباه على هذه الحقائق ذات الأهمية دون أدنى شك، فسمات (الصلاح) و (العبادة) ونحوهما تمثل النموذج الذي ينبغي أن يصدر عنه الآدميون في غمرة وظيفتهم الخلافية في الأرض، كما أن عملية (إنقاذهم) من السوء، تعني حقيقة أن الله تعالى لا يدع عباده الملتزمين بمبادىء السماء وحدهم بل يمدهم برعايته وينقذهم من الشرور التي تصدر عن مجتمعاتهم كما ينقذهم من العقاب الذي يلحقه اللّه بالأشرار وهو ما أشارت القصة إليه عندما عقّبت على (لوط) بقولها (وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ ) حيث أبيدت القرية المذكورة، و (أنقذ) لوط من ذلك، وهو ما نلحظه بالنسبة لسائر شخوص الأنبياء الذين سنقف عندهم لاحقا.
قال تعالى: وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ نَصَرْنٰاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ ...
ص: 166
قال تعالى: وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ نَصَرْنٰاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ ...
في هذه الأقصوصة (أقصوصة نوح (ع) عرض للحقائق التي لحظناها عند شخوص الأنبياء السابقين الذين تقدّم الحديث عنهم، من حيث إنقاذ الشخصية وإهلاك العدو، فها هو نوح وأهله الذين آمنوا برسالته أنقذهم اللّه من الشدائد التي ألحقتها بهم، وها هو مجتمعهم الموصوف بالسوء وهي الصفة التي خلعها النص على قوم لوط الذين تحدّث النص عنهم قبل قصة نوح:
تحقيقا لعنصر التجانس الفني في عمارة السورة، ها هي مجتمعاتهم يهلكها الله بالطوفان (إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ...
إن النّص بعد هذه الأقصوصة يتقدم الى شخصيتي داود وسليمان فيعرض لهما: لكن من خلال سمات أخرى تختص بهاتين الشخصيتين مع انصباب ذلك على نفس الفكرة القصصية التي تعني بالإشارة إلى أن اللّه تعالى يمد عباده المخلصين برعايته... ف (داود) و (سليمان) وهما (أب وابن)، وكلاهما (نبىّ ) قد رسمهما النص في أقصوصة واحدة وجعلهما بطلين في موقف، ثم جعل كلا منهما بطلا يستقل بنفسه في وقائع ومواقف خاصة... إن رسمهما بطلين لقصة واحدة يتصل بظاهرة قضائية (وهي قصة الزرع الذي وقعت فيه الغنم فأتلفته) يفرضان - فنيا - ضرورة ذلك. ليس لأنهما (أب وابن) فحسب بل لأنهما فعلا مارسا قضاء في القضية المذكورة
وَ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ ، وَ كُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ ، وَ كُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَ عِلْماً ..
ومن الزاوية الفنية: يمكننا ملاحظة جمالية الرسم لأب وابن يحكمان في قضية معينة، ثم يختلفان في الحكم عليها، فيتدخل اللّه تعالى في ذلك ويلهم (سليمان) الحكم الواقعي في ذلك... وجمالية الرسم تتجسد في رسمها بطلين لقصة واحدة من خلال كونهما (أبا وابنا) ثم من خلال كونهما نبيين
ص: 167
بالفعل أو بالقوة: حيث تذكر النصوص المفسّرة أن سليمان كان ابن إحدى عشرة سنة عندما الهم (الحكم) في القضية...
أما من زاوية الدلالة الفكرية فإن النص يطرح - من جانب - أهمية القضاء كما يطرح (النسخ) حيث نسخ سليمان حكم داود من قبل الله تعالى تحسيسا بأن السماء تتدخل في تكييف الظواهر العبادية بقدر ما تفرض المصلحة ذلك.
وأيا كان، فإن النص بعد أن جعل داود وسليمان بطلين لقصة واحدة فصل أحدهما عن الآخر وجعلهما في قصة أخرى تتداخل مع القصة السابقة بطلين يستقلّ كل واحد عن الآخر فقال عن داود (ع) وَ سَخَّرْنٰا مَعَ دٰاوُدَ اَلْجِبٰالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّٰا فٰاعِلِينَ وَ عَلَّمْنٰاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شٰاكِرُونَ؟ وقال عن سليمان وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ عٰاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلىٰ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا وَ كُنّٰا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عٰالِمِينَ وَ مِنَ اَلشَّيٰاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَ كُنّٰا لَهُمْ حٰافِظِينَ .
إن النص جعل كلا من داود وسليمان يحومان على الفكرة القصصية التي تعنى بالإشارة إلى أن اللّه تعالى يمدّ عباده المخلصين برعايته: حتى لتصل هذه الرعاية إلى خرق القوانين الكونية (وهو خرق يصاحب شخصيات النبيين ومن دونهم من الأولياء)، فجعل اللّه الجبال مثلا تسير مع داود وكذلك الطير أو تتجاوب بالتسبيح، كما ألهمه صناعة الدروع للإفادة منها عسكريا... والأمر نفسه بالنسبة لسليمان: حث سخّر اللّه الريح والشياطين يغوصون في البحر، ويعملون عملا دون ذلك مثل صناعة المحاريب وغيرها.
المهم، أن عملية التسخير لعنصري الجن والحيوان، فضلا عن الجمادات مثل الجبل والحديد ونحوهما: كل أولئك يفصح عن مدى الرعاية التي يوجهها اللّه لعباده المصطفين الذين يلتزمون بمبادئه وانعكاسات ذلك - ليس على الشخصية التي اصطفاها اللّه لأداء رسالة فحسب - بل على
ص: 168
المجتمعات التي تفيد من ذلك فى ميدان التصنيع و غيره.
إذا، جاء رسم شخصيتي داود وسليمان متجانسا - من جانب - مع الخط العام للسورة، مع شخوص الأنبياء الآخرين، كما جاء - من جانب آخر - بطرح جديد للدلالات الفكرية التي يستهدفها النص، بالنحو الذي تحدثنا عنه.
قال تعالى: وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَ آتَيْنٰاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ ذِكْرىٰ لِلْعٰابِدِينَ .
هذه الأقصوصة تتناول شريحة عرضية من حياة (أيوب) (ع)... وقد رسم النصّ الأنبياء (ع) أو الأبطال الذين انتظمتهم هذه الأقاصيص على وفق سمة خاصة يتفرّد بها في نفس الآن الذي رسمهم جميعا على وفق طوابع مشتركة... لقد كان لموسى وهارون وإبراهيم ولوط وداود وسليمان سمته الخاصة التي وقفنا عليها... أما في هذه الأقصوصة فإن السمة الخاصة بأيوب (ع) قد تمثلت في واحد من أشدّ الابتلاءات التي لا تطاق عادة إلا إذا عصم اللّه، لقد ابتلي، بأمراض وأوجاع فصلتها نصوص التفسير بنحو لافت للنظر بل إنّ نفس (الدعاء) الصادر عن أيوب يكشف عن شدة ذلك حيث هتف قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ ، فالضرّ هنا لو لم يتّسم ببالغ الشدة لما اقترن بأمثلة هذا الدعاء المصحوب بعبارة (وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ ) ، والأمر - بالنسبة إلى شدائد الحياة التي واجهها أيوب - لم يقف عند المرض فحسب بل تجاوزه إلى هلاك أهله وأمواله. ويلاحظ هنا أن اللّه تعالى قد استجاب لأيوب في قضيته الشخصية بالنحو الذي استجاب لنوح في قضيته الاجتماعية حيث نجّاه وأهله من الكرب العظيم (وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ ) من حيث الدعاء (وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ ) ومن حيث
ص: 169
الاستجابة (فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) ... و هنا ينبغي أن نلاحظ عنصر التجانس الفني بين القصتين: قصة نوح وقصة أيوب ما دمنا أساسا نعنى في دراستنا بالمبنى الهندسي للسورة، حتى إن العبارات من حيث المفردة والترتيب تأخذ سمة التلاحم العضوي بين القصص، فكلاهما (نوح وأيوب) يتقدمان بلغة واحدة في الدعاء (وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ ) (وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ ) ، وكلاهما يستجاب له بنفس اللغة (فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ ) بالنسبة إلي نوح (فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) بالنسبة إلى أيوب، والأمر نفسه بالنسبة إلى أهليهم، فنوح قد نجى مع أهله، كذلك أيوب قد نجى مع أهله، إلا أن القلّة قد أحيوا بعد الموت.
المهم، ثمة تلاحم عضوي بين القصتين بالرغم من اختلافهما في الدلالة والأحداث، وهو ما ينسحب أيضا على سائر القصص فى هذا النص حيث نلاحظ كلا من سمتي التماثل والتقابل متوفرة بنحو واضح، فشخصية إبراهيم (ع) فيما تقدّم الحديث عنها قد أنجيت أيضا: لكن من خلال حادثة خاصة، وشخصية ذي النون - وهي قصة لاحقة نتحدّث عنها فيما بعد - قد أنجيت أيضا من خلال حادثة لها تفردها، وهكذا...
بيد أن الدلالة الفكرية التي يستهدفها النص في قصة أيوب (ع) تظل منفردة أيضا: طالما نعرف جميعا بأن لكل قصة هدفا تختص به، فالقصة تعتزم لفت الانتباه على قضية الشدائد الجسمية والنفسية مثل هجران الناس لأيوب نفورا من مرضه، وإلى أن الشخصية العبادية ينبغي أن تواجه الشدائد المذكورة بالصبر، و إلى أن نتائج الصبر تتحقق دنيويا قبل الدار الآخرة، فأيوب (ع) قد أستجيب له: فزال مرضه وعاد أهله وردّت إليه ممتلكاته من أموال وغنم: كما تذكر النصوص المفسرة ذلك.
أخيرا ينبغي ألاّ نغفل عن التعقيب الذي ختمت القصة به ونعني به قوله تعالى: فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنٰاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا
ص: 170
وَ ذِكْرىٰ لِلْعٰابِدِينَ إن هذه العبارة الأخيرة (ذِكْرىٰ لِلْعٰابِدِينَ ) تكشف بوضوح عن الهدف الكامن وراء سرد قصة أيوب، كما أنها - من حيث البناء الهندسي - تتوافق مع تثمين النص لأبطال سابقين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب حيث وسمهم النص بقوله في قصة سابقة (وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ ) ... وهي السمة ذاتها (العبادة) يستهدفها النص في قصة أيوب: من حيث كونها (ذِكْرىٰ لِلْعٰابِدِينَ ) ...
إذا، أمكننا الآن ملاحظة كل من الدلالة والمبنى الهندسي لهذه القصة وصلته بالقصص السابقة من سورة الأنبياء، كما سنلحظ ذلك بالنسبة إلى القصص اللاحقة أيضا، من حيث تفرد كل منها بطرح فكري خاص وتماثلها جميعا في سمات مشتركة: تفصح عن مدى الإحكام العضوي للسورة وما يشيعه هذا الإحكام من جمالية في النص، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ وَ أَدْخَلْنٰاهُمْ فِي رَحْمَتِنٰا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ * وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنٰادىٰ فِي اَلظُّلُمٰاتِ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ :
رَبِّ لاٰ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوٰارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ وَهَبْنٰا لَهُ يَحْيىٰ وَ أَصْلَحْنٰا لَهُ زَوْجَهُ ، إِنَّهُمْ كٰانُوا يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ يَدْعُونَنٰا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كٰانُوا لَنٰا خٰاشِعِينَ وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا فَنَفَخْنٰا فِيهٰا مِنْ رُوحِنٰا وَ جَعَلْنٰاهٰا وَ اِبْنَهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ .
بهذا العرض السريع لشخصيات كل من: إسماعيل، إدريس، ذي الكفل، ذي النون، زكريا، يحيى، مريم: ينتهي العنصر القصصي الذي وظفته السورة الكريمة لإنارة الأفكار المطروحة فيه: حيث تكفلت كل أقصوصة أو
ص: 171
حكاية بطرح دلالة جديدة، مضافا الى الفكرة العامة للسورة. و يمكننا ملاحظة هذه الدلالات من خلال تأكيد النص على إبراز سمات عبادية خاصة لكل واحد أو مجموعة من الأبطال الذين تقدم ذكرهم... فاسماعيل وإدريس و ذو الكفل: خلع عليهم النص صفة (الصبر) وهي أهم سمة تتطلبها طبيعة تجربة الحياة القائمة على مواجهة الشدائد... وأما زكريا ويحيى، بل يمكن أن تندرج كل الأسماء المتقدمة ضمن سمة أخرى خلعها النص عليهم وهي كونهم يسارعون في الخيرات، ويمارسون الدعاء رغبة ورهبة، ويخشعون للّه تعالى.
إن هذه السمات العبادية: ممارسة الخير، والدعاء، والخشوع تمثل أطرافا متعددة من مستويات السلوك: ممارسة الخيرات والإسراع فيها، يمثل استثمارا لتجربة الحياة دون أن يتخللها تراخ ليس في صالح الشخصية والدعاء هو تعامل وجداني مباشر مع اللّه تعالى، والخشوع هو تجسيد حي للتعامل الوجداني: طالما نعرف بأن التعامل مع اللّه لو لم يقترن بالخشوع لما حقق المهمة العبادية في وجهها الأكمل.
هذا كله من حيث السمات العبادية التي خلعها النص على الشخصيات المتقدمة.
إلى جانب ذلك، تناول المقطع أكثر من شخصية وفق التجربة الخاصة بها، فذو النون مثلا: رسمه المقطع شخصية ألمّت بها إحدى التجارب الاجتماعية مع قومه، فذهب مغاضبا، إلا أنه سرعان ما هتف قائلا (وهو في خضم الشدة التي واجهها في البحر). «لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ » ، حيث استجاب اللّه لدعائه بنفس الاستجابة لدعاء من تقدمه ولحقه من الأنبياء مثل نوح وأيوب وزكريا.
وها هو زكريا يمرّ بدوره في تجربة أخرى هي: قضية طلبه من اللّه أن يرزقه ولدا يرثه: حيث استجاب الله لدعائه أيضا... فالملاحظ هنا من حيث
ص: 172
عمارة السورة أن ظاهرة الدعاء والاستجابه قد شكلت بطانة لفكرية تتخلل مساحة كبيرة من العنصر القصصي، وإلى أنها تصبّ في روافد مختلفة، بعضها - كما أشرنا سابقا - يتصل بقضية اجتماعية، وبعضها بقضية فردية. والقضية الفردية متنوعة بدورها، فبعضها يتصل بالمرض كمرض أيوب، وبعضها بالإنجاب مثل قضية زكريا وإنجاب يحيى، وبعضها يتصل بالتخلص من شدة نفسية مثل قضية ذي النون... وهناك - مضافا لما تقدم - قضية خاصة أيضا إلاّ أنها تنسحب على البعد الاجتماعي وهي قضية مريم وعيسى حيث جسّدت مفهوم الإعجاز بما واكبه من دلالة النبوة بعدئذ.
إذا، لحظنا أن رسم هذه الشخصيات قد تم على مستويات متنوعة تطرح أكثر من دلالة يستهدفها النص، فإذا وصلنا بين رسم هذه الشخصيات وبين شخصيات تقدمتها: حينئذ أمكننا أن ندرك سرّ البناء الهندسي للسورة التي بدأت بالحديث عن قيام الساعة وكون الناس غافلين عنها: حيث جاء الرسم لشخصيات الأنبياء موظفا للسلوك المضاد لهذه الظاهرة، وهذا ما لحظناه في الأقصوصة الأولى التي تحدثت عن موسى وهارون، ووصفتهم بأنهم (مِنَ اَلسّٰاعَةِ مُشْفِقُونَ ) ، ثم رسمت سائر الأنبياء وفق سمات تتصل جميعا بكونهم (حضورا) وليسوا غافلين: بالنحو الذي تقدم تفصيل الحديث عنه.
والآن بعد أن يكون النص قد انتهى من توظيف العنصر القصصي للهدف الفكري المذكور، يعود ليختم السورة بالحديث عن الساعة أو اليوم الآخر أيضا.
قال تعالى: إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنٰا رٰاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاٰ كُفْرٰانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّٰا لَهُ كٰاتِبُونَ * وَ حَرٰامٌ عَلىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَنَّهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ * حَتّٰى إِذٰا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهٰا وٰارِدُونَ * لَوْ كٰانَ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً مٰا وَرَدُوهٰا وَ كُلٌّ فِيهٰا خٰالِدُونَ * لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يَسْمَعُونَ .
ص: 173
قال تعالى: إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنٰا رٰاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاٰ كُفْرٰانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّٰا لَهُ كٰاتِبُونَ * وَ حَرٰامٌ عَلىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَنَّهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ * حَتّٰى إِذٰا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهٰا وٰارِدُونَ * لَوْ كٰانَ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً مٰا وَرَدُوهٰا وَ كُلٌّ فِيهٰا خٰالِدُونَ * لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يَسْمَعُونَ .
بهذا المقطع وما يليه تختم سورة الأنبياء، حيث يحدثنا هذا الختام عن الملابسات المتصلة بقيام الساعة (وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ ) . علما بأن السورة قد استهلت بالحديث عن اقتراب الساعة (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) هذا الاستهلال للسورة يتوافق تماما مع خاتمة السورة التي تقول أيضا (فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا...) .
إذا، مقدمة السورة قالت: اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وخاتمة السورة قالت (اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ ) و قالت على لسان الكافرين (يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا) ، حيث أن كلا من اقتراب الساعة وكون الناس غافلين عنها قد وردتا في مقدمة السورة وخاتمتها لتكشف لنا عن البناء الهندسي المحكم للسورة، وكونها متلاحمة الأجزاء تصب في نهر فكري واحد.
والآن، خارجا عن المبنى الهندسي فإن الأفكار المطروحة في هذ المقطع تتمثل في كون البشرية أمة واحدة وربّها واحد فيما ينبغي أن تتجه البشرية إليه، إلا أنها افترقت وستحاسب على سلوكها بما في ذلك المجتمعات التي لحقها جزاء دنيوي... أما المحاسبة في اليوم الاخر فقد رسمها المقطع من خلال الحديث عن قيام الساعة (وهو حدث جديد) يقدمه المقطع من خلال تزويدنا بحقائق علمية عن مقدمات الساعة، متمثلة في هدم السدّ المعروف
ص: 174
(سد يأجوج و مأجوج)...
ثم يتقدم المقطع بعد ذلك برسم الموقف الذي سيواجهه المنحرفون أو الغافلون الذين شغلوا أنفسهم بمتاع الحياة الدنيا وعاشوا في غفلة عن إدراك مهمتهم العبادية أو الخلافية في الأرض... ومع أن قيام الساعة ومواجهة الحساب بعد ذلك: لم يحدث بعد (من حيث الزمان) إلا أن المقطع رسم مستقبل الحدث بنحو يدع المتلقي في حضور كامل للموقف، حتى يستثمره في تعديل سلوكه.
الموقف الذي رسمه المقطع يتمثل في أن المنحرفين سوف تشخص أبصارهم هلعا من شدة المواجهة حتى أنهم يهتفون بمرارة (يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ ) ... إن عبارة (يٰا وَيْلَنٰا) تتضمن أقصى ما يمكن تصوره عن الهول والرعب والندم والانسحاق والتمزّق حيث يعترف الغافل، أو المنحرف بما فرّط فيه من السلوك الذي اقتاده إلى مواجهة الحساب العسير، حتى أنه ليقر قائلا (بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ ) . إنه يقرّ بكونه ظالما بعد أن يهتف بمرارة داعيا لنفسه بالويل... لكن على العكس من ذلك، نجد أن المؤمن أو الشخصية التي أدركت طبيعة وظيفتها، ومارستها وفقا لمبادىء السماء. تواجه موقفا تستبشر به إلى أقصى ما يمكن تصوره عن البشر والفرح بهذا النحو الذي ترسمه الايات الاتية: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ * لاٰ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهٰا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ * لاٰ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ هٰذٰا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .
قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ * وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ * إِنَّ فِي هٰذٰا لَبَلاٰغاً لِقَوْمٍ عٰابِدِينَ * وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ
ص: 175
إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ * قُلْ إِنَّمٰا يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مٰا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَكْتُمُونَ * وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ * قٰالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمٰنُ اَلْمُسْتَعٰانُ عَلىٰ مٰا تَصِفُونَ .
بهذا المقطع تختم سورة الأنبياء، وهو مقطع يلخص لنا فكرة السور بأكملها: السورة التي بدأت بالحديث عن اقتراب الساعة، وانتهت بالحديث عن الساعة نفسها (يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ... السورة التى بدأ وسطها (وهو العنصر القصصي) يتحدث عن شخصيات إبراهيم ولوط ويعقوب وإسحاق وأيوب حيث وسمهم بكونهم (عابدين)، السورة التي وسمت إسماعيل وإدريس وذي الكفل بكونهم صالحين وجاء ختامها يتحدث عن أن الأرض - في نهاية المطاف - يرثها عباد اللّه (الصالحون) أيضا، وإن في هذا لبلاغا لقوم (عابدين) أيضا... السورة التي قالت عن سليمان وداود من حيث تسخير الوجوه لهم معقّبة على ذلك بقولها (و كنا غافلين)، جاء ختامها أيضا يتحدث عن إعادة الخلق كما بدأوا أولا معقّبة أيضا بقولها (إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ ) ...
إذا، ما جاء في مقدمة السورة ووسطها: جاء الآن في ختامها ليحوم على نفس المحور الفكري: لكن ضمن طرح جديد للدلالات...
إن الجديد من هذه الدلالات هو تقرير حقائق مختلفة، منه: الحقيقة المتصلة بكيفية قيام الساعة حيث قدّم المقطع صورة فنية هي (التشبيه) بين طي السماء وطي السجل للكتب... وأهمية هذه الصورة تتمثل جماليا في كونها تفصح عن سرعة طي السماء (وهي مرسومة بعظمة لا يمكن للشخصية تصور حدودها) بمثل طي الصحيفة المجعولة للكتاب: حيث أن عملية الطي للكتاب
ص: 176
لا تتطلب جهدا ولا وقتا كبيرين... وقد يتساءل المتلقي: ما هي الأسرار الفنية لانتخاب السجل للكتب دون غيرها من الظواهر في التشبيه المذكور؟ في تصورنا الفني: إن عملية طي الكتب ما دامت مختصة بعملية (التسجيل)، فإنها تتناسب تماما مع عملية (التسجيل) لأعمال البشر، حيث بدأت السورة كما لحظنا بالحديث عن قرب المحاسبة لأعمال البشر (اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ ) ، فجاء (التسجيل) للكتب والتسجيل للأعمال متناسقا مع البناء الهندسي للسورة.
خارجا عن ذلك، فإن من الدلالات الجديدة التي طرحتها خاتمة السورة هي: كون الأرض يرثها عباد اللّه الصالحون، وهذه إحدى الحقائق المتصلة برسم المصائر البشرية من حيث علاقتها بالأرض التي جعلها اللّه موضع التجربة العبادية للبشر: حيث بين لنا النص بأن غفلة المنحرفين عن ممارسة وظائفهم العبادية لا قيمة لها بالقياس إلى نهاية الأرض التي سيرثها الصالحون حيث ذكرت النصوص المفسّرة أن هذا يرمز إلى ما نقل عن محمد (ص) بأنه «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا»...
وأيا كان، فإن طرح أمثلة هذه الدلالات العلمية المتصلة بوراثة الأرض ثم وصلها بمقدمة السورة ووسطها اللذين تحدثا عن الفرز بين الغافلين من البشر والصالحين منهم، وإلى أن الأرض واليوم الآخر هما لصالح الفئة المؤمنة.. كل ذلك يفصح عن أهمية مثل هذه الدلالات الفكرية فضلا عن أهمية البناء الهندسي الجميل المحكم للسورة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 177
ص: 178
ص: 179
ص: 180
تبدأ سورة الحج بهذا النحو: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ ، وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا، وَ تَرَى اَلنّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ ، وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اَللّٰهِ شَدِيدٌ * وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطٰانٍ مَرِيدٍ ...
هذه الآيات، تمثل القسم الأول من سورة الحج، ويلاحظ أنها قد استهلت بالحديث عن قيام الساعة وأهوالها. وهذا يعني أن أهوال الساعة وما يرتبط بها من المواقف والأحداث، سيشكل العصب الفكري للسورة...
وبالفعل سنجد انعكاس ذلك على مقاطع السورة وأقسامها، بنحو يكشف عن مدى الإحكام الهندسي لها... ولعل أول ما نلحظ هنا، أن الاستهلال نفسه قد خضع لمبنى خاص بدأه النص بما هو (مجمل) (إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ ) ، ثم (فصّل) هذا الشيء العظيم من خلال صور المرضعة والحامل ومطلق الناس الذين يبدون وكأنهم سكارى وما هم بسكارى... ولا تجدنا بحاجة إلى التعقيب على هذه الصور التي تجسد قمة (الأهوال) وانعكاساتها على الأشخاص، فالمرضعة والحامل مثلا (وهما شخصيات نسوية ذات عاطفية ملحوظة حيال الرضيع والجنين) فصلها عن الدافع إلى الأبوة حيث يظل - بالنسبة إلى المرأة والرجل مطلقا - من أقوى الدوافع المركبة، نقول: إن المرضعة والحامل عندما تذهل إحداهما وتضع الأخرى، فهذا يكشف عن أشدّ الأهوال تصورا كما هو واضح.
بعد ذلك، يتقدم النص إلى أنماط من البشر المنحرفين ليربط بين هؤلاء وأهوال الساعة التي تنتظرهم، ويبدأ ذلك بمن يجادل في الله بغير علم، ويتبع الشيطان الذي قاده إلى عذاب السعير... وهذه هي العملية الأولى للربط بين
ص: 181
اليوم الآخر و الانحراف... ثم يعرض للمشككين باليوم الآخر نفسه، و يستدل لهم بعملية الخلق للإنسان، ثم يربط ذلك بأول السورة التي أشارت إلى (الساعة) قائلا (وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا) ... وبهذا نجد أن النص قد ربط بين أوّل السورة وبين هذا المقطع من خلال محطة تصل بينهما (الساعة)...
ومن المقطع الذي يليه، يبدأ النص بنفس العبارة التي بدأ بها المقطع الأول وهي عبارة (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ... وهذه محطة ربط ثانية تصل بين المقطعين... وإذا كان المجادل في المقطع الأول يشك باليوم الآخر، فإن المجادل في المقطع الثاني يظل (ثٰانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ ) ، بيد أن النمطين يرسمهما النص في نهاية المطاف مشمولين بالعذاب الأخروي... الأول يشير إليه من خلال فقرة (عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ) والآخر يشير إليه من خلال فقرة (عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ ) ... ولا نغفل عن هذا التجانس بين عبارتي (العذاب) والتجانس بين عبارتي (السعير والحريق).
ويتجه المقطع الثالث إلى نمط ثالث من المنحرفين (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّٰهَ عَلىٰ حَرْفٍ ...) ويلوّح له بجزائه في اليوم الآخر مضافا إلى دنياه بصفة أنه يعبد اللّه تعالى تبعا لمصالحه الدنيوية...
بعد ذلك يشير النص إلى فئات متنوعة من المنحرفين: اليهود والنصارى والصابئة. لكن من خلال العرض للفئة المؤمنة أيضا وما ينتظرها من الجزاء الايجابي في اليوم الآخر. ثم يلوّح في نهاية هذا المقطع بعبارة (وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ ، وَ مَنْ يُهِنِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ ) ... ثم يتقدم بعرض للعذاب الأخروي يتجانس مع مقدمة السورة التي استهلت بالحديث عن الساعة وأهوالها.
لكن قبل أن نتحدث عن هذا الجانب الذي يصل بين أجزاء السورة، ينبغي أن نحلل فنيا مجموعة من الصورة الاستعارية والرمزية والساخرة وغيرها
ص: 182
مما تنطوي على إثارة جمالية تتناسب مع طبيعة السياق الدي وردت فيه..
قال تعالى: هٰذٰانِ خَصْمٰانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مٰا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ * وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ :
أُعِيدُوا فِيهٰا، وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ .
نواجه في هذا المقطع مجموعة من الصور الفنية التي تتناول رسم بيئة النار.
الصورة الأولى هي: (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ) ، إن النار وهي تحيط بالكافر، رسمها المقطع (ثوبا) يلبسه الكافر... وأهمية هذه الصورة - وهي منتخبة من أشد الظواهر ألفة عند الناس - تتمثل في كونها تجعل «الثياب» دون غيرها (رمزا) لشدة عذاب النار، بصفة أن الثياب هي المظهر المألوف لتغطية الجسم من جانب، وبصفتها - من جانب آخر - تلتصق بالجسم، وحينئذ فإنّ مباشرة النار لجسم الكافر تظل - من خلال رمز الثوب - أشد الرموز حيوية وصدقا في التعبير عن شدائد العذاب إنها (أي الثياب من النار) ترمز إلى المظهر الخارجي للشخصية، كما ترمز إلى الملمح الداخلي الذي تؤديه وظيفة النار.
وبما أن الثياب تغطي الجسم عدا الرأس، حينئذ نلحظ أن المقطع القرآني الكريم سرعان ما قدّم صورة فنية أخرى استكمل بها إحاطة النار لما تبقى من أجزاء الجسم وهو الرأس حيث قال (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ ) ...
إذا، من حيث عمارة المقطع جاءت الصورة الثانية مكمّلة للصورة الأولى: أي إنماء عضويا لها... ثم جاءت الصورتان: الثالثة والرابعة وهما
ص: 183
صورتا (يُصْهَرُ بِهِ مٰا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) جاءت هاتان الصورتان رسما احر يتجانس مع الصورتين الاوليين من حيث تغطيتهما أيضا لسائر أعضاء الجسم، فالبطون والجلود التي تصهر من خلال الحميم (وهو الماء المغلي) قد أردفها المقطع بصورة (وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) حيث يستخدم المقمع في ضرب الرأس... وأما البطون والجلود فتتصل بسائر أجزاء الجسم... والمهم بعد ملاحظتنا لهذا التجانس بين الصور الأربع كلّ صورتين مع بعضهما الآخر، نواجه أن الصور المتصلة بإذابة البطون والجلود ومقامع الحديد قد رسمها المقطع بنحو يتناول أشد الأنماط إيلاما واستغراقا لعذاب النار، فالبطون هي الداخل والجلود هي الخارج بالنسبة إلى الأجسام، والمقامع هي الأدوات المهشّمة للرأس، وحينئذ للمتلقي أن يتأمل بدقة كيفية الرسم الفني بهذا النمط من التعبير الذي يرسم عذاب النار وهي تحيط بالكافر على نحو لاتدع جزء من جسمه سالما من النار.
والآن بعد أن يتم المقطع القرآني الجانب الجسمي من العذاب يتقدم إل الجانب النفسي منه فيقول: (كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ : أُعِيدُوا فِيهٰا) فالغمّ ظاهرة نفسية كما هو بين، وبالرغم من أنه ناجم من العذاب الجسمي إلاّ أنه فرز خاص من الألم يقابل به الألم الجسمي... والمهم بعد ذلك، ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة وصلة مقاطعها بعضها مع الآخر أن نعيد إلى الأذهان، أن المقطع القرآني الذي تحدّث من خلال عنصر الصورة عن بيئة النار بهذا النحو الذي صورها في أشد حالات العذاب بالنسبة إلى الكفار إنما جانس بهذا الرسم بين هذا المقطع وبين مقدمة السورة التي وصفت زلزلة الساعة بأنها شيء عظيم ووصفت الأهوال المحيطة بأنها تجعل المرضعة تذهل عن وليدها، والحامل تضع حملها، والناس سكارى وما هم بسكارى... هذا النمط من الأهوال التي تضمنتها بداية السورة: جاء المقطع الذي نتحدث عنه وهو (ثياب النار والمقامع من الحديد) مجانسا له كل
ص: 184
التجانس من حيث ضخامة الأهوال التي تضمنتها كل من بداية السورة ووسطها، مما يفصح عن مدى جمالية البناء أو الهيكل الهندسي للسورة التي جاء كل مقطع منها خاضعا لعمارة خاصة أيضا، مضافا إلى التجانس والتلاحم بين المقاطع بعضها مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ اَلَّذِي جَعَلْنٰاهُ لِلنّٰاسِ سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ، وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ * وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْقٰائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ ...
هذا هو القسم الثاني من سورة الحج يحدثنا عن الحج وقضاياه...
وكان القسم الأول من السورة يتحدّث عن قيام الساعة وأهوالها وموقف المنحرفين منها ومن رسالة الإسلام وما ينتظرهم من الجزاء المهول. نتيجة لمواقفهم، مقارنا بالجزاء الذي ينتظر المؤمنين الذين آمنوا باللّه واليوم الآخر.
إن القسم الجديد من السورة ونعني به: الحديث عن الحج وقضاياه يظل مرتبطا فكريا بمواقف المنحرفين والمؤمنين أيضا بنحو ما نفصّل الحديث عنه لاحقا... إلا أننا الان نعنى بإلقاء الإنارة على فئة من المنحرفين الذين يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام حيث كان القسم الأول من السورة يحدثنا عن طبقات مختلفة من المنحرفين: تصدر كل فئة منهم عن موقف انحرافي خاص...
وها هو النص يحدثنا الآن عن فئة جديدة من المنحرفين. يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام: حيث يشكل هذا الوصل بين فئات المنحرفين عنصرا فنيا يربط بين القسم الأول والثاني من السورة الكريمة...
والآن، ما هي ملامح الانحراف التي رسمها النص ؟
ص: 185
الانحراف هنا هو: الصدّ عن دخول المسجد الحرام و ممارسة شعائر الحج... لقد وصفهم النص بسمة الكفر والصدّ عن سبيل اللّه، ثم لوّح لهم بالجزاء الأخروي الذي ينتظرهم نتيجة صدّهم عن سبيل اللّه والمسجد الحرام، حيث قال (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ ) ... هذا التلويح بالعذاب الأليم يظل (من حيث عمارة السورة الكريمة) وصلا فنيا بين مقاطع السورة التي يلوح كل مقطع فيها بالعذاب الأليم: كما لحظنا... لكن خارجا عن عمارة السورة يعنينا أن نشير إلى الدلالة الفكرية لهذا المقطع الذي يتحدث عن الذين يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.
لقد قرر النص أولا أن المسجد الحرام هو للناس جميعا (سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ) أي: أنّ المقيم فيه أو المسافر إليه يستويان في حق النزول به أو السكنى فيه، فليس المقيم فيه أحق من المسافر إليه حتى يصدّ عنه...
وبالرغم من أن رسم هذه الحقائق جاء - كما تذكر النصوص المفسرة - بمناسبة صدّ المشركين رسول اللّه (ص) عن دخول مكة، إلا أنها تظل حقائق عامه تخصّ مطلق المنحرفين الذين يصدّون الناس عن الحج قديما وحديثا...
والمهم، أن عملية الصدّ. رسمها المقطع مشفوعة بالعبارة التالية (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ ) ، وسواء أكان الإلحاد هو الشرك أو مطلق الكفر أو مطلق الانحراف، فإن مجيئه في سياق الصد عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ثم بالتلويح بالعذاب الأليم: يعني الإشارة إلى هؤلاء الكفار الذين تقدّم الحديث عنهم.
بعد ذلك يتقدم النص بمقطع جديد يبدأ بهذا النحو. (وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ ) ... فالملاحظ هنا أن النص وهو ينتقل إلى موضوع آخر من موضوعات الحج لا يزال يصل بينه وبين فئة المشركين حيث طالب المقطع إبراهيم (ع) بأن يطهر البيت من الشرك ويجعله
ص: 186
(لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْقٰائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) ...
إذا، يظل التركيز على نمط خاص من المنحرفين (أي. الكفار الذين يصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ويستهدفون الإلحاد فيه بظلم) هذا التركيز على الفئة المشار إليها ينطوي على مهمتين فنيتين: أولاهما توضيح خطورة الجريمة التي تقوم على صدّ الناس عن الحج، وأما الوظيفة الأخرى فهي عملية ربط فني بين أقسام السورة التي تتنوّع موضوعاتها ولكنها تصبّ في رافد فكري متجانس، مما يفصح ذلك عن مدى إحكام الهيكل الهندسي للسورة وتلاحم مقاطعها بعضا مع الآخر بنحو ما تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالاً وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَلىٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا اَلْبٰائِسَ اَلْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ * ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمٰاتِ اَللّٰهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعٰامُ إِلاّٰ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ * حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ، وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ .
هذا المقطع من سورة الحج امتداد لسابقه الذي يتحدث عن ظاهرة الحج، ولكنه يتحدث في سياق الفكرة التي تحوم عليها السورة ونعني بها قضية اليوم الآخر وارتباطه بسلوك المنحرفين، وفي مقدمتهم: الفئة المشركة أو مطلق الكفار الذين يمارسون مختلف الانحرافات ومنها: الصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام حيث حذّرهم المقطع السابق بقوله (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ ) .
ص: 187
هذا المقطع من سورة الحج امتداد لسابقه الذي يتحدث عن ظاهرة الحج، ولكنه يتحدث في سياق الفكرة التي تحوم عليها السورة ونعني بها قضية اليوم الآخر وارتباطه بسلوك المنحرفين، وفي مقدمتهم: الفئة المشركة أو مطلق الكفار الذين يمارسون مختلف الانحرافات ومنها: الصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام حيث حذّرهم المقطع السابق بقوله (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ ) .
هنا - في المقطع الذي نتحدث عنه - يستثمر النصّ قضية الحج ليتناولها من خلال المناسك التي تواكبها، حيث يبدأ المقطع بمطالبة أداء الحج أولا (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ ) ويوضّح ضرورة أدائه مشيا على القدم أو ركوبا (يَأْتُوكَ رِجٰالاً وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ) حتى لو كانت المسافة بعيدة (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) ...
ثم يتحدث بعد ذلك عن فائدة هذه الممارسة دنيويا وأخرويا (لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَلىٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعٰامِ :
فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا اَلْبٰائِسَ اَلْفَقِيرَ) ...
إن المطالبة بإطعام البائس الفقير. طرحها النص في سياق المنافع للناس، وهي تعني - فنيا - دلالة خاصة تتصل بأهم الوظائف العبادية الموكلة إلى البشر وهي. مساعدة الآخرين. وبهذا الربط بين ما هو عمل اجتماعي أو اقتصادي يتصل بمنافع الناس وبتدريبهم على ما هو أخلاقي (عنصر المساعدة) وبين ما هو مراسم تتصل بعلاقة العبد باللّه تعالى. نستكشف أهمية مثل هذا المنحى الفني في طرح الموضوعات...
بعد ذلك، يطالب النص بالإحلال من المناسك، أو بعضها، وبإيفاء النذر، وبالطواف حول البيت (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ، وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ، وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ) ...
هنا نواجه ثلاث ممارسات يطالب المقطع بأدائها: الإحلال من المناسك أو غالبيتها، إيفاء الدر، الطواف... فيا. قد يتساءل المتلقي عن السرّ في طرح قضية (إيفاء النذر) مع أنها ليست من المناسك إلاّ في حالة افتراض ما نذر من أمور قد استهدفها الشخص في أيام الحج.
فى تصورنا، أن النص كما طرح قضية إطعام البائس الفقير في سياق أداء
ص: 188
المناسك لأهمية متل هذه الظاهره الاقتصادية و الأخلاقية، كذلك قضية (إيقاء النذر)، فهذه الممارسة لها خطورتها في ميدان التعامل مع اللّه تعالى، فسواء أكان النذر يتصل بما هو إشباع دنيوي أو أخروي. فإن هذه العملية ذاتها تفصح عن أن النذر هو عهد يقطعه الشخص بينه وبين اللّه وليس بينه وبين أشخاص مثله، بل حتى لو كان العهد بين الأشخاص فإن المطالبة بتنفيذه يظلّ موضع تأكيد بالغ المدى، حتى أن الشخص يوصف بسمة النفاق في حالة تخلّفه عن ذلك، وإذا كان الأمر بهذه الخطورة: حينئذ ندرك السرّ الفني الذي يكمن وراء طرح ظاهرة خارجة عن أداء المناسك بالنحو الذي لحظناه...
بعد ذلك يحدثنا النص عن تعظيم شعائر اللّه، وحلّية الأنعام، واجتناب قول الزور وعدم الشرك... هذه الظواهر أيضا حينما يطرحها النص في سياق الممارسات غير المرتبطة بمناسك الحج، إنما تحمل نفس السر الفني الذى لحظناه بالنسبة إلى النذر، فالأنعام معطى ضخم بالنسبة لغذاء الإنسان (وهو جانب حيوي من الشخصية)، واجتناب قول الزور الذي يعني الكذب أو اللهو ومنه: الغناء مثلا، يشكّل معطى ضخما بالنسبة للجانب النفسي من الشخصية التي تدرب ذاتها على عدم ممارسة الكذب أو اللهو الذي يشغلهما عن اللّه...
وأما المطالبة بالاجتناب عن الأوثان، وبالإخلاص للّه وعدم الشرك (حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) ... هذه المطالبة ترتبط بعمارة السورة القرآنية الكريمة، حيث جاء الحديث عن الحج في سياق الحديث عن المشركين أو الكفار مطلقا، ومنهم الفئات التي تصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام وسائر الممارسات المنحرفة، وحيث يجيء مثل هذا الربط بين كل منهما: إفصاحا عن مدى تلاحم جزئيات السورة بعضها مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 189
قال تعالى. حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ .
هذه الصورة الفنية التي تنطوي على عنصر (التشبيه) بين ظاهرة الشرك باللّه وبين السقوط من السماء أو الهوي بفعل الرياح، جاءت في سياق الحديث عن المشركين الذين يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام، وفي سياق إقامة شعائر اللّه من خلال مناسك الحج.
ويهمّنا من هذه الصورة الفنية - بعد تحديد موقعها من عمارة السورة الكريمة - الوقوف على العنصر التي تركبت منه، والدلالات التي تنطوي عليها...
لقد طالب النص بتعظيم حرمات اللّه حنفاء غير مشركين به، ثم قدّم تشبيها قائما على المقارنة بين الشرك باللّه وبين العملية التالية (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ) أو كمن (تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ ) ... فهنا نواجه صورة قائمة على تشبيهين: تشبيه عملية الشرك باللّه، (بمن يخر مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ )، و (بمن تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ ) ... والسؤال هو: ما هي الأسرار الفنية الكامنة وراء هذين التشبيهين ؟ طبيعيا لا تنحصر ظاهرة الشرك باللّه في عبادة الأوثان الحجرية، بل مطلق الأوثان المادية والفكرية: بما في ذلك إدخال رضى الناس في الممارسات المختلفة التي يستهدف بها: التقرّب إلى اللّه تعالى... وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ تظلّ عملية الشرك مطلقا مفرقة ضخمة لا يمكن التجاوز عنها ما دام
ص: 190
الإنسان وسائر عناصر الكون لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل تنحصر فاعلية الكون باللّه تعالى فحسب.
من هنا يمكننا أن ندرك جانبا من التشبيه الذي قدّمه النص القرآني الكريم حينما قال (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ) فعملية السقوط من فوق تنطوي على حادثة تتأرجح بين أن يسقط على الأرض فيهلك أو بين أن ينقذ بوسيلة أو أخرى مثلا... هنا: أكّد التشبيه عملية السقوط من جانب (فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ ) ، وأكد استبعاد عملية الإنقاذ من جانب آخر، وذلك من خلال إسراع الطير إليه ونهش لحمه، أي أنّ عملية السقوط المشفوعة بالشدائد، لا أمل البتة في التخلص منها بل أنّ نهاية السقوط أشدّ وقعا منه.
والأمر نفسه بالنسبة إلى التشبيه الآخر (أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ ) ... فإذا لم يتخطّفه الطير، فإنّ الرياح تهوي به في مكان سحيق لا أمل البتة من إنقاذه ما دام المكان الذي تهوي به الريح بعيدا كل البعد...
إذا، التشبيهان المتقدّمان، يصوّران لنا أن ظاهرة الشرك لا أمل البتة في إنقاذ صاحبها من المصير الذي يؤول إليه أخرويا، فإذا كانت المفارقات العبادية الأخرى مثل ممارسة ما هو محرّم أو ترك ما هو واجب مثلا من الممكن أن تقترن بعملية إنقاذ في حالة التوبة، فإنّ ممارسة الشرك لا يمكن أن يقترن بعملية إنقاذ البتة.
من هنا جاء التشبيهان المتقدمان - وهما يقومان على ظواهر حسية مألوفة مثل سقوط الإنسان من فوق واختطافه من قبل الطير أو هويّه في مكان سحيق من قبل الريح - جاء هذان التشبيهان بمثابة إنارة فنية توضح دلالة الشرك والمصير الذي يؤول إليه صاحبه أخرويا: علما بأنّ فكرة سورة الحج التي جاء هذان التشبيهان ضمن الحديث عن سلوك المنحرفين الذين يصدّون عن سبيل
ص: 191
الله و المسجد الحرام: من خلاله، هذه السورة بدأت بالحديث عن زلزلة الساعة وأنها شيء عظيم، وأنّ أهوالها تدع كل مرضعة تذهل عما أرضعت، وكلّ حامل تضع حملها، وتجعل الناس سكارى وما هم بسكارى... هذه البداية التي استهلّت بها السورة وحامت عليها أفكارها: تظلّ (من حيث البنا الهندسي لها) متلاحمة مع هذين التشبيهين اللذين يرسمان مصير الشرك باللّه وما تنتظره من الأهوال، وهذا أمر يفصح عن مدى إحكام السورة من حيث تلاحم جزئياتها بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اَللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهٰا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ * وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلىٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعٰامِ فَإِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ عَلىٰ مٰا أَصٰابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاٰةِ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنٰاهٰا لَكُمْ مِنْ شَعٰائِرِ اَللّٰهِ ، لَكُمْ فِيهٰا خَيْرٌ، فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهٰا صَوٰافَّ ، فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا اَلْقٰانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ، كَذٰلِكَ سَخَّرْنٰاهٰا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنٰالَ اَللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ اَلتَّقْوىٰ مِنْكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهٰا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ .
بهذا المقطع الذي يتحدث عن جانب من مناسك الحج، ينتهي القسم الثاني من سورة الحج، وهو القسم المخصص للحديث عن الحج.
ويلاحظ أن هذا المقطع يركز عاى إقامة شعائر اللّه متمثلة بخاصة في قضية (الهدي) وطريقة نحرها وذبحها... بيد أن الدلالات الثانوية التي طرحها النص في سياق الحديث عن الهدب: تظل موضع التساؤل الذي ينبغي الوقوف عنده. لقد طرح المقطع أفكارا من نحو الصبر على الشدائد، وإقامة
ص: 192
الصلاة، والإنفاق، والخوف من اللّه تعالى، والتسمية عند النحر والذبح، وإطعام الفقراء بنمطيهم: النمط الذي يسأل والنمط الذي لا يسأل، ثم الإشارة إلى أن الهدف من النحر والذبح ليس هو اللحم والدم بل (التقوى) أي:
ممارسة الطاعة.
إن هذه الدلالات أو الأفكار لها خطورتها في ميدان العمل العبادي كما هو واضح. والمهم أنها - من حيث عمارة النص - تمهّد الحديث لنقلة فنية يتجه النص من خلالها إلى رسم سمات المؤمنين مقارنة بسمات المنحرفين الذين انتهى النص من رسم سماتهم وطبقاتهم المختلفة: حيث ختم الحديث عنه بفئة خاصة تمارس الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.
هنا يستثمر النص قضية الصدّ عن المسجد الحرام: ليتجه إلى رسم الوظيفة التي ينبغي أن يضطلع بها المؤمنون الذين صدّوا عن المسجد الحرام، بل مطلق المؤمنين الذين تعرّضوا لأذى الكافرين، يقول النص: إِنَّ اَللّٰهَ يُدٰافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ خَوّٰانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّٰ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ، وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّٰهِ كَثِيراً، وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ، وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ .
إن هذا النص يشكّل قسما من سورة الحج يختص بالحديث عن المؤمنين: من حيث سماتهم ووظائفهم الاجتماعية. أما سماتهم فقد ألمح المقطع السابق إلى جملة منه، ثم كرّر الحديث عن بعضها (وهي ممارسة الصلاة والزكاة) في المقطع الحالي (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ ) هذا التكرار لقضيتي الصلاة والزكاة ينطوي على دلالة فنية هي.
ص: 193
أهمية هاتين الممارستين كما هو واضح.
وقد ألحق بهما النص وظيفة جديدة هي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هذه الوظيفة الجديدة لا تحتاج إلى تعقيب: ما دامت تحدد المسؤولية الاجتماعية للمؤمنين وهي مسؤولية التعريف برسالة الإسلام ومجاهدة الانحراف.
والملاحظ فنيا، أن النص بدأ أولا بتحديد الوظيفة الاجتماعية التي فرضتها طبيعة الموقف السياسي ونعني به: موقف المشركين من قضية الحج من جانب وإخراجهم المؤمنين من ديارهم من جانب آخر... من هنا حدّد النص وظيفة (الجهاد) العسكري بالنسبة للمؤمنين حيث سمح لهم بمقاتلة المشركين، مؤكدا بأن اللّه على نصرهم لقدير، موضحا مشروعية القتال من خلال طرح المبدأ الاجتماعي القائل (وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...
الخ) حيث تحقق عملية القتال ضبطا للممارسات المنحرفة...
وأيا كان، فإن النص عندما حدد مشروعية القتال، وصلها بالقول (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ، أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ ... الخ) مما يعني ترشيحهم لممارسة الخلافة في الأرض بكل مستوياتها الفردية والاجتماعية...
أخيرا، ينبغي ألاّ نغفل (ونحن نعنى بعمارة السورة الكريمة) عن المنحى الفني الذي سلكه النص في وصله بين مواقف المنحرفين ومواقف المؤمنين وتحديد وظائفهم، مما يفصح عن مدى الإحكام الهندسي الذي طبع موضوعات السورة من حيث تلاحم بعضها مع الاخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْرٰاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ * وَ أَصْحٰابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسىٰ ، فَأَمْلَيْتُ لِلْكٰافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ * أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ * وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ * وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهٰا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ * قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ .
ص: 194
قال تعالى: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْرٰاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ * وَ أَصْحٰابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسىٰ ، فَأَمْلَيْتُ لِلْكٰافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ * أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ * وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ * وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهٰا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ * قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ .
بهذا المقطع الجديد من سورة الحج يبدأ طرح آخر هو تحديد العلاقة بين الإسلامييّن الذين قال النص عنهم سابقا بأنّهم إن مكّنهم اللّه في الأرض:
مارسوا وظيفتهم العبادية وبين المنحرفين الذين يعارضون رسالة الإسلام...
لقد أشار المقطع القرآني الكريم إلى أن مجتمعات نوح وعاد وثمود وابراهيم ولوط ومدين: قد حاربوا رسالات السماء بالنحو الذي طبع سلوك المعاصرين لرسالة الإسلام، وأشار إلى أن اللّه تعالى أمهل هذه المجتمعات المنحرفة ثم انتقم منها في نهاية المطاف.
هنا يرسم المقطع القرآني الكريم: المصائر الدنيوية للمجتمعات المشار إليها من خلال صور حسيّة عامة مثل (فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا ، وبئر معطّلة، وقصر مشيد)...
إنّ هذه الصور الحسيّة (من زاوية الفن) تحمل دلالات متنوّعة، فأولا لم يذكر فيها نوع العقاب من طوفان أو ريح أو صيحة بقدر ما ذكرت فيها نتائج العقاب لأنّ الهدف هو عملية تذكير بالمصائر الكسيحة التي انتهى إليها المنحرفون حيث يترتب على هذا الهدف أن ترسم معالم حسيّة يتعظ بها المنحرفون... ويلاحظ ثانيا - أنّ رسم هذه الصورة قد تمّ (من حيث البناء الهندسي للمقطع) على نحو الإجمال أولا ثم التفصيل حيث رسمت المدن
ص: 195
(فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا) ثم اتجه التركيز على صورتي الآبار المعطلة والقصور المشيدة (وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ) ...
وقد أشار بعض المفسرين إلى أن البئر المعطلة تتصل بحياة الريف وإنّ القصر المشيد يتصل بحياة المدينة، وهذا يعني أنّ لانتخاب البئر والقصر دلالة اجتماعية يعتبر بها المعاصرون لرسالة الإسلام ما دامت بيئتهم تحمل نفس الطابع... ونضيف إلى ذلك تفسيرا فنيا آخر هو: أن البئر بصفتها مظهرا لما هو (حيوي) من الحاجات، والقصر بصفته مظهرا لما هو (مترف) من الحاجات: قد جاء انتخابهما منسجما مع الدوافع التي يصدر عنها المنحرفون من حيث إيثارهم متاع الحياة الدنيا عادة، والأهم من ذلك هو ما أشرنا إليه من أن هدف التنبيه على هذه المعالم (القرى الخاوية على عروشها، البئر المعطلة، القصر المشيد) هو. تذكير المنحرفين بالمصائر الكسيحة التي انتهت إليها المجتمعات البائدة نتيجة لتكذيبهم رسالات السماء، لذلك نجد أن المقطع القرآني الكريم ما أن ينتهي من تقديم هذه الصور الحسية. حتى يتقدّم إلى مطالبة المنحرفين بأن يتّعظوا بهذه المصائر حيث يتساءل قائلا (أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا..؟) .
إن هذا التعقيب له أهمية فنية كبيرة (من حيث عمارة المقطع ما دام قد ربط بين مصائر الأمم البائدة وبين ضرورة الإفادة منها في تعديل السلوك. كما أن له أهمية فنية أخرى هي: إن صياغة هذا التعقيب على نحو التساؤل والإشارة إلى أنه (لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ، وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ) ، سوف ينعكس على الأفكار المطروحة في مقاطع لاحقة من السورة الكريمة التي ستواصل حديثها عن سلوك المنحرفين، مما يفصح ذلك عن مدى جمالية النص من حيث تنامي وتلاحم مقاطعه بعضا مع الآخر.
ص: 196
قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا، أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا، فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ... الخ.
هذه الآية تتضمن صورة فنية عن مدى الانغلاق الذهني الذي يطبع المنحرفين الذين عاصروا رسالة الإسلام، فبالرغم من أن النص القرآني الكريم قد ذكرهم بمصائر الأمم البائدة ولفت أنظارهم إلي الآثار الحسية للإبادة: من قرية خاوية علي عروشها و بئر معطلة و قصر مشيد: بالرغم من ذلك فإن المكذبين لا يكادون يتعظون بأمثلة هذه المصائر.
هذه الظاهرة التي أشرنا إليها قد رسمها النص القرآني الكريم من خلال صورة فنية تقول أولا (أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا ؟) فالسير في الأرض (من وجهة فنية) يعني دعوة بنحو غير مباشر إلى مشاهدة الآثار المتبقية من مصائر الأمم المكذّبة، إلاّ أنّ النص القرآني تساءل: أتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها أخبار الأمم البائدة ؟ إنّ هذا التساؤل ينطوي على قيمة فنية هي: إمكانية أن يشاهد الإنسان مصائر الأمم البائدة دون أن يفقه أسرار ذلك، لكن من الممكن أن يخبر بذلك فيفقه السرّ... بيد أنه حتى في هذه الحالة لا يكاد يفقه السرّ بالرغم من أنّ له أذنا يسمع بها (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا) .
إذا، لا أمل البتة في أن يتعظ المنحرفون بمصائر الأمم البائدة، وهذا ما أوضحه القسم الثاني من الصورة حينما قال فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ ... هذه الصورة الفنية ذات دلالات متنوعة تشع بأكثر من قيمة، فأولا عندما تقول الصورة (لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ) فهذا يوحي بأن المنحرفين قد شاهدوا المعالم الحسيّة لمصائر البائدين: من عروش خاوية وبئر معطلة وقصر مشيد... لذلك فإن حاسة البصر تحتفظ بسلامتها من خلال
ص: 197
هذه الرؤية، إلّا أن الأمر ليس في أن يحتفظ المرء بحاسة البصر (فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ) بل المهم أن يحتفظ ببصره الداخلي أي القابلية الذهنية على إدراك الموقف. من هنا قدّم النص القرآني الكريم صورة فنية في غاية الإثارة وهي قوله: (وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ) ، فهذه الصورة التي يصطلح عليها بلاغيا ب (الاستعارة) تظل رمزا مدهشا لمدى انغلاق الذهن وتعطّل البصيرة لدى المنحرفين: حيث أكسب النص القلب صفة العمى مستعيرا ذلك من حاسة البصر ليعمّق بذلك دلالة الانغلاق الذهني لدى المنحرفين...
أخيرا، قدّم النص القرآني الكريم نموذجا لهذا الانغلاق الذهني عندما أردف الصورة الفنية بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ فاستعجال العذاب - مع أن النص ذكّرهم سابقا بمصائر الماضين - يعدّ إفصاحا عن عدم اتعاظ القوم بمصائر أسلافهم... ولذلك سرعان ما كرر النص القرآني عملية التذكير بمصائر الماضين حينما قال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهٰا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ .
إن هذا التكرار ذو دلالة فنية لها خطورتها من حيث البناء الهندسي للسورة: حيث سبق للنص أن أشار إلى أن أقوام نوح وعاد وثمود إلخ قد كذّبوا رسلهم، وكانت نتيجة ذلك هي قوله تعالى فَأَمْلَيْتُ لِلْكٰافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ ... فهنا عملية ربط فني بين أجزاء النص التي تحوم على فكرة الاتعاظ بمصائر الأمم المكذبة مما يفصح ذلك عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم جزئياته.
قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاٰ نَبِيٍّ إِلاّٰ إِذٰا تَمَنّٰى أَلْقَى
ص: 198
اَلشَّيْطٰانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَفِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَ لاٰ يَزٰالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ .
يتحدّث هذا المقطع عن الصراع بين الإسلاميين والانحرافيين الذين يحاولون إطفاء نور الإسلام... لقد أشار النصّ القرآني الكريم إلى محاولات هؤلاء المنحرفين بقوله: وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ فلوّح بمصائرهم التي تنتهي بهم الى الجحيم حتى يربط المقطع بالفكرة العامة للسورة وهي شدائد اليوم الاخر بالنسبة للمنحرفين، ثم تقدّم إلى عرض نموذج من المحاولات الانحرافية التي صدرت عنهم، فقال. وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاٰ نَبِيٍّ إِلاّٰ إِذٰا تَمَنّٰى أَلْقَى اَلشَّيْطٰانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ... و إذا عدنا الى النصوص المفسّرة وجدنا أنها تربط بين هذه الآية و بين ما كان يفعله المنحرفون من إضافة آيات تمتدح أصنامهم مستهدفين من ذلك: التعتيم على الموقف... إلّا أنّ أمثلة هذه المحاولات تنتهي بالفشل حيث تقول الآية فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ أي: تبقى رسالة الإسلام محكمة لا تؤثر فيها محاولات التشويش أو التعتيم المشار إليه.
هنا يسلك النصّ القرآني الكريم منحى فنّيا له جماليته وإثارته حينما يجعل أمثلة هذه المحاولات ترتدّ على أصحابها المنحرفين و ليس على الإسلاميين، فالملاحظ أولا أنّ النص قد رسمهم من خلال شخصية «الشيطان» فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ .
ص: 199
و أهمية هذا الرسم تتمثّل - في تصورنا الفني - في إلغاء الفاعلية لأدوارهم بل حصرها في وساوس الشيطان الذي يحركهم و يستجيبون له، بعكس الإسلاميين - و في مقدمتهم الرسول (ص) - حيث يبعد الله عنه ما يلقي الشيطان أمام الجمهور من تحريف أو اختلاق لآيات تمتدح الأصنام مثلا... و الأهمّ من ذلك هو أن يصبح ما يلقيه الشيطان محكّا لفرز سلوك المنحرفين الذين رسمهم النص فئتين: فئة المنافقين و فئة القساة لِيَجْعَلَ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَفِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ ...
فالملاحظ أن الآية الكريمة شطرت المنحرفين إلى قسمين: قسم (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) و آخر (اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) أما «مرضى القلب» فنحتمل أن يكونوا هم المنافقين «حيث استخدم النص القرآني الكريم في مواضع مختلفة هذا المصطلح ليشير به إلى (النفاق)، بصفة أن النفاق يشكل قمة الأمراض النفسية نظرا للاضطراب و التمزق و التوتر الذي تحدثه طبيعة الصراعات التي يحياها المنافق و هو يستبطن شيئا و يظهر شيئا آخر من أجل الحصول على إشباعاته الدنيوية التي يحرص عليها كلّ الحرص حيث يدفعه مثل هذا الحرص على أن يمارس النفاق.
و أما النمط الاخر من المنحرفين و هم الذين وصفهم النصّ بقساوة القلب (وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) فيجسّدون نمطا آخر من المرض هو: موت القلب و عدوانيته، لأنّ القساوة تفصح عن موت جهاز القيم عند صاحبه، و هذا ما يدفعه إلى أن يمارس السلوك العدواني في إشباع رغباته غير المشروعة مادام جهاز القيم معطلا في أعماقه.
و أيا كان، فإنّ المقطع القرآني الكريم ختم حديثه عن هؤلاء المنحرفين بقوله تعالى: وَ لاٰ يَزٰالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ هنا ينبغي ألا نغفل عن ملاحظة أنّ السورة الكريمة
ص: 200
(وهى سورة الحج) قد استهلت بالحديث عن زلزلة الساعة و أهوالها إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ ، وها هو المقطع يربط بين فكرة السورة وبين هؤلاء الذين قال عنهم بأنّهم في شك (حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) حيث وصف مجيء الساعة واليوم العقيم بنحو يتجانس مع هول المصير الذي ينتظر المنحرفين المشككين، وحيث تجيء سمة (العقم) الذي يعني عدم وجود مثل له في أهواله وشدائده: متجانسة مع الفكرة التي تحوم عليها سورة الحج التي أشارت مقدمتها إلى الساعة بكونها يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا وَ تَرَى اَلنّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اَللّٰهِ شَدِيدٌ . إذا، هذا الربط بين مقدمة السورة ووسطها الذي تحدّثنا عنه، يدلنا على مدى إحكام النص من حيث تلاحم مقاطعه بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ * وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَأُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ * وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مٰاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذٰلِكَ وَ مَنْ عٰاقَبَ بِمِثْلِ مٰا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ .
هذا المقطع من سورة الحج يتحدّث عن مفهومات تتّصل بالجهاد والهجرة والتعامل العسكري مع العدو، بعد أن كان مقطع أسبق يتحدث عن مشروعية القتال: من حيث السماح للإسلاميين بمقاتلة العدو بعد أن أخرجهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربّنا اللّه.
المقطع الأسبق كان يتحدّث عن الجهاد العسكري من حيث
ص: 201
مشروعيته... أما المقطع الحالي فيتحدّث عن نتائج هذا الجهاد و ما يترتب عليه من العطاء الأخروي والدنيوي... لقد تحدث المقطع عن المهاجرين عن أوطانهم في اللّه حيث يستشهد البعض منهم في ساحات المعركة مع العدو، وحيث يموت البعض الآخر منهم في ديار الغربة... هؤلاء: الشهيد منهم والميّت في غربته بشرهم اللّه بهذا العطاء الأخروي: (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ ) ليدخلنّهم مدخلا يرضونه... ترى: ما هو السرّ الفني وراء تحديد العطاء الأخروي بكونه (رِزْقاً حَسَناً) وبكونه (مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ) (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً) و (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ) ؟ إننا ما دمنا نعنى بعبارة السورة القرآنية من حيث تلاحم وتجانس جزئياتها بعضا مع الآخر، حينئذ يتعيّن علينا إدراك الأسرار الفنية في أمثلة هذه الصياغة التي تتحدث عن اليوم الآخر من خلال (الرزق الحسن) و (المدخل الذي يرضاه) المهاجر عن أرضه في سبيل اللّه... لا شكّ أن المهاجر عن وطنه يترك وراءه كلا من رزقه وأرضه في سبيل اللّه... إنّه يترك وراءه كلا من رزقه وأرضه وهما أهم حاجاته المادية والنفسية، وها هو المقطع يتحدث عن التعويض الأخروي لهاتين الحاجتين فيلوح للمهاجرين بأنّه (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً) ويلوّح لهم بأنه (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ) ...
إذا جاء التلويح بالرزق الحسن والمدخل الذي يرضاه المهاجر متجانسا فنيا مع طبيعة الهجرة التي تقترن بترك الرزق والأرض...
وهذا ما يتصل بالعطاء الأخروي في حالة الاستشهاد أو الموت في الغربة. أمّا ما يتصل بالعطاء الدنيوي في حالة عدم الاستشهاد والموت، فإن المقطع يلوّح لهم بالنصر: (ذٰلِكَ وَ مَنْ عٰاقَبَ بِمِثْلِ مٰا عُوقِبَ بِهِ ، ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ :
لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّٰهُ ...) .
لا نغفل: إنّ المقطع الأسبق من السورة قرّر بأنّه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ
ص: 202
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وها هو المقطع الحالي (ونحن نتحدّث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة) يربط فنيا بين قضيتي الجهاد والنصر في كلا المقطعين، حيث يشير الآن إلى أنّ المجاهدين حينما يعاقبون الظالم على ظلمه ثم يبغي عليهم من خلال إخراجهم من ديارهم أو من خلال محاولته قتل المجاهدين: حيث تذكر بعض النصوص المفسرة أن قوما من المشركين حاولوا قتل الإسلاميين في أحد الأشهر الحرم فنصر اللّه الإسلاميين عليهم.
والمهم سواء أكان ذلك متصلا بهذه الحادثة أو بحادثة إخراجهم من ديارهم، في الحالتين يظل (النصر) من قبل الله تعالى هو العطاء الدنيوي للمهاجر في سبيل اللّه... والمهمّ بعد ذلك: أن نشير (ونحن نتحدث عن الهيكل الهندسي للسورة) إلى أنّ سورة الحج التي استهلت حديثها عن اليوم الآخر، لا تزال - وهي تطرح مختلف الموضوعات - تربط بين كل موضوع فيها وبين الفكرة التي تحوم على الجزاء الأخروي، حيث بدأت حديثها في هذا المقطع بالإشارة إلى اليوم الآخر (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَأُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ ) ، كما أنها أعقبت هذا الحديث عن الجزاءات الأخروية بحديث عن الجزاء المترتب على المهاجرة في سبيل اللّه (وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مٰاتُوا:
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ .. الخ). إذا، أمكننا ملاحظة مدى إحكام السورة من حيث تلاحم وتجانس مقاطعها وجزئياتها بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ * وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ .
ص: 203
قال تعالى: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ * وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ .
هذا المقطع من سورة الحج يتحدث عن إبداع اللّه تعالى للظواهر الكونية المختلفة وتسخيرها للإنسان: ثم ربطها بخلق الإنسان وإماتته وإحيائه في اليوم الآخر: بصفة أنّ سورة الحج تحوم فكرتها على أهوال اليوم الآخر، حيث يتمّ بهذا النمط من الصياغة إحكام عمارة السورة القرآنية كما هو واضح من خلال الربط بين موضوع جديد وبين فكرة السورة.
إن الموضوع الجديد هو قضية الإبداع الكوني وتسخيره للإنسان كما قلنا. فقد أشار المقطع إلى إبداع الليل والنهار والمطر والنبت والبحر والسماء: ثم قبط بين ذلك وبين الإفادة منه من حيث تسخيره للإنسان: حيث صرّح بوضوح بقضية الإفادة حينما قال تعالى. (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ ) إنّ الإشارة إلى الإبداع الكوني وتسخيره يحمل دلالة فنية ترتبط بهيكل السورة الفكري... فقد خلّل حديثه من هذا الجانب إشارات إلى السلوك البشري وكفرانه بهذه النعم التي سخرها الله له، فذكر أولا ذلك (بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ ) كاشفا بذلك عن السلوك الوثني لبعض الناس، ثم ذكر بعد ذلك (إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ثم ختم ذلك بقوله (إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ) هذا النمط من تسلسل العرض للسلوك المنحرف عند البشر والتعليق عليه: من خلال عرض المعطيات المتنوعة من نحو: (أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) ونحو (وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ ) ثم إنهاء الحديث عن أنّ الله (هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ) ... هذا النمط من عرض المواقف والتعليق عليها: يتضمن دلالات فنية متنوعة كما
ص: 204
قلنا، فالإبداع الكوني ذاته - حتى بغضّ النظر عن إفادة الإنسان منه - ينطوي على تقرير حقيقة موضوعية ينبغي تقويمها من قبل الإنسان: مع أنّ اللّه تعالى غنيّ عن مثل هذا التقويم وهو ما صرّح به المقطع ذاته به عبر قوله تعالى (لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ) فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإبداع الكوني قد سخّر للإنسان: حينئذ فإنّ تقويم هذه المعطيات ينبغي أن يتأكّد عند الإنسان، لكن مع ذلك نجد - كما ذكر المقطع - «إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ» بهذه المعطيات.
إن ما يعنينا من ذلك هو أن المقطع ختم حديثه عن الإبداع الكوني وتسخيره للإنسان: ختمه بقضية خلق الإنسان ثم إماتته ثم إحيائه، فالإبداع هنا ربطه المقطع بقضية تخص الإنسان وهي خلقه وإماتته: حيث يحيا الإنسان تجربة الولادة والموت حسّيا، وحينما يستثمر النص قضية الولادة والموت وهما كما يحياهما الإنسان حسّيا، ثم يضيف إليها تجربة لم يخبرها الإنسان بعد و هي: إعادة خلقه في اليوم الآخر، حينئذ تتعمّق لدى المتلقي قناعته بحتمية اليوم الآخر، وهو ما يستهدفه النص دون أدنى شك... والمهم بعد ذلك أن سورة الحج التي استهلّت بالحديث عن الساعة وأهوالها يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ قد التحم بها هذا المقطع الذي يتحدث عن تجربة اليوم الآخر (عند قيام الساعة) حيث أن نهاية المقطع يشير إلى الساعة المذكورة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) ثم يشير إلى أهوالها التي تنتظر الكافر (إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ) ... إذا، أمكننا ملاحظة كيفية الربط بين هذا المقطع التي يتحدث عن الإبداع الكوني وبين فكرة السورة التي تحوم على اليوم الآخر، مما يفصح ذلك عن مدى إحكام النص وتلاحم جزئياته بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 205
قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً هُمْ نٰاسِكُوهُ فَلاٰ يُنٰازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلىٰ هُدىً مُسْتَقِيمٍ * وَ إِنْ جٰادَلُوكَ فَقُلِ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا تَعْمَلُونَ * اَللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ * وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ مٰا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا، قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكُمُ : اَلنّٰارُ وَعَدَهَا اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ .
هذا المقطع من سورة الحج: يطرح مجموعة من الأفكار ثم يربطها بالفكرة العامة لسورة الحج ونعني بها اليوم الآخر وما تكتنفه من الأهوال...
الأفكار المطروحة هنا: يجيء في مقدمتها واحد من مبادىء الاجتماع البشري ألا وهو قوله تعالى (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً) أي: جعلنا لكل مجتمع بشري شريعة خاصة به من حيث الوظيفة الخلافية في الأرض... في سياق هذا الطرح يؤكد المقطع جهل المنحرفين من الناس بحقيقة هذا المبدأ الاجتماعي مقابل التأكيد لمعرفة اللّه تعالى بالمصالح الاجتماعية في تفاوت المجتمعات (وإن جادلوك فقل اللّه أعلم) (أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ) ... هذا التأكيد بالنسبة إلى (علم الله) وتكراره ينطوى على مهمة فنية هي أن تفاوت المجتمعات (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً) قائم على حكمة لا يعرفها إلا الله تعالى وليس من المنطق أن يجادل في ذلك، ولذلك طالب المقطع بحسم الجدال (فَقُلِ : اَللّٰهُ أَعْلَمُ ) ، والمهم بعد ذلك أن النص يتّجه إلى هؤلاء المجادلين وهم: الوثنيون ليكشف لنا جانبا من شخصياتهم المريضة (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ مٰا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) ...
لنلاحظ أن المقطع وازن بين تأكيده وتكراره بأنّ الله وحده يعلم أسرار التفاوت
ص: 206
في المجتمعات وبين نفيه لأدنى معرفة عند من يجادلون في ذلك فهؤلاء يعبدون من دون اللّه من دون دليل علمى (مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً) ثم من خلال (مٰا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) بعد ذلك يتجه المقطع إلى الكشف عن النزعة الشريرة التي تطبع هؤلاء المنحرفين المجادلين، لقد وصفهم بسمة (المنكر) (وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ) ثم جسّد النص هذا المظهر الخارجي لوجههم بسلوك عملي للمنكر هو أنهم: (يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا) ... هنا ينبغي أن نقف عند هذه الصورة الفنية التي رسمها النص بالنسبة لهؤلاء المنحرفين عن مبادىء اللّه أنهم أولا مجادلون والجدال مظهر خارجي لنزعة داخلية تقوم على العناد والعدوان لكن النص لم يقل ذلك مباشرة بل أوضحه من خلال لغة الفن، ومن خلال عنصر (الرمز) وهو: المنكر الذي نلاحظه في وجوه المنحرفين (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا: اَلْمُنْكَرَ) ... المنكر هو مطلق الشرّ لكن سرعان ما أردف النص هذه السمة المجملة بسلوك واضح هو: النزعة العدوانية لدى المنحرفين فهؤلاء - يقول النص - «يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا» أي. أن هؤلاء الذين تقرأ في وجوههم المنكر يكادون من شدة عدوانيتهم أن يبطشوا بالمؤمنين الذين لم يصنعوا شيئا أكثر من كونهم يتلون ايات الله عليهم، أي يدعونهم إلى الإيمان باللّه وبرسالة الإسلام.
لنلاحظ أن النص لم يرسم المؤمنين الذين يتلون آيات الله على المنحرفين، لم يرسمهم بغير هذا المظهر المسالم من الدعوة إلى اللّه وهذا بعكس المنحرفين الذين يبرزون ردود أفعالهم بشكل مغرق في العدوانية (يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا) ... إذا، من خلال الموازنة غير المباشرة (وهذا واحد من سمات الفن المدهش) رسم لنا النص طبيعية النزعة المسالمة عند المؤمنين مقابل النزعة العدوانية عند المنحرفين... والأهم من ذلك أن النص وهو يحدّثنا عن هذه الاستجابة الشاذة عند المنحرفين يتجه إلى
ص: 207
منحى فني جديد عندما يقابل استجابتهم الشاذة بمصير ينتظرهم في اليوم الآخر هو أشدّ كراهة لهم من الكراهة التي أظهروها حيال رسالة الإسلام (قُلْ .
أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكُمُ : اَلنّٰارُ وَعَدَهَا اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) ...
لنلاحظ من جديد كيف أنّ هذا المقطع القرآني قد اعتمد عنصر الموازنة بين جهل المنحرفين بمبادئ الاجتماع البشري وبين علم اللّه، بين النزعة المسالمة عند المؤمنين والنزعة الشريرة عند المنحرفين، بين استجابتهم الكريهة حيال الإسلام و بين كراهة النار التي تنتظرهم... هذه الموازنة لها أهميتها الكبيرة في لغة الفن، مضافا إلى أنّ النص بهذا النحو من العرض الذى ختم به حديثه عن المنحرفين حيث لوّح لهم بالنار التي تنتظرهم في اليوم الآخر، إنما ربط بين هذا المقطع و بين فكرة سورة الحج التي تحوم على أهوال اليوم الآخر، مما يكشف ذلك عن مدى إحكام النص وتلاحم مقاطعه بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ * يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جٰاهِدُوا فِي اَللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اِجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هٰذٰا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلاٰكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلىٰ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ .
بهذا المقطع تختم سورة الحج التي بدأت بالحديث عن أهوال يوم
ص: 208
القيامة وانتهت بالحديث عن الوثنيين الذين (يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ مٰا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) حيث أنهتهم إلى مصائرهم التي تنتظرهم في اليوم الآخر وهي (اَلنّٰارُ وَعَدَهَا اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) ... وها هو النص يتقدّم بالتدليل على هزال التفكير الوثني بعد أن حدّثنا عن النزعة العدوانية لدى أصحابه (وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا) هؤلاء: يتقدم النص بالتدليل على مهزلة سلوكهم الوثني: من خلال الصورة الفنيّة التالية (يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ ) ...
إن هذه الصورة الفنية تجسّد نمطا خاصا من التركيب الصوري. من حيث طرفته وصياغته.. فالصياغة تتجسّد في لفت الناس أولا إلى أن هناك نموذجا من الأمثال التي تضرب في سياق العبادة الوثنية. حيث طالب النص بأنّ يستمع الناس إلى هذا المثل (يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) ... ومجرّد وقوفنا على مثل هذه الصياغة التي تهيئ الأذهان إلى وجود (مثل)، وتطالب بالاستماع إليه: كاف في تحسيس المتلقي بمدى ما يتضمنّه من الحقائق المذهلة.. لقد قدّم النص صورة تقول (إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ) . لقد انتخب النصّ (الذباب) دون غيره ربما لصغره ولاقترانه بما هو منفّر، ثم عجز الناس عن التخلّص منه.. أو ربما - كما تذكر بعض النصوص المفسرة - لكونه كان يلحس بعض المأكولات التي تدهن بها الأصنام... ففي الحالين. ثمة مخلوق صغير يعجز الناس عن التصدي له، وهذا العجز عن التصدّي تكفّل الشطر الآخر من الصورة الفنية بتجسيده وهو (وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) ... إن هذه الصورة الملأى بعنصر السخرية تتناسب مع نمط العقلية الهزيلة التي تستدرّ الإشفاق، وهي اللجوء إلى حجر الصّنم الذي لا يستطيع حتى خلق ذبابة بل حتى مجرد التصدي للذبابة
ص: 209
التي تلحس سطحه و هو أمر عقب عليه النص بتعقيب مقرون بالسخرية أيضا حينما قال (ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ ) ، «والطالب» و «المطلوب» هما رمزان فنيان لكلّ من عابد الصنم، والصنم، أو الصنم والذباب، أو العكس أو غير ذلك مما يمكن أن نستوحيه من هذين الرمزين الفنيين اللذين يشعّان بأكثر من إيحاء، وهذه هي سمة الفن المدهش الذي يشعّ برموز وصور مرشحة لأكثر من إيحاء أو استخلاص أو دلالة.
وأيّا كان، فإن النص يعقّب سريعا على هذا المثل الذي صاغه بالنسبة للوثنيين قائلا (مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) حيث يتضمن هذا التعقيب لغة ملأى بالعقاب لهؤلاء المعطلين ذهنيا ممّن لم يعرف اللّه حق المعرفة، مقن لم يعرف اللّه حق عظمته بحيث جعلوا الأوثان الحجرية شركاء له.
أخيرا - كما انتبه على ذلك بعض المفسرين - ربط النص عبادة الأوثان بعبادة بعض الملائكة والناس ممن جعلوا شركاء له أيضا: حيث ردّ على ذلك بنحو غير مباشر عبر الإشارة الى اصطفائهم من قبله تعالى، رسلا وليس شركاء (اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ ) ...
بعد ذلك ختم المقطع هذا الجانب، ختمه بالمطالبة بتعديل السلوك، بالمطالبة بعبادة اللّه والإشارة إلى سماحة الرسالة الإسلامية، ومن ثم بإشاعتها وبتبليغها وتوصيلها إلى الآخرين.
إذا، أمكننا ملاحظة هذا الختام الذي طالب بتعديل السلوك - وهو هدف النص - من خلال تعقيبه على سلوك الوثنيين الذين لوّح لهم قبل ذلك بالجزاء الذي ينتظرهم في اليوم الآخر. رابطا بهذا بين الجزاء المذكور وبين مقدمة السورة التي استهلّت بالحديث عن أهوال اليوم الآخر، مما يفصح ذلك عن الإحكام الهندسي للسورة من حيث تلاحم جزئياتها بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 210
ص: 211
ص: 212
يقوم البناء الفني لهذه السورة على هيكل خاص هو: انطواؤه على خمسة أقسام: القسم الأول منه يتناول سمات المؤمنين، القسم الثاني يتناول ظاهرة الإبداع الكوني: بشريا وطبيعيا، القسم الثالث يتناول قصص المجتمعات البائدة، القسم الرابع يتناول مجتمع محمد (ص) (وهو أكبر هذه الأقسام حجما)، وأما القسم الأخير فيتناول اليوم الآخر... وأما الخطوط التي تنتظم هذه الأقسام، فتظل مترابطة فيما بينها بطبيعة الحال، كل ما في الأمر أن عملية الترابط العضوي بين أجزاء النص تأخذ حينا طوابع (الوصل) المقطعي، أي أن كل مقطع يفضي إلى آخر، من خلال خاتمته التي تمهّد إلى المقطع الآخر، وتأخذ حينا طوابع الوصل العام، أي أن الموضوعات المطروحة يلقي بعضها الإنارة على البعض الاخر من خلال عنصر مشترك يوحّد بينها... و سورة «المؤمنون» تنتسب إلى هذا النمط الأخير، فيما ينبغي أن نتحدث عنه حسب تسلسل أقسامه، بادئين مع:
يتحدث هذا القسم عن سمات المؤمنين على هذا النحو قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلَوٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ * أُولٰئِكَ هُمُ اَلْوٰارِثُونَ * اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ .
إن هذا الاستهلال للسورة يكشف عن جملة حقائق فنية، منها:
ص: 213
- أن الاستهلال يعكس أهمية الموضوع، و ليس أهمّيته أشد من عرض سمات المؤمنين حيث يظل هدف كل النصوص هو رسم هذه السمات وغيرها بحيث توظف العناصر الفنية من أجله.
- أن الاستهلال يلقي بإنارته على أجزاء النص الأخرى، سواء أكانت الإنارة مستغرقة لجميع الأقسام أو لبعضها.
أن الاستهلال يشكّل - في غالبية النصوص - (تمهيدا) تتنامى من خلاله الموضوعات المرتبطة به، أو إجمالا تتكفل الأجزاء الأخرى بتفصيله.
ويلاحظ أن هذا القسم أو الاستهلال قد عرض السمات التالية: الخشوع في الصلاة، الإعراض عن اللغو، ممارسة الزكاة، نظافة الجنس، مراعاة العهد والأمانة، المحافظة على الصلاة في أوقاتها... وقد خضع هذا القسم لعمارة فنية ممتعة هي «استهلاله» - في عرض السمات للمؤمنين - بسمة مرتبطة بالصلاة، ومن الواضح أن النص حينما يستهل ويختم بموضوع واحد إنما يعني أهمية ذلك الموضوع وامتيازه على الموضوعات الأخرى، يضاف إلى ذلك أن النص قد انتخب سمتين من الصلاة هما (الخشوع) و المحافظة على أوقاتها، مع ملاحظة أن لكل من الاستهلال والاختتام أهميته الفنية، لأن الاستهلال يفصح عن الأهمية من خلال جعله أول ما يرد على الذهن وآخر ما يرد على الذهن هما اللذان يحتفظ الذهن بهما أكثر من غيرهما، وهذا ما يكشف أن كلا من الخشوع والمحافظة على الصلاة في أوقاتها يحتل أهمية ضخمة لدى السماء... ولا أدل على أهميتها من أن (الخشوع) يعني: التواصل بصدق مع اللّه تعالى، وأن الصلاة في أول وقتها تعني: الحرص على التواصل مع اللّه تعالى، فالصلاة غير المقترنة بالخشوع تكشف عن أن عناية المصلّي بمقابلته مع اللّه ليست بالنحو المطلوب، كذلك فإن تأخير الصلاة عن أول وقتها تكشف عن ضآلة عنايته بهذا الجانب...
ص: 214
إذن، أمكننا أن نكتشف جملة من الأسرار الفنية لعمارة هذا القسم من السورة من حيث بدايته وختامه.
يتناول هذا القسم من السورة ظاهرة الإبداع الكوني: بشريا وطبيعيا، أي: ظاهرة خلق الإنسان من الطين، فجعله نطفة فعلقة فعظاما فلحما فخلقا تاما وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ إلى هنا نجد أن النص قد عقّب على ظاهرة إبداع الإنسان بكون اللّه تعالى أحسن الخالقين، مشيرا بذلك إلى أن مراحل الخلق - بالرغم من كونها تعتمد مواد ترابية في أصلها الأول، ومواد بيولوجية في أصولها الثانوية غير محددة إلاّ في أشكال متكومة من الدم واللحم إلا أنها - في المرحلة الأخيرة - تفضي إلى شكل يمتاز بجمالية فائقة هي الإنسان في مظهره الحالي... إلا أن الأهم من ذلك كله، إن النص - وهو يتحدث عن خلقة الإنسان يختم ذلك بعبارتين هما: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ) و (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تُبْعَثُونَ ) ... إن هذا الختام يحتل موقعا هندسيا ممتعا من النص، حيث سنجد انعكاساته على الأقسام اللاحقة من السورة، وهذا هو أهم ما نعنى به - ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة - حيث أن الإشارة إلى الموت و الانبعاث في اليوم الآخر ستتردد أصداؤه بغزارة من الأقسام اللاحقة من السورة، فالقسم الثالث من السورة يتحدث - كما سنرى - عن المجتمعات البائدة التي تنكر الانبعاث، والقسم الرابع من السورة يتحدث عن المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام حيث يظل تنكره لليوم الآخر من أبرز مظاهر السلوك لدى الجاهليين، وأما القسم الأخير من السورة فيتمحض - كما قلنا - للحديث عن اليوم الآخر.
