التفسیر البنائي للقرآن الکریم المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : بستانی ، محمود، ‫1937 - 2011م.

عنوان و نام پديدآور : التفسیر البنائی للقرآن الکریم / تالیف محمود البستانی .

مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی: موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث ‫، 1422 ق. ‫= 1380 -

مشخصات ظاهری : ‫5 ج.

شابک : ‫20000 ریال ‫: دوره ‫ 964-444-359-4 : ؛ ‫دوره، چاپ دوم ‫ 978-964-444-359-6 : ؛ ‫ج.1 ‫ 964-444-364-0 : ؛ ‫750000 ریال ‫: ج.1، چاپ دوم ‫ 978-964-444-364-0 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-444-365-9 : ؛ ‫750000 ریال ‫: ج.2، چاپ دوم ‫ 978-964-444-359-6 : ؛ ‫ج.3 ‫ 964-444-366-7 : ؛ ‫750000 ریال : ج.3 (چاپ دوم) ‫ 978-964-444-359-6 : ؛ ‫ج.4 ‫ 964-444-367-5 : ؛ ‫800000 ریال ‫: ج.4، چاپ دوم ‫ 978-964-444-359-6 : ؛ ‫ج.5 ‫ 964-444-368-3 : ؛ ‫520000 ریال ‫: ج.5، چاپ دوم ‫ 978-964-444-359-6 :

يادداشت : عربی .

يادداشت : ج . 2 (1422ق . = 1380).

يادداشت : ج . 3 (چاپ اول: 1423ق .= 1381)

يادداشت : ج. 1 - 5 (چاپ دوم: 1440 ق. = 1397).

يادداشت : جلد اول تا پنجم این کتاب در سالهای1398- 1397 تجدید چاپ شده است.

يادداشت : ج.5 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).

يادداشت : ج.4 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).

يادداشت : ج.1 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).

يادداشت : ج.2 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).

يادداشت : ج.3 (چاپ سوم: 1442ق. = 1399).

يادداشت : ج.1-5( چاپ چهارم: 1401).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

موضوع : قرآن -- مسائل ادبی

Qur'an as literature

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

شناسه افزوده : Islamic Research foundation

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP98 /ب 5ت 7 1380

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/172

شماره کتابشناسی ملی : 613572

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

التفسیر البنائی للقرآن الکریم

تالیف محمود البستانی

بنیاد پژوهشهای اسلامی

ص: 3

ص: 4

سورة الأعراف

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الأعراف (7): الآیات 1 الی 3

بدأت سورة الأعراف على هذا النحو. بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ المص كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * اِتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 1-3].

الأفكار المطروحة في هذه المقدمة تتمثّل في عمليتين: إحداهما تتصل بشخصية المبلّغ و هي: الالتزام بعملية التبليغ دون أي إحراج، لتقوم الحجة به على الاخرين، في حالة عدم التزامهم بذلك، وليكون نموذجا للمؤمن يفيد منه في سلوكه العبادي.

أما العملية الأخرى فتتصل بالأشخاص المبلغين، حيث طالبهم النص بأن يلتزموا بمبادىء اللّه وحذّرهم من أن يتخذوا دونه وليّا، ثم عقّب على هذا التحذير بقوله قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ أي: أن القلة من الناس هم الذي يسترشدون بذلك أو أن الإفادة من ذلك: لقليلة.

إذن، من خلال هذه الأفكار المطروحة يمكننا أن نتابع السورة الكريمة لنجد كيفيّة تنامي هذه الأفكار فنيّا من حيث انعكاساتها على موضوعات السورة.

سورة الأعراف (7): الآیات 4 الی 5

فلنتابع. وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا فَجٰاءَهٰا بَأْسُنٰا بَيٰاتاً أَوْ هُمْ قٰائِلُونَ فَمٰا كٰانَ دَعْوٰاهُمْ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ [الأعراف: 4-5].

وهذا هو أوّل حادث يعرضه النص بالنسبة إلى الجزاء الدنيوي المترتّب على عدم الالتزام بمبادىء الله، وهو الإبادة الشاملة للمنحرفين، ثم ردّ فعلهم حيال ذلك حيث يقرّون (إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ ) ، حيث نستخلص من هذا العرض

ص: 7

المجمل للجزاء الدنيوي أن الانحراف سوف يقرّ به أصحابه، لكن بعد فوات الأوان، وهو أمر يعمّق من قناعة المتلقّي بأحقيّة رسالة السماء وبطلان ما سواها مما يدفعه إلى ممارسة الوظيفة التي أوكلت إليه.

سورة الأعراف (7): الآیات 6 الی 9

بيد أن النص لا يكتفى بعرض الجزاء الدنيوي (وهو جزاء حسّي وقع فعلا) بل يردفه بعرض الجزاء الأخروي أيضا لتتعمّق القناعة بحادث لم يقع بعد أن مهّد له بالحادث الحسّي المذكور، فقال: فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ مٰا كُنّٰا غٰائِبِينَ * وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ * وَ مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 6-9]. فهنا عرض للجزاء الأخروي أيضا بما في ذلك قضية المحاسبة لكل من المبلّغ والمبلّغ.

فبما أنّ النّص استهل السورة بضرورة التبليغ وعدم الحرج منه لسبب وآخر، حينئذ جاء السؤال بالنّسبة إلى المبلّغ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ في اليوم الآخر متجانسا فنيّا مع مطالبته في الحياة الدنيا بممارسة التبليغ. كما أنّ السؤال بالنسبة إلى المبلّغين فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يظل متجانسا مع مطالبته - في مقدمة السورة - باتباع ما أنزل إليهما.

بعد هذا التمهيد الذي طالب المبلّغين بإيصال أصواتهم إلى الآخرين دون حرج وبعد التلويح للآخرين بالجزاءات الدنيوية والأخروية التي تترتّب على الالتزام بالمطالبة المذكورة أو عدمه. بعد ذلك يتقدّم النص بطرح أفكار متنوعة تتنامى من خلالها ما سبق أن طرحه النّص في المقدمة، وما أجمله من الجزاءات، فيتقدم أولا إلى عرض البيئة الدنيوية التي أتاحها الله للإنسان بخاصة ما يتصل بالمعائش بصفتها الوسائل التي يتوكأ عليها في ممارسة عمله العبادي.

سورة الأعراف (7): آیة 10

يقول النص. وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ قَلِيلاً مٰا

ص: 8

تَشْكُرُونَ [الأعراف: 10]. هنا ينبغي أن نتذكّر بأن النص ذكر في مقدمة السورة التي طالب فيها باتباع ما أنزل من اللّه وعدم اتّباع سواه بأن الناس قليلا ما يتذكرون. وها هو الآن في حديثه، من أنّ اللّه مكّن الادميين في الأرض وجعل لهم فيها معائش قد عقب عليه بنفس الدلالة قائلا: قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ . فكما أنّ الآدميين قليلا ما يتذكّرون بالنسبة إلى الالتزام بمبادىء اللّه كذلك فإنهم قليلا ما يشكرون نعم الله وهي (المعائش) التي أتاحها اللّه للناس في الأرض.

هذا يعني أن النص ونحن نتحدث عن بنائه الفنّي المتلاحم قد قابل بين هاتين المفردتين من السلوك (قلّة التذكّر) و (قلة الشكر) في موضوعين مختلفين، إلا أنّهما يصبّان في رافد فكري موحّد، ومن تمّ فإن هذا سوف ينعكس بدوره على وقائع ومواقف لاحقة من السورة (بالنحو الذى سنتحدث عنه لاحقا إن شاء اللّه..).

سورة الأعراف (7): آیة 11

قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنٰاكُمْ ثُمَّ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ [الأعراف: 11].

في هذا المقطع عرض قصصي لنشأة الكائن البشري وتحديد وظيفته، وأهمية هذا العرض القصصي تتمثل - من زاوية عمارة السورة - في كونه يتحدث عن الكائن الآدمي من حيث كونه قد مهّد له في بداية السورة بضرورة التبليغ لرسالة اللّه، فقد لحظنا أن بداية السورة خاطبت النبيّ (ص) قائلة.

كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ

[الأعراف 2]. وها هي عملية التبليغ وإيصالها إلى الآخرين ثم موقف الآخرين منها حيث خاطبتهم البداية قائلة: اِتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الأعراف:

3]. ها هي عملية المبلّغ والمبلّغ تأخذ الآن صورة تفصيلية من خلال الحديث

ص: 9

عن نشأة الكائن الآدمي وتحديد وظيفته.

وأول ما يطالعنا في هذا الصدد هو أن المقطع أكسب العنصر الآدمي خطورة في غاية الأهمية هي مطالبة اللّه للملائكة بأن يسجدوا لآدم. فعملية السجود تعبير واضح عن خطورة الكائن الادمي: مما تعني خطورة الوظيفة العبادية التي أوكلت به.

وبعد أن أوضح النص قيمة الكائن الآدمي - من حيث صلتها بعملية التبليغ التي عرضتها مقدمة السورة. يتقدم النص بعرض قصصي لإبليس من حيث كونه قد امتنع عن السجود خلافا للملائكة، موضحا سبب امتناعه عن ذلك من خلال الحوار الآتي.

سورة الأعراف (7): آیة 12

قٰالَ مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].

إن هذا الحوار له صلة فنية ببناء السورة التي طرحت مقدمتها قضية التبليغ، وطرحت في الوقت نفسه قضيّة أنّ الناس (قليلا ما يتذكرون) (قليلا ما يشكرون)، بمعنى أن عنصر (المعصية) يبدأ من شخصية (إبليس) بحيث تقع الغالبية تحت تأثيره إلا القليل. هذه الدلالة سوف تتضح تماما حينما نواصل متابعة القصة. لكننا الآن حسبنا أن نشير إلى أن امتناع إبليس من السجود ينطوي على دلالة ستنعكس أصداؤها على مجموع السورة، كما أنها - في هذا المقطع الجزئي - تنطوى على دلالة يوحي بها النص و هي: قضية (التكبّر) من خلال التمسك بالأصل، حيث امتنع إبليس عن السجود لمجرد كونه ينتسب إلى (النار) وإلى إنّ (آدم) ينتسب إلى الطين.

والآن بعد أن نفهم هذه الدلالة، يتقدم النص إلى النتائج المترتبة على عملية الامتناع وانعكاساتها - من ثم - على مجمل السلوك البشري الذي قالت عنه مقدمة السورة بأنه (قليلا ما يتذكر) و (قليلا ما يشكر).

ص: 10

سورة الأعراف (7): آیة 13

إذا، فلنتابع القصة. قٰالَ فَاهْبِطْ مِنْهٰا فَمٰا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهٰا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّٰاغِرِينَ [الأعراف: 13].

إن إشارة المقطع إلى أن (الشيطان) من (اَلصّٰاغِرِينَ ) هو جواب فني مقابل كونه من المتكبرين. لنلاحظ - للمرة الجديدة - هذا التقابل بين (التكبر) الذي منع الشيطان من السجود وبين (الذل) الذي لحقه، أي: أن النتيجة كانت على الضد تماما من الباعث على التكبر، فإذا كان الامتناع عن السجود ينطلق من دافع (التكبّر) فإن (الذل) وهو ضد التكبر سوف يلحق الشخصية المتكبّرة.

إذا، كم كان المقطع محكما فنيّا حينما رتب أثرا مضادا للتكبر وهو الذلّ حتى يتحسس الآدميون بأنّ (المعصية) تفضي إلى نتائج مضادة للدافع إلى (المعصية)، وهو أمر له أهميته الكبيرة في ميدان السلوك وتعديلاته.

والان، لنتابع الحوار.

سورة الأعراف (7): الآیات 14 الی 18

قٰالَ أَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قٰالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ * قٰالَ فَبِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمٰانِهِمْ وَ عَنْ شَمٰائِلِهِمْ وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ * قٰالَ اُخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف: 14-18].

لنتذكّر - ونحن نتحدث عن البناء الفني للسورة - أن مقدمتها قالت عن الآدميين بأنهم (قليلا ما يشكرون) وها هو المقطع الذي ينقل لنا محاورة إبليس من خلال قوله: وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ . ها هو المقطع يلتقط من إبليس هذه العبارة لكي تتجانس مع مقدمة السورة، مقدمة السورة تقول: قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ ، ووسط السورة يقول. وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ . إذا، هناك تجانس أو تلاحم عضوي تتواشج من خلاله موضوعات السورة بهذا النحو الذي أوضحناه.

المهم، أن المحاورة المذكورة سوف تنعكس أصداؤها على المواقف

ص: 11

و الأحداث اللاحقة المتصلة بتجربة الإنسان، وهو ما نبدأ بتوضيحه لاحقا.

سورة الأعراف (7): الآیات 19 الی 22

قال تعالى: وَ يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلاٰ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطٰانُ لِيُبْدِيَ لَهُمٰا مٰا وُورِيَ عَنْهُمٰا مِنْ سَوْآتِهِمٰا وَ قٰالَ مٰا نَهٰاكُمٰا رَبُّكُمٰا عَنْ هٰذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونٰا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونٰا مِنَ اَلْخٰالِدِينَ * وَ قٰاسَمَهُمٰا إِنِّي لَكُمٰا لَمِنَ اَلنّٰاصِحِينَ * فَدَلاّٰهُمٰا بِغُرُورٍ فَلَمّٰا ذٰاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا وَ طَفِقٰا يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ نٰادٰاهُمٰا رَبُّهُمٰا أَ لَمْ أَنْهَكُمٰا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمٰا إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمٰا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 19-22] هذا هو القسم الثاني من قصة الميلاد البشري، حيث كان القسم الأول من القصة يتحدث عن امتناع الشيطان من السجود لآدم وانعكاسات ذلك على شخصية الشيطان.

وها هو القسم الجديد من القصة يلقي إنارة على قسمها الأول حينما يرتّب الآثار على سلوك إبليس. وها هي أولى تحركاته السوداء حيث ألقى الشبهة على آدم وحواء (بعد أن أبلغا بعدم الاقتراب من الشجرة) فاغترّا بيمينه - وهما يستبعدان أن يكذب أحد على اللّه تعالى - فذاقا الشجرة.

هذه هي - إذا - أول معصية من الشيطان يمارسها حيال العنصر البشرى تبعا لما أخذه على نفسه من الحجج باغواء الآخرين: في القسم الأول من القصة.

لكن، ما هي الانعكاسات المترتبة على خديعة إبليس لآدم وحواء؟.

القسم الثالث من القصة يتكفل بسرد ذلك، فلنقرأ رد الفعل من آدم

ص: 12

وحواء

سورة الأعراف (7): آیة 23

قٰالاٰ رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنٰا وَ تَرْحَمْنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ

[الأعراف: 23].

سورة الأعراف (7): الآیات 24 الی 25

ترتب على ذلك، ان اللّه تعالى: قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ قٰالَ فِيهٰا تَحْيَوْنَ وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 24-25].

إذا، القسم الثالث من القصة صاغ حقيقة التجربة البشرية وموقعها من التحرّك في الأرض.

الحقيقة هي: أن (العدوان) سوف يطبع السلوك الآدمي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وان الأرض أو الحياة الدنيا مرحلة خاصة تمتد إلى حين من الزمان ثم يعقبها الموت، ثم الانبعاث وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ .

هذه الحقائق المتصلة بالتجربة البشرية صاغها النص من خلال العنصر القصصي: بدلا من مجرد الإخبار.

و المهمّ بعد ذلك، أن نتوقع رسما للمبادىء التي ينبغي أن يتعامل الآدميون من خلالها بعد أن يكون الشيطان قد اختط لسلوكه: إضلال الآدميين

سورة الأعراف (7): آیة 26

يقول النص في مقطع جديد من السورة الكريمة: يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبٰاسُ اَلتَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . لا نغفل، إن مقدمة سورة الأعراف، طرحت المقولة المخاطبة للإنسان قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ ، وها هو النص الآن يربط بين هذه المقولة وبين مقولة جديدة هي لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، انه طرح على الآدميين مقوّمات البيئة التي ينبغي أن يكيفوا أنفسهم حيالها، فهيّأ لهم ما يحتاجون إليه من لباس وأثاث ونحوهما، مضافا إلى (التقوى) التي هي (خير) كما عبّر النصّ عم ذلك.

13

ص: 13

هذا يعني أن النص القرآني الكريم قد أوضح للآدميين ما ينبغي أن يختطوه لأنفسهم حينما أشار إلى البيئة التي يتحرك الإنسان من خلالها والمقوّمات التي أتاحتها السماء في هذا الميدان. إلا أن النص، عقّب على ذلك بأنه لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . مما يعني: أن هناك تحفّظا حيال ما سوف يسلكه الإنسان من ممارسات، وإلى أنها - أي الممارسات - لن تأخذ الوجهة المطلوبة من السلوك، بخاصة أن مقدمة السورة أشارت إلى ذلك بقولها. قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ وأن القصة أشارت بدورها إلى (العدوان)، فضلا عن تبجح إبليس القائل من خلال الحوار المنقول عنه: وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ .

كلّ هذه المواقف المتشابكة أو المتجانسة (وهي ذات سمة فنيّة من حيث عمارة السورة) توحي بأن التجربة الآدمية التي ستواجه المحيط الجديد سوف تكتسب عند غالبية الناس سمة السلب، وهو ما حذّر النص منه حينما عقّب على القصة المذكورة بقوله مخاطبا الناس:

سورة الأعراف (7): آیة 27

يٰا بَنِي آدَمَ لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمٰا لِبٰاسَهُمٰا لِيُرِيَهُمٰا سَوْآتِهِمٰا إِنَّهُ يَرٰاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ تَرَوْنَهُمْ إِنّٰا جَعَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:

27]. في هذا التعقيب جملة من الدلالات. أولا. ثمة حقائق طرحها النص مثل: كون الشيطان غير مرئي، بل يتجسّد في أفكار سوداء تغمر الشخص، مضافا إلى كونه ذا قبيل، أي. قوى أخرى يستعين بها الشيطان في مهمته السوداء. ثانيا: ثمة حقيقة أخرى هي إن اغواء الشيطان سوف ينحصر في الذين لا يؤمنون، علما بأن مقدمة السورة حذرت أيضا دون أن تحدّد الجهة:

(ولا تتبعوا من دونه - أي اللّه - أولياء)، بينا أوضحتها الآن حينما حددت ذلك متمثلة في الشيطان وقبيله.

إذا، أمكننا الآن أن نتعرف جانبا من البناء الهندسي للسورة، كما أمكننا أن نتعرف جانبا من الحقائق المتصلة بسلوك الشيطان حيال الآدميين من حيث

ص: 14

كونه يتجسّد في (أفكار) وليس في و جود حسّي، و من حيث كونه لا يمتلك فاعلية إلا في نطاق الأشخاص غير المؤمنين.

سورة الأعراف (7): الآیات 28 الی 30

قال تعالى: وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدىٰ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاٰلَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 28-30].

في هذا المقطع من السورة. جملة من الدلالات الفكرية تظل مرتبطة بالهيكل الفكري العام للسورة، فالسورة منذ بدايتها تطالب باتباع ما أنزل اللّه وعدم اتخاذ الأولياء من دونه. وها هو المقطع يؤكد هذا الجانب من جديد لكن في سياق آخر. أنه يتحدث عن فريق من الناس اِتَّخَذُوا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ علما بأن المقطع الأسبق من السورة ارتكن إلى قصة إبليس وإضلاله الآخرين، كما أنه حذّر منه قائلا: إِنّٰا جَعَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].

إذا، قضية اتخاذ المنحرفين الشيطان وليّا لهم تظل متكررة في أكثر من مقطع، تعبيرا عن التلاحم الفنيّ بينها من حيث خضوع المقاطع لدلالات عامة يشدّد النص عليها تحقيقا لهدف فكري خاص في هذا الميدان.

وقد طرح المقطع أيضا، دلالة فكرية أخرى عند المنحرفين وهي سلوك خاص كانوا يمارسونه في الطواف بنحو غير لائق أخلاقيا، قائلين بأنهم وجدوا آباءهم يمارسون ذلك وأن الله أمرهم به. حيث ردّ النص القرآني عليهم بأن اللّه لا يأمر بالقبيح من الأعمال، بل أنه يأمر بالقسط.

إن التشددّ على عرض هذه المفردة من سلوك المنحرفين، إنما هو تعبير

ص: 15

عن خطورتها دون أدنى شك، كما أن النص - وفقا لأيّ شكل فنىّ - لا بدّ أن يطرح جملة من الأفكار ضمن الخط الفكري العام للسورة، فهو عندما يعرض لأحد مظاهر الطواف حول الكعبة إنما يمنح الكعبة أهمية خاصة في الممارسات العبادية، كما أنه يمنح المساجد بعامة أهمية خاصة بصنتها محالاّ للتوجّه إليه، لذلك عقّب على السلو ك الجاهلي الذى أشرنا إليه، عقّب على ذلك. مخاطبا المؤمنين: أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ثمّ عرّج على قضية طرحها في المقدمة من السورة، كما طرحها ضمن قصة آدم وحواء ونزولهما إلى الأرض وهي قوله. فِيهٰا تَحْيَوْنَ وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ أي: الخروج من الأجداث عند القيامة، حيث عرّج على هذا الجانب من جديد حينما أضاف قائلا: وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .

وهذا يعني أن النص يعنى بالخط الفكرى العام للسورة، يظل حائما عليه من حين لآخر ولكن في سياقات جديدة يستهدف توصيلها إلى المتلقي.

وأيا كان الأمر، فإن المقطع الذي نتحدث عنه، طرح - في جملة ما طرحه - قضية المسجد وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وواصل الحديث عنه في مقطع جديد عندما قال: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ والزينة هنا هي دلالة فكرية جديدة، وسواء أكانت تعني لبس الجيّد من الثياب في المسجد، أم ترمز إلى الستر من الألبسة، خلافا لما قلناه من أن الجاهليين كانوا لا يتسترون في ألبستهم عند الطواف، مدّعين أنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن اللّه أمرهم به، ففي الحالين يمكننا أن نتبين الموقع الهندسي لهذه المطالبة بالزينة، فإذا كانت الزينة يقصد بها (الستر) من الملابس فهذا إما يتجانس فنيا مع المقطع الأسبق الذي تحدث عن عدم الستر عند الجاهليين في طوافهم، وامّا إذا قصد بالزينة لبس الجيد من الثياب، فهذا يعني أن النص يستهدف طرح دلالة فكرية جديدة هي: إباحة الزينة بل ندبيتها بالنسبة إلى

ص: 16

الصلاة وهو أمر يتجانس فنيّا مع ما يطرحه النص لاحقا من قضية تتصل بالطيبات وموقعها من الإباحة.

سورة الأعراف (7): آیة 31

يقول النص: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاٰ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]. فالنص هنا ربط بين الزينة وبين (الأكل والشرب) بصفتهما يخضعان لإمكانية الأكل والشرب بقدر الحاجة، والأكل والشرب على نحو الزائد على الحاجة، فهو أباح قضية الطعام والشراب، لكن منع من الإسراف فيهما، لاعتبارات نفسية وبدنية. أمّا البدنيّة فمن الوضوح بمكان ما دمنا نعرف أن غالبية الأمراض ترتبط بالإسراف في الأكل والشرب، وأما الاعتبارات النفسية فمن الواضح أيضا أن العناية الزائدة بالأكل والشرب تنأى بالشخص عن الصفاء والشفافية وتدعه معنيا بذاته وبإشباعاتها فحسب، كما أن النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) طالما أشارت إلى أن اللّه يبغض المعنيين ببطونهم وأنهم أبعد ما يكونون عن الله تعالى.

والمهم، أن النص طرح في تضاعيف الخط الفكري العام للسورة، أفكارا ثانوية جديدة منها: قضية الزينة عند الصلاة، ومنها قضية الاعتدال في الأكل والشرب، كما أنه سوف يطرح فكرة عامة عن مفهوم (الزينة) وموقف المشرّع الإسلامي منها (بالنحو الذى سنتحدث عنه لاحقا).

سورة الأعراف (7): الآیات 32 الی 33

قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 32-33].

ص: 17

هذا المقطع من السورة امتداد لمقطع سابق كان يتحدث عن الزينة عند كل مسجد، وعن الأكل والشرب بغير إسراف. وها هو الآن يحدثنا عن مبدأ عام في المباحات المتصلة بالملبس والمأكل. ومن الواضح أن هناك حاجات ثانوية مثل الملبس (من حيث كونه زينة) والمأكل (من حيث كونه طيّبا) لم يحرمها اللّه بقدر ما قدم توصيات حيالها تطالب بعدم الإسراف فيها أو بعدم التهافت عليها، وهو أمر لا يضادّ اتخاذهما زينة وطيّبات تحقق إشباعا خاصا للشخصية، فالحاسة الذوقية الجمالية إلى تذوّق الطيب من الأكل وانتخاب الجميل من الثياب سمح المشرّع الإسلامي بإشباعها في الحدود التي لا يترتب ضرر عليها، كما لو أسرف من ذلك مثلا، والمهمّ أن من معطيات اللّه على المؤمنين أن أباح لهم هذا الحجم من الطيبات في الدنيا، وأضاف إلى ذلك تدفّقها يوم القيامة عليهم خالصة، بعكس الشخصية الكافرة التي تنعم بطيّبات اللّه في نطاق الحياة العابرة فحسب. والمهم أيضا، أن المقطع بعد أن أوضح ظاهرة الإباحة في التنعّم بمعطيات الله من ملبس ومأكل، بدأ يوضح المحرّم من السلوك حيث سرد لنا جملة من المحظورات، تأكيدا عليها مثل: إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ ... [الاعراف: 33].

واضح، أن سرد هذه النماذج لا يعني (الحصر) بل يطرحها النص في تضاعيف حديثه عن بعض المباح والمحظور كما هو دأبه الفنّي في نصوص القرآن الكريم.

وأيا كان، فإن طرح هذه الظاهرة جاء في سياق التجربة الآدمية على الأرض حيث بدأ النص يتحدث عن نزول آدم وحواء إلى الأرض وموقع الشيطان من ذلك، وتحذير الآدميين منه، وتذكيرهم بما هيأته السماء للآدميين من مقوّمات البيئة التي تواجههم. وخلال حديثه عن البيئة الآدمية: يطرح

ص: 18

النص بين حين وآخر مجموعة من المبادىء التي ينبغي الالتزام بها في غمرة الوظيفة العبادية الموكلة إلى الآدميين، كما يطرح مجموعة من الحقائق المتصلة بالكون، والمصائر البشرية، وغيرها. لذلك، ما أن انتهى النص من حديثه عن الطيّبات في الرزق وغيره، حتى بدأ يطرح واحدة من الظواهر الاجتماعية وهي قوله تعالى:

سورة الأعراف (7): آیة 34

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34]. هنا يتحدث النص عن مبدأ اجتماعي وليس عن مبدأ فردي، المبدأ الاجتماعي هو: أن كل مجتمع من المجتمعات البشرية محدود بأجل معيّن لا يستأخر عنه ولا يستقدم. وأهميّة هذا الأجل هو استثماره للممارسة العبادية دون أدنى شك. لذلك عقّب النص على المبدأ المذكور بقوله متحدثا عن صلة ذلك برسل اللّه الذين أرسلتهم السماء لممارسة وظيفتهم الإصلاحية:

سورة الأعراف (7): الآیات 35 الی 36

يٰا بَنِي آدَمَ إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ [الأعراف: 35-36]. إذا، نستخلص من هذا أنّ المقطع استهدف من ذكر الأجل الاجتماعي لكلّ أمّة من أنه محدود بمساحة زمنية معينة، استهدف استثمار ذلك من خلال الإفادة من تعليمات الرسل الذين أرسلهم اللّه لهذا الهدف العبادي، مبشرا المؤمنين بأنه لا خوف عليهم و لا هم يحزنون في اليوم الآخر، بعكس المكذّبين الذين سيلحقهم الجزاء السلبي.

وقد عقّب النص على المكذبين، بهذا النحو الذي نستكشف من خلاله أنهم كانوا يتخذون غير اللّه أولياء لهم:

سورة الأعراف (7): آیة 37

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قٰالُوا أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا وَ شَهِدُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰافِرِينَ [الأعراف: 37]. إن هذا المقطع يتضمن عدة دلالات فنية، منها: ما

ص: 19

يتصل بالجانب الهندسي من السورة، حيث لحظنا أن مقدمة السورة ووسطها قد شدّد على قضية التوحيد وحذّر من اتخاذ ما دون اللّه أولياء وَ لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ [الأعراف: 3] إِنّٰا جَعَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ

[الأعراف: 27]. وها هو الآن: يقصّ علينا أحد مواقف الموت أو اليوم الآخر حيث يخاطب الملائكة أولئك المكذّبين: قٰالُوا أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فيجيب المكذّبون: قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا أي لا أثر لهم أمامنا الآن. وهذا يعني - من الزاوية الفنية - من خلال إيحاء غير مباشر، بأنّ اتخاذ ما دون اللّه وليا سوف لن يعود بأية فائدة للمنحرفين عند مواجهتهم اللحظة الحاسمة، كما أنه يشكّل تفصيلا لما أجملته المقدمة والوسط حينما طالبتا بعدم اتخاذ ما دون اللّه وليّا حيث جاء الجواب بأنّ اتخاذ ذلك سوف ينعكس على المصائر الأخروية بالنحو الذي أشرنا إليه.

سورة الأعراف (7): الآیات 38 الی 39

قال تعالى: قٰالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّٰارِ كُلَّمٰا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهٰا حَتّٰى إِذَا اِدّٰارَكُوا فِيهٰا جَمِيعاً قٰالَتْ أُخْرٰاهُمْ لِأُولاٰهُمْ رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا فَآتِهِمْ عَذٰاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّٰارِ قٰالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَعْلَمُونَ وَ قٰالَتْ أُولاٰهُمْ لِأُخْرٰاهُمْ فَمٰا كٰانَ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 38-39].

هذا المقطع امتداد لمقطع سابق كان يتحدث عن مبدأ اجتماعي هو: أنّ لكل أمّة أجلا وانّ الرسل جاءتهم بالبيّنات. هنا، ينقل النص لنا بيئة خاصة من اليوم الآخر فيقصّ لنا حكاية أو أقصوصة عن البيئة المذكورة مما تتصل بموقف المكذّبين للرسل. إن هذا القص يتميّز بكونه مدهشا من الزاوية الفنية، فهو يقتطع شريحة من الزمن ويفصلها عن تسلسلها الموضوعي الذي كان يتحدث فيه عن أجل كل أمّة، وينقلها إلى زمان لاحق (لم يحدث بعد) موضحا ذلك

ص: 20

من خلال الحوار القصصي الآتي:

قٰالَ : اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّٰارِ... ، المتحدّث هنا هو (الله تعالى)، فيقول لهذا المجتمع المكذّب برسالة الإسلام: ادخل أيها المجتمع المنحرف في النار مع أمم سالفة من الجن والإنس. فهنا نواجه منحى فنيا في غاية الأهمية، المنحى الفني هو أن الله يعرض خلال محاورته مع المكذبين، يعرض حقائق كونية أخرى هي: أن مجتمعات من (الجن) أيضا سوف تواجه نفس المصير الكسيح الذي يواجهه مكذّبو الإنس.

بعد ذلك، ينقل لنا المقطع حقائق عن هذه المجتمعات (مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ ) ، فهذه المجتمعات - يقول عنها النص كُلَّمٰا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهٰا أي. أن كل مجتمع منحرف عندما يدخل النار، يلعن المجتمع الذي سبقه إلى النار بصفته مجتمعا يشاركه في الانحراف، وسبب اللعن هو أن المنحرف ينتبه في ذلك الموقف على خطاياه فيمتلكه الأسى والندم والتمزّق، ويجد نفسه تلقائيا مشحونا بعواطف الكراهية حيال أي مجتمع يشاركه في الانحراف، نظرا للهول الذي يواجهه آنئذ.

المهم، إن هذا المرأى أو المشهد الذي نقله النص من أنّ كل أمة تلعن أختها عند دخولها النار، قد تابع عرضه قائلا: حَتّٰى إِذَا اِدّٰارَكُوا فِيهٰا جَمِيعاً أي: عندما تجتمع كل الأمم المنحرفة في النار، حينئذ سوف تتكون لديهم - من خلال الإيحاء الجمعي - انطباعات جماعية يستوحونها من التجمّع المنحرف المذكور. هذه الانطباعات أو الاستجابات أو ردود الفعل تتمثل في الحوار الآتي بينهم: قٰالَتْ أُخْرٰاهُمْ لِأُولاٰهُمْ رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا فَآتِهِمْ عَذٰاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّٰارِ وهذا ما يقوله الاتباع الذين انقادوا لرؤسائهم فيجيبهم الله لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَعْلَمُونَ . فالاتباع من شدة انفعالاتهم بالموقف المدمر

ص: 21

الذي واجهوه، يخاطبون اللّه قائلين. إن هؤلاء الرؤساء الذين اتبعناهم قد أضّلونا، فضاعف اللهم عليهم العذاب!! فيجيبهم اللّه: لكل ضعف، أي: لكم ولهم عذاب مضاعف.

لنلاحظ، كيف أن النص رسم الموقف في أشد الحالات تمزقا للنفس المنحرفة، فالمنحرفون نظرا لشدة تمزقهم يطالبون اللّه بأن يضاعف العذاب على رؤسائهم حتى يخففوا عن أنفسهم حدة الأزمة التي يعانون منها، إلا أنّ اللّه يأبى أن يخفف عنهم الأزمة بل يضاعفها عليهم حينما يقول لهم. إن العذاب سوف يضاعف عليهم بالفعل، ولكن سوف يضاعف عليكم أنتم - أيها الاتباع - أيضا، وليس على الرؤساء فحسب.

للمرة الجديدة، ينبغي للمتلقي أن يتأمل بدقة هذا النمط من التعبير الفني المدهش الذي يجعل المنحرف في أشد حالاته تمزقا، جزاء لانحرافه.

والآن بعد أن لحظنا كيف أن الاتباع من المنحرفين يواجههم الله بإجابة تزيد من تمزقهم بدلا من التخفيف عنها، نتجه إلى الرؤساء من المنحرفين فنجدهم يخاطبون الاتباع قائلين:

فَمٰا كٰانَ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من خلال هذا الحوار الفني المدهش نستكشف حقيقة فنية أخرى، مضافا لما تقدم، وهي: إن النص بدلا من أن يقول لنا انه لا فرق بين الرؤساء والاتباع من حيث كونهم جميعا يصدرون عن الانحراف، جعل المنحرفين أنفسهم يكشفون عن هذه الحقيقة ليكون الحوار أشدّ غنى و حيوية و متعة.

فالاتباع خيّل إليهم أنهم أقل جريمة من رؤسائهم حينما خاطبوا الله مطالبين بأن يضاعف على رؤسائهم العذاب.

وأما الرؤساء فقد أجابوهم بعبارة زادتهم تمزقا أيضا، بعد أن أجابهم اللّه بعبارة مزقتهم كل ممزق وهو قوله تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: لكم - أيها

ص: 22

الاتباع - ولهم (الرؤساء)، ولكن لماذا؟ جاء الجواب الفنيّ على لسان الرؤساء أنفسهم حينما قالوا للاتباع فَمٰا كٰانَ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، أي: أنتم، أيها الأتباع الذين طالبتم بأن يضاعف العذاب علينا نحن الرؤساء، لا تفترقون عنا في درجة الانحراف والكفر، حتى تطالبوا المضاعفة من العذاب علينا، بل نحن وأنتم في صعيد واحد من الانحراف، فذوقوا العذاب نتيجة لانحرافكم أيضا.

إن المتلقي الذي يمتلك خبرة فنية في تذوّق النصوص، يدرك أهمية هذا النمط الفني من الحوار الذي رسمه النص القرآني الكريم في هذا المقطع الذي يرسم مواقف المنحرفين في أشد حالاتهم تمزقا وأسفا وندما وتوتّرا وانسجاما وألما. بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 40 الی 41

قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا لاٰ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰابُ اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهٰادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوٰاشٍ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلظّٰالِمِينَ

[الأعراف: 40-41].

هذا المقطع يتحدث عن بيئة يوم القيامة بالنسبة إلى المنحرفين. وكان المقطع الأسبق يتحدث عن نفس هذه البيئة، إلا أنه نقل لنا المحاورات التي جرت بين المنحرفين (اتباعا ورؤساء) وهم في جهنم. أما الآن فيتحدث المقطع عن نفس جهنم بعد أن انتهى من عرض مواقفهم أثناء دخولهم فيها.

فماذا قال ؟ قال النص عنهم بأنه لا أمل البتة في إنقاذهم من النار التي دخلوها، وقدّم صورة فنيّة للتعبير عن الحقيقة المتقدمة وهي أنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، أي: لا يدخل المنحرفون الجنّة حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة مثلا. أهمية هذا التشبيه تتمثل في كونه مستقى من واقع البيئة

ص: 23

التي خبرها المعاصرون لرسالة الإسلام، فالجمل هو أكبر الحيوانات المألوفة في خبرات الناس آنئذ، كما أن الإبرة أصغر الظواهر سعة، فكما أنه من الممتنع تماما أن يدخل البعير في ثقب الإبرة، فإنه من المستحيل أن يسمح للكافر ذات يوم أن يدخل الجنة، وهذا - كما نعرف - منتهى ما يمكن أن يعبّر عنه في رسم اليأس والقنوط.

وهنا يجب أن نتذكر بأن هذا المقطع المتضمن للتشبيه المذكور إنما جاء في سياق الحديث عن المنحرفين وكيف أنهم ينشطرون إلى رؤساء واتباع، وإن كلا من الرؤساء والاتباع قد طالب الله تعالى بأن يضاعف العذاب على صاحبه، الاتباع طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الرؤساء هم السبب في انحرافهم، والرؤساء طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الاتباع لا يفترقون عنهم في درجة الانحراف، وهذا ما يزيدهم تمزقا كما أشرنا سابقا.

والآن، يضيف النص إلى تمزقاتهم مثيرا جديدا هو أشدّ من سابقه إثارة، فإذا كان المنحرفون قد تيقنوا سابقا بأن لهم عذابا ضعفا (رؤساء واتباعا)، فإنهم الآن قد وصلوا إلى يقين ثابت هو: أنهم لا أمل لهم البتة في الإنقاذ، أي: ليس أنهم سوف يضاعف عليهم العذاب فحسب، بل أن العذاب سوف يستمر إلى الدرجة التي لا أمل في التخلص منه.

إذا، كم كان النص مدهشا - من الزاوية الفنية حينما أحكم البناء العماري أو الهندسي، فجعل مقاطعه تتنامى من درجة لأخرى وفق تدرجّ فني في رسم المنحنيات النفسية للمنحرفين، حيث وصفهم أولا بأنهم ممزّقون فحسب حينما لعنت كل أمّة أختها في الإنحراف عند دخولهم النار أول مرة، ثم وصفهم بحالة من التمزق أشد من سابقتها حينما أوضح بأن لهم عذابا ضعفا، ثم نقلهم إلى درجة اليأس حينما أوضح لهم بأنهم سوف لن يدخلوا الجنة أبدا إلا إذا دخل البعير ثقب الإبرة.

ص: 24

للمرة الجديدة ينبغي ألاّ نغفل عن هذا البناء الهندسي المحكم الذي صاغه النص وفقا للمنحنيات النفسية التي سوف يواجهها المنحرفون عن مبادىء الله.

والآن، ينتقل النص إلى رسم مصائر المؤمنين مقابل المنحرفين فيقول:

سورة الأعراف (7): الآیات 42 الی 43

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهٰارُ وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهٰا بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[الأعراف: 42-43].

إننا ما دمنا نعنى بالبناء الهندسي للسورة، ينبغي أن نتذكر بأن المقطع هنا يتحدث عن أصحاب الجنة ويقول انه قد نزع من صدورهم الحقد، هذا التعبير لم يجىء لمجرد ذكر الحقيقة النفسية التي تطبع أصحاب الجنة فحسب، بل جاء في سياق هندسي يقابل أصحاب النار الذين تقدم الحديث عنهم، حيث وصفهم النص بأنهم في أشد حالات الحقد.

لقد لحظنا كيف أن الاتباع طالبوا الله تعالى بأن يضاعف العذاب على رؤسائهم المنحرفين، ولحظنا كيف أن الرؤساء طالبوا بنفس الشيء بالنسبة إلى اتباعهم، أي أن النص رسمهم في قمة (الحقد) الذي يكنه بعضهم للآخر، وهذا على العكس تماما من أصحاب الجنة حيث رسمهم في قمة (الحب) قائلا عنهم: وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ).

إذا، جاء الرسم المتصل بكون أصحاب الجنة بلا حقد، جاء مقابلا فنيا لأصحاب النار الذين يملؤهم الحقد كما رأينا. وهذا ما يشكل قمة الامتاع الفني من حيث عمارة النص.

ولو تابعنا سائر ما ورد في المقطع من أفكار، لوجدنا أن هذه الدلالات

ص: 25

سوف تكون لها منعكساتها في مقطع لاحق من السورة يتحدث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار من خلال ظاهرة (الاعراف) كما سنتحدث عن ذلك.

والمهم هو، أن النص رسم أولا ظاهر التكليف بما في وسع الإنسان وليس تحميله أكثر من طاقته وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أي أن أصحاب الجنة إنما دخلوها فلأنهم التزموا بمبادىء الله وهي مبادىء لا تتجاوز طاقتهم بمعنى أنهم لم يكلّفوا أنفسهم جهدا يدخلون الجنة من أجله هو فوق طاقتهم، بعكس المنحرفين الذين أضاعوا أمثلة هذا السلوك الذي لم يكلفهم جهدا فوق طاقتهم فاستحقوا بذلك العقاب المذكور.

هذه الحقيقة طرحها النص في سياق المقارنة بين أصحاب الجنة والنار، من خلال منحى فني غير مباشر، بغية توصيلها إلى المتلقي والإفادة منها في تعديل سلوكه. وبعد أن طرح هذه الحقيقة (. عدم تكليف الإنسان أكثر من طاقته) اتجه النص إلى مواصلة رسمه لمواقف يوم القيامة التي بدأها برسم الداخلين إلى النار، ثم رسم بيئة النار، وما واكبها من المحاورات القائمة بين المنحرفين، ثم رسم بيئة الجنة، ثم رسم بيئة جديدة يواجهها المنحرفون والمؤمنون حيث سنواجه رسما جديدا فيها مصحوبا بحقائق جديدة، بالنحو الذي سنقف عنده.

سورة الأعراف (7): الآیات 44 الی 45

قال تعالى: وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنٰا مٰا وَعَدَنٰا رَبُّنٰا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مٰا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قٰالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كٰافِرُونَ [الأعراف: 44-45].

هذا المقطع امتداد لمقاطع سابقة بدأت بالحديث عن أولى مراحل اليوم

ص: 26

الآخر (الموت) ثم الموقف وما واكبه من مناقشات بين أصحاب النار (رؤساء وتابعين) ثم (الجحيم) وكيفية دخولهم فيها.

أما الآن فيتحدث النص عن مرحلة رابعة من مراحل اليوم الآخر وهي مرحلة الجحيم مقابلا للجنة من حيث المواقف التي يصدر عنها كل من أصحاب الجنة وأصحاب النار عبر المحاورات التي تجري بين الفريقين، وأهمية هذه المحاورات تتمثل في كونها وسيلة قصصية تنقل لنا حقائق جديدة عن الإيمان، والحياة، والمبادىء، يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي للإفادة منها في تعديل سلوكه.

إذا، لنتقدم إلى هذا المرأى أو ما يسمّى في اللغة القصصية بالمشهد أو الموقف، فماذا نجد؟.

أولا: ينقل لنا النص مرأى مسرحيا هو: بيئة الجنة وبيئة النار متقابلين، يطلّ أصحاب الجنة على أصحاب النار فيقولون لهم: قَدْ وَجَدْنٰا مٰا وَعَدَنٰا رَبُّنٰا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مٰا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فيجيبهم أصحاب النار بكلمة (نعم)، وهنا يتدخّل عنصر ثالث فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فيعقّب على قول أهل النار قائلا:

أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ * اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كٰافِرُونَ . إذا، وظيفة العنصر الثالث هي (من الزاوية الفنية) تقرير الحقيقة المتصلة بشرح أسباب دخول المنحرفين النار، حيث وصفهم بأنهم يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً و هُمْ بِالْآخِرَةِ كٰافِرُونَ .

ثم يتقدم النص بعرض المرأى أو المشهد المذكور، متابعا سائر الجوانب المتصلة به، فيقول:

سورة الأعراف (7): آیة 46

وَ بَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ [الأعراف: 46].

هنا نواجه عرضا جديدا ينقل لنا إحدى حقائق الموقف الأخروي، وهو أنّ بين الجنة والنار (سورا)، ويقف على هذا السور رجال يعرفون كلا من

ص: 27

الناس بسيماهم، وهؤلاء الرجال - حسب النصوص المفسّرة - هما المصطفون من البشر (أنبياء وأئمة) يعرفون أفراد مجتمعاتهم (مؤمنين ومنحرفين). حيث ينادون أصحاب الجنة بعبارة (سلام عليكم) تهنئة لهم بالفوز وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ .

وهذا بالنسبة لأصحاب الجنة وموقف الرجال المصطفين منهم، وأمّا بالنسبة لموقفهم من أصحاب النار، فهو كما تنقله القصة:

سورة الأعراف (7): آیة 47

وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ [الأعراف: 47]. بمعنى أنهم مشفقون من المصائر الكسيحة التي انتهى المنحرفون إليها. وهنا نواجه جانبا جديدا من الموقف، تشرحه القصة على هذا النحو.

سورة الأعراف (7): الآیات 48 الی 49

وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ قٰالُوا مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاٰ يَنٰالُهُمُ اَللّٰهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 48-49]، فمن هذا الحوار الحيّ نستخلص حقيقة اجتماعية هي أن المنحرفين كانوا معتقدين جازمين بأن المؤمنين برسالة الله لا تنالهم الرحمة، لذلك يخاطبهم أصحاب الأعراف متسائلين: أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاٰ يَنٰالُهُمُ اَللّٰهُ بِرَحْمَةٍ ثم إمعانا في ردّ مقولتهم السابقة يخاطبون المؤمنين: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ . ولا يخفى على المتلقى مدى أهمية هذا النمط من السلوك حيال المنحرفين من حيث الإيلام النفسي الذي يترتب على المنحرفين.

وقد سبق أن لحظنا في المقاطع السابقة من هذه القصة كيف أن النص شدّد على الأسلوب النفسي في التعامل مع الكافرين في اليوم الآخر، بحيث يدعهم متمزقين في أشد حالات الإيلام، فهو يردّ على الضعفاء الذين انقادوا إلى رؤسائهم حينما طالبوا بمضاعفة العذاب عليهم، يردّ على ذلك بأن

ص: 28

مضاعفة العذاب سوف تشملكم وتشمل رؤساءكم أيضا، كما يؤيسهم من دخول الجنة جميعا حينما يؤكد بأن استحالة دخولهم مثل استحالة دخول البعير من ثقب الإبرة، كما يجعلهم - وهم طوائف اجتماعية متنوعة - بأن تلعن كل طائفة أختها من الإنحراف، وها هو الآن يتابع نفس الأسلوب النفسي في الإيلام حينما يجعل أصحاب الأعراف يردّدون عليهم بهذا النمط من الرّد حيث يسخر أصحاب الأعراف منهم حينما يقولون لهم: أصحيح أن هؤلاء المؤمنين الذين أقسمتم بأنهم لن تنالهم الرحمة، أصحيح أنهم كذلك ؟ ثم يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغما على هؤلاء المنحرفين.

إذا، أمكننا الآن أن نقدّر هذا النمط من التجانس الفني بين مقاطع السورة بالنسبة لواحد من عناصر القص، وهو أمر سوف نلحظه أيضا بالنسبة للجزء الأخير من القصة.

سورة الأعراف (7): الآیات 50 الی 53

قال تعالى: وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ أَوْ مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَهُمٰا عَلَى اَلْكٰافِرِينَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فَالْيَوْمَ نَنْسٰاهُمْ كَمٰا نَسُوا لِقٰاءَ يَوْمِهِمْ هٰذٰا وَ مٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ * وَ لَقَدْ جِئْنٰاهُمْ بِكِتٰابٍ فَصَّلْنٰاهُ عَلىٰ عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ فَيَشْفَعُوا لَنٰا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:

50-53].

هذا هو القسم الأخير من قصة (الأعراف) حيث يتحدث عن جانب جديد من الحقائق المتصلة بالعلاقة بيق أصحاب الجنة وأصحاب النار.

إن أصحاب النار يطالبون أهل الجنة بأن يفيضوا عليهم شيئا من الشرب

ص: 29

و الأكل، إلا أن أهلل الجنة يردّون عليهم بالقول بأن اللّه حرمهما على الكافرين هذا هو الحوار القائم بين الفريقين: الفريق المنحرف المطالب بشيء من الشرب والأكل، والفريق المؤمن الذي يجيبه بأن ذلك محرّم على الكافرين.

وأهمية هذا الحوار تتمثل في كونه يكشف أولا: عن أن الحواجز بين الفريقين ترفع ولو في نطاق محدد، وثانيا: أن شخصيات المنحرفين بالرغم من كونها تحيا أشدّ آلام العذاب إلا أنها تمنح فرصة التعبير عن جزائها الذى لحقها، أو لنقل: تتحسّس ذلك دون أن يحتجزها العذاب من التعبير عنه لفظيا أو حركيا. والأهم من ذلك أن المؤمنين عندما يخاطبون أهل النار بأن اللّه حرّم الأكل والشرب على الكافرين، حينئذ لا يتقدمون بأيّ تعقيب آخر على هذا الحكم بل يتركون ذلك للّه تعالى حيث يعقّب على ذلك بأنهم اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وهذا يعني أن المنحرفين لا ينحصرون في الجاحد باللّه تعالى فحسب، بل حتى أولئك الذين يتخذون من الدين وسيلة لهو ولعب مثل تحريفهم لكلام اللّه مثلا أو عدم التزامهم بمبادئه... الخ. كما أن النص يضيف إلى ذلك ظاهرة عامة هي وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا حيث يشمل غرور الحياة كل أنواع الانحراف كفرا كان أم فسقا (أي عدم الالتزام بمبادىء اللّه).

أخيرا، عقّب النص على ذلك جميعا بقوله: فَالْيَوْمَ نَنْسٰاهُمْ كَمٰا نَسُوا لِقٰاءَ يَوْمِهِمْ هٰذٰا . إن هذه المعادلة بين نسيان المنحرفين ليوم الحساب في غمرة اهتمامهم بشؤون الحياة الدنيا، وبين نسيان اللّه إيّاهم في اليوم الآخر، تعدّ في قمة الحقائق التي ينبغي أن يقف المتلقّي عندها للإفادة منها في تعديل السلوك، فعملية النسيان المتبادل قائمة على مسوغات لا سبيل إلى الترديد فيها، ما دام أحد الأطراف هو الذي اختار ملء إرادته نسيان اللّه حيث يظل الطرف المذكور هو الخاسر دون أدنى شك.

ودليل الخسران، يتقدم النص بتوضيحه من خلال منحى فنيّ غير مباشر

ص: 30

حينما يواصل النص تعقيبه على سلوك المنحرفين المذكور قائلا وَ لَقَدْ جِئْنٰاهُمْ بِكِتٰابٍ فَصَّلْنٰاهُ عَلىٰ عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ .

إذا، يتساءل المنحرفون بمرارة: فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ . لنتأمل من جديد هذه العبارة التي رسم بها النص ظاهرة نسيان المنحرفين لكتاب الله يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ . ماذا يقول هؤلاء؟ فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ فَيَشْفَعُوا لَنٰا؟ ويقولون أيضا: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ .

إذا، من خلال تمنيهم بأن يكون لهم شفعاء، ومن خلال تمنّيهم بأن يردّوا من جديد إلى الأرض فيغيروا سلوكهم. من خلال ذلك نفهم بوضوح أن طرف المعادلة (وهو المنحرف عن الله ومبادئه) هو الخاسر في عملية النسيان الذي ذكرها النص من أن المنحرفين بما أنهم نسوا مبادىء اللّه (في الحياة الدنيا) حينئذ أهملهم اللّه تعالى في الحياة الآخرة.

وأيا كان، فإن هذه القصة (قصة الأعراف) بما تضمنتها من عنصر الحوار الحيّ الذي لحظناه مفصلا في هذا القسم وفي الأقسام السابقة من السورة، وظفت فنيّا لإنارة أكثر من جانب يتصل بعمارة السورة، حيث لحظنا أن قصة سابقة هي قصة الميلاد البشري ثم قصة إبليس المتداخلة في القصة المذكورة قد طرحت مفهومات عن الطاعة والمعصية وانعكاسهما على الحياة الأخرى:

فيما جاءت القصة الثالثة (قصة الأعراف) بمثابة إنارة للانعكاس المذكور، مع تطعيمها بحقائق جديدة يستهدفها النص، ما دمنا نعرف بأن هدف القصة - أو أي نص فنيّ آخر - لا ينحصر في فكرة عامة فحسب بل في أفكار ثانوية أيضا، وهو ما لحظناه في القصة المذكورة التي طرحت حقائق من الجنة والنار وما يواكب ذلك من العلاقات بين المؤمنين والمنحرفين عبر مواقف خاصة، وموقع

ص: 31

(الأنبياء والمعصومين) من ذلك وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ . كل أولئك تشكّل حقائق جديرة بالوقوف عندها، وهي حقائق تمّ تقديمها من خلال عنصر (القص) بدلا من مجرد السرد، بغية إحداثها التأثير على المتلقي بنحو أشدّ، وهو هدف النصوص الفنية كما هو واضح.

سورة الأعراف (7): الآیات 54 الی 58

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ * وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ * وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّٰى إِذٰا أَقَلَّتْ سَحٰاباً ثِقٰالاً سُقْنٰاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنٰا بِهِ اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاٰ يَخْرُجُ إِلاّٰ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف: 54-58].

هذا المقطع من سورة الأعراف جاء وسط عنصر قصصي بدأ بقصة المولد البشري، فقصة الأعراف ثم قصص الأقوام البائدة التي سنقف عليها فيما بعد.

وعندما يأتي مقطع خاص يخترق سلسلة الموضوعات القصصية، فهذا يعني أهميته أولا، وكونه ذا ارتباط بخيوط العنصر القصصي، وهو أمر ينبغي أن نتبيّنه ما دمنا نعنى أساسا بالحديث عن عمارة السورة القرآنية.

أما كون هذا المقطع متسما بأهمية دلالته أولا، فأمر يمكننا معرفته إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن قضية الإبداع الكوني تظل في مقدمة الدلائل والحجج التي تستاق الشخصية إلى الإيمان أو تعميقه. من هنا قطع النص السلسلة

ص: 32

القصصيّة من السورة، وضمنها المقطع الذى نتحدث عنه، أنه يذكر الظواهر الإبداعية في خلق السماء والأرض، واستوائه على العرش، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره. وهي ظواهر إبداعية ألفت النص نظرنا إليها معقّبا على ذلك بقوله تعالى: لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ مؤكدا بهذا التعقيب بأن فاعلية الوجود عائدة إلى اللّه فحسب. ثم طالب النص بالدعاء تضرعا وخفية، وطالب بعدم الإفساد في الأرض، وطالب بأن يكون الدعاء خوفا وطمعا. إن هذه النماذج من المطالبة تشكل أنماطا مختلفة من السلوك، بعضها يتصل بالتعامل الوجداني مع الله وتحديد مستوياته من حيث كونه ينشطر إلى ما هو علني وما هو خفي، ثم إلى دعاء مقرون بالخوف من العقاب ومقترن بالطمع بالثواب.

كما أن بعضها يتصل بالسلوك الخارجي وهو عدم الإفساد في الأرض بعد أن أصلحها اللّه بمبادئه التي طالبنا بالالتزام بها.

بعد ذلك يتقدم النص إلى عرض ظاهرة إبداعية خاصة هي ظاهرة المطر من حيث إحياؤه الأرض وإخراجها الثمرات. وهنا ينبغي ألاّ نغفل بأن النص في مقدمة السورة قد طرح موضوع الأرض وإلى أن اللّه قد جعلها (معايش) للناس وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ ، وهذا يعنى - من زاوية عمارة النص وارتباط المقطع بسابقه - أن تخصيص الأرض بهذا الحديث من حيث إخراجها للثمرات فَأَنْزَلْنٰا بِهِ اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ حيث تعدّ الثمرات هي المادة الرئيسة للعيش، إنما جاء هذا التخصيص مرتبطا بمقدمة السورة، وإلى أن هذا التفصيل إنما هو إنماء لمقدمتها.

وهذا من حيث ارتباط المقطع بسابقه.

أمّا من حيث ارتباطه بالقصص اللاحقة فأمر سنوضّحه في حينه.

أخيرا، أنهى النص حديثه عن الظواهر الإبداعية المذكورة بهذه الآية:

ص: 33

وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاٰ يَخْرُجُ إِلاّٰ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ . هنا يجب أن نتذكر من جديد بأن مقدمة السورة التي أشارت إلى أن اللّه جعل في الأرض (معايش) للناس: عقّب على ذلك بقوله: قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ وها هو الآن يطالب بالشكر حينما يعقب على الأرض الطيّبة بقوله: كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ .

إذا، من حيث تلاحم موضوعات السورة ثمة إحكام عماري لحظناه بنحوه المتقدم، لكن ينبغي أن نتبيّن أيضا مدى علاقة هذه الآية المتحدثة عن الأرض الطيبة وأنها تخرج نباتها بإذن اللّه وإن الأرض الخبيثة لا تخرج إلا نكدا، ينبغي أن نتبيّن علاقتها بفكرة النص. في تصورنا الفنّي، إن الآية ما دامت تتحدث عن الشكر وعدمه مقابل نعم اللّه حيث أوضحت الآية بأن تصريف ذلك إنما هو لقوم يشكرون، حينئذ فإن المقارنة بين أرض صالحة للزراعة وأرض سبخة تظل عنصرا (رمزيا) يستوحي المتلقي منه أن البشر مطبوع بنفس السمة والمنشطر إلى طيب و خبيث، حيث نجد الطيب (شاكرا) لله تعالى:

كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بعكس الخبيث، أو لنقل. أن الطيّب سوف يلتزم بمبادىء اللّه وأن الخبيث ينحرف عنها.

ومن الممكن أيضا أن نفسّر الاية بظاهرها وهو كون الأرض الطيبة التي يخرج نباتها بإذن اللّه (من خلال المطر الذي أنزله اللّه) مقابل الأرض السبخة، إنما يستدعي التأمل بحيث يستاق الشخصية إلى تقدير هذا العطاء أو كما قال النص: كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ - نعم اللّه - بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 59 الی 64

قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَقٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّٰا لَنَرٰاكَ

ص: 34

فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاٰلَةٌ وَ لٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ * أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً عَمِينَ [الأعراف: 59-64].

هذا المقطع من سورة الأعراف وما يليه يشكّل عنصرا قصصيا في السورة. وقد سبق أن لحظنا قصّتين في السورة أيضا هما قصة المولد البشري ثم قصة الأعراف في اليوم الآخر. أما الآن فنواجه نمطا قصصيا ثالثا هو قصة المجتمعات البائدة التي انحرفت عن اللّه فرتب عليهم جزاء دنيويا هو إبادتهم.

طبيعيا، أن قصص المجتمعات البائدة تتكرر في سور متنوعة، غير أن لكل سورة سياقها الخاص بحيث ينتقي النص من أحداث القصة ومواقفها ما يتناسب وأفكار السورة.

هنا نواجه في قصة نوح شريحة خاصة من الأحداث والمواقف، هذه الشريحة تتناسب مع مقدمة السورة التي طرحت مفهوم (التبليغ) و (الإنذار).

وها هي القصة تؤكد على لسان نوح هذه الدلالة أُبَلِّغُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ...

الخ.

إذا، التبليغ والإنذار هما العصب الفكري الذي امتدّ في هيكل القصة متجانسا مع مقدمة السورة. خلال ذلك يطرح النص - بطبيعة الحال - أفكارا جديدة تتصل بنمط التبليغ وردود الفعل حياله والجزاء المترتّب على ذلك. أما نمط التبليغ فيتمثل في لغة مسالمة مشفقة على القوم إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

ص: 35

لكن، ردود الفعل حيال ذلك جاءت مضادة تماما للغة نوح فقد أجابوه بقولهم: إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وهو جواب يضادّ تماما لغة النصيحة التي صدرت عن نوح (ع). وأمّا الجزاء المترتب على ذلك، فلا بدّ أن يتّسم بكونه مجانسا للغة تكذيبهم وهو إغراقهم في حادثة الطوفان، كما أن الجزاء المترتب على نوح ومن آمن برسالته لا بد أن يكون مضادا لجزاء المنحرفين وهو النجاة فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا... الخ.

بعد قصة نوح، نواجه قصة جديدة هي قصة هود (ع). فماذا نجد فيها؟.

نجد فيها أولا تجانسا في الهيكل القصصي كما نجد ثانيا طرحا جديدا، وهما (أي التجانس والطرح الجديد) المادة الفنية لأي شكل أدبي يتناول موضوعات مختلفة من تجارب الحياة. أمّا التجانس فيتمثل في توافق اللغة المبلّغة لرسالة اللّه، فكما أن نوحا قال لقومه: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ

[الأعراف: 59]، كذلك قال هود لقومه:

سورة الأعراف (7): آیة 65

يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65].

سورة الأعراف (7): الآیات 66 الی 69

وكما أن جواب قوم نوح كان متمثلا في قولهم: إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] كذلك كان جواب قوم هود إلا أنهم وسموه بالسفاهة بدلا من الضلال إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِي سَفٰاهَةٍ وَ إِنّٰا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ [الأعراف:

66]. وكما ردّ عليهم نوح بأنه ليس في ضلال كذلك قال هود لقومه: يٰا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفٰاهَةٌ وَ لٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ [الأعراف: 67]، وكما أن نوحا قال لقومه بأنه ناصح لهم ومبلّغ رسالة الله، كذلك قال هود لقومه:

أُبَلِّغُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نٰاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 68]، وكما قال نوح لقومه في تساؤل مرير أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ [الأعراف: 63] كذلك جاء تساؤل هود (ع) بنفس العبارة أَ وَ عَجِبْتُمْ

ص: 36

أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ [الأعراف: 69]. وكما أن الجزاء الذي رتّبه اللّه على نوح والمؤمنين معه (وهو النجاة) مقابل الإبادة التي رتبها اللّه على المنحرفين، فكذلك جاء الجزاء بنمطيه مرتّبا في قصة هود فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ قَطَعْنٰا دٰابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا [الأعراف:

72].

إذا، لحظنا مدى هذا التجانس الضخم المتسم بجمالية فائقة بين الأحداث والمواقف التي رسمتها القصتان عن مجتمعي نوح وهود حيث صيغتا أيضا بنفس اللغة أو العبارة القصصية وهو مما يزيدهما جمالا فنيّا دون أدنى شك.

وهذا كله فيما يتصل بالعنصر الفنّي الأول وهو (التجانس) بين القصتين.

وأمّا ما يتصل بالطرح الجديد في قصة هود (وهذا هو العنصر الفني الآخر) فيتمثل في جملة من المواقف والأحداث التي تخص قوما دون آخرين، فمثلا: ما دام قوم نوح هم أول مجتمع يتعرض للإبادة الجماعية حينئذ نتوقع (من الزاوية الفنية) أن يتحدث النص عند رسمه لقصة هود عن حادثة الإبادة المتقدمة والتذكير بها، لذلك عندما تساءل هود (ع) عن إمكانية أن يتعجب قومه من أن يجيئهم ذكر من ربهم على رجل منهم لينذرهم، عقّب على ذلك قائلا وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زٰادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً

[الأعراف: 69].

إذا، الطرح الجديد هنا فرض ذاته من خلال طبيعة البيئة الزمنية التي اكتنفت قوم هود (ع). ويلاحظ أن الطرح الجديد لم ينحصر في البعد الزمني فحسب، بل في أبعاد مختلفة منها: البعد الجسمي الذي أشارت القصة إليه بقولها: وَ زٰادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً وهي حقيقة جديدة تتصل بمعرفتنا لتراكيبهم الجسمية التي اتّسمت بالطول مثلا بما يستتبعه هذا من فوائد تعود

ص: 37

عليهم حيث أشارت القصة إليها بعامه عندما قالت فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف: 69].

ولا نغفل أن مقدمة السورة قد طرحت موضوع (التذكّر) قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 3]، وها هي القصة تشير إلى هذا الجانب أيضا، لتتجانس مع أفكار السورة أيضا.

إذن أمكننا أن نقف على جملة من الأسرار الفنية في هذه القصة من حيث تجانسها مع سابقتها (قصة نوح) وتجانسها مع مقدمة السورة (الهيكل العام للنص)، ثم ما طرحته من أفكار جديدة يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 73 الی 79

قال تعالى: وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبٰالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صٰالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قٰالُوا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ * فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ * فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُحِبُّونَ اَلنّٰاصِحِينَ

[الأعراف: 73-79].

هذه هي القصة الثالثة من قصص المجتمعات البائدة التي وردت في سورة الأعراف: قصة نوح، هود، صالح. إنها (من حيث العمارة الفنية)

ص: 38

تتجانس مع سابقتها في كونها تتحدث بنفس اللغة المبلّغة التي صدرت عن نوح وهود يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59، 65] وبنفس اللغة الناصحة لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ ، كما أنها تفترق عنهما في طبيعة الأحداث والمواقف التي واكبت صالح (ع). بيد أن هذا الافتراق يتم من خلال ما يسمى - في اللغة الفنية - ب (التضاد من خلال التماثل)، كما أن التماثل بينها وبين سابقتها يتمّ عن طريق (التماثل من خلال التضاد).

تفصيل ذلك، إن هذه القصة تخاطب مجتمع صالح (ع) وهو المجتمع الذي جاء من بعد هود وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ ، وهذه المخاطبة نفسها تقت في قصة سابقة (قصة هود) حيث ذكّرت مجتمعه بمصائر السابقين، قوم نوح وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فهنا عملية تذكير قوم هود بقوم نوح، وقوم صالح بقوم هود. وهذا العنصر الزمني من حيث التسلسل الموضوعي للزمن له قيمته الكبيرة في هيكل القصة وصلتها بأجزاء النص الأخرى، حيث يتم الإحكام الهندسي للنص من خلال العنصر الزمني المذكور، والمهم هو أن هذه العبارة تقوم على كلّ من (التضاد من خلال التماثل) و (التماثل من خلال التضاد) فالقصتان: قصة هود وصالح تتماثلان في لغة التبليغ، والنصيحة، والجزاء المترتب على تكذيب قومي هود وصالح لهما، ولكنهما تتضادان في الأحداث والمواقف بعامة من خلال تماثل خاص، فعملية التذكير مثلا بنعم الله وردت في القصتين فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ وهو (تماثل) لكنه من خلال بيئتين مختلفتين، فقوم هود ذكرهم الله تعالي بالبسطة في أجسامهم، أما قوم صالح فذكرهم عن الأرض تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبٰالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ .

إذا، هناك عملية (تذكير) متماثلة. لكن من خلال بيئتين مختلفتين: البيئة الجسمية والبيئة السكنية... كما أن هناك حادث (أصنام) لدى مجتمع هود

ص: 39

أَ تُجٰادِلُونَنِي فِي أَسْمٰاءٍ سَمَّيْتُمُوهٰا [الأعراف: 71]، مقابل حادثة أخرى لدى مجتمع صالح (حادثة عقر الناقة) وهما حادثتان أو موقفان مختلفان لكنهما متماثلان من حيث البواعث.

والأمر كذلك، حينما نقارن هاتين القصتين بما سبقتهما من قصة نوح (ع)، حيث تظل القصص الثلاث متجانسة لغة ودلالة.

لكننا حين نتجه إلى القصة الرابعة وهي قصة لوط سنجد أنها متميزة عن القصص الثلاث، لا تشاركها في اللغة والدلالة إلاّ في جانب محدّد، وهي على العكس من قصة خامسة هي قصة (شعيب) حيث سنجدها متجانسة مع القصص الثلاث، فما هو السرّ الفني وراء ذلك ؟ لنقرأ أولا قصة لوط (ع):

سورة الأعراف (7): الآیات 80 الی 84

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَ مٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ اَلْغٰابِرِينَ * وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 80-84].

لعل لتفرّد السلوك الذي عرضه النص عن المجتمع المذكور، صلة باستقلال هذه القصة نسبيا عن سائر القصص، بدليل أن النص نفسه أشار إلى شذوذ السلوك بقوله: مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ بينا كان الشذوذ الفكري لدى كل المجتمعات التي عرضتها القصص متماثلا وهو التكذيب برسالات السماء.

إذا، من المحتمل فنيا أن نفسّر تفرّد القصة المذكور عن سائر القصص، بتفرد السلوك الذي عرضه النص عن مجتمع لوط من حيث إشارة النص إلى تفرّد المجتمع بسلوكه الشاذ.

ص: 40

نكن مع ذلك، ثمة تجانس فنيّ بين هذه القصة وما سبقها من حيث الاستجابة السلبية التي صدرت عن المجتمع المنحرف المذكور، ومن حيث الجزاء الذي رتّبه اللّه على ذلك وهو نجاة لوط وأهله، وإبادة الآخرين، وهما (أى: الاستجابة السلبية والجزاء الإيجابي للمؤمنين والسلبي للمنحرفين) طبعا القصص السابقة جميعا.

إذا، في هذه القصة - كما هو طابع سائر القصص - عنصر تجانس مع القصص السابقة عليها، مضافا إلى عنصر (التفرّد) الذي يطبعها، وهما سمة الفن القصصي بعامة حيث تلحظ في التفرد طرحا جديدا من الأفكار، كما نلحظ في التجانس تنظيما للأفكار المذكورة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): آیة 85

قال تعالى: وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... [الأعراف: 85].

هذه هي القصة الخامسة من قصص سورة الأعراف، وقد سبقتها قصص نوح وهود وصالح ولوط، حيث لحظنا أن كل قصة تتقدّمها الفكرة أو العبارة القائلة: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ مما يعني أن جميع القصص تشدّد على مفهوم التوحيد في المقام الأول، ثم تعرض لأفكار ثانوية أخرى، ليتكامل من خلالها بناء هندسي خاص تشترك القصص في خطوطه العامة، وتفترق كل واحدة عن الأخرى في خطوط خاصة تفرضها طبيعة البيئة التي تتحرك أحداث القصة ومواقفها من خلال ذلك.

والآن، بعد أن لحظنا العمارة العامة للقصص، ينبغي أن نقف عند الخطوط الخاصة لهذه القصة: قصة شعيب فماذا نجد؟.

لنقرأ من جديد: وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ

ص: 41

مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

[الأعراف: 85].

يجب أن نتذكر هنا، أن الفقرة الأخيرة القائلة: وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا هذه الفقرة وردت ضمن مقطع خاص في سورة الأعراف سبقت العنصر القصصي، وهذا يعني (من زاوية البناء الهندسي للسورة) أن المقطع المذكور يحتل موقعا هندسيا بالنسبة لأجزاء السورة بحيث تتسرب أفكاره في تضاعيف الأجزاء الأخرى من السورة ومنها قصة شعيب، كما وردت في قصة صالح أيضا في سياق خاص تقدم الحديث عنه.

والآن خارجا عن المبنى الهندسي المذكور يعنينا أن نعرض للأفكار الواردة في هذه القصة حيث تتمثل أولا في ظاهرة خاصة هي: (إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم).

لا شك أن قضية بخس الناس أشياءهم أي إنقاص حقوقهم من خلال عدم إيفاء الكيل والميزان تظل قضية ذات أهمية خاصة في السلوك من حيث كونها تعاملا اقتصاديا قائما على جذور نفسية هي (العدوان) على الآخرين من خلال عدم إعطائهم الحقّ العائد لهم، لذلك طرحها النص في سياق حديثه عن التوحيد نظرا لأهميتها المذكورة.

سورة الأعراف (7): آیة 86

بعد ذلك اتجه النص إلى طرح ظاهرة أخرى من السلوك السلبي الذي طبع مجتمع شعيب، وهو قوله: وَ لاٰ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرٰاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 86].

إن هذه الشريحة من القصة امتداد لشريحة سابقة هي السلوك العدواني، فإذا كان التعامل الاقتصادي الذي لحظناه قبل قليل قائما على العدوان المالي،

ص: 42

فإن الشريحة الجديدة تقدم نمطا آخر من العدوان هو: جلوس القوم على الطريق مهدّدين المؤمنين بقتل شعيب.

إذا، هناك تجانس فنيّ في مفردات السلوك التي سردها النص في قصة شعيب وهي. السلوك العدواني، إلا أن النص في الآن ذاته جانس أيضا بين السلوك الخاص لمجتمع شعيب وبين الأفكار الواردة في القصص جميعا وهي عملية تذكير القوم بآلاء اللّه... ففى قصة هود ذكّرهم النص بآلاء اللّه من خلال إكسابهم بسطة في الجسم، وفي قصة صالح ذكّرهم النص بآلاء اللّه من خلال تنعمهم بالقصور والبيوت، وها هو الآن في قصة شعيب يذكّرهم اللّه بآلائه من خلال تكثيرهم وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ .

إذا، ثمة تجانس فني آخر يضاف إلى الخطوط الهندسية المتجانسة في النص بالنحو الذي لحظناه سابقا.

والآن لنتابع سائر الأفكار الواردة في القصة.