ص: 215
إذن، هذا القسم من السورة قد اضطلع بمهمة بنائية هي: تمهيده لموضوع ذي أهمية كبيرة هو: اليوم الآخر، حيث استثمر النص حديثه عن إبداع الله تعالى للإنسان، ليربطه بأهم النتائج المترتبة على خلق الإنسان ألا وهو: حياته الأبدية في اليوم الآخر.
وهذا فيما يتصل بظاهرة الإبداع البشري.
أما ما يرتبط بظاهرة الإبداع الطبيعي، فقد أشار النص إلى إبداعه تعالى للسماء والمطر والنبات والأنعام والزيتون وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تُبْعَثُونَ * وَ لَقَدْ خَلَقْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرٰائِقَ وَ مٰا كُنّٰا عَنِ اَلْخَلْقِ غٰافِلِينَ * وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ * فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ * وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنٰاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ * وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهٰا وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ * وَ عَلَيْهٰا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ... والبناء الفني لهذا الجزء يتمثل في جملة من الخصائص، منها:
- التركيز على معطيات اللّه تعالى بالنسبة إلى الثروة الغذائية حيث أشار إلى النخيل والأعناب والفواكه والزيتون، مثلما أشار إلى ظاهرة (الأكل والشرب) مثل (فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ ) و (فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ ) و (نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهٰا) ، حيث أن (الحاجة إلي الطعام و الشراب) تمثّل - كما هو واضح - أشد الدوافع البيولوجية بروزا في تركيبة الإنسان، مما يفسّر لنا سبب تركيز النص على هذه الظاهرة...
- تخصيص (الزيتون) و (الدهن) بالذكر، دون سواه من النباتات، مما
ص: 216
يكشف مثل هذا التخصيص عن أن يستهدف لفت النظر إلى أهمية هذا النمط من النبات...
- الإشارة إلى نمطي الثروة: النباتية والحيوانية.
- اقتران الحديث عن معطيات اللّه تعالى بتعليقات تجسد الهدف الرئيس من هذا العرض للظواهر المذكورة، وهذا من نحو قوله تعالى تعقيبا على خلق السماوات السبع (وَ لَقَدْ خَلَقْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرٰائِقَ ، وَ مٰا كُنّٰا عَنِ اَلْخَلْقِ غٰافِلِينَ ) فالعبارة الأخيرة هي المستهدفة بطبيعة الحال، حيث ربط خلق السماوات بالتجربة البشرية التي تضطلع مهمة عبادية فيما لم يخلق الإنسان عبثا، ومن نحو قوله تعالى تعقيبا على إبداع المطر (وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ ) فالجملة الأخيرة هي المستهدفة هنا، حيث ركّزت على أنّ اللّه تعالى (و قد خلق هذه المعطيات - المطر ومستلزماته) قادر على إزالتها، وهذه الإشارة سوف تنعكس على الأجزاء اللاحقة من السورة من حيث صلتها بالجزاءات الدنيوية التي تطال المنحرفين، ومن حيث صلتها بمطلق القدرة التي يستهدف النص لفت النظر إليها، وفي مقدمة ذلك، القدرة على بعث الأموات في اليوم الآخر.
- التناسق أو التوازن الهندسي بين الخطوط التي تنتظم هذا القسم، من نحو التوازن بين الثروة النباتية والحيوانية، حيث عقّب النص على الثروة الأولى بقوله: (لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ ) وحيث عقب على الثروة الأخرى بقوله: (لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ ) فالجملتان تتضمنان العبارات المتماثلة (لكم) (فيها) (كثيرة) (ومنها) تأكلون، هذه العبارات تكررت في النصين (خلا عبارة الفواكه والأعناب: حيث أنهما تميزان الثروة النباتية عن الحيوانية)...
إذن، العمارة الفنية لهذا القسم، بنيت وفق تخطيط ممتع يقوم على
ص: 217
التوازن بين الثروة النباتية و الحيوانية موضوعيا و لفظيا، مثلما بنيت وفق تخطيط يعكس إنارته على الأجزاء اللاحقة من السورة، على نحو ما أشرنا إليه، وما نلحظه في متابعتنا للقسم الجديد من النص، وهو.
يتمحض هذا القسم من السورة للعنصر القصصي، حيث يعرض النص لقصص المجتمعات البائدة: مجتمع نوح وما بعده. اتساقا مع سائر المواقع القرآنية التي تكرر هذا العرض القصصي في سياقات جديدة، كما تنتخب من الأحداث والمواقف ما يتناسب وسياق لسورة الكريمة... ويلاحظ في العرض القصصي الذي نحن في صدده:
- أن النص قد اقتصر على قصص بعض المجتمعات (مجتمع نوح، مجتمع صالح (ع)، مجتمع موسى. أخيرا، من حيث مواجهته لمجتمع فرعون، حيث خصّص لكل واحد منها حقلا مستقلا.
- أن النص عرض لقصص المجتمعات الأخرى من خلال آية واحدة تقول: ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا، كُلَّ مٰا جٰاءَ أُمَّةً رَسُولُهٰا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنٰا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ ، فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ .
- أن النص أبهم بطل القصة الثانية قائلا (وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ ... الخ) حيث لم يذكر صالح (ع) ولا قومه ثمود.
- أن النص عرض لكل من موسى وعيسى من خلال رسالتهما وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنٰاهُمٰا إِلىٰ رَبْوَةٍ ذٰاتِ قَرٰارٍ وَ مَعِينٍ ، ولم يعرض لقصصهما حيال مجتمعهما والجزاءات المترتبة على ذلك.
- أن النص ركّز على مواقف وأحداث منتخبة في القصص المشار إليها،
ص: 218
يمكن رسمها على هذا النحو:
- الدعوة الى عبادة الله تعالى واتقائه.
- تكذيبهم للدعوة المشار إليها.
- اتهامهم الرسل بكونهم بشرا، واتهام نوح (ع) بالجنون وصالح (ع) بالكذب.
- مطالبة نوح وصالح بنصرة اللّه تعالى على قومهما.
- إبادة هذه المجتمعات الثلاثة.
إن ما نستهدف لفت النظر إليه - من حيث العمارة الفنية لهذه القصص - هو: إبراز العناصر التي تسهم في بناء العمارة المذكورة وجماليتها وانعكاساتها أو صلاتها العضوية بما تقدمتها وبما تلحقها من أقسام السورة الكريمة...
ولنتقدم بالحديث أولا عن العناصر المشتركة في هذه القصص الثلاث أو الأربع (حيث يمكن عدّ الآية التي أجملت الحديث عن المجتمعات التي خلّفت مجتمع صالح (ع) (ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا ... الخ) قصة مستقلة.
- قال نوح (ع) لقومه: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ ، أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ وقال صالح (ع) لقومه: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ .
فالملاحظ أن كلا من نوح وصالح قد تحدثا مع قومهما من خلال موقف مشترك هو (التوحيد) و (الاتقاء)، حيث جاءت صياغة موقفهما بعبارة واحدة (اُعْبُدُوا ... تَتَّقُونَ )، تضفي جمالية (لفظية) على عمارة القصص.
- قال قوم نوح (ع) في تكذيبهم إياه: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ . وقال قوم صالح (ع) في تكذيبهم إياه: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .
وقال فرعون وجماعته عن موسى وهارون (أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا ؟) إن كلا من القومين (قومي نوح وصالح) وكذلك فرعون صدروا عن موقف واحد هو أن الرسل هم من البشر مع ملاحظة أن صياغة الموقف (بالنسبة إلى قوم
ص: 219
نوح و صالح) خضعت لعنصر لفظي (مشترك) على نحو الاشتراك اللفظي في مفهومي (التوحيد) (الاتقاء)... أما بالنسبة إلى فرعون و جماعته، فإن تميز هذا المجتمع عن المجتمعين السابقين له: يفسّر لنا فنيا سبب التفاوت في صياغة العبارة القصصية.
- قال نوح (ع) رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمٰا كَذَّبُونِ .
وقال صالح (ع) رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمٰا كَذَّبُونِ .
وهذه هي الصياغة المشتركة الثالثة للعبارات القصصية المتماثلة لفظيا:
فيما تكشف عن مدى جمالية العمارة القصصية في خطوطها الهندسية التي تمثل عنصر (التوازي) أو (التماثل) بين خطوط العمارة القصصية...
وإذا تركنا هذه الخطوط الهندسية (المتماثلة) في القصص، واتجهنا إلى الخطوط الهندسية الأخرى للعمارة، لحظنا خطوطا هندسية تقوم على عنصر (التجانس)، متمثلة في جملة محاور، منها:
- اتهام نوح بالجنون (إِنْ هُوَ إِلاّٰ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ...) - اتهام صالح بالكذب (إِنْ هُوَ إِلاّٰ رَجُلٌ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً...) فالملاحظ هنا، أن العبارتين خضعتا من جانب لصياغة (مشتركة) لفظيا وهي عبارة (إِنْ هُوَ إِلاّٰ رَجُلٌ ) ، وخضعتا من جانب آخر لمفهوم (متجانس) هو. الجنة والكذب أو الافتراء، حيث أن كلا من الكذب والجنة يجسّد تهمة سلبية يحتمي بها المكذبون لتسويغ عملية عدم الاستجابة لرسالة السماء.
- عندما قالت المجتمعات المنحرفة الثلاث بأن رسلهم «بشر»، سوّغوا ذلك بمسوغات (متجانسة): حيث قال قوم نوح (بَشَرٌ مِثْلُكُمْ : يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) . وقال قوم صالح (بَشَرٌ مِثْلُكُمْ : يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ ) ، وقال فرعون وجماعته (أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا: وَ قَوْمُهُمٰا لَنٰا عٰابِدُونَ ) ... فالملاحظ، أن كلا من «التفضل» و «التغذية» و «العبودية» - بالرغم من كونها ظواهر (متباينة) إلا أنها (متجانسة) من حيث المسوّغات التي يقدّمها المنحرفون في تفسيرهم الهزيل «بشرية» الرسل (ع)، علما، بأن (التباين من خلال الوحدة) أو (الوحدة من خلال التباين) يظل واحدا من العناصر
ص: 220
الجمالية التي تطبع عمارة النص الادبي، فالخطوط الهندسية لأية عمارة (تباين) و (تتجانس) في آن واحد: كما لو ترى صفّ شقق متعددة في صف واحد، إلا أنها تباين في قاعاتها مثلا.
وندع كلا من (التماثل) و (التجانس) داخل العمارة القصصية، لنتجه إلى (التباين) فيها، أو - بعبارة بديلة - إلى (الخصوصية) التي تميز كل واحدة من القصص. فمن الواضح أن أي نص فنّي يشتمل على «أجزاء» تشكّل (الكلّ ) الذي يتألف منها، وهذه الأجزاء تحمل خصائص متنوعة، منها: أنها «تستقل» من جانب، ولكنها «تشترك» فيما بينها من جانب آخر، كما أنها من جانب ثالث ترتبط (عضويا) بما يتقدمها ويلحقها (أو بما يجاورها من العمارات الأخرى التي تشتمل على نفس الخصائص)..
فإذا دققنا النظر في هذه القصص التي نحن في صددها، نجد أن كل واحدة منها (تستقل) في طرح المفهومات (بعد أن تكون قد اشتركت في مفهومات «متماثلة» و «متجانسة» - كما رأينا).
ولعل أبرز ما نلحظه في هذا الجانب هو قصة صالح (ع)،...
لقد أبهم النص بطل هذه القصة (وهذا أحد عناصر التباين) بينا ذكر النص أبطال القصص الأخرى (نوح، موسى وهارون، عيسى ومريم)... قال النص (ثُمَّ أَنْشَأْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ - أي بعد قوم نوح - فَأَرْسَلْنٰا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ : أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ ... ) وتقول النصوص المفسرة أن هؤلاء يترددون بين كونهم قوم هود: لكونهم جاءوا بعد قوم نوح، وبين كونهم قوم صالح:
لأن النص ذكر (اَلصَّيْحَةُ ) التي أصابتهم، (فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ...) وهي خاصة بقوم صالح.
ومما لا شك فيه، أن المقصود من هؤلاء القوم هم قوم صالح. للسبب الذي تقدّم (وهو الصيحة)، مضافا إلى (قرائن) أخرى يمكننا أن نستنتجها، وفي مقدمتها ما نجده من سمة (الترف) الذي ذكره النص (وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا...) فالمعروف - من خلال القصص القرآنية الأخرى التي عرضت لمجتمع صالح (ع) - أن
ص: 221
«الترف» طبع هؤلاء القوم مثل ما ورد في سورة الأعراف مثلا وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ ، تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبٰالَ بُيُوتاً وما ورد في سورة الشعراء (وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً فٰارِهِينَ ) ...
وأما السرّ الفنيّ لهذا (الإبهام للبطل) فيمكن (من خلال التذوق الفني الصرف) أن نقرر بأن النص القرآني في عرضه للأقوام البائدة، يخضع ذلك حينا إلى فترات تأريخية تفصل مرة بين المجتمعات التي تنتهي إلى قوم صالح، ومرة تصل بها إلى مجتمع لوط وشعيب، ومرة إلى مجتمع فرعون... إلا أن الملاحظ أن كلا من مجتمع نوح وهود وصالح ولوط وشعيب تمثل فترة تأريخية متميزة عن المجتمعات التي بدأت مع موسى (ع)، من هنا، نحتمل أن المسوّغ الفنيّ الصرف لأن «يذكر» نوح (ع) و (يبهم) صالح (ع)، ثم (يجمل) الحديث عن المجتمعات اللاحقة (ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا، كُلَّ مٰا جٰاءَ أُمَّةً رَسُولُهٰا... الخ) أن نوح (ع) بصفته أوّل الأنبياء الذين أبيد مجتمعه من خلال الطوفان، حينئذ فإن (التعريف) به بطلا يحمل مسوغاته الفنية، ولذلك فإن النص حينما عرض للمجتمعات الأخرى، جعلها (مجملة) (ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا...) مكتفيا بمجتمع نوح (ع)، ما دام الهدف من العرض القصصي هو:
توظيفه لدلالة فكرية خاصة. وقد سبق أن قلنا إن سورة (المؤمنون) تشتمل على جملة محاور، أبرزها: المحور الذي يتحدث عن (اليوم الآخر)، حيث تمحض القسم الأخير من السورة لهذا الجانب (وهو القسم الخامس)، وحيث كانت الإشارة إلى اليوم الآخر هي المحور الذي ربط فيه النص بين إبداع الإنسان وبين موته وانبعاثه (في القسم الثاني من السورة)، وحيث أن (القسم الرابع) يركّز على هذا الجانب (من خلال عرضه للمجتمع الذي عاصر رسالة الإسلام)، لذلك نجد أن قصة صالح (ع) (تستقل) - دون غيرها من القصص - بالحديث عن اليوم الآخر، مما يفسّر لنا سبب كونها قد (ذكرت) في هذا العرض القصصي الذي (أجمل) الحديث عن المجتمعات البائدة الأخرى، وبهذا تكون القصة المشار إليها، مضطلعة بمهمة (عضوية) هي: الوصل أو الربط الفني بين أقسام السورة عبر محورها الذي أشرنا إليه (أي: اليوم
ص: 222
الآخر)... ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح حينما نقرأ القصة كاملة:
وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ - إِذاً - لَخٰاسِرُونَ أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذٰا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهٰاتَ هَيْهٰاتَ لِمٰا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إن من يخبر الفن القصصي يدرك بسهولة أن هذا العرض القصصي قد ركز - بلغة فنية مدهشة - على مفهوم (اليوم الآخر)، وذلك لجملة أسباب، منها:
- لقد عرّف النص هؤلاء القوم (قبل أن ينقل محاورتهم لصالح) بهذا التعليق:
(وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ ) ... فالمعروف - في اللغة القصصية - ان رسم بعض السمات للبطل قبل تقديم محاورته، يعني: عملية كشف لملامحه التي ترتبط بمحاورته، أي: العلاقة بين شخصيته وبين ما يقوله... ولذلك نجد هنا، أن النص قد كشف - قبل أن يقدّم محاورة القوم مع صالح - طبيعة هؤلاء القوم، متمثلة في تنكرهم لليوم الآخر.
- إن انفراد هذه القصة بنقل المحاورة التي استغرقت الحديث عن اليوم الآخر - دون أن نلحظ ذلك في قصة نوح (ع)، والقصص المجملة (ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا...) ، وقصة فرعون، وموسى وعيسى - يكشف عن مدى التركيز فيها على مفهوم (اليوم الآخر)...
- إن لغة المحاورة ذاتها تكشف عن مدى التركيز المشار إليه، وهذا من نحو قولهم (هَيْهٰاتَ ، هَيْهٰاتَ لِمٰا تُوعَدُونَ ) ... أن (هيهات) ذاتها تشكل أداة (نفي) شديدة اللهجة، فإذا «تكررت» مرتين بهذا النحو من الصياغة، حينئذ نكتشف مدى التركيز على هذا الجانب.
إذن، نستخلص مما تقدم، أن العنصر القصصي (في القسم الثالث من السورة) قد اضطلع بجملة من المهمات الفنية، وفي مقدمتها: الربط العضوي بينه وبين الأقسام السابقة له واللاحقة به، وهي: القسم الخامس من السورة
ص: 223
فيما يختم به النص و يمحض للحديث عن اليوم الآخر، مضافا إلى القسم الذي نواجهه الآن (فيما يظل الحديث عن التنكر لليوم الآخر أحد محاوره) وهو:
هذا القسم من سورة (المؤمنون) وما بعده، يشكّل عصب السورة الفكري، لأنّ الأقسام السابقة إنما «وظّفت» من أجل الإنارة لهذا القسم...
أنه يتحدّث عن مجتمع محمد (ص)، عن موقفهم من رسالة الإسلام... و إذا كنا قد رأينا أن السورة الكريمة قد استهلت في قسمها الأول، الحديث عن المؤمنين، وفي قسمها الثاني تحدثت عن ظواهر الإبداع الكوني، وفي قسمها الثالث قد تحدثت عن المجتمعات البائدة وما لحقها من الجزاء الدنيوي...
حينئذ نتوقع - من زاوية البناء الهندسي للسورة - بأن القسم الرابع سوف تطرح فيه الموضوعات التي طرحت في الأقسام الثلاثة... وبالفعل نجد انعكاسات الأقسام الثلاثة السابقة على هذا القسم الرابع من الوضوح بمكان... فبالنسبة لسمات المؤمنين التي استهل بها القسم الأول من السورة، نجد انعكاساته هنا، متمثلا في صياغة جديدة وطرح جديد للموضوعات، إلا أنه طرح تمت صياغته بنفس الأسلوب الذي تضمّنه القسم الأول.
يقول النص: إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاٰ يُشْرِكُونَ * وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مٰا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلىٰ رَبِّهِمْ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ هُمْ لَهٰا سٰابِقُونَ .
لنلاحظ هنا، أن هذه السمات قد صيغت بنفس الأسلوب الذي صيغت بها سمات المؤمنين في مستهل السورة: لفظيا وإيقاعيا وبنائيا، أنها تتحدث بصيغة (اَلَّذِينَ ) ، وتكرّرها في جميع الآيات، أي أنها بنائيا تخضع لنسق مشترك على هذا النحو.
ص: 224
اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ ..
وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ...
وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ ...
إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ ...
اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِ ...
وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ ... الخ أما إيقاعيا، فإن «القرارات» التي تنتهي بها الآيات في الموقعين تخضع لروي واحد هو «النون»
وندع هذا الجانب من الصلة بين القسمين الأول والرابع من حيث سمات المؤمنين، لنواجه الترابط العضوي أو الصلة بين القسم الثاني والرابع، حيث أن ما طرحه النص هناك من الإشارة إلى إبداع اللّه تعالى للظواهر الكونية:
بشريا وطبيعيا، طرحه هنا على نحو التقرير والتساؤل والإنكار حيال هؤلاء الذين يشككون ويكذّبون برسالة الإسلام، وهذا من نحو:
هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ ...
وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ ...
وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ . أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ !! ومن نحو:
قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهٰا ...؟ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ ...
قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ ....؟ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ ...
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ ....؟ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ ... إلخ
ص: 225
إن القاريء ليتحسّس مدى الجمالية الفائقة في هذه الصياغة المرتبطة بعمارة النص، فالتجانس أو التناسق الهندسي المتمثل في تكرر عبارة (وَ هُوَ اَلَّذِي) ، و عبارة (قُلْ ) ، وعبارة (سَيَقُولُونَ ) يكشف عن مدى الفخامة والجمالية اللتين تطبعان هذا البناء الفني للنص، فضلا عن البناء العضوي الذي يتجسّد فى (تنامي) الموضوعات التي طرحت في القسم الثاني على نحو التقرير (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ ... ثم خلقناه... فأنشأنا لكم الخ) ثم (تنامت) فى القسم الرابع على نحو من التساؤل والتعجب والانكار الخ: لبداهة أن النص هنا (في الموقع الذي نتحدث عنه) إنما يحدثنا عن جماعات تمارس سلوكا منحرفا حيال الإسلام - بينما كان في القسم الثاني يحدثنا عن الظواهر الإبداعية فحسب، مما استدعى أن يكون الأسلوب «إخباريا» هناك، و «تساؤليا» هنا.
وندع القسم الثاني لنتجه إلى القسم الثالث من السورة قصص الماضين، ومواقفهم، والجزاءات التي لحقتهم، لنجده منعكسا هنا (في القسم الرابع من السورة)... لقد سبق أن لحظنا أنّ الماضين قد اتهموا رسلهم بالجنّة وغيرها، وها هو النص يتساءل عن المعاصرين لرسالة الإسلام (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ؟).
وسبق أن لحظنا أن الماضين الذين وسمهم بالترف، قد طالهم الجزاء... وها هو النص يعرض لشخوص المعاصرين من خلال سمة الترف أيضا ومن خلال تعرّضهم للجزاء أيضا: (حَتّٰى إِذٰا أَخَذْنٰا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذٰابِ ...) أخيرا، بما أن الحديث عن (اليوم الآخر) وتنكر الماضين لهذا اليوم، قد شكّل أهم محاور السورة الكريمة - كما سبق أن ذكرنا ذلك - فإن القسم الأخير
ص: 226
من السورة قد تمحض للحديث عن اليوم الآخر، وما يترتب عليه من الجزاء، عارضا ذلك على هذا النحو:
حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ ......... أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ هنا، يحسن بنا أن نعرض سريعا للصياغة الفنية التي تمّ من خلالها عرض هذا الجانب، وصلة ذلك بعمارة النص... ولعل أوّل ما ينبغي ملاحظته هنا، أن عرض الموقف في اليوم الآخر قد تمّ من خلال عنصر «المحاورة»، بخاصة: المحاورة الخارجية، متمثلة في المحاورة بين اللّه تعالى وبين المنحرفين، وهذا من نحو:
قٰالَ : رَبِّ اِرْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً...
أَ لَمْ تَكُنْ آيٰاتِي تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ ...؟ قٰالَ : اِخْسَؤُا... إِنَّهُ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبٰادِي يَقُولُونَ : رَبَّنٰا آمَنّٰا فَاغْفِرْ لَنٰا...
قٰالَ : كَمْ لَبِثْتُمْ ...
قٰالُوا: لَبِثْنٰا يَوْماً...
قٰالَ : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً.....
إن أهمية هذه المحاولات تتمثل في كونها تتناسب فنيا مع طبيعة التركيز على (اليوم الآخر) وتنكر المنحرفين لليوم المذكور... حيث أن النص سبق أن عرض لنا محاورات المنحرفين مع رسلهم، وهي محاورات جهد المنحرفون في التلاعب بها، والإفراط في لغة تنكرهم لليوم الاخر، وفي سخريتهم منه (مثل: أيعدكم أنكم إذا متم... هيهات هيهات... إن هي إلا حياتنا الدنيا... الخ)، حينئذ فإن أمثلة هذه (المحاورات) (دنيويا) واقترانها بالتنكّر الحادّ، وبالسخرية... لا بد أن يترتّب عليه أسلوب مماثل (أخرويا)
ص: 227
بحيث يتناسب و إياه... و لذلك جاء الحديث عن اليوم الآخر يعتمد عنصر المحاورة تجانسا مع محاورات المنحرفين دنيويا، كما جاء مقترنا بالتفصيلات المتناسبة مع التفصيلات التي صدروا عنها دنيويا في محاوراتهم.
ص: 228
ص: 229
ص: 230
تحوم هذه السورة على جملة من الموضوعات، إلاّ أنّ العصب الفكري الذي ينتظمها يحوم على ظاهرة الجنس وما يواكبها من الممارسات المرتبطة بذلك.
وقد بدأت السورة بهذا البعد الفكري، وختمت به أيضا، فيما تخلّل ذلك طرح لمسائل الإيمان وما يقابله من الكفر والنّفاق والمعصية... كل أولئك في ضوء فكرة عامة هي (النور) أو الخير أو المعطيات التي تفرزها السماء لهذا الكون... حيث تتواشج جميع هذه الموضوعات فيما بينها وفق عمارة جميلة محكمة بالغة الإثارة والدهشة...
ولنقف عند بدايتها أولا...
تبدأ السورة الكريمة على هذا النحو:
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ . سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا، وَ فَرَضْنٰاهٰا، وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
ومن هذه الآية التي استهلّت السورة بها، يمكننا أن نتبيّن سلفا: أهمية الموضوعات المطروحة فيها... فمجرّد كونها قد حدّدت ذلك بأنها (سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا) ، أي: أن تأكيد الآية التي استهلّت بها السورة بأنّها في صدد (سورة) خاصة أ نزلت: كاف في تحسّسنا بأهمية ما فيها. فبالرغم من أنّ أية سورة سواء أكان نزولها دفعة واحدة أم نجوما وسواء أكانت مكية أم مدنية أم كلتيهما إنما يتمّ ترتيب آياتها وفق مبنى هندسي خاص، إلاّ أن السورة عندما يصرّح بأنّ نزولها يتحدّد في هدف خاص كما هو شأن هذه السورة التي أكّد النص بأنها (سورة) وبأن فيها (آيات بينات) وإلى أنها (مفروضة) (أَنْزَلْنٰاهٰا، وَ فَرَضْنٰاهٰا، وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ ) : إنما يعني ضخامة ما تحمله من الدلالات الفكرية.
ص: 231
ومن هذه الآية التي استهلّت السورة بها، يمكننا أن نتبيّن سلفا: أهمية الموضوعات المطروحة فيها... فمجرّد كونها قد حدّدت ذلك بأنها (سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا) ، أي: أن تأكيد الآية التي استهلّت بها السورة بأنّها في صدد (سورة) خاصة أ نزلت: كاف في تحسّسنا بأهمية ما فيها. فبالرغم من أنّ أية سورة سواء أكان نزولها دفعة واحدة أم نجوما وسواء أكانت مكية أم مدنية أم كلتيهما إنما يتمّ ترتيب آياتها وفق مبنى هندسي خاص، إلاّ أن السورة عندما يصرّح بأنّ نزولها يتحدّد في هدف خاص كما هو شأن هذه السورة التي أكّد النص بأنها (سورة) وبأن فيها (آيات بينات) وإلى أنها (مفروضة) (أَنْزَلْنٰاهٰا، وَ فَرَضْنٰاهٰا، وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ ) : إنما يعني ضخامة ما تحمله من الدلالات الفكرية.
من هنا، فإنّ أيّ موضوع تستهل به أو أن أي موضوع يعقب هذا الاستهلال لا بدّ أن تكتسب تلكم الأهمية والخطورة فيها...
والآن ما هو الموضوع الذي أعقب هذا الاستهلال ؟ تقول السورة: اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ...
إذا، نواجه الآن موضوعا في غاية الخطورة هو: الممارسة الجنسية غير المشروعة، ثم الجزاء الدنيوي المترتب على ذلك، ثم إبراز ذلك أمام طائفة من المشاهدين...
إن الجنس بصفته أشد الدوافع البشرية إلحاحا، وبصفته مقترنا بدوافع أخرى مثل: الإثارة الجمالية والعاطفية، وبصفته - من ثم - أشدّ المنبهات ترشيحا للوقوع في المفارقات المنهيّ عنها... حينئذ نتوقّع أن يجيء الاهتمام بمفارقاته متناسبا مع حجم المفارقة ذاتها... لذلك جاءت المطالبة بإقامة الحدّ (وهو مائة جلدة): جزاء سريعا للمفارقة المذكورة.
ليس هذا فحسب، بل طالب النص بألاّ تقترن عملية الحدّ بأية رأفة أو رحمة (وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) .
إنّ مثل هذا التشدّد قل أن نجده في الجزاءات الدنيوية التي رسمها المشرع الإسلامي، مما يفصح عن خطورة المفارقة أو الانحراف الذي تنطوى عليه:
الممارسة الجنسية غير المشروعة، بحيث يطالب بعدم الرأفة بهما (مع أن الرأفة تظل موضع مطالبة في جزاءات جماعية أو فردية مختلفة) إلّا أنّ خطورة هذه الممارسة جعلت قضية (الرأفة) أمرا ليس فى صالح البشرية في هذا الحقل.
ص: 232
وقد أكّد النص هذا الجانب حينما هدّد مقيمى الحد بقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) حيث ربط الإيمان باللّه واليوم الآخر، بعدم الرأفة بهما.
أكثر من ذلك، نجد أنّ النص يطالب مقيمي الحد بما يلي:
(وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ) ...
إنّ التوصيات الإسلامية تطالب بالتستّر على الذنب (بما في ذلك:
الممارسة الجنسية غير المشروعة)، إلا أنّه في حالة معرفة ذلك من خلال الإقرار التلقائي أو الشهود نجد أنّ الأمر يأخذ - في التوصيات الإسلامية - منحى آخر هو: فضح الشخصية بدلا من التستّر عليها إلى الدرجة التي يطالب بأن يسمع الناس عملية إقامة الحدّ دون أن يقتصر ذلك على مقيمي الحدّ فحسب.
سرّ ذلك، لا بدّ أن يتمثل في جملة ما يتمثل به - في ردع المنحرف عن ممارسة جديدة غير مشروعة، وتخويف الآخرين من التفكير في مثل ذلك، ما دامت الممارسة غير المشروعة تستتبع مفاسد اجتماعية وفردية لا حدود لتصوّراتها: من نحو التراخي في النسل، وتشويه الرابطة النسبية، وإماتة الحسّ الإنساني، وإثارة الخصومات، وإشاعة الأمراض... الخ.
ص: 233
قال تعالى: اَلزّٰانِي لاٰ يَنْكِحُ إِلاّٰ زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّٰانِيَةُ لاٰ يَنْكِحُهٰا إِلاّٰ زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلاّٰ أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّٰادِقِينَ * وَ اَلْخٰامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ * وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذٰابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكٰاذِبِينَ * وَ اَلْخٰامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّٰهِ عَلَيْهٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ * وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ حَكِيمٌ .
هذا المقطع من سورة النور امتداد لمقطع سابق يتحدّث عن العمل الجنسي غير المشروع وقد بدأ المقطع المذكور بالحديث عن الحدّ الشرعي أو عن الجزاء المترتّب على هذا العمل تحسيسا بخطورته ثم بدأ يتحدّث عن حظر العلاقة بين ممارسي العمل الجنسي وبين المؤمنين تحسيسا أيضا بخطورة العمل المذكور.
بعد ذلك اتّجه النّص إلى طرح آخر هو: التهمة الجنسية وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ إلخ.
من الزاوية الفنية ينبغي أن نقف عند هذا النّمط من الطّرح أي: المطالبة بجلد المنحرفين جنسيا ثم المطالبة بجلد الذين لا يتورّعون عن إلقاء التهمة المؤدّية إلى إقامة الحدّ على المنحرفين أي نحن الآن أمام نمطين من الممارسات يبدوان وكأنّهما متضادّان من حيث فضح المنحرفين فمن جانب
ص: 234
نجد أنّ النص القرآني الكريم يشدّد في معاقبة المنحرفين إلى الدّرجة التي يطالب من خلالها (ليس بإقامة الحدّ عليهم) بل بأن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين... لكن من جانب آخر نجد أنّ المقطع القرآني يتحفّظ في إقامة هذا الحد إلى الدّرجة التي يطالب من خلالها بجلد من يتسرّع في إلقاء التهمة المتصلة بهذا الجانب حيث يطالب بجلده أقلّ من الحدّ وهو ثمانين جلدة.
ترى ما هو السرّ النفسي وراء ذلك.
إن المتلقي بمقدوره أن يستنتج بأنّ ممارسة العمل الجنسي غير المشروع يعدّ عملا في قمة المفارقة بحيث يترتب عليه إقامة الحدّ وفضح المنحرف أمام الناس لكن في الآن ذاته ينبغي التحفّظ في إقامة الحدّ بحيث تبرز عملية (الستر) - وهي مضادّة لعملية الفضح - واضحة الحرص في تصوّر المشرّع.. إنّ النصوص المفسّرة تشير إلى أنّ المنحرف بمقدوره أن يتوب إلى اللّه في حالة تستّره وعدم إطلاع أحد عليه بل إنّ المشرّع يندّد بمن يحاول فضح نفسه، مما يفصح هذا عن أنّ المشرّع حريص كل الحرص على سمعة الشخصية. لذلك في حالة التهمة، أو في حالة اطلاع أحد عليه يندّد المشرّع أيضا بعملية الفضح تجسيدا للحرص المذكور فالتهمة الجنسية فضلا عن أنّها تفصح عن نزعة عدوانية لدى صاحبها تسبّب في حالة فضح شخص لا ذنب له وحتى في حالة تعزيز التهمة بشهود عيان مثلا فإنّ المشرّع حدّد ذلك بأربعة شهداء تجسيدا للحرص على سمعة الشخصية. ولعلّ السرّ الكامن وراء التحديد المذكور هو إمكانية خطأ التشخيص أو التواطؤ أو اقتران العمل بنمط من السريّة. والمهم هو: الحرص على سمعة الشخصية وفسح المجال للتوبة بنحو سريّ يتمّ بين العبد واللّه تعالى...
لكن، نظرا لأن إلقاء التهمة تقترن غالبا بوجود نزعة عدوانية لدى الشخص أو نزعة انحرافية تميل إلى إشاعة الفحشاء بين الناس حينئذ فإن ترتيب
ص: 235
الجزاء على مثل هذا السلوك: يأخذ مستوياته النفسية و هو ما حدثنا المقطع القرآني به حينما طالب بجلد الشخص ثمانين جلدة جزاء للتهمة التي دمغ بها الآخرين.
وبما أنّ التهمة تقترن كما أشرنا بنزعة عدوانية أو انحرافية تتسبّب غالبا عن وجود (منبّه أو مثير خاص) هو توتّر علاقة أو خصومة أو حسد بين طرفين حينئذ تقتاد الشخص إلى التسرّع في إلقاء التهمة عبر لحظة انفعالية يحياها ومنها. اللحظات الانفعالية التي تتسبب عن توتر بين الزوجين مثلا...
من هنا نجد أن المقطع القرآني الكريم: انتقل من الحديث عن مطلق التهمة إلى التهمة التي يوجهها الأشخاص إلى الأزواج، فرسم لها جزاء دنيويا أيضا: لكن من خلال عدم وجود شهداء على ذلك بصفة أن التهمة الزوجية تقترن غالبا باطّلاع شخص واحد هو الزوج مثلا مما يتعذّر معه تقديم الشّهداء لذلك طالب المشرّع بأن يشهد الزوج باللّه أربع مرات بأنّه صادق في قوله وأن يشهد بلعنة اللّه عليه في المرة الخامسة إذا كان كاذبا، مقابل ذلك يمكن رفع الجزاء عن المرأة في حالة ما إذا مارست شهادة تضادّ ذلك: كما لو شهدت أربع شهادات باللّه بأن زوجها كاذب وأن تشهد خامسا بغضب اللّه عليها إن كان من الصادقين...
واضح - من الزاوية النفسية - أنّ اقتران التهمة صادقة كانت أم كاذبة بهذا العدد من الشهادات (القسم باللّه تعالى) ثم تتويجها بشهادة خاصة هي غضب اللّه على الرّجل إن كان كاذبا وغضب اللّه على المرأة إن كان صادقا ثم التفريق بينهما أبديا. كل أولئك بما يقترن به من تعدّد الشهادات وتتويجها بغضب اللّه وبالفرقة بينهما. يضع قضية إلقاء التّهمة من الصّعوبة بمكان مما يترتب على ذلك تدريب الشخصية على التأنّي ودراسة الموقف وعدم السماح للانفعالات
ص: 236
بالتحرّك وإشاعة المسالمة بدلا من الكراهية فضلا عن استمرارية الحياة الزوجية.
المهم، أنّ المقطع القرآني الكريم حينما ربط بين نمط الحدّ أو الجزاء وبين نمط الممارسة غير المشروعة بهذا النحو الذي لحظناه، فضلا عن استهلال السورة به: إنما كسب هذا الجانب خطورة ملحوظة، ومن ثمّ فقد رسم خطوط هذه الظاهرة وما يواكبها من ظواهر أخرى: وفق مبنى فنيّ خاص بدأه بهذا الجانب وأردفه بجوانب أخرى تتصل بهذا الخيط الفكري وبغيره من الموضوعات التي تتواشج فيما بينها على النحو الذي سنتحدث عنه لاحقا إن شاء اللّه.
وأمّا من الزاوية الفنية (أي: البناء الهندسي للسورة)، فإن هذا المقطع الذي تحدّث عن ظاهرة إلقاء التهمة من قبل الزوج لزوجته، إنما يشكّل مع المقطع السابق (وحدة فكرية) تتباين موضوعات كل منهما لكنها تصبّ في عصب واحد هو: الممارسات الجنسية غير المشروعة، وطرائق إثبات مفارقاتها وترتّب الجزاء عليها بالنحو الذي لحظناه. كما أن ذلك، يظلّ مرتبطا بموضوعات جديدة لاحقة لكنّها تصبّ في نفس المحور الفكري.
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ جٰاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاٰ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلّٰى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذٰابٌ عَظِيمٌ * لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قٰالُوا هٰذٰا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْ لاٰ جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ * وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ .
هذا المقطع يشكّل القسم الأوّل من حكاية أو أقصوصة فنيّة جاءت في
ص: 237
سياق الموضوع الذي ينتظم سورة النور و نعني به: موضوع العمل الجنسي غير المشروع و النّهم المتصلة به والجزاءات المترتبة عليها والشهود الذين يتطلبهم الموقف.
الملاحظ في هذه الأقصوصة أو الحكاية أنها صيغت (من الوجهة العمارية أو البناء الهندسي للنّص) لتتضمن قضية التهمة الجنسية واقتراحها بتوفّر شهود أربعة وإلاّ فيترتب على موجهي التهمة إثم كبير. هذه الدلالة تكفّل بتوضيحها القسم السابق من السورة حيث ختم ذلك القسم بقوله تعالى وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ حَكِيمٌ ... هذا الختام الذي أشار إلى فضل اللّه وإلى التوبة يظل مرتبطا بفكرة المقطع الذي طالب الشّخص الموجّه لتهمة دون شهود بالتوبة إلى اللّه تعالى. هنا يتكرر - في هذه الأقصوصة نفس التلويح حيث يختم المقطع بقوله تعالى وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ .. وهذا التكرار مضافا إلى طرح آخر له دلالته العمارية والفكرية. أمّا دلالته العمارية والبنائية فتتمثّل في الرّبط بين موضوعات السورة بحيث يختم مقطع سابق بفقرة تختم بها مقاطع لاحقة أيضا، ليتمّ بذلك الإحكام الهندسي للسورة.
وأمّا الدّلالة الفكرية لهذا التكرار فتتمثل في تذكير المتلقّي بأنّ اللّه تعالى لا حدود لرحمته ومغفرته وإلى أنّه لولا ذلك لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ هذا التذكير بفضل اللّه ورحمته، جاء تعقيبا على ظاهرة إلقاء التهمة الجنسية على الآخرين حيث جاء رسمها في مقطع سابق وحيث يكرّر برسمها في هذه الأقصوصة في سياق آخر. السياق هنا هو: أنّ أشخاصا وجّهوا تهمة جنسية للبعض... لا بدّ لهذا البعض أن يتأذى بهذه التهمة الموجّهة إليه...
المقطع يقول لهذا البعض لا تحسبوا أنّ هذه التهمة شر بل هو خير لكم لأنّ موجّهي النّهم أو القاذفين يتحمّلون مسؤولية سلوكهم بخاصة: الشخص الذى
ص: 238
تحمّل القسط الأكبر من نشر التهمة المذكورة و المفروض - يقول المقطع - أن يأتي هؤلاء الموجّهون للتّهمة بأربعة شهداء على ذلك.
ثم يعقّب المقطع (وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ ...
إذا، أمكننا أن نستخلص من هذا القسم من الأقصوصة هدفها الفكري المتمثّل في: أنّ من توجّه إليه التّهمة عليه ألاّ يحسبها شرا.
وفي هذه التوصية تخفيف للشدة النفسية المترتبة على التهمة. الهدف الآخر يتمثّل في توصية ذات خطورة أيضا هي: أنّ من يستمع إلى التهمة، من المفروض أن يتريث في تصديقها وذلك بأن يغلّب حسن الظّنّ في أعماقه، بأن يظنّ الخير بدلا من تصديق ذلك. وفي هذه التوصية تدريب على اكتساب السلوك السوي، تدريب على إنماء نزعة المسالمة بدلا من نزعة العدوان...
إذا، هناك أكثر من هدف فكري جاء في سياق الأقصوصة التي طرحت موضوع التهمة الجنسية والتكليف الشرعي لها من حيث توفّر شهداء أربعة على ذلك وإلا فإنّ إلقاء التهمة يظلّ أمرا في قمّة المفارقة.
هذه الأهداف الفكرية، يؤكدها النص من جديد (نظرا لأهميتها في التدريب على اكتساب السلوك السوي) في القسم الأخير من الأقصوصة حينما يقول إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِكُمْ مٰا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللّٰهِ عَظِيمٌ * وَ لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهٰذٰا سُبْحٰانَكَ هٰذٰا بُهْتٰانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اَللّٰهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ * وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ .. واضح أن هذا القسم من الأقصوصة تأكيد على ما طرحه مجملا في القسم الأول منها وهو: التسرّع
ص: 239
في إلقاء التهمة على الآخرين و تصديقها و إشاعتها على الألسن حيث يحسبون ذلك (هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللّٰهِ عَظِيمٌ ) والمفروض أن يتحفّظ الشخص في إلقاء التهمة على الآخرين أو تصديقها أو إشاعتها بين الناس و ألاّ بحسب ذلك أمرا بسيطا، إنّه لأمر عظيم عند اللّه، والمفروض أن يقول الأشخاص الذين تصل إلى اسماعهم التهمة (مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهٰذٰا) ... لأنّ مثل هذا التكلّم يعدّ نوعا من إشاعة الفاحشة التي يحرص المشرّع الإسلامي على سترها إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ ...
وهكذا نجد أنّ هذا القسم من الأقصوصة يحرص على إبراز فكرة أخلاقية هي التحفّظ في توجيه الأذى إلى الاخرين من خلال اتهامهم بممارسة العمل الجنسي غير المشروع بل مطلق الاتهامات الرامية إلى تشويه شمعة الشخصية الملتزمة.
وهكذا نجد أيضا كيف أنّ البناء الهندسي لهذه الأقصوصة مرتبط بالمقاطع السابقة في السّورة حيث كانت تصبّ فى رافد فكريّ هو: إلقاء التهمة حيال الآخرين وما يترتّب عليه من الجزاءات الدنيوية والأخروية مضافا إلى فكرة عامّة تربط بين جميع مقاطع السورة وهي فقرة وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ... حيث يختم أكثر من مقطع بهذه الفقرة وحيث تتكرّر في أكثر من موقع لتربط بين أقسام السورة من جانب فنيّ ولتوضّح لنا من جانب آخر (أن فضل الله و رحمته) تسبق كل شيء حيث يستخلص المتلقي من هذه الفقرة ليس أن فضل اللّه وسعته لا حدود لهما فحسب بل يستخلص بطريقة فنية غير مباشرة أن الشخصية الإسلامية ينبغي أن يغلبها طابع الرحمة، طابع الفضل، طابع السّر، طابع المسالمة، بدلا من طابع العدوان وفي مقدمته: إلقاء التهمة وتشويه سمعة الآخرين وإشاعة الفحشاء.
ص: 240
إذا، للمرّة الجديدة ينبغي ألاّ نغفل عن إحكام هذا الهيكل الفنيّ الذى صاغه النّصّ وفق خطوط متلاحمة تتناول بعض الأحكام الشرعية المتصلة بالحدود أو الجزاءات الدنيوية تتناولها من خلال لغة الفنّ على نحو ما تقدّم الحديث عنه.
***
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مٰا زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يُزَكِّي مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَ لاٰ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينَ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لاٰ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
هذا المقطع يحوم على الموضوع الرئيس في سورة النور، ونعني به موضوع (الجنس) وما يرتبط به من مختلف ظواهر السلوك... إلا أنّه يتضمن طرحا لموضوعات أخرى يصوغها المقطع وفق بناء فنيّ خاص ما إن يخرج من دائرة الجنس حتى يعود ثانية إليه...
الطرح الأوّل هو: المطالبة بعدم اتّباع خطوات الشيطان الآمر بالفحشاء والمنكر... وهذه المطالبة ذات صلة بما تقدّمها من المطالبة بعدم إلقاء التهم الجنسية على الآخرين، وكأن المقطع يريد أن يقول: إن إيذاء الآخرين من خلال التهمة الجنسية إن هي إلاّ خطوات شيطانية تأمر بالفحشاء والمنكر، علما بأن النصّ القرآني الكريم سبق له أن قرّر في مقطع متقدّم بأنّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، حيث تمّ الرّبط الفنيّ بين هذا التقرير وبين المطالبة بعدم اتّباع خطوات الشيطان...
الطرح الثاني في هذا المقطع هو: لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مٰا زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن هذا الطرح يتكرّر للمرة الرابعة، ونعني به (لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) فقد ذكره أولا في سياق النهي عن الذين يرمون أزواجهم بالسوء و ذكره ثانيا في سياق الذين يرمون مطلق الأشخاص بالسوء وذكره ثالثا في سياق الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة وذكره رابعا في هذا المقطع في سياق الذين يتّبعون خطوات الشيطان أي أنّ السورة الكريمة تدرّجت بهذا التكرار من الخاصّ والجزئي إلى العامّ والكلي، تدرّجت من موضوع يتصل بعلاقة زوجية إلى علاقة عامة، من موضوع جنسي إلى مطلق الموضوعات وهو أمر له أهميته الفنية في عمارة السورة كما هو واضح.
ص: 241
الطرح الثاني في هذا المقطع هو: لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مٰا زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن هذا الطرح يتكرّر للمرة الرابعة، ونعني به (لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) فقد ذكره أولا في سياق النهي عن الذين يرمون أزواجهم بالسوء و ذكره ثانيا في سياق الذين يرمون مطلق الأشخاص بالسوء وذكره ثالثا في سياق الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة وذكره رابعا في هذا المقطع في سياق الذين يتّبعون خطوات الشيطان أي أنّ السورة الكريمة تدرّجت بهذا التكرار من الخاصّ والجزئي إلى العامّ والكلي، تدرّجت من موضوع يتصل بعلاقة زوجية إلى علاقة عامة، من موضوع جنسي إلى مطلق الموضوعات وهو أمر له أهميته الفنية في عمارة السورة كما هو واضح.
الطرح الثالث في المقطع هو: المطالبة بأن لا يترك الأشخاص ظاهرة الإنفاق في سبيل الله بالنسبة لأولي القربى والمساكين والمهاجرين، وأن يعفوا ويصفحوا...
هذه الظاهرة قد تبدو غريبة وطارئة على موضوع السورة - أي: الموضوع الجنسي - لكنّنا بأدنى تأمّل نجد أنّ هذا النمط من الطرح للموضوعات يشكّل صياغة فنية تشابه الرّافد أو النهر الكبير الذي تتفرّع جداول صغيرة منه لتعود وتصبّ من جديد في ذلك النهر أو الرافد.
إن المطالبة بالإنفاق بخاصة لذوي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل اللّه تظلّ مطالبة عامة، لكنها وردت في هذا المقطع في سياق خاصّ يرتبط ببعض الأشخاص الذين تخلوا عن الإنفاق على الآخرين بسبب أنّ الآخرين خاضوا في أحاديث جنسية تتصل بإلقاء التهمة التي تشكل أبرز موضوعات السورة.
لكن، هذا الموضوع الخاص والجزئي قد انتقل النص منه إلى موضوع عامّ وكلّي ليقول لنا: ان وقوع بعض الأشخاص المستحقين للمال، في ممارسة بعض الذنوب الّتى ينبغي ألّا يحجز المنفقين من استمرار عملهم، حيث يجب عليهم أن يعفوا عن المذنبين وأن يصفحوا عنهم ما دام المنفق نفسه يحب
ص: 242
أن يعفو الله عنه و يغفر له.
إذا، جاءت صياغة هذه الظاهرة التي تبدو و كأنّها طارئة على موضوع السورة الرئيس جاءت مصاغة وفق طرح فني يربط بين الخاص والعام وهو سمة الفن العظيم كما قلنا...
مضافا لذلك، فإن طرح موضوعات جديدة في سياق خاص ينطوي على دلالة فنية أخرى هي: أن هذا الطّرح له أهميته في السلوك... فالإنفاق في سبيل اللّه يعدّ من أهمّ متطلّبات السلوك العبادي يستوي في ذلك أن يكون الانفاق في ساحة المعارك أو في نطاق فردي أو اجتماعي... كما أن العفو والصفح يشكّل بدوره واحدا من أهم أنماط السلوك العبادي، بخاصة إذا كان ذلك مرتبطا بقضايا ذاتية من الممكن أن تحجز الشخص من العفو، وهذا من نحو من ينفق على الآخرين في سبيل اللّه لكن: إذا أساء هؤلاء الفقراء إليه أو إلى من يعنيه أمره يقطع المساعدة عنه، وحينئذ تصبح مثل هذه المساعدة غير خالصة للّه حيث تتدخل (الذات) ويمتزج ما هو موضوعي في سبيل الله بما هو ذاتي، وهو ما حذّر المقطع القرآني الكريم منه حينما طالب بعدم ترك الانفاق على الفقراء، وطالب بالعفو والصفح عن الفقراء الذين يلمّون بالذنب مثلا...
وأيا كان، أن المقطع القرآني الكريم ما إن ينتهى من طرح هذا الجانب المتصل بالإنفاق والعفو حتى يعود ثانية إلى الحديث عن الموضوع الرئيس في سورة النور ونعني به (الموضوع الجنسي) حيث يواشج بين مختلف الموضوعات بعضا مع الآخر على نحو ما نتحدث عنه لاحقا إن شاء اللّه.
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْغٰافِلاٰتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّٰهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ * اَلْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ أُولٰئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّٰا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ .
ص: 243
قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْغٰافِلاٰتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّٰهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ * اَلْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ أُولٰئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّٰا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ .
هذا المقطع امتداد لسورة النور التي استهلّت بالحديث عن الظواهر الجنسية وما يواكبها من الممارسات غير المشروعة ومنها: إلقاء التهمة الجنسية على العنصر النسوى.
إن النصّ القرآني الكريم بعد أن تحدّث عن التهمة الجنسية وطالب بألا يتسرّع المؤمنون في إلقاء مثل هذه التهمة وفسح المجال لأن يتوب أمثلة هؤلاء الأشخاص، ختم حديثه باللعنة والعذاب العظيم لمن يصر على تشويه سمعة الآخرين مبيّنا أن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الإثم المتصل باتّهام النسوة المؤمنات...
واضح، أن هذه الصورة الفنية ونعني بها قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ تظل أولا (من حيث البناء الهندسي للسورة) متصلة بما سبق أن تحدّث عنه النص مفصّلا عن إشكال النشاط السيئ الذي يمارسه المرجفون بالتهمة الجنسية، وتظلّ ثانيا (أي الصورة الفنية المشار إليها) إفصاحا عن مستويات هذا النشاط وانعكاساته على الجزاء الأخروي الذى ينتظرهم.
والسؤال، ما هي الدلالة الفنية لشهادة الألسن والأيدي والأرجل ؟ إن هذه الشهادات قد تكون (رمزا) أو (حقيقة) لطبيعة ما يقوم به اللسان (وهو يتحمل القسط الأوفر من النشاط الرديء) والأيدي بما تقوم به من حركات تدعم التهمة، والأرجل بما تسعى من خلاله إلى التنقل بغية توصيل التهمة...
كلّ أولئك سوف تنعكس تعبيرا حيّا يشهد بالسوء الذي صدر عن صاحبه. بيد أنّ الأهمّ من ذلك - و نحن نتحدّث عن الهيكل العضوي للسورة - إن شهادة الألسن والأيدي والأرجل تظلّ - في تصوّرنا الفنيّ - مرتبطة بشهادة الزور أو
ص: 244
الشهادة الباطلة التي يدلي بها هؤلاء المرجفون بتهمة الآخرين، فكما ان هؤلاء الأشخاص يقدّمون (من خلال سلوكهم القائم على إلقاء التهمة) «شهادة» باطلة في حياتهم الدنيا، كذلك فإن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، تقدم (شهادة) عليهم ببطلانهم.
إذا، ثمة تجانس فني ملحوظ بين الشهادة الباطلة في الدنيا لكل من الألسن والأيدي والأرجل وبين شهادة نفس هذه الألسن والأيدي والأرجل أخرويا ببطلان ما شهدته دنيويا...
والآن، خارجا عن هذا المبنى الهندسي الجميل للصورة الفنية المشار إليها... يتابع المقطع طرح بعض الأفكار المتصلة بنفس الموضوع، ومنها:
قوله اَلْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ . الآية الكريمة تربط بين الطيبين والطيبات والخبيثين والخبيثات حيث تؤكد مرة أن الخبيثات للخبيثين ثم تعكس ذلك وتؤكد أنّ الخبيثين للخبيثات... هذا التأكيد من خلال معاكسة كلّ منهما: يستهدف تعميق الدلالة لهذا الجانب، متمثلة في أن الطيب أو الخبيث من أحد الجنسين لا يصلح إلاّ لمثله، وهو أمر يتجانس (من حيث عمارة النص) مع مستهل السورة التي ربطت بين الانحراف الجنسي والزواج اَلزّٰانِي لاٰ يَنْكِحُ إِلاّٰ زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّٰانِيَةُ لاٰ يَنْكِحُهٰا إِلاّٰ زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...
والسؤال، لماذا جاء الربط بين مقدمة السورة وهذا المقطع في سياق الحديث عن القذف أو التهمة الجنسية ؟ أن بعض النصوص التفسيرية تشير إلى أن المقصود من عبارة (الخبيثات) و (الطيبات) هو: الكلمات الخبيثة أو الطيبة، أي: أن الكلمات الخبيثة وهي (التهمة) والكلمات الطيبة وهي عدم ذلك إنما تصدر عن الأنفس الخبيثة أو الطيبة، وهو أمر متجانس فنيا مع مضمون المقطع الذي يتحدث عن التهمة الجنسية... بيد أن المصادر
ص: 245
التفسيرية الأشد وثوقا تشير إلى أن المقصود من ذلك هو: التفسير الأول أي الربط بين الانحراف أو الاستقامة الجنسية وبين أصحابهما... وهو أمر يمكننا أن نتبيّنه فنيا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ المقاطع اللاحقة من السورة سوف تتحدث أيضا عن ظاهرة الزواج والمطالبة باختيار ما هو صالح من الجنسين، وحينئذ تكون هذه الآية التي تتحدث عن كون الخبيثين أو الطيبين لمثلهما من الخبيثات أو الطيّبات عنصرا فنيا رابطا بين مقدمة الموضوع وخاتمته التي تتحدث عن نفس الزواج الذي ينبغي أن يراعى من خلاله عنصر التوافق بين الجنسين طيبة أو خبثا... والمهم هو ملاحظة مدى الإحكام الهندسي بين جزئيات النص على النحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّٰى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىٰ أَهْلِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهٰا أَحَداً فَلاٰ تَدْخُلُوهٰا حَتّٰى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكىٰ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهٰا مَتٰاعٌ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا تَكْتُمُونَ .
هذا المقطع وما بعده، يرتبط عماريا مع موضوع السورة الذي استهلت به، ونعني بذلك (موضوع الجنس) وما يواكبه من السلوك المنهيّ عنه في مستوياته غير المشروعة.
لقد كان العمل الجنسي غير المشروع، ثم: اتهام الآخرين به دون يقين بذلك هو الموضوع الذي تحوم عليه مقاطع السورة الكريمة أما الآن فإن المقطع الحالي يتحدث عن ظاهرة الدخول إلى بيوت الآخرين، وهو موضوع قد يبدو طارئا على العصب الفكري للسورة، لأنّه - في الحقيقة - مرتبط بالعصب الفكري المشار إليه من حيث طرح الموضوعات الجنسية المنهيّ
ص: 246
عنها. فالدخول إلى البيوت بغير إذن أهلها قد يقترن بالوقوف على ما لا ينبغي جنسيا. الوقوف عليه، بمعنى أن المقطع هنا يطرح موضوعا جنسيا جديدا هو.
«النظر» إلى ما ستره اللّه على غير الزوجين بعد أن كانت المقاطع السابقة تتحدث عن ظاهرة الزوجين أيضا ولكن من خلال ظاهرة التهمة الجنسية...
طبيعيا، أنّ أهمية الفن العظيم تتمثل في كونه يطرح ضمنيا أكثر من دلالة ثانوية تتواكب مع الدلالة الرئيسة، فإذا كان الموضوع الجنسي هو الدلالة الرئيسة التي اقترن الحديث عنها بالدخول إلى البيوت، فإن الدلالة الثانوية التي واكبته تتمثّل في ظاهرة أخرى هي: عدم الدخول إلى البيوت مطلقا إلا بإذن أهلها، نظرا لما يترتب على الدخول غير المأذون به من إحراج لكل من صاحب الدار والداخل إليه أيضا.
ضمن ذلك، نلحظ دلالة ثانوية أخرى طرحها المقطع وهي ظاهرة السلام أو التحية... فالسلام مطلقا يظلّ موضع تشدّد بالغ في التوصيات الإسلامية من حيث كونه أداة نفسية بالغة الأهمية في التدريب على إشاعة الحبّ والمسالمة بين الأطراف. وقد استثمر المقطع هذه الظاهرة ليشيعها في قضية الاستئذان بالدّخول إلى البيوت: حيث يمكن أن يتمّ الاستئذان بوسائل مختلفة، إلا أن تخصيص ذلك وتأكيده بظاهرة (السلام) يكشف عن المهمة المزدوجة لهذه الظاهرة، حيث يتمّ من خلالها إشاعة المحبة من جانب وإعلام صاحب البيت من جانب آخر...
وأيا كان، فإنّ المقطع عقّب على هذه الظاهرة بقوله (هُوَ أَزْكىٰ لَكُمْ ) ... وهذا يعني أن قضية استئذان أصحاب البيوت قبل دخولها من خلال السلام عليهم لم يكن مجرّد آداب اجتماعية من نحو ما نلحظه من آداب أو أعراف أو تقاليد في هذا المجتمع أو ذاك، بل هي: عملية تدريب على تطهير النفس الذي يعد هدفا رئيسا في الممارسات العبادية، فالسلام نفسه عملية
ص: 247
تدريب على إشاعة الحب، و الاستئذان نفسه عملية (كفّ ) «و تأجيل» و «مقاومة» لمختلف نزعات النفس، ومنها: النزعة الفضولية أو الجنسية التي يحياها الشخص، أو قد يتعرّض لها حالة اطّلاعه على أسرار البيوت، سواء أكانت هذه الأسرار ذات طابع عادي أو طابع جنسي.
المهم، ما دام المقطع يتحدث أساسا عن الموضوع الجنسي، فإن إشارته إلى تزكية النفس تظلّ مرتبطة في المقام الأول بهذا الموضوع، و تظلّ مرتبطة ثانويا بموضوعات عامة أشرنا إليها... لذلك نجد أن النّص يعود جديدا إلى موضوع الجنس، فيطرح ظاهرة جنسية جديدة هي قضية (النظر) إلى ما لا يحل للأشخاص الوقوف عليه ما عدا الأزواج، ونعني بها القضية التالية:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ ...
فالنص هنا، يطرح قضية غض البصر عما لا يحلّ للشخص: النظر إليه... وهذه المطالبة جاءت في سياق المطالبة بعدم الوقوف على الأسرار البيتية للأشخاص، كما أن الإشارة إلى أن عدم دخول البيوت بغير الاستئذان هو (أزكى للنفس) قد تكررت جديدا في مطالبة النصّ بأن يغضّ المؤمنون من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، حيث عقّب النص على ذلك بقوله (ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ ) ...
إذا: أمكننا ملاحظة هذا التلاحم الفني بين موضوعات السورة المختلفة (الاستئذان) السلام، غض البصر، حفظ الفروج، حيث انتظمها عصب فكري عام هو (تزكيه النفس)، مضافا إلى العصب الفكري العام للسورة حيث حامت موضوعاتها على مفهوم (الجنس) في مختلف مستوياته التي وقفنا عليها، فضلا عما نقف عليه لاحقا إن شاء اللّه.
قال تعالى. وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
ص: 248
وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ أَوْ نِسٰائِهِنَّ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ أَوِ اَلتّٰابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجٰالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىٰ عَوْرٰاتِ اَلنِّسٰاءِ وَ لاٰ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
بهذا المقطع وما بعده يختم القسم الأؤل من سورة النور وهو القسم الخاصّ بالحديث عن (الدّافع الجنسي) بما يواكبه من ممارسات مختلفة وقفنا عليها..
المقطع يتحدّث عن ظاهرة (الحجاب) لدى المرأة وهو موضوع يظلّ في الصميم من سلوك المرأة من حيث كونها منبّها جنسيا يتعيّن عليها في غمرة وظيفتها العبادية أن تنظّم خطوطه وفق مفهوم (التزكية) التي حامت عليها (فكرة) هذا القسم من السورة..
لقد طالب المقطع: المرأة بألاّ تبدي زينتها إلاّ ما ظهر منها.. وحصر ذلك (أي إظهار الزينة) أمام بعلها، وأمام نماذج محدوده ممن يحرّم تزويجها منهم أو النساء من مثلها أو البله ونحوهم من القاصرين جنسيا فضلا عن الأطفال القاصرين أيضا.. كما طالب المقطع بتنظيم نمط الحجاب فأوصى بأن تضرب النسوة بالخمار على جيوبهن وألاّ يضربن بأرجلهنّ حتى لا يعلم ما يخفين من زينتهن.
من الزاوية النفسية يظلّ هذا النمط من تنظيم الحجاب تدريبا على (إطفاء) الإثارة الجنسية الشاذة بالنسبة لكل من المرأة والرجل، وتدريبا على (تعلّم) السلوك السوي.
فالزينة - وهي مرتبطة بالبناء التكويني للمرأة سمح المشرّع الإسلامي
ص: 249
بإظهارها في نطاقين: نطاق الإشباع الحيوي (البيولوجي) حيث حصره أمام البعل فحسب، وأمّا في نطاق الإشباع النفسي الصّرف فقد حصره أمام نماذج لا يستثيرهم المنبّه الجنسيّ وهم: المحارم، والنسوة، والقاصرون جنسيا.
وبهذا النمط من التنظيم يكون المقطع قد حقّق الإشباع أولا بنمطيه الحيوي والنفسي، ويكون ثانيا قد قيّده بضوابط لا مناص لأيّ كائن إنساني أن يرتبط بها طالما نعرف جميعا بأنّ الإشباع غير المقيّد يسلخ الإنسان من دائرة إنسانيته ويحوّله إلى بهيمة بل حتى البهائم تتقيّد ببعض الضوابط التي تحد من الإشباع الطليق لحاجاتها...
ويلاحظ أن المقطع (من الزاوية النفسية أيضا) قد أخذ قضية (الحرج) بنظر الاعتبار حيث سمح بإظهار ما لا بدّ منه مثل: الكفين وغيرهما مما تضطلع النّصوص الفقهية بتحديده مع تأكيد هذه النّصوص بأفضلية إخفاء الزينة تماما على نحو الاحتياط الإلزامي تجنّبا لأيّة إثارة محتملة.
ويلاحظ أيضا أن المقطع طالب في صعيد الحجاب المشار إليه بألاّ تضرب المرأة برجلها حتى لا تعلم مواطن الإثارة منها... وهذه المطالبة تقطع كل محاولة ملتوية ينفذ الشيطان منها إلى مآربه فما دامت «الإثارة» هي المحكّ في السلوك حينئذ فإنّ أية ممارسة حتى في نطاق الحجاب المشار إليه تظلّ موضع حظر في هذا الميدان.
أخيرا، ختم هذا القسم من السورة بالحثّ على التزويج طارحا خلال ذلك أكثر من مفهوم مثل وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ ... وَ لْيَسْتَعْفِفِ ، اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰى يُغْنِيَهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ فهنا يطرح النصّ مفهوما عباديا جديدا هو:
التوكّل على اللّه في الحصول على نفقة التزويج، فأشار إلى أهمّ الفاعليات التي تحقّق التوازن والأمن واليقين النفسي وهو: الإقدام على الزواج دون أن
ص: 250
يصحب ذلك أيّ خوف من العوز إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ ، كما أشار إلى فاعلية أخرى هي: ممارسة الصبر - في حالة عدم الحصول على نفقة التزويج مؤكدا نفس اليقين الذي ينبغي أن تصدر عنه الشخصية المؤمنة في الحصول على النّفقة المشار إليها...
ومن الواضح، أنّ المطالبة بأن تثق الشخصية بتوفّر وتأمين حاجاتها من قبل اللّه تعالى ومطالبتها في أن تمارس (الصبر) أيضا.. إن المطالبة بهاتين الممارستين تشكّل عماد العمليات النفسية التي تدرّب الشّخص على أن يكتسب السلوك السوي لأنّ تأمين الحاجات دون أن يصحب ذلك نوع من (التوتّر) - وهو ممارسة الصبر يفسد الشخصية كما أنّ استمرارية التوتر دون أن يصحب ذلك: يقين نفسي يفسد الشخصية أيضا.
المهم، أنّ النص طرح هذه المفهومات العبادية والنفسية في سياق الموضوع العامّ لهذا القسم من سورة النور ونعني به موضوع (الدافع الجنسي) حيث لحظنا كيفية طرحه وفق بناء محكم بدأ بالحديث عن الممارسات غير المشروعة لهذا الدافع وختمه بالممارسة المشروعة حيث كانت فكرة (تزكية النفس) تتخلّل جميع الموضوعات التي طرحها هذا القسم من السورة وهي فكرة سنجد أصداءها منسحبة على الأقسام اللاحقة من السورة الكريمة (على النحو الذي سنتحدث عنه لاحقا إن شاء اللّه).
قال تعالى: اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .
بهذه الآية أو المقطع يبدأ القسم الثاني من سورة النور. وكان القسم
ص: 251
الأوّل من السّورة قد تمحّض لمعالجة موضوع خاص هو: (الظاهرة الجنسية) وطرائق إشباعها حيث كان مفهوم (تزكية النفس) يتخلّل طرح الظاهرة المذكورة.
أما الآن فنواجه موضوعا جديدا هو (النور) اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ولا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى ندرك أن مفهوم (التزكية) يرتبط بمفهوم (النور) الذي بدأ هذا القسم الجديد من السورة بطرحه. فالنور هو مطلق الخير الذي أفاضه الله على الوجود وعدما يطالبنا اللّه أن (نزكي) نفوسنا فإنّ ذلك يعني أن نتعامل مع النور وحينما يطرح النص موضوع الجنس وما يرتبط به من سلوك متنوّع مثل: عدم الاستئذان في الدخول إلى بيوت الآخرين، وغير ذلك من الموضوعات التي تضمنها القسم الأول من السورة إنما يظلّ مثل هذا الطرح مشعرا بأهميته الكبيرة في ميدان التدريب على تزكية النفس..
ونحن نتحسس مثل هذه الأهمية (من زاوية الفن) بمجرّد مواجهتنا لآية (النور) التي أعقبت الحديث عن الموضوعات المشار إليها.
والمهم، أن نقف عند آية النور بعد أن لحظنا موقعها الهندسي من السورة) لنلاحظ خطورة ما تنطوي عليه من دلالات فكرية وفنية. أما دلالاتها الفنية فتتمثل في انطواء هذه الآية على عنصر (الصورة) المدهشة، المثيرة التي تحفل بتراكيب فنية في غاية الطّرافة والغنى والتنوّع... إن (الصورة) في الأعمال الأدبية عموما تتألف من ظاهرتين أو طرفين ينتجان ظاهرة ثالثة مثل:
المركّب الكيميائي تماما.. وهذا التركيب قد يستقل في صورة واحدة، وقد يتداخل مع صورة أخرى أو تتفرّع عنه صورة أو أكثر.
الصورة الفنية التي نواجهها تتألف من صور استمرارية، أو متداخلة، أو تفريعية تصل إلى عشر صور جزئية لتشكّل بمجموعها صورة موحّدة...
ص: 252
الصور الجزئية هي: «مشكاة»، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكب دري، المصباح يوقد من شجرة مباركة، الشجرة زيتونة، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي اللّه لنوره من يشاء.
هذه الصور العشر تعدّ من النماذج المتفردة فى الصياغة القرآنية الكريمة حتى أنها لتدع الملاحظ في مستويات من الدهشة والانبهار اللذين لا حدود لهما... بالصّور مستقاة من ظواهر مألوفة يخبرها أبسط الناس لكنها في الآن ذاته مركّبة وفق أشدّ مستويات الطّرافة وهو ما يسم الفنّ العظيم فنحن أمام مشكاة أو كوّة.. هذه الكوة وضع فيها مصباح أو سراج، المصباح داخل زجاجة... هذه الزجاجة من الصفاء والشفافية كأنها كوكب دريّ . إلى هنا لا يملك المشاهد إلاّ أن ينبهر حيال هذا المرأى أو المشهد الذي يفيض بما هو مضيء وشفّاف يفعل فعل السّحر في الأبصار والنفوس. بيد أنّ الصورة تنتقل من هذا المرأى الحسّي إلى المرأى الداخلي، أي الوجدان أو النفس حيث تشير إلى (شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ ) فالشجرة حسيّة بدورها إلا أنّ سمة (المباركة) هي العنصر (النفسي) الذي توظف من أجله المشاهد الحسيّة جميعا... فالمادّة التي ترفد المصباح بالنور هي (مباركة)، إنها من شجر الزيتون وهو متميز عن سواه بكونه (مباركا) قد باركه - كما تقول النصوص المفسّرة فيه سبعون نبيا... إذا:
(المباركة) هي العنصر المستهدف في الصورة وهو عنصر ينبغي ألاّ نفصله عن عمارة السورة الكريمة التي طرحت فكرة (تزكية النفس).
لكن: لنتابع الصور الأخرى...
هذه الشجرة (المباركة) التي تمدّ المصباح بزيتها (لا شرقية ولا غربية) أي: تعود الصورة لتنقلنا من جديد إلى المرأى الحسي لها إلى الموقع الجغرافي لهذه الشجرة التي لا تنتسب إلى شرق الأرض ولا غربها أو التي لم
ص: 253
تأخذ بحظ من مشرق الشمس و مغربها أو العكس ممّا تأخذ بنصيب منهما (حسب اختلاف النصوص المفسّرة) و المهم هو: أن زيت الشجرة (متميز) (يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ) للمرة الجديدة ينقل النص المتلقي إلى سحر المرأى ليبهره بهذا النمط من النور المدهش ثم ليزيده دهشة وانبهارا حينما يؤكد له بأنّ المرأى المذكور هو: (نُورٌ عَلىٰ نُورٍ) ... وسواء كان هذا النور الحسي (رمزا) أو (واقعا) أو مزيجا من (الرمز والواقع) فيما تتنوّع دلالاته وتتكثّف لتشمل كل ما هو مبارك وخير بما في ذلك الرّمز المشير إلى أهل البيت (ع) فإن المطاف الأخير يظلّ مرتبطا بمفهوم (النور) المجرّد وليس النور الحسّي أي: أنه معطيات اللّه تعالى لذلك، نجد أن الآية تختم هذه الصورة الاستمرارية المدهشة تختمها بقوله تعالى (يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ ) حيث يستخلص المتلقّي أن النور هو: الخير المطلق الذي يفيضه اللّه تعالى على الوجود فيما وظفنا - نحن البشر - لأن نتعامل مع هذا النور وفقا لمفهوم خلافة الإنسان في الأرض، أي: الإيمان باللّه تعالى والالتزام بمبادئه...
أخيرا: ينبغي ألاّ نغفل عن البناء الهندسي لهذه الآية وصلة ذلك بمفهوم (التزكية) و (الهدى) و (الخير) ونحوها من المفهومات التي تحوم عليها موضوعات السورة الكريمة عبر صلتها بعضا مع الآخر (بالنحو الذى تقدم الحديث عنه).
***
قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ * رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اَللّٰهُ أَحْسَنَ مٰا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ .
هذا المقطع امتداد لآية النور اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
ص: 254
كَمِشْكٰاةٍ ... بيد أنّ المقطع الجديد قد استثمر - فنيا - ظاهرة المشكاة ووصلها بالمساجد لينتقل بهذا إلى طرح فكري جديد هو: قضية ذكر اللّه تعالى.
إن ذكر اللّه أساسا يشكّل الهدف العبادي للسلوك، كل ما في الأمر أنّ الذكر يأخذ مستويات متنوعة من السلوك قد يرتبط بعمل حركيّ وقد يرتبط بعمل لفظي.. وقد أبرز المقطع الجانب الأخير من السلوك كما أبرز ضمنيا الجانب الأول منه فأشار إلى الذكر والتسبيح بالغدو والآصال كما أشار إلى كل من الصلاة والزكاة... والمهم هو: طرح الذّكر أو الزكاة والصلاة في سياق ظاهرة لها خطورتها في ميدان السلوك العبادي الا وهي قوله تعالى رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ ... .
إن العمل الاقتصادي أو اكتساب الرزق يظلّ من جانب مرتبطا بأكثر من دافع في التركيبة البشرية مثل: الحاجة إلى الطّعام والحاجة إلى الأمن فضلا عن ضرورات أخرى مرتبطة بأهم الحاجات مثل: المسكن والملبس والمركب وأدوات العيش الأخرى، كما أنه من جانب آخر يظل موضع تشدّد في التوصيات الإسلامية المطالبة بالعمل الاقتصادي لتأمين الحاجات المذكورة حتى ليصل لسان النصوص إلى القول بأنّ العمل أفضل الجهاد مثلا.
لكن: بالرغم من ذلك كله، نجد أن هذه الحاجات تظلّ مجرد وسيلة لهدف آخر هو: التعامل مع اللّه تعالى... من هنا فإنّ أيّة ممارسة تخرج عن صعيد ما هو ضروري من العمل تأخذ طابع الحظر من قبل التوصيات الإسلامية.
سرّ ذلك - ببساطة - أنّ ممارسة ما هو خارج عن الضّرورة يظل سلوكا (ذاتيا) لا يتوافق مع موضوعية العمل العبادي. لذلك أشار المقطع إلى ظاهرة التجارة والبيع ملمّحا إلى أنّ الشخصية المؤمنة لا تلهيها تجارة ولا بيع عن ذكر
ص: 255
اللّه... لا يلهيانها عن إقامة الصلاة لا يلهيانها عن إيتاء الزكاة. و سواء أكان المقصود ب (الزكاة) هنا هو: الزكاة المفروضة أم كان المقصود منها - كما هو لسان بعض النصوص - الإخلاص في الطاعة، ففي الحالين ثمة سلوك عبادي هو العناية بإخراج الزكاة وإيصالها إلى المستحقين مما يتطلّب بذل بعض الوقت. كما أنّنا لو انسقنا مع التفسير القائل بأنّ الزّكاة هي زكاة النّفس حينئذ فإنّ ذلك يظلّ مرتبطا بعمارة السّورة الكريمة التي طرحت فكرة (تزكية النفس) في حديثها عن الدافع الجنسي وما يواكبه من أنماط السلوك الذي طالبت مقاطع السورة من خلاله بأن تمارس الشخصية ما هو أزكى للنفس.
المهمّ في الحالات جميعا ثمة تأكيد على أنّ التجارة والبيع - مع أنّهما مرتبطان بتأمين الحاجات الضرورية - ينبغي ألاّ يلهيا الشخص من أداء وظيفته الرئيسة ألا وهي ذكر الله تعالى...
ضمن هذا الطرح الذي يشير إلى أن الشخصية المؤمنة: لا تلهيها تجارة أو بيع عن ذكر اللّه خلع المقطع سمة أخرى على الشخصية المذكورة بأنها تخاف يوما تتقلّب فيه القلوب والأبصار.
هذه السّمة حينما يطرحها المقطع ضمن الطّابع العبادي العام (أي:
الذكر) تظل مؤشرا واضحا إلى أهمية أن يقترن العمل المذكور بعملية نفسية أخرى هي: الخوف من أهوال اليوم الآخر يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ ... فالشخصية المؤمنة بالرغم من إخلاصها في العمل لا بدّ أن تتحسّس في الآن ذاته بقصورها العبادى وأن تظلّ متأرجحة بين الخوف والأمل لأن عدم الخوف يقتادها إلى الإعجاب بعملها ومن ثمّ عدم مواصلة المزيد منه، فضلا عن أنّ عدم الخوف يظل مؤشّرا إلى عدم اكتراثها بعظمة اللّه تعالى التي تفرض فاعليتها الرهيبة على النفوس...
وأيا كان فإن فكرة (تزكية النفس) من خلال الذكر والخوف، تظل الرّافد
ص: 256
الذي تصب فيه موضوعات السورة كما تظل مرتبطة بمفهوم (النور) الذي يعني مطلق الخير الذي أفاضه اللّه، وهو مفهوم ينسحب على الموضوعات اللاحقة من السورة الكريمة (بالنحو الذي سنتفق عليه لاحقا إن شاء اللّه)..
قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ * أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ .
هذا المقطع من سورة النور - يشكّل من حيث عمارة السورة الكريمة - موقعا هندسيا له خطورته الفنية اللافتة للنظر إنه - أوّلا - مقطع يتعامل مع عنصر (الصورة) بدلا من اللّغة المباشرة كما أنه - ثانيا - يتقابل هندسيا مع آية النور (اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ...) حيث ختمت الآية المذكورة بقوله تعالى يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ .
آية النور التي تشكّل عصب السورة الكريمة وتحتل موقعا لافتا منها طرحت مفهوم (النور) الذي يعني الخير المطلق الّذي أفاضه اللّه على الوجود وسلكت في التعبير عن ذلك: صياغة خاصّة هي تلكم الصورة الاستمرارية التي شملت عشر صور جزئية بالغة الطّرافة والدّهشة (المشكاة، المصباح، الزجاجة، الكوكب الدريّ إلخ)... هذه الصورة المدهشة (صورة النور) تقابلها الآن (في المقطع الذي نتحدث عنه حاليا) صورة فنية أيضا متميّزة بالدّهشة والطرافة أيضا لكن على نحو التّضاد الفني... فهناك نور وهنا ظلام هناك: يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وهنا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ ... لنتأمّل هذا التقابل الهندسي الملفت للنظر بين (نور) يهدي اللّه إليه
ص: 257
من يشاء و بين مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً ...
وبالرّغم من أنّنا سنتحدّث مفصّلا عن العنصر الصّوري الذي انتظم الحديث عن الكافر وعمله: (الذين كفروا أعمالهم كسراب... أو كظلمات في بحر لجى الخ)، لكنّنا الآن نتحدّث عن التقابل الهندسي فحسب، التقابل بين عنصر النّور وعنصر الظلام نظرا لما ينطوي عليه هذا التقابل الفني بينهما من دلالات ثرّة غنية بما هو جدير بالنظر، وبالعظة، وبتعديل السلوك مضافا لما ينطوي عليه هذا التقابل من جمالية وإثارة من حيث الإحكام والتلاحم الفنيّ بين موضوعات السّورة الكريمة ما دام هدفنا - أساسا - هو الحديث عن عمارة النّص القرآني الكريم...
إذا: لنعد النظر في التقابل بين آخر المقطع الذى يتحدّث عن النور وبين آخر المقطع الذي يتحدث عن الظلام... إنّ آخر المقطع الذي يتحدّث عن النّور يقول لنا يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وآخر المقطع الذي يتحدّث عن الظّلام يقول وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ القضية - إذا هي:
إفاضة اللّه تعالى للنور لمن يشاء مقابل الذي لم يجعل اللّه له النور.
طبيعيا أن معرفة اللّه سلفا بما سيسلكه الشخص من ممارسات بملء اختياره هو الذي يحدّد ما إذا كان اللّه تعالى يهدي لنوره من يشاء أو لم يجعل له نورا. فالمؤمن الملتزم بمبادىء اللّه يظل موضع الهداية لذلك النور والمتمرّد على مبادىء اللّه يظل عرضة لذلك الحرمان من النور..
إن كلا من النور والظّلام (رمز) للهداية والضّلال و (الرمز) - من الوجهة الفنية - يشع بإيحاءات ودلالات وإيماءات متنوّعة... ولا شيء أدلّ على تنوّع «الرمز من (النور) الذي يشمل جميع الإضاءات ومن «الظلام» الذي يشمل جميع الانطفاءات: أيّا كان نمط كلّ منهما... لكن الأهمّ من ذلك كلّه هو:
أن النور الذي يهبه اللّه تعالى لمن يشاء ويسلبه عمّن يشاء وفقا لنمط السلوك
ص: 258
الذي يختاره الشخص حيال مباديء الله تعالى: إنما يتمحّض لله تعالى إنما يفيضه اللّه تعالى، بعكس (الظلام) الذي يظلّ إفرازا لعمل الشّخص نفسه وهو عمل يحدّثنا النص القرآني عن مستوياته وفق مجموعة من الصّور الفنية المدهشة.
قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ .
يتحدث هذا المقطع من سورة النور عن سلوك الكافرين ونتائجه بعد أن كان المقطع الذي سبقه يتحدّث عن سلوك المؤمنين ونتائجه.
يتميز هذا المقطع بحشد من الصور الفنية المدهشة. الصورة الأولى هي:
تشبيه أعمال الكافرين بسراب في أرض مستوية يحسبه الظمآن ماء ما إن يصل إليه حتى يجده ليس بماء بل يجد أن الله تعالى بالمرصاد لأعماله فيوفّيه حسابه سريعا.
طبيعيا، أنّ هذه الصورة ترسم البيئة الأخروية للمنحرفين من حيث الموقف الذي يصدرون عنه حينئذ. المنحرف يمارس شتى الأعمال في الحياة الدنيا بتخيّل أنها أعمال طيّبة أو مشروعة لكنه - في البيئة الأخروية يفاجأ بأنّها ليست شيئا كما تخيّله، بل يفاجأ بأنّها موضع محاسبة يترتب عليها الجزاء الأبدي...
والمهم هو: ملاحظة البعد الفنيّ لهذه الصورة وموقعها الهندسي من عمارة النص. أمّا بعدها الفني فيتمثل في كون الصورة ترتكن إلى خبرة مألوفة في الحياة اليومية وهو أمر طالما أشرنا إلى أنّ نجاح الصورة يعتمد على كون أطرافها ذات وضوح وألفة عند المتلقّي... فالسّراب تجربة أو خبرة يحياها
ص: 259
كل شخص حينما يشاهد في أرض مستوية شعاعا يلمع في صحوة النهار بحيث يبدو و كأنّه ماء وحينما يتحسّس الشخص العطش يهرع إلى ذلك الشّعاع بأمل أنه ماء يطفئ به عطشه وإذا به يجده سرابا، فتتمزّق نفسه ألما مضافا إلى ألم العطش... هذه التجربة المألوفة نقلها النّص إلى سلوك المنحرفين مقارنا بينه وبين تجربة السراب...
أهمية هذا النقل تتمثّل في أنّ (السراب) يظلّ واحدا من أشدّ التجارب لصوقا بواقع السلوك المنحرف. لقد كان بإمكان النّص أن يقدّم نقلا مباشرا لسلوك الكفّار. وبإمكانه أيضا أن يعتمد صورة فنية أخرى غير السّراب كما هو الملاحظ في نصوص قرآنية أخرى... بيد أنّ سياق الأفكار التي وردت الصورة من خلالها من جانب، وطبيعة عمل المنحرف من جانب آخر جعلت هذه الصورة (السراب) أشدّ تعبيرا من غيرها عن سلوك المنحرف ونتائجه. فآية النور التي سبقت هذا المقطع ونعني بها (اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ...)