سورة الأعراف (7): آیة 87

يقول النص: وَ إِنْ كٰانَ طٰائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طٰائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بَيْنَنٰا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ [الأعراف: 87].

هذا الكلام يوجهه شعيبا لمجتمعه، وهو كلام نستخلص منه أن طائفة منهم قد آمنت (علما بأن النص قد مهد بذلك فنيّا حينما ذكر بأن القوم كانوا يقعدون بكل طريق يصدّون عن سبيل اللّه من آمن به)، ومع هذا التلميح، نستخلص فكرة أخرى هي: ظاهرة (الصبر) سواء أكانت متصلة بالمؤمنين أم بالمنحرفين، فالمؤمنون لا بدّ لهم من الصبر مؤقتا حتى يحكم الله بعد ذلك، والمنحرفون سوف يدفعون ثمن انحرافهم عندما يصبرون لحين مواجهتهم عاقبة الانحراف.

سورة الأعراف (7): الآیات 88 الی 91

بيد أن هذا التذكير بالحقيقة المذكورة لم يصرف المنحرفين عن المكابرة حيث أجابوه بقولهم:... لَنُخْرِجَنَّكَ يٰا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ

ص: 43

قَرْيَتِنٰا [لأعراف: 88]، وأجابوا المؤمنين بخاصة. لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ [الأعراف: 90]. ونتيجة لهذا الموقف نتوقع فنيّا أن يعاقبهم الله على هذه المكابرة، وبالفعل جاءت الفقرة التالية تحدّثنا عن الجزاء الذي لحقهم: فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ [الأعراف: 91] وهو

نفس المصير أو الجزاء الذي لحق مجتمعات نوح وهود وصالح ولوط، حيث

نلحظ تجانس المصائر مفصحة عن تجانس الخطوط الفنية التي تحكم النص.

***

سورة الأعراف (7): الآیات 94 الی 95

قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنٰا مَكٰانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتّٰى عَفَوْا وَ قٰالُوا قَدْ مَسَّ آبٰاءَنَا اَلضَّرّٰاءُ وَ اَلسَّرّٰاءُ فَأَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ [الأعراف.

94-95].

هذا المقطع من سورة الأعراف جاء بعد مجموعة قصصية تتحدث عن أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، كما أن قصة أخرى مفصلة سوف تعقب هذا المقطع هي قصة موسى مع مجتمع فرعون.

والسؤال هو: لماذا قطع النص السلسلة القصصية بهذا المقطع ؟.

قبل أن نجيب فنيّا عن هذا السؤال، نعرض للأفكار التي طرحت فيه، لقد ذكر النص أنّ الشدائد التي لحقت المجتمعات البائدة كانت بمثابة تنبيه لعلّهم يضّرّعون، كما ذكر بأن الله اعقب الشدائد المذكورة برخاء، لكنّ المجتمعات المذكورة لم تتعظ بهذه الشدة والرّخاء، وفسّروا نزول الشدائد بأنّها سنّة قد مسّت آباءهم من قبل أيضا. ونتيجة لهذا التفسير أخذهم، ثم لحقها الجزاء المترتّب على الانحراف وهو الإبادة الجماعية لهم، وبهذا قد ربط النص بين المجتمعات البائدة وبين المجتمع المعاصر أو الممتدّ لرسالة الإسلام حيث ينبغي ألاّ تأمن هذه المجتمعات من مصائر مماثلة لمصائر

ص: 44

السابقين فيأتيهم العذاب ليلا أو نهارا، ومع أن نصوصا إسلامية خاصة لوحت بأن الأمة الإسلامية - إكراما لمحمّد (ص) - سوف يرفع عنها الجزاء الدنيوي، إلاّ أن النصّ بتهديده الأمّة بأنه ينبغي ألاّ يأمن مكر الله أحد من الناس أو المجتمعات، إنما يستهدف تذكيرهم بأن مسألة الجزاء أمر لا مناص منه حيث ينبغي الاتعاظ به من خلال المصائر التي لحقت البائدين، لذلك عقب على التهديد المذكور بقوله:

سورة الأعراف (7): آیة 100

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهٰا أَنْ لَوْ نَشٰاءُ أَصَبْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ [الأعراف: 100]، وهذا يعني أن رفع العذاب لم يكن تكريما للمجتمعات المنحرفة بقدر ما كان للسبب الذي ذكرناه، وأن قضية العذاب خاضعة للإمكان (وهو ما حدث فعلا في بعض البيئات المعاصرة لرسالة الإسلام فيما تحدثت عنها نصوص قرآنية أخرى).

المهم أنّ النص ذكر هذه الحقيقة وهي أن الله تعالى لو يشاء لأصاب هذه المجتمعات بنفس العذاب لَوْ نَشٰاءُ أَصَبْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وأنه لو يشاء لطبع على قلوبهم كما طبع على قلوب البائدين وَ نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ .

إذا، مسألة العذاب أو الجزاء الدنيوي تظل خاضعة لإمكان الوقوع بغض النظر عن الأسباب الخاصة التي استتلت عدم وقوعه، فيما لا تعني استثناء خاصا لهذا المجتمع أو ذاك بقدر ما تعني إن رفع العذاب المؤقت لا يجرّ للمنحرفين أي نفع، بل على العكس من الممكن أن يعوض عنه بعذاب أشد في الحياة الآخرة. وأيا كان الأمر، فإن التذكير بمصائر الماضين أعاده النص من جديد حينما خاطب محمدا (ص)

سورة الأعراف (7): آیة 101

تِلْكَ اَلْقُرىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰائِهٰا وَ لَقَدْ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمٰا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِ اَلْكٰافِرِينَ [الأعراف: 101]. فهذا التذكير يفسّر ما سبق أن أكّده

ص: 45

النص حينما استهدف منه حمل المجتمعات المعاصرة لرسالة الإسلام على الاتعاظ بالمصائر البائدة وترك المجال لهم بتعديل السلوك، دون أن يعني ذلك: بأنّ رفع العذاب الموقّت هو نمط من التعبير عن مشروعية ما يمارسه المنحرفون مثلا.

إذا، أمكننا الآن أن ندرك جانبا من السرّ الفنيّ الكامن وراء هذا المقطع الذي يجسّد عملية تذكير بمصائر البائدين، بعد أن عرض النص مفصلا جملة من القصص المتصلة بهذا الجانب.

سورة الأعراف (7): الآیات 103 الی 105

قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِهٰا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلىٰ أَنْ لاٰ أَقُولَ عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ ... [الأعراف: 103-105].

نواجه هنا قصة جديدة في سياق قصص البائدين هي قصة موسى مع مجتمع فرعون. وهذه القصة أخذت موقعا مستقلا من النص فلم تجىء في السلسلة القصصية البادئة بقصة نوح والمنتهية بقصة شعيب بل فصل بينها بجملة من الأفكار.

ولعل التفسير الفنيّ لهذا الاستقلال القصصي عائد إلى أنّ هذه القصة تتضمّن أحداثا ومواقف متنوعة لها أهميتها الخاصة التي يستهدف النص توصيلها إلى المتلقّي بحيث تتجانس مع مجموعة الأفكار العامة التي ينتظمها النثر غير القصصي في السورة.

ولكي نتبيّن ذلك تفصيلا يحسن بنا أن نتابع هذه القصة في أقسامها جميعا بنحو يتضح من خلاله الموقع الهندسي لها بالنسبة إلى هيكل السورة.

ص: 46

لقد بدأت القصة بالحديث عن إرسال موسى إلى فرعون ومجتمعه حاملا معه بيّنة من اللّه على كونه رسولا، مطالبا (فرعون) بتحرير الناس الذين استعبدهم.

إلى هنا فإن الدلالة المنتثرة في القصة تتجسّد في قضية اجتماعية خطيرة هي: عدم استعباد الناس. ونحن لا نحتاج إلى التعقيب على خطورة هذه القضية، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن رسالات السماء تعنى بالإنسان وإكسابه القيمة الخاصة بكيانه، وما دام هدف العرض القصصي هو تنبيه المتلقّي على الدلالات الخاصة التي يعتزم توصيلها إليه: بخاصة أن العنصر القصصي موظّف لإنارة رسالة الإسلام، حينئذ نتوقّع - فنيّا - أن يستخلص المتلقّي إنسانية الرسالة من خلال طرح القصة قضية تحرير الإنسان من عبوديّة الآخرين.

المهم، أن القصة عندما طرحت هذه القضية على لسان موسى في محاورته مع فرعون، مهّدت لها بمقدمة تتضمن الدليل المسوّغ للمطالبة المذكورة وهو كون موسى قد جاء ببيّنة من الله أي بحجّة أو بدليل يدعم به صحة اضطلاعه برسالة من اللّه. ولذلك طالبه فرعون بتقديم الدليل:

سورة الأعراف (7): آیة 106

قٰالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ [الأعراف: 106].

سورة الأعراف (7): الآیات 107 الی 108

هنا، يتقدّم موسى - بطبيعة الحال - بعرض البيّنة: فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ [الأعراف: 107-108].

لا نريد أن نفصّل الحديث عن المنحى الفنّي لهذه القصة بقدر ما نعتزم توضيح موقعها الهندسي من السورة، إلا أنّ ذلك لا يمنعنا من الإشارة - ولو عابرا - إلى بعض السمات الفنية في هذا الصدد، وفي مقدمتها: طريقة العرض القصصي من خلال عنصري «الحوار» و «السرد»، فالحوار قام بمهمّة عرض الدليل اللفظي وهو قول موسى: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجواب فرعون:

ص: 47

فَأْتِ بِهٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ ، في حين تكفل (السرد) بعرض الدليل العملي فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ وَ نَزَعَ يَدَهُ .

فالملاحظ أن (السرد) قد اختزل الحدث (العصا واليد) فلم يشر إليهما في بدء المقابلة بين موسى وفرعون بل استخدم عنصري (التشويق) و (المباغتة) في تقديم الحدث. (التشويق) يتمثل في تلويح موسى بأنه قد جاء ب (بيّنة) حيث نتطلع إلى معرفة ذلك، و (المباغتة) تتمثل في كون موسى قد ألقى عصاه ونزع يده مباشرة فإذا بالثعبان وبالنور يلفّان الموقف.

سورة الأعراف (7): الآیات 109 الی 110

المهم، إن (فرعون) وحاشيته عندما بوغتوا بهذين الحادثين، كان ردّ فعلهم بهذا النحو:... إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 109-110] نفهم (الاختزال الفنّي) للحوار السابق أن حاشية فرعون وجّهت الخطاب لفرعون بدليل الجواب الآتي:

سورة الأعراف (7): الآیات 111 الی 112

ثم كان الجواب:... أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدٰائِنِ حٰاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سٰاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف: 111-112]. كما نفهم (من خلال نفس السمة الفنية التي أشرنا إليها قبل قليل) أن (هارون) أخا موسى كان الشخص الآخر مع أخيه في اضطلاعهما بمهمة الرسالة، فعبارة أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ تكشف من خلال الاختزال القصصي عن بطل آخر في القصة لم يكشف النص النقاب عنه إلاّ في الفقرة الأخيرة من الحوار، وهو نمط مثير للدهشة الفنية دون أدنى شك، حيث قام (الحوار) في هذا القسم من القصة، و (السرد) في القسم السابق لها بمهمة متجانسة من حيث الكشف (المباغت) للأحداث والابطال، أي حادثتي (العصا واليد) والبطل (هارون).

وأيا كان، فإن القسم اللاحق من السورة تحدث عن السحرة وانهزامهم، ثم إيمانهم في نهاية المطاف، ويعنينا من هذه الحادثة هو: كونها مفصحة عن مستويات الإدراك العقلي للمنحرفين (فرعون وبطانته والسحرة) ثم إمكانية

ص: 48

تعديل السلوك (إيمان السحرة) ثم مستويات التعامل العدواني للطغاة، ثم صلاته بالموقف الذي صدر عنه التائبون.

إذا، فلنتجه إلى ملاحظة هذا المقطع بمستوياته المشار إليها بغية تحديد موقعها الفني من عمارة النص عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 113 الی 122

قال تعالى: وَ جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قٰالُوا إِنَّ لَنٰا لَأَجْراً إِنْ كُنّٰا نَحْنُ اَلْغٰالِبِينَ قٰالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ * قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِمّٰا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّٰا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ * قٰالَ أَلْقُوا فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ فَإِذٰا هِيَ تَلْقَفُ مٰا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنٰالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صٰاغِرِينَ * وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سٰاجِدِينَ * قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * رَبِّ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ [الأعراف: 113-122].

هذا المقطع يتحدث عن قصة موسى وهارون مع فرعون وحاشيته، حيث لحظنا سابقا أن فرعون وحاشيته اقترحوا تجمع السحرة ليردّوا بذلك على الإعجاز الذي قدّمه موسى متمثلا في العصا واليد البيضاء.

وجاء السحرة فعلا، وطالبوا فرعون بالأجر على ذلك في حالة الغلبة، ووافقهم على طلبهم. ولما ألقوا السحر، سحروا أعين الناس فعلا واسترهبوهم، لكن ما أن ألقى موسى العصا حتى ابتلعت ما موهوه على الناس.

والمهم في هذه الحادثة جملة من الحقائق التي يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي، منها أن السحر لا قيمة له البتة، ومنها أن رسالة السماء هي القيمة الحقة حيث أبطلت السحر، ومنها (وهذا هو الأهم) أن السحرة أنفسهم (آمنوا) باللّه حينما وجدوا أن عملهم باطل وان اللّه هو الحق.

ص: 49

إن أهمية هذا الموقف للسحرة لا تنحصر في كونها موقفا عرضيا بقدر ما يكشف عن حقيقة عبادية عامة هي: أن الأشخاص المخلصين في تفكيرهم (أي: الأشخاص الذين لا ينطلقون في مواقفهم من مصلحة ذاتية أو شذوذ نفسي أو عقلي) سوف ينصاعون لرسالة السماء، ولا أدلّ على ذلك مق شخوص (السحرة) الذين كانوا في غفلة من سلوكهم، وما أن واجههم منبه جديد (وهو عصا موسى) حتى انتبهوا من غفلتهم وأذعنوا للحق. حيث يكشف هذا الموقف عن أن مطلق المنحرفين (ومنهم: هؤلاء الذين يخاطبهم القرآن في زمن رسالة الإسلام) عندما لا يذعنون لهذه الرسالة إنما ينطلقون في ذلك من موقف غير محايد، أي: امّا أن (الذات) تسيطر عليهم، فلا يسمحون للحقيقة بأن تلج أعماقهم، وامّا أن يلفّهم شذوذ نفسي (كما لو كان هناك مرض عميق يحتجزهم من الانفتاح على معرفة الحق) أو يغلّفهم شذوذ عقلي (كما لو كانوا قاصرين مثلا).

إذا، قضية السحرة الذين آمنوا باللّه: تمثل تجسيدا لحقيقة عبادية ضخمة في ميدان السلوك الآدمي العام، كما أنها (من حيث البناء الهندسي للسورة) تحتل موقعا فنيّا من النص يلقي إنارته على الأفكار المنتثرة في السورة.

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى الموقف الصلب الذي اتخذه السحرة حيال فرعون، فمع أنهم (قبل مرحلة الإيمان) كانوا مشدودين إلى متاع الحياة فحسب بحيث طالبوا بالأجر على عملية السحر، مع ذلك عندما أدركوا حقيقة الموقف، انقلبت معاييرهم إلى النمط الرفيع الذي ينبغي أن تختطه الشخصية العبادية لها، وهو: الاتجاه إلى اللّه حتى لو كلفها ذلك التضحية بالنفس، ولنقرأ:

سورة الأعراف (7): الآیات 124 الی 126

قٰالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هٰذٰا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهٰا أَهْلَهٰا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاٰفٍ ثُمَّ

ص: 50

لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قٰالُوا إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا مُنْقَلِبُونَ -* وَ مٰا تَنْقِمُ مِنّٰا إِلاّٰ أَنْ آمَنّٰا بِآيٰاتِ رَبِّنٰا لَمّٰا جٰاءَتْنٰا رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ [الأعراف:

123-126].

إن هذا الموقف لا يكشف عن قضية (الإيمان) فحسب وإلى أنه يتطلب تضحية بالنفس فحسب، بل يكشف عن الموقف المقابل لفرعون، ففرعون بالرغم من كونه واجه نفس المنبّه الجديد (وهو عصا موسى التي أبطلت السحر) إلاّ أنّه بدلا من أن يؤمن بالله كما آمن السحرة إذا به يستكبر أي: ينطلق - كما أشرنا قبل قليل - من شذوذ نفسي هو: نظرته المريضة عن (ذاته) حيث لحظ نفسه مسيطرا على بقعة جغرافية ضخمة، مسيطرا على مجموعة بشرية ضخمة، حينئذ لا تسمح له نفسه بالتنازل عن كبريائه بل يمعن في الاستكبار إلى الدرجة التي لا يقف عندها في نطاق السكوت مثلا، بل هدّدهم بقطع أيديهم وأرجلهم.

إن هذا الموقف العدواني من فرعون يفسّر لنا جميع أنماط السلوك الذي يصدر عنه طغاة الأرض قديما وحديثا، وهو أنهم ينزعون إلى العدوان في أحط مستوياته بغية الاحتفاظ بعروشهم الدنيوية.

وأيا كان الأمر، فإن قضية السحرة (من حيث الإيمان) وموقفهم من فرعون، ثم موقف الأخير منهم، تكشف لنا عن جملة من الحقائق العبادية والاجتماعية والنفسية التي أشرنا إليها.

والمهم بعد ذلك، إن حاشية فرعون، وهم الأذلاء الذين يعوّضون الإحساس بالنقص لديهم (من حيث كونهم خاضعين لفرعون) يعوضونه بإيذاء من هم دونهم، حيث يقترحون على فرعون بأن يعاقب موسى ومن آمن معه:

سورة الأعراف (7): آیة 127

وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسىٰ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قٰالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنٰاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسٰاءَهُمْ وَ إِنّٰا فَوْقَهُمْ قٰاهِرُونَ

ص: 51

[الأعراف: 127]. إن هذا الموقف لحاشية فرعون يكشف عن أن المنحرفين متماثلون في صدورهم عن الانحراف: في المواقف الشاذة، فهم من جانب يعوّضون - كما أشرنا - عن ذلّتهم لفرعون يعوضون النقص بتحريضه على إلحاق الأذى بالمؤمنين، كما أنهم من جانب آخر يصدرون عن نفس الشذوذ الذي غلّف رئيسهم فرعون من حيث كونهم يؤثرون متاع الحياة الدنيا (من حيث احتلالهم موقعا سياسيا ضخما) حيث يحتجزهم الشذوذ (ومعهم فرعون) من الانصياع لرسالة الحق، على العكس من السحرة الذين نفضوا عنهم كل آثار الانحراف الذي طبعهم جهلا، ثم أدركوا الحقيقة وعدّلوا من سلوكهم، دون أن يحتجزهم عائق نفسي أو ذهني من الإيمان برسالة اللّه تعالى.

سورة الأعراف (7): الآیات 128 الی 129

قال تعالى: قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قٰالُوا أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا قٰالَ عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129-128] في هذا المقطع من قصة موسى (ع)، ظاهرة جديدة من السلوك المتصل بمجتمعي موسى وفرعون. (ففي مقطع أسبق) قرّر فرعون وحاشيته إلحاق الأذى بموسى وقومه بعد فشلهم في عملية السحر.

وها هو المقطع الجديد من القصة، يشير إلى أن الأذى قد لحق قوم موسى فعلا، أنّهم قد أوذوا من قبل (أي: عندما كان فرعون يستعبدهم) وهم الآن عرضة للأذى أيضا بصفتهم آمنوا بموسى قٰالُوا أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا .

بيد أنّ ما ينبغي لفت النظر إليه هو: جملة من الحقائق الفنية المتصلة بعمارة القصة ودلالاتها.

ص: 52

فمن حيث الدّلالات الفكرية التي يستهدف النّصّ توصيلها إلى المتلقي أمور منها (الاستعانة باللّه) و (الصبر) و (وراثة الأرض للّه) و (هلاك العدوّ).

أما الاستعانة والصبر فنمطان من السلوك العام الذي ينبغي أن يطبع السلوك البشري في كل منحنياته الفردية والاجتماعية.

وأمّا هلاك العدو ووراثة الأرض فيجسّدان سلوكا اجتماعيّا أو سياسيا يرسمه النّصّ هنا (ليس بصفته خاصّا بمجتمع محدّد هو مجتمع موسى) بل يتجاوزه إلى مطلق المجتمعات بخاصة مجتمعنا الإسلامي الذي تتجه القصّة إليه. فالأرض يرثها عباد الله الصالحون في نهاية المطاف، وأعداء الله مصيرهم إلى الزوال لا محالة، بدليل المبدأ الاجتماعيّ المذكور الذي رسمه الله تعالى.

بيد أن ما يلفت النظر حقا في هذا المقطع من القصة هو ما يتصل بعمارة النص أي: هيكل الأحداث التي ستجيء فيما بعد حيث أرهص بها النص فنيا حينما قال أولا - على لسان موسى مخاطبا قومه الذين قالوا له: أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا حيث قال لهم موسى: عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . إن قول موسى: عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض هو تنبؤ فني من حيث الفن القصصي القائم على فسح المجال للمتلقي بأن يتنبّأ بالأحداث من خلال رموز القصة، فقوله عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم يعني: أن فرعون وحاشيته سوف يهلكون (وهذا ما يحدث فعلا عندما نواصل الأجزاء اللاحقة من القصة)، إلا أن الأهمّ من من هذا كلّه أن موسى قال لهم أيضا: (فينظر كيف تعملون) أي قال لقومه إنّ اللّه بعد أن يهلك فرعون ويستخلفكم في الأرض، سوف ينظر إليكم كيف تعملون، كيف تسلكون.

عندما نتابع الأجزاء اللاحقة من القصة نجد قوم موسى سوف يفسدون في الأرض كما أفسد فرعون من قبلهم، وهذا يعني - من زاوية البناء الهندسي

ص: 53

للقصة - أن قول موسى المذكور، يحتل موقعا هندسيا من القصة، هو أن قومه سوف يعملون شيئا وينظر اللّه إليه، ولكنّه عمل فاسد كما سنرى، وهذا يكشف لنا عن بعد فنيّ آخر من عنصر (التنبؤ) في القصة، فإذا كان عنصر (التنبؤ) الأول. وهو هلاك فرعون سيتحقق بشكل واضح لأن النص قال بصراحة:

عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ أي: أن النص أوحى للمتلقي بأن الهلاك سوف يتحقق، بينما جاء عنصر (التنبؤ) الآخر ملفعا بالغموض، لا يستطيع المتلقي أن يتنبأ به، فقوله تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من الممكن أن يكشف عن أن العمل الذي سيقوم به مجتمع موسى صالحا، ومن الممكن أن يكشف ذلك عن أن العمل سوف يكون مفسدا (وهذا نحو آخر من عنصر التنبؤ) الفني في الشكل الأدبي للقصة، لكن، عندما نتابع القصة، نجد أن (التنبؤ) سوف يكون مائلا إلى جهته السلبية، بدليل أن قوله (فينظر ماذا تعملون) لو كان ناظرا إلى الجهة الإيجابية من السلوك لما احتاج إلى مثل هذا التعقيب وإبرازه في عبارة خاصة، وهذا بعكس ما إذا كان ناظرا إلى الزاوية السلبية من السلوك، لذلك يتوقع القارىء (إذا كان ممتلكا لشيء من الحاسة التذوقية في الأدب القصصي)، يتوقع أن يجد انعكاس هذا القول (فينظر ماذا تعملون) على الأجزاء اللاحقة في القصة بحيث تتحدث فصولها عن قوم موسى بصفهم لم يتمثلوا مبادىء السماء التي أوصلها موسى (ع) إليهم، بل تمردوا عليها وفقا للتفصيلات التي سنتفق عندها في حينه...

وأيا كان، فهنا (تنبؤان) فنيّان، نستخلصهما من عبارة موسى لقومه (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) وعبارته (فينظر - أي اللّه - ماذا تعملون)... أما العبارة الأولى فستنعكس أصداؤها على القسم الآتي مباشرة من القصة: حيث سيتناول النص قضية الهلاك الذي سيلحقهم، وأما العبارة الأخرى: فستنعكس أيضا أصداؤها على القصة حيث ستتناول تفصيلا غالبية السلوك السلبي الذي صدر عنه مجتمع موسى (ع)، (بالنحو الذي سنقف عليه).

ص: 54

سورة الأعراف (7): الآیات 130 الی 136

قال تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قٰالُوا لَنٰا هٰذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ * وَ قٰالُوا مَهْمٰا تَأْتِنٰا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنٰا بِهٰا فَمٰا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفٰانَ وَ اَلْجَرٰادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفٰادِعَ وَ اَلدَّمَ آيٰاتٍ مُفَصَّلاٰتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كٰانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَ لَمّٰا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قٰالُوا يٰا مُوسَى اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ * فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلىٰ أَجَلٍ هُمْ بٰالِغُوهُ إِذٰا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ .

هذا القسم من قصة موسى: يمثل شريحة قصصية تتصل بسلوك مجتمع فرعون حيال موسى ومن آمن به... فبعد أن آمن السحرة برسالة موسى هدد فرعون وقومه: المؤمنين (وآذوهم فعلا) بحسب المقولة التي نقلتها القصة عنهم بقولهم لموسى أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا ، إذ أجابهم موسى قائلا عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وها هو النص الآن يحدّثنا عن هلاك الفراعنة إذ عاقبهم الله أولا بالقحط والجدب (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ومقدمة سورة الأعراف طرحت هذا المفهوم وهو (التذكّر) وها هي الآن تردّد هذه المقولة في قصّة موسى عند حديثها عن مجتمع فرعون: ليتلاحم النص هندسيا وتتواشج أقسامه: بعضا بالآخر...

المهم، أن هلاك الفراعنة بدأ مع ظاهرة الجدب، وجاء هذا الجدب بمثابة إنذار لتتمّ الحجة عليهم فلعلهم يتذكرون،... إلا أن هؤلاء لم تنفعهم التجربة حيث كانوا يفسرون قضية الجدب بأنها سوء الطالع بالنسبة لموسى وقومه، وعندما يغمرهم الخصب ينسبونه لأنفسهم... كما أنهم أصروا على

ص: 55

موقفهم المستكبر من الإيمان باللّه، حيث فسّروا الإعجاز الذي لحظوه عند موسى (ع) بأنه سحر، فبالرغم من أن العصا أبطلت السحر الذي هيأوه وخابوا، نجدهم يقولون: مَهْمٰا تَأْتِنٰا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنٰا بِهٰا فَمٰا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ...

إن هذا الإصرار يفصح عن أن القوم لم يمارسوا أية فاعلية عقلية أو موضوعية لمدارسة الموقف بل انصاعوا لذواتهم بحيث أصروا على أن الإعجاز هو سحر وأنهم لن يؤمنوا برسالة السماء...

نتيجة لذلك: نتوقع أن تعاقبهم السماء بجزاء أشد من السابق وهو:

الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم: وعندما شاهدوا هذه الآيات طلبوا من موسى أن ينقذهم من ذلك بدعائه إلى اللّه، ففعل، واستجيب له...

لكنهم عادوا إلى نفس الموقف المنحرف... وعندها غمرهم الجزاء الماحق وهو: الغرق في البحر بالنحو الذي نعرفه جميعا...

إن هذه الأقصوصة التي رسمت مصير آل فرعون، تظل جوابا فنيا لمقولة موسى (ع) في مقطع أسبق: حيث قال لهم عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وها هو الهلاك يتحقق فعلا...

وأمّا استخلاف قوم موسى، فقد أوضحه النص في قسم لاحق من القصة حيث قال:

سورة الأعراف (7): آیة 137

وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشٰارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغٰارِبَهَا

الخ...

لكن عملية الاستخلاف تظل مشروطة بإفادة القوم من تجارب الماضي وبالتزام مبادىء الله، فهل التزم قوم موسى بذلك أو لا؟.

إن المقطع الأسبق من القصة أو من المقولة التي لحظناها قبل قليل وهي قول موسى لقومه (عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) قد لوحت بعبارة (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) إلى أن قوم موسى سوف يتعرّضون لتجربة عبادية في السلوك، بحيث يمكن أن نتبين منها أنهم

ص: 56

ناجحون أو مخفقون في تجاوز التجربة المذكورة...

ونحن حين نتابع الأجزاء اللاحقة من القصة، سنجد أن قوم موسى لم يلتزموا بمبادىء اللّه وأنهم مارسوا ألوانا من الفساد بالنحو الذي سنقف عليه لاحقا... غير أنّ ما يعنينا أن نؤكده الآن ونكرّر ما سبق أن أوضحناه قبلا هو:

إن البناء الهندسي للقصة قد أحكم بنحو بالغ الدهشة حينما نمعن النظر في تلك المقولة التي كررنا ذكرها ونعني بها قول موسى لقومه: عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .

فهذه، المقولة تتضمن ثلاثة أمور: الأول: هلاك العدو، وقد شرح النص هلاكهم مفصلا، الثاني: استخلاف قوم موسى وقد أشار فعلا إلى ذلك بقوله وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ الخ، الثالث: النظر إلى كيفية السلوك الذي سيختطّه قوم موسى، وهو ما سوف تشرحه القصة في مقاطع لاحقة، حيث قلنا: ان عملهم سوف يتجسّد في عمليات الإفساد في الأرض بدلا من الإصلاح، والمهم (من زاوية البناء الهندسي) هو أن المقولة السابقة لموسى ينبغي أن نضعها في الاعتبار من حيث أهمية الموقع الفني الذي احتلته من القصة نظرا لانعكاساتها على الأجزاء اللاحقة من القصة بالنحو الذي تم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 138 الی 141

قال تعالى: وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلىٰ أَصْنٰامٍ لَهُمْ قٰالُوا يٰا مُوسَى اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هٰؤُلاٰءِ مُتَبَّرٌ مٰا هُمْ فِيهِ وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * قٰالَ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ أَبْغِيكُمْ إِلٰهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ * وَ إِذْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ فِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [الأعراف:

138-141].

ص: 57

هذا المقطع من قصة موسى، يمثل قسما جديدا من أقسام القصة التي يتناول كل جزء منها جانبا من الحوادث والمواقف. والجديد هنا هو: عرض لسلوك الإسرائيليين الذين أنقذهم الله من فرعون كما قال لهم موسى: عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

[الأعراف: 129]، وقد أهلك العدو بالفعل، واستخلف الإسرائيليون، وجاءت المرحلة الثالثة وهي قوله فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، وجاءت الشريحة الجديدة من القصة معبّرة عن انعكاسات الفقرة المذكورة، أي: مبيّنة كيف أن الإسرائيليين سوف يمارسون السلوك الذي تنبّأ به موسى، السلوك الملتوي الذي أوضحته القصة بأنّ الإسرائيليين عندما عبروا البحر وغرق فرعون وقومه واجهوا في طريقهم قوما يعبدون الأصنام، فطلبوا حينئذ من موسى أن يجعل لهم أصناما أيضا. إذن: هذه الأحداث الثلاثة تشكّل (نموا عضويا) للفقرات الثلاث التي نطق بها موسى عن توقعه أن يهلك عددهم، ويستخلفون في الأرض، وينظر اللّه فيما يفعلون، حيث جاء الفعل سلبيا كما لحظنا.

إن هذه التجربة هي أولى سلوك شاذ يصدر الإسرائيليون عنه، فالمفروض أن يتّعظ الإسرائيليون بمصير فرعون وقومه، وأن يقدّروا عطاء الله الذي أنقذهم من فرعون، ويسر لهم طريق البحر بنحو إعجازي، لكن بدلا من أن تتصاعد هذه الفئة بسلوكها نحو الأفضل، إذا بها تنحدر مباشرة إلى أحط أنماط السلوك وهو عبادة الأصنام.

لا شك، أن المتلقي سوف يستخلص سريعا بأن الإسرائيليين يجسّدون أحطّ المستويات البشرية تفكيرا، و إلاّ فمن غير المعقول أن يستفتحوا حياتهم الجديدة مع موسى باقتراح لعبادة الأصنام بينا كان المفروض أن يطالبوه بالمبادىء الجديدة المتصلة بالتعامل مع اللّه.

وأيا كان، فإن موسى عبر صدمته بهذا الموقف الهزيل من الإسرائيليين،

ص: 58

خاطبهم بقوله. إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، كما ألفت نظرهم إلى بطلان مقولتهم ودعاهم إلى توحيد اللّه، وذكّرهم بنعمه تعالى عليهم، وإنقاذهم من آل فرعون الذين كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم.

المهم، أن هذا الموقف الإسرائيلي يظل إرهاصا بمواقف مشينة لاحقة تحدثنا القصة عنها، بعد أن ترسم البيئة العبادية التي واكبت المواقف المنحرفة للإسرائيليين.

سورة الأعراف (7): آیة 142

ولنقرأ: وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142].

ففي هذا المقطع الذي يقدّم لنا بطريقة فنية البيئة العبادية التى تنتظر مكالمة موسى مع السماء من حيث المبادىء التي سيبشّر بها موسى قومه. في هذا المقطع إرهاص آخر بما سوف يصدر عن الإسرائيليين من سلوك منحرف، حيث أن توصية موسى لهارون بأن يخلفه في قومه، وبأن يصلح، وبأن لا يتّبع سبيل المفسدين، هذه التوصية تتنبّأ لنا بنحو فنيّ أن هناك عملية (إفساد) من الإسرائيليين حين طالبه بعدم اتباع سبيلهم. لكن، سوف نلاحظ أن المواقف المنحرفة اللاحقة التي ستصدر عن الإسرائيليين، قد سبقتها مواقف خاصة بموسى (ع) تتصل بتكليمه مع اللّه تعالى، وبنزول الألواح عليه، ومطالبته بتوصيلها إلى الآخرين.

سورة الأعراف (7): آیة 143

تقول القصة: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قٰالَ : لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً فَلَمّٰا أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143].

هذه الحادثة الخاصة بموسى تظل ذات صلة بالإسرائيليين أيضا، حيث تذكر النصوص المفسرة بأنهم طلبوا من موسى ذلك من أجل أن يؤمنوا.

ص: 59

والمهم هو أن القصة تستهدف تقرير الحقيقة الذاهبة إلى أن الله تعالى ليس جسما حتى تتحقق الرؤية المقترحة على موسى، كما تستهدف تقرير الحقائق الأخرى التي أوضحت بأن الجبل قد دك، وأن موسى قد خرّ صعقا، تأكيدا على امتناع الرؤية المشار إليها، ولذلك ما أن أفاق موسى من صعقته حتى طلب من الله المغفرة قائلا: سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ .

لا شك، أن هذه الشريحة من الموقف المتصل بالتوبة لا تنحصر في شخصية موسى فحسب، بل ان دلالتها تنسحب على مجمل الموقف المتصل بالإسرائيليين أنفسهم، حيث أن إشارته بأنه (أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ ) إنما تنسحب على الآخرين الذين يستهدف النص توصيل الدلالات الفكرية إليهم بالنحو السليم، وإلغاء الأفكار المنحرفة التي صدر الإسرائيليون عنها في تعاملهم مع موسى، مع تقديم المبادىء العامة التي ينبغي أن يتمّ الالتزام بها، ثم التهديد بالجزاء الذي سوف يلحق المنحرفين في حالة عدم الالتزام بذلك.

سورة الأعراف (7): الآیات 144 الی 147

قال تعالى: قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّٰاسِ بِرِسٰالاٰتِي وَ بِكَلاٰمِي فَخُذْ مٰا آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ وَ كَتَبْنٰا لَهُ فِي اَلْأَلْوٰاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهٰا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهٰا سَأُرِيكُمْ دٰارَ اَلْفٰاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيٰاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاٰ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ * وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:

144-147].

هذه الآيات امتداد لمقطع سابق من قصة موسى (ع)، إذ ذهب لميقات ربّه لتسلّم رسالة النور فخاطبه اللّه سبحانه بأنّه قد اصطفاه ويأمره أن يحمل

ص: 60

الرسالة التفصيلية وأن يوصلها بقوة وحزم إلى الآخرين.

ولا نغفل (ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية) ان مقدمة السورة طرحت مبدأ على المبلّغ هو: كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2]. هذا المبدأ الإسلامي في التبليغ، يطرحه النص الآن، محقّقا بذلك عنصر (التلاحم الهندسي) بين أجزاء السورة حيث يربط (المتلقي بين هذه القصة الآمرة - في حينه - موسى، بأن يأخذ الرسالة بقوة ويأمر بها قومه وبين الأمر الذي وجهه اللّه تعالى إلى محمد (ص) في مقدمة السورة بأن يأخذ رسالة الإسلام وينذر بها ويذكّر بها دون أن يكون حرج من ذلك، أي: دون تردّد في ذلك. كما أن التلويح بالجزاء الأخروي للمنحرفين يأخذ نفس الطابع هنا من حيث الموازنة بين حديث النص عن المعاصرين لرسالة موسى والمعاصرين لرسالة محمد (ص).

والمهم، أن القصة وهى تتحدث عن موسى، وتوحي فنيّا بعملية الربط بين البيئة التي يتحرك مجتمعه من خلالها، والبيئة الإسلامية،... هذه القصة تواصل رسمها لمجتمع موسى، أو لنقل: لسلوك الإسرائيليين الذين لحظنا أنهم ما أن هلك فرعون حتى انحرفوا من جديد عن مبادىء اللّه، حيث طالبوا موسى بعد عبور البحر باتخاذ الأصنام آلهة لهم، كما أن موسى وهو يتقدم إلى ميقات ربّه لتسلّم رسالة السماء، ويخلّف أخاه هارون على القوم ويحذره من اتباع سبيل المفسدين، إذا به يواجه الحادثة الانحرافية الكبيرة التالية:

سورة الأعراف (7): آیة 148

وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ...

[الأعراف: 148]. هذه هي الحادثة الثانية التي رسمها النص بالنسبة إلى سلوك الإسرائيليين، ويبدو - من الوجهة الفنيّة - ان هذه الحادثة صدى لموقف سابق هو: مطالبة قوم موسى (بعد أن رأوا في طريقهم من البحر عبادة بعض الأقوام للأوثان) بأن يتخذ لهم أوثانا مماثلة، بمعنى أنّ رؤية الأوثان سحبتهم

ص: 61

إلى ممارسة عملية هي حادثة العجل الذى تقدّمت الإشارة اليه بيد أن القصة وهي تختزل بطريقة فنية تفصيلات الحادث المذكور تحسّس المتلقي بأن موسى قد رجع إلى القوم، وأنه عندما وجدهم في الحالة المنحرفة السابقة ووبخهم على ذلك، وأنهم قد اكتشفوا ضلالتهم في الموقف المذكور.

سورة الأعراف (7): آیة 149

نفهم ذلك كله من خلال الآية الآتية: وَ لَمّٰا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قٰالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنٰا رَبُّنٰا وَ يَغْفِرْ لَنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ [الأعراف:

149].

لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أن قضية اكتشاف القوم لانحرافهم، ثم ندمهم على ذلك سوف ينعكس على الأجزاء اللاحقة من القصة بحيث يستخلص المتلقي بأن ممارسة الانحراف المذكور قد اقترنت حينئذ باكتشافه عند الإسرائيليين أنفسهم، وهو أمر يشكّل إدانة لأي سلوك لاحق يصدر الإسرائيليون عنه. لذلك سوف نرى أن النص يهدد أولئك الذين اتخذوا العجل

سورة الأعراف (7): آیة 152

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنٰالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. إلا أنه يلاحظ أن هذا التهديد سبقه مقطع يتحدث عن رجوع موسى غضبان أسفا حيث أخذ برأس أخيه هارون يجرّه إليه، كما لحقه مقطع يتحدث عن أن موسى عندما سكت غضبه

سورة الأعراف (7): آیة 154

أَخَذَ اَلْأَلْوٰاحَ وَ فِي نُسْخَتِهٰا هُدىً وَ رَحْمَةٌ .

والسؤال هو: لماذا قطعت القصة سلسلة الحدث (قضية العجل) وخلّلته موقف الغضب عند موسى، وإلقائه الألواح، وجرّه لرأس أخيه هارون ؟.

في تصوّرنا الفنيّ ، أن الاستجابة أو ردّ الفعل حيال عمل منحرف غير متوقّع مثل عبادة العجل: بخاصة أن موسى قد خلّف أخاه للسيطرة على أى موقف محتمل، وأنه قد اتّجه بحماسة بالغة الشدة إلى اللّه متعجلا تسلّم

ص: 62

الرسالة. أقول. في سياق مثل هذه الحماسة عندما يواجه البطل موقف غير متوقع من مجتمعه حينئذ لا بدّ أن يصدر عن البطل ردّ فعل حادّ شديد يتناسب مع حجم حماسته من جانب ومع خطورة المثير الذي واجهه من جانب آخر.

من هنا عندما يقطع النص سلسلة الحدث لينبّه المتلقّي على استجابة موسى، إنما يحسّسنا بحيويّة وواقعيّة الموقف من حيث ملازمته لأمثلة هذا الردّ من الفعل، لأنّ عدم المبالاة مطلقا قد لا يتوافق مع الرغبة أو الحرص على تطبيق مبادىء اللّه، بخاصة في مرحلة انتقالية تخللتها بعض المواقف المنحرفة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة الأعراف (7): الآیات 155 الی 157

قال تعالى: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ وَ اُكْتُبْ لَنٰا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنّٰا هُدْنٰا إِلَيْكَ قٰالَ عَذٰابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشٰاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِنٰا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 155-157].

هذا المقطع امتداد لقصة موسى (ع)، والملاحظ ان قضية اختيار موسى من قومه سبعين رجلا للذهاب إلى الميقات ومشاهدتهم لتكليم اللّه موسى ونزول الألواح عليه ليكونوا شهداء له عند القوم، هذه الحادثة إذا أخضعناها للتسلسل الزمني، حينئذ كان الموقع الذي ينبغي أن تحتله هو المقطع الأسبق 63

ص: 63

الذى تحدث عن موسى وطلبه أن ينظر إلى اللّه ثم الصعقة التي أصابته نتيجة لذلك. فلماذا قطع النص سلسلة العرض المذكور واعترضها بالحديث عن الصعقة قبل الحديث عن الرجفة التي أصابت السبعين رجلا؟.

من الممكن أن تكون حادثة الرجفة قضية جديدة غير مواكبة لقضية الصعقة، ومن الممكن أن تكون مواكبة لها، إلاّ أنه في الحالة الأولى يكون التسلسل الموضوعي للزمن متحكما في هذا الموقف، كما أنه في الحالة الثانية يمكن تفسير ذلك فنيا بأن القصة استهدفت أولا موسى (ع) بصفته بطل الحادثة ثم قومه بصفتهم أبطالا ثانويين. وفي الحالتين ثمة أهمية فكرية لصياغة هذه الحادثة حيث استثمرها النص لتقديم أفكار جديدة تربط بين قوم موسى وبين رسالة الإسلام التي ندب النص القوم المذكورين إليها، وهذا ما نلحظه بوضوح في جواب اللّه تعالى لموسى عندما سأله الرحمة حيث أجابه اللّه بقوله:

وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِنٰا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ .

إذا (ونحن نتحدث عن عمارة النص) نلحظ أن القصة التي كان بطلها موسى لم تسرد لمجرّد المعرفة التأريخية بل وظّفت فنيا من أجل رسالة الإسلام حيث لحظنا كيف أن النص انتقل من الحديث عن الرحمة لمطلق الناس إلى خاصتهم المعنيّين بالخطاب، وهم الكتابيون الذين يجدون في كتبهم التبشير برسالة الإسلام بصفتهم قوم موسى الذين حامت القصة عليهم. كما أن النص انتقل مباشرة من الحديث عن القوم المذكورين، إلى الحديث عن المجتمع الإسلامي بخاصة، تأكيدا لرسالة الإسلام التي قلنا أن القصة موظفة من أجل لفت الانتباه إلى الرسالة المذكورة، يقول النص:

سورة الأعراف (7): آیة 158

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ

ص: 64

فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ كَلِمٰاتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

[الأعراف: 158].

إذا، لحظنا كيف أن قصة موسى قد خططّ لها بحيث أفضت - في نهاية المطاف - إلى الإيمان برسالة الإسلام.

غير أن القصة لم تنته في الواقع بقدر ما تمّ رسم جملة من الحوادث والمواقف التي واكبت سلوك الإسرائيليين، حيث وجدناهم يصدرون عن أكثر من مفارقة في السلوك، بخاصة مطالبتهم موسى بأن يهيّئ لهم أصناما عندما عبروا النهر بعد حادثة غرق فرعون، ثم عبادتهم العجل.

وها هو النص يتابع الحديث عن مواقف أخرى للإسرائيليين سنقف عندها لاحقا، إلا أننا نعتزم هنا أن نشير إلى عمارة النص هندسيا، حيث يمكن القول بأن قصة موسى قد استهدفت أقسامها الأولى عرض السلوك الإسرائيلي في المراحل الانتقالية الأولى وهي مراحل إنقاذهم من فرعون، وعبورهم النهر، ومعايشتهم لموسى (ع) عبر الميقات الأول الذي انتظر من خلاله نزول المبادىء وتعرّفها، حيث جاءت الاستجابات الإسرائيلية معاكسة تماما لما ينبغي أن يكونوا عليه، إذ كانت حادثة الأصنام، والعجل، وغيرهما استجاباب شاذة كل الشذوذ عبر تلكم المرحلة الانتقالية الخطيرة.

وأيا كان، فإن النص بعد أن ربط بين هذه الحوادث وبين إفضائها إلى الإيمان - في نهاية المطاف - برسالة الإسلام، كما أشرنا، حينئذ تابع النص المراحل المتنوعة التي واكبت سلوك الإسرائيليين بنحوها السلبي الذي سنقف عليه في الأجزاء اللاحقة من القصة.

سورة الأعراف (7): الآیات 159 الی 160

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وَ قَطَّعْنٰاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبٰاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ إِذِ اِسْتَسْقٰاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْغَمٰامَ وَ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ مٰا ظَلَمُونٰا وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف: 159-160].

ص: 65

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وَ قَطَّعْنٰاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبٰاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ إِذِ اِسْتَسْقٰاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْغَمٰامَ وَ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ مٰا ظَلَمُونٰا وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف: 159-160].

في هذا المقطع تتحدّث قصّة موسى عن مجتمعه الذي كشفت عن التواءاته المبكّرة المطالبة بجعل الأصنام، وعبادة العجل وغيرهما. تتناول القصة هنا التواءات المجتمع الإسرائيلي الممتدة طوال فترة موسى (ع)، فأشارت في البدء إلى أنّ الفئة الخيرة من المجتمع المذكور أو بتعبير القصة:

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وهذه الفئة انعزلت عن مجتمع الإسرائيليين - كما تقول النصوص المفسّرة - نظرا لمشاهدتها هول الجرائم التي صدر الإسرائيليون عنها، وأما سائر الفئات التي ينتظمها مجتمع الإسرائيليين تظلّ مطبوعة بسمات السلوك المنحرف حيث ختم المقطع حديثه عن ذلك بقوله: وَ مٰا ظَلَمُونٰا وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي أنّ هناك فئة مؤمنة من قوم موسى والمجتمع الإسرائيليّ هو مجتمع ظالم، وأنّه بانحرافه وظلمه لم يضرّ إلاّ نفسه. ثم بدأت القصّة بسرد جانب جديد من الانحراف الذي طبع الإسرائيليين:

سورة الأعراف (7): الآیات 161 الی 162

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هٰذِهِ اَلْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْهٰا حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئٰاتِكُمْ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 161-162].

ففي هذا الاختبار الذي يكشف عن مدى إيمان أو انحراف الإسرائيليين أوضحت القصة أنهم تمرّدوا على ما أمروا به من دخول إلى بيت المقدس ساجدين ومستغفرين حيث بدّلوا ذلك بممارسات تنتسب إلى الاستهزاء والسخرية وهو ما استتبع نزول الرّجز عليهم من السّماء جزاء بما كانوا يظلمون.

ص: 66

سورة الأعراف (7): آیة 163

ثمّ قدّمت القصّة حادثة جديدة أخرى من مواقف الإسرائيليين المنحرفة:

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ حٰاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتٰانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاٰ يَسْبِتُونَ لاٰ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163].

فهذه الحادثة تجربة اختبارية جديدة أمروا فيها بعدم الصيد في السبت فخالفوا ذلك الأمر وترتب على تلكم المخالفة جزاء آخر توضحه القصة على هذا النحو:

سورة الأعراف (7): آیة 166

فَلَمّٰا عَتَوْا عَنْ مٰا نُهُوا عَنْهُ قُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ .

إذا، مسخ الإسرائيلين قردة، جزاء لانحرافهم، وهو جزاء رهيب يكشف عن خطورة الانحراف الذي طبع الإسرائيليين.

سورة الأعراف (7): آیة 167

مضافا إلى الجزاء المذكور، ترتب جزاء استمراري آخر هو، كما يقول النص: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ ... [الأعراف: 167].

وهذا الجزاء لعلّه أشدّ الجزاءات إيلاما للشخصية الإسرائيلية حيث جعلها اللّه عرضة لأشدّ العذاب في حياتها الدنيوية، أي طيلة التأريخ الإسرائيلي وهو ما لحظناه فعلا في مختلف أدوار التأريخ.

ثم جاء جزاء من نمط آخر هو تفرقهم إلى أمم أو مجتمعات مختلفة، منها: ما هو صالح وما هو دون ذلك:

سورة الأعراف (7): آیة 168

وَ قَطَّعْنٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصّٰالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

[الأعراف: 168]، وهذا الجزاء - كما قالت القصة - بمثابة فتح صفحة جديدة أو تجربة جديدة وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حيث نستخلص منها أن فتح هذه الصفحة الجديدة هي إفساح المجال لعمليات التعديل في السلوك، لكن - كما يقول النص -:

سورة الأعراف (7): آیة 169

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتٰابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هٰذَا اَلْأَدْنىٰ ... الخ [الأعراف: 169]، حيث

ص: 67

تشير هذه الاية إلى أن الإسرائيليين تشبثوا بمتاع الحياة الدنيا، وهي إشارة إلى نمط ثقافي خاص منهم هم: الحكام أو القضاة - وفقا للنصوص المفسرة - فيما تذكر بأنهم كانوا يرتشون ويحكمون بالجور.

وهنا لا نحتاج إلى التعقيب على ظاهرة الانحراف حتى في الشخوص الفوقية التي ورثت الكتاب، حيث جرفها متاع الحياة الدنيا أيضا، مع أنه، كما يقول النص: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثٰاقُ اَلْكِتٰابِ أَنْ لاٰ يَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ .

إذا، ينبغي أن نقف عند مدى الانحراف الذي شدّدت القصة على رسمه لدى الإسرائيليين - عاديين وخاصة - بالرغم من إفساح المجال لهم بتعديل السلوك، وبالرغم من أخذ المواثيق عليهم بألاّ يعملوا إلاّ بموجب المبادىء المرسومة لهم في كتابهم، وبالرغم من إضفاء النعم عليهم، بالرغم من كل ذلك، تظل الشخصية الإسرائيلية ذات تاريخ ملحوظ من الانحراف، سردت القصة جانبا منه، كما أنها لا تزال تعرض جوانب أخرى منه.

سورة الأعراف (7): آیة 171

قال تعالى: وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ وٰاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مٰا آتَيْنٰاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مٰا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [لأعراف: 171].

في هذا المقطع حادثة جديدة عن الإسرائيليين الذين مرّ علينا جانب من قصصهم المتصلة بنعم اللّه عليهم وانحرافهم عن اللّه، ومنها قضية رفع الجبل فوقهم ومطالبتهم بالالتزام بمبادىء اللّه التي أنزلت إليهم.

هنا يستثمر النص هذه الحادثة من حيث صلتها بالعهود والمواثيق التي أخذت منهم بالعمل بموجبها حيث انتقل النص من حادثة خاصّة (المواثيق والعهود المتصلة بالإسرائيليين) إلى مطلق العهود والمواثيق المتصلة بالآدميين جميعا حيث يقول النص:

سورة الأعراف (7): آیة 172

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنّٰا

ص: 68

كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ [الأعراف: 172].

هذه الحقيقة العبادية العامة لها خطورتها في ميدان السلوك البشريّ ، وهي حقيقة كون الآدميّين قد فطرهم الله على التوحيد. ومن المعلوم أنّ النّصوص الفنية تتسم بكونها ذات طابع عام حتى لو كان منطلقها قضية خاصة كما هو شأن هذا المقطع، والمهم هو أن القضية الخاصة ذاتها مثل قضية أخذ المواثيق من الإسرائيليين إنّما (توظف) في الواقع من أجل الإفادة منها وتجاوزها إلى إدراك الحقائق العامة المتصلة بالآدميين جميعا.

سورة الأعراف (7): الآیات 175 الی 176

إذا، من حيث البناء الهندسي للنص، أمكننا أن ندرك أهمية هذا المقطع الذي وصل بين قضية خاصة وقضية عامة. لذلك ما إن انتهى المقطع من تقرير هذه الحقيقة حتّى عاد إلى الحديث عن الإسرائيليين من جديد، فقدّم لنا شريحة جديدة من سلوكهم، يقول النص: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطٰانُ فَكٰانَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ وَ لَوْ شِئْنٰا لَرَفَعْنٰاهُ بِهٰا وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذٰلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الاعراف:

175-176].

بهذه الشريحة القصصية ينتهي العنصر القصصي الذي تحدّث عن سلوك الإسرائيليين. تتحدّث هذه الأقصوصة عن أحد الأشخاص الذين آمنوا ثم ارتدّوا إيثارا لمتاع الحياة الدنيا، وسواء أكانت هذه الشخصية التي اختلف المفسرون في تحديد زمانها ومكانها من حيث كونها إسرائيلية أو غيرها، ومن حيث كونها من البائدين أو المعاصرين لرسالة الإسلام، ففي الحالات جميعا يعنينا منها ونحن نتحدث عن عمارة النص أنها وظّفت من أجل هدف فكري خطير هو: إن متاع الحياة الدنيا هو السبب في جعل الأشخاص الذين خبروا حقيقة مبادىء اللّه، أن ينسلخوا عنها لمجرد إيثار المتعة العابرة. وقد قدّم

ص: 69

النص تشبيها لا فتا للنظر لتقرير هذه الحقيقة حينما ربط بين أمثلة هذه الشخصية وبين أمثلة الكلاب الذين يلهثون في الحالات جميعا سواء تركوا أو طردوا، حيث ان أمثلة هؤلاء الأشخاص الذين خبروا الحقائق ثم لم يعملوا بها يبقون على ضلالهم في حالة إيثارهم متاع الحياة الدّنيا فهم ضالون، سواء وعظوا أم لم يوعظوا، ففي الحالتين هم مشدودون إلى ذواتهم ومحاولة إشباعها بأي ثمن كان.

ومهما يكن، فإنّ الأقصوصة أو الحكاية المذكورة، ختم بها العنصر القصصيّ الذي تحدّث عن سلوك الإسرائيليين، كما يمكن القول بأنّ هذه الحكاية عنصر مستقلّ قدّمه النصّ بعد انتهائه من الحديث عن الإسرائيليين وانتقاله إلى دلالة فكرية جديدة في السّورة بحيث تكون قضية العهود والمواثيق التي أخذها اللّه على الإسرائيليين هي خاتمة العنصر القصصي والانتقال إلى المواثيق التي أخذها اللّه على مطلق الادميين هو العنصر الفكريّ الجديد الذي تتجه السورة إليه.

والمهم هو، أن سورة الأعراف تبدأ الآن بالحديث عن ظواهر السلوك العبادي بعامة، وستختم بهذه الظواهر على نسق البداية التي افتتحت السورة بها، حيث كان الحديث عن الإسرائيليين، مجرد عنصر قصصي (موظّف) لإنارة هذه الظواهر العبادية، وسنرى أن هذه الظواهر تظل حائمة على الإيمان بالله وما يضاده من السلوك المنحرف، حيث يتخلّلها طرح جديد لمجموعة من الدلالات الفكرية التي يستهدفها النص وهي دلالات تتجانس مع مقدمة السورة التي بدأت بطرح مفهوم التبليغ الإسلامي وضرورة تحمل مسؤوليته مهما كلّف ذلك من ثمن. ثم المطالبة بالالتزام بمبادىء اللّه وعدم اتخاذ من هو دون اللّه وليّا، ثم التذكير بمعطيات اللّه، ثم التلويح بالجزاء المترتب على السلوك دنيويا وأخرويا. كل أولئك سنجد انعكاساتها على خاتمة السورة، مما يكشف عن 70

ص: 70

المزيد من التلاحم الفني بين أجزاء السورة الكريمة.

سورة الأعراف (7): الآیات 177 الی 181

قال تعالى: سٰاءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ أَنْفُسَهُمْ كٰانُوا يَظْلِمُونَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ * وَ لَقَدْ ذَرَأْنٰا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ * وَ لِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ! وَ مِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ

[الأعراف: 177-181].

في هذا المقطع جملة من الحقائق العبادية المرتبطة بالهيكل العام للسورة إلاّ أنها تصبّ في رافد فكري خاص هو: انشطار الآدميين إلى مؤمنين ومنحرفين، فالآية الأخيرة مثلا: وَ مِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ مؤشر واضح إلى أن من الآدميين من يبلغ رسالة الله، وهي نفس المقدمة التي افتتحت بها سورة الأعراف عندما طالبت بعملية التبليغ لرسالة اللّه، يقابل ذلك، امم أخرى يسمها طابع الانحراف، وهذه الأمم أو الأفراد لم يركهم النص دون أن يدلّل على تخلفهم النفسي والفكري حتى يسقطهم تماما عن الحساب فلا تبقى لهم أية قيمة اجتماعية في نظر المتلقّي، لقد وصفهم النص بثلاث سمات هي كونهم لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا . و إذا افتقد الشخص كلا من القلب والبصر والسمع حينئذ لا يبقى من شخصيته غير الهيكل الحيواني، وهو ما أكده النص بوضوح حينما ربط بين أمثلة هذا الشخص وبين الحيوانات (الأنعام)، حتى أنه جعل أمثلة هذا الشخص أشد تفاهة من الأنعام أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ .

بعد ذلك تقدّم النص بطرح دلالات أخرى تحوم على نفس الفكرة م 71

ص: 71

المذكورة عبر ربطها بالمجتمع المعاصر لرسالة الإسلام وهو الهدف الرئيسي بطبيعة الحال: يقول النص:

سورة الأعراف (7): الآیات 184 الی 185

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا مٰا بِصٰاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّٰ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ... الخ [الأعراف:

185].

لقد انتقل النص من الحديث عن المنحرفين بعامة إلى المنحرفين في زمن رسالة الإسلام حيث ذكّرهم بسويّة شخصية محمد (ص)، وبظواهر الإبداع الكوني. طبيعيا، إن الربط بين شخصية صاحب الرسالة والإبداع الكوني يظل من الإحكام الفني بمكان، إذا أخذنا بنظر الاعتبار (وحدة) الفاعلية الكونية:

حيث أن الذهن يتداعى من مشاهدته لظواهر حسيّة، إلى الظواهر الفكرية مثل:

الإيمان برسالة لإسلام.

سورة الأعراف (7): آیة 187

ثم، يواصل النص القرآني الكريم الحديث عن هؤلاء المنحرفين المشككين برسالة الإسلام منتقلا من تشكيكهم بما هو (حاضر) - وهي الرسالة - إلى ما هو (غيبي): يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ .

واضح أن النص في نفس الوقت الذي ينقل من خلاله سلوك المنحرفين، من خلال سؤالهم المتقدم عن الساعة، يتجه إلى عرض الحقيقة الكونية العامة عن قيام الساعة، فيحدد دلالتها للآدميين جميعا، مبيّنا أنها تنتسب إلى الغيب، وفقا لحكمة الله تعالى. لذلك، ما أن انتهى النص من تقرير هذه الحقيقة الكونية المتصلة بالغيب حتى وصل بينها وبين حقيقة غيبية أخرى، إلا أنها لا تتصل بما هو كوني بل بما هو فردي:

سورة الأعراف (7): آیة 188

قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ... [الأعراف 188].

هذه الحقيقة الفردية تقول: إن الآدميين يجهلون أسرار الغيب وإلاّ لو

ص: 72

كانوا على معرفة كاملة بذلك، لاختطوا من السلوك ما يجتذب إليهم الخير أيّا كان، وهذا يعني (من خلال الإيحاء غير المباشر) ان الشخصية الإسلامية ينبغي أن تلتزم بمبادئ الله تعالى، دون أن تدرك بالضرورة منابع الحكمة الكامنة ة وراء هذه الظاهرة أو تلك.

بعد ذلك انتقل النص إلى قضية المولد البشري، وهي القضية التي طرحتها السورة في مقدمتها، كما لحظنا، إلا أنه الآن ربط بين هذه القضية وبين حصيلتها التي واكبها الانحراف.

سورة الأعراف (7): الآیات 189 الی 190

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّٰا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّٰهَ رَبَّهُمٰا لَئِنْ آتَيْتَنٰا صٰالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا آتٰاهُمٰا صٰالِحاً جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ فِيمٰا آتٰاهُمٰا فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ [الأعراف 189-190]. لا نغفل، ان مقدمة السورة التي تحدثت عن المولد البشري، اشارت إلى أن الناس قليلا ما يشكرون، كما أشارت إلى أن الشيطان الذي زيّن الخطيئة للآدميين لوّح أيضا - من خلال محاورته مع اللّه تعالى - بأنه لا تجد أكثرهم شاكرين. وهذا يعني أن هذا المقطع يشكل إنماء عضويا لدلالة فكرية سابقة طرحت في مقدمة السورة.

وأيا كان، فإن هذا الربط بين مقدمة السورة وخاتمتها، يظل مواكبا لنماذج أخرى من الربط وقفنا عليها، كما سنقف على نماذج أخرى في خاتمة السورة الكريمة..

سورة الأعراف (7): الآیات 194 الی 196

قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا قُلِ اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ ثُمَّ

ص: 73

كِيدُونِ فَلاٰ تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اَللّٰهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتٰابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّٰالِحِينَ

[الأعراف: 194-196].

هذا المقطع وما بعده يمثل خاتمة سورة الأعراف، وهو يتحدّث عن المنحرفين الذين يدعون من دون اللّه. علما بأن مقدمة السّورة طالبت بعدم اتخاذ من دون اللّه أولياء، وها هو المقطع يتحدث عن نفس الفكرة ولكن بعد إنمائها بهذه الصورة الاستدلالية إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ وهذا يعني أنهم لن يستطيعوا ممارسة أية فاعلية. والدليل على ذلك هو:

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهٰا... الخ.

مقدمة السورة قالت: لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ [الأعراف: 3] وهذه مطالبة مجملة، فصّلتها خاتمة السورة بالنحو الذي لحظناه حيث استدلّت على عدم فائدة من يخّذ دون اللّه وليّا فليس لهم أرجل أو أيد أو أعين أو آذان ترشح الفاعلية من خلالها.

وقد يسأل المتلقّي: لماذا يتمّ الاستدلال بهذا النحو المفصّل الذي يتحدّث عن الأرجل والأيدي والأبصار والأسماع ؟ الحق: إنّ النص عندما تحدّث في مقطع سابق عن أن المنحرفين ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها، حينئذ لا بدّ أن يقدّم النّص في الاستدلال على موضوع ما يتجانس مع التفصيل المتقدم عن سمات المنحرفين...

والمهمّ ، عندما يطالب النّص بعدم اتخاذ من دون اللّه وليا وينكر على المنحرفين سلوكهم المضادّ، حينئذ يتقدم إلى المؤمنين الذين اتخذوا اللّه وليا - على سبيل التقابل - موضّحا ذلك من خلال الفقرة الآتية:

إِنَّ وَلِيِّيَ اَللّٰهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتٰابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّٰالِحِينَ ... وحين يتخذ المؤمنون الله وليّا لهم، وهو يتولاّهم حينئذ لا سبيل لأحد عليهم مهما كانت فاعلياته، وهذا ما يستتبع سلوكا ينبغي أن يتسم بالتّسامح حيال المنحرفين

ص: 74

الذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء لهم حيث طالب اللّه النبيّ (ص) بالسمة الأخلاقية الآتية:

سورة الأعراف (7): آیة 199

خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجٰاهِلِينَ [الأعراف:

199] لكن، ولأنّ المؤمن قد تنتابه لحظات من الضعف، رسم النصّ له مبادىء كفيلة بمسح لحظات الضعف المذكورة قائلا له:

سورة الأعراف (7): الآیات 200 الی 201

وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 200-201]. لا نغفل عمّا طرحته مقدمة سورة الأعراف من سمة للمنحرفين وهي أن الذين يتبعون من دون اللّه أولياء، هؤلاء خاطبتهم مقدمة السورة بأنكم (قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ ) وهذا يعني (من زاوية البناء الهندسي) أن المؤمنين ينبغي أن تطبعهم سمة مضادة لتلكم السمة، حيث أنهم (يتذكرون) إذا مسهم طائف من الشيطان إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ .

إذا، ينبغي ألاّ نغفل عن هذا التقابل الفنيّ بين مقدمة السورة وخاتمتها:

مضافا إلى أنماط التقابل الأخرى بينهما...

أخيرا، طالب النص المؤمنين بالتعامل مع اللّه بنحو أشد تصاعدا من خلال ثلاثة أنماط من السلوك، هي (1) الانصات للقرآن أو المبادىء بعامة

سورة الأعراف (7): الآیات 204 الی 206

وَ إِذٰا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204].

(2) ذكر الله وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ ... [الأعراف: 205].(3) ممارسة التقويم أو المعرفة أو التثمين المطلوب للمبدع إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206]. وبهذه الآية تختم سورة الأعراف التي بدأت مقدمتها بالمطالبة بتبليغ رسالة الله دون توقف، فاتباع مبادىء اللّه، وعدم اتخاذ من دونه أولياء، المص كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * اِتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ

ص: 75

أَوْلِيٰاءَ ... [الأعراف: 1-3] وهذه الأفكار المطروحة في المقدمة اجمالا أنمتها خاتمة السورة بهذا التفصيل الذي وقفنا عليه، كما أن وسط السورة التي تضمنت بخاصة عنصرا قصصيا هو قصص موسى والإسرائيليين في أوسع الحيوات الطولية لهما، هذا الوسط كما لحظناه قد (وظّف) لإنارة الأفكار التي طرحتها مقدمة السورة وخاتمتها، مما يقتادنا إلى إعادة التذكير بالأهمية الفنية لسور القرآن الكريم ومنها (سورة الأعراف) حيث لحظنا كيفية تلاحم مقدمة السورة ووسطها وخاتمتها، وهو تلاحم لا تنحصر جماليته في البناء الهندسي للسورة فحسب بل بما يتركه التجانس بين الأفكار من أثر نفسي في عملية التلقي من حيث تعميق الدلالات التي يستهدفها النص، ومن ثم محاولة تعديل السلوك من خلال الفن، بالنحو الذي وقفنا عليه متصلا.

***

ص: 76

سورة الانفال

اشارة

ص: 77

ص: 78

تتناول سورة الأنفال موضوعات مختلفة مثل غالبية سور القرآن الكريم، إلا أن العصب الفكري الذي ينتظم السورة يحوم على مفهوم (الجهاد)، بخاصة الجانب العسكري منه، ولعل بداية السورة ونهايتها - حيث تبدأ السورة بطرح ظاهرة (الأنفال) وتختتم بسمات المجاهدين، وينتظم وسطها رسم للمعارك وحث على الجهاد وصياغة لبعض مبادئه - أقول: لعل بداية السورة ووسطها ونهايتها بالنحو الذي أشرنا إليه تدلّنا اجمالا على (فكرتها) المتصلة بظاهرة الجهاد، وأمّا سائر الموضوعات فتصاغ بنحو فني حيث تبرز في سياقات خاصة من خلال التداعيات التي نصدر عنها عند تمثلاتنا لمفهومات الجهاد المطروحة في النص، وهو أمر نبدأ الآن بتوضيحه وفق الشكل الذي ينتظم السورة، حيث بدأت السورة بالمقطع الآتي، هكذا:

سورة الأنفال (8): آیة 1

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفٰالِ قُلِ اَلْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:

1].

هذه البداية تكشف لنا عن عمارة السورة هندسيا، وإلى أنها سوف تتحدث أو لنقل: سوف تركّز على واحد من الموضوعات ذات الصلة بالجهاد وهو (الأنفال).

وبالرغم من أنّ (الأنفال) تشمل الأرض المأخوذة بغير قتال، و الأرض التي انجلى عنها أهلها، والأرض الموات، وقطائع الملوك وسواها مما يرتبط بالجانب الاقتصادي والسياسي، إلا أن ارتباطها بالجانب العسكري من الوضوح بمكان بخاصة فيما يتصل بالفتح ومستلزماته المختلفة.

ص: 79

لذلك سوف نجد أن الجانب العسكري سوف يحتل مساحة كبيرة من سورة الأنفال، تبعا لهذه المقدمة التي بدأتها السورة وهو أمر نتوقعه (من الزاوية الفنية) حتى لو قدّر لنا ألاّ نتابع تفصيلات السورة ما دمنا على يقين بأن كل سورة لا بد أن ينتظمها هيكل فنيّ تتلاحم موضوعاته وتتنامى وفق بناءات هندسية بالغة الإحكام.

المهم ان نفس هذه البداية تدعنا نتوقع تركيزا على الجانب العسكري من الجهاد، وإلى أن الجانب الاقتصادي والسياسي سوف يطرحان خلال ذلك: ما دامت (الأنفال) تشمل بمصطلحها الفقهي جميع الجوانب المشار إليها.

والآن، لو اتجهنا إلى ملاحظة هذه البداية اَلْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

هذه المفردات التي طرحتها الآية التي استهلت بها سورة الأنفال لا بدّ أن تتردد أصداؤها في تضاعيف النص بمعنى أن هذه البداية تشكل (تمهيدا) فنيّا يبدأ بطرح الموضوعات إجمالا، ثم تبدأ تفصيلاتها تدريجا في الأجزاء اللاحقة من السورة، تبعا لما نعرفه من أن طبيعة النص الفنّي تستتبع مثل هذا البناء الهندسي.

إننا لو انسقنا مع هذه البداية قبل أن نتجه إلى ملاحظة النصوص المفسّرة، ومنها: معرفة المناخ الذي نزلت فيه السورة، لأمكننا أن نستخلص إجمالا بأن (الأنفال) التي صاغها النص ملكية عامة للدولة الإسلامية، إنما ارتبطت بوقائع خاصة. طالب النص من خلالها بتقوى اللّه، وبإصلاح ذات البين، وبإطاعة الله ورسوله. وكما قلنا، فإن هذه المفردات الفكرية المطروحة في (البداية) سوف تأخذ تفصيلاتها في الأقسام اللاحقة من النص. لكن ينبغي

ص: 80

أن نقف ولو عابرا على النصوص المفسرة لها: بالرغم من أن ظاهر النص يفصح بنفسه عن مضمونه من زاوية التذوق الفني الخالص، أي: حتى بدون الرجوع إلى النصوص المفسرة: يمكن للملاحظ الفني (وليس المفسّر لها) أن يستخلص الخطوط العامة التي تنتظم النص، لأن خطورة النص الفنيّة تكمن في أن أي نص فنيّ يظل مرشحا بإمكان مختلف الاستيحاءات منه، كل ما في الأمر أن هذه الاستيحاءات تظل ذات طابع مجمل، يتعيّن بعد ذلك (بغية الوقوف على حقائق النص)، معرفة تفصيلاته من النصوص المفسرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام.

وأيا كان الأمر، فقد أوضح أهل البيت عليهم السلام أن (الأنفال) تشمل الموارد التي أشرنا إليها، كما أوضحوا أنّ الآية المتقدمة نزلت في معركة (بدر) عند اختلاف المقاتلين في قضية الغنائم. لكن - كما قلنا - أن النص يفرض لغته الفنيّة علينا. وما دام الأمر يتصل بدراسة الهيكل العماري للسورة وليس بدراسة الجانب الفقهيّ منه، حينئذ يحسن بنا أن نتجه إلى دراسة الجانب الجمالي المذكور، فنقول: بدأت السورة بطرح ظاهرة (الأنفال) وإلى أنها ملك للدولة الإسلامية اَلْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ ، كما طالبت بتقوى الله و بإصلاح ذات البين وإطاعة اللّه والرسول (ص)، ثم ختمت ذلك بقولها: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي:

إن كنتم مؤمنين، حينئذ فأطيعوا اللّه ورسوله، فضلا عن إصلاح ذات بينكم.

لذلك نجد (من الزاوية العمارية) - أي من زاوية الخطوط الهندسية للسورة - أنّ النص يبدأ بعد ذلك بعرض سمات (المؤمنين) حيث ان مطالبته بإطاعة الله ورسوله، اتبعت بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وهو يتطلب (من حيث البناء الفني) عرضا لسمات (المؤمنين) الذين طالب النص الالتزام منهم بالإطاعة للّه تعالى وللرسول (ص). من هنا، جاء المقطع الأول من السورة (بعد التمهيد بالآية المتقدمة) خاصا بعرض مجموعة من الصفات التي تمثل

ص: 81

(المؤمنين)، أي جاء هذا الموضوع مستقلا فكريا وإن كان مرتبطا بقضية عسكرية، طالما نعرف - كما كررنا - بأن الفنّ العظيم هو الذي يطرح موضوعات مختلفة من خلال (فكرة عامة) تتفرع عليها تلكم الموضوعات على نحو ما نبدأ بتفصيل الحديث عنه.

سورة الأنفال (8): الآیات 2 الی 3

قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 2-3].

هذا هو المقطع الأول من سورة «الأنفال» التي استهلت بقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفٰالِ قُلِ اَلْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]. وها هو المقطع الجديد، يشرح لنا معنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فمن هم المؤمنون ؟ لقد رسمهما النص وفقا للسمات التالية. 1 - الخوف من اللّه إذا ذكر عندهم 2 - تعاظم إيمانهم به عندما تتلى عليهم آياته 3 - التوكل على اللّه 4 - إقامة الصلاة 5 - الإنفاق في سبيل اللّه.

هذه السمات تشكّل - بطبيعة الحال - جانبا من سلوك المؤمنين وليس جميع السلوك. لكن، بما أن النصّ القرآني الكريم في صدد الحديث عن (الأنفال) وفي صدد الحديث عن قضايا الجهاد والأنفال، فضلا عن كون بعضها ذات طابع عام يشمل كل المواقف مثل: (الصلاة) التي تمثل المظهر البارز للشخصية الإسلامية، أما السمات الأخرى فبالرغم من أنها تشكل أيضا مظاهر متميزة للشخصية الإسلامية إلا أنها تتجانس (فنيا) مع سياق الموضوع الذي تتحدث السورة عنه وهو (الأنفال) وما واكبه من طلب التقوى وإصلاح ذات البين وإطاعة اللّه ورسوله (كما تضمنت ذلك: الآية الأولى من السورة)

ص: 82

حينئذ يمكننا أن نلاحظ بأن عملية التجانس الفنيّ تتمثل في أنّ السمات التي ذكرها النص قد فرضها الموقف المذكور. لقد أوضح بأن المؤمنين: إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم، وأنهم يزدادون إيمانا حينما تتلى عليهم آيات الله، وأنهم يتوكلون عليه، وأنهم ينفقون أموالهم. وكل هذه السمات ذات صلة بقضية (الأنفال) وبقضية معركة (بدر) التي نزلت الأنفال فيها واستتبعت اختلاف الآراء حيث جاءت المطالبة بالخوف من اللّه، وبزيادة الإيمان، وبالتوكل، وبالإنفاق متجانسة مع هذا الموقف الذي بدأ النص القرآني الكريم في المقطع الثاني من السورة بتوضيحه قائلا:

سورة الأنفال (8): الآیات 5 الی 6

كَمٰا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكٰارِهُونَ يُجٰادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال: 5-6] فالملاحظ هنا أن هذا المقطع الجديد من السورة يتصل بما قبله، كما أن ما قبله يتصل بمقدمة السورة التي استهلت بالحديث عن الأنفال.

لقد قدم النص دليلا - بطريقة فنيّة - على أن إخراج محمد (ص) من المدينة إلى معركة بدر على كراهية فريق من المؤمنين، إنما هو خير للإسلاميين، وكأنه يريد أن يقول: إن سمات المؤمنين المتمثلة في التوكل على الله، والخوف منه، وتعاظم الإيمان، والإنفاق، إنما يتطلبها الموقف المماثل لإخراج محمد (ص) يجسّد خيرا للإسلاميين (وكان الإسلاميون قد خرجوا إلى معركة بدر كما هو واضح وجاء الاختلاف غبّ توزيع الغنائم)، كذلك، فإن جعل (الأنفال) للّه والرسول دون المقاتلين، خير للإسلاميين، إذ ينبغي ألا تصدر أية كراهية حيال ذلك لأن سمات المؤمن هي: أنه يخاف اللّه وأنه يزداد إيمانا إذا تليت عليه آياته، وها هي آيات اللّه تتلى عليه مقررة بأن الأنفال للّه والرسول، فيتعين الإيمان بذلك.

إذن، لننظر كيف أن النص القرآني الكريم سلك طرقا فنيّة بالغة الإحكام

ص: 83

حينما جانس بين مقدمة السورة في (الأنفال)، ومقطعها الأول في سمات المؤمنين، ومقطعها الثاني في الاستدلال بمعركة بدر وكراهية جماعة لذلك، مع أن النصر كان من نصيب الإسلاميين، أي: أن النص وضع قضية النصر في معركة بدر - بطريقة فنية - أمام هؤلاء الذين اختلفوا فيما بينهم موضحا لهم بطريقة غير مباشرة أنّ كل ما يقرره اللّه والرسول ينبغي أن يقترن بالقبول.

بعد هذا النمط من الصياغة الفنية للموقف، انتقل النص إلى معركة بدر نفسها ليتحدث عن المواقف التي واكبت المعركة المذكورة، وهي مواقف تتصل من جانب بنفس السياق الخاص بالأنفال وتفريعاته، وتتصل من جانب آخر بطرح موضوعات جديدة تتصل بظاهرة (الجهاد في سبيل الله) حيث قلنا بأن السورة الكريمة (سورة الأنفال) تحوم فكرتها العامة على الظاهرة المذكورة.

وأول ما طرحه النص في هذا الصدد هو: أن فريقا من الناس كانوا يجادلون النبيّ (ص) في هذا الجانب بعد أن ظهر لهم الحق. وسواء أكان هذا الحق الذي ظهر يتمثل في نتائج معركة (بدر) أم كان يتمثل في مقدمات المعركة ففي الحالين، نستخلص بأن قضية الجدال ينبغي أن تحذف من سلوك الإسلاميين (إذا كانوا مؤمنين حقا) كما أشارت الآية إلى ذلك.

هنا طرح النص تمثيلا فنيا لبلورة السلوك المتقدم حيث قال عن هذا الفريق كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ . والواقع أن هذه الصورة الفنية (السوق إلى الموت وهم ينظرون) تمتل حصيلة السلوك المتردد الذي أفضى إلى المواقف المذكورة عند فريق من المؤمنين، فهؤلاء - كما تذكر بعض النصوص المفسرة - كانوا يجادلون النبيّ (ص) في وقت الخروج إلى معركة بدر، أو يجادلونه في نتائج ما انتهت المعركة إليها معاتبين إياه في عدم إخبارهم بذلك سلفا، أو يجادلونه بعد المعركة في قضية الغنائم... الخ.

وفي الحالات جميعا يجسّد هذا الجدال مظهرا من مظاهر السلوك المتردد غير

ص: 84

المفعم بالإيمان الكامل، و لعل أوضح مصاديقه يتمثل في تلك الصورة التي شبّهت خروجهم إلى القتال وكأنه سوق حتميّ إلى الموت حيث توحي هذه الصورة بأن (الخوف من الموت) هو خوف من أية مصائر لا تفضي إلى إشباع حاجاتهم، سواء أكانت هذه الحاجات مجرد غنائم أم حاجة إلى الحياة بعامة من خلال التخوف من الموت.

وأيّا كان، بعد أن يرسم النص القرآني الكريم قضية الأنفال وصلتها بالإيمان ثم إردافها بمعركة بدر من حيث الربط بين ضرورة الإيمان بما يقرره اللّه ورسوله والاطمئنان إلى كونه خيرا وبين نتائج معركة بدر التي انتهت إلى نصر الإسلاميين بصفته خيرا أيضا.

بعد ذلك كله، يتجه النص القرآني الكريم إلى طرح المواقف و الأحداث التي رافقت هذه المعركة.

سورة الأنفال (8): الآیات 7 الی 12

قال تعالى: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ أَنَّهٰا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ * لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجٰابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَ مٰا جَعَلَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ بُشْرىٰ وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ اَلْأَقْدٰامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنٰاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنٰانٍ ... [الأنفال: 7-12].

في هذا المقطع من سورة الأنفال يتحدث النص عن معركة بدر مذكّرا المؤمنين بأن فريقا منهم كانوا يودّون أن يغنموا قافلة أبي سفيان بينا كان اللّه

ص: 85

يريد النصر على المشركين من خلال المعركة.

وهنا ينبغي ألاّ نغفل عن أهمية الصورة الفنيّة المتمثّلة في قوله: وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ حيث ترمز (الشوكة) إلى (الشدة) التي لا تميل إليها تركيبة الآدميين غالبا، نظرا لإيثارهم الراحة، وحيث أشار النص إلى أنهم يودّون أن يغنموا بأموال القافلة دون خوض المعركة المسلحة، وهذه الإشارة ذات صلة (من الزاوية الفنية) ببناء السورة الكريمة حيث كان المقطع السابق من السورة يتحدث عن فريق من المؤمنين يجادلون الرسول (ص) في قراراته ومواقفه العسكرية وغيرها فيما كانوا كارهين لكل ما يقترن بانتخاب الموقف من شدّة نفسية أو بدنية أو مالية، فجاءت الصورة الفنية تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ تأكيدا للحقيقة المتقدمة.

ثم يبدأ النص بعد الصورة الفنية المتقدمة بتذكير الإسلاميين لمساعدة السماء للمقاتلين في المعركة (معركة بدر)، حيث أمدّ اللّه المقاتلين بجنود من الملائكة لكي يطمئنوا بالنصر، كما ذكّرهم بغلبة النعاس أمانا لهم من الخوف الذي يحتجز المقاتل من النوم عادة، وذكّرهم بإنزال المطر عليهم بغية التطهير والارواء، وذكّرهم بعملية التثبيت لقلوب الإسلاميين من خلال الملائكة الذين أمرهم الله بذلك، وبضرب المشركين، رؤوسهم وأطرافهم وأيديهم، فضلا عن إلقاء الرعب في نفوسهم.

إن عملية (التذكير) بهذه المعطيات لها إسهامها الموضوعي والفني في هذا المقطع من السورة من حيث بناؤها الهندسي وصلة أجزائها البعض بالآخر. فمن حيث مفردات التذكير بالنعم نلاحظ أنها تنطوي على جميع متطلبات الإمداد العسكري سواء أكان ذلك متصلا بالطرف الإسلامي حيث يتطلب أمدادا خاصا أم كان متصلا بالطرف المشرك حيث يتطلب الموقف خذلانا خاصا أيضا، فمن حيث الموقف: إسلاميا، نجد أن الإمداد قد تمّ

ص: 86

بجميع أشكاله: المادّي وهم جنود الملائكة، ثم، طريقة الضرب وهو قطع الرؤوس والأرجل والأيدي فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنٰاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنٰانٍ ، ثم النفسي، وهو تثبيت القلوب إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا ، ثم. إذهاب رجز الشيطان عنهم وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ حيث كان الماء مفقودا في المعسكر الإسلامي فاحتجزهم عن التطهير من الحدث والجنابة بعكس المشركين الذين نزلوا على موقع من الماء، مما جعل ضعاف النفس يصدرون عن تشكيك بمساعدة السماء، لذلك أنزل الله المطر عليهم، تثبيتا لقلوبهم. ثم إلقاء النعاس عليهم، وهو إمداد جسمي ونفسي، حيث يتطلب الأمر إشباع الحاجة إلى النوم من جانب كما يتطلب الموقف إشاعة جوّ من الأمن بغية تحقيق الإشباع المذكور من جانب آخر، لذلك أمدّهم بالنعاس تحقيقا للأمن إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .

إذن، كل أشكال الإمداد الغيبي قد تمّ بواسطة السماء: المادى والنفسي والجسمي.

وهذا كله فيما يتصل بالمعسكر الإسلامي.

أما ما يتصل بمعسكر المنحرفين، فيكفي أنهم جوبهوا بجنود لم يتوقعوهم إطلاقا حيث يذكر المؤرخون سماع البعض ومشاهدتهم لهياكل بيضاء ساهمت في المعركة، مضافا إلى أهمّ خذلان وهو الرعب في قلوبهم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ ، حيث ندرك جميعا بأن الإنهيار المعنوي يظل أشد الأشكال تعبيرا عن الهزيمة.

إذن، جاءت عملية التذكير بنعم اللّه على الإسلاميين، مقرونة بأهم ما يمكن تصوره في قضايا الإمداد الغيبي لهم، وقضية التذكير المتقدمة ليست مرتبطة بما تقدم من المواقف التي رسمها النص في قضية صياغة (الانفال) وأنها للّه ورسوله وارتباط ذلك بضرورة إطاعة اللّه ورسوله فحسب، بل أنها

ص: 87

تنسحب على المواقف اللاحقة التي سنقف عليها فى السورة المباركة، و هو أمر ينبغي ملاحظته بدقة ما دمنا نستهدف أساسا أن نتناول الجانب العماري من سور القرآن الكريم، من حيث تلاحم الموضوعات فيما بينها وانصبابها في رافد فكري يوحّد بين الموضوعات المختلفة. لذلك نجد أن المقطع اللاحق من السورة الكريمة، يتجه إلى طرح موضوع جديد من موضوعات الجهاد المسلّح وهو قضية الفرار من المعركة، مطالبا بعدم الزحف مرتبا على ذلك آثارا خطيرة من حيث الجزاء الأخروي، يقول النص: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبٰارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [الأنفال:

15-16].

وقبل أن نتحدث عن محتويات هذا المقطع، ينبغي أن ندرك بأنّ الموقع الهندسي له من السورة يتمثل في كونه قد رسم مترتبا على الأفكار التي طرحت في مقطع سابق وهي إمداد اللّه للإسلاميين، فمع ملاحظة الإمداد العسكري المتمثل في جنود الملائكة، حينئذ لا معنى لأية عملية فرار من الزحف حتى لو كان العدو متفوقا على الإسلاميين عسكريا.

إذن، جاء هذا المقطع الذى سنتحدث عنه مفصلا، يحتل موقعا هندسيا مهمّا من عمارة السورة، أنه لم يقل لنا مباشرة: عليكم بعدم الفرار من المعركة، بل قال ذلك بنحو فنّي غير مباشر هو: كون هذا المقطع جاء بعد الحديث عن الإمداد الغيبي للإسلاميين، و هذه هي سمة الفن التي تتحدث بلغة غير مباشرة في تقرير الحقائق على النحو الذي تحدثنا عنه.

سورة الأنفال (8): الآیات 15 الی 18

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبٰارَ * وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ

ص: 88

بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاٰءً حَسَناً إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذٰلِكُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكٰافِرِينَ [الأنفال: 15-18].

هذا المقطع يتحدث عن جانب من مبادىء الجهاد العسكري من الإسلام. أنه يتحدث عن عدم الفرار من المعركة نتيجة للجبن أو التفوق العسكري للعدد إلاّ لمتطلبات عسكرية مثل تبديل المواقع أو الانتقال إلى مجموعة أخرى من المقاتلين إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ .

وقد عقب النص على هذه الظاهرة بقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ ... .

هذا التعقيب يحتل موقعا هندسيا مهمّا من عمارة السورة الكريمة. فقد سبق أن لحظنا في مقطع سابق أن النص يتحدث عن معطيات اللّه للمقاتلين الإسلاميين في معركة بدر حيث أمدّهم بجنود من الملائكة وحيث أمدهم بأشكال متنوعة من التفوق العسكري، ولحظنا أيضا أن المقطع الجديد الذى يطالب بعدم الزحف إنما جاء متحدثا بلغة فنية غير مباشرة ليقول لنا: لا يجوز الفرار من المعركة ما دام اللّه هو الذي يمدّكم بالنصر. وها هو المقطع الجديد نفسه يقدّم لنا بعد المطالبة بعدم الفرار، تفسيرا فنيا للمطالبة المذكورة، موضحا بأن عملية القتل التي صدرت من الإسلاميين حيال المشركين إنما تمّت من قبل الله تعالى، وإلى أن الرمي قد تمّ من قبل اللّه تعالى وليس من قبل المقاتلين الإسلاميين فحينئذ كيف يسمح المقاتل لنفسه بأن يزحف مع علمه بأن النصر من اللّه وليس من المقاتل نفسه ؟.

هذا النمط من الصياغة الفكرية للمقطع لم يجىء مباشرة، بل صيغ - كما قلنا - بطريقة فنية توحي للمتلقي بأن النص القرآني الكريم كأنه يريد أن يقول لنا (لا تفروا من المعركة) ما دام القتل والرمي لم يصدرا عنكم (أي: المقاتلين).

ص: 89

والسؤال هو: لقد ذكر النص أولا معطيات السماء في معركة بدر، ثم قطع سلسلة الحديث عن معركة بدر ليتحدث عن قضية الفرار من المعركة، ثم عاد إلى قضية معركة بدر من جديد فحدثنا عنها من خلال الإشارة إلى أن القتل والرمي تمّ من قبل اللّه تعالى، فما هو السّر الفنيّ في ذلك ؟؟ واضح، أن النصوص الفنيّة سواء أكانت ذات طابع قصصي أم طابع عام، عندما تستهدف إبراز ظاهرة فكرية محددة إنما تستثمر موقعا من مواقع النص لتمرير الظاهرة المذكورة بحيث يتجانس مع ذلك، لذلك عندما تقطع سلسلة العرض القصصي أو العرض النثري العام بعرض طارىء إنما تستخلص من ذلك أهمية هذا العرض الطارىء، وهذا ما نلحظه في المقطع الذي نتحدث عنه حيث قطع النص سلسلة العرض القصصي المتصل بواقعة بدر بعرض طارىء هو الزحف من ساحة المعركة ثم واصل النص حديثه عن معطيات معركة بدر، لكن جاءت مواصلة العرض متجانسة تماما مع ظاهرة الزحف، حيث ذكر النص أن القتل والرمي قد تمّا من قبل اللّه بينا ذكر قبل هذه الظاهرة أشكال الإمداد الغيبي دون تخصيصها بعملية القتل والرمي. سرّ ذلك أن القتل والرمي يرتبطان بالفرار وعدمه أشدّ من غيره، أي أن النص لم يذكر لنا قضية النعاس مثلا حينما ألقته السماء على المقاتلين في معركة بدر، كما لم يذكر لنا قضية إنزال المطر للتطهير من الحدث والجنابة... الخ، بل شدد على القتل والرمي بصفتهما يستدعيان الفرار وعدمه من ساحة المعركة.

وهذا جانب واحد من سمات التجانس الفنيّ بين مقاطع السورة الكريمة والتنامي العضوي بينها.

أما الجانب الآخر من البناء الفني للمقاطع المتقدمة فيتمثل في التجانس بين بداية السورة الكريمة التي قالت:... وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ

ص: 90

لَكٰارِهُونَ * يُجٰادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال: 5-6].

إن هذه الصورة الفنية للسوق إلى الموت (حيث تحدثنا مفصلا عن موقعها الهندسي من السورة) تعود الآن لتبيّن لنا موقعا جديدا لها في هذا المقطع من النص، أي ينبغي ملاحظة التجانس بين فريق من الناس كارهين للخروج إلى المعركة، كأنما يساقون إلى الموت وبين فريق يحاول الفرار من ساحة المعركة بعد دخوله فيها. ففي الحالتين عملية فرار منها سواء قبل دخول المعركة أم خلالها.

والآن، خارجا عن التجانسين المذكورين، ينبغي أيضا ألا نغف عن جانب ثالث من سمات التجانس والتلاحم الفني في هذا المقطع من السورة، فقد لوحظ أن النص ذكر عمليتي (القتل) (والرمي)، أما القتل فواضح حيث تضمّن مقطع أسبق، ظاهرة تدخل الملائكة في المعركة واستتباعه قطع الرؤوس والأرجل والأيدي، الخ، فضلا عن القتل الذي سبّبه (الرمي) الذي نعتزم الإشارة إليه، إن عملية (الرمي) تتمثل - كما يذكر المفسرون - في تناول النبيّ (ص) قبضة من التراب ورميها أمام العدو وتسبيبها قتلهم وأسرهم. لذلك، ينبغي ملاحظة السرّ الفني وراء ذكر هذين النمطين من الهزيمة التي لحقت المشركين وتذكير الإسلاميين بها في سياق النهي، عن عدم الفرار من ساحة المعركة، بمعنى أن النص القرآني الكريم شدد على كلّ ما له صلة بتسبيب الهزيمة للمشركين في معركة بدر تأكيدا أو تحقيقا لتعميق عنصر (القناعة) الفنية لدى المتلقّي ومن ثم لتعميق القناعة الوجدانية لدى من يحاول الفرار من ساحة المعركة، فما دام القتل مسبّبا من قبل الله تعالى، وما دام الرمي (وهو ظاهرة إعجازية أخرى صدرت عن النبيّ (ص) حيث أعمى التراب أبصار المشركين وأزال توازنهم حينما دخل التراب أنوفهم وعيونهم أيضا). أقول: ما دام القتل

ص: 91

والرمي بنحوهما المذكور قد تمّ من قبل اللّه تعالى وليس من قبل المقاتلين، حينئذ فإن عملية الفرار من ساحة المعركة، تشكّل سلوكا لا مسوّغ له البتة، كما هو واضح.

سورة الأنفال (8): آیة 19

قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جٰاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

هذا المقطع من سورة (الأنفال) يتردّد المفسرون في كونه خطابا إلى المشركين أم الإسلاميين، وبما أن دراستنا للنص القرآني تنصبّ على الجانب الهندسي من السورة من حيث صلة أجزائها بعضا بالآخر، حينئذ يعنينا أن نتعرف بناء هذه الاية وكونها متجهة إلى مخاطبة المشركين أم الإسلاميين.

من حيث السياق الفكري، لا نستبعد أن يكون الخطاب موجها إلى الإسلاميين لأن السورة منذ بدايتها قد استهلت الحديث عن الإسلاميين وموقفهم من (الأنفال) المتنازع عليها في معركة بدر، ثم مطالبتهم بإطاعة الله ورسوله وتذكيرهم بمعطيات النصر العسكري في المعركة المذكورة، لذلك عندما نواجه الآن خطابا موجها إلى الناس لا نستبعد - من الزاوية الفنية - أن يكون استمرارا لمخاطبة الإسلاميين، فيتحدد دلالته حينئذ وفقا لما يلي: (أيها الإسلاميون، ان تستفتحوا على أعدائكم فقد جاءكم الفتح من اللّه، وان تنتهوا عن النزاع في قضية الغنائم فهو خير لكم، وان تعودوا لنزاعكم نعد عليكم بالخذلان... الخ).

مثل هذه الدلالة مقبولة دون أدنى شك إذا أخذنا بنظر الاعتبار - مضافا للسياق الفكري - إن النص القرآني الكريم في معرض التنديد بفريق من الإسلاميين الذين كرهوا القتال في بادىء الأمر، وفي معرض تنازعهم، وفي معرض المطالبة بعدم الفرار من الزحف، وهنا أيضا يظل النص في معرض

ص: 92

التنديد بهم في حالة عودتهم إلى السلوك السلبي. وأهمية هذه الدلالة - فكريا - من الوضوح بمكان، طالما ندرك تماما بأن قضية النصر وعدمه مرتبطة بأداء الوظيفة العبادية في الأرض، وقيام ذلك على عملية (اختبار) يفرز من خلالها أيّ الناس أحسن عملا، لذلك جاء النص المتقدم يعرض لجانب من الاختبار المذكور من خلال التنديد حينا والتذكير بالمعطيات حينا آخر.

وأيا كان الأمر، ومن الممكن أيضا أن يكون التنديد المذكور، متجها إلى المشركين بدلا من المؤمنين بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بعض المفسرين ذهب إلى أن الآية الكريمة (من حيث النزول) ترتبط باستفتاح أحد قادة المشركين في معركة بدر وطلبه نصر الحق بطرفي المعركة، إلا أن ذلك - كما احتملنا - يظل بعيدا عن السياق الفني (أي المبنى الهندسي) للسورة للأسباب الفنية التي تقدم ذكرها مضافا إلى أن المقاطع اللاحقة من السورة تظل امتدادا فكريا للدلالة التي احتملناها، أيضا، بحيث يمكن ملاحظة جانب هندسي آخر يقوم عليه بناء السورة جميعا وهو صياغة الخطاب للمؤمنين في كل مقاطع السورة.

سورة الأنفال (8): الآیات 20 الی 23

ولنتابع - إذن - المقطع اللاحق من النص. يقول تعالى - متابعا مخاطبته للإسلاميين -: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاٰ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ هُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ * وَ لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 20-23].

هذا المقطع مثل المقاطع السابقة، يتجه بالخطاب إلى الإسلاميين، إلا أنّه يعرض للمنحرفين ضمنا بحيث تأخذ السورة الكريمة شكلا خارجيا هو محاورة المؤمنين وتخليلها رسما للسمات المنحرفة ثم الرسم للمنحرفين أيضا.

ص: 93

والجديد في هذا المقطع هو إعادة المطالبة بإطاعة اللّه ورسوله حيث تشكل هذه المطالبة واحدا من أبنية الشكل الفني للسورة، ومن ثم ترتيب الآثار عليها في حالة عدم الالتزام بها. لذلك حذّر المقطع من نتائج ذلك قائلا وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ هُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ وأهمية هذا التحذير هو (التشبيه) أو (الصورة الفنية) التي وصلت بين الإسلاميين الذين لم يلتزموا بالمبادىء وبين المشركين الذين يصرّون على مكابرتهم حيث وصمهم بعد ذلك بأنهم (صمّ بكم) لا يعقلون.

أي: أنّ الآثار المنعكسة من عدم الالتزام الإسلامي بالمبادىء سوف تفضي إلى نتائج مماثلة لسلوك الكافرين، وهي نتائج تمثّل غاية الخطورة ما دام العنصر المشترك بين السلوكين: (الإسلامى المنحرف، والمشرك) هو الامتحان في ركوب (الذات) واللهاث وراء إشباع حاجاتها غير المشروعة.

هنا يتقدم النص إلى تقرير إحدى الحقائق النفسية المتصلة بتكييف السلوك وفقا لمعرفة السماء سلفا بالممارسات التي سوف يصدر المنحرفون عنها. لقد أكّد النص هذه الحقيقة حينما قال عن المنحرفين: وَ لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ . هذا يعني أن اللّه تعالى سلفا قد أغلق أسماع الكافرين من تقبل الخير، أي طبع على أفئدتهم ومنعها من تمثل الخير، لكن ليس على نحو السلوك (الجبري) بل بسبب أنهم لو أسمعهم اللّه الخير لكانوا هم يغلقون أسماعهم من تقبّله، لذلك قال عنهم:

وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ وبكلمة جديدة يريد أن يقول النص لنا: لو أن اللّه تعالى أسمع الكافرين الخير، لتولوا وهم معرضون، ولذلك، لو علم فيهم خيرا لأسمعهم فعلا، وبما أنهم كذلك، كيّف سلوكهم سلفا بحيث يحجزهم مثل هذا التكييف عن تقبّل الخير، فهناك فرق بين أن نقول: إن اللّه تعالى كيّف سلوك الكافرين سلفا بحيث لا يوفقون إلى استماع الخير وتقبّله

ص: 94

مطلقا، وبين أن نقول ان التكييف المذكور جاء نظرا لأنهم لو قدّر لهم أن يسمعوا لاختاروا الكفر.

هذه الحقيقة ينبغي أن ندركها بوضوح ما دامت متصلة بأهم حقائق التركيب النفسي للآدميين، حيث نجد أن البعض من القاصرين فكريا يخلطون بين الظاهرة الفلسفية (الجبر) فيما يعني عدم توفّر (الإرادة) أو (الاختيار) في السلوك، وبين الظاهرة النفسية التي تكيّف سلوك الإنسان وفقا لما سيختاره بملء إرادته من سلوك الخير أو الشرّ، فتوفّق سلفا، أو يطبع عليها سلف تبعا لعملية (الاختيار) الذي تصدر عنه.

المهمّ ، أن النص القرآني الكريم صاغ الحقيقة النفسية المتقدمة في ضوء عرضه لسلوك الإسلاميين الذين يصدرون حينا عن ضعف في السلوك محذّرا من نتائج الضعف المذكور في حالة استمراريتهم على ذلك.

سورة الأنفال (8): الآیات 24 الی 26

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ * وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ فَآوٰاكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].

هذا المقطع من السورة امتداد لما سبقته من الآيات الكريمة التي انتظمها بناء هندسي خاص هو 1 - مخاطبة المؤمنين، 2 - تحذيرهم من السمات السلبية في السلوك 3 - التذكير بنعم اللّه عليهم.

هذه المفردات التي تظل عصبا فنيّا لهيكل السورة من خلال طرح ظاهرة (الجهاد في سبيل اللّه) تواجهنا في كلّ مقطع بطرح جديد، والجديد في المقطع الذي نتحدث عنه هو - فضلا عن المطالبة بطاعة اللّه ورسوله وهي

ص: 95

مطالبة تتكرر أيضا في غالبية مقاطع السورة تجانسا مع المفردات الثلاث التي أشرنا إليها، إلا أنها تأخذ صياغة خاصة في كل مقطع - طرح جملة من ظواهر السلوك العبادي، منها قوله تعالى. أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ومنها (قضية الفتنة أو الامتحان الذي يصيب المؤمنين دون الكافر).

لقد طالب النص أولا بالاستجابة إلى اللّه ورسوله بالنسبة إلى (الجهاد في سبيل اللّه) وهو المحور الفكري الذي قلنا: ان موضوعات السورة جميعا تحوم عليه، حيث رمز إلى (الجهاد) بأنه عملية (إحياء) للشخصية الإسلامية. ثم أوضح بأن (اللّه يحول بين المرء وقلبه) أي: يحجز القلب من أن يرى الباطل حقا والحق باطلا، وعملية الحجز المذكورة تشكل - في ميدان السلوك العبادي - واحدة من أهم عمليات الاختبار أو الامتحان للسلوك، فما دام الشخص يفرز بوضوح حدود كل من الخير والشر أو الحق والباطل، حينئذ تتمّ الحجّة عليه ويتحمّل مسؤولية سلوكه في نهاية المطاف، عندما يحشر إلى اللّه تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .

الطرح الآخر لهذا المقطع هو قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً .

الفتنة - كما نعرف ذلك بوضوح - هي: المظهر أو المنبه الخارجي للسلوك، وعندما يتمّ التحذير منها، حينئذ فإنّ إحالة اللّه بين المرء وقلبه - وهي الآية السابقة التى قررت بأن اللّه يحجز الشخص من رؤية الباطل حقا أو العكس - تدلّنا على أن قضية الاختبار وتحمّل مسؤولية السلوك حيالها تظل أمرا لا مناص منه وإلى أن التحذير من سلبية السلوك يستكمل بها اللّه الحجة على الشخص حيث طالب تعالى بالاتقاء من الفتنة، بعد أن مهّد لذلك بأنه تعالى يحول بين الشخص وقلبه، كما أشرنا.

ص: 96

بعد ذلك، يتجه النص إلى عملية (التذكير) بنعم اللّه تجانسا مع سائر المقاطع التي تقرن بين عمليتي (التحذير) و (التذكير)، (التحذير) من السلوك السلبي، و (التذكير) بنعم اللّه. التذكير هنا يجيء في سياق الظواهر المتصلة بالمعارك الإسلامية ما دام هدف السورة فكريا هو (الجهاد) كما كرّرنا الإشارة إلى ذلك، وكما لحظنا ذلك في مقاطع سابقة أيضا. المهم، أن (التذكير) بمعطيات اللّه هنا يتمثل في قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ .

إنّ الإشارة إلى الاستضعاف والخوف تتداعى بالذهن إلى (مكة) من حيث بيئتها السياسية التي ولدت في نطاقها رسالة الإسلام، وإلى أن النصر بدأ في بيئة (المدينة)، كما نعرف ذلك بوضوح. ومما لا شك فيه، أن عملية (الإيواء) و (النصر) فَآوٰاكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ونقل الإسلاميين من صعيد الاستضعاف والخوف إلى النصر بشريا وسياسيا وعسكريا لم يكن مجرّد حادثة تأريخية بقدر ما يشكّل نقلة اجتماعية تناولت البناء الاجتماعي أساسا لذلك، فإن التذكير بمثل هذه النعمة لا بدّ أن يتناسب (فنيّا) مع ضخامة (التحذير) من السلوك السلبي أيضا، أي: أن النص عندما طالب الإسلاميين بالاستجابة للّه ورسوله في ممارسة (الجهاد)، وعندما حذرهم من (الفتنة)، إنما يعني ذلك أهمية وخطورة مثل هذا التحذير من حيث انعكاساتها على السلوك العبادي.

سورة الأنفال (8): الآیات 27 الی 28

وأيا كان، فإن النص تقدّم بعد عمليتي (التحذير) و (التذكير) بعرض واحدة من ظواهر السلوك السلبي المتصل بممارسة (الجهاد) قائلا: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَخُونُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27-28].

هذا العرض لقضية (الخيانة)، والإشارة إلى (فتنة) الأموال والأولاد، ينطوى على سرّ فني يتصل ببناء السورة هندسيا، حيث يمثل التحذير من

ص: 97

الخيانة للّه والرسول تقابلا فنيّا بين المطالبة بإطاعة اللّه ورسوله في بداية المقطع، والتحذير من مقابلها و هي: خيانة اللّه ورسوله في نهاية المقطع. كما أن الإشارة إلى ظاهرة (الخيانة) تمثّل - حسب أقوال المفسرين - موقفا للبعض من معارك أخرى، أو مطلق المواقف التي صدرت من بعضهم خلالها بعض التصرّفات التي تتعاطف مع المشركين والمنحرفين. كذلك، فإن الإشارة إلى (فتنة) الأموال والأولا، تمثل، تجسيدا عمليا للتحذير الذي طالب بالاتقاء من الوقوع في الفتنة.

إذن، (من زاوية البناء الفني للنص) لحظنا: أن هذا المقطع من السورة طرح جملة من المفهومات الجديدة من حيث (الأفكار)، مرتكنا (من حيث الصياغة) إلى خطوط متجانسة مع المقاطع السابقة (أي خطوط التحذير، والتذكير، ومخاطبة المؤمنين)، مضافا إلى تجانس وتلاحم وتنامي الموضوعات المطروحة المتصلة بقضايا (الفتنة) و (الخيانة) وسواهما من الظواهر التي تحدثنا عنها.

سورة الأنفال (8): آیة 29

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ [الأنفال: 29].

هذه الآية تحتل موقعا هندسيا من السورة هو: وصلها بين مقطع سابق يطالب المؤمنين بطاعة اللّه ورسوله وبترك السلوك السلبي وبين مقطع لاحق يتحدث عن المعطيات المختلفة التي تترتب على الدلالة التي تفرزها هذه الآية التي تتحدث عنها.

لقد أوضحت الآية بأن الإسلاميين حينما يتّقون الله، فسوف يجعل لهم فرقانا أي قابلية فكرية يستطيعون من خلالها أن يميزوا بين الباطل والحق.

ويجب أن نتذكر أن القسم السابق من السورة قد استهله النص بالإشارة إلى أن

ص: 98

اللّه يحول بين المرء وقلبه أي يحول بين المرء وبين أن يرى الحق باطلا والباطل حقا. وها هو الآن في المقطع الذي نتحدث عنه يقدّم لنا جوابا - بطريقة فنية غير مباشرة - بأن المرء حينما يتقي اللّه حق تقاته حينئذ فإن الوقوع في الفتنة وغيرها من أنماط السلوك الذي حذّر النص المؤمنين منه في مقطع سابق، سوف لن يغلب على المرء ما دام قد اتقّى اللّه بالنعل، حيث يجعل له قابلية نفسية على اختيار الحق دون الوقوع فى شرك الباطل، مضافا إلى أنه تعالى سوف يكفّر عنه سيئاته الماضية.

هنا، بعد أن يقرّر النص هذه الحقيقة، يتقدم إلى طرح موضوعات جدية ينتقل خلالها من الحديث عن المؤمنين الذين اتجه الخطاب إليهم في المقاطع السابقة، إلى الحديث عن الكافرين، إلا أن هذا يتمّ وفق نقلة فنيّة تبدأ من نفس الفكرة التي طبعت المقاطع المذكورة وهي عملية (التذكير) بنعم اللّه على الإسلاميين، بادئا - في ذلك - بالحديث عن محمد (ص):

سورة الأنفال (8): آیة 30

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ [الأنفال: 30].

هذه الآية ذات طابع فنيّ ثنائي، أحدها هو التذكير بنعم اللّه، والآخر التعريض بسلوك الكافرين الذين سوف يتكفل قسم من السورة بالحديث عنهم حيث مهد لذلك بالحديث عن مكرهم إلى أنه لا قيمة له بالقياس إلى تدخّل السماء في ذلك.

سورة الأنفال (8): الآیات 31 الی 40

وها هو النص يعرض لنا جانبا من سلوكهم بعد التمهيد المتقدم: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا قٰالُوا قَدْ سَمِعْنٰا لَوْ نَشٰاءُ لَقُلْنٰا مِثْلَ هٰذٰا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ وَ إِذْ قٰالُوا اَللّٰهُمَّ إِنْ كٰانَ هٰذٰا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ أَوِ اِئْتِنٰا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ * وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَ مٰا لَهُمْ أَلاّٰ يُعَذِّبَهُمُ اَللّٰهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ

ص: 99

اَلْحَرٰامِ وَ مٰا كٰانُوا أَوْلِيٰاءَهُ إِنْ أَوْلِيٰاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ مٰا كٰانَ صَلاٰتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّٰ مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ فَسَيُنْفِقُونَهٰا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اَللّٰهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ * وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَوْلاٰكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلىٰ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ [الأنفال: 31-40].

هذه الآيات تتحدث جميعا عن (الكافرين)، وقد خصص النص هذا القسم من السورة للحديث عن الفئة المشار إليها، موضحا جملة من أنماط سلوكهم مثل قولهم عن القرآن الكريم انه من الأساطير، وطلبهم إنزال العذاب من السماء، وصدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وشغبهم فيه مثل التصفير والتصفيق (مكاء وتصدية)، وإنفاقهم المال للصدّ عن سبيل اللّه.

ويلاحظ أن النص طرح خلال حديثه عن الكافرين جملة من الظواهر التي تعني شؤون الإسلاميين وموقعهم من ذلك، فضلا عن ظواهر عبادية تتصل بالجهاد الذي يشكّل العصب الفكريّ للسورة.

من ذلك مثلا قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . فهذه الظاهرة تحدد خطورة القيمة التي خلعها اللّه على النبيّ (ص) وعلى الإسلاميين بعامة، فهو لا يعذب الكافرين بإنزال الحجارة عليهم مثلا كما كان شأن الأمم السالفة، نظرا لمكانة محمد (ص)، كما لا يعذبهم لمكانة الإسلاميين الذين يستغفرون اللّه حيث تذكر النصوص المفسّرة أن هؤلاء البقية التي لم تهاجر إلى المدينة لتعذّر ذلك عليهم، تسبّب

ص: 100

وجودهم عدم إنزال العذاب لحرمتهم، مما يعي مدى الخطورة التى يخلعها اللّه على عباده المؤمنين.

المهمّ ، أن الموقع الهندسي أو الفني لهذا القسم من السورة يتمثل ليس من خلال مجرد طرح بعض الموضوعات المتصلة بالشخصية الإسلامية ومكانتها عند اللّه فحسب، بل انها تتجاوز ذلك للحديث عن مشروعية قتال الكافرين (في حالة استمرارية سلوكهم) حيث طالب النص - كما لحظنا - بمقاتلتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه. وحيث نعرف بأن السورة أساسا تحوم فكرتها على الجهاد (في سبيل اللّه)، بصفة أن مقاتلتهم (بعد أن بيّن النص مشروعية ذلك) تجسد المظهر العسكري لمفهوم (الجهاد) كما هو واضح.

لذلك، ما أن ينتهي النص من هذا القسم حتى يعود - بطريقة فنية - إلى الحديث عن الإسلاميين بنفس اللغة التي طبعت المقاطع السابقة من السورة، مع طرح موضوعات جديدة تتصل بهذا الجانب.

سورة الأنفال (8): الآیات 41 الی 44

قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوىٰ وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَوٰاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعٰادِ وَ لٰكِنْ لِيَقْضِيَ اَللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّٰهُ فِي مَنٰامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرٰاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنٰازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ * وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ [الأنفال: 41-44].

ص: 101

هذا المقطع من السورة امتداد للمقاطع السابقة التي تتحدث عن المؤمنين وتطالبهم بالطاعة وترك المعصية وتذكّرهم بنعم الله تعالى.

الجديد في هذا المقطع هو. طرح ظاهرة اقتصادية تتصل بالخمس من حيث صلته بالغنيمة. وما دام الأمر (من الزاوية الفنيّة) يتصل بالجهاد العسكري وما يواكبه من مبادىء متنوعة، حينئذ فإن طرح ظاهرة الخمس تظل متجانسة مع موضوعات السورة كما هو واضح، مضافا إلى تجانسها مع بداية السورة التي استهلت موضوعاتها عن (الأنفال) وصلة ذلك بنفس الدلالة المشار إليها.

بعد ذلك، تقدمت السورة بقضية تذكير الإسلاميين بنعم الله عليهم تجانسا مع قضايا التذكير السابقة، مذكرة ايّاهم بمعركة بدر، مركزة على وضع تسمية خاصة لها في هذا المقطع هي تسميتها (بيوم الفقان)، حيث تظل هذه التسمية ذات صلة فنية بمقطع أسبق قال فيه النص إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً أي قابلية على فرز الحق من الباطل وفصل أحده عن الآخر. وها هو النص - يجانس فكريا بين مطالبته بالتقوى واستتباعها فرقانا بين الحق والباطل وبين تذكيرهم بمعركة استتبعت فرقانا بين الحق (انتصار المسلمين) والباطل (هزيمة المشركين).

إذن، إطلاق تسميته (يوم الفرقان) في هذا المقطع من السورة، على معركة بدر يجسّد سمة فنيّة تتصل بالهيكل الهندسي للسورة.

وإذا تجاوزنا ظاهرة التسمية المذكورة إلى معركة بدر ذاتها، لحظنا أن النص يذكّر الإسلاميين بجانبين عسكريين من المعركة المذكورة، أحدهما يتصل بطبيعة الساحة العسكرية التي تمّ القتال فيها، والآخر يتصل بعدد المقاتلين، حيث ذكّر النص الإسلاميين بأنهم كانوا بالعدوة الدنيا، وكان العدو بالعدوة القصوى، والركب (وهو القافلة التجارية التي أشعلت المعركة) أسفل منهم، بحيث يتعذر إحراز النصر لولا تدخل السماء في هذا الميدان.

ص: 102

و أما من حيث العدد فقد ذكر النص ظاهرة كون المشركين قد قلّلهم الله في أعين الإسلاميين بحيث ليتعذر أيضا إحراز النصر لو لم يقلّلهم اللّه في أعينهم ولاستتبع الفشل والتنازع، كما صرّحت الآية الكريمة بذلك. كما أنه تعالى قد قلّل عدد الإسلاميين أمام المشركين لكي لا يكترثوا بهم فيقلّ - تبعا لذلك - استعدادهم العسكري في مواجهة الإسلاميين فيما يترتب على ذلك إحراز النصر.

هنا ينبغي أن نقف أيضا عند التفسير الفنّي لهذه المفردات من التذكير بنعم الله تعالى وملاحظة موقعها العماري من السورة. فالملاحظ أن النص ذكّر الإسلاميين في مقاطع سابقة من السورة بمعركة بدر أيضا، وكان التذكير يتمثل في إنزال الملائكة، والمطر، والنعاس... الخ، بينا يتمثّل التذكير في المقطع الذى نتحدث عنه في ظاهرة العدد وطبيعة الساحة العسكرية.

ترى، هل نستخلص من هذا أن عمليات (التذكير) ذات وظيفة فنية هي طرحها تدريجا في مقاطع متنوعة بغض النظر عن تمييز مفرداتها واحدة عن الآخر، أم أن طرح قسم منها في مقطع دون الآخرى إنما ينطوي على دلالة فنية أيضا؟؟.

لا شك أن الاستخلاص الأخير هو الذي يسم النص القرآني بصفته قائما على إحكام هندسي بالغ الدلالة.

ويمكننا ملاحظة ذلك إذا تابعنا المقطع اللاحق من السورة فيما يتحدث عن ظاهرة الفشل والتنازع وهو نفس الظاهرة التي ذكّر النص الإسلاميين من خلالها بمعركة بدر حيث أوضح من حيث العدد قائلا: وَ لَوْ أَرٰاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنٰازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ كما أوضح من حيث المكان قائلا: وَ لَوْ تَوٰاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعٰادِ لأنه في حالة رؤية الإسلاميين كثرة عدد المشركين يضطرون حينئذ للتأخر عن المكان المذكور، فيختلف الميعاد المشار إليه.

ص: 103

إذن، يظل انتخاب مفردات معينة من الممارسات العسكرية من حيث التذكير بها، ذا صلة فنيّة بطبيعة الموضوعات المطروحة في السورة وليست مجرد عرض لها، وإن كان العرض نفسه يجسّد أداء فنيا حتى لو كان مجردا من الموقع العماري من السورة ما دام الهدف هو إيصال مجموعة من الأفكار إلى الآخرين، وهذا يتم إدراجها في مقاطع متتابعة دون الحاجة إلى ملاحظة المزيد من التجانس بينها وبين الموضوعات.

المهم، يحسن بنا الآن أن نتابع المقطع اللاحق من السورة بعد أن أشرنا إلى صلته بهذا الجانب.

سورة الأنفال (8): الآیات 45 الی 47

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاٰ تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ * وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:

45-47].

هذا المقطع من السورة يظل امتدادا للمقاطع السابقة من حيث صلته بهيكل السورة وفكرتها العامة. لقد طالب النص أولا بالثبات في ساحة المعركة وعدم الفرار منها، و هذه المطالبة سبق ذكرها في مقطع متقدم إِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبٰارَ [الأنفال: 15] إلا أنّ ذكرها سابقا تمّ في سياق خاص جديد هو المواقف التي يجوز للمقاتل أن يترك موقعه إلى موقع آخر، كأن يلتحق بجماعة أو موقع عسكري يتيح له مجالا أفضل إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ . أمّا في المقطع الذي نتحدث عنه فإن المطالبة بالثبات في المعركة فتتم في سياق جديد هو ذكر اللّه أثناء القتال، والصبر، وعدم المنازعة وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاٰ

ص: 104

تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا .

هنا ينبغي أن نتذكّر أن سورة الأنفال بدأت بالمطالبة بإطاعة اللّه ورسوله.

وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يطالب بإطاعة اللّه ورسوله، كما بدأت بالمطالبة بعدم المنازعة في الغنائم، وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يطالب أيضا بعدم المنازعة لكن بنحو عام وهذا هو الجديد في المقطع، كما يطالب بممارسات جديدة هي ذكر اللّه في أثناء القتال ثم الصبر عليه.

ولا نجدنا بحاجة إلى التذكير بأهمية مثل هذه الممارسات التي طالب النص بها ما دمنا نعرف بأن (الجهاد في سبيل اللّه) هو الفكرة التي تحوم عليها سورة الأنفال، وإلى أن عنصر (المنازعة) التي استهلت السورة به هو المفردات التي ستحوم عليها مقاطع السورة فيما يطالب النص المؤمنين بعدم المنازعة ويذكّرهم بنتائجها السلبية، كما يذكرهم بنعم اللّه عليهم، مقرونة بالحديث عن الكافرين الذين يجسّدون الطرف السلبي الذي يحذر النص المؤمنين من مفردات سلوكه.

لذلك، ما أن ينتهي النص من حديثه عن المطالبة بإطاعة اللّه ورسوله، والثبات في المعركة، وبذكر اللّه، وعدم المنازعة، حتى يتجه النص إلى الحديث عن الكافرين من خلال عنصر (المقارنة) فيقول: وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ .

إن التشديد على مفردات ثلاث من السلوك هي: الخروج بطرا، والرياء الاجتماعي، والصدّ عن سبيل اللّه، هذه المفردات التي تشكل سلوك الكافرين الذين صاغهم النص في سياق المقارنة، إنما تعني إمكانية أن يصدر بعض الإسلاميين عن أمثلة هذا السلوك. فالمنحرفون (وهم قريش حسب النصوص المفسرة) خرجوا من ديارهم (مكة) إلى (بدر) ليقيموا ثلاثا فيها، حيث خرجوا معهم بالمعازف والقيان والخمور ليتباهوا أمام الآخرين وليعرضوا قواهم أمام

ص: 105

الإسلاميين. هذا الخروج بصفته مقرونا بالخمور والمعازف، يمثل (بطرا) وليس عملا جديّا، كما أنه بصفته عرضا اجتماعيا يمثل (رياء)، وبصفته نشاطا ضدّ القوى الإسلامية يمثّل (صدّا عن سبيل اللّه).

إذن، عندما يعرض لنا النص مفردات من سلوك المنحرفين إنما يستهدف (من الزاوية الفنية) كما نحتمل - من خلال المقارنة بينها وبين المؤمنين الذين يحذّرهم النص من ذلك - إمكان أن يصدر بعض الإسلاميين عن أمثلة هذا السلوك، فالبطر (وهو الخروج بالمعازف والقيان) تعبير عن مظهر عدم الجديّة في السلوك وهو أمر من الممكن تقع الشخصية فيه إذا لم يتح لها وعي حاد بمبادىء اللّه، يستوي في ذلك أن يكون السلوك المذكور مفردات محددّة كما ذكرها النص التفسيري عن قريش أو مطلق السلوك غير الهادف، كما أن (الرياء الاجتماعي) يظل في مقدمة ظواهر السلوك التي قد يصدر عنها بعض الإسلاميين الذين لا يمتلكون الوعي الجاد بمبادىء اللّه، كذلك الصدّ عن سبيل اللّه من الممكن أن يتخذ واجهات متنوعة عند الضعاف نفسيا... ففي الحالات جميعا من الممكن أن يفضي السلوك المنهي عنه في هذا المقطع من السورة إلى الوقوع في سلوك مماثل لسلوك الكافرين، حيث أوضح النص بنحو لا لبس فيه: أن عدم الثبات في المعركة، وعدم إطاعة اللّه ورسوله، والمنازعة، وعدم الصبر سوف تفضي إلى الوقوع في ممارسات تشير إلى ممارسات الكافرين وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ ... فهذا التشبيه أو التمثيل ليس مجرد عنصر فني صوري بقدر ما يمثّل (واقعا) بشريا حذّر النص الإسلاميين منه، طالما نعرف أن النص القرآني الكريم حينما يعتمد (صورة فنية) فإنه يختلف تماما عن الاستخدام البشري لها، فالاستخدام البشري لعنصر (الصورة الفنية) يظل خاضعا لعمليات التخيّل والذاتية والمبالغة والتجريد، بينا يظل الاستخدام القرآني للصورة محكوما بسمة (الواقع)، أي: حتميّه أن يفضي السلوك المنهيّ عنه عند

ص: 106

الإسلاميين إلى سلوك مماثل لسلوك الكافرين الذين تحدث النص عنهم عبر الاستشهاد بثلاث مفردات من سلوكهم بالنحو الذي تقدم الحديث عنه مفصلا.

سورة الأنفال (8): آیة 48

قال تعالى: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ وَ قٰالَ لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ فَلَمّٰا تَرٰاءَتِ اَلْفِئَتٰانِ نَكَصَ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ وَ اَللّٰهُ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ [الأنفال: 48].

هذا المقطع أو الآية من سورة الأنفال يرتبط بالحديث عن الكافرين الذين حذّر الله المؤمنين من الوقوع في سلوكهم حينما خاطبهم قائلا في مقطع سابق وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ [الأنفال: 47].

إن هؤلاء الكافرين الذين يخرجون بطرا ورياء وصدّا عن سبيل اللّه يقدّمهم النص الآن عبر سلوك عمليّ هو تزيين الشيطان لأعمالهم، متمثلا في قوله لهم: لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48].

إننا ما دمنا نتحدث عن العبارة الفنية في القرآن الكريم من خلال الهيكل الهندسي للنص، يعنينا أن نتعرف سمات الفنّ في هذه الآية أو المقطع.

فالملاحظ (من زاوية عمارة النص) ان هذه الاية تجسيد لسلوك سبق أن أومأ إليه النص. فبالرغم من أن النصوص المفسرة ذكرت بأن هذا السلوك يرتبط بنشاط المشركين الذين خرجوا إلى (بدر) في قافلتهم، إلا أنّ أهمية الفن العظيم هي تجاوز الخاص إلى العام أي ترشح النص بإيحاءات عامة يستخلصها المتلقي حتى لو كان بمنأى عن نصوص التفسير، لذلك نجد أن النص لكي يدلّل فنيّا على كون هؤلاء المشركين يخرجون بطرا ورئاء وصدّا عن سبيل اللّه، يقدم لنا نموذجا من سلوكهم هو: تزيين الشيطان لأعمالهم، حيث ينطبق هذا التزيين على سلوكهم الذي ذكره المفسّرون، كما ينطبق على السلوك الذي

ص: 107

سرده النص حينما ذكر جانبا من التزيين متمثلا في قول الشيطان لهم - عبر معركة (بدر) نفسها - (لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ ) و (إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ ) حيث تعبّر هاتان الجملتان الحواريتان عن عملية الصدّ عن سبيل اللّه بما يستتبع هذا التزيين من سلوك عملي هو إقدام المشركين على قتال الإسلاميين. وبالفعل تقدم المشركون إلى المعركة، والتحم الطرفان. لكن بما أن النصر كان لصالح الإسلاميين حينئذ جاء رد الفعل للتزيين الشيطاني المذكور على هذا النحو فَلَمّٰا تَرٰاءَتِ اَلْفِئَتٰانِ نَكَصَ - أي الشيطان - عَلىٰ عَقِبَيْهِ قائلا لهم إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ .

هذه العبارات الثلاث الصادرة عن الشيطان تمثّل نكوصا وارتدادا واضحا عن تزيينه، فبعد أن أكد لهم بأنه (لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ ) وبعد أن قال لهم (إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ ) ، إذا به يرتّد عن قوله السابق فيقول لهم (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ) (إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ ) (إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ ) .

والآن إذا دققنا النظر في هذا الموقف الارتدادي من الشيطان نجد أنّنا أمام نمط له خطورته وإمتاعه في حقل التعبير عن الموقف المذكور، فأوّلا نستخلص بأنّ عملية (التزييف) تشكّل مجرّد سلوك لفظي لا واقع له في ميدان العمل بدليل أن الشيطان قد نكص على عقبيه وتخلّى عن نصرته المزعومة للمشركين. أكثر من ذلك، إنه لم يتخلّ عن نصرتهم فحسب بل تبرّأ منهم، ولم يقف الأمر عند مجرد البراءة منهم بل قدّم لهم ما يزيد الموقف اشتعالا في أعماقهم عندما قال لهم بأنّه يرى ما لا يرون وإلى أنه يخاف اللّه. وهنا ندرك قيمة هذا النمط من العبارة القرآنية الكريمة في رسمها لسلوك المشركين وتعميق القناعة بتفاهة سلوكهم وقيامه على (الوهم) وليس (الواقع). فليس أشدّ إيلاما في النفس من أن يزيّن الشيطان أعمال الناس ثم يصدر عنه سلوك مخالف كلّ المخالفة لعملية التزيين. أنه يزيّن لهم عدم الخوف من اللّه عندما يدفعهم إلى

ص: 108

المعركة ويقول لهم لا تخافوا من الإسلاميين وأنه ناصر لهم، بينا يرتدّ عن هذا الموقف مع أول المعركة فيقول لهم بأنه يخاف اللّه، وأنه يرى ما لا يرون.

إذن، جاء هذا النمط من الرسم القرآني الكريم لسلوك المشركين منطويا على دلالات فنية بالغة القيمة من حيث الإثارة والإمتاع.

وهذا كلّه من حيث الدلالة الفكرية أو النفسية للموقف. أما من حيث اللغة التي تمّت من خلالها هذه العملية، فتتمثل في عنصر (الحوار) الفنيّ الذي رسمه النصّ القرآني الكريم، فالملاحظ أنّ النّص قد اعتمد (الحوار) القائم بين (الشيطان) و (المشركين) دون أن يعتمد مجرد السرد أو الوصف لسلوك المشركين. وسواء أكان (الشيطان) (إنسيا) أو (جنّيا) وسواء أكان الشيطان (رمزا) للأفكار الفاسدة أو تجسيدا فعلا في هيكل بشري (كما تذكر نصوص التفسير) ففي الحالين نجد أن عملية (الحوار) بشكلها المذكور تمثّل أشدّ المواقف إثارة دون أدنى شك. فإذا افترضنا أن (بشرا) جسّد الموقف الشيطاني أي تجسّد الأخير في صورة شخص، أو إذا افترضنا أن الأفكار الفاسدة أوحت إلى المشركين بأنّه لا غالب لهم اليوم من الناس وإلى أنّهم منتصرون، حينئذ - في الحالين - عندما يلتحم الطرفان فعلا في معركة (بدر) أو مطلق المعارك ويواجه المشركون هزيمة منكرة، لا بدّ في الحالة المذكورة من أن يصدم المشركون حيال هذه الهزيمة وأن يصابوا بخيبة أمل مريرة، عندما يجدون أنّ حساباتهم أو تصوراتهم لا أساس لها من الواقع سواء أكانت هذه التصورات تزيينا ذاتيا أم تزيينا من الشيطان المتجسّد في صورة شخص (كما تؤكد النصوص المعتبرة ذلك). والمهم هو أن عنصر (الحوار) القائم على القول بأنه لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ ثم الارتداد عن هذا الموقف إلى القول إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ ، هذا النمط من الحوار المباشر أو الخطاب الموجّه إلى المشركين ينطوي على فاعلية ملحوظة

ص: 109

في تعميق القناعة بتفاهة سلوك المشركين وقيامه أساسا على تصورات لا واقع لها بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه.

سورة الأنفال (8): آیة 49

قال تعالى: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هٰؤُلاٰءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 49].

هذه الآية أو المقطع تحتل من هيكل السورة الكريمة موقعا هندسيا له قيمته الفكرية، فالسورة التي تكفلت بمخاطبة الإسلاميين وتحذير الضعاف نفسيا منهم، اتجهت إلى عنصر المقارنة مع الكافرين بنحو ما لحظناه سابقا.

هنا تتجه السورة إلى عرض فئة أخرى من الكافرين هي: الفئة المنافقة، إلا أنها تلمّ عابرا بهم لتتحدث عنهم بنحو مستقل في سورة كاملة هي (التوبة).

المهم، أن الإلمام العابر بالمنافقين والاكتفاء بعرض موقف واحد من مواقفهم المنحرفة، ينطوي على قيمة عضوية في بناء النص، كما قلنا، والمهم أيضا هو معرفة هذا الموقف أو السمة وصلته بالأفكار المطروحة في النص.

لقد عرض النص للمنافقين دون أن يسمهم بسمة نفسية خاصة إلا أنه أردف ذلك بقوله. وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )، أي: أنه عطف على المنافقين فئة أخرى وسمها بأنها ذات (مرض) في القلب، ومن البين - في حقل الصحة النفسية ومقابلها: المرض - إن المرض في القلب يعني عدم استواء الشخصية بغض النظر عن موقفها الفكري، مما يعني أن النص يدلنا أن المنحرفين الذين لا يؤمنون باللّه إنما هم حفنة من المرضى قبل أن يكونوا أصحّاء نفسيا، كما يدلنا - بطريقة فنية - أن المنافقين هم في مقدمة هؤلاء المرضى، أنه لم يسمهم بأنهم مرضى مباشرة بل عندما عطف عليهم فئة المرضى، حينئذ يستنتج المتلقي بأنهم مرضى أيضا، لنستمع من جديد: وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: هناك سمة مشتركة بين الفئتين:

ص: 110

المنافقة وسائر الذين في قلوبهم مرض، السمة هي مرض النفس أو القلب كما وسمهم النص.

والآن، خارجا عن هذا المنحى الفنيّ في صياغة المواقف أو تشخيص المنحرفين عباديا، نتجه إلى الدلالة الفكرية التي عرضها النص عن المنافقين وسائر المرضى، فماذا نجد؟ قال المرضى عن الإسلاميين غَرَّ هٰؤُلاٰءِ دِينُهُمْ ، هذه العبارة هي: الموقف الذي صدر عن المنافقين وسائر المرضى، والمهم هو تحليل العبارة المذكورة وصلتها بالمرض من جانب وبالسياق الفكري الذي وردت فيه، من جانب آخر.

لنتذكر أن النص كان في صدد تزيين الشيطان لأعمال المنحرفين، ومن قبل كان في صدد المقارنة بين الإسلاميين الذين حذّرهم النص من السلوك السلبي وبن المنحرفين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وصدّا عن سبيل اللّه. وها هو النص يقدم لنا نموذجا من المواقف المتماثلة في انتسابها إلى مظهر اجتماعي هو: النظر إلى المجتمعات من خلال (الكم)، فالمنحرفون - كما لحظنا ذلك في مقاطع سابقة - قد احتشدوا في (بدر) بصفته واحدا من مواسم العرب لعرض قواهم، كما أن الشيطان الذي زيّن لهم أعمالهم، قال لهم لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، مما يعني أن معيار (الكم) يحتل من نفوس المنحرفين موقعا ذا قيمة، ولكن من البيّن أن تقويم الحقائق من خلال (الكم) وليس من خلال (الكيف) يظل إفصاحا عن السذاجة من جانب والاضطراب النفسي من جانب آخر، لذلك حينما اتّهم المنافقون الإسلاميين بأنهم مغرورون في دينهم، إنما عبّروا في الواقع عن سذاجتهم واضطرابهم في هذه التهمة. لقد خيّل إليهم أن الإسلاميين غرّهم دينهم وهم قلة قبالة المشركين الذين يمثلون عددا كبيرا في معاركهم المسلحة، دون أن يدركوا أو دون أن يسمحوا لأنفسهم بأن يقروا بأنّ ثقة الإسلاميين بالنصر العسكري في

ص: 111

معركة بدر أو غيرها إنما تنبع من ثقتهم باللّه تعالى وليس من كثرة أو قلة عددهم. لذلك جاء تعقيب النص على قولهم المذكور بما يلي: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، مبيّنا بأن المعيار هو التوكل على اللّه وليس كثرة أو قلة العدد.

إن طابع الاضطراب أو المرض - كما وصمهم النص بذلك - يتمثل في نمط التهمة التي ألصقها المنافقون بالإسلاميين ونعني بها (الغرور) وهي تهمة تمثّل - في الواقع - عملية (إسقاطية)، أي: أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض، يحيون عادة أو يصدرون في جانب من سلوكهم عن (الاغترار) بالذات الاجتماعية، بدليل المواقف السابقة التي شرحها النص، مثل الخروج إلى المواسم، والخروج إلى المعركة القائلة: لا غالب لكم... الخ، لذلك (يسقطون) نفس هذه (الذات الاجتماعية) التي تطبعهم، (يسقطونها) على الإسلاميين معبّرين بذلك عن سمة يحيونها هم وليس سواهم، بصفة أن (الغرور) هو مظهر ملتو معبّر عن تشابك العقد داخل النفس.

سورة الأنفال (8): الآیات 50 الی 54

وأيّا كان، فإن النص القرآني الكريم بعد أن يعرض لهذه الفئة (المنافقة وسائر المرضى) يعود إلى الحديث عن مطلق الكافرين الذين رسمهم فى سياق المقارنة مع بعض الضعاف نفسيا ممّن اتّجهت السورة الكريمة إلى تحذيرهم و تذكيرهم، بغية عدم الوقوع في نفس المصائر التي ينتهي الكافرون إليها دنيويا وأخرويا. أما أخرويا فقد عقب النص على مصائرهم قائلا. وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ [الأنفال: 50]. وأما دنيويا، فيذكّرهم النص بمصائر آل فرعون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

ص: 112

كَذَّبُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَ كُلٌّ كٰانُوا ظٰالِمِينَ

[الأنفال: 52-54].

سورة الأنفال (8): الآیات 55 الی 57

قال تعالى: إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لاٰ يَتَّقُونَ * فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأنفال: 55-57].

هذا المقطع من السورة يشكل موضوعا جديدا يطرحه النص في سياق الهيكل الفكري لها، فالهيكل الفكري للسورة هو: (الجهاد في سبيل اللّه) كما هو معلوم، كما أنّ رسم بعض أنماط السلوك السلبي الذي واكب المجاهدين قد شكّل جانبا كبيرا من الهيكل المذكور، مضافا إلى أن إدخال عنصر (الكفار) من خلال التحذير والتذكير شكّل جانبا آخر من عمارة هذا الهيكل الفكري. أما الآن فيتحدث النص عن الكفار أنفسهم وطريقة التعامل العسكري مع بعض فئاتهم، فبعد أن لمحّ النص بمطلق الكافرين، ثم بفئة المنافقين، اتجه الآن إلى فئة ثالثة يبدو أنهم (اليهود) كما تذكر نصوص التفسير، وحتى خارجا عن هذه النصوص فإن ما يعنينا هو: رسم نمط التعامل العسكري مع فئة تطبعها سمة (النقض) للعهود والمواثيق العسكرية. لقد رسمهم النص (أي: اليهود) بأنهم شرّ الدواب على وجه الأرض، وكون اليهود شر الدواب أمر لا يحتاج إلى تعقيب طالما خبرتهم المجتمعات قديما وحديثا بما طبع ممارساتهم من غدر وحقد وجبن وسائر السمات التي تطبع أشد الناس اضطرابا وتمزّقا.

المهمّ لقد رسمهم النص هنا من خلال سمة واضحة من سلوكهم هو (الغدر) قائلا عنهم: اَلَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لاٰ يَتَّقُونَ ، هذه الفئة الناقضة للعهد، طالب النص النبيّ (ص) والإسلاميين بأن ينكّل بهم حتى يعتبر من بعدهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ بصفة

ص: 113

أن هذا النمط من التعامل العسكري مع اليهود - وهم يتميّزون بطابع الخوف من جانب وكون تشريدهم يشكل ضرورة ملحة بغية عدم إفسادهم في الأرض من جانب آخر - يتناسب مع تركيبتهم التي أشرنا إليها.

سورة الأنفال (8): آیة 58

بعد ذلك يتجه النص إلى مبدأ عسكري آخر (في ميدان الجهاد حيال ناقضي العهود) موضحا ذلك بقوله: وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ [الأنفال: 58]، فطالما تظل سمة (نقض العهد) طابعا للسلوك المنحرف، حينئذ فإن اتخاذ الموقف المحتاط يفرض ضرورته على الإسلاميين، لذلك طالبهم النص بأن يلقي الإسلاميون ما بينهم وبين ناقضي العهود من مواثيق، قبل أن يباغتوهم بالنقض، إلا أنّ هذا المبدأ حرص المشرّع الإسلاميّ على صياغته وفق دلالة إنسانية هي قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ أي: يجب إعلام العدوّ بهذا الأمر حتى يكون هذا الطرف وذاك على علم بعدم الالتزام، بغية عدم بدأهم بالقتال قبل إعلامهم بالموقف... ولا أدل على البعد الإنساني لهذا النمط من التعامل العسكري من قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ أي: أن المبدأ الإسلامي لا يسمح لنفسه بأن يخون الإسلاميون أعداءهم من خلال مقاتلتهم قبل إعلامهم بذلك.

سورة الأنفال (8): آیة 60

والآن، بعد أن عرض النص لمختلف فئات الكافرين ونمط التعامل العسكري مع هذه الفئة أو تلك، تقدّم إلى مبدأ عسكري آخر هو: الاعداد العسكري وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاٰ تَعْلَمُونَهُمُ اَللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ ... [الأنفال: 60].

هذه المطالبة بإعداد القوى العسكرية أمر لا يحتاج إلى التعقيب طالما ندرك بوضوح أن المهمة العبادية تتطلب عملا يتناسب مع الموقف الذي

ص: 114

يواجهه الإسلاميون، فما دام (الجهاد) يتطلب قوى تقف حيال العدو المرتكن نفسه إلى قوى يعتمدها، كذلك، فإن الإسلاميين يتعيّن عليهم إعداد أنفسهم عسكريا بنحو يتناسب مع متطلبات المعركة.

سورة الأنفال (8): الآیات 61 الی 62

بعد ذلك، يتجه النص إلى مبدأ آخر هو: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّٰهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 61-62] وهذا المبدأ يتمثّل في سياقات خاصة، يطلب العدوّ فيها الكفّ عن المقاتلة، لكن ينبغي ملاحظة ذلك بالقياس إلى نمط العدوّ حيث ذكر المفسرون أن المبدأ العسكري القائل:

فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ مقابل المبدأ القائل: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا ، يجسّد الفارق بين عدو مشرك وعدوّ كتابيّ ، بمعنى أن طبيعة الموقف السياسي هو الذي يحدد هذا المبدأ أو ذاك.

سورة الأنفال (8): آیة 63

قال تعالى: وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مٰا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63].

هذه الاية تشكل مقطعا فكريا يصل بين مقطع سابق ومقطع لاحق في السورة، المقطع السابق يتحدث عن العدو وخديعته للإسلاميين وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّٰهُ [الأنفال: 62]. لذلك جاء المقطع الجديد ليدلّل - بطريقة فنية - بأن خديعة العدو لا قيمة لها، فالمهم الالتزام بمبادىء اللّه في عملية الجهاد المسلّح، وإذا كان للمعيار أو العنصر البشري قيمة ما - وهو كذلك - فإن هذا العنصر لم يتحرك من خلال إمكاناته بل من خلال اللّه تعالى، وتبعا لذلك فإن عملية التأليف بين القلوب وتوحيد الكلمة فيما تشكل - في المعيار العسكري - قوة لها خطورتها، فإن هذا التأليف بين القلوب، قد تمّ من قبل اللّه تعالى، بحيث لو أنفق ما في الأرض جميعا ما ألّف بين قلوبهم إلا إذا

ص: 115

أراد اللّه ذلك، وهو ما تمّ بالفعل.

سورة الأنفال (8): آیة 64

من هنا اتجه النص إلى تقرير حقيقة عسكرية هي يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّٰهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] هذه الحقيقة ترتّبت - كما هو واضح - على المقطع السابق الذي مهّد بالقول بأن اللّه هو الجامع لكلمة الإسلاميين، و إذا كان الأمر كذلك، فيكفي إن اللّه تعالى وتلك الجماعة التي تم التأليف بين قلوبها، يكفي أن يشكل ذلك قوة حيال العدو.

بعد ذلك يتقدم النص إلى المطالبة بالجهاد المسلّح، فيما تظل فكرة (الجهاد) كما كرّرنا هي الهيكل العام الذي تصبّ فيه موضوعات السورة.

سورة الأنفال (8): آیة 65

يقول النص مخاطبا النبيّ (ص): يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتٰالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65].

المطالبة بالقتال تجيء - من الزاوية الفنية - نتيجة للتمهيد السابق الذي قرّر بأن النبيّ (ص): حسبه اللّه ومن اتبعه من المؤمنين. بيد أن الملاحظ أن النص تقدم بعرض ظاهرة (الكم) مقرّرا بأنه إذا كان الإسلاميون عشرين مقاتلا فسوف يغلبون مائتين من جند العدو، إذا كانوا مائة فسوف يغلبون ألفا منهم.

طبيعيا، إن عرض الظاهرة العددية بهذا النحو يظل من الوضوح بمكان كبير من حيث البناء الهندسي للنص، فقد سبق أن ذكر النص بأنه يكفي لتحقيق النصر من اتبع النبيّ (ص) من المؤمنين، وجاء التمثيل بالعشرين مقابل المائتين، والمائة مقابل الألف، تجسيدا إيضاحيا للفكرة السابقة، وهي نسبة تحدد الواحد قبالة العشرة، بيد أن السؤال هو: لماذا تكرّر في النص: التمثيل بالعشرين والمائة قبالة المائتين والألف، مع أن الاقتصار على واحد من التمثيليين كاف في تقرير الحقيقة ؟ كان من الممكن أن يكتفي النص بقوله:

إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ دون أن يتبع ذلك بقوله أيضا.

ص: 116

وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً ، ترى ما هو السرّ الفنيّ وراء هذا التكرار بمثالين ؟.

قد يقول قائل: بأن عملية التكرار تنطوي على فائدة نفسية لتعميق الحقائق وبلورة عنصر (الاقناع) عند المتلقّي أو المقاتل، وهذا صائب دون أدنى شك، إلا أنّ استكناه سرّ آخر وراء ذلك لا بد أن يكون مشروعا لدى المتذوق الفني إذا أدرك بوضوح بأن النص القرآني الكريم لا ينطوي على عنصر (التكرار) إلا إذا واكب ذلك سرّ فنّي آخر مضافا إلى ما ذكر، ترى، ما هو هذا السرّ؟.

يمكن القول بأن التمثيل الأول وهو: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ مجرّد تجسيد لأقلّ عدد من المقاتلين، وإلى أن التمثيل الآخر جاء إفصاحا عن حقيقة أخرى هي أنه لو كثر العدد أيضا، فإن النتيجة واحدة هي أن المقاتل الإسلامي الواحد يظل مقابلا لعشرة مقاتلين من الأعداء.

سورة الأنفال (8): آیة 66

خارجا عن ذلك، يتقدم النص بتقرير حقيقة أخرى حينما يواجهنا بالآية الآتية: اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّٰهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صٰابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ

[الأنفال: 66].

من هذه الآية نستكشف - مستعينين في ذلك بنصوص التفسير - ان ظاهرة العدد ليست مجرد التمثيل فحسب، بل تتضمن مضافا لما تقدم، حكما - في ميدان الفقه العسكري - هو: وقوف الواحد قبالة الاثنين وعدم جواز التخاذل عن ذلك. والمهم أن هذه الآيات أو المقاطع جاءت في سياق الفكرة العامة للسورة وهي - الجهاد في سبيل اللّه - لتقرر جملة من المبادىء المتصلة بهذا الجانب، إلا أن هذا كله يتم من خلال رسم هو: تنبيه الإسلاميين على بعض معالم السلوك الذي يواكبه الضعف النفسي في هذا الموقف أو ذاك، حيث لحظنا أن السورة الكريمة قد استهلت موضوعاتها بالحديث عن الغنائم المتنازع

ص: 117

عليها في معركة (بدر) كما أنها المحت إلى موقف آخر من السلوك المماثل، محذرة الإسلاميين من نتائج ذلك مذكّرة إيّاهم بمساندة السماء معهم في معاركهم مع العدو، وهو أمر يمكننا ملاحظته في الايات أو المقاطع الختامية لسورة الأنفال، حيث تختتم السورة الكريمة بطرح ظواهر مطبوعة بنفس السمات التي وقفنا عليها.