تحدّثت عن النور وتحدّثت عن أنّ اللّه يهدي لنوره من يشاء وتحدّثت عن أنّ المؤمن يخاف يوما تتقلّب فيه القلوب والأبصار وتحدّثت عن أن اللّه تعالى يجزى المؤمن ويزيده من فضله ويرزقه بغير حساب... كل هذه الشرائح الفكرية التي طرحتها آية النور وما بعدها تظلّ ذات صلة بهذه الصورة (السراب)... فالكافر أو المنحرف مطلقا يحيا في (سراب) في وهم بسبب بعده عن (النور)، عن الحقيقة، كما أنّ عطشه إلى الإشباع، إلى تحقيق اللّذة العاجلة، يدفعه بالضّرورة إلى أن يلتمس له ماء يطفئ عطشه، وعندما يواجه الحياة الأخروية لا بدّ أن يجترّ نفس تجاربه في الدنيا فيحسب أن جزاء أعماله مماثل لتقديره وتصوّره الدينوي... إلا أنّه يفاجأ - كما قلنا - بعكس تخيّله فلا يظفر بأي تقدير بل على العكس من ذلك يفاجأ بعملية حساب سريعة، أي: أنّه على العكس من المؤمن الذي يجزيه اللّه ليس في نطاق الجزاء المتعادل مع السّلوك بل يزيده من فضله ويرزقه بغير حساب (وفقا لآية النور التي أشرنا
ص: 260
إليها) إن الحساب يجري سريعا بالنسبة إلى الكافر أو المنحرف (وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ ) بينما يكسب (الحساب) طابعا مضادّا عند المؤمن حيث يجازيه اللّه بغير حساب...
إذا كم هو الفارق بين حساب سريع للكافر وبين عدم الحساب في حجم المكافأة للمؤمن أنه نفس الفارق بين الوهم والسراب، الذي يحياه المنحرف وبين النور والحقيقة التي يحياها المؤمن.
للمرة الأخرى ينبغي أن نتأمّل بدقة هذه الموازنة الفنية بين نمطي الحساب للكافر والمؤمن ونمطي سلوكهما في الدنيا، وأن نتأمّل بدقة كيف أنّ تجربة الظمآن ومشاهدته للسراب الذي حسبه ماء تتوافق وتتجانس تماما مع سلوكه الدنيوي الذي ابتعد عن النور في الحقيقة، واتّجه إلى الوهم، إلى السّراب، وأن نتأمل بدقة أيضا - في نهاية المطاف - مدى الإحكام العضويّ بين مقاطع السورة الكريمة.
قال تعالى: أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ .
هذه الصورة الفنية صورة ظلمات البحر تتميز بخصائص فنيّة متنوعة يتعين الوقوف عندها نظرا لخطورتها وطبيعة ما تنطوي عليه من التراكيب فهي من ذلك النمط الذي يمكن تسميته ب (الصورة الموحّدة أو الاستمرارية أو المكثّفة) مقابل الصورة المفردة التي تتركّب من ظاهرتين فلو اكتفى النّصّ بتشبيه عمل الكافر ب (الظلمات) لكانت الصورة (مفردة) تتألف من طرفين هما عمل الكافر وظلمات البحر، لكن نجد في هذا المقطع مجموعة صور في عرض واحد تؤلّف بمجموعها صورة موحّدة.
ص: 261
الصور الجزئية هي: ظلمات في بحر لجّي، هذا البحر يغشاه موج، فوق هذا الموج موج آخر، فوق هذا الموج الأخير سحاب، هذه الظلمات الثلاث هي ظلمة البحر، ظلمة الموج، ظلمة السحاب. هي: ظلمات بعضها فوق بعض و إذا أخرج الشخص يده لم يكد يراها لشدة الظلمة...
إذا: نحن الآن أمام ستّ صور جزئية تتآزر فيما بينها لتؤلّف صورة كلية تستهدف توضيح عمل الكافر أو المنحرف عن مبادىء اللّه تعالى... أهمية هذه الصورة الكلية أو الصور الجزئية ليس في كونها مصاغة وفق بعد فنيّ فحسب بل في كونها مفصحة عن مستويات السلوك الضال الذي يصدر عن الكافر أو المنحرف: بما في ذلك النتائج الأخروية للسلوك المشار إليه.. ومن الطبيعي أن المتلقّي لا بدّ أن يفيد الكثير من هذه الصورة بغية تعديل سلوكه ما دام أي انحراف عن مبادىء اللّه (ومنها: الذنوب التي تصدر عنها) تمثّل جزءا من صورة الظلمات التي يحياها المنعزلون عن مبادىء اللّه...
أهمية هذه الصورة تتمثّل في كونها ترمز إلى مستويات الضّلال والتيه والخبط الذي يحياه الكافر... فهناك ظلمات ثلاث وليس ظلمة واحدة (ظلمة البحر، والموج، والسحاب) البحر وحده حينما يكشفه الظلام يشكل حاجزا عن الاستمتاع أو الإفادة منه و إذا قدّر للشخص أن يخترق هذا الحاجز المظلم وينفذ إلى موجه: أمكن أن يفيد من ذلك. لكن إذا كان الموج بدوره مغشيا بالظلمة حينئذ فإنه يشكّل حاجزا جديدا عن الاستمتاع به والإفادة منه... فإذا غشي الموج موج آخر مظلم أيضا أصبح الحاجز حينئذ مضاعفا ومن ثم انتفى الاستمتاع به والإفادة منه أيضا... لكن لا يقف الأمر عند هذا الحد بل حتى مسكة الفضاء التي يمكن أن تتاح للشخص بأن يفيد منها في الرؤية حتى هذه المسكة من الفضاء قد انتفت أيضا حينما يجيء السحاب فيغطّي البحر وأمواجه وحينئذ لا يبقى أيّ مجال للرؤية أبدا.
ص: 262
و هذا ما عبّرت الصورة عنه حينما عقّبت على ذلك بالقول إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا . وبالفعل: عندما يغطّي الظلام البحر بمستوياته التي لحظناها، حينئذ لم يكد يرى الشخص يده من شدة الظلام...
الكافر أو المنحرف يحيا في مثل هذه الظلمات بحيث لا يمكن له أن يصدر عن عمل واحد يعتد به... كل أعماله تتناثر هباء.
ترى، هل ثمة صورة فنيّة يمكن لها أن تجسّد الضّلال والتيه والخبط الذي يحياه الكافر أشدّ تعبيرا من صورة الظلمات في البحر اللجيّ العريض الذي لا يرى ساحله فيما تغشاه أمواج بعضها فوق بعض وفيما يغطّيها سحاب...
هذا من حيث الدّلالات التي تنطوي الصورة عليها. أما من حيث صلة هذه الصورة بما سبقها فتتضّح تماما حينما نتذكّر بأنّ هذا المقطع جاء بعد آية النور رمز لمطلق الخير، ومنه: الهدى الذي يحياه المؤمن لذلك جاءت صورة «النور» لتقابلها بعد ذلك صورة «الظلمات» وهو أمر أكّده المقطع حينما ختم صورة الظلمات بالقول (وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ) حيث سبق أن قلنا بأنّ هذا التعقيب يشكّل بعدا فنيا في غاية الأهمية من حيث كونه يصل هندسيا بين النور والظلام، بين الخير والشر، بين الإيمان والكفر بين الطّاعة والمعصية... يصل بين النور الذي يفيضه اللّه على الوجود فيفيد المؤمن منه، وبين ظلمات البحر اللجيّ الذي يخبط فيه الكافر... وعندما يؤكد النص من خلال التعقيب على هذه الموازنة بين المؤمن (الكافر) إنما يحكم البناء الهندسي للنص ليذكّر بوضوح أن الشخص الذي لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور يهتدي به في ظلمات البحر...
إذا، كم كانت هذه الصورة جميلة ومدهشة من حيث صلتها بموضوعات سابقة، فضلا عن صلة ذلك بالمقاطع اللاحقة من السورة أيضا.
ص: 263
قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافّٰاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاٰتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِمٰا يَفْعَلُونَ * وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ يَكٰادُ سَنٰا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصٰارِ * يُقَلِّبُ اَللّٰهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصٰارِ * وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مٰاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
هذا المقطع من السّورة يستقلّ بطرح موضوعات جديدة... إلا أنّها تصبّ في الرّافد الفكريّ للسورة الكريمة... الرافد الفكري للسورة هو آية (النور) (اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ) ... والموضوعات المطروحة الان تحوم على الرّافد الفكري المشار إليه.
لقد بدأت السورة بهذا النحو سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا وَ فَرَضْنٰاهٰا وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وها هي الآيات البيّنات يشير إليها المقطع الذي نتحدّث عنه حيث ختم بقوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ و آيه (النور) قرّرت بأنّه يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يشير في الختام إلى نفس الدلالة وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... إذا: هذا المقطع الذي نعتزم الحديث عنه قد ارتبط عضويا بأوّل السورة وبوسطها ممّا يحكم البناء العماري للسورة ويزيدها جمالية في الفن...
لكن، لنقف على الدّلالات المطروحة في المقطع بعد أن لحظنا موقعه الهندسي من بناء السورة الكريمة...
ص: 264
لقد طرح المقطع نمطين من الموضوعات: أحدها يتصل بالممارسة العبادية للكون والآخر يتصل بالظواهر الإبداعية للكون.. الممارسة العبادية للكون تمثّلها الآية التالية أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافّٰاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاٰتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِمٰا يَفْعَلُونَ ... إن ظاهرة تسبيح الكون ترتبط عضويا بآية «النور» التي تقول عن المؤمنين وعملهم في بيوت اللّه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ ... إلخ لنلاحظ أن هذه الآية تقرر بأن المؤمنين يواظبون علي التسبيح لله ثم لنلاحظ أن المقطع يتجاوز النطاق البشري ليقرر بأن الكون كله يسبح أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ .
إذا، الرّبط بين التسبيح الخاصّ للآدميين والتسبيح العام لمطلق الكون تمّ بهذا النمط الفني الذي يصل بين ما هو عام وما هو خاص... إلا أنّه يلاحظ أن المقطع خصّ نمطا كونيا بالذكر بعد أن عمّم عملية التسبيح للكون كله، هذا النمط هو (الطير) (والطير صافات)...
فنيّا لا بد أن نستكشف من هذا التخصيص للطير أنّ هذه العضوية تتميز بخصوصية في التسبيح تفترق عن تسبيح الحيتان في البحار مثلا، أو الأشجار أو مطلق المخلوقات الأخرى... مضافا إلى أن حركاتها وأصواتها التي تظل موضع ألفة لنا (نحن البشر) بحيث تصبح (معبّرة) أكثر من سواها عن دلالة التسبيح المشار إليه.
هذا فيما يتصل بالطّرح الأوّل من المقطع الذي نتحدث عنه أمّا ما يتصل بالطرح الآخر ونعني به (الظواهر الإبداعية) فقد حام على نفس المحور الفكري لبداية السورة ووسطها (الآيات البينات و نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ) حيث أوضح المقطع أولا لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، ثم بدأ بتقديم بعض الظواهر الإبداعية لهذا الملك لتجسّد الآيات البيّنات، مثل السحاب والرعد والبرق.
ص: 265
و هذا ما يتصل ببيئة الجو حيث خصّص هذا الجانب من بيئة الجو بمثل ما خصّص الطير بالتسبيح دون سواه... أما ما يتصل ببيئة الأرض فقد خصّ المقطع العنصر الحيواني فأشار علميا إلى أصناف الدّواب ممن تمشي على بطنها أو رجليها أو أرجلها الأربع دون غيرها من الدواب ذات الأرجل المتعددة ليتجانس هذا التخصيص مع سائر الظواهر التي خصّ بالحديث عنها:
نماذج مألوفة في الخبرات اليومية التي نحياها...
إذا، جاء هذا المقطع محتشدا بسمات الإحكام الفنّي في بناء جزئياته كما لحظنا فضلا عن الإحكام الهندسي الذي وصل بين هذا المقطع وبين مقدمة السورة ووسطها من حيث تلاحم الموضوعات بعضا مع الآخر (بالنحو الذي تقدم الحديث عنه).
قال تعالى: وَ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنٰا ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتٰابُوا أَمْ يَخٰافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ .
هذا المقطع وما بعده من سورة «النور» يشكّل قسما جديدا من السورة يستقل في موضوعات خاصة تحوم على بعض أنماط السلوك المنافق مع ملاحظة أنّ أحد الأقسام السابقة من السورة كان حائما على السلوك الكافر...
وبالرغم من أن النّفاق جزء من الكفر إلاّ أنّه يتميّز بمفارقات خاصة ذات أسس نفسية تتجذّر عند المنافق بخاصة من هنا فإنّ تخصيص قسم من السورة للحديث عن بعض سمات النفاق مقابل الحديث عن بعض سمات الكفر يمنح عمارة النّص بعدا هندسيا متقابلا.
ص: 266
المهم، أنّ المقطع يتحدث عن نمط من النفاق هو ظاهرة التحاكم التي تقترن لدى السلوك المنافق بالانصياع إلى قول الحاكم في حالة تكييف الحكم لصالح الشخصية والتمرد على ذلك في حالة العكس. ومن البيّن أنّ الشخصية المنافقة - كما أكّدته النصوص الإسلامية فضلا عن ملاحظات علم النفس العيادي - تتميز بكونها ذات طابع (نفعي) صرف في تحركاتها المختلفة وقد ألمح المقطع القرآني الذي نتحدّث عنه إلى هذا الجانب بقوله وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ... ثم عقّب على السلوك المذكور قائلا أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... إن هذا التساؤل عن (مرض) النفس يشير إلى حقيقة في غاية الخطورة وهي: إكساب صفة (المرض النفسي) لشخصية المنافق - فالنصوص القرآنية طالما تؤكد هذه الحقيقة في مواقع متنوعة من السور، مما يفصح هذا التأكيد عن أن المرض النفسي يشكّل سمة ملحوظة في شخصية المنافق...
سرّ ذلك أن اللهاث وراء (النفع) الذاتي يسلخ الشخصية من صعيد (البعد الإنساني) من جانب ويدعها نهبا للتوتّرات والانشطارات النفسية من جانب آخر: نظرا لمخاوفها حينا من أن تفتضح أمام الجمهور أو عدم تحقيق رغباتها غير المشروعة فضلا عن أن عملية اللّهاث وراء الإشباع يقترن أساسا بتوتّر النفس... ولعلّ النموذج الذي قدّمه المقطع القرآني عن سلوك المنافق المتصل بالإذعان لقول الحاكم في حالة تكييف القضية لصالح الشخصية والتمرّد على ذلك في حالة العكس، يفصح بوضوح عن حجم التوتر المرضي الذي تفرزه الشخصية، فالمنافق حينما يعرض عن قرارات الحكم لا بدّ أن يصاحب سلوكه تمزق داخلي بالغ الشدة ناجم عن كراهية شديدة للحكم تتناسب مع تعلّقه الشديد بمكتسباته الذاتية التي تشكل بناء شخصيته أساسا.
وقد رسم المقطع القرآني الكريم نموذجا آخر من السلوك المنافق من
ص: 267
خلال الآية الكريمة التي تقرّر
وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاٰ تُقْسِمُوا طٰاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ ... الآية تشير إلى أنّ من الناس من يقسم بالله بأشدّ القسم بأنّه سوف يساهم في المعارك التي يخوضها النبيّ (ص)... إلا أنّ المقطع يجيبهم على ذلك (لاٰ تُقْسِمُوا طٰاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) ، أي أن الطاعة (وهي تعبير عن صدق الأعماق) خير من (القسم) وهو تعبير قد يفصح عن صدق الأعماق أيضا، إلا أنّه قد يفصح عن عدم صدقها أيضا، لأنه سلوك لفظي يمكن أن يعكس كلا من الصدق أو الكذب...
طبيعيا، من الممكن أن يقترن قسم هؤلاء بالصّدق، إلا أنّ بناء الشخصية المهزوز قد يحتجزها عن البرّ لقسمها... لذلك (وهذا واحد من معطيات التعبير الفنيّ ) ترك المقطع نهاية مفتوحة لمثل هذا السلوك حيث لم ينه مصائر مثل هؤلاء الأشخاص نهاية سلبية (عدم البر بالقسم) كما لم ينهها نهاية إيجابية: بل أكتفى بالذهاب إلى أنّ (الطاعة المعروفة) خير من القسم...
أخيرا: ختم المقطع حديثه عن السلوك المنافق، بحديث عن السلوك المضادّ له وهو الإيمان الخالص: حيث بشّر اللّه المؤمن بالعطاء الدنيوي وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ... واضح - من الزاوية الفنية - أنّ المقطع ما دام قد تحدّث عن المنافقين قبل هذا الختام وهم يعنون أساسا بالبعد (النفعي) الدنيوي الصرف، حينئذ فإنّ الوعد بعملية استخلاف في الأرض بالنسبة إلى المؤمنين يأخذ مسوّغه الفني حتى يتداعى ذهن المتلقّي إلى أن (المؤمن) مبشر بالعطاء الدنيوي (قبل الأخروي) وهذا بعد تتجانس من خلاله معطيات الدنيا لدى كل من المؤمن والمنافق مع ملاحظة أنّ النفاق مقرون بالخسار الأخروي: على العكس من المؤمن الذي يكسب الصعيدين الدنيوي والأخروي.
هنا ينبغي ألاّ نغفل عن هذا الختام وصلته هندسيا بعمارة السورة الكريمة
ص: 268
حيث كانت آية (النور) اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ الخ هي المحور الفكري الذي يصل بين موضوعات ا لسورة: حيث ذكرت في الآية المشار إليها جملة من المعطيات التي يهبها الله للمؤمن و ها هو المقطع الجديد يقدم معطي آخر يهبه للمؤمن و هو: الاستخلاف في الأرض.
إذا، من حيث البناء الهندسي للنص، أمكننا ملاحظة هذا المقطع وصلته بهيكل ا لسورة، فضلا عن صلة المقاطع جميعا بعضها بالآخر بالنحو الذي لحظناه سابقا.
قال تعالي: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاٰثَ مَرّٰاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاٰةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاٰةِ اَلْعِشٰاءِ ثَلاٰثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَ إِذٰا بَلَغَ اَلْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَ اَلْقَوٰاعِدُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ اَللاّٰتِي لاٰ يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
في هذا المقطع وما بعده من المقاطع التي تختم بها سورة النور، تحوم الموضوعات على فكرة واحدة هي نفس الفكرة التي استهلّت بها السورة ونعني بها. الظاهرة الجنسية وما يرتبط بها من الآداب أو الأحكام العائلية، حيث يفصح مثل هذا الافتتاح والاختتام بفكرة محدّدة: عن إحكام السورة هندسيا، بعد أن لحظنا أنّ الوسط من السورة قد ارتبط بنفس الدلالة التي حامت الموضوعات عليها جميعا ألا وهي تزكية النفس...
والآن، لنتقدّم إلى الموضوعات المطروحة في المقطع... لا تزال
ص: 269
المطالبة بتدريب الشخص على اكتساب السلوك السوي أو (الزكي) موضع تأكيد هذا المقطع القرآني... لقد تحدّث عن القواعد أو المسنّات من النساء من حيث الالتزام بالحجاب وعدمه، كما تحدّث عن أحكام التعامل العائلي من حيث الاستئذان على الزوجين وعدمه، وقد تحدّث القسم الأول من السورة عنهما، إلا أن الجديد هنا هو: معالجة الحجاب بالنسبة إلى النساء المسنّات بعد أن كان الحديث في القسم الأول خاصا بالنسوة اللواتي يشكلن منبّها جنسيا... لقد أباح المقطع للنساء المسنّات أن يخفّفن بعض مظاهر الحجاب الذي شدّد عليه بالنسبة إلى من لم يبلغن مرحلة الكبر الذي ينطفىء من خلاله المثير الجنسي... لكن، من الأفضل أن يلتزمن أيضا بالحجاب الكامل.
لنلاحظ أن النص وهو يعنى بتدريب الشخصية على تزكية النفس: إنما يرسم خيارين: أحدهما السماح بالتخفيف من الحجاب بالنسبة للمسنّات، والآخر. المطالبة بما هو أفضل لهن، ألا وهو: الالتزام بالحجاب الكامل أيضا: تحسّبا لاية إثارة محتملة من جانب ولتدريبهن على الالتزام من جانب آخر... مع ملاحظة أن هذا التدريب يقود الشخصية إلى تحقيق الدرجة القصوى من تزكية النفس...
والأمر نفسه بالنسبة إلى الموضوع الآخر المطروح في هذا المقطع ونعني به. الاستئذان على الزوجين بالنسبة لأفراد العائلة الآخرين... لقد حدّد النص أوقاتا ثلاثة للخلوة بين الزوجين لم يسمح خلالها لكل من الأطفال المميّزين من جانب، والعبيد والإماء من جانب آخر. بأن يدخلوا على الزوجين في الأوقات الثلاثة المشار إليها، حتى لا يحرج الزوجان...
ويلاحظ: أن المرحلة الطفلية بالرغم من عدم ترتب الأحكام عليها، إلا أنّ المقطع حينما منع الأطفال من الدخول على الزوجين، إنما طرح (وفق طريقة فنية غير مباشرة) إحدى الحقائق النفسية المتصلة بالدافع الجنسي
ص: 270
للطفل، حيث نستخلص من ذلك أن الطفل المميز (أي في المرحلة الثانية من الطفولة حسب نصوص إسلامية أخرى) يخبر التجربة الجنسية ممّا تترتب على ذلك: ضرورة تدريبه على عدم التعرّض للمنبّه الجنسي.
والمهم أنّ مثل هذا التدريب: له إسهامه الكبير في تزكية النفس من حيث انسحابها على المرحلة الراشدة من العمر.
بعد هذا، يتجه المقطع إلى طرح ظواهر تتصل بالاستئذان في الدخول إلى بيوت الآخرين، مثلما تتصل بظاهرة (تناول الطعام) فيها، وتتصل بمبادرة التسليم على أصحابها... هذه الظواهر سبق للنص القرآني في القسم الأول من السورة أن عالج بعضها مثل الاستئذان والتسليم حيث أوضحنا في حينه مساهمة هذا النمط من السلوك في تدريب الشخصية على تزكية النفس من جانب ورفع التحرّج الذي يقترن بالدخول إلى البيوت من جانب آخر...
أخيرا، طرح المقطع قضية خاصة تتصل بالتعامل مع النبيّ (ص) حيث يمكن أن يستخلص المتلقي منها إمكانية أن تتدرّب الشخصية على أن تتعامل مع خاصة المؤمنين بنحو يتناسب وخطورتهم، حيث طالب النصّ بأن يستأذن من النبيّ (ص) عند الانصراف، وأن يتعامل مع النبيّ (ص) بلغة خاصة، حيث يساهم مثل هذا التعامل في تزكية النفس من خلال التقدير الخاص بشخصية قد اصطفاها اللّه تعالى على البشرية جميعا...
وقبل أن نختم حديثنا عن هذه السورة، ينبغي لفت النظر إلى أنّ النص القرآني الكريم: طرح قبل ختام السورة موضوعا خاصا هو: المطالبة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الرسول (ص)، حيث ينبغي ألاّ نغفل عن الموقع الهندسي لهذا الطرح من عمارة السورة الكريمة...
ينبغي أن نتذكّر أنّ النصوص القرآنية عندما تقطع سلسلة الموضوع وتطرح خلاله موضوعا آخر إنما تسلك بهذا النمط منحى فنيا هو: لفت النظر
ص: 271
إلى خطورة هذا الطرح... علما بأن آية النور اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... فيما شكّلت المحور الفكري (تزكية النفس) قد طرحت موضوع الصلاة والزكاة، كما أن ختام السورة قد طرح موضوع التعامل الخاص مع النبيّ (ص)، وهذا يعني أنّ كلا من الصلاة والزكاة وإطاعة الرسول (ص) قد احتلّت موقعا هندسيا من عمارة السورة يرتبط مع سائر خطوطها التي تقدّم الحديث عنها، حيث لحظنا كيف أنّ السورة الكريمة بدأت بموضوع محدّد وختمت بالموضوع ذاته، وتخلّلت كلا من البداية والخاتمة موضوعات تحوم على فكرة محدّدة (تزكية النفس)، كل ذلك وفق تلاحم فنيّ بين الموضوعات بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه.
ص: 272
ص: 273
ص: 274
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً ** اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً وَ لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً.
بهذا المقطع تفتتح سورة الفرقان وأوّل ما نلاحظه في هذا الافتتاح أنّ النصّ القرآني الكريم يستخدم مصطلح (الفرقان) بدلا من (القرآن) تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ ومعنى (الفرقان) هو. التفريق بين الحقّ والباطل، وهذا يعني أن موضوعات السورة الكريمة سوف تحوم على هذه القضية قضية الحقّ والباطل والتفريق بينهما، طالما نجد أن القرآن الكريم لا يستخدم مصطلحا إلا وله دلالته أو انعكاساته على مجموع السورة بحيث يفصح مثل هذا الاستخدام عن عمارة السورة الكريمة من حيث هيكلها الهندسي الذي تتلاحم فيه جزئياته بعضا مع الآخر: كما سنرى. لقد طرح هذا المقطع جملة من القضايا منها: عدم اتخاذ اللّه ولدا، ولا شريكا ومنها: ملكيته تعالى للسماوات والأرض ومنها: أنه تعالى قدّر كلّ شيء تقديرا. و هذه القضايا سوف تعكس على موضوعات السورة: ما دامت قد طرحت في المقدمة.
وفعلا، نجد أن أوّل موضوع أو موقف تطرحه السورة بعد هذه المقدمات هو: موقف المشركين حيث أن المقدمة التي أشارت إلى أنه تعالى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك. هذه المقدمة قد انعكست فنيّا على أوّل موضوعات السورة حيث بدأ النّصّ بعرض موقف من يتّخذ دون اللّه
ص: 275
تعالى آلهة فقال وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً وَ لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً فالملاحظ أنّ هذه الآية فصّلت الكلام عن هذا الموقف بنحو يختلف عن باقي النصوص القرآنية وذلك: - كما نحتمل فنيا - بسبب من علاقة هذا التفصيل بمصطلح (الفرقان) الذي يعني تفريقه بين الحق والباطل حيث أنّ هذا التفريق يتطلّب تفصيلا عن موقف المشركين. وهذا التّفصيل يتمثل في أن الآية الكريمة أوضحت أوّلا بأنّ «الآلهة» الوثنية لا تخلق شيئا، ثم أوضحت بأنّها مخلوقة، ثم أوضحت ثالثا بأنها لا تملك أية فاعلية، ثم أوضحت رابعا مفردات هذه الفاعلية المفقودة لدى الأصنام وهي فاعلية الضّرّ والنفع والموت والحياة، والنشور. لا نغفل أنّ هذه الفاعليات التي تفتقدها الأصنام قد شطرها النّصّ إلى قسمين الأوّل هو قوله تعالى لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً والآخر هو قوله تعالى لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً حيث أن هذا التكرار لعبارة (لا يملكون) يعني - من وجهة النظر الفنية - أن الضر والنّفع شيء وأنّ الموت والحياة والنّشور شيء آخر، وأحدهما يفترق عن الآخر... ولسوف نرى كيف أنّ هذه التفرقة بين الفاعليات تنعكس على موضوعات السورة الكريمة، وأن قضية النّفع والضر من جانب والموت والحياة والنشور من جانب آخر ستكون لها دلالاتها فيما بعد. وهو أمر نلحظ جانبا منه - على سبيل المثال - عند عرض السورة الكريمة لليوم الآخر في مقطع لاحق حيث تقول الآية فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمٰا تَقُولُونَ فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً . فهذه الآية تشير إلى أن هذه الأوثان التي عبدوها سوف تكذّب أصحابها - في اليوم الآخر - وأنها لا تستطيع صرف العذاب عن المشركين أي: أنها لا تملك فاعلية على النفع وهو نفس المفهوم الذي طرحته هذه المقدّمة حيث انعكس فنيا على الأجزاء اللاحقة من السورة الكريمة كما لحظنا في هذا الموقف وكما نلحظه في مواقف لاحقة مما يكشف هذا عن إحكام السورة الكريمة من حيث تلاحم وتنامي جزئياتها
ص: 276
بعضا مع الآخر بالنحو الذي لحظناه وبالنحو الذى نقف عليه لاحقا (إن شاء اللّه).
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذٰا إِلاّٰ إِفْكٌ اِفْتَرٰاهُ وَ أَعٰانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جٰاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً * وَ قٰالُوا أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهٰا فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ قٰالُوا مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ لَوْ لاٰ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهٰا وَ قٰالَ اَلظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً ...
هذا المقطع من سورة الفرقان يتحدث عن ذهنية المنحرفين أو الكافرين الذين ناهضوا رسالة محمد (ص)، واتخذوا الأصنام آلهة لهم حيث عرض مقطع أسبق لجانب من ذهنياتهم التي تتعامل مع الأصنام.
وها هو الآن يعرض لذهنياتهم التي تواجه رسالة من السماء.
طبيعيا، لا نتوقع من الذهنية التي تعبد حجرا أصمّ : أن تتفتح أو أن تستجيب لرسالة السماء وفق المبادىء السليمة بقدر ما نتوقع التجديف والهزال في أمثلة هذه الذهنية الوثنية... وبالفعل: يتقدم المقطع ليعرض لنا شرائح من هذه الذهنية المثيرة للضحك والسخرية... وأول رد فعل لها حيال رسالة السماء هو: أنها (إفك) أو كذب افتراه محمد (ص)... ويقدّمون دليلا يعزّز هذا القول هو أن قوما آخرين أعانوا محمدا (ص) في هذا الافتراء، وقالوا: إن هذا مجرد أساطير.
من الطبيعي، ليس هناك أي ترابط بين هذه الردود من الفعل، أو هذه الاراجيف، فالأسطورة شيء، وما يردده الكتابيون - من يهود ونصارى - شيء آخر، كما لو أنه (كذب) شيء ثالث... وهذا يعني: أن هذه الاتهامات لا
ص: 277
ترتكن إلى أي منطق معقول...
لكن لنتابع: اتهاماتهم أو استدلالاتهم التي يعززون بها وجهة نظرهم... يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام... ويقولون: ما له يمشي في الأسواق... ويقولون: لو ألقي إليه كنز... ويقولون: لو كان لديه بستان...
ترى، ما هي علاقة البستان بالرسالة ؟ أو علاقة الكنز بذلك ؟. إذا كان المعيار هو: تملك الكنز والمزرعة، فهناك عدد كبير ممن يملكون ذلك وأكثر، فهل تصح نبوّتهم - لو ادّعوا ذلك ؟ بيد أنّ إنكارهم للرسول (ص) بكونه يأكل الطعام، وبكونه يمشي في الأسواق. يظل مستندا إلى ذهنية أخرى هي: أن يختلف عن البشر (فلا يتناول الطعام مثلا) وحينئذ ما فائدة البستان الذي طالبوا بأن يتملكه الرسول (ص)؟ أو ينبغي عليه ألاّ يمشي في الأسواق، وحينئذ هل يطالبونه بأن يجلس في البيت مثلا: وتحسم المشكلة ؟ ثم يطالبون بأن يعاونه - لا أقل - ملك من السماء، لتصح رسالته...
إن أمثلة هذه الاقتراحات أو الاعتراضات بالرغم من كون أحدها لا علاقة له بالآخر، يمكن أن تصح لو كان المنحرفون - وهم يعبدون الأصنام - استندوا إلى واحد من تلكم الإمكانات التي افترضوها... فهل أن الأصنام المعبودة، قد اقترن معها ملك من السماء، وهل تملك كنزا أو مزرعة، صحيح، أنها لا تأكل الطعام ولا تمشي في الأسواق: لكن كل ما هو غير بشري وحيواني: لا يمشي في الأسواق ولا يأكل الطعام، فهل تنسحب عليه سمة حمل الرسالة ؟.
إن النص القرآني الكريم: حينما يقدم لنا هذه الشرائح من ذهنية المنحرفين، إنما يستهدف لفت النظر إلى كون هذه الذهنية، فاقدة لأبسط مقومات الاستدلال العقلي، لذلك سنجد - في مقطع لاحق - كيف أن النص
ص: 278
القرآني الكريم يقدم تشبيها يقارن من خلاله بين الكفار و بين الأنعام، حيث لا يماثل بين الكافر والحيوان فحسب بل يدعه أضلّ سبيلا... وبالفعل، فإن من يصدر عن أمثلة هذه الذهنية التي لا تفقه أبسط قواعد التفكير، لا بدّ أن تكون أضلّ من الأنعام بالفعل: كما سيتضح ذلك تماما عندما نعرض للمقطع الذي يتحدث عن هذا الجانب... إلا أننا نستهدف هنا أولا لفت النظر إلى أن النص القرآني الكريم إنما يقدّم للقارىء هذه الشرائح الذهنية للكافرين: فلكي يقف القارىء على هزال ذهنيتهم، ومن ثم يسقطهم من حسابه حيث يستخلص بأن كل منحرف عن مبادىء السماء لا بد أن تطبع ذهنيته أمثلة هذا الهزال أو الجدب الذي لا يصدر حتى عن الحيوان...
أخيرا، ينبغي ألاّ نغفل من أن هذا المقطع الذي يعرض للقارىء نموذجا من ذهنية هؤلاء المنحرفين، إنما يشكّل جزء من عمارة السورة الكريمة التي طرحت قضية (الذهنية الوثنية) في مقدمتها، وبدأت تفصّل الحديث عنهما في هذا المقطع وما بعده (كما لحظنا في التشبيه المتقدم) مما يفصح ذلك عن إحكام المبنى الهندسي للسورة الكريمة.
قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسّٰاعَةِ وَ أَعْتَدْنٰا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّٰاعَةِ سَعِيراً * إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً * وَ إِذٰا أُلْقُوا مِنْهٰا مَكٰاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنٰالِكَ ثُبُوراً * لاٰ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً .
هذا المقطع الجديد من سورة الفرقان، يتحدث عن الجزاء الأخروي الذي ينتظر المشركين، حيث عرضت السورة - في مقاطع سابقة - لجوانب متنوعة من سلوكهم حيال رسالة الإسلام... أما الآن فتعرض لجانب أو لموقف من مواقف الجزاء المترتبة على السلوك المذكور...
وأول ما يلاحظ في هذا المقطع: احتشاده بسمات فنية متنوعة تعتمد
ص: 279
عنصري (الصورة) و (الحوار).
أمّا عنصر الصورة الفنية فيلاحظ في «الاستعارة» الآتية عن جهنم إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً ... إن جهنم (أعاذنا اللّه منها) من الممكن - بما يشرف عليها من عنصر واع - (ومنهم: خزنتها) أن تتحرك حيال الكافرين بسلوك واع: كما لو رأتهم - قبل أن يدخلوها - وهي تتميز غيظا، أو كما لو وعى الكافرون تغيظها، وحينئذ يتحسس القارىء بأنه أمام تحرك واع، أي أمام مشاعر غاضبة من أجل اللّه تعالى - هي: مشاعر جهنم، وتكون جهنم حينئذ واحدة من العناصر الكونية التي تمتلك وعيا: كما تشير إلى ذلك: نصوص القرآن والحديث من أن الكون كله يمتلك وعيا فيسبّح الله ويغضب أو يسر أي ينفعل بعمل الطاعات أو المعاصي الصادرة عن الآخرين، بخاصة في اليوم الآخر الذي ينطق فيه اللّه تعالى الجوارح لدى الإنسان أو الأرض أو سواها: بمثابة شواهد على الطاعة أو المعصية.
وفي ضوء هذه الحقائق: يكون القارىء أمام قضية واقعية هي، أن جهنّم إذا رأت الكافرين من مكان بعيد، حينئذ يسمع الكافرون تغيّظها وزفيرها...
لكن، حتى في حالة هذا الافتراض، فإن القارىء يواجه في هذه الصورة (عنصرا مجازيا) هو: أن الكافرين يسمعون (تغيّظ) جهنم... بصفة أن (التغيظ) هو (عملية انفعال من الغضب) أي: عملية نفسية أو داخلية، وحينئذ، فإن ما هو نفسي (لا يسمع) (بل يرى)، أو يحس فالتغيظ لا يقترن بحركة صوتية حتى يسمع، بل يقترن بملامح خارجية يمكن أن يراها الشخص أو يتحسس ذلك.
وهذا يعني أن الصورة الواقعية نفسها قد صيغت مشفوعة بصورة فنية استعارية هي: سماع التغيّظ...
وهذا كله إذا افترضنا أن الصورة الكلية إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ هي
ص: 280
صورة واقعية: قد قرنت بصورة مجازية... أما إذا قلنا بأن الصورة الكلية المذكورة هي (صورة مجازية) حينئذ نواجه صورة استعارية هي: إكساب جهنم صفة بشرية هي «الوعي» و «البصر»، لأن رؤية جهنم للكافرين، تعني أن النص خلع عليها حاسة (البصر)، ومن ثم فإن «الوعي» لدى من يبصر لا ينفصل عن شخصيته: كما هو واضح، بصفة أن من «يبصر» لا بد أن «يكون ذا وعي» أيضا...
وبغض النظر عن كون هذه الصورة «مجازية» أو «واقعية» أو (واقعية - مجازية)، فإن هناك خصائص فنية متنوعة قد اقترنت بصياغة هذه الصورة المدهشة فنيا، منها: اعتمادها على ما يسمّى - في اللغة الأدبية - ب (تبادل الحواس)، أي: استخدام حاسة مكان أخرى، كما لو خلعنا على حاسة السمع صفة ترتبط بحاسة البصر، أو العكس، حيث لحظنا كيف أن النص خلع على (ما هو نفسي وهو التغيظ) خلع عليه صفة (الاستماع): مع أن التغيظ - وهو الغضب - لا (يسمع) بل (يحس) أو (يرى) من خلال ملامح الوجه مثلا: كما أشرنا... وأهميته مثل هذا التبادل بين الحواس أو بين المظاهر المتميزة بعضا عن الآخر، سوف نوضحها لاحقا بالنسبة إلى هذه الصورة الفنية التي جاءت في سياق الحديث عن المشركين الذين جسّدوا واحدا من موضوعات السورة الكريمة، حيث سنجد انعكاساتها على المقاطع اللاحقة من النص، بنحو يفصح عن مدى إحكامه من حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الاخر، بالنحو الذي سنوضحه لاحقا إن شاء اللّه.
قال تعالى. إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً * وَ إِذٰا أُلْقُوا مِنْهٰا مَكٰاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنٰالِكَ ثُبُوراً لاٰ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ...
ص: 281
إن الأهمية الفنية لهذه الصورة (صورة جهنم: و هي ترى المجرمين من مكان بعيد) ثم صورة المجرمين: وهم يسمعون لجهنم تغيظا وزفيرا، تتمثل في أن النص القرآني الكريم بادل بين حواس الإنسان: فجعل تغيّظ جهنم - أي غضبها - يسمع، مع أن الغضب يحسّ أو يرى من خلال الملامح... والسرّ الفني لهذا التبادل بين ما هو (نفسي) وما هو (سمعي) هو: أن جهنم تحمل مادة هي: النار، والنار ترى ويسمع صداها... والصدى له دلالته بالنسبة إلى ردّ فعل الكافر حيال رؤيته لجهنم، ذلك أن صدى النار يفصح عن درجة فخامتها، وحينئذ تجيء صورة (السمع لتغيّظها وزفيرها) ذات دلالة كامنة.
لكن ما هي علاقة التغيظ بالسمع ؟. إن علاقة (الزفير) بالسمع أمر واضح، لذلك استخدم النص عبارة (الزفير)، إلا أن التغيّظ بما أنه انفعال حينئذ: هل يسمع الانفعال أيضا؟... في تصورنا - فنيا - أن الغيظ أو الغضب بالرغم من كونه ظاهرة (انفعالية) قد يترجم إلى أشكال مرئية أو أصوات مسموعة، أو لنقل أن حواس الإنسان يتبادل بعضها مع الآخر بحيث يبصر الإنسان ما هو المسموع، أو يسمع ما هو المرئيّ من الأشياء: نتيجة حساسيته الشديدة حيال الشيء سارا كان أو مؤلما... لذلك، فإن سماع الكافر لغضب جهنم يظل تعبيرا عن شدة انفعاله حيال غضبها حتى يخيّل إليه أن غضبها أصوات هادرة تصب عليه عبارات الويل: بخاصة أن النص قرن «التغيّظ» بعبارة «الزفير» التي تجسد صوت النار (سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً) وحينئذ يقترن غضبها بزفيرها فيسمع الغضب مقترنا بسماع الزفير: كما هو واضح.
وهنا يثار سؤال آخر.
إن النص يقول: بأن جهنم إذا رأت الكافرين سمعوا تغيظها وزفيرها، ولم يقل إن الكافرين إذا رأوا جهنم سمعوا تغيظها وزفيرها... فما هو السرّ الفنيّ وراء ذلك ؟.
ص: 282
في تصوّرنا - فنيا - أن النص من الممكن أن يكون قد أستهدف لفت النظر إلى أن جهنم تنتظر هؤلاء الكفار ليلاقوا جزاءهم، وحينئذ ما إن تراهم حتى يسمعوا تغيّظها وزفيرها، أي: ما ان تراهم حتى تكاد تدعوهم أو تكاد تلقفهم، أو تكاد تلوّح لهم بالمصير الذي ينتظرهم... وحينئذ يشبه هذا الموقف من جهنم: موقفها الذي ذكره القرآن الكريم في نص آخر وهو قولها (هل من مزيد) جوابا للسؤال القائل (هل امتلأت ؟)...
لذلك نجد أن القسم الآخر من هذا المقطع القرآني المتضمن لصورة استماعهم للتغيظ والزفير: يقول وَ إِذٰا أُلْقُوا مِنْهٰا مَكٰاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنٰالِكَ ثُبُوراً أي: هتفوا قائلين (يا ويل) أو يا ويلاه أو واهلاكاه الخ. ويجيء الجواب من خزنة جهنم قائلا: لاٰ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ... إن هذا الحوار بين الكافرين وخزنة جهنم: يلقي بعض الضوء على حقيقة الموقف... فقد يكون من الممكن أن يكون تغيّظ جهنم (رمزا) لغضب الخزنة: خزنة جهنم، بصفة أن الخزنة يمارسون أدوارهم الموكلة إليهم في إدارة الموقف، لذلك نجد (في سور أخرى) أن الخزنة يسألون ويعلّقون ويسخرون من الكفار (و هم يحترقون في نار جهنم) مما يعني: أن هؤلاء الخزنة يجسّدون عنصرا يساهم في تصعيد درجة العذاب النفسي للكافرين: من خلال مواقفهم المشار إليها...
إذن: جاءت الصورة الفنية القائلة إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً متجانسة فنيا مع عنصر الحوار الذي يعرض رد فعل الكفّار حيال هذا الهول الذي يلحظونه، وجواب الخزنة على ذلك، مما يفصح مثل هذا التجانس: عن إحكام النص: من حيث علاقة أجزائه بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 283
قال تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَقُولُ : أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبٰادِي هٰؤُلاٰءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ وَ لٰكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كٰانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمٰا تَقُولُونَ فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاٰ نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذٰاباً كَبِيراً .
هذا المقطع من سورة الفرقان، يتناول الجزاء الأخروي الذي ينتظر المشركين: من حيث علاقتهم بعبادة الأصنام، أو باتخاذهم الشركاء للّه تعالى من بشر أو جنّ أو ملائكة...
والمهم، أن المقطع قد اعتمد عنصر «الحوار» في عرض هذا الموقف، حيث أكسبه حيوية فنيّة ممتعة: من خلال جعله هؤلاء الشركاء (ينطقون) و (يتحاورون) مع (الله تعالى) على هذا النحو: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبٰادِي هٰؤُلاٰءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ .
لقد بدأ النص بعرض الحكاية أولا، فسرد كيفية الحشر: حشر المشركين وما يعبدونهم من دون اللّه تعالى... ثم أجرى الحوار الآتي، بادئا ذلك من قبل الله تعالى حيث يسألهم قائلا: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبٰادِي هٰؤُلاٰءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ أهمية هذا التساؤل (من وجهة نظر الفن) تتمثّل في كون المحاورة مباشرة مع المعبودين دون اللّه تعالى: تكشف عن جملة خصائص فنية، منها:
أن اللّه تعالى هو الذي يتولّى محاكمة القوم في اليوم الآخر، وهذا وحده كاف في إكساب الموقف هولا يتناسب مع هول أو ضخامة المفارقة التي صدرت عن المشركين في سلوكهم الوثني... ومنها: أن المعبودين من دون اللّه تعالى (وهم: إمّا الذين جعلوا شركاء مثل عيسى (ع) وسواه)، إن هؤلاء المعبودين أنفسهم، قد جعلوا (شهودا) في المحاكمة، ومنها: أن «الشهود» هم: طرف القضية التي يحاكم المشرك من خلالها... ومعلوم، أن المحاكمة عندما تتمّ
ص: 284
من قبل الله تعالى أولا، ثم من خلال الشهود ثانيا من خلال كونهم طرفا فى القضية ثالثا حينئذ تكتسب المحاكمة عنصرا إقناعيا يستهدف النص تحقيقه في هذا الميدان.
ومن الطبيعي، أن عنصر (الإقناع الفني والوجداني) سوف يتحقق في أرفع مستوياته: عندما تجيء اعترافات (الشهود) لغير صالح هؤلاء المنحرفين، وهذا ما عرضه النص، من خلال الحوار الآتي: قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ... هذا الجواب أو الاعتراف - فضلا عن كونه يحسم القضية لغير صالح المشركين - ينطوي على خطورة فنية أخرى هي: أن النص القرآني الكريم، بدلا من أن يقرّر الحقائق من خلال الكلام مباشرة، أي: بدلا من أن يقول مثلا (لا ينبغي للمخلوقات أن يتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى) نجده - بدلا من ذلك - أجرى هذه الحقيقة على لسان آخرين هم.
الأصنام أو الملائكة أو البشر الذين جعلوا شركاء للّه تعالى من قبل المنحرفين... وحينئذ عندما يقرّ الصنم نفسه أو الملك أو الشخص الذي جعل شريكا: عندما يقرّ بأنه لا ينبغي (أَنْ نَتَّخِذَ) أولياء من دون الله تعالى، حينئذ يبلغ عنصر (الاقناع الوجداني) قمّة ما يستهدفه من التوصيل للحقائق التي طرحها النص القرآني الكريم...
والآن، بعد أن يتم عرض هذا الموقف وفق عنصر المحاورة مع الشهود، يتجه النص إلى هؤلاء المشركين قائلا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمٰا تَقُولُونَ فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاٰ نَصْراً ...
إذن: نحن الآن أمام عرض فني لعملية (محاكمة): يمارسها اللّه تعالى، وهناك مجرمون يقدّمون إلى المحاكمة وهناك إلى جانبهم: «شهود»...
الشهود، يقال لهم «هل أنتم أضللتم هؤلاء؟». الشهود: ينفون ذلك، ويقولون: لا ينبغي أن نتخذ من دونك أولياء... المجرمون يضطرون إلى
ص: 285
السكوت لأن من يعبدونهم قد نفوا مشروعية هذا السلوك، و حينئذ لا بد أن يصابوا بخيبة أمل كبيرة حينما يجدون أن من عبدوهم في الدنيا قد تبرأوا من هذا السلوك... ولنا حينئذ أن نقدر مدى ما سوف يكابده هؤلاء من توترات وتمزقات وانشطارات نفسية في مثل هذا الموقف.
أخيرا، ينبغي ألا نغفل عن المبنى الهندسي لهذا المقطع وصلته بمقدمة السورة التي قالت بأن من يتخذ من دون الله أولياء: لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وها هو النص يقول الآن (فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاٰ نَصْراً) ربط بين مقدمة السورة ووسطها بهذا النحو من الصياغة، مفصحا بذلك عن مدى إحكام وتلاحم جزئياته، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوٰاقِ وَ جَعَلْنٰا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كٰانَ رَبُّكَ بَصِيراً * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً .
هذا المقطع من السورة، امتداد لمقاطع سابقة تتحدث عن سلوك المشركين حيال رسالة الإسلام، حيث كان أحد أشكال سلوكهم هو أن قالوا عن محمد (ص) مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ لَوْ لاٰ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً .
هذا الكلام قد أوردته السورة في أوائلها، و ها هو المقطع الجديد يقدّم إجابة على هذا السؤال فيقول وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوٰاقِ ... الملاحظ هنا، هو أن النص لم يقدّم إجابة على كلام المشركين في حينه، بل عرض في أوائل السورة جملة من مواقف المشركين مثل قولهم ان القرآن إفك وأساطير، وقولهم: إنزال اللّه ملائكة مع
ص: 286
النبيّ (ص)، وقالوا: أو يلقى إليه كنز... إلخ. لكن بما أن السورة القرآنية الكريمة بمثابة عمارة فنية «حينئذ فإن كل قسم من السورة يتكفل بالرد على هذه الاعتراضات والمهازل...» وها هو الآن يقدّم الردّ فيقول: بأن كلّ الرسل سابقا كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: علما بأن المناخ الاجتماعي - في عصر رسالة الإسلام - كان يخبر الكتابيين من يهود ونصارى وسواهم مما لم يقترن باعتراضاتهم، وحينئذ يكون هذا الرد، إفحاما لهم دون أدنى شك...
هنا عاد النص من جديد فطرح سلوكا سبق أن ذكره في أوائل السورة أيضا الا وهو قولهم (لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عليه مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي: أن اعتراضاتهم هنا تنصبّ على أن يكون مع الرسول (ص) ملك يسانده في مهمة الرسالة... لكن في المقطع الذي نتحدث عنه طرح هذا الكلام في سياق جديد هو قولهم (لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ ، أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا) فالملاحظ هنا أن اعتراضاتهم الجديدة تصبّ في منحى آخر ليس هو المطالبة بملك يساند الرسول، بل بملك يتولّى مهمة الرسالة، أو بأن يروا اللّه تعالى... وهذان الاعتراضان، لم يجب النص عليهما بعكس الاعتراض الأول الذي قال (مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ ) ... والسرّ الفني - كما نحتمل - هو: أن المطالبة بنزول الملائكة وبرؤية اللّه تعالى: تظل كلاما لا مسؤولا لا يحمل أدنى معقولية بقدر ما يجسّد هزال الذهن وانحطاطه إلى درجة تستوجب عدم الرد، بالقياس إلى اعتراضاتهم القائلة (مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ ) لإمكان أن يتصوّر هؤلاء الحمقى بأن الرسول ينبغي أن يتميز عن البشر العبادي من سلوكه حيويا واجتماعيا... إلخ. لذلك تكفل بالرد عليهم، بعكس اعتراضاتهم الأخرى التي لامجال لأي مسوّغ ذهني لها:
حتى لو بلغ الذهن نهاية انحطاطه، لذلك لم يردّ عليهم النص، كما قلنا.
ص: 287
بيد أن النص (و هذا منحى فنّي له أهميته و جماليته من حيث البناء الهندسي للنص) تكفل بردّ خاص على هذه الاعتراضات، ألا وهو نقل هؤلاء المنحرفين إلى البيئة الأخروية، وعرض مصائرهم الكسيحة التي تنتظرهم نتيجة لاعتراضاتهم اللامسؤولة، حيث قال النص مباشرة يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاٰئِكَةَ لاٰ بُشْرىٰ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ...
إن هذه النقلة الفنية من بيئة الدنيا إلى بيئة الآخرة، تكشف عن بعد فنيّ في غاية الامتاع، فالمنحرفون قالوا (لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا) ، وحينئذ جاء الجواب: إن يوم القيامة هو اليوم الذي يرون فيه الملائكة، وبذلك يكون النص قد استخدم منحى فنيّا جميلا ومدهشا حينما قال لهم بأن يوم القيامة سوف يرون الملائكة، أي: أن العذاب ينتظرهم جزاء وفاقا لهذا القول، وبذلك يكون النص قد استخدم مهمة مزدوجة فنيا، ذلك أن مطالبتهم بنزول الملائكة ورؤية اللّه (بما أنها مطالبة غير مسؤولة، ولا تتطلب الرد) حينئذ لا بدّ من الرد عليهم بطريق آخر يتناسب مع لا مسؤولية كلامهم، فكان هذا الرد (ساخرا) منهم، ملوّحا لهم بأن الملائكة الذين يطالبون بإنزالهم لرسالة الإسلام، وبأن اللّه تعالى فيما يطالبون برؤيته، ملوّحا بأن الرؤية والنزول سوف تحوّل إلى رؤيتكم لملائكة يقومون بمعاقبتكم في اليوم الآخر، وبهذا المنحى، يكون النص قد أحكم بناء جزئياته من حيث صلتها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنٰاهُ هَبٰاءً مَنْثُوراً * أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمٰاءُ بِالْغَمٰامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاٰئِكَةُ تَنْزِيلاً * اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمٰنِ وَ كٰانَ يَوْماً عَلَى اَلْكٰافِرِينَ عَسِيراً * وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً * يٰا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جٰاءَنِي وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِلْإِنْسٰانِ خَذُولاً .
ص: 288
قال تعالى: وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنٰاهُ هَبٰاءً مَنْثُوراً * أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمٰاءُ بِالْغَمٰامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاٰئِكَةُ تَنْزِيلاً * اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمٰنِ وَ كٰانَ يَوْماً عَلَى اَلْكٰافِرِينَ عَسِيراً * وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً * يٰا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جٰاءَنِي وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِلْإِنْسٰانِ خَذُولاً .
هذا المقطع من السورة الكريمة، يتحدث عن اليوم الآخر وأهواله وما تكتنفه من مواقف وردود فعل بالنسبة إلى المنحرفين، حيث تطرح جملة من الموضوعات والحقائق التي يستهدف النص توصيلها إلى القارىء...
من هذه الحقائق: إن عمل الكافر - في الدنيا حتى لو كان فيه بعض الإيجاب، لا ينتفع به أخرويا بل يجعل هباء منثورا... والهباء هو الغبار، والمنثور هو المنتشر، حيث تشكّل هذه الصورة (هَبٰاءً مَنْثُوراً) ما نسميه - في اللغة الأدبية - ب (الصورة التمثيلية)، أي الصورة التي تقوم على إحداث علاقة بين شيئين: يكون أحدهما تجسيما وتمثلا للاخر، فيكون (الهباء المنثور) تجسيما للعمل الذي لا ثواب فيه... ومن الواضح، أن هذه الصورة الفنية تحمل دلالات ذات أهمية كبيرة من حيث توضيحها وتعميقها للغرض الذي يستهدفه القرآن في صياغة هذه الصورة الفنية.
فالغبار المنتشر يمضي في الفضاء ثم يتلاشى دون أن يقترن بأية فائدة يمكن أن يفيد منها الإنسان... كذلك: عمل الكافر، أو مطلق الأعمال التي لا تعمل من أجل اللّه تعالى حتى لو كانت إيجابية، لأنّ المعيار فى العمل: أن يكتسب طابعا عباديا كما هو واضح...
ومن المفهومات التي طرحت في هذا المقطع هو: ردّ فعل الكافر، أو مطلق الفساق في اليوم الاخر عندما يواجهون شدائد الموقف، حيث رسم القرآن الكريم ردّ فعل الظالم على هذا النحو: وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً .
إن هذا الموقف الذي يصدر عن الظالم عند مواجهته لشدائد اليوم
ص: 289
الآخر، هذا الموقف قد رسمه النص وفق سمات فنية مدهشة، حيث اعتمد عنصر الصورة و الحوار لتجسيد الموقف... أما الصورة فتتمثل في (الصورة الرمزية) التي تقول (وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ ) فعملية عضّ اليد هي (رمز) لمفهوم (الندم)... وبالرغم من أن بعض النصوص المفسرة تذهب إلى أن عضّ اليد هو عمل حقيقي يشكل ردّ فعل جسمي حيال الشدائد التي يواجهها، أي: أن الندم يستجره إلى أن يأكل يديه، إلا أننا نميل إلى أن تكون هذه الصورة (مجازية) أى: تكون (رمزا) لعملية الندم، كما لا نستبعد أيضا أن يكون رد الفل النفسي (وهو الندم) يجر صاحبه إلى رد فعل جسمي هو: عضّ اليد بالفعل، وهو ما نلحظه في السلوك اليومي للبشر حيث يعضّون الأنامل عندما يواجهون الشدة... وفي الحالين، تظل هذه الصورة (عضّ اليد) - سواء أكانت حقيقة أم مجازا - تعبيرا عن شدة الندم، وهو ما يستهدفه النص.
وهذا فيما يتصل بعنصر الصورة.
أمّا ما يتصل بعنصر «الحوار»، فالملاحظ أن النص القرآني الكريم، بعد أن قدّم صورة (عض اليد): أجرى حينئذ على لسان الكافر (حوارا داخليا) أي:
الحديث مع النفس، ليجمع بين رسم المظاهر الداخلية والخارجية، فالمظاهر الداخلية هي الندم، والمظاهر الخارجية هي انعكاسات جسمية ولفظية، والانعكاس الجسمي قد تمثّل (في حالة ذهابنا مع التفسير القائل بأن عض اليد هو حقيقة) في عض اليد، وأمّا المظهر اللفظي فيتمثل في قول الكافر: مخاطبا نفسه يٰا وَيْلَتىٰ . لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً ... إن أهمية (الحوار الداخلي) تتمثل في كشفه لأفكار الإنسان فيما بينه وبين نفسه، فقد يتحدث الإنسان مع الآخرين، ولكن هذا الحديث قد لا يعبّر عن واقع نفسه: فقد يكذب الإنسان أو يجامل أو ينافق حينما يتحدث مع سواه... لكن عندما يتحدث مع نفسه يكون حينئذ صادقا... لذلك عندما جعل النص الكافر يتحدث مع نفسه قائلا
ص: 290
(يٰا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً) إنما كشف بذلك عن واقع ما يحدث بالنسبة للكافر حيال مواجهته لشدائد الموقف، حيث ركز النص على قضية (الأخلاء أو الأصدقاء) وتأثيرهم على سلوك الإنسان، فالإنسان قد يضلّ ويهلك نتيجة تأثره بصديق أو قريب أو أي شخص آخر يلتقيه، فيما يزيّن له الضلال فيتأثر بسلوكه، ويخسر الموقف... ومن هنا، جاء هذا (الحوار الداخلي) - من الزاوية الفنية - مكتسبا أهمية كبيرة من حيث جعله الكافر يتحدث مع نفسه، كاشفا بذلك أن (الاخلاء) في الدنيا. إذا كانوا ضالين فإنهم يتسببون في إضلال الآخرين: كما حدث لهؤلاء الذين رسمهم النص القرآني الكريم...
أخيرا، ينبغي ألا نغفل عن أنّ هذا المقطع: يظل على صلة بالمقاطع السابقة التي تحوم على رسم سلوك المشركين وانعكاساته أخرويا، فيما تفصح مثل هذه الصلة عن إحكام المبنى الهندسي للسورة الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلرَّسُولُ يٰا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هٰذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ هٰادِياً وَ نَصِيراً * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً .
هذا المقطع من سورة الفرقان يتحدث عن جانب آخر من سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام... أنه يتحدث عن شكوى الرسول (ص) من قومه الذين أعرضوا عن القرآن ومبادئه، ويتحدث عن الجدال أو العناد أو المماحكة التي يصدرون عنها في تعاملهم مع الرسول (ص) من نحو قولهم «لولا نزل القرآن جملة واحدة بدل نزوله نجوميا أو تدريجا إلخ».
وقد ردّ القرآن الكريم على شكوى الرسول، قائلا: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ
ص: 291
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ ... وردّ على المشركين الذين اعترضوا على نزول القرآن نجوما، قائلا كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً ...
ويعنينا من هذه الموضوعات المطروحة في المقطع: المنحى الفنّي الذي سلكه النص القرآني في صياغتها حيث اعتمد عنصر «الحوار» في صياغة هذه الموضوعات... لقد تضمّن المقطع جملة من المحاورات، منها: محاورة الرسول مع الله تعالى، ومحاورة اللّه تعالى مع الرسول (ص)... ثم محاورة المنحرفين، ثم الردّ عليهم.
المحاورة الأولى تمثلت في شكوى الرسول (ص) من المنحرفين:
وَ قٰالَ اَلرَّسُولُ يٰا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هٰذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً ... والمسوّغ الفنّي لهذا الحوار يتمثّل في إبراز حرص الرسول (ص) على تبليغ الرسالة، وحماسته في أن يستجيب لها قومه، حيث أنّ إبراز مثل هذا الحرص: يتبلور بنحو واضح، حينما يتمّ على لسان الرسول (ص) نفسه... كما أن الردّ على شكواه: يجعل الموضوع موسوما بالحيوية من حيث إشاعة الاطمئنان والسكينة في فؤاد النبيّ (ص)... ولذلك جاء الردّ القائل: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ : جوابا محفوفا بإشاعة الاطمئنان وتفريجا للشدائد التي يكابدها الرسول (ص)...
ولهذا السبب نفسه، نجد (من الزاوية الفنية) أن الحوار الآخر الذي تمّ بين المشركين من جانب، وبين اللّه تعالى والرسول (ص) من جانب آخر: قد جاء متجانسا مع الحقائق المطروحة في الحوار السابق... فالمشركون قد اعترضوا على نزول القرآن نجوما أو تدريجا، قائلين: لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً ... ثم جاء الجواب: كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ ... فتثبت الفؤاد يعني: إشاعة الطمأنينة في النفس، وهو نفس الموضوع الذي تضمنه الحوار السابق، إلا أنه جاء من خلال منحى فنيّ غير مباشر.
ص: 292
ولكي يتبلور هذا الجانب بشكل أشدّ وضوحا، نجد أن القرآن الكريم يعرض بعد هذا الكلام: سلسلة من قصص الأنبياء السابقين، بغية التفريج عن الشدائد التي يكابدها الرسول (ص)، فيقول: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰا مَعَهُ أَخٰاهُ هٰارُونَ وَزِيراً ... لا نغفل: أن استهلال العنصر القصصي بحكاية موسى (ع): ذات مغزى فنيّ ، بصفة مكابدة هذا الأخير لشدائد كثيرة، كما ينبغي ألاّ نغفل عن أنّ ذكره لأخيه هارون (ع) وجعله وزيرا يظل مرتبطا أيضا بقضية الشدائد، حيث أن مساندة هارون لأخيه: تخفيف للشدائد المشار إليها...
بعد ذلك: عرض النص حكايات أخرى عن قوم نوح (ع) وعن أقوام عاد وثمود وأصحاب الرسّ : وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمّٰا كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ أَغْرَقْنٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰاهُمْ لِلنّٰاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ عَذٰاباً أَلِيماً * وَ عٰاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحٰابَ اَلرَّسِّ ...
لنلاحظ أن عرض هذه الحكايات أو الأقاصيص، له مسوّغه الفني: من حيث الموقع الهندسي للسورة الكريمة... قد لحظنا أن المسوّغ الفني لعرض أقصوصة موسى وهارون قد تمثّل في مجانسة ذلك لشدائد النبيّ (ص)، وأمّا الأقاصيص الأخرى، فإن مجانستها: تتمثل في كون مجتمع نوح يجسّدون قمة المفارقة، كما يجسّدون نموذجا للعقاب الماحق الذي تعرّضوا له، وأمّا أصحاب عاد وثمود والرس: فلأنّ آثار إبادتهم لا تزال - عصرئذ - محفورة في ذاكرة المنحرفين، نظرا لمشاهدة المواقع الجغرافية لبعضها وهذا ما صرّح النص به (وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ اَلسَّوْءِ ...) أو: لأن قصصهم - واضحة في أذهان الناس في ذلك الحين...
وأيا كان، فإن ما يعنينا من ذلك هو: الموقع الهندسي لهذه القصص، حيث جاء العنصر القصصي متآزرا مع عنصر «الحوار» في توظيفهما فنيا لإنارة الأفكار المطروحة في السورة الكريمة، مما يكشف ذلك عن الإحكام الهندسي
ص: 293
للنص من حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.
***
قال تعالى: وَ إِذٰا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ هُزُواً أَ هٰذَا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّٰهُ رَسُولاً * إِنْ كٰادَ لَيُضِلُّنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا لَوْ لاٰ أَنْ صَبَرْنٰا عَلَيْهٰا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ اَلْعَذٰابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً .
هذا المقطع من سورة الفرقان امتداد لمقاطع سابقة تتحدّث عن سلوك المشركين حيال النبيّ (ص) ورسالة الإسلام.
الجديد في هذا المقطع هو: إبراز السلوك الساخر في تعامل المشركين، مقرونا بالحديث عن أسلوبهم الذي يبتعث السخرية أيضا... وهذا منحى فنّي له جماليته الفائقة في رسم الشخصيات... فالمنحرفون يسخرون مق النبيّ (ص) قائلين أَ هٰذَا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّٰهُ رَسُولاً ولكنّ طريقة استدلالهم نفسها هي التي تنطوي على السخرية. في واقع الأمر...
ولكي يبرهن النص القرآني الكريم - بطريقة فنيّة غير مباشرة - بأن المنحرفين هم أحقّ بالسخرية، يقدّم لنا حينئذ شريحة من ذهنيتهم التي تبتعث على السخرية، فيعرض لنا «حوارا» يجريه على ألسنتهم بهذا النحو: (إن كاد - أيّ النبيّ (ص) - لَيُضِلُّنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا لَوْ لاٰ أَنْ صَبَرْنٰا عَلَيْهٰا )... إن هذا الحوار له أهميته الفنية الفائقة، حيث استهدف النص إبراز ذهنية المشركين من خلال جعلهم ينطقون بألسنتهم ليفتضح أمرهم، وليكتشف القارىء مدى الهزال والجدب والتخلّف الذي يطبع هؤلاء المنحرفين... فالمنحرفون يتحدثون فيما بينهم قائلين «ان النبيّ (ص) كاد أن يضلّنا عن عبادة الأصنام، لولا أن وقفنا موقفا حازما من ذلك»... إنّ هذا الجواب مثير للسخرية إلى درجة لا
ص: 294
يمكن أن يضارعها أيّ تخلّف ذهني لدى البشر، فالدعوة إلى التوحيد يعدّونها محاولات تضليلية في الصد عن عبادة الأصنام، والتخلّي عن عبادة الأصنام يعدّونه: محاولات تضليلية... والصبر على عبادة الأصنام يعدونه سلوكا باعثا على الاعتزاز والفخر بحيث يتبجحون قائلين بما معناه (لولا أننا صبرنا على عبادة الأصنام، لكاد الرسول يضلّنا عن هذه العبادة للأصنام)... فالصبر على عبادة الصنم يعدّ فضيلة وعبادة الصنم تعدّ: هداية، والإرشاد إلى توحيد اللّه تعالى: يعدّ ضلالا.
هذا هو نمط الذهنية التي يصدر عنها المنحرفون وكل المنعزلين عن مبادىء السماء... وحيال مثل هذه الذهنية، ماذا نتوقع من الردّ عليهم ؟.
القرآن الكريم - يقدّم في هذا السياق - تشبيها فنتا يجسّد قمّة ما يمكن أن نتصوره من التشبيهات التي تلتقط من الواقع ما هو أشدّ لصوقا به، الا وهو الصورة الفنية القائلة عن هؤلاء المنحرفين: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ... إن القارىء قد يقول: أنّ الأنعام أو البهائم لا تعقل شيئا سوى اهتدائها إلى إشباع غرائز الطعام والجنس والدفاع، خارجا عن ذلك، فإن تفكيرها مغلق تماما عن الاهتداء إلى أية حقيقة في الحياة،... فهل يماثلها المنحرفون من البشر في هذا الانغلاق أو يفوقونها انغلاقا: كما قرّر النّص القرآني ذلك ؟.
الحق، أن البشر الذين يعدّون الهداية ضلالا، والضلال هداية، والصبر على الضلال: فضيلة... أمثلة هذا النمط من البشر ليسوا يماثلون الأنعام فحسب بل يفوقونها حقا في ضآلة الوعي... لذلك جاءت الصورة التشبيهية التي شبهتهم بالأنعام أولا ثم استدركت ذلك وقدّمت تشبيها آخر هو ما نسمّيه ب (تشبيه التفاوت) أي التشبيه الذي يقارن بين شيئين من خلال جعل المشبّه أشدّ درجة من المشبّه به... أقول: جاءت هذه الصورة الاستدراكية متجانسة
ص: 295
مع طبيعة الذهنية التي يصدر المنحرفون عنها، فهم - من حيث الذهنية كالأنعام - (نظرا لعدم استخدامهم لعنصر الذكاء)، وهم - أشدّ تخلفا من الأنعام - (نظرا لاستخدامهم منطقا مقلوبا هو عدّ الضلال هداية، والهداية ضلالا، والصبر على الضلال فضيلة)...
إذن، جاءت الصورة التشبيهية بنمطيها: تشبيه التماثل (إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ ) وتشبيه التفاوت (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) متجانسة مع طبيعة ذهنية المنحرفين، فضلا عن مجيئها متناسقة مع الموضوع المطروح من النص، مفصحة بذلك عن إحكام النص من حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ وَ لَوْ شٰاءَ لَجَعَلَهُ سٰاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنٰاهُ إِلَيْنٰا قَبْضاً يَسِيراً * وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً وَ جَعَلَ اَلنَّهٰارَ نُشُوراً .
هذا المقطع وما بعده من سورة الفرقان يتناول عرض الظواهر الإبداعية مثل الشمس والظل والليل والنهار والنوم والرياح الخ وقد جاء هذا العرض في سياق الحديث عن المشركين ومواقفهم المناهضة لرسالة الإسلام، من أجل تذكيرهم بمقدرة اللّه تعالى ومعطياته.
ويلاحظ (من الزاوية الفنيّة) أنّ عرض هذه الظواهر قد صيغ بلغة فنية تعتمد عنصر الصورة، سواء أكانت الصورة (تركيبية) كالاستعارة ونحوها، أو كانت مباشرة تتناول رسم الشيء وفق الأسلوب القصصي للبيئات الجغرافية وسواها.
ويمكن ملاحظة النمط المباشر من الصورة. في رسم النص للظل والشمس، وكيفية المدّ والقبض للظل... يقول النص (أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ ) ويقول عن علاقته بالشمس (ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ويقول عن
ص: 296
قبض الظل بعد ذلك (ثُمَّ قَبَضْنٰاهُ إِلَيْنٰا قَبْضاً يَسِيراً) ... إن هذا الرسم (من حيث الامتاع الجمالي) يحقق إشباعا للحس الجمالي لدى القارىء أو المستمع، فعملية مدّ الظل منذ اطلالة الشمس، ثم انحساره منذ ارتفاع الشمس يجسد مرأى ممتعا لمن يجيل النظر فيه... وأمّا معطياته (من حيث الامتاع الحيوي) للجسم، فأمر يتضح بجلاء: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أهمية الظل الممدود بالقياس إلى الاستجمام الذي يحققه للشخص وهو يحيا بخاصة في بيئات شديدة الحرارة، هذا فضلا عن معطيات الظل بالنسبة للعمليات الإحيائية في النبات وغيره.
وقد أردف النص رسمه للظل برسم للّيل وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً وَ جَعَلَ اَلنَّهٰارَ نُشُوراً ... هذا الرسم يتناول بيئة الليل والنهار والنوم والعمل والراحة وما إليها، يتناولها من خلال (الصورة التركيبة) - على العكس من الصورة السابقة - حيث يعتمد (الاستعارة) بخاصة في رسم هذه الظواهر الإبداعية ومعطياتها... فقد رسم الليل من خلال الاستعارة المتمثلة في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً ... ففي هذه الصورة الاستعارية نلمح عنصرين من الرسم أيضا: العنصر الجمالي والعنصر الحيوي أو الجسمي، أما العنصر الحيويّ فيتمثل في كون الليل زمانا للراحة والسكون كما سنرى، وأمّا العنصر الجمالي فيتمثل في الاستعارة التي خلعت على الليل سمة بشرية هي: اللباس، إن جعل الليل لباسا، ينطوي على أسرار فنيّة متنوعة، منها: أن الليل ثوب يلبسه الإنسان ليقيه من الأذى، في شتى أشكاله ومستوياته، فكما أن الثوب يقي الجسم من الحر أو البرد أو الأوساخ أو سواها: كذلك الليل، يقي الإنسان من المؤثرات المختلفة التي يواجهها خلال عمله في النهار.
طبيعيا، أن الليل - وهو لباس للإنسان - يختلف عن كونه (أزمانا) للنوم،
ص: 297
لذلك، اتجه النص بعد قوله وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً اتجه إلى الحديث عن النوم، فقال (وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً) ، و هذا يعني أن الليل لا يقترن ضرورة بالنوم، ولكنه يقترن بالراحة والسكون مقابل الحركة والنشاط، أي أن الليل (زمان) للراحة، وأمّا النوم فهو أحد الأشكال التجسيدية للراحة، بدليل قوله (وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً) أي: راحة، يستوي أن يكون ذلك في الليل أو النهار، بدليل قوله تعالى في موقع آخر من القرآن الكريم وَ مِنْ آيٰاتِهِ مَنٰامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ ... بمعنى أنّ الراحة المتحققة باليوم قد تتم ليلا وقد تتمّ نهارا، وأن «النوم» يقف إلى جانب «الليل» من حيث اشتراكهما في تحقيق السكون والراحة من المتاعب الجسمية والذهنية. خلافا لما يتصوره البعض من أن الليل والنوم يقترن أحدهما مع الآخر، حيث أن النصوص الشرعية تشير إلى أزمنة محظورة في الليل، وأزمنة محظورة في النهار. من حيث النوم، مضافا إلى أن السياق الفني الذي ورد فيه رسم الليل إلى جانب رسم النوم، يوضّح بجلاء هذه الحقيقة التي تحدثنا عنها...
المهم، أن النص القرآني - وهو يرسم بيئة الليل والنوم من خلال عنصر الاستعارة - إنما أخضع هذا الرسم لبناء عماري محكم. حيث انتقل من حديثه عن الظل الممدود (وهو ما يقابل الشمس) إلى الحديث عن الليل (وهو ما يقابل النهار) محققا بهذا النحو من الرسم: إحكام السورة الكريمة من حيث علاقة أجزائها بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً * وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً * وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً * إِنَّهٰا سٰاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً * وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً * وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لاٰ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً .
ص: 298
قال تعالى: وَ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً * وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً * وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً * إِنَّهٰا سٰاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً * وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً * وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لاٰ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة الفرقان التي حامت موضوعاتها على عرض سلوك المشركين، حيث ختمت ذلك بعرض سلوك المؤمنين على النحو الآتي: بصفة أن الهدف من عرض السلوك المنحرف هو: محاولة تعديله والانتهاء - من ثمّ - إلى تعلّم السلوك المقابل له وهو الإيمان...
وأوّل ما طرحه المقطع في هذا العرض لسلوك المؤمنين هو. تواضع الشخصية (وَ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً) ... ومن المعلوم، هو أن التواضع أو نبذ الذات هو أبرز معالم السلوك السوي...
فالمشرك والكافر والفاسق والمنحرف مطلقا: يبدأ انحرافهم أولا من خلال إعجابهم بذواتهم، ومحاولة استعلائهم على الآخرين: تحقيقا لنزعات السيطرة والعلوّ... لذلك بدأ النص - كما نحتمل - بعرض هذه السمة ليدلنا بأن الإيمان يتبلور أولا من خلال نبذ الذات، لأن التمحور حول الذات هو المحرك الرئيس لسلوك الإنسان، فإذا نبذ هذا التمحور حينئذ يتيسر دخول الإيمان إلى قلبه... إنّ المشي على الأرض هونا: يعدّ تعبيرا حركيّا عن نبذ الذات، لأنه مشي مرسّل أو هادىء ينمّ عن هدوء الذات وترسّلها... ولكن نبذ الذات لا يستكمل فاعليته من خلال عدم إبرازها فحسب، بل لا بدّ من (التنازل) عن حقوقها أيضا، فإذا وقع عليها عدوان (كما لو أهانها شخص) حينئذ لا بد من التنازل عن حق الدفاع أيضا: ليستكمل نبذ الذات أقصى فاعليته، وهذا ما ندبت الآية الكريمة إليه عندما قالت وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً ... لنلاحظ هنا عنصر (الحوار) أولا، وكونه يتضمن عبارة (السلام) ثانيا وصلة ذلك بمفهوم نبذ الذات.
أمّا «الحوار» فقد فرضته طبيعة الموقف، لأنه تعبير عن عدوان ودفاع،
ص: 299
عدوان من طرف، و دفاع من الطرف الآخر... و أما عبارة (السلام) فإن ما تنطوي عليه من دلالة (المسالمة): تظل مقابل (العدوان)، و هذا يعني أن الشخصية المؤمنة تصدر عن أكمل حالات الاستواء في السلوك، فإذا كان السلوك السوي يتمثل في مفردتين هما (نبذ الذات) من جانب، و «الاتجاه إلى الآخرين» من جانب آخر، حينئذ فإن الشخصية التي تمشي على الأرض هونا (إنما تنبذ ذاتها) وعندما (تتسالم) مع الآخرين إنما تتجه إليهم، أي تعنى بعواطفهم وحاجاتهم، وهذا هو قمة السلوك السوي، كما قلنا.
بعد ذلك يتجه النص إلى عرض سمة أخرى للمؤمنين ألا وهي وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً ... السمة الأولى (المشي هونا) و (المخاطبة بالسلام) تعد سمة (اجتماعية) ترتبط بسلوك الإنسان حيال الآخرين، أي ترتبط بالعلاقة الاجتماعية بين الفرد والجماعة، أما السمة الجديدة التي يتحدث عنها المقطع القرآني الكريم، فتتصل بالعلاقة بين اللّه تعالى والعبد، أي: أنها سمة (عبادية) مقابل السمة الاجتماعية المشار إليها...
والسؤال هو، هل هناك ملازمة فنية بين السمتين المشار إليهما (علاقة العبد مع الآخرين وعلاقته مع اللّه تعالى)؟ وإذا كان الأمر كذلك: فما هي علاقة المشي هونا والمخاطبة سلاما بالمبيت في الليل: سجّدا أو قياما؟.
في تصورنا الفني: بما أنّ المشي هونا والمخاطبة سلاما يعدان مظهرا لإبراز معالم النبذ للذات، كذلك فإن المبيت سجدا وقياما، أي: السجود للّه تعالى والقيام للّه تعالى، يعدّان مظهرا لإبراز معالم الاتجاه إلى اللّه تعالى، نظرا لكونهما تواصلا وجدانيا مع الله تعالى لا يرقى إليه أيّ نوع آخر من التواصل، أنهما - أي السجود والقيام - تجسيد لأبرز معالم الخضوع للّه تعالى...
إذن: (من حيث المبنى الهندسي للمقطع) نلحظ أن صلة هذه السمات (اجتماعيا وعباديا) متلاحمة فنيا، وهو أمر يكشف عن مدى إحكام النص من
ص: 300
حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الآخر، بالنحو الذى أوضحناه.
قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً * وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لاٰ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً .
في هذا المقطع عرض لسمات الشخصية المؤمنة التي سبق أن عرض النص القرآني: لبعض سماتها الاجتماعية والعبادية... وها هو النص القرآني الكريم يتابع عرض هذه السمات، ومنها: ظاهرة (الاقتصاد) في الانفاق، وعدم الشرك، وعدم قتل النفس وعدم الزنى...
وهذه السمات تصبّ في أنماط شتّى من السلوك، بعضها يرتبط بالبعد النفسي، والآخر بالبعد الاقتصادي، والثالث بالبعد الجنسي، وهكذا...
ويهمنا من ذلك كله أن نقف عند هذه السمات لملاحظة موقعها من عمارة السورة الكريمة من جانب، ثم دلالاتها المختلفة من جانب آخر.
وأوّل ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، أن بعض هذه السمات قد عالجها النص في آية مستقلة، وبعضها قد عولج في آية مشتركة: تطرح جملة من سمات الشخصية المؤمنة مثل سمات عدم الشرك، وعدم القتل، وعدم الزنى، فيما أدرجت في آية واحدة...
أما ظاهرة (الاقتصاد) في الانفاق، فقد استقلت بها آية خاصة، نستكشف من خلالها أهمية هذا السلوك، ونعني به: عدم الإسراف، وعدم البخل، وضرورة أخذ الوسط بينهما...
إن (الإسراف) يشكّل (إفراطا)، كما أن (البخل) يشكل (تفريطا)، وأن كلا منهما يشكّل أقصى اليمين أو أقصى اليسار... أما (الإسراف) - وهو
ص: 301
الانفاق بدون أن تكون هناك ضرورة - فيجسّم سمة كريهة ألا و هي: عدم الإحساس بالمسؤوليه، عدم التقدير لقيمة الشيء، ثم - و هذا هو الأهم - سدّ الإحساس بالنقص الذي يطبع الشخصية: من خلال تعويض ذلك بسلوك مضاد هو. الاستعلاء الذاتي بحيث يفرط في بذل الشيء حتى يحسّس ذاته المريضة بأنها ذات قيمة من خلال عدم اهتمامها بهذا الشيء أو ذاك.
وأما (البخل) - وهو السمة المضادة تماما للإسراف، فإنها وجه آخر للتعويض عن النقص أيضا بالرغم من كونها تبدو وكأنها مضادة لسمة البذل بدون ضرورة، إلاّ أن كلتيهما (أي: سمة الإسراف والبخل) تشكلان وجهين لعملية واحدة...
إن البخل هو حومان حول الذات، إنّه انغلاق على الذات، بحيث يحرص الشخص على الاحتفاظ بالشيء مع عدم الضرورة له... وكما أن الإسراف هو. البذل بدون ضرورة، كذلك: البخل، هو الإمساك بدون ضرورة... فعدم الضرورة هو الطابع المشترك بين السلوكين، بالرغم من كون أحدهما يجسّم بذلا، والآخر: يجسّم إمساكا.
من هنا، رسم النص القرآني الكريم ظاهرتي الإسراف والبخل. سمتين حذّر الشخصية المؤمنة منهما، واصفا إياها بأنها الشخصية التي لم تسرف ولم تقتر، بل التي تكون بين ذلك الإسراف وذلك البخل. قواما، أي: الوسط بين ذلك، وهو ما يجسّم مفهوم (الاقتصاد)... أي التصرف وفق متطلبات الضرورة... فقد يتطلب الموقف (بذلا) للشيء مثل مساعدة الآخرين دون أن يترتب ضرر على دخل الفرد، وقد يتطلب الموقف إمساكا عن البذل ما دامت الضرورة تفرض ذلك (كما لو كان بحاجة شديدة إلى الشيء) أو كما لو أنّ البذل لا تترتب عليه فائدة يعتد بها.
وفي ضوء هذه الحقائق، يمكننا أن نربط (من حيث المبنى العماري
ص: 302
للنص القرآني الكريم) بين هذه السمة: سمة الوسط أو الاقتصاد في الإنفاق، وبين السمات التي رسمها النص (في مقطع سابق) عن (عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً) حيث أن الاستعلاء الذاتي وعدم التنازل (عدم المشي هونا) (عدم المسالمة مع الآخرين) يتجانسان مع الإسراف والبخل، حيث يشكل الإسراف: استعلاء ذاتيا، ويشكل البخل عدم تنازل من أجل الآخرين...
إذن: أمكن ملاحظة الطابع المشترك بين هذه السمات، مما يفصح ذلك عن الإحكام العماري للنص من حيث تلاحم جزئياته بعضا مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى. وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لاٰ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً * يُضٰاعَفْ لَهُ اَلْعَذٰابُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً * إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَ مَنْ تٰابَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّٰهِ مَتٰاباً * وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً...
في هذا المقطع جملة من السمات التي رسمها النص للشخصية المؤمنة منها: عدم الشرك، عدم قتل النفس إلا بالحق، عدم الزنى، وعدم شهادة الزور، وعدم المشاركة في لغو الكلام... الخ.
وبالرغم من إنه ليس هناك ما يعرض - فنيا - رصد السمات المتجانسة لدى الشخصية بقدر ما يمكن القول بأن النص الفني يستثمر طرح جملة من السمات التي يجدها ذات أهمية فيرسمها مستهدفا تركزها في ذهن القارىء... بالرغم من ذلك، فإن النص القرآني الكريم لا يطرح مثل هذه
ص: 303
السمات إلا و يخضعها للتجانس الفني بشكل أو بآخر، أو - لا أقل - يخضعها لسياقات خاصة تتطلبها فكرة السورة الكريمة التي تحوم عادة على موضوعات محددة...
لقد سبق أن لحظنا، في مقطع متقدم من السمات النفسية والعبادية والاقتصادية التي رسمها النص في الشخصية المؤمنة (المشي هونا، قيام الليل، الاقتصاد في الإنفاق)، ولحظنا تجانس هذه السمات في حينه... وهو أمر تمكن ملاحظته الآن في المقطع الذي نتحدث عنه، وهي سمات ذات طابع عبادي وفكري ونفسي واجتماعي... الخ. وفي مقدمة ذلك: السمة الآتية (وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ) أي سمة عدم الشرك... وقد يدهش القارىء حينما يواجه هذه السمة الفكرية في سياق سمات لا تتوفر إلا لدى الأتقياء من المسلمين فيما لا يمكن أن يشركوا باللّه طرفة عين... لكن - إذا أخذنا بنظر الاعتبار - أن السورة الكريمة تحوم موضوعاتها على سلوك المشركين، ندرك بسهولة أن رسم هذه السمة (عدم الشرك) إنما جاءت لتتجانس مع فكرة السورة الكريمة، مضافا إلى أن الشرك لا ينحصر في مظهره الصارخ (وهو اتخاذ الشريك في إبداع الكون) بل يتجاوز، إلى مطلق السلوك، بما في ذلك: اجتذاب رضا الاخرين مثلا في عمل من الأعمال كما لو استهدف من عملها العبادي - مضافا إلى رضا اللّه تعالى - رضا الناس، حيث يشكل مثل هذا السلوك شركا أيضا.
والآن، إذا تجاوزنا هذه السمة إلى السمات الأخرى، وجدنا أن المقطع القرآني الكريم، يطرح سمات من نحو عدم قتل النفس، وعدم الزنى، ثم تقطع سلسلة هذه السمات ليطرح مفهوما يتعلق بالتوبة، وبعد ذلك يواصل طرح سمات أخرى مثل عدم شهادة الزور وعدم المشاركة في اللغو...
هنا ينبغي (ونحن نعنى في هذه الدراسات بالبناء الفني للسورة القرآنية
ص: 304
الكريمة) أن نشير إلى حقيقة فنية هي: ان النص الفني الخالد عندما يستهدف لفت النظر إلى إحدى الحقائق فإنه يدرج هذه الحقيقة الجديدة في سياق خاص يقطع من خلاله سلسلة الموضوعات ليلفت النظر إلى هذه الحقيقة...
والحقيقة التي يستهدفها النص في سياق حديثه عن سمات المؤمنين - هي (التوبة) وفاعليتها في ميدان السلوك... لذلك لم يكتف النص بإبراز مفهوم التوبة فحسب بل أكدها بنحو ملحوظ بحيث كررها أولا ثم استخدم أدوات التوكيد الفني ثانيا، إنه قال أولا (إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً) ، وهذا يعني ان التوبة التي استهدفها النص تحمل دلالة ضخمة من حيث أهمّيّتها في ميدان السلوك وهي كونها تجسد: الانقطاع إلى اللّه تعالى وليس مجرد الترك للذنب، فقد يقلع الإنسان عن ممارسة العمل القبيح دون أن يتبعه بالتوجه الكامل إلى اللّه تعالى، وحينئذ يفتقر مثل هذا السلوك إلى تكامل الشخصية المؤمنة...
وهذا على العكس من التوبة التي تفضي إلى ان يتواصل العبد مع اللّه تعالى وحينئذ تجسد هذه التوبة: ارفع مستويات السلوك، وهذا ما يستهدفه النص من وراء رسمه للسمات الشخصية المؤمنة.
إذن، أمكننا ملاحظة البناء الفني المتمثل في طرح السورة لمفهوم التوبة خلال حديثها عن سمات الشخصية، فيما يفصح ذلك عن إحكام النص من حيث تلاحم وتواشج جزئياته بعضا مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى وَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا وَ عُمْيٰاناً * وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً * أُوْلٰئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمٰا صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيهٰا تَحِيَّةً وَ سَلاٰماً * خٰالِدِينَ فِيهٰا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً * قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزٰاماً...
ص: 305
في هذه الآيات التي ختمت بها سورة الفرقان جملة من سمات الشخصية المؤمنة تعد امتدادا لصفات سابقة رسمها النص للشخصية مثل: المشي على الأرض هونا، مخاطبة الجاهلين بسلام، قيام الليل، عدم قتل النفس، عدم الزنى، عدم شهادة الزور، عدم المشاركة في اللغو... ثم - وهذا ما تضمنته الآيات الأخيرة التي نتحدث عنها الان - عدم كونهم صما وعميانا بالنسبة إلى مبادىء اللّه تعالى، ودعاؤهم بأن يهب لهم اللّه من أزواجهم وذرياتهم قرة أعين، ثم كونهم أئمة في التقوى.
هذه السمات الأخيرة، هي التي نقف عندها الآن لملاحظتها فنيا وفكريا وتحديد موقعها الهندسي من عمارة السورة القرآنية الكريمة.
وأول ما نواجهه من هذه السمات، قوله تعالى عن المؤمنين (وَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا وَ عُمْيٰاناً) ... فهنا نلاحظ ان هذه السمة قد صاغها النص وفق صور فنية تعتمد الاستعارة والرمز... أما الاستعارة فتتمثّل في قوله تعالى (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا) حيث خلع صفة الانكباب والسقوط الجسميين على ظاهرة فكرية هي: الغفلة أي أن المؤمنين متى ما ذكروا بآيات الله تعالى فإنهم لن يغفلوا هذا الجانب بل يتعظون بهذه الايات، ويعملون بمبادىء اللّه تعالى.
وأما الرموز فتتمثل في قوله تعالى (صُمًّا وَ عُمْيٰاناً) حيث يرمز (الصمم) إلى عدم الاستماع، وحيث يرمز (العمى) إلى عدم الرؤية فيكون مفاد هذين الرمزين، إن المؤمنين إذا ذكروا بآيات اللّه تعالى فإنهم لا يسدون آذانهم عن الاستماع إليها، ولا يشيحون بوجوههم عنها، بل يستمعون إليها ويبصرونها لكي يعملوا بمبادىء اللّه تعالى.
إذن، جاءت الصور الفنية الثلاث (الاستعارة والرمز) موظفة لبلورة وتعميق مفهوم العمل بمبادىء اللّه تعالى من خلال كون الشخصية المؤمنة هي
ص: 306
التي تتعظ بآيات الله تعالى وتعمل بموجبها.
وأما السمة الأخرى التي خلعها النص على المؤمنين، فهي قوله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ... . هذه السمة تشير إلى دلالة عبادية ذات أهمية كبيرة في ميدان الوظيفة العائلية، فالأسرة بصفتها تتمثل في اتحاد كائنين (الزوج والزوجة) وما ينجبان بعد ذلك (الذرية)، يرسم لها النص وظيفة عبادية تتمثل في ضرورة ممارسة التربية والتنشئة الاجتماعية حيالها، بحيث تصبح الزوجة والذرية نموذجا للسلوك الذي يفرح رئيس الأسرة (قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) .
وأما السمة الأخيرة التي خلعها النص على المؤمنين فهي قوله تعالى:
(وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً) ... هذه الصفة ذات بعد اجتماعي بالغ الأهمية: كما هو ملاحظ... حيث ان دعاء الانسان لنفسه بأن يصبح إماما أو نموذجا للتقوى: يقتدي بهديه الآخرون، مثل هذا الدعاء له أهميته في ميدان السلوك الاجتماعي القائم على تشابك العلاقات وأثرها في تعديل السلوك، بصفة ان الشخص إذا أصبح نموذجا أو مثالا للتقوى، فإن الآخرين لا بد ان يتأثروا بسلوكه فيتعدل - تبعا لذلك - سلوكهم العبادي، وهو الهدف الرئيس للوظيفة العبادية التي خلق الانسان من أجلها...
أخيرا، ختم النص هذه السمات، بالعودة إلى تذكير المنحرفين (مشركين أو مطلق المنحرفين) - وهم الشخوص الذين حامت السورة الكريمة على رسم مواقفهم - تذكيرهم بالجزاء الذي ينتظرهم، رابطا - بهذا التذكير بين موضوعات السورة المختلفة محققا بذلك: إحكام عمارتها الفنية: من حيث تلاحم هذه الموضوعات فيما بينها، بالنحو الذي أوضحناه.
***
ص: 307
ص: 308
ص: 309
ص: 310
تتألف هذه السورة من ثمانية موضوعات تحوم على هدف فكري واحد... هذه الموضوعات ذات مادة قصصية عدا الأول منها، وقد سبقتها (مقدمة) ولحقتها (خاتمة) تصبان في نفس الرافد الفكري.
(الهدف الفكري) أو (الفكرة) التي تنتظم كل موضوعات السورة هي الآية الكريمة القائلة: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ » .
ويلاحظ أن هذه الآية تتكرر ثماني مرات في السورة بعدد موضوعاتها، حيث يختم بها كل موضوع أو كل قسم من أقسام السورة الكريمة.
إذن، نواجه في هذه السورة بناء هندسيا واضح الخطوط يلحظه المتأمل من حيث وضوح المعالم الجمالية النابعة من تقسيمها بهذا النحو وفرز موضوعاتها بعضها عن الآخر واختتام كل منها بآية واحدة تحوم على الفكرة القائلة بأن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين بالرغم من وضوح الحجة والبراهين والأدلة التي يواجهونها...
«كون أكثر الناس ليسوا بمؤمنين...». هذه الظاهرة من السلوك تظل من الوضوح بمكان كبير أيضا... أن أي ملاحظ بمقدوره (في ميدان السلوك العبادي) أن يستعرض غالبية الناس ليجدهم بمنأى عن الإيمان، كما إنها (في ميدان السلوك العام) تغلفها مظاهر الانحراف، النفسي... وهذه حقائق لا تحتاج إلى استقراء علمي ما دامت الملاحظة العادية كفيلة باستخلاص ذلك.
المهم هو، أن السورة الكريمة تستهدف (من خلال لغة الفن) وضع المتلقى (القارىء والمستمع) أمام هذه الظاهرة من السلوك: بغية تحديده للموقف الذي ينبغي ان يسلكه حيال أكثرية الناس الذين لا يشاركونه في
ص: 311
الإيمان باللّه و سائر مستلزمات ذلك...
والسؤال، ما هي الطريقة الفنية التي وظفها القرآن الكريم لتجسيد الهدف المذكور في هذه السورة ؟.
بدأت (سورة الشعراء) بهذا النحو: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * طسم تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ لَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ .
هذه البداية التي تطلب من النبيّ (ص) بألا يهلك نفسه أسفا، على من اختاروا لأنفسهم ألا يكونوا مؤمنين، إنما تركن إلى ظاهرة أو قاعدة اجتماعية هي: كون أكثر الناس ليسوا بمؤمنين... و إذا كان الأمر كذلك حينئذ فلماذا يهلك نفسه أسفا على من ليس لديه استعداد للانسحاب من الظلمات إلى النور؟ من حيث عمارة السورة، أو البناء الجمالي أو الهندسي لها نجد أن السورة تبدأ بعد هذه المطالبة بعدم إهلاكه (ص) نفسه ألا يكونوا مؤمنين...
تبدأ بتقرير الملاحظة الاجتماعية التي تفسر سببية المطالبة المذكورة... وإليك الملاحظة الاجتماعية المذكورة: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنٰاقُهُمْ لَهٰا خٰاضِعِينَ * وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ مُحْدَثٍ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبٰؤُا مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ * أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ .
هذه الآية الأخيرة التي أعقبت الإشارة إلى أن الله تعالى بمقدوره أن ينزل عليهم ظاهرة إعجازية من السماء، وإلى أنهم في الحالات جميعا سوف يعرضون عن ذلك، وإلى أن الأرض نفسها بما تنطوي عليه من إعجاز يتمثل في. إنباتها من كل زوج كريم.
أقول، الآية القائلة بأن (في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) مضافا إلى التدليل على ذلك بأنهم سوف لن يعدلوا سلوكهم، تشكل جوابا فنيا على سبب
ص: 312
مطالبة النبيّ (ص) بعدم إهلاك نفسه أسفا عليهم.
إذن، جاء الموضوع الأول من السورة الكريمة يتحدث عن ظاهرة اجتماعية هي أن أكثر الناس لا يأتيهم ذكر من الرحمان إلا وهم يعرضون عنه بالرغم من وضوح الحجة عليهم، ومنها. ظاهرة حسية هي إبداع الأرض من كل زوج كريم، وإلى أن في هذه الظاهرة لآية وحجة أمامهم ولكن، ما كان أكثرهم بمؤمنين...
هذا الموضوع الذي يتحدث عن الظاهرة الاجتماعية القائلة بأن الناس آيات وحجج وإلى أن أكثرهم ليسوا بمؤمنين (إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) ... هذا الموضوع الذي فسر سبب مطالبة النبيّ (ص) (ومطالبتنا نحن أيضا) بعدم إهلاك النفس أسفا على من ليسوا على استعداد بأن يصبحوا مؤمنين، يظل - كما قلنا - هدفا فكريا أو فكرة عامة تحوم عليها سائر الموضوعات التي سنواجهها في السورة.
تتضمن سورة الشعراء سبع قصص هي: قصص موسى، إبراهيم، نوح، هود، صا لح، لوط، شعيب.
هذه القصص تحوم على إبراز فكرة واحدة (أشرنا إليها) هي قوله تعالى عن مجتمعات الأنبياء المذكورين ومواجهتهم آيات الله وبراهينه، قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ .
كل قصة من هذه القصص السبع، ختمت بالآية المتقدمة بحيث يفصح هذا الختام أو التعقيب على كل منها، عن خصيصتين: فكرية، وجمالية...
هما: كون أكثرية هذه المجتمعات ليست بمؤمنة، وإن الشكل أو البناء أو الهيكل القصصي خاضع لبعد هندسي هو: كونه يتكفل بصياغة الهدف الفكري المذكور، وإبرازه ليس في صعيد الأحداث والمواقف الكاشفة بنفسها عن هذا
ص: 313
الهدف فحسب بل بالتعقيب عليها صراحة أيضا.
ولنقف عند كل قصة من القصص السبع لملاحظة الجانبين المذكورين.
القصة الأولى هي: قصة موسى (ع)، وملخصها: إن اللّه تعالى أمر موسى (ع) بالذهاب إلى فرعون... عندها طلب موسى من الله ان يرسل معه أخاه هارون نظرا لخوفه من تكذيب القوم إياه وخوفه من أن يضيق صدره وخوفه من عدم انطلاق لسانه وخوفه من معاقبتهم إياه على حادثة القتل التي صدرت عنه حيال عدو له من قوم فرعون...
إلا أنه تعالى شجع موسى وأخاه قائلا فَاذْهَبٰا بِآيٰاتِنٰا إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيٰا فِرْعَوْنَ فَقُولاٰ إِنّٰا رَسُولُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ .
إلى هنا فإن بداية القصة تشير بوضوح إلى أن موسى أبدى تخوفه من تكذيب القوم لرسالة اللّه تعالى... وهذا يعني أن عملية التكذيب أو عدم الإيمان (وهي الفكرة التي تحوم عليها سورة الشعراء بمختلف موضوعاتها) بدأت تبرز على لسان موسى (ع) من خلال تخوفه المذكور... وقد عزّز موسى تخوفه من عدم تصديق القوم برسالة السماء عصرئذ بعناصر تخص سلوكه الفردي وهي: ضيق الصدر، وعسر اللسان وحادثة القتل... طبيعيا إن هذه العناصر الثلاثة من السلوك الفردي سوف تقلل من فرص النجاح لمهمته الاجتماعية، أو لنقل، سوف تضاعف من احتمالات تكذيبهم للرسالة التي كلّف بتوصيلها إلى فرعون وقومه، وهو أمر يتناسب - فنيا - مع فكرة السورة التي تستهدف إبراز عدم إيمان الناس بخاصة أن اللّه تعالى طالب موسى و أخاه بتقديم الأدلة أو الآيات إلى هؤلاء القوم فَاذْهَبٰا بِآيٰاتِنٰا إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ... ومعنى هذا أن موسى وأخاه سيقدمان (آيات إعجازية) لفرعون وقومه، إلا أن القوم سوف لن يؤمنوا حتى مع مشاهدتهم لهذه الآيات وهي
ص: 314
نفس الفكرة التي تحوم عليها السورة، و نفس الفكرة التي ستختم بها قصة موسى من أن (فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) .
لكن لنتابع سائر القصة وعناصرها لملاحظة التفصيلات الجديدة التي تحوم على الفكرة المذكورة...
لقد أجاب فرعون موسى: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينٰا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينٰا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ .
وهنا أجاب موسى فرعون: فَعَلْتُهٰا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضّٰالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّٰا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ * وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهٰا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ ...
إن كلا من الحوار الذي أقامه فرعون مع موسى، وموسى مع فرعون، يكشف عن أسرار فنية في صياغة القصة من جانب، وفي مساهمتها في إبراز الفكرة الرئيسة للسورة من جانب آخر...
لقد تخوف موسى من ضيق الصدر وعسر اللسان وحادثة القتل، وكان تخوفه مشروعا، الا أن الله تعالى طمأنه على ذلك بقوله تعالى (إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) ... كما أن إرسال هارون لمساعدته قضى على سببين من التخوف هما:
ضيق الصدر و عسر اللسان، ولكن: بقي تخوفه من حادثة القتل على حاله، وهذا ما كشفت القصة عنه - فنيا - حينما أوردت الحوار الذي بدأه فرعون قائلا (أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينٰا وَلِيداً ... وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ ) ...
هذا يعني أن موسى كان معذورا من تخوفه بدليل ان القصة أوردت كلام فرعون في حادثة القتل... لكن، من زاوية فنية جديدة، أوضحت القصة أن عنصر (الخوف) قد تلاشى أساسا، بعد أن وعدته السماء بالمساعدة (إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) ، وبالفعل يخاطب فرعون بشجاعة وسخرية قائلا له: (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهٰا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ ؟) إلى هنا، فإن المرحلة الأولى من القصة
ص: 315
كشف لنا عن جانب من عمارتها الفنية المتصلة بالتخوف من عدم إيمان القوم برسالة السماء عصرئذ و إلى الوظيفة الاجتماعية الّتى تتطلب تقديم البراهين لهم، بغض النظر عن الاستجابة أو عدمها.
يبدأ القسم الجديد من قصة موسى (ع)، بحوار بينه وبين فرعون، يتصل بظاهرة (التوحيد) حيث جحدها فرعون وادعاها لنفسه... إلا أن موسى قال له. (أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ ) فأجابه فرعون (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ ) حينئذ ألقى موسى (عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ ) لكن ما هو رد الفعل الذي صدر عنه فرعون حيال الظاهرة الإعجازية التي طالب بها؟ (قٰالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ عَلِيمٌ ) ...
يعنينا من هذا الحوار - بما واكبه من حادثة الإعجاز - أن نشير إلى الظاهرة الاجتماعية التي تكفلت سورة الشعراء بإبرازها: في جميع الموضوعات المطروحة في السورة المذكورة وهي: أن غالبية المجتمعات أو الأفراد ليسوا بمؤمنين بالرغم من وضوح الأدلة والحجج التي يقدمها رسل الله إليهم... فها هو فرعون يطالب موسى بتقديم آية إعجازية فيبرز له موسى آية العصا واليد، لكنه، بدلا من ان يذعن للحقيقة نجده يصدر عن استجابة مرضية هي اتهام موسى بالسحر.
لقد كان من الممكن مثلا ألا يقتنع فرعون باية عقلية أو أي دليل تجريدي صرف ما دمنا نعرف أن الأغبياء ذهنيا من الصعب عليهم أن يمارسوا عمليات التجريد الذهني في استكناه الحقيقة، الا ان تقديم العمليات الحسية لهم لا بد أن تحملهم على تعديل مواقفهم، لكن، مع ذلك فإن (فرعون) لم يعدل موقفه السابق بل صدر عن غباء ذهني ملحوظ حينما نسب ظاهرتي الإعجاز (العصا واليد) إلى (السحر)... ومن الواضح أن الغباء الذهني الذي يطبع شخصيات
ص: 316
المنحرفين لم يكن نتيجة لتخلف فطرى في مهاراتهم العقلية بقدر ما ينبع التخلف الذهني من التواء أعماقهم وظلمتها التي تكورت نتيجة للبحث عن إشباع رغباتهم الذاتية وفي مقدمتها: الحاجة غير المشروعة إلى (السيطرة) و (الرئاسة) ونحوهما مما تحتجز الشخص من رؤية الحقائق بوضوحها السافر أو تحتجزه من التسليم بها، كما حدث لفرعون.
المهم، أن إبراز (الفكرة الرئيسية) التي تحوم عليها جميع الموضوعات في سورة الشعراء وهي (أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين)، قد جسدتها مواقف فرعون وغالبية مجتمعه الذي واجه نفس الآيات الإعجازية حيث لم يستجب لموسى إلا الأقلية.
ويمكننا - من زاوية البناء الفني لهذه السورة سورة الشعراء - أن نلحظ كيف أن النص القرآني الكريم وازن هندسيا بين الفكرة المذكورة وبين تجسيدها في أحداث ومواقف خاصة... فمثلا بعد أن قدمت السورة لنا نموذجا من كون (الأكثرية) ليسوا بمؤمنين، وهذه (الأقلية): تتمثل - فنيا - في نموذجين:
نموذج لفظي جاء على لسان فرعون نفسه حينما نعت أصحاب موسى بقوله (إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) ، ونموذج عملي يتمثل في إيمان (السحرة) الذين واجهوا عملية «تلقف العصا» باستجابة سوية: حيث آمنوا: بمجرد مواجهتهم للظاهرة الإعجازية وهو أمر يكشف لنا، أن (الإيمان) بالله يتطلب مجرد تحرر من الرغبات الذاتية... صحيح أن (السحرة) طالبوا ب (الأجر) في بداية الموقف، إلا أنهم سرعان ما (آمنوا) بالحقيقة مما يفصح عن أن سلوكهم السابق على الإيمان من (ممارسة للسحر ومطالبة للأجر) لم يتجذر إلى الدرجة التي تحتجزهم (كما احتجزت فرعون وغالبية قومه) عن التسليم بحقيقة (اللّه) تعالى، يدلنا على ذلك، أن هؤلاء (التوابين) لم يأبهوا بالتهديد الذي واجههم به فرعون (من تقطيع للأيدي والأرجل ومن عملية الصلب) بل هتفوا قائلين:
لاٰ
ص: 317
ضَيْرَ إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا مُنْقَلِبُونَ * إِنّٰا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنٰا رَبُّنٰا خَطٰايٰانٰا أَنْ كُنّٰا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ ...
لنلاحظ أن الفرق بين (الأقلية) التي آمنت باللّه، وبين (الأكثرية) غير المؤمنة، أن الأولى لم تعن بمتاع الحياة الدنيا حتى انها تنازلت عن أشد الحاجات البشرية إلحاحا وهي (الحاجة إلى الحياة)، بينما كانت الفئة الأخرى تتشبث بكل متاع الحياة الدنيا إلى الدرجة التي اضطرتها إلى عدم التسليم حتى بحقائق حسية مثل انقلاب العصا ثعبانا مبينا...
إذن، يمكننا أن نستخلص (من الزاوية النفسية) السر الكامن وراء كون غالبية الناس ليسوا بمؤمنين، وان نستخلص (من زاوية البناء الهندسي للسورة) السر الفني الكامن وراء صياغة وقائعها بهذا الشكل الذي برهن (فنيا) على أن الغالبية من الناس ليسوا بمؤمنين بالرغم من مواجهتهم للدلائل الحسية الواضحة كما هو شأن فرعون وقومه:، وإلى ان هناك (أقلية) مقابل (الأكثرية) تطبعها سمة (الإيمان)، كما هو شأن السحرة الذين تابوا، والنفر القليل الذي آمن برسالة موسى عصرئذ فيما صرح بذلك فرعون نفسه حينما نعتها بأنها (شرذمة قَلِيلُونَ ) بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
نواجه الان موضوعا جديدا من الموضوعات التي تضمّنتها سورة الشعراء وهو: قصة إبراهيم (ع)... هذه القصة تحوم على الفكرة الرئيسة التي تطبع السورة المذكورة، ونعني بها فكرة ان أكثر الناس ليسوا بمؤمنين... والآن لنقف عند هذه القصة.
فهي تبدأ بالحديث عن إبراهيم (ع) وموقفه الفكري من أبيه ومجتمعه الوثني، وهو مجتمع يقر بكونه يمارس نشاطه الوثني تقليدا لآبائه، وليس عن قناعة منطقية به... والمهم أن إبراهيم (ع) عندما يناقش أباه وقومه على هذه
ص: 318
الممارسات التقليدية إنما يلقى عليهم أكثر من دليل و حجة مثل قوله عن الأصنام
(هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ؟)، كما أن إقرارهم بأن الممارسة الوثنية ترتكن إلى مجرد التقليد للآباء، مثل قولهم (بَلْ وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ ) ... هذا الإقرار يزيد من قوة الحجة والدليل الذي دمغ به إبراهيم (ع) أباه وقومه... إن الأهمية الفنية لمناقشة إبراهيم وجواب قومه تتمثل (من زاوية البناء الهندسي للنص) في انصبابه في (فكرة) ان أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وإن في ذلك لآية دليلا، حيث يختم هذه القسم بالنص القائل (إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) وهو نفس النص الذي يختم به كل موضوع من موضوعات سورة الشعراء. فالملاحظ ان هؤلاء الوثنيين (ومثلهم سائر الاتجاهات غير المرتبطة بمبادىء السماء) يقرون بكونهم مقلدين لأجدادهم وان الأصنام لا تسمع كما لا تنفع ولا تضر، لكنهم مع ذلك يرفضون فكرة التوحيد، أي كما تقرر الآية بأنه (مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) .
والملاحظ أيضا ان إبراهيم (ع) تقدّم بإبراز الفكرة المضادة لإجابتهم حيث عقب على الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، عقب على ذلك بما يقابلها من فكرة (التوحيد) التي تمتلك فاعلية مضادة الأصنام،
لقد قال عن اللّه تعالى اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ * وَ إِذٰا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي... ...
لا شك أن هذه المقابلة بين الفكر (الوثني) و (الموحّد) تشكل سمة فنية من حيث عمارة النص التي تقوم - من جانب - على التوازي الهندسي بين جزئيات الفكرة، وتقوم - من جانب آخر - على التلاحم بين مختلف موضوعاتها... والأهم - بعد ذلك - أن ظاهرة التلاحم أو الربط العضوي بين جزئيات النص قد تجسدت في نمط فني آخر هو: نقل أحداث القصة من محيطها الدنيوي الى المحيط الأخروي حيث عرضت لنا حوار الوثنيين فيما
ص: 319
بينهم وهم في الجحيم... و قد تمت هذه النقلة الفنية من محيط الدنيا إلى محيط الآخرة، من خلال مخاطبة إبراهيم (ع) لله الذي خلقه، وأسقاه، وأشفاه، وأماته، وأحياه، وغفر له: كما هو مضمون الآيات التي تقدمت فيما أردفها بمخاطبة اللّه تعالى (وَ لاٰ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لاٰ بَنُونَ ...) وحيث انتقلت القصة من الحديث عن يوم النشر إلى ما يستتبعه من جنة أو نار، وحيث ختمت ذلك بهذا الحوار الذي يربط بين الوثنيين وبين الفكرة الرئيسة التي تحوم عليها سورة الشعراء من ان اكثر الناس ليسوا بمؤمنين.
لنقرأ الحوار المذكور:
قٰالُوا وَ هُمْ فِيهٰا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ * فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ * وَ لاٰ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ...
لنلاحظ كيف ان هذا الحوار قد ارتبط بالفكرة الرئيسة للسورة، وكيف انه قد ارتبط بحوادث القصة: قصة إبراهيم (ع) فقد اقر الوثنيون بأنهم كانوا في ضلال مبين، بالنحو الذي نبههم إبراهيم عليه أيضا واقروا بأنهم ليس لهم من شافع ولا صديق، بالنحو الذي نبههم إبراهيم أيضا عندما سألهم عن أصنامهم قائلا: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) . إذن، نحن الآن أمام بناء فني محكم يربط بين أجزاء القصة في محيطها الدنيوي ونقلها إلى المحيط الأخروي، كما لحظنا،، فضلا عن كوننا أمام بناء فني محكم، يربط بين هذه القصة وبين الفكرة الرئيسة التي تحوم عليها موضوعات السورة جميعا ونعني بها فكرة «إن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين».
أمامنا الآن قصة نوح (ع)، وهي تشكل موضوعا آخر من الموضوعات
ص: 320
المختلفة التي تتضمنها سورة الشعراء... و لكنها تصب في نفس الرافد الفكري الذي تلتقي عنده: موضوعات السورة (إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً ، وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ) .
ولنقرأ بعض فقرات القصة:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * قٰالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ . * قٰالَ وَ مٰا عِلْمِي بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسٰابُهُمْ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَ مٰا أَنَا بِطٰارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ ... .
الجديد في هذه القصة هو: أن (نوحا) يتقدم إلى مجتمعه بدليل أو حجة أو آية جديدة تختلف عن حجج الأنبياء الذين تقدم الحديث عنهم (موسى وابراهيم)... كما ان أجوبة قومه تختلف عن إجابات غيرهم بنمط آخر من السلوك، إلا أنها جميعا تفصح عن حقيقة واحدة من حقائق السلوك البشري...
لقد قال لهم نوح: مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ... وهذا يعني ان نوحا (ع) أخذ بنظر الاعتبار ان هؤلاء القوم سوف يصدرون عن استجابة مشككة برسالته فيخيل إليهم مثلا ان ذلك سوف يكلفهم بذلا أو تنازلا عن الأموال التي لديهم... لذلك، أكد لهم منذ البداية انه لن يطلب منهم (أجرا) على رسالته بل إن قضية الأجر تتصل بالله تعالى فحسب.
إن هذا الحوار يفصح عن واحد من مظاهر السلوك الاجتماعي عصرئذ... فهناك أولا تقويم العنصر (المال) وانعكاساته على السلوك...، وهناك ثانيا صدور عن نزعة (الشك) حيال أية رسالة أو سلوك نظيف...
وقد يدهش الملاحظ ويتساءل عن السر الكامن وراء طرح قضية «الأجر»
ص: 321
أو «المال» في هذه القصة و في غيرها إلا أنه سرعان ما يكتشف السر وراء ذلك، متمثلا فى نمط التركيبة الاجتماعية لمختلف عصور الانحراف، و يتمثل خاصة في الجزء الآخر من هذه القصة وهو محاورتهم لنوح، قائلين: (أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ؟) ...
إذن، من الزاوية الفنية ندرك ان ثمة ترابطا بين نزعتهم الى «المال» وبين رفضهم للرسالة من خلال نظرتهم إلى عديمي «المال» وكونهم اي الفقراء قد استجابوا لنوح (ع)... وتقول بعض النصوص المفسرة، ان هؤلاء الفقراء الذين استجابوا لنوح كانوا من الطبقة الدنيا، مما يعني أن وصمهم بسمة (اَلْأَرْذَلُونَ ) نابع من نظرة اقتصادية صرف تتصل بتملك الأموال وعدمها...
إننا لا نحتاج إلى أي تعقيب على مثل هذه النظرة الخالية من دلالات «الانسان» ما دامت تجعل من مجرد «التملك» للمال عنصر تقويم للشخصية.
وتلغي أساسا أي عنصر (فكري) أو (أخلاقي) في السلوك، ولنا ان نتصور مدى ما يمكن أن يؤول إليه مجتمع من المجتمعات: في حالة كونه لا يعنى ب (الفكر) ولا يعنى ب (القيم)... ثم ينبغي ألا ندهش أيضا لمسوغات الجزاء الذي لحق مثل هذا المجتمع حينما اكتسحه الطوفان ولم يبق منهم إلا عددا لا يصل إلى المائة.
المهم، أن أهمية هذه القصة (من الزاوية الفنية) تتمثل في كونها تصب - كما أشرنا - في الرافد الفكري الذي تلتقي عنده موضوعات مختلفة في سورة الشعراء، وهو «فكرة» إن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين... وفعلا، لحظنا «الأقل» من مجتمع نوح (ع) هو الذي (آمن) برسالته، كما ان هذا (الأقل) طبعته سمة (الفقر) مما يعني أن رسالات السماء لا تعنى بطبقة المحرومين فحسب، بل إن (الفقر) نفسه بصفته لا يمثل تعاملا مع متاع الحياة العابر يسمح للمهارات الذهنية بالانفتاح والحركة على العكس من التعامل مع متاع الحياة فيما يجسد
ص: 322
انغلاقا كاملا لمهارات الذهن حتى ليصل الأمر إلى أن يجعلوا من (تملك المال) معيارا للسلوك الاجتماعي، وأن تنغلق أذهانهم تماما عن أية قيم فكرية حتى لو واجهوا من ينبههم على ذلك، فبالرغم من أن نوحا (ع) أوضح لهم عدم علمه بنمط الطبقة التي آمنت به (قٰالَ : وَ مٰا عِلْمِي بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وبالرغم من انه قال لهم (إِنْ حِسٰابُهُمْ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) ... بالرغم من هذا التنبيه الذي ينبغي أن يحرك أذهانهم إلى إدراك بعض الحقائق، نجد ان جواب القوم يمثل انغلاقا أشد من سابقه حينما يهددونه قائلين (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ ) وهذا مما يكشف عن السلوك الاجتماعي القائل بأن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين فيما تكفلت سورة الشعراء بمعالجة هذا الجانب، ومنها: قصة نوح، (بالنحو الذي تقدم الحديث عنه).
نواجه الآن قصة جديدة في سورة الشعراء هي، قصة هود (ع)... هذه القصة على نحو ما تقدمتها من قصص موسى وابراهيم ونوح، تبدأ بالحديث عن تكذيب المجتمعات لرسلها ومطالبة الرسل إياهم باتقاء اللّه وإطاعته، وإلى أنهم لا يطلبون أجرا منهم على ذلك... كما تختم القصة بنفس الفكرة الحائمة على أن في إلحاق الهلاك الدنيوي بهم: لآية، وإلى أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وأن اللّه هو العزيز الرحيم.
لنتتبع الأحداث والمواقف الخاصة التي حفلت بها قصة هود، ولقد خاطب هود مجتمعه قائلا: أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَ تَتَّخِذُونَ مَصٰانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّٰارِينَ * فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمٰا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعٰامٍ وَ بَنِينَ * وَ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ * إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قٰالُوا سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوٰاعِظِينَ * إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ * وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ .
ص: 323
الأحداث في هذه القصة تتمثل في بيئة ذات طابع من الترف الاقتصادي من جانب والطابع العدواني من جانب آخر... ولا نحتاج إلى أدنى تأمل حتى ندرك بأن كلا من الترف والعدوان كاف بأن يفسر لنا سبب عدم استجابة القوم لرسالة هود (ع)...
إن الترف الاقتصادي وحده يمثل عملية إلهاء عن اللّه تعالى، كما أن العدوان بدوره - يجسد عملية ابتعاد عن دلالة الإنسان الذي صاغته السماء دلالة حب للآخرين... حيث يمثل العدوان نزعة مضادة تماما للحب...
لقد تميز مجتمع هود (ع) بكونه (عابثا) يعني باللهو والترف، حتى أنه ليتخذ من المرتفعات قصورا شامخة لمجرد العبث (أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) كما انه يبني الحصون المنيعة وكأنه خالد فيها (وَ تَتَّخِذُونَ مَصٰانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) .
والحق: أن العناية الزائدة على الحاجة في صعيد السكن وغيره لا تكشف عن مجرد الإشباع لحاجات جمالية كفخامة البناء وسعة الدار ونضارة الزرع مثلا، حيث تمثل هذه المظاهر حاجات جمالية يقرها المشرع الإسلامي بل يندب إليها في حالات معينة كسعة الدار والاستمتاع بمباهج الطبيعة، بل أن العناية الزائدة على هذه الحاجات هي التي تكشف عن مؤشرات خاصة في سلوك الشخصية وهو ما طبع سلوك المجتمع الذي أرسل إليه هود (ع)...
فالشخص عندما يختار مكانا مرتفعا من الأرض دون الحاجة إليه إنما يفصح عن كونه مثقلا بمشاعر الزهو والتعالي والفوق والكبرياء، إنه يستهدف لفت أنظار الآخرين إليه،، إنه أناني إلى الدرجة التي لا يفكر من خلالها إلا بإشارة الاخرين إليه، فيشبع بذلك نزعته المريضة الحائمة حول ذاته فحسب...
وحينئذ من الطبيعي جدا أن يغفل أساسا عن اللّه تعالى أولا وان يغفل عن الآخرين أيضا ما دام الآخرون يشكلون له أدوات اشباع لا أنه يحقق لهم
ص: 324
الإشباع... و تبعا لذلك سوف تنصب من أعماقه دلالة (الإنسان) الذي خلق لهدف عبادي، بل حتى دلالة الانسان العادي الذي ينبغي أن يحب أخاه الإنسان إذ حتى الدلالة الأخيرة لا وجود لها في المجتمع الذي تتحدث القصة عنه، حيث أشارت - كما قلنا - إلى أن هذا المجتمع كان مضافا للسمة السابقة - متميزا بكونه «عدوانيا» لا يحتمل النبض الانساني بقدر ما يمارس عملية البطش بأخيه الإنسان «وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّٰارِينَ » ...
لقد نبه هود (ع) هذا المجتمع على مفارقاته التي أشرنا إليها، كما ذكرهم بنعيم اللّه تعالى (وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمٰا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعٰامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ ...) . إن التذكير بمعطيات اللّه من. الأنعام، والبنين، والمزارع، والمياه ونحوها، إنما تنطوي ضمنا على تقرير الحاجات البشرية، جسميا وجماليا ونفسيا متمثلة في الظواهر الأربع المذكورة، إلا أن هذه الحاجات ينبغي أن تستثمر (عباديا)، وليس لتمرير نزعات الزهو والتعالي أو تمرير نزعات البطش والعدوان، كما هو الطابع الذي وسم مجتمع هود (ع)... بيد ان هذا التذكير بنعم اللّه تعالى لم يلق استجابة لدى المجتمع المذكور بقدر ما واجه عنادا وامعانا في الغيّ حيت خاطبوا هودا بقولهم (سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوٰاعِظِينَ ...) . وحيال هذا الموقف - نتوقع من الزاوية الفنية لبناء القصة - أن تنتهي برسم مصير يتناسب هوله مع هول الموقف الذي صدروا عنه: وهو إبادتهم من الأرض، جميعا، ثم: التعقيب القصصي على ذلك بالفكرة الرئيسة التي انتظمت جميع القصص في سورة الشعراء بقوله تعالى (إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ) حيث وصلت القصة بين هذه الفكرة الرئيسة وبين أجزائها بالنحو الذي تقدم الحديث عنها.
ص: 325
نواجه - في هذا القسم من سورة الشعراء - قصة جديدة هي قصة صالح (ع) مع مجتمعه...
الجديد في هذه القصة - من حيث بناؤها الهندسي وصلته بالقصص السابقة - هو حادثة الناقة وموقف المجتمع المذكور منها... ومن الواضح أن هذه الواقعة التي سنعرض لها تمثل عملية (اختبار عبادي) لهذا المجتمع. بصفة أن كل قصة تقدم موضوعا جديدا يختلف عن الموضوع الذي تتضمنه قصة أخرى إلا أن هذا الجديد يصب في نفس (الفكرة الرئيسة) التي تطبع القصص جميعا ونعني بها فكرة «إن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين».
تقول القصة: (وقد حذفنا مقدمتها ونهايتها اللتين تماثلان جميع القصص في السورة ما دامت صياغتها بهذا النحو تمثل البناء العماري لها)... تقول هذه القصة من خلال محاورة صالح (ع) لقومه. أَ تُتْرَكُونَ فِي مٰا هٰاهُنٰا آمِنِينَ * فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ * وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهٰا هَضِيمٌ * وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً فٰارِهِينَ * فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * وَ لاٰ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ * اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ * قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ * مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ * قٰالَ هٰذِهِ نٰاقَةٌ لَهٰا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ ... .
القصة تتضمن - مضافا إلى حادثة الناقة - بيئة اقتصادية مماثلة للبيئة التي لحظناها في القصة السابقة: قصة هود (ع)... حيث كان (الترف الاقتصادي) عنصرا مشتركا بين هذين، كما أن نزعة (العدوان) تمثل عنصرا مشتركا بينهما أيضا، كل ما في الأمر أن كلا من المجتمعين (مجتمع هود وصالح) يتحرك من خلال سلوك خاص يعبر عن مظهر من مظاهر الترف والعدوان، أي: أن كلا منهما قد اتخذ سلوكا يختلف عن الآخر إلا أنها أشكال مختلفة تعبر عن
ص: 326
مضمون واحد... ولا تغفل أن هذا النمط من العرض القصصي يشكل مبنى جماليا مثيرا للدهشة من حيث التقابل والتوازن الهندسي بين أجزاء القصتين.
المهم، أن نقف الآن عند البيئة الاقتصادية للقصة أولا... لقد حذر صالح قومه من أن الجنات، والعيون، والزروع، والنخل. بطلعه الجميل اليانع، ثم: نحتهم البيوت في الجبال، على نحو الترف... حذّرهم من أن هذه المعطيات تستجر مسؤولية أخروية عليهم، فأولا ليست هذه المعطيات بنعيم دائم (أَ تُتْرَكُونَ فِي مٰا هٰاهُنٰا آمِنِينَ ) إنها لا تحقق (الحاجة إلى الأمن) بصفتها من أشد الدوافع إلحاحا في التركيبة البشرية، بقدر ما تحققها وقتيا، ثم ينتظرهم الجزاء الأخروي بحيث لا يتركون (آمِنِينَ ) كما في الحياة الدنيا...
ثانيا، إن نحتهم البيوت من الجبال فارهين، ينطوي بدوره على مفارقة أخرى هي: الترف الذي لا يتساوق مع المفهوم العبادي للإنسان، بالنحو الذي عرضنا له عند حديثنا عن قصة هود، فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام عليه.
والملاحظ، إن هذه المفردات من البيئة التي تضمنتها قصة صالح تظل على صلة بمفردات البيئة التي لحظناها في قصة هود أيضا، كما أشرنا إلى ذلك... ويعنينا (ونحن نتحدث عن البناء العماري للسورة والموقع الهندسي لكل من قصصها) أن نتساءل عن السر الفنى لهاتين القصتين من حيث تجانسهما في البيئة والموقف، واختلاف سائر القصص التي تضمنتها سورة الشعراء، فى بيئاتها ومواقفها واحدة عن الأخرى حيث لحظنا أن قصة موسى (ع) تتضمن بيئة فرعون وقومه، وقصة إبراهيم تتضمن بيئة الأصنام وقصة نوح تتضمن بيئة الفقراء، بينا نجد ان قصتي هود وصالح تتضمنان بيئتين متماثلتين، كما تتضمنان رسما للبطل الجماعي فيهما متمثلا في صدوره عن نزعة البطش أو القتل أو العدوان بتعبير آخر.
في تصورنا، ان لعنصر (الزمان) دخلا في هذا التجانس الفني، كما ان
ص: 327
لعنصر (المكان) دخله في التجانس المذكور، طالما أن قوم صالح (ع) جعلهم الله خلفاء لقوم هود (ع) (وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ) وطالما نعرف أن البيئة الجغرافية لمساكنهما متماثلة: ثم بما يواكب تماثل البيئات من تماثل في السلوك الاجتماعي، متجسدا في صدورهما عن نزعة «العدوان»، كما رأينا ذلك في قصة هود (ع) حيث كان (البطش) سمة مجتمعه وكما سنلحظ النمط الآخر من نزعة العدوان في المجتمع الذي أرسل صالح (ع) إليه.
تميز مجتمع ثمود أي الذي أرسل صالح (ع) إليه بعدوانية شديدة وفقا للرسم القصصي الذي وسم هذا المجتمع بصفة (الإسراف في الفساد) (وَ لاٰ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ ) ... إن مجرد «الإفساد» يمثل سمة عدوانية إلا أن (الإسراف) فيه يمثل الدرجة الشديدة منه كما هو واضح. وقد سبق أن لحظنا (عبر الموازنة فنيا بين قصتي صالح وهود) أن مجتمع عاد (أي المجتمع الذي أرسل هود (ع) إليه) قد تميز بنفس السمة الشديدة من العدوان فيما رسمته القصة بقولها (وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّٰارِينَ ) ، حيث ان مجرد (البطش) يعد عدوانا، إلا أن إضفاء سمة (الجبارين) عليه يمثل الدرجة الشديدة منه... والسؤال هو، هل أن هناك تلازما أو ترابطا بين ظاهرة (العدوان) وبين ظاهرة (الترف) التي ميزت مجتمعي عاد وثمود حيث لحظنا أن طابع (الترف) في أشد درجاته قد وسم ذينك المجتمعين، فمجتمع عاد يبني قصوره في الأعالي، ويتخذ منها حصونا لمجرد العبث (أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَ تَتَّخِذُونَ مَصٰانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) ... ومجتمع ثمود يحيا آمنا في (جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهٰا هَضِيمٌ ) وينحت من الجبال بيوته، لمجرد الفراهة (وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً فٰارِهِينَ ) .
إن الرسم القصصي لهذين المجتمعين بكونهما مترفين، في أشد درجات
ص: 328
«الترف»، و كونهما عدوانيين، في أشد درجات العدوان، لا بد أن يفصح عن تلازم داخلي في تركيبتهما الإجتماعية بين هاتين السمتين اللتين تبدوان وكأنهما متضادتان... وبكلمة جديدة، أن الترابط الفني (من حيث بناء القصتين على الموازنة بين الترف والعدوان فى رسمهما لا بد أن ينطوي أيضا على ترابط نفسي بين تينك السمتين... فالمترف بقدر حرصه على تحقيق الإشباع لرغباته الزائدة على الحاجة، يمارس نفس الحرص على (الدفاع) عن الرغبات المذكورة في حالة تهديدها، سواء أكان هناك خطر فعلي يهدد رغباته أم لم يكن ذلك، في الحالتين ثمة شذوذ أو تطرف في السلوك...
والآن، لو تابعنا قصة صالح (ع) وموقفه من المجتمع الذي طبعته سمة (العدوان)، للحظنا أن ثمة خطرا يتهدد رغباته وهو صالح (ع) عبر رسالته الهادفة إلى الإيمان باللّه وإزاحة العدوان وسائر أشكال الانحراف الاجتماعي... وحيال ذلك، نتوقع أن يجيء رد الفعل موسوما بطابع الشدة في درجات العدوان... وبالفعل، كانت حادثة (المؤامرة) على قتله (ع) بالنحو الذي تسرده نصوص قرآنية أخرى، تعبيرا عن أشد درجات العدوان، كما ان الطريقة التي عقروا الناقة من خلالها، تفصح عن نفس السلوك المتسم بشدة العدوان، وفقا للنصوص المفسرة التي شرحت ذلك... والمهم، لا يعنينا الآن ان نعرض للطرائق المذكورة طالما عرضنا لها في مواقع أخرى، بل يعنينا ان نشير إلى الترابط الفني في رسم القصة لهذا الجانب وصلته بالتلازم النفسي بين كل من السلوك المترف والعدواني.
بقي أن نشير إلى أن القصة حددت نمط العلاقة بين خاصة المجتمع المذكور وبين عامته، حيث طالب صالح قومه بعدم إطاعة الخاصة المفسدة في الارض، (وَ لاٰ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ ) إلا أن هذه المطالبة قوبلت برد فعل شاذ هو إجابتهم صالحا بهذا الكلام (قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا...) حيث نستخلص من الحوار المذكور واحدة من الظواهر الاجتماعية التي ترسم العلاقة بين الخاصة والعامة... فبالرغم من ان الخاصة: «من سلطة حاكمة أو رؤساء أو أدواتهما هي التي تمارس مباشرة أو بتوجيه منها، عمليات العدوان، إلا أن (العامة) بتبعتها أو تعاطفها أو مساهمتها في العمليات المذكورة، كما حدث لمجتمع (ثمود) إنما تصدر عن نفس النزعة العدوانية، وإن لم يتح لها أن تترجمها إلى سلوك عملي، مما يترتب على ذلك تحمل مسؤوليتها أيضا وهو ما حدث فعلا حيث ختمت القصة برسم الجزاء الدنيوي للمجتمع المذكور بهذا النحو:
ص: 329
بقي أن نشير إلى أن القصة حددت نمط العلاقة بين خاصة المجتمع المذكور وبين عامته، حيث طالب صالح قومه بعدم إطاعة الخاصة المفسدة في الارض، (وَ لاٰ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ ) إلا أن هذه المطالبة قوبلت برد فعل شاذ هو إجابتهم صالحا بهذا الكلام (قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا...) حيث نستخلص من الحوار المذكور واحدة من الظواهر الاجتماعية التي ترسم العلاقة بين الخاصة والعامة... فبالرغم من ان الخاصة: «من سلطة حاكمة أو رؤساء أو أدواتهما هي التي تمارس مباشرة أو بتوجيه منها، عمليات العدوان، إلا أن (العامة) بتبعتها أو تعاطفها أو مساهمتها في العمليات المذكورة، كما حدث لمجتمع (ثمود) إنما تصدر عن نفس النزعة العدوانية، وإن لم يتح لها أن تترجمها إلى سلوك عملي، مما يترتب على ذلك تحمل مسؤوليتها أيضا وهو ما حدث فعلا حيث ختمت القصة برسم الجزاء الدنيوي للمجتمع المذكور بهذا النحو:
(فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذٰابُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ) وهي نفس الخاتمة التي طبعت جميع القصص التي تضمنتها سورة الشعراء. من حيث البناء الفني للسورة وانطواؤها على الفكرة الرئيسة الذاهبة إلى أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
نواجه - في سورة الشعراء - قصتين ختمت بهما سلسلة القصص التي تضمنتها السورة وهما قصة لوط وقصة شعيب.
من حيث البناء الفني لهاتين القصتين، تظلان امتدادا للقصص السابقة في بدايتهما ونهايتهما أي: تكذيب القوم لرسالة السماء وإهلاكهم في نهاية المطاف والتعقيب القصصي على ذلك بالفكرة الرئيسة التي عالجتها سورة الشعراء بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ .
لكن: ما هو الجديد فيهما؟ طبيعيا ان كل قصة في هذه السورة تتضمن أربع صيغ من المعالجة:
الأولى فكرة (التوحيد) و (الرسالة)، ثم طريقة الموقف السلبي لأكثرية القوم،
ص: 330
ثم طريقة إبادتهم... أما الصيغة الرابعة من المعالجة فتتضمن طرحا لبعض الظواهر الاجتماعية المنحرفة التي يتميز بها مجتمع عن آخر... ففي قصة لوط، نواجه الانحراف الاجتماعي المتمثل في العمل الجنسي الشاذ،. وفي قصة شعيب نواجه، الانحراف الاجتماعي المتثمل في بخس المكاييل.
والسؤال، ما هو السر الفني وراء وصل الموقف (الفكري) وهو (التوحيد)، بالموقف الاجتماعي مثل: الممارسة الجنسية غير المشروعة أو بخس المكيال، أو النزعة العدوانية، أو الترف الاقتصادي... الخ. ومن ثم:
ما هو السر الفني وراء إبراز كل مجتمع بنمط واحد أو اثنين من الانحراف ؟ السؤال الأخير من الممكن الإجابة عليه بوضوح حين نضع في الاعتبار ان كل مجتمع من المجتمعات يتميز بواحد من الانحرافات أو أكثر لأسباب مختلفة لا مجال للتحدث عنها الآن، بقدر ما يمكن القول بأن هذا التمييز يظل من الحقائق المألوفة لدى عالم الاجتماع، دون ان ينفي وجود مجتمعات أخرى تتكافأ فيها أشكال الانحراف بدرجة واحدة من الظهور... والمهم أن إبراز ظاهرة من الظواهر الاجتماعية في عمل فني مثل القصة أو المسرحية وغيرها، يتم اما من خلال انتقاء خاص لها لغرض معالجتها بالذات دون غيرها من الظواهر المتماثلة في درجة الانحراف، أو يتم ذلك من خلال كونها تجسد فعلا ظاهرة متميزة عن غيرها بحيث تطغى على سائر الانحرافات الأخرى.
وفي تصورنا أن القصة القرآنية الكريمة تتجه إلى النمط الأخير في معالجتها لظواهر الانحراف الاجتماعي، كما إنها - أي القصة القرآنية - تتجه إلى النمط الأول في نصوص أخرى.
المهم - كما قلنا - أن القصص التي تضمنتها سورة الشعراء ومنها: قصة لوط وقصة شعيب تتجه إلى النمط الذي يبرز ظاهرة انحرافية لمجتمع خاص دون غيره من المجتمعات...
ص: 331
لكننا لا نزال نستاءل عن السر الفني في وصل ظاهرة اجتماعية مثل:
الممارسات الجنسية غير المشروعة في قصة لوط و مثل بخس المكاييل في قصة شعيب، ومثل الترف والعدوان في قصتي هود وصالح... لا نزال نتساءل عن السر وراء وصلها بظاهرة (التوحيد) في المجتمعات التي طبعتها جميعا سمة:
(عبادة الأصنام)؟ واضح، أن الإيمان باللّه لا يمكن فصله عن الدلالة الاجتماعية للسلوك ما دامت رسالات السماء تمثل سلوكا موحدا بين ما هو نفسي وبين ما هو عبادي، ثم بين ما هو فردي وبين ما هو اجتماعي... أي أن سمة نفسية كالسماح مثلا وسمة عبادية كالصلاة أو الصوم أو الجهاد مثلا، لا يمكن فصل أحدهما عن الاخر عباديا إلا في حالة انثلام في وحدة الشخصية العبادية...
بيد أن هناك في نطاق السلوك الدنيوي الصرف فاعليات خاصة من السلوك تعكس آثارها وضعيا على البناء النفسي والاجتماعي مما يدفع الشخصية أو المجتمع إلى محاولات تعديل السلوك، وهو ما نلحظه في المجتمعات غير الإسلامية عبر محاولاتها المتنوعة لتحقيق أكبر قدر ممكن من إشباع الحاجات الدنيوية.
إن رسالات السماء حينما تتقدم بمعطياتها إلى الآخرين تأخذ كلا من الدلالة العبادية والدلالة الوضعية بنظر الاعتبار، بمعنى إنها حين تدعو في (التوحيد) بكل مستلزماته ثم انعكاساته أخرويا ودنيويا، تدعو من الحين ذاته إلى تحقيق الإشباع الدنيوي في نطاقه المشروع أيضا... فالبخس في المكيال وهو ما طبع سلوك المجتمع الذي أرسل إليه شعيب أو لانحراف الجنسي الذي طبع سلوك المجتمع الذي أرسل إليه لوط، والترف والعدوان اللذان طبعا سلوك مجتمعي عاد وثمود... هذه جميعا تشكل ظواهر من الانحراف الاجتماعي تعكس آثارها (وضعيا) على البناء النفسي والاجتماعي دون أدنى
ص: 332
شك، بغض النظر عن فكرة «التوحيد» أو «الوثنية».
لذلك فإن وصل ما هو (اجتماعي) كالأمثلة المتقدمة، بما هو (عبادي) عبر رسالات لوط أو شعيب أو غيرهما من رسل السماء، سوف تصبح بمثابة (آية) أو (حجة) على المجتمعات المذكورة لتفسح أمامها فرص الإيمان باللّه وتقطع كل الأعذار التي يمكن أن يتشبث بها المنحرفون... لكن، مع ذلك، نجد ان أكثر الناس ليسوا بمؤمنين بالرغم من الآيات والحجج المتقدمة مما استتبع انزال العذاب بهم (أي قومي لوط وشعيب) على نسق من تقدمهم من المجتمعات التي حاولت (سورة الشعراء) ان تبرز من خلال قصصهم (فكرة) ان أكثر الناس ليسوا بمؤمنين بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
بدأت سورة الشعراء - كما لحظنا - مطالبة النبيّ (ص) بعدم إهلاك نفسه أسفا على الذين لا يؤمنون (لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين) وأشارت إلى أنه بمقدور السماء أن تنزل (آية) إعجازية، وإلى أنهم كانوا يعرضون عن ذلك، وإلى أن الجزاء سوف يلحقهم وإلى أن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم...
هذه المقدمة التي استهلت بها سورة الشعراء بالنحو المجمل، فصلتها (من حيث عمارة السورة هندسيا) قصص موسى وابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب: على النحو الذي وقفنا عليه.
والآن، بعد أن تكفل العنصر القصصي بمهمة فنية هي. تجسيد الدلالات التي تضمنتها المقدمة ونعني بها أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين بالرغم من تقديم الآيات والحجج لهم الخ... هذه الدلالات ذاتها تختم بها سورة الشعراء، لتتجانس الخاتمة فنيا مع المقدمة ومع الوسط القصصي الذي تكفل بإنارة الدلالة المذكورة.
ص: 333
و لنرى الآن، الصياغة الفنية لخاتمة السورة.
خاتمة السورة تحدثت عن القرآن الكريم وعن الرسالة... التي انطوى عليها، بمعنى أن السورة الكريمة انتقلت من قصص الأنبياء السابقين (قصص موسى، إبراهيم... الخ) إلى قصة محمد (ص) وموقف مجتمعه من ذلك...
وبهذه النقلة الفنية نتحسس قيمة البناء العماري للسورة، حيث رسمت أحداثا ومواقف مشابهة (في زمن رسالة النبيّ (ص) للمواقف التي رسمتها السورة في زمن الأنبياء السابقين... فتقديم الحجج ووضوحها، ثم تكذيب الجاهليين لها، ثم استعجالهم بالعذاب، فضلا عن اتهامهم الرسالة بأنها من وحي الشياطين، كل أولئك لحظنا أمثلتها في نفس قصص السابقين التي عرضتها السورة الكريمة لنا مما تفصح عن الإحكام الهندسي في عمارة النص القرآني المذكور.
أوضحت خاتمة سورة الشعراء بأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين وإلى أنه بشّر برسالته في كتب الأولين وإلى أن إقرار علماء بني اسرائيل بصحة ذلك، كاف بأن يكون آية وحجة أمام الجاهليين، لكن مع ذلك (لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ ) ... إذن: نفس هذا الموقف سلكته المجتمعات السابقة عندما رأوا الحجج الآيات ولكنهم - مع ذلك - لم يؤمنوا برسالات الانبياء... ثم تعقيب النص القرآني الكريم على ذلك قائلا: أَ فَبِعَذٰابِنٰا يَسْتَعْجِلُونَ . * أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنٰاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جٰاءَهُمْ مٰا كٰانُوا يُوعَدُونَ * مٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يُمَتَّعُونَ * وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ لَهٰا مُنْذِرُونَ * ذِكْرىٰ وَ مٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ ...
لقد لحظنا في قصص السابقين إنهم تحدوا الرسل بإنزال العذاب وها هم الجاهليون يمارسون نفس السلوك... ولحظنا في قصص هود وصالح أكثر من إشارة إلى أن الامن الدنيوي لا قيمة له إذا تعقبه العذاب، وها هي الإشارة إلى
ص: 334
ذلك فى قصة الجاهليين أيضا (أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنٰاهُمْ سِنِينَ ...) و لحظنا في قصص السابقين أن في قصصهم لآية... وها هي الآية أو العظة تقدمها خاتمة السورة (ذِكْرىٰ : وَ مٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ ) ...
بعد ذلك، تنتقل الخاتمة إلى عرض (التهمة) التي لفقها الجاهليون من أن (الشياطين) تقف وراء الوحي، وهي مماثلة للتهمة التي وجهها السابقون إلى رسلهم. تهمة (السحر)... وقد أجابهم القرآن الكريم موضحا عدم استطاعتهم (أي الشياطين) ممارسة ذلك: وَ مٰا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيٰاطِينُ * وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مٰا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ...
ثم تنتقل الخاتمة إلى توضيح آخر عن سلوك الشياطين، لكنها قبل ذلك تقطع سلسلة العرض القصصي لتتحدث عن مهمة الرسالة التي اضطلع بها النبيّ (ص) ثم تعود لتكمل العرض القصصي المذكور وتختم به سورة الشعراء... من الزاوية الفنية ينبغي أن نعرف بأن قطع سلسلة الحدث بحادث أو بموقف آخر يعد مؤشرا فنيا إلى أهمية الحادث الجديد... والحادث الجديد هو مطالبة النبيّ (ص) بأن ينذر عشيرته الأقربين ويخفض جناحه للمؤمنين، وأن يبرأ ممن يكذبه في ذلك... الخ. هنا ينبغي أن نتذكر بأن سورة الشعراء تحوم على (فكرة) ان أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وإن الأقل فحسب هم الذين سيستجيبون لرسالة السماء... وها هو الحادث أو الموقف الجديد يحوم على نفس الهدف الفكري المذكور فهو يطالب النبيّ (ص) بالتوجه إلى نفر قليل هم: عشيرته أولا، ثم ينبهه على أنه حتى في هذا النفر القليل، هناك من لا يستجيب للرسالة، ويطالبه - من ثم - بأن يتوكل على اللّه وإلى أنه تعالى عالم بسلوكه العبادي الخاص: ممارسة الصلاة، مما نستخلص منه: أن ممارسة الوظيفة العبادية لا تعني بالكم بقدر ما تعني بالنوع، ما دام أكثر الناس ليسوا بمؤمنين ومن ثم ينبغي ألا يهلك المؤمنون أنفسهم أسفا في
ص: 335
حالة عدم إيمان الأكثرية بالرسالة و هو الهدف الفكري الذي عالجته سورة الشعراء في مقدمتها ووسطها القصصي وختامها لحظنا أن سورة الشعراء كانت قائمة على بناء فني تتضمن فكرة عامة تطبع كل موضوعاته المختلفة وهي فكرة أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين بالرغم من تقديم الحجج والآيات لهم، ولحظنا أن تهمة تنزل الشياطين على الرسالة كانت واحدة من موقف الجاهليين الذين طبعتهم السمة المذكورة.
ها هي السورة الكريمة تختم موضوعاتها المترابطة بطرح ظاهرة أدبية هي «الشعر» والموقف العبادي منه في ضوء ردها على التهمة المتصلة بالشياطين وممارستهم، قالت السورة الكريمة: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلىٰ كُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كٰاذِبُونَ * وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً... .
القسم الأول من هذه الخاتمة يتصل بالكهنة في ذلك العنصر وصلتهم بالشياطين وكونهم (أي الشياطين) كاذبين في إخبارهم عن الغيب: أما القسم الآخر فيتصل بظاهرة (الشعر)...
والسؤال، ما هي الصلة الفنية بين الكهانة والشعر في النص القرآني المذكور ما دام هدفنا في هذه الدراسات تناول السورة القرآنية من حيث هيكلها العام وترابط موضوعاتها فيما بينها؟ من الممكن أن يكون الترابط بين ظاهرتى «الكهانة» و «الشعر» قائما على المصدر المشترك لهما في تصور الجاهليين وهم الشياطين... حيث كان الشعر يقترن في تصور الكثير بإلهام الجن للشعراء... بيد أن القرآن الكريم أوضح بأن الشياطين كاذبون في معلوماتهم، والمهم - من ثم - أن وصل ذلك
ص: 336
بالشعراء و كأنهم يتبعهم الغاوون، و الانتقال بعد ذلك الى طرح ظاهرة (الشعر)، يعد مؤشرا فنيا إلى أهمية هذه الظاهرة و إلقاء الضوء عليها عبر النقلة الفنية من الكهانة إلى الشعر.
والسؤال من جديد، لماذا وسم القرآن الكريم ظاهرة (الشعر) بالغواية والهيام في كل واد وعدم اقتران القول بالعمل في ممارسات الشاعر؟ في تصورنا أن المشرع الإسلامي عندما يطرح إحدى الظواهر إنما يأخذ بنظر الاعتبار الطابع الغالب للسلوك، أي: أكثرية الناس الذين ليسوا بمؤمنين كما هي فكرة السورة الكريمة التي حامت عليها موضوعاتها المختلفة ومنها:
موضوع الشعر، مما يعني أن (القلة)، سواء في نطاق السلوك العبادي العام، أم في نطاق الشعر: مستثناة من القاعدة، وهو ما طرحه النص القرآني حينما استثنى القلة: (إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ... الخ).
ولعل السر النفسي في وسم ظاهرة الشعر بالغواية، والهيام في كل واد وعدم اقتران القول بالفعل، لعل سر ذلك (من الزاوية النفسية - والفنية أيضا) إن ممارسة الشعر ذاتها في طابعها العام - بغض النظر عن الحالات الاستثنائية - تظل عملا (ذاتيا) أكثر منه (موضوعيا)، بصفة أن «الشعر» عملية (انفعال) بالموقف... والانفعال - في اللغة النفسية - يعد تعبيرا عن عدم نضج الشخصية هذا فضلا عما تستبعه (الانفعالات) من تثبيت الشخصية على نسق خاص من السلوك ينسحب على مطلق تصرفاتها وهو أمر لا يتوافق مع الشخصية الاسلامية التي يحرص المشرع على أن يصوغها ناضجة سالمة من الانفعالات الشاذة.
وأيا كان الأمر، فإن بعض النصوص المفسرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تشير إلى أن من الشعراء نمطا تفقه بغير علم فأضل نفسه وأضل الآخرين... كما ان نصوصا تفسيرية أخرى تشير إلى جماعة بأعيانهم وقفوا
ص: 337
موقفا مضادا من رسالة الإسلام من خلال ممارستهم للشعر...
ومن الواضح، أنه: ليس ثمة منافاة بين كون النص القرآني المذكور يستهدف الإشارة إلى جماعة بأعيانهم وبين ترشح النص - في الوقت نفسه - بدلالة عامة تنسحب على الطابع الغالب في ممارسة الشعر، ما دمنا نعرف جيدا أن القرآن الكريم - وهو النص الفني المعجز - يتميز بكونه يجمع بين الخاص والعام... و إذا كنا نعرف أن الفن البشري الجيد يجمع بين الخاص والعام أي: الانتقال أو الترشح من (الخاص) أو (الفردي) أو (الوقتي) إلى العام، والجمعي، والأبدي، فحينئذ: يظل النص القرآني موسوما بالأولوية دون أدنى شك في هذا الميدان.
ومهما يكن: يعنينا (في ختام حديثنا عن سورة الشعراء) ان نلفت الانتباه مكررا على جمالية الهيكل الفني لهذه السورة وتلاحم موضوعاتها المختلفة بعضا مع الآخر، وانصبابها جميعا في رافد فكري يجمع ما بين أجزائها هو.
كون أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، بعضهم: الشعراء الذي ختمت السورة بهم وفق نقلة فنية من العرض القصصي للأنبياء (ع) ومواقف مجتمعاتهم منهم، إلى عرض قصة محمد (ص) وموقف مجتمعه منه في السلوك العام، بضمنه:
الموقف الفني من الشعر.
ص: 338
ص: 339
ص: 340
قال تعالى بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * طس * تِلْكَ آيٰاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتٰابٍ مُبِينٍ * هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ ، وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلٰئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذٰابِ ، وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ ....
هذا هو المقطع الأول من سورة النمل، يتضمن الإشارة إلى كون القرآن هدى وبشرى... مثلما يتضمن التركيز على سمتي الصلاة والزكاة، ثم التأكيد على ظاهرة خاصة هي: سمة الايمان باليوم الآخر، حيث كرر الإشارة إلى هذه السمة فذكر ما يضادّها أي: عدم الإيمان باليوم الآخر الذي ينكرونه، كما لوح بالجزاء الدنيوي الذي يعاقبون به، وهو تزيين أعمالهم بحيث يحيون حياة تمزق وتوتر وشك وحيرة وغيرها من أنماط السلوك المضطرب...
طبيعيا، ان هذا التأكيد على قضية الإيمان باليوم الآخر، وما يترتب عليها علانية من حياة مضطربة دنيويا، وعذاب آخروي: هذا التأكيد يكشف (من حيث البناء الهندسي للسورة الكريمة) عن أنّ فكرة السورة سوف تحوم عن هذا الموضوع، مضافا إلى الموضوعات الأخرى التي تضمنها هذا (التمهيد) أو (المقدّمة) التي تصدّرت السورة الكريمة...
والآن، فلنتابع المقاطع الأخرى لملاحظة بنائها الفني وما ينتظمه من موضوعات جديدة أو عناصر فنية موظفة لإنارة الأفكار المطروحة في المقدمة، يقول النص.
وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي
ص: 341
آنَسْتُ نٰاراً سَآتِيكُمْ مِنْهٰا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهٰابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمّٰا جٰاءَهٰا نُودِيَ . أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّٰارِ وَ مَنْ حَوْلَهٰا، وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * يٰا مُوسىٰ إِنَّهُ أَنَا اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ * وَ أَلْقِ عَصٰاكَ ، فَلَمّٰا رَآهٰا تَهْتَزُّ كَأَنَّهٰا جَانٌّ وَلّٰى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ ، يٰا مُوسىٰ : لاٰ تَخَفْ ، إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ ...
إلخ. إن القارىء قد يدهش حيال هذا البناء القائم على صوغ أقصوصة موسى في فقرات مختزلة تتناول الإشارة إلى بحثه عن الدفء لأهله، والمفاجأة بالتكلّم، ومطالبته بإلقاء عصاه، وبعدم الخوف من تحوّلها إلى ثعبان، وبأنّ المرسلين لا يخافون... و إذا تابعنا هذه الأقصوصة المختزلة، نجد أن اللّه تعالى يطالب موسى بأن يدخل يده في جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء، مصحوبة بتسع ظواهر إعجازية أخرى... ويطالبه بالذهاب إلى فرعون وقومه، مشيرا سبحانه و تعالى إلى أنّ فرعون وقومه لمّا شاهدوا تلكم الظواهر الإعجازية. استيقنتها أنفسهم، ولكنهم جحدوها ظلما وقالوا هذا سحر مبين... وبهذا القدر من العرض لقضية موسى تختم الأقصوصة، ثم ينتقل النص بعدها إلى الحديث عن شخصيتين نبويتين هي: داود وسليمان، ثم يعرض قصة سليمان بنحو تفصيلي لا نجده في أية سورة أخري... والمهم هو: أن نتبين الأسرار الفنية الكامنة وراء هذا المنحى في صياغة العنصر القصصي (اختزال قصة موسى، وتفصيل قصة سليمان) وصلة ذلك بالهيكل الهندسي للسورة الكريمة...
وأول ما يلفت النظر في الأقصوصة الأولى أن النص مهّد لها بقوله تعالى وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِأَهْلِهِ ... إلخ حيث ربط النص بين تلقي محمد (ص) للقرآن وبين انطوائه على عرض قصصي يتناول شخصية موسى وعلاقته بالموضوعات التي أشرنا إليها، أنّ تلقيه (ص) للقرآن يظل موضع تأكيد خاص بهذه الأقصوصة وبسواها، محسّسا القارىء بأهمية الموضوعات التي تنطوى عليها أقاصيص السورة الكريمة... ومن البين
ص: 342
أن هذا النوع من النقلة الفنية من موضوع عام وهو القرآن وتلقيه و قضايا المشار إليها في المقدمة إلى موضوعات قصصية، هذا النوع من النقلة الفنية بين الموضوعات، يكشف عن جمالية البناء الهندسي للنص، من حيث تواشج خطوطه: بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِأَهْلِهِ : إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً سَآتِيكُمْ مِنْهٰا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهٰابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمّٰا جٰاءَهٰا نُودِيَ : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّٰارِ وَ مَنْ حَوْلَهٰا، وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ... .
هذه الأقصوصة التي تتناول عرضا يختزل حياة موسى وعلاقته بأهله، وبالمفاجأة المرتبطة بتكليمه من قبل السماء، وبإلقائه عصاه، وإدخال يده في جيبه، وسائر الدلائل الإعجازية التي طولب بعضها من فرعون وقومه، ثم التعقيب على فرعون وقومه بأنهم قد استيقنوها داخليا بهذه الدلائل ولكنهم أنكروها ظلما، واتهامهم موسى بالسحر (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة، قالوا: هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)، وكذلك التعقيب على رجوع موسى إلى ورائه عند مشاهدته انقلاب العصا ثعبانا، بقوله تعالى يٰا مُوسىٰ : لاٰ تَخَفْ ، إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ ... أقول، إنّ اختزال أقصوصة موسى بهذا النحو والاقتصار على عرض بعض الشرائح منها، لا بدّ أن ينطوى على سرّ فنيّ : إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أنّ قصص موسى الأخرى قد يفصّل فيها الحديث، أو يكتفي بالإشارة السريعة لبعضها، حينئذ لا بدّ أن نستكشف بأنّ الهدف من عرضها بهذا الشكل أو ذاك إنما يستهدف جانبين، أحدهما: يرتبط بفكرة السورة الكريمة التي طرحتها المقدمة، والآخر: يرتبط بهدف إبراز حقائق معينة للقارىء أو السامع... والآن حين نتأمل العرض
ص: 343
القصصي المذكور نجد أنّ من أبرز الظواهر المطروحة فيها، أن الشخصية يجب أن تتيقن بأن الله تعالى يهبها المعطيات من حيث لا تحتسب، حيث أن موسى بعد أن تاه في رحلته، وللإفادة منها في التدفئة لامرأته التي جاءها الطلق، و إذا به يفاجأ بتكليم اللّه تعالى، حيث تعد مثل هذه الحالة أعظم معطى في حياة الإنسان يواجهه من حيث لا تحتسب...
ومن الظواهر المطروحة في الأقصوصة. إبراز مهمة النبوة وخطورة صاحبها، حيث نودي موسى «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّٰارِ وَ مَنْ حَوْلَهٰا» أي، لقد بارك اللّه تعالى مهمة «الملائكة» الذين كانوا يسبحون اللّه تعالى في النار التي شاهدها، وبارك موسى الذي كان حولها... ولا شك أنّ لهذه المباركة من قبل اللّه تعالى إشعارا بخطورة وأهمّية الشخصية النبوية.
كذلك، من الظواهر المطروحة في الأقصوصة: إكساب الشخصية النبويّة سمة (عدم الخوف) يٰا مُوسىٰ : لاٰ تَخَفْ ، إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ ...
هذه الظواهر، تظل في واقعها - عرضا قصصيا يستهدف بنحو غير مباشر، الإيحاء للنبيّ (ص) بمهمة الرسالة التي اضطلع بها، ومن ثم. الإيحاء للنبيّ (ص) بأنّ مواجهته لقومه، تظل مماثلة لأولئك الأقوام الذين شاهدوا معجزات موسى حينئذ، واستيقنتها أنفسهم، ولكنهم جحدوا بها ظلما وعلّوا، واتهموا صاحبها بالسحر. مع تلويح القصة في النهاية بالمصائر التي سينتهي إليها أولئك الأقوام المفسدون فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ .
إذن، أمكننا الآن، أن نستكشف جانبا من الأسرار الفنية الكامنة وراء هذا العرض القصصي لحياة موسى عليه السلام، وصلتها بمهمة النبوة، وخطورة صاحبها، وطريقة تبليغه للرسالة، وطبيعة المجتمعات المنحرفة التي تواجه الحقائق يقينا، ولكنها تتمرد على الحقيقة ظلما وعنادا مما يترتب عليه مصير بائس ينتظر أولئك المنحرفين.
ص: 344
هذه الأسرار الفنية تظل - كما هو بين - كاشفة عن مدى الإحكام الهندسي للسورة الكريمة التي طرحت في المقدمة مجموعة من الموضوعات المتصلة بالنبيّ (ص) ومهمته النبويّة على نحو ما سنتحدث عنها لاحقا، مما يفصح - كما قلنا - عن إحكام المبنى العماري للنص: من حيث تواشج موضوعاته بعضها مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً، وَ قٰالاَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ، وَ قٰالَ : يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ، وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ، إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ * وَ حُشِرَ لِسُلَيْمٰانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ** حَتّٰى إِذٰا أَتَوْا عَلىٰ وٰادِ اَلنَّمْلِ ، قٰالَتْ نَمْلَةٌ : يٰا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسٰاكِنَكُمْ لاٰ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمٰانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضٰاحِكاً مِنْ قَوْلِهٰا، وَ قٰالَ : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ ، وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ ، وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ اَلصّٰالِحِينَ ...
تجيء هذه القصة التي تتناول شخصية سليمان امتدادا للعنصر القصصي الذي يوظفه النص القرآني الكريم لإنارة موضوعات السورة، حيث سبقتها قصة موسى عليه السلام وحيث لحظنا موقعها الهندسي من عمارة السورة الكريمة... أمّا الآن فنقف عند قصة جديدة ينبغي ملاحظتها أيضا من خلال لغتها الفنية وموقع ذلك من عمارة النص.
بعامة يمكن القول بأن هذه القصة قد مهّد لها بحكاية تقول وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ، وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً، وَ قٰالاَ: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ ... إنّ شخصية داود عليه السلام لم ترسم هنا إلاّ من خلال السمة المشتركة بينها وبين سليمان عليه السلام وهي سمة (العلم) حيث انتقل النص
ص: 345
بعد ذلك إلى الحديث عن سليمان فحسب... لذلك نحسب أنّ رسم شخصية داود جاء (تمهيدا) لقصة سليمان... و المسوّغ الفنّي لهذا التمهيد هو وجود سمة مشتركة بينهما (سمة العلم)... لكن من الممكن أن نتساءل: هل أن وجود سمة مشتركة بين بطلين كاف في صوغهما ضمن قصة يكون أحد البطلين منها (تمهيدا) للبطل الآخر.
في تصورنا أنّ اشتراكهما في السّمة كاف في تسويغ الصياغة القصصية المشار إليها، بيد أنّ الأهم من ذلك (وهذا ما يثير الدهشة الفنية في صياغة القصص القرآني) إن داود عليه السلام يشترك مع سليمان عليه السلام في ظاهرة (النّسب)، وهو مسوّغ فني كبير بطبيعة الحال، بخاصة أن القصة أشارت إلى أنّ سليمان قد ورث داود... إذن المسوغ الفني لهذا التمهيد (رسم داود مقدمة لرسم سليمان) جاء مقرونا بجملة أشياء...
أمّا السمة المشتركة العامة التي رسمها القرآن الكريم للبطلين (داود وسليمان) ونعنى بها سمة (العلم)، فقد اكتفى فيها (بالنسبة لداود) بالإشارة فحسب، دون أن تذكر مصاديقها، حيث أنّ مفردات (العلم) المذكور نجدها في قصص أخرى تشير إلى أنّ السّماء (علمت) داود صنعة لبوس إلخ... وبما أنّ النصّ كان في صدد الحديث عن سليمان فحسب، حينئذ انتفى المسوّغ الفني للحديث عن داود في هذه القصة التي نتحدّث عنها، ولذلك جاء رسم داود تمهيدا - كما قلنا - لشخصية سليمان.
والآن، إذا تجاوزنا هذا التمهيد، واتجهنا إلى قصة سليمان، نجد أن التجسيد لظاهرة (العلم) التي تضمنها (التمهيد) (وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً) قد برز بوضوح في أوائل القصة حيث استهلت القصة بقوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ، وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ ... إنّ قول سليمان عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ ... جاء مصداقا أو تجسيدا لقول الله تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً ... ليس هذا فحسب، بل نجد أنّ داود
ص: 346
وسليمان عندما قالا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ نجد أنّ سمة (الفضل) التي أشار النص إليها قد انعكست على موقف سليمان من تعلم منطق الطير، حيث عقّب على قوله عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ... عقّب قائلا إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ ... ليس هذا فحسب أيضا بل إنّ القصة تقدّمت برسم حادثة هي حادثة جنود سليمان الذين أتوا على وادي النمل، حيث حذّرت النملة جماعتها من سليمان وجنوده، وحيث تبسّم سليمان من قولها، وحيث شكر اللّه تعالى على نعمة تعليمه منطق الطير... إذن لنلاحظ هذه المستويات المدهشة في بناء النّص القرآني الكريم الذي مهّد (العلم) لشخصية سليمان ثم قدم لها تجسيدا قوليا عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ ثم قدّم لها تجسيدا عمليا (حادثة النملة) ثم قدّم - في أكثر من موقف - تجسيدات لفظية مترتبة على تعلم سليمان منطق الطير... أولئك جميعا، تكشف عن مدى الاحكام الفني وجماليته بالنسبة لعمارة النص القرآني الكريم، من حيث تواشج جزئياته. بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى. وَ لُوطاً، إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ : أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسٰاءِ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ، إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاّٰ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ اَلْغٰابِرِينَ * وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ * قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ ... .
بهذه الأقصوصة التي تتحدّث عن لوط عليه السلام وقومه، سيختم العنصر القصصي في سورة النمل، حيث جاءت قصص موسى وداود وسليمان
ص: 347
و صالح (و القصة التي نتحدث عنها الآن) توظيفا فنيا لإنارة موضوعات السورة و أفكارها...
هيكل الأقصوصة، يقوم على قضية الانحراف الجنسي لدى المجتمع الذي واجهه لوط، وما لحق هؤلاء المنحرفين من العقاب الدنيوي. بما فيهم امرأته... ما يعنينا من القصة: صلتها بعمارة السورة الكريمة، والصياغة الفنية لها... أمّا الصياغة فإن الأقصوصة قد حصرت العرض القصصي في ظاهرة الانحراف الجنسي، وأنهت مصائر المنحرفين في ضوء الجزاء المترتب على الانحراف المذكور، بيد أنّها عقّبت على ذلك بالقول: قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ ... هذا التعقيب على قصة لوط وما سبقها من القصص. له دلالته البنائية من حيث صلة القصص بفكرة السورة الكريمة، فالسورة تتحدث عن سلوك المشركين الذين عاصروا محمدا (ص)، وها هي تطالبه بأن يسأل قومه هذا التساؤل، وهو الرابط الفني بين القصص وبين الموضوع الرئيس. إلاّ أن إبراز هذه الظاهرة لا يعني حصر الانحراف فيها بقدر ما يعني أنها من أبرز ظواهر الانحراف في المجتمع المذكور، وإلاّ فإن الانحراف الفكري، يظل هو الطابع العام لكل المجتمعات التي جاءتها رسل اللّه تعالى... كذلك، جاء التعقيب الذي يتساءل آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ مشيرا بنحو غير مباشر إلى أن مجتمع لوط (مضافا إلى كونه منحرف أخلاقيا) فإنّه منحرف (عقائديا) أي: أنّه مجتمع غير موحّد للّه تعالى... وهذا النمط من الصياغة التي تكتفي بإبراز ظاهرة أخلاقية في القصة (الانحراف الجنسي)، وتشير إلى ظاهرة عقائدية في موقع آخر من السورة...
هذا النمط في الصياغة، له إثارته الفنية دون أدنى شك (من حيث الاقتصاد اللغوي، ومن حيث فسح المجال للقارىء بأن يستكشف بنفسه دلالات القصة المشار إليها).
ص: 348
في ميدان الصياغة أيضا، نجد أنّ القصة قد اعتمدت عنصر (الصورة الفنية) في عرضها لظاهرة الانحراف، المصير الذي انتهى المنحرفون إليه، حيث اعتمدت (الاستعارة): في رسم العذاب الدنيوي الذي انتهوا إليه، وذلك في قوله تعالى وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ ... لقد أكسب النصّ العذاب صفة التبادل بين ظاهرتين حسّيتين هما: الحجارة والمطر...
والمسوّغ الفني لهذا التبادل بين الصفتين هو: أنّ المطر يتسم بنزوله من الجوّ، وأنّ الحجارة (عند حلول العقاب) قد اتخذت نفس السمة (وهي النزول)، مضافا إلى أنّ سلخ المطر صفته الحقيقية (وهي: نزول الخير) وإكسابه صفة الضد (وهو نزول العذاب)، يظل أشد إثارة فنيّة كما هو واضح...
والآن، خارجا عن هذا العنصر الصوري الذي وظّف لرسم المصير الدنيوي لمجتمع لوط، ينبغي أن نتذكر - من جديد - بأنّ الهدف الفيّ من عرض هذه الأقصوصة وسواها هو تذكير المجتمع المعاصر لرسالة محمد (ص) بالمصائر التي انتهى إليها المنسلخون عن مبادىء اللّه، وفي مقدمتها. عدم الإيمان باليوم الآخر، حيث كانت مقدمة سورة النمل تركّز على هذا الجانب، وهو أمر يمكننا ملاحظته إذا تابعنا الرسم القرآني في هذا الميدان، حيث يبدأ الحديث عن مجموعة من الظواهر التي يختمها بقوله تعالى: بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا، بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ وبهذا الربط بين سلوك المنحرفين في عصر النبيّ وبين التلويح بظواهر الشك والعمى عن اليوم الآخر، يكون النص قد أحكم بناؤه الهندسي، كما هو واضح.
قال تعالى: قُلْ : لاٰ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّٰهُ ، وَ مٰا يَشْعُرُونَ أَيّٰانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا. أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً وَ آبٰاؤُنٰا أَ إِنّٰا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنٰا هٰذٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ ، إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ... .