سورة الأنفال (8): الآیات 67 الی 70

قال تعالى: مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيٰا وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرىٰ إِنْ يَعْلَمِ اَللّٰهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّٰا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[الأنفال: 67-70].

هذه الآيات تشكّل المقطع ما قبل الأخير من سورة الأنفال، وإذا كانت هذه السورة قد بدأت بالحديث عن غنائم الحرب، فإن الحديث عن الغنائم يظل خاتمة السورة أيضا، إحكاما لعمارة السورة التي تلاحمت موضوعاتها عضويا بنحو ما تقدم تفصيل الحديث عنه. وقد لحظنا أن هذه السورة تشدّد على نمط من السلوك العسكري الذي مارسه الإسلاميون في عملية (الجهاد في سبيل اللّه) حيث شدّدت على جوانب من السلوك السلبي الذي رافق ممارساتهم محذّرة الإسلاميين منه، بغية تعديل سلوكهم وجعله متساويا مع مبادىء السماء. ولعل البحث عن الغنائم في غمرة الانتصار وجعلها موضع الاهتمام يظل في مقدمة ما لحظناه في موضوعات هذه السورة التي حذّرت من ذلك.

من هنا جاء الحديث عن الغنائم في خاتمة السورة امتدادا لبدايتها ولكن من خلال طرح جديد لها هو: قضية (الأسرى). لقد حذّر النص من الرغبة في

ص: 118

أسر العدّو وأخذ الفدية قبل أن يبالغ الإسلاميون في مقاتلة العدو مستهدفين بذلك عرض الدنيا واللّه يريد منهم أن يستهدفوا الآخرة.

مقابل ذلك، اتجه النص إلى مخاطبة الأسرى من خلال (الفدية) التي أخذت منهم، مبيّنا لهم أنهم في حالة كونهم قد ندموا على سلوكهم المنحرف وتابوا إلى اللّه واخلصوا في إسلامهم، عندها، فإن اللّه تعالى سوف يعوضهم عن الفدية ويعطيهم خيرا مما أخذ منهم.

الملاحظ هنا، أن كلا من الإسلاميين والأسرى قد توجه الخطاب إليهم بلغة التحذير، فالإباحة، نظرا لتوفّر الإخلاص - من جانب - لدى الطرفين، ولإمكانية صدورهم عن لحظات الضعف من جانب آخر. أما الإخلاص فيتمثل عند الإسلاميين في كونهم قد مارسوا عملية (الجهاد) مع صدور بعضهم عن رغبة تتخلل سلوكهم نحو الغنيمة الدنيوية حيث أباح النص ذلك فيما بعد حينما قال لهم: فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[الأنفال: 69] بمعنى أن النص حرص على أن يصدروا في سلوكهم عن أرفع درجات الإيمان بألاّ يتخلل ذلك أي عرض من متاع الحياة، وأما (الأسرى) فقد (ثمّن) النص (الفدية) التي يقدمّونها عن إخلاص في الموقف وندم ما سلف منهم، واتجاه إلى الإيمان برسالة الإسلام، حيث وعد بإعطائهم خيرا منها.

وحيث حذّر - في الوقت نفسه - بأن (الفدية) إذا كانت لهدف آخر غير الإيمان باللّه كأن يعودوا إلى نفس السلوك السابق، عندها سوف يمكّن اللّه لإسلاميين منهم في معركة أخرى

سورة الأنفال (8): آیة 71

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيٰانَتَكَ فَقَدْ خٰانُوا اَللّٰهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ .

إذن، ثمة (تحذير) من جانب، يقابله تثمين للسلوك الإيجابي بعامة، سواء أكان ذلك متصلا بالإسلاميين أساسا أو بالأسرى الذين رغبوا في

ص: 119

الإسلام، وهو هدف فكري عام طبع غالبية موضوعات السورة كما لحظنا.

سورة الأنفال (8): الآیات 72 الی 75

والان بعد أن ينتهي النص الكريم من صياغة الموضوعات المتصلة بالجهاد في سبيل اللّه بما واكبها من مواقف حذّر النص الإسلاميين منها، يتجه إلى ختام ذلك بعرض الآيات الآتية: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلاٰيَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰى يُهٰاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّٰ عَلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ إِلاّٰ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسٰادٌ كَبِيرٌ * وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ * وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولٰئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 72-75].

بالرغم من أن هذه الآيات تتحدث عن زمان ومكان خاصين، تتصل بالمهاجرين، والأنصار، والأعراب، والكفار، عصرئذ، إلا أنها تشدّد على جملة من المفهومات العامة التي استبطنتها السورة الكريمة في طياتها مثل:

ولاية الإسلاميين بعضهم لبعض والكفار بعضهم لبعض، والنصرة من أجل الدين حتى لو لم يتكافأ الطرف غير المهاجر إلاّ في حالة وجود مواثيق عسكرية تمنع من النصرة المذكورة... الخ.

ويلاحظ أن عنصر (الإرث)، تخلل هذا المقطع الذي ختمت به السورة الكريمة، وسواء أكان هذا العنصر يتصل بالبعد الاقتصادي للموضوعات، أي ظاهرة (التوارث المالي) أم كان متصلا بدلالات أخرى ذكرها بعض المفسرين، إلا أنّ عمارة النص (ونحن نتحدث عن الهيكل الهندسي للسورة)

ص: 120

تتساوق مع الاتجاه الأول ما دام البعد الاقتصادي المذكور جاء في سياق (الجهاد في سبيل اللّه) وهو الفكرة العامة التي تطبع السورة الكريمة كما كررنا فيما تتخلّلها - بطريقة فنية - موضوعات تتصل بالغنائم (وهو بعد اقتصادي كما هو واضح) من خلال ممارسة (الجهاد) وكذلك (التوارث) من حيث الهجرة وعدمها نحو ساحة الجهاد، حيث يطرح المقطع واحدا من جوانب (ظاهرة الميراث) وهو أمر لا يدخل في نطاق الدراسة الفنية لهيكل السورة بقدر ما يتصل بظاهرة (الأحكام فقهيا)، إلا أننا استهدفنا الإشارة إلى مجرد التناسق الفكري بين موضوعات السورة والطريقة الفنية التي سلكها النص في صياغة ذلك، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

ص: 121

ص: 122

سورة التوبة

اشارة

ص: 123

ص: 124

سورة التوبة تعدّ واحدة من السور الطوال في القرآن الكريم. وإذا كانت السور الطوال تتضمن - عادة - موضوعات مختلفة يجمعها هدف فكري واحد فإن هذه السورة (أي: التوبة) تتميّز بكونها ذات موضوع واحد يطبع غالبيتها هو: (مفهوم الجهاد) بما يواكبه من ظواهر متصلة بهذا المفهوم. وهناك بعض الموضوعات التي تبدو وكأنها بمنأى عن ظاهرة (الجهاد المسلّح)، إلا أنّها تظل بنحو أو بآخر - كما سنوضح ذلك مفصلا - على صلة أو تجانس مع عملية الجهاد.

طبيعيا، أنّ كلّ نص فنى سواء أكان ذا موضوعات مختلفة يجمعها هدف فكري واحد، أم كان ذا موضوع واحد متشعّب الظواهر مثل موضوع (الجهاد المسلّح)، لا بد أن يتوزع في مجموعة من (مقاطع) يتضمّن كل منها: جانبا من الهدف الفكري الذي تحوم السورة عليه، وتبعا لذلك، يمكننا - في سورة التوبة - الحديث عنها فنيّا عبر مقاطع متنوعة يتناول كلّ مقطع أو قسم منها جانبا من موضوعات الجهاد في سبيل الله مثل الجهاد من خلال التعامل مع العهود والمواثيق بين الإسلاميين والعدو، ومثل العلاقة الاجتماعية القائمة بين الطرفين وتحديد ما ينبغي أن يسلك في هذا الميدان... إلخ.

مضافا لما تقدم هناك عنصر فكري يتضخّم بشكل ملحوظ في السورة، متمثلا في إلقاء الضوء على سلوك أحد الأنماط الاجتماعية التي برزت في ذلك العصر، ونعني به (المنافقين) الذين لعبوا دورا انحرافيا فيما تكفلت السورة بإلقاء الإنارة عليهم، وفضحت أعماقهم، وهو أمر حمل المعنيّين بشؤون التفسير على أن يطلقوا على هذه السورة اسم (الفاضحة) وغيرها من الأسماء التي تتصل بهذا الجانب، وتبعا لذلك يمكن القول بأن هناك عمارة هندسية

ص: 125

ثانوية داخل العمارة العامة في السورة تتداخلان من حيث رسم الهيكل الفكري لها، فضلا عن عمارات أخرى تتآزر جميعا في طرح المفهومات المتنوعة وفق عمليات التنامي والتجانس الفنيّين بينها، على النحو الذي نبدأ الحديث عنه الآن.

تبدأ سورة التوبة بالبراءة من المشركين، وفق لغة يتطلّبها الموقف السياسي والعسكري في ذلك الحين، وهي لغة فيها صرامة وشدة حيال العدو الذي أمعن في ضلالاته.

بيد أن هذه اللغة لم تشأ أن تقف أمام أية فرصة للعدو من الممكن أن يستثمرها ويعود إلى صوابه، لذلك تركت مدة زمنية محددة هي أربعة أشهر يسمح فيها للعدو بحرية التحرك بحيث إذا لم يسلم: فحينئذ سوف تتحدث لغة السلاح...

سورة التوبة (9): الآیات 1 الی 3

هنا ينبغي أن نقف عند الدلالة الإنسانية في الموقف الإسلامي المذكور، فبالرغم من تمادي العدوّ سنين متعددة في مواقفه العدائية، إلا أن إفساح المجال له أربعة أشهر: يعني أنّ هدف اللغة التي أعلنت البراءة من العدو ليس هو استخدام السلاح مجردا عن الدلالة الإنسانية بل لغرض إشاعة الخير، ولذلك كانت الأربعة أشهر فرصة كبيرة أمام العدو يستطيع من خلالها أن يعيد حساباته مع نفسه ويتجه للإيمان برسالة اللّه. يقول النص مخاطبا: فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ ثم أعاد ذلك قائلا:

فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ .

ينبغي أن نقف عبر هذين النصين على الأداء الفنيّ الذي سلكته السورة الكريمة من حيث عمارتها الهندسية، فالسورة استهلت النص بالبراءة من العدو تاركة له أربعة أشهر لدراسة موقفه من الرسالة قائلة له وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ تم أعادت الكلام ثانية. عندما رتبت النتائج على الفرصة

ص: 126

ينبغي أن نقف عبر هذين النصين على الأداء الفنيّ الذي سلكته السورة الكريمة من حيث عمارتها الهندسية، فالسورة استهلت النص بالبراءة من العدو تاركة له أربعة أشهر لدراسة موقفه من الرسالة قائلة له وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ تم أعادت الكلام ثانية. عندما رتبت النتائج على الفرصة

ألمذكورة فقالت فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ . لقد كرر النص التنبيه على أن العدو غير معجز اللّه، مرتين، الأولى:

عند الحديث عن الفرصة، والثانية: عند الحديث عن نتائج الفرصة وهي التوبة أو عدمها، كما كرّر النص البراءة من العدو مرتين، مرة: قالته بنحو مجمل بَرٰاءَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وأخرى: قالته مفصلا وَ أَذٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنّٰاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللّٰهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ . واضح، أن جمالية هذا البناء الهندسي القائم على الموازنة والتوازى بين البراءتين من جانب وكون المشركين غير معجزي اللّه من جانب آخر. أقول، إنّ جمالية البناء المذكور تقوم - في الواقع - على طبيعة الدلالة الفكرية لهذا الموقف، صلته بالدلالة الإنسانية التي أشرنا إليها حيث أشار النص أولا بأن المشركين غير معجزي اللّه بشكل عام، ثم أشار إلى أنهم غير معجزي الله أيضا إذا لم ينتهزوا فرصة الأربعة الأشهر للتوبة. إذن: التكرار المتقدم للبراءة من المشركين وعدم كونهم معجزي اللّه تعالى في الحالتين:

التوبة وعدمها، إنما صيغ بنحو فنيّ تتناسب عمارته الهندسية مع طبيعة الدلالة الفكرية التي تضمنها النص.

(لحظنا أن البراءة من المشركين، والإذن بمقاتلتهم تمّ من خلال دلالة إنسانية هي إفساح المجال لهم أربعة أشهر لتعديل مواقفهم العدائية).

سورة التوبة (9): آیة 4

ولو تابعنا الآن هذه الدلالة، للحظنا أن جانبا جديدا منها يبرز في الموقف العسكري وهو قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ .

ص: 127

(إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ ) هذه العبارة هي المعيار أو القيمة التي تفسّر معنى الدلالة الإنسانية المشار إليها، فالتقوى وليس مجرد القتال هي البطانة التي تغلّف سلوك الإسلاميين وتفرزهم عن السلوك المنعزل عن السماء.

ومن البين، إن الالتزام بالمواثيق العسكرية يفقد دلالته: في حالة نقض الطرف الآخر له، كما أنه في حالة الإخلال ببعضها أو في حالة إعانة الطرف المذكور لعدو آخر أو ممارسة مطلق السلوك العدائي. في أمثلة هذه الحالات لا بدّ للطرف الإسلامي من عدم الوقوف صامتا حيال الحالات المذكورة، بل لا مناص له من مقاتلة العدو تحقيقا لإشاعة مبادىء الخير... ولذلك عندما استثنت الآية الكريمة بعض الفصائل المعادية التي كانت بينها وبين الإسلاميين هدنة أو عهد إنما ربطت ذلك بمعيارين هما: عدم إنقاصهم شيئا من شروط العهد وعدم التعاون مع العدوّ الإسلامي.

سرّ ذلك، إن الإخلال بالشروط أو التعاون مع العدوّ سوف يخلّفان آثارهما على الإسلاميين: من حيث السماح لقوى الشرّ بالتحرّك، وهو أمر يتنافى أساسا مع الدلالة الإنسانية التي كرّرنا أنّ الإسلاميين يصدرون عنها في تعاملهم العسكري مع العدوّ.

سورة التوبة (9): آیة 5

والآن حين نتابع النص القرآني الكريم، نجد أن الدلالة المذكورة: تبرز في نمط جديد من السلوك، ولنقرأ. فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

من زاوية البناء الهندسي للنص، ينبغي التذكير بأنّ السورة الكريمة بدأت بالإعلان عن براءة اللّه ورسوله من المشركين والإذن بمقاتلتهم بصرامة وشدة يتطلّبهما الموقف.

ص: 128

وها هي الصرامة والشدة تأخذ صفتها بمزيد من الوضوح حينما يبدا النص بتفصيل الحديث عن طرائق التعامل العسكري مع العدو. فبعد أن كانت اللغة العسكرية تجمل الكلام عن كيفية البراءة من المشركين، إذا بها: تفصّل ذلك من خلال هذه الفقرات المتتابعة (فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) و (خُذُوهُمْ ) و (اُحْصُرُوهُمْ ) و (اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) . هذه الفقرات الأربع المتتابعة تكشف لنا جمالية النص من حيث توافقها مع الدلالة العسكرية، فالتتابع اللفظي السريع (فاقتلوهم وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ ، وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ ) :

يتساوق مع صرامة الموقف الذي ينبغي أن يسلكه الإسلاميون مع العدو...

كما أنه يمثل (من زاوية البناء العماري للنص) نموّا عضويا لمقدمة السورة التي أجملت - كما أشرنا - مفهوم «البراءة» من العدو، ثم فصّلت ذلك من خلال توضيحها لطرائق القتال.

ولو اتجهنا إلى مبنى آخر من عمارة النص المذكور، لوجدنا أن المطالبة بقتل العدو، وأخذه، وحصره، ورصده: حيثما كان، قد وازنه النص بطرح مفهوم (التوبة) من جديد، حيث قال فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

لنتذكر: أن النص عندما فسح للعدو في مقدمة السورة مجالا هو:

الأربعة أشهر إنما قرن ذلك بمفهوم (التوبة) (فإن تبتم فهو خير لكم) وها هو الآن في القسم الجديد من السورة: يتحدث من جديد عن (التوبة) أيضا، كما أنه بدأ بتفصيل ما أجمله من مفهومها في مقدمة السورة، حيث أضاف إليها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم).

إذن، مضافا لما لحظناه من دلالات جمالية تتصل بالبناء الهندسي للسورة، نلحظ أن (الدلالة الإنسانية) في الموقف العسكري: تبرز من جديد:

ص: 129

حيث يسمح للعدو بتعديل موقفه من خلال «التوبة».

سورة التوبة (9): آیة 6

أكثر من ذلك أن الدلالة الإنسانية تتصاعد لغتها في الموقف الإسلامي حينما نواجه بعدا جديدا منها: عبر متابعة النص حديثه عن التوبة. بهذه الآية الكريمة: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ .

إن تحقيق (التوبة) من الممكن أن لا يتحدد من خلال القناعة بمشروعية المبادىء المعلن عنها بقدر ما يفرضه الخوف مثلا، وهو أمر حرص المشرع الإسلامي على أخذه بنظر الاعتبار في تعامله العسكري مع العدوّ، لذلك سمح للمقاتلين بأن يجيروا الشخص الذي يطلب الأمان منهم: بغية أن يسمع كلام الله، بأن يتفهّم المبادىء التي يحملها المقاتل الإسلامي مثلا، حينئذ ينبغي على المقاتل الإسلامي أن يبلغ المستجير مأمنه: فلا يغدر به، بل يحرص على سلامته تحقيقا للدلالة الإنسانية التي لحظنا مدى نصاعتها في الموقف الإسلامي.

سورة التوبة (9): الآیات 7 الی 8

بدأت سورة (التوبة) بالبراءة من المشركين - كما لحظنا في صفحات سابقة - فمنحت أولا أربعة أشهر فرصة التوبة للعدو، ثم شدّدت عليه بعد المدة المذكورة: لكنها سمحت أيضا بالتوبة، وها هي الآن تمنح فرصة جديدة في مرحلة ثالثة من مراحل الجهاد العسكري المتصل بالتعامل مع العدو من خلال العهود والمواثيق، ولنقرأ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ فَمَا اِسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاٰ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاٰ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ تَأْبىٰ قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فٰاسِقُونَ .

هذا النص - كما هو واضح - يتحدث عن العدوّ ودأبه على عدم مراعاة

ص: 130

العهود وإلى أنه يتحدث بلسانه خلاف ما في أعماقه حيث تستبطن الغدر، ومن ثمّ يقدّم لنا المسوّغ أو الأسباب التي تدفع الإسلاميين إلى البراءة منه ومقاتلته، عدا الفئات التي عاهدهم الإسلاميون حيث طلب النص من الإسلاميين أن يستقيموا لهم ما دام العدو مستقيما، مكررا القول بأن اللّه يحبّ المتقين.

ويعنينا من هذا التلخيص للنص: أن نتناوله من زاوية البناء الهندسي ما دام هدفنا منصبا على دراسة هذا الجانب الفني في نصوص القرآن الكريم.

فالملاحظ هنا، أن النص يتدرجّ فنيّا من مرحلة إلى أخرى من حيث (الأفكار) المطروحة فيه، كما أنه يوازن هندسيا بين مختلف الأجزاء التي تتضمنها (الأفكار) المذكورة. فمن جانب لحظنا تدرجّ المراحل التي قطعتها السورة في تعاملها مع العدو. مرحلة الأربعة أشهر، ثم مقاتلته في حالة عدم التوبة، ثم مرحلة التشدد في قتالهم بعد ذلك. في حالة عدم التوبة في هذه المرحلة أيضا... ثم مرحلة مواصلة القتال: في حالة عدم الاستقامة وتبيين المسوّغات والأسباب في ذلك.

كما لحظنا - من جانب آخر - كيفية التوازن القائم بين جزئيات هذه المراحل مثل تكرار التوبة، وتكرار التأكيد بأن اللّه يحب المتقين، وتكرار الالتزام بالعهود ما دام العدو ملتزما بها... كل أولئك نلحظه في هذا القسم من السورة: حيث كان المحور الفكري الذي يحوم هذا القسم عليه قائما على طريقة التعامل مع العدو من خلال المواثيق والعهود القائمة بينه وبين الإسلاميين.

لكن، لا يزال هذا القسم من السورة متصلا بمحور فكري آخر هو: ربط السلوك العسكري الذي يصدر العدوّ عنه بطبيعة تركيبته الفكرية بشكل عام...

وهذا الربط الفني بين السلوك العسكري القائم على نقض العهود والمواثيق، والسلوك العام له، ينطوي على أهميتين. فنية ونفسية. أما الأهمية الفنية

ص: 131

فتتمثل في الهيكل العماري الذى يصل بين بداية هذا القسم من السورة ونهايته.

وأما الأهمية النفسية فتتمثل في طبيعة الربط بين سلوك جزئي وهو: السلوك العسكري وبين سلوك كلّي هو: التركيبة النفسية للعدو.

سورة التوبة (9): الآیات 9 الی 16

ولنستمع إلى الآيات الكريمة في هذا الصدد: اِشْتَرَوْا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ، إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ لاٰ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاٰ ذِمَّةً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاٰ أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَ لاٰ تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّٰا يَعْلَمِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لاٰ رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ .

لقد ختم القسم الأول من سورة التوبة بهذه النصوص التي قدّمناها. أنها - كما لحظنا - ربطت بين كون العدو لا يرقب إلاّ ولا ذمة في سلوكه العسكري وبين كونه أساسا لا يرقب في أيّ مؤمن إلاّ ولا ذمة، خارج الصعيد العسكري أيضا، حيث قدمت السورة أكثر من شاهد على ذلك، ويلاحظ أنها ربطت في النهاية بين مقاتلة العدو للأسباب المتقدمة وبين مفهوم (الجهاد) ذاته. حيث أشارت النصوص إلى أن الجهاد عملية اختبار من قبل اللّه تعالى. وسنجد أن لهذه الإشارة إلى الجهاد إسهاما فنيا في طرح المفهومات المتصلة بهذا الجانب.

نواجه الآن، المقطع أو القسم الثاني من سورة (التوبة) التي انتظمتها

ص: 132

مقاطع مختلفة يقوم كل منها بطرح مفهومات محدّدة تصبّ - في نهاية المطاف - في الهيكل الفكري العام للسورة. ولنقرأ:

سورة التوبة (9): الآیات 17 الی 19

مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي اَلنّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقٰامَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللّٰهَ فَعَسىٰ أُولٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ * أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ اَلْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ .... .

كان المقطع الأول من سورة التوبة يتحدّث عن العلاقة الاجتماعية القائمة بين الإسلاميين والمنحرفين من حيث التعامل العسكري مع المواثيق والعهود...

أمّا هذا القسم، فيتحدث عن نمط آخر من العلاقة الاجتماعية بينهما إلاّ أنه يصبّ في نفس الهدف الفكري الذي تضمّنه المقطع السابق وهو عزل المنحرفين عن البنية الإسلامية في مختلف أوجه النشاط ومنها الوجه المتصل بالمساجد ومستلزماتها المتنوعة، بصفة أنّ المساجد كانت يومئذ مؤسسة اجتماعية ذات أهمية ملحوظة... لقد أنكر النص على المنحرفين أن يعمّروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، كما أنكر أن يماثل بين نشاطين أحدهما يتّسم بكونه شكليّا أو عاديا مثل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بالقياس إلى النمط الآخر الذي يكتسب أهمية حقيقة وهما: الإيمان باللّه واليوم الآخر والجهاد في سبيل اللّه.

فالأول، يظل نشاطا يرتبط بدوافع ذاتية مثل: الرغبة في تحقيق السيطرة أو المنزلة الاجتماعية كما لا يتطلب تضحية ذات قيمة في النفس أو المال، بينما نجد أن النّمط الآخر يرتبط بدوافع موضوعية وبتضحية في الأنفس والأموال، ونعني به: الإيمان والجهاد في سبيل الله.

ص: 133

سورة التوبة (9): الآیات 23 الی 24

المهم: أنّ النّص القرآنيّ الكريم حينما يحدّد أمثلة هذه العلاقة الاجتماعية بين الإسلاميين وبين المنحرفين ممن شهد على نفسه بالكفر (وهم أهل الشّرك) أو ممّن كان أيمانه في ذلك الوقت أقلّ درجة من سواه، عندما يحدّد النص القرآني أمثلة هذه العلاقة ينتقل بعدها إلى تحديد علاقة أخرى بين الإسلاميين والمنحرفين، ولكن من حيث الولاية أو التعاطف الوجداني، وهو ما توضّحه الآيتان الآتيتان: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا آبٰاءَكُمْ وَ إِخْوٰانَكُمْ أَوْلِيٰاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمٰانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ ... .

هذا النص يتحدث عن قضية وجدانية أولا، هي التعاطف الذي يصدر عادة عن ضعاف الإيمان حيال أقاربهم أو إخوانهم غير المؤمنين كما يتحدث ثانيا عن المتاع النفسي والمادي اللّذين يطغيان على دوافع الإنسان المتصلة بعاطفة الأبوة والبنوّة والزوجية والتملك للمال والأرض ونحو ذلك بحيث يؤثرها ضعاف الإيمان على محبة اللّه ورسوله والجهاد في سبيله.

هنا ينبغي الوقوف فكريا وفنيّا على هذا المقطع القرآني من السورة...

فمن حيث البعد الفكري نجد أن النّص تحدّث عن أهم الدوافع المركّبة في الإنسان مثل: عاطفة الأبوة والزوجية والسيطرة والتملّك سواء أكان ذلك في نطاق المنحرفين أساسا مثل (المشركين) أو في نطاق ضعاف الإيمان، حيث أوضح النص أن أمثلة هذه العواطف لا قيمة لها إذا قيست بدوافع موضوعية هي التعامل مع الله حيث يغيم حيالها أي تعامل دنيوي عابر.

صحيح أن العواطف الذاتية ذات إلحاح وبريق في تركيبة الآدميين إلاّ أن العواطف الموضوعية ك «التعامل مع اللّه» أشد فاعلية من العواطف الذاتية إذا

ص: 134

قدّر للشخص أن يمارس عملية تأجيل لها بحيث تتم عملية تحويل من (الذات) إلى (الموضوع) خلال التدريب حتى ينتهي الأمر إلى أن يتحسّس الشخص المدرّب أنّ الامتاع الموضوعي (التعامل مع اللّه) أشدّ من الامتاع الدنيوي العابر.

المهم: أن هذا البعد الفكري الذي طرحته السورة الكريمة في المقطع الذي نتحدث عنه: قد تمّ (من الزاوية الجمالية أو الفنيّة) من خلال بناء هندسي تتنامى وتتجانس أجزاؤه حيث كان المحور العام للسورة، ونعني به (الجهاد في سبيل اللّه) هو: الهدف الفكري الذي حام المقطع المذكور عليه، كما أن الأفكار التي طرحت فيه تمّ الانتقال فنيّا من أحدها إلى الآخر بنحو بدأ النص فيه بالحديث عن العلاقة بين الإسلاميين وبين سائر أشكال الانحراف (مشركين وضعيفي الإيمان)، من علاقة عسكرية تتصل بالمواثيق والعهود إلى علاقة عاطفية تتصل بالتعاطف مع المنحرفين: كلّ ذلك تمّ من خلال تدرّج فنيّ في الموضوعات التي أشرنا إليها.

***

سورة التوبة (9): الآیات 25 الی 26

المقطع الجديد الذي نواجهه الآن في سورة التوبة هو مخاطبة الله تعالى للإسلاميين: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ فِي مَوٰاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضٰاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ .

جاء هذا المقطع جوابا على مقطع سابق ذكر فيه أنّه ان كانت عاطفة الأبوّة والنبوّة والزوجية والقربى، وحبّ التملك للأموال والأرض أحبّ من الجهاد في سبيل اللّه، فسوف يلحق أصحاب هذه العواطف جزاء ليس في صالحهم. وهذا يعني أن السورة الكريمة سلكت أداء فنيّا خاصا هو: التلويح

ص: 135

غير المباشر بالمعطيات التي افرزها اللّه للإسلاميين في مواطن كثيرة ومنها معركة «حنين» بشكل خاص حيث أنزل اللّه سكينته عليهم وأيّدهم بجنود لم يروها. بكلمة أخرى، أن النّص وكأنّه استهدف أن يوضّح للمجتمع الإسلامي أنّ الجهاد في سبيل اللّه ينبغي أن يكون أحبّ إلى الشخص من ذويه أو دوافعه لأنّ شدائد الحياة لا يمكن إزاحتها إلاّ بدعم من اللّه.

ولا أدلّ على ذلك من شدائد القتال في سبيل اللّه حيث نصر اللّه الإسلاميين في مواطن كثيرة وفي معركة حنين وذلك من خلال الدعم غير المرئي (نزول الملائكة) والدعم النفسي (السكينة).

إذن من خلال الأداء الفنيّ غير المباشر قدّم النص القرآني إيضاحا حيال الصراع الذي يحياه الضّعاف نفسيّا حينما يوثرون عواطفهم الذاتية من موالاة لذويهم ومن لهاث وراء المتاع العابر من مال أو أرض على الجهاد في سبيل اللّه،... حيث أوضح بأنّ «الجهاد» - على عكس ما خيّل للضعاف نفسيا - سوف يقترن بنصر من اللّه بدليل المواطن الكثيرة التي تحقق النصر من خلالها ومنها معركة حنين كما أشرنا.

لكن: خارجا عن الهيكل الفني الذي تمّ الربط فيه بين المقطع الأسبق والمقطع الذي نتحدث عنه الآن. خارجا عن ذلك، يعنينا أن نتجه إلى دراسة الأفكار المطروحة في هذا القسم من السورة طالما تظلّ - من جانب - ذات صلة بالبناء الهندسي للسورة، مثلما تظلّ - من جانب آخر - ذات أهمية بالغة المدى في ميدان الجهاد في سبيل الله وانعكاساته على المجتمع الإسلامي.

لقد أشار النصّ إلى معركة حنين مشدّدا على إبراز ثلاث ظواهر من السلوك العسكري احداها: ضخامة الجيش الإسلامي، والثانية ضيق الساحة عليهم، والثالثة فرارهم من العدوّ. إلا أنّه بالرغم من ذلك. أنزل اللّه سكينته

ص: 136

على المسلمين وتمّ النصر.

والسؤال هو: ما هي انعكاسات الظاهرة الأولى، ونعني بها: الإعجاب بكثرة المقاتلين الإسلاميين.

إن الفارق بين المقاتل الإسلامي وغيره يتمثّل في كون الأول مرتبطا بالتعامل مع اللّه، فالأسباب المادية من ضخامة العدو أو السلاح مثلا لا قيمة لها قبالة الدعم الحقيقي الذي تقدمه السماء للمقاتل الإسلامي. لقد غفل ضعاف النفوس عن فاعلية اللّه تعالى حينما وجدوا أن كثرتهم سوف تغلب العدوّ حيث تحاوروا فيما بينهم من أنّهم سوف لن يغلبوا عن قلّة.... لكن، سرعان ما أجابتهم السماء على ذلك حيث انهزموا سريعا وضاقت الأرض عليهم وولّوا مدبرين...

إن التلميح بهذه الظاهرة له أهمية فنية ونفسية كبيرة كما هو واضح، فمن الجانب الفنيّ هناك معادلة هندسية بنحو غير مباشر بين ضعاف النفوس الذين كانت عواطفهم حيال الآباء والأوالاد والأموال والمساكن أشدّ منها حيال اللّه والجهاد في سبيله حيث يبدو النصّ القرآني وكأنّه يخاطبهم قائلا: كما لم تغن الكثرة العسكرية أولئك الذين أعجبوا بعددهم الكبير حيث انهزموا أمام العدو، كذلك لم تغنكم أموالكم أو ذووكم حيث ستنهزمون أيضا: مادّيا ونفسيّا، ما دام النمطان (أنتم وأولئك) يحيا غائبا عن السماء وفاعليتها الحقيقية في رسم المصائر.

بالمقابل: نجد أنّ النصّ القرآني الكريم يعقب على الهزيمة العسكرية التي لحقت المجتمع الإسلامي في بدء المعركة يعقّب عليها بالإشارة - في نهاية المطاف - إلى تحقيق النصر، أي أنّه في صدد تقديم واحد من الاختبارات العبادية متمثلة في كل من الهزيمة والنصر: الهزيمة بصفتها جوابا على الإعجاب الزائف بالقدرات الذاتية للإنسان، والنصر. بصفته جوابا أيضا على

ص: 137

سلوك المقاتلين الذين عادوا إلى القتال بعدما استجابوا لنداء الرسول (ص)..

إذن: جاء كل من النصر والهزيمة، أو لنقل: جاءت الإشارة في هذا القسم من سورة التوبة إلى معركة حنين، جوابا فنيا لأولئك الذين طبعهم نمط خاصّ من السلوك هو. الضعف النفسيّ متمثّلا في واحدة من الشرائح الاجتماعية التي اضطلعت سورة التوبة برسمها في هذا القسم بعد أن كان القسم الأول من السورة يضطلع برسم (المشركين) وطريقة التعامل العسكري مع الشريحة المذكورة في حين يتحدّث القسم الثالث من السورة عن نمط ثالث.

القسم الجديد من السورة يتحدث عن الكتابيين وهم (اليهود والنصارى)، بعد أن تحدثت السورة عن مطلق المنحرفين في الأقسام السابقة.

سورة التوبة (9): آیة 29

يقول النصّ . قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لاٰ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاٰ يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاٰ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ .

فنيّا: لا نحتاج إلى التعقيب على هذا القسم الذي يتحدث عن المنحرفين الكتابيين. نظرا لوضوح العمارة الهندسية للسورة التي تتناول في كل قسم منها تحديدا لعلاقات اجتماعية بين المؤمنين وأعدائهم بمختلف شرائحهم التي تقدّم الحديث عنها، وها هي السورة تتحدث الآن عن (الجهاد) الذي شكّل بطانة فكرية لكلّ أقسامها، فيما يختص الآن حديثها: بالجهاد حيال الكتابيين. لقد أمر النص بقتالهم، لكنه: استثنى من ذلك، الفئات التي تعطي (الجزية).

إن أهمية هذا النمط من مقاتلة (الكتابيين) تتمثل في المسوّغات العامة لعملية الجهاد. فما دام الكتابيون - كما يقول النص - لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، حينئذ يتعين قتالهم بنفس المسوّغات التي تدفع الإسلاميين إلى قتال غيرهم من المنحرفين

ص: 138

ممن تقدّم الحديث عن البراءة منهم.

إلا أن مجرّد انتسابهم إلى (الكتاب): أكسبه اللّه نمطا من الخصوصية بحيث تميّزهم عن مطلق الكافرين، وذلك: من خلال تحديد علاقة معيّنة بينهم وبين الإسلاميين، هي: مسالمتهم من خلال دفعهم ضريبة مالية (الجزية).

ويلاحظ أن النصّ القرآني الكريم ربط عملية (الجزية) بمفهوم نفسي هو (الذلّ ) الذي ترشّح به عملية إعطاء الضريبة (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) أي: أذلاء وإلاّ فإن مقاتلتهم - وهم يصرّون على موقفهم المنحرف - يظل مرتبطا بنفس المسوغات التي تطبع قتال الكافرين. وهذا ما أوضحه النصّ القرآني حينما تابع رسمه لهذه الشريحة الاجتماعية من الأعداء، قائلا:

سورة التوبة (9): آیة 30

وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ... .

ليلاحظ: كيف أنّ النصّ القرآني الكريم ربط (من زاوية البناء الفنّي للسورة) بين سلوك الوثنيين الذين تحدثت عنهم المقاطع السابقة من السورة وبين سلوك هؤلاء الكتابيين، حيث جعل مقاتلة هؤلاء مماثلا لمقاتلة أولئك:

نظرا لتماثل الموقفين الفكريين لدى الوثنيين والكتابيين. لنستمع من جديد إلى هذه الفقرة: ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ (أي: يشابهون) قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ .

إذن، التماثل الفكري بين عبدة الأصنام الذين طالب النص في المقاطع السابقة بمقاتلتهم، وبين الكتابيين الذين يتحدث النص عنهم في المقطع الحالي من حيث كونهم يصدرون عن موقف وثني أيضا هو إشراك (الابن) المزعوم في عملية الخلق. هذا التماثل الفكرى بين الوثنيين والكتابيين، يفسر لنا - كما تحدّث النص بذلك صراحة - تماثل الموقف العسكري حيالهما أيضا، بحيث ينعين على الإسلاميين مقاتلتهم (في حالة عدم إعطاء الجزية) بنفس المسوّغ

ص: 139

الذي يدفع الإسلاميين إلى مقاتلة عبدة الأصنام... كما يفسّر لنا (من حيث البعد الهندسي للسورة) أسرار التجانس الفني بين أجزائها التي يتحدّث كل منها عن شريحة اجتماعية خاصة تتضمن المواقف المتجانسة بينهم أيضا.

سورة التوبة (9): آیة 31

وقد تابع النص إلقاء مزيد من الإنارة على موقف الكتابيين فكريا، فيما قال عنهم: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ .

واضح في أن النصّ شدّد على الأحبار والرّهبان بصفتهم يمثلون التوجيه الضالّ للعامة منهم،... وحسب النصوص التفسيرية فإن هؤلاء كانوا يحرّمون ما أحلّ اللّه ويحلّون ما حرّم اللّه، مما استتبع تقليد العامة لأفكارهم... كما أنهم (أي الأحبار والرهبان) مارسوا بالنحو الذي تحدثت السورة عنه، أنماطا أخرى من السلوك المنحرف من أكل لأموال الناس وكنز للذهب والفضة، وهو أمر يكشف لنا - فنيّا - عن الصلة بين الانحراف النفسي متمثلا في أكل الأموال بالباطل وكنزها وبين الموقف الفكري المنحرف لديهم، بمعنى أننا سوف نكتشف بصورة غير مباشرة (وهو ما يطبع النصوص الفنيّة) طبيعة الصلة بين سلوك الشخص المنحرف وانعكاساته على السلوك الفكري: حيث أن تحريم المنحرفين لحلال اللّه أو العكس إنما يصدر عن موقف شخصي هو اللّهاث وراء الحياة الدنيا وتحقيق الأشباع بطرق غير مشروعة، وليس نابعا من دراسة عقلية، على النحو الذي سردته الآيات المتقدمة التي وقفنا عليها.

نتجه الآن إلى قسم جديد من سورة التوبة، وهو القسم الذي يحدّث عن سلوك (المنافقين) في صعيد النشاط المتصل بالجهاد في سبيل اللّه، فيما قلنا انه يشكّل البطانة الفكرية لسورة التوبة.

لقد تحدثت السورة عن جميع الشرائح الاجتماعية في ذلك العصر:

ص: 140

وثنيين وكتابيّين ومتأرجحين وضعاف الإيمان. ولكن: يلاحظ أنّ النصّ قبل أن يتجه إلى الحديث عن (المنافقين) أو لنقل: بعد أن تحدّث عن الكتابيّين ومحاولة أحبارهم ورهبانهم تحريم ما حلّل تعالى وتحريم ما حرّمه إلى آخر ما ورد من الحديث عن سلوكهم،... أعقب ذلك بطرح عملية تحريم القتال في الأشهر الحرم:

سورة التوبة (9): الآیات 36 الی 37

إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّٰهِ اِثْنٰا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ ، مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ فَلاٰ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قٰاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيٰادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عٰاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عٰاماً لِيُوٰاطِؤُا عِدَّةَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ فَيُحِلُّوا مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمٰالِهِمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ .

لو نظرنا إلى هذا المقطع من زاوية قيمه الفكرية لوجدنا أنّه واحد من مفهومات الجهاد في سبيل الله من خلال التعامل مع المواثيق العسكرية، فالعدو بالرغم من معرفته بأنّ المجتمعات في ذلك العصر كانت تعظّم الأشهر الحرم بحيث لا يقتل الشخص حتى قاتل أبيه فيها، بالرغم من ذلك كان يتلاعب بهذه المواثيق وفقا لما تفرضه المصلحة غير المشروعة له فيؤخّر التحريم إلى «صفر» مثلا بدلا من «محرّم» مما يترتب على ذلك - ليس إبطال المواثيق العسكرية فحسب - بل حتى الأعمال العبادية الصرفة مثل: الحجّ حيث يتأخر إلى محرم أو صفر مثلا، وهكذا.

حيال ذلك، طالب النصّ القرآني الكريم بعدم تجاوز حرمة الأشهر المذكورة، مبيّنا أنّ التلاعب في ذلك يستتبع إضلال الناس وترتيب النتائج السلبية التي أشرنا إليها على ذلك.

هذا من الزاوية الفكرية للنص.

أما من الزاوية الفنية وصلة هذا المقطع الفكري بما سبقه من حيث

ص: 141

الهيكل البنائي للسورة، فيتحدّد في جملة من النقاط، منها. إنّ النص في حديثه عن الكتابييّن كان في صدد التعريف بسلوكهم من حيث كونهم لاٰ يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاٰ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ كما تقول الآية الكريمة، ومن حيث كون أحبارهم ورهبانهم أحلّوا لأتباعهم ما حرّم اللّه وحرّموا ما أحلّ اللّه، كما تقول النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، وهو أمر يتجانس ويتوازن فنيّا مع نفس السّلوك الذي عرضه القرآن الكريم في هذا المقطع الذي تتحدّث عنه حيث جاء التلاعب بالمواثيق الحربية وبمراسم الحج متماثلا في تحليله وتحريمه للأحكام مع سلوك الكتابيين، بخاصة أن النص القرآني الكريم أوضح بأن الكتابيين (اليهود والنصارى) كانوا (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) أي: يشابهون الوثنيين في عبادتهم للأصنام وذلك بإشراكهم (الابن) المزعوم في ظاهرة (التوحيد)... وهذا يعني أن النص القرآني الكريم حينما يشير إلى هذا التماثل بين موقفي الوثنيين والكتابيين، إنما يردفه بعرض سلوك آخر لوثنيين يشابهون به سلوك الكتابيين، وهو أمر له جماليته في هندسة السورة الكريمة حيث يجيء «التقابل» بين السلوكين من جانب وعرض أحدهما على الآخر عكسيا من جانب آخر، بمثابة تنوعّ جمالي يحقق الإمتاع الذي ترشح به نصوص الفن وافتراقها عن النصوص العادية.

وأيا كان الأمر، فإن النص القرآني الكريم يختتم بهذا المقطع: حديثه عن الوثنيين والكتابيين، ليتجه بعد ذلك إلى الحديث عن شريحة اجتماعية منحرفة أيضا، وهي: فئة (المنافقين) الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر أو الانحراف.

وإذا كان الحديث عن الوثنيين والكتابيين جاء في سياق (الجهاد في سبيل اللّه) - كما لحظنا، فإن الحديث عن المنافقين يجيء بدوره في سياق عملية (الجهاد) أيضا: طالما كانت عملية الجهاد في سبيل اللّه تمثّل الفكرة

ص: 142

الرئيسة التي تقوم سورة التوبة عليها. كلّ ما في الأمر، إن كل فئة منحرفة يتم التعامل الإسلامي حيالها: من خلال سلوك خاص يتصل بعضها بالمواثيق والهدن العسكرية، وبعضها «بالجزية»، وبعضها: بالقتال مطلقا، وبعضها بالممارسات الأخلاقية التي يسلكها الإسلاميون. إيجابا أو سلبا مع المنحرفين، على النحو الذي تقدم الحديث عنه سابقا.

تتضمن سورة التوبة في القسم الجديد الذي نتحدث عنه الآن، واحدا من الجوانب المتصلة بمفهوم (الجهاد في سبيل اللّه) فيما قلنا ان (الجهاد) هو الرافد الفكري الذي تصب فيه موضوعات السورة. هذا الجانب هو: التخاذل الذي يصدر (المنافقون) عنه في مواجهتهم عملية (الجهاد). وقد مهّد هذا القسم من السورة بحديث الجهاد نفسه من حيث المطالبة به وحثّ الناس عليه،

سورة التوبة (9): الآیات 38 الی 40

حيث قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ اِثّٰاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَمٰا مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّٰ قَلِيلٌ إِلاّٰ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاٰ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * إِلاّٰ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّٰهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثٰانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمٰا فِي اَلْغٰارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰاحِبِهِ لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا، فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلىٰ وَ كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

إن هذا التمهيد يتضمّن الإشارة إلى مطلق المتخلفين عن الجهاد، مشفوعا بالتهديد. والسرّ الفني وراء ذلك هو: أنّ النصّ القرآني الكريم ما دام يستهدف تخصيص هذا القسم من السورة بعرض سلوك (المنافقين) الذين يظل التخلّف العسكري أبرز معالمه، حينئذ فإن التمهيد له (من زاوية البناء الهندسي للسورة) بحديث عن التخلف بعامة: يشكل تنمية عضوية لهذا المفهوم،

ص: 143

بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن عملية التخلّف عن الجهاد لا يصدر عنه عادة إلاّ من كان مريض النفس أو الفكر، لذلك فإن ثمة عنصرا مشتركا بين ضعاف الشخصية: إسلاميا وبين المنافقين في هذا الميدان من السلوك وإن كان التفاوت في الدرجة بينهما من الوضوح بمكان: بصفة أن المنافقين يجسّدون أعلى درجات الانحراف، بعكس ضعاف الإسلاميين الذين لا يبلغون درجة الانحراف عند المنافقين.

المهم، أن هذا التمهيد بالحديث الموجّه إلى المسلمين، صدّره النصّ بالتساؤل أولا: لماذا تميلون إلى الدّعة والإقامة في مساكنكم ؟ وبالتساؤل ثانيا. أرضيتم بمتاع الحياة الدنيا دون الآخرة، مع أن متاع الدنيا قليل ؟ ثم بتهديدهم بأنّ اللّه بمقدوره أن يستبدل قوما غيركم، وبتذكيرهم بأن اللّه قادر على أن يحقق النصر دون الحاجة إليهم: كما حققه بالنسبة لمحمد (ص) غداة هاجر إلى المدينة حيث انتصر على المنحرفين في جميع مراحل الرسالة، بدء من عملية الغار التي أشار النص القرآني الكريم إليها، وانتهاء بما نعرفه جميعا من الفتوحات في هذا الميدان.

ومن البين أن هذا التمهيد سوف تكون له جملة من الانعكاسات على الأجزاء الأخرى من سورة التوبة بحيث يمكن القول: ان طرح مفهومات من نحو (إيثار المتاع الدنيوي) (استبدال قوم بآخرين) (تحقيق النصر بدون الحاجة إلى المتخلّفين)... الخ. هذه المفهومات تشكّل مبادىء فنيّة تلقي بإنارتها على الأجزاء اللاحقة من السورة مما يكشف لنا جانبا من الإحكام العماري للسورة كما قلنا، وهو أمر نضطر إلى أن نشدد عليه ما دام هدفنا منصبا في هذه المباحث على دراسة النص القرآني الكريم من خلال بناء النص بأكمله وعلاقة أقسامه جميعا واحدا بالآخر.

المهم، أن النص القرآني الكريم ختم هذا التمهيد باية: تمثل الحثّ على

ص: 144

الجهاد بعد أن كانت الآيات السابقة تقوم بمهمة التذكير من جانب والتهديد من جانب آخر.

سورة التوبة (9): آیة 41

تقول الاية: اِنْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالاً وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

الحث على الجهاد في هذه الآية الختامية يشكّل تتويجا لكل مستويات الطرح لمفهوم «الجهاد» الذي مهّد له بالمقدمة المشار إليها، حيث أوضحت الآية عملية (النفر) بمستوييه: الخفيف والثقيل، أي - وفقا للنصوص المفسّرة - النفر: شبانا وشيوخا أو أغنياء وفقراء أو عزابا ومتزوجين، الخ، فضلا عن الجهاد بنمطيه: الأموال والأنفس، وهذا يعني أن النص القرآني الكريم شدّد على الجهاد في سبيل اللّه بكل مستوياته وأنماطه وهو ما تستهدفه السورة أساسا عبر طرحها لمختلف الأفكار المتصلة بهذا الجانب، بما في ذلك:

رسمها للفئات الاجتماعية المتنوعة التي بدأتها بالوثنيين، فالكتابيين، فالضعاف فكريا ونفسيا، وأخيرا بفئة (المنافقين) الذين سيتكفل القسم الجديد من سورة التوبة بعرض سلوكهم المنحرف حيال عملية (الجهاد).

يبدأ النص القرآني الكريم برسم سلوك «المنافقين» في هذا القسم الذي نتحدث عنه، دون أن يعرّفنا هوياتهم، بل احتفظ بذلك ليكشفه في مكان آخر من السورة تحقيقا لعنصر (التشويق الفني) في رسم الشخصيات، فضلا عن أنّ الحديث عنهم جاء في سياق الكلام على ظاهر التخلّف عن سوح الجهاد:

حيث يشترك ضعاف الإيمان أيضا في عملية التخلّف المذكورة، مما يتطلّب التدرجّ الفني في الكشف عن هوياتهم إلى حين الانتهاء من رسم سماتهم.

سورة التوبة (9): الآیات 42 الی 43

لقد رسمهم النص بهذه السمة أولا: لَوْ كٰانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ

ص: 145

يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكٰاذِبِينَ .

الخطاب موجّه إلى النبيّ (ص)، ودلالاته تشير إلى أنّ فئة من الناس: لو كان النبيّ (ص) يدعوهم إلى (غنيمة) عسكرية قريبة إليهم: لاستجابوا له، ولكن بما أن ساحة المعركة بعيدة: حيئنذ لا أمل في إجابتهم... لذلك نجدهم يحلفون باللّه بأنهم لو استطاعوا ذلك، لساهموا في المعركة.

النص القرآني، لم يقل لنا مباشرة: ان النبيّ (ص) كان يدعو هذه الفئة إلى الاشتراك في إحدى المعارك وهي (معركة تبوك) البعيدة عن عاصمة الإسلاميين، بل أن المتلقي (المستمع أو القارىء) يستخلص ذلك من خلال الحوار الفنيّ الذي صيغ بنحو تتكشف من خلاله طبيعة الأحداث، حيث نجد أن الحوار المذكور ينطوي على خطاب من اللّه تعالى للنبيّ يقول له لَوْ كٰانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً لاَتَّبَعُوكَ حيث نستنتج واقعة سابقة قد حذفها الحوار هي أنّ النبيّ (ص) قد حثّ جماعة على القتال. كما أن هذه الجماعة لا تزال غير محددة في ذهن المتلقّي، لكن ما أن نتابع الخطاب حتى نستكشف تدريجا هوية الفئة المذكورة...

هنا سوف نتابع الوقوف على سمات هذه الفئة المنحرفة دون أن نقرن ذلك بالحديث عن الصياغة الفنية للنص: نظرا لانطواء كل آية - بما تتضمنه من حوار أو رسم شخصية - على مادة غنيّة من سمات الفن فيما يتطلب الوقوف عليها جهدا يصرفنا عن إلقاء الإنارة على الهيكل العام للسورة حيث نحرص على إبراز هذا الجانب العماري منها فحسب.

ومهما كان، فإن أوّل رسم لسمات هذه الجماعة، متمثلا في كونهم سوف يستجيبون لنداء النبيّ في حالة كون المعركة لا تكلّفهم أدنى جهد بقدر ما يفيدون منها في كسب الغنائم الحربية مثلا... من هذا الرسم، نستخلص

ص: 146

أن هذه الجماعة تنتسب إلى (المنافقين): بصفة أن (النفعية) هي السمة المميّزة للنفاق. صحيح أن ظاهرة (جر المنفعة) تطبع غالبية الفئات المنحرفة، إلا أن تكثيف الكلام عليها والبدء بذكرها: ثم متابعة ذلك بمزيد من إلقاء الضوء عليها: يكشف لنا أو لا أقل يجعلنا نتبين فنيا بأن الجماعة المذكورة تنتسب إلى «النفاق» بخاصة أن النص ذكر لنا مباشرة بأنهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ ) قائلين (لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ ) ، حيث أن (الحلف) باللّه يفصح عن كون الشخصية تظهر شيئا وتستبطن شيئا آخر وهي سمة (النفاق)، فهؤلاء يظهرون أو يفتعلون سمة الإيمان من خلال حلفهم باللّه تعالى، ومن خلال ادعائهم بأنهم لو استطاعوا المساهمة في القتال: لفعلوا، في حين يبطنون الكفر من خلال لهاثهم وراء (جر المنفعة، فحسب: تبعا لأعماقهم التي فضحها اللّه بقوله تعالى (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك).

إذن، نستخلص أنّ هذه الفئة التي بدأ النص القرآني الكريم بعرض سماتها بهذا النحو أنها فئة «المنافقين». بل أن الآية التي عاتبت النبيّ (ص) على سماحه لهم بعدم المشاركة تكشف بما لا لبس فيه بأن (النفاق) هو الطابع الذي يسم هذه الجماعة. قال اللّه تعالى عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكٰاذِبِينَ .

واضح، أن (الكذب) هو المظهر التعبيري الكاشف عن (النفاق) حيث طلب اللّه تعالى من النبيّ أن يفرز (الكاذب) عن (الصادق) في ادعائه، أي الكاذب عدم استطاعته المشاركة في القتال.

سورة التوبة (9): الآیات 44 الی 45

أكثر من ذلك، ما أن نتابع النص حتى تواجهنا آيتان جديدتان تكشفان بنحو لا مجال فيه لأي تردّد من أن (النفاق) هو الطابع العام للجماعة المذكورة، ولنقرأ: لاٰ يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمٰا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ

ص: 147

وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتٰابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ .

إن هذه الفقرة الأخيرة وَ اِرْتٰابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ : تشكّل ملاحظة عيادية في فهمنا لشخصية (المنافق)، بصفة أنّ (الشك) الذي يطبع أعماق المنافق يدفعه إلى أن يتردد أو لنقل: يدفعه إلى مواجهة (الصراع) في الموقف. حيث يتمزق بين إقدام أو إحجام في تجاوز الموقف، إنه - من جانب - لا يملك يقينا بالموقف الأخروي (لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) ، كما أنه - من جانب آخر - يتطلّع إلى (جرّ المنفعة) الدنيوية (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك)، وحيال ذلك لا بد أن يتمزّق نتيجة (الصراع) حينما يواجه موقفا جديدا هو: الذهاب إلى ساحة القتال، البعيدة عنه (معركة تبوك) حيث تتناهبه نوازع شتى. من إمكانية جر المنفعة، وبعد الشقة (وَ لٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ ) ، ثم بما يستتبع ذلك من حلف باللّه وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ ثم بما يقترن به من (خوف) الفضيحة لسلوكه (على نحو ما يحدثنا القرآن الكريم به في مقاطع لاحقة من السورة) بحيث يجعله مترددا في ريبه (وَ اِرْتٰابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) بالشكل الذي تقدم الحديث عنه.

سورة التوبة (9): آیة 46

قال تعالى في معرض كلامه على المتخلّفين عن التوجه إلى ساحة القتال، ونعني بهم: المنافقين الذين استأذنوا النبيّ (ص) في عدم الخروج:

وَ لَوْ أَرٰادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ .

هذه الآية تشكل امتدادا لما سبقها من النصوص التي بدأت برسم شخصيات «المنافقين» دون أن تذكرهم بسمة (النفاق): لغرض فنيّ هو التدرجّ في ذكر سلوكهم واحدا بعد الآخر تمشيا مع ما يتطلبه البناء العماري للسورة

ص: 148

من تنام وترابط عضوي لها، فقد سبق للنص القرآني الكريم إن ذكر جانبا من سلوك هؤلاء المتخلفين عن سوح الجهاد مثل: كونهم يحلفون باللّه بأنهم لا يستطيعون المشاركة، حيث عاتب اللّه تعالى نبيّه (ص) بتصديق ادعائهم.

هنا، يقدّم النص القرآني دليلا فنيا على ذلك هو: كونهم (لَوْ أَرٰادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ) ، أما أن يكتفوا بمجرد الكلام فهذا يعني كذب ادعائهم، ولذلك عاتب اللّه تعالى نبيّه قبل ذلك - كما قلنا - قائلا لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكٰاذِبِينَ : بمعنى أن الجواب الفني على العتاب المتضمن تبيين الصادق من الكاذب، هو: أنهم لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة.

لكن خارجا عن هذا الجانب الفني: يبدأ النص القرآني الكريم بمرحلة جديدة من الرسم لهذا النمط المتخلف عن ساحة المعركة، مبيّنا أن مساهمتهم في المعركة - إذا قدّر ذلك - لم ينطو على أية مصلحة إسلامية، بل على العكس: أنّ مشاركهم في ساحة القتال تستتبع أضرارا عسكرية. لقد بيّن النص القرآني، أولا أن اللّه تعالى كره اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ، أي: أن معرفة اللّه سلفا بما تنطوي عليه أعماقهم من مشاعر كاذبة وعدوانية، قد استتبعت أن يجعلهم محرومين عن المساهمة في القتال بحيث لم يوفّقهم لذلك.

هنا ينبغي أن نقف عند الفقرة الحوارية التي تقول: (وَ قِيلَ : اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ) . فالملاحظ أن المعنيين بشؤون التفسير احتمل بعضهم أن يكون القائل هو النبيّ (ص) على وجه التهديد لهم، واحتمل البعض أن يكون القائل:

أصحابهم الذين منعوهم من المشاركة في القتال. أما في تصورنا، فإن هذا لحوار من المحتمل جدا أن يكون على وجه الحوار الداخلي أو الموجّه إليهم من اللّه تعالى. وأهمية مثل هذا النمط من الحوار تتصل بجانب فنيّ هو:

ص: 149

انطواؤه على دلالات تتناسب مع ما قلناه من ان معرفة اللّه سلفا بسلوكهم القائم على الكذب والعدوان، استتبعت أن يكرههم اللّه، حيث تقول الآية الكريمة وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ . إن كون اللّه تعالى قد كره انبعاثهم: يظل أمرا غيبيا بدليل العتاب الذي وجهه اللّه لنبيّه (ص) بتصديق كلامهم، كما أن كون اللّه قد ثبطهم عن القتال، يظل أمرا غيبيا بحيث مسح من أعماقهم نزعة الخير وطبع على أفئدتهم بحيث حجزها ذلك عن المشاركة في القتال، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفقرة القائلة (وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ) لا بد أن تكون امتدادا لعنصر غيبي هو: مخاطبتهم على وجه (المجاز): إذا سمح لنا باستخدام اللغة البلاغية، وأمّا إذا نقلنا الأمر إلى اللغة القصصية، فيمكن القول بأن الخطاب المذكور هو حوار انفرادي من نحو (وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ ... الخ) أي: أن إرادة اللّه تعالى شاءت أن يغور الماء كما أن إرادته شاءت أن يقعد هؤلاء مع القاعدين الذين لم يوفقوا لعمل الخير.

المهم، إن الحوار المذكور يتضمن - في تصوّرنا الفني - دلالة جمالية بالغة القيمة: من حيث كونها تتناسب فنيّا مع واحدة من ظواهر التعامل: تعامل اللّه مع عباده من خلال معرفته سلفا بما سوف يختارونه من سلوك، وتكييف مختلف ممارساتهم وفق المعرفة المشار إليها بحيث يوفّق البعض ويضلّ البعض الآخر تبعا للتكييف المذكور.

سورة التوبة (9): آیة 47

وأيا كان الأمر، فإن النص القرآني الكريم: بعد أن أشار إلى أن الله تعالى كره انبعاث هؤلاء المأذون لهم بعدم الخروج إلى ساحة المعركة، اتجه النص حينئذ إلى تبيين المصلحة العسكرية في تخلّفهم: حيث أوضح قائلا: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مٰا زٰادُوكُمْ إِلاّٰ خَبٰالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلاٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ معنى ذلك أن هؤلاء المتخلّفين عن ساحة

ص: 150

المعركة، لو قذر لهم أن يشاركوا فيها لصدر منهم مزيد من الشر والفساد والجبن، كما أنهم سوف يمارسون أعمالا تتصل بتفرقة المقاتلين وتثبيط هممهم: بخاصة، وأنه - كما يقول النص - (وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ ) أي:

الضعاف نفسيا أو فكريا ممن يتأثر بكلامهم، فينعكس ذلك سلبيا على سير المعركة ونتائجها.

نستخلص من ذلك، أن تخلّف هؤلاء عن المشاركة في المعركة، ينطوي على مصلحة عسكرية لجانب الإسلاميين. كما أنه (من الزاوية الفنيّة) يشكل جوابا على الفقرة الحوارية (وَ قِيلَ : اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ) بصفة أنّ قعودهم يظل في صالح الإسلاميين كما قلنا، فضلا عن أنه ينعكس على مصائر المتخلفين أنفسهم بالنحو الذي سنتحدث عنه لاحقا إن شاء اللّه.

(لحظنا أن القرآن الكريم عند رسمه لسلوك المنافقين الذين أذن لهم بعدم المشاركة في سوح الجهاد - أشار إلى أنهم لو قدّر لهم المشاركة في المعركة لترتب على ذلك ضرر عسكري يتمثل في تفرقتهم للكلمة وفي صدور الفساد والشرّ والجبن عنهم)...

سورة التوبة (9): آیة 48

والآن: يقدم النص القرآني الكريم دليلا على ذلك، يتمثل في تجربة سابقة للمنافقين، يقول النص مخاطبا النبي (ص): لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ ...

خارجا عن النصوص المفسّرة، يمكننا (من الزاوية الفنية) أن نقول: إن هذه الآية تقدّم دليلا تجريبيا على أن المنافقين سبق لهم أن مارسوا عمليات شريرة في نطاق المعارك، ولكن اللّه خذلهم وكان النصر لصالح الإسلاميين.

وهذا الدليل التجريبى يشكّل جوابا فنيا لآية سابقة تقول لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مٰا زٰادُوكُمْ إِلاّٰ خَبٰالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلاٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ .

ص: 151

أما في نطاق النصوص المفسّرة، فإن الأمر يتضح بجلاء حينما تنقل لنا هذه النصوص بأن الدليل الحسي السابق كان في معركة (أحد) حينما انسحب أحد كبار المنافقين ومعه ثلث الناس قبل أن يصلوا إلى ساحة المعركة - حيث استثمر هذا المنافق عدم التزام الإسلاميين باقتراحه العسكري القاضي بأن يبقى الجيش الإسلامي داخل المدينة المنوّرة بدلا من الخروج إلى ساحة (أحد)، فحث قسما كبيرا من الجند على الانسحاب، مستهدفا بذلك: الفتنة، وفقا لما وصفته الآية الكريمة بقولها: (لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ) ولكن - رغم ذلك - (جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ ) .

وهذا نموذج واحد من سلوك المنافقين (في حالة مشاركتهم العسكرية)، وهو طلب الفتنة ابتغاء البحث وراء الغنائم (لَوْ كٰانَ الأمر عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً) . وأمّا خارجا عن ذلك، فإن تقديم الأعذار والهروب من المشاركة في ميادين القتال يظل هو الوجه الآخر من سلوكهم...

لقد قالوا من قبل (لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ ) إلى ساحة القتال، ولكنّ اللّه كره انبعاثهم فثبطهم. وها هم الآن، يقدّمون أو يصطنعون مسوّغا آخر لعدم المشاركة في المعركة. يقول النص:

سورة التوبة (9): آیة 49

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لاٰ تَفْتِنِّي أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ .

إن هذا الكلام يظل في الذروة من السلوك القائم على مفهوم (النفاق)، حيث نجد أنّ من يطلب (الإذن) من النبيّ (ص) بعدم الخروج إلى ساحة القتال، يلتمس عذرا يبدو وكأنه مشروع كل المشروعية، ألا وهو عدم الوقوع في الفتنة، أي عدم الوقوع في مخالفة مبادىء اللّه...

المهم: أن النص القرآني الكريم حينما يتابع رسمه لشخصيات المنافقين، إنما ينتخب من نماذج السلوك ما يفصح عن أشدّ مستوياته تعبيرا

ص: 152

عن النفاق: حيث رسمهم (نفعيين) صرفا لا يتحركون إلا من خلال الظفر بغنيمة عسكرية، ورسمهم (عدوانيين) صرفا لا يتحركون إلا لتفرقة الكلمة، ورسمهم (كذّابين) صرفا. يصطنعون الخوف من وقوعهم في مخالفة أوامر الله وهم أشد أعداء اللّه...

وها هو النص القرآني الكريم يرسمهم الآن بسمة عامة يختم بها المقطع القرآني الخاص بمعالجة الموقف العسكري الذي يتحرك المنافقون من خلاله،

سورة التوبة (9): آیة 50

وهو قوله تعالى مخاطبا النبيّ (ص): إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنٰا أَمْرَنٰا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ .

واضح، أن هذه الآية الكريمة تمثل موقعا فنيّا له أهميته من حيث البناء الهندسي لهذا القسم من السورة. فبها يختتم المقطع المتمثل بسلوك المنافقين في صعيد التعامل العسكري، كما أنها تلخص حصيلة البناء النفسي لشخصية المنافق في التعامل العسكري المذكور. أنها توضح لنا أن استجابة الألم والفرح في شخصية المنافق: تقترن بمشاعر (الكراهية) بنحو عام للمبادىء الإسلامية المتمثلة في شخصية النبيّ (ص)، فهو - أي المنافق - يتألم حينما يحقق الإسلاميون نصرا عسكريا، و يفرح: حينما تنزل الشدّة بالإسلاميين، يفرح أولا لمجرد مشاهدته نزول الشدة بالإسلاميين، ويفرح أيضا: لنجاته هو من الشدة المذكورة.

ومن البيّن أن سمة (الكراهية) تبلغ ذروتها عند المرضى، حينما لا يكتفن بتحسس اللذة من خلال مشاهدتهم آلام الآخرين بل يغمرهم الفرح الأشد حينما يسلمون هم من شدّة متوقعة، وهذا ما أوضحه النص القرآني الكريم بجلاء حينما نقل لنا حوارهم مع أنفسهم أو جماعتهم: (وإن تصبك مصيبة يقولوا - وهذا هو الحوار - قد أخذنا أمرنا من قبل)، ثم (يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ ) .

ص: 153

و أيا كان، فإن مشاعر (الكراهية) التي تطبع أعماق المنافقين، تظل - من حيث الفاعلية - في نطاق داخلي لا يتجاوز دائرة شخصياتهم، أما انعكاساتها على الصعيد العسكري، فأمر لا أثر له البتة، بالنحو الذي يوضّحه النص القرآني الكريم.

سورة التوبة (9): الآیات 51 الی 52

قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا هُوَ مَوْلاٰنٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ .

هذه الملاحظة، أو التعقيب المذكور، أي. قوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا... الخ تنطوي على حقائق فكرية وفنيّة بالنسبة إلى السياق الذي وردت فيه فضلا عن انطوائها مطلقا على حقائق عبادية بالغة القيمة...

أما بالنسبة إلى حقائقها العبادية. فهي تتضمن طرحا لصياغة المصائر البشرية دنيويا وأخرويا...، إسلاميين ومنحرفين... فهناك (في اللوح المحفوظ) كتب اللّه الآجال: من حيث قصرها وطولها... من حيث انتسابها إلى سبب من القتل أو حادث آخر أو إفضاء طبيعي إلى الموت... كل أولئك وفقا لمعرفة اللّه سلفا بما سوف يسلكه الآدميون من سلوك قائم على عنصر الاختيار خيرا أو شرا، ثم تكييف المصائر وفقا للسلوك المذكور من جانب ووفقا لمتطلبات حكمة السماء من جانب آخر.

المهم، في الحالات جميعا تظل المصائر البشرية - تبعا لما أوضحناه - مصاغة من قبل اللّه تعالى وليس انعكاسا لرغبات الآدميين بما يواكبها من تمنيات إيجابية أو سلبية، من أطراف نظيفة أو منحرفة... الخ.

وإذا كان الأمر كذلك، حينئذ: لو عدنا إلى السياق الذي وردت فيه هذه الحقيقة العبادية العامة للحظنا - من الزاوية الفنية - أن النص القرآني الكريم

ص: 154

طرح مفهوما عاما أو كليا من خلال الخاص أو الجزء، وهذا الخاص أو الجزء هو: قضية (المنافقين) عبر سلوكهم القائم على الاستجابة الشاذة التي صدرت عنهم حيال النبيّ (ص) والإسلاميين متمثلة في فرحهم بالشدّة التي تلحق الإسلاميين وفي استيائهم من النصر الذي يلحق الإسلاميين حيث أجابهم اللّه تعالى بأن ما يلحق الإسلاميين: نصرا أو شدة إنما هو وفق إرادة السماء وليس انعكاسا لرغبات المنافقين الكريهة.

وهذا جانب من القضية.

أما الجانب الآخر فيتضمّن تفصيلا لما أجمله النص القرآني الكريم في هذه القضية، حيث أمر محمدا (ص) بأن يقول لهم: (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا: إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ؟؟) وأن يقول لهم بعد ذلك: (نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا) وأن يقول لهم في النهاية: (فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) . الحقّ : أن المتلقّي ليدهش (من حيث القيم الفنية والنفسية) لهذا الجانب من الطرح القرآني الكريم... فبغض النظر عن المبنى الهندسي ألذي وازن بين جزئيات هذا القسم من السورة من حيث تناميها وترتّب أحدها على الآخر، نجد. أن هذه الإجابة تشكّل (مثيرا) مؤلما أشدّ الإيلام بالنسبة إلى المنافقين. فالمنافقون قد تركهم النص القرآني قبل قليل وهم يتولون (فرحين) بالشدة التي تصيب الإسلاميين: قائلين لأنفسهم أو جماعتهم (قَدْ أَخَذْنٰا أَمْرَنٰا مِنْ قَبْلُ ) ، أي: كنا على حذر حيث لم يصبنا سوء في هذه المعركة أو تلك.

لكن، سرعان ما مسح هذا الفرح من أعماقهم عندما باغتهم النص القرآني الكريم بالحقيقة المذكورة وهي:

أولا: هل تنتظرون لنا إلاّ واحدة من نعمتين كبيرتين هما: النصر العسكري أو النصر الأخروي ؟.

ثانيا: بينا نحن نتربص بكم وننتظر لكم أن تصيبكم واحدة من نقمتين

ص: 155

كبيرتين هما. العذاب الأخر وى أو العذاب الدنيوي بأيدينا.

ثالثا: إذن انتظروا أنتم بما سيصيبنا من إحدى النعمتين، ونحن ننتظركم ما يصيبكم من إحدى النقمتين.

للمرة الجديدة، أن المرء ليدهش حيال هذه الصياغة ذات الإثارة فنيّا ونفسيا، فهو من جانب يلاحظ أنه إزاء ملاحظة عبادية يطالب النص النبيّ بها من خلالها بالتعامل مع المنافقين وفقا لإجابة تسدّ كل ما حملوه من فرح مرضي حيال المعارك الإسلامية، كما أنه من جانب آخر يلاحظ أنه إزاء عمارة هندسية تقوم الأفكار المطروحة من خلالها على لغة منطقية تترتب فيها كلّ نتيجة تبعا لمقدمتها، وتتفرع تبعا لسابقتها، حيث لحظنا كيف أن النص القرآني الكريم أوضح بأن إحدى الحسنيين هو من نصيب الإسلاميين، ثم فابله هندسيا مع أحد العذابين بالنسبة للمنافقين، ثم رتّب على ذلك: نتيجة نهائية هي:

ليتربص كل من الإسلاميين والمنافقين واحدا قبالة الاخر: حيث يستخلص المتلقّي أنّ نتيجة التربص ستكون لصالح الإسلاميين... كل ذلك، تمّ - كما لحظنا - وفق عمارة فنيّه تحقّق امتاعا فكريا وجماليا، أي تحقّق إيصال الأفكار المتصلة بمفهوم الجهاد في سبيل اللّه من خلال لغة الفن.

سورة التوبة (9): الآیات 53 الی 55

قال تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فٰاسِقِينَ وَ مٰا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقٰاتُهُمْ إِلاّٰ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلصَّلاٰةَ إِلاّٰ وَ هُمْ كُسٰالىٰ وَ لاٰ يُنْفِقُونَ إِلاّٰ وَ هُمْ كٰارِهُونَ * فَلاٰ تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ .

نواجه الان مقطعا جديدا من سورة التوبة، يتصل بالحديث عن (المنافقين). وقد كان المقطع السابق من السورة يتحدث عن المنافقين من

ص: 156

خلال السلوك العسكري الذي صدروا عنه... أما الآن فيتحدث النص القرآني الكريم عن المنافقين من خلال التعامل الاقتصادي الذي يصدرون عنه.

من خلال عمارة السورة، ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ الفكرة العامة للسورة هي الجهاد في سبيل اللّه وأن الحديث عن المنافقين جاء في سياق الفئات الاجتماعية التي تواكب العملية المذكورة، وأن السلوك العسكري للمنافقين يمثل: الوجه البارز منه، وأن الانتقال من السلوك العسكرى إلى السلوك الاقتصادي يتمثل في وجود عنصر مشترك في عملية الجهاد هو الانفاق، وأن السلوك الاقتصادي هو شريحة أخرى من أنماط السلوك العام للمنافقين فيما يظل النّص القرآني الكريم معنيا برسمه في هذا القسم من السورة.