ص: 349
قال تعالى: قُلْ : لاٰ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّٰهُ ، وَ مٰا يَشْعُرُونَ أَيّٰانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا. أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً وَ آبٰاؤُنٰا أَ إِنّٰا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنٰا هٰذٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ ، إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ... .
هذا المقطع من سورة النمل يتناول قضية اليوم الآخر وموقف المشكّكين به: حيث أنّ السورة الكريمة تحوم على فكرة اليوم الآخر كما لحظنا ذلك في مقدمة السورة التي جاء فيها: إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلٰئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذٰابِ ، وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ ، وها هو وسط السورة يواصل حديثه عن اليوم الآخر، بعد أن قدّم مجموعة من قصص الماضين، ووظّفها فنيا لإنارة هذه الفكرة، وهو أمر نلحظه في هذا المقطع الذي نتحدت عنه الآن، حيث ختمه بقوله تعالى قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ، إنّ هذا الكلام جاء تعقيبا على موقف المشكّكين باليوم الآخر - مما يعني أن العنصر القصصي في السورة جاء موظفا لإضاءة فكرة اليوم الآخر، كما قلنا، لكن، خارجا عن هذا المبنى الهندسي للنص، يعنينا أن نشير إلى أنّ النص القرآني الكريم عندما يكرّر الحديث عن اليوم الآخر، فهو يطرح الموضوع في سياق جديد أو يتناوله من زاوية جديدة...
الزاوية الجديدة التي طرح فيها موضوع اليوم الآخر، تتمثل في جملة أشياء، منها: هذا الحوار الجمعي الذي صدر عنه الكافرون وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً وَ آبٰاؤُنٰا أَ إِنّٰا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنٰا هٰذٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ ، إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ...
إن هذا الحوار يمثل واحدا من مفردات السلوك المشكّك باليوم الآخر، وهو حوار يكشف عن هزال الفكر الذي يصدر عنه هؤلاء المنحرفون، نظرا لاستنادهم إلى مجرّد استبعاد أن يبعثوا وقد أصبحوا ترابا... علما بأنّ النص القرآني الكريم قد أوضح (في مقطع أسبق) إمكانية الله تعالى المطلقة في الإبداع من نحو أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ ... أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرٰاراً ... إلخ، و منها قوله تعالى أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ . هذه الإشارة إلى إعادة الخلق، تظل مرتبطة بهذا الحوار الذي يصدر عن المشكّكين باليوم الآخر، حيث استدلّ النصّ القرآني الكريم ببدء الخلق وإعادته أولا، ثم عرض حوار المشككين بإعادة الخلق: حتى يسقط الأفكار الهزيلة لدى المشككين، سلفا في ذهن القارىء أو السامع. لذلك، نجد أنّ الموضوعات المطروحة في هذا المقطع الذي يتحدث عن اليوم الاخر، تؤكد طابع الاضطراب الفكري والنفسي لدى المشككين: تحقيقا لهذا الهدف وهو إسقاطهم من الحساب أساسا، لقد وصفهم النص قائلا: بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا، بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ ... أنّ هذا التكرار لأدوات التأكيد بَلْ هُمْ والتكرار لطوابعهم الفكرية بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ هذا التكرار لعدم العلم، والشك، والعمى: ينطوي على سرّ فنّي في صياغة العبارة بهذا النحو الذي يصدر عنه المشكّكون... مضافا إلى ذلك، فإنّ هذه السمات العقلية التي أبرز النصّ هزالها عند المشككين، تظل منطوية على سرّ فنّي آخر يرتبط بعمارة السورة الكريمة التي تقوم فكرتها - كما كرّرنا - على قضية اليوم الآخر، بحيث وصفهم النص في مقدمة السورة بسمات الاضطراب النفسي والفكري إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ، فالعمه هو الحيرة، أي: الاضطراب الذي أشرنا إليه، وها هو النص تقدّم - في وسط السورة - بإبراز مجموعة من مفردات السلوك التي تكشف عن طابع الاضطراب لدى المشككين باليوم الاخر كما لحظنا، مما يكشف ذلك عن الإحكام العضوي لعمارة السورة الكريمة، من حيث صلة أجزائها.
ص: 350
إن هذا الحوار يمثل واحدا من مفردات السلوك المشكّك باليوم الآخر، وهو حوار يكشف عن هزال الفكر الذي يصدر عنه هؤلاء المنحرفون، نظرا لاستنادهم إلى مجرّد استبعاد أن يبعثوا وقد أصبحوا ترابا... علما بأنّ النص القرآني الكريم قد أوضح (في مقطع أسبق) إمكانية الله تعالى المطلقة في الإبداع من نحو أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ ... أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرٰاراً ... إلخ، و منها قوله تعالى أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ . هذه الإشارة إلى إعادة الخلق، تظل مرتبطة بهذا الحوار الذي يصدر عن المشكّكين باليوم الآخر، حيث استدلّ النصّ القرآني الكريم ببدء الخلق وإعادته أولا، ثم عرض حوار المشككين بإعادة الخلق: حتى يسقط الأفكار الهزيلة لدى المشككين، سلفا في ذهن القارىء أو السامع. لذلك، نجد أنّ الموضوعات المطروحة في هذا المقطع الذي يتحدث عن اليوم الاخر، تؤكد طابع الاضطراب الفكري والنفسي لدى المشككين: تحقيقا لهذا الهدف وهو إسقاطهم من الحساب أساسا، لقد وصفهم النص قائلا: بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا، بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ ... أنّ هذا التكرار لأدوات التأكيد بَلْ هُمْ والتكرار لطوابعهم الفكرية بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ هذا التكرار لعدم العلم، والشك، والعمى: ينطوي على سرّ فنّي في صياغة العبارة بهذا النحو الذي يصدر عنه المشكّكون... مضافا إلى ذلك، فإنّ هذه السمات العقلية التي أبرز النصّ هزالها عند المشككين، تظل منطوية على سرّ فنّي آخر يرتبط بعمارة السورة الكريمة التي تقوم فكرتها - كما كرّرنا - على قضية اليوم الآخر، بحيث وصفهم النص في مقدمة السورة بسمات الاضطراب النفسي والفكري إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ، فالعمه هو الحيرة، أي: الاضطراب الذي أشرنا إليه، وها هو النص تقدّم - في وسط السورة - بإبراز مجموعة من مفردات السلوك التي تكشف عن طابع الاضطراب لدى المشككين باليوم الاخر كما لحظنا، مما يكشف ذلك عن الإحكام العضوي لعمارة السورة الكريمة، من حيث صلة أجزائها.
بعضها مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ
ص: 351
يَخْتَلِفُونَ وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ ... .
هذا المقطع من سورة النمل يعرض للإسرائيليين دون سواهم في غمرة حديثه عن الجاهلين المشككين باليوم الآخر، حيث قطع النصّ حديثه عن المعاصرين لرسالة الإسلام، وتحدّث عن الإسرائيليين، ثم عاد إلى الحديث عن المعاصرين لمحمد (ص).
واضح (من الزاوية الفنية) أنّ النص القرآني الكريم عندما يقطع سلسلة حديثه ويعود إليها، فإن الموضوع الجديد الذي قطع به سلسلة حديثه، يظل متّسما بأهمية خاصة يستهدف إبرازها إلى المتلقي... الموضوع هو: سلوك الإسرائيليين من حيث اختلافهم حيال رسالة الإسلام أو عيسى ومريم أو سوى ذلك مما أبهمه النص مكتفيا بالإشارة إلى طابع الاختلاف الذي يسم مواقفهم... وبما أنّ فكرة السورة الكريمة هي: قضية اليوم الآخر، فإن النص (من حيث المبنى الهندسي للسورة) ربط بين اختلاف الإسرائيليين وبين اليوم الآخر الذي سوف يحاسبون فيه... وهذا النمط من الربط الفني ينطوي على أسرار جمالية فائقة دون أدنى شك.. فهو - من جانب - يستهدف إبراز سلوك ملتو يتّسم به الإسرائيليون الذين عرفوا بالتواء سلوكهم طوال التأريخ، وهو - من جانب آخر - يستهدف ربط الماضي بالحاضر، وربط الجماعات المنحرفة:
بعضها مع الآخر، حتى يتبلور للقارىء سلوك المعاصرين لرسالة الإسلام، وهذا ما نلحظه بوضوح حينما يعود النص من جديد إلى الحديث عن المنحرفين المعاصرين لمحمد (ص)، فيقول مخاطبا النبيّ (ص):
فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ ، وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ ... . ويعنينا من هذا المقطع: موقعه الهندسي من السورة الكريمة، فيما ينطوي على خصائص فنيّة
ص: 352
ذات دهشة و إثارة: من حيث العنصر الصورى الذى يطبعه، حيث اعتمد - مجموعة من «الرموز» أو «الاستعارات» التي يتعيّن الوقوف عندها، لملاحظتها من حيث التركيبة الفنية ومن حيث الموقع الهندسي لها من السورة الكريمة...
الرموز أو الاستعارات التي استخدمها النصّ ، هي: (إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ ) و (لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ ) و (ما أنت بهادي العمي.. هذه «الرموز» الثلاثة تشير إلى المنحرفين أو المشككين باليوم الآخر..
وقد انتخب النصّ سمة (الموت) و (الصمم) و (العمى)، ليخلعها على المنحرفين، حيث ترمز هذه (الصور) أو (الاستعارات) إلى الانغلاق الفكري الذي يطبع المنحرفين، ونحن لا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى ندرك بأن (الموت) رمز لمن لا وعي له، وأن (الصمم) رمز لمن ليس لديه استعداد لتقبّل الحقيقة، وأن (العمى) رمز لمن لا يبصر الحقائق.
هذه الرموز واضحة كلّ الوضوح، مألوفة كلّ الألفة، والأهميّة الفنية لها تتمثل في ألفتها ووضوحها من جانب، وفي عمق دلالاتها من جانب ثان، وفي توظيفها العضوي: أي استخدامها لإنارة فكرة السورة من جانب ثالث...
وهذا الجانب الأخير، يمكن ملاحظته من خلال متابعتنا للمقاطع اللاحقة التي تتحدث - كما سنرى - عن اليوم الآخر، حيث يربط النص بين مواقف المنحرفين وبين العقاب الذي ينتظرهم، تماما كما لحظنا ذلك عند حديث النص عن الإسرائيليين الذين ربط النصّ بين اختلافهم و بين انعكاساته أخرويا.
وبهذا النمط من الربط العضوي بين فئات المنحرفين من جانب، وانعكاسات ذلك أخرويا من جانب آخر، نستكشف مدق بالإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر.
قال تعالى وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ ، إِنْ تُسْمِعُ إِلاّٰ مَنْ
ص: 353
يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنٰا، فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ، أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا، فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُ قٰالَ : أَ كَذَّبْتُمْ بِآيٰاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهٰا عِلْماً، أَمّٰا ذٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمٰا ظَلَمُوا فَهُمْ لاٰ يَنْطِقُونَ .
هذا المقطع من السورة الكريمة، يتناول الحديث عن اليوم الآخر، وهو الموضوع الذي يقوم عليه هيكل السورة...
الجديد في هذا المقطع وكلّ مقطع عن اليوم الآخر، لا بدّ أن يطرح موضوعا جديدا هو: التلويح بأحد أشراط الساعة، أي الفرة الزمنية التي يعقبها قيام الساعة...
إنّ حدث الموت يشكّل أول منازل الآخرة، كما أن الأحداث التي تختم بها الحياة الكونية تشكّل الخطوة الأولى نحو الآخرة... و إذا كانت نصوص قرآنية أخرى تتناول أوّل المنازل الأخروية، فإنّ النص الذي نتحدّث عنه يتكفّل برسم الأحداث الأخيرة للكون، وهي الحادثة التي يقول عنها النص: وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ، أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ أنّ هذا الكلام قد مهّد له النص بالحديث عن الكافرين المعاصرين لرسالة الإسلام، حيث وصفهم بسمات الموتى والصم والعمي... وبهذا التمهيد يكون النص (من حيث عمارة السورة الكريمة) قد ربط بين موضوعاتها، حيث انتقل من الحديث عن أن العمي (وهو رمز فني لمن لا يبصر الحقائق العبادية) لا يمكن أن يهتدوا، إلى الحديث عن إحدى علامات الساعة التي تفرز هؤلاء العمي، مشيرا إلى (حادثة) مبهمة (من حيث الرسم القصصي للحوادث) وهى: خروج دابة من الأرض، تتحدث بكلام يقول أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ . طبيعيا، ليس المهم (من حيث المسوّغ القصصي لرسم الحوادث) أن يفصّل الحديث عن معالم تلكم الحادثة بقدر ما
ص: 354
يستهدف النص إبراز حقيقة كونية هي: أنه قبل قيام الساعة سوف يفرز المؤمن عن غير المؤمن من خلال بروز (شخصية) تقوم بمهمة الفرز المذكور... كما أنّ ثمة حقيقة كونية أخرى يتردّد المعنيّون بالتفسير في تشخيصها، وهي قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا... ، فهذا (الحشر) من الممكن أن يقصد منه (حادثة ما قبل الساعة أيضا) أو ما يطلق عليه مصطلح (الرجعة)، كما يمكن أن يقصد منه (حوادث ما بعد الساعة)، وفي الحالين، فإن الهيكل الهندسي للسورة يحتمل كلا من التفسيرين، حيث أن التفسير الأول (وهو الرجعة) يظل امتدادا لحادثة خروج الدابة وإشارتها بسمات الإيمان أو عدمه لهذا الشخص أو ذاك، كما أن التفسير الآخر (وهو الحشر في القيامة) يظل حادثة زمنية وموضوعية تعقب حادثة ما قبل قيام الساعة، بحيث يمكن القول بأن خروج الدابة يشكّل مرحلة ما قبل الساعة، وأن الحشر يشكّل مرحلة الساعة التي تعقب المرحلة الأولى.
إذن، في ضوء التفسيرين المتقدمين، علينا أن نتبين فخامة الهيكل الهندسي الذي تقوم عليه السورة الكريمة، والمهمّ هو: أن المكذبين باليوم الاّخر (وهو الموضوع الذي تحوم عليه السورة) قد رسمهم النص من خلال رسمه لحوادث مقبلة (قبيل قيام الساعة وبعدها) ملوّحا لهم بالجزاءات التي تنتظرهم دنيويا وأخرويا، حتى أنّه يجري حوارا على لسان الشخصية التي تقول أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ ، كما يجرى حوارا من قبل السماء يقول أَ كَذَّبْتُمْ بِآيٰاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهٰا عِلْماً حيث تشكل هذه المحاورات منحى فنيا لتحقيق عنصر (الإقناع) بحقيقة الجزاءات التي تنتظر المنحرفين... والمهم أيضا، أنّ هذه المستويات من الصياغة الفنية تتم من خلال الربط الموضوعي بين أجزاء السورة الكريمة، بنحو يكشف عن فخامة الهيكل الهندسي لها، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 355
قال تعالى: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ ، إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ، وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دٰاخِرِينَ وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ ، صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ ، فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
بهذا المقطع تختم سورة النمل التي استهلت بالحديث عن قضايا اليوم الآخر، حيث ختمت السورة بالحديث عن اليوم الآخر أيضا، وذلك قوله تعالى: مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا... وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ . ويلاحظ، أنّ الحديث عن اليوم الآخر قد طرح في مستوياته أو مراحله المتنوعة، حيث تكفّل كلّ مقطع من السورة بطرح إحدى مراحل اليوم الآخر... كانت المرحلة الأولى تتناول أحداث ما قبل الساعة (وإذا وقع القول عليهم)، أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم. أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ . وكانت المرحلة الثانية تتناول أحداث القيام نفسه وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ ... وكانت المرحلة الثالثة تتناول الحساب والمصير للخلائق مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ ، فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا... وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ ، فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ .
وخلال الحديث عن هذه المراحل، كانت السورة القرآنية تطرح جملة من الموضوعات التي تستهدف توصيلها إلى القارىء، ومنها (في هذا المقطع الأخير الذي نتحدث عنه) موضوعات تتصل بالابداع الكوني، والهدف العبادي للإنسان... فمن جملة الظواهر الإبداعية المطروحة، قوله تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، ومن جملتها أيضا قوله تعالى وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً ، وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ ، صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ . لنلاحط هنا،
ص: 356
أنّ النص القرآني الكريم، بالرغم من أنّه يتحدث عن ظواهر إبداعية مثل الليل والنهار ومثل الجبال، إلاّ أنّه يربط بينها وبين البعد العبادي لها، فهو عندما يتحدث عن سكون الليل للإنسان وعن ضياء النهار للاستنارة به في العمل، إنّما يربط ذلك بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، بل أنّه عندما يتحدث عن (الجبال) التي تمرّ مرّ السحاب، نجده يربط بين إتقانه تعالى في صنعها وبين كونه تعالى خبيرا بأفعال الإنسان صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ لنلاحظ، كيف أنّ النص قد ربط بين الإتقان في الصنعة (وهي فاعلية إبداعية) وبين وقوفه تعالى على أفعال الإنسان (وهي فاعلية من نمط آخر) لا ترتبط بإتقان الصنعة بل بإتقان المعرفة لأفعال الآخرين، حيث أنّ مثل هذا الربط بين الفاعليتين يكشف عن واحد من أسرار البناء الفني للسورة الكريمة، أي. أنّه يكشف عن عضوية ومتانة العلاقة بين الموضوعات المختلفة التي تصب في هدف واحد هو: تحقيق المهمة الخلافية، والعبادية للإنسان، وهذا ما بلوره النص بوضوح في ختام السورة الكريمة، عندما أنهى حديثه عن الظواهر الإبداعية وحديثه عن اليوم الآخر، حيث عقب على ذلك بقوله تعالى.
إِنَّمٰا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هٰذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَهٰا، وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ ، وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ ، فَمَنِ اِهْتَدىٰ فَإِنَّمٰا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمٰا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ . إذن، جاء طرح الموضوعات المختلفة، مسوقا لهدف خاص هو العبادة للّه تعالى وممارسة التبليغ لرسالة الإسلام... وبهذا الربط بين الموضوعات وبين الانتهاء منها إلى أهداف خاصة، يكون النص القرآني الكريم قد أحكم عمارة السورة الكريمة من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
ص: 357
ص: 358
ص: 359
ص: 360
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * طسم * تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسىٰ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ ، وَ جَعَلَ أَهْلَهٰا شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طٰائِفَةً مِنْهُمْ ، يُذَبِّحُ أَبْنٰاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسٰاءَهُمْ ، إِنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ * وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَحْذَرُونَ .
بهذا المقطع القصص تبدأ سورة القصص... والملاحظ أنّ غالبية السور القرآنية الكريمة تبدأ بالنثر غير القصصي، وتجعل من القصص عنصرا موظفا لإضاءة الأفكار التي تستهدفها السورة... بيد أنّ سورة القصص وسورا أخرى مثل يوسف ونوح وسواهما، تبدأ بالعنصر القصصي، بحيث تكون القصة ذاتها هدفا فكريا وليست وسيلة لهدف فكرى. والآن، حين نتأمل سورة القصص، نجد أنّها تبدأ بقصة موسى مع فرعون، وتطرح خلال هذه المقدمة (أفكارا) خاصة تنعكس على أحداث القصة ومواقفها من جانب، ثم على سائر موضوعات السورة الكريمة من جانب آخر، وبهذا النمط من البناء الهندسي للسورة، نكون أمام صياغة فنّية لها تميّزها المدهش وجماليتها الفائقة...
لقد استهلت السورة حديثها بالإشارة إلى أنّ النص يتلو على النبىّ جانبا من قصة موسى وفرعون... وهذه الإشارة أو التعليق القصصي يستهدف لفت النظر إلى دلالتها (الفكرية) التي تحوم عليها السورة: كما هو واضح. ترى: ما هي الدلالات المطروحة في مقدمة السورة أو القصة ؟. المقدّمة تشير إلى أنّ فرعون علا في الأرض وأنّه تعالى يريد أن يمنّ على المستضعفين، وأن يرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. إنّ ما يحذره فرعون وهامان
ص: 361
و جنودهما، لابدّ أن يتجسّد في الخوف من ذهاب سيطرتهم على الآخرين...
وبالرغم من أنّ النص قد لفع هذا الجانب بغموض فنّي، إلاّ أنّ القارىء يستنتج أنّ (الحذر) هنا لا بد أن يكون من ذهاب الملك... أما تفصيلات ذلك، فأمر لا يتحدث عنه النص بل تشير النصوص التفسيرية إليه، كما أنّ الجزء اللاحق من القصة وهو قوله تعالى:
وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ ، فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ ...
إلخ يشير إلى وجود (مخاوف) من قبل فرعون من ذهاب ملكه، و إلاّ لماذا يتم الاقتراح بإلقاء موسى في اليمّ؟ لذلك نواجه هنا سرا فنيا جديدا في صياغة الحادثة المرتبطة بأم موسى، والمطالبة بإرضاعه، وبإلقائه في اليم، وإرجاعه إليها، وجعله من المرسلين، والتقاطه من قبل آل فرعون وجعله - في النهاية - لهم عدّوا وحزنا. هذه الأحداث المكثفة التي عرضها النص على نحو التتابع الخاطف، وطوق بها حياة طويلة لموسى: منذ ولادته وحتى انتصاره على فرعون، هذه الأحداث المكثفة تكشف عن أنّ هناك - كما أشرنا - مخاوف خاصة، تغلف فرعون وزمرته، وأنّ موسى عليه السلام هو الشخصية التي يتخوّف منها، بدليل قوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً .
إذن، من خلال هذه الصياغة غير المباشرة لقصة موسى (إرضاعه، إلقائه في اليم... إلخ) نستكشف أسرارا فنّية مدهشة في ميدان الصياغة القصصية التي لا تتحدث مباشرة عن أسباب إرضاع أم موسى لولدها و إلقائه في اليم، بل تحتفظ بسرّية هذه الأسباب، لتجعل القارىء يكتشف بنفسه (من: خلال النصوص التفسيرية أيضا) الأسباب الكامنة وراء الأحداث المشار إليها...
وبهذا النمط من الصياغة المدهشة فنيا، نتبين - بطبيعة الحال - مدى الإحكام الهندسي للنص من حيث تلاحم جزئياته: بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه، وبالنحو الذي نفصل الحديث عنه لاحقا.
ص: 362
قال تعالى: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا كٰانُوا خٰاطِئِينَ * وَ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاٰ تَقْتُلُوهُ ، عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ * وَ أَصْبَحَ فُؤٰادُ أُمِّ مُوسىٰ فٰارِغاً إِنْ كٰادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاٰ أَنْ رَبَطْنٰا عَلىٰ قَلْبِهٰا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ قٰالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ * وَ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَرٰاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقٰالَتْ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نٰاصِحُونَ * فَرَدَدْنٰاهُ إِلىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهٰا وَ لاٰ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ .
هذا القسم من قصة موسى يتناول مقطعا من حياته هو: ولادته وطريقة تخليصه من فرعون الذي قرّر ذبح الأولاد في السنة التي ولد فيها موسى، وقد دخل في القصة بطل يضطلع بمهمة الإنارة للفكرة التي يستهدفها النص في هذا القسم من القصة، ألا وهو. رعاية اللّه تعالى لعباده المؤمنين... البطل هو:
أمّ موسى. وقد اختيرت لهذه المهمة بصفتها أما للولد حيث تظل الأم أشد الناس عطفا على ولدها، ولذلك جاء رسم هذا البطل منطويا على مهمة فنّية مزدوجة، بحيث رسم النصّ رعاية اللّه تعالى، لتنسحب على كلّ من موسى وأت من خلال العلاقة النسبيّة بينهما من جانب، ومن خلال انصباب الرعاية عليهما من جانب آخر: كما قلنا.
لقد سكتت القصة يمن ذكر الأسباب المحركة لحوادث القصة ومواقفها، مكتفية من ذلك ببعض الحوادث والمواقف، تاركة للقارىء أن يستخلص بنفسه (أو من خلال النصوص المفسّرة) أسباب ذلك...
الحوادث والمواقف يمكن تلخيصها على هذا النحو:
ص: 363
لقد أوحى اللّه تعالى لأمّ موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من الذبح فلتلقه في البحر، و أن تطمئن إلى أن اللّه تعالى يردّه إليها... و قد ألقته في البحر فعلا، حيث قدّر لآل فرعون أن يلتقطوه، وقدّر لامرأة فرعون أن تشغف به وأن تطالب فرعون بعدم قتله، أما أمّ موسى فقد استولى عليها القلق حيال ابنها حتى أوشكت أن تفتضح لولا أنّ اللّه تعالى ألهمها الصبر على ذلك، و قدّر أن ترى أمّ موسى ولدها عند آل فرعون، وأن تكلف أخت موسى بأن تتعرّف أخباره... وكان لا بد لموسى أن يدفع إلى مرضعة ترضعه، إلاّ أنّ اللّه بغّض المرضعات إليه، فاستثمرت أخت موسى هذا الجانب، ودلّت آل فرعون على أمّ موسى، فعاد إلى أمّه وقرّت به عينا... وهكذا عاد الولد إلى أمّه.
هذه الأحداث والمواقف لم يسردها النص تفصيلا، بل اختزل الكثير منها، تاركا للقارىء - كما قلنا - أن يستخلص بنفسه تفصيلات القصة: تجسيد للاقتصاد اللغوي، وتشويقا للقارىء... والمهم هو أن نتبين الدلالة الفكرية الكامنة وراء العرض القصصي المذكور، وأن نتبين الموقع الهندسي الذي يحتله هذا القسم من القصة من هيكل السورة الكريمة: ما دمنا نعنى بالبنا - العماري للنص... أما دلالتها فتتمثل في رعاية اللّه تعالى لموسى، حيث أنقذه من عملية القتل، وحيث اعدّه لمهمة الرسالة عصرئذ، كما تتمثل - في الآن ذاته - من رعايته تعالى لأمّ موسى، حيث حفظه اللّه تعالى لها، ولم يذبح، بل ألقي في النهر، لكن الفراق بدوره ينطوي على شدة نفسية أيضا، ولذلك جاءت الرعاية ليعاد الطفل إلى أمّه، من قبل آل فرعون، وإلقاء محبته في قلوبهم (بخاصة امرأة فرعون المعروفة بإيمانها وهي آسية بنت مزاحم)، ثم تحريم المرضعات عليه بحيث أبغضنه، مما اضطرهم إلى تقبّل الاقتراح الذي صدر عن أخت موسى بأن يدفعوه إلى أمّه التي يجهلون ولدها بطبيعة الحال.
هذه السلسلة من النعم على موسى وأمّه، سوف تتلاحق وتتضخّم
ص: 364
أحجامها في الأقسام الأخرى من القصة. كما سنرى، بيد أنّ المهم هو أنّ لهذه المعطيات موقعها العضوي من جسم القصة، حيث سبق للقصة ان أشارت في المقدمة إلى أنّ اللّه تعالى (يمنّ ) على عباده، ويجعلهم (أئمة)، ويبيد المفسدين في الأرض: فرعون وهامان وجنودهما. وها هو موسى (عندما ينقذ من القتل، ويعود إلى أمّه) يجسّد البطل الذي ستنعكس على سيرته مقدمات القصة المشار إليها، حيث ألمحت القصة ذاتها إلى أن اللّه تعالى يجعله من المرسلين إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ وحيث ختم هذا القسم من القصة، بالقول أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وبهذا التعقيب تكون القصة قد وصلت بين أجزائها، مما يفصح ذلك عن إحكام المبنى الهندسي لها، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ لَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىٰ ، آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهٰا فَوَجَدَ فِيهٰا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاٰنِ ، هٰذٰا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هٰذٰا مِنْ عَدُوِّهِ ، فَاسْتَغٰاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ، فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ ، قٰالَ : هٰذٰا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قٰالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ... إلخ.
هذا هو ا لقسم الجديد من قصة موسي عليه السلام... حيث تناول شريحة من حياته التي بدأ النص القصصي بعرض المرحلة الطفلية منها (حادثة إلقائه في اليم وإنقاذه وإرجاعه إلي أمه)... و ها هو يعرض المرحلة الجديدة من حياته و هي مرحلة الرشد (وَ لَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىٰ آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً...
الخ). و إذا كانت المرحلة الطفلية قد تضمنت إبرازا لنعم الله تعالى (إنقاذه من فرعون)، فإنّ المرحلة الراشدة تتضمّن نمطا آخر من النعم مضافا إلى إنقاذ آخر
ص: 365
من القتل أيضا... أمّا المعطى الضخم الذي يخلّف حياته الجديدة فهو: إتيانه حكما وعلما وَ لَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىٰ آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ . طبيعيا، ينبغي ألاّ نغفل المهمة العضوية أو المهمة الفنية لهذا المعطى (الحكم والعلم) من حيث علاقته بهيكل القصة... فالقصة في قسمها الأول (مرحلة الطفولة) أشارت إلى أنّ الله تعالى قد ردّه إلى أمّه وسيجعله من المرسلين إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ وها هي القصة في قسمها الجديد (مرحلة الرشد) تقول آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً ، حيث أنّ الحكم والعلم يجسّدان مقدمة أو خلاصة لعلم الرسالة، كما هو واضح... وهذا التجانس أو التلاحم العضوي بين مرحلتي الطفولة والرشد في القصة قد واكبه تجانس وتلاحم عضوى آخر هو: إنقاذ موسى من القتل... في مرحلة الطفولة أنقده اللّه تعالى من فرعون الذي كان يذبح الأطفال... وفي مرحلة الرشد أنقذه اللّه تعالى من الاقباط الذين قتل موسى واحدا منهم (وجاء رجل من أقصى المدينة، يسعى، قال: يا موسى انّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب، قال: رب نجني من القوه الظالمين)... إذن، نحن الآن أمام عمارة قصصية بالغة الدقة في خطوطه البنائية التي تقوم على تناسب وتقابل وتواز بينها، إذ نلحظ (نموّا عضويا) أى:
تطوّر الشيء (إتيان موسى حكما وعلما) حيث يعد الحكم والعلم مقدمة لجعله من المرسلين... ونلحظ (تجانسا وتلاحما) أي. التناسب بين عمليتي الإنقاذ من القتل...
لكن، لا يقف الأمر عند هذا الصعيد البنائي المحكم، بل نجد أنّ تفصيلات الأحداث والمواقف تأخذ خطا آخر من البناء القصصي... في مرحلة الطفولة، كانت حادثة إلقائه في اليمّ ، وإنقاذه، وإرجاعه إلى أمّه، تفصيلات قصصية تتناول حياة موسى وهو الطفل الذي لم يمارس سلوى إراديا.
ص: 366
أما فى مرحلة الرشد، فإن موسى يمارس سلوكا إراديا هو قتله لأحد أعدائه (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه، فوكزه موسى فقضى عليه...). إذن، مارس موسى سلوكا اراديا هو: قتله لأحد الأقباط... وقد حاول للمرة الاخرى أن يقتل شخصا آخر من أعدائه (فأصبح في المدينة خائفا يترقّب فإذا الذي استنصره بالأمس، يستصرخه..). لنتأمل بدقة، فخامة المبنى الهندسي لهذه الأحداث التي انتظمتها، حيث أنّ قضية (القتل) لعبت دورا جماليا كبيرا في بناء القصة: فرعون يستهدف (قتل) موسى في طفولته، الأقباط يستهدفون (قتله) في رشده... موسى - مقابل فرعون - (يقتل) أحدهم... موسى - للمرة الجديدة - يحاول قتل شخص آخر... هذه الأحداث الأربعة التي تحوم على عملية (قتل) أو محاولة (قتل) مع تغاير المواقف والشخصيات، تكشف عن مدى الإحكام الهندسي الممتع الجميل للنص القصصي: من حيث تلاحم وتجانس وتنامي أجزاء القصة، بالنحو الذي أوضحناه.
***
قال تعالى وَ لَمّٰا وَرَدَ مٰاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّٰاسِ يَسْقُونَ ، وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودٰانِ ، قٰالَ : مٰا خَطْبُكُمٰا، قٰالَتٰا لاٰ نَسْقِي حَتّٰى يُصْدِرَ اَلرِّعٰاءُ ، وَ أَبُونٰا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقىٰ لَهُمٰا، ثُمَّ تَوَلّٰى إِلَى اَلظِّلِّ ، فَقٰالَ : رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجٰاءَتْهُ إِحْدٰاهُمٰا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيٰاءٍ ، قٰالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مٰا سَقَيْتَ لَنٰا، فَلَمّٰا جٰاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ ، قٰالَ :
لاٰ تَخَفْ ، نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ * قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا: يٰا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ * قٰالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ .
ص: 367
في القسم الجديد من قصة موسى، نواجه أحداثا و مواقف أخرى من حياة موسى التي عرض النص شرائح متنوعة منها. وهي أحداث ومواقف تحوم على إبراز معطيات الله تعالى حيال موسى... لقد بدأت معطياته تعالى من خلال إنقاذ موسى من الذبح والتقاطه في البحر، وإرجاعه إلى أمّه، وفراره من الأقباط الذي ائتمروا بقتله، وها هي المعطيات تتدفق لتصبّ في مرحلة جديدة من حياته الراشدة، أنّه حياة الزواج. لقد واكبته معطيات الله تعالى (طفلا) أنقذ من القتل. وواكبته الآن وهو يحيا مرحلة جديدة: مرحلة الزواج غير المرتقب... في مرحلة سابقة من حياته، مارس موسى عملية قتل لأحد الأقباط... أما في المرحلة الجديدة فقد مارس عملية (مساعدة) لامرأتين.
لقد كان (خائفا) من نتائج مرحلته السابقة حيث خرج من المدينة (خائفا يترقب، قال: رب نجني من القوم الظالمين)... هذا الدعاء (ونحن نتحدث عن العمارة الفنية للقصة) سوف (يتنامى) عضويا، ليجد جوابا على لسان شعيب الذي قال لموسى - عندما استدعاه (لاٰ تَخَفْ ، نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ) ... كان موسى (خائفا) (فَخَرَجَ مِنْهٰا خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ... وجاء جواب شعيب (لا تخف). قال موسى (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ) ...
وجاء جواب شعيب (نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ) ، لنتأمل بدقة دعاء موسى وجواب شعيب. أو لنتأمل سيرة موسى وجواب شعيب... لنتأمل حتى (العبارات) القصصية المتماثلة في الصياغة، عبارات (الخوف، النجاة، القوم الظالمين) حيث تماثلت صياغتها في الموقفين موقف الخوف، وموقف شعيب، وحيث يعبّر هذا التماثل عن مدى التلاحم العضوي بين أجزاء القصة التي اعتمدت عنصر (التنامي) أو التطوير للأحداث والمواقف.
لكن، لنتابع القصة.
فَلَمّٰا قَضىٰ مُوسَى اَلْأَجَلَ ، وَ سٰارَ بِأَهْلِهِ ، آنَسَ مِنْ جٰانِبِ اَلطُّورِ نٰاراً، قٰالَ
ص: 368
لِأَهْلِهِ : اُمْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهٰا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ ...) .
إنّ المعطيات التي واكبت موسى - في مختلف مراحل حياته طفلا وراشدا، تتوّج الآن بأضخم معطى غير متوقّع، ألا وهو ظاهرة (التكليم)، أو لنقل: ظاهرة جعله (رسولا). وما يهمنا من هذه الظاهرة (في صياغة القصة) هو: موقعها العضوي من هيكل القصة.
لقد كان القسم الأول من القصة يتناول مرحلة الطفولة لموسى، حيث أوحي إلى أم موسى بما يلي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ...
وها هي عملية (التكليم) تشكل جوابا على ذلك التمهيد القصصي الذي وعد بأن يجعل موسى من المرسلين، وحيث تحقق في القسم الجديد من القصة ذلكم الوعد من خلال (التكليم)...
قال تعالى فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا بَيِّنٰاتٍ ، قٰالُوا: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا فِي آبٰائِنَا اَلْأَوَّلِينَ * وَ قٰالَ مُوسىٰ : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ، إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ * وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ : يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يٰا هٰامٰانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلىٰ إِلٰهِ مُوسىٰ ، وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ * وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنٰا لاٰ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلظّٰالِمِينَ * وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ يُنْصَرُونَ * وَ أَتْبَعْنٰاهُمْ فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ * وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِ مٰا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىٰ بَصٰائِرَ لِلنّٰاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
ص: 369
بهذا المقطع تختم قصة موسى عليه السلام حيث تناولت القصة مختلف مراحل حياة موسى: في طفولته، وقتله لأحد الأقباط، و هروبه إلى مدين، ومساعدته الامرأتين، وزواجه، وتكليمه، ثم ذهابه إلى فرعون حيث ختمت القصة بهذه المرحلة المقترنة بتبليغ رسالة السماء حينئذ إلى الآخرين...
ويلاحظ، أن القصة لم تعرض لنا تفصيلات الموقف بين موسى وفرعون بقدر ما عرضت موقفا إجماليا هو تكذيب القوم لموسى واتهامه بالسحر... بيد أنّها أبرزت حادثة خاصة من الموقف هي ادعاء فرعون بالألوهية ومطالبته الهزيلة وزيره هامان بأن يوقد له على الطين ويجعل له صرحا ليطلع إلى السماء...
طبيعيا، أنّ إبراز مثل هذا الادّعاء والاقتراح في الرسم القصصي ينطوى على أكثر من مهمة فنية، منها: الكشف عن درجة الهزال والجدب والانغلاق الذهني لدى فرعون وسائر المسوخ البشرية المنعزلة عن مبادىء السماء، ومنها (وهذا ما نستهدف توضيحه) الإحكام العضوي لعمارة القصة الكريمة، حيث لحظنا في مقدمة السورة أنّها قد استهلت القصة بالقول: عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ ، ولعل أبرز سمات (العلو) هي: الادعاء بالألوهية من جانب، والمكابرة في اقتراحه السخيف من جانب آخر (أي: مطالبته هامان ببناء الصرح...).
وحينئذ يكون النص بإبرازه هذه الشريحة من سلوك فرعون قد ربط بين مقدمة القصة وبين نهايتها. لكن بما أنّ القصة تظل جزءا من هيكل السورة الكريمة، حينئذ فإنّ النص القرآني الكريم، يبدأ الآن بعملية ربط بين القصة وبين الموضوعات الجديدة في السورة، فيقول مخاطبا النبيّ (ص):
وَ مٰا كُنْتَ بِجٰانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنٰا إِلىٰ مُوسَى اَلْأَمْرَ، وَ مٰا كُنْتَ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ * وَ لٰكِنّٰا أَنْشَأْنٰا قُرُوناً فَتَطٰاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ، وَ مٰا كُنْتَ ثٰاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا وَ لٰكِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ * وَ مٰا كُنْتَ بِجٰانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نٰادَيْنٰا وَ لٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
ص: 370
وَ لَوْ لاٰ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا: رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ * فَلَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا:
لَوْ لاٰ أُوتِيَ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ ، أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمٰا أُوتِيَ مُوسىٰ مِنْ قَبْلُ ، قٰالُوا:
سِحْرٰانِ تَظٰاهَرٰا، وَ قٰالُوا إِنّٰا بِكُلٍّ كٰافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتٰابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ هُوَ أَهْدىٰ مِنْهُمٰا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ .
وهكذا نجد - من خلال هذه المقارنة بين مجتمع موسى عليه السلام ومجتمع محمد (ص) - أنّ النص القرآني الكريم قد مهّد إلى الحديث عن المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام، وفي مقدمة ذلك: موقف كل من المشركين واليهود من هذه الرسالة... ولعلّ عملية الربط الفني بين القصة وبين المجتمع المعاصر لمحمد (ص) تأخذ جماليتها الفائقة حينما تجد أنّ النص قد استحضر إلى ذهن القارىء موقف اليهود من موسى أيضا بالرغم من أنّ القصة كانت تتحدث عن مجتمع فرعون، وبمثل هذا الاستحضار الذهني يكون النص قد انتقل إلى الحديث عن سلوك اليهود والمشركين بصفتهما طائفتين منحرفتين تمردتا على رسالة الإسلام... وبهذا يكون النص أيضا قد أحكم البناء الهندسي للسورة الكريمة من حيث علاقة أقسامها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ لَقَدْ وَصَّلْنٰا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنٰا إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمٰا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَ إِذٰا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قٰالُوا:
لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لاٰ نَبْتَغِي اَلْجٰاهِلِينَ ... .
هذا المقطع وما بعده يتناول مجتمع صدر الإسلام بعد أن كانت المقاطع
ص: 371
السابقة تتحدث عن حياة موسى و علاقته بالمجتمعات المنحرفة آنذاك، حيث ربط النص بين قصة موسى وبين مجتمع صدر الإسلام...
هنا - في معرض حديثه عن المجتمع - المنحرف - يتقدم النص أولا بذكر النماذج الإيجابية ليعرض بعد ذلك للنماذج السلبية... ويلاحظ في هذ الصدد أنّ النص يستشهد بأهل الكتاب أولا من حيث كونهم قد آمنوا بالقرآن الكريم اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وهذا الاستشهاد (من الزاوية الفنية) له قيمته دون أدنى شك، حيث يحقق عنصر الإقناع بضرورة الإيمان برسالة الإسلام مادام الكتابيون قد آمنوا به... ويتضخم عنصر الإقناع حينما نجد أنّ النص قد اعتمد (الحوار) الذي أجراه على ألسنة الكتابيين بهذا النحو وَ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ ، قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ ، إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنٰا، إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ... أقول، إنّ النص فى اعتماده الحوار المتقدّم قد أكسب الموقف بعدا جماليا فائق الأهمية، حيث كان بمقدوره أن يواصل - في عرضه للموقف - عنصر (السرد) ولكنه تحوّل إلى (الحوار) حتى يجعل القارىء مستمعا بنفسه إلى كلام أهل الكتاب وهم ينقلون أفكارهم مباشرة، أكثر من ذلك، نجده ينقل على ألسنتهم الكلام الآتي: إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ حيث يفصح هذا الكلام عن أنّ الكتابيين قد سلموا - قبل أن ينزل القرآن - بحقيقته، وهذا أدعى إلى اقتناع القارىء برسالة الإسلام... والمهم بعد ذلك أنّ النص طرح بعض السمات العبادية التي يحرص على توصيلها إلى القارىء، وهي سمات تتصل بعملية التبليغ لرسالة الإسلام ومطلق السلوك العبادي. لقد طرح مفهومات (الصبر) و (دفع السيئة بالحسنة) و (الإنفاق) و (عدم اللغو): أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمٰا صَبَرُوا، وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ وَ إِذٰا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَ قٰالُوا لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ ، سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لاٰ نَبْتَغِي اَلْجٰاهِلِينَ ...
ص: 372
لا شك أنّ هذه السمات تعد فى القمة من السلوك السوي المرتبط بالعلاقات الاجتماعية، فالصبر على أذى الكفار أو مطلق الشدائد يحقق توازن الشخصية ويحميها من السقوط، كما أنّ دفع السيّئة بالحسنة يساهم في تحويل العداء إلى محبة... وبذلك يتحقق مزيد من الكسب لرسالة الإسلام... وأمّا الإعراض عن اللغو ومخاطبة الجاهلين بسلام، ففضلا عن كونه تدريبا على جدية الشخصية ورصانتها، يساهم بدوره في تخفيف وطأة العداء، كما يمنح حاملي الرسالة ثقلا اجتماعيا هو: استقلال الشخصية وثباتها حيال الاتجاهات المنحرفة لدى الآخرين...
و يلاحظ، أن النص اتجه بعد ذلك إلى مخاطبة النبيّ (ص) قائلا: إِنَّكَ لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . إنّ هذه النقلة الفنية من الحديث عن سمات الشخصية العبادية إلى مخاطبة النبيّ (ص) بأنه لا يستطيع أن يهدي الناس بقدر ما يرتبط الأمر بإشاءة اللّه تعالى، هذه النقلة الفنية تظل ذات صلة بعمارة السورة الكريمة من حيث ترابط أقسامها:
بعضها مع الآخر، حيث أنّ (الصبر) و (الاعراض عن اللغو) و (دفع السيئة بالحسنة) بالرغم من كونها تساهم في كسب الآخرين إلى الصف الإسلامي، إلاّ أنّ الأمر يظل في النهاية مرتبطا بطبيعة الاستعداد الذاتي لتقبل رسالة الإسلام، كذلك، نجد أنّ هذه النقلة من الحديث عن المؤمنين إلى الحديث عن الهداية وكونها مرتبطة بإشاءة الله تعالى، تظل إفصاحا عن إحكام الهيكل الفكري للسورة الكريمة، من حيث تلاحم أقسامها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
***
قال تعالى: وَ قٰالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنٰا، أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّٰا، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ * وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهٰا فَتِلْكَ مَسٰاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّٰ قَلِيلاً، وَ كُنّٰا نَحْنُ اَلْوٰارِثِينَ * وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ حَتّٰى يَبْعَثَ فِي أُمِّهٰا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا، وَ مٰا كُنّٰا مُهْلِكِي اَلْقُرىٰ إِلاّٰ وَ أَهْلُهٰا ظٰالِمُونَ ... .
ص: 373
قال تعالى: وَ قٰالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنٰا، أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّٰا، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ * وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهٰا فَتِلْكَ مَسٰاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّٰ قَلِيلاً، وَ كُنّٰا نَحْنُ اَلْوٰارِثِينَ * وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ حَتّٰى يَبْعَثَ فِي أُمِّهٰا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا، وَ مٰا كُنّٰا مُهْلِكِي اَلْقُرىٰ إِلاّٰ وَ أَهْلُهٰا ظٰالِمُونَ ... .
في هذا المقطع، رسم لسلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، حيث أبرز النص واحدا من المواقف الانهزامية التي تلمس عذرا هزيلا في عدم الإيمان برسالة الإسلام، ألا وهو: الخوف من الاختطاف...
لقد مهد النص القرآني لأمثلة هذه المواقف بقوله تعالى (في مقطع سابق): إِنَّكَ لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ مما يعني (من حيث الهيكل الهندسي للنص) أنّ المنحرفين لا أمل في إصلاحهم ما داموا يلتمسون اعذارا من نحو ما قالوه بأنّهم يخافون الاختطاف لو اتبعوا النبيّ (ص)... مع ذلك، فإنّ النص تكفل بالإجابة عن الموقف المذكور بقوله تعالى أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ؟ . لقد أبرز النص - في هذه الإجابة - قضيتين هما: قضية (الأمن) وقضية (الرزق)، بصفة أنّ العذر الذي افتعله المنحرفون يحوم على الخوف من فقدان الأمن، وقد أضاف النص إلى ذلك قضية (الرزق) أيضا حتى يقطع كل الأعذار، إذ من الممكن أن يتحمل الشخص شدائد الاختطاف أو عدم تحقق الأمن، إلاّ أنّ انعدام الرزق المترتب على ذلك من الممكن ألاّ يتحمل عادة، لذلك ألمح النص إلى أنّ (الحرم) قد جعله اللّه تعالى آمنا، كما أنّه تعالى وفّر فيه (الرزق) بحيث تجبى إليه ثمرات كل شيء، إذن، (من حيث البناء الهندسي للمقطع) رسم النص جملة من الخطوط التي تتضمن طرح الموقف ومعالجته فكريا... لكن بما أنّ عنصر (الترهيب) يساهم بدوره في استحضار الوعي في الذهن، حينئذ اتجه إلى التذكير بمصائر المجتمعات السابقة التي بطرت في معيشتها، فأبادها اللّه تعالى.
ص: 374
وقد أبرز النص من هذا التذكير عنصر (المكان)، فأشار إلى أنّ مساكن المنحرفين لا تزال غير معمورة فَتِلْكَ مَسٰاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ ... ، حيث أنّ التأكيد على عنصر (المكان) - وهي المساكن التي تظل بمرأى من أعين المنحرفين - يعد من أهم وسائل الاستدلال الحسي على الشيء: ليس من حيث كونها ماثلة للأبصار فحسب بل من حيث كونها تبتعث الرهبة والوحشة من النفوس أيضا...
ربما أنّ النص يستهدف تحقيق عنصر (الإقناع) بكل مستوياته، حينئذ لم يكتف بإبراز العقاب الدنيوي للمنحرفين بل أردفه بالعقاب والأخروي أيضا، حتى يستكمل بذلك وسائل الإقناع المشار إليه، لذلك عقب قائلا أَ فَمَنْ وَعَدْنٰاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاٰقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنٰاهُ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ . لنلاحظ أن عملية التذكير بالعقاب الأخروي (ومثله التذكير بالعقاب الدنيوي كما لحظنا) جاءت وفق لغة استدلالية لم تشحن بالغضب وإبراز الأهوال بل جاءت بلغة التساؤل الذي يقارن بين متاع الدنيا وبين الوعد الحسن الذي ينتظر المؤمن في اليوم الآخر...
ومن الواضح، أن طبيعة الموقف فرضت - فنيا مثل هذا المنحى في الصياغة، بصفة أن النص كان في صدد إبراز أحد المواقف التي تعتمد «الاستدلال» في رسم السلوك وليس مجرّد العرض لسمات المنحرفين...
ولا نغفل، أنّ التساؤل القائل (أفمن وعدنا وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) قد مهّد له بلغة إخبارية تقول (وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتُهٰا، وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ ...) ، حيث أنّ إثارة «التساؤل» بعد «الإخبار» يعدّ - من حيث الصياغة الفنية - واحدا من أشكال البناء الهندسي الذي يعتمد العمليات النفسية من تحقيق عنصر الإقناع، وهو أمر يفصح عن إحكام البناء العماري للنص بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 375
قال تعالى: وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قٰالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ : رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنٰا أَغْوَيْنٰاهُمْ كَمٰا غَوَيْنٰا، تَبَرَّأْنٰا إِلَيْكَ مٰا كٰانُوا إِيّٰانٰا يَعْبُدُونَ * وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ لَوْ أَنَّهُمْ كٰانُوا يَهْتَدُونَ * وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ مٰا ذٰا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبٰاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ ...
يتناول هذا المقطع من سورة القصص موقفا من مواقف اليوم الآخر، حيث ينقل شخوص المنحرفين من بيئة الدنيا إلى بيئة الآخرة بعد أن مهّد للبيئة الأخيرة أرضية تقول ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ . وها هو المنحرف يحضر بالفعل ليواجه موقفا محفوفا بشدائد نفسية تبدأ على النحو الآتي:
وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ . الموقف هنا يعتمد على عنصر (المحاورة) وهو عنصر يفرض ضرورته الفنية، ما دامت العملية تقوم على محاسبة الشخص... الجديد في الموقف هنا، أن المحاورة المذكورة تنقل لنا ظاهرة السلوك المشرك للمنحرفين بعد أن كانت المقاطع السابقة في السورة، تتناول ظواهر أخرى من السلوك المنحرف أشرنا إليها في حينه...
طبيعيا، يظل الحوار هو العنصر الفني الكاشف عن هذا النمط الجديد من سلوك المنحرفين، بيد أن المهم بعد ذلك هو رسم الموقف بما تواكبه من الشدائد النفسية التي بدأت بتوجيه السؤال إلى المشركين أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ ويجيء الجواب من المشركين رَبَّنٰا: هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنٰا أَغْوَيْنٰاهُمْ كَمٰا غَوَيْنٰا . لنلاحظ أن الجواب ركز على أولئك الأتباع الذين اتبعوا رؤساءهم في الضلال، حيث أقرّ الرؤساء بأنهم ضلاّل وأنهم أضلّوا سواهم أيضا... ومن الطبيعي، أن الرئيس عندما يخذل التابع حينئذ فإن التابع تتضاعف شدته النفسية: نظرا لإحساساته الضعيفة بانتمائه إلى رئيسه الذي
ص: 376
يتوقع مساندته وليس خذلانه بذلك النحو المشار إليه.
وهذا ما يتصل بالرؤساء وعلاقتهم بالاتباع.
أمّا ما يتصل بالشركاء المعبودين، فإنّ السؤال الآتي يتوجه إليهم اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ . وهنا نجد أن الجواب قد حذفه النص، وتحوّل إلى عنصر (السرد) بدلا من الحوار، حيث قال النص بأن الأتباع دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم...
إن القارىء يتوقع من الشركاء أن يجيبوا المشركين، ما دام المشركون قد دعوهم... لكن بما أن (الشركاء) لا حول لهم ولا قوة، حينئذ فإنّ الضرورة الفنية تفرض الصمت عليهم، وهذا ما يفسّر لنا السّر الفنّي الكامن وراء صياغة الموقف (سردا) بدلا من (الحوار).
ونتجه إلى موقف ثالث فنجد سؤالا آخر يوجّه إلى المنحرفين، بهذا النحو وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ مٰا ذٰا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ إلاّ أنّ النص لم يجر حوارا على ألسنتهم أيضا، بل اعتمد عنصر (السرد) في نقل أجوبتهم، حيث قال فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبٰاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ . لقد سألهم النص: ماذا كان جوابكم للمرسلين ؟. لكن بما أنهم لم يستجيبوا لرسالات الأنبياء، حينئذ فإنّ الموقف يتطلب عنصر (السرد) بدلا من (الحوار) حيث أن أَجَبْتُمُ يفرض على النص أن يتكفل بنقل موقفهم، وهو ما يقوم به عنصر (السرد) كما هو بين...
إذن جاء عنصرا (الحوار) و (السرد) في رسم الموقف الأخروي الذي يتعرّض له المنحرفون، متجانسين مع طبيعة الموقف الذي تطلّب حينا عنصر (الحوار) وحينا آخر عنصر (السرد) بصفة أن «الحساب» بما يواكب من توجيه الأسئلة إلى المنحرفين، يتطلب سؤالا وجوابا، وبصفة أن بعض الأسئلة مثل الطلب إلى الشركاء بالتحدث، ومثل توجيه السؤال إلى المنحرفين عن
ص: 377
إجابتهم للأنبياء: يتطلب (سردا) ما دام الشركاء و المنحرفون لا يملكون جوابا على ذلك، وأولئك جميعا يكشف عن مدى احكام المبنى الهندسي للسورة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَ نَزَعْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، فَقُلْنٰا هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ ، فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلّٰهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ * إِنَّ قٰارُونَ كٰانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ ، وَ آتَيْنٰاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مٰا إِنَّ مَفٰاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ ، إِذْ قٰالَ لَهُ قَوْمُهُ : لاٰ تَفْرَحْ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ * وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ ، وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا وَ أَحْسِنْ كَمٰا أَحْسَنَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ ، وَ لاٰ تَبْغِ اَلْفَسٰادَ فِي اَلْأَرْضِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ... .
هذا المقطع من سورة القصص امتداد لمقطع سابق يجمع بين البيئتين الدنيوية والاخروية في عرضه لحياة الكافرين... أما البيئة الاخروية فيلاحظ أن النص عرض محاورة من قبل السماء تقول للمشركين: أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ وهذا السؤال جاء مكررا بنفس الصيغة في مقطع سابق...
ولذلك لا بد أن نبيّن السّر الفنّي وراء هذه العبارة المتكررة...
هنا، نجيب بوضوح: بأنّ التكرار جاء في سياق جديد، حيث وجهت السماء سؤالا للمشركين يتساءل عن الشركاء الذين اتخذهم المنحرفون أوثانا يعبدونها، لذلك لم نلحظ جوابا عن السؤال المتقدم، لبداهة ان الوثن لا يتكلّم من جانب، وأن المشركين لم يملكوا جوابا جديدا من جانب آخر، بيد أنّ الأهمّ من ذلك أن التكرار نفسه يعدّ تأكيدا على فكرة يستهدف النص إبرازها إلى المتلقي مفصحا بذلك عن ضخامة المفارقة في سلوك المشركين...
ويلاحظ أن النص انتقل بعد هذا العرض السريع للبيئة الأخروية، انتقل إلى بيئة
ص: 378
الدنيا من جديد، فقدّم لناقصة تتصل بإحدى الشخصيات المنحرفة المعروفة، ألا وهي شخصية قارون، معرّفا هذه الشخصية بقوله: إِنَّ قٰارُونَ كٰانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ مركزا على إبراز «سمة» خاصة بها هي: كونه قد أعطى كنوزا ضخمة، وأنه قد استطال على قومه بهذه الكنوز، وأمّا قومه فكان رد الفعل لديهم حيال هذه الشخصية، منشطرا إلى فئتين: فئة قالت له (لا تفرح - بهذه الكنوز - إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ )، وفئة قالت (يٰا لَيْتَ لَنٰا مِثْلَ مٰا أُوتِيَ قٰارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ... الفئة الأولى علقت على هذا الكلام بقولها وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً... . لكن بعد أن خسف اللّه تعالى به وبداره الأرض أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكٰانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ : وَيْكَأَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ، لَوْ لاٰ أَنْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا لَخَسَفَ بِنٰا، وَيْكَأَنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْكٰافِرُونَ ...
هذه القصة في خطوطها السريعة التي عرضنا لها - تنطوي على أسرار فنية بالغة الإثارة والدهشة، لكن ما يعنينا منها صلتها العضوية بهيكل السورة الكريمة، فضلا عن صلة أجزاء القصة وعناصرها بهيكل القصة ذاتها... ولعل أوّل ما يستوقفنا من القصة هو: رسم ملامح الشخصية القصصية قارون، حيث وصفه النص بأنّه كان من قوم موسى، والسؤال هو: لماذا انتخب النص صياغة قصة عن قارون دون سواه من الشخصيات المنحرفة ؟ ولماذا وصفه بأنّه كان من قوم موسى إِنَّ قٰارُونَ كٰانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ ؟. في تصوّرنا، أنّ سورة القصص بدأت - كما لحظنا - بعنصر قصصي هو: عرض تفصيلي لشخصية موسى عليه السلام منذ طفولته، فرشده، فزواجه، فنبوته، إلخ... لذلك، فإن انتخاب شخصية قصصية تنتسب إلى قوم موسى، يظل أمرا متجانسا مع بداية السورة الكريمة ومع فكرتها التي تحوم السورة عليها، أمّا انتخاب قارون دون سواه، فلأنّه أولا ينتسب إلى موسى بنسب قريب، حيث تذكر النصوص المفسرة بأنّه كان ابن خالته أو ابن عمه أو... إلخ حيث أن قرابته لموسى
ص: 379
عليه السلام تظل أوثق صلة من قومه أو مجتمعه كما هو واضح، أمّا انتخابه شخصية سلبية - على العكس من موسى - ثم انتخاب سمته المالية و النفسية تملكه لكنوز ضخمة واستطالته على الآخرين، فأمر ينبغي تفصيل الحديث عنه.
قال تعالى إِنَّ قٰارُونَ كٰانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ ، فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ ، وَ آتَيْنٰاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مٰا إِنَّ مَفٰاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قٰالَ لَهُ قَوْمُهُ لاٰ تَفْرَحْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ * وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ ، وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا وَ أَحْسِنْ كَمٰا أَحْسَنَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ وَ لاٰ تَبْغِ اَلْفَسٰادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ... .
الملاحظ - في هذه الأقصوصة التي تتحدث عن شخصية قارون - أنّ النص رسم قارون بجملة من السمات، منها أنّه استطال على قومه، وهذه السمة (سمة الاستطالة) تظل على صلة بعمارة السورة الكريمة، حيث لحظنا أنّ السورة قد استهلت بقصة موسى مع فرعون الذي وصفه النص بأنه عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ وبأنّه كٰانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ، وقد سبق أن قلنا بأنّ قصة موسى مع فرعون تظل هي العصب أو المحور الفكري الذي تدور حوله موضوعات السورة الكريمة وها هي أقصوصة قارون تطرح جملة من الموضوعات المشتركة بينها وبين قصة موسى مع فرعون... أن سمة (العلو) فيما طبعت شخصية فرعون، وسمة (المفسد في الأرض) فيما طبعته أيضا، تظلان سمتين مشتركتين بينه وبين قارون، حيث نجد أنّ قوم قارون أو أن التعليق القصصي قدم نصيحة لقارون تقول: لاٰ تَبْغِ اَلْفَسٰادَ فِي اَلْأَرْضِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ... إذن جاءت سمتا (العلو) و (الفساد)، طابعين مشتركين في القصتين، مما يكشف هذا التجانس بين الشخصيات عن الإحكام الهندسي
ص: 380
الممتع للسورة الكريمة... لكن، إذا كانت كل قصة تشترك مع القصص الاخرى في سمات خاصة، فإنّ كلا منها تتميز - في الحين ذاته - بسمات متفردة تختص بها، وهذا ما يمنح القصة الجديدة دلالتها الفنية... ولو تابعنا الآن رسم القصة لملامح قارون، وجدنا أنّ النص يقدّم لنا ملامح خاصة بهذه الشخصية، مستهدفا من ذلك (أفكارا) خاصة يحرص على إبرازها.
من جملة الأفكار المرسومة هنا. الحقيقة القائلة وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا . وهذه الحقيقة تلخص لنا حصيلة المهمة العبادية للإنسان في حياته، ألا وهي. أنّ نصيبه من الدنيا هو أن يستثمر حياته من أجل الآخرة، أي: أنّ الدنيا ينبغي أن توظف للاخرة، وليس - كما يبدو من ظاهر العبارة - بأنّ للدنيا نصيبها من الإمتاع العابر...
من الأفكار المطروحة أيضا قوله: وَ أَحْسِنْ ، كَمٰا أَحْسَنَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ ... وهذه العبارة تفسّر لنا معنى العبارة السابقة وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا ، فالنصيب من الدنيا هو أن يحسن الإنسان ممارسة وظيفته كما أحسن الله تعالى إليه، في منحه مختلف المعطيات... من الأفكار المطروحة أيضا:
طبيعة الذهنية التي يصدر عنها قارون حيال الكنوز التي يمتلكها، وطبيعة الذهنية التي يصدر عنها الناس حيال مشاهدتهم لكنوز قارون. أمّا الذهنية التي يصدر عنها قارون فتتمثّل في جوابه لأولئك الذين قالوا له: لاٰ تَفْرَحْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ ... حيث أجابهم قائلا: إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي . وتقول النصوص المفسّرة إنّ قارون كان يحسن صناعة الذهب أو أنّه كان يحسن المتاجرة بالأموال، مما حمله ذلك على أن ينسب الفضل لنفسه، وأن يجحد نعيم اللّه تعالى عليه...
طبيعيا، أنّ هذه الإجابة الهزيلة من قبل قارون، فضلا عن كونها كاشفة عن كفرانه، فإنّها تظل مرتبطة - من حيث المبنى الهندسي للنص - بمجمل
ص: 381
الأفكار التي عرضنا لها قبل قليل و نعني بها: ألّا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا و أن يحسن كما أحسن الله تعالى إليه، حيث يستخلص القاريء بأنّ المفروض أن يحسن الإنسان استخدام النعم بأن يصرفها في الصعيد العبادي الذي خلق اللّه الإنسان من أجله... وبهذا النحو من الاستخلاص نستكشف بوضوح مدى الإحكام الهندسي للنص: من حيث تلاحم وتنامي أجزائه بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، قٰالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا:
يٰا لَيْتَ لَنٰا مِثْلَ مٰا أُوتِيَ قٰارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ :
وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً، وَ لاٰ يُلَقّٰاهٰا إِلاَّ اَلصّٰابِرُونَ ...
هذا القسم من أقصوصة قارون، يعرض لنا موقفا من المواقف الاجتماعية التي يستهدف النص إبرازها، الا وهو: إنشطار الناس إلى طائفتين:
الطائفة التي تتطلع الى الحياة الأخروية، والطائفة التي تبحث عن متاع الحياة الدنيا... وقد أبرز النص هذين الموقفين من خلال منبه أو محرك حاد هو شخصية قارون بما يحفّ بها من مظاهر الزينة التي تبهر الرائي... وتقول النصوص المفسّرة انّ قارون خرج على قومه في آلاف من الدواب والحليّ وسائر مظاهر الزينة التي تتوافق مع كنوزه التي استطال بها على الآخرين...
انّ هذا المنبه المادي والنفسي لا بد أن يترك انعكاساته على الآخرين بالضرورة، حيث أنّ الباحث عن متاع الدنيا لا بد أن ينبهر بما هو ضخم من المتاع المشار إليه، وحيث أنّ الزاهد فيها والباحث عن الثواب الأخروي لا بد أن يصدر عنه ردّ فعل يتناسب عكسيا مع المحرك المادي المذكور، بحيث نتوقع أن يسخر من الزينة المذكورة ويشفق على صاحبها، مثلما نتوقع أن يستتبع مثل هذا التضارب بين وجهة نظر المؤمنين وبين الفاسقين مناقشات
ص: 382
ومحاورات بين الطائفتين، و هو ما عرضته الأقصوصة لنا في المحاورة الآتية بينهما:
قٰالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا:
يٰا لَيْتَ لَنٰا مِثْلَ مٰا أُوتِيَ قٰارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ :
وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً... .
واضح، أنّ القصة حينما اعتمدت هذا العنصر الحواري بدلا من السرد، إنّما كشفت بذلك عن دلالات فنية متنوعة، أهمها: الكشف عن الصراعات بين الناس، ونمط تفكيرهم، ومن ثم: وجود طائفة مؤمنة تعي بعمق مهمتها العبادية في الحياة، حيث وسم النص هذه الطائفة بسمة (العلم) وقال اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً... .
واضح أيضا، أنّ وسم هذه الطائفة بسمة (العلم) يظل أشرف سمة تنتزع التقدير الاجتماعي، حيث تبقى هي السمة المفصحة عن أثمن ما لدى الإنسان وهو: الجهاز العقلي أو الإدراكي من حيث سلامته واستواؤه ونضجه...
وحين يقرن النص سمة (الإيمان) باللّه مع سمة (العلم) حينئذ يكون النص قد أكسب المؤمن تقديرا لا حدود له، على العكس من ذلك: أكسب النص طائفة الفساق أو عديمي الوعي: سمة (الباحث عن الحياة الدنيا) (وقال الذين يريدون الحياة الدنيا: يٰا لَيْتَ لَنٰا مِثْلَ مٰا أُوتِيَ قٰارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
ويلاحظ، أنّ الباحث عن الحياة الدنيا بالرغم من عدم وسمه بصفة عقلية مقابل الصفة العقلية للمؤمنين إلاّ أنّ مجرد وضعه أمام أو مقابل المؤمن: كاف في تحسيس القارىء بصفته العقلية المتخلفة، أي: سمة الجهل مقابل العلم...
بيد أنّ الأهم من ذلك أنّ القصة حينما أنهت - كما سنرى - حياة قارون بخسفه، وبداره: الأرض، إنّما كشفت - بنحو فنّي غير مباشر - عن تفاهة
ص: 383
العقلية التي يصدر عنها الذين يريدون الحياة الدنيا... فضلا عن أنّ نمط عقليتهم التي كشف عنها الحوار، يفصح عن التخلف أو الانحطاط العقلي و النفسي لديهم، حيث أنّ مجرد التمني بأن يكون لهم مثل ما لقارون من الزينة، ومجرد قولهم بأنّ قارون ذو حظ عظيم.. هذا القول: كاف في الكشف عن عدم نضجهم عقليا وعاطفيا، بصفة أنّ عبارة يٰا لَيْتَ لَنٰا تعبير انفعالي صرف يكشف عن خواء الشخصية التي لا تملك شيئا تملأ به فضاء النفس، مما يستجرها إلى أن تعترف بخوائها النفسي بحيث ترى أنّها عديمة الحظ مقابل الحظ العظيم الذي تخيلته لدى قارون... إذن: أمكننا ملاحظة هذا التلاحم العضوي بين رسم الشخصية الدنيوية (من خلال أقوالها) وبين عالمها الداخلي، فضلا عن تقابلها مع الشخصية العبادية بنحو فنّي غير مباشر، مما يفصح ذلك جميعا عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذى تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى فَخَسَفْنٰا بِهِ ، وَ بِدٰارِهِ اَلْأَرْضَ ، فَمٰا كٰانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ * وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكٰانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ، لَوْ لاٰ أَنْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا لَخَسَفَ بِنٰا، وَيْكَأَنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْكٰافِرُونَ .
بهذا المقطع من قصة قارون تختم القصة التي طرحت مجموعة من الأفكار التي قد استهدفها النص القرآني الكريم... ولعل أبرز الأفكار التي طرحتها نهاية القصة تتمثل في النهاية الكسيحة لشخصية القصة قارون حيث خسف به وبداره الأرض: بعد أن كان متعاليا على الناس بكنوزه الضخمة، جاحدا لنعم اللّه تعالى، زاعما أنّه بمهارته الشخصية قد تملك الكنوز المشار إليها...
ص: 384
إنّ ما يعنينا من هذه النهاية القصصية أمران، اولهما: طبيعة الأفكار التي تضمنتها الأقصوصة، والآخر: المبنى الهندسي لصياغتها وعلاقة ذلك بهيكل الأقصوصة من جانب وبهيكل السورة الكريمة من جانب آخر...
لقد انشطر الناس حيال قارون الذي خرج بزينته ذات يوم إلى قسمين.
أحدهما يبحث عن متاع الدنيا بحيث تمنّى أن يكون لهم ما لقارون من الأموال، والآخر: يعي مهمة الإنسان العبادية حيث هتف هذا النفر من الناس بوجه الفريق الأول قائلا لهم وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً... . والآن، جاءت النهاية القصصية لتحسم الموقف المذكور منتصرة للفريق المؤمن، منبهة الفريق الآخر على خطأ تصوراته التي تمنت أن يكون له ما لقارون من أموال وموقع اجتماعي...
وقد أبرز النص القصصي هذا الجانب بوضوح، حينما أجرى حوارا جمعيا على لسان الفريق الباحث عن متاع الدنيا، بهذا النحو:
وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكٰانَهُ بِالْأَمْسِ ، يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ، لَوْ لاٰ أَنْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا لَخَسَفَ بِنٰا، وَيْكَأَنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْكٰافِرُونَ .
إنّ هذه الفقرة الحوارية تلخص الهدف الفكري الذي انطوت القصة عليه.. فأولا جاء هذا الحوار على لسان الدنيويين أنفسهم: أولئك الذين تمنّوا أن يكون لهم ما لقارون، وإذا بهم الآن ينقلبون إلى تصوّر مضادّ بحيث يدركون الحقيقة العبادية القائلة) بأنّ اللّه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وبأنّ الكافر بنعم الله تعالى لن يفلح أبدا... لقد رسم النص شخصية الدنيويين التي (تتحوّل) من موقف إلى آخر، وهو تحول إيجابي له أهميته في حركة القصة، والسر في ذلك، أنّ القصة أساسا كانت تستهدف لفت النظر إلى أنّ متاع الحياة الدنيا لا قيمة له البتة: حتى في صعيد الحياة الدنيا نفسها، فضلا
ص: 385
عن الحياة الأخروية، بدليل أنّ قارون نفسه (و قد تملك كنوز الأرض) قد خسف به و بداره الأرض... لذلك فإنّ رسم الشخوص الذين تمنوا مكانه (وهو موقف سلبي): شخوصا (واعين) في نهاية القصة يعد امرا له مسوغه الفنّي الكبير، لأنّ وعيهم بنهاية قارون يعزز الهدف الفكري الذي انطوت القصة عليه ونعني به: تلاشي متاع الدنيا حتى في صعيد العمر المحدود للشخص..
لقد كان بإمكان القصة أن تستحضر شخوصا سلبيين مسطحين غير خاضعين للنمو بحيث لا يعتبرون بتجارب الآخرين، لكن بما أنّ هدف النص هو. تثبيت الحقيقة المتقدمة (عدم استمرارية المتاع الدنيوي) حينئذ فإن استحضار الشخوص النامين الذين يتعظون بتجارب الآخرين، يعد أمرا له دلالته أو مسوغه الفني: حتى تتجانس الشخصيات مع «الأحداث»، ومن ثمّ مع الأفكار التي تستهدفها القصة، وبهذا التجانس نستكشف مدى الإحكام العماري للقصة: من حيث علاقة أجزائها وعناصرها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا، وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ ، فَلاٰ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئٰاتِ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ... .
هذا المقطع من سورة القصص جاء تعقيبا على قصة قارون الذي ملك كنوز الأرض واستطال بها على الناس فخسف اللّه به وبداره الأرض... لقد أكّد هذا المقطع على ظاهرتين من السلوك السلبي هما (العلو) و (الفساد) تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً ، وهذان السلوكان لهما موقع عضوي بالنسبة إلى هيكل القصة التي تحدثت عن قارون، وبالنسبة إلى هيكل السورة الكريمة التي افتتحت بقصة موسى مع
ص: 386
فرعون... إنّ قصة فرعون بدأت برسم لشخصيته المنحرفة من خلال هذين السلوكين (العلو) و (الفساد) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ ... إِنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ . وها هو النص - بعد أن يعرض لقصة أخرى غير قصة فرعون، ونعني بها قصة قارون - يعود ليحدثنا عن سمتي (العلو) و (الفساد) أيضا، إلاّ أنّه يوردهما في سياق جديد هو: الدار الاخرة التي جعلها الله تعالى لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً ... ان الأهمية الفنية لتكرار هاتين الظاهرتين من السلوك (العلو والفساد) أنّ النص جعلهما محورا تدور حوله موضوعات السورة الكريمة، كما وظف لهما العنصر القصصي (قصة فرعون وقصة قارون)، وبهذا النمط من الإحكام الهندسي في صياغة الموضوعات والأفكار يكون النص قد أخضعها لعمارة جميلة من جانب، وأبرز ما استهدفه من الدلالات الخاصة: من جانب آخر... ومن الواضح، انّ كلا من (العلو) و (الفساد) يجسّد الدلالة الخاصة التي استهدف النص القرآني طرحها في هذه السورة الكريمة، حيث أوردها في جملة من المواضع التي مرّ ذكرها، وحيث ربط من خلالها كلا من المصائر الدنيوية والأخروية المترتبة على السلوك المذكور... فعندما تحدث عن فرعون الذي (علا) في الأرض و (أفسد)، لوح بالمصير الدنيوي الذي سيؤول فرعون إليه وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَحْذَرُونَ ، وقد رسم بالفعل مصير فرعون دنيويا فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلظّٰالِمِينَ ... وَ أَتْبَعْنٰاهُمْ فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً ، وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ ... والأمر نفسه بالنسبة إلى قارون الذي خسف به وبداره الأرض...
وهذا كله في الحياة الدنيا...
ص: 387
أما في الحياة الأخرى، فقد لوح بها بالنسبة إلى فرعون - كما لحظنا - كما لوّح بها بنحو غير مباشر عندما عقب على قصة قارون في قوله تعالى تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً .
إذن، أمكننا ملاحظة مدى الإحكام الفني في صياغة هذين السلوكين السلبيين (العلو والفساد) وانعكاساتهما دنيويا وأخرويا.
والان، بعد أن جعل النص من هذين السلوكين محورا تدور حوله موضوعات السورة، ختم السورة الكريمة بجملة من الحقائق التي استهدف توصيلها إلى القارىء، حيث ربط بين الماضي (وهو قصص فرعون وقارون) وبين الحاضر (وهو قصة محمد (ص) مع قومه) حيث ذكره بقصص الماضين وَ مٰا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقىٰ إِلَيْكَ اَلْكِتٰابُ إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، فَلاٰ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكٰافِرِينَ وَ لاٰ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ، وَ اُدْعُ إِلىٰ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ... إلخ.
واصح، أنّ هذه الآيات التي ختمت بها السورة تستهدف إبراز ثلاث ظواهر هي. مواصلة تبليغ الرسالة إلى الاخرين، وعدم الشرك (وهما في الصميم من الحياة الاجتماعية المعاصرة لرسالة الإسلام)... وأما الظاهرة الثالثة فتتصل بأخذ العظة من قصص الماضين بالنسبة لعملية التبليغ... وهذا التذكر يظل إفصاحا عن ربط الموضوعات بعضها مع الآخر (ربط الماضي بالحاضر)، مما يكشف عن مدى الإحكام العماري للسورة الكريمة، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 388
ص: 389
ص: 390
بدأت السورة الكريمة بهذا النحو:
الم * أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ يَسْبِقُونٰا سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ .
هذا المقطع من النص يشكل (تمهيدا) للموضوعات التي تنتظم السورة الكريمة، وهو تمهيد يتحدث عن التجربة العبادية، وكونها مقرونة بشدائد الحياة، وقد ألمح إلى تجارب الأمم السابقة في هذه التجربة العبادية المقرونة بالشدائد، وأكّد على جانب (السقوط) الذى طبع قسما من الناس ممّن فشل في مواجهة هذا الاختبار أو الامتحان العبادي، مما يعني (من الزاوية الهندسية للنص) أنّ التركيز سيكون على تجارب البشر الذين قد انحرفوا عن مبادىء اللّه تعالى وفشلوا في مواجهة الامتحان المذكور...
ونواجه القسم الثاني من السورة، فنجده (يفصّل) كلامه للتمهيد السابق، ويلقي عليه جانبا من الإنارة، ليواصل بعد ذلك حديثه عن الجوانب الأخرى حسب توزيعها على أقسام السورة الكريمة...
يقول النص: مَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ اَللّٰهِ ، فَإِنَّ أَجَلَ اَللّٰهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ... وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ ، وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَمّٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ . هذا القسم يتحدث عن التجربة العبادية ذاتها، مشيرا إلى «الناجحين» في اجتيازها، مع التركيز على تجربة «الفاشلين» فيها: اتساقا مع التمهيد الذي قلنا انّ استهلاله بالحديث عن الفاشلين في التجربة، يعني أنّ التركيز سيتم على هذه الفئة من الناس... الإنارة في هذا القسم تتمثل في أنّ
ص: 391
الناجح في تجربته (يَرْجُوا لِقٰاءَ اَللّٰهِ تعالى)، و معلوم أنّ إبراز مفهوم (اليوم الآخر و محاسباته) و اجتياز التجربة بنجاح، مثل هذا الإبراز للمفهوم المتقدم يكشف عن أنّ هذا المفهوم سوف يتم التأكيد عليه أيضا في هذا القسم من جانب بحيث يظل محورا لموضوعاته. كما أنّه ينسحب على الأجزاء اللاحقة من السورة من جانب آخر... والمهم، أنّ النص يواصل إلقاء إنارته المفصلة علي الموضوعات التي طرحها التمهيد، ومنها. أنّ التجربة العبادية المقرونة بالشدائد تتطلب ممارسة جادة، وإنّ هذه الجدية تنعكس على المصير الأخروي... ثم يلقي النص إنارة جديدة بالنسبة للأشخاص الإيجابيين، مشيرا إلى أنّ اللّه تعالى سيكفر عنهم سيئاتهم ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون..
إذن: هذه الإنارات تصب جميعا في قضية (اليوم الآخر ومحاسباته) حيث قد إنّ استهلال القسم الثاني بها يكشف عن أنّ التركيز يتم من خلال الظاهر المشار إليها.
هنا يطرح النص موضوعا (طارئا) هو: الإحسان إلى الوالدين حتى لو كانا مشركين، مشيرا إلى أنّ مرجع العباد جميعا إلى الله تعالى في اليوم الآخر... إذن - للمرة الجديدة - لا تزال الإنارة منحصرة في التركيز على اليوم الآخر حيث يشكل هذا المفهوم رابطا عضويا بين ما طرحه من موضوع طارىء هو الإحسان إلى الوالدين وبين تذييله بالرجوع إلى اليوم الآخر، مع ملاحظة أنّ طرح ما هو طارىء من الموضوعات يكشف عن أهمية الموضوع، حيث قطع النص سلسلة حديثه عن اليوم الآخر بطرح أحد مصاديق التجربة العبادية المقرونة بالشدائد بصفة أنّ إطاعة الوالدين حتى لو كانا مشركين، تتطلب تنازلا عن الذات وتحملا لأوامر الوالدين... بعد ذلك عاد النص إلى سلسلة حديثه عن الجزاء الأخروي للإيجابيين فأشار إلى نتائج (الجزاء) الذي أبهم درجاته في الآية السابقة (أي التي اعترض سلسلتها موضوع الإطاعة للوالدين) فأوضح ذلك بقول لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّٰالِحِينَ ... .
ص: 392
و الآن، بعد أن انتهى الحديث عن الإيجابيين، اتجه إلى الأشخاص السلبيين، فرسمهم أشخاصا (منافقين) يتحركون وفق شهواتهم وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ ، فَإِذٰا أُوذِيَ ... إلخ، لنلاحظ كيف أن النص ربط عضويا بين مقدمة ا لسورة و بين قسمها الثاني، حين أفرز لنا نمطا لا يتحمل شدائد التجربة العبادية، و هو. الشخص المنافق الذي إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله تعالي... ولنلاحظ للمرة الآخرى. الصلة العضوية بين مقدمة ا لسورة وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ وبين هذه الشريحة المشيرة إلى (فتنة) الناس... هذا وقد أشار النص إلى شريحة أخرى هي مطلق الكافرين ممن وقف مضادا لمبادىء اللّه تعالى، ومحرضا الآخرين على التمرد، حيث هدّدهم النص بالجزاء الذي يلحقهم باليوم الآخر... وهكذا نجد أنّ بداية هذا القسم ونهايته قد تحدّثتا عن اليوم الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
إذا كان القسم الأول يتحدث عن (الفتنة)، والقسم الثاني عن اليوم الآخر، فإنّ القسم الثالث من السورة يمحض للحديث عن:
العنصر القصصي:
يتضمن هذا القسم جملة من قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان إلخ، إلاّ أنّ بعضها يظل مجرد عرض لأسمائهم كالأسماء الأخيرة (عاد، ثمود، قارون... إلخ) حيث يشير النص إلى مصائرهم وآثارها، وبعضها مجرد حكاية قصيرة كقصة شعيب حيث تشير إلى مطالبة قومه بعبادة اللّه والإيمان لليوم الآخر وعدم الفساد في الأرض، ثم تكذيبهم وإبادتهم، وكذلك قصة نوح حيث تشير إلى أنّه لبث في قومه ألف عام تقريبا، وإلى أنّ قومه كانوا ظالمين، وأنّ الطوفان قد اكتسحهم، وأنّ نوحا وأصحابه قد أنقذهم اللّه تعالى من ذلك... وأما قصة لوط فتمثل حجما
ص: 393
متوسطا يتناول الإشارة إلى إتيانهم الرجال، و قطعهم السبيل، و إتيانهم المنكر في ناديهم، ثم دعائه عليه السلام بالنصرة عليم، ثم مجيء الملائكة إليه وإخباره بإنزال العذاب إليهم، ثم الإشارة إلى أنّ منازلهم أصبحت عبرة لقوم يعقلون.
وأما قصة إبراهيم فهي التي تحتل مساحة كبيرة من النص، وتخضع لعمارة قصصية خاصة يتعين أن نقف عندها... لكن قبل أن نتحدث عن هذ القصة لملاحظة عمارتها وصلتها بعمارة السورة الكريمة، ينبغي أن نشير إلى جملة ملاحظات، منها. أنّ عنصرا مشتركا يطبع القصص جميعا، ومنها: أن صلة عضوية تربط بين قصتي لوط وإبراهيم، ومنها: أنّ قصص إبراهيم بعامة تأخذ نمطا مستقلا في النصوص القرآنية، حيث لا تجيء في سياق القصص التي تتحدث عن مصائر المجتمعات البائدة، ولذلك فإنّ مجيئها الآن في سياق خاص، لابد أن يكون مرتبطا بسياق مشترك بين القصص جميعا.
وفي ضوء معرفتنا بهذه الحقائق نتقدم إلى الحديث أولا عن قصة إبراهيم، ثم القصص الأخرى وصلتها بعضها مع الآخر..
لقد بدأت قصة إبراهيم بالإشارة إلى دعوته قومه إلى عبادة اللّه تعالى واتقائه، والإشارة إلى أن عبادة قومه للأوثان إنّما هي إفك وانّها لا تملك رزقا، مطالبا إياهم أن يلتمسوا من اللّه تعالى الرزق، وأن يشكروه، وأن يعبدوه، وأنّهم إليه يرجعون، موضحا لهم بأنه مرسل إليهم وما عليه إلا البلاغ، وأنّهم إذا كذبوه فإن الأمم السالفة أيضا قد كذبت رسلها...
إلى هنا ينتهي القسم الأول من القصة. إلاّ أنّ الملاحظ أنّ النص هنا قطع سلسلة حديثه عن إبراهيم وقومه، واتجه الحديث عن مجتمع محمد (ص) مطالبا إياه أن يرى كيف أنّ اللّه تعالى خلق الناس من العدم ثم يعيدهم بعد الموت، كما طالبه بأن يسير في الأرض ليرى النشأة الكونية، ثم أنّه تعالى
ص: 394
ينشىء النشأة الأخرة أيضا، و أنه تعالى يعذب من يشاء و يرحم و إليه يرجع الخلق، وأنّ الكافر ماله من دون اللّه من ولي ولا نصير، وأنّ الذي كفروا به تعالى وباليوم الآخر سيلحقهم العذاب.
بعد هذه الشريحة التي اعترضت سلسلة قصة إبراهيم يعود النص ليواصل حديثه عن إبراهيم ومجتمعه، مشيرا إلى أنّ قومه قد اقترحوا قتله أو حرقه وأنّ اللّه تعالى قد أنقذه من الحرق... ثم أعاد النص رسمه للموقف السابق المتصل بعبادة مجتمعه للأوثان، مشيرا إلى مودة قومه للأوثان وأنّها في اليوم الآخر يكفر بعضهم ببعض وأنّ جهنم ستكون نصيبهم... بعد ذلك يشير النص إلى أنّ لوطا (ع) قد آمن بإبراهيم، وأنّ اللّه تعالى قد وهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب وجعل في ذريته النبوة، وأنّه تعالى قد آتاه أجره في الدنيا، وأنّه في الآخرة لمن الصالحين...
وبهذا تنتهي القصة المذكورة، لتجيء بعدها قصة لوط فشعيب... إلخ.
إنّ هذه القصة بنحوها الذي عرضنا له، تتميز بجملة خصائص، يعنينا منها ما يرتبط بعمارة القصة، وعلاقتها بالقصص الأخرى، وعلاقتها بالسورة وموضوعاتها...
من حيث علاقتها بما سبقها من قصة نوح، فإنّ الرابط المشترك بينهما هو: قضية إنقاذ اللّه تعالى لكل من نوح وإبراهيم، حيث عقب النص بعبارة فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَصْحٰابَ اَلسَّفِينَةِ بالنسبة إلى قصة نوح، وعقّب النص بعبارة فَأَنْجٰاهُ اَللّٰهُ مِنَ اَلنّٰارِ ، فتكون النجاة هي العنصر المشترك بينهما، كذلك بالنسبة لما لحقها من القصص، حيث عقب النص بعبارة لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ بالنسبة إلى قصة لوط... إذن ثمة رابطة عضوية بين القصص الثلاث المتعاقبة... أما الرابط العضوي بينها وبين سائر القصص من جانب، وبينها وبين موضوعات السورة من جانب آخر، ينبغي أن نمهد له بالحديث عن مفهوم
ص: 395
(الصلة العضوية) بين أجزاء النص فنقول:
إن الصلة العضوية بين الأجزاء تشبه شبكة المواصلات أو الجسم الحيّ من حيث علاقة بعض الأجزاء ببعضها، فهناك علاقة مشتركة بين جزئين أو ثلاثة، كما أن لكل جزء علاقة خاصة بجزء آخر في شىء خاص دون أن تنسحب هذه السمة على الأجزاء الأخرى بل يجيء الشيء سمة أخرى لتربط بين الأجزاء الجديدة وهكذا... وإذا عدنا إلى قصة إبراهيم نجد أنّ علاقتها بما سبقها ولحقها مباشرة تتمثل في سمة (النجاة)، وأنّ القضايا الأخرى تظل عنصرا رابطا بينها وبين القصص اللاحقة، مثل: تكذيب المجتمعات المشار إليها لرسلها، وبينها وبين أجزاء السورة مثل قول الكافرين لاتباعهم من القسم الثاني في السورة وَ لْنَحْمِلْ خَطٰايٰاكُمْ وتعقيب النص على ذلك وَ مٰا هُمْ بِحٰامِلِينَ مِنْ خَطٰايٰاهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ... وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ... حيث (تنامى) هذا القول والتعقيب في القسم الثالث من السورة (قصة إبراهيم)، إلى المفهوم القائل (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا و مأواكم النار ومالكم من ناصرين) بمعنى أن ما طرح القسم الثاني من النص، و هو تحمّل الأثقال فيما لوح به النص، قد ترجم إلى الجزاء الفعلي الذي وصفه النص بأنّه (النار)، فضلا من إشارته إلى أنّ هؤلاء الكفار يكفر بعضهم ببعض: بعد أن كانوا في القسم الثاني في السورة يقولون وَ لْنَحْمِلْ خَطٰايٰاكُمْ .
وأما علاقة القصة بما لحقها من الأجزاء فتتوزع في خطوط متنوعة منها قضية الرزق كما نرى. حيث أشار إبراهيم عند مخاطبته قومه إلى مفهوم الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّٰهِ اَلرِّزْقَ ، فانعكست هذه الإشارة إلى مفهوم عام في جزء لاحق من السورة بقوله وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاٰ تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اَللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ . بيد أنّ ما ينبغي ملاحظته بالنسبة إلى قصة إبراهيم وعلاقتها
ص: 396
بالقصص و الأجزاء الأخرى من النص (وكذلك مطلق الاقسام و علاقة بعضها مع الأخر) أنّ هذه القصة لا بدّ أن (تستقل) بطرح المفهومات الخاصة التي تميّزها عن القصص والأجزاء الأخرى، وأن تحتفظ فى الوقت نفسه بخيوط تربطها بما لحقها وسبقها من الأجزاء.. لقد استقلت القصة بمفهومات تتصل بشخصية إبراهيم وبمجتمعه، وكذلك نجد أنّ القصص الأخرى (تستقل) في رسم بطلها ومجتمعه مثل لوط وإيمانه بإبراهيم، ومثل مجتمعه الذي وصفه النص بسمات ثلاث: إتيان الرجال، قطع السبيل، إتيان المنكر في نواديهم، ومثل مجتمع شعيب فيما وسمه النص بسمة الإفساد في الأرض، ومثل قارون وفرعون وهامان حيث وسمهم النص بسمات الاستكبار، وهكذا...
إذن، أمكننا ملاحظة قصة إبراهيم (وسائر القصص) من حيث استقلالها من جانب وارتباط بعضها بالبعض من جانب آخر...
بقي أن نشير إلى سمة بنائية طبعت النص، وهي: قطع النص لسلسلة هذه القصة وطرحه لبعض الظواهر المرتبطة بمجتمع محمد (ص) ثم مواصلة القصة من جديد، فما هو السر الفنّي في ذلك ؟ قلنا، إنّ طرح أي موضوع من خلال قطع النص لسلسلة الموضوع السابق يعني أن النص يستهدف لفت النظر إلى أهمية الموضوع الطارىء... والملاحظ أن الموضوع الطارىء منحصر في الإيمان باليوم الاخر وما يترتب عليه من الجزاء، حيث يستدل من خلال خلق الإنسان على إعادته في اليوم الآخر، ثم يستدل ثانيا على النشأة الآخرة من خلال المطالبة بالنظر إلى النشأة الأولى، وبهذا التكرار لموضوع الإيجاد أو النشأة نستنتج مدى إكساب النص لقضية اليوم الآخر من الأهمية، وخلال ذلك طرح قضية (لقاء اللّه) تعالى وما يترتب على من يرجو ذلك أو يكفر به من الجزاء...
ص: 397
بعد ذلك نواجه قصة لوط... و هذه القصة يظل ارتباطها بقصة إبراهيم واضحا، حيث سبق أن قلنا في سور متقدمة بأن تداخل قصتي إبراهيم ولوط ينطوي على أسرار فنية، لا حاجة إلى إعادة الكلام فيها... وأما علاقتها بسائر القصص التي وردت في هذه السورة، فقد أشرنا إلى بعض خيوطها العضوية (نجاته عليه السلام من العذاب الذي نزل على قومه تساوقا مع نجاة نوح، وكذلك إبراهيم عليه السلام)، كما أنّ خيوطها الأخرى مثل قوله تعالى وَ لَقَدْ تَرَكْنٰا مِنْهٰا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ حيث يشكل هذا المفهوم عنصرا مشتركا بينها وبين قصة نوح التي ختمت بفقرة مماثلة وَ جَعَلْنٰاهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ كذلك قصة إبراهيم فيما جاء فيها إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وكذلك قصص قوم شعيب، قصص عاد وثمود فيما عقب النص على مصائرهم قائلا وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسٰاكِنِهِمْ .
وأما قصة شعيب فقد قلنا إنها تجسد حكاية لا قصة.. ولكنها أيضا ترتبط عضويا بما سبقها ولحقها من القصص مثل توافقها مع قضية إبراهيم في مطالبته قومهما بعبادة اللّه تعالى من خلال فقرة مشتركة وردت في القصتين وهى عبارة اُعْبُدُوا اَللّٰهَ ... مضافا إلى مشاركتها القصص الأخرى في ظاهرة (المصائر) التي شكلت (آية) وعبرة للآخرين بالنحو الذي أشرنا إليه، مثلما ترتبط بسائر أجزاء السورة، وهذا من نحو مطالبة شعيب قومه وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ حيث لحظنا كيف أنّ أول الا سورة الكريمة قد استهلت بفقرة مَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ اَللّٰهِ ... فيما انعكست على فقرة شعيب الذي طالب قومه بعبادة الله تعالى وبرجاء اليوم الآخر.
ص: 398
القسم الأخير:
لقد كان القسم الأول من السورة يتحدث عن (الفتنة) أو (الاختبار)، وكان القسم الثاني منها يفصل الحديث عن هذه الظاهرة، ويطرح خلال ذلك مفهومات عن اليوم الآخر وسواه... أما العنصر القصصي فكان الجزاء الدنيوي فيه إرهاصا للجزاءات الأخروية، وإنارة للمواقف المنحرفة التي صدرت عن المجتمعات البائدة وفي مقدمتها عبادة الأوثان التي تمحضت قصة إبراهيم عليه السلام لتناولها، وهي أطول القصص حجما... وها هنا النص في القسم الأخير منه يتناول هذه الموضوعات مركزا - بطبيعة الحال - على مجتمع محمد (ص) ومواقف المنحرفين حيال رسالة الإسلام، وفي مقدمتها:
عبادة الأوثان... هنا يتقدم النص بصورة تشبيهية ممتعة وعميقة وطريفة يعالج من خلالها قضية عبادة الأوثان فيقول:
مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْلِيٰاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ . * إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ * وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ .
هذا المقطع من السورة يحتل موقعا هندسيا محكما مهما، أنّه صدى لما طرح في أقسامها السابقة حيث يتكفل بإنارة الظاهرة الوثنية وما تنطوي عليه من المفارقات، فهو يقدّم صورة تشبيهية مشفوعة بصورة استدلالية تجعلك منبهرا حيال جماليتها الفائقة... التشبيه هو: البيت الذي تنسجه العنكبوت، وأما الصورة الاستدلالية فهي صورة إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ انّ من يتخذ من دون اللّه أولياء قد شبهه النص بالعنكبوت التي تتخذ بيتا لها، ولعلّ المتلقي يتحسّس بوضوح كامل بأنّ هذه العيّنة الحسية التي يشاهدها في حياته اليومية، إنّما تعبّر بدقة عن سرّ الوهن والضعف الذي يطبع بيوت العنكبوت، انّها بيوت واهية لا يمكن تصوّر ما هو أوهى منها، ولذلك
ص: 399
فإنّ الصورة الاستدلالية التي أعقبت التشبيه المذكور أشارت إلى هذا الجانب قائلة وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ ... لا نغفل أن قصة إبراهيم عليه السلام أشارت أكثر من مرة إلى من يتخذ من دون اللّه وليا، حيث جاء ذلك في قسمها الأول إِنَّمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْثٰاناً ثم كررت ذلك في القسم الثاني إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْثٰاناً وها هو النص يستخدم العبارة ذاتها مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ليصوغها صورة تشبيهية واستدلالية تفصح عن مدى الإحكام العضوي بين أجزاء النص. ولا نغفل أيضا أنّ الموضوع الذي قطع سلسلة القصة قد طرح أيضا نفس العبارة مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، مما يكشف ذلك عن مزيد من التماسك العضوي المشار إليه.
بعد ذلك، يطرح النص جملة من الموضوعات الجديدة من جانب.
والموضوعات المرتبطة بالأقسام السابقة من جانب آخر. ومن جملة ذلك، الإشارة إلى خلق السماوات والأرض بالحق حيث ذيلها بقوله تعالى إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وهي فقرة ذيل بها قصص الماضين ليتم الربط بين مصائرهم التي ينبغي أن يتعظ بها الناس وبين إبداع الله تعالى فيما ينبغي أن يتعظوا به أيضا حيث أنّ كليهما مؤشر إلى قدرته تعالى وإلى أنّ خلقه السماوات والأرض بالحق يتداعى بالذهن إلى أنّ عبادة من دونه هي الباطل.
ثم يطرح النص ظاهرة جديدة هي الصلاة وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ ، إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ، وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ . أنّ هذا الموضوع الجديد يظل مرتبطا بما سبقه من موضوع (الوثنية)، حيث أنّ الصلاة هي الممارسة التي تقابل عبادة الأوثان، بل أنّ تعقيبه على الصلاة بقوله وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ يجسّد الممارسة الوحيدة بالنسبة إلى ضرورة التعامل مع اللّه تعالى وليس مع الأوثان...
ولو تابعنا النص لوجدنا أنّ الموضوعات الجديدة فيه تتمثل في جملة
ص: 400
محاور، منها: أساليب التبليغ لرسالة الإسلام و طريقة التعامل مع المنحرفين كالمطالبة بالجدال بالتي هي أحسن، ومثل التلويح بالجزاء الذى ينتظر المنحرفين ممن يستعجلونه. ومثل الإشارة إلى فطرية التوحيد متمثلة في اتجاه الناس إلى اللّه تعالى عند ما يواجههم خطر الموت - وهم يركبون السفن منها - و لكنهم يشركون به عندما ينقذهم اللّه من الغرق... ومثل تذكر هؤلاء المنحرفين بما آتاهم اللّه تعالى من نعمة الأمن بالنسبة إلى (الحرم)، مضافا إلى طرح مفهومات عبادية تتصل بالرزق من حيث كونه موكولا إلى اللّه تعالى ومن حيث تقديره للناس حسب متطلبات الحكمة..
هذه الموضوعات وسواها قد طرح بعضها في الاّقسام السابقة من السورة (مثل ظاهرة الرزق التي أشرنا إلى ورودها في قصة إبراهيم) ومثل التلويحات المتكررة باليوم الآخر وجزاءاته... والبعض الأخر منها يطرح جديدا ولكن من خلال مجانسته لما سبق مثل موضوع الصلاة وكونها البديل المقابل للوثنية... و البعض الأخر منها يطرح جديدا ولكنه بصفته خلاصة لما ينبغي أن يتفهمه البشر مثل الإشارة إلى أنّ الحياة الدنيا لهو ولعب وأنّ الاخرة هي الحياة الحق، حيث يصل النص بين هذا النوع وبين مفهوم (اليوم الآخر) الذي يشكل أحد محاور السورة.
أخيرا، ينبغي أن نتأمل بدقة نهاية السورة التي ختمت بقوله تعالى وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا، وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ وبداية السورة التي طرحت مفهوم (الفتنة) أو (الاختبار) في قوله أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ حيث طور ونمّى النص القرآني الكريم هذا المفهوم (أي الفتنة أو الاختبار) وجعل مجاوزة الشدائد التي تقرن بهذا المفهوم، جعلها من نصيب الذين يجاهدون من أجل اللّه تعالى، حيث يسعفهم اللّه تعالى في ممارسة العمل العبادي وما ترتب عليه من الجزاءات الأخروية...
ص: 401
إذن، أمكننا أن نتبين عمارة السورة المتقدمة: من حين بدايتها و نهايتها، ومن حيث وسطها الذى لحظنا مدى ترابط جزئياته بالنحو الذى تقدم الحديث عنه.
ص: 402
ص: 403
ص: 404
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ ، وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ، وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللّٰهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ ، وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ وَعْدَ اَللّٰهِ ، لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ .
بهذا المقطع الذى يتحدث عن ظاهرة عسكرية هي. هزيمة الروم تم انتصارهم في جولة أخرى، تبدأ سورة الروم... إنّ ما يثير التساؤل هو. ما هو السّر الفنيّ لمثل هذه البداية التي تتحدث عن الروم وهزيمتهم وانتصارهم، وصلة ذلك بالمؤمنين ؟ ثم ما هو الموقع الهندسي لها من السورة ؟ إن المقطع القرآني الكريم يحدّثنا عن مجتمعات ثلاثة: أهل الكتاب، الكفار،.. المسلمين... والسؤال من جديد هو: ما هي العلاقة الاجتماعية التي يستهدف النص إبرازها في حديثه عن الطوائف الثلاث إذا عدنا إلى النصوص المفسرة، وجدنا أنها تشير إلى أنّ مشركي العرب كانوا يجادلون الإسلاميين في جملة قضايا، منها: أنّ الروم - وهم أهل الكتاب - قد غلبتهم فارس (وهم كفار عصرئذ)، وكان الإسلاميون يقولون للمشركين بأنهم سوف ينتصرون على أعداء اللّه تعالى. وحيال هذا تساءل المشركون إذا كان المنتسبون لرسالات السماء ينتصرون على أعدائهم، فكيف غلب الكفار الروم (وهم أهل الكتاب)؟.
حيال هذا التساؤل: جاء المقطع القرآني الكريم ليجيب الكفّار بأنّ الروم قد غلبت فعلا، إلاّ أنها سوف تنتصر على أعدائها بعد سنين، وسوف يفرح
ص: 405
الإسلاميون بهذا الانتصار...
والسؤال للمرة الثالثة: ما هي علاقة الإسلاميين بطرفين يعتبران غريبين على الإسلام بالرغم من أن أحدهما من أهل الكتاب، والآخر لا يؤمن بأية رسالة من السماء؟ في تصوّرنا، أنّ النص القرآني الكريم يستهدف جملة أشياء من وراء عرضه لهذه القضية العسكرية، منها: مجاراة المشركين في نمط الذهنية التي يصدرون عنها، حتى يفحمهم عن الردّ، فإذا كانت الحجة التي يقدّمونها في تعزيز موقفهم المنحرف هي: أن المنتسبين لرسالات السماء لا تنصرهم السماء: حينئذ، فإن القرآن الكريم أجابهم بأن النصر سوف يتحقق في نهاية الأمر، وبهذا الجواب يكون النص القرآني قد قطع عليهم أية حجة في هذا الميدان...
ومنها، أن أهل الكتاب بالرغم من كونهم غير إسلاميين، إلآ أنّ ارتباطهم ببيت المقدس (وهو يقابل الكعبة بالنسبة للإسلاميين)، يجعل قضية انتصارهم على العدو الذي استولى على بيت المقدس أمرا له أهميته... ومنها (وهذا هو المهم) أنّ النص القرآني استثمر هذه الحادثة العسكرية ليقرّر من خلالها جملة من مبادىء الاجتماع الإسلامي، أهمها هو: أن الأمر للّه تعالى، وأنه ينصر من يشاء، وأنه تعالى لا يخلف وعده، وأن غالبية الناس يصدرون عن ذهنية قاصرة هي أنهم يتعاملون مع الأشياء من خلال نفعها الدنيوي ولا يفقهون شيئا من الحياة الأخرى يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ ...
إذن، نحن الآن أمام جملة من المبادىء العبادية التي يستهدف النص القرآني توصيلها إلى القارىء، منها: أن النصر بيد اللّه تعالى، وأنّ النصر لا ينحصر في قضية دنيوية (مثل الانتصار العسكري) بل أن النصر الحقيقي هو:
ص: 406
أن يتعامل الإنسان مع الله تعالى، وليس مع المتاع الدنيوي الذى يخبره الكفار تماما بحيث أنهم يعون كلّ دقائقه ويحرصون على تحقيق إشباعاتهم المختلفة منه، في حين أنهم لا يعون شيئا من النعيم الأخروي...
إذن، للمرة الجديدة، يكون المقطع القرآني الكريم قد استثمر حادثة عسكرية، لينتقل من خلالها إلى طرح مبادىء عامة يستهدف توصيلها إلى القارىء، كاشفا بذلك عن مدى إحكام النص: من حيث صلة موضوعاته.
بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ . مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ لَكٰافِرُونَ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَ أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عَمَرُوهٰا، وَ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ ، فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ .
في هذا المقطع من سورة الروم نواجه أفكارا مرتبطة بمقطع سابق كان قد حدّثنا وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ ... إن فكرة أنّ الناس غافلون عن الاخرة، و أنّ وعيهم منحصر في المكاسب الدنيوية فحسب، تظل عصبا فنيا يحوم عليه هيكل السورة الكريمة... وأهمية هذه الفكرة تتمثل في كونها سلوكا اجتماعيا يطبع جميع العصور والمجتمعات. بما فيها المجتمعات الإسلامية غير الواعية...
إنّ أبسط مواطن في مجتمعاتنا المعاصرة يملك وعيا وخبرة بما يعود عليه بمكتسبات اقتصادية أو بمكتسبات نفسية خلال علاقاته الاجتماعية المتنوعة، إلاّ أنّه - من المؤسف - نجده غافلا عن التفكير بالمكتسبات الأخروية التي خلق
ص: 407
الإنسان من أجلها.. هذه الحقيقة قد أبرزها النص القرآني الكريم في سورة الروم ملقيا عليها إنارات متنوعة قد تكفّل المقطع الذى نتحدث عنه بتوضيحها... لقد لفت النص القرآني أولا نظر الإنسان إلى أن يفكّر مع نفسه في خلق اللّه تعالى للسماوات والأرض وما بينهما، وأن يدرك بأن ذلك لم يكن عبثا بل هو من أجل هدف عبادى، أي أنّ الدنيا التي أشغل الإنسان نفسه في مكتسباتها لا تشكّل إلاّ أجلا محدودا، وأن التفكير ينبغي أن يتجه إلى العمل الأخروي.
هذه الحقائق قد جسّدها النص في الآية الكريمة التي استهلّ بها هذ المقطع الذي نتحدث عنه، أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى، وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ لَكٰافِرُونَ . ولكي يثبت هذه الفكرة في ذهن المتلقي، نجد أن النص قد طالب هؤلاء الغافلين عن الآخرة أن يستحضروا في ذاكرتهم مصاتر الذين كانوا من قبلهم، حيث أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عَمَرُوهٰا . هذه الفقرة، تنطوي على خصائص فنية وفكرية ذات إثارة بالغة ينبغي أن نقف عندها.
إنّ صياغة هذه الحقيقة تمت من خلال أداة فنية هي: التجنيس الإيقاعي أي: تماثل حروف الكلمتين عَمَرُوهٰا التي تعنى (عمر الإنسان)... وهذ التجنيس لا ينحصر في كونه يحقق متعة إيقاعية فحسب، بل إنه تجنيس بين الدلالات أيضا؛ دلالة عمارة الأرض و دلالة عمر الإنسان، وعندما يتآزر عنصران فنيان (الدلالة والصوت) حينئذ يبلغ الفن منتهى إثارته و جماله كما هو واضح... لذلك، ينبغي ألاّ يغيب عن ذهننا (ونحن نعنى أساسا بدراسة عمارة السورة القرآنية الكريمة) هذا النوع من التجانس بين صوت الكلمة الفنية وَ عَمَرُوهٰا ، وبين دلالتها التي تعني كلا من (عمارة الأرض) و (عمر الإنسان)، حيث يفصح مثل هذا التجانس عن متانة النص القرآني الكريم من
ص: 408
حيث تلاحم و تواشج و ترابط عناصره: بعضها مع الآخر بالنحو الذى لحظناه.
قال تعالى: اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكٰائِهِمْ شُفَعٰاءُ وَ كٰانُوا بِشُرَكٰائِهِمْ كٰافِرِينَ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولٰئِكَ ... .
هذا المقطع من سورة الروم، يتحدث عن (اليوم الآخر)... علما بأن السورة الكريمة تحوم (فكرتها) التي طرحت فى البداية على كون أكثر الناس يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ ... أي أن الغفلة عن (اليوم الآخر) هي (الفكرة) التي ستصبّ موضوعات السورة فيها.
ومن الطبيعي، أن تترتّب على «الغفلة» نتائج سلبية، منها. ما يتكفّل هذا المقطع الذى نتحدث عنه بتقديمها وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولٰئِكَ فِي اَلْعَذٰابِ مُحْضَرُونَ ... لكن، خارجا عن الحزاء الأخروي، فإن قضايا (اليوم الآخر) تظل عصبا فنيا تتحرّك من خلاله موضوعات متنوعة نجد أن المقطع القرآني الكريم قد طرحها بنحو تتلاحم من خلاله فكرة (الغفلة عن اليوم الآخر) مع سواها من الموضوعات المرتبطة بها مثل: اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حيت ربط النص بين خلق اللّه تعالى للإنسان، وإعادته بعد موته، ورجوعه إلى اللّه تعالى في عملية المحاسبة... وبهذا النمط من الصياغة يكون المقطع القرآني قد قدّم حقائق إبداعية مثل إبداعه تعالى للإنسان، ثم قدرته على إماتته، ثم قدرته على إعادته، ثم. استحضاره في ساحة الحساب... كذلك، نجد النص يتابع عرضه للظواهر الإبداعية ووصل ذلك باليوم الآخر، فيقول تعالى. يُخْرِجُ
ص: 409
اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ، وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ .
لنلاحظ هنا، كيف أن النص طرح قضية إخراج الحيّ من الميّت، والميت من الحيّ ، وإحياء الأرض بعد الموت... طرح هاتين القضيتين وربطهما بقضية ثالثة ترتبط ب (اليوم الاخر) ألا وهي قوله تعالى. وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ أي: تخرجون من الأجداث عند قيام الساعة...
وهكذا نجد (من حيث المبنى الهندسي للسورة) أنّ النص القرآني يطرح جملة موضوعات ثم يربطها بالفكرة العامة للسورة (فكرة اليوم الآخر)، إلاّ أنه في كل مقطع. يطرح منحى جديدا في صياغته للموضوع... ففي المقطع الأسبق كان الطرح: لخلق الإنسان ابتداء، ثم موته، ثم إعادته، ثم محاسبته في (اليوم الآخر)، أما في المقطع الحالي فإنّ الطرح هو. إخراج الحي من الميّت، والميّت من الحيّ ، وإحياء الأرض بعد مواتها، ثم قدرته تعالى على (إخراج) الإنسان من (قبره) عند قيام (اليوم الآخر)...
ويلاحظ. أن (التجانس) بين الموضوعات المطروحة وبين قضايا اليوم الآخر قد بلغ منتهاه الجماليّ في المقطعين اللذين تقدّم الحديث عنهما، ففي المقطع الأول تحقق التجانس في عمليتين (الخلق والانبعاث): خلق الإنسان ثم انبعاثه بعد موته اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، ومق المقطع الثاني تحقّق التجانس بين إخراج الحيّ من الميّت و بين (إخراج) الإنسان من قبره عند قيام الساعة. يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ ... وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ ... وهكذا نجد، أنّ ظاهرة (الإخراج) هي الخيط العضوي الذي يربط بين موضوعات إبداعية للّه تعالى. مثل (إخراجه الحيّ من الميّت...) بين (فكرة) السورة الكريمة التي تحوم على قضايا اليوم الآخرة وفي مقدمتها (إخراج) الإنسان من قبره عند قيام الساعة
ص: 410
وبهذه المستويات المتنوعة من (التجانس) بين الموضوعات من جانب، وبين ربطها بقضايا اليوم الآخر - وهي متجانسة مع الموضوعات المشار إليها أيضا - من جانب آخر، أمكننا أن نلحظ مدى الإحكام الهندسي للسورة الكريمة، من حيث ارتباط أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ مِنْ آيٰاتِهِ : أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ، ثُمَّ إِذٰا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا، وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ : خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ اِخْتِلاٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوٰانِكُمْ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْعٰالِمِينَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ :
مَنٰامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اِبْتِغٰاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ : يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً، وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ : أَنْ تَقُومَ اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ ، إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ .
هذا المقطع من سورة الروم تنتظمه عمارة فنيّة محكمة بالغة الإثارة والجمال... وهذه العمارة تقوم أولا على خطوط متوازية تخضع جميعا لوحدة بنائية تتكرّر في الآيات بأجمعها... الوحدة البنائية هي قوله تعالى في أوّل كل آية وَ مِنْ آيٰاتِهِ مثل وَ مِنْ آيٰاتِهِ : أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مِنْ آيٰاتِهِ : مَنٰامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مِنْ آيٰاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ . إن هذا (التكرار) للعبارة المذكورة في أول كل آية، يعني أولا أن هناك مجموعة من الظواهر الإبداعية المتنوعة التي يستهدف النص توصيلها إلى القارىء، ويعني ثانيا خضوعها لخيط فكري موحّد، فضلا عن
ص: 411
جمالية «التكرار» ذاته ثالثا.
وندع هذه الوحدة البنائية، لنتّجه إلى التعليق الذي يختم به النصّ كلّ فتضمنه لتلكم الظواهر الإبداعية، حيث نلاحظ أنّ النص يعلّق على ظاهرة خلق الأزواج بقوله إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، ويعلق على ظاهرة أخرى بقوله إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، ويعلق على ظاهرة أخرى بقوله:
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ ... ، وهذا التجانس بين بدء كل آية وبين ختامها:
ينطوى على بناء جمالي مثير للدهشة دون أدنى شك... ليس هذا فحسب، بل نجد أنّ كل تعليق يظل مذيّلا بعبارة متجانسة مع طبيعة الظاهرة الإبداعية فحينا يقول النص بأنّ في ذلك لآيات لقوم يَعْقِلُونَ ، وحينا يقول بأنّ ذلك لآيات لقوم يَسْمَعُونَ وحينا ثالثا لقوم يَتَفَكَّرُونَ وهكذا... فهنا نلحظ «تنوّعا» في العبارات التي تطالب بأن (يدرك) الناس هذه الظواهر، حيث أن «الإدراك» يتجسّد حينا في عملية ذهنية هي (التفكّر)، وحينا في عملية ذهنية هي (التعقّل) وحينا في عملية ذهنية هي (الاستماع)، وحينا في عملية ذهنية هي (العلم) وهكذا... وهذا «التنوّع» في العمليات الذهنية يخضع لي (وحدة) فكرية هي «الظواهر الإبداعية» التي طولب بأن يتعظ بها، وهذا ما يطلق عليه في اللغة الأدبية بمصطلح (التنوّع من خلال الوحدة) أو (الوحدة من خلال التنوّع) حيث تضفي مثل هذه الصياغة الفنية على النص جمالية فائقة كما هو واضح.
كل هذه المستويات من التجانس القائم على استهلال كل آية كريمة بعبارة وَ مِنْ آيٰاتِهِ وختمها بعبارة (إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ ...) وخضوع التعليق على كل ظاهرة، لعبارة متجانسة مع طبيعة الظاهرة... كل هذه المستويات من البناء الهندسي المتقن: قد واكبها بناء فني آخر يزيد من إحكام النص وجمالية بنائه، هو: ختم المقطع بتعليق يربط بينه وبين البناء الفكري العام
ص: 412
للسورة، ونعني به: البناء القائم على فكرة (اليوم الآخر) الذي استهلّت به سورة الروم... وهذا ما نجده متجسّدا في الآية الأخيرة من المقطع الذي نتحدث عنها، حيث ختمت بقوله تعالى: ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ : إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي: تخرجون من الأجداث عند قيام الساعة... وبهذا يكون المقطع قد التحم بالهيكل الهندسي العام للسورة الكريمة، مما يفصح ذلك عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ ، تَخٰافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ... .
هذا المقطع امتداد لمقاطع سابقة من سورة الروم التي تحوم «فكرتها» على (اليوم الآخر) في قضاياه المتنوعة، أنّ المقطع الذي نتحدث عنه يطرح قضية الإيمان باليوم الآخر في سياق جديد هو قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ... لقد كانت المقاطع السابقة تشير أيضا إلى هذا الاستدلال الذي يربط بين قدرة اللّه تعالى على خلق الإنسان وبين قدرته على إعادته بعد الموت، إلاّ أنّ الجديد في المقطع الذي نتحدث عنه هو: تعقيبه تعالى على قدرته في إعادة الإنسان عند قيام الساعة بقوله وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ... هذا التعقيب ينطوي عن قيمة فنية وفكرية ينبغي أن نقف عندها... أما قيمته الفنية فلأنه يربط بين أجزاء السورة التي تتناول موضوعات مختلفة ولكنها توصل بخيط فكري هو: قضية اليوم الآخر، مضافا إلى أنه
ص: 413
يعتمد أحد أشكال (التشبيه) الذي يطلق عليه مصطلح (التشبيه المتفاوت)، أي التشبيه الذى يقوم أحد طرفيه على رصد ما هو (أعلى) أو (أدنى) من الطرف الآخر، خلافا للتشبيه الاعتيادي الذي يماثل بين كلّ من طرفيه. فقوله تعالى:
وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ إنما يجعل إعادة الإنسان بعد موته (ليست مماثلة لخلقه ابتداء) بل هي أَهْوَنُ عليه، وهذا هو المقصود بالتشبيه المتفاوت.
لكن، ما يعنينا منه هو: دلالته الفكرية أيضا، فما هو المقصود من عبار أَهْوَنُ ؟ أن كل إبداع من قبل اللّه تعالى يعدّ هيّنا، وليس هناك ما هو هيّن أو أهون أو أشدّ، لذلك، فإن القيمة الفكرية والفنية لهذا التشبيه أَهْوَنُ تتمثل في كونها تنظر إلى القارىء وذهنيته التي تخبر ما هو هين وما هو أهون، أي أنّ التشبيه المذكور يريد أن يقول: ان ما هو (هيّن) في تصوّركم أيها البشر وهو خلق الإنسان ابتداء، تظل إعادة خلقه بعد الموت أَهْوَنُ من ابتداء الخلق:
حسب تصوّركم لمفهوم الإبداع...
بعد ذلك، يتقدّم المقطع القرآني الكريم ب (تشبيه) آخر هو ما يطلق عليه مصطلح (التشبيه - المثل)، وهو قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ .
هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ ، تَخٰافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
هذا التشبيه بالمثل يتناول قضية أخرى من سلوك المنحرفين المشككين باليوم الآخر، ألا وهو: سمة (الشرك) التي تطبع سلوكهم... لقد انتخب النص تجربة يومية يحياها الناس ألا وهي علاقتهم بالعبيد والإماء، حيث لا يشاركون الأحرار. في أموالهم: كما هو بيّن... فالتشبيه المذكور يريد أن يقول. كما أنكم لا ترضون للعبيد والإماء أن يشاركوكم في أموالكم، حينئذ كيف ترضون أن يكون للّه تعالى شركاء؟... ويلاحظ، أنّ هناك تشبيها آخر داخل التشبيه المذكور، وهو قوله تعالى تَخٰافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، وهذا
ص: 414
التشبيه قد اعتمد أداة (الكاف)، وما سبقه كان تشبيها بالمثل، و ما سبقهما كان تشبيه التفاوت.
وهكذا نجد أن أنماطا ثلاثة من التشبيه قد استخدمها المقطع: حيث وظّف كلّ منها حسب متطلبات الموقف... فالتشبيه المتفاوت ناظر إلى أنّ إعادة الميّت عند قيام الساعة أهون من خلقه ابتداء: حسب التصوّر البشري لمفهوم الإبداع، والتشبيه بالمثل ناظر إلى تجربة يومية يحياها الناس وهي عدم مشاركة العبيد والإماء للأحرار في أموالهم، والتشبيه المألوف (أي التشبيه الذي اعتمد الأداة المعروفة في التشبيه) ناظر إلى عدم إمكان أن يخاف الأحرار من عبيدهم مثل خوفهم من مشاركة الأحرار...
إذن، جاءت التشبيهات المتنوعة موظفة فنيا، لإنارة المواقف المختلفة، وهو أمر يفصح عن إحكام المبنى الهندسي للمقطع الذي تحدّثنا عنه، فضلا عن صلة المقطع بالمبنى الهندسي العام للسورة الكريمة، حيث جاء الحديث عن سمة (الشرك) في سياق الحديث عن قضايا «اليوم الآخر» الذي شكّل محورا فكريا للسورة، مما يفصح بدوره عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا، لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ، ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ ، وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ لاٰ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كٰانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمٰا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَ إِذٰا مَسَّ اَلنّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ، إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ...
هذا المقطع وما بعده من المقاطع التي تنتظم سورة الروم، تتناول ظاهرة
ص: 415
(الشرك)... و بالرغم من أنّ السورة تحوم فكرتها على قضايا (اليوم الآخر)، إلاّ أن النص القرآني الكريم يطرح في تضاعيف هذه الفكرة: قضية (الشرك) بصفتها أبرز معالم السلوك الذي يطبع المنحرفين المشككين باليوم الآخر لذلك نجد أنّ النص يصل بين حين وآخر بين قضيتي الشرك والتشكيك باليو الآخر: على نحو ما لحظنا ذلك في مقاطع سابقة وما نلحظه في المقاطع اللاحقة.
ويهمنا الآن أن نشير إلى أنّ النص القرآني: يطرح جملة من القضايا الأخرى في تضاعيف حديثه عن الشرك أيضا، فيداخل بين الموضوعات بنحو له جماليته الملحوظة في البناء العماري لهذه الموضوعات...
من الموضوعات المطروحة في هذا المقطع، موضوع: طبيعة الإنسان من حيث تركيبته الدافعية، أي: طبيعة الدوافع التي يصدر عنها الإنسان فى تحرّكاته، وهى (توحيد) اللّه تعالى، فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا .
هذه العبارة: تعدّ وثيقة نفسية لها خطورتها في حقل السلوك البشرى، بصفتها تحدّد بوضوح طبيعة التركيبة البشرية التي لا يزال علم النفس الأرضي يخبط فى تحديدها، بينما قد حدّدها النص القرآني بوضوح حينما قرّر بأنّ الإنسان مفطور على التوحيد، مما يعني أنّ كل سلوك منعزل عن السماء إنما يعدّ مؤشّرا لحالة مرضية دون أدنى شك..
من الموضوعات المطروحة أيضا، قضية نفسية أخرى هي. وَ إِذٰا مَسَّ اَلنّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ، إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ . هذه القضية، أو هذه السمة من سلوك الإنسان، (من زاوية فنية) تعدّ واحدة من أبرز سمات السلوك السلبي عند الإنسان... أمّا كونها، إفصاحا عن سلوك سلبي، فلأنها تشير إلى (كفران) الشخص بنعم اللّه تعالى وحومانه على (ذاتيّته) لا يعنيها إلاّ كسب المنفعة فحسب، أن النص يقول: إذا
ص: 416
واجه الإنسان شدة من شدائد الحياة، يتجّه إلى اللّه ليفرّج عنه الشدة، لكن ما أن تنفرج عنه الشدّة حتى يشرك باللّه تعالى أو يعرض عن اللّه تعالى.
هذا النمط من السلوك: يكشف عن كون الشخص فارعا عن أي محتوى إنساني، أنه مجرد مخلوق يبحث عن إشباع حاجته...
أكثر من ذلك، نجده لا يكتفي بأنّه يعرض عن الله تعالى و قد استجاب له في تفريج الشدّة بل يشرك به تعالى، و هذا هو قمة الوقاحة و اللؤم و الكفران بالنعم... لذلك، فقد عقّب النص على هذا الموقف الكافر بنعم الله تعالى، قائلا لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ... يشير إلى الجزاء الذي ينتظر أمثال هؤلاء في (اليوم الآخر)، وبهذا التعقيب يكون المقطع قد ربط بين فكرة السورة الكريمة التي تحوم على قضايا (اليوم الآخر) وبين الموضوع الخاص الذي طرحه في المقطع، محققا بهذا الربط: التلاحم العضوي بين أجزاء السورة الكريمة.
ليس هذا فحسب، بل نجد أن التلاحم العضوي يتجسد في هيكل المقطع الذي نتحدث عنه أيضا، فحينما طرح المقطع قضية تركيبة الإنسان التي تقوم على (فطرة التوحيد)، طرح أيضا قضية الإنسان الذي يتجه إلى اللّه تعالى عند الشدائد، ولكنه يشرك به عند انفراج الشدّة، حيث نلحظ أنّ النص قد أوضح (بنحو فنّي غير مباشر)، أن (المشرك) هو في حقيقته مفطور على (التوحيد) بدليل أنه يتّجه إلى اللّه تعالى عند الشدائد، ولكنه يشرك بالله تعالى عند انفراج الشدائد، وبهذا النحو من الطرح غير المباشر لسلوك المشركين، يكون المقطع قد ربط عضويا بين الموضوعات التي طرحها، مفصحا بهذا الربط العضوي عن مدى إحكام النص: من حيث علاقة أجزائه: بعصها مع الآخرة بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 417
قال تعالى وَ إِذٰا أَذَقْنَا اَلنّٰاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهٰا، وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذٰا هُمْ يَقْنَطُونَ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
هذا المقطع من سورة الروم امتداد لمقطع سابق يتحدّث عن نمط من الناس ممن يتّجهون إلى اللّه تعالى في حالة الشدّة، ولكنهم يشركون باللّه تعالى في حالة تفريجها، هنا يحدّثنا المقطع عن نمط آخر هو: إنهم يفرحون حينما تصيبهم رحمة من اللّه تعالى، ولكنهم يقنطون من الله تعالى حينما تصيبهم شدّ بما قدّمت أيديهما... هذا النمط من المنحرفين يتجانس مع النمط الأول في صدورهما عن نزعة انحرافية واحدة هي. إنّ (النفعية) أو (الذاتية) هي التي تلوّن ردود فعلهم حيال السماء ومبادئها، فإذا كان ثمة ما ينتفعون به ماديا أو وجدانيا: حينئذ فإنّ اتجاههم إلى اللّه تعالى يأخذ فاعليته، وفي حالة العكس يحدث العكس أيضا، فالنمط الأول يتّجه إلى اللّه في حالة الشدّة ويعرض عنه في حالة انفراجها، والنمط الاخر يفرح بالرحمة التي تنزل عليه ويقنط مر الشدّة التي تصيبه، وهذا يعني كما قلنا - أن (النفعية) أو (الذاتية) هي التي تحدد سلوك الطرفين.
والمهم، أن المقطع الذي نتحدث عنه، يقدّم إجابة لأولئك الذين ييأسون من رحمة اللّه تعالى في حالة الشدة الاقتصادية وغيرها، فيخاطبهم.
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ... هذه الحقيقة العبادية أو هذا التقسيم للأرزاق عندما يطرحه المقطع هنا، إنّما يقرّر من خلاله مبدء عاما يشمل جميع الأفراد والمجتمعات، لذلك سرعان ما يتجه إلى المؤمنين ليطالبهم أولا بأنّ يتمثلوا هذه الحقيقة، ويطالبهم - بعد ذلك - بجملة من الممارسات الاقتصادية التي تحدّد كيفية التعامل مع المال... يقول النصر
فَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذٰلِكَ خَيْرٌ، لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّٰهِ
ص: 418
وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ فَلاٰ يَرْبُوا عِنْدَ اَللّٰهِ ، وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ . في هذا النص، مطالبة بالانفاق في سبيل اللّه، وتحذير من الانفاق القائم على الرياء أو الربا، وتحديد لبعض سبل الإنفاق وموارده مثل ذي القربى والفقير وابن السبيل، وقد جاءت هذه المطالبة بالانفاق في سبيل اللّه في سياق الحديث عن إقتار الرزق أو سعته، حيث ربط النص بين هذه الظاهرة الاقتصادية وبين السلوك العام للناس من حيث علاقتهم باللّه تعالى عبر إشارته إلى أنّ بعض المنحرفين يتجه إلى اللّه تعالى في حالة الشدّة، ويشرك به في حالة انفراجها، يفرح بالنعمة ويقنط من رحمة اللّه تعالى في حالة الشدّة.
إن ما يعنينا من هذا كلّه، أن نشير إلى أنّ المقطع القرآني الكريم طرح هذه الموضوعات والأفكار في سياق رسمه لسلوك المنحرفين بعامة، لكن من خلال ربطه ذلك بالفكرة الرئيسة للسورة الكريمة (سورة الروم) حيث أن «فكرتها» تدور حول قضايا اليوم الآخر، لذلك، نجد أن المقطع الذي نتحدث عنه يختم بفقرة تشير إلى اليوم الآخر، وهي قوله تعالى
اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ : هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذٰلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ، سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ . هذه الآية الكريمة تشكل رابطة فنية بين موضوعات السورة، حيث ربطت بين قضية الرزق، التي طرحت في المقطع الذي تحدثنا عنه، وبين قضية الموت والحياة والانبعاث، فضلا عن قضية (الشرك) التي تمثّل أبرز معالم السلوك لدى المنحرفين المشكّكين باليوم الآخر... وبهذا النمط من الربط العضوي بين مختلف الموضوعات، ثم انصبابها في الموضوع العام «قضية اليوم الآخر»، يكون المقطع قد أفصح عن مدى إحكام المبنى الهندسي للسورة للكريمة، من حيث تلاحم موضوعاتها:
بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 419
قال تعالى ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَ مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ .
هذا المقطع وما بعده: يطرح جملة من الموضوعات الجديدة، ليربطها بعد ذلك - بالفكرة العامة للسورة الكريمة ونعني بها فكرة اليوم الآخر، ولنقف أولا عند الموضوعات المطروحة...
الموضوع الجديد هو: صياغة أحد المبادىء الاجتماعية التي تربط بين سلوك الناس وبين انعكاساته على البيئة الطبيعية والاجتماعية، المبد الاجتماعي هو: ظهور الفساد من البر والبحر، والفساد هنا تعبير (رمزي) عن القحط أو النضوب أو مطلق الكوارث الاقتصادية التي تصيب أحد المجتمعات، وهو مجتمع مكة وما يجاورها: حسب بعض النصوص المفسّرة، ويمكن حملها على مطلق المجتمعات التي تمارس الانحراف بحيث يترتب على الانحراف ظهور الكوارث المختلفة، مما يعني أن النص القرآني الكريم قد قرّر مبدأ اجتماعيا هو: أنّ انحراف الناس عن مبادىء السماء يسبّب ظاهرة اجتماعية هي: الكوارث الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك... طبيعيّا، أن مثل هذا المبدأ الاجتماعي يظل غائبا عن تصوّرات علماء الاجتماع الأرضي ممن يحيون منعزلين عن مبادىء اللّه، ومن ثمّ لا يفقهون أمثلة هذه المبادىء أو القوانين الاجتماعية، حيث نجدهم يخبطون في تفسيرهم لهذه الظاهرة أو تلك وينسبونها إلى سبب مادّي لا يملكون حياله أية حلول للمشكلات التي يواجهونها.
ص: 420
والمهم، أنّنا نواجه مبدأ اجتماعيا عاما يقرّره النص القرآني الكريم في سياق حديثه عن سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، وهو سلوك قد ركّز النص على طابعين منهما، هما: طابع التشكيك باليوم الآخر (وهو الفكرة العامة لسورة الروم)، وطابع (الشرك) باللّه، وهذان الطابعان يكرّر النصّ الحديث عنهما في المقطع الذي نتناوله، حيث يقول تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ، كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ ، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ .
فالملاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أنّهما يطرحان مفهومي (اليوم الآخر) و (الشرك)، في سياق جديد من الموضوعات التي وقفنا عندها، ومنها:
موضوع الانحراف وصلته بظهور الفساد في البر والبحر، حيث انتقل النص من حديثه عن الظاهرة الاجتماعية المشار إليها، إلى الحديث عن موضوعي (الشرك) و (اليوم الآخر)، أما موضوع (الشرك) فقد لفت النظر إليه من خلال تذكير هؤلاء المنحرفين بمصائر الأمم الماضية التي كانت (مشركة) باللّه تعالى، وأما موضوع (اليوم الآخر)، فقد لفت النظر إليه، من خلال المطالبة بإقامة الوجه للدين القيم قبل أن تقوم الساعة... ويلاحظ أيضا، أنّ المقطع قد اعتمد صورة (رمزية) هي فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ في مطالبة بالالتزام بمبادىء اللّه تعالى، حيث أنّ (إقامة الوجه) تعدّ تعبيرا حركيا أو حسيا (يرمز) إلى مفهوم (التوجّه) إلى اللّه تعالى.
والمهم - بعد ذلك - أنّ هذا (الرمز) قد استخدمه النص في سياق خاص هو: الربط بين الالتزام بمبادىء اللّه تعالى وبين انعكاسات ذلك على اليوم الآخر، حيث حذّر من قيام الساعة التي لا ينفع خلالها أيّ عمل غير ملتزم، وحيث أكّد حدوث ذلك (أي: قيام الساعة) بلغة مؤكّدة لا مجال للتشكيك فيها، متمثلة بقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ ، فعبارة لاٰ مَرَدَّ لَهُ تعني: مفروضية مجيء ذلك اليوم الذي يشكك به المنحرفون، و بهذا التأكيد لمفروضيّة اليوم الآخر، يكون النص قد ربط بين الفكرة العامة للسورة وبين المقطع الذي تحدثنا عنه، مما يفصح ذلك عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
ص: 421
والمهم - بعد ذلك - أنّ هذا (الرمز) قد استخدمه النص في سياق خاص هو: الربط بين الالتزام بمبادىء اللّه تعالى وبين انعكاسات ذلك على اليوم الآخر، حيث حذّر من قيام الساعة التي لا ينفع خلالها أيّ عمل غير ملتزم، وحيث أكّد حدوث ذلك (أي: قيام الساعة) بلغة مؤكّدة لا مجال للتشكيك فيها، متمثلة بقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ ، فعبارة لاٰ مَرَدَّ لَهُ تعني: مفروضية مجيء ذلك اليوم الذي يشكك به المنحرفون، و بهذا التأكيد لمفروضيّة اليوم الآخر، يكون النص قد ربط بين الفكرة العامة للسورة وبين المقطع الذي تحدثنا عنه، مما يفصح ذلك عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى وَ مِنْ آيٰاتِهِ : أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيٰاحَ مُبَشِّرٰاتٍ ، وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ، وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىٰ قَوْمِهِمْ ، فَجٰاؤُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ ، فَانْتَقَمْنٰا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَ كٰانَ حَقًّا عَلَيْنٰا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَللّٰهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ ، فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمٰاءِ .
كَيْفَ يَشٰاءُ ، وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ ، فَإِذٰا أَصٰابَ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلىٰ آثٰارِ رَحْمَتِ اَللّٰهِ ، كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، إِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ، وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .
هذا المقطع من سورة الروم يطرح موضوعا خاصا هو: الرياح وأثرها في نزول المطر ومن ثمّ إحياء الأرض بسبب ذلك.. لقد سبق للسورة الكريمة أن عرضت لجملة من مظاهر الإبداع الكوني (ومنها. المطر)، إلاّ أن ذلك جاء في سياق المطالبة بأن يعتبر الإنسان بقدرة اللّه تعالى... أما المقطع الذي نتحدّث عنه الآن، فقد جاء في سياق جديد هو: أن يشكر الإنسان اللّه تعالى على المعطيات التي أغدقها تعالى عليه، كما أنّه خصص ذلك في معطى محدّد هو:
الرياح وما يواكبها من وظائف... ومن الواضح، أن النص القرآني الكريم عندما يخصّ موضوعا بحديث خاص، ويفصّل الحديث عنه، فهذا يعني (من الزاوية الفنيّة) أنّ لهذا الموضوع أهميته التي يستهدف إبرازها، والمهم - بعد ذلك - أنّ النص يربط هندسيا بين ظاهرة الرياح وإحياء المطر للأرض، وبين
ص: 422
الفكرة العامة للسورة الكريمة، و نعني بها: الاستدلال على انبعاث الإنسان في اليوم الآخر، كذلك نجده يختم المقطع بقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلىٰ آثٰارِ رَحْمَتِ اَللّٰهِ : كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، إِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ، وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ... وبهذا الربط المحكم هندسيا نتبيّن مدى متانة النص من حيث جمالية العمارة التي يقوم عليها...
والآن، لنتبيّن كيفية الصياغة الفنية لهذا الموضوع، ومن ثمّ كيفية وصله بعمارة السورة الكريمة.
لقد طرح المقطع قضية «الرياح» في مستوييها: الجمالي والنفعي، أما المستوى الجمالي، فيتمثل في عملية الوصف الفني للرياح وعلاقة الأمطار بها من حيث المرأى الطبيعي للظاهرة... لنقرأ من جديد هذا الوصف الممتع للسحاب المرتسم في الجوّ: اَللّٰهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ ، فَتُثِيرُ سَحٰاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمٰاءِ كَيْفَ يَشٰاءُ ، وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ ... ... المرأى الطبيعي، يتمثل في إرسال الرياح، حيث تتسبب في إثارة «السحاب»، وحيث ينبسط في الجوّ عبر صور مختلفة، ثم يتشكّل في قطع خاصة، ثم يخرج المطر من خلاله. إنّ القارىء أو المستمع مدعوّ لأن يستحضر في ذهنه تفصيلات هذا الوصف أو الرسم القصصي لمرأى السحاب، بخاصة أنّ النص قد استخدم اللغة الصورية (أي الصور المتمثلة في الاستعارات والرموز) بدلا من اللغة المباشرة. بالرغم من أنّه في صدد الرصد العلمي لإحدى الظواهر الكونية... لقد خلع أولا على الرياح صفة إنسانية هي كونها مبشرة بالرحمة وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيٰاحَ مُبَشِّرٰاتٍ . هذه الاستعارة (أي إعارة ما هو مادي صفة بشرية)، قد أردفها بصور استعارية أخرى مثل يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ ، فَتُثِيرُ سَحٰاباً... إن إثارة السحاب تظل بدورها صفة إنسانية: من حيث كون الرياح خلعت طابع (الاستثارة) - وهي طابع نفسي -
ص: 423
على استجابة السحاب حيال الرياح المبشّرة... علما بأنّ الصلة بين (المحرّك) - و هي بشارة الرياح - و بين (رد الفعل أو الاستجابة) - و هي إثارة السحاب - تظل (من حيث العمليات النفسية) من التجانس بمكان ملحوظ نظرا لأنّ (البشرى) بالشيء - وهي ظاهرة نفسية مثيرة، لكونها تنقل نبأ سعيد وليس نبأ عاديا - لا بدّ أن تولّد ردّ فعل يتناسب مع طبيعة البشرى وهو الانفعال الحاد حيال البشرى، وهذا ما تحقق فعلا في عبارة (فَتُثِيرُ سَحٰاباً) حيث أنّ «الاستثارة» هي استجابة (ذات طابع انفعالي) يتناسب مع طبيعة النبأ غير العادى (أي: بشارة الرياح)...
إذن، أمكننا ملاحظة التجانس بين الصور الفنية للمقطع، فضلا عن تجانس المقطع ذاته: من حيث اختتامه بالإشارة إلى أن محيي الأرض من خلال المطر، قادر على إحياء الموتى عند قيام الساعة، مع فكرة السور الكريمة التي تحوم على قضية اليوم الاخر، وبهذا النمط من الربط بين المقطع وبين الفكرة العامة للسورة، نتبيّن مدى الإحكام الهندسي للنص من حيث علاقة أجزائه بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى فَإِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ ، إِنْ تُسْمِعُ إِلاّٰ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ... .
بهذا المقطع وما بعده تختم سورة الروم التي تحوم فكرتها على قضايا (اليوم الآخر)، حيث تجيء الآيات الآتية وما بعدها خاتمة تتحدث عن أحد مظاهر اليوم الآخر: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ ، كَذٰلِكَ كٰانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمٰانَ ، لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهٰذٰا يَوْمُ اَلْبَعْثِ ، وَ لٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ . هذا يعني (من
ص: 424
حيث البناء الهندسي للسورة) إنّ السورة الكريمة جاءت مترابطة عضويا من حيث فكرتها العامة... لكن: ينبغي أن نقف عند الخصائص الفنية التي طبعت هذا القسم الأخير من النص... ويلاحظ أنّ النص جاء مشحونا بعنصر صوري وإيقاعي ملحوظ، أما العنصر الصوري فيتمثل في مجموعة من (الرموز) الفنية التي تتحدث عن سمات الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لقد (رمز) إليهم النص بكونهم (موتى)، فَإِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ ، وبكونهم (صمّا) وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ ، وبكونهم (عميا) وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ . هذه الرموز أو الاستعارات قد انتخبت بنحو يستقطب جميع سمات «الانغلاق» الفكري لدى الكافر، حيث وصفه ب (الميّت) و (الأصمّ ) و (الأعمى)، أما (الأعمى) فلكونه لا يبصر حقائق اللّه واليوم الاخر، ولا يبصر النهايات الكسيحة التي انتهى الماضون إليها، وأمّا (الأصمّ ) فلكونه لا يسمع الدعوات الخيرة التي تستحثّه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر... و أمّا (الميّت) فهو يحمل سمة انعدام الوعي تماما أو فقدان الحسّ الإنساني، والفارق بين الميّت وبين الأعمى والأصمّ أنّ الأخيرين يتحسّسان الحقائق، إلاّ أنّ ثمة حاجز أو عاهة تمنعهما من التشخيص، بعكس الميّت الذي يفقد الإحساس أساسا، لذلك عندما يجمع النص بين رسمه لفقدان الإحساس عند الكافر وبين رسمه لفقدان سمات معيّنة كالسمع والبصر، يكون بذلك قد دمغ الكافر بسمات الانغلاق الفكرى من جميع الجوانب...
وهذا فيما يتصل بالعنصر الصوري.
أمّا ما يتصل بالعنصر الايقاعي، فيلاحظ أنّ قوله تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ قد اعتمد (التجنيس) الكامل بين عبارتي (الساعة) و (ساعة)، وهو تجنيس لا تنحصر جماليته في توافق أصوات العبارتين فحسب، بل يتجاوزه إلى عنصر (التضاد) الفني بين دلالة العبارتين،
ص: 425
فالعبارة الأولى و هي وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ تتضمن دلالة الأهوال الضخمة التي ترافق قيام اليوم الآخر، بينما تتضمن العبارة الثانية (مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ ) دلالة تضادّ الأولى وهي تهوين اللبث بحيث خيّل إلى المجرمين بأنهم ما لبثوا غير ساعة.
إلاّ أنّ الأهم من ذلك كلّه؛ أنّ هناك تجانسا آخر بين قيام الساعة وإحساس المجرمين بعدم لبثهم غير ساعة وبين فكرة السورة التي تقوم على قضايا اليوم الآخر، فالملاحظ (من حيث وظائف البناء العماري للنصوص الفنية) أن النص الفنيّ لا تنحصر فخامته وإحكام بنائه. في ترابط موضوعاته المختلفة فحسب، بل يتمثّل إحكام البناء في تجانس عناصره الفنية: كالإيقاع والصورة مع فكرة النص، وهذا ما لحظناه في المقطع الذي تحدّثنا عنه، حيث تجانس عنصر الإيقاع (وهو التجنيس بين اَلسّٰاعَةُ - وهي اليوم الآخر) وبين مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ وهي الإحساس المخطىء في تقدير الزمن، فيما يكشف مثل هذا التجانس بين عنصر الإيقاع وبين فكرة النص التي تحوم على قضايا اليوم الآخر عن مدى إحكام البناء الفنّي للنص: من حيث صلة أجزائه بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 426
ص: 427
ص: 428
قال تعالى الم * تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا وَلّٰى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ .
الفكرة الرئيسة التي تحوم عليها سورة لقمان هي: مفهوم (الحكمة) وهي ذات دلالات متنوعة، وأفكارا ثانوية تتواكب مع مفهوم الحكمة بطبيعة الحال...
ويلاحظ مضافا لما تقدّم أن عمارة السورة تعتمد شخصية محدّدة تتكفّل بإنارة مفهوم الحكمة وهي شخصية لقمان حيث استثمر النصّ هذه الشخصية لتجسيد مفهوم الحكمة.
والآن، حين نبدأ مع مقدّمة السّورة نجد أنّها أشارت إلى سمات الشخصيّة الإسلامية التي تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتؤمن بالآخرة...
هذه المفردات الثلاث من السلوك تشكّل سمة عامة للإسلاميين، إلاّ أنّ التأكيد عليها دون سواها من السمات يعني أنّ النص يستهدف إبراز هذه السمة لأكثر من سبب فنّي، منها: أنّ هذه المفردات من السلوك تجسّد علاقات متنوعة، بعضها يتصل بالتعامل مع اللّه مباشرة وهي: الصلاة، والثانية تجسّد التعامل مع الآخرين وهي: الزكاة، والثالثة تجسّد العلاقة بالحياة الأبدية التي يتطلب الإيمان بها تنازلا عن الذات أيضا بصفة أنّ الإيمان بالغيب يستتبع تأجيل الإنسان لشهواته، كما أنّ كلا من الصلاة والزكاة يحومان على نفس التأجيل...
ص: 429
بعد هذا التمهيد لسمات الشخصية الإسلامية العامة، يتقدّم النص إلى الفكرة الرئيسة و هي (الحكمة) كما قلنا، و ينتخب أحد مفرداتها المضادة و هي (لهو الحديث)، موضحا بأنّ من الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه، وقد أوضحت النصوص المفسّرة بأنّ المقصود من اللهو هو العبث والسخرية اللفظية ومنه أيضا الغناء، وحتى بعيدا عن النصوص المفسّرة فإنّ مفهوم (اللهو) نفسه يفصح عن كونه ممارسة مضادة للجدية أو الحكمة التي ينبغي أن يصدر الآدميون عنها في غمرة وظيفتهم العبادية التي خلقوا من أجلها.
وقد قدّم النص عيّنة سلوكية مقابلة لممارسة الّلهو وهي عدم استعداد اللاهي لتقتل الجديّة أو الحكمة متمثلة في كون الّلاهي إذا تليت عليه آيات اللّه ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأنّ في اذنيه وقرا...
إن هذه الصورة الفنية كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً تجسّد لنا بوضوح طبيعة الاستجابة الشاذة التي يصدر اللاهي عنها عندما يواجه المثيرات المضادة لعمل اللهو، فهو يتثاقل عن الاستماع لآيات اللّه (الحكمة) حتى لكأن في أذنيه ثقلا يحتجزه عن الاستماع...
هذه الصورة الفنية تفصح عن حقيقة الشخصية اللاهية، وهي شخصية لا ينحصر شذوذها في كونها تميل إلى اللعب واللهو فحسب بل إن هذا اللهو يحتجزها بالضرورة عن تمثّل الظواهر الجدّية، بمعنى أنها لا تخبر الحياة الجدية مطلقا، لا أنّها تمزج بين ما هو جدّي وما هو لهوي مثلا...
وأيّا كان فإنّ طرح هذه المفردة من السلوك (اللهو - وعدم الاستعداد للاستماع للحكمة) يظل من الخطورة بمكان إذا أخذنا بنظر الاعتبار انعكاسات ذلك على مجمل سلوك الشخصية...
ص: 430
و قد اتجه المقطع بعد تقرير الحقيقة المذكورة عن اللهو، إلى لفت الانتباه على بعض الظواهر الإبداعية للكون خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا، وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دٰابَّةٍ ، وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ... .
هذه الظواهر الإبداعية قد تبدو مجرّد تذكير بحقائق ظاهرة للعيان، إلاّ أنّ التفكير بها يجرّ الشخصية إلى حقل (الحكمة) دون أدنى شك، بمعنى أنّ التفكّر بخلق السماوات بغير عمد أو الجبال حتى لا تميد الأرض بالناس، أمثلة هذا التفكير عندما يقرنها النص بدلالات إضافية مثل كون السموات بغير عمد، وإلاّ كان من الممكن أن يذكر النص خلق السماوات كما هو شأن ذلك في نصوص أخرى لم يرد فيها قيد الأعمدة غير المرئيّة، أو بخلق الجبال دون أن يقيّدها بالخوف من أن تميد الأرض... أمثلة هذا القيد تجرّ الشخصية وتحملها بالضرورة على ممارسة نمط من التفكير الجدّي أو الحكيم أو العميق، وهو أمر يتجانس فنيا مع هدف السورة الذي يشدّد على قضية (الحكمة) كما قلنا، كما أنّه ينعكس على المقطع اللاحق من السورة، وهو المقطع الذي يتحدث عن (لقمان) من خلال إكسابه سمة خاصة هي (الحكمة) دون غيرها من السمات، على نحو ما سنلحظ.
قال تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا لُقْمٰانَ اَلْحِكْمَةَ ، أَنِ اُشْكُرْ لِلّٰهِ ، وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ... .
هذا القسم من سورة لقمان يتحدّث عن شخصية لقمان من حيث كونها تحمل سمة خاصة هي اَلْحِكْمَةَ ، ومعنى هذا - من حيث عمارة النص - إنّ هذه الشخصية موظّفة فنّيا لصياغة مفهوم اَلْحِكْمَةَ حيث قلنا إنّ فكرة السورة
ص: 431
تقوم على هذا المفهوم... و قد سبق أن لحظنا أنّ مقدّمة السورة طرحت جانبا من مفهوم الحكمة، كما طرحت ما يضادها متمثلا في عملية (اللهو) التي تعدّ مضادة لمفهوم الحكمة...
وها هو النص يقدّم لنا الان عنصرا قصصيّا، أو إذا سمح لنا باستعارة اللغة الأدبية: يقدّم لنا (سيرة) من شخصية لقمان، حائمة على مفهوم اَلْحِكْمَةَ ... فما هي مفردات السلوك التي طرحتها شخصية لقمان بالنسبة لمفهوم الحكمة ؟ إنّ أول مفردة في هذا الصدد هي قضية (الشكر) لله تعالى، حيث أوض النص بأنّ النّه تعالى منح لقمان الحكمة وَ لَقَدْ آتَيْنٰا لُقْمٰانَ اَلْحِكْمَةَ وبيّن بأنّ لقمان مطالب بأن يشكر اللّه أَنِ اُشْكُرْ لِلّٰهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومعني هذا أن من يشكر الله فإنما يجر منفعة لنفسه و هذا ما يتوافق مع طبيعة التركيبة الآدمية القائمة علي إشباع حاجاتها أساسا: كل ما في الأمر الحاجات قد تكون موضوعية مقرونة بمبادىء الله تعالي، و قد تكون ذاتية منسلخة عن مبادىء الله، و إذا قدر للنفس أن تشبع حاجاتها ذاتيا فإن الحرمان سوف يلحقها أخرويا بعكس الشخصية التي تشبع حاجاتها الموضوعية حيث تعوض عن الذات بالإشباع الآخروي، و هو أمر يجسد الحكمة في أر دلالاتها كما هو واضح، و لذلك ورد في النصوص المترجمة لحياة لقمان قال: و من يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من أن يكون في الد شريفا وفي الآخرة ذليلا.
و أيا كان، فإن قضية (الشكر) لله تعالي هي واحدة من مفردات السلو المتصل بالحكمة، حيث قرنها النص مع رسمه لحكمة لقمان - كما لحظنا..
و إذا تابعنا سيرة لقمان التي رسمها النص نجد، أن النص ترك لقمان يتحدث مع ابنه في تقرير ظواهر أخرى تتصل بالحكمة، وفي مقدمتها: عدم
ص: 432
الشرك بالله تعالي: وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ ...
إلخ والسؤال، ما هو المسوّغ الفنّي لأن ينتقل النص من رسمه لشخصية لقمان من خلال (السرد) إلى رسمها من خلال (الحوار) بينها وبينها ابنها؟ لا شك أن الحوار المباشر بين شخصية وبين ابنها إنما ينطوي على حيوية وتجسيد عمليّ للسلوك يظل أشدّ إثارة للنفس من مجرّد التنظير...
مضافا لذلك فإن النص قطع هذا القسم من السيرة الذاتية ليتحدّث عن الإنسان وعلاقته بوالديه وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ .. . إلخ وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا، وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي اَلدُّنْيٰا مَعْرُوفاً . فالعلاقة بين الإنسان ووالديه يتجانس الحديث عنها مع حديث الأب مع ابنه، فكأن النص أراد بصورة فنيّة غير مباشرة أن يوضح أهمية الوالدين من خلال وعظ الأب لابنه حيث يكشف الوعظ عن العاطفة الأبوية نحو الابن فيما يستحق الأب من خلالها هذه التوصية من اللّه تعالى بتقدير الأبوين.
إذا، التجانس الفني بين الحوار المذكور وبين مفردة خاصة من السلوك المتصل بتقدير الأبوين، يظل من الوضوح بمكان كبير، وهو واحد من أسرار الفن القرآني المتصل بعمارة السورة...
وهذا من حيث البناء الهندسي...
أما من حيث الدلالة، فإنّ النص عندما يقطع حوار لقمان مع ابنه، ويطرح قضية الإنسان وضرورة إطاعة والديه، إنما يؤكّد أهمية هذه الإطاعة حيث قرنها مع المطالبة بعدم الشرك كما لحظنا... وهذا المنحى من الصياغة له أهمية الفنيّة أيضا من حيث الطرائق الفنية التي وصل النصّ فيها بين عدم الشرك، ثم الشكر للّه تعالى، وبين إطاعة الوالدين حيث طالب الشخصية بأن تطيع الأبوين إلاّ في حالة الشرك، لكن مع ذلك، ينبغي أن يصاحبهما في الدنيا
ص: 433
معروفا بالرغم من ضرورة عدم إطاعتهما في الشرك،... و هذا يعني مدى الخطورة التي خلعها النص على قضية الإنسان في علاقته مع الأبوين.
والآن، بعد أن قطع النصّ سلسلة القصة الذاتية للقمان، قطعها بالحديث عن الأبوين لأهمية ذلك، عاد فواصل الحديث عن لقمان ومحاورته مع ابنه.
قال تعالى يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّٰهُ ، إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يٰا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ وَ لاٰ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّٰاسِ وَ لاٰ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ... إلخ.
هذا المقطع من سورة لقمان امتداد لمقطع سابق يتحدث فيه لقمان مع ابنه و يعظه في جملة من مفردات السلوك ا لعبادي المقترن بمفهوم الحكمة حيث أوضحنا في حينه: الأهمية الفنية لقصة لقمان وتوظيفها في إنارة مفهوم الحكمة...
وهنا، طرح لقمان جملة من مفردات السلوك، منها: أن الأعمال مهما صغرت أو كبرت فإن انعكاساتها علي مصير الشخصية يتبلور بوضوح، وهذ يعني أهمية السلوك وترتيب الآثار عليه بحيث يجر الشخصية إلي أن تفكر جديا في سلوكها لا أن تهمل ذلك، و هذا هو التجسيد الأرفع لمفهوم اَلْحِكْمَةَ التي تحوم عليها سورة لقمان...
بعد هذا الطرح العام لقضيّة السلوك البشري، يتقدّم لقمان بطرح مفردات معيّنة من السلوك، منها: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر، وعدم التّكبّر، وعدم رفع الصّوت... هذه المفردات حينما يختارها النصّ دون غيرها إنّما تعني أوّلا خطورة ممارستها، كما تعني أنّها منطوية على
ص: 434
دلالات مرتبطة بمفهوم الحكمة، فالصلاة مثلا تظلّ بصفتها التّجسيد المباشر لعلاقة الفرد مع اللّه تعالى - في مقدّمة التّوصيات المطالب بها، كما أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يفصح عن تبليغ مبادىء اللّه إلى الآخرين حيث ينبغي ألاّ تنحصر العلاقة بين الفرد واللّه في نطاقها الشّخصي بل لا بدّ من توصيل هذه الحقيقة إلى الآخرين أيضا.. وأمّا ظاهرة (الصّبر) حيث عقّب النصّ عليها بأنّ ذلك من (عزم الأمور) فتعني أهمية خاصّة في ميدان السّلوك المقترن بالحكمة، فالإنسان بصفته يبحث عن إشباع حاجاته لا بدّ أن يواجه الإحباط في الإشباع المذكور، وحينئذ لا يمكن تحقيق التّوازن الداخليّ للشخصيّة إلاّ من خلال عمليّة (الصبر) أو تأجيل الشّهوات حيال الإحباط الذي يواجهه، لذلك قرّر النص بأن الصّبر على ما يصيب الإنسان من شدّة إنّما هو من (عَزْمِ اَلْأُمُورِ) نظرا لتطلبه إعمال الإرادة بأرفع مستوياتها.
وأمّا ظاهرة عدم التكبّر، فقد رسمها النّصّ من خلال سمات حركيّة خاصّة شدّد عليها حيث طالب لقمان ابنه بأن لا يصعّر خدّه للنّاس، وألاّ يمشي في الأرض مرحا، فالشخصية حين تصعّر خدّها للناس إنّما تفصح بهذا المظهر الحركي عن مدى التكبّر والأنفة والتعالي على الآخرين وهي أشدّ أنماط السّلوك شذوذا، وأهمية هذه الصورة الفنية لاٰ تُصَعِّرْ خَدَّكَ تتمثّل في كونها تجسيدا عن الانسلاخ من الناس لدرجة أن يعرض الشخص بوجهه عنهم: وهو إعراض يجسّد قمّة الوساخة في أعماق الشّخص...
وأمّا صورة لاٰ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مرحا، فإنّها صورة فنيّة أخرى عن التّكبّر لكن في حركة خاصّة من السلوك، فالمشي مرحا يعبّر عن الإحساس المرضيّ الضخم بعلوّ (الذّات) ومحاولتها لفت نظر الاخرين إليها، فإذا كان إعراض الوجه عن النّاس: انسلاخا منهم، فإنّ المرح في المشي: دعوة إلى الناس، أي على عكس الحالة السابقة، إلاّ أنّ السمتين المتضادتين المذكورتين
ص: 435
تعبّران عن مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة هي التكبّر... و يلاحظ أنّ (لقمان) طالب ابنه أيضا بأن يقصد في المشي وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وهو غير «المشي مرحا»، بل يعني: المشي بوقار، أي أن المشى بوقار ممارسة خاصّة من السلوك تتصل بصياغة الذات صياغة موضوعية تفرضها (الحكمة) وهي التدريب على ضبط الانفعالات التي يحياها الشخص...
أخيرا، طرح المقطع أو لقمان ظاهرة (الغض من الصوت) وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ... فغضّ الصوت يعبّر بدوره عن سمة خاصة من السلوك تختلف عن السّمات السابقة... إنها دعوة لتدريب الذات على ضبط انفعالاتها أيضا: لكن من خلال الحركة الصوتية، فرفع الصوت يفصح عن أنّ صاحبه منفعل داخليّا غير منضبط، غير متّزن، غير هادىء... وكلّها سمات تضاد مفهوم (الحكمة) التي حامت عليها سورة لقمان كما لحظنا. وبهذه المفردات التي صاغها لقمان لابنه، أمكننا ملاحظة الفكرة التي انطوت عليها سورة لقمان، كما أنّ الأجزاء اللاحقة من السورة سوف تشدّد على هذا الجانب الفكري، حيث ينتهي العنصر القصصي بهذا المقطع، ليتجه النص بعد ذلك إلى طرح مفهومات جديدة.
المفهومات الجديدة التي يطرحها النص، تتجسّد في مبادئ متنوعة تتواكب مع مفهوم (الحكمة) و سائر ما طرحته مقدمة السورة و شخصية لقمان،... منها:
الإشارة إلى نعم الله تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً ،... منها الفلك التي تجري في البحر بنعمة الله تعالى... ومنها: إبداعه تعالى للّيل والنهار و الشمس والقمر... و منها: لا محدودية معطياته تعالى وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ ... هذه الظواهر جميعا لها صلتها بمقدّمة النصّ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ... كما أنّ الإشارة إلى أنّ وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ تجسيد حي لمن
ص: 436
يعي (الحكمة) و يثمّن معطيات الله تعالى.
و بالمقابل، ثمّة إشارات ترتبط بمفهومات الانحراف من كفر وَ مَنْ كَفَرَ فَلاٰ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ... و من جحد بآيات الله تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ وَ إِذٰا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللّٰهَ ... وَ مٰا يَجْحَدُ بِآيٰاتِنٰا إِلاّٰ كُلُّ خَتّٰارٍ كَفُورٍ ... لا نغفل صلة هذا بالقسم الأوّل من النصّ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا وَلّٰى مُسْتَكْبِراً ... كما لا نغفل الإشارة إلى الوالد و الولد وَ اِخْشَوْا يَوْماً لاٰ يَجْزِي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاٰ مَوْلُودٌ هُوَ جٰازٍ عَنْ وٰالِدِهِ ... حيت يقابل النص بين السلوك الدنيوي الذي طرحه ا لقسم الخاص بشخصية لقمان من حيث الإشارة إلي عمق العلاقة بين الوالد و ولده ه، و بين السلوك الآخروي الذي يردم العلاقة المذكورة في غمرة أهوال اليوم الآخر...
أ خيرا: لا نغفل الإشارة إلي العنصر الصوري في هذا ا لقسم من ا لسورة، متمثلا في (الصورة الفرضية) القائلة: [وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ ...
إلخ] حيث عالجنا أهمية هذه الصورة الفنية في مكان آخر، و نكتفي هنا بالإشارة إلي الصلة العضوية بينها و بين مفهوم (الحكمة) التي تشكل محور النص بصفة أن (كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ ) لا حدود لها، و أنّ استحضارها في الذهن و تمثلها يجسّد أعلى درجات (الحكمة) كما هو واضح.
ص: 437
ص: 438
ص: 439
ص: 440
قال تعالى بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * الم * تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ ، بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ، ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كٰانَ مِقْدٰارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ ....
بهذا المقطع تفتتح سورة «السجدة»، حيث تتناول نزول القرآن، وخلق السماوات والأرض، وتسيير الأمور الكونية بواسطة ملائكة السماء... أمّا نزول القرآن فلأجل إيصال مبادىء السماء إلى البشر، أمّا خلق السماوات والأرض، فقد قرنه المقطع بأنه لا ولي ولا شفيع دون خالقهما... وأما تسيير الأمور الكونية، فهو ظاهرة علمية يستهدف المقطع توضيحها من خلال إدارتها من قبل موظفين لله تعالى هم: الملائكة...
هذه الدلالات التي طرحها المقطع القرآني الكريم، قد اقترنت بجملة من السمات الفنيّة التي ينبغي أن نقف عندها، لملاحظتها وملاحظة الموقع الهندسي لهذا المقطع من عمارة السورة الكريمة التي سينعكس على بنائها ما تضمّن المقطع من الموضوعات المشار إليها.
أما السمات الفنية، فتتمثّل في جملة من الظواهر، منها ظاهرة (العدد) حيث أشار النص إلى أن خلق السماوات والأرض قد استغرق «ستة» أيّام، وحيث أشار إلى نزول الأوامر إلى الأرض بواسطة الملائكة: خلال مدة تساوي «ألف» سنة في حساب المعايير الدنيوية.
ص: 441
لا أحد يستطيع - بطبيعة الحال - أن يستكنه «السرّ» الكامن وراء تحديد خلق السماوات و الأرض في ستة أيام: مع أنه تعالى بمقدوره أن يخلقها في لحظة زمنية لا تخضع للحساب مثلا، كما لا يستطيع أحد أن يستكنه السّر الكامن وراء تحديد نزول الملائكة وصعودها بالألف سنة من حساباتنا... بيد أنّ «التجربة البشرية» التي شاء لها اللّه تعالى أن تخضع للنظام والحساب، تفسّر لنا جانبا من الأسرار الكامنة وراء التحديد المذكور: مع ملاحظة أنّ النص يستهدف لفت أنظارنا إلى قدرات اللّه تعالى، وضرورة الركون إليه تعالى فى الأمور كلّها، حيث لا وليّ ولا شفيع من دونه، وهذا (أي: لا شفيع ولا ولي من دونه تعالى) هو: الهدف الرئيس الذي أكّده المقطع، حينما ختم به حديثه عن خلق السماوات والأرض: بخاصة أنّه تعالى ذكر في سياق خلقه السماوات والأرض، عبارة رمزية هي ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ حيث (ترمز) هذ الصورة التي يسميها البلاغيون «كناية» أو «استعارة» - ونسمّيها (رمزا)، ترمز إلى هيمنته على الكون، حيث يتجانس مفهوم (الهيمنة أو السيطرة) مع مقولة أنّه مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ ، مادام الكون تحت قبضته تعالى...
بعد ذلك، يتحدّث النص عن مطلق الخلق وخلق الإنسان بخاصة، حيث
يقول تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ ، وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسٰانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوّٰاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ .
واضح، أن النص عندما أردف خلق السماوات والأرض، بخلق الإنسان، إنما سمح لذهن القارىء بأن يتداعى إلى المهمة العبادية لخلق الإنسان الذي جعل له اللّه تعالى: السمع والبصر والفؤاد، حيث أنّ هذه القوى، ينبغي أن توظّف من أجل اللّه تعالى... يدلّنا على هذا، أنّ النص قال بأنّه تعالى: (نفخ في الإنسان من روحه)، حيث ينبغي أن تستثمر هذه الطاقة
ص: 442
من أجل الهدف العباديّ ، وحيث جعل السمع والبصر والفؤاد وسائل لإدراك الهدف المشار إليه...
بيد أن النص أشار إلى أنّ الإنسان (قليلا ما يشكر اللّه تعالى)، حيث نجد من البشر من يقول: أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ ، أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... ...
هذه المقولة، تشكّل القسم الثاني من السورة التي أشارت مقدّمتها إلى قدرات اللّه تعالى كما لحظنا، وإلى الهدف العبادي من وراء الخلق للوجود والإنسان، وهو أمر نتحدّث عنه فيما بعد، لكن ما يعنينا الآن هو: الصلة الفنية بين مقدمة السورة وبين هذا القسم الجديد منها، أي: ظاهرة التشكيك باليوم الآخر متمثّلة في قول المنحرفين أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ ، أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، حيث يتّضح الصلة بينهما، حينما نلحظ أنّ مقدّمة السورة: أشارت إلى أنّ هناك من يزعم بأنّ محمدا (ص) قد افترى هذا القرآن (أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ :
بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) ، حيث قدّم النص (في المقطع الثاني) تجسيدا عمليا لسلوك هؤلاء المنحرفين المشككين بالقرآن، وعبارته: وفي مقدمتها التشكيك باليوم الآخر، حيث يستهدف النصّ توصيل هذه الحقيقة... وبهذا النمط من الربط بين أجزاء النص، نتبيّن مدى الإحكام العضوي لبنائه: من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى وَ قٰالُوا: أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، بَلْ هُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ كٰافِرُونَ قُلْ : يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نٰاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ : رَبَّنٰا أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا، فَارْجِعْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً إِنّٰا مُوقِنُونَ وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا، وَ لٰكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْخُلْدِ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
ص: 443
هذا هو القسم الثاني من سورة السجدة، حيث كان القسم الأول منها، يشكّل «مقدمة» تضمّنت جملة من الموضوعات، منها: تشكيكهم و هم المنحرفون، برسالة الإسلام، وعدم شكرهم لنعم الله تعالى.
و جاء المقطع الجديد الذي نتحدّث عنه، لينقل لنا جانبا من سلوك المنحرفين المشككين (هنا في المقطع الذي نتحدّث عنه بحقيقة اليوم الآخر حيث يجسّد هذا السلوك صدى لتشكيكهم أساسا برسالة محمد (ص)... لقد تساءلوا بجهالة: «أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ... وهنا أجابهم النّص قُلْ : يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ .
نحن الآن أمام «محاورة» فنية، بين طرفين: المنحرفين حيث قالوا: أ إذا ضللنا... إلخ، ومحمد (ص) حيث أوحى الله تعالى إليه أن يقول لهم: لقد وكّل بكم ملك الموت ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ...
ومن الواضح، أنّ النصّ أجرى هذا الكلام على ألسنتهم، حتى يقتنع القارىء، أو حتى يدينهم من أفواههم، كذلك، عندما أجرى النصّ الجواب على لسان محمّد (ص)، لتكون الحجّة عليهم واضحة، حيث تلقّوا جوابا على تساؤلهم، وحيث لا عذر لهم في جهالتهم حينئذ... بعد ذلك، يتقدّم النص لينقل لنا جانبا من مواقف اليوم الآخر الذي أنكره هؤلاء المنحرفون، فيرسم لنا ملامح خارجية وداخلية لشخصيات المنحرفين، تعكس لنا العلاقة العضوية بين تشكيكهم باليوم الآخر، و بين ردود فعلهم المترتبة على التشكيك المذكور حيث يفصح مثل هذا الانعكاس عن إحكام البناء الهندسي للنص.
و الآن: ما هي الانعكاسات المذكورة ؟.