والآن، بعد أن اتضح لنا البناء الفني للسورة بكل جزئياته المتجانسة فيما بينها كما لحظنا، نتجه إلى دراسة المقطع نفسه من الزاوية الفكرية...

لقد أوضح النص القرآني الكريم بأن عملية (الإنفاق) التي يصدر المنافقون عنها ليست موضع تقبّل سواء أكان ذلك طوعا أم كرها، نظرا لاتسامها بطابع النفاق، أي عدم صدورها عن إيمان واقعي برسالة الإسلام...

ويلاحظ أن النص استشهد بنمطين من سلوك المنافقين هما: الصلاة التي لا يمارسونها إلا وهم كسالى، والانفاق الذي لا يمارسونه إلاّ وهم كارهون بعد أن أوضح بأنهم كفروا بالله ورسوله.

من حيث البعد الفنيّ لهذه الصياغة القرآنية، ينبغي أن نقف عند جملة من السمات، منها: الإشارة إلى أن الله لا يتقبّل إنفاقهم لا طوعا ولا كرها. مع العلم أن الآية الكريمة أوضحت في نهايتها بأن إنفاقهم يتمّ كرها وليس طوعا، فما هو السرّ في ذلك ؟ يتمثل السرّ الفني في ذلك: أن عملية الانفاق من الممكن أن تتم طوعا

ص: 157

أيضا و ذلك في حالات خاصة تعود على المنافق بالفائدة العابرة، لذلك من المحتمل أن يكون النص القرآني قد استهدف سدّ هذه المنفعة عليهم أيضا.

ومن الممكن أيضا: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المنافقين وغالبية المنحرفين لا يعني أنهم في الحالات جميعا لا يصدرون عن قناعة وجدانية بمشروعية الإسلام بقدر ما يؤثرون الحياة الدنيا على ما يقف أمام حاجاتهم غير المشروعة، لذلك نجدهم يتخوفون - وهذا ما سوف نلحظه في مقاطع لاحقة من السورة الكريمة - من افتضاح سلوكهم من خلال الوحي مما نستخلص منه أنهم قد تستيقن أنفسهم بالحق إلا أنهم ينكرونه جحودا فحسب كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواقع أخرى بالنسبة إلى مطلق الكافرين.

المهم، أن النص القرآني الكريم، استشهد بنموذجين من سلوك المنافقين ليدلل - فنيّا - على عدم تقبّل نفقاتهم هما: الصلاة التي يمارسونها وهم كسالى، والانفاق الذي يمارسونه وهم كارهون.

وقد يتساءل: ما هو السرّ الفني في إقحام (الصلاة) - وهي ممارسة حركية - في سياق الحديث عن الجانب الاقتصادي لسلوك المنافقين ؟؟.

سرّ ذلك: أن النص في صدد التدليل على عدم تقبّل نفقاتهم، حينئذ فإن الاستشهاد بأهم ركن إسلامي يظل موسوما بضرورة فنية في هذا الصدد، لذلك ما أن استشهد النص بظاهرة الصلاة حتى أردفها بالحديث عن نفس الجانب الاقتصادي لسلوكهم هو (الانفاق) حيث ذكر بأن عدم تقبّله ناجم من كونه إنفاقا على كره وليس إنفاقا تلقائيا تفرضه مبادىء الإسلام.

ويلاحظ - في نهاية المطاف، أن النص القرآني: ختم حديثه عن هذا الجانب بأن أموال المنافقين وأولادهم لا تعني شيئا بقدر ما تمثل استدراجا لهم إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ .

واضح، إن مثل هذه الإشارة إلى المال والولد (في سياق التقبّل للنفقات

ص: 158

وعدمه) تعني انتفاء قيمتها أساسا بالنسبة إلى المنافقين، فما دامت لم تستثمر عباديا. حينئذ فإنها ستعود عليهم بخسار كبير (علما: بأن سلوكهم المنافق قائم في جزء كبير منه على المعيار الاقتصادي المذكور)، فإذا كان هذا المعيار نفسه سوف يجرّ عليهم العذاب: حينئذ فما فائدة صدورهم عن أمثلة هذا السلوك ؟ وبهذا أمكننا - فنيّا - أن ندرك جانبا آخر من عمارة السورة القرآنية الكريمة.

سورة التوبة (9): الآیات 56 الی 57

قال تعالى عبر حديثه عن المنافقين.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ مٰا هُمْ مِنْكُمْ وَ لٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغٰارٰاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ .

هذا المقطع يظل امتدادا للحديث عن السلوك الاقتصادى للمنافقين، وهو سلوك بدأ النص القرآني الكريم في مقطع سابق بالحديث عنه حيث ذكر لنا بأن المنافقين لن تقبل نفقاتهم لا طوعا ولا كرها؛ نظرا لعدم صدق إيمانهم بمبادىء الإسلام. وها هو ذا النصّ القرآني يقدّم لنا جوابا فنيّا على عدم صدق ممارساتهم العبادية من صلاة كسالى أو إنفاق مكره عليه، حيث يوضح لنا حقيقة سلوكهم. أنهم يحلفون باللّه بأنهم من المسلمين، ومن قبل وجدناهم يحلفون باللّه بأنهم لا يستطيعون الخروج إلى ساحة القتال. (لا نغفل عن التجانس الفنيّ بين حلفهم باللّه في أول مقطع من الحديث عن سلوكهم، وبين هذا المقطع الفاضح لأعماقهم)... أقول: انهم يحلفون باللّه بأنهم من المسلمين، لكن: ينبغي أن نقف على السرّ النفسي وراء عملية الحلف باللّه والإلحاح على ذلك.

من البين في لغة علم النفس المرضي أن الإلحاح على سمة لا حقيقة لها في أعماق المريض تعني (في لغة التشخيص للامراض) مظهرا مضادا لما في الأعماق، أي: بقدر ما يلحّ المريض على تثبيت تلك السمة بقدر ما يفصح عن

ص: 159

مزيد من نفيها في الواقع،... وهذا ما نلحظه بوضوح في سلوك المنافقين فمن الممكن ألاّ يكون النبيّ (ص) طلب منهم أن يحلفوا على صدق ادعاءاتهم بعدم استطاعتهم المشاركة في القتال (مع أن الملاحظ أن النبيّ (ص) لم يكن ليكره أحدا على القتال، بل إنه في حالات كثيرة كان (ص) يخيّر الأشخاص بين المشاركة وعدمها، وحينئذ فما هو المسوّغ لأن تمارس عملية الحلف من قبل المنافقين ؟.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الانتساب للإسلام. وحينئذ أيضا: ما هو المسوّغ لعملية الحلف بأنّهم من المسلمين ؟ لا شك أن الاضطراب النفسيّ الذي يصدرون عنه يحملهم على أن يثبتوا سمة مضادّة لمصالحهم وأن يلحّوا عليها حتى لو لم يطلب إليهم ذلك: بغية إزاحة التوتّر الدّاخلي الذي يحيونه.

والحق، أنه بالرغم من أن مبادىء الإسلام لا تكره أحدا على الانتساب إليه، إلاّ أن المنافقين - في غمرة تطلّعهم إلى أمتعة الحياة والخوف من حرمانهم منها - يضطرّون إلى (النّفاق) في سلوكهم. بغية الاستمرار في تدفّق حاجاتهم غير المشروعة،... وهذا ما كشف عنه النصّ القرآني الكريم حينما أوضح أولا بأنهم (قوم يفرقون)، أي: يخافون.

إذن، عنصر (الخوف) يقف سببا رئيسا وراء حلفهم بالله بأنّهم من المسلمين. ولذلك - وهذا ما أوضحه النصّ القرآني الكريم أيضا حينما تابع رسم شخصيات المنافقين قائلا عنهم لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغٰارٰاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون - لذلك نجدهم بسبب من هذا الخوف لا يألون جهدا في أية فرصة للإنسلال من مواقعهم حيث قدّم القرآن الكريم في هذا الصدد صورة فنيّة أو لنقل موقنا فنيا يعبّر بجلاء عن درجة الخوف الذي يطبع المنافقين... فقد رسم النص القرآني الكريم أربعة صور أو أربعة مواقف تتّصل بهذا الجانب: 1 - صورة (الملجأ)، 2 - صورة المغارة، 3 - صورة

ص: 160

المدّخل، 4 - صورة الإسراع إلى المشاهد الثلاثة... كان من الممكن أن يكتفي القرآن الكريم برسم صورة واحدة من المشاهد المتقدمة، إلا أنه أمعن في رسم الصورة المذكورة بحيث تتجانس فنيّا مع تنوّع مصادر الخوف الذي يطبع المنافقين.

فصورة (الملجأ) تفصح عن موضع يتحصّن فيه الشخص، و صورة (المغارة) تفصح عن نقب في الجبل يستخفي فيه الشخص، و صورة (المدّخل) تفصح عن سرب في الأرض وفقا للتفسير الوارد عن الإمام الباقر (ع).

ولو دقّقنا النظر في هذه الصورة لوجدنا أنّ كلّ صورة تقترن بعملية خوف أشدّ من سابقتها تبعا للتسلسل الفني لصياغة هذه الصورة، فقد رسم القرآن أوّلا صورة (الملجأ) وهو أبسط أنواع المكان الذي يستخفى فيه، ثم قدّم صورة (المغارة) وهي أكثر من سابقتها إمكانية في الاستخفاء حيث أنّ النقب في الجبل أكثر قابلية على الاستخفاء، ثمّ قدّم صورة (المدّخل) وهو (السرب) في الأرض بحيث يتحقق (الاستخفاء) تماما.

إذن، جاءت الصياغة الفنية لهذه الصورة ليست معبّرة عن جانب جمالي يثير أشدّ الأحاسيس الجمالية عند المتلقّي فحسب، بل جاءت مضافا إلى البعد الجماليّ المدهش، إفصاحا عن درجة الخوف الذي يطبع المدهش، إفصاحا عن درجة الخوف الذي يطبع شخصيات المنافقين بحيث فضحهم بنحو يجعلنا نطيل النظر في الصلة بين عملية (الحلف باللّه) مع أنه لا ضرورة لها وبين درجة الخوف التي تحمل المنافقين على الحلف باللّه بأنهم من المسلمين وما هم منهم. وهذا يعني: أننا أمام عمارة فنيّة بالغة الدهشة، تحاول - من خلال لغة الفن المعجز - أن تقدّم لنا حقائق مختلفة عن شخصية المنافق وطرائق السلوك التي يصدر عنها.

ص: 161

سورة التوبة (9): الآیات 58 الی 60

قال تعالى في رسمه لسلوك المنافقين. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ رٰاغِبُونَ * إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اَلْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقٰابِ وَ اَلْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ...

هذه الآيات امتداد لآيات سابقة تتحدّث عن التعامل الاقتصادي المتصل بسلوك المنافقين. وقد كانت الآيات السابقة أو المقطع السابق من السورة يتحدث عن (الإنفاق). أما المقطع الذي نتحدث عنه الان فيتناول جانب (العطاء)، أي أن هناك توازنا فنيّا في رسم الجانب الاقتصادي من سلوك المنافقين متمثلا في: نمط سلوكهم من حيث إنفاق المال في سبيل اللّه مقابل أخذ المال بعنوان العطاء. وفي الحالين رسم النص القرآني الكريم سلوك المنافقين. القائم على الالتواء في التعامل الاقتصادي... فقد لحظناهم من حيث الانفاق قد رسمهم النص (مكرهين) عليه، ونلحظهم الآن من حيث (العطاء) يطعنون ويعيبون على النبيّ (ص)، فإذا أعطوا رضوا و إذا لم يعطوا غضبوا.

والحق، أن ظاهرة الرضا والغضب تبعا للإعطاء وعدمه، تظلّ سلوكا يطبع غالبية البشر، وقد عقب الإمام الصادق (ع) على هذه الآية الكريمة قائلا.

«إن أهل هذه الآية أكثر من ثلثي الناس»، بيد أن (المنافقين) يظلون في مقدمة من يطبعه مثل هذا السلوك ما دام طابع (النفعية) هو السمة المميّزة لهم كما هو واضح.

المهم، أن نلاحظ الان: البعد الفنيّ أو لنقل: عمارة النص من حيث صلة هذا الجانب بما يلحقه من أفكار مطروحة في هذا المقطع.

ص: 162

لقد عقب النص القرآني الكريم على سلوك المنافقين المذكور بقوله لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ ... الخ كما عقّب بعد ذلك. راسما الموارد التي ينبغي أن تتّجه الصدقات إليه وهي موارد الزكاة المعروفة:

للفقراء، المساكين، أبناء السبيل... الخ. معنى هذا أن النّص: اتجه إلى طرح أفكار تخصّ الإسلاميين وليس المنافقين.

وبكلمة جديدة: بعدما انتهى النصّ القرآني الكريم من حديثه عن السلوك الاقتصادي للمنافقين (وهو حديث يخص فئة من الناس): اتّجه من الجزء أو الخاصّ إلى الكلّ أو العامّ ، وهذا - كما نعرف جميعا - سمة النصوص الفنية التي تصل بين العام والخاص، حيث يتم الانتقال من الخاصّ إلى العام وفق أسلوب فنيّ يستهدف توصيل الأفكار العامة من خلال سرده لنماذج خاصّة من السلوك...

فالمنافقون: تأريخيا، لا يحيون بأعيانهم في جميع العصور، إلاّ أنّ نماذج سلوكهم تظلّ متكررة دون أدنى شك، وهو ما يسوّغ - من الناحية الفنية - رسمهم بالنحو الذي لحظناه في المقاطع القرآنية السابقة... لكن: ما يسوّغ - من الزاوية الفنية أيضا - تجاوزهم زمنيا والانتقال منهم إلى رسم الأفكار الإسلامية العامة التي لا تخصن زمانا ومكانا معيّنين، هو: طابع النصوص الفنية،... وهذا ما تمكن ملاحظته بكل وضوح في هذه الآيات الكريمة التي نتحدّث عنها الآن.

لقد رسم القرآن الكريم طابعا عاما لمبادىء الإسلام: من حيث التعامل مع الصدقة أو الزكاة، فأوضح أولا الجانب الأخلاقي لهذه الظاهرة، ثم أوضح الموارد التي ينبغي أن تتّجه الصدقة أو الزكاة إليها... فمن حيث البعد الأخلاقي: أوضح القرآن الكريم بأنّ (المنافقين) لو كانوا قد رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ رٰاغِبُونَ

ص: 163

لكان خيرا لهم.

لكن، بما أنّه من المستبعد أن يصدر هؤلاء المنافقون عن أمثلة هذا السلوك الخيّر. حينئذ ندرك على الفور بأن الخطاب موجّه إلى الإسلاميين بطريقة فنية، لذلك: طرح عليهم هذا المبدأ الأخلاقي وهو: الرضا بما قسم لهم من العطاء، أو حتى في حالة المنع ينبغي أن يوكلوا ذلك إلى اللّه وأن تظل أفئدتهم وألسنتهم تردّد حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ ... .

وأمّا الجانب الآخر من الأفكار المتّصلة بالصدقة أو الزكاة فهو تحديد مواردها التي ذكرها النصّ مفصّلا حيث لحظنا أن النّص القرآني الكريم، قدّم حكما إسلاميا عامّا لموارد ذلك، وهو ما قلنا عنه: إنه نقلة فنية من الحديث من الخاصّ إلى الحديث عن العامّ الذي تعنى به جميع العصور بالنسبة إلى الظاهرة الاقتصادية المذكورة.

والآن، بعد أن رسم القرآن الكريم في هذا المقطع: الجانب الاقتصادي من سلوك (المنافقين): يتقدّم إلى رسم جانب آخر منه هو: السلوك العدوانى العامّ للمنافقين.

هنا ينبغي أن نتذكر أن القرآن الكريم بدأ أولا بالحديث عن السلوك العسكري للمنافقين أتبعه بالحديث عن السلوك الاقتصاديّ لهم، وها هو الآن يتقدّم إلى الحديث عن السلوك (العدواني) لهم.

***

سورة التوبة (9): الآیات 61 الی 63

قال تعالى في رسمه لسلوك المنافقين: وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كٰانُوا مُؤْمِنِينَ * أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ

ص: 164

يُحٰادِدِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِداً فِيهٰا ذٰلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ .

من الواضح أنّ النزعة العدوانية أو نزعة الكراهية التي تختزنها الأعماق تظل أحط النزعات البشرية إيلاما وتمزيقا ل (الذات)، أنها تشتّت (الذات) وتدعها نهبا للتوتّر الداخلي بحيث لا يحسّ صاحبها بأدنى استقرار حتى لو لم تترجم إلى سلوك عملي يتّجه إلى الخارج. أما في حالة صدورها إلى الخارج فإن انعكاساتها على الا خرين تظل من الوضوح بمكان كبير، يستوي في ذلك أن تكون في صعيد لفظي أم حركي... وقد اتجه النص القرآني الكريم في الايات المتقدمة إلى رسم جانب عام من سلوك المنافقين هو: صدورهم عن النزعة العدوانية: بعد أن كانت المقاطع السابقة من سورة التوبة تتحدث عن المنافقين في تشريح جوانب أخرى من سلوكهم.

وبالرغم من أن نزعة العدوان تتخلل جميع أنماط السلوك ومنه: السلوك العسكري والسلوك الاقتصادي اللذين وقفنا عليهما في مقاطع سابقة من سورة التوبة، إلا أنّ إبراز السلوك العدواني في مقطع خاص (وهو المقطع الذي نتحدث عنه الآن) يظل خاضعا لهدف فنيّ هو لفت الانتباه إلى النزعة المذكورة في غمرة التشريح لسلوك المنافقين.

لقد أبرز النص القرآني هذه النزعة في أحد مظاهرها وهو: المظهر «اللفظي» فحسب، متمثلا في قول المنافقين عن النبيّ (ص): انه أذن سامعة لكل ما يقال له.

ويلاحظ أن النص القرآني أشار بوضوح إلى سمة (العدوان) لأقوال المنافقين حيث صدّر حديثه عن ذلك بقوله تعالى (اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ ) من حيث كون (الأذى) هو عملية تصدير للنزعات العدوانية نحو الخارج...

والمهم، أن النص الكريم يتكفّل بالرد على المنافقين في هذا الصدد فيقرّر بأن محمدا (ص) هو (أُذُنُ خَيْرٍ للناس) و إلى أنه رحمة للذين آمنوا. هنا،

ص: 165

ينبغي أن نقف على هذا الردّ لنلاحظ كيف أن النص القرآني الكريم يقدّم بطريقة فنيّة ردا على كلّ تهمة أو أي مظهر من مظاهر السلوك المنافق يتناسب وحجم المظهر المذكور. لقد أراد المنافقون أن يسيئوا إلى النبيّ (ص) وإلى الإسلاميين بعامة حينما وجّهوا له التهمة المذكورة، ثم جاء الردّ على ذلك مطبوعا بسمة مضادة تماما لنزعات المنافقين.

المنافقون - كما أشرنا - يصدرون عن نزعة عدوانية مثقلة بمشاعر الكراهية للآخرين، لكن: لننظر كيف أن الردّ القرآني الكريم كان معنيّا بإبراز المشاعر المضادة لأعماقهم وهي مشاعر الخير والرحمة التي صدر عنها النبيّ (ص). لنقرأ من جديد: الردّ القرآني، ولنتأمل بدقة: دلالات العبارة القرآنية في الردّ المذكور: (قُلْ : أُذُنُ «خَيْرٍ» لَكُمْ ) ثم لنقرأ أيضا (وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) ... أنّ كلا من مصطلحي (الخير) و (الرحمة) يعني. النزعة «المسالمة» أي: النزعة المضادة تماما لنزعة (العدوان).

إذن، كيف كان الردّ القرآني - مصاغا بطريقة فنية غير مباشرة حينما شدد على نزعة (الخير) و (الرحمة) في سلوك النبيّ (ص): مقابلا للنزعة العدوانية التي طبعت سلوك المنافقين. لكن في الآن ذاته: لم يترك النص القرآني الكريم هؤلاء المنافقين بمنأى من تحمّل مسؤوليتهم حيال التهمة المذكورة، بل أشار إلى أن محمدا (ص) (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) ، أي: أن كونه رحمة وأذن خير إنما هو لمن آمن من الناس وليس لمن نافق في سلوكه، بل أن أمثلة هؤلاء اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ... .

إذن، جاء الرد القرآني الكريم مطبوعا بسمة فنية مزدوجة هي: إبراز النزعة المسالمة في شخصية محمد (ص) مقابل النزعة العدوانية عند المنافقين، ثمّ : سدّ الأبواب أمام هؤلاء الذين خيل إليهم أنهم سيحيون بمنأى من الجزاء الأخروي: حينما يعادون اللّه ورسوله.

ص: 166

أخيرا، ينبغي أن نقف أيضا عند الظاهرة (الحلف باللّه)، حيث جاء في هذا المقطع الذي نتحدث عنه أن المنافقين: يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كٰانُوا مُؤْمِنِينَ فالملاحظ أن ظاهرة (الحلف بالله) تكررت على السنة المنافقين في مواقف متنوعة، منها. الحلف بالله بأنهم لا يستطيعون الخروج إلى ساحة القتال، ومنها: الحلف باللّه بأنهم من المسلمين بعامة، ومنها: الحلف باللّه في هذا المقطع بأنهم من المسلمين عبر موقف خاص حلفوا من خلاله باللّه تعالى بأن ما بلغ المسلمين عنهم هو باطل، حيث أشار اللّه تعالى إلى أن الأجدر بهم أن يرضوا اللّه ورسوله لا أن يرضوا عامة الناس... وهذا إفصاح آخر عن سمة (النفاق) أو (النفعية) التي تطبع الفئة المذكورة. فهم حينا يحلفون باللّه ليرضوا محمدا (ص) في مواقفهم العسكرية، وحينا آخر يعيبون محمدا (ص) يتجهون إلى إرضاء العامة من المسلمين، دون أن يلتفتوا إلى هذا التضاد في مواقفهم، مما يفصح عن بلاهتهم من جانب، وعن كونهم (نفعيين) صرفا يتخذون من الحلف باللّه مجرد دفاع عن رغباتهم غير المشروعة.

وأيا كان، فإن النص القرآني الكريم عبر رسمه لهذا الجانب العدواني من شخصية المنافقين يكون قد رسم أكثر من سمة لسلوكهم: عسكريا واقتصاديا وعدوانيا، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة التوبة (9): الآیات 64 الی 66

قال تعالى: يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لاٰ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طٰائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طٰائِفَةً بِأَنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ .

الآيات المتقدمة تمثّل امتدادا لآيات سابقة تتحدث عن المنافقين، إلا أن

ص: 167

الملاحظ أنّ الآيات السابقة لم تذكر اسم (المنافقين) بل تحدثت عن سلوك فئة اجتماعية مبهمة لم تحدّد هوياتهم بالاسم بل اكتفت بذكر نماذج من السلوك العسكري والاقتصادي والعدواني للفئة المذكورة. ثم بدأت الآن في القسم الرابع الذي يتحدّث عن نموذج جديد في سلوكهم، بدأت الآيات الكريمة في هذا القسم بتشخيص هويّات الفئة المذكورة، وأطلقت عليهم سمة (النفاق) بقولها: يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ ...

الخ.

ترى، ما هو السبب الفني وراء ذلك ؟؟ من الواضح، أن النص القصصي (في نماذجه البشرية) يتّسم في بعض أشكاله بخصيصة فنية هي. الاحتفاظ بأحد الأسرار مثل: الكشف عن الشخصية أو الموقف حيث يتم الكشف عن السرّ المذكور في نهاية القصة أو وسطها: بغية شدّ القارىء إلى متابعة العمل القصصي. هنا في النص القرآني الكريم نجد أن النص المذكور قد احتفظ بعدم ذكر هوية المنافقين ثم كشف عن ذلك في هذا المقطع الذي نتحدّث عنه الآن...

وأهمية هذا الكشف من الممكن أن ترتكن... في جملة ما ترتكن إليه... إلى عنصر التشويق الفنّيّ ، إلا أنّ هناك أسرارا أخرى يمكننا أن نتبيّنها في هذا المجال... منها: أنّ هذا القسم الذي نتحدّث عنه يتكفل بإبراز العمليات النفسية التي يصدر المنافقون عنها في سلوكهم. فعندما يتخلف المنافق عن الالتحاق بساحة المعركة مثلا، أو عندما ينفق بعض المال مكرها، أو عندما يسخط في حالة عدم حصوله على العطاء: هذه الأمثلة من السلوك من الممكن أن يصدر عنها سائر المنحرفين دون أن تخصّ المنافقين وحدهم وإن كانت السّمة الغالبة تحدّد هويّاتهم في الواقع... لكن ثمة خصائص تميّز المنافق بشكل واضح هو: إحساسه بثنائية سلوكه القائم على استبطان شيء

ص: 168

و إظهار شيء آخر، ومن ثم اقتران ذلك بالخوف من الفضيحة طالما كانت ثنائية سلوكه تقوم أساسا على (جرّ المنفعة)، وحينئذ فإنّ الخوف من الافتضاح يظلّ له مسوغاته - في لغة الأمراض النفسية - عند المنافق: نظرا إلى أن (جرّ المنفعة) هو السبب وراء تشكل شخصيته بسمة الثنائية أو النفاق، فإذا افتضح فإنّ (جرّ المنفعة) ينتفي أساسا، وهذا ما يفسّر لنا سبب الخوف الذي يعتمل داخل الشخصية المنافقة. لذلك، نجد أن النص القرآني الكريم ما إن يصل في حديثه عن جانب (الخوف من الفضيحة) حتى يذكر لنا اسمّ (المنافقين) بمصطلحه الاجتماعي، فيقول: يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ . وقد حاول بعض المفسّرين أن يحمل عبارة (يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ ) على فعل الأمر بمعنى (ليحذر) المنافقون من نزول سورة تفضحهم. إلاّ أنّ ذلك نستبعده من الزاوية النفسية والفنية، بل نحتمل بقوّة أنّ العبارة المذكورة هي إخبار عن العمليات النفسية التي تطبع سلوك المنافقين: بدليل الآيات اللاحقة التي تتضمّن افتضاحهم بالفعل مثل قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ فلو كان أمرا بالحذر لما صحّ أن يقال لهم. ان اللّه يفضح ما تحذرون وكذلك قوله تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ حيث نستخلص من هذا الحوار أن المنافقين قد افتضح بعض سلوكهم بالفعل، وأنّهم قد أحاطوا خبرا بإمكانية المزيد من الافتضاح، وإلاّ لا يمكن أن نتصوّر أنّهم عندما يعاتبون على صدور سلوك منهم: كما تنقله النصوص المفسّرة من أنّهم تآمروا مرّة على قتل النبيّ (ص) بعد عودته من معركة تبوك أو أنّهم استهزءوا بالنبيّ (ص) عندما بشر الإسلاميين بفتح حصون الشام وقصورها، أو أنهم اتهموا الإسلاميين بالجبن والكذب، أو أنّهم كانوا يستهزءون بالكتاب الكريم وبمحمد (ص)، إلى آخر ما تنقله النصوص المفسرة في هذا الصدد،... لا يمكن أن نتصور أنهم عندما يفتضحون من قبل النبيّ (ص) بأن ينقل لهم كلام الوحي. ثم لا يتيقنون من صحة الإخبار!!

ص: 169

إذن. لا بد أن نذهب إلى أن المنافقين كانوا يحذرون فعلا أن تفتضح أعماقهم. للأسباب النفسية التي ذكرناها سابقا، مضافا إلى أنهم كانوا يطلقون التهم على النبيّ (ص) والإسلاميين بنحو جدي... نفس هذه الإجابة تكشف لنا عن أن النص القرآني الكريم قد صاغ الحقيقة المذكورة بطريقة فنية هي: أنه كشف عن هوية المنافقين بأن ذكرهم بمصطلح (النفاق): مقترنا بعملية الكشف عن العمليات النفسية التي تحياها أعماقهم دوما وهي الخوف من افتضاح سلوكهم الثنائي على النحو الذي فصلنا الحديث عنه.

سورة التوبة (9): الآیات 67 الی 70

قال تعالى: اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاٰقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاٰقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خٰاضُوا أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ * أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عٰادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْرٰاهِيمَ وَ أَصْحٰابِ مَدْيَنَ وَ اَلْمُؤْتَفِكٰاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ...

بعد أن أوضح القرآن الكريم في مقاطع سابقة بأن اللّه تعالى سوف يفضح ما يحذر المنافقون منه. بدأ في هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن: بفضحهم فعلا وبتذكيرهم بالأمم السالفة التي كانت أشدّ منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا.

الجديد في هذا المقطع يتمثّل في جملة من الأفكار المطروحة التي تتطلّب شيئا من الدقة في تمثل مضموناتها...

لقد دخل في هذا المقطع عنصر (المنافقات مضافا إلى المنافقين)، حيث

ص: 170

قال تعالى اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كما دخل مضمون جديد من سلوكهم هو كونهم (بعضهم وليّ بعض)، ولعل هذا الكون يفسّر لنا - فنيّا - صلة (المنافقات) بهذه السمة الاجتماعية: مضافا إلى لفت الانتباه إلى فاعلية العنصر النسائي في هذا الميدان من حيث مساهمته أو تأثيره في حقل السلوك الاجتماعي.

ودخل أيضا في هذا المقطع مضمون آخر هو كونهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وهذه السمة قل أن يتكرّر ذكرها في رسم المنحرفين، لذلك حينما يشدّد النص القرآني عليه بالنسبة إلى (المنافقين) لا بدّ أن نستخلص منها أن سلوكهم يشكّل ظاهرة مضادّة تماما لعنصر الخير... فمن الممكن مثلا أن يصدر المنحرف عن نزعة شريرة في بعض ممارساته أو غالبها ويحتفظ في الان ذاته ببعض عناصر الخير،... أمّا أن يعكس الأمر تماما بحيث يتحول المعروف، إلى منكر والمنكر إلى المعروف فهذا يعني قمة الالتواء في السلوك الذي يصدر المنافقون عنه.

ثم يواجهنا مضمون آخر هو: أنّهم (يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) عن الانفاق، وهي سمة تجسّد (البخل) بطبيعة الحال، ومعنى البخل هو انغلاق النفس تماما على الذات وعدم تصديرها أيّ خير إلى الخارج أي إلى الآخرين...

ثم نلحظ مضمونا آخر هو أنّ النصّ القرآنيّ قرن المنافقين مع مطلق الكفار في قوله تعالى وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ وهذه العملية توحي بوضوح أنّ سمة (النفاق) لا تقلّ عن سمة (الكفر): بالرغم من أن التكيّف الاجتماعيّ الذي يسلكه المنافق: لا يتحقق عند الكافر الذي يعلن انحرافه مقابل المنافق الذي يتستّر بكفره...

أخيرا: يلاحظ أنّ النصّ ذكر المنافقين بأسلافهم الماضين أقوام نوح وعاد وثمود... الخ. لكن: شدّد النّص على ظاهرة معيّنة في عملية التذكير

ص: 171

تختلف عن الظواهر التي تقترن عادة بسلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، هذه الظاهرة تتمثّل في (النصيب الدنيوي) أو ما أطلق عليه عبارة فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاٰقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاٰقِهِمْ ، ومن البيّن أن ما يميّز المنافق هو كونه حريصا أشدّ من غيره على الاستمتاع بنصيبه من الدنيا، فالمنحرف الذي يعلن انحرافه دون اكتراث من الممكن أن يتنازل عن نصيبه في الحياة: عندما يعرّض نفسه إلى النّفى أو السّجن أو القتل، بينا لا يتنازل المنافق عن نصيبه من الدنيا، لأنّ التنازل عنه يتنافى أساسا مع ظاهرة النفاق: طالما نعرف بوضوح أن إظهاره الإيمان إنّما يعبّر عن رغبته الملحة في الاستمتاع بخلاقه من الحياة الدنيا.

المهم، أن النص القرآني الكريم حينما يشدد على إبراز هذا الجانب من عملية التذكير بالأمم السالفة: إنما يجانس فنيّا بين الأفكار التي يطرحها في هذا المقطع، كما أنه حينما يذكّر المنافقين بالأمم السالفة التي استمتعت بخلاقها:

إنما يذكّرهم بأن الحرص على الاستمتاع بمباهج الحياة الدنيا سوف لن يعني شيئا ما دامت المصائر التي لحقت الأمم السالفة قد طبعتها إبادة شاملة لمجتمعاتهم.

هنا بعد أن انتهى النص من رسم السلوك المنافق من حيث كون أصحابه بعضهم أولياء بعض، وكونهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف... الخ.

اتجه بعد ذلك إلى رسم السلوك المضاد لهم وهو سلوك المؤمنين حيث قال تعالى عنهم.

سورة التوبة (9): آیة 71

وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ... إلخ. إن التقابل الفنيّ بين الفئة المنافقة والفئة المؤمنة يحقّق إمتاعا جماليا وفكريا كما هو واضح حيث يضع قبالة المنافقين والمنافقات: المؤمنين والمؤمنات، ويضع قبالة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف عند المنافقين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المؤمنين،

ص: 172

ويضع قبالة المنافقين من حيث كونهم بعضا أولياء يعض. المؤمنين بعضا أولياء بعض أيضا، وهكذا.

هذا من حيث الامتاع الجمالي وأما من حيث الامتاع الفكري، فيكفي أن يفيد المتلقّي من الموازنة المذكورة في تعديل سلوكه وهو ما يستهدفه النص دون أدنى شك عند عرضه لنماذج من سلوك المنحرفين والمؤمنين.

سورة التوبة (9): الآیات 73 الی 74

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ عَذٰاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ .

بدأت سورة التوبة مطالبة بمجاهدة المشركين. ثم عرضت لنا بعد ذلك شرائح اجتماعية مختلفة يجمعها طابع الانحراف ومنها: فئة المنافقين حيث ركّزت على هذه الفئة الأخيرة وعرضت لنا جانبا من سلوكهم: عسكريا واقتصاديا وعدوانيا، ثم قرنت ذلك مع الكفار مطلقا لتوحي لنا بوحدة الانحراف التي تطبع كلا من الكافرين والمنافقين... وها هي الآن (أي: سورة التوبة) تقدم لنا قسما جديدا من النص يتحدث عن المنافقين أيضا ولكن من خلال طرح آخر من سلوكهم العسكري والاقتصادي والعدواني. فما هو هذا الجديد، وما هو موقعه من عمارة السورة، ما دمنا نستهدف أساسا توضيح البناء العام للسورة وصلة أجزائها بعضا مع الآخر؟؟ لقد بدأ المقطع الجديد مطالبا بمجاهدة الكفار والمنافقين، بعد أن كان استهلال السورة منحصرا بمجاهدة المشركين فحسب.

واضح، أن المنافقين: بعد أن تحدثت السورة مفصلا عن سلوكهم

ص: 173

المنحرف، دخلوا عنصرا جديدا في قائمة الانحراف، ولذلك جاء المسوّغ الفني لإشراكهم مع مطلق الكفار في المطالبة بمجاهدتهم يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ ... الخ. ثم جاء المسوّغ الفنيّ أيضا لإعادة الكلام عليهم ما داموا موضع مطالبة بمجاهدتهم، لكن بما أن الفن القرآني الكريم لا يرتكن إلى عنصر (التكرار) إلاّ وفق متطلبات السياق، لذلك لم يجىء (التكرار) بنفس المفردات السابقة من سلوك المنافقين، بل بنمط آخر منها يتناسب فنيّا مع ظاهرة (الكفر) التي قرنها النص مع (النفاق)، بمعنى أن الجديد في هذا القسم من السورة التي تتحدث عن المنافقين أيضا هو: أن تبرز أنماطا من السلوك المنافق الذي يشترك مع سلوك الكفر: بعد إن كان القسم الأول من السورة يركّز على إبراز مفهومات (النفاق) وحده... لذلك، يتعيّن علينا أن نلتفت لهذا الجانب الفنيّ الخطير من عمارة السورة وجمالية بنائها الهندسي القائم على الوحدة والتنوّع والتنامي: من خلال ظاهرة (التكرار).

و الآن، لنقف عند المفردات المتكررة من سلوك المنافقين.

لقد عرض لنا النص القرآني ظاهرة (الحلف بالله) حيث قال عنهم) يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ ... لنلاحظ أن النص ذكر سابقا ثلاثة أشكال من (الحلف بالله)؛ الحلف باللّه بأنهم لا يستطيعون الخروج إلى ساحة الجهاد، ثم بأنهم من المسلمين، ثم: ليرضوهم دون اللّه ورسوله، أما الآن، فإن ظاهرة الحلف (في هذا المقطع الجديد الذي نتحدث عنه) تتصل بكلمات تلفظوا بها (وقد أبهمها النص) ولكن ذكر النص بأنها «كلمة الكفر» (وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ ) ...

قد تكون هذه الكلمات هي نفس الكلمات التي صدرت عنهم في مواقف سابقة ذكرها النص القرآني في حينه، إلا أن إعادتها الآن جاء في سياق اقتران (النفاق) مع (الكفر) وليس في سياق تبيين مجرد السلوك المنافق...

ص: 174

ومع ذلك سنجد في الأقسام اللاحقة من السورة سلسلة من نماذج السلوك الصادر عن المنافقين فيما تعتبر (من زاوية البناء الهندسي للسورة) تفصيلا لما أجمله النص الآن. لذلك سوف نعنى بإبراز هذا الجانب الفنيّ تباعا: لكن، إنّ ما نعتزم لفت النظر إليه في هذه الجزئية من الآية هو: أن نشير إلى أن النص القرآني قد أوضح بجلاء - عندما طالب بمجاهدة الكفار والمنافقين (في آن واحد) - إن المنافقين قد حلفوا باللّه (مٰا قٰالُوا كلمة الكفر، وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ ). والمطلوب الآن هو: تبيين كلمة (الكفر) التي صدرت عن المنافقين. لكن، لا بدّ أن نتابع رحلة فنيّه طويلة المسافة قطعها النص لتوضيح هذا الجانب، وهو ما يتطلبه الأداء الفنيّ العظيم.

إذن: لنتابع.

إنّ أوّل ما ذكره النص من سلوك المنافقين هو أنهم: هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا أي: هموا بممارسة السلوك المفصح عن الكفر دون أن يستطيعوا تحقيق ذلك... وقد ذكر المفسّرون احتمالات ثلاثة في ذلك: محاولة قتل النبيّ (ص)، محاولة إخراجه من المدينة، محاولة نشر الفساد وتفرقة الكلمة بين المسلمين. وأيا كان ذلك، فإن محاولة القتل أو الإخراج أو نشر الفساد:

تظل واضحة الانتساب إلى (الكفر) مضافا لكونها منتسبة إلى (النفاق) أيضا.

بعد ذلك، ذكر النص مسوغات سلوكهم المذكور بقوله تعالى. وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... .

ومن الزاوية النفسية: يمكن القول بأن النص القرآني الكريم أوضح لنا طبيعة الأعماق المنحرفة التي يصدر المنافقون عنها، فعندما يتفضّل شخص أو جهة على آخر، فإن هذا الآخر ينبغي أن يتعاطف مع الجهة المذكورة، أما أن ينقم من ذلك، فهذا يعني أنه بلغ قمة الاضطراب في بنائه النفسي، وهذا ما طبع سلوك المنافقين من حيث بلوغهم قضة الاضطراب النفسي المذكور،

ص: 175

و المهم - بعد ذلك - هو أن ظاهرة (النقمة) على رسالة الإسلام تمثل عملية (كفر) به، وهو ما يستهدف النص القرآني الكريم توضيحه في هذا القسم من السورة.

إذن: جاء التكرار الفني في هذا القسم من السورة مطبوعا بطرح ظاهرة جديدة من سلوك المنافقين، ومن ثمّ : لو تابعنا سائر مفردات السلوك التي يطرحها النص القرآني في هذا القسم الجديد من السورة، لوجدنا نفس السمة الفنية المشار إليها، بالنحو الذي نبدأ الحديث عنه (لاحقا) إن شاء اللّه.

سورة التوبة (9): الآیات 75 الی 77

قال تعالى فى رسمه لسلوك المنافقين: وَ مِنْهُمْ مَنْ عٰاهَدَ اَللّٰهَ لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ وَ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ .

إن سمتي (النفاق) و (الكفر) تظلان هدفا فكريا للنص الذي خصص هذ القسم من السورة لإبراز الجانب المذكور، إن سمة (الكفر) تتمثل في: الكفران بنعم اللّه، وإذا كان المنافقون ينفقون بعض المال - كما رسمهم النص في قسم سابق من السورة - كارهين، فإن عملية (الكره) تعبّر عن النفاق أو الثنائية التي يتحقق الانفاق من خلالها دون أن يقترن ذلك بقناعة داخلية.

أما ظاهرة (الكفر) فتتجه وجهة أخرى هي: عدم الالتزام بما عاهدوا عليه، وها هو النص القرآني الكريم يحدثنا بأن من المنافقين من عاهد الله بأن يعطي كلّ ذي حق حقه. إذا رزقه من فضله، لكن ما أن آتاه اللّه من فضله حتى بخل بالانفاق بل تولى معرضا عن مبادىء الإسلام.

لذلك، رتبت السماء على الموقف نتيجة هي: تثبيت سمة (النفاق) في قلوبهم إلى الأبد.

ص: 176

و الآن، ما هي الدلالة الفنية و الفكرية لهذه الظاهرة التي طرحها النص القرآني الكريم ؟ هل أن ذلك يعني أن هذا النمط من الناس لم يكن مطبوعا بسمة النفاق بقدر ما كان مجرد شخص بخل بماله وكفر بأنعم اللّه، ولذلك أورثه اللّه سمة النفاق ؟؟ إن عمارة السورة الفنية توحي لنا بما لا غموض فيه بأن هذا القسم من السورة امتداد للسابق منها من حيث تمحضها لرسم سلوك المنافقين... لذلك، لا نتوقع أن تكون سمة (البخل) التي صدرت عن النمط المذكور تنفي سمة (النفاق) عن هذا النمط... بل أن هناك من السمات الشخصية ما ينبغي أن نقف عندها بغية الإفادة منها في تعديل السلوك... ففي حقل التصوّر الإسلامي للسلوك هناك من النصوص ما يشير إلى أنه هناك ثلاثة أنماط من السلوك. إذا صدر الشخص عنها عدّ (منافقا): أحدها (إذا وعد أخلف) والآخران: إذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان.

ويعنينا من ذلك. سمة (خلف الوعد) حيث أشار النص القرآني الكريم إلى النمط المذكور بقوله تعالى أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ مما يعني أن هؤلاء الأشخاص كانوا يحملون طابع النفاق قبل أن يعقبهم اللّه نفاقا في قلوبهم إلى الأبد. كل ما في الأمر أن سمة (النفاق) كانت ذات شحنة قد تكون ضخمة وقد لا تكون كذلك،. والجديد في الأمر هو أن اللّه تعالى ثبت ذلك فى قلوبهم بنحو لا مجال لإدخال عملية (التعديل) عليه، أي: طبع على قلوبهم بحيث لا يرجى منهم ذات يوم أن يتوبوا إلى اللّه.

ويمكننا أن نتبيّن ذلك بوضوح أشدّ إذا أدركنا أن غالبية الناس إسلاميين أو غيرهم قد يصدرون عن عمليات (الكذب) و (خلف الوعد) و (خون الأمانة) في لحظات الضعف التي يواجهونها - مما يعني وفقا للتصور الإسلامي للسلوك - أنهم يحملون سمة (النفاق) بدرجة معينة تبعا لحجم الكذب أو الخلف أو الخيانة التي يصدرون عنها. لذلك، نتوقع أن هذه الفئة التي حدثنا

ص: 177

القرآن الكريم عنها كانت تحمل من سمات (النفاق) درجته الشديدة، وبما أنها تعرّضت لتجربة حاضرة هي كونها قد عاهدت اللّه لئن آتاها من فضله فسوف تتصدق بذلك،.. وبما أن درجة (النفاق) التي طبعت شخصيتها كانت شديدة حينئذ أخلفت الوعد وهو - خلف ليس عاديا بطبيعة الحال نظرا للطرف الآخر من التعامل وهو (اللّه) تعالى، لذلك أعقبها اللّه (النفاق) في أعماقها إلى الأبد، بمعنى أن سمة (النفاق) التي كانت تحملها سابقا قد تبدّلت من كونها (طارئة) إلى سمة (ثابتة)، ومن كونها خاضعة لإمكانات التعديل في السلوك: كما لو تاب الشخص أو مارس تدريبا على التخلص من سمات الكذب والخلف والخيانة، إلى كونها ثابتة يتعذر أو يمتنع إدخال (التعديل) عليها.

سورة التوبة (9): الآیات 79 الی 80

قال تعالى: اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ إِلاّٰ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ ...

في آيات سابقة من سورة التوبة ذكر النص القرآني الكريم جانبا من السلوك الاقتصادي للمنافقين وهو معاهدتهم اللّه أن يصدّقوا لو رزقهم من فضله، لكنهم أخلفوا الوعد... هنا يتابع النص القرآني رسم سلوكهم من خلال سمة أخرى تجسّد مفهومي (الكفر) و (النفاق)، وهما المفهومان اللذان تكفّل هذا القسم من سورة التوبة بتناوله.

الملاحظ هنا، أن النص يطرح جملة من الأفكار، منها: الانفاق بقدر الطاقة: موقف المنافقين من ذلك، فبالرغم من أنهم رزقوا أموالا كثيرة لكنهم يبخلون بذلك كما حدثنا نص سابق... والمفروض أن الشخصية الباخلة عندما تواجه الآخرين الذين يسخون بأموالهم: حينئذ تلتزم جانب الصمت

ص: 178

خجلا من موقفها، لكن: نجد أن المنافق الذي يتضخم حجم التواءاته واضطراباته لا يسعه الصمت: بقدر ما يحسّ بالحاجة إلى التفريج عن توتّراته فيتجه إلى غمز المتصدقين بأموالهم بخاصة إذا كان تصدّقهم يسيرا بقدر جهدهم.

سرّ ذلك (من زاوية التشخيص العبادي) إن المنافق بحاجة إلى عملية دفاع عن نفسه: بغية إزاحة المشاعر الكريهة التي يتحسسها عن ذاته البخيلة، حينئذ يلتمس أدنى عيب اقتصادي عند الآخرين ليسقط عيوبه الذاتية عليهم.

فمثلا عندما يجد أن الإسلاميين الضعفاء ماديا، يتبرعون بصاع من تمر يبدأ حينئذ بإعابتهم والسخرية منهم منتهزا قلة المال المتصدّق به لتمرير نزعته المريضة.

أما في حالة مواجهة المنافق للأشخاص الذين يتبرعون بالمال الكثير:

حينئذ فإن عملية الدفاع اللاواعي الذي يصدر المنافق عنه يتخذ قناعا مرضيا آخر هو: إعابة المتصدق بسمة (الرياء) وهو ما حدثتنا عنه النصوص المفسرة التي ذكرت بأن المنافقين كانوا يعيبون المكثر بأنه (مراء)، والمقلّ بأنه لا قيمة له.

المهم، أن النص القرآني الكريم رسم لنا في هذا المقطع من السورة جانبا من الفعاليات المضطربة عند المنافقين متمثلا في ما يطلق عليه (في التشخيص العبادي) ب (الإسقاط)، بعد أن كان المقطع السابق يرسم لنا جانبا آخر من السلوك المضطرب عند المنافقين وهو خلف الوعد الذي يرتكن إلى سمة تترتب عليها عملية (الإسقاط) المذكورة، ونعني بها سمة (البخيل) الذي دفع المنافقين إلى أن يحموا أنفسهم منها من خلال عملية الاسقاط المشار إليها.

هنا قبل أن نتجه إلى مقطع جديد من السورة ينبغي لفت النظر إلى البناء

ص: 179

العماري لهذا القسم منها متمثلا في عملية الربط الفني الذى لحظناه بين مقطع تحدثنا عنه سابقا والمقطع الذي تحدثنا عنه الآن، فالنص القرآني الكريم بما أنه نص فني لا يحدثنا مباشرة عن الحقائق ولا بلغتها التشريحية بل يعتمد (الانتقاء) و (اللغة غير المباشرة) مادة وتعبيرا... أما الانتقاء فيعني انتخاب (عيّنه) من السلوك مثل (معاهدة المنافق بأن يتصدق لو زرقه اللّه من فضله ومن ثم خلفه للوعد بذلك، (إعابته المتصدقين بالمال القليل أو الكثير). فهاتان العيّنتان من السلوك تمثّلان مقدمة ونتيجة ترتبط إحداهما بالأخرى - كما لحظنا، إلا أن النص القرآني الكريم اعتمد (اللغة غير المباشرة) أو لنقل (اللغة الإيحائية) أو (اللغة المفتوحة) التي تعني أن المتلقّي وليس النص هو الذي يتكفل بالكشف عن الحقائق بعد أن يضع النص في يده مفتاح ذلك. فبدلا من أن يقوم النص بعملية تشريح أو تحليل نفسي لسلوك المنافق. يضع أمام المتلقي عيّنة من سلوكه هي (بخله بما عاهد عليه اللّه) ثم نتيجة ذلك وهي (تثبيت النفاق في قلبه نتيجة لخلفه الوعد) ثم عينة تبدو وكأنها منفصلة عن سابقتها وهي اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ إِلاّٰ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ .

هذه الآية التي تبدو وكأنها منفصلة عن سابقتها، إنما هي - في لغة الفن المعجز - فرز طبيعي لإبراز السلوك السابق للمنافقين، أي بما أنهم بخلاء حينئذ يلمزون المطوعين: مع أن النص القرآني الكريم فصلها عن السابق وتحدّث عنها مستقلا مبيّنا أن هؤلاء الذين سخروا من المتصدقين سوف يسخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم، بينا حدثنا في الآية السابقة بقوله. وَ مِنْهُمْ مَنْ عٰاهَدَ اَللّٰهَ لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ * فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ وَ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ * أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوٰاهُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ فهذا المقطع الذي يتحدث عن العهد و البخل

ص: 180

والنفاق تم معرفة اللّه تعالى بأسرارهم ونجاواهم، قد اتبع باية اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ الخ وهي آية تبدو - كما كررنا - مستقلة عن سابقتها، لكن النص - من خلال لغة الفن - جعلنا نستكشف نمط العلاقة بينهما - ليس بالنحو العابر - بل وفق لغة إيحائية تدع كلّ متلقّ يستكشف منها دلالة تتناسب مع حجم خبراته العلمية، حيث يستكشف الملاحظ العابر مجرد كون المنافقين يسخرون من المتصدقين وإلى كون السخرية سلوكا معيبا، بينا يستكشف منه:

الملاحظ العيادي أسرارا نفسية تتصل بعملية التشخيص لمختلف الاضطرابات التي يصدر المنافق عنها.

سورة التوبة (9): الآیات 81 الی 83

قال تعالى: فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاٰفَ رَسُولِ اَللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ قٰالُوا لاٰ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّٰهُ إِلىٰ طٰائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقٰاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ .

في أوائل السورة حدثنا النص عن جانب من سلوك المنافقين، وكان ذلك متصلا بالكشف عن أعماقهم المنافقة حينما عرفّهم بأنهم استأذنوا الرسول (ص) في الخروج إلى ساحة القتال على نحو التملّق وأوضح بأنهم لو أرادوا الخروج فعلا لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ... أما الآن، فإن النص القرآني الكريم يتنامى بوقائع المنافقين فنيّا لينقل لنا واقعة جديدة تتسبب عضويا عن سابقتها، والواقعة الجديدة هي: فرح المنافقين بتخلّفهم عن الجهاد في سبيل اللّه، والإعلان عن أعماقهم بصراحة بعد أن كانوا متسترين سابقا، أنهم يقولون الآن بصراحة: (لاٰ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ) ، كما أن النبيّ (ص) يحدثهم بلغة الكاشف لأعماقهم فيقول لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى معركة أخرى بسبب إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ .

ص: 181

في أوائل السورة حدثنا النص عن جانب من سلوك المنافقين، وكان ذلك متصلا بالكشف عن أعماقهم المنافقة حينما عرفّهم بأنهم استأذنوا الرسول (ص) في الخروج إلى ساحة القتال على نحو التملّق وأوضح بأنهم لو أرادوا الخروج فعلا لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ ... أما الآن، فإن النص القرآني الكريم يتنامى بوقائع المنافقين فنيّا لينقل لنا واقعة جديدة تتسبب عضويا عن سابقتها، والواقعة الجديدة هي: فرح المنافقين بتخلّفهم عن الجهاد في سبيل اللّه، والإعلان عن أعماقهم بصراحة بعد أن كانوا متسترين سابقا، أنهم يقولون الآن بصراحة: (لاٰ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ) ، كما أن النبيّ (ص) يحدثهم بلغة الكاشف لأعماقهم فيقول لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى معركة أخرى بسبب إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ .

إن الأهمية الفنية لهذا المقطع من حيث صلته بالمقطع الذى لحظناه في أوائل السورة، ينطوي على خصائص في غاية الأهمية من حيث بناء السورة بنحو عام، فهنا لا يتكرر الحديث إلا في طرح جديد لسلوك المنافقين بالرغم من أن السلوك العسكري لهم منصب على قضية واحدة هي تخلفهم عن الجهاد في سبيل اللّه. فأولا لا بدّ أن نتذكر بأن النص القرآني الكريم يستهدف الآن أن يحدثنا عن المنافقين بصفتهم (كفارا) لا بصفتهم مجرّد (منافقين) لأن القسم الأول من السورة الكريمة قد اضطلع بمهمة التعريف بنفاقهم، أما الآن فإن مهمّة التعريف (بكفرهم) هو الهدف الفني للسورة، لذلك بدأ بالكشف عق سلوكهم السافر (وليس السلوك الباطني)، فكشفهم بحقيقتهم السافرة التي تحث المقاتلين على عدم الخروج إلى ساحة القتال بحجة الحرارة التي تطبع هذا الموسم...

و إذا كان النص القرآني الكريم يعاتب رسول اللّه (ص) سابقا بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكٰاذِبِينَ فإنه الآن قد كشف كذبهم تماما، ولذلك لم يأذن لهم بل قال لهم (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) . كما أنّه إذا كان النص القرآني سابقا قد أوضح بأن الله كره اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ لهم

اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ فإنه الآن قد كشف ذلك للنبيّ (ص)، ولم تعد القضية بخافية عليه بحيث كان الله تعالى وحده عالما بأعماق المنافقين وكارها لانبعاثهم وجاعلهم من القاعدين، أما الآن فإن النبيّ (ص) يقول لهم بصراحة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ . لننظر بدقة وتأمل إلى هذا المنحى الفنيّ الممتع، متمثلا في تنامي الوقائع وتطورها، حيث رسم النص في

ص: 182

أوائل السورة أعماق المنافقين وهي خافية سريّة لا يعلم بها إلاّ اللّه، رسمها منذ البدء بكونها قد طبع عليها بحيث حجزها اللّه عن أية عملية تعديل في السلوك، وحيث كره اللّه انبعاثها وحيث جعلها قاعدة مع القاعدين. دون أن تبدو واضحة أمام الآخرين، أنها قضية بين الله تعالى وبينهم: لا يعلمها أحد. لكن: بما أن هذه القضية قد حفلت بتكييف خاص هو كره اللّه تعالى لانبعاث المنافقين وجعلهم مع القاعدين. حينئذ نتوقّع (من الزاوية الفنية) أن ينعكس هذا التكييف: في سلوك لاحق عند المنافقين، وها هو الآن يبدو بجميع منعكساته في سلوك واضح محدد هو: قيام المنافقين بممارسة نشاط عملي هو تثبيط همة المقاتلين الإسلاميين، أي: قعودهم مع القاعدين حيث جسّدوا التكييف المذكور المتمثل في كراهة اللّه تعالى لانبعاثهم: جسدوه في قعودهم الفعلي وعدم مشاركتهم في القتال، كما تجسّد التكييف المذكور: في عدم السماح لهم في المستقبل أيضا بالمساهمة في أيّة معركة: يحاولون من خلالها أن يستثمروا الموقف لصالحهم مثل: الظفر بغنيمة مثلا أو مجرّد استمرارية تعاملهم أو بقائهم في دار الإسلام، وأخيرا تجسّد التكييف المذكور في قعودهم فعليا عندما خاطبهم النبيّ (ص) قائلا (اقعدوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ ) حيث أنه صدى لقوله تعالى: اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ .

ويلاحظ: أن النكتة الفنية في كون المنافقين (قاعدين) في المرة الأولى هي: كون أعماقهم المتستّرة قد تكيفت مع سائر القاعدين الممنوعين من الجهاد: نتيجة لكره اللّه تعالى لانبعاثهم. أما الآن فقد وصفهم النص بقوله فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ وليس اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ والسمة الفنية في هذا الفارق هي: أن (الخالفين) يمثلون واقعا عمليّا وليس مجرد (تكييف) لأعماقهم، أي: أنهم يمثلون تخلفا عن (الجهاد) (بالفعل)، بعد أن كانوا يمثلونه ب (القوة)، إنهم يمثلون تخلفا فعليا بعد أن كانوا يحملون (استعدادا) على أن يتخلفوا ذات يوم.

ص: 183

المهمّ ، خارجا عن السمات الفنية المشار إليها، يعنينا أن نشير إلى أن النص القرآني قد أوضح بأن لعبة (النفاق) سوف لن تحقق هدفها الذي تستّرت به حينا وأعلنت عنه حينا آخر، بالنحو الذي تحدثنا عنه.

سورة التوبة (9): الآیات 86 الی 90

قال تعالى في حديثه عن المنافقين: وَ إِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ جٰاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قٰالُوا ذَرْنٰا نَكُنْ مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ * لٰكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولٰئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْرٰاتُ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ * وَ جٰاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ .

في هذا المقطع من السورة يواصل النص القرآني الكريم حديثه عن «المنافقين»، حيث كانت المقاطع السابقة تتحدث عنهم بشكل عام، أما الآن فيتحدث النص عنهم من خلال الإشارة إلى المتمكنين منهم ممّن يمتلك قابلية على المشاركة في القتال: حيث طالبوا الرسول (ص) بأن يعفيهم من المساهمة في الجهاد ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فيما طبع على أفئدتهم. هنا ينبغي أن نتذكر بأن السمات النفسية والاجتماعية التي ذكرها النص عن المنافقين مثل كونهم (قد طُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ) وكونهم (خوالف) ومطالبتهم بأن يكونوا من (القاعدين) تظل صدى لمقاطع سابقة وصفتهم بنفس السمة. إلا أن الجديد فيها هو. مجيئهم في سياق المقارنة مع الفئات الاجتماعية التي انتظمها المجتمع الإسلامي آنذاك حيث تتوزعّ في أنماط متفاوتة في درجة إيمانها أو انحرافها.

لقد قارن النص القرآني أولا بين المنافقين الذين وصفهم بالسمات السابقة وبين الإسلاميين الذين وصفهم بقوله لٰكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

ص: 184

جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ : وهي سمات تقف على الضد من سلوك المنافقين من حيث اختيارهم الجهاد بالأموال والأنفس مقابل اختيار المنافقين القعود عن الجهاد. ولا حاجة إلى التعقيب على فائدة هذه المقارنة بين المنافقين والإسلاميين ما دمنا نعرف تماما بأن هدف النص هو: الحثّ على الجهاد في سبيل اللّه وفق قناعة داخلية خالية من شائبة النفاق أو مطلق السلوك الذي يصطنع العذر للتخلص من مسؤولية الجهاد... لذلك نجد أن النص القرآني الكريم ما أن انتهى من المقارنة بين المنافقين والإسلاميين حتى اتجه إلى شريحة اجتماعية أخرى هي «الاعراب» ليعرضها بنفس المقارنة بين مؤمنين بالجهاد حقا وبين منحرفين لا إيمان لهم. مركّزا على ظاهرة محدّدة من السلوك هي: قضية (الاعتذار)، بصفتها (المظهر) الذي يتوسّل به (المنافقون) للتخلص من الجهاد، ولكنها في الآن ذاته تشكّل مظهرا من الممكن أن يرتكن المؤمنون أيضا إليه في حالة وجود العذر الصحيح لهم بالنسبة إلى تخلفهم عن الجهاد.

لقد أوضح النص القرآني الكريم: هذه الحقيقة حينما قارن بين منافقي (الاعراب) ومؤمنيهم، قائلا: وَ جٰاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ...

إن هذه المقارنة لها أهميتها الكبيرة في حقل دراسة المجتمعات...

فمن الواضح أن ثمة فوارق بين مجتمع المدينة أو مجتمع البدو أو الريف أو سائر المجتمعات المنعزلة عن أضواء المدنيات أيا كان مستواها الحضاري...

ولسنا الآن في صدد دراسة الفوارق المذكورة بقدر ما نستهدف الإشارة إليها فحسب: من حيث أن سكان البادية يتميزون بصفة عامة بسمة الجفاء والغلظة من جانب وبسمة العزلة الفكرية من جانب آخر، لكن لا يعني ذلك أن هذه السمات محكومة بطابع ثابت بقدر ما يعني ذلك بتغليبها... بمعنى أنه من

ص: 185

الممكن أن يشذّ عن المجتمع البدوي أفراد أو رهوط بحيث تعكس التربية الفردية أثرها على الشخص وتلغي الطابع الاجتماعي لسلوكه... فبالرغم - وهذا ما لاحظه جمع من علماء الاجتماع وعلماء الأقوام عبر التجريب الميداني - من أن البيئة الجغرافية من جانب والبيئة الثقافية التي تتشكل وفقا للبيئة الجغرافية من جانب آخر، تفرض سماتها على صياغة الأفراد والمجتمعات، إلا أن ذلك لا يعني ثبات السلوك: إذا أخذنا بنظر الاعتبار إمكانية أن يشذ البعض عن ذلك بسبب من حدّة ذكاء أو تجربة فردية أو هجرة إلى الخارج أو دخول ثقافة جديدة مثل: الإسلام الذي دخل إلى المجتمعات ومنها: مجتمع الأعراب الذي تحدّث القرآن الكريم عنه. فهذا المجتمع رسمه النص القرآني لنا بأنه منشطر، إلى نمطين: إيجابي وسلبي كما سنوضح ذلك لاحقا. ونقل لنا جانبا من السلوك الإيجابي لهذا المجتمع حينما قرّر قائلا وَ جٰاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ مقابل المنحرفين الذين وصفهم النص قائلا وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ .

المهم، أن المعذّرين هنا من الممكن أن يقصد بهم من هو صادق في اعتذاره (كما ذهب إليه بعض المفسرين) ومن الممكن أن يقصد بهم من هو على الضدّ من ذلك (كما ذهب بعض آخر من المفسرين إلى ذلك)، لكن في الحالين، سنلحظ أن المقاطع اللاحقة من السورة الكريمة تتحدث بوضوح عن انشطار مجتمع الأعراب إلى نفس الانشطار الذي يطبع مجتمع المدينة، بيد أن ما نعتزم لفت النظر إليه الآن هو: المقارنة بين مجتمع البدو (في سلوكه العسكري الذي يعنى النص القرآني برسمه في هذا المقطع من السورة) وبين رسم سلوك (المنافقين) في الصعيد المذكور، والانتهاء من ذلك إلى التمييز في ظاهرة (الاعتذار) عن الجهاد في سبيل اللّه - بين الصادق من الناس بدوهم وحضرهم، وبين الكاذب منهم، وهو ما أجمله النص الآن في هذا المقطع من السورة، بينا سيفصل الحديث عنه لاحقا وفقا لما يتطلبه البناء الفني للسورة من

ص: 186

إيحاء وتطوير عضويين للأفكار المطروحة بالنحو الذي سنتحدث عنه لاحقا).

سورة التوبة (9): الآیات 91 الی 93

قال تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفٰاءِ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرْضىٰ وَ لاٰ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ لاٰ عَلَى اَلَّذِينَ إِذٰا مٰا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاٰ أَجِدُ مٰا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّٰ يَجِدُوا مٰا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيٰاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوٰالِفِ وَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ .

في هذا المقطع من سورة التوبة لا يزال الحديث عن المنافقين يتّجه إلى طرح جملة من أنماط السلوك المتصل بعملية الجهاد في سبيل اللّه، حيث تظل ظاهرة (الاعتذار) أو (طلب العفو) من المشاركة في القتال هو (الفكرة) التي تحوم عليها هذه الأجزاء من سورة التوبة: كما أشرنا سابقا.

الجديد في هذا المقطع هو: تبيين الموارد التي يتميز فيها سلو ك المنافق عن غيره.

لقد أوضح النص القرآني الكريم: جملة من الموارد التي تفرز الصادق من الكاذب في ميدان الجهاد أو التخلّف عنه. «فالضعفاء» ممن لا تسعفهم القوى الجسمية، والمرضى، والفقراء الذين لا يملكون نفقة الخروج إلى ساحة القتال: هؤلاء الأنماط الثلاثة معفوّون - أساسا - عن المشاركة في القتال...

بمعنى أن هذا المقطع من السورة يستهدف طرح فكر خاص هو (فقه الجهاد) المتصل بعنصر المشاركة وعدمها، حيث أوضح سقوط الجهاد عن الأنماط الثلاثة المذكورة: مع ملاحظة أن المبنى الهندسي للسورة يحوم على فكرة (الجهاد في سبيل اللّه) كما كررنا الإشارة إلى ذلك، وإلى أنّ طرح الأفكار المتصلة بهذا الجانب قد تركز على سلوك فئات اجتماعية مختلفة، منها:

ص: 187

سلوك المنافقين حيث تكفلت المقاطع السابقة من السورة بعرض مواقفهم بخاصة ظاهرة (العذر) عن المشاركة في الجهاد. هنا، استثمر النص القرآني الكريم - بطريقة فنية - هذا الجانب ليطرح لنا ظاهرة (العذر): بالنسبة إلى فئات، منهم: الضعيف، و المريض، والفقير وليس أولي الطول من المنافقين الذين اعتذروا بدورهم عن المشاركة في الجهاد... ثم تقدّم النص إلى طرح نمط خاص من السلوك المتصل بهذه الظاهرة أيضا، إلا أنه سلوك يميّز الصادق من الكاذب: ما دام المنافقون - كما شرحتهم مقاطع سابقة من السورة - يقدمون أعذارا مختلقة لا نصيب لها من صدق الأعماق، إن الصادق من المشاعر هو ما يشرحه النص الآتي من القرآن الكريم حيث يواصل حديثه عن الفئات الذين سقط الجهاد عنهم بسبب مشروع قائلا عنهم وَ لاٰ عَلَى اَلَّذِينَ إِذٰا مٰا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاٰ أَجِدُ مٰا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّٰ يَجِدُوا مٰا يُنْفِقُونَ .

إن الفارق الكبير بين المؤمنين حقا وبين المنافقين هو أن المؤمنين يتطلعون بشوق حادّ إلى المشاركة في الجهاد إلى الدرجة التي تفيض أعينهم - من خلالها - ألما لأنهم لم يوفقوا إلى المشاركة المذكورة. أنهم يجيئون إلى النبيّ (ص) مطالبين المساهمة في الجهاد، إلا أن النبيّ (ص) لم يتح له أن يحملهم ذلك لعدم توفّر المستلزمات العسكرية وغيرها، وحينئذ يبكون ألما لعدم حصولهم على شرف المساهمة في القتال.

هذا النمط من الناس: رسمهم النص القرآني الكريم في سياق الرسم الذى تناول المنافقين الذين مارسوا سلوكا مضادا لسلوك الإسلاميين...

هنا ينبغي لفت النظر إلى الجانب الفني أو العماري أو الهندسي للسورة.

فقد جاء الحديث عن الإسلاميين المتطلّعين إلى المشاركة في الجهاد مقابلا للمنافقين الذين استهلّ النص القرآني الحديث عنهم في هذا القسم من سورة

ص: 188

التوبة بقوله فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاٰفَ رَسُولِ اَللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ... فالمنافقون (فرحوا). بسبب من تخلّفهم عن الجهاد حيث كرهوا الجهاد بأموالهم وأنفسهم. لكن، يقابلهم هذا النمط مق الإسلاميين الذين (حزنوا) وفاضت الدموع من أعينهم. بسبب من تخلّفهم عن الجهاد.

لننظر من جديد: كم هو الفارق بين من (يفرح) لأنه تخلّف عن الجهاد، وبين من (يحزن) للسبب المذكور.

هذه المقابلة بين (الفرح) و (الحزن) ينبغي ألاّ نهملها ونحن نتحدث عن البناء الفني للسورة لقرآنية الكريمة من حيث قيامها على هيكل مترابط متجانس متوازن، كلّ جزء منها يرتبط بالجزء السابق واللاحق لها، وكل جزء يتقابل مع الجزء الآخر، فها نحن بعد أن نواجه رسما للمنافقين يتحدث عن كونهم (يَفْرَحُونَ ) بالتخلّف عن الجهاد ويقدّمون أعذارا مختلفة، نواجه بطريقة غير مباشرة - رسما آخر يتحدث عن الإسلاميين من حيث كونهم (يَحْزَنُونَ ) لعدم المشاركة في الجهاد، وكونهم يتقدّمون بأنفسهم لغرض المشاركة - لا أنهم يعتذرون - أولئك يعتذرون عن المساهمة، وهؤلاء يعتذر النبيّ (ص) إليهم. كم هو الفارق بين هذين النمطين من الناس ؟ ومن ثمّ . كم هي جمالية هذا البناء الهندسي الذي يرصد دقائق المشاعر التي تطبع الفريقين: المنافقين والإسلاميين عبر رسم فنيّ غير مباشر يتحسسه كلّ متذوق خبر خصائص الفن المعجز الذي يعرض لنا الأفكار المطروحة بمختلف صعدها التي وقفنا عليها، ومنها. هذا الجانب المتصل برسم المقارنة بين سلوك المنافقين وسلوك المؤمنين عبر ظاهرة (العذر) وما واكبها من الموضوعات التي تقدم الحديث عنها مفصلا.

ص: 189

سورة التوبة (9): الآیات 94 الی 95

قال تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذٰا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاٰ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اَللّٰهُ مِنْ أَخْبٰارِكُمْ وَ سَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَرْضىٰ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ .

في هذا المقطع من السورة: يواصل النص القرآني الكريم حديثه عن المنافقين الذين سبق الحديث عن جانب من سلوكهم العسكري وهو.

استئذانهم للخروج إلى ساحة القتال بعد أن تخلّفوا عن الخروج إلى معركة سابقة: حيث خاطبهم النص (ص) بأنكم لن تخرجوا بعد الآن إلى أية معركة ما دمتم رضيتم بالقعود أوّل مرة.

أما الآن، فإن نفس السلوك المنافق يبرز إلى الموقف لكن ليس من خلال طلب المساهمة في القتال بل من خلال الاعتذار عن التخلّف السابق...

والفارق بين السلوكين هو أن الاعتذار أشد التواء من الاستئذان وأكثر تعبيرا عن ظلمة الأعماق التي يصدر المنافقون عنها، ولذلك يعقّب النص القرآني على سلوكهم المذكور في هذا المقطع بأنهم (رجس) وهو تعبير يطلقه النص على مطلق الكفار الذين لا إيمان لهم البتة،... وبما أن هذا القسم من السورة يختص بتناول سلوك المنافقين من حيث كونهم (كفارا) إلى جانب كونهم (منافقين) أيضا: لذلك خلص النص إلى رسمهم بأشد الصفات لصوقا بالكفر وهي سمة (الرجس) بعد أن كانت المقاطع السابقة تتناول جوانب أخرى من الكفر.

هنا، يطرح النص أيضا شريحة معيّنة من السلوك تتصل بنمط التعامل مع هؤلاء المنافقين من خلال الاعتذار الذي يتمسكون به في سلوكهم... أنهم

ص: 190

يحلفون باللّه لكي يرضوا الإسلاميين، ويحلفون باللّه تعالى لكي يعرض الإسلاميون عنهم.

لكن، بما أن هذا السلوك المنافق الذي يقوم على جرّ المنفعة وهو عملية المطالبة بالصفح، ومحاولة إرضاء الإسلاميين: من الممكن أن يحقق لهم المنفعة فعلا مستثمرين في ذلك طيبة الإسلاميين، لذلك حذّر النص هؤلاء الإسلامين من أن يرضوا عن المنافقين، مطالبا إياهم أن يعرضوا عنهم أبدا، وألاّ يخدعوا بهم أو لنقل: بألاّ تنتابهم لحظات من الضعف الإنساني، أو لا يتأثروا عاطفيا بهذا النمط من الاعتذار، قائلا فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَرْضىٰ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ . إن هذا التحذير الذي ختم به النص حديثه عن المنافقين: يعدّ - من الزاوية النفسية - على جانب كبير من الخطورة في ميدان السلوك، طالما نعرف أنه من الممكن أن يقتنع الإنسان - نظرا لقصوره عن إدراك النفوس - بصدق العواطف المنافقة التي تعتذر إليه، بخاصة أن مثل هذه القناعة تتدعّم عادة بالألفة الاجتماعية التي تجعل الإنسان يندمج عاطفيا مع أمثلة هؤلاء المنافقين... لذلك، جاء هذا التحذير بمثابة حسم لأي تردّد من الممكن أن يقع البعض فيه حيال الفئة المذكورة.

بعد هذا المقطع الذي لحظناه. يواجهنا مقطع جديد يتحدث عن الأعراب وصلتهم بالمنافقين والكفار من جانب، وبالمؤمنين من جانب آخر.

وقد سبق أن طرح النص القرآني الكريم ظاهرة (الأعراب) من حيث تركيبتهم النفسية والاجتماعية، إلا أن ذلك كان مجرد تمهيد جاء في سياق الحديث عن المنافقين الذين قعدوا عن الجهاد مقابل المؤمنين به ممن كان له عذر في التخلف عنه وهم: الأعراب المشار إليهم.