يقول المقطع: (وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نٰاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ : رَبَّنٰا أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا، فَارْجِعْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً، إِنّٰا مُوقِنُونَ ) ... لنلحظ أولا، كيف أنّ
ص: 444
النص اعتمد عنصر «المحاورة» أيضا هنا، ليتجانس مع محاورتهم الدنيوية، ثم، لنلحظ كيف قد أقرّ المنحرفون بحقيقة اليوم الآخر، حيث قالوا (إِنّٰا مُوقِنُونَ ) ، أنّ قولهم في اليوم الاخر (إِنّٰا مُوقِنُونَ ) يتقابل فنيا مع (تشكيكهم) في الدنيا، فاليقين هنا (في اليوم الآخر) جاء (مقابلا) للشك في الحياة الدنيا، كما أن مخاطبتهم لله تعالى «رَبَّنٰا: أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا» جاء إقرارا بأنهم لم يكونوا عديمي الوعي بحقيقة رسالة الإسلام، بدليل أنهم قالوا (أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا) وهذا مما ينفي أي عذر يمكن أن يقدّمه المنحرفون: عند الحساب... ويلاحظ، أنّ النص رسم ملمحا خارجيا لهؤلاء الشخوص. وهو: نكس الرؤوس منهم:
عندما يخاطبون اللّه تعالى بالكلام المذكور... وهذه الصورة (نكس الرؤوس) تشكل ما يمكن تسميته ب «الرموز» أو «الكناية»، والنكس هو: قلب الشيء على رأسه، أي جعل أعلاه أسفله، وهذا ما (يرمز) إلى ردّ الفعل الذى يتناسب مع موقفهم، فبما أن «الحقائق» التي أقرّوا بها في اليوم الآخر جاءت (متقابلة) مع نكرانهم لها في الدنيا، حينئذ فلا بدّ من تصويرهم بنحو يتناسب مع الحقائق التي تتضاد عند الموقفين: الدنيوي والأخروي، مضافا إلى أن (نكس الرؤوس) هو: تعبير عن حالة داخلية هي: الخجل من الحقائق التي أسفرت بوضوح أمامهم.
بعد ذلك، ينقل لنا النص: جوابا لقولهم (أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا ... إلخ) وهو: فَذُوقُوا بِمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا، إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ ... لنلاحظ، أن هذه الإجابة قد اعتمدت صورة فنية. هي «الاستعارة» التي تقول: بما أن المنحرفين قد (نسوا) اليوم الآخر، فإنّ الله تعالى (ينساهم) في هذا اليوم، و «النسيان» هنا: استعارة لنسيان الرحمة، أي: عدم الاعتناء بهم، والواقع أنهم (لم ينسوا هذا اليوم) بدليل أنهم، قالوا أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا ، إلآ أنّ النص استعار «النسيان» ليرمز به إلى عدم تحكيم عقولهم في هذا الميدان، بل سمحوا لأهوائهم ورغباتهم بالتحرك، بحيث شككوا باليوم الآخر، وسمّى المقطع هذا
ص: 445
الموقف (نسيانا) على سبيل الاستعارة، و لذلك أجابهم بأنّ اللّه تعالى (ينساهم) من رحمته، و هذا التجانس بين الصور الاستعارية، يكشف - مضافا لما تقدم - عن مدى الإحكام للنص، من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ .
هذا المقطع من السورة، يتناول سلوك المؤمنين ومصائرهم الأخروية، وقد جاء على نحو (التقابل) بين المنحرفين ومصائرهم التي تحدث عنها مقطع سابق من السورة الكريمة...
أمّا العناصر الفنيّة التي واكبت هذا المقطع، فتتمثل في «التركيب الصوريّ » الذي توكّأ عليه المقطع في بلورة الموضوع الذي طرحه، حيث تناول سمات خاصة في الشخصية الإسلامية، مثل: قيام الليل، والأنفاق:
حيث ركز المقطع على هذه الصفات، لكي يبرز أهميّتها، كما تناول المص الأخروي الذي ستواجه الشخصية المؤمنة: حيث ستنعم بإشباعات لم تخطر على بالها... هذه الموضوعات، صاغها المقطع: وفق عنصر «الصورة» الفنية المتمثلة في صورتي «الاستعارة» و «التشبيه»... أما العنصر الاستعارى فيتجسّد في هاتين الصورتين: تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ و قُرَّةِ أَعْيُنٍ . وأمّا التشبيه فيتجسّد في آية أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً، لاٰ يَسْتَوُونَ .
... و إذا عدنا إلى الصورة الأولى تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ وجدناها تمثل (رمزا) أو «استعارة» هي: قيام المؤمن في الليل، حيث رمز له
ص: 446
بجفاء المضجع، أي. من يبتعد عن موضع النوم جنبه... و هذا «الرمز» يحتشد بطاقة إيحائية ضخمة، لأنّ «التجافي» هو: الإعراض والتنحية عن الشيء، فعندما يتنحى الإنسان عمدا ويعرض عن الشيء، فهذا يعني: عدم رغبته في ذلك الشيء، وبما أن (النوم) حاجة ملحة محفوفة برغبة كبيرة:
حينئذ فإنّ التنحّي والإعراض عن الحاجة المذكورة يمثل قمّة المخالفة للنفس، وهذا هو ما يطبع الشخصية المؤمنة حقا.
مقابل هذه المخالفة للنفس، فيما رمز لها المقطع بصورة تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ ، رسم المقطع صورة استعارية هي ما ينتظر المؤمن من «نعيم» أخروي هو (قرّة للعين)، حيث ذكر المقطع بأنّه فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، أي: جاء «الجزاء» متجانسا مع طبيعة قيام الليل أو مخالفة النفس، فكما أنّ مخالفة النفس عمل شاق يتطلّب ضخامة التضحية كذلك: فإنّ الجزاء على ذلك سيصبح من التضخم بنحو يتجانس مع ضخامة العمل، طبيعيا، أنّ «الجزاء» لا يمكن أن يقاس حجمه بعمل المؤمن، لأن العمل مهما كان شاقا فهو لا يصل إلى مرتبة ما أعدّه اللّه تعالى للمؤمن، ولكن: ثمّة عناصر مشتركة من حيث التناسب بين حجم العمل وحجم الثواب، فكلّما كبرت «الطاعة» كبر الثواب - وان كان حجم هذا الأخير مضاعفا بنحو لا يمكن القياس عليه، والمهم، أن هذا (التجانس) بين حجم الطاعة وحجم الثواب، قد واكبه تجانس فنيّ آخر هو: العنصر «الصوري»، أي: جاءت الصورة الاستعارية القائلة بأنّ ما أخفي للمؤمن من النعيم، هو: (قرّة أعين)، (متجانسة) مع صورة تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ ، فهنا تركيبان (صوريان). كل منهما متجانس مع الآخر، من حيث كونه (رمزا) أو (استعارة)، مضافا إلى تجانسهما (دلالة)... مع ملاحظة أن «الجزاء» - كما تقدم الحديث - يتضاعف بنحو لا يمكن مقايسته، أن «قرّة العين» تعني.
«بردها»، وهي (ترمز) إلى أرفع ما يمكن تصورّه من حيث (السرور) و (البهجة)
ص: 447
و (الفرح) إلخ، و ذلك بما تراه العين، حيث جاء في الحديث (ما لا عين رأت)، أي أنّ العين، ترى من النعيم ما لم تره في تجاربها السابقة، و هذا هو منتهى ما يطمح الإنسان إليه: كما هو واضح.
إذن، جاء (الرمزان): التجافي عن المضجع و قرّة الأعين متجانسين فنيّا، فضلا عن (تجانسهما دلالة)، فيما يكشف مثل، هذا التجانس عن مدى (جمالية) النص: من حيث الإحكام الهندسي لبنائه الذي تتلاحم موضوعاته، بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
***
قال تعالى: أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ، فَلَهُمْ جَنّٰاتُ اَلْمَأْوىٰ نُزُلاً؛ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا، فَمَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ، كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا، أُعِيدُوا فِيهٰا، وَ قِيلَ لَهُمْ :
ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَدْنىٰ ، دُونَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيٰاتِ رَبِّهِ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهٰا، إِنّٰا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ .
هذا المقطع من السورة الكريمة، امتداد لسابقه من المقاطع التي تركّز على (الجزاء الأخروي) الذي شكّك به المنحرفون حيث سبق أن عرض المقطع جانبا من مواقف اليوم الآخر، فيما طالب المنحرفون فيه: أن يرجعوا إلى الدنيا، ليعملوا من جديد... أمّا في المقطع الذي نتحدث عنه الآن، فإنّ الجديد فيه هو: عرض للعذاب الذي ينتظره المنحرفون، ثم تلويحه بنزول العذاب الدنيوي، بغية تعديلهم للسلوك المنحرف.
لكن، قبل أنّ نتحدّث عن هذا الجانب، ينبغي أن نشير إلى أنّ المقطع، وازن بين مصائر المؤمنين والمنحرفين من جانب، وربط ذلك بسلوكهم الدنيوي من جانب آخر، حيث قال تعالى. أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً،
ص: 448
لاٰ يَسْتَوُونَ ...
إنّ هذا التشبيه ينتسب إلى ما نسمّيه ب (التشبيه المضادّ) أي: التشبيه القائم على رصد علاقات (التضاد) بين شيئين، مقابل التشبيه القائم على رصد علاقات (التماثل) بين الشيئين... كما أنّ التشبيه المذكور، ينتسب - من جانب آخر - إلى ما نسميه ب (التشبيه المباشر) أي: التشبيه غير المجازي، بصفة أن ما هو (مجازي) يعني: إيجاد علاقة بين الشيئين لا علاقة بينهما في عالم (الواقع)، بعكس التشبيه المباشر الذي يعتمد إحداث (علاقة) موجودة فعلا بين الشيئين: كعلاقة (التضاد) بين العالم والجاهل أو النور والظلمة، أو المؤمن والفاسق... وأهمية التشبيه المضاد» تتمثل في كون التشبيه مسوقا لبيان حقيقة مباشرة يتحسّسها القارىء أو يعايشها في ذهنه مباشرة: مثل ملاحظته الفارق بين النور والظلمة مثلا، كما قلنا. لذلك، لا ضرورة فنية لتقديم تشبيه مجازي يتطلب جهدا تخيّليا لملاحظة العلاقة بين شيئين، فما دام النص يستهدف إبراز الفارق بين مصائر المنحرفين (و هم في النار) مقابل المؤمنين (و هم في الجنة) حينئذ فإنّ رصد أو إبراز العلاقة بين المؤمن والفاسق، كاف في تقديم التشبيه المباشر الذي يوازن بين من هو مؤمن فيدخل الجنة، وبين من هو فاسق، فيدخل النار.
ويلاحظ أن المقطع لم يكتف بمجرّد عرض المصير الأخروي للمنحرفين، بل لوّح - كما قلنا - بنزول العذاب الدنيوي، ثم علقّ على ذلك بقوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيٰاتِ رَبِّهِ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهٰا، إِنّٰا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ .
إنّ هذا التلويح بالعذاب الدنيوي، والتعليق عليه، فضلا عن وصفه للمصائر الاخروية المتمثلة في دخولهم النار، بحيث كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا، أُعِيدُوا فِيهٰا، وَ قِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...
ص: 449
هذا كله يظل مرتبطا - من جانب - بالتشبيه المضاد الذي تقدم الحديث عنه أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً ، كما يظل مرتبطا بهيكل السورة الكريمة التي ركّزت على سلوك المنحرفين: في تكذيبهم لرسالة السماء، وفي تشكيكهم باليوم الآخر، لذلك جاء التعليق القائل وَ قِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، مرتبطا بمقدمة السورة التي أشارت إلى أن المنحرفين قد اتّهموا صاحب الرسالة بالافتراء، وتساءلوا ساخرين أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ ، أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ ...
وهذا هو جواب أولئك الذين شكّكوا باليوم الآخر، حيث أجابهم المقطع الذي نتحدث عنه الآن، بعبارة ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ثم ختم ذلك - من جديد - بعبارة إِنّٰا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ، حيث ذكر هذه العبارة بعد تلويحه بعذاب الدنيا، مستهدفا من ذلك تعميق القناعة بالمصير الأخروي الذي ينتظرهم: حيث أن تلويحه بما هو (حاضر) أو دنيوي، من العذاب يحملهم على الاقتناع بما هو (غائب) أو (أخروي) منه:
كما هو واضح... والمهم، أنّ هذا الربط بين تشكيكهم باليوم الآخر، وبين إبرازه بالنحو المذكور، تكشف عن مدى الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الاخر، بالشكل الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ ، فَلاٰ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقٰائِهِ ، وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسٰاكِنِهِمْ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ أَ فَلاٰ يَسْمَعُونَ ... .
بهذا المقطع وما بعده، تختم سورة «السجدة» التي ركزت على سلوك
ص: 450
المشكّكين باليوم الآخر، وبما ينتظرهم من الجزاء الدنيوي أيضا، حيث سبق للنص أن قال - في مقطع أسبق وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَدْنىٰ دُونَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، لذلك نجد أنّ السورة الكريمة قد ختمت بالحديث عن الجزاء الدنيوي الذي ينتظر المنحرفين، حيث ختمت السورة بالآيات الآتية:
وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْفَتْحُ ، إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاٰ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمٰانُهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ .
ويعنينا من هذا الختام: البناء الفنّي للموضوعات التي طرحتها السورة الكريمة، فيما زاوجت الحديث بين كل من الجزاءين: الدنيوي والأخروي.
فالمنحرفون: سبق أنّ قالوا: أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ ، أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ..؟ .
وهذا بالنسبة لتشكيكهم باليوم الآخر،...
والآن يقولون - في هذا المقطع الختامي «متى هذا الفتح».
وهذا بالنسبة لتشكيكهم بعذاب الدنيا...
لذلك، يحاول النص الربط بين هذين الموضوعين، حيث خصّص المقاطع السابقة للحديث عن الجزاء الأخروي، وحيث ختم السورة بالحديث عن الجزاء الدنيوي: حيث نستكشف من هذا الختام: الأهمية التي يمنحها النص للعذاب العاجل الذي ينتظر بعض المنحرفين المتمادين في الانحراف...
لكن: يلاحظ أن النص طرح - خلال حديثه عن العذاب العاجل - جملة من الموضوعات، يتعيّن علينا ملاحظتها بالنسبة إلى عمارة السورة الكريمة، ما دمنا نعني بالهيكل الفنيّ للنص...
من هذه الموضوعات: التذكير بمصائر الأمم السابقة: (أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ
ص: 451
كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسٰاكِنِهِمْ ) ... و منها: التذكير بقدرات الله تعالى و تستخيره القوى الكونية لصالح الإنسان: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَسُوقُ اَلْمٰاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعٰامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ ... .
ومنها، التذكير بقصة موسى، حيث أشار النص إلى أنّه تعالى أنزل عليه التوراة، وجعله هدى لبني اسرائيل، وإلى أن منهم: أئمّة قد اضطلعوا بالتبليغ وأن هؤلاء القوم قد اختلفوا في تحديد وظيفتهم العبادية، مما سيعاقبون على ذلك في اليوم الآخر...
هذه الموضوعات، تبدو وكأنها متفاوتة إلاّ أنها تصبّ - فنيّا - فى هدف واحد هو: إنّ الجزاء «دنيويا وأخرويا» ينتظر أولئك المنحرفين المشكّكين برسالة الإسلام وبالجزاء المترتّب على ذلك... حيث أن تذكيرهم بقدرات اللّه تعالى وتسخيره القوى الكونية لصالحهم: يستهدف لفت نظرهم إلى رؤية الحق، فيما شككوا به - وهو رسالة القرآن الذي قالوا عنه (في مقدمة السورة) - بأنه مفترى، كما أن تذكيرهم بمصائر الأمم السابقة، يستهدف لفت نظرهم إلى ما سيلاقونه من الجزاء الدنيوي... وأمّا تذكيرهم بقصة موسى عليه السلام، وبالإسرائيليين بعامة، فإنّ هذه القصة (كما هو طابع غالبية القصص القرآني) تظل موظفة فنيا لإنارة «الفكرة» المستهدفة في السور الكريمة... فالإسرائيليون - دون سواهم من المجتمعات - يتميزون بالعناد، وبتردّي السلوك، وبإيذائهم موسى وسائر الأنبياء الذين أشار إليهم النص بقول تعالى وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ، إلاّ أنّ الإسرائيليين مارسوا حيال أئمّتهم أشدّ الأذى، مما توعدّهم النص بالجزاء الاخروي - كما لحظنا... والمهمّ هو، أن الإسرائيليين - من جانب، وقفوا من الرسالة الإسلامية موقفا يستجرّ إلى التعريض بسلوكهم، كما أنّ رسلهم - من جانب آخر - واجهوا شدائد كثيرة
ص: 452
منهم، فيما يجعل الاستشهاد بقصصهم وقصص أنبيائهم: وسيلة فنية لإنارة الموضوعات التي يستهدفها النص: عند حديثه عن رسالة الإسلام وموقف المنحرفين منها...
ولعلّ استعجال المشركين المعاصرين لرسالة الإسلام، بأنّ ينزل العذاب الدنيوي عليهم (وهو ما ختمت به السورة الكريمة)، يظل على صلة بسلوك الإسرائيليين مدى التاريخ: من حيث نزعة العناد والسخرية لديهم، ومن حيث الجزاءات الدنيوية التي لحقتهم من جرّاء ذلك...
وأيّا كان، فإن ختام السورة بقوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ، إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ، ينطوي على خصائص فنية (من حيث البناء والصورة) بحيث يتجانس مع طبيعة الموضوع الذي يتحدث عن مصائر المنحرفين، فقد استخدم النص عنصر «السخرية» حينما قال بأنّ المنحرفين: منتظرون للعذاب (مع أنهم قد شكّكوا به - كما هو واضح)، كما استخدم عنصر التقابل بين أن ينتظر محمد (ص) حل موعد عذابهم (فانتظر...) وبين كونهم منتظرين للعذاب المشار إليه... وبهذا النمط من عناصر «السخرية» و «التقابل» نستكشف جانبا آخر من أدوات البناء الفنّي للنص، فيما يفصح عن مدى التجانس أو التلاحم بين موضوعات النص، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 453
ص: 454
ص: 455
ص: 456
تتضمن سورة الأحزاب جملة من الموضوعات والأفكار... أما الموضوعات فتتركز - أساسا - على ظاهرة (الأسرة)، بصفتها أهمّ الوحدات الاجتماعية، التي تفرض فاعليتها في المركب الاجتماعي العام. يتخلّل ذلك:
بعض الموضوعات التي يطرحها النص في سياق (الأفكار) التي تنتظم هيكل السورة، وفي مقدمتها: ظاهرة (الجهاد في سبيل اللّه) متمثلة في عرض قصص لمعركة الأحزاب أو الخندق بما واكبها من ردود الفعل التي سردها النص في سياق «الابتلاء» أو «الامتحان» أو «الاختبار» أو التجربة العبادية التي خلقنا - أساسا - من أجلها. أمّا من حيث الأفكار التي تنتظم السورة الكريمة، فتتمثل
في مقدمتها التي تبدأ بهذا النحو:
(بِسْمِ اَللّٰهِ ... يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً وَ اِتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...)
هذه المفردات المتصلة بالكفر، والنفاق، وازدواجية القلب: مقابل الطاعة والتوكيل والكفاية باللّه، تظل هي العصب الفكري العام الذي تحوم عليه موضوعات السورة الكريمة...
يبدأ القسم الأول من السورة بهذا النحو مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اَللاّٰئِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ ، وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ذٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ وَ اَللّٰهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبٰاءَهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوٰالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
ص: 457
وَ لٰكِنْ مٰا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ ، وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ : بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ إِلاّٰ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً .
فالملاحظ من هذه النصوص أنّها قد استهلّت بالتوصية القائلة وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وعندما تستهل السورة بمثل هذه التوصية فإنّ ذلك يعني (من زاوية البناء الهندسي للسورة) أن هذه التوصية (مقدمة فنيّة) سوف تنعكس على موضوعات السورة... وفعلا، نجد في القسم الآخر من السورة وهو ما يتّصل بمعركة الخندق أو الأحزاب، كما سنجد في الأقسام الأخرى: أنّ كلا من الكفر والنفاق سوف يحتلاّن مساحة خاصة من النص وهذا ما يكشف عن مدى جمالية وإحكام البناء الهندسي للسورة من حيث تنامي موضوعاتها (عضويا) وتواشجها بعضا مع الاخر.
والآن إذا تركنا هذا الاستهلال للسورة، واتّجهنا إلى موضوعاتها، وجدنا أنّ قضايا الظهار: وهو نوع من الطلاق الجاهليّ حيث يقول الرجل لزوجته «أنت على كظهر أميّ »، «والتبنّي» وهو أن يتبنّى الإنسان شخصا آخر بحيث ينسب إليه، وجدنا أن هاتين الظاهرتين قد وردتا في سياق قوله تعالى:
مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اَللاّٰئِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ... إلخ.
هذا السياق وهو قوله تعالى مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هو الذي يشكّل العصب (الفكري) لهذا القسم من السورة. فالظهار أو التبنّي ظاهرة اجتماعية قد يتوفّر على دراستها علماء الأقوام بصفتها تمثّل مجتمعات أو نظما أفرزتها بيئات خاصّة، إلاّ أنّ المهمّ هو ما يرافق هذه المجتمعات أو النظم من (أفكار) يستهدف النّص القرآني الكريم طرحها في هذا المقطع
ص: 458
و معالجة ذلك - من ثم - في ضوء التصوّر العبادي الذي يستهدف النصّ توصيله إلينا...
التصور هنا هو، إنّه لا يمكن للإنسان أن يتحرّك من خلال قلبين أو اتجاهين أو عملين متضادّين أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ يحبّ بهذا قوما و يحب بهذا أعداءهم فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ هذه الصورة الفنية: عدم (جعل قلبين) وردت في سياق الحديث عن الظهار والتبني، حينئذ فإنّ أهميتها تنعكس على عنصر الإيحاء الفنّي الذي يرشح بأكثر من دلالة وهي سمة الفن العظيم، فالثنائية أو الازدواجية لا يمكن أن تتحقق في الزوجة والأم فأما أن تكون المرأة زوجة وأمّا أن تكون أمّا وحينئذ لا يمكن للرّجل أن يقول لزوجته: (أنت عليّ كظهر أمّي لي) وكذلك (التبنّي)، فلا يمكن للإنسان أن يكون ابنا لرجل وملحقا به من خلال التبنّي أيضا، بل إما أن يكون ابنا على الحقيقة أو يكون متبنى فحسب وحينئذ لا يكون ابنا. لكن، بالرغم من أنّ الصورة الفنية وردت في سياق الظهار والتبني، فإنّها تتجاوز هذا الصعيد لتشمل سائر الممارسات العبادية ومنها: ما أشار الإمام الصادق عليه السلام إليه أنّه لا يمكن أن يحبّ الشخص قوما ويحبّ أعداءهم في آن واحد، وكذلك يمكننا أن نسحب هذه الصورة الفنية على مستهلّ النّص الذي حذّر من إطاعة الكفار والمنافقين، فالكفار الوثنيون الذين يعرضهم النصّ يمارسون سلوكا ازدواجيا أو ثنائيا هو الاعتقاد بالله تعالى والاعتقاد بالأصنام وهذا ما لا يمكن أن يصحّ لأنه ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، وأمّا المنافقون يمارسون أيضا سلوكا ازدواجيا هو: إبطان الكفر وإظهار الإيمان وهو أمر لا يمكن أن يصحّ أيضا لأنّه لا لقاء بين الاثنين فإمّا الإيمان وامّا عدم ذلك لأنّه مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وهكذا... إذن: أمكننا الآن أن نقف على الأسرار الفنية أو الوظائف الفنيّه التي نهضت بها صورة مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وهي (رمز)
ص: 459
يترشح بإيحاءات متنوعة تشع بها موضوعات السورة اما مباشرة: كما هو الأمر بالنسبة للظّهار و التبنّي و إمّا بنحو غير مباشر كما هو الأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين الذين حذرت السورة منهم في مستهلّها، واما أن تشعّ بإيحاءاتها على مطلق الظواهر بالنحو الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام.
وفي الحالات جميعا تظلّ هذه الصورة الفنية بمثابة وصلة فنية تصل بين موضوعات هذا القسم من السورة، كما تنسحب على الأقسام اللاحقة من السورة كما سنرى ذلك إن شاءالله.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا: اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جٰاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جٰاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً... .
بهذا المقطع وما بعده يبدأ القسم الثاني من سورة الأحزاب، وهو قسم يتحدث عن الجهاد في إحدى مفرداته المتمثلة في تكتل المنحرفين أو الأحزاب... وخطورة هذه المعركة تتمثل في تكتّل المنحرفين أو المنافقين لرسالة الإسلام. حيث تآزرت الطوائف اليهودية والمشركة في إعلان الحرب على المسلمين، وزحفوا نحو المدينة المنوّرة للغرض المشار إليه. ولما علم المسلمون بذلك: تهيّأوا للمعركة بطبيعة الحالى، وخطّطوا لعملية الدفاع من خلال حفر (الخندق) الذي اقترحه سلمان الفارسي، وعندما اعترضت عملية الحفر صخرة محكمة: جاء رسول اللّه (ص) فضرب بالمعول الصخرة ثلاثا فلمعت خلال ذلك ثلاث إضاءات بشر بها النبيّ (ص) أصحابه بأنّه فتح الله
ص: 460
تعالى بها على النبيّ (ص): اليمن والشام و المغرب والمشرق...
هذه التفصيلات لم تسردها القصة، بل سردت ثلاث ظواهر هي إنّ اللّه تعالى أرسل رياحا وجنودا لم يرها المسلمون، وأن جيش العدو كان ضخما بحيث جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وأنّ المسلمين زاغت أبصارهم وبلغت الحناجر قلوبهم، وزلزلوا زلزالا شديدا...
هذه الظواهر الثلاث عرضها النصّ من خلال عنصر قصصيّ وصوري بالغي الإثارة والدّهشة من حيث الصياغة الفنية لهما.
ويتمثل العنصر القصصي في ذلك النمط من بناء الأحداث والمواقف تبعا لدلالاتها النفسيّة وليس دلالاتها المكانية والزمانية... وأما العنصر الصوري فيتمثل في ثلاث صور تركيبية هي: (زاغت الأبصار) (بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ) (زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً) وفي صورتين مباشرتين هما: تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا و هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ ...
المهم، أنّ كلا من عنصري (القصة) و (الصورة) ساهم بنحو فني ممتع في تعميق الدلالة الفكرية التي يستهدفها النص في عرضه لمعركة الخندق...
وهي معركة قد استهلّ النص الحديث عنها بقوله تعالى اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جٰاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... فالدلالة الفكرية هي: التذكير بنعم اللّه تعالى، وهذا التذكير يرتبط أيضا (من خلال البناء الهندسي لمجموع السورة) بمقدمة السورة التي طرحت هذه التوصية وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً ... وعندما تطرح مقدمة السورة مثل هذه التوصية، فإنّ هذا يعني (من الوجهة الفنية) أنّ لهذه التوصية إسهاما يلقي بإنارته على الأجزاء اللاحقة من السورة، وها هو الجزء الذي نتحدث عنه وهو معركة الأحزاب قد أنارته التوصية المذكورة:
توصية «التوكل على اللّه» وتوصية الكفاية به وكيلا... حيث يتضمن العنصر القصصي: حادثة إرسال الرياح والجنود التي لم يرها المسلمون، وهي حادثة
ص: 461
ترتبط بالتوكل على اللّه و الكفاية به وكيلا، كما هو واضح. فضلا عن أنّ هذه الحادثة ترتبط بمقدّمة القصة أيضا (اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ ...) حيث جاءت مباشرة لتتحدّث عن واقعة إرسال الرياح والجنود. بيد أنّ الملاحظ هو أن القصة بدأت من خاتمة الحدث لا من بدايته أو وسطه... فالقصة تقول أولا إنّ اللّه أرسل الرياح والجنود ثم ترتدّ بالحادثة إلى الوراء إلى أول الحدث وهو: أن جنود المنحرفين جاءت من فوق المسلمين ومن أسفل منهم، وأنه تبعا لذلك، زاغت أبصار المسلمين وبلغت قلوبهم الحناجر... إلخ.
والسؤال - فنيّا - هو: لماذا لم تأخذ القصة تسلسلها الزمني فتتحدث أولا عن ضخامة جيش العدوّ، ثم ردود الفعل المترتبة على الجيش المذكور، ثم الإمداد الغيبي المتمثل في إرسال الجنود والرياح ؟ بينا بدأت القصة عكس ذلك، حيث بدأت من الخاتمة وهي إرسال الجنود الرياح، ثم الارتداد إلى بداية الأحداث أي: ضخامة جيش المنحرفين...
ترى: ما هو السرّ الفنيّ وراء ذلك ؟.
(هذا ما نجيب عليه الآن):
إنّ السر الفني من وراء هذه البداية القصصية المتمثلة في إرسال الله تعالى الرياح والجنود لنصرة المسلمين في معركة الخندق يتمثّل في أنّ النصّ القرآني الكريم يستهدف التذكير بنعمة اللّه تعالى على الجيش الإسلامي وحينئذ فإن النعمة تتجسد في عملية الإمداد الغيبي. وإذا كان الأمر كذلك فيتعيّن أن يرسم هذا الإمداد الغيبي في أوّل القصة: نظرا لارتباط النعمة به مباشرة لذلك ما أنّ انتهى النص القصصي المذكور من التذكير بنعمة اللّه من خلال الإمداد الغيبي لجيش المسلمين، حتى رجع بحوادث القصة التي بداياتها الزمنية أي:
ص: 462
ضخامة جيوش المنحرفين حيث أوضح بأنّ هذه الجيوش (جٰاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) ثم تابع ذلك من خلال عرضه لردود الفعل التي صدرت عن المسلمين حيال جيش العدو حيث زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر...
هنا يمكن أن يثار سؤال فنّي آخر هو:
إذا كانت القصة قد بدأت من نهاية الأحداث فلماذا لم تأخذ التسلسل العكسي للزمن فترتدّ إلى الوسط ثم إلى البداية بينما نجد أنّ القصة قد ارتدّت إلى البداية ثم إلى الوسط أي: تحدّثت عن ضخامة جيوش المنحرفين، ثم ردود الفعل التي صدرت عن المسلمين حيال ذلك، بخاصة أنّ القصة ما دامت تتحدّث عن نعمة اللّه وهي إرسال الرياح والجنود الملائكيين، حينئذ فإنّ النّعمة تتجسّد في كونها قد أزالت القلق والخوف من قلوب الإسلاميين، وهو أمر يستدعي أن تحدّثنا القصة من خلاله عن هذا القلق والخوف قبل كل شيء...
ونجيب على ذلك: أنّ هناك تجانسا وتقابلا هندسيّا بين الجنود الذين أرسلهم اللّه تعالى لنصرة المسلمين والجنود المنحرفة التي جاءت من فوق المسلمين ومن أسفل منهم، وحينئذ ما دام النصّ القرآني الكريم قد استهدف التذكير بنعمة اللّه على جيش المسلمين، لا بدّ أن يقارنه بجيش العدو لتتضح، من خلال هذا التقابل أهمية النعمة من الله تعالى لأنّ المسلمين كانوا قبالة جيوش ضخمة من الأعداء يهودا ومشركين، وهي جيوش - لو أخضعناها للمعادلات الأرضية - تبعث القلق والخوف، لذلك عندما تقابل هذه الجيوش بجنود غير مرئية أو بجنود غير بشرية حينئذ يكون لهذا لتقابل أهميته وفاعليته الكبيرة في ميدان الإثارة الفنية التي يستهدفها النص القرآني الكريم من وراء تقديم القصة المشار إليها.
وأمّا ظاهرة الخوف والقلق أو ما عبّر النّص القصصيّ عنه بالصور القائلة وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر... إلخ: فتجيء، من حيث
ص: 463
العمليات النفسية بمثابة (النتيجة) لرؤية الجيوش المنحرفة في أعدادها المشار إليها ممّا يفسّر لنا جعلها في خاتمة الأحداث. والمهم - ينبغي أن نتحّدث عن هذه الصور الفنية التي صاغها النص وفق اللغة التركيبية بدلا من اللغة المباشرة.
أي: يعنينا أن نتحدّث عن صور، وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ و بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ و زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً فضلا عمّا واكب هذه الصور التركيبية من صور مباشرة مثل وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ ترى: ما هو السرّ الفنيّ الكامن وراء صياغة هذه الدلالات الفكرية التي تتلخص في: أنّ المسلمين قد انتابتهم المخاوف الشديدة إلى درجة أنّهم ظنّوا باللّه الظّنون المختلفة...
ما هو السرّ الفني وراء صياغة هذه الدلالة أو الفكرة أو الموقف الذي صدر المسلمون عنه، ما هو السرّ وراء صياغة هذا الموقف من خلال عنصر الصورة الفنية صور الزلزال، وزيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر بدلا من التعبير المباشر؟.
الملاحظ - كما سبقت الإشارة - أنّ العنصر الصوري (في هذا المقطع) حيال الجيوش التي حشدها المنحرفون - مشركين ويهودا - في معركة الأحزاب أو الخندق يتمثل في ثلاث صور.
الصورة الأولى هي وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ ... أي: وإذ مالت وعدلت عن الحركة الطبيعية لها... فالزيغ هنا أو الميل أو العدول (رمز) فنيّ للدّهشة والحيرة والقلق والخوف الذي يبعثه مرأى الجيوش المحتشدة. وأهمية هذا الرمز الفنّي يتمثل في جملة من الظواهر منها: ألفة هذا الرمز أي خضوعه لخبرات نألفها بوضوح عند أية شدّة، ومنها: أنه ذو طابع حسّي أو حركي وليس رمزا ذهنيا يصعب تمثل دلالته، ومنها: إنّه تعبير عن حركة داخلية بمعنى
ص: 464
أنّ القلق أو الخوف - وهما طابع نفسي صرف - قد انعكس في مظهر جسمي هو ميل البصر عن حركته الطبيعية. وهذه حقيقة ذات أهمية كبيرة في ميدان الانفعالات وانعكاساتها على السلوك كما أنّها ذات أهمية كبيرة من حيث الرّسم الفني للصورة ما دمنا نعرف بوضوح أنّ الحركة الخارجية عندما تتجانس مع الحركة الداخلية حينئذ يكتسب الفنّ دلالة جمالية ذات خطورة دون أدنى شك.
والمهمّ هو أنّ مجمل (الرمز) يترك أثره الفنيّ في الاستجابة التي نواجهها حيال الصورة الفنية المشار إليها، ولا أدلّ على أهميتها من أنّنا سوف ندرك بعمق أن الشدائد والمفاجآت وأهوال المصائر: تدع الشخص مذهولا منبهرا مشدوها يفقد السيطرة نهائيا على توازنه بحيث يواكب ذلك: يأس وانطفاء لأمل الحياة... وحينئذ فإنّ كلا من هول المصير واليأس الذي يصاحبه: لا يترجم إلاّ في سلوك فيزيقي خاصّ هو: (ميل أو زيغ البصر) عن حركته حيث يفصح هذا الميل أو العدول عن أدقّ منحنيات الخوف واليأس عند الشخصية.
وأما الصورة الثانية ونعني بها وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ فهي تعدّ استكمالا أو استمرارا للصورة السابقة، أنّها نمط من التركيب الصّوري الذي يمكن تسميته بالصورة الموحّدة أو المكثفة التي تتعاقب صورها المفردة: لتقدّم انطباعا عميقا عن الظاهرة المستهدفة.
إن صورة (وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ) تعني أنّ القلوب قد انخلعت من الخوف واليأس من مكانها وصعدت إلى الحناجر حتى لتكاد تخرج...
ترى، هل هناك مظهر تعبيري أشدّ كثافة وجمالية وصدقا من هذا (الرمز) أو الصورة التي ترسم انخلاع الأفئدة وصعودها إلى الحناجر؟ إنّها لصورة معبّرة أو رمز معبّر ينطوي - فضلا عن دقة الرّسم لعمليات الانفعال التي يخبرها الخائف واليائس - على نمط خاص من التركيب الفني... فإذا كانت صورة (زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ) تعبر عن التجانس بين ما هو داخلي (الخوف واليأس)
ص: 465
و بين انعكاساته الخارجية (عدول البصر)، فإنّ صورة بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ تعبّر أيضا عن التجانس بين ما هو داخلي و خارجي لكن وفق نمط آخر.. فبلوغ القلوب الحناجر لا يشكل مظهرا جسميا ملحوظا مثل (ميل البصر) بل يشكل مظهرا حسّيا غير ملحوظ إلاّ من قبل الشخص نفسه أي أنّه إحساس داخلي يخبره الشخص... وأهمية مثل هذه الصورة الفنية تتمثل في أن الإحساس بالتغيّرات التي تحدث داخل الجسم لم تقف عند مجرّد التغيرات العضوية التي تصاحب الانفعالات عادة مثل. ارتفاع ضغط الدم أو سرعة النّبض أو ارتجاف بعض العضلات بل تتجاوز ذلك إلى الإحساس بالتغيّرات الماحقة لحياة الإنسان أساسا ونعني بها: عملية خروج الروح.
إذا، كم كانت هذه الصورة أو الرمز وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ ذات كثافة تعبيرية بالغة الدّهشة من حيث كونها ذات نمط خاص من التركيب الذي يجانس بين الانفعالات و إفرازاتها العضوية الداخلية: مقابل الصورة الفنية التي سبقتها وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ فيما تتجانس بين الانفعالات و إفرازاتها العضوية الخارجية وليس الداخلية، مضافا إلى أنّ هذا (التنوع) من تركيب الصور والرموز، أي: التنوع بين إفرازات عضوية تنسحب على الخارج حينا وتنحصر في الداخل حينا آخر، مع خضوعهما لعملية نفسية هي الانفعالات.
مثل هذا التنوع من خلال (وحدة) العملية. بما واكب ذلك من تجانس بين ما هو نفسي وما هو مظهر خارجي أو عضوى... كل أولئك يشكل صياغة خاصة تكسب النصّ جمالية فائقة، مدهشة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
لحظنا - كيف أنّ الصور الفنية وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ قد جسّدت (حسيا) عما هو في الأعماق أي عبّرت من خلال الصور
ص: 466
الحسية أو الحركية عن العمليات الانفعالية التي صدر عنها الناس في مواجهتهم للعدو..
وها هو النص - يتّجه إلى هذه العمليات النفسية ليرسمها بوضوح...
فقد رسم أولا طبيعة ردود الفعل التي صدرت عن الناس، وذلك من خلال قوله تعالى وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا إنّ (الظنون) التي أشار النصّ إليها تبقى (مبهمة) لا يعرف المتلقّى عنها شيئا. لكن (من الزاوية الفنية) بما أنّ النص قد مهّد للمتلقي بأن جنود العدو قد جاءوا من فوق و من أسفل الساحة وأنّ الأبصار قد زاغت وانّ القلوب قد بلغت الحناجر حينئذ فإن صورة (الظنون باللّه) لا بدّ أن توحي للمتلقّي بأنّها ترتبط بهذا الموقف المقترن بالخوف واليأس. لكن: من الممكن أيضا أن تقترن بما هو إيجابي كما هو ظن المؤمنين بنصر الله تعالى... المهمّ أن النصّ ساكت عن تحديد هذه الظنون أو التصورات، بيد أنّ المؤكّد هو. أن الظنون السلبية فرضت فاعليتها في الميدان حتى في حالة اقترانها بظنون إيجابية: نظرا لهذا المناخ الملتهب الذي تصطرع فيه الآراء المثبطة أو المشجّعة حيث يترك هذا الاصطراع آثاره السلبية على الموقف.
وفعلا جاءت الفقرة التي تلي هذا الموقف لتقول لنا بوضوح (هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً) ... فعملية (الابتلاء) لو لم تقترن بأجواء الخوف أو اليأس أو التردّد: لما كانت لها أية دلالة.
إن تجربة الحياة ذاتها عملية (ابتلاء) أو (اختبار) للإنسان، وحينما تنتقل هذه التجربة إلى (ساحة القتال) بخاصة مع مشاهدة ضخامة جيش العدوّ:
عندئذ تأخذ عملية (الابتلاء) حجما له أهميته الكبيرة في ميدان السلوك العبادي. من هنا جاءت عملية (الابتلاء) تحتل وظيفة فنية في هذا الموقع من النص هي لفت الانتباه على الوظيفة العبادية للكائن الإنساني. فالمهم هو
ص: 467
(الابتلاء) نفسه و ليس مفرداته، و من ثم فإنّ الأهم من ذلك هو: نجاح الشخصية في اجتياز مرحلة الابتلاء...
أنّ النص حينما بشر المسلمين بأنّ الله تعالى قد أيّدهم بجنود لم يروها يعني أنّ عملية الابتلاء قد اقترنت ولو في صعيد خاص بنجاح وهو أمر يدعم الاتجاه التفسيريّ القائل بأنّ عبارة وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا إنّما شملت كلا من الظن الحسن باللّه تعالى في امداده الغيبي للمسلمين، والظن السيئ أيضا..
وهذا الظن الأخير قد تضخم بصورة ملحوظة لدى (المنافقين) الذين أظهروا الإيمان و استبطنوا الكفر (كما سنلاحظ ذلك مفصلا في القسم الآخر من هذه القصة).
لكن بغض النظر عن ذلك، فإنّ الصورة الأخيرة التي ختم بها النص حديثه عن ردود الفعل حيال جيوش العدو في معركة الأحزاب ونعني بها صورة وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً تشير إلى أن عملية الابتلاء كانت ذات فاعلية كبيرة في تفجير هذه الردود من الفعل، وفي خاتمتها: زلزلة الأعماق... و إذا انسقنا مع التفسير القائل بأنّ المؤمنين قد تمثل زلزال أعماقهم في عملية (الخوف) على الدين نفسه وليس الخوف من الاستشهاد، حينئذ فإنّ ضعاف النفوس والمنافقين يكون زلزالهم قد تمثل في الخوف على حياتهم دون أدني شك. وفي الحالين، فإنّ صورة (الزلزلة) النفسية تظل متجانسة فنيا مع صورتي وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ من حيث اشتراكها جميعا في التعبير عن الشدائد النفسية التي كابدها الجند: بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن القسم اللاحق من القصة سيرسم المواقف المتخاذلة لدى أولئك الذين اندسوا في صفوف المسلمين (ليشككوا بالنصر الذي بشرهم به الرسول (ص) غداة عملية حفر الخندق حينما أضاءت له الصخرة التي اعترضت الحفر: معالم النصر كما أشرنا أي: فتح اليمن والشام والمغرب و المشرق.
ص: 468
و أيا كان، فإنّ القسم الآخر من هذه القصة التي رسمت معركة الأحزاب. يتكفّل بإثارة الموقف.
قال تعالى: وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً وَ إِذْ قٰالَتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ يٰا أَهْلَ يَثْرِبَ لاٰ مُقٰامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ وَ مٰا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّٰ فِرٰاراً... إلخ.
بهذا المقطع وما بعده تختم القصة التي تتحدث عن معركة الأحزاب أو الخندق... وهو مقطع خاص برسم سلوك المنافقين وضعاف النفوس.
هنا ينبغي أن نتذكر جملة من الحقائق الفنية المتصلة بعمارة السورة الكريمة، فالسورة بدأت بالتوصية القائلة وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ .
وها هم (المنافقون) يرسمون الآن في القصة بعد أن انتهى الرسم في القسم المتقدم من رسم السلوك الكافر مما يعني أنّ الإحكام الهندسي في السورة قد روعي بالنحو الذي يضفي عليها جمالية وإمتاعا فنيين: من حيث التلاحم الذي نلحظه بين مقدمة السورة ووسطها القصصي.
والآن (خارجا عن المبنى الهندسي لها) لنتابع الرسم لسلوك المنافقين (مضافا إلى سلوك الضعاف نفسيا)... لقد رسم النص هذين النمطين من الناس كلا: بصفته المشخصة وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ . إن النصوص القرآنية الكريمة تطلق سمة (المرض النفسي) على المنافقين: بصفتهم حالة شاذة لا تحتاج إلى تأمّل: طالما يظل (النفاق) يحوم على الذات المريضة التي تعنى بالإشباع البهيمي لحاجاتها. فهي أي الشخصية المنافقة تعلن الإيمان، تحقيقا لمكاسب اقتصادية وحياتية، كما أنّها من جانب
ص: 469
آخر - تكفر في الخفاء: تحقيقا للمكاسب المذكورة. و إذا قدر للشخصية المنافقة تمرير بعض مواقفها دون أن تعرض نفسها للفضيحة: لكنها - بالنسبة إلى ظاهرة الجهاد والمقاتلة في سوح المعركة - لا عليها أن تحافظ على سرية سلوكها المنافق، طالما يكلّفها الذهاب إلى ساحة المعركة: المغامرة بحياتها وهي لا تملك غير هذه الحياة التي نافقت أساسا من أجل الحفاط عليها...
كما أنها من حيث الجهاد بالمال طالما تتلكأ فيه: نظرا للحرص الشديد الذى يطبع سلوك الشخصية المنافقة على اقتنائه، حيث أنّ المكاسب الاقتصادية تقف وراء نفاقها كما هو واضح...
إذا، لا مناص من الفضيحة التي تنتظر المنافق في مواجهته لتجربة الجهاد بالنفس والمال... وهذا ما عرضته القصة التي نتحدث عنها حيث أبرزت جانبي الخوف من الموت والحرص على المال في سلوك المنافق..
ففي اللحظات الحاسمة التي يواجهها المسلمون في معركة الأحزاب أو الخندق. حيث تحتشد جيوش الكفر وتحاصر مدينة الرسول (ص) تجد الاضطراب وفقدان السيطرة، والانهيار والتمزق الداخلي للشخصية المنافقة يضطرّها إلى أن تسلك أنماطا من الممارسات المفضوحة حتى ليصل الأمر إلى أن تظهر الكفر بوضوح مع أنّها حريصة على إخفائه كما هو دأب سلوكها... لكن: ما دام الأمر يتصل بالحياة أو الموت حينئذ لا تملك إلاّ أن تهتف بوقاحة. مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً ...
ليس هذا فحسب. بل تحاول بمختلف الأساليب أن تنسحب من ساحة المعركة تخلصا من أي احتمال للموت الذي تخشاه وَ إِذْ قٰالَتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ يٰا أَهْلَ يَثْرِبَ لاٰ مُقٰامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ، أرأيت إلى هذا التحريض الكاشف عن مبلغ الخوف الذي يطبع المنافق بحيث (يسقطه) و (يقنعه) بستار الحرص على أهل يثرب... وقد رسمت القصة أكثر من شريحة تتصل بسلوك هؤلاء المنافقين
ص: 470
كما كشفت عن البواعث المرضية لسلوكهم المشار إليه و انعكاساتها في ممارسات من نحو: الاستئذان من النبيّ (ص) لإعفائهم من المشاركة في سوح القتال: وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ إلاّ أنّ النص فضحهم بقوله وَ مٰا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّٰ فِرٰاراً كما فضحهم بنحو ملحوظ حينما أوضح قائلا: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرٰارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاٰ تُمَتَّعُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً... . وهذا الفضح ينطوي على دلالة ضخمة (من الزاوية النفسية) حيث يقرر حقيقة عبادية هي أنّ الموت لا بدّ منه وأق الفرار من ساحة المعركة لا يحتجز المنافق من الموت، كما يقرر حقيقة نفسية تطفئ أي أمل يداعب المنافق عبر هروبه من ساحة المعركة وَ إِذاً لاٰ تُمَتَّعُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً .
فإشارته إلى أنّ المنافقين لن يستمتعوا من العمر إلاّ قليلا تظل جوابا فنيا علي سلوكهم الباحث عن متعة الحياة حيث أنّ الحرص على متعة الحياة هو الذي يدفعهم إلى الهروب من المعركة، وحينما يطفىء النص هذا الأمل لديهم:
يكون بذلك قد أنهاهم نفسيا، وهو ما يجسد قمة الصياغة الفنية في رسم الشخوص والمواقف...
ويلاحظ أنّ النص قد اعتمد العنصر (الصوري) في رسم الشخوص والمواقف المشار إليها، ففي سياق عملية الفضح للسلوك المنافق. نواجه الصورة الفنية الثالثة أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ، أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا... .
ونظرا لأهمية هذه الصورة فنيا وفكريا فضلا عن موقعها الهندسي من عمارة السورة الكريمة، يحسن بنا أن نفصل الحديث عنها.
قال تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ : رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
ص: 471
تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ ، فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ، أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَحْبَطَ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ ، وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزٰابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بٰادُونَ فِي اَلْأَعْرٰابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبٰائِكُمْ وَ لَوْ كٰانُوا فِيكُمْ مٰا قٰاتَلُوا إِلاّٰ قَلِيلاً .
الملاحظ أنّ هذه الصورة التي رسمها النص عن الشخصية المنافقة تتضمن تشخيصا بالغ الأهمية بالنسبة لرصد السمات المرضية... انّ سمة (البخل) و (الخوف) تظل طابعا لأنماط مختلفة من المضطربين، بيد أنّها تبرز لدى المنافق بنحو أشد - كما أشرنا، طالما يستتلي الطابع (النفعي) في سلوكه إبراز هاتين السمتين. والمهم هو. أنّ النص القرآني الكريم قد اعتمد عنصر (الصورة الفنية) لتشخيص سمتي الخوف والبخل ما دامت الصورة تساهم في تعميق الدلالة من جانب وتجانس بين موضوعات النص من جانب آخر. فقد سبق أن لاحظنا كيف أنّ النص القرآني الكريم قد اعتمد عنصر (الصورة) في رسمه ردود الفعل التي صدرت عن المسلمين حيال الحشود العسكرية للعدو في معركة الخندق... هناك رسم عنصر (الخوف) مثلا في قوله تعالى زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ ، وها هو النص يجانس بين نمطي الاستجابة (الخائفة) من خلال عنصر الصورة... وأهمية هذا التجانس الفني في الاعتماد على عنصر الصورة يتمثّل في أنّ المنافقين ساهموا في بث روح (الخوف) عند ضعاف المسلمين. وهذا وحده كاف في تفسير أهمية التجانس بين الموقفين: الموقف المشفوع بالخوف هناك، ورسم (الخوف) - بصفته طابعا عاما للمنافق - في هذا المقطع. كما أنّه كاف في تفسير التجانس الذي يعتمد عنصر (الصورة) - بدلا من الكلام المباشر - في رسم هذين الموقفين...
لقد قدم النص صورة فنية عن طابع الخوف لدى المنافق على هذا النحو
ص: 472
فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ : رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ . هذه الصورة تنتسب إلى ما يمكن تسميته في اللغة الفنية ب (الصورة المزدوجة) أي أنّ هناك صورتين مركبتين نعتمد إحداهما على الاخرى من خلال الصورة ذاتها، فالصورة الأولى (وهي دوران العين) تجسد لغة مركبة ترمز إلى الخوف بمعنى أنّ هذا (الرمز) هو تعبير عن شدّة الخوف، إلاّ أنّ النص استعان برمز آخر لتوضيح الرمز الأول بالرمز الآخر هو كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ وأما الرمز الأول فهو دوران العين.
إنّ مثل هذا التركيب (الازدواجي) للصورة يظل واحدا من الطوابع المدهشة في لغة التعبير القرآني حيث نجد نظائره في مواقع خاصة تستدعي مثل هذا الازدواج في الصورة وهذا من نحو قوله تعالى: لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ ، كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوٰانٍ عَلَيْهِ تُرٰابٌ فَأَصٰابَهُ وٰابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً حيث أنّ الصورة الأولى كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ ترمز (من خلال أداة التشبيه) الى من يبطل صدقته بالمن والأذى، كما أنّ الصورة الثانية وهي فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوٰانٍ ترمز إلى الرمز الأول، بمعنى: أنّ من ينفق أمواله من خلال المن والأذى (يشبه) المرائي. والمرائي والمنفق أمواله من خلال الأذى يشبه الحجر الأملس الذى علاه التراب فأصابه الوابل فتركه صلدا... إلخ، فالرمزان هنا يفسر أحدهما بالآخر، كما أنهما يوظفان من أجل الطرف الأول من الصورة و هو الإتفاق المشفوع بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ ... المهم، أنّ ازدواجية الصورة تفرضها سياقات خاصة هي: إبراز أشد درجات الظاهرة المبحوث عنها، ففي صعيد الإبراز لدرجة (الخوف) الذي يطبع شخصية (المنافق) يتّجه النص إلى الصورة المزدوجة بدلا من الصورة العادية. نظرا لأنّ (الخوف) الذي يطبع المنافق هو (خوف) مركّب.
أحدهما: الخوف العام الذي يطبع سائر المضطربين نفسيا، والآخر: الخوف الخاص الذي يطيع (النفعيين) الذين يقوم سلوكهم أساسا على جلب (المنفعة)
ص: 473
لذواتهم، فهم من أجل هذه (المنفعة) يختارون سلوك (النفاق) يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان حفاظا على (النفعية) المشار إليها.
إذا، أمكننا أن نفسر السر الفني الكامن وراء هذه الصورة المزدوجة التي صاغها النص القرآني الكريم: في رسمه لطابع (الخوف) عند المنافق، حيث (رمز) أولا إلى (دوران العين) من الخوف، ثم رمز إلى هذا الأخير برمز آخر هو (الغشية من الموت) تعبيرا عن شدة الخوف في منتهى درجاته لدى المنافق بالنحو الذى لحظناه. والأمر نفسه بالنسبة إلى الطابع الآخر وهو (البخل) على نحو ما نتحدث عنه.
لاحظنا كيف أنّ النص القرآني الكريم رسم الجبن والخوف الذي يغلف شخصية المنافق عند حضوره ساحات القتال وذلك من خلال الصورة الفنية المزدوجه المدهشة فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ، كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ ...
أما الأن، فيقدم النص القرآني الكريم نماذج من الاستجابات (الخائفة) التي تغلّف سلوك المنافق بحيث تتناسب فنيا مع الصورة المزدوجة المشار إليها.
و يتمثل هذا الجبن أو الخوف عند المنافق في موقفه من معركة الخندق أو الأحزاب فضلا عن تثبيطه المجاهدين خلال المعركة وتحريضه على ترك ساحة القتال ومطالبتهم بالرجوع إلى أهاليهم واستئذان النبيّ (ص) الإعفاء عن المساهمة وقوله إنّ بيوتنا عورة وعهده ألاّ يولي هاربا من ساحات القتال. أقول فضلا عن هذه المواقف التي سردها النص قبيل صياغته للصورة الفنية المزدوجة فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ ، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فضلا عن هذه المواقف المفصحة عن أشد حالات الخوف
ص: 474
نجد أنّ النص يقدم لنا نموذجا آخر من استجابات المنافق المتصلة بشدّة الخوف واقترانه بأشد الحالات اضطرابا وشذوذا وتمزقا، ولنقرأ: يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزٰابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بٰادُونَ فِي اَلْأَعْرٰابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبٰائِكُمْ .
فالملاحظ هنا أنّ جيش العدو بعد أن أمدّ الله المسلمين بجنود من الملائكة والرياح في معركة الخندق والأحزاب، الملاحظ أنّ العدو قد انسحب من ساحة المعركة وانتهى الأمر. لكن بما أن الجبان لا يملك جهازا نفسيا سليما حينئذ فإنّ الاضطراب النفسي يظل يعمل عمله فيه حتى تتملّكه الوساوس والأوهام بحيث لا يفارق شبح العدو وهذا ما شخّصه النص القرآني الكريما في رسمه لشخصية المنافقين فبالرغم من أنّ العدو قد انسحب - كما قلنا لكن المنافقين - كما يقول النص (يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يخيل إليهم أن العدو لم ينسحب بعد من ساحة القتال، وما هذا إلاّ لشدّة المخاوف المرضية لديهم. فالمعروف في لغة علم النفس المرضي أنّ عصاب الخوف (وهو واحد من أنماط العصاب المعروفة لا يستند إلى خوف حقيقي بل إلى تجربة مؤلمة تحفر آثارها في عصب المريض وهذا ما شخصه النص القرآني الكريم حينما أوضح الأوهام والتخيّلات والوساوس المرضية التي تنتاب المنافقين حتى أنّهم يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لَمْ يَذْهَبُوا مع أنهم قد ذهبوا فعلا ولا أثر لهم في ساحة القتال.
وهذا نموذج واحد من استجاباتهم الخائفة.
أما النموذج الآخر فيقدّمه النص على هذا النحو وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزٰابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بٰادُونَ فِي اَلْأَعْرٰابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبٰائِكُمْ بمعنى أنّ الأحزاب أو العدو لو قدر له أن يعود من جديد إلى مهاجمة المسلمين، حينئذ فإنّ المنافقين نظرا لطابع الخوف الذى يغلّفهم يتمنون - وهذا واحد من الاستجابات
ص: 475
المرضية - لو أنّهم كانوا في البادية مع الأعراب حتى يتخلّصوا من شبح القتال.
ويتبلور الخوف بشكل مقرون بالتصارع والتمزق والانشطار النفسي يتبلور في سلوك آخر هو أنّهم يسألون عن أخبار المعركة هناك. وهذا السؤال عن أخبار المعركة يقارن إما بإجابة مبشرة بالنصر أو عكس ذلك، وحينئذ فإنّ ردود الفعل ستأخذ مظهرين أشار النص القرآني إليهما خلال رسمه لأعراض الخوف المرضي لدى المنافقين حيث أوضح في مقدمة الصورة المزدوجة القائلة (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ ... إلخ) ثم كرّر النص ذلك بقوله (أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ) فالشحّ أو البخل هو السمة الأخرى التي تقرن مع الجبن طالما تظل (النفعية) هي المحرّك لسلوك المنافق الذي يستبطن الكفر ويظهر الإيمان تحقيقا لاستمرارية (المنفعة الذاتية) فهو يحيي طابع (الخوف) حفاظ على حياته النفعية وهو (يبخل) بالمال حفاظا على نفعيته أيضا كما هو واضح لذلك وصف النص المنافقين بأنّهم أشحّة على المسلمين ثم كرر الوصف قائلا أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ فعملية التكرار تفصح عن شدّة البخل الذي يطبع المنافق وهي شدّة متجانسة مع شدة الخوف كما هو بيّن...
المهم إن سؤال المنافقين أو استخبارهم لنتائج المعارك سوف تقرن في حالة النصر بعملية (البخل) أو (الشحّ ) الذي أشار النص القرآني إليه وهي سمة عامة بطبيعة الحال أشار النص في المرة الأولى إلى الشح بعامة حينما وصف المنافقين بأنهم أشحّة على المسلمين وأشار في المرة الأخرى إلى طابعه الخاص بقوله أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أي: يشاحّون المسلمين في غنائهم، وحتي لو انسقنا مع التفسير الذاهب إلى أن الشحّ هنا بمعنى البخل في المشاركة العسكرية أو البخل بكلام الخير، ففي الحالات جميعا يظل (البخل) سمة ترتبط بتمحور الشخص حول (منفعته الذاتية) مادية كانت أم معنوية. وأيا كان يعنينا مما تقدم أن نشير إلى أن هذا الرسم التفصيلي لسمات الشخوص المنافقة
ص: 476
يظل فضلا عن دلالاتها الفكرية المشار إليها مرتبطا بعمارة السورة الكريمة حيث طرحت مقدمة السورة قضية الكفر والنفاق وحذرت من إطاعة أصحابهما اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ ، وها هو المقطع الذي انتهينا من الحديث عنه يطرح تفصيلات هذا الجانب بحيث نلحظ خطوطا مختلفة من الإحكام الهندسي للنص داخل المقطع الواحد مضافا إلى تلاحم المقاطع بعضا مع الآخر بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: وَ لَمّٰا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزٰابَ قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ ، وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً، مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ اَلصّٰادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنْ شٰاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً، وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنٰالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتٰالَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ قَوِيًّا عَزِيزاً، وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظٰاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مِنْ صَيٰاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيٰارَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً .
بهذا المقطع ينتهي القسم الثاني من سورة الأحزاب حيث تضمن هذا القسم: التذكر بمعركة الأحزاب أو الخندق التي نصر اللّه فيها المسلمين من خلال إمدادهم بجنود من الملائكة والقوى الكونية الأخرى.
لقد كانت معركة الخندق محفوفة بالشدائد العسكرية وكان عنصر (الابتلاء) أو (الاختبار) يقوم وراء هذه الشدائد كما صرح النص القرآني الكريم بذلك.
من هنا فشل المنافقون وضعاف النفوس من اجتياز مرحلة الاختبار بنجاح حيث عرض لنا النص ردود الفعل المشار إليها عبر عرض قصصي ممتع
ص: 477
وقفنا عليه مفصلا وها هو النص يعرض ردود الفعل أو الاستجابات التي صدرت عن المؤمنين الملتزمين حيال المعركة المذكورة..
إنّ الفارق بين المنافقين والملتزمين الإسلاميين أنّ المنافقين صدروا عن استجابات مريضة عبرت عن وساخة أعماقهم بنحو ما عرضه النص مفصلا حيث سخروا من النبيّ (ص) غداة بشر المسلمين بأنّ اللّه سيفتح له اليمن والشام والمغرب و المشرق. وردّدوا بكل وقاحة مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً فضلا عن مواقفهم الأخرى التي طبعها الجبن والبخل خلال مواجهتم لهذه المعركة.
أما الإسلاميّون الملتزمون فعلى العكس من ذلك.
لقد تكفل هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن: بعرض المواقف التى صدرت عنهم حيال معركة الأحزاب حيث يتضمن بنحو فني غير مباشر مقارنة بين المؤمنين وبين المنافقين...
لقد كانت ردود الفعل الإسلامية حيال معركة الأحزاب بهذا النحو وَ لَمّٰا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزٰابَ قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لقد آمن الملتزمون الإسلاميّون بما وعدهم الله ورسوله من النصر بالرغم من مشاهدتهم بادىء الأمر الحشو العسكرية التي جنّدها العدو من مختلف طوائف المشركين ومختلف طوائف اليهود بل إنّ شدائد المعركة زادتهم إيمانا باللّه وتسليما له كما يقول النص، إنهم مسرورون بالاستشهاد في سبيل اللّه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ في معار سابقة ومنهم من ينتظر الاستشهاد لا حقا وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ما غيّروا العهد الذي أخذوه على أنفسهم في الجهاد من أجل اللّه تعالى.
هنا ينبغي أن نقف على البناء الهندسي لهذا المقطع الذي يتحدث عن
ص: 478
المؤمنين وصلته بالمقاطع السابقة التي تحدثت عن المنافقين ففضلا عن أنّ الحديث عن المؤمنين أخذ موقعه الهندسي الجميل من عمارة النص التي بدأت الحديث عن الكافرين فالمنافقين فضعاف النفوس، ثم ما واكب ذلك من نقض العهود بالنسبة للمنافقين وبالنسبة لليهود أيضا حيث كانت بعض طوائفهم قد عاهدت النبيّ (ص) بالمسالمة ثم نقضت العهد. كل ذلك نجد انعكاساته فنيا على هذا المقطع الذي يتحدث عن المؤمنين الملتزمين فهؤلاء أي الشخصيات الإسلامية الملتزمة صدقت فيما عاهدت الله عليه. مقابل الغدر و الكذب ونقض العهد الذي طبع المنافقين واليهود وضعاف النفوس كما أنّ المؤمنين. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر الاستشهاد في سبيل الله:
مقابل أولئك الذين هربوا من سوح المعارك وتشبثوا بمختلف الأعذار والتسويغات المرضية الكاشفة عن وساختهم واضطرابهم وخبثهم وبخلهم. إلخ إذا. نحن الآن حيال عمارة محكمة هندسيا تتقابل فيها الخطوط التي يستخلص المتلقي منها. مقارنات مختلفة بني مؤمنين ملتزمين وبين رهوط اجتماعية مختلفة تطبعها سمة الانحراف مشركين أو كتابيين أو ضعاف نفس...
هذا فضلا عن الإحكام الهندسي الجميل الذي سنلاحظه: عندما يختم النص القرآني الكريم هذا القسم من السورة به ألا وهو المعركة الإسلامية التي تنتهي بهزيمة اليهود الذين تعاونوا مع المشركين بعد أن رسم الهزيمة العسكرية التي لحقت المشركين، حيث يفصح مثل هذا التقابل عن مستويات النمو الفني للمقاطع القرآنية الكريمة بعضها مع الآخر بنحو ما لحظناه.
الملاحظ أن معركة الأحزاب أو الخندق التي تكفل القسم الثاني من سورة الأحزاب برسمها، قد اقترنت بجملة من الموضوعات والمواقف التي صاغها النص وفق عمارة خاصة من الإحكام الهندسي الجميل. فالسورة
ص: 479
الكريمة قد استهلت بالتحذير من الكافرين و المنافقين (مما يعني أنّ للكافرين والمنافقين دورا سوف يطرحه النص في أقسام لاحقة من السورة الكريمة وفعلا: جاءت معركة الأحزاب أو الخندق لترسم لنا مواقف المشركين والمنافقين في هذا الميدان. وقد سبق أن وقفنا مفصلا على الدور الّذي مارسه الكافرون والمنافقون...
أما الآن، فإن النص القرآني يرسم لنا نتائج الدور المشار إليه، وهو الهزيمة العسكرية التي لحقت أعداء الإسلام...
ويلاحظ: أن اليهود قد تكتلوا مع المشركين في معركة الأحزاب، وهذا يعني أنّ النص سوف يرسم الهزيمة العسكرية التي تلحقهم، مضافا إلى ذلك فإن سمة (النفاق) تنسحب على الدور اليهودي أيضا حيث تذكر لنا النصوص المفسرة بأنّ اليهود جاملوا المشركين في ذهابهم إلى أنّ عقائد المشركين خير من رسالة الإسلام، وهو أمر يجسد قمة النفاق كما هو واضح. إذا من حيث الهيكل الهندسي للسورة ينبغي أن نضع في الاعتبار أن استهلال السورة بالتحذير من الكفار و المنافقين قد انعكس فنيا على فئات المشركين واليهود المنافقين... والمهم أنّ النص وهو يختم حديثه عن معركة الخندق يجيء إلى هذه الرهوط الثلاثة: فيحسم مصائرهم: كلا بحسب موقف. أما المنافقون فقد نقلهم إلى الجزاء الأخروي بصفة أنّهم كانوا في الظاهر مع جيوش المسلمين ولم يشهروا السلاح ضدهم. وأما المشركون واليهود فقد تكفل النص برسم هزيمتهم العسكرية، حيث يقول:
وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنٰالُوا خَيْراً حيث جاءت جنود من الملائكة والقوى الكونية الأخرى فهزمتهم شر هزيمة...
وأما اليهود بخاصة (وهم يستوطنون المدينة) فقد رسم النص هزيمتهم من خلال معركة أخرى أعقبت معركة الأحزاب مباشرة حيث تحدّث عن ذلك
ص: 480
قائلا وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظٰاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مِنْ صَيٰاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيٰارَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهٰا، وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً .
إنّ هذه المعركة مع اليهود ربطها النص (من الزاوية الفنية) بموقف اليهود من المسلمين ومساندتهم المشركين وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظٰاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ أي: اليهود الذين ظاهروا المشركين في معركة الخندق، حيث انهاهم عسكريا من خلال هزيمة تتناسب خطورتها مع خطورة الدور السلبي الذي مارسوه:
فقد أنزلهم الله من صياصيهم (مقابل: الشموخ الذي صدروا عنه غداة تعاونهم مع المشركين) وقذف في قلوبهم الرعب (مقابل الإسناد العسكري الذي قدموه للمشركين مضافا إلى قتل البعض منهم وأسر البعض الآخر مما يضاعف من حجم الرعب) ثم أورث المسلمين ديار اليهود وأرضهم وأموالهم فضلا عن أرض أخرى تم الاستيلاء عليها (مقابل. تركهم المؤقت لأرضهم وزحفهم مع المشركين في الحشود العسكرية التي أقاموها حيال المسلمين).
المهم، أنّ النص القرآني الكريم (وهو يتحدّث عن نعمة اللّه وتذكير المسلمين بالنصر الّذي أمدّهم به في معركة الاّحزاب من خلال الإسناد الغيبي (الملائكة والقوى الكونية الأخرى) إنّما تمت صياغته وفق مبنى هندسي محكم عرض فيه مختلف أنماط السلوك حيال المعركة المذكورة سلوك المشركين، واليهود، والمنافقين، وضعاف النفوس، مقابل الإسلاميين الملتزمين، كل ذلك وفق عمارة هندسية محكمة تتلاحم فيها أجزاء المقطع بعضا مع الاخر فضلا عن تلاحم المقاطع جميعا بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ . إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً...
ص: 481
قال تعالى يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ . إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً...
بهذا المقطع وما بعده يبدأ القسم الثالث من سورة الأحزاب، قد تحدّث هذا المقطع عن ظاهرة (الأسرة) وهي الظاهرة التي تشكل (الموضوع العام) لسورة الأحزاب: حيث بدأ القسم الأول من السورة بالحديث عن (الأسرة) طارحا من خلالها مفهومات تتصل بالظهار والتبني والميراث. ثم قطع النص حديثه عن الأسرة ليعرض لنا حدثا عسكريا هو معركة الأحزاب أو الخندق عبر سياق خاص مرتبط بمقدمة السورة أوضحناه في حينه. وها هو النص:
يتابع حديثه عن (الأسرة) لكن في طرح جديد خلال هذا القسم الثالث من.
السورة الكريمة.
لقد طرح النص في القسم الأول من السورة موضوعات تتصل بالموروث الجاهلي. أما الأن فبطرح: موضوعات تتصل بالسلوك الإسلامي متمثلا في سياق خاص هو (أزواج النبيّ (ص)... إلاّ أنّ (الأفكار المستهدفة) فيها تشعّ بطبيعة الحال بالسلوك العبادي العام لمطلق الإسلاميين.
الأفكار هي: الموازنة بين الرغبة في زينة الحياة الدنيا والرغبة في الدار الاخرة فمن يرد زينة الحياة فله حظه من ذلك ومن يرد الآخرة فإنّ اللّه تعالى أعد له أجرا عظيما... هذه الأفكار قدّمها النص من خلال مخاطبة النبيّ (ص) لا زواجه لكنها كما قلنا تظلّ مرشحة فنيا بدلالاتها العامة المنسحبة على مطلق السلوك البشرى: من حيث الموازنة بين ما هو دنيوي وما هو أخروي وأنّ الرغبة حيال أحدهما لا يتوافق مع الرغبة حيال الآخر.
هنا يجب أن تنذكر أنّ القسم الأول من السورة طرح خلال حديثه عق (الأسرة) مفهوما فكريا هو مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وها هو المفهوم المشار إليه ينعكس على هذا المقطع الذي يتحدّث عن الرغبة في زينة الحياة والرغبة المتجهة إلى اللّه تعالى والرسول (ص) والدار الآخرة حيث لا
ص: 482
يمكن أن تجتمع رغبتان في قلب الشخص مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فإمّا القلب المتّجه إلى زينة الحياة الدنيا، وإما القلب المتّجه إلى اللّه والرسول والدار الآخرة.
إذا، للمرة الجديدة ينبغي ألاّ نغفل (ونحن نعني بعمارة السورة القرآنية الكريمة) هذا التلاحم والتواشح بين أقسام السورة التي ينهض كل قسم منها بطرح جديد لكن وفق خيط فني يربط بينها جميعا.
ونتابع القسم الجديد فنواجه أفكارا تحوم على السلوك الجنسي مثل:
مطالبته المرأة بعدم التبرّج، وبعدم ترقيق الصوت... وقد قرن عدم التبرّج بالاستقرار في بيوتهن، كما قرن عدم ترقيق الصوت بما يستتليه من استثارة الدافع الجنسي للمضطربين نفسيا بخاصة...
ثم طالب مقابل ذلك بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتلاوة القرآن، مع التلويح بالأجر الأخروي لكل من الرجل والمرأة عبر التزامهما بالممارسات العبادية الآتية الإسلام، الإيمان، التصدّق، القنوت، الصدق، الصبر، الخشوع، حفظ الفروج، ذكر اللّه تعالى.
واضح، أنّه بالرغم من أنّ السياق خاص بالحديث عن أزواج النبيّ (ص) إلاّ أنّ الهدف - فنيا - هو: الشخصية الإسلامية بعامة: كما قلنا. والأهمّ من ذلك أنّ النصّ سلك منحى فنيا لتقرير هذه الحقيقة حينما صاغ سمات الشخصية العبادية بقوله تعالى:
إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ ، وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ، وَ اَلْقٰانِتِينَ وَ اَلْقٰانِتٰاتِ ، وَ اَلصّٰادِقِينَ وَ اَلصّٰادِقٰاتِ ، وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ اَلصّٰابِرٰاتِ ، وَ اَلْخٰاشِعِينَ وَ اَلْخٰاشِعٰاتِ ، وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقٰاتِ ، وَ اَلصّٰائِمِينَ وَ اَلصّٰائِمٰاتِ ، وَ اَلْحٰافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحٰافِظٰاتِ ، وَ اَلذّٰاكِرِينَ اَللّٰهَ كَثِيراً وَ اَلذّٰاكِرٰاتِ . أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً...) .
فالملاحظ أنّ النص انتقل من (الخاص) إلى (العام)، من الحديث عن
ص: 483
أزواج النبي (ص) إلى الحديث عن مطلق المسلمين: رجالا و نساء، انتقل من الحديث عن أفكار خاصة (تتصل بالسلوك الجنسي) إلى أفكار عامة تتصل بالإيمان، والصدقة، والصبر... إلخ. وهذه هي سمة (الفن العظيم) كما هو واضح. ومما تجدر ملاحظته هنا، أن النص طرح أيضا قضيتين خاصتين بالنبي (ص) وأهل بيته (ع): احداهما: قضية إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً حيث أوضحت النصوص المفسرة بأنها نزلت في محمد و علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، و أما القضية الخاصة الآخرى فهي: قضية النبي (ص) مع مولاه زيد بن حارثة وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ... إلخ. حيث يستخلص المتلقي من هاتين القضيتين (مع أنّهما خاصتان) أبعادا عامة يتصل بعضها بتقرير حقائق عبادية ذات مغزى خطيرا مثل عصمة أهل البيت عليهم السلام، ويتصل بعضها بمسائل اجتماعية وأخلاقية قد استهدفها النص مثل: تزويجه ابنة عمته (ص) من مولى له، ثم تزويجه النبيّ (ص) ذاته حيث أوضح النص: البعد الاجتماعي والإنساني لهذه القضية بقوله تعالى فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً... وبذلك: تكون هذه القضية: إبطالا للأعراف الجاهلية التي لا تسمح بمثل هذا الزواج...
أخيرا، ينبغي (من حيث عمارة النص) أن تتذكر بأنّ القسم الأول من سورة الأحزاب تكفل أيضا بإبطال مفاهيم أسرية تتصل بالظهار والتبنّي والميراث... وبهذا نتبين مدى الإحكام الهندسي للسورة الكريمة من حيث تلاحم أقسامها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً
ص: 484
وَ أَصِيلاً هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاٰئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كٰانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاٰمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ دٰاعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرٰاجاً مُنِيراً وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ فَضْلاً كَبِيراً وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً .
هذا هو القسم الرابع من سورة الأحزاب. ويتميز هذا المقطع بكونه لغة خاصة من الحبّ يتجه بها اللّه تعالى إلى العبد مطالبا إياه بلغة خاصة من الحب أيضا.. يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً وسواء أكان المقصود من ذكر اللّه كثيرا هو أن لا ينساه أبدا أو كان المقصود منه التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير (سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا الله واللّه أكبر) أو كان من مصاديقه تسبيح الزهراء عليها السلام. في الحالات جميعا تظل عملية ذكر اللّه مرتبطة بإدراك العبد لوظيفته العبادية التي خلقه اللّه من أجلها. والأمر نفسه بالنسبة إلى المطالبة بتسبيحه بكرة وأصيلا وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً حيث تفاوتت النصوص المفسرة بين كونه أي التسبيح وتنزيه اللّه تعالى أو كونه إشارة إلى الصلاة المفروضة: بكرة وهي صلاة الصبح وأصيلا وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء أو بعضها خاصة. ففي الحالات جميعا تظل عملية الصلاة أو التنزيه أو التقديس مضافا إلى ذكر اللّه كثيرا. هي التعبير الحيّ المجسد لعواطف العبد مقابل عظمة اللّه تعالى ومعطياته (بالرغم من أنّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته) إلاّ أنّ الذكر الكثير والصلاة أو التسبيح تظل تجسيدا (ولو في صعيد محدد) لظاهرة الحب! مقابل ذلك نجد أن معطيات اللّه تعالى لا يمكن أن نتمثلها في صعيد محدّد عندما يغمر عبده بالحب على هذا النسق الذي يقرّر (هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاٰئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كٰانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاٰمٌ ...)
ص: 485
لنلاحظ، كيف أنّ المعطيات من قبل اللّه تعالى خلال لغة الحب تتضخم لدرجة الصلاة منه تعالى على العبد (والصلاة من اللّه تعني هنا: الرحمة والمغفرة) ليس هذا فحسب بل إنّ ملائكته يطلبون أيضا إنزال الرحمة منه تعالى على العبد، ثم وهذا معطى آخر إنّه تعالى يخرج العبد من الظلمات إلى النور، ثم وهذا معطى ثالث يتجسد في أوّل ملتقى من اليوم الآخر (تَحِيَّتُهُمْ - يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ - سَلاٰمٌ ) ثم وهذا معطى رابع في اليوم الآخر أيضا وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً .
لنلاحظ (من حيث البناء الهندسي لهذا المقطع) كيف يتوازن معطيان دنيويان من قبل اللّه تعالى مع معطيين اخرويين الصلاة والنور دنيويا والسلام والأجر أخرويا.
ثم: لنلاحظ (من حيث البناء الهندسي لهذا المقطع وصلته بهيكل السورة عموما) كيف أنّه وصل بين المقطع الأسبق الذي أشار إلى الذاكرين الله كثيرا والذاكرات: أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً و هذا المقطع الذي أشار اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً وإلى أنّه أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً .
ثم لنلاحظ كيف أنّ مقدمة سورة الأحزاب قد استهلّت حديثها بهذه المطالبة وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ ثم بهذه المطالبة الأخرى وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً وها هو المقطع الذي نتحدّث عنه الآن يختم بنفس هاتين المطالبتين بعد أن يجمعهما في فقرة أو آية واحدة وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً .
أرأيت إلى هذا الوصل الفني بين مقدمة السورة ووسطها حيث تنسحب فكرة عدم إطاعة الكافر والمنافقين وفكرة التوكل على اللّه والكفاية به وكيلا على أكثر من مقطع وأكثر من موضوع. إنّها تنسحب على موضوع مثل الجهاد في سبيل الله تعالى ومثل قضايا الأسرة ومثل ذكر الله وتسبيحه حيث عرضت
ص: 486
الأقسام السابقة من السورة لقضايا الاّسرة والجهاد و الذكر وحيث تنسحب هذه الفكرة ذاتها على موضوعات لاحقة أيضا. كلّ أولئك يكشف لنا عن مدى إحكام البناء الهندسي للسورة الكريمة من حيث تلاحم وتنامي وتواصل موضوعاته وأفكارها بعضا مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اَللّٰهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً .
في هذا المقطع جملة من الموضوعات المتصلة بالتعامل مع النبيّ (ص) في نطاق الطرح العام الذي انتظم هيكل السورة، ونعني به قضايا (الأسرة) وما ترتبط بها من أشكال التنظيم لهذه الوحدة الاجتماعية. وقد سبق هذا المقطع طرح للتعامل مع النبيّ (ص) في نطاق التعامل الأسري أيضا. وهذا يعني أننا أمام هيكل فني خاص ينتظم سورة الأحزاب حيث تظل شخصية الرسول (ص) هي الرافد الذي تصبّ فيه وتتفرّع عنه قضايا التنظيم للأسرة في مختلف وظائفها. لقد طرح النص قضايا تخصّ شخصية الرسول (ص) وأزواجه، إلاّ أنّ الأهداف الفكرية التي أبرزها هذا الطرح تظل من الوضوح بمكان كبير، منها مثلا قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاٰ
ص: 487
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ ومنها: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ إنّ أمثلة هذا الطرح بالرغم من أنّه جاء في صعيد الحديث عن النبيّ (ص) إلاّ أنّه (من الزاوية الفنية) يتضمّن أفكارا يستهدف النص توصيلها إلينا نحن المتلقين، وفي مقدمتها: التعامل بين الجنسين حيث طالب النص كلا من الرجل والمرأة بألاّ يسمحا لأنفسهما بأي سلوك يستثير الرغبات الجنسية غير المشروعة. طالب الرجل بألاّ يتحدّث مع المرأة إلاّ من وراء حجاب. وطالب المرأة بأن تحتجب عن الرجل، أي هناك موازنة فنية بين كلّ من الرجل والمرأة في مطالبتهما بنظافة السلوك مبينا السر الكامن وراء الحجاب بقول ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ .
ويلاحظ أن المقطع اتجه بعد ذلك إلى الحديث عن المنافقين رابطا بين سلوك المنافقين الجنسي وسلوكهم الفكريّ العام وذلك بقوله لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ ... .
إنّ هذا الربط بين السلوك الجنسي وبين المنافقين من جانب وبين المنافقين من جانب وبين المنافقين وبين موقفهم الفكري من رسالة الإسلا هذا الربط ينطوي على أهمية كبيرة من حيث البناء الفني لهيكل السور الكريمة.. فالمنافقون شكلوا منذ استهلّت السورة موضع تحذير من سلوكهم حيث استهلت السورة بهذه الآية يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وها هو النص يربط بين مقدمة السورة التي حذرت من المنافقين وبين التحذير الجديد الذي نتحدث عنه في هذا المقطع لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ .
وهذا جانب واحد من الربط الفني بين مقدمة السورة ووسطها. أمّا
ص: 488
الجانب الآخر من الربط الفني فيتمثل في العلاقة التي أوجدها المقطع بين السلوك الجنسي بعامة وبين السلوك الجنسي الذي يطبع المنافقين حيث كان تعاملهم الجنسي المنحرف مفضوحا حسب ما ذكرته النصوص المفسّرة. وأما الرّبط الفني الثالث فهو إيجاد العلاقة بين سلوك المنافقين الجنسي وبين سلوكهم الفكري حيال رسالة الإسلام حيث مارسوا مختلف الأراجيف للتأثير على معنوية المسلمين من نحو الإيحاء بهزيمة المسلمين في معاركهم وإبراز هيمنة جنود الكفر إلخ.
والمهم أنّ هذا الربط بين موضوعات المقطع الواحد ثم الربط بين المقاطع جميعا من خلال وصل مقدمة السورة بوسطها وخاتمتها يظل إفصاحا عن مدى إحكام الهيكل الهندسي وجماليته على النحو الذي فصّلنا الحديث عنه.
قال تعالى: يَسْئَلُكَ اَلنّٰاسُ عَنِ اَلسّٰاعَةِ قُلْ : إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ اَللّٰهِ وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِنَّ اَللّٰهَ لَعَنَ اَلْكٰافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً، لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ يَقُولُونَ يٰا لَيْتَنٰا أَطَعْنَا اَللّٰهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ وَ قٰالُوا: رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
في هذا المقطع عرض للبيئة الأخروية وما يترتب فيها من الجزاء السلبي على الكافرين... علما بأن مقاطع سابقة من السورة تكفلت بعرض البيئة الدنيوية وما ترتب فيها من الجزاء السلبي على الكافرين وهو: الهزيمة العسكرية التي لحقتهم... أما الآن فيتحدث النص عن الهزيمة الأخروية متمثلة في نار جهنم. وقد ركز النص على ردود الفعل التي تصدر عن الكافرين عبر شقلّب وجوههم في النار حيال سادتهم وكبرائهم الذين أضلّوهم السبيل
ص: 489
حيث طالبوا بأن يعذبهم اللّه ضعفين من العذاب.
من الزاوية الفنية ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ إبراز هذا النمط من ردّ الفعل الذي يصدر عن عامة الناس حيال قادة الكفر له فاعليته الكبيرة في ميدان العلاقة بين التابع والمتبوع. فالتابع (في تجربته الدنيوية) منقاد ومطيع وسعيد بمشاعر التبعية للرؤساء. وأما الرؤساء منهم فرحون (في تجربتهم الدنيوية) بهذا الموقع الاجتماعي، وبمشاعر التعالي والسيطرة على تابعيهم... وحينما تتبدل الأحاسيس وتتلاشى المواقع (في التجربة الاخروية) بحيث تتحول مشاعر التابعين إلى تمرد وعدوان على رؤسائهم في المطالبة إتيانهم ضعفين من العذاب حينئذ فإنّ أحاسيس الرؤساء تأخذ منحى متميزا من الشدة النفسية يتناسب مع شدة العذاب الجسدي الذي طولب بإنزاله عليهم، فليس من السهولة بأن يواجه المتعالي والمتكبر والمسيطر أتباعه وهم (في لحظة خسرانه لموقعه الدنيوى) يطالبون بإنزال العذاب المضاعف عليه بعد أن كانوا في قبضة يده متفادين مطيعين. كما أنّ الشدة النفسية تأخذ نفس الطابع بالنسبة إلى هؤلاء المطيعين رؤساءهم، فهم في غمرة معايشتهم لأحاسيس التبعية في الدنيا وما واكب هذه الأحاسيس من كراهية مستبطنة لرؤسائهم بصفة أنّ المنقاد لمن هو أعلى موقعا منه يحيا أحاسيس مزدوجة في آن واحد، فهو من جانب سعيد بتبعيته ما دام الواقع الاجتماعي يفرض عليه ذلك، وهو كاره لهذه التبعية أيضا من جانب آخر ما دام متحسسا بدونيته مقابل سيطرة الآخرين. لذلك عندما يواجه التابع أن جزاء تبعيته هو (نار جهنم) حينئذ فإنّ شدائده النفسية تأخذ بالتضخم بحيث تنعكس على مطالبة اللّه تعالى بأن ينزل العذاب ضعفين على من أضلّه وترأس عليه في الدنيا أي: أنّ مضاعفة الشدة النفسية لديه انعكست على مطالبته بمضاعفة العذاب على رؤسائه الذين أنقاد إليهم.
إذا، جاء عرض البيئة الأخروية بهذا النمط من المواقف التي تعكس
ص: 490
أحاسيس الشخوص الذين انقادوا لرؤسائهم المنحرفين، جاء هذا العرض مشحونا بفاعلية ضخمة في ميدان الصياغة الفنية للنص، بما تستتبعه مثل هذه الفاعلية من إحداث التأثير المطلوب على المتلقي، بغية أن يعدل من سلوكه في تجربته العبادية التي خلق أساسا من أجل اجتيازها بنجاح.
وأيا كان ينبغي ألاّ نغفل أيضا بأنّ هذه الموازنة الفنية بين مشاعر الكافرين، قد واكبتها موازنة فنية أخرى هي: أنّ سورة الأحزاب قد استهلّت بالحديث عن المطالبة بعدم إطاعة الكافرين والمنافقين، وها هو المقطع الذي نتحدّث عنه، يبرز لنا نتيجة الإطاعة للكافرين حيث يترتب عليها مثل هذا الموقف الذي عرضه النص القرآني الكريم. وهو أمر يكشف عن مدى إحكام وجمالية الهيكل الهندسي للسورة الكريمة بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً، يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً، إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا، وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً .
بهذا المقطع تختم سورة الأحزاب.
وقد تضمّن هذا المقطع: ثلاثة موضوعات ينبغي أن نعرض لها في ضوء ما تتضمنه من دلالات وفي ضوء ارتباطها بهيكل السورة وعمارتها الفنية.
الموضوع الأول: يطالب المؤمنين بأن يكون تعاملهم اللفظي سديدا، وألاّ يكونوا كالذين آذوا موسى. إن مطالبة المؤمنين أن بألّا يكونوا كأقوام
ص: 491
موسى عليه السلام يعني أنّ اليهود يتميزون عن غيرهم من الطوائف و المجتمات بكونهم أشدّ الناس مرضا و انحرافا و عدوانا بحيث كان أذاهم لنبيهم موسى عليه السلام معلما بارزا في سلوكهم لدرجة أنّهم أصبحوا طرفا لعملية (التشبيه) الفني. ونحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ التركيب الفني للصورة إنّما يرتكن إلى مسوغات نفسية أو مادية هي: إحداث علاقة بين طرفين وأنّ الطرف الأول منهما يتميز بكونه أشدّ بروزا، حينئذ ندرك دلالة هذا التشبيه أي. تشبيه المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام بشخصية اليهودى لأمكننا أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه الحقيقة، وهي ضرورة أن يكون الطرف الأول من التشبيه أشدّ بروزا وفاعلية من الطرف الآخر. وحيت نستحضر في أذهاننا على سبيل المثال أنّ النص القرآني الكريم شبه في سورة البقرة قلوب اليهود بأنها (كالحجارة وأشد قوة) فالحجارة (وهي الطرف الأول من عنصر التشبيه) تتميز بكونها أشد بروزا من القلب البشرى بالنسبة إلى مفهوم (القوة) لذلك جاء المسوّغ الفني لإحداث العلاقة بين الحجارة وقلب اليهودى صحيح أنّ التشبيه المذكور لم يكتف في إحداث العلاقة بين قلب اليهودى والحجارة بمجرد إبراز الضخامة التي ينطوي الحجر عليها بالنسبة لانعدام الإحساس بالرحمة بل تجاوز ذلك إلى القول بأنّ قلب اليهودي أشدّ قسوة من الحجارة، لأنّ من المجر ما ينبع منه الماء ويشقق منه النهر بل و فيه ما يسبح الله تعالى ويشفق منه. لكن في الحالين يظل انعدام الإحساس الإنساني فى الحجارة هو المسوغ لعملية التشبيه المذكور. والمهم هو أن نحدّد فنيا بأنّ تحذير المقطع القرآني الذي نتحدث عنه في سورة الأحزاب من أن يصبح المعاصرون لرسالة الإسلام مثل قوم موسى في إيذائهم إياه، هذا التحذير من خلال التشبيه المشار إليه ينطوي على خطورة فنية لا ينبغي أن نمرّ عليها عابر (بخاصة أنّ الممارسات العدوانية التي نلحظها فى تعامل إسرائيل حاليا) تعزز أهمية مثل هذا التشبيه القرآني الكريم في حرصه على إبراز الشخصية اليهودية
ص: 492
بكونها مثالا وسخا للانحراف و العدوان بحيث تصبح مسوغا لأن تصاغ طرفا للتشبيه في صياغة الصور الفنية.
ويلاحظ، أنّ التشبيه الفني المذكور أبهم نوع الممارسات العدوانية التي صدرت عن اليهود حيال موسى عليه السلام بل أكدت مفهوم (الأذى) فحسب دون تحديد أنواعه (لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ ) مع إبراز براءة موسى (فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا) وهذا يعني أن (الممارسات اللفظية) بصفتها أحد وجوه العدوان قد استهدف المقطع القرآني الكريم إبرازها حيث تستخلص من الزاوية الفنية أنّ التهم والأكاذيب والأراجيف شكلت تجسيدا لمفهوم الأذى بخاصة أن مخاطبة المؤمنين بقوله تعالى: اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يدعم هذا الاستخلاص الفني وهو أمر يكشف فضلا عما تقدّم من الوجوه الفنية السابقة عن دلالة فنية جديدة هي التلاحم أو التواشج العضوي أو الهندسي بين جزيئات المقطع الذي نتحدث عنه فإذا أضفنا إلى ذلك صلة هذا المقطع الذي يتحدث عن طرف التشبيه باليهود إلى حادثة مشاركة اليهود للمشركين في معركة الأحزاب أو الخندق التي تكفل أحد مقاطع السورة بعرضها، حينئذ ندرك أهمية عمارة السورة الكريمة من حيث تلاحم وتواشج مقاطعها. بعضا مع الآخر فضلا عن تواشج أجزاء المقطع الواحد بعضا مع الآخر بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً .
إنّ حمل الأمانة أو الخلافة أو المسؤولية العبادية ليست بالأمر الذي يمرّ عابرا دون أن يواكبه الإشفاق: وذلك لخطورة مثل هذه الأمانة. فالإنسان -
ص: 493
أساسا - لم يخلق إلّا من أجل تحمّل هذه المسؤولية و ممارستها بنجاح مما يعني أن التقصير في ممارسة ذلك يعدّ إفصاحا عن ظلم الإنسان و جهله بمبادىء هذه المسؤولية... وهذا ما أوضحته الآية القرآنية الكريمة حينما وازنت بين كلّ من (الإنسان) الذي تحمل مسؤولية الخلافة وبين السماوات والأرض والجبال حيث أشفقن من تحمل ذلك.
بغض النظر عن النصوص المتفاوتة في تفسير دلالة العرض والأمان والحمل والإشفاق بالنسبة للسموات والأرض والجبال إلاّ أنّ المتلقي من الزاوية الفنية بمقدوره أن يستخلص ما سبق أن أوضحناه من دلالة تحمل الإنسان لمسؤوليته العبادية التي خلق من أجل ممارستها بنجاح... والمهم أنّ النص عندما أبرز سمتين سلبيتين للإنسان وهما (الظلم والجهل) إنّما وصل بين تينك السمتين وبين حمل الإنسان للأمانة، بمعنى أن (جهله) من جانب بمبادىء الخلافة في الأرض، وتعمّده بأن يمارس (الظلم) إتباعا لرغباته غير المشروعة من جانب آخر - هو المفسّر لهذه الحقيقة.
إنّ السماوات والأرض والجبال حسب نصوص القرآن والحديث تمارس وظائف عبادية دون أن يعتريها فتور في ذلك، وهذا يعني (من الوجهة الفنية أنّ النص القرآني الكريم حينما يوازن بين الإنسان وبين المخلوقات الكونية المشار إليها إنّما يضعنا أمام صورة فنية تحمل نفس دلالات الصور التركيبية التي تتضمّن طرفين مثل (التشبيه) أو (الاستعارة) أو (الرمز) بصورة عامة فالطرف الأول من الصورة يجسّد شيئا ذا فاعلية أشدّ من الطرف الآخر (كما سبق أن أوضحنا ذلك من صورة سابقة) والطرف الأول هنا هو (اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ ) بصفتها موجودات أو مخلوقات ضخمة يصغر الإنسان أمامها، وحينئذ: عندما يوازن النص بين هذه الموجودات (الضخمة) وبير الإنسان (الضئيل) حجما إنّما يكشف من خلال ذلك فاعلية الفن العظيم عبر
ص: 494
التشبيه بالسماوات و الأرض و الجبال.
ومن الواضح، أنّ هذا النمط من التركيب الصوري. يجسّد نموذجا غير مباشر من نماذج العنصر الصوري فالصور بعامة قد تكون تشبيها أو تمثيلا تتصدره أداة التشبيه و التمثيل أو تكون (رمزا) قد حذفت الأداة منه. أما الصورة التي واجهناها فهي تتميز عن الصور المألوفة بكونها ذات تركيب خاص هو عرض (موازنة) بين ظاهرتين يستخلص المتلقي من خلالهما نفس الاستخلاص الذي تحققه الصورة المألوفة...
وأيا كان الأمر فالمهم هو دلالة ما تنطوي الصورة الفنية عليه ما دامت الصورة أو أي عنصر فني آخر يظلّ مجرد وسيلة لإحداث التأثير في المتلقي.
بغية التعديل لسلوكه...
وهنا حينما يوازن النص القرآني الكريم بين إشفاق السماوات والأرض والجبال من تحمل الأمانة أو المسؤولية العبادية وبين تقبل الإنسان ذلك، إنّما يضع المتلقي أمام جسامة وخطورة وعظم المسؤولية عليه، وهو أمر ينبغي أن يفيد المتلقي منه في تعديل سلوكه العبادي الذي خلق أساسا من أجله.
أخيرا يلاحظ أن النص ختم حديثه عن مفهوم (الإنسانية) بالحديث عن تعذيب اللّه للمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات وعن غفرانه للمؤمنين والمؤمنات... ترى، ما هو الموقع الفني لهذا الختام الذي انتهت السورة الكريمة به أيضا ما دمنا نتحدث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة ؟ لقد بدأت سورة الأحزاب بالإشارة إلى عدم إطاعة الكافر والمنافقين وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وها هي السورة الكريمة تختم حديثها بنفس الإشارة الى هؤلاء المنحرفين، لكن في صعيد الجزاء الذي ينتظرهم أخرويّا..
وهذا من حيث صلة خاتمة السورة بمقدمتها. أما من حيث صلة هذا الختام بوسط السورة، فإنّ المتلقي بمقدوره أن يصل بين مفهوم (ظلم الإنسان
ص: 495
و جهله) فيما عرضت له الآية القائلة: إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ و بين (تجسيد الظلم و الجهل) في شخصية المنافق و المشرك بصفتهما كفارا) لم يمارسوا أية طاعة، بعكس: الشخصية المؤمنة التي تمارس الطاعة لكن: ليس بقدر ما تفرض الأمانة عليها حيث يسمح لها بتعديل سلوكها من خلال (التوبة) التي أتاحها اللّه تعالى لعبده.
ويلاحظ أيضا أنّ النص عبر حديثه عن الشخصية المنافقة والمشككة والمؤمنة قد شطرها إلى الجنسين لِيُعَذِّبَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ ، وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ... .
في تصورنا الفني المحض: أنّ سورة الأحزاب ما دامت موضوعاتها قد انصبّت - كما لحظنا - على ظاهرة (الأسرة) والتعامل بين الجنسين حيث شخصت أنماطا متنوعة من السلوك الذي يصدر عنه الرجل والمرأة، حينئذ فإن فرز كل من الرجل والمرأة عبر الجزاء الأخروي لهما يظلّ متجانسا - فنيّا - مع الفرز الدنيوى الذي لحظناه... وهذا بدوره يشكل واحدا من سمات التلاحم والتواشج الفني بين موضوعات السورة ومقاطعها وجزئيات كل منها، مما يفصح بوضوح عن مدى إحكام وجمالة البناء الهندسي للسورة الكريمة بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
ص: 496
ص: 497
ص: 498
قال تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ ، وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ ، وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ، قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ ، وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ ....
بهذا المقطع تبدأ سورة سبأ، حيث استهلت بظاهرة (الحمد) للّه، اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وحيث تكررّ الحمد مرة أخرى بقوله تعالى: وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ .
وهذا يعني أن الاستهلال بالحمد، والتكرار للحمد بالنسبة إلى الحياة الأخروية بالذات، يظلّ هو المحور الفكرى للسورة، وهو أمر سنجده واضحا في المقاطع اللاحقة من السورة، ونجده متمثلا في جملة عناصر فنية، بضمنها: العنصر القصصي الذي وظف لإنارة الفكرة المشار إليها...
وقد جاء القسم الأولى في السورة (بعد التمهيد المتقدم) منصبا على إبراز أحد جوانبها الفكرية وهو: تشكيك المنحرفين بقيام الساعة، رابطا بهذا بين مقدمة السورة ووسطها، حيث نقل هذا الجانب من خلال عنصر «الحوار» الآتي: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ، قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ... .
إنّ هذا الحوار - بالرغم من كونه قصيرا لماحا - إلاّ أنّه قد شحن بخصائص فنيّة لها خطورتها في ميدان الإثارة للمتلقي... لقد نقل لنا موقف الكافرين من قيام الساعة بعبارة لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ، ونقل لنا الجواب على
ص: 499
ذلك بعبارة بلي لتأتينكم، حيث أن العبارتين تتضمنان دلالات متنوعة، قد صيغت بنحو مجمل، ثم فصلت بعد ذلك في مقاطع لاحقة، بيد أن هذا الإجمال نفسه ينطوي علي دلالة غنية، حيث تضمن «الحوار» أولا نفيا لقيام الساعة من قبل الكافرين، وتضمن تأكيدا لقيامها من قبل الله تعالي بلي لتأتينكم. ويلاحظ، أن عبارة (بَلىٰ لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) تضمنت أداتين توكيديتين هما (بَلىٰ ) و (اللام)، حيث يفصح هذا التوكيد عن دلالة خاصة هي: إبراز مدى الخطأ الفكري الذي يصدر عنه الكافرون في نفيهم لقيام الساعة، أي: جاء الجواب متناسبا (في توكيده) مع (النفي)، كما أنّه تضمّن عنصرا فنيّا آخر هو (التضاد) أو (التقابل) بين لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ وبين لَتَأْتِيَنَّكُمْ .
أي التضاد بين النفي والإثبات.
هنا، لا يكتفي النص بصياغة المحاورة بين الكافرين وبين محمّد (ص)، بل يقدم «موقفا» آخر من قبل المؤمنين بعامة، فيقول وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ . وأهمية هذا الموقف الصادر من المؤمنين تتمثل في كونه يعتمد عنصر التقابل بين طائفتين اجتماعيتين، تتماثلان في انتسابهما إلى عامة الناس، إلاّ أنّ أحدهما تكفر باللّه تعالى والأخرى تؤمن به، حيث أنّ المقارنة بين فئتين متماثلتين تزيد من قناعة المتلقي بمشروعية ما يقوله محمد (ص)، إذ من الممكن ألا يقتنع المتلقي بشخصية تنفرد في موقفها (كالرسول) مثلا، بعكس ما لو شاركها جمهور من الناس الاعتياديين، وهو أمر يفسّر لنا السر الفني الكامن وراء إبراز النص للموقف المشار إليه...
ويلاحظ، أنّ موقف المؤمنين هو القناعة برسالة الإسلام، وأن موقف الكافرين الذي أبرزه النص، هو. التشكيك بقيام الساعة، لذلك عاد النص، من جديد لينقل لنا موقف الكافرين من قيام الساعة، ولكنه يفصّل الإجمال الذي لحظناه في قولهم (لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ) ، متمثلا في التفصيل الآتي: وَ قٰالَ
ص: 500
اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ... . هذا الحوار الجديد يتضمن خصائص فنّية سنشير إليها لاحقا، لكن ما نعتزم توضيحه الآن هو: مدى التلاحم العضوي بين أجزاء السورة الكريمة: من حيث صلة المقدّمة بواسطة السورة، ومن حيث التفصيلات لمجملاتها، فميا تفصح مثل هذه الصياغة عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ، بَلِ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذٰابِ وَ اَلضَّلاٰلِ اَلْبَعِيدِ... .
هذا المقطع من سورة سبأ، يفصل ما أجملته مقدمة السورة التي جاء فيها على لسان الكافرين وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ حيث قلنا ان مقدمة السورة تحوم على موضوعين هما (قضية اليوم الآخر) وقضية الحمد والشكر للّه على معطياته.
أما اليوم الآخر، فقد طرح موضوعه من خلال الحوار الجمعي الذي أجراه النص على ألسنة الكافرين بهذا النحو وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ... . إن انتحاب النص لهذه الشريحة من محاورة الكافرين فيما بينهم، ينطوي على أسرار فنية تستهدف فضح التخلف الفكري لدى الكافرين، فضلا عن الاضطراب النفسي الذي يغلف شخصياتهم، فهولاء لا يتحاورون فيما بينهم على وجه التساؤل هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ ... حيث لا ضرورة لأن يدل بعضهم البعض الآخر على رجل يخبرهم بحقيقة اليوم الاخر، بقدر ما يمكن أن يتقبلوا ويرفضوا دعوته في ضوء مناقشتها ومدارستها، أمّا أن
ص: 501
يذل بعضهم البعض الآخر على صاحبها، فلا يحمل أي مسوغ عقلي بقدر ما يكشف هذا الأمر على الاضطراب الفكري والنفسي لدى الكافرين. ويلاحظ أيضا، أن المنطق الذي ارتكنوا إليه في إنكار اليوم الآخر، قد اتسم بنفس الاضطراب الذي طبع شخصيتهم، فهم ينكرون إمكانية خلق الإنسان أو بعثه من جديد. من خلال استبعادهم إمكانية أن يبعث الإنسان الذي مزق كل ممزق... وعبارة هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ قد توحي للملاحظ العابر بأنّها ذات بعد استدلالي عميق، بصفة أن تمزيق الشيء كل ممزق يعني استحالة تأليفه من جديد... لكن، اذا أخذنا بنظر الاعتبار أن خلق الإنسان في البدء ينطوي على قدرات مماثلة، حينئذ ينطفىء استدلالهم أساسا، وهو ما يكشف عن الانغلاق الفكرى لديهم: كما هو واضح.
والآن، حين ندع الموضوع المرتبط باليوم الآخر، ونتجه إلى الموضوع الآخر الذي طرحته مقدمة السورة، ونعني به: مطالبة النص بالحمد والشكر لمعطيات اللّه تعالى، نجد أنّ النص يقدّم مجموعة من القصص التي توظف لإنارة هذا الجانب. والقصص هي: قصص داود وسليمان وسبأ، حيث جاءت قصتا داود وسليمان موظفتين لإبراز الشخصيات الإيجابية التي تمارس عملية الحمد أو الشكر، وجاءت قصة سبأ لتبرز الشخوص السلبيين الذي يكفرون بمعطيات اللّه تعالى.
ويلاحظ (من حيث البناء الهندسي للقصص) أنّ النص لم يكتف بإبراز هذين النموذجين المتقابلين من الشخصيات (الشخصيات الشاكرة، والشخصيات الكافرة) بل تضمّن هذا الجانب الفكري (الشكر ومقابلة الكفر بنعم اللّه تعالى) عبارات صريحة: تأكيدا لأهمية الشكر للّه تعالى وانعكاساته على الشخوص، وهذا ما نلحظه في تعقيب النص على قصتي داود وسليمان
ص: 502
بقوله تعالى: اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ و في تمهيده لقصة سبأ بقوله تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ . فالقصص طالبت بأن يمارس الإنسان عملية (الشكر) للّه تعالى، طالبت آل داود بالشكر، (وهم شخوص إيجابيون) وطالبت أهل سبأ بالشكر أيضا (وهم شخوص سلبيون)، ثم رتبّت آثارا كبيرة على الشكر وعدمه، حيث سخرت لداود الحديد، وحيث جعلت الجبال والطير تشاركه في التسبيح كما سنرى، وحيث سخرت لسليمان الريح والجنّ وسواهما، وكل أولئك: انعكاس لعملية الشكر، وهذا على العكس من أهل سبأ حيث كفروا بنعم اللّه تعالى، فيما ترتب على ذلك. تبديل مزارعها العامرة بأرض لا غناء فيها... والمهم، أنّ العنصر القصصي - كما لحظنا ونلحظ ذلك مفصلا في مقاطع لاحقة في السورة الكريمة - قد تلاحمت أجزاؤه عضويا، كما أنّه قد التحم مع فكرة السورة التي تحوم على مفهوم الشكر، مما يفصح ذلك عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي نوضحه لاحقا (إن شاءالله).
قال تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ مِنّٰا فَضْلاً، يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ، وَ أَلَنّٰا لَهُ اَلْحَدِيدَ أَنِ اِعْمَلْ سٰابِغٰاتٍ ، وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ، وَ اِعْمَلُوا صٰالِحاً إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ... .
هذا المقطع من سورة سبأ يتضمن أقصوصة داود عليه السلام حيث وظفت لإنارة فكرة السورة التي تقوم على مفهوم (الشكر للّه تعالى على معطياته...) وقد تضمنت الأقصوصة كلا من (معطيات) الله تعالى، و (المطالبة بالشكر) عليها، حيث قال تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ مِنّٰا فَضْلاً - وهذا هو المعطى، وحيث قال اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً - وهذا هو المطالبة بالشكر على ذلك، والمهم أنّ الأقصوصة (من حيث المبنى العماري) قد أحكمت علاقتها
ص: 503
بهيكل السورة من جانب، كما أحكمت علاقة أجزائها بعضها مع الآخر من جانب آخر، فضلا عن إحكام علاقتها بالأقاصيص التي أعقبتها من جانب ثالثا...
أما علاقة هذه الأقصوصة بأجزائها فتتمثل في صياغتها مجملة أولا، ثم صياغتها مفصلة ثانيا، حيث طرحت الأقصوصة مفهوم (النعمة) أو (المعطى) أو (الفضل) وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ مِنّٰا فَضْلاً ، وحيث فصلت مفهوم الفضل بقول تعالى: يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ، وَ أَلَنّٰا لَهُ اَلْحَدِيدَ أَنِ اِعْمَلْ سٰابِغٰاتٍ ، وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ فالملاحظ أن الأقصوصة فصلت الحديث عن المعطيين الإعجازيين وهما: تسبيح الجبال والطير، وإلانة الحديد... أمّا تسبيح الطير والجبال، فيشير إلى معطى عبادي ضخم بحيث يقرن تسبيح داود مع ترجيع الجبال والطير لتسبيحه... ومن الواضح، أنّ عملية (التسبيح) تنطوي على جملة من الدلالات، منها: أنّ معطيات اللّه تعالى بالرغم من كونها عامة لجميع المخلوقات الكونية، إلاّ أنّها - في الآن ذاته، تتحدد بمقدار ما يمارسه العبد من عمل الطاعات، فإذا عدنا إلى شخصية داود عليه السلام لحظنا أنّ إطاعته الله تعالى بلغت مستوى قد أثيب عليه بمطالبة الطير والجبال بأن ترجع تسبيحه، بل أنّ التسبيح نفسه، يمكن أن يجسّد واحدا من مفهومات (الطاعة) التي تستهدف الأقصوصة إبرازه، لذلك، عندما يبرز النص أو الأقصوصة مفهوم التسبيح عند داود، حينئذ يستخلص المتلقي - بصورة غير مباشرة - أهمية التسبيح، من حيث كونه عملا عباديا ذا خطورة وأهمية.
وهذا كله فيما يتصل بأحد المعطيات التي منحها اللّه تعالى لداود... أمّا المعطى الآخر، فيتمثل في معطى مادي قبالة المعطى الروحي... المعطى المادي هو: إلانة الحديد.. بيد أنّ ما ينبغي استخلاصه من هذا المعطي هو أنّ عمل الطاعة لا يتحدد في صعيد روحي أو مادي بقدر ما يصبّ في شتى ألوان
ص: 504
النشاط البشري ومنه: كسب الرزق، فالشخصية العبادية مطالبة بأن تعمل من أجل تحصيل المال الذي تستخدمه وسيلة لممارسة الطاعة، وعندما يلين اللّه تعالى الحديد لداود، فهذا يعني أنّ الله تعالى قد ضخم حجم المعطى المادي لداود بحيث ألان له الحديد الذي يتطلب تذويبه في النار: بما يواكب عملية التذويب من وسائل مادية وبشرية، حيث أعفاه تعالى من استخدام ذلك، من خلال إلانة الحديد... وهذا معطى ضخم كل الضخامة، فضلا عن كونه ظاهرة إعجازية وليس مجرّد تيسير للعمل، بصفة أنّ تيسير العمل، عند ما يقرن بما هو إعجازي خارق لقوانين الكون التي رسمها الله تعالى في صياغات ثابتة عامة، حينئذ يكشف مثل هذا الإعجاز عن درجة ضخمة من المعطيات، وهو ما يستهدف النص إبرازه: تأكيدا للحقيقة الذاهبة إلى أن الطاعات يثاب عليها دنيويا وأخرويا بقدر حجمها الذي تصدر عنه الشخصية العبادية...
تأسيسا على ما تقدم، يمكننا - ما دمنا نعني - من هذه الدراسات بعمارة السورة الكريمة وبعناصرها - أن نتبين الآن مدى جمالية العمارة القصصية التي قامت على فكرة (معطيات) اللّه تعالى،. و (الشكر) عليها، حيث بدأت الأقصوصة بطرح الموضوع المشار إليه، ثم (فصلّت) الحديث عنه بالنحو الذي أوضحناه، ويمكننا أيضا أن نتبين مدى جمالية العمارة القصصية المذكورة من حيث صلتها بعمارة السورة الكريمة (سبأ)، فيما وظفت الأقصوصة لإنارة أفكار السورة التي تحوم على مفهوم (الشكر) في أحد جوانبها، مما يفصح ذلك كلّه عن مدى إحكام النص: مق حيث صلة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.
قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهٰا شَهْرٌ وَ رَوٰاحُهٰا شَهْرٌ، وَ أَسَلْنٰا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنٰا نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ ، وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ ، اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً، وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ، فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ، مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ ، تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ ، مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ .
ص: 505
قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهٰا شَهْرٌ وَ رَوٰاحُهٰا شَهْرٌ، وَ أَسَلْنٰا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنٰا نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ ، وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ ، اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً، وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ، فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ، مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ ، تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ ، مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ .
هذا المقطع من سورة سبأ يتضمن الأقصوصة الثانية من الأقاصيص التي وظّفت فنّيا لإنارة أفكار السورة الكريمة التي تحوم على مفهوم (الشكر) للّه تعالى على معطياته... والواقع، أن هذه الأقصوصة (أقصوصة سليمان) تظل متداخلة مع الأقصوصة الأولى في السورة، ونعني بها أقصوصة داود التي أشارت إلى أنّ اللّه تعالى قد آتى داود فضلا حيث أمر الجبال والطير بأن تسبّح معه، وحيث ألان له الحديد، وها هو النص يشير بدوره إلى الفضل الذي آتاه اللّه تعالى سليمان (وهو ابن داود ووارثه)، حيث سخّر له الريح، وأسال له عين القطر، وسخّر له الجنّ لتعمل له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات...
والسّر الفنّي لتداخل هاتين الأقصوصتين، يتمثل في كونهما يتناولان بطلين نسبيّين (أبا وابنا)، وفي خضوعهما لظاهرة (الفضل الذي آتاهما اللّه تعالى، وفي خضوعهما لطلب من اللّه تعالى مشترك بينهما هو قوله تعالى، تعقيبا على قصة سليمان: (اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً) ، فمجرد كون النص قد أسهم (آل داود) في مطالبته بأن يشكروا معطياته، يفصح عن تداخل الأقصوصتين:
ما دام داود وسليمان ينتسبان إلى البيت المذكور (آل داود).
والآن، إذا تجاوزنا هذا الجانب البنائي للأقصوصتين، واتجهنا إلى البناء الفني لأقصوصة سليمان وما يتضمنه من موضوعات، نجد أن (الفضل) الذي آتاه اللّه سليمان يتمثل في وسائل وأدوات العمل المختلفة، وفي قوى وعناصر غير بشرية أيضا.
ص: 506
و ينبغي ألاّ يغيب عن أذهاننا (تجانس) المعطيات التي وهبها الله تعالى لكل من سليمان وداود من جانب وتميزها لكل منهما من جانب آخر، ويتمثل (التجانس) في تنويع القوى المسخرة لهما وتماثلها لديهما، فقد كانت «الطير» واحدة من عناصر التسخير لداود، يقابلها «الجن» الذى سخّر لسليمان، حيث أنّ كليهما ينتسبان إلى عنصر يمتلك وعيا وارادة وروحا، وكانت «الجبال» عنصرا مسخّرا لداود أيضا (وهو عنصر جامد) إلاّ أنّ اللّه تعالى منحه قابلية الترجيع لتسبيح داود، يقابله «الريح» التي سخرت لسليمان وهي تنتسب إلى نفس العنصر الجامد، المماثل للجبال... وكان «الحديد» - وهو وسيلة مادية - قد ألين لداود، يقابله «القطر» الذي أسيل لسليمان... حيث أن كليهما منتسبان إلى عنصر مادي، وحيث أن كليهما سخّر من خلال (تليين) الأول، و (إسالة) الآخر...
وهكذا نجد أن أقصوصة سليمان (من حيث بناء عمارتها المرتبطة بالموضوعات، قد تجانست مع أقصوصة داود، في انتخاب الموضوعات، وفي طبيعة تسخير القوى والعناصر المختلفة، فيما يكشف مثل هذا التجانس عن جمالية فائقة من حيث (التقابل) بين أبنية تلكم الموضوعات، فضلا عن كشفه عن تلاحم المبنى الهندسي العام للقصتين فيما قلنا: إنّهما (متداخلتان) أي أنهما (قصة داخل قصة)، بحيث جاء تسخير القوى والعناصر متجانسا مع هوية البطلين النسبية (من حيث كون أحدهما أبا والآخر ابنا)، فضلا عن ارتباط القصتين بهيكل السورة الكريمة، حيث وظفتا لإنارة «فكرة الشكر» التي تحوم عليها السورة، وهو ما يفصح عن مدى إحكام العمارة الفنية للنص (من حيث علاقة أجزائها: بعضها بالآخر) بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ، مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ .
ص: 507
قال تعالى: فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ، مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ .
بهذا القسم من أقصوصة سليمان ينتهي رسم شخصيته، حيث تناولت الأقصوصة جانبين من شخصيته، هما: حياته وموته: أما حياته فقد كان تسخير الجنّ أبرز الحوادث التي رسمها القرآن الكريم في هذا الميدان، لقد سخّر الله لسليمان الريح، وأسال له عين القطر، إلاّ أنّ الأقصوصة مرّت عابرة حيا هذين الحدتين، وركّزت على حادثة ثالثة هي: تسخير الجن، حيث فصلت الحديث عنها فقالت:
وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنٰا نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ ... .
ترى، ما هي الأسرار الفنيّة وراء هذا الرسم الذي يتحدث عن قوى الجن، وعن كونها مهدّدة بالعقاب في حالة تمرّد أحدهم على أوامر اللّه تعالى بالنسبة لخدمتهم سليمان عليه السلام...؟.
إنّنا ما دمنا نعنى بعمارة السورة القرآنية الكريمة، حينئذ يتعيّن علينا إبرا الصلة العضوية بين هذا القسم من الأقصوصة (أي: تسخير الجن وتهديدهم بالعذاب الشديد) وبين القسم الأخير من الأقصوصة، فيما يتناول موت سليما وعلاقة (الجن) بذلك، تقول الأقصوصة عن موت سليمان (فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ ) ...
إنّ المتلقي (القارىء أو السامع) يمكنه أن يستخلص جملة من الأسرار الفنية الكامنة وراء هذا الرسم لشخوص الجن... من ذلك: أنّ (الجنّ ) يمثّلون قوى غير مرئية تقترن بنظرات خاصة من قبل الإن حيالهم، بخاص فيما يتصل بإمكاناتهم التي لا تتاح للبشر العادي، ومنها: علمهم ببعض
ص: 508
الغيب... طبيعيا، حيما يسخّر الله تعالى هذا العنصر غير البشري لسليمان، فإنّه تعالى يستهدف - كما نحتمل فنيا - إبراز الفكرة القائلة بأنّ (الشكر) على نعم اللّه تعالى (وهي الفكرة التي تحوم عليها سورة سبأ) يستتلي مزيدا من المعطيات التي لا حدود لها، وفي مقدمتها: تسخير القوى غير البشرية للشخصية العبادية الحقة... أكثر من ذلك، أن هذا التسخير قد أقترن بتهديد من قبل اللّه تعالى بحيث حذر تعالى هذه القوى من عذاب السعير: في حالة عدم التزامهم بأوامر الخدمة، وهذا يعني (من الزاوية الفنية) أن النص قد استهدف دلالة جديدة من وراء رسمه لشخوص الجن، هي: أن الجن نمطان، نمط ملتزم ونمط متمرّد أو لا أقل نمط يتثاقل من الالتزام بالأوامر، أو يتمنى بأن يعفى من مثل هذه المهمّه.
هذه الدلالات يمكن استخلاصها من خلال تهديدهم بعذاب السعير، ومن خلال ردود فعلهم حيال موت سليمان عليه السلام. فالأقصوصة تنقل لنا أن سليمان عند موته (وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا) كان قد اتكأ على عصاه، وأن إحدى دوابّ الأرض (و هي: الأرضة) قد أكلت عصاه، فخرّ على الأرض بعد سقوطها، وعلم الآخرون حينئذ بموته: مع أنه عليه السلام كما تقول النصوص المفسّرة - قد ظل سنة كاملة واقفا على عصاه بعد موته... والمهم، أن (الجنّ ) كانوا من جملة العناصر التي لم تحط خبرا بوفاة سليمان إلاّ بعد أن سقطت العصا، لذلك رسمهم النص على هذا النحو من ردّ الفعل: (فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ ، مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ ) ... لقد صوّرهم النص وهم يحسبون أنّ خدمتهم لسليمان عليه السلام هي (عذاب مهين)، وهذا يكشف - كما قلنا - عن رغبتهم - لا أقل - في التخلص من عذاب الخدمة... إذن: إن رسم الجن - في بعض نماذجهم - قد استهدف منه إبراز شخصياتهم التي يمكن أن تتمرد حينا أو يمكن أن تتثاقل من الخدمة حينا آخر، لذلك، نجد أن القسم الأول من الأقصوصة قد ركز على إمكان تمردهم،
ص: 509
فهدّدهم اللّه تعالى بعذاب السعير، و أنّ القسم الأخير من الأقصوصة قد ركز على إمكان تثاقلهم، فرسمهم وهم يأسفون على مكوثهم سنة في خدمة سليمان: مع أنّه قد توفي عليه السلام... وهذا الربط بين القسم الأول من الأقصوصة وتهديدهم بالعذاب وبين القسم الأخير، يكشف عن إحكام المبنى الهندسي للأقصوصة، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ ، وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ، ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا، وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ .
هذه هي الأقصوصة الثالثة من الأقاصيص التي تضمنتها سورة سبأ وكانت الأقصوصتان اللتان سبقت أقصوصة سبأ، هما: أقصوصة داود وأقصوصة سليمان.
لقد جاءت أقصوصة سبأ امتدادا لما سبقتها من الأقاصيص التي وظفت لإنارة فكرة خاصة هي (مفهوم الشكر) لله تعالى على معطياته... ويهمنا من الأقصوصة بناؤها الفنّي أولا، ثم موضوعاتها التي جسدت مفهوم (الشكر) عدمه...
و أول ما يمكن ملاحظته في هذا الميدان هو: إن أقصوصتي داود وسليمان كانتا نموذجين للشخوص الإيجابيين الذين جسدوا مفهوم (الشكر) للّه تعالى، حيث ترتب على الشكر معطى ضخم تجاوز ما هو المألوف من المعطيات إلى ما ينتسب الى المعجز مثل تسخير الريح لسليمان، وإسالة عين القطر له، وتسخير الجن.
أما أقصوصة سبأ، فقد جاءت (من حيث العمارة العامة للأقاصيص
ص: 510
الثلاث) نموذجا مقابلا للنموذجين السابقين، جاءت هذه الأقصوصة نموذجا للشخوص السلبيين الذين جسّدوا مفهوم (الكفران) بنعم الله تعالى بدلا من (الشكر)... إذن: نحن الآن أمام عمارة قصصية محكمة ممتعة، تقوم على التقابل بين أجنحتها، التقابل بين نماذج تمارس عملية (الشكر) لنعم الله تعالى، وبين نماذج تمارس «الكفران» بنعم اللّه تعالى... التقابل بين المصائر التي انعكست على الشخوص الإيجابيين، وبين المصائر التي انعكست على الشخوص السلبيين. نتيجة لموقف كل منهما بالنسبة إلى نعم الله تعالى...
والآن، لنعد الرسم القصصي لهذه النماذج السلبية التي كفرت بمعطيات اللّه تعالى، وانعكاسات ذلك على مصائر الشخوص المشار إليهم...
الشخوص أو الأبطال الذين انتخبهم النصّ القرآني الكريم، يمثلون قبيلة أو طائفة اجتماعية يطلق عليها اسم سبأ، ومسكنهم اليمن... أمّا المعطى أو النعمة التي أغدقها اللّه تعالى على هؤلاء هي: وجود مزرعتين تحتلان موقعا جغرافيا جميلا من البلدة بحيث تشطرها إلى يمين وشمال، وعندما يشير النص إلى أنّه (كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ ) فمعنى، ذلك أن لهاتين المزرعتين موقعهما المهمّ جدا، بيد أن الأهمّ من ذلك هو. معطيات المزرعتين، حيث وصف ذلك بقوله تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ... إن هذه الفقرة القصصية تتضمن دلالات فنية ضخمة ينبغي أن نقف عند أسرارها الجمالية... فأولا لقد أومأ النص إلى عبارة «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ » وهذا يعني أن الرزق المذكور له أهميته الكبيرة... ثانيا، أومأ النص إلى عبارة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ) ثم أردفها بعبارة (وَ رَبٌّ غَفُورٌ) ، وقبل ذلك أومأ النص إلى عبارة خاصة هي (اُشْكُرُوا لَهُ ) أي: اشكروا الله تعالى على هذه المعطيات.
ونحن ما دمنا نتحدث بخاصة عن المبنى الهندسي للسورة الكريمة،
ص: 511
و منها: المبنى الهندسي للأقاصيص الثلاث، حينئذ ينبغي أن نتبين الموقع الهندسي لعبارة (اُشْكُرُوا لَهُ ) في هذه القصة، لذلك، ينبغي أن نتذكر بأنّ النص القرآني عندما تحدث عن اقصوصتي داود وسليمان، علق على ذلك قائلا اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ وها هو النص في قصة سبأ، يطالب بالشكر أيضا كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ ، لكن في أقصوصتي داود وسليمان، عقب النص قائلا وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ هذا التعقيب له دلالته العضوية من حيث انعكاساته على الأحداث اللاحقة من السورة الكريمة، وها هي القصة الجديدة تعكس لنا نموذجا من عبارة وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ ، حيث يمثل ابطال هذه القصة. ذلك النموذج غير الشاكر: كما سنرى... وهو أمر يكشف لنا عن مدى إحكام العمارات القصصية الثلاث من حيث التلاحم العضوي بينها، بالنحو الذي أوضحناه وبالنحو الذي سنوضحه لا حقا.
قلنا إن أقصوصة سبأ صيغت من أجل إنارة مفهوم خاص هو (الشكر) لله تعالى على معطياته... حيث اشارت القصة إلى مزرعتين عن يمين البلد وشماله، قد أتاحهما اللّه تعالى لأهل سبأ، إلاّ أن هذه الطائفة لم (تشكر) الله تعالى، بل كفرت بمعطياته تعالى، مما ترتب على ذلك عقاب دنيوي، هو تبديل المزرعتين العامرتين بمزرعتين شاحبتين... تقول الأقصوصة عن جماعة سبأ: فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ ، وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ ، وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا، وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ . إن التعقيب على كفران هؤلاء بنعم اللّه تعالى، بقول تعالى ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا، وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ هذا التعقيب له أهميته الفنيّة من حيث الموقع الهندسي لهذه الأقصوصة وصلته بفكرة السورة
ص: 512
الكريمة وبسائر الأقاصيص التي وظفت لإنارة فكرة (الشكر) للّه تعالى...
أي، أن هذا التعقيب يشكّل خيطا يربط بين موضوعات السورة التي بدأت بعبارة اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وبتكرار عبارة «الحمد» بقوله تعالى وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ ، حيث أن «الحمد» يتواكب مع مفهوم (الشكر)، وحيث عقب النص القرآني على ذلك بقوله: اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً ، وحيث جاء تعقيب جديد على قصة سبأ بقوله تعالى ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا ، وكل هذه التعقيبات تشكّل - كما قلنا - خيوطا تربط بين موضوعات السورة التي تحوم على مفهوم (الشكر) و مقابله مفهوم (الكفران)...
والآن، بغضّ النظر عن هذا المبنى الهندسي للقصة وعلاقتها بموضوعات السورة الكريمة، يعنينا أن نتابع أحداثها الأخرى، بعد أن وقفنا عند حدث واحد من القصة هو حادثة تبديل المزرعتين العامرتين بمزرعتين شاحبتين، الحدث الآخر الذي تضمنّته الأقصوصة هو: تأمين طرق المواصلات بين المدينة التي يسكنها هؤلاء القوم وبين بلاد الشام التي كانت محطا لتجاراتهم، حيث كفر هؤلاء بهذه النعمة أيضا وطالبوا بإزالة الطرق المؤمنة: ترفا منهم، حيث ملّوا هذا النمط من التأمين، ونتيجة لهذا الكفران بالنعم، أزال اللّه تعالى وسائل التأمين المذكورة، وباعد بين أسفارهم، كما سنرى ذلك... لكن، قبل أن نتحدث عن هذا الجانب القصصي، ينبغي أن نقف عند ظاهرة فنية هي: أن هذه الأقصوصة ما دامت تستهدف إبراز غرض خاص هو كفران القوم بنعم اللّه تعالى، فلماذا ذكرت أولا حادثة المزرعتين، ثم عقّبت على ذلك بالقول: ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا ثم ذكرت حادثة التباعد بين أسفارهم، مع أن الحادثتين تصبّان في موضوع واحد هو: الكفران بنعم اللّه تعالى، حيث كان من الممكن أن تذكر الحادثتان، ثم يعقب عليهما بأن أسباب الكفران بالنعم، هي: إزالتها عن هؤلاء القوم...
ص: 513
إنّ السر الفنّي وراء هذا الفصل بين الحادثتين، يتمثّل في احتمالنا الفنّي - في: انّ النص يستهدف التركيز على أهمّية (الشكر) و مقابله (الكفران) من جانب آخر، لذلك، نجد أنّ القصة تعقّب على الحادثة الأخيرة بالقول فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ ، ففي الحادثة الأولى: كان التركيز على مفهوم (الكفران) بالنعم، وفي الحادثة الأخيرة: كان التركيز على (الشكر) للّه تعالى... وبهذا النمط من الصياغة القصصية، يمكننا أنّ نتبين مدى إحكام النص من حيث تلاحم وترابط وتجانس أجزائه: بعضها مع الاخر، بالنحو الذى أوضحناه.
قال تعالى: وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا، قُرىً ظٰاهِرَةً ، وَ قَدَّرْنٰا فِيهَا اَلسَّيْرَ، سِيرُوا فِيهٰا لَيٰالِيَ وَ أَيّٰاماً آمِنِينَ فَقٰالُوا: رَبَّنٰا بٰاعِدْ بَيْنَ أَسْفٰارِنٰا، وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ ، وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ .
هذا هو القسم الثاني من أقصوصة سبأ، حيث كان القسم الأول منها يتضمّن حادثة هي: وجود مزرعتين عامرتين لأهل سبأ قد بدّلتا بمزرعيتن خاويتين: نتيجة لكفران القوم بنعم الله تعالى... وها هو القسم الثاني مق القصة يتضمن أيضا حادثة جديدة ذات عطاء من اللّه تعالى، لكن، نتيجة لكفران القوم بنعم اللّه تعالى، أزال اللّه تعالى تلكم النعم عن القوم.
يقول النص القصصي بما مؤدّاه. إنّ أهل سبأ كان متجرهم من اليمن إلى أرض الشام، وقد هيّأ لهم اللّه تعالى مدنا ممتدة على الطريق، بحيث يبيتون في مدينة ويستريحون ظهرا في مدينة أخرى، وقد خطط لهذه المدن بنحو تتقارب فيه المدن بعضها مع الاخر بمسافة تقدّر بنصف اليوم، مما يترتب على هذ التخطيط من قبل اللّه تعالى أن ينعم المسافرون بالراحة في شتى مستوياتها...
ص: 514
و الآن، ما هو موقف أهل سبأ من هذا المعطى الذي أغدقه الله تعالى عليهم ؟.
إنّنا لا نتوقع من العقلاء إلاّ أن ينعموا بهذه المعطيات أو يتطلّعوا إلى المزيد منها (في حالة بحثهم عن الإشباع الزائد على الحاجة)، امّا أن يطالبوا بإزالة هذه النعم فأمر، لا يمكن أن يصدر إلاّ من معتوه أو من مترف مريض لا يحيا أي توازن في داخله، والآن لنستمع إلى ما اقترحوه حيال النعم المذكورة.
فَقٰالُوا رَبَّنٰا بٰاعِدْ بَيْنَ أَسْفٰارِنٰا .
ترى: هل ثمّة عاقل يطالب بأن يباعد بين أسفاره فيقطع المسافات الطويلة على راحلته دون أن يستريح في محطات متقاربة المسافة ؟؟.
إنّ الترف الذي أحيط بهؤلاء القوم دفعهم - وهم متخمون بالنعمة - إلى البطر بهذا النحو الذي لحظناه...
طبيعيا، سيترتب على مثل هذا الكفران بنعم اللّه تعالى، أثر سلبي أوضحته القصة بقولها عن هؤلاء القوم:
وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ ...
هذا التعقيب القصصي له دلالاته الفنية والفكرية التي ينبغي أنّ نقف عندها، نظرا لعلاقتها بعمارة السورة الكريمة وبقصصها الثلاث (قصص داود وسليمان وسبأ)، فضلا عن قيمتها الفكرية الخاصة، لقد أشار التعقيب القصصي إلى أنّ هؤلاء القوم قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وبالفعل فإنّ من يطالب بإزالة النعمة عليه، يكون قد ظلم نفسه ولا بدّ - في مثل هذه الحالة - ان يترتب عقاب على الظلم، وهذا ما أوضحه النص القصصي، حينما قال فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . لنلاحظ، أنّ النص ركز على قضيّتين، إحداهما عامة، والأخرى خاصة... القضية الخاصة هي (تمزيق) هؤلاء القوم
ص: 515
كل ممزّق، أي تفريقهم و تشتيتهم في الأرض، حيث جاء هذا العقاب متجانسا مع رقاعة الطلب الذي تقدّموا به وهو: المباعدة بين أسفارهم، لذلك ينبغي ألا نغفل عن هذا الجانب العماري من القصة من حيث التجانس بين طلب التباعد وبين العقاب القائم على إبعادهم بحيث تفرقوا بعد الجمع بنحو أصبح تفرقهم مثلا سائرا على الألسن، ولذلك تحدثت القصة عنهم (وهي القضية العامة) بأنهم أصبحوا (أحاديث) على ألسن الناس (فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ ) حتى يتعظ الآخرون بمصائرهم...
أخيرا، نجد أن التعقيب القصصي ينهي القصة بالقول إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ . هنا ينبغي ألاّ نغفل عن أن القصص الثلاث (داود، سليمان، سبأ) كانت حائمة على مفهوم (الشكر) للّه تعالى على معطياته...
وها هي القصة الأخيرة تنهي موضوعها بالإشارة إلى (الشكر) أيضا، مما يجعل منها ومن الأقاصيص التي سبقتها «وحدة» فكرية تتلاقى القصص جميعا عندها، وهو أمر يفصح عن مدى إحكام النص القرآني الكريم من حيث تواشح وتلاحم أجزائه. بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ، فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مٰا كٰانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهٰا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ، لاٰ يَمْلِكُونَ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا لَهُمْ فِيهِمٰا مِنْ شِرْكٍ وَ مٰا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّٰ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قٰالُوا مٰا ذٰا قٰالَ رَبُّكُمْ قٰالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ .
هذا المقطع من سورة سبأ امتداد لفكرة السورة الكريمة التي تناولت ظاهرتين هما (الشكر) للّه تعالى على معطياته، وظاهرة (قيام الساعة) التي
ص: 516
شكّك بها المنحرفون في قولهم في بداية السورة. وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ . أما ظاهرة (الشكر) للّه تعالى فقد تكفلت ثلاث قصص (هي قصص داود وسليمان وسبأ) بمعالجتها، حيث جاءت القصة الأخيرة (قصة سبأ) نموذجا لمن (كفر) بنعم اللّه تعالى بدلا من (الشكر) للّه تعالى على معطياته، وهذا النموذج من الكافرين بنعم اللّه قد بدأ المقطع الذي نتحدث عنه بتسليط الإنارة عليهم، مبينّا سر السلوك المنحرف الذي صدروا عنه، فقال: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مٰا كٰانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهٰا فِي شَكٍّ .
لنلاحظ أولا، كيف أن النص القرآني الكريم، قد انتقل من فكرة (الشكر) للّه تعالى وهي أحد محوري السورة الكريمة... إلى محورها الآخر وهو قضية (اليوم الآخر)، فربط بين الكافرين بنعم اللّه تعالى وبين المشككين باليوم الآخر عندما أوضح بأنّ إبليس قد تحقق ظنّه بإغواء المنحرفين الذين كفروا بنعم اللّه تعالى، مبيّنا انّ الشيطان لا سلطان له على أحد من الناس بقدر ما ينصاع المنحرفون إليه تلقائيا، تحقيقا لرغباتهم غير المشروعة وأن تجربة الشيطان مع الناس تجسّد حقيقة يستهدفها اللّه تعالى ليعرف مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهٰا فِي شَكٍّ . وبهذا الربط بين نمطي سلوك الكافرين بنعم الله تعالى وبين المشككين باليوم الآخر، يكون النص قد عاد من جديد إلى طرح قضية (اليوم الآخر) التي تشكّل - كما قلنا - أحد محوري السورة الكريمة...
والآن بغض النظر عن هذا المبنى الهندسي للمقطع، يعنينا أن نتابع موضوعاته: لملاحظة صياغتها فنيا وفكريا...
أمّا فكريا، فقد طرح النص خلال حديثه عن الكافرين بنعم اللّه تعالى، جملة موضوعات، منها: العلاقة بين الشيطان وبين المنحرفين بعامة...
ومنها: الامتحان أو الاختبار العبادى للإنسان من خلال العلاقة المذكورة،
ص: 517
فضلا عن موضوعات أخرى نقف عندها في حيثه... أمّا العلاقة بين الشيطان والإنسان، فقد أبرزها المقطع القرآني من خلال لغة فنيّة ساخرة هي أنّ الشيطان مرّر عليهم ظنّه الذاهب إلى أنّه سوف يغويهم، وهذا كما لو قال شخص لآخر: «لقد أشبع الشيطان رغبته فيك مثلا»... أمّا الحقيقة الأخرى التي طرحها المقطع من خلال علاقة الشيطان بالإنسان هي: أنّ القلة من الناس تفلت من أسر الشيطان فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ، وأنّ الغالبية منهم تقع في شراكه...
وأمّا الحقيقة الثالثة المطروحة في هذا المقطع فتتمثل في أنّ الشيطان لا سلطة له على البشر (وَ مٰا كٰانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطٰانٍ ) ، أي أن علاقة الشيطان بالإنسان لا تعني كونه ذا سلطة إجبارية على البشر بقدر ما تعني أن البشر ينصاع لرغباته تلقائيا - بمحض إرادته - تحقيقا للإشباع العاجل، ولذلك لم يجد الشيطان سبيلا على المؤمنين: كما أوضح المقطع ذلك.
الحقيقة الأخيرة التي طرحها المقطع من خلال علاقة الشيطان بالإنسان هي: معرفة أحد وجوه الاختبار العبادي للبشر، متمثّلا في معرفة عن يؤمن باليوم الآخر ممن هو في شك منه (لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهٰا فِي شَكٍّ ، وَ رَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ) .
هذه الحقيقة (أي الإيمان باليوم الآخر مقابل التشكيك به) تحتلّ موقعا هندسيا خاصا من السورة الكريمة... فمن الواضح، أنّ الحقائق العبادية التي أخضعها اللّه تعالى لتجربة الإنسان ومعرفة سلوكه، متنوعة. مثل الإيمان باللّه، واليوم الآخر، ورسالة الإسلام، ومبادئه المختلفة إلخ، إلاّ أن المقطع انتخب من الحقائق العبادية قضية (اليوم الآخر) لسبب فني هو: إن السورة الكريمة تحوم على هذا الموضوع، وحينئذ (من حيث المبنى الهندسي لها) سوف ينصبّ التركيز على هذا الجانب أكثر من سواه، وهو أمر يكشف عن مدى
ص: 518
الإحكام البنائي للنص: من حيث ترابط و تواشج جزئياته، بعضها مع الآخر، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.
قال تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لاٰ يَمْلِكُونَ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا لَهُمْ فِيهِمٰا مِنْ شِرْكٍ وَ مٰا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّٰ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، قٰالُوا مٰا ذٰا قٰالَ رَبُّكُمْ قٰالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ .
هذا المقطع من سورة سبأ يتحدث عن شرائح جديدة من سلوك المنحرفين المشككين بقيام الساعة، حيث يشكل قيام الساعة المحور الفكري الذي تقوم عليه عمارة السورة الكريمة... وتجيء ظاهرة (الشرك) في مقدمة انماط السلوك المنحرف لدى هؤلاء المشككين باليوم الآخر، لذلك يتجه المقطع القرآني الكريم لمعالجة هذا الجانب، فيعرض لمواقف المشركين، مذكّرا إياهم بجملة من الحقائق، منها: عدم فاعلية الأصنام التي أشركوها مع اللّه تعالى، ومنها: عدم صدورها عن «الشفاعة» التي زعم الوثنيون أنهم اتخذوها (أي: الأصنام) شفعاء تقربهم إلى اللّه تعالى، ومنها. عدم فاعليتها في الرزق... إلخ. بيد أن الملاحظ أن المقطع القرآني الكريم وهو يتحدث عن هذه الظواهر، ومنها: ظاهرة عدم تملك الأصنام أو الشركاء المزعومين للشفاعة - يطرح موضوعا جديدا خلال حديثه عن الشفاعة، فيقول وَ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّٰ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، قٰالُوا مٰا ذٰا قٰالَ رَبُّكُمْ قٰالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ . ترى، ما هو المقصود من هذه العبارة التي تقول: إذا زال الفزع من قلوبهم، حينئذ يتساءلون: ماذا قال ربكم ؟ فتجيء الإجابة (قٰالُوا: اَلْحَقَّ ) ؟ ثم ما هو الموقع الهندسي لها بالنسبة إلى عمارة السورة الكريمة ؟. النصوص المفسّرة تتردد بين الذهاب إلى أن المقصود
ص: 519
من إزالة الفزع من القلوب هو: إزالته من قلوب المشركين، و بين الذهاب إلى أنّه إزالة الفزع من قلوب الملائكه إشفاقا من قيام الساعة... إلاّ انّنا نحتمل (من الزاوية الفنية) ان يكون المقصود من ذلك هو: إزالته من قلوب المشركين (في لحظة من لحظات قيام الساعة) حتّى يتبيّن لهم مدى الجهل الذي صدر عنهم في الحياة الدنيا حينما شككوا بقيام الساعة وبمبادىء اللّه تعالى بنحو عام... يدلّنا على ذلك، أن السورة الكريمة ما دامت فكرتها تقوم على قضية (اليوم الآخر) الذي يشكك به هؤلاء المنحرفون، حينئذ فإن السياق القرآني يفرض مثل هذا الموضوع المرتبط بفكرة السورة، يضاف إلى ذلك، أن القرآن - في مواقع متنوعة - طالما ينتقل من بيئة الدنيا إلى بيئة الآخرة، فيرسم مواقف حوارية تجري بين المنحرفين وبين من يحاسبهم على سلوكهم (كالملائكة مثلا)، مستهدفا من هذا الحوار تعميق القناعة بمفروضية يوم الحساب، و هذا ما يمكن ملاحظته في هذا المقطع الذي تناول محاورة بين الملائكة وبين المشككين باليوم الآخر، وما يمكن ملاحظته في مقاطع لاحقة نتحدث عنها في حينه... المهم، أن فكرة السورة الكريمة ما دامت تحوم على قضية «اليوم الآخر»، حيئنذ فإنّ الموضوعات المطروحة لا بدّ أن تصبّ بين حين و آخر في ذلك الرافد الكبير، أي أنّ النص القرآني حينما يطرح موضوعا جديدا، يكون مشابها للنهر الذي يتفرعّ من جدول هنا وهناك، لكنه يعود فيصبّ من النهر من جديد، وهذا ما نلحظه في أجزاء السورة جميعا، ومنها المقطع الذي نتحدث عنه، حيث تناول قضية فرعية هي. عدم فاعلية الشركاء المزعومين في قضايا الرزق والشفاعة ونحوهما، لكنه عاد فربط بين هذ الموضوع وبين انعكاساته على اليوم الآخر، حيث تزول غشاوة الجهل وأنّ ما جاءت به الرسل من قبل الله تعالى هو الحق، وأن الشركاء المزعومين الذين اتخذوهم شفعاء، لا حقيقة لهم البتة.
إذن، جاء رسم الحوار بين الملائكة والمشركين با النسبة إلى قيام
ص: 520
الساعة، مرتبطا بفكرة السورة الكريمه، فيما يفصح ذلك عن مدى تلاحم وتواشج موضوعاتها، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا رَبُّنٰا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّٰاحُ اَلْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكٰاءَ ، كَلاّٰ بَلْ هُوَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعٰادُ يَوْمٍ لاٰ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سٰاعَةً وَ لاٰ تَسْتَقْدِمُونَ .
هذا المقطع من سورة سبأ امتداد، لمقاطع سابقة تتحدث عن سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، حيث يظل التشكيك بقيام الساعة واحدا من انماط السلوك الصادر عن المنحرفين، وهو الموضوع الرئيس الذي تحوم عليه (فكرة) السورة الكريمة... كما أنّ (الشرك) يظل هو الطابع العام لسلوك المنحرفين، حيث يظل هذان النمطان من السلوك موضع المعالجة في النص الذي تتحدث عنه... ويهمنا منه تبيين الخصائص أو الصياغة الفنية للموضوع المشار إليه...
وأول ما يمكن ملاحظته هنا هو: الاعتماد على عنصر «الحوار» في رصد سلوك المنحرفين، حيث تجري المحاورات بين النبيّ (ص) وبينهم من خلال طرف ثالث هو: السماء... بكلمة جديدة:
السماء تأمر محمدا (ص) بأنّ يوجه إليهم هذا السؤال أو ذاك، وأن يجيب على هذا السؤال أو ذاك... وهذا النمط المتداخل من الحوار له خصيصته الفنية من حيث كونه تعبيرا عن طبيعة العلاقة القائمة بن السماء ومحمد (ص) بصفته رسولا من قبلها... لذلك، فإنّ طبيعة الرسول أن يبلغ الأوامر من جانب، وأن يتصرّف وفق صيغ خاصة من الكلام تبعا لمتطلبات الموقف من
ص: 521
جانب آخر، و بما أنّ السماء هي التي تكفلت بالسؤال و الرد على مواقف المشركين، حينئذ لا بدّ من تداخل الحوار بين السماء والرسول الذى ينقل كلامها إلى الآخرين، وهذا ما نجده متمثلا في صيغة حوارية هي «قل» من نحو. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا رَبُّنٰا قُلْ : أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكٰاءَ قُلْ :
لَكُمْ مِيعٰادُ يَوْمٍ لاٰ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ... جوابا لسؤالهم وَ يَقُولُونَ : مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ... .
إذن: من حيث الصياغة الفنية، جاء «الحوار» متداخلا بين السماء والرسول... ومن حيث الدلالة الفكرية، قد انصبّ الحوار على موضوعين هما. اليوم الآخر، والشرك.
فالسماء (من خلال الرسول) تلوّح بأنّ اللّه تعالى سوف يجمع بين الرسول (ص) والمسلمين بعامة وبين المشركين، والسماء تسخر من هؤلاء المشركين، قائلة لهم أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكٰاءَ ، والسماء تلوّح لهم - جوابا على سؤالهم القائل (مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ) - قائلة لهم (لَكُمْ مِيعٰادُ يَوْمٍ لاٰ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سٰاعَةً وَ لاٰ تَسْتَقْدِمُونَ ) ، وبما أن الفكرة المطروحة في المقطع تتناول موضوعين (قيام الساعة والشرك)، لذلك، فإن صياغة هذين الموضوعين تتم وفق أدوات فنية تتناسب مع طبيعة الموقف، فالملاحظ مثلا، أن الحديث عن اليوم الآخر قد تكرّر في هذا المقطع مرتين، مرة في قوله تعالى يَجْمَعُ بَيْنَنٰا رَبُّنٰا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ ، ومرة في قوله تعالى لَكُمْ مِيعٰادُ يَوْمٍ لاٰ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سٰاعَةً وَ لاٰ تَسْتَقْدِمُونَ . فالمرة الأولى تتحدث عن مواقف المنحرفين (الشرك بخاصة) وتقرر بأنّ اللّه يجمع بين الموحدين والمشركين في اليوم الآخر، بدليل أن النص القرآني قال مباشرة بلغة ساخرة أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكٰاءَ و هذه المحاورة لا تتم إلاّ في اليوم الآخر كما هو واضح... وهذا نمط من البناء الفنّي المتلاحم: الذي يكشف عن جمالية فائقة في الصياغة... أمّا المرة الثانية التي ذكر فيها اليوم الآخر، فقد جاءت في
ص: 522
سياق آخر هو: استعجال هؤلاء المنحرفين بقيام الساعة من خلال تساؤلهم السخيف «مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ» ، حينئذ جاء الجواب متناسبا مع موقفهم، وذلك من خلال التلويح لهم بأنّ الميعاد حينما يحين زمانه: عندها لا يستأخر المنحرفون عن الميعاد ساعة ولا يستقدمون، وهذا بدوره نمط من الصياغة الفنيّة التي ترسم الجواب متناسبا مع الموقف، حيث أن الحسم أو التأكيد بعدم تأخّر أو تقدّم الساعة التي يحين فيها الميعاد (ميعاد اليوم الآخر) يشكّل جوابا يتناسب مع الاستعجال الذي وسم أسئلتهم حيال الوعد (أي قيام الساعة).
إذن، جاء عنصر «الحوار» بما يواكبه من موضوعات الشرك واليوم الآخر، وبما يواكبه من أسئلة وأجوبة وقفنا عندها، جاء هذا العنصر متجانسا في صياغته مع طبيعة المواقف المشار إليها، كما جاءت موضوعات هذا المقطع منصبّة على المحور الفكري للسورة الكريمة، حيث يكشف مثل هذا التلاحم بين الموضوعات عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي لحظناه.
قال تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاٰ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ ، يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لاٰ أَنْتُمْ لَكُنّٰا مُؤْمِنِينَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنٰاكُمْ عَنِ اَلْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جٰاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ، وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ إِذْ تَأْمُرُونَنٰا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّٰهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدٰاداً وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاٰلَ فِي أَعْنٰاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ .
هذا المقطع من سورة سبأ يرسم لنا أحد المواقف الجديدة في اليوم الآخر، حيث تشكل قضية «اليوم الآخر» محورا فكريا تدور حوله موضوعات
ص: 523
السورة الكريمة... الجديد في هذا الرسم هو: نقل المنحرفين المشككين بقيام الساعة، إلى بيئة الآخرة و تركهم في موقف يتحاورون من خلاله فيما بينهم، بحيث يكشف هذا التحاور عن ندمهم وتمزّقهم بالنسبة إلى سلوكهم الدنيوي المنحرف... إنّ عنصر «الحوار» نفسه يظل وسيلة فنية بالغة القيمة بالقياس إلى طبيعة المنحرفين الذين يكشفون عن حقيقة أعماقهم، ويتحدثون بصراحة عن مدى ضلالهم، وهو أمر يمكن ملاحظته في رسمهم وهم في ساحة المحاكمة، وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ ... أنّهم موقوفون عند ربهم، أنّهم يرجع بعضهم إلى بعض القول... وإرجاع القول (من حيث كونه قيمة تعبيرية) يظل أكثف وأعمق دلالة من مجرّد الحوار، لأنّ الحوار قد يكون تعبيرا عن حالة إيجابية وقا يكون تعبيرا عن حالة سلبية، أما إرجاع القول، أي: كل طرف يردّ القول إلى الآخر، فيعني تعبيرا عن حالة سلبية هي الندم والتمزق بحيث يتهم كلّ طرف الطرف الآخر بإضلاله، وهذا ما نلحظه في المحاورات التالية: يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لاٰ أَنْتُمْ لَكُنّٰا مُؤْمِنِينَ فالملاحظ هنا، أنّ النصر أبرز ظاهرة الرؤساء والأتباع، كاشفا بذلك بأنّ العلاقات الاجتماعية التي تطبع بيئة المنحرفين عصرئذ، تقوم على علاقة التابع والمتبوع، المستضعف والمستكبر، وأنّ المتبوع أو المستكبر يلعب دورا كبيرا في التأثير على الآخرين... لكن هل هذا يعني أنّ التابع أو المستضعف معذور في اتباى لرئيسه ؟ هذا ما يجيب عليه المستكبرون أنفسهم حينما يخاطبون المستضعفين:
قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنٰاكُمْ عَنِ اَلْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جٰاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ و. إذن، المرؤسون أو الاتباع مجرمون بدورهم ولا عذر لهم في تقبّل الانحراف... لكنهم يحاولون إلقاء التبعيّة على رؤسائهم، وهذا ما رسمه النص في الحوار الآتي وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ، إِذْ تَأْمُرُونَنٰا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّٰهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدٰاداً... .
ص: 524
طبيعيا، يظل هذا الكلام مجرد تسويغ يحاول التابعون إلقاءه على مجرمين من أمثالهم: تخفيفا عن الشدة التي يكابدونها في ساحة المحاكمة...
لذلك يعقب النص القرآني الكريم على المحاورات المتقدمة بين المستضعفين والمستكبرين، بقوله تعالى: وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاٰلَ فِي أَعْنٰاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ . هذا التعقيب يتضمن أكثر من دلالة فنية وفكرية... فأولا يبرز عنصر (الندامة) لدى المنحرفين، وهو أهم سمة داخلية لشخوصهم، حيث تفصح الندامة ليس عن حجم التمزق الكبير الذي يعانون منه فحسب - بل تفصح أيضا عن مدى الخطأ أو الجهل أو الانغلاق الفكري الّذي طبع شخوصهم في الحياة الدنيا عندما أشركوا بالله تعالى، وعندما شككوا بقيام الساعة، وهذا الإفصاح له أهميته الفنية من حيث استهداف النص إبراز المواقف الانحرافية لدى المنعزلين عن رسالة السماء... المهم - بعد ذلك - أنّ النص القرآني - وهو يرسم عنصر «الندامة» - يتجه إلى تحسيس المتلقي بأنّ الندم لا ينفع هؤلاء المنحرفين، بل أنّ الجزاء المترتب على سلوكهم هو: وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاٰلَ فِي أَعْنٰاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ .
إذن، جاء الرسم الفني لشخوص المنحرفين (وهم في ساحة المحاكمة) يتحاورون ويتبادلون الاتهامات، ويسرون الندامة، ومن ثم إنهاء مصائرهم إلى الجحيم... جاء هذا الرسم متجانسا مع فكرة السورة الكريمة التي استهلت الحديث عن الكافرين من خلال تشكيكهم بقيام الساعة وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ، وها هي الساعة قد أبرزت ندامتهم على ما صدر عنهم من الانحراف، حيث يكشف مثل هذا الرسم لمصائرهم، عن مدى الإحكام الهندسي للنص، من حيث علاقة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الّذي أوضحناه.
ص: 525
قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ وَ قٰالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفىٰ ، إِلاّٰ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً، فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ اَلضِّعْفِ بِمٰا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ فِي اَلْعَذٰابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ ، وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ .
هذا المقطع من السورة الكريمة يعرض لنا شرائح جديدة من سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام... وبما أنّ فكرة السورة الكريمة تحو على موضوع (اليوم الآخر) وموقف المشركين منه، حينئذ فإنّ السورة تقط رحلات متنوعة تنتقل من خلالها بين بيئة الحياة الدنيا وبين (اليوم الآخر) حتى تربط بينهما طوال الرحلة... وها هي الآن تحدثنا عن شرائح من السلوك المنحرف دنيويا لكي تنقل القارىء بعدها إلى البيئة الأخروية من جديد..
لكن، ما هي الشرائح الجديدة من سلوك المنحرفين ؟ أنّهم يقولون للرسل (والقول هنا للمترفين) إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ ويقولون أيضا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فالجديد في السلوك الذي يكشفه النص القرآني هنا، هو: أن (المترفين) - وليس الطبقات الوسطى أو الدنيا يتصدون لرسالات السماء... وأنّ التسويغ الذي يقدمه هؤلاء المترفون هو:
أنهم أكثر أموالا وأولادا من سواهم، ولذلك لن يعذّبهم اللّه تعالى في اليوم الآخر.
إن النص القرآني الكريم، من خلال تقديمه محاورة الكافرين، يكشف لنا أولا أنّ المنحرفين هم طبقة مترفة تتحرك من خلال مصالحها، ويكشف لنا ثانيا مدى الانغلاق الفكري لدى المنحرفين بحيث يخيل إليهم أنّ كثرة المال
ص: 526
والولد هي المعيار الاجتماعي في تزكية الشخصية دنيويا و أخرويا. إنّ مثل هذا التفكير المغلق كاف في فضح الهزال الذي يطبع أية شخصية منحرفة عن مبادىء اللّه تعالى... بيد أنّ الأهم من ذلك أنّ المقطع القرآني الكريم قد استثمر هذا الجانب من سلوكهم ليقدّم لنا حقائق عبادية ترتبط بقضايا الرزق والإنفاق، موضحا بأنّ الرزق في الأموال والأولاد عائد لتقدير اللّه تعالى حسب متطلبات الاختبار العبادي ولا علاقة له بتزكية الشخصية وعدمها، وأن الأموال والأولاد لا تقرّب الشخصية إلى اللّه تعالى، بل العمل الصالح هو المعيار في ذلك. هنا، ينبغي أن نتبين بعض الأسرار الفنية في طرح قضية الرزق وتقديره، فالملاحظ، أنّ النص كرر الإشارة إلى الرزق فقال أولا إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ . ثم قال مكررا قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ ، وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ . الآية الأولى موجّهة إلى الكافرين: بدليل أنّه تعالى عقّب عليها بأنّ أكثر الناس لا يعملون، وأردفها بعبارة وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفىٰ . أما الآية الثانية فموجّهة إلى المؤمنين: بدليل أنّه تعالى عقبّ عليها مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ . هذا يعني (من الزاوية الفنية المرتبطة بعنصر التكرار) استهدف أولا حقيقة عامة هي أن سعة الرزق وتقتيره لا علاقة له بتزكية الشخصية، وأن كثرة المال لا تنفع صاحبها في الجزاء الأخروي ما لم يكن مؤمنا، ثم استهدف حقيقة خاصة هي أن «الإنفاق» في سبيل اللّه، يستتلي تعويضا من الدنيا، فضلا عن الجزاء الأخروي، محققا بهذا الحث على الإنفاق هدفا فنيا مزدوجا هو: أن المال ينبغي أن يوظف في سبيل اللّه تعالى (ومنه: الإنفاق) ولا قيمة له في الميادين الاجتماعية الأخرى التي يتشبث بها المنحرفون من خلال تخيلهم بأنّ المال يمنحهم مركزا اجتماعيا في الدنيا، وينقذهم من العقاب في اليوم الآخر...
إذن، بهذا المنحى الفنى غير المباشر طرح المقطع القرآني الكريم جملة
ص: 527
من الحقائق التي استهدف توصيلها إلينا من خلال طرحه لسلوك المنحرفين، ثم وصلها بفكرة السورة الكريمة (اليوم الآخر) حيث لوح بالعذاب الذى ينتظر هؤلاء المنحرفين، قائلا لهم وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ ، أُولٰئِكَ فِي اَلْعَذٰابِ مُحْضَرُونَ جوابا لزعمهم القائل وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ : علما بأنّ قولهم وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يشكل إقرارا ضمنيا بحقيقة اليوم الآخر الذي سخروا منه في بداية السورة عبر قولهم: لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ . وهذا منحى فني آخر في كشف التناقض والتمزق الفكري الذي يحملونه، والمهم، أنّ هذا الوصل بين فكرة السورة الكريمة وبين موضوعاتها المختلفة، يفصح عن مدى الإحكام الهندسي للنص القرآني الكريم، بالنحو الذي أوضحناه.
قال تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاٰئِكَةِ أَ هٰؤُلاٰءِ إِيّٰاكُمْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ قٰالُوا سُبْحٰانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنٰا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاٰ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا، وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ .
هذا المقطع الجديد من سورة سبأ امتداد لمقاطع سابقة تتحدث عن المشركين وتشكيكهم باليوم الآخر، وهو الموضوع الذي تحوم عليه فكرة السورة الكريمة... الجديد الذي يكشفه النص عن سلوك المنحرفين هو عبادة البعض منهم للملائكة والجن، وهذا النمط من السلوك المنحرف لم ينقله النص لنا سردا بل كشفه من خلال حوار السماء مع الملائكة الذين نفوا مشروعية عبادة المنحرفين للملائكة، واتهموهم بعبادتهم الجنّ ... ويلاحظ أنّ الحوار تضمن عنصر «السخرية» الذى يتناسب فنيّا مع مهزلة السلوك الصادر عن المنحرفين، فالسماء تخاطب الملائكة قائلة لهم أهؤلاء إياكم كان يعبدون ؟ والملائكة تنفي ذلك أمام المنحرفين، حيث يترك مثل هذا السؤال والجواب
ص: 528
أثره المنسحق على المشركين، ويدعهم يحيون مشاعر التمزق والهوان، ليس هذا فحسب، بل أنّ جواب الملائكة القائل بأنّ المنحرفين بَلْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ يكشف عن حقيقة جديدة هي: إمّا كون هؤلاء قد أغواهم: الشيطان وأعوانه - بصفته من الجن - بعبادة غير اللّه تعالى، فيكون التعبير بكونهم عبادا للجنّ صيغة أو صورة رمزية أو استعارية ترمز إلي كونهم قد أطاعوا الشيطان، وإمّا أن يقصد الملائكة بذلك أنّ المنحرفين كانوا عبادا لعنصر الجن مطلقا بصفتهم قوى غير مرئية تقترن في تصور المنحرفين بإمكانات ضخمة لا تتاح للبشر، وفي الحالين فإنّ عبادة غير الله تعالى لدى المنحرفين، ثم دحضها في ساحة المحاكمة، يظل هدفا فنيا للمقطع القرآني الكريم من خلال ربط الموضوعات بمحور السورة الكريمة التي تحوم على «اليوم الآخر» الذي يشكك به هؤلاء المنحرفون... وبالفعل، نجد أنّ المقطع القرآني الكريم بعد أن يفضح المنحرفين من عبادتهم الملائكة والجن، يخاطبهم قائلا ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ ، بصفة أنّ المنحرفين منذ بداية السورة تساءلوا ساخرين لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ، وها هو المقطع القرآني الكريم يجيبهم ساخرا أيضا ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ حيث أن (تذوق) النار ينطوي على صورة استعارية ساخرة كما هو واضح.
هنا، يعود النص من جديد إلى بيئة الحياة الدنيا ليكشف لنا جانبا جديدا من سلوك المنحرفين، بعد أن نقلنا إلى بيئة الاخرة، وكشف لنا من خلال تلكم البيئة جانبا من سلوكهم المنحرف؛ مع ملاحظة أنّ الانتقال بين البيئتين:
الدنيوية والأخروية يحقق للقارىء أو السامع إمتاعا فنيا مقرونا بالمسوغات الفكرية لهذا التنقل بين البيئتين، بصفة أنّ بيئة الدنيا تعرض السلوك الواضح للعيان. مع خفاء الدوافع والنتائج المترتبة عليه، وأنّ بيئة الاخرة تفضح تلكم الدوافع والنتائج وتعرض النتائج المترتبة على سلوك المنحرفين... لكن بغض النظر عن السمة الفنية المشار إليها، يعنينا أن نتابع رسم النص القرآني الكريم
ص: 529
لسلوك المنحرفين دنيويا حيث نجده يقول:
إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالُوا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُكُمْ وَ قٰالُوا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ إِفْكٌ مُفْتَرىً ، وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ وَ مٰا آتَيْنٰاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهٰا وَ مٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مٰا بَلَغُوا مِعْشٰارَ مٰا آتَيْنٰاهُمْ ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ .
لنلاحظ، أن العودة إلى بيئة الدنيا وكشف الجديد من سلوك المنحرفين، قد جاء في هذا المقطع مقرونا برسم طبيعة الأفكار الهزيلة التي تطبع المنحرفين.. فبعد أن فضحهم النص (في بيئة الآخرة من خلال عبادتهم الملائكة والجن) بدأ يكشف جانبا عن عقليتهم التي اقتادتهم لعبادة غير اللّه تعالى، حيث نقل لنا كيفية ردود الفعل الصادرة عنهم حيال رسالة الإسلام، فهم يقولون حينا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُكُمْ وحينا يقولون مٰا هٰذٰا إِلاّٰ إِفْكٌ مُفْتَرىً ويقولون حينا ثالثا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ هذه الأقوال، تكشف بوضوح عن مدى الانغلاق الفكري لديهم، حيث لا يملكون غير الاتهام بالكذب والسحر والصد عن تقليد الآباء... والمهم، أنّ النص القرآني الكريم قد ربط فنيا بين سلوك المنحرفين في هذا المقطع وصلته بالمقطع السابق الذي نقل لنا جانبا من بيئة الآخرة... والمهم أيضا، أنّ النص عاد من جديد ليلوح لهم بالعقاب الذي ينتظرهم، مذكرا إياهم بمصائر الأمم السابقة التي كانت أشد منهم قوة حيث لحقهم العذاب نتيجة للتكذيب... وهكذا يصل النص القرآني الكريم بين الموضوعات المختلفة ليصبها في نهاية الأمر في المحور الفكريّ العام للسورة، ونعني به قضية «اليوم الآخر» وما يرتبط به من منعكسات السلوك الدنيوي على ذلك، مما يكشف مثل هذا التلاحم بين الموضوعات عن مدى الإحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 530
قال تعالى قُلْ إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بِوٰاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ مَثْنىٰ وَ فُرٰادىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مٰا بِصٰاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلاّٰ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ قُلْ مٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ ، وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ مٰا يُبْدِئُ اَلْبٰاطِلُ وَ مٰا يُعِيدُ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ فَزِعُوا، فَلاٰ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ وَ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ وَ أَنّٰى لَهُمُ اَلتَّنٰاوُشُ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ، وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مٰا يَشْتَهُونَ كَمٰا فُعِلَ بِأَشْيٰاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كٰانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ .
بهذا المقطع تختم سورة سبأ التي بدأت بالحديث عن الكافرين، الذين شككوا بقيام الساعة فقالوا: لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ؟ هذا الرسم أول السورة الكريمة واكبه في آخر السورة الكريمة جواب يقول إِنَّهُمْ كٰانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي: أن القائل لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ؟ لهو في شك مريب... إذن: من حيث المبنى العماري للسورة الكريمة ثمة إحكام فنّي بالغ القيمة يصل بين بداية السورة ونهايتها... لكن: لنلاحظ مستويات هذا البناء الفني المتلاحم، من حيث موضوعاته المطروحة في نهاية السورة الكريمة... الموضوعات هي:
لفت نظر هؤلاء المشككين بقيام الساعة - بل مطلق المنحرفين - إلى النهاية الكسيحة التي تنتظرهم، حيث يواجهون الواقع المهول الذي لا يسمح لهم عندئذ بمراجعة أنفسهم، لنستمع إلى بداية الهول الذي سيواجهونه: وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلاٰ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ . الفزع هو أول رد فعل هائل يصعق المنحرفين، وهل ثمة اضطراب يهز الشخصية أكثر من اضطراب الفزع والخوف ؟ لكن، أي فزع.. النصوص المفسرة تشير إلى أنه (فزع) الساعة، وتشير أيضا إلى أنّه فزع (الموت)، وتشير إلى أنّه فزع المرحلة الأخيرة من
ص: 531
الدنيا عند ظهور المهدي عليه السلام حيث تخسف الأرض جيوش المنحرفين في البيداء.
وفي تصورنا أنّ النص الفني الخالد هو الذي يرشح بأكثر من تفسير وبأكثر من دلالة، أي: أنّ الفزع الذي يصيب المنحرفين من الممكن أن يكتسب صفة عامة فيشمل كل المنحرفين ويشمل كل المواقف المشار إليها:
الموت، الإنبعاث، الظهور... إلخ. ومن الممكن أن يكتسب صفة خاصة تشمل أولئك الذين تحدث النص القرآني عنهم ممن عاصر رسالة الإسلام وشكك بها وبقيام الساعة.. والمهم، أنّ المشككين أو المنحرفين بعامة سوف يفزعون عند مواجهتهم الموقف الذي سيحدد مصائرهم الأبدية، أنّهم يفزعون أولا، وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ فَزِعُوا ، ثم ماذا؟ فَلاٰ فَوْتَ أي: لا مهرب من الموقف، أنّهم محاصرون.. ثم ماذا وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ . أي سبقوا الى الموقف بأيسر طريقه، ومن أقرب مكان... وفي تصورنا أنّ قول تعالى وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ ينطوي على صورة تركيبية تقوم على الرمز أو الاستعارة، فهي لا تعني أنّهم أخذوا من قبورهم فحسب، بل تعني أيضا أنّهم تحت اليد، يأخذون بسهولة إلى الموقف، إلى الحساب... فيكون المكان القريب رمزا فنيّا إلى سهولة الأخذ والحساب... عند ذلك، تبدأ ردود الفعل الكاشفة عن مدى ندمهم وتمزّقهم واضطرابهم، وهذا ما يرسمه النص القرآني على هذا النحو: وَ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ وَ أَنّٰى لَهُمُ اَلتَّنٰاوُشُ !! هذه العبارة ذات معطى فني ضخم، المنحرفون يقولون عند مواجهة الهول: آمنّا بالله، لكن هل ينفعهم هذا القول ؟ القرآن يجيبهم بسخرية تقطع أنفاسهم وَ أَنّٰى لَهُمُ اَلتَّنٰاوُشُ ؟ أي: هيهات أن يصلوا، أن يتناولوا، أن يظفروا بما يريدون..
فالتناوش هو التناول - وهو تعبير رمزي أو استعاري يرمز إلى أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا ما يشتهون، وهذا ما أكده النص في الآية الأخيرة التي ختمت بها السورة، عبر قوله تعالى. وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مٰا يَشْتَهُونَ ... أي، وقف
ص: 532
هناك حاجزا بينهم وبين ما يشتهون وبين العذاب الذي ينتظرهم جزاء لانحرافهم... ثم تختم الآية بالتعليل الذي يفسّر سبب ذلك فيقول. إِنَّهُمْ كٰانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ، وهذا التشكيك الذي طبع سلوكهم - كما أشرنا - قد رسمه النص في بداية السورة الكريمة، عندما رسمهم بهذا النحو وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ ... إنّهم شككوا بقيامها وهم في الدنيا، وها هم في ساحة الموقف يندمون على ذلك، ولكن لا فائدة من الندم، طالما كانوا منذ البداية في شك مريب.
إذن، بهذا الختام الذي وصله النص ببداية السورة، نكشف مدى الإحكام الهندسي للسورة الكريمة من حيث ترابط وتلاحم أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.
ص: 533