أما الآن، فإن النص يتّجه (من حيث البناء الهندسي للسورة) إلى رسم

ص: 191

هؤلاء الأعراب وموقعهم من النفاق أو الإيمان في غمرة حديثه عن كفر المنافقين. مفصلا الحديث عنهم بعد أن أجمله في مقطع سابق.

ومن الواضح أن ظاهرة التفصيل بعد الإجمال، أو العرض بعد التقديم تظل في الصميم من الإحكام الهندسي للنص، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النص القرآني الكريم عندما عرض لصحة (العذر) عند الأعراب الذين تخلفوا عن الجهاد، اتجه بعد ذلك لشرح عملية (العذر) التي لحظناها عند المنافقين من حيث عدم مشروعيته عند المنافقين: وكأن النص يريد أن يقول لنا: ان الأعراب على ما هم عليه من الغلظة والجفاء كان اعتذارهم مشروعا في حين أن المنافقين: كان اعتذارهم مجرد قناع يتسترون به لتحقيق منافعهم الذاتية. لذلك ما أن انتهى النص من الحديث عن هذا الجانب من المقارنة بين السلوكين، حتى اتجه إلى الحديث عن (الأعراب) ليفصّل الحديث عنهم في المقطع الجديد الذي تتناوله الآن:

طبيعيا: لا يعني أن القرآن الكريم عندما يمتدح قسما من طائفة اجتماعية إنما يسحب هذا الثناء عليهم جميعا، بل يعني أنه في خضم المقارنة بين سلوكين: (سلوك المنافق وسلوك الأعرابي) يستهدف حينا أن يقول لنا: ان بعض الأعراب (مع أنهم جفاة) أفضل من المنافقين (مع أنهم خبروا حياة المدينة بما يواكبها من تهذيب حضاري) دون أن يعني ذلك أن (الاعراب) بنحو عام هم أكثر مرونة من منافقي المدينة.

المهم، أن عمارة النص القرآني (من حيث جمالية أجزائها التي تتنامى من مقطع إلى آخر) تتجه بعد عملية المقارنة بين سلوك المنافقين و الأعراب في جزئية خاصة منهما إلى عملية رسم شامل لسلوك الأعراب، منتقلة بذلك (بنحو فنيّ ) من سلوك طائفة اجتماعية إلى طائفة اجتماعية أخرى. من سلوك (المنافقين) مطلقا إلى سلوك (الأعراب) مطلقا: وذلك من خلال تعامل

ص: 192

الطائفتين مع مباديء الإسلام، وفي مقدمتها الجهاد في سبيا الله فيما تظل الفكرة العامة التي تحوم عليها موضوعات السورة، ومنها. سلوك الأعراب حيال هذا الجهاد.

سورة التوبة (9): الآیات 96 الی 101

قال تعالى: اَلْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّٰ يَعْلَمُوا حُدُودَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوٰائِرَ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ قُرُبٰاتٍ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ صَلَوٰاتِ اَلرَّسُولِ أَلاٰ إِنَّهٰا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اَللّٰهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ * وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ لاٰ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلىٰ عَذٰابٍ عَظِيمٍ ... .

في هذا المقطع ملاحظة اجتماعية على الأعراب وموقعهم من رسالة الإسلام إيجابا وسلبا... لكن، بما أن السورة الكريمة تتحدث عن المنافقين وكشف مستويات سلوكهم في هذا القسم الذي وردت الملاحظة الاجتماعية المذكورة فيه، حينئذ نتوقع - من زاوية البناء الهندسي لها - أن تتركز هذه الملاحظة الاجتماعية على ظاهرة (النفاق) أيضا.

لقد أوضح النص أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا من طائفة المنافقين الذين تقدم الحديث عنهم في مقاطع سابقة من السورة مبينا أنهم أولى من غيرهم بأن لا يعلموا مبادىء الإسلام. ولكي يوضّح النص هذا الحكم على الأعراب، تقدّم - بطريقة فنيّة - بنموذج عملي من سلوكهم للبرهنة على ذلك، فقال عنهم (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما). إن التفكير القائم على تصوّر كون

ص: 193

الانفاق عملية خسار مالي، يدلنا بوضوح على سقم هذا التفكير و كونه بعيدا عن إدراك مبادىء الإسلام. لكن، بعد أن يدلّل النص - فنيا - على هذا الجانب من سلوك الأعراب يتجه - اجتماعيا - إلى عرض بعض الحقائق المتصلة بالمجتمعات البشرية، فبالرغم من كون الأعراب أشد كفرا ونفاقا من سواهم بسبب تخلّفهم الذهني والحضاري، إلا أن ذلك لا يعني كون الظاهرة المذكورة تشكّل قاعدة اجتماعية بل أن الظاهرة الفكرية أو المبدأ الإسلامي القائل بأن كلّ نفس بشريّة تلهم فجورها وتقواها تظل أقوى من أية قاعدة اجتماعية، و لذلك فإنّ من هؤلاء الأعراب من يكون على عكس المتخلفين ذهنيا، إنّ منهم - كما يقول النص - مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ قُرُبٰاتٍ عِنْدَ اَللّٰهِ .

لننظر أولا، إلى التقابل الهندسي بين الأعراب الذين يتخذون ما ينفقونه (مغرما) وبين الأعراب الذين يتخذون ما ينفقونه (قربة)... ونحن بعد أن ننتقل من هذا الجانب المادي الجميل للمقطع، إلى الجانب الاجتماعي منه، نجد أن تقرير هذه الحقيقة الاجتماعية تشكل وثيقة بالغة الأهمية في حقل التصوّر الإسلامي للمجتمعات، أي أنها تلغي الاتجاه الاجتماعي الأرضي الذي يحاول ربط المجتمعات ببيئاتها فحسب وتتجه إلى تفسير خاص للمجتمعات هي كونها خاضعة لعنصرين: عنصر (بيئي) وعنصر (غيبي) أو (فطري). العنصر الفطري يتمثل في كون الإنسان قد أودع الله فيه قابلية إدراك الخير والشر، والعنصر البيئي يتمثل في كون الإنسان يتأثر بما حوله من لبيئات. فإذا كان الأعراب بسبب من تأثرهم بالبيئة الاجتماعية قد طبعوا بسمات الجفاء والغلظة والتخلف الذهني فإن ذلك لا يعني إلغاء العنصر (الفطري) فيهم: أي إدراكهم للخير والشر، بل يعني أنهم قد انصاعوا لمؤثرات البيئة دون أن يمارسوا عملية تأجيل لشهواتهم. والدليل على ذلك أن قسما آخر من نفس الأعراب آمنوا بمبادىء الاسلام، فلو كانت البيئة الحضارية هي العنصر الوحيد لتخلفهم ذهنيا لما أتيح للقسم الآخر من الأعراب أن يؤمن بمبادىء الإسلام، وهذه الحقيقة تشكل ردا

ص: 194

صريحا على بعض الاتجاهات التي يصدر عنها علم الاجتماع الأرضي في ذهابها إلى حصر السلوك في بعده الاجتماعي.

المهم، خارجا عن هذه الحقيقة التي يقدّمها القرآن الكريم في حقل المجتمعات وتفسيرها، يعنينا أن نواصل الحديث عن هذا المقطع من السورة من زاوية بنائها الفنيّ .

لقد تقدم النص القرآني الكريم: بعرض فئة المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار في سياق حديثه عن فئة المؤمنين من الأعراب، ثم عاد إلى الحديث عن المنافقين من جديد. أعرابا ومدنيين.

لنلاحظ جمالية هذا العرض المتقابل بين: المؤمنين والمنافقين، فهناك مؤمنون: مهاجرين وأنصارا. وهناك منافقون: أعرابا ومدنيين... هناك (اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ) ... وهناك: مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ ... لننظر من جديد إلى هذه الثنائية الفنيّة الجميلة في التقابل بين مهاجرين وأنصار آمنوا، وبين أعراب ومدنيين نافقوا... كل واحدة من الفئتين تمثل موقعا جغرافيا: الفئة المؤمنة تمثل (المكيين) و (المدنيّين). وأما الفئة المنافقة فتمثل (الأعراب) و (المدنيين).

هذا التقابل المدهش فنيّا بين المنافقين والمؤمنين إنما تمّ وفق الحقائق الاجتماعية التي سبق شرحها قبل قليل. حيث أوضح النص بطريقة فنية بالغة الدهشة، بالغة الإمتاع، حقائق اجتماعية تتصل بعنصري (البيئة) و (الوراثة)، كما قدم حقائق اجتماعية تتصل بعنصري (الإيمان) و (الكفر) أو (النفاق)، ثم ربط بين هذه العناصر من خلال عملية انتقال فني من فئة اجتماعية إلى فئة أخرى: على نحو ما لحظنا. ثم تقدم إلى الحديث عن فئة ثالثة قال عنها:

ص: 195

(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا...) حيث تمثل هذه الفئة نمطا آخر من الشرائح الاجتماعية التي لم تجسّد (الإيمان) بشموله ولا (الكفر) بشموله، بل تأرجحت بينهما، حيث رسمهما النص وفق سلوك خاص يتكفل مقطع آخر من السورة بتوضيحه.

سورة التوبة (9): الآیات 103 الی 105

قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاٰتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ * وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

هذا المقطع من سورة التوبة يتناول فئة من الناس خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا مقابل فئتين أخريين: المؤمنين والمنافقين، وإذا كان النص القرآني الكريم في مقاطع سابقة من السورة قد اتجه إلى رسم المنافقين بعامة فإنه من خلال عنصر المقارنة بينهم وبين سائر الفئات الاجتماعية التي انتظمها مجتمع المسلمين قد استهدف تحديد مستويات السلوك لفئتين. إحداهما مؤمنة لا شائبة في سلوكها، والأخرى: خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، لكن حتى هذه الفئة الأخيرة ما دامت قد وفقت للعمل الصالح، حينئذ تصبح مرشحة للتوبة من عملها السيء، وهو ما حدث فعلا: حيث يذكر المفسرون أن المقطع المذكور نزل في نفر تخلّفوا عن إحدى المعارك الإسلامية، وقد ندموا على ذلك فربطوا أنفسهم بسواري المسجد.

والمهم، خارجا عن التفسير المتقدم، فإن النص القرآني نفسه تضمّن هذا الجانب من سلوك الأشخاص الذين طالب النبيّ (ص) بأن يأخذ من أموالهم صدقة تطهّرهم، وطالبه بالصلاة عليهم لأن صلاته (ص) سكن لهم. أقول ان

ص: 196

النص القرآني نفسه ذكر هذا الجانب من التوبة بطريقة فنية حينما قال في الآية اللاحقة أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ حيث يستنتج المتلقي بأن هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا قد تابوا بالفعل، بل أن نفس مطالبة النص النبيّ (ص) بأخذ أموالهم والصلاة عليهم: تعبّر - فنيّا - عن مفهوم التوبة.

و المهم أيضا، أن هذا المقطع يظل من زاوية العمارة الهندسية للسورة، متلاحما مع مقاطعها السابقة التي ركّزت الحديث على سلوك المنافقين. فقد سبق أن لحظنا أن النص القرآني الكريم طالب النبيّ (ص) عبر رسمه لسلوك المنافقين بأن لا يستغفر لهم وإلى أنهم لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم... أما هؤلاء الذين تخلفوا عن المعركة وندموا على ذلك، فبالرغم من تماثل جانب من سلوكهم مع المنافقين، إلا أن التماثل المذكور كان عابرا ولحظة من الضعف بحيث ندموا عليه، بخلاف المنافقين الذين طبعوا ومردوا على سمة الشر والنفاق.

هنا، يتقدم النص القرآني الكريم برسم نمط آخر من الأشخاص الذين تخلفوا عن المشاركة في ميادين القتال حيث قال النص عنهم: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّٰهِ إِمّٰا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّٰا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

وإذا قارنا بين هذا النمط وبين النمط السابق الذي اعترف بذنبه وخلط عملا صالحا وآخر سيئا: نجد أن هذا النمط قد توقف الحكم عليه: امّا العقاب وامّا التوبة، وهذا يعني أنه كان أشد مفارقة في سلوكه بحيث لم يحسم الموقف حياله... والمهم: أن قضية التأرجح بين الإيجاب والسلب بغض النظر عن مستوياته التي يتفاوت الأفراد فيها من واحد لآخر، تظل مجسدة لفئة اجتماعية تنتابها لحظات من الضعف الإنساني بحيث تنم على صدورها عنه:

ص: 197

مقابل فئة قد اختارت من أول الأمر سيل الجهاد من أجل الله، ثم مقابل فئة قد اختارت التخلف عن الجهاد أساسا ونعني بهم المنافقين... والنص القرآني الكريم عندما يعرض لهذه الفئات أنماطها المتقدمة إنما يستهدف لفت الانتباه على مختلف الاستجابات التي يصدر الناس عنها في تعاملهم مع ظاهرة الجهاد في سبيل اللّه، بصفة أنّ الجهاد يشكل محطا لفرز الأشخاص والهيئات وكشف درجة الإيمان الذي يغلّف أعماقهم.

وإذا كان الإسلاميون ينشطرون - تبعا للأصناف الثلاثة التي تقدم الإيماء إليهم - إلى مؤمنين ومتأرجحين، فإن الفئة المنافقة التي تكفّل قسم كبير من سورة التوبة بالكشف عن مختلف سلوكها، هذه الفئة تظل موضع رصد لا يزال النص القرآني الكريم يتابع تسجيله: وفي هذا القسم من سورة التوبة حيث ينتقل النص إلى رصد آخر من سلوكها الاجتماعي. لقد رسمهم النص - أي المنافقين - في صعيد السلوك الاقتصادي والعسكري: طائفة لا تعنى إلاّ بجرّ المنفعة الذاتية فهم يبخلون بأموالهم من جانب كما يتخلفون عن المعارك من جانب آخر: حفاظا على أموالهم وأنفسهم. لكن، لا يقف الأمر عند هذا النطاق، بل يتجاوزونه إلى مختلف الصعد الاجتماعية التي تكشف عن كونهم ليسوا مجرد نفعيين بل مجموعة من المضطربين الذين لا يحتفظون بأدنى درجة من التوازن الداخلي، حتى أنهم - كما سنرى في المقطع اللاحق من السورة الكريمة - يتجهون إلى بناء مسجد مثلا (وهم أبعد ما يكونون عن المعنيين بأمثلة هذا الاهتمام) بغية التفريج عن أعماقهم المضطربة، وتمرير نزعاتهم العدوانية حيال الإسلاميين.

***

سورة التوبة (9): الآیات 107 الی 110

قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنٰا إِلاَّ اَلْحُسْنىٰ وَ اَللّٰهُ

ص: 198

يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ لاٰ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ * أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيٰانَهُ عَلىٰ تَقْوىٰ مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيٰانَهُ عَلىٰ شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ فَانْهٰارَ بِهِ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ * لاٰ يَزٰالُ بُنْيٰانُهُمُ اَلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّٰ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

يتحدث هذا المقطع عن جانب آخر من سلوك المنافقين، حيث اتجهوا إلى بناء أحد المساجد إضرارا بالإسلاميين وتفريقا لهم، وقد يتساءل ما هي خطورة بناء مثل هذا المسجد وانعكاساته على الإسلاميين، وما هي دلالاته بالنسبة إلى المنافقين أنفسهم ؟؟ أما بالنسبة إلى الإسلاميين، فقد استهدف منه - كما أوضح النص ذلك - ضرارا وتفريقا و إرصادا لهم. وقد ذكر المفسّرون أن المنافقين قد استهدفوا من ذلك أن يستقلوا بأنفسهم وألاّ يحضروا جماعة الرسول الأكرم (ص) حيث طلبوا منه (ص) أن يصلّي فيه: حيث تتفرّق جماعته (ص) وتقلّ خطورتهم في أعين النّاس، وحيث اتخذوه - من ثمّ - لأحد المنحرفين الكبار الذي كرّس حياته لمحاربة الإسلام بعد أن واعدهم بالذهاب إلى الخارج وتحضير الجند من هناك لإخراج النبيّ (ص) من المدينة: إلا أنّه مات قبل أن يمارس مهمته المنحرفة المذكورة.

ومن هذا نفهم: ان عملية بناء المسجد كانت عملا سياسيا ينطوي على تخطيط خاصّ لمحاربة الإسلام.

بد أن النتيجة كانت لغير صالحهم - كما لحظنا، حيث ان النص القرآني الكريم يتقدم برسم صورة فنية للتعبير عن فشل المهمة المذكورة دنيويا وأخرويّا قائلا أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيٰانَهُ عَلىٰ شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ فَانْهٰارَ بِهِ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ .

هذه الصورة الفنية (شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ) فضلا عن انطوائها على قيم صوتية

ص: 199

تتصل بالتجانس بينها وبين نتيجتها (فانهار به) أي تجانس الأصوات (ف، ن، ه، ا، ر) ثم انطواء هذا التجانس الصوتي بين الجملتين (شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ) و (فَانْهٰارَ بِهِ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ ) على تجانس (فكري) أيضا متمثلا في كون البناء القائم على جانب النهر إنما ينهار على نحو ما ينهار عمل القائمين به في نار جهنم. أقول افضلا عن الجمالية الممتعة التي نتحسسها في تجانس الأصوات بين الجملة التي تتحدث عن بناء المسجد وكأنه على شفا جرف هار وبين الجملة التي تتحدث عن النتيجة الأخروية للعمل المذكور حيث ينهار به في نار جهنم، فضلا عن ذلك، ينبغي ألاّ يغيب عن أذهاننا هذا التوازن العماري في المقطع بين عمل الدنيا ونتيجته في الدار الآخرة. الدنيا، حيث ينهار المسجد سريعا فلا يتحقق الهدف المنحرف من بنائه... وبالفعل أمر رسول اللّه (ص) بعد نزول الوحي عليه بتهديم المسجد المذكور... والأخرى. حيث ينهار - وقتئذ - هذا العمل بذهاب أصحابه إلى جهنم.

أما دلالات هذا العمل من حيث التعبير عن أعماق المنافقين، فيتحدد وفق ما أشار النص القرآني الكريم إليه. حينما أوضح بأنه (لاٰ يَزٰالُ بُنْيٰانُهُمُ اَلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) كما أنه حينما أوضح بأن البناء المذكور كان (ضِرٰاراً) و (تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ) ... حينما أوضح ذلك كله: إنما دلّنا على طبيعة الأعماق المنافقة التي يسمها طابع الاضطراب الشديد لديهم.

إن (الريبة) التي أشار النص القرآني إليها: تظل من الوضوح بمكان بالنسبة إلى أعماق المنافقين، فعنصر (الشك) يمثّل أقوى درجات الاضطراب في النفس كما هو واضح، وسواء أكانت (الريبة) تعني (الحزازة في النفس) كما ذهب إلى ذلك بعض المعنيين بشؤون التفسير أو كانت ريبة فكرية نابعة من استبطان المنافقين غير ما يظهرونه: كما ذهب إلى ذلك البعض الآخر: ففي الحالين ثمة عرض نفسي خطير هو تمزق النفس واضطرابها في غمرة الاهتمام

ص: 200

بأمثلة هذا النشاط المنحرف الذي واكب بناء المسجد.

مضافا إلى ذلك: فإن نزعة (العدوان) من حيث كونهم يمارسون عملا يستهدفون منه أساسا (ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين و إرصادا لمن حارب اللّه ورسوله) ثم قسمهم باللّه وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنٰا إِلاَّ اَلْحُسْنىٰ كل أولئك، أي: النزعة العدائية التي تستهدف تفرقة الكلمة، ثم الحلف على عكس ما يستهدفونه: تعبير عن أشد درجات الاضطراب في النفس، إن مشاعر (الكراهية) وحدها كافية بأن تشطر الشخصية وتحتجزها من تذوّق الأمن والتوازن الداخلي، كما أن عملية الحلف باللّه بأنهم لا يستهدفون إلا الخير:

مع أنهم يضطربون بلهيب الحقد والشر. إفصاح واضح عن أشد درجات التمزق الداخلي. ولنا أن نتصور مدى التمزق الذي يطبع الشخصية وهي تضطرم حنينا إلى تحقيق نزعاتها العدائية ثم تمارس من جانب آخر عملية تبرئة لذاتها حيث تحلف باللّه بأنها لم ترد إلا الحسنى مستهدفة بذلك تمرير نزعاتها الحاقدة أمام الإسلاميين الذين تخشاهم كل الخشية، متوجسة خيفة من أن يفتضح أمرها فتخسر الرهان: مع أن نشاطها منصب أساسا على جرّ المنفعة... حينئذ كم يبدو تمزّقها شديدا حيال الصراع العنيف الذي أشرنا إلى صدور الشخصية المنافقة عنه، ثم كم كان النص القرآني الكريم قد عبّر عن ذلك بوضوح حينما ختم المقطع الذي تحدث به عن المنافقين بقوله (لا يزال بنيانهم الذي بنوا (ريبة) في قلوبهم، إلاّ أن تقطع قلوبهم) حيث أفصحت عبارة (ريبة) عن جميع الدلالات النفسية المضطربة التي تقدم الحديث عنها (بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه).

سورة التوبة (9): الآیات 111 الی 112

قال تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ

ص: 201

وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ اَلتّٰائِبُونَ اَلْعٰابِدُونَ اَلْحٰامِدُونَ اَلسّٰائِحُونَ اَلرّٰاكِعُونَ اَلسّٰاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّٰاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّٰهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

في هذا المقطع من سورة التوبة حديث عن الجهاد في سبيل الله. ومن الواضح أن سورة التوبة - كما لحظنا - تحوم فكرتها على (الجهاد) حيث تنصب موضوعاتها المختلفة في الرافد الفكري المذكور: كل ما في الأمر أن موضوعاتها التي تتناول عرض مختلف الشرائح الاجتماعية. من مؤمنين ومتأرجحين ومشركين ومنافقين، إنما تعرض في سياق الجهاد في سبيل اللّه... هذا إلى أننا لحظنا أن الحديث عن (المنافقين) يظل محتلا مساحة كبيرة من النص القرآني الكريم: نظرا لأهمية الكشف عن الفئة المذكورة التي أظهرت الإسلام واستبطنت الكفر، ثم امتداد هذه الفئة ومن شاكلها على مرّ العصور ممن يصدرون عن سلوك (النفاق) بشكل أو باخر، مما يفصح بعامة عن أهمية الطرح للظاهرة المذكورة.

وأيّا كان الأمر، فالملاحظ أن النص القرآني الكريم يعرض لنا بطريقة فنية - يراعى من خلالها البناء الهندسي للسورة - بين مقطع وآخر جانبا من السلوك الاجتماعي: مستقلا، أو ضمنيا حيث يقارن بين السلوك الإيجابي والسلبي: تثبيتا لما هو إيجابي والإفادة منه لتعديل السلوك.

والآن، بعد أن عرض النص القرآني الكريم أنماطا من السلوك لدى المنافقين اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا، ثم بعد أن عرض خلال ذلك أنماطا من السلوك الإيجابي المتأرجح، اتجه بعد الإجمال الذي ذكره عن الإيجابيين إلى تفصيل ذلك، حيث أوضح في هذا المقطع الذي تناوله الآن: ظاهرة الجهاد بأشمل دلالاتها وارتباطها بالإسلاميين بأكمل مستويات السلوك. فمن

ص: 202

الممكن مثلا أن يتجه إلى الجهاد بعض النماذج غير المكتملين وعيا، ومن الممكن أن يتجهوا إليه دون أن يحيطوا بدلالاته الخطيرة. لذلك بدأ النص في هذا المقطع بتوضيح الجوانب المذكورة: استكمالا للطرح الذي انتظم سورة التوبة ونعني به ظاهرة الجهاد في سبيل اللّه.

لقد أوضح النص أولا هذه الظاهرة، أتبعها بتوضيح المجاهدين أنفسهم، أي: طرح كلا من دلالة (الجهاد) ودلالة (المجاهدين) لتستكمل الصورة عن الظاهرة الفكرية المتقدمة.

وقد استخدم النص الكريم عنصر (الصورة الفنية) لتوضيح هذا الجانب، حيث قرّر بأن الأنفس والأموال يجسّد (ثمنا) لعملية (اشتراء): المشترى هو الله تعالى والبائع هم (المجاهدون)، وبعد أن شطر عملية البيع أو الاشتراء إلى (النفس) و (أموال) شطر أيضا عملية الأنفس إلى (قتل الأعداء) و (قتل من قبل الأعداء). ثم، لكي يمنح عملية (الاشتراء) المذكورة (الضمان) لها، أكّد قائلا (وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ ) : تثبيتا للنفوس ويقينا بممارستها التي تحقق لها ضمان الثمن المذكور، ثم: لمزيد من التأكيد على ذلك بحيث لا يدع أدنى مجال للتردد في عملية الاشتراء المذكورة، طالب المجاهدين بأن يستبشروا بهذه العملية منذ الآن، أي. أن يظفروا بتحقيق الاشباع المترتب على دفع الثمن منذ الآن، قائلا لهم فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ .

والحق: أن أي قارىء - حتى لو كان عابرا - ما أن يتأمل هذه الآية الكريمة حتى يتحسس بنمط من البشرى تغمر أعماقه، وحتى يتمنى في الصميم من أعماقه أن يتجه إلى سوح الجهاد في سبيل الله للظفر بغنائم هذا البيع...

و هو أمر يفصح عن خطورة الصورة الفنية التي رسمها القرآن الكريم لتجلية مفهوم الجهاد.

ص: 203

والآن، يتقدم النص لرسم السمات العبادية التي ينبغي أن تتوفر لدى المتجه إلى ساحة الجهاد في سبيل اللّه، فيذكر سماتهم على هذا النحو: التائب من ذنوبه، العابد للّه وحده، الحامد لنعمه، الصائم أو السائح في طلب العلم، الساجد، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الحافظ لحدود الله أي: القائم لطاعته.

إن هذه السمات لا بد من توفّرها في شخصية المجاهد بغية أن يستكمل مفهوم الجهاد دلالته الحقة، طالما نعرف بأن الشخصية الإسلامية الناضجة لا تحيا انشطارا في سلوكها، بل تحيا وحدة السلوك الذي لا ينفصل أيّ جزء منه عن الأجزاء الأخرى، فالجهاد بالرغم من كونه عملا عسكريا يتطلّب تفرّغا زمانيا ومكانيا خاصين، إلا أنّ ذلك لا يتم على حساب الاختزال العبادي لسائر النشاطات الفردية الاجتماعية من صلاة وصوم وأمر بالمعروف الخ بل تتلاحم كل هذه النشاطات في سلوك موحّد يمتزج فيه ما هو فردي بما هو اجتماعي وما هو تأملي بما هو عملي: حسب ما يتطلبه الموقف.

وأيا كان، فإن المقطع الذي لحظناه الآن، يظل - كما أشرنا - مرسوما في سياق الكشف عن الشرائح الاجتماعية التي انتظمت المجتمع الإسلامي، ومنها: الفئات المنحرفة منافقين ومطلق الكفار... لذلك، يتجه النص القرآني الكريم بعد هذا المقطع إلى رسم جوانب أخرى من سلوك الفئات المشار إليها.

سورة التوبة (9): الآیات 113 الی 114

قال تعالى: مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ وَ مٰا كٰانَ اِسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَأَوّٰاهٌ حَلِيمٌ .

ص: 204

في صدا المقطع من سورة التوبة صياغة الإحدى الحقائق العبادية المتصلة بتعامل الإسلاميين مع المنحرفين.

هذه الحقيقة هي: استغفار النبيّ (ص) والمؤمنين للفئات المشركة، حيث أوضح المقطع بأن عملية الاستغفار للمشركين ينبغي ألا تأخذ أي طابع مق المشروعية (مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ ) .

ثم عرض النص لقصة إبراهيم مع أبيه من حيث عملية الاستغفار المذكورة، موضحا أن إبراهيم (ع) كان قد استغفر لأبيه، إلا أن ذلك لم يكن إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ... .

ويعنينا من هذا المقطع جانبان: الجانب الفكري والجانب الفنيّ المتمثل في علاقة هذا المقطع بهيكل السورة وهندستها.

أما الجانب الفكري، فيتمثّل في واحد من أهمّ الموضوعات المتصلة بسلوك الإسلاميين وعلاقاتهم بالفئات الاجتماعية المنحرفة، بما في ذلك التعامل مع الأشخاص المنتسبين إليهم بآصرة القربى... فالمعروف فى حقل الحقائق النفسية أن القريب - بخاصة إذا كان أبا أو ابنا - يظل بموجب (الدافع إلى البنوة أو الأبوة) موضع تعاطف شديد بين طرفي العلاقة، لذلك نجد أن النص القرآني الكريم قد انتخب قضية ابراهيم مع أبيه لطرح فكرة التعامل مع أقرب الناس نسبا، ليدلّل على ضرورة تعديل الدافع المذكور وتكييفه - ليس على أساس فطري - بل على أساس فكري هو: علاقة الإنسان باللّه تعالى.

صحيح أن الأب أو الابن يرتبط أحدهما بالآخر: فطريا، إلا أنّ ذلك ينبغي أن يقوم على أساس فكري - كما قلنا، بمعنى أن علاقة الحب التي أودعها اللّه تعالى في الكائن الإنساني إنما تستمد فاعليتها من (الحب في اللّه) وليس الحب مجردا عن الله، وهذا الأساس بدوره (فطري)، إلاّ أنه يحتاج إلى دراسة الموقف بجدية لكي تتبين للشخص دلالة علاقته بالآخرين، فالمنحرفون

ص: 205

مثلا قد (يحب) أحدهم الآخر: نظرا لتماثلهم الفكري في ظواهر الانحراف، وحينئذ لا فائدة من هذا الحب ما دام يفضي لغير الصالح العام: كما لو افترضنا أن يتعاطف القتلة والسرّاق والبخلاء والخونة ونحوهم فيما بينهم على أساس من سلوكهم المتقدم، إذ يترتب على ذلك فساد اجتماعي لا يأتلف مع دلالة الحب أساسا. و لا أدل على ذلك ما لحظناه في سلوك المنافقين الذين تكفّلت المقاطع السابقة من سورة التوبة بعرض سلوكهم المنحرف: وهو سلوك قائم على النفعية، والبخل، وتفرقة الكلمة، مما تفضي بالضرورة إلى الفساد الاجتماعي.

إذن نحن الآن أمام ظاهرة فكرية تظل في الصميم من السلوك العبادي وهي قضية صياغة علاقات (الحب) وفقا لأساس عبادي ملتزم بمبادىء اللّه، ونبذ كل أشكال العلاقة الاجتماعية غير المرتكنة إلى المبادىء المذكورة بما في ذلك أوثق علاقات (الحب) النسبية مثل علاقة الأب بابنه أو الابن بأبيه.

فالملاحظ أن المقطع القرآني الكريم الذي نتحدث عنه، أنه عندما ذكر قصة إبراهيم مع أبيه، لم يكتف بأن يرصد العلاقة النسبيّة بينهما فحسب، بل أردفها برسم سمتين من شخصية إبراهيم هما: كونه (أواها) و (حليما)، فالاوّاه هو المتضرّع أو المتأوّه شفقا، و (الحليم) هو الصابر الذي يصفح عن الذنب: فمع كونه حادا في عاطفته، شديدا في صفحه عمن يسيء إليه - وهما يمثّلان الذروة في مفهوم (الحب) - نجده متجها إلى اللّه تعالى في تحديد علاقاته مع الآخرين، أي أنه بالرغم من شدة محبته للآخرين إنما يستمد ذلك من شدة محبته لله تعالى، فإذا كره اللّه المنحرفين: حينئذ سوف يكره إبراهيم بالضرورة المنحرفين أيضا للسبب المذكور.

إذن أمكننا الآن أن ندرك (من الزاوية الفنية) صلة هذه السمات التي خلعها النص على إبراهيم بقصته مع أبيه، وصلة هذه القصة بتعامل الإسلاميين

ص: 206

مع المنحرفين الذين طالب اللّه تعالى ألاّ يستغفر لهم حتى لو كانوا أولي قربى.

كما ينبغي أن نتذكر بأن المقطع القرآني الكريم إنما يتحدث عن هذه الظاهرة في سياق حديثه عن المنافقين وسائر المنحرفين: حيث ذكر النص في مقطع سابق بأن الاستغفار للمنافقين حتى لو كان سبعين مرة فإن اللّه لا يغفر لهم.

وها هو النص القرآني الكريم يصل فنيّا بين قضية عدم الاستغفار للمنافقين وعدم الاستغفار لمطلق المشركين، أي: أنه قد انتقل من رسم سلوك خاصّ بالمنافقين إلى رسم سلوك عام لمطلق الكفار: ليصوغ لنا حقيقة فكريّة عامة:

هي تحديد علاقة الشخصية الإسلامية (من حيث التعاطف) مع الفئات المنحرفة مطلقا، وضرورة أن تتحدد هذه العلاقة من خلال التعامل مع اللّه فحسب ونبذ كل أشكال (الحب) مع المنحرفين حتى لو كانوا أولي قربى، بل حتى لو كانوا في نطاق أشدّ الدوافع إلحاحا في النفس البشرية مثل عاطفة الأبوّة أو البنوة (كما لحظناه فى قصة إبراهيم مع أبيه).

سورة التوبة (9): الآیات 117 الی 118

قال تعالى: لَقَدْ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سٰاعَةِ اَلْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مٰا كٰادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَ عَلَى اَلثَّلاٰثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّٰى إِذٰا ضٰاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ وَ ضٰاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لاٰ مَلْجَأَ مِنَ اَللّٰهِ إِلاّٰ إِلَيْهِ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ .

يتناول هذا المقطع من سورة التوبة: ظاهرة (التوبة) من خلال قضية (الجهاد) التي تشكّل عصب السورة: كما كررنا. فالمقطع يعالج قضيّتين منفصلتين من القضايا المرتبطة بالجهاد، هما: قضية تردد بعض المقاتلين في مواصلة الجهاد وقضية تردد البعض الآخر في الالتحاق بالمقاتلين. وبالرغم من أنّ كلا من الواقعتين يصبّ في موضوع غير الآخر إلا أنهما يصدران عن رافد

ص: 207

نفسي واحد هو: التلكؤ أو التردد في المواقف الحاسمة من الجهاد في سبيل اللّه، فالقضية الأولى - وفقا للنصوص المفسّرة - تتناول المقاتلين الذين واجهوا شدائد كبيرة في معركة (تبوك) من حيث شدة الحرّ وقلة الزاد والراحلة حتى همّ قسم بالإنصراف عن المعركة فعصمهم الله من ذلك وتاب عليهم، وأما القضية الأخرى فتتناول جماعة تخلفت عن الالتحاق بالمعركة توانيا ثم ندموا على ذلك حتى ضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم والتجأوا صادقين إلى اللّه فتاب عليهم.

فالملاحظ هنا أن هاتين الجماعتين أو هذين النمطين من الناس لم يصدرا عن نزعة معادية للإسلام بل عن ضعف نفسي ألمّ بالنمط الأول الذي التحق منذ البدء بساحة القتال: إلا أنه كاد يزيغ فؤاده من الشدائد التي واجهها، وأما النمط الآخر فما كاد يتخلّف عن الجهاد (وهو ضعف نفسي أيضا) حتى ندم على سلوكه المذكور، ففي الحالتين نواجه أنماطا تحتفظ أعماقها بنزعة الخير، نمطا يتّبع النبيّ (ص) في ساعة العسرة (وهو خير محض) لكنه يكاد يضعف حيال شدائد المعركة. ونمطا آخر لم يتبع النبيّ (ص) في ساعة العسرة إلا أنه ندم على عدم التحاقه، مما يعني أن الاتباع في ساعة العسرة، والندم على عدم الاتّباع بالرغم من اختلاف مظهرهما لكنهما يفصحان عن توفر جانب إيجابي فيهما... لذلك جاء التأكيد على مفهوم (التوبة) متجانسا، أو لنقل:

نتيجة طبيعية لموقفهما المذكور: وهو: الإحساس بالندم بصفة أن الإحساس بالندم مفصح عن توفّر نزعة الخير في الأعماق، لكن بما أن الندم من الممكن أن يظل في نطاق الأحاسيس، حينئذ فإن ترجمته إلى سلوك خارجي يعدّ تعبيرا حقيقيا عن الندم وليس مجرد أحاسيس عابرة. والنص القرآني الكريم أشار - بطريقته الفنيّة - إلى هذا الجانب حينما رسم الأشخاص (الثلاثة الذين خلّفوا) بأنهم أولا ضٰاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ وثانيا بأنهم ضٰاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ، وثالثا ظَنُّوا أَنْ لاٰ مَلْجَأَ مِنَ اَللّٰهِ إِلاّٰ إِلَيْهِ .

ص: 208

ونتيجة لهذه المراحل الثلاث من عملية الندم وترجمته إلى سلوك عملي تاب الله عليهم، حيث ذكر المفسّرون أنّ هؤلاء الثلاثة هجرهم النبيّ (ص) والناس وعوائلهم أيضا، فاتجهوا إلى رؤوس الجبال، حتى أنهم هجر كل واحد منهم الآخر: متضرعين إلى اللّه، معلنين عن ندمهم على التخلف عن ساحة القتال: حتى تاب اللّه تعالى عليهم. كما أن الفريق الآخر الذي التحق أساسا بالمعركة في ساعة العسرة وتلكأ أو كاد في مواصلة القتال ثم عاد إلى موقعه البدائي، إنّما يشكّل عودا إلى ممارسة القتال وهو سلوك عملي يزيل كلّ آثار التلكّؤ الذي طرأ عابرا على موقفه، مما يستتبع قبول (التوبة) أيضا.

وهذا كله من حيث البعد الفكري للمقطع القرآني الكريم الذي نتحدث عنه.

أما من حيث البناء الفنيّ وصلته بالمقاطع السابقة من السورة فيتمثّل في كونه جائيا في سياق عرض مختلف الشرائح الاجتماعية التي انتظمت مجتمع الإسلام مسلمين أو منحرفين. فبالنسبة إلى المنحرفين - منافقين كانوا أو مشركين - طالب النص القرآني الكريم بعدم استغفار الإسلاميين لهم، لأنهم قد طبع على قلوبهم إلى الدرجة التي لا يمكن تصوّر أي عملية تعديل لسلوكهم.

أما بالنسبة إلى الإسلاميين، فهناك نمط سويّ على الضد تماما من المنحرفين وهم (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان)... وهناك أكثر من نمط تتوزعهم انحرافات عابرة: بعضهم خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وبعضهم - كما لحظنا في المقطع الذي نتحدث عنه - صدر عن تردّد أو لحظة عابرة من الانحراف ثم عاد إلى السلوك السوي، هذه الأنماط من الشرائح الاجتماعية جاءت في مقاطع مختلفة من سورة التوبة، كما جاء مفهوم (التوبة) مواكبا للحديث عن هذه الفئات التي تاب اللّه عليها فعلا، وأجّل التوبة على بعض منهم، حيث يستخلص الملاحظ ان قضية (التوبة)

ص: 209

طرحت مقترنة بالمحاولات الجدية في تعديل السلوك، كما أنها طرحت في سياق الحديث عن (الجهاد في سبيل اللّه) وموقف مختلف الفئات الاجتماعية من عملية الجهاد، ومنها: الفئات المتردّدة التي تلمّ بها حالات الضعف النفسي حيث ختم النص الكريم الحديث عنها بالتعقيب الآتي الذي يشير إلى أنه لا ينبغي للإسلاميين

سورة التوبة (9): الآیات 120 الی 121

أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّٰهِ وَ لاٰ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاٰ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لاٰ نَصَبٌ وَ لاٰ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لاٰ يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّٰارَ وَ لاٰ يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ كما أنهم وَ لاٰ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً وَ لاٰ يَقْطَعُونَ وٰادِياً إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ .

حيث نلاحظ هنا، أن هذا التعقيب جاء جوابا لأولئك الذين كان الحرّ أو شدة القتال أو البعد يحتجزهم من المتابعة أو الالتحاق بساحة المعركة، مبينا لهم - بطريقة فنية - أن لهذه الشدائد آثارها في ترتيب الجزاء الإيجابي.

سورة التوبة (9): الآیات 122 الی 129

قال تعالى: وَ مٰا كٰانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ * وَ إِذٰا مٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ إِيمٰاناً فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كٰافِرُونَ * أَ وَ لاٰ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عٰامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاٰ يَتُوبُونَ وَ لاٰ هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَ إِذٰا مٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرٰاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ * لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ .

ص: 210

بهذا المقطع ختمت سورة التوبة، وهو مقطع يربط بين مقدمة السورة ووسطها: حيث قلنا بأن سورة التوبة تحوم فكرتها الرئيسة على موضوع «الجهاد في سبيل اللّه» كما أن عرضها للفئات الاجتماعية من مؤمنين ومتأرجحين ومنافقين ومشركين، كان منصبا على سلوكهم جميعا حيال ممارسة الجهاد في سبيل اللّه، وكان (المنافقون) هم الفئة الرئيسة التي ركّز النص القرآني الكريم عليها. حيث كشف عن كل مستويات سلوكها، وها هو الآن يختم النص الحديث عنها أيضا، إلا أنه يطرح قبل ذلك جملة من المفهومات المتصلة بفكرة الجهاد نفسه وفق طريقة فنيّة تتناول جانبا جديدا من الموضوعات والأشخاص لتربطها بعد ذلك بالفكرة الرئيسة ونعني بها.

الجهاد. فمن جملة الأفكار الجديدة التي طرحت في هذا القسم من السورة هو. قضية التفقّه في الدين من حيث صلته بممارسات الجهاد، حيث طالب النص بأن يكون الجهاد متناوبا بالنسبة للمقاتلين إذ على المؤمنين ألّا ينفروا جميعا لساحة القتال بل ينبغي أن تبقى طائفة منهم لإرشاد الناس، وطائفة تتجه إلى القتال متناوبة في ذلك... وأهمية هذه الفكرة من الوضوح بمكان طالما نعرف بأنّ المهم هو التفقه في الممارسات ومنها ممارسة الجهاد نفسه، إذ ما فائدة الجهاد إذا لم يكن قائما على أسس المبادىء الإسلامية التي يظل الجهاد واحدا منها كما هو واضح.

بعد ذلك يتجه النص إلى طرح مفهوم آخر من قضايا الجهاد ألا وهو مقاتلة المنحرفين: الأقرب منهم فالأقرب، وهي توصية عسكرية تتصل بالحفاظ على البلاد الإسلامية لأن مقاتلة الأقرب تظل أكثر إمكانا في عملية التحصين لحدود البلد الإسلامي.

ثم يختم النص حديثه عن جانب جديد من سلوك المنافقين هو:

محاولتهم التشكيك بإيمان الإسلاميين قائلين لهم (أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ - أي السورة

ص: 211

القرآنية - إِيمٰاناً؟ ).

ومن الواضح أن سلوك المنافقين لم يكن متسما بهذا النوع من الصراحة في المقاطع السابقة من النص، أما الآن فقد كشفهم النص وقد تجرأوا بعض الشيء بحيث صارحوا الإسلاميين بنواياهم المشككة بمبادىء القرآن. ومن الواضح أيضا أن هذا النوع من الكشف لسلوك المنافقين يتّسق مع ما يسقى - في لغة الفن - بالنموّ العضوي للموضوعات، أي أن الموضوعات تتدرج خلال العرض لتصل في نهاية النص إلى ذروة النموّ متمثلة فى تستّر المنافقين ثم: الإعلان بصراحة عن أعماقهم، وهو ما لحظناه في ختام السورة عبر مخاطبتهم للإسلاميين (أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ إِيمٰاناً؟) .

لكن مع ذلك: ما دام المنافقون ينطلقون - أساسا - في سلوكهم: من سمة (النفاق) التي تعني ثنائية السلوك من جانب، والخوف من الفضيحة من جانب آخر، ما داموا كذلك، فإن النص القرآني الكريم رسم هذه الحقيقة حينما ختم حديثه عن المنافقين بهذه الآية وَ إِذٰا مٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرٰاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا بمعنى أنهم لا يزالون يخشون الفضيحة في تساؤل بعضهم الآخر (هَلْ يَرٰاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ثم في انصرافهم بعد ذلك.

إذن، أمكننا أن نلحظ كيف أن سورة التوبة تمت صياغتها فنيا وفق إحكام هندسي يرتبط بعضه بالآخر، وتتنامى أجزاؤه، وكيف أن فكرة (الجهاد) كانت هي الرافد الفكري الكبير الذي تصب فيه مختلف الموضوعات، وكيف أن التركيز على المنافقين كان يحتل المساحة الكبيرة من سورة التوبة، ثم كيفيّة اختتام الحديث عنهم: حيث تمّ ذلك من خلال الكشف النهائي عن كل مستويات سلوكهم وفقا لتدرجّ فني أوضحناه في كل أقسام السورة. والمهم بعد ذلك، أن النص القرآني الكريم أوضح - من خلال لغة الفن - أن سلوك

ص: 212

المنافقين بمستوياته التي تقدم عرضها إنما ينتسب أساسا إلى (المرض النفسي) حيث عقب على تساؤلهم (أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ إِيمٰاناً) قائلا) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كٰافِرُونَ .

إن إشارة المقطع المتقدم إلى (المرض) في القلوب، إنما هي تشخيص عيادي للحالة المرضية التي يصدر عنها المنحرفون، وهي ملاحظة فنية أيضا حيث يستنتج المتلقّي بأن كل ما تقدم من الحديث عن سلوك المنافقين بمستوياته المختلفة إنما هو بسبب من بنائهم النفسي الشاذ.

أخيرا، اختتمت السورة المباركة بالإشارة إلى أن النبيّ (ص) جاء رسولا حريصا على المؤمنين رحيما بهم، وإلى أنه في حالة عدم إدراك الناس لهذه الحقيقة: على المؤمنين أن يتوكلوا على اللّه، وألاّ يهتمّوا بمن أعرض عن إدراك الحقيقة المتقدمة.

ومن البيّن أن الإشارة إلى الحرص والرحمة من جانب، وعدم الاهتمام بالمنحرفين من جانب آخر: تظل - من الزاوية الفنية - إفصاحا عن مفهوم عملية (الجهاد في سبيل الله) بما تضمّنه من دلالة إنسانية كما تظل إفصاحا عن الوظيفة التي ينبغي أن يحددها الإسلاميون حيال من أعرض عن تقبل الحقيقة المتقدمة.

ص: 213

ص: 214

سورة يونس

اشارة

ص: 215

ص: 216

سورة يونس (10): الآیات 1 الی 2

قال تعالى بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ * أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ .

بهذا المقطع تفتح سورة يونس (ع)، حيث استهل المقطع بصياغة فنية خاصة في طرحها للموضوعات. لقد تساءل النص أولا أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ وهذا التساؤل له أهمّيته الفنية الفائقة حينما نضع في الاعتبار، ان القارىء أو المستمع سوف يستخلص بأن المنحرفين قد اعترضوا على نزول الرسالة على واحد من البشر، وهذا الشخص قد يكون اعتراضهم عليه بسبب من يتمه مثلا، أو قد يستخلص بأن الاعتراض من بسبب كونه بشرا قبالة العناصر الأخرى مثل الملائكة. كل هذا يستخلصه القارىء. نتيجة لصياغة العبارة بهذا النحو من الغموض الفني الجميل. بيد أن المهم - بعد ذلك - هو: أن النص قد اعتمد على الاقتصاد اللغوي في هذا التساؤل، فبدلا من أن يعرض لنا موقف المنحرفين أولا ثم يرد عليهم، نجده يرد عليهم أولا حتى يسمح للقاريء بأن يستخلص بنفسه موقفهم دون ان تكون هناك حاجة للعرض، حتى يتحقق بذلك - من جانب - الاقتصاد اللغوي، وحتى يسمح للقارىء بإسهامه في كشف الدلالات من جانب آخر، وهذه هي إحدى مهمات الفن العظيم.

ولعل الإثارة الفنية تتبلور بنحو أشد وضوحا حينما نواجه العبارة التي تلت ذلك التساؤل، حيث انطوت على أسرار فنية مثيرة لافتة للنظر.

لقد عقب النص على تساؤله المذكور، قائلا وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ

ص: 217

قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ثم أردف ذلك بقوله قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ : إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ . فهنا يواجه القارىء: أسلوبا قد لا يعهده في تجاربه الثقافية التي خبرها. فبينما يتحدث النص القرآني الكريم عن تبشير المؤمنين بأن لهم قدم صدق عند اللّه تعالى، إذا به ينقل لنا حوارا على لسان المنحرفين هو قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ : إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ فالقارىء قد يتضبب لديه هذا النوع من الأداء الفني بحيث لا يهتدي إلى إدراك الروابط الفكرية بين هذه الموضوعات التي تبدو وكأنها مستقلة لا رابطة من التسلسل الموضوعي فيها. بيد أن أدنى تأمل في ذلك، يستاقنا إلى إدراك الأسرار الفنية وراء مثل هذه الصياغة. وفي تصورنا الفني. أن النص أراد أن يوضح لنا بأن الكافرين عندما عرضت عليهم رسالة الإسلام قالوا عن النبيّ (ص) بأنه ساحر... لكن بما أن هذه التهمة لا يمكن ان يسوقها المنحرف إلا بعد أن يعجز عن تقديم دليل مقنع، حينئذ يستكشف القارىء (من خلال تساؤل النص: أكان للناس عجبا إن أوحينا إلى رجل منهم) يستكشف بأن المنحرفين حينما لم يرق لهم أن يضطلع بالرسالة شخص منهم: حينئذ قالوا إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ بعد ان رأوا الإعجاز الفني للقرآن الكريم. وبهذا النمط من التقديم والتأخير والحذف والذكر للعبارات:

تحقق الاقتصاد اللغوي من جانب، مثلما سمح للقارىء بأن يساهم من كشف هذه الدلالات من جانب آخر.

ويلاحظ أن النص - قد استخدم مضافا لما تقدم عنصر (الاستيحاء) في صياغة الصورة الفنية أيضا. قال النص. وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ إن عبارة (قدم صدق) تشكل صورة فنية هي (الرمز) أو (الاستعارة) حيث ان (قدم) تعني لغويا. الشيء الذي يقدمه الإنسان أمامه. وحينئذ قد استخدم النص هذه العبارة ليرمز بها إلى ما يقدمه الناس من العمل الصالح ليجده أمامه يوم القيامة... وهكذا يكون النص بهذه الصورة الرمزية قد اختصر واقتصد في اللغة أيضا بدلا من أن يفصّل الكلام في قضية العمل

ص: 218

الصالح الذى بشرت الرسالة بنتائجه الاخروية، محققا بهذا التجانس بين الاقتصاد اللغوي في ذكر العبارات وحذفها، وفي تقديمها وتأخيرها، محققا بهذا التجانس: إحكام العمارة الفنية للسورة الكريمة، من حيث علاقة أجزائها. بعضا مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

سورة يونس (10): الآیات 3 الی 5

قال تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرٰابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنٰازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ ذٰلِكَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ... .

هذا المقطع من سورة يونس يتناول ظواهر الإبداع الكوني، من السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار. وما تعنينا منه هو: علاقته بعمارة السورة الكريمة، والأداء الفني الذي سلكه النص في صياغة هذه الموضوعات.

أما الأداء الفني فقد اعتمد عناصر صورية وايقاعية ولفظية في صياغة هذه الموضوعات، ففي نطاق (الصورة الفنية) نواجه (الصورة الرمزية) في قوله تعالى (ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ) . «فالاستواء على العرش» يرمز إلى هيمنة الله تعالى على الكون، وهي هيمنة كان من الممكن أن يصوغها النص بلغة مباشرة كما لو قيل (سيطر أو هيمن على العرش)، إلا أنه اعتمد الرمز بدلا من الكلام المباشر حتى تتبلور الدلالة بنحو يتناسب وطبيعة القدرة المطلقة لله تعالى، حيث أن مهمة «الرمز» وافتراقه عن سائر الصور التركيبية (من استعارة و تشبيه وتمثيل وسواها)، تتمثل في كونه - أي الرمز - يجسّد تعبيرا عن شيء غير

ص: 219

محدود بلغة محدودة، اي كرنه ينطوى على إمكانات إيحائية لا تتوفر في الصور الفنية الأخرى، فالاستواء على العرش يوحي للقارىء بدلالات متنوعة غير محدودة بحيث يستخلص كل شخص منها ما يتناسب وخبرته العقلية عن الشيء.

مضافا إلى أن الرمز هنا جاء متساوقا (من حيث علاقته بعمارة السورة الكريمة) مع طبيعة الظواهر الكونية التي عرض لها النص، وهي ظواهر تتصل بخلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار، والضياء والنور.

وكلها ظواهر (حسية) وليست (تجريدية)، ولذلك كان من المناسب أن تجيء الفكرة المرتبطة بهذا الخلق للظواهر الكونية متجانسة مع ما هو حسي، فالسماء والأرض وخلقهما في ستة أيام. تعد شيئا يتحسسه الشخص من خلال البصر و اللمس، أما السيطرة على ذلك، فأمر غير حسي بل هو (تجريدي).

ولذلك كان من المناسب أن يصوغ النص لهذه الظاهرة (أي. هيمنة اللّه تعالى على الكون) صورة (حسية) أيضا، فجاء (الاستواء على العرش) تجسيدا للحقيقة المذكورة... لكن بما ان الله تعالى منزه عن الجسمية، حينئذ كان الاتجاه إلى (الرمز) دون سواه من الصور هو الأسلوب الأوفق لتحقيق التجانس بين ظواهر الكون وبين الهيمنة والسيطرة عليها، بصفة أن (الرمز) - خلافا للتشبيه الذي يتضمن شيئا من المماثلة، وخلافا للاستعارة التي تخلع صفة شيء على شيء آخر - يلغي الحدود بين الشيئين، ويجعلهما شيئا واحدا، لذلك جاء رمز (الاستواء على العرش) تعبيرا حسيا عن شيء تجريدي، تعبيرا عن السيطرة والهيمنة المطلقة على الكون، تعبيرا متجانسا مع مفردات السماء والأرض (من حيث كونهما حسيين): حيث ان (الاستواء) هو (حسي) أيضا، وحيث ان (العرش) تنسحب نفس الصفة الحسية عليه (في تصور القارىء)، لكنهما (أى: الاستواء والعرش) هما مجرد (رمزين) عن شيء تجريدي، مجرد

ص: 220

رمزين لصفات اللّه تعالى، مجرد رمزين للسيطرة على الكون من حيث كونه تعالى منزها عن الجسمية، كما قلنا. والمهم، ان بهذا التجانس بين صفات اكتسبت رمزا حسيا (هو الاستواء على العرش) وبين ظواهر هي حسية في واقعها (مثل السماء والأرض)، مثل هذا التجانس يكشف عن إحكام العمارة للسورة الكريمة من حيث تلاحم عناصرها بعضا مع الآخر.

***

سورة يونس (10): الآیات 11 الی 12

قال تعالى وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجٰالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ اَلضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ هذا المقطع من سورة يونس يطرح جملة من الموضوعات، منها. تركيبة الشخصية التي تقوم على الاتجاه إلى اللّه تعالى في حالة مواجهتها لشدائد الحياة، ولكنها تتعامى عن الله تعالى عندما تحيا بمنأى عن الشدائد... ان مثل هذا السلوك ينطوي على جملة من الحقائق العبادية والنفسية. أما الحقيقة العبادية فهي أن البشرية جميعا مؤمنها وكافرها ترث جهازا فطريا يقوم على توحيد الله تعالى بحيث يتجه الإنسان - عندما يواجه شدة من شدائد الحياة نحو الله تعالى ويدعو إلى إزالتها. وأما الحقيقة النفسية فهي: أن الإنسان مطبوع على أن يتجه إلى الله تعالى (في حالة الشدة، بما في ذلك: الشخصية المؤمنة)، و إنه مطبوع على الابتعاد عن اللّه تعالى عند انفراج الشدة عنه. ترى، ماذا يعني مثل هذا السلوك ؟.

واضح، إن هذا السلوك يفصح عن كون الإنسان معنيا بإشباع الحاجات الدنيوية العابرة، فهو يتحرك بقدر ما يحقق له تأمين حاجاته، فإذا واجه عدم التأمين، حينئذ يتحرك لمصدر الحاجات وهو اللّه تعالى، و إذا أشبع حاجاته:

ص: 221

انعزل عن اللّه تعالى، وهذا هو منتهى الجفاء والغلظة والكفران بالنعم مما يسلخ الإنسان من صعيد إنسانيته ويحوله إلى كائن ممسوخ لا يعنى إلا بحاجاته، على نحو مما تسلكه البهائم من إشباع غرائزها... المهم، أن النص القرآني الكريم طرح هذه الشريحة من السلوك وفق صياغة فنية ممتعة، فقدم أولا رسما خارجيا للشخصية هو: كيفية تحركها نحو اللّه تعالى (من حيث المظهر الجسمي للحركة) إذ أن المظهر الحركي هو تعبير عن المظهر الداخلي للإنسان، فالأفكار والمشاعر و الانفعالات تظل حينا حبيسة في أعماق الشخص، وتبرز حينا آخر إلى الخارج، متمثلة في تعبير لفظي (هو الكلام) أو في تعبير حركي هو. حركات الجسم المختلفة، أو في تعبير لفظي وحركي أيضا، وهذا ما رسمه النصّ القرآني الكريم حينما رسم المظاهر اللفظية والحركية للشخص عندما يواجه شدائد الحياة وهو قوله تعالى: وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ اَلضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً فالدعاء هو المظهر اللفظي، والاضطجاع والقعود والقيام هي مظاهر حركية: ترمز - فنيا إلى التعبير عن شدة الحالة النفسية التي يصدر عنها الداعي. فهو يضطجع حينا، ويقعد حينا ثانيا، ويقوم حينا ثالثا: كلّ ذلك في حالة الدعاء والتوجه إلى اللّه تعالى لكشف الشدة التي يكابد منها.

لكن، ما أن تكشف الشدة. حتى يعرض الإنسان عن الله تعالى، وهذا مما رسمه النص القرآني الكريم وفق رسم خارجي حركي أيضا، وهو قوله تعالى فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ فهنا قدّم النص صورة أو مرأى حركيا هو. مرور الإنسان عابرا في طريقه دون أن يلتفت إلى أي شيء، وهذا المرور هو (رمز) أو صورة (صورة رمزية) تشير إلى مظهر داخلي هو: تغافل الإنسان عن اللّه تعالى، وانصرافه عن الله تعالى بعد أن فرّج اللّه تعالى عنه الشدائد.

ص: 222

إذن جاءت الصورتان الفنيتان الرمزيتان. مصوغتين وفق رسم خارجي.

احدهما يتصل بطريقة الدعاء: اضطجاعا وقعودا وقياما، والآخر يظل (صورة رمزية تركيبية) أي: كونها (رمزا) وليس حركة جسمية بالفعل، حيث أن المرور العابر هو (رمز) لعدم العناية بالشيء. والمهم، بعد ذلك: ان صياغة الصورة الفنية تكتسب جماليتها الفائقة عندما يتجانس مما هو داخلي من الأفكار والعواطف والانفعالات مع ما هو خارجى من الحركات التي تعكس الداخل، وهو أمر يكشف عن إحكام النص من حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

سورة يونس (10): الآیات 15 الی 16

قال تعالى: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ .

هذا المقطع من سورة يونس يتناول موقف الكافرين من رسالة الإسلام.

والفكرة أو الموضوع الذي يحوم عليه المقطع القرآنى الكريم ينطلق من إنكار هؤلاء المنحرفين لقضية اليوم الآخر، حيث وصفهم بقوله: قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا... وهذا الوصف يتكرر في جملة من المقاطع السابقة مثل قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا وَ رَضُوا بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وقوله تعالى: فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا... الخ. وهذا يعني (من حيث المبنى الهندسي للسورة الكريمة) إن فقرة (لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا) تشكل رابطا فنيا بين موضوعات السورة التي انطلقت من هذا المفهوم لتصب في موضوعات مختلفة، ومنها. موقف هؤلاء الكافرين من رسالة الإسلام حيث كان عدم إيمانهم باليوم الآخر: حافزا على إثارة الأسئلة الهزيلة من نحو

ص: 223

اقتراحهم القائل: اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ . طبيعيا، إن مثل هذا السؤال لا يحمل أي معنى سوى الكشف عن هزال تفكيرهم وانغلاقه، لأن المطالبة بإتيان قرآن آخر أو تبديل هذا القرآن تثير في ذهن السامع مجموعة من التساؤلات، مثل: هل أن موضوعاته ومبادئه وأحكامه قد صيغت بنحو يضاد تطلعاتهم دنيويا أو يضادها عباديا بحيث طالبوا بتبديلها؟ و إذا كان الأمر كذلك، فهل أن نزول المبادىء من السماء ينبغي أن يتم وفق رغباتهم ؟ وحينئذ ما فائدة تلقي المبادىء من مصدر لا يفقهون كنهه ولا يقرون بكماله ؟ إذن، طرح مثل هذا الاقتراح (وقد أجراه النص القرآني على لسانهم فى شكل حوار) إنما تم فلكي يكتشف القارىء بنفسه مدى انحدار الذهن وانغلاقه لدى الكافرين من خلال وقوفه مباشرة على كلامهم الصادر عنهم. ولكي يكشف النص القرآني الكريم عن الأسباب الكامنة وراء مثل هذا الاقتراح (أي المطالبة بنزول قرآن آخر أو تبديله)، نجده يقدم الوصف الآتي لسلوكهم:

سورة يونس (10): آیة 18

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا .

وبهذا المنحى الفني غير المباشر، أي من خلال عرض شريحة من سلوك الكافرين، يجعلنا نكتشف - دون أن يقول هذا مباشرة - بأن اقتراحهم المذكور لا بد أن يكون مرتبطا بسلوكهم الوثني، بمعنى ان هؤلاء الحمقى ما داموا يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم ولا يضرهم، وما داموا يقولون: «هؤلاء - أي الأصنام - شفعاؤنا»، حينئذ لا بد أن يكون مطالبتهم بتبديل القرآن إنما هي في كونه يدعو إلى نبذ السلوك الوثني. خلال هذا السياق، يتقدم النص القرآني الكريم بطرح ظاهرة اجتماعية تظل في غاية الخطورة، ألا وهي قوله تعالى:

سورة يونس (10): آیة 19

وَ مٰا كٰانَ اَلنّٰاسُ إِلاّٰ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمٰا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقد يتساءل القارىء: ما هو السر الفني الكامن وراء طرح هذه الظاهرة التي تتحدث عن نشأة المجتمع البشري وكونه أمة واحدة قد اختلفت فيما بعد، مع أن النص كان يتحدث عن عبادة الأصنام ؟.

ص: 224

إن عالم الاجتماع تعنيه هذه القضية كل العناية، لأنها تكشف عن حقيقة اجتماعية لا يزال البحث عنها محفوفا بالغموض. وحينئذ فإن طرحها في هذا السياق. يعني (من الزاوية الفنية) أن للموضوع خطورته بحيث يستهدف النص توصيله إلى القارىء بحيث قطع النص سلسلة حديثه ليتقدم لنا حقيقة اجتماعية تتصل بنشأة المجتمع البشري، ليعود بعدها الى مواصلة الحديث عن هؤلاء المنحرفين: عبيد الأصنام.

لكن قبل ان نتحدث عن الدلالة الاجتماعية لهذا الطرح (أي: كون الناس أمة واحدة قد اختلفت فيما بعد) ينبغي أن نضع في الاعتبار بأن عبادة الأوثان تظل واحدة من مفردات هذا الاختلاف بين الناس بعد أن كانوا أمة واحدة، وهو أمر يكشف لنا الرابط الفني بين الموضوعات التي يطرحها النص بحيث نتبين من خلالها مدى إحكام النص من حيث صلة أجزائه واحدا مع الآخر.

***

سورة يونس (10): الآیات 21 الی 23

قال تعالى: وَ إِذٰا أَذَقْنَا اَلنّٰاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُمْ إِذٰا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيٰاتِنٰا قُلِ اَللّٰهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنٰا يَكْتُبُونَ مٰا تَمْكُرُونَ هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ * فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

هذا المقطع من سورة يونس يتناول البناء النفسي للشخصية الكافرة أو مطلق الأشخاص المنحرفين: من حيث كونهم يتجهون إلى الله تعالى فى حالات الدة، ويعاهدونه بالطاعة في حالة انقاذه تعالى إياهم، ولكنهم بعد ان تفرج الشدة عنهم، يبغون في الأرض بغير الحق. ويلاحظ ان النص القرآني

ص: 225

الكريم، سبق اق طرح هذا السلوك في مقطع اسبق، وذلك قوله تعالى. وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ اَلضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ . والسؤال هو:

هل أن القرآن الكريم يكرر هذا الموضوع في أكثر من مقطع: كما لحظنا، أم أن تكراره للموضوع يتم في سياق جديد؟ و نحن ما دمنا نعنى بدراسة عمارة السورة: حينئذ يتعين علينا إثارة مثل هذا السؤال. الحق، أن تكرار الحقيقة المتصلة بكون الإنسان المنحرف مطبوعا على أن يتجه إلى اللّه تعالى في حالة الشدائد، وأن يغفل عن اللّه تعالى في حالة انفراجها: إن تكرار هذه الحقيقة إنما تم في سياقات مختلفة. ففي المقطع الأسبق يتناول النص القرآني الكريم سلوكا خاصا هو: أن الإنسان عندما يكشف ضره يمر وكأنه لم يتجه إلى اللّه تعالى بعد ان كان يدعو مضطجعا أو قاعدا أو قائما.

أما في المقطع الجديد، فإنه يتناول سلوكا أشدّ مفارقة من سابقه، ألا وهو. المكر والبغي، بينما كان السلوك السابق هو. مجرد التغافل عن اللّه تعالى وعن الدعاء. إذن، التكرار هنا جاء في سياق جديد، وهو أمر يفسر لنا جانبا من السر الفني الكامن وراء عنصر التكرار.

والآن، لنقف عند هذا الموضوع الأخير لملاحظته فنيا وفكريا... لقد قال النص: إن الناس إذا أذاقهم اللّه تعالى رحمة من بعد الشدة: إذا لهم مكر في آيات اللّه تعالى. هنا قدم النص نموذجا عمليا لهذا السلوك، موضحا ردود الفعل التي يصدر عنها المنحرفون في مثل هذه الحالة التي ينتهون إليها، ونعني بذلك. كونهم يبغون في الأرض بغير الحق عندما يكشف اللّه تعالى عنهم الشدة. يقول النص: هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ

ص: 226

هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ... .

إن هذا المقطع الذى ينطوي أولا على تذكير الإنسان بعطيات اللّه تعالى بالنسبة إلى تأمين وسائل النقل، ثم بإنقاذ الإنسان. ثانيا عند مواجهته لشدائد الغرق في البحر. هذا العرض ينطوي (من الزاوية الفنية) على أسرار جمالية متنوعة ينبغي الوقوف عندها ولو عابرا.

ولعل أول ما ينبغي لفت الانتباه عليه هو ملاحظة الهيكل الهندسي للمقطع حيث تحدث النص أولا عن معطيات اللّه تعالى بالنسبة إلى تيسيره تعالى للإنسان وسائل تنقله في البر والبحر (هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ) ، بعد ذلك تحدث عن أولئك الذين يسيرون في البحر ويتعرضون لعواصفه ولخطر الموت. إن هدف النص هو توضيح ان الناس إذا أذاقهم اللّه رحمة من بعد ضراء مستهم، نجدهم يمكرون في آيات اللّه تعالى بدلا من الشكر على معطياته. إلا أن النص - في الحين ذاته - يستهدف لفت النظر إلى جملة من ظواهر الإبداع الكوني الذي حدثنا عنه في مقطع سابق، لذلك قطع النص سلسلة حديثه عن هؤلاء الناس الذين يمكرون في آيات اللّه تعالى، واتجه إلى عرض الظاهرة الإبداعية للبر والبحر، ثم عاد إلى الحديث عن سلوك هؤلاء الناس - وهم ينعمون بمعطيات الرحلة في البحر -، وبهذا التقطيع لسلسلة الموضوعات ووصلها من جديد: نتلمس مدى إحكام العمارة الفنية للنص من حيث تلاحما موضوعاتها بعضا مع الآخر.

قال تعالى هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ

ص: 227

لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

في هذا المقطع القرآني الكريم نص (حكائي) - أي: حكاية وحادثة وموقفا - مصوغ بلغة قصصية (سرد، حوار، موقف، بيئة، تعليق)، الحادثة هي: مجيء ريح عاصفة، يضطرب موج البحر من خلالها ويتوقع ركاب السفينة: أن يغرقوا في البحر. وأما الموقف فهو: إن ركاب السفينة بدأوا يدعون الله مخلصين له الدين. بالنجاة من الغرق. وأما «البيئة» فهي بيئة البحر وقد غمرتها ريح طيبة نعم بها ركاب السفينة: قبل حادثة الريح العاصفة.

وأما «الحوار» فهو هتاف الركاب عبر توجههم إلى الله تعالى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ . وأما «السرد» فهو وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ... وأما التعليق فهو فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ تم مخاطبة هؤلاء يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ .

والآن، بمقدور القارىء والسامع أن يستخلص الدلالة الفكرية التي يستهدفها النص من خلال تقديمه لهذه الحكاية القصصية الخاطفة، المليئة بعناصر الفن والفكر... طبيعيا، إن الإمتاع الفني في هذه الحكاية أمر يتحسسه المتلقي بوضوح من خلال ما تضمنه من سرد، وحوار، ومخاطبة، ووصف لبيئة السفينة والبحر، ورصد لردود الفعل التي تصدر عنها الركاب، وتعليق على ذلك. والأهم من ذلك كله، إن هذه الحكاية صيغت من أجل توظيف فنيّ هو: أن المنحرفين - كفارا أو فساقا - تطبعهم سمات منكرة هي:

أنهم في حالة استمتاعهم بالحياة يمارسون البغي بغير حق، في حين أنهم - في

ص: 228

حالة الشدة - يدعون اللّه مخلصين له الدين بأن ينجيهم منها، ويعاهدونه بأنهم إذا نجوا من الشدة فسوف يكونون من الشاكرين لله تعالى. لكن، ما إن ينجيهم اللّه فعلا حتى نجدهم يبغون في الأرض فسادا. ترى، ماذا يعني هذا؟. إن هذا يعني: إن المنحرفين لا يعنون إلاّ بإشباع حاجاتهم. إنهم مقرّون بفاعلية الله تعالى (من حيث وحدانيته وهيمنته الكونية). إنهم يتجهون إلى اللّه تعالى لإنقاذهم: لكن في صعيد هذا المقطع المرتبط بنجاتهم من الشدة الوقتية فحسب، بدليل أنهم لا يلتزمون بمباديء اللّه عند ما لا تواجهم شدائد الحياة... وحيال مثل هذا الموقف، نجد أن النص القرآني الكريم: يتكفل برد حاسم هو: أنّ الباغي إنما يبغي على نفسه، وإن هذه الحياة الدنيا متاع عابر سرعان ما يفضي إلى مصير حاسم، مصير إلى اللّه تعالى في اليوم الآخر.

وحينئذ يحسم الموقف لغير صالحهم دون أدنى شك.

هذا هو ملخص «الحكاية» ودلالتها الفكرية. لكن ما يعنينا منها هو موقفها من عمارة السورة الكريمة (ما دمنا أساسا نعنى ما بإبراز البناء الهندسي للنص) وهو أمر يتحدد بوضوح لدى القارىء والمستمع: حينما يجد أن الحكاية القصصية المشار إليها جاءت في سياق الحديث عن سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام وموقفهم السلبي منها: إيثارا لمتاع الحياة الدنيا (مع إنهم - في قرارة أنفسهم - مستيقنون بأحقية الرسالة إلا أنهم يجحدونها إيثارا للمتاع الدنيوي المشار إليه). والمهم، أن الاقصوصة المذكورة وظفت لإنارة هذا الجانب، مما يفصح ذلك عن الإحكام الفني لعمارة السورة الكريمة من حيث ارتباط موضوعاتها بعضا مع الآخر.

سورة يونس (10): آیة 24

قال تعالى إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ مِمّٰا يَأْكُلُ اَلنّٰاسُ وَ اَلْأَنْعٰامُ حَتّٰى إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ

ص: 229

وَ ظَنَّ أَهْلُهٰا أَنَّهُمْ قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً فَجَعَلْنٰاهٰا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

هذه الآية من سورة يونس تشكل مقطعا جديدا من السورة حيث جاءت في سياق الحديث عمن يعرض عن اللّه تعالى في حالات الرخاء ويتجه إلى اللّه تعالى في حالة الشدائد، وحيث تصب بعد ذلك في الموضوع الرئيس للسورة الكريمة، ألا وهو: الحديث عن اليوم الاخر.

لقد تضمنت هذه الآية: عنصرا صوريا يتوزع بين التشبيه والتمثيل والرمز والاستعارة، بحيث تمازجت هذه الصور الفنية وكونت صورة موحدة ذات جمال وطرافة وإثارة بالغة الأهمية. إنها قد استهلّت أولا بالتشبيه القائل:

إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ . وكلنا يعرف بأن (التشبيه) الفني تتم صياغته وفق مستويات متنوعة، منها (التشبيه بالمثل) أى. التشبيه الذي تتصدره عبارة (مثل)، كما إننا نعرف بأن أدوات التشبيه متنوعة أيضا، ومنها (الكاف) التي استخدمت في هذا التشبيه (كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ ) ، كذلك نعرف جميعا بأن التشبيه قد يكون مفردا بسيطا مجملا، وقد يكون مركبا ومفصلا...

والتشبيه الذي نواجهه من هذه الآية الكريمة هو من النوع المركب المفصل، مما يعني أن النص القرآني في صدد العرض لموضوع ذي دلالات متشعبة ذات خطوط فكرية مفصلة. وفعلا نجد أن النص في صدد التعريف بالحياة الدنيا وما تكتنفها من مظاهر ترتبط برغبات الإنسان التي لا حدّ لإشباعها، ثم صلة ذلك بالعمل العبادي وانعكاساته على اليوم الآخر.

المهم أن الجزء الأول من هذه الصورة الفنية الموحدة تضمن تشبيه الحياة الدنيا بالمطر (كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ ) ... وجاء الجزء الآخر من التشبيه موضحا بأن هذا الماء قد اختلط به نبات الأرض، ثم جاء القسم الثالث من التشبيه موضحا بأن هذا النبات هو مما ياكل منه الناس والأنعام. والسؤال هو:

ص: 230

ما هي الأسرار الفنية الكامنة وراء تشبيه الحياة بالماء المنزل من السماء، وبكونه قد اختلط به نبات الأرض، وبكون هذا النبات مما يأكله الناس والأنعام ؟.

طبيعيا، إن كل قاريء أو مستمع: يستخلص من هذا التشبيه دلالات تتفق مع طبيعة تجاربه العقلية، وهو أمر يجعل للتشبيه قيمته الفنية ما دام التشبيه منطويا على إيحاءات متنوعة وليست محدودة، فمثلا يمكننا أن نستخلص من هذا التشبيه، بأن الماء المنزل من السماء (وهو المطر) يجسد أحد معطيات اللّه تعالى، بدليل أنه قد ارتبط بنبات الأرض، كما أنه ارتبط بنبات يفيد منه الناس كما تفيد منه الأنعام. ومجرد كون التشبيه قد جاء في سياق المعطيات أو النعم وليس في سياق آخر إنما يكشف عن مغزى فني له أهميته، فقد كان من الممكن ان يشبه النص الحياة بالماء وليس بالمطر حيث أن المطر غير الماء النابع مثلا، بصفة أن الماء من الممكن ألا يفيد منه النبات بل تنسحب فائدته على مجالات اخرى، وهذا بعكس المطر الذى يرتبط بنبات الأرض، لذلك عندما يجيء التشبيه بالمطر: حينئذ يتداعى الذهن سريعا إلى فائدته المباشرة للإنسان، بخاصة أن التشبيه قد قرن نبات الأرض بما يأكله الناس والأنعام، حيث أن بعض النبات من الممكن ألا يفيد منه الناس مباشرة، بعكس النبات الذي يؤكل من قبل الإنسان، وكذلك من قبل الحيوان.

إذن: عندما ينتخب التشبيه. المطر، دون سواه من أنواع المياه، فلأن ذلك - كما نحتمل فنيا - يرتبط بالمعطيات أو النعم التي يستهدف النص لفت الانتباه عليها بصورة غير مباشرة، ولأنها ترتبط بأشد الحاجات البشرية إلحاحا ألا وهو الطعام الذي لا مناص من تناوله، وهذا يعني أن مفردات هذا التشبيه جاءت مترابطة فيما بينها مما يكشف عن إحكام النص من حيث ارتباط اجزائه

ص: 231

بعضا مع الآخر، على نحو ما تقدّم الحديث عنه، وعلى نحو ما نفصل ذلك لاحقا إن شاءالله.

التشبيه المتقدم يتضمن (إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا...) ثلاث صور هي.

تشبيه الحياة الدنيا بالمطر، واختلاطه بنبات الأرض، وإنه نبات يأكله الناس والأنعام. وقد أوضحنا الأسرار الفنية الكامنة وراء تشبيه الدنيا بمطر يختلط بنبات الأرض. أما الآن فنتحدث عن الأسرار الفنية المرتبطة بكون هذا النبات الذي اختلط به المطر، إنما هو: نبات الناس والأنعام. لذلك نتساءل: لماذا تمت صياغة هذه الصورة الفنية (أي: نبات الأرض الذي يأكله الناس والأنعام)؟. لقد كان من الممكن أن يكتفي النص بتشبيه الحياة الدنيا بالنبات الذي تنتهي دورة نمائه فييبس ويتلاشى، حينئذ يكون تشبيه الحياة بالنبات:

أمرا يتناسب مع طبيعة الحياة أو العمر الذي يتلاشى. فلماذا ربط النص بين النبات وبين أكله من قبل الناس والأنعام ؟ و ما هي صلة الأكل بذلك ؟ ولماذا جمع بين الناس والأنعام ؟.

إن هذه التساؤلات تظل مصحوبة بأهمية كبيرة مادمنا نعرف تماما أنّ النص القرآني الكريم يعنى بالاقتصاد اللغوي، ولا يذكر عبارة إلا ولها دلالتها الفنية.

في تصورنا، أن السورة الكريمة سبق أن تحدثت عن ظواهر الإبداع الكوني. من سماء وأرض وشمس وقمر وليل ونهار، وبر وبحر الخ، حينئذ عندما تقدم لنا صورة تشبيهية أو سواها، يكون هذا التقديم مصحوبا بظاهرة إبداعية أيضا ذات معطيات ملحوظة، ولذلك جاء تقديم النبات وكونه مما يأكله الناس والأنعام متناسبا مع المعطيات الكونية التي سخرها الله تعالى الإنسان. ولكي تأخذ الصورة التشبيهية اكثف دلالاتها، نجد أنها لم تكتف

ص: 232

بتذكير نعم اللّه تعالى على الإنسان وحده بل حتى على الحيوان الذي يستخدمه البشر لاشباع حاجاته، وهذا ما يفسر لنا السر الفني الكامن وراء تشبيه الحياة الدنيا بالنبات الذي يأكله الناس والأنعام، بصفة أن الأنعام يستخدمها البشر في إشباع أشد حاجاته الحيوية (الحاجة إلى الطعام)، كما يستخدمها فى الركوب، ويستخدم جلودها وأشعارها في اللبس وفي سائر أدواته المنزلية... الخ.

والمهم أن النص القرآني الكريم وظّف هذا التشبيه (تشبيه الحياة بالنبات الذي تأكله الناس والأنعام) وظفه في مهمة فنية مزدوجة، حيث استهدف - من جانب - التذكير بمعطيات الله تعالى، ثم استهدف - من جانب آخر - التذكير بأن هذا النبات من الممكن أن تلحقه آفة زراعية مثلا ويتلاشى.

وهذا يعني أن النبات (بالرغم من كونه نعمة من اللّه تعالى) إلاّ إنه تلاشى (من خلال الآفات الزراعية وغيرها)... كذلك: الحياة الدنيا، فهي معطى من الله تعالى، بيد انها تتلاشى أيضا، فيما ينبغي استثمار هذا المعطى في ممارسة المهمة العبادية التي خلق الإنسان من أجلها وليس في تحقيق الإشباع المجرد.

إذن: أمكننا إدراك السر الفني الكامن وراء انتخاب النبات الذي يأكله الناس والأنعام: طرفا لتشبيه الحياة الدنيا به، كما أمكننا - في الآن ذاته - أن ندرك السر الفني وراء انتخاب المطر - دون سواه - في هذا التشبيه، حيث قال تعالى: إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ ... حيث أن المطر هو معطى كبير كما هو واضح، وهذا المعطى يتجانس مع معطى النبات أيضا، وهما جميعا يتجانسان مع سائر المعطيات التي ذكرها النص في هذه السورة الكريمة، لكن إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهٰا أَنَّهُمْ قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً أي: أتاها أمر اللّه فَجَعَلْنٰاهٰا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي: إذا ازدهرت الأرض بالنبات وظن الناس أنهم قادرون على الإفادة منها، إذا بالآفة السماوية تجتاح الأرض

ص: 233

ونباتها فيتلاشى كل شيء.

إذن، للمرة الجديدة، أمكننا ملاحظة هذا التشبيه الفني للحياة بالنبات الذي يفيد الإنسان منه وتلاشيه فجأة: أمكننا ملاحظة دلالاته الذي نفيد منها جانب، وتجانس أطرافه (من المطر، ونبات، وأكل) من جانب آخر، فيما يفصح هذا التجانس عن إحكام النص من حيث علاقة أجرائه بعضا مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

لقد أوضحنا الأسرار الفنية في هذه الآية الكريمة من حيث انطواؤها على تشبيه الحياة الدنيا بالمطر المختلط بنبات الأرض. أما الآن فنتحدث عن القسم الآخر من الآية الكريمة وهو حَتّٰى إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهٰا أَنَّهُمْ قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً فَجَعَلْنٰاهٰا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ... إن القسم ينطوي على مجموعة من الصور الفنية من نحو:

الاستعارة والتمثيل و التشبيه، وكل واحدة من هذه الصور تتآزر مع مثيلاتها في إبراز الدلالة التي يستهدفها القرآن الكريم في تشبيهه الحياة الدنيا بالمطر المختلط بالنبات، ثم اصابة هذا النبات بآفة سماوية بحيث يترتب عليها تلاشي هذا النبات وكأنه لم يكن شيئا مذكورا.

والمهم هو أن نقف عند الأسرار الفنية لصورة النبات الذي تصيبه آفة من السماء، فيتلاشى. إن القسم الأول من هذه الصور هو قوله تعالى: حَتّٰى إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ ... إن الزخرف يعني: الحسن في أرفع وأكمل المستويات، والزينة تعني: ارتداء أجمل الملبوسات، وحين يخلع النص هاتين السمتين على نبات الأرض إنما يستهدف - من خلال الاستعارة - توضيح أن الأرض: عندما يستكمل نمو النبات فيها ويثمر، أو. عندما يكسوها النبات ويحولها إلى مشاهد جميلة في غاية الجمال بحيث تتزين بهذه المرائي

ص: 234

او المشاهد، ثم - في غمرة تصور الإنسان بانه قادر على الانتفاع من هذه الأرض - إذا بالآفة السماوية تنهي كل شيء. ومع إدراكنا الوظيفة الفنية للاستعارتين (الزخرف والزينة)، حينئذ ينبغي أن نتبين الصور الفنية التي استخدمها النص بالنسبة لتوضيح الآفة السماوية التي تصيب الأرض ونباتها.

لقد استخدم النص القرآني الكريم صورتين فنيتين في رسم الآفة التي تصيب الأرض. هما (الرمز) و (التمثيل)، أما (الرمز) فهو قوله تعالى: أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً ، وأما (التمثيل) فهو قوله تعالى فَجَعَلْنٰاهٰا حَصِيداً . لقد كان من الممكن - ما دام النص يتحدث عن الحياة الدنيا وكونها متاعا عابرا - أن يقرر النص بأن نبات الأرض الذي اختلط بماء المطر: سوف يتعرض لليبس والتلف بعد أن يقطع مراحل النمو (تشبيها بالحياة الدنيا) ولكنه - أي النص القرآني الكريم - لم يستهدف في هذا الموضع مجرد تشبيه المتاع العابر بنبات ينمو ويموت بل يستهدف لفت النظر إلى أن تحقيق الإشباع الدنيوي إنما بأمر من اللّه تعالى بحيث يكون بمقدوره تعالى أن يحجز الناس من الاستمتاع بهذا النبات الذي يأكله الناس والأنعام (في حالة عدم القيام بوظيفتهم العبادية)، لذلك نجده قد اتجه إلى الصورة الفنية (الرمز) وهي قوله تعالى أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً أى: بينا خيّل للناس بأنهم قادرون على الانتفاع بنبات الأرض التي أخذت زخرفها وازينت: إذا بأوامرنا تصدر من السماء بأن تهلك هذا النبات من خلال حدوث آفة زراعية وغيرها، وحينئذ تصبح الأرض ونباتها (حَصِيداً:

كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

وهذه الصورة (التمثيلية) أي: جعل الأرض حصيدا، تنطوي على سر فني هو: أن (الحصيد) الذي يعني (القطع) يرتبط في الذهن بكونه ذا علامة بالمحصول الزراعي، أي ما حصد من الزرع، ولكن النص حوّله من معناه القاموسي (وهو حصد الزرع) إلى دلالة مضادة هي (إتلاف الزرع)، بمعنى أن

ص: 235

الله تعالى يجعل هذه الأرض التي أخذت زخرفها وازينت و ظن الناس أنهم قادرون على الانتفاع بها، يجعلها - في لحظة - حصيدا، أي. أرضا يابسة لا زرع فيها.

طبيعيا، ينبغي ألا نغفل عن أنّ النص القرآني الكريم قد رسم هذه الصورة الفنية في سياق حديثه عن أولئك الأشخاص الذين يتجهون إلى اللّه تعالى في حالة الشدائد، ولكنهم حينما يفرج عنهم: يبغون في الأرض فسادا، وحينئذ هدّدهم اللّه تعالى بقوله يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ ، وفي غمرة هذا التهديد تقدم النص برسم الصور الفنية المرتبطة بمتاع الحياة الدنيا (وهي الأرض ونباتها)، محققا بهذا الرسم: إحكام النص من حيث علاقة أجزائه بعضا مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

سورة يونس (10): الآیات 25 الی 27

قال تعالى وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ اَلسَّلاٰمِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنىٰ وَ زِيٰادَةٌ وَ لاٰ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاٰ ذِلَّةٌ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ * وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئٰاتِ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهٰا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ عٰاصِمٍ كَأَنَّمٰا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ .

هذا المقطع من سورة يونس امتداد لمقاطع تحوم فكرتها على اليوم الآخر، حيث يقارن هذا المقطع بين مصائر المؤمنين ومصائر المنحرفين التي ينتهون إليها في اليوم الآخر، وقد ركن النص إلى عنصر (الصورة الفنية) في رسمه للمصائر المشار إليها، فبدأ بالحديث عن المؤمنين. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا:

اَلْحُسْنىٰ وَ زِيٰادَةٌ ) (وَ لاٰ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاٰ ذِلَّةٌ ) . إن صورة (لاٰ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاٰ ذِلَّةٌ ) تنتسب إلى الصورة (الرمزية) أو (الاستعارية) حيث

ص: 236

يرمز (القتر) - وهو الغبار أو السواد - إلى الكآبة التى تصيب المنحرف، منعكسة على المظهر الخارجي للوجه. وأهمية هذه الصورة (فنيا) إنها قد انتخبت عينة حسية هي العبار والدخان بصفة أنهما (من حيث اللون) غير محددين، وليس فيهما أى ملمح من الجلاء والإشراق الذي يميز سائر الألوان، إن لون الدخان والغبار يميل إلى القتامة والضبابية والدكنة، ولا شيء أدل على إبراز أثر الكآبة على الوجه من اللون الداكن، لأنه لون غائم يتناسب مع الكابة التي لا تتحدد أيضا في انعكاساتها على الوجه... طبيعيا أن اللون الأسود (كما سنرى عند حدثنا عن الصورة التي رسمها النص للمنحرفين) يفصح عن الانعكاسات النفسية الأخرى على الوجه، إلا أن الكآبة أو القلق مثلا (بصفتها تعبيرا عن الصراع أو التمزق) يختلفان عن (اليأس) الذي يتناسب مع لون محدد هو السواد، لأن اليأس عملية نفسية لا أثر للصراع فيها ما دام الأمل لا وجود له في أعماق المنحرف، بعكس الكآبة أو القلق اللذين يكشفان عن صراع وتجاذب نفسي بين الأمل واليأس.

المهم، إن الصورة التي رسمها النص بالنسبة للمؤمنين وهي: إن وجوههم سوف لن يلحقها قتر، تظل إفصاحا عن اليقين أو الاطمئنان الذي يتحسسه المؤمن وهو يواجه اليوم الآخر. وهذا على العكس من المنحرف الذي رسمه النص وفق الصورة الآتية: كَأَنَّمٰا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً ... إن هذه الصورة - كما ألمحنا قبل قليل - لم تتجه إلى خلع سمة الغبار أو الدخان على وجه المنحرف، بل خلعت سمة الليل المظلم، أي اللون الأسود وليس اللون القاتم مثلا. والسر في ذلك - كما نحتمل ذلك من خلال التذوق الفني الصرف - إن النص يستهدف لفت النظر إلى أن المنحرف يصدر عن استجابة يائسة في اليوم الآخر، غير محفوفة بأي أمل من الخلاص، لذلك ينعكس هذا اليأس على وجهه بنحو يتحول فيه الوجه إلى لون يماثل الليل المظلم. علما بأن اللون الأسود هو أشد الألوان غيمومة، كذلك فإن اليأس هو

ص: 237

أشد الاستجابات أو ردود الفعل غيمومة، وذلك لعدم اقترانه بأمل الخلاص ويلاحظ أن النص شبه وجه المنحرف بقطع من الليل، وكان من الممكن أن يشبهه بالظلام مطلقا، إلا أنه اتجه إلى التشبيه ب (القطع) أي بالأجزاء من الليل، نظرا - كما نحتمل ذلك فنيا إلى ان الأجزاء من الظلام ترمز إلى أجزاء من اليأس أو الانسحاق، أى أن المنحرف يواجه مستويات متنوعة من اليأس، فهو أنّى يتجه: يرتطم بشدة نفسية بحيث تتوالى الشدائد عليه منعكسة في قطع على وجهه، كل قطعة: تفصح عن شدة، وهكذا. إذن، أمكننا ملاحظة هاتين الصورتين: الصورة التي تنفي عن المؤمن إلحاق أي قتر في وجهه، والصورة التي تؤكد بأن المنحرف يتحول وجهه إلى مظهر يماثل قطعا من الليل مظلما، حيث جاءت كل صورة متواسقة مع طبيعة الموقف، وهو أمر يفصح عن جمالية الرسم. من حيث (الإحكام) الذي يطبع النص القرآني الكريم: في علاقة جزئياته: بعضا مع الآخر.

سورة يونس (10): الآیات 28 الی 29

قال تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكٰانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكٰاؤُكُمْ فَزَيَّلْنٰا بَيْنَهُمْ وَ قٰالَ شُرَكٰاؤُهُمْ مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ فَكَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنّٰا عَنْ عِبٰادَتِكُمْ لَغٰافِلِينَ .

هذا المقطع من السورة الكريمة يتناول جانبا من مواقف اليوم الآخر (وهو العصب الفكري للسورة)، حيث يعرض - وفق منحى فني - موقف المشركين وشركائهم من خلال المحاورة بين الطرفين: المشركين ومن أشركوهم في العبادة: من أوثان أو جن أو ملائكة... وقد اعتمد المقطع: أدوات العرض القصصي في رسمه لهذا الموقف، حيث سرد أولا مقدمات العرض وهو وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ثم بدأت المحاورة من قبل اللّه تعالى. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكٰانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكٰاؤُكُمْ هذه المخاطبة تحمل بعدا فنيا هو: رسمها

ص: 238

لقاعة المحاكمة، حيث طالبت بأن يجتمع المشركون وشركاؤهم في مكان معين. ثم أوضح النص بأنه يتم التفريق بين الطرفين في البدء فَزَيَّلْنٰا بَيْنَهُمْ أي: فرّقنا بين المشركين وشركائهم بعد ان طولبوا بالحضور في مكان محدد، ثم يبدأ الحوار بين المشركين وشركائهم، ولكن النص لا يعرض من هذا الحوار إلا طرفا واحدا هو: حوار الشركاء وليس حوار المشركين، تاركا للقارىء بأن يستخلص بنفسه - وهذه هي سمة الفن المدهش - أن المشركين إما إنهم لم يتقدموا بأي سؤال لشركائهم: حيث لا ضرورة للسؤال عن قوى هم قد أشركوها (مثل الأصنام أو الجن أو الملائكة) دون أن تطلب هذه القوى مشاركتهم، بل إن عدم رؤيتهم للشريك (كما لو كان من الجن أو الملائكة) أو عدم إمكان محادثتهم مع الشريك (كما لو كان وثنا) لا يسمح لهم - في قاعة المحكمة - بأن يوجّهوا إليها سؤالا عن موافقتهم لاتخاذهم شركاء.

لذلك (من الزاوية الفنية) لم يذكر النص سوى حوار الشركاء الذين قالوا:

مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ أي. يقول الشركاء (لم نشعر بانكم كنتم قد اشركتمونا في عبادة اللّه تعالى). وهذا الجواب ينطوي على قيمة فنية كبيرة، حيث ان الشركاء (إذا كانوا أوثانا) حينئذ فإنهم لم يشعروا حقا بعبادة الناس لأنها مجرد أحجار، فقولهم في اليوم الآخر مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ يعني إن نفي العلم بالعبادة ناشىء من كون الحجارة لا تحس بالقرارات التي يتخذها المشركون.

كذلك (مع افتراض أن الشركاء هم من قوى الجن او الملائكة) لا علم لهم بهذه المشاركة أو بالأحرى لم يدخلوا طرفا في القضية، حيث لم يتم اتفاق على مثل هذه العبادة المشركة، ولذلك فإن قولهم مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ يظل جوابا فنيا للتدخل على انهم لا دخل لهم في صنع القرارات المشركة.

ليس هذا فحسب، بل إن شركاءهم يواصلون التعليق على مواقف المشركين، ويقولون لهم فَكَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنّٰا عَنْ عِبٰادَتِكُمْ

ص: 239

لَغٰافِلِينَ . هذا التعليق يلقي إنارة فنية على الموقف، فهو أولا يوضح بأن الله تعالى هو الذي يتكفل بحسم الموقف فيما بيننا وبينكم (بين الشركاء والمشركين)، ويوضح ثانيا - وهذا الملفت للنظر فنيا - إن الشركاء غافلون عن قرارات المشركين كُنّٰا عَنْ عِبٰادَتِكُمْ لَغٰافِلِينَ . والأهمية الفنية لهذا التعليق هي: إن القارىء لم يكن يدرك معنى قولهم أولا مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ لأن المشركين قد عبدوا هذه الأوثان أو القوى غير المرئية، وحينئذ لا بد أن يكون المقصود من قولهم مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ ليس هو عدم العبادة بل عدم اطلاع هذه القوى أو الأحجار على عبادتهم. وهذا الاستخلاص لا يمكن ان يصدر عنه القارىء إلّا من خلال التعليق الأخير القائل إِنْ كُنّٰا عَنْ عِبٰادَتِكُمْ لَغٰافِلِينَ ، إذن: جاء هذا التعليق بمثابة توظيف فني يستهدف توضيح المقصود من كلامهم مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ ... و هذا أمر له أهميته الفنية الكبيرة - ما دمنا أساسا نعني في دراساتنا - بالبناء العماري لنصوص القرآن الكريم، حيث تلتحم أجزاء النص فيما بينها من خلال التنامي العضوي بين الأجزاء من جانب، وبينها وبين الفكرة أو الموضوع العام للسورة بأكملها من جانب آخر، علما أن السورة الكريمة تحوم على موضوع اليوم الآخر فيما يكشف مثل هذا اللاحم عن إحكام العمارة الفنية للسورة الكريمة بالنحو الذي أوضحناه.

***

سورة يونس (10): الآیات 31 الی 32

قال تعالى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ فَقُلْ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ فَذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ .

يتحدث هذا المقطع عن سلوك المشركين الذين لا يؤمنون باليوم الآخر.

الجديد في المقطع هو: تذكيرهم بالحقائق الحسية التي يخبرها المشركون،

ص: 240

ومنها. قضية الرزق أو قضية المطر الذي ينزله اللّه تعالى من السماء فيختلط بنبات الأرض، حيث سبق للنص القرآني الكريم أن قدم تشبيها للحياة الدنيا بأنها مثل ماء أنزل من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام.

وها هو النص يذكر المشركين بقضية الرزق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ حيث أن المطر من السماء والنبات من الأرض، إنه يذكرهم بهذه الظاهرة التي يقرون بها: ليربط بين أجزاء السورة بعضها مع الآخر، وليواصل طرح الموضوعات الجديدة من نحو تذكيرهم بأن اللّه تعالى يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت وبالعكس، ويدبر الأمر. وهي ظواهر يقر بها المشركون بدليل أنهم عندما يسألون عمن يرزقهما... الخ.

(فَسَيَقُولُونَ : اَللّٰهُ ) . لذلك يعقب المقطع على هذا الإقرار بقوله تعالى فَذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ . إن هذه الفكرة فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ تجسد صورة نطلق عليها مصطلح (الصورة الاستدلالية) حيث تستهدف هذه الصورة لفت النظر إلى أن المشركين ضالّون في ذهابهم إلى أن الأصنام أو القوى الأخرى تملك فاعلية الرزق وغيره، ولكنه بدلا من أن يتحدث مباشرة عن هذه الحقيقة. اتجه إلى صاغتها من خلال (الصورة الاستدلالية) التي تقول. فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ حيث يستوحي القارىء منها بأنه كل ما يصدر عنه المشركون من سلوك إنما هو ضلال: بعد ان أقروا بأن الله تعالى يملك فاعلية الرزق وسواه.

سورة يونس (10): الآیات 34 الی 35

وهنا يعود النص ليطرح من جديد تساؤلا آخر هو: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ ... وأهمية مثل هذا التساؤل هي: إن النص القرآني الكريم (ما دام

ص: 241

الموضوع الرئيس فيه هو. فكرة اليوم الآخر) حينئذ يكون طرح هذا السؤال عن بدء الخلق وإعادته: مستدعيا لاستحضار فكرة اليوم الآخر، كما أن طرحه للسؤال عمن يهدي إلى الحق: إنما هو عملية ربط بين الصورة الاستدلالية السابقة فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ وبين صورة استدلالية جديدة هو قوله تعالى أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَ مٰا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّٰ ظَنًّا إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً .

هذه الصورة الاستدلالية، تنطوى على جملة من الأسرار الفنية، منها ما يتصل بالشركاء، حيث قارن بين اللّه تعالى وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ وبينها حينما قال أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ . هنا قد يتساءل القاريء. ما المقصود من هذه الصورة الاستدلالية التي تقول بأن الشركاء لا تهدي إلى الحق إلاّ أن تهدى إلى الحق ؟ علما بأن الأصنام مثلا لا تملك وعيا حتى تهدي إلى الحق... ونجيب أن مهمة الصورة الفنية هي أنها تتعامل على نحو (المجاز) مع الظواهر، وليس على نحو الحقيقة، وهذا ما يفرق بينها وبين الكلام التقريري، لذلك عندما يخلع النص القرآني الكريم سمة (الوعي) على الشركاء: إنما يخلع ذلك (مجازا) وليس حقيقة، أي أنه مجرد افتراض: لتبيين الحقيقة الذاهبة إلى أن الأصنام لا تملك فاعلية الإهداء إلى الحق حتى في حالة افتراضنا تملكها للوعي.

خلال ذلك، يطرح المقطع إحدى حقائق السلوك العقلي وهي إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً ، بمعنى أنّ المشركين يتبعون الظن - وليس الحقيقة - في موقفهم المذكور: مع أن الظن لا يغني من الحق شيئا، حيث تتضمن هذه العبارة عنصرا استدلاليا من جانب (وهو عدم إغناء الظن من الحق شيئا)، وتتضمن من جانب ثان: تقريرا لإحدى حقائق السلوك الذهني عند البشر.

فضلا عن إنها - من جانب ثالث - تقوم بعملية ربط فني بين موضوعات السورة الكريمة التي تحوم على فكرة اليوم الآخر وموقف المشركين من ذلك ومن

ص: 242

سائر أنماط سلوكهم، حيث يتضح مثل هذا الربط عن الاحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.

سورة يونس (10): الآیات 42 الی 43

قال تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يُبْصِرُونَ .

نواجه في هذا المقطع من سورة يونس: رسما جديدا لسلوك المنحرفين عن رسالة الإسلام. لقد رسمهم النص القرآني الكريم صما وعميا، لا يعقلون ولا يبصرون. لكن ما يعنينا من هذا الرسم هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة الموضوع. لقد استخدم النص أدوات (لفظية وصورية) بالغة الإثارة في صياغة هذا الموضوع، حيث اعتمد (من حيث الصورة) عنصر (الرمز) أولا... ومن المعلوم أن (الرمز) هو أشد الصور قابلية على الإيحاء وتكثيف الدلالات بالقياس إلى الصور الأخرى: من تشبيه واستعارة وتمثيل ونحوها.

لقد (رمز) للكافر بأنه (أصم)، والأصم من فقد جهاز السمع، و (رمز) له بأنه (أعمى)، والأعمى هو من فقد جهاز النظر. وأهمية هذين الرمزين تتمثل في كون (السمع) و (البصر) هما. أدق الأجهزة قابلية في تلقي الأشياء وإدراكها، بالقياس إلى أجهزة الذوق والشم واللمس. لذلك، عندما ينتخب النص أشد الحواس قابلية في ادراك الشيء، حينئذ يكون بهذا الانتقاء قد أجهز على الكافر وسيلة مقومات الإدراك، وألغاه من الحساب تماما.

وهذا ما يتصل بعنصر (الصورة)...

بيد أن ما يضخم من عنصر الإثارة الفنية هو: صياغة هذه الصور من خلال (الأدوات اللفظية) من (تقابل) و (تساؤل) و (افتراضات) ونحوها.

لقد وصفهم النص بأنهم يطلبون الاستماع إلى كلام محمد (ص) فقال (ومنهم من يستمعون إليك) ثم تساءل قائلا أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ ثم

ص: 243

أضاف أيضا وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ . طبيعيا قد يتساءل القاريء عق السر الفني وراء صياغة هذه الحقيقة على نحو الاستفهام والمخاطبة أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ ، وقد يتساءل أيضا عن السر الفني وراء عبارة وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ بصفة أن الأصم لا يسمع أساسا، وتبعا لذلك لا يتعقل الكلام، فلماذا - إذن - أتى بهذه العبارة التي تبدو وكأنها يمكن أن يستغنى عنها؟.

والسر الفني في هذا، أن النص حينما رسم الكافر بأنه (أصم) إنما رسمه بذلك على نحو (الرمز) وليس (الحقيقة)، لأن الكافر يمتلك جهاز السمع، ولكنه لا يمتلك قابلية التعقل للكلام، ولذلك تساءل وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ .

كذلك، نجد أن النص سلك نفس المنحى في (الرمز) الاخر المتصل بجهاز البصر، حيث قال أولا وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ثم تساءل أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ ثم أضاف وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يُبْصِرُونَ ، حيث جاءت عبارة وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يُبْصِرُونَ محكومة بنفس الحقيقة التي ذكرها، وهي إن صفة (العمى) بالنسبة للكافر جاءت على نحو (الرمز) وليس (الحقيقة)، لأن الكافر يتملك جهاز البصر، ولكنه يفتقد القابلية على ممارسة النظر. ويثار سؤال آخر: إن الكافر يستمع إلى محمد (ص) و «ينظر» إلى محمد (ص)، وإذا كان «الاستماع» يعني:

الاستماع إلى أقواله (ص) ورفضها من قبل الكافر، حينئذ فما هو معنى النظر إلى محمد (ص)؟ أي لماذا قال النص إن الكافرين ينظرون إلى محمد (ص) ولكنهم لا يبصرون، مع أن النظر إلى شخصية محمد (ص) لا علاقة له بالرسالة بخلاف الاستماع إلى أقواله: لأنها ذات صلة بالرسالة كما هو واضح ؟.

في تصورنا أن النظر إلى محمد (ص) إنما هو (تجوّز) وليس «حقيقة»، أي إن النظر هنا هو (رمز) إلى شيء آخر هو (الآيات الكونية) التي تستدعي ممارسة النظر، أو الأدلة التجريبية أو حتى الأدلة العقلية التي تستدعي «النظر» فيها، فيكون (النظر) هنا رمزا للتأمل الفكري. والمهم - بعد ذلك كله - أنّ نشير

ص: 244

إلى أن هذين الرمزين وطريقة صياغتهما قد خضع رسمهما إلى بناء فني ممتع ومحكم، بحيث (تتقابل) العبارات والموضوعات فيما بينها على نحو متواز هندسيا، حيث تقابل عبارة وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ عبارة وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ، وتقابل عبارة أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ عبارة أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وتقابل عبارة وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ عبارة وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يُبْصِرُونَ . إن هذا التقابل بين العبارات (من حيث صياغتها)، ثم تقابل موضوعاتها: يحقق قمة الإثارة والدهشة والإمتاع الفني حيث يتلمس القارىء أو المستمع مدى (إحكام) النص من حيث تلاحم وتواشج وتجانس موضوعاته: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

سورة يونس (10): آیة 45

قال تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنَ اَلنَّهٰارِ يَتَعٰارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَللّٰهِ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ .

تتحدث هذه الآية الكريمة عن احد مواقف اليوم الآخر، عندما يحشر الناس في عرصات يوم القيامة... حيث تعرض الآية واحدا من أشكال ردود الفل التي يصدر الناس عنها في لحظة مواجهتهم لهذا اليوم، وهو: الإحساس بالزمن، حيث تقول الآية بأن إحساسهم بالزمن يقوم على هذا النحو كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنَ اَلنَّهٰارِ .

إن الإحساس بالزمن يشكل واحدا من عناصر العمل الفني الذي تعنى به تجربة الأدب البشري، وحينما ننقل هذا الإحساس إلى الفن التشريعي (وهو:

القرآن الكريم) نجد أن صياغة هذا الإحساس بالزمن تأخذ بعدا فنيا له إثارته وطرافته الفكرية والجمالية، بخاصة إذا تمت صياغته بهذا النحو الذي عرضته الآية الكريمة، حينما لفعته بشيء من الغموض الفني. إن النصوص المفسرة تتراوح في تفسير المقصود من عبارة سٰاعَةً مِنَ اَلنَّهٰارِ ، كما أن القارىء نفسه

ص: 245

يظل مستخلصا أكثر من دلاله دون أن يستطيع ان يرسو على يقين محدد، حيث يتردد بين الذهاب إلى أن المقصود من ذلك هو إحساس البشر بأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة، أو إحساسهم بأنهم لم يلبثوا في القبور إلا ساعة، بالقياس إلى الزمن الذي يواجهونه في تلكم اللحظة.

طبيعيا، أن النص القرآني الكريم قدم (صورة تشبيهية) تعتمد الأداة (كأن) لبلورة هذا الإحساس بالزمن، لأن هذه الأداة بالقياس إلى أدوات التشبيه الأخرى تظل ملتقطة لا وجه الشبه بين الشيئين بنحو يقل عن الأدوات الأخرى، مما يعني إن الإحساس بالزمن (وكأن الدنيا أو القبر هو ساعة من النهار) هو إحساس لا حقيقة واقعية له من حيث القياس الطبيعي بقدر ما يفرضه أهوال يوم القيامة حيث أن طول النهار الذي يستغرقه يوم الحشر.

يجعلهم يتحسسون بأن الدنيا وكأنها ساعة من هذا اليوم... طبيعيا، أنّ نهار القيامة (وفقا لنصوص قرآنية أخرى تشير إلى اليوم الآخر بأنه خمسون ألف سنة) يجعل الإحساس بزمن الدنيا: ساعة من نهار الآخرة... لكن هل يستخلص القارىء بأن المقصود هو مقايسة نهار الآخرة بزمن الدنيا، أم يمكنه أن يستخلص شيئا آخر هو: إن نهار الدنيا أو نعيمها يبدو الآن وكأنه ساعة من النهار: ليس بالقياس إلى نهار الآخرة بل بالقياس إلى نهار الدنيا نفسها، لأن الإمتاع الذى كانوا يتحسسونه في الدنيا قد تصرم ولا أثر له الآن مما يجعل الإحساس به وكأنه ساعة أو لحظة تصرمت ؟ إن كلا من الاحتمالين وارد دون أدنى شك، فالاحتمال الأول تفرضه قرائن أخرى تشير إلى طول يوم القيامة واستغراقه خمسين ألف سنة، و الاحتمال الآخر تفرضه قرائن فنية هي أداة التشبيه (كأن)، ولعل هذا الاحتمال هو الأصح، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان استخدام التشبيه يسوغ لنا هذا الاحتمال، لأن الذهاب إلى أن نهار الدنيا كأنه ساعة من الآخرة لا يحتاج إلى

ص: 246

(التشبيه) ما دامت الآخرة تخضع لمقاييس زمنية أخرى، وهذا على العكس من إحساس الإنسان بماضيه الذي يبدو الآن وكأنه لحظة تصرمت، أي أن الإنسان حتى في تجربته الدنيوية كأن يستعرض لذائذ الماضي حتى يتحسسها قصيرة (في لحظته الحاضرة) مع ان الماضي يمتد سنوات طوالا. وأيا كان الأمر، فإن خضوع هذه الصورة الفنية لأكثر من احتمال فني. يهبها قيمة جمالية ضخمة دون أدنى شك، فضلا عما تنطوي عليه من دلالات متنوعة تصب جميعا في هدف واحد هو: إن الحياة الدنيا تبدو وكأنها ساعة، حيث ينبغي للشخصية أن تعتبر بهذه الحقيقة وأن تعدّل سلوكها وتوظفه من أجل العمل بمبادىء اللّه تعالى.

أخيرا يجب ألا نغفل عن أن سورة يونس تحوم على فكرة اليوم الآخر، وان هذه الآية الكريمة جاءت في سياق الفكرة المشار إليها، مما يكشف ذلك عن الإحكام الهندسي للسورة من حيث علاقة أجزائها بعضا مع الآخر.

سورة يونس (10): الآیات 48 الی 50

قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُهُ بَيٰاتاً أَوْ نَهٰاراً مٰا ذٰا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ .

هذا المقطع من سورة يونس امتداد لمقاطع سابقة تتحدث عن قضايا اليوم الاخر وموقف المشركين منه. إلا أن السورة الكريمة لا تحصر الموضوع في فئة من المشركين بل تطرح هذه القضايا ليفيد منها الناس جميعا، كما إنها تتجاوز قضايا اليوم الآخر لتطرح من خلال حديثها عن هذا اليوم: مفهومات أخرى تستهدف توصيلها إلينا. من دلك مثلا: هذا المفهوم قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ فهذا الموضوع يرتبط بحقيقة عباديه هي:

ص: 247

إن الإنسان مطلقا لا فاعلية لديه وإن اللّه هو الذي يهب الإنسان فاعلية التحرك من هذا الميدان أو ذلك... فهذا الموضوع بالرغم من انه جاء في سياق الحديث عن سؤال المشركين عن ميعاد اليوم الآخر وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إلا أنه جاء جوابا عاما يتصل بمطلق سلوك الإنسان كما قلنا.

وهكذا بالنسبة لطرح الموضوع الآخر وهو قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فهذا الكلام بالرغم من أنه جاء في سياق الإجابة عن سؤال المشركين حول ميعاد اليوم الآخر أو حول ميعاد نزول العذاب عليهم دنيويا، إلا أن النص قدم إجابة عامة تتصل بأحد المبادىء الاجتماعية أو القوانين الاجتماعية التي تحكم المجتمعات، وهو القانون القائل بأنه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وهو أمر يمكن ملاحظته بالنسبة للمجتمعات البشرية جميعا: قديمها وحديثها حيث نجد قيام المجتمعات وزوالها - في مختلف العصور - أمرا لا ترديد فيه بحيث يشكل قانونا عاما كما هو ملاحظ.

إذن، عندما يطرح النص قضية خاصة مثل اليوم الآخر، يطرح في الآن نفسه قضايا عامة من نحو المبدأ النفسي القائل بأن الإنسان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا، والمبدأ الاجتماعي القائل بأن لكل أمة أجلها... وهذا النوع من الصياغة الفنية: له أهمية الكبيرة من حيث عمارة السورة القرآنية الكريمة حيث يتم الربط بين موضوع ربّيس تحوم عليه السورة وبين موضوعات ثانوية تتخلل ذلك.

ولعل أوضح مستويات البناء الفني، يتمثل في هذه الإجابة التي يقدمها النص بالنسبة لأولئك المشركين الذين يتساءلون عن ميعاد اليوم الآخر أو ميعاد نزول العذاب عليهم، حيث يخاطبهم أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُهُ بَيٰاتاً أَوْ نَهٰاراً أي: ماذا يستعجلون من العذاب الذي يأتيكم فجأة ليلا أو نهارا؟ هنا ينبغي أن نتذكر بأن النص - في مقطع أسبق - قدم لنا تشبيها عن الحياة الدنيا بأنها تشبه

ص: 248

النبات الذي يأكله الناس والأنعام حَتّٰى إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهٰا أَنَّهُمْ قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً ... هنا أيضا يقول النص أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُهُ بَيٰاتاً أَوْ نَهٰاراً أي: جانس النص بين الزرع الذي يظن الناس انهم يسيطرون عليه. ثم تأتي آفة سماوية تقضي عليه ليلا أو نهارا، وبين العذاب الذي يظن المشركون بأنهم بمنأى منه، حيث يمكن أن يأتيهم ليلا أو نهارا أيضا. إذن، كم نجد هنا (من حيث عمارة السورة) جمالية ملحوظة بين موضوعاتها المتلاحمة، حيث توازن بين نقاط متباعدة في النص وتخضعها لخيط فكري يربط بينها: بين آفة سماوية تقتلع الزرع الذي يأكله الناس والأنعام ليلا أو نهارا، وبين عذاب يقتلع المشركين ليلا أو نهارا، حيث يفصح مثل هذا التوازن - كما قلنا - عن إحكام السورة الكريمة من حيث صلة موضوعاتها.

سورة يونس (10): الآیات 53 الی 54

قال تعالى: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ .

هذا المقطع يتحدث عن جانب جديد من سلوك المنحرفين وردود فعلهم في اليوم الآخر. وقد ربط النص بين سلوكهم دنيويا وأخرويا، أي. انعكاسات سلوكهم في الدنيا على ردود فعلهم في اليوم الآخر، فأوضح بأن المنحرفين يوجّهون، سؤالهم إلى النبيّ (ص) بهذا النحو: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ أي:

يسألونك يا محمد: أحق أن العذاب الواقع دنيويا؟ أو أحق أنه الواقع أخرويا؟ أو: أحق هذه الشريعة التي جئت بها؟ أو أحق ما تلوّح به من حقائق اليوم الآخر. كل هذه التساؤلات من الممكن ان يستخلصها القارىء من عبارة وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ حيث إن سمة الفن العظيم: أن يرشح بجملة من الدلالات التي تختزنها العبارة. والمهم - فنيا - أنّ الأجزاء اللاحقة من المقطع القرآني

ص: 249

الكريم. تسمح للقاريء بأن يرجح التفسير القائل بأن سؤالكم يدور حول اليوم الآخر أو حول العذاب الذي لوّح به النبيّ (ص) من انه واقع بهم، يدلنا على ذلك قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ . هذا الكلام - فضلا عن كونه ينطوي على وظيفة فنية هي: إلقاء الضوء على محتوى السؤال الذي تقدم به المنحرفون نجده منطويا أيضا على حقائق جديدة عن اليوم الآخر من حيث ردود الفعل التي تصدر عن المنحرفين. فأولا يوضح النص بأن المنحرف يتمنى بأنه لو افتدى بكل ما في الأرض لإنقاذ نفسه من العذاب، ويوضح ثانيا بأن المنحرف يخفي ندمه حينئذ. هذه الحقيقة الأخيرة تتطلب شيئا من التوضيح: نظرا لدلالاتها النفسية التي تكشف عن تركيبة الشخص المنحرف - كافرا كان أم فاسقا - يتمنى لو يفتدي بكل ما في الأرض من إنقاذ نفسه: نظرا لهول الموقف والمصير إلا أنه:

يسر الندامة ولا يعلنها. ترى ما هو السر في ذلك ؟ النص القرآني الكريم ساكت عن تبيين السر... لكن بمقدور القارىء أن يستخلص بأن سبب ذلك هو: أن إسراره أو إعلانه للندم لا ينقذه من العذاب بدليل انه لو يفتدي بكل ما في الأرض لم ينفعه ذلك... لكن: لماذا يخفي ندمه علما بأن النصوص القرآنية - في مواقع أخرى - تذكر كيف أنّ المنحرفين يعضون أناملهم حسرة على ما فاتهم من العمل العبادي أو تذكر تلكم النصوص: بأن رؤساء الضلال يتبادلون مع أتباعهم: اللوم حيث يلقي كل طرف مسؤولية انحرافه على الآخر، أو أنّ المنحرفين يتوسلون بإرجاعهم إلى الحياة ليعملوا صالحا... الخ. كل هذه المواقف تكشف عن أنّ المنحرف (يعلن) ندمه ولا يخفيه عن الآخرين. فلماذا - إذن - نجد المنحرفين - في هذا المقطع الذي تتحدث عنهم السورة الكريمة - قد أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ .

ص: 250

في تصورنا، أنّ بعض الحالات تفرض على المنحرف - وهو يواجه أشخاصا كانوا يتحدونه بنزول العذاب أو كان يتعجل نزول العذاب كما هو مفاد مقطع سابق يقول (وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ - أي العذاب - تَسْتَعْجِلُونَ )، حينئذ عند مواجهته لعذاب كان يتعجله سخرية، لا بد أن يتظاهر بعدم الندم: صونا لماء الوجه كما هو واضح، والمهم أنّ رجوعنا إلى الايات السابقة أو اللاحقة لهذا المقطع الذى نتحدث عنه، يقتادنا لكشف أمثلة هذه الحقائق فيما يفصح ذلك عن إحكام النص القرآني الكريم من حيث علاقة أجزائه بعضها مع الآخر

***

سورة يونس (10): الآیات 57 الی 58

قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ .

هذا المقطع من السورة الكريمة يتضمن عنصرا صوريا هو «التمثيل» أو «الرمز» بالنسبة إلى القرآن الكريم ومبادئه. فقد (مثّل) للقرآن الكريم بصورة «ال شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ » أى: اكتسب القرآن الكريم طابع «الدواء» بالنسبة للنفس، طبيعيا كان من الممكن أن (يشبه) القرآن الكريم «بالدواء» الذى يشفي ما في الصدر، أي كان من الممكن أن نواجه صورة (التشبيه) بدلا من (التمثيل) فيقال مثلا إنّ القرآن بمنزلة الدواء: لكن بما أن الفارق بين (التشبيه) و (التمثيل) أنّ التشبيه يتناول العلاقة بين شيئين: بخلاف (التمثيل) الذي يتناول العلاقة بين شيئين: يكون احدهما تجسيما وتجسيدا للآخر، أي أن كل طرف من الطرفين هو عين الآخر وليس شبيهه، من هنا عندما قال النص الكريم بأن القرآن هو (شفاء) إنما جعله شفاء حقيقيا لمرض النفس مقابل الأدوية الكيميائية التي هي شفاء لمرض الجسم، وهذا بخلاف ما لو قال مثلا بأن القرآن هو بمثابة أو بمنزلة الشفاء - لأننا بمثل هذا التعبير الأخير نكون أمام «تشبيه» وليس أمام

ص: 251

حقيقة. والمهم بعد ذلك أن نقف عند هذه الصورة التمثيلية لملاحظة دلالاتها فنيا وفكريا.

إنّ صياغة مبادىء القرآن (شفاء) لما في الصدور، يعني بوضوح:

أن (النفس) حينما تحيا بمنأى عن اللّه تعالى لا بد أن تصاب بالأمراض الروحية بما يواكب هذه الأمراض من صراعات وتوترات وانشطارات نفسية لا تعرف إلى التوازن والاستقرار سبيلا. وهذا يعني أن المعطى القرآني لا ينحصر في تحقيق الإشباع الأخروي - أي الإثابة - في اليوم الآخر فحسب، بل يتجاوزه إلى الإشباع الدنيوي أيضا حيث تتحسس الشخصية التي تعمل بمبادىء القرآن أنها متوازنة مطمئنة، لا تحيا أي قلق أو تمزق في الحياة الدنيا، كما أنها - في الحياة الأخرى - تحيا مطمئنة بالضرورة: نظرا لعدم وجود عنصر التجاذب بين قوى الخير والشر فيها.

إذن، أمكننا ملاحظة السر الفني وراء صياغة الصورة (التمثيلية) شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ من حيث معطياتها الدنيوية والأخروية...

لكن ينبغي أن نتابع ملحقات هذه الصورة التمثيلية. لقد أردف النص القرآني الكريم: هذه الصورة بقوله قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ . إنّ (الجمع) هنا يشير إلى المتاع الدنيوي من مال ونحوه، حيث طالب النص: الشخصية بأن تفرح بفضل اللّه وبرحمته لا أن تفرح بجمع المال. إنّ المال يحقق إشباعا دنيويا دون أدنى شك... لكن: لا يواكب ذلك إشباع أخروي أيضا؟ ثم: هل يواكب ذلك شفاء لأمراض النفس ؟. هذا ما تستهدف الصورة الفنية: توصيله إلى القارىء، حيث تجعله مستوحيا من ذلك: إنّ المهم هو معطيات اللّه تعالى (الفضل والرحمة) نظرا لكونها تحقق (في المجال الدنيوي) توازن النفس شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ ، وتحقق (أخرويا) أعلى درجات الإشباع، بينما لا يحقق جمع المال إلا إشباعا

ص: 252

أحادي الجانب (الدنيا فحسب)، وحتى في هذا المجال فإن الإشباع أو الراحة يظل أحاديا أيضا لأنه لا يقترن بشفاء الأمراض النفسية، طالما نعرف بأن جمع المال محفوف بالقلق والحرص ونحوها فضلا عن ان خلو النفس من (اليقين) لا يحقق لها أي توازن مهما كان المتاع المادي ضخما.

أخيرا ينبغي ألا نغفل عن أنّ السورة الكريمة تحوم فكرتها على اليوم الآخر وقضاياه. وأن هذا المقطع الذي تحدتنا عنه يصب في الموضوع ذاته.

سورة يونس (10): الآیات 59 الی 60

قال تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلاٰلاً قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ وَ مٰا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ * وَ مٰا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مٰا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاٰ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّٰ كُنّٰا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ .

يتناول هذا المقطع من سورة يونس جملة من الموضوعات المتصلة بسلوك المشركين وموقفهم من اليوم الآخر: حيث تصبّ السورة في هذا الموضوع وتطرح خلاله مفهومات فرعية منها: الحقيقة الذاهبة إلى ان اللّه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة من عمل الإنسان أو حركة الكون ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وانّ ذلك جميعا محفوظ في كتاب مبين وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ . ما يعنينا من هذه الحقيقة الأخيرة هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة الموضوع حيث اعتمد عنصر (الصورة الفنية) في بلورة الحقيقة المشار إليها. والآن، لننظر إلى الصورة الفنية. لقد وظفت هذه الصورة لبيان ان الله تعالى لا يغيب عنه أدنى سلوك يصدر عن الإنسان وانّ هذا السلوك ترتب

ص: 253

عليه مسؤولية أخروية من حيث الثواب و العقاب. لذلك، ارتكن النص إلى عنصر «الإستعارة» لتوضيح وتعميق هذه الحقيقة، مبينا أن أصغر أو أبسط سلوك (كما لو كان بقدر ذرة) لا يحفى على اللّه تعالى، حيث إنه تعالى استعار للسلوك وحدة عيارية هي (مثقال ذرة)، والمثقال هو: المقدار أو الميزان الذي يوزن الشيء، وقد يطلق على وحدة عيارية تساوي خمسة غرامات: لكن بقرينة (الذرة) نستنتج بأن المقصود منه هو (المقدار) وليس المعيار، وأما (الذرة) فقد يقصد منها صغار النمل، أو أصغر جزء من الأجسام أو مصطلحها الحديث... وفي الحالات جميعا أي سواء أكان المقصود منها صغار النمل أو الأجزاء المتناهية من الأجسام، فإن صياغتها (استعارة) للعمل من حيث أبسط مستوياته، يظل أمرا له أهمية الفنية كما هو واضح... حيث أن أصغر وحدة مادية (وهي الذرة) قد أعارها النص (أصغر وحدة سلوكية) - كما لو نوى الإنسان مثلا خاطرة خير أو شر لم يتجاوز ثواني معدودة - حينئذ فإن هذه الخاطرة الخاطفة لا تعزب عن الله تعالى كما لا يفوت تسجيلها. ثوابا أو عقابا.

ويلاحظ أن النص لم يكتف بإعادة الذرة للسلوك، من حيث الموازنة بينهما بل أضاف إلى ذلك قائلا: وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ ... أي أنه قدم ما يطلق عليه مصطلح (التشبيه المتفاوت) - وهو التشبيه الذي يرصد العلاقة بين شيئين من حيث كون أحدهما (أعلى) أو (أدنى) من الطرف الآخر - حيث أن قوله تعالى وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ - أى ولا أصغر من مثقاق ذرة ولا أكبر منها - وهذا السر هو: أن سلوك الإنسان أو مطلق تحركات الكون لا يمكن مقايسته بوحدة مادية يتساوى فيها الطرفان، بل يتخذ الوزن (وهو مثقال ذرة) معيارا تقريبيا للموازنة، ولكي تصبح الموازنة بين الشيئين في أدق مستوياتها حينئذ فإن هذا التشبيه (وهو: وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ ) يجسد هذه الدقة في الموازنة. أن النص يستهدف الإشارة إلى سلوك الإنسان سواء

ص: 254

أكان بقدر الذرة أو أصغر منها أو أكبر منها: لا يعزب ذلك عن علم اللّه تعالى ولا يفلت من ترتب المسؤولية عليه، وحينئذ يكون هذا التشبيه (وَ لاٰ أَصْغَرَ وَ لاٰ أَكْبَرَ ) دقيقا كل الدقة، لأنه - ببساطة - يسمح للقارىء بأن يقدر بنفسه حجم العمل مهما صغر في تصوره: تقديرا بالغ الدقة، وهذا ما تكفلت به الصورة المدهشة التي اعتمدت الإستعارة والتشبيه المتفاوت: كما لحظناه.

أخيرا ينبغي ألا نغفل عن أن هذه الصورة تصب في الفكرة الرئيسة التي تحوم عليها سورة يونس، وهي: فكرة اليوم الآخر حيث تفصح هذه الصياغة عن إحكام النص من حيث تجانس عناصره.

***

سورة يونس (10): الآیات 62 الی 63

قال تعالى: أَلاٰ إِنَّ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهِ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ .

هذا المقطع من سورة يونس يتناول مصائر المؤمنين مقابل المصائر التي رسمها للكافرين... ويلاحظ أن المقطع القرآني الكريم يركز على طابع نفسي هو (التوازن) الذي يحياه المؤمن في دنياه فضلا عن آخرته، حيث سبق أن لحظناه - في مقطع سابق، كيف أنّ القرآن الكريم قد جعله اللّه تعالى شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ أي: علاجا للأمراض الروحية، وها هو الآن يقدم لنا نموذجا من المحركات أو المنبهات التي تحقق للمؤمن توازنه دنيويا وأخرويا حيث يقول عن المؤمنين لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ . إنّ «البشرى» هي تجسيد لقمة التوازن الذي يحلم به الفرد، حيث يبشر المؤمن - وفقا للنص التفسيري الوارد عن الإمام الباقر (ع) - من خلال (الرؤيا) التي يراها أو يراها الآخرون بالنسبة له، يبشر بها بمصيره الذي يؤول إليه، وهو مصير سبق

ص: 255

لمقدمة السورة الكريمة أن لوحت به حينما قالت وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ .

طبيعيا، ينبغي ألا ننسى بأن قضايا (اليوم الآخر) هي التي شكلت (موضوعا) تحوم عليه سورة يونس، وان مصائر المؤمنين جاءت في سياق الحديث عن مصائر الكافرين الذين لا يزال النص يتابع رسم سلوكهم من خلاق تذكيرهم بمعطيات اللّه تعالى وبإبداعه للظواهر الكونية المختلفة. يقول النص:

سورة يونس (10): الآیات 66 الی 68

أَلاٰ إِنَّ لِلّٰهِ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُرَكٰاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ بِهٰذٰا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ .

إن ترابط وتلاحم هذه الموضوعات بعضها مع الآخر أمر لا يحتاج إلى التوضيح: ما دامت عمارة السورة الكريمة تقوم أساسا على قضايا (اليوم الآخر) وموقف المشككين به. بيد أن ما نعتزم توضيحه هو: السمات الفنية التي توكأ عليها النص القرآني الكريم في صياغة الحقائق المشار إليها. وأول ما يلف نظرنا هو: إن النص كرر حديثه عن خلق السماوات والأرض، فقال أولا:

إن للّه (من) في السماوات و (من) في الإرض، ثم قال تعالى. له (ما) في السماوات و (ما) في الأرض، أي استخدم في الآية الأولى أداة (من) وهي للعاقل، واستخدم في الآية الثانية أداة (ما) وهي لغير العاقل. ما هو السر الفني في ذلك ؟ ويلاحظ أيضا إنه تعالى عند حديثه عن الإبداع الكوني لظاهرة (الليل والنهار) - وهما غير عاقلين - قد خلع عليهما سمات عقلانية جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً حيق جعل للنهار سمة (الإبصار) مع أن الذي (يبصر) هو الإنسان (وليس النهار)، فما هو السر الفني وراء ذلك أيضا؟

ص: 256

بالنسبة للسؤال الأول نحتمل - فنيا بأن هدف النص هو في (الشريك) عنه، فأشار إلى أن (من) في السماوات والأرض هو (تابع) الله تعالى فلا يشاركه أي (كائن عاقل) في ذلك، أما في الآية الأخيرة، فإن هدف النص هو نفي (الولد) عنه، حيث اقتضى ذلك إلى أن يشير إلى أنه تعالى (غني) عن أن يتخذ له ولدا وله كل ما في السماوات والأرض، أي: في الحالة الأولى جعل المشركون للّه تعالى شريكا، وفي الحالة الثانية زعموا بأنه هو تعالى قد اتخذ ولدا، وحينئذ: اقتضى في الحالة الأولى أن ينفي أي شريك له فاعلية العاقل، وأن ينفي في الحالة الثانية اتخاذ الولد، مشيرا إلى أنه غنى عن ذلك ما دامت السماوات والأرض ملكا له تعالى.

وأما خلع السمة العقلانية على النهار وجعله (مبصرا)،، ففي تصورنا أن هذه (الإستعارة) تستهدف دمج التجربة البشرية بالتجربة الكونية مثل قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ حيث جعل العيشة راضية وكأنها عنصر بشري راض، كذلك فإن جعل النهار مبصرا يعني جعله وكأنه عنصر بشري مبصر، فيتم التبادل بين عناصر الوجود: تأكيدا لوحدة التجربة الكونية. والمهم - بعد ذلك - ان هذه الصورة جاءت في سياق الفكرة العامة للسورة التي تحوم على قضايا (اليوم الآخر) حيث يجيء التذكير بمعطيات اللّه تعالى ضمن هذا الموضوع، مفصحا بذلك عن تلاحم أجزاء النص بعضها معع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

سورة يونس (10): الآیات 71 الی 73

قال تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنْ كٰانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقٰامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَعَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكٰاءَكُمْ ثُمَّ لاٰ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لاٰ تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ مَنْ

ص: 257

مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنٰاهُمْ خَلاٰئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ .

نواجه في هذا المقطع عنصرا قصصيا هو: قصة نوح (ع) مع قومه...

وقبل أن نتحدث عن البعد الفني لهذه الأقصوصة، ينبغي ان نشير إلى أن الأقصوصة جاءت توظيفا فنيا للأفكار المطروحة في السورة، وهو: «قضايا اليوم الآخر» وموقف المكذبين من ذلك، حيث كانت المقاطع السابقة تشير إلى معطيات اللّه تعالى دنيويا وأخرويا، مثلما كانت ملوحة بالجزاءات الدنيوية والاخروية أيضا قبالة من يتنكر لرسالة السماء ومعطياتها. وها هي الأقصوصة التي صيغت في هذا السياق، تتقدم لتعرض لنا مواقف وأحداثا تحوم على الموضوعات المشار إليها. لقد عرضت القصة أول حدث اجتماعي ترتب عليه زوال مجتمع عالمي وقيام المجتمع الجديد وَ جَعَلْنٰاهُمْ خَلاٰئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا أي. زوال المجتمع المنحرف، ونشوء المجتمع السوى... طبيعيا، إن المجتمع الجديد نفسه يبدأ بعض أفراده بالإنحراف فيما بعد، كما أن شرائحه الإجتماعية تبدأ بالإنحراف تدريجيا، مما ستترتب عليه نتائج مشابهة للمجتمع السابق، إلا أن المهم هو: رسم الجزاء الدنيوي الذي يترتب على ممارسة الإنحراف (فضلا عن الجزاء الأخروي الذي يأخذ موقعه فيما بعد).

إن الاقصوصة تعرض لنا مجتمع نوح وانقراضه، ثم نشوء مجتمع ما بعد نوح (ممن أنقذوا من الطوفان). أما مجتمع نوح (ع) فقد أبرز النص القصصي موقف نوح منه حيث توكأ هذا الموقف على لغة تجمع بين اللّه تعالى وبين السخرية من المنحرفين، حيث خاطبهم نوح بأنه: إن كان عظم عليكم مقامي بينكم وتذكيري بآيات اللّه، فنفذوا ما عزمتم من قتلي ولا تغتموا من ذلك، فإنني مصمم على تنفيذ أوامر اللّه تعالى لا أبتغي بذلك أجرا منكم بل أنا مأمور بأن أستسلم لأوامر الله تعالى. هذا الكلام لم تصغه القصة بنحو تقريري بل

ص: 258

بنحو نتلمس من خلاله انتقاء مواقف معينة واختزال مواقف أخرى يترك القارىء بأن يستخلص منها دلالتها المتنوعة، لقد خاطبهم مثلا بقوله فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكٰاءَكُمْ حيث جعل هذه العبارة مشحونة بإيحاءات متنوعة منها. إن جمع الأمر قد يقصد منه: العزم على قتله (ع) أو إبعاده أو إلحاق الأذى له... الخ.

كما أن جمع الشركاء قد يقصد منه: الأوثان أو الشركاء في الإنحراف، وحينئذ يكون المقصود من ذلك بأن يعملوا ما يشاؤون: هم ومن يشاركهم في الرأي، أو بأن يعملوا مع أوثانهم التي لا فاعلية لها... ففي الحالين ثمة تهديد و سخرية من القوم واستهانة بقراراتهم عديمة الفاعلية، سواء أكانت قدرات بشرية أو وساوس وأوهاما نسجوها حيالى أصنامهم.

والأهم بعد ذلك، إن خاتمة القصة (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنٰاهُ ) جاءت - من الزاوية العمارية - إنماء عضويا لوسطها الذي سخر من القوم، حيث ان القارىء وهو يلحظ أن لغة نوح (ع) قد اتسمت من جانب بالسخرية منهم، وبتهديدهم من جانب ثان، وباعتداده باللّه تعالى من جانب ثالث، أقول: عندما يلحظ القارىء أمثلة هذه اللغة التي تجمع بين التهديد والسخرية والإعتداد: حينئذ يتوقع ان تكون نهاية هؤلاء القوم: نهاية كسيحة ما دام هناك أكثر من موقف يرهص بمثل هذه النهاية... وفعلا، جاءت الخاتمة التي تقول فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنٰاهُمْ خَلاٰئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا... . جاءت هذه الخاتمة منسجمة مع طبيعة اللغة التي هدد نوح (ع) من خلالها هؤلاء القوم، وهو أمر يفصح عن جمالية القصة من حيث إحكام عمارتها وتلاحم أجزائها:

بعضها مع الآخر.

سورة يونس (10): الآیات 75 الی 78

قال تعالى. ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآيٰاتِنٰا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كٰانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا إِنَّ هٰذٰا

ص: 259

لَسِحْرٌ مُبِينٌ قٰالَ مُوسىٰ أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هٰذٰا وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُونَ * قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِتَلْفِتَنٰا عَمّٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيٰاءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا نَحْنُ لَكُمٰا بِمُؤْمِنِينَ .

نواجه في هذا المقطع من سورة يونس قصة جديدة هي: قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون ومجتمعه. وقد سبق أن لحظنا قصة نوح (ع) مع مجتمعه والمصير الذي انتهى المنحرفون إليه في حادثة الطوفان وصلة ذلك بفكرة السورة الكريمة التي تحوم على قضايا اليوم الآخر، أما الآن فنواجه قصة جديدة توظف - فنيا - لبلورة الفكرة المشار إليها: حيث يجيء الجزاء الدنيوي والأخروي واحدا من الأفكار التي تستهدف القصة الكريمة توصيلها إلى القاريء بالنسبة للمجتمعات المنحرفة المكذّبة لرسالات السماء ولليوم الآخر.

لقد بدأت القصة بمحاورة بين موسى وهارون وبين مجتمع فرعون على هذا النحو. قال فرعون وجماعته: «إن هذا لسحر مبين» أجابهم موسى (ع) «أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا» قال فرعون وجماعته من جديد:

«أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض».

هنا ينبغي أن نلاحظ أن الحوار المتقدم قد أفرز جملة من الأفكار تماثل الأفكار التي تصدر من الجاهليين وموقفهم من رسالة الإسلام، حيث يكشف مثل هذا التماثل بين الأفكار عن الهدف الفني الذي انطوت عليه القصة: من حيث توظيفها لإنارة الأفكار المطروحة في السورة الكريمة... لقد أجاب المنحرفون: بأن المبادىء التي جاء بها موسى وهارون، هي: «سحر»، وإنما جاءت لتصرفهم عن دين آبائهم وإن موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض.

هذه الإجابات تكشف عن التخلف العقلي والنفسي والإجتماعي الذى يصدر عنه القوم، ومماثلته - بطبيعة الحال - للتخلف الذي يطبع مجتمع

ص: 260

الجاهلية... واول طابع لهذا التخلف هو: إتهامهم الحق بأنه «سحر» حيث يعجز المتخلفون عن تقديم الرد العقلاني، وحينئذ يضطرون إلى الصدور عن فكر عابث لا مسؤول. وأما الطابع الآخر للتخلف فيتمثل في ردهم القائل بأن موسى وهارون يستهدفان صرف المنحرفين عن تقليد آبائهم، وهو رد يجسد قمة التخلف كما هو واضح، حيث لا يمكن ان نتصور تخلفا عقليا أشد من جمود الإنسان على أفكار سالفة لا يبدي أي استعداد لمناقشتها بل يتقبلها كالطفل تماما فيما لا يملك قابلية على محاكمة الأفكار. وأما السمة الثالثة للتخلف الذى طبع مجتمع فرعون فهي: تخيلهم بأن موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، أي يستهدفان الظفر بموقع إجتماعي هو: أن يحكما ويسيطرا ويتأمرا عليهم... وهذه السمة هي عملية (إسقاط)، أي أن المتخلفين: نظرا لكون مجتمعاتهم لا تخبر إلا مفهومات السيطرة والتحكم (وفرعون نموذج واضح لهذا التحكم كما سنرى ذلك في الأقسام اللاحقة من القصة) حينئذ يخيل إليهم ان موسى وهارون عليهما السلام يستهدفان أيضا:

التحكم والسيطرة، من خلال الإتيان بمبادىء تخالف دين أسلافهم المتخلفين، وإنهما يتوسلان بالسحر للوصول إلى أهدافهما.

هذا التصور أو التخلف العقلي والنفسي والإجتماعي يظل دلالات نجد انعكاساتها على الأجزاء اللاحقة من القصة كما قلنا، فضلا عن إنه صدى لدلالات تستهدف السورة الكريمة إبرازها في غمرة رسمها لسلوك الجاهليين وموقفهم من رسالة الإسلام وهو أمر يكشف - دون أدنى شك - عن إحكام السورة الكريمة من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي سنلحظه لاحقا.

سورة يونس (10): الآیات 79 الی 81

قال تعالى: وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سٰاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمّٰا جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ

ص: 261

قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ أَلْقُوا مٰا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمّٰا أَلْقَوْا قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ .

هذا هو القسم الثاني من قصة موسى وفرعون. وكان القسم الأول من القصة يتحدث عن مجتمع فرعون واتهامه موسى بالسحر، وها هو القسم الثاني من القصة يتحدث عن ممارسة قوم موسى للسحر، أي إن التهمة التي وجهها القوم لموسى (ع)، تأخذ - في هذا القسم من القصة - موقفا معاكسا حيث تنقلب التهمة وتوجه من قبل موسى إلى قوم فرعون بعد أن كان القوم يتهمون موسى بالسحر فعليا... وهذا الإنقلاب في الموقف له قيمته الفنية (من حيث عمارة السورة الكريمة) حيث يكشف عن تقابل هندسي جميل بين الموقفين... لقد بدأ هذا القسم من القصة بمطالبة فرعون بأن يأتوه بكل ساحر عليم (وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سٰاحِرٍ عَلِيمٍ ) ... لقد اختزلت القصة جملة من الأحداث والمواقف، تاركة للقارىء بأن يستخلص بنفسه تفصيلات الموقف، حيث اكتفت بالقول بأن فرعون طلب إتيانه بالسحرة، وهذا يعني ان هناك محاورات قد تمت بين موسى وبين فرعون بحيث أفضت إلى أن يطللب فرعون السحرة. و فَلَمّٰا جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ أَلْقُوا مٰا أَنْتُمْ مُلْقُونَ . هنا حذف النص أيضا تفصيلات الحدث بحيث يستخلص القارىء بأن السحرة قد ألقوا عصيهم وان عملهم قد باء بالفشل، وان عصاه أبطلت السحر. هذه التفصيلات لا وجود لها في القصة وذلك بقدر ما يستهدف النص إبطال التهمة التي وجهت إلى موسى بأنه ساحر، لذلك لم تسرد في القصة إلا ما يلقي الضوء على هذا الجانب. يدلنا على ذلك أن موسى (ع) عقب على حادثة السحرة بقوله مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ و. الفقارىء - بطبيعة الحال - سوف يدرك سريعا بأن موسى عندما قال لهم (إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ . أي السحر) يدرك سريعا بأن موسى (ع) قد ألقى عصاه، وان انقلابها ثعبانا يلقف ما عملوه، إنما هو تجسيد لقوله (إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ ) . كل هذه الأحداث والمواقف قد

ص: 262

اختزلها النص ليركز على إبطال التهمة من جانب، وإلقاء الحجة عليهم مق جانب آخر.

سورة يونس (10): الآیات 83 الی 86

بعد ذلك، يواجهنا القسم الثالث من القصة بهذا النحو. فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ * وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقٰالُوا عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ * وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ .

هذا القسم من القصة يحفل بسمات فنية متنوعة لا بد من الوقوف عندها تفصيلا. لكن قبل ذلك ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى المبنى الهندسي للنص.

من حيث علاقة هذه التفصيلات بالأقسام السابقة واللاحقة من القصة، وذلك:

نظرا لكون هذا القسم من القصة يتضمن أهم المواقف ألا وهو: أن طائفة من مجتمع فرعون قد استجابت لرسالة موسى، على خوف من فرعون والطبقة العليا من مجتمعه المنحرف، ولاشك ان مثل هذا الموقف يجسد (من حيث عمارة القصة: إنماء عضويا أو صدى لكلام موسى (ع): في القسم السابق من القصة وهو قوله: وَ يُحِقُّ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ وفعلا: يبدأ البعض بالإنسلاخ عن فرعون ومجتمعه، ينتصر موسى في النهاية كما سنرى، مما يفصح مثل هذا النمو العضوي للأحداث والمواقف عن إحكام المبنى الفني للنص من حيث علاقة أجزائه بعضها مع الآخر.

قال تعالى: فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ * وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقٰالُوا عَلَى اَللّٰهِ

ص: 263

تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ .

هذا هو القسم الثالث من قصة موسى (ع)... حيث يتناول هذا القسم سلوك الطائفة التي آمنت برسالة موسى عصرئذ، لقد وسم النص هذه الطائفة بكونهم (ذرية) من قومه، ووسمهم بالخوف من فرعون ومشايعيه فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ . لا شك إن لهذه السمات أو السمتين دلالتها الإجتماعية والفنية... فالاسوياء أو الأذكياء أو الطيبون يجسدون القلة دائما على العكس من الغالبية التي يغلّفها الجهل والمرض ونزعات الشر. وقد أكدت قصة سابقة - وهي قصة نوح (ع) فيما أعقبتها قصة موسى (ع) - أكدت هذا الجانب حينما أفرزت قلة من الناس وحملتهم في السفينة وأغرقت الباقين، وهذا ما يدلنا على التجانس الفني بين القصتين من حيث انصبابهما في دلالة أو مبدأ اجتماعي متماثل هو: مبدأ الأقلية المؤمنة والاكثرية المنحرفة. أما السمة الأخرى ونعني بها سمة (الخوف) الذي واكب الطائفة المؤمنة، فتشير إلى مبدأ اجتماعي آخر هو: اقتران الحياة بالشدائد، وإن المؤمن بخاصة يظل عرضة لجملة من الشدائد، منها: الشدة التي يكابدها المؤمنون من قبل سلاطين الدنيا ومطلق المنحرفين.

وقد تكفلت القصة ببيان هذا المبدأ حينما عقبت على ذلك بقولها وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ فِي اَلْأَرْضِ حيث تضمنت هذه العبارة تقرير حقيقتين أولهما.

التعريف بهذه الشخصية المفسدة (فرعون) - من حيث كونها أحد شخوص القصة التي تترك تأثيرها في سلسلة الحوادث والمواقف في القصة - وأخراهما.

بيان الوظيفة العبادية التي ينبغي ان تمارسها الطائفة المؤمنة حيال الشدائد التي تواجهها من قبل الطغاة... وهذا ما أوضحته القصة الكريمة، حينما قٰالَ مُوسىٰ : يٰا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ... وجاء

ص: 264

الجواب: عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ .

هذا الحوار بين موسى (ع) وبين جماعته، يكشف عن جملة من الحقائق الفنية والفكرية... أما (فكريا)، فإن الحوار تضمن تقرير الحقيقة العبادية الذاهبة إلى أن (التوكل) على اللّه تعالى هو الوظيفة التي ينبغي أن يصدر المؤمن عنها حيال الشدائد التي يواجهها من قبل الطغاة، وأن يواصل جهاده دون خوف من ذلك، وأما (فنيا) فيلاحظ أن القصة سبق أن أشارت إلى أنه فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي أن الطائفة المؤمنة (خافت) من الوقوع في (الفتنة) من قبل فرعون وبطانته. وها هو «الحوار» أو الجواب الذي تقدمه الطائفة المؤمنة يتضمن الإشارة إلى (الفتنة) حيث قالت في دعائها (رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا (فِتْنَةً ) لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ) إذن، ينبغي أن ننتبه على هذه السمة الفنية (حيث نعنى في هذه الدراسات بعمارة السورة القرآنية الكريمة)، ونعني بها سمة (التلاحم العضوي) بين (الفتنة) التي خاف القوم الوقوع فيها، وبين (الفتنة) التي طالبوا - من خلال الدعاء - بأن يقيهم اللّه تعالى منها، حيث شكل هذا الدعاء (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) إنماء عضويا لمفهوم (الفتنة) التي يخافها المؤمن متمثلا في (الخوف من الفتنة) ثم (المطالبة بإزاحتها)، وهو أمر يكشف - كما قلنا - عن أن القصة الكريمة مطبوعة بإحكام فني من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

سورة يونس (10): الآیات 87 الی 89

قال تعالى: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءٰ ا لِقَوْمِكُمٰا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ قٰالَ مُوسىٰ رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالاً فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا رَبَّنٰا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ

ص: 265

عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ قٰالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمٰا فَاسْتَقِيمٰا وَ لاٰ تَتَّبِعٰانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ .

هذا هو القسم الرابع من قصة موسى وفرعون. وقد كان القسم السابق من القصة يتناول مطالبة موسى قومه بأن يتوكلوا على الله، و قد كانوا قلة آمنت بموسى على خوف من فرعون، و ها هو القسم الجديد من القصة ينمي عضويا قضية التوكل على اللّه تعالى وإزاحة الخوف وإجابة الدعاء الذي توجه به القوم إلى اللّه تعالى بأن ينجيهم من فرعون وبطانته.

لقد أمر اللّه تعالى موسى وأخاه هارون بأن تبنى لهم البيوت وأن يصلوا فيها وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً . ترى، لماذا أمرهما اللّه تعالى ببناء البيوت وجعلها قبلة ؟ ثم: ما هو السر الفني وراء صياغة الصورة (التمثيلية) وهي:

جعل البيوت قبلة. أما بناء البيوت والصلاة فيها فأمر يرتبط بظاهرة (الخوف) الذي أشار إليه القسم السابق من القصة أي قوله فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ ... ، وهذا يعني ان القصة (من حيث البناء الفني) أنمت قضية الخوف ورتبت عليه أثرا هو: أن يمارس هؤلاء المؤمنون الصلاة في بيوتهم ما دام الخوف يحتجزهم من أداء الصلاة بمرأى من فرعون وأعوانه. مع ملاحظة إن المطالبة ببناء البيوت والصلاة فيها، تنطوي على سر فني هو إبراز أهمية الصلاة وكونها أهم معلم لسمات الشخصية العبادية، وهو أمر يكشف عن أهميتها من خلال المطالبة حتى في الرسالات السابقة على الإسلام.

وأما من حيث صياغة الصورة (التمثيلية) أو (الرمزية) التي تقول (وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) فإن النصوص المفسرة تتفاوت في تفسير المقصود من هذه العبارة، إلا أننا نرجّح - لأسباب فنية - أن يكون المقصود من العبارة المذكورة (وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) هو: (اجعلوا صلاتكم في بيوتكم) فتكون

ص: 266

العبارة (رمزا)، أي. بما أن الصلاة لا بد أن تتم من خلال التوجه بها إلى جهة خاصة (وهي القبلة) - بغض النظر عن تحديدها عصرئذ حينئد جاءت الصورة وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لتشكل (رمزا) لتلكم الجهة التي لا بد من التوجه إليها، وإلا كان بمقدور النص أن يقول مثلا: (وأقيموا الصلاة في بيوتكم)، لكن - وهذا مجرد احتمال فني - بما أن الصلاة تقترن بالقبلة حينئذ جاءت الصياغة المشار إليها (رمزا) يشير إلى هذا الجانب. ومما يعزّز هذا الإحتمال الفني إن القصة القرآنية الكريمة اعقبت الصورة المتقدمة وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أعقبها بالقول (وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ ) ، فالمطالبة بإقامة الصلاة قد تبدو في الظاهر مخالفة للتفسير الذي احتملناه باعتبار أن قوله تعالى: اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً إذا كان (رمزا) للصلاة، فما معنى ان يعقب النص بعد ذلك بإقامة الصلاة. لكن إذا دققنا النظر مليا، وجدنا العبارة الأولى كانت في مقام تأكيد المكان والجهة التي يصلى إليها، وإن العبارة الثانية جاءت في تأكيد ممارسة الصلاة ذاتها.

وأيا كان الأمر، يعنينا أن نشير إلى عمارة القصة الكريمة مكررا (ما دمنا نعنى فنيا بهذا الجانب في السورة القرآنية) حيث لحظنا كيف ان المطالبة ببناء البيوت والصلاة فيها، جاءت إنماء عضويا للقصة، حيث أمروا بأدائها في بيوتهم. وهذا الأمر يكشف بوضوح عن إحكام النص من حيث تلاحم وتنامي أجزائه بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

سورة يونس (10): الآیات 88 الی 89

قال تعالى: وَ قٰالَ مُوسىٰ رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالاً فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا رَبَّنٰا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ * قٰالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمٰا فَاسْتَقِيمٰا وَ لاٰ تَتَّبِعٰانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ .

ص: 267

هذا هو القسم الخامس من قصة موسى (ع) مع فرعون.

في هذا القسم من القصة، نواجه محاورة بين اللّه تعالى وبين موسى، يتجه موسى إلى اللّه تعالى قائلا رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالاً فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا . ويقول أيضا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ويقول أيضا رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ .

لقد طالب موسى (ع) أو لنقل: اتجه بدعائه إلى ثلاث قضايا هي: أن فرعون قد أوتى زينة وأموالا، وإنه استثمرها في إضلال الناس، ثم دعا موسى بأن يطمس اللّه على أموال فرعون وجماعته وأن يشدد على قلوبهم.

حيال هذا الدعاء جاءت الإجابة من اللّه تعالى بالنسبة لموسى وأخيه هارون عليهما السلام على هذا النحو: (قٰالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمٰا فَاسْتَقِيمٰا...) .

ما يعنينا من هذه المحاورة ملاحظة صياغتها فنيا، ثم ما تنطوي عليه من دلالات فكرية.

وأول ما ينبغي تسجيله هنا هو أن الدعاء يقترن بالإجابة بخاصة إذا كان صادرا من الشخصيات المصطفاة، أو مطلق الشخوص الذين يعملون من أجل اللّه ونشر مبادئه... إن (الحوار) نفسه يكشف (من الزاوية الفنية) عن هذه الحقيقة حيث جاءت وظيفته الفنية لتكشف عمليا عن أن الدعاء يقترن بالإجابة... ليس هذا فحسب، بل أن الرد من قبل اللّه تعالى على طلب موسى (قد استجيبت دعوتكما) فقوله تعالى (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمٰا) هو تأكيد قولي على إجابة دعائهما، علما بأن هذا التوكيد سوف يسحب آثاره على القسم الآخر من القصة عندما يغرق فرعون وقومه كما سنرى.

الحقيقة الفنية الأخرى التي نستخلصها من هذا الحوار هي: أن الزينة

ص: 268

و الأموال قد استثمرهما المفسدون في الأرض ليضلوا عن سبيل الله تعالى...

والفارق بين الزينة وبين الأموال، ان الزينة تتصل بالمظهر الخارجي للشخص مثل الملابس أو جمال الهيئة أو الصحة أو هي جميعا مما تشبع الحاجات المشروعة وغير المشروعة لكل ما يتصل بالتقدير الإجتماعي والذاتي للشخص.. أما الأموال فهي تحقق مطلق الحاجات بما فيها. الرغبة في التملك حتى لو لم تكن حاجة إلى ذلك. والمهم أن القارىء يستخلص من هذا كله إن الزينة والأموال لا تكاد تنفك عن المفسدين في الأرض، وإنها تستثمر لإضلال الناس، و من ثم فإن عاقبة أمرها هو الفقدان. ولذلك طالب موسى بأن يطمس الله تعالى على هذه لأموال وطالب أيضا بأن يشد اللّه على قلوبهم (وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ) .

هنا قد يتساءل القارىء أو (السامع) عن السر الفني وراء هذه العبارة التي تقول (وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ) . فالشدّ على القلب يعني تقوية القلب. فما هي دلالة ذلك ؟ إن أدنى تأمل لهذه العبارة يكشف لنا بأن المطالبة بشد القلب تنطوي على دلالة نفسية هي ان الدنيويين - وهم يعنون بالزينة وبالأموال - لا يملكون سواها، ومن ثم فإن آمالهم وتطلعاتهم مشدودة إلى ذلك، أى أن قلوبهم منشدة إلى الزينة والمال، وحينما يفقد الشخص ما ينشدّ قلبه إليه تكون مصيبته ضخمة تتناسب مع حجم انشداده إلى الشيء المفقود، وهذا يعني أن موسى (ع) طالب بأن يضخم انشداد القلوب - لدي هؤلاء المنحرفين - بالنسبة إلى الزينة والأموال، حتى يتضاعف إحساسهم بالألم عند فقدانها.

والمهم أن اللّه تعالى أجاب دعاء موسى وهارون كما قلنا، وهو أمر نلحظه بوضوح في القسم الأخير من القصة حينما نقرأ فيها: وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ ...

الخ. حيث تشكل هذه العبارة إنماء عضويا لقضية الدعاء بحيث ينعكس أثره

ص: 269

على المصائر التي تلحق فرعون وقومه، و هو أمر يكشف عن إحكام النص القرآني الكريم: من حيث صلة أجزائه بعضها مع الآخر.

سورة يونس (10): الآیات 90 الی 93

قال تعالى: وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ عَنْ آيٰاتِنٰا لَغٰافِلُونَ * وَ لَقَدْ بَوَّأْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .

هذا هو القسم السادس والأخير من قصة موسى (ع)... حيث يتضمن نهاية فرعون وقومه على النحو الآتي من العرض: موسى وجماعته يعبرون البحر، فرعون وجماعته يتبعونهم لكي يلحقوا الأذى. ويدرك الغرق فرعون فيضطر إلى التسليم بالحقيقة التي كان يجحدها أي الإيمان باللّه تعالى، فيقال له. لا ينفعك مثل هذا التسليم في حالة الغرق... وتعرض جثته أمام الأعين ليكون عبرة للآخرين.

هذا هو ملخص العرض القصصي لنهاية فرعون وقومه. لكن ما يعنينا منه هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة هذه الأحداث والمواقف.

لقد طلب موسى وهارون أن ينتقم اللّه تعالى من فرعون وقومه وجاء الجواب بأنه (قد اجيبت دعوتكما). وها هي القصة تعرض قضية عبور موسى وقومه للبحر لتكشف لنا بنحو فني غير مباشر: إن الانتقام من فرعون وقومه قد تحقق. إلا أن النص لم يتعرض لتفصيلات الحادثة بل اكتفى بعبارة تتصل بفرعون وحده وهي عبارة (حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ ) ... طبيعيا، أن

ص: 270

القارىء سوف يستخلص بأن القوم قد غرقوا وأن فرعون عندما أدركه الغرق قال: آمنت... هذه التفصيلات - كما قلنا - لا وجود لها في القصة، وذلك لسبب فني هو. إن النص يستهدف إبراز حقيقة تتصل بفرعون دون قومه باعتباره رأس الفساد... أما الانتقام بعامة فقد أحيط القارىء به علما دون أن تكون هناك ضرورة فنية لذكره ما دام القارىء يستطيع أن يستنتج ذلك. وهذه هي مهمة الفن الذي يعتمد الإقتصاد اللغوي والإيحاء الفني. أما الحقائق التى يستهدف النص إبرازها وتأكيدها و التركيز عليها فيفصل الحديث فيها وهو ما نلحظه في العرض القصصي المرتبط بفرعون في حالة غرقه وقوله (آمن) باللّه تعالى، ثم التعقيب على قوله من قبل النص القرآني لهذا اكلام آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ عَنْ آيٰاتِنٰا لَغٰافِلُونَ .

إذن، الفكرة أو القضية التي يستهدفها النص القصصي هي. أن فرعون عندما يئس من الحياة. أعلن إيمانه باللّه تعالى، وأن جثته عرضت على الناس ليكون آية للآخرين. وهذا الموضوعان أو الهدفان لهما أهميتهما الكبيرة في ميدان العمل العبادي حيث أبرزهما النص بهذا النحو: تحسيسا بأهميتها المشار إليها... أهمية الموضوع الأول هي: ان التوبة ينبغي أن تتم في حالة الإختيار من جانب وفي فسحة من العمر من جانب آخر. والسر الفني في ذلك أن التوبة - فى حقيقتها - ندم على ممارسة الذنب وعزم على الإقلاع منه، وهذا لا يحقق فاعليته إلا في حالة الفسحة من العمر بحيث يؤجل شهواته ويمارس الطاعة، أما في حالة الإشراف على الموت فلا فاعلية لممارسة التوبة، نظرا لعدم وجود الحياة التي يؤجل شهواته فيها. وحينئذ لا فائدة من هذه التوبة التي يضطر إليها الشخص دون أن يختارها بملء رغبته.

أما أهمية عرض جثة فرعون أمام الملإ فتتمثل في كون ذلك منبها أو

ص: 271

محركا يحمل الآخرين على التفكير بمصير المفسدين الذين يخيل إليهم بأن سيطرتهم الدنيوية تنقذهم من المصير البائس الذي ينتهون إليه... والمهم - بعد ذلك - أن فرعون عندما أعلن عن إيمانه حينما رأى الموت إنما جاءت صياغة هذه الحقيقة المتصلة به: إنماء عضويا لدعاء موسى (ع) عندما توجه إلى اللّه تعالى قائلا (فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ ) ، وها هي انعكاسات كلام موسى (ع) تتنامى - في أحد مصاديقها - على موقف فرعون مما يفصح مثل هذا التنامي عن إحكام العمارة الفنية للنص من حيث تلاحم أجزائه بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

***

سورة يونس (10): الآیات 94 الی 98

قال تعالى: وَ لَقَدْ بَوَّأْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جٰاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ * وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ * إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ * وَ لَوْ جٰاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ * فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ .

في هذا المقطع عنصر قصصي يربط بين أجزاء السورة الكريمة، حيث لحظنا أن قصة موسى مع فرعون قد ختمت بالإشارة إلى أن الإسرائيليين قد ورثوا الفراعنة، بعد أن دعا موسى (ع) بأن يهلك اللّه تعالى فرعون وقومه، وكان من جملة دعائه رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ تحتل موقعا فنيا من القصة حيث انتقل النص من الحديث عن الإسرائيليين إلى الحديث عن الجاهليين الذين عاصروا رسالة

ص: 272

الإسلام و ناهضوها فعقب سبحانه و تعالى على موقف هؤلاء بنفس الفقرة السابقة وَ لَوْ جٰاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ فالملاحظ فنيا هنا أن النص سرد لنا قصة موسى (ع) ليربط بين الفراعنة الذين لم يؤمنوا وبين الجاهليين الذين لم يؤمنوا أيضا.

وها هو النص يسرد لنا قصة جديدة هي قصة قوم يونس (ع) ليربط بينها وبين الأقوام الذين آمنوا، أي على العكس من الأقوام السابقين الذين تمت الإشارة إليهم. يقول النص: فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ . إن هذه الأقصوصة أو الحكاية تنطوي على دلالات فنية متنوعة. فالملاحظ ان غالبية المجتمعات التي عرض لها القرآن الكريم مثل مجتمعات نوح وهود وصالح ولوط وأبراهيم وموسى...

الخ قد أنهاها إلى مصائر كسيحة هي نزول العذاب عليهم دنيويا، خلافا لمجتمع يونس حيث أنهاه إلى مصير إيجابي هو: رفع العذاب عن المجتمع المذكور. والأهمية الفنية لعرض مثل هذه الأقصوصة هي أنها جاءت - كما نحتمل - لتقرير حقيقة تتصل بمجتمع محمد (ص) حيث أن اللّه تعالى خصّ هذا المجتمع - كرامة لمحمد (ص) - بمصائر تختلف عن مصائر السابقين، منها:

رفع العذاب الجماعي وحصره في الهزائم العسكرية مثل معركة بدر مثلا...

وبما أن مجتمع محمد (ص) - من جانب آخر - قد آمن برسالة الإسلام فيما بعد بخاصة (في مرحلة المدينة) ثم توّج ذلك بدخول الناس في دين اللّه أفواجا (في مرحلة فتح مكة): حينئذ فإن انشطار هذا المجتمع إلى طوائف مؤمنة وأخرى غير مؤمنة (مثل كبراء قريش وقبائل وأمصار أخرى) بخاصة في مرحلة مكة التي ندر فيها المؤمنون وكثر فيها المنحرفون.

أقول: إن مثل هذا الانشطار يستدعي فنيا تقديم قصة تعرض المصائر الإيجابية لمن آمن من الأقوام السابقين حتى يتسق هذا المصير مع مجتمع

ص: 273

محمد (ص) فيما آمن برسالة الإسلام فيما بعد... مضافا إلى ذلك، فإن هدف أية قصة يعرضها القرآن الكريم إنما يتمثل في استخلاص العظة منها من جانب، وجعلها بمثابة ضوء ينير الموقف من جانب آخر. فالنص القرآني الكريم يستهدف لفت النظر إلى المجتمع الذي لا يصدق برسالة السماء فإن مصيره - دنيويا - هو نزول العذاب عليه (وقد جاءت قصة موسى مع فرعون: تجسد هذا المفهوم)، أما المجتمع الذي يصدق برسالة السماء: فإن مصيره هو: رفع العذاب عنه (وقد جاءت قصة يونس. تجسد هذا المفهوم)، وبما أن المخاطب هو مجتمع محمد (ص) وان الهدف من مخاطبته هو: حمله على تعديل سلوكه، حينئذ جاءت هاتان القصتان بمثابة ندير وبشير لهذا المجتمع...

نذير: يلوّح بالعذاب دنيويا (في حالة عدم الإيمان)... بشير: يلوّح برفع العذاب (في حالة الإيمان)... وحينئذ يكون النص بهذا النمط من الصياغة لقصصية قد ربط بين أجزاء النص: بعضها مع الآخر بالنحو الذى أوضحناه.

***

سورة يونس (10): الآیات 99 الی 100

قال تعالى وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّٰاسَ حَتّٰى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ ... .

بهذا المقطع وما بعده تختم سورة يونس التي كانت فكرتها تحوم على قضايا اليوم الآخر وموقف المشركين من ذلك. لكن: خلال هذه الفكرة، طرح النص مجموعة من الموضوعات المرتبطة بها، وفي مقدمتها: كيفية التعامل مع هؤلاء المنحرفين. لقد طرح النص في ختام السورة خلاصة الموضوعات التي فصل الحديث عنها في حينه، وكان الموضوع الذي أبرزه بخاصة في ختام السورة هو: قضية الإيمان باللّه تعالى ومنعكساته... فهو بعد ان قدم لهم سلسلة من الآيات والبراهين مثل: إبداع اللّه تعالى للظواهر الكونية... ثم بعد

ص: 274

ان سرد لهم قصص الأمم والمصائر التي انتهوا إليها، عاد فأوضح قضية الإيمان باللّه تعالى وما يترتب على ذلك من النتائج، مبينا جملة من القوانين الإجتماعية، ومنها هذا المبدأ: وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ثم هذا المبدأ أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّٰاسَ حَتّٰى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ثم هذا المبدأ وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ .

هذه المبادىء أو القوانين الثلاثة: تشكل من جانب: التعامل الدنيوي.

فالناس أحرار في اتخاذ الموقف الفلسفي من الكون والحياة، والمسؤولون: لا يلزمهم إكراه الناس على الإيمان... وهذا هو التعامل الدنيوي. أما عباديا فهناك المبدأ الذي يقول: إن الإيمان قضية ترتبط باللّه تعالى، فإذا أذن لشخص بأن يؤمن. كان له ذلك، وإلا فإن اللّه تعالى (يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ ) . هذا يعني ان الإيمان معطى ضخم يهبه اللّه تعالى لمن يملك استعدادا الأن يؤجل شهواته ويتعقل مبادىء الخير، وأما عدا ذلك فإن الناس (رجس) (وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ ) ... فالملاحظ هنا، ان النص القرآني الكريم: استخدم عنصر الصورة الفنية لبلورة هذه الحقيقة، وهو (الرمز) ونعني به عبارة (وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ ) فالرجس هنا (رمز) فني يشير إلى القذارة والوساخة ونحوها من السمات المادية التي خلقها النص على البشر غير لمؤمن، فأكسبه سمة نفسية هي وساخة أو قذارة القلب أو النفس حيث لا سمة أشد إيلاما على الشخص أو أشد إهانة له من قذارة نفسه.

سورة يونس (10): الآیات 101 الی 102

بعد ذلك. ربط النص بين موضوعات كان قد ربطها سابقا مثل: إبداع اللّه تعالى للسماء والأرض ومثل سرده لقصص الماضين، ربط بينها وبين هؤلاء الذين خلع عليهم سمة الوساخة أو القذارة: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا تُغْنِي اَلْآيٰاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّٰ مِثْلَ أَيّٰامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا... . لقد ذكرهم النص بإبداع الله

ص: 275

تعالى، لكن: لا يغني ذلك عن قوم لا يتعقلون. ثم، ذكرهم بقصص الماضين، وهدّدهم بالمصير المماثل لمصائر أولئك البائدين.. ويلاحظ أن النص: قد اعتمد صورة فنية جديدة في هذا التذكير وهي (الصورة التشبيهية) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّٰ مِثْلَ أَيّٰامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ... إن أداة التشبيه (مثل) تتميز عن غيرها من أدوات التشبيه (من نحو: الكاف، كأن) بكونها ترصد أوجه الشبه بين الشيئين على نحو التطابق بينهما، أما (الكاف) و (كأن) فإنهما يتناولان نسبة محددة من أوجه الشبه، لذلك. عندما يستخدم النص الأداة (مثل) في هذا الموقع فهذا يعني (من الزاوية الفنية) ان العذاب الملح به سوف يلحقهم بنحو (مماثل) للعذاب الذي لحق البائدين، سواء أكان هذا العذاب دنيويا (مثل هلاك بعض المشركين في معركة بدر) أو أخرويا.

وهذا ما يرتبط بالمنحرفين.

أما ما يرتبط بالمسؤولين، ممن أذن لهم اللّه تعالى أن يؤمنوا وأن يبلغوا رسالة الإسلام فقد طالبهم النص في ختام السورة الكريمة بأن يصبروا (حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ ) .

وبهذا الختام يكون النص قد حدد وظائف الطائفة المؤمنة المبلغة برسالة السماء، وطريقة تعاملها مع المنحرفين الذين رسم النص سلوكهم في تضاعيف السورة الكريمة مفصحا بهذا عن إحكام العمارة الفنية للنص: من حيث علاقة موضوعاته بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

ص: 276

سورة هود

اشارة

ص: 277

ص: 278

سورة هود (11): الآیات 1 الی 5

قال تعالى بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ * وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * أَلاٰ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاٰ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيٰابَهُمْ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ ...

تبدأ سورة هود بهذا المقطع الذي يتحدث عن أحكام القرآن الكريم وتفصيله والمطالبة بتوحيده تعالى، وبالتوبة وبالخوف من عذاب يوم كبير.

هذه الموضوعات سوف تنسحب على السورة الكريمة بنحو مفصل بعد أن طرحتها مقدمة السورة بهذا الإجمال.

وأول ما يواجهنا بعد المقدمة هو قوله تعالى أَلاٰ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاٰ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيٰابَهُمْ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ . هذه الآية تشكل أول موضوع مطروح في السورة الكريمة حيث نحاول الآن دراستها فنيا وتوضيح علاقتها بعمارة السورة الكريمة.

إنها تتحدث عن سلوك الكافرين حيال رسالة الإسلام بخاصة حين استماعهم إلى محمد (ص) وهو يتلو عليهم آيات اللّه تعالى. لقد قدم النص مجموعة من (الصور الفنية) في حديثه عن سلوك المنحرفين. وهذه الصور تتأرجح بين الإستعارة والرمز وبين الصور الحسية المباشرة. وتتمثل «الإستعارة» في عبارة «يثنون صدورهم»، ويتمثل (الرمز) في عبارة «يستغشون

ص: 279

ثيابهم» وتتمثل الصورة الحسية أو الصورة المسرحية في العبارة الاخيرة ذاتها أي «يستغشون ثيابهم» في حالة أخذنا التفسير القائل بأن المنحرفين كانوا إذا واجهوا محمدا (ص) غطوا رؤوسهم بثيابهم، فتكون الصورة حينئذ «واقعية» وليست (رمزا) للواقع... لكن في الحالات جميعا فإن هذه الصورة مصوغة فنيا بنحو يبتعث الإثارة والطرافة، وهذا ما نبدأ بتوضيحه.

إن (ثني الصدور) من الممكن أن يكون (استعارة) تشير إلى أن المنحرفين كانوا يحنون صدورهم عداوة لمحمد (ص) أو حين استماعهم للقرآن الكريم، ومن الممكن أن يكون صورة (واقعية) هي ثني هؤلاء لصدورهم بعضها مع الآخر لكي يتناجوا فيما بينهم خفية حتى لا يسمعهم الرسول (ص) أو الآخرون. وهذا ما يعززه قوله بعد ذلك (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) ، أي ليتستروا عن النبيّ (ص)... لكن حتى في نطاق هذه الصورة الواقعية، فإنها تتضمن صورة (استعارية) أو (رمزية) في الآن ذاته، حيث إن التناجي والهمس بين الأشخاص يتم من خلال مظهر حركي آخر هو. تقريب الوجوه بعضها إلى الآخر وليس تقريب الصدور وحدها، بل إن حركة الرأس هي التي توحي بأن هذين الشخصين مثلا في حالة التناجي والهمس: حيث يقرب كل منهما رأسه ووجهه وأذنه إلى الاخر ليتهامسا فيما بينهما. لكن بما أن الهمس أو الكلام الخفي:

تنطوي عليه الصدور لذلك أبرز النص القرآني الكريم حركة الصدر وهي (الثني) و (العطف) تعبيرا عن سرية الكلام، بصفة أن الصدر هو موضع الأسرار من حيث موقع القلب منه.

طبيعيا، أن الصدر يتحرك مع حركة الرأس أو الوجه إلا أن حركته ثانوية من حيث المظهر البارز للحركة. لكن بما أن الصدر هو موضع السر: لذلك ابرز النص حركة الصدر بقوله (أَلاٰ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مِنْهُ - أي النبيّ (ص) -) تعبيرا عن سرية الكلام فيكون بذلك (رمزا) أو (استعارة) تشير إلى الدلالة

ص: 280

المذكورة... والأمر نفسه، بالنسبة إلى الصورة الواقعية الأخرى وهي قوله تعالى أَلاٰ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيٰابَهُمْ ، فاستغشاء الثياب تعبير عن عدم استعدادهم لمواجهة النبيّ (ص) (أي. رؤيته (ص)، فيكون حينئذ إبراز هذه الحركة الخارجية (وهي واقعية بطبيعة الحال) منطويا في الآن نفسه على دلالة داخلية هي مرض أعماقهم الذي انعكس على سلوكهم الخارجي، وهو أمر يكشف - من حيث الفن - عن إحكام الصياغة الفنية من حيث علاقة ما هو خارجي بما هو داخلي من الأفكار، مفصحا بذلك عن تلاحم أجزاء النص بعضها مع الآخر.

سورة هود (11): الآیات 7 الی 8

قال تعالى... وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ * وَ لَئِنْ أَخَّرْنٰا عَنْهُمُ اَلْعَذٰابَ إِلىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ أَلاٰ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ... .

هذا المقطع امتداد لمقطع سابق يتحدث عن سلوك المنحرفين وموقفهم من رسول الله (ص)... حيث كان المقطع السابق يعرض لنا كيف أنهم كانوا يستخفون منه (ص) ويتسترون عنه حتى لا يواجهوه. أما الآن فيتحدث النص عن مفردات من سلوكهم، منها: اتهامهم إياه بالسحر، ومنها: سخريتهم من العذاب حيث يقولون: ما الذي يؤخر العذاب الذي هددهم به رسول اللّه (ص)... هذه المواقف عرضها النص من خلال التوكؤ على عنصر الحوار: وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ وَ لَئِنْ أَخَّرْنٰا عَنْهُمُ اَلْعَذٰابَ إِلىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ؟ .

واضح، أن هذا الحوار يكشف عن حقيقة أفكارهم العابثة والساخرة حتى يتبينها القارىء من أفواههم أنفسهم. لكن ما يعنينا من ذلك هو: الموقع الهندسي الذي يحتله هذا المقطع من عمارة السورة الكريمة ثم ما واكبته من

ص: 281

الأفكار التي طرحها النص خلال السياق المذكور. أما الأفكار التى و اكبت هذا المقطع فتتمثل في العبارات الاتية التي سبقت الحوار الذي لحظناه: وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا كُلٌّ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا... الخ فالملاحظ أن النص طرح قضية الرزق والعلم بمستقر المخلوقات ومستودعها، والإبداع للسماوات والأرض في ستة أيام، وأن العرش على الماء. طرحها جميعا في هذا السياق ليشير إلى أهميتها من جانب، ثم - وهذا هو الأهم من ذلك - ليربط بينها وبين الهدف الرئيس من خلق الكون، حيث عقب على ذلك قائلا: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ... إن هذه العبارة تلخص تجربة خلق الإنسان وإن الهدف الرئيس من ذلك هو:

اختباره، وأن الظواهر الإبداعية وظفت لإنارة الهدف المذكور.

و لنا أن نشير إلى ظاهرة فنية هي: أن الموضوعات لا تكتسب درجة أهميتها من خلال كونها تطرح بصورة رئيسة بل يمكن طرح ما هو (أهم): بصورة ثانوية، و هذا ما لحظناه في عبارة (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، حيث إن خلق الكون، و نزول الرسالات، إنما يتم من أجل هذا الهدف (ممارسة العمل الأحسن) أي من أجل الإختبار المذكور، إذ ليس هناك أي موضوع مطروح: يمكن أن يكون أشد أهمية من هذا الموضوع الذي يقول: بأن خلق الكون إنما تم فلأجل ممارسة العمل العبادي، ومع ذلك فإن هذا الموضوع طرح بصورة ثانوية جاءت في سياق الحديث عن مواقف الكافرين، مما كشف ذلك عن واحد من أساليب الفن في توصيل الأفكار المستهدفة.

وهذا ما يتصل بالأفكار التي واكبت الحديث عن موقف المنحرفين حيال

ص: 282

رسول اللّه (ص) أي: مواقفهم العابثة والساخرة حيث سخروا من العذاب الذي لوّح به محمد (ص) بقولهم: ما الذي يؤخر هذا العذاب ؟ لماذا - إذن - لم ينزل لحد الآن ؟ وحيث أجابهم النص قائلا أَلاٰ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ . إن ما تعنينا من هذا أن نتبين الموقع الهندسي لهذه المواقف: من حيث صلتهما بعمارة السورة الكريمة. نقول: إن مقدمة السورة خاطبت المنحرفين بالقول (فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عظيم)...

هذا القول الذي ورد في أول السورة ينعكس الآن على المقطع الذي تحدثنا عنه ألا وهو: استعجالهم للعذاب بقولهم (مٰا يَحْبِسُهُ؟) أي الذي منع من تأخير العذاب الذي هددهم به محمد (ص).

إذن، عبارة (إني أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عظيم) حيث جاءت في مقدمة السورة. جاء الآن انعكاسها على هذا المقطع الذي نتحدث عنه مما يكشف مثل هذا التنامي العضوي للموضوعات: عن إحكام البناء الهندسي للنص القرآني الكريم من حيث علاقة أجزائه بعضها ممع الاخر بالنحو الذي أوضحناه.

سورة هود (11): الآیات 9 الی 10

قال تعالى وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ * وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ... .

هذا المقطع يتحدث عن سلوك الكافرين المعاصرين لمحمد (ص) فيما نقل النص عنهم جملة من المقولات التي وردت في مقطع سابق من السورة، مثل مقولتهم عن القرآن: لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ ومثل قولهما عن نزول العذاب: (لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ؟) أي: ماذا يمنع من نزول العذاب الذي هددهم به محمد (ص). وها هم الآن يقولون شيئا جديدا.

وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي .

ص: 283

هذه المقولة الجديدة تتجانس (من حيث عمارة السورة) مع مقولاتهم السابقة التي أكدها النص من خلال (لام التوكيد والنون) (لَيَقُولَنَّ . إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ ) (لَيَقُولُنَّ . مٰا يَحْبِسُهُ؟) (لَيَقُولَنَّ : ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي) ... ولكن المقولة الجديدة تفترق عن سابقها بأنها تتناول سلوك الإنسان مطلقا سواء أكان كافرا أم فاسقا: من حيث تعامله مع اللّه تعالى، فيما يقول النص عن الإنسان بأنه: إذا اذاقه اللّه رحمة ثم نزعها منه إذا به ييأس ويكفر بنعم اللّه، وإذا أذاقه نعماء بعد ضراء مسته، إذا به يقول: ذهب السيئات عني، أي: إن الإنسان يستجيب لشدائد الحياة استجابة اليائس الكافر بنعم اللّه تعالى من جانب، فإذا زالت عنه تلكم الشدائد إذا به يطغى ويقول: لا شدة بعد الآن. إنه (فرح فخور)، فرح بالشيء فخور به أمام الآخرين.

والسؤال: ما هي السمات الفنية والفكرية لهذا المقطع الذي تحدث عن موقف الانسان من شدائد الحياة ونعمائها؟ لقد نقل النص لنا هذه المقولات من خلال ما يطلق عليه مصطلح (الحوار الداخلي) أي: حديث الإنسان مع نفسه. ونحن لا نحتاج إلى أدنى تأمل حتى ندرك السر الفني وراء صياغة الأفكار المذكورة وفق المحاورة الداخلية، وذلك لسبب واضح هو: أن ردود الفعل او الاستجابة التي يصدر عنها الانسان في شدائده ومسراته تنعكس - في المقام الأول - على أفكاره الداخلية فيتحسس بالتوازن. وهذا التوتر أو التوازن هو بمثابة حديث مع النفس (وإن لم يكن منطوقا)، ولكن (النطق به) قد يتحقق في حالة تصاعد انفعالاته بهذا الحدث المسر أو المؤلم. طبيعيا: لا يقصد من (النطق) انبعاث الصوت من خلال أجهزة الحلق فحسب بل التفكير نفسه هو كلام غير ملفوظ به كما هو واضح، والمهم، في الحالتين: أن انفعال الإنسان بما هو مسر أو مؤلم ينعكس (حوارا مع النفس) ملفوظا به أو غير ملفوظ، وهذا ما أبرزه النص

ص: 284

حينما نقل لنا حوار الإنسان مع نفسه وهو ينفعل انفعالا مسرا بعد ان تذهب الشدائد عنه.

لنقرأ الحوار الداخلي من جديد: وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي ، إن حديثه مع نفسه (من الزاوية النفسية) أي انفعال الإنسان بالسرور، يكون أشد درجة: لو كان مسبوقا بالشدة، بخلاف ما لو واجه منبها طبيعيا غير مسبوق بالشدة... ولذلك، نجد النص القرآني الكريم قد عرض لنا قبل (الحوار الداخلي) جانب الشدة بقوله: وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ هذا القول أو السرد ينطوي على أهمية فنية كبيرة من حيث الصياغة حيث يعد تمهيدا فنيا لصياغة الحوار الداخلي الذي أبرزه النص في هذا الموقع دون سواه وذلك - كما نحتمل فنيا - من أجل أن يسوّغ لنا «الحوار الداخلي» الذي يضطر الإنسان إليه حينما تتصاعد انفعالاته فيتحدث مع نفسه. تعبيرا عن التصاعد المذكور، وهذا لا يتم إلا في حالة تحسيس القارىء بأنه أمام إنسان مسته ضراء ثم أذاقه اللّه تعالى نعماء، وحينئذ لابد أن ينفعل هذا الإنسان بدرجة عالية (ما دام الفرح قد سبقته شدة) تضطره إلى أن يتحدث مع نفسه، بالنحو الذي أوضحناه.

إذن، أمكننا أن ندرك السر الفني وراء صياغة الحوار المذكور (لَيَقُولَنَّ :

ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي) بخاصة أن النص عقب على ذلك بقوله تعالى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ حيث جاء هذا التعقيب متجانسا مع التمهيد الذي استهدف تحسيس القاريء بشدة انفعال الإنسان... وأولئك جميعا تكشف لنا عن مدى جمالية النص من حيث علاقة أجزائه: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

سورة هود (11): الآیات 12 الی 13

قال تعالى فَلَعَلَّكَ ، تٰارِكٌ بَعْضَ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ ضٰائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمٰا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ

ص: 285

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ .

هذا المقطع يتحدث عن سلوك جديد من سلوك الكافرين المعاصرين لمحمد (ص)... وقد كانت المقاطع السابقة تتحدث عن سلوكهم حيال رسالة الإسلام بعامة، أما هذا المقطع فيتحدث عن موقفهم من القرآن الكريم بخاصة... ويلاحظ أن المقطع القرآني الكريم لا يزال ينقل لنا مواقفهم من خلال عنصر «الحوار» أي: مقولاتهم التي تحاورت فيها مع محمد (ص)، حيث يشكل هذا «الحوار» سمة فنية: جاءت غالبية المقاطع متوكئة عليه.

و الآن، ما هي الدلالات التي أفرزتها «حواراتهم» في هذا الميدان ؟ لقد قالوا - في جملة ما قالوه - (لولا أنزلى عليه كنز)، وقالوا: (أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ) ، وقالوا عن القرآن: (اِفْتَرٰاهُ ) ، أي اختلقه هو ونسبه إلى اللّه تعالى. هذه هي مقولاتهم، وأما الإجابة عنها فقد جاءت بالنسبة إلى اقتراحهم بنزول الكنز أو الملك:

إهمالا لسؤالاتهم، واكتفاء بمخاطبته (ص) من قبل اللّه تعالى: إِنَّمٰا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي إن النص لم يرتب أثرا على اقتراحاتهم المشار إليها: إما لتفاهتها أو لعدم اقتضاء السياق لها في هذا المقطع، حيث تكفلت مقاطع أخرى بالإجابة عنها. أما في هذا المقطع الذي نتحدث عنه، فإن السياق يتطلب الصمت عنها، والتركيز على الإجابة عن مقولتهم الذاهبة إلى إنه (ص) قد اختلق القرآن الكريم. لذلك، جاءت الإجابة عن ذلك بهذا النحو قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ .

في هذا الحوار نستكشف أكثر من دلالة. منها. أن هؤلاء المنحرفين يمتلكون إمكانات فنية بحيث يميزون بين التعبير الفني المعجز وبين التعبير العادى. وبما أنهم يشككون بالرسالة حينئذ فإن مطالبتهم بما يتميزون به من إمكانات بلاغية. يظل ردا لا سبيل إلى التشكيك به، وهذا ما يستهدفه من

ص: 286

تركيزه على هذا الجانب البلاغي دون سواه، ولعل مطالبتهم بعشر سور يكشف عن أن المقطع القرآني الكريم لم يستهدف مجرد العبارة البليغة التي قد يخيل إليهم امكان تقليدها بل مطالبتهم بصياغة شكل أدبي هو (السورة)، حيث إن الأشكال التقليدية حينئذ كانت منحصرة في الأشكال الآتية: القصيدة، الرجز، الخطبة، المثل أو الحكمة، الرسالة، المناظرة، الخاطرة، الكهانة. وهي نوع من العبارات المسجوعة في شكل خطبة. أما هذا الشكل الفني الجديد وهو:

السورة التي تتميز بشكل منفرد ممن حيث عمارتها الفنية ومن حيث عناصرها القصصية والحوارية والصورية والإيقاعية، فضلا عن موضوعاتها، فأمر لا عهد لهم به مطلقا. من هنا يمكننا إدراك السر الذي يكمن وراء إبراز النص لظاهرة القرآن الكريم وتحديد أولئك المنحرفين... بل إن المقطع لم يكتف بمجرد المطالبة بالإتيان بسور مثله بل طالبهم بقوله: وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ . هذه المطالبة الأخيرة، لا تترك مجالا لأي تشكيك يمكن أن يثيره هؤلاء المنحرفون، وذلك: لأن المطالبة بأن يدعوا جميع القوى البشرية بالإتيان بمثله تعني: أن الإعجاز القرآني الكريم أمر لا سبيل إلى الرد عليه بأي شكل من الأشكال.

ويلاحظ (من زاوية البناء الهندسي للنص) أن المقطع القرآني الكريم عقب على هذا التحدي (أي: الإتيان بعشر سور، والدعوة لجميع القوى للإتيان بمثله) عقب على ذلك بقوله:

سورة هود (11): آیة 14

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّٰهِ وَ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ إن هذا التعقيب ينطوي على أهمية فنية كبيرة (من حيث عمارة النص) حيث إنه عزّز لغة التحدي الفني بلغة منطقية هي: أن هؤلاء المنحرفين - في حالة عدم إتيانهم بمثل القرآن - حينئذ يتعين على الآخرين أن يدركوا بأن القرآن الكريم ظاهرة اعجازية وهذا هو المستهدف أساسا. اذن، أدركنا جانبا من الأسرار الفنية الكامنة وراء النص لظاهرة التحدي البلاغي للقرآن الكريم دون سواه من الظواهر التي عرضها

ص: 287

المقطع، مما يكشف ذلك عن إحكام النص من حيث تجانس و تنامي بعضها مع الآخر.

سورة هود (11): الآیات 15 الی 20

قال تعالى مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ .

هذا المقطع وما بعده لايزال يتحدث عن سلوك الكافرين المعاصرين لمحمد (ص). لكنه من خلال هذا العرض ينتقل إلى الحديث عن الجزاء المترتب على سلوك المنحرفين مقارنا بالجزاء المترتب على سلوك المؤمنين متوكأ على عنصر «الصورة الفنية» في المقارنة بين المنحرفين وبين الأسوياء، حيث ختم المقطع بقوله مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ . كَالْأَعْمىٰ وَ اَلْأَصَمِّ ، وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيٰانِ مَثَلاً، أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ .

هذه الصورة الفنية (وهي أحد أشكال التشبيه) تنطوي على أسرار جمالية متنوعة ينبغي أن نقف عندها من جانب وأن نصلها بعمارة السورة الكريمة من جانب آخر. إن هذا التشبيه ينتسب إلى ما نسميه ب (التشبيه المتكرر) حيث شبه الكافر بالأعمى من جانب، و الأصم من جانب آخر بل المؤمن الذي شبهه بالبصير من جانب وبالسميع من جانب آخر. ويلاحظ أيضا، أن هذا التشبيه قد جمع السمة التكرارية: سمة أخرى هي ما يسميه البلاغيون القدامى ب (التشبيه الملفوف) حيث يجمع (المشبه) ظاهرتين أو أكثر على نحو العطف ثم يجمع (المشبه به) على نحو العطف أيضا أي: يجمع الأعمى والأصم مقابل البصير

ص: 288

والسميع. والمسوغ الفني لمثل هذا التكرار والجمع هو: أن البصر والسمع هما أشد الحواس التقاطا للحقائق، مقابل حاسة الذوق والشم واللمس، لذلك جمعها في تشبيه (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، ولهذا السبب ذاته: جمع بينهما (في آن واحد مقابل حديثه عن المؤمن و الكافر في سياق مقارنة أحدهما بالآخر، ولذلك لم تكن هناك ضرورة لتكرار أداة التشبيه (الكاف)، بل اكتفى باستخدام كل منها مرة واحدة أي لم يقل النص (مثل الفرقين كالأعمى والأصم) بل اكتفى بأداة واحدة جعلها للأعمى وعطف (الأصم) عليها فقال (كالأعمى والأصم)، وهكذا بالنسبة إلى التشبيه الآخر (كالسميع والبصير) حيث عطف ظاهرة (السميع) على (البصير) من دون استخدام أداة التشبيه (الكاف).

والآن إذا عرفنا هذا الجانب الفني للتشبيه المتقدم، يمكننا أن نربط بينه وبين الموضوعات التي طرحها النص القرآني الكريم وفي مقدمتها: تبيين الفارق بين المؤمن والكافر، حيث أشار النص إلى بعض هذه الفوارق مثل قوله تعالى: أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ . ففي هذا النص اشارة إلى المؤمن «و هو عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ » مقابل الكافر. كذلك نجد في المقطع نفسه قوله تعالى: يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ إن قوله تعالى: مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ قد جمع فيه بين سمة عدم (السمع) و عدم (البصر)، و هاتان السمتان (السمع و البصر) قد عكسهما النص على التشبيه الذي تحدثنا عنه قبل قليل مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمىٰ وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ ، وبهذا الاستخدام لحاستي السمع والبصر وجعلهما مادة فنية (مشتركة) بحيث ينفيهما عن الكافر مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ ، ثم يصوغهما بعد ذلك (تشبيها) يقارن من خلاله بين من لا يمتلكهما (وهو الكافر)

ص: 289

مقابل من يمتلكهما (وهو المؤمن)، أقول: بهذا النوع من الاستخدام، يكون النص قد أحكم عمارة السورة الكريمة من حيث صلة أجزائها: بعضها مع الآخر.

سورة هود (11): الآیات 25 الی 28

قال تعالى وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مٰا نَرٰاكَ إِلاّٰ بَشَراً مِثْلَنٰا وَ مٰا نَرٰاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرٰاذِلُنٰا بٰادِيَ اَلرَّأْيِ وَ مٰا نَرىٰ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كٰاذِبِينَ * قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتٰانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهٰا وَ أَنْتُمْ لَهٰا كٰارِهُونَ .

بهذا المقطع وما بعده من سورة هود يبدأ عنصر جديد من الصياغة الفنية هو: العنصر القصصي حيث يعرض لنا النص مجموعة من القصص التي تتحدث عن نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى. ويعنينا من هذا العنصر القصصي. موقعه العضوي من هيكل السورة الكريمة.

ولعل ما يستوقفنا من ذلك هو ملاحظة أن أفكار القصص وموضوعاتها هي: انعكاسات للأفكار والموضوعات التي طرحتها السورة خلال عرضها لسلوك الكافرين المعاصرين لرسالة الإسلام. فمثلا نجد في القسم الأول من قصة نوح (ع) أنه يخاطب قومه بأنه (نذير) لهم وأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ . هذه العبارات من القصة سبق أن وردت في مقدمة السورة التي جاء فيها: أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وجاء فيها فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ . لنلاحظ أن العبارات - فضلا عن الأفكار - تتماثل في هذين الموقعين (مقدمة السورة، والعنصر القصصي فيها) فعبارة (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) وعبارة (أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ ) وعبارة (أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) أو كبير:

ص: 290

تتكرر في هذين الموقعين. كذلك لو تابعنا الأقسام الأخرى من القصة لوجدنا هذا التماثل متحققا في أكثر من موقع، فقول نوح لقومه في نهاية المقطع الذي عرضناه. (قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) . هذه العبارة وردت في وسط السورة أيضا حيث قال تعالى: أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ .

إذن، أمثلة هذا التجانس بين العبارات أو الأفكار المطروحة في القصة، تكشف لنا عن جملة من الحقائق الفنية، يتعين علينا توضيحها قبل متابعتنا لقصة نوح وما بعدها من القصص التي سنعرض لها. وأول ما يلاحظ في ذلك إن كل قصة ترد في السورة لا بد أن ترتبط فكريا بموضوعات السورة سواء أكان هذا الموضوع مطروحا بشكل رئيس أو ثانوي فيها، ويترتب على ذلك، أن تكون القصص مصوغة في كل سورة بنحو خاص يختلف عن صياغتها في السورة الأخرى، فنوح (ع) تتكرر قصصه في كثير من السور، إلا أن صياغة القصة في سورة هود مثلا تختلف عن صياغتها في سورة الشعراء أو الصافات أو القمر وغيرها من السور الكريمة، بحيث نجد في كل قصة طرحا فكريا خاصا يتجانس مع الطرح الفكري للسورة. طبيعيا ثمة عناصر بين هذه القصص التي تتكرر في السور (مثل حادثة الطوفان أو المطالبة بعبادة اللّه تعالى...

الخ) إلا أن هذه العناصر المشتركة تواكبها في الآن ذاته عناصر مستقلة تتفرد بها كل سورة بحيث يتم التجانس بين موضوعاتها وبين موضوعات القصة بالنحو الذي لحظناه في القسم الأول في قصة نوح (ع).

ويلاحظ أن التجانس لا ينحصر في تماثل الموضوعات أو صياغتها التعبيرية، بل يتمثل في حصيلة الأفكار المطروحة. فمثلا نجد في القسم الثاني من قصة نوح أنه يخاطب قومه بقوله (وَ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اَللّٰهِ وَ لاٰ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاٰ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ...) . إن إشارته إلى أنه ليس عنده (خزائن) الله تعالى و أنه ليس ملك، تتداعى بذهن القاريء إلى أوائل السورة الكريمة التي

ص: 291

جاء فيها: فَلَعَلَّكَ تٰارِكٌ بَعْضَ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ ضٰائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ فالكنز والملك فيما كان المعاصرون لمحمد (ص) يشيران إليهما، نجدهما منعكسين في قصة نوح عبر نفيه لأن تكون عنده خزائن الأرض،، أو يكون ملكا. والمهم بعد ذلك أن أمثلة هذا التجانس بين العنصر القصصي في السورة وبين النثر غير القصصي فيها، يكشف عن إحكام بالغ الأهمية بالنسبة لعمارة السورة الكريمة، من حيث تلاحم وتنامي وتواشج موضوعاتها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

سورة هود (11): الآیات 32 الی 33

قال تعالى قٰالُوا يٰا نُوحُ قَدْ جٰادَلْتَنٰا فَأَكْثَرْتَ جِدٰالَنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ إِنَّمٰا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّٰهُ إِنْ شٰاءَ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ .. .

هذا هو القسم الثاني من قصة نوح (ع) مع قومه حيث يدور هذا القسم من القصة حول الإنذار الذي وجهه نوح إلى قومه، بنزول العذاب عليهم. في حالة استمراريتهم على الكفر. لقد كان من المفروض أن يتعظ القوم بهذا الانذار وأن ينظروا إليه بنحو جدى، إلا انهم سخروا من ذلك وقالوا لنوح: قَدْ جٰادَلْتَنٰا فَأَكْثَرْتَ جِدٰالَنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ .

إن ما يعنينا من هذا الموقف الذى صدر عن قوم نوح هو. ملاحظة صلته بعمارة السورة الكريمة وموقعه في البناء الهندسي لها، حيث سبق ان لحظنا أن السورة الكريمة كانت تتحدث عن الكافرين المعاصرين لرسالة محمد (ص)، وان قصة نوح إنما جاءت لكي تلقي الإنارة على هذا الموضوع، أي إنها قد وظفت فنيا من أجل الموضوعات المطروحة في سورة هود. لقد هدّد محمد (ص) قومه بالعذاب. ولكن قومه تساءلوا عن مجيء العذاب وسخروا من ذلك، وجاءت الإجابة تقول: وَ لَئِنْ أَخَّرْنٰا عَنْهُمُ اَلْعَذٰابَ إِلىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ؟ أَلاٰ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي. «أن اللّه تعالى عندما

ص: 292

أخر نزول العذاب على هؤلاء القوم إلى أمّة معدودة، تساءل هؤلاء فقالوا: ما يحبسه ؟ أي: لماذا لم ينزل العذاب كما أخبر به محمد (ص)؟. هذا الموقف نفسه، يتكرر الآن في قصة نوح مع قومه حيث قالوا لنوح: (فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ ) . إذن، هذا التماثل بين الموقفين موقف مجتمع محمد (ص) من نزول العذاب، وموقف مجتمع نوح من نزول العذاب: يفسر لنا واحدا من الأسرار الفنية الكامنة وراء صياغة قصة نوح (ع)، حيث يتضح ذلك. في هذا التجانس بينهما من حيث المواقف التي صدر عنها الكافرون في زمن نوح (ع).

ليس هذا فحسب بل يمكننا ملاحظة التجانس بينهما أيضا في طبيعة الجواب الذي قدمه كل من محمد (ص) ونوح (ع).

في قصة محمد (ص) مع قومه: أشار النص الى هؤلاء الكافرين، قائلا:

أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ... أي: إن هؤلاء الكافرين لم يكن اللّه تعالى ليعجز عن إنزال العذاب عليهم، بمعنى أنهم سوف لن يفلتوا من العذاب الذي ينتظرهم. كذلك تحدث نوح مع قومه بنفس اللغة، قائلا لهم: إِنَّمٰا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّٰهُ إِنْ شٰاءَ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: إنكم سوف لن تفلتوا من العذاب الذي ينتظركم.

أكثر من ذلك، إننا نجد في القسم الثالث الجديد من قصة نوح. موقفا آخر مجانسا لموقف الكافرين المعاصرين لمحمد (ص): وانعكاسات ذلك على العذاب الذي سوف يلحق بهم: نتيجة لاستهزائهم بذلك. يقول النص عن أولئك: (أَلاٰ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ (أي العذاب) لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) . هذه الإشارة إلى استهزاء القوم من نزول العذاب، وإن العذاب سوف يأتيهم ويحيط بهم ما كانوا يسخرون منه. هذه الاشارة: نجدها أيضا في قصة نوح (ع)، حيث يقول النص - في القسم الثالث من القصة، وهو القسم

ص: 293

الخاص بصنع السفينة

سورة هود (11): الآیات 38 الی 39

وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمٰا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قٰالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّٰا فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذٰابٌ مُقِيمٌ . طبيعيا، ينبغي أن نأخذ ينظر الإعتبار، ان النص عندما تحدث عن نزول العذاب بالنسبة الى مجتمع محمد (ص). إنما قال عن ذلك بأنه مؤجل (إِلىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) أى الى حين آخر، وهذا ما يفسر لنا (من زاوية فنية) عدم نزول العذاب الفعلي، وهذا على العكس من مجتمع نوح (ع)، حيث قال لهؤلاء الذين سخروا منه (وهو يصنع السفينة): إِنْ تَسْخَرُوا مِنّٰا فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ حيث ترهص هذه المقولة بنزول العذاب الفعلي غير المؤجل، وهو ما كشفت عنه أحداث القصة في قسمها الأخير الذى تناول حادثة غرقهم.

والمهم هو: ملاحظة هذه الأبعاد من التجانس بين موضوعات السورة الكريمة التي تتحدث عن مجتمع محمد (ص)، وبين قصة نوح التي وظفت فنيا لإنارة هذه الموضوعات.

سورة هود (11): الآیات 50 الی 57

قال تعالى وَ إِلىٰ عٰادٍ أَخٰاهُمْ هُوداً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ مُفْتَرُونَ يٰا قَوْمِ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَلَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ * وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلىٰ قُوَّتِكُمْ وَ لاٰ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قٰالُوا يٰا هُودُ مٰا جِئْتَنٰا بِبَيِّنَةٍ وَ مٰا نَحْنُ بِتٰارِكِي آلِهَتِنٰا عَنْ قَوْلِكَ وَ مٰا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرٰاكَ بَعْضُ آلِهَتِنٰا بِسُوءٍ قٰالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللّٰهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاٰ تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّٰهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ مٰا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّٰ هُوَ آخِذٌ بِنٰاصِيَتِهٰا إِنَّ رَبِّي عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ... .

ص: 294

هذه هي القصة الثانية من القصص التي وردت في سورة هود، حيث وظفت فنيا لإنارة الموضوعات المطروحة في السورة الكريمة. لقد كانت موضوعات السورة تدور حول الكافرين المعاصرين لمحمد (ص) وموقفهم من رسالة الإسلام، حيث خاطبهم النبيّ (ص) قائلا: أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ * وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ... . وها هود (ع) يخاطب قومه بنفس اللغة، ويقول (يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ ) (وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) . فالمطالبة بالعبادة وبالإستغفار، وبالتوبة: هذه المفردات الثلاث من السلوك تتكرر في القصتين: قصة محمد (ص) مع قومه وقصة هود (ع) مع قومه. ليس هذا فحسب، بل إن التهديد الذي وجهه محمد (ص) بالنسبة الى قومه: (وَ إِنْ تَوَلَّوْا. فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ... هذا التهديد يتكرر بدوره على لسان هود (ع):

سورة هود (11): آیة 58

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاٰ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ * وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ نَجَّيْنٰاهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ . إن محمدا (ص) حذّر قومه من عذاب يوم كبير، وهذا التحذير للناس يتناسب مع طبيعة الجزاء الذي أعده اللّه تعالى للكافرين الذين يؤجلون إلى اليوم الآخر... لكننا حينما نتجه إلى تحذير هود (ع) لقومه، نجد أن هذا التحذير يتناسب أيضا مع الجزاء الذي اعده اللّه تعالى لأولئك البائدين حيث إن العذاب وقع عليهم دنيويا كما هو واضح.

لذلك فإن الأهمية الفنية لهذه القصة (من حيث موقعها الهندسي من عمارة السورة الكريمة) تتمثل في كونها تتجانس - من جانب - مع قصص محمد (ص) ومجتمعه وتتجانس - من جانب آخر - مع طبيعة المجتمع الذي عاصره هود (ع). فمجتمع هود وسواه من المجتمعات البائدة قدّر له ان يتلقى الجزاء دنيويا. وهذا الجزاء يشكل مسوغا فنيا لصياغة هذه القصة وتوظينها،

ص: 295

فما دام النص القرآني الكريم يستهدف من وراء عرضه لأحداث هذه القصة:

تحذير المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام من العذاب الذي ينتظره، حينئذ كان لا بد من تقديم قصة تتناول قضية الجزاء الذي يلحق الكافرين، ولا بد أن يكون هذا الجزاء دنيويا حتى يتعظ به هؤلاء المعاصرون لرسالة الإسلام...

في الآن نفسه، فما دام النص يستهدف من القوم تعديل سلوكهم، حينئذ لا بد من أن تعرض هذه القصة: الجزاءات المترتبة على المؤمنين أيضا، ولذلك نجد ان القصة ركزت على هذا الجانب أيضا حينما عرضت المصائر للمؤمنين فقالت: وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ نَجَّيْنٰاهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ . إذن، ينبغي أن ننتبه جدا على هذا المنحى الفني الذي سلكه القرآن الكريم في عرضه لقصة هود مع مجتمعه، حيث عرض مصائر الكافرين والمؤمنين بالنسبة للجزاءات الدنيوية التي لحقتهم، حتى يتحقق بذلك عنصر «الإقناع الفني» المتمثل في ترهيب الكافر من المصير الذي يؤول إليه أخرويا، ثم في ترغيب المؤمن بالنجاة التي يتطلع إليها أخرويا أيضا. ولكي تتركز هذه الدلالة بنحو أكثر، نجد أيضا إشارة إلى ما ينتظر هذا، المجتمع من الجزاء الأخروي أيضا، حيث قالت القصة (وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ) .

ومن الواضح، أن النص ما دام مستهدفا مخاطبة المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام (وهو مجتمع قد تأجل جزاؤه إلى اليوم الآخر) حينئذ فإن لفت نظره الى قصة تتناول كلا من المصير الدنيوي والأخروي أيضا، يظل أمرا بالغ الأهمية: من حيث تحقق عنصر الإقناع الفني، مضافا إلى أن هذا الربط بين مجتمع بائد ومجتمع معاصر، يكشف عن الاحكام الهندسي للسورة الكريمة، من حيث تلاحم موضوعاتها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

سورة هود (11): آیة 61

قال تعالى وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ

ص: 296

غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ .

هذه هي القصة الثالثة من العنصر القصصي الذي تضمنته سورة هود، حيث جاءت قصص نوح وهود وصالح وسواها مما نعرض له موظفة فنيا لإنارة القصة الرئيسة التي تحوم عليها السورة الكريمة ونعني بها: قصة محمد (ص) مع قومه في المرحلة الأولى من ظهور الرسالة... هذه القصة تمضي (من حيث عمارتها الفنية) متجانسة مع ما سبقها مثل المطالبة بعبادة اللّه تعالى، وبالإستغفار وبالتوبة، وتطرح كذلك مصائر مشتركة للأقوام الذين لحقتهم الجزاءات الدنيوية مثل: الطوفان والصيحة ونحوهما من العذاب، نتيجة لتمردهم. بيد أن الملاحظ أن قصص السورة الكريمة بالرغم من تآزرها جميعا وانصبابها في روافد مشتركة، إلا أن لكل منها نكهة خاصة وطرحا خاصا لا بد من ملاحظته. لقد تميزت قصة صالح بطرح خاص هو: تعرضها لتجربة الناقة التي عقرها القوم... وكانت الناقة ظاهرة إعجازية لا تدع مجالا للشك بمشروعية ما جاء به من رسالة السماء... كما تميزت هذه القصة بلفت النظر إلى ظاهرة خاصة هي مخاطبتها للقوم بأن اللّه تعالى: (أَنْشَأَكُمْ في اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا) . وهذا يعني أن هناك صلة فنية بين عمارة الأرض وبين الناقة، فالناقة أخرجت - كما تقول النصوص المفسرة - من جوف صخرة وكانت ترد الماء بين يوم وآخر وكانت قد خرجت وهي حامل، وكانت المطالبة بها هي: تركها تأكل في أرض اللّه تعالى وعدم إلحاق الأذى بها:

سورة هود (11): آیة 64

وَ يٰا قَوْمِ هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابٌ قَرِيبٌ . إن عمارة الأرض تعني أن القوم قد أفادوا من مواردها الإقتصادية كل شيء، والناقة تظل واحدا من الموارد الإقتصادية. تقول النصوص المفسرة بأن القوم كانوا يفيدون من لبنها الشيء الكثير بحيث يدخرونه... لكن - في الآن ذاته - تعرض لتجربة خاصة هي عدم تناول الماء

ص: 297

في اليوم المخصص للناقة إلا من الأماكن النائية عن مركز المدينة مما حملهم على محاولة عقر الناقة. لعدم استعدادهم لتحمل أية تضحية بالرغم من أن الأرض سخرت لهم بنحو ملحوظ، كما هو صريح النص القصصي (اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا) .

إن هذه التجربة الخاصة تكشف عن أكثر من دلالة، منها: أن المنحرفين عن مبادىء السماء يتحركون من خلال المنافع الشخصية بحيث ينعكس ذلك على موقفهم الفكري من الحياة والكون، فبالرغم من أن الناقة قد اقترنت بإعجاز ملحوظ مما يستتبع الإيمان بمبادىء الشيء، إلا أن ذلك. ما دام قد اقترن بالإمساس بقدر من منافعهم، حينئذ لم يمارسوا أية عملية لضبط النفس بل تمردوا على مبادىء السماء، مما استتبع نزول العذاب عليهم، وهذا ما أوضحه النص القصصي بقوله:

سورة هود (11): الآیات 67 الی 68

وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهٰا أَلاٰ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ... لنلاحظ، أن النص هنا قد ربط بين الكفران بالنعم وبين الجزاء الدنيوي الذي لحق بهم، وهو نفس الربط الذي لحظناه في قصة سابقة (قصة هود) حيث قال عن قومه (أَلاٰ إِنَّ عٰاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) . وهذا التجانس بين العبارتين (أَلاٰ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ - أَلاٰ إِنَّ عٰاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) قد واكبهما تجانس بين النعم التي أغدقها اللّه تعالى على قوم صالح والنعم التي أغدقها تعالى على قوم هود، لقد قال النص القصصي عن قوم هود يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلىٰ قُوَّتِكُمْ وقال عن قوم صالح أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا ، إذن، ثمة تجانس بين النعم التي أغدقها اللّه تعالى على كل من مجتمعي صالح وهود، وتجانس بين موقفهما حيال النعم المشار إليها وهو الكفران بها وتجانس بين الجزاء الدنيوي الذي ترتب على الكفران المذكور، وأولئك جميعا - أي هذه الأشكال من التجانس - تفصح عن جمالية فائقة في البناء الهندسي للنص، من حيث صلة عناصره: بعضها مع الآخر.

ص: 298

سورة هود (11): الآیات 69 الی 73

قال تعالى وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لاٰ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ * قٰالَتْ يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ * قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

هذه هي القصة الرابعة من قصص السورة الكريمة (سورة هود) حيث وظفت هذه القصص لإنارة الموضوعات التي تضمنتها السورة ومنها الموضوع المرتبط بنزول العذاب على المكذبين برسالة السماء وإنقاذ المؤمنين من هذا العذاب. القصة التي نواجهها الآن تتصل بشخصية إبراهيم (ع)، ولكنها تتداخل مع قصة أخرى هي قصة لوط (ع) حيث يلاحظ في جملة من مواضع القرآن الكريم ان قصة إبراهيم تتداخل مع قصة لوط: مع أن أحداث القصتين ومواقفهما لا تصبان في فكرة واحدة حيث إن الأحداث التي تضمنتها قصة إبراهيم هي: مجيء الأضياف إليه وتقديمه الطعام إليهم وتبشيرهم إياه بولادة إسحاق، مع كبر سنه وسن زوجته اللذين لا يسمحان - في الحالات الإعتيادية - بالإنجاب. وأما أحداث القصة المرتبطة بلوط فإنها تنصبّ على نزول العذاب على قومه الكافرين.

ومما يثير التساؤل الفني بنحو أشد هو أن هذه القصة المتداخلة - ومثلها غالبية القصص المرتبطة بشخصي إبراهيم ولوط - جاءت في سياق قصص متجانسة في موضوعاتها، ألا وهي: علاقة الرسل عليهم السلام بأقوامهم الذين دعوهم إلى عبادة اللّه تعالى ونبذ الأوثان، ثم تمرد هؤلاء الاقوام، ونزول العذاب عليهم في نهاية الأمر نتيجة للتمرد المذكور، وهو أمر لحظناه في قصص نوح وهود وصالح عليهم السلام، كما نلحظه فيما بعد في قصة

ص: 299

شعيب (ع) مع قومه، حيت تتجانس جميع هذه القصص في احدثها ومواقفها - حتى في صياغتها فنيا: عدا قصة إبراهيم التي تداخلت مع قصة لوط التي ستتجانس - في بعض أحداثها (وهي نزول العذاب عليهم) مع القصص المشار إليها. لذلك، لابد من التساؤل أولا عن السر الفني الكامن وراء هذا التداخل بين القصتين. أي: لماذا جاءت قصة إبراهيم - وهي تتحدث عن بشارة الملائكة إياه بولادة إسحاق ثم يعقوب - في سياق العرض القصصي لشخصيات نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام التي اقترن رسمها بنزول العذاب على مجتمعاتهم المنحرفة، في حين جاءت قصة إبراهيم (ع) غير مقترنة بنزول العذاب على قومه بل بشارة خاصة ترتبط با لإنجاب ؟ في تصورنا أن الإجابة عن هذا السؤال المتقدم لا يتيسر بسهولة. كما أن الإحتمالات الفنية تظل أمرا لا يمكن الركون إليه بشكل أو بآخر بحيث تظل واحدة من الأسرار الفنية التي لايزال العقل البشري عاجزا عن إدراكها: في دراسته للنص القرآني الكريم.

وبعامة يمكن القول بأن هناك جملة من الأسرار الفنية وراء ذلك، منها:

أن إبراهيم (ع) ذاته شخصية متميزة ورد رسمها في القرآن الكريم بنحو ملحوظ لا تماثلها شخصيات نبوية أخرى في هذا الرسم. بيد أن الأهم من ذلك هو:

ارتباط لوط (ع) بإبراهيم (ع)... فأولا: كان كل من ابراهيم ولوط متعاصرين يعيشان في زمن واحد، مما يسوغ رسمها في قصتين متداخلتين. ثانيا. كان لوط الشخصية الوحيدة التي آمنت بابراهيم وهاجرت معه إلى الله تعالى في خضم المجتمع المنحرف الذي لم يسلم أحد فيه من الإنحراف آنئذ. ثالثا:

كان لوط (ع) ابن أخت ابراهيم (ع)، مما يعني أن العلاقة النسبية - مضافا الى العلاقة العبادية والزمنية المشار إليهما - تفسر لنا واحدا من مسوغات التداخل

ص: 300

بين القصتين. رابعا: - وهذا المسوغ يترتب على ما سبق - وهو. أن مجيء الضيوف (كما سنرى) كان عرضيا كما ينقل: كان مزدوجا في مهمته، حيث وردوا - وهم في صدد تنفيذ العذاب على قوم لوط، مما يحمل دلالة فنية خاصة نعرض لها عند حديثنا عن قصة لوط مع قومه. المهم، لهذه الأسباب وسواها يمكن تفسير بعض الأسرار الفنية الكامنة وراء تداخل القصتين، وهو أمر يكشف دون أدنى شك - عن واحد من جوانب البناء الهندسي للسورة الكريمة من حيث تلاحم موضوعاتها: بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه، وبالنحو الذي سنوضحه لاحقا إنشاء اللّه.

قال تعالى وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لاٰ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ .

نحن الآن أمام قصة تحفل بسمات فنية مدهشة، سبق إن أوضحنا صلتها بعمارة السورة الكريمة.

إن إول ما نواجهه من القصة هو: عنصر (التشويق) أو التطلع إلى معرفة ما طرحته في البداية، لقد قالت بداية القصة: (لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ ) . ترى، ماذا تعني هذه البداية ؟. ثمة (رسل) من اللّه تعالى حملت الى ابراهيم (ع) (بشرى) من اللّه تعالى. من هم الرسل ؟ أمر يجهله القارىء تماما.

ثم: ما هي البشرى ؟ أمر يجهله القارىء أيضا، إلا انه يظل متطلعا إلى معرفة هذه البشرى كما إنه يظل متطلعا إلى معرفة حامليها: رسل اللّه تعالى. ويزداد القارىء تشوقا حينما يواجه تبادل السلام بين الرسل وإبراهيم، (قٰالُوا: سَلاٰماً قٰالَ : سَلاٰمٌ ) . هذا النمط من التحية يحمل دلالة خاصة: أبسط ما فيها انها

ص: 301

مفصحة عم الحب، عن المسالمة، عن الطريقة التي تتلاقى من حلالها: أحبّاء اللّه تعالى. لكن ماذا بعد ذلك ؟ ابراهيم (ع) يجيء بعجل مشوي تكريما لضيوفه (فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) . إلا أن الضيوف يمتنعون عن تناول الطعام وهذا هو عنصر فني جديد في القصة ألا وهو عنصر (المفاجأة).

إذن، نحن الآن أمام عنصرين فنيين في القصة (عنصر التشويق) و (عنصر المفاجأة). المفاجأة هي: أن الضيوف لم يتناولوا الطعام، وهو أمر يستثير الدهشة لسبب واضح هو: أن الضيوف الذين استهلوا مقابلتهم لإبراهيم بالسلام (قٰالُوا سَلاٰماً) - وهي تحية الحب - لماذا يمتنعون من تناول الطعام الذي يجسد بدوره تعبيرا عن الحب ؟ هذا هو عنصر الدهشة في الموقف. إذن، لا بد أن يكون هؤلاء الضيوف من جنس آخر يختلف عن الجنس البشري، أو لا أقل - لا بد ان يتميزوا بصفات خاصة تحملهم على عدم تناول ما هو مألوف في السلوك البشري. وفي ضوء هذا السلوك الذي يبدو غريبا على ابراهيم (ع) لا بد ان يتوجس خيفة من هؤلاء الضيوف الممتنعين عن تناول الطعام (فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لاٰ تَصِلُ إِلَيْهِ - أي الطعام - نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً )... طبيعيا، لا بد ان تمضي القصة من الان فصاعدا بالكشف تدريجيا - وهذا هو عنصر آخر في القصة - عن ملابسات الموقف، لذلك عندما شاهدت رسل الله تعالى ان ابراهيم قد توجس خيفة منهم بادر الرسل قائلين (قٰالُوا لاٰ تَخَفْ ) لكن. لابد أيضا من ان يبين هؤلاء الرسل حقيقة الموقف حتى لا يخاف ابراهيم. وهذا ما بدأت به القصة فعلا، حينما بدأت تكشف عن الخيوط الأولى للموقف، وذلك حينما قال الرسل مباشرة (إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ) .

إذن: بدأ الآن عنصر (التشويق) و (المفاجأة) يتكشفان تدريجيا، ليبلورا حقيقة الموقف، متمثلة في. ان الرسل قد جاء والمهمة خاصة هي: إنزال العذاب على قوم لوط. لكن يتساءل القارىء من جديد: ما هي علاقة ابراهيم

ص: 302

بقوم لوط؟ تم يتساءل القارىء من جديد أيضا. ما هي علاقة البشرى التي قدمها الرسل بابراهيم ؟. وهذا يعني: أن الموقف القصصي لا يزال ملفعا بالغموض الفني، فما ان بدأ الغموض الأول يتكشف، حتى بدأ الغموض الجديد في الموقف. لقد تكشف للقارىء - وهذا ما يستخلصه القارىء دون ان تقول له بصورة مباشرة - بان «الرسل» هم «ملائكة» - و الملائكة لا تتناول الطعام البشري: كما هو واضح -. إذن: للمرة الجديدة نواجه عنصرا فنيا آخر هو: ان القصة تركت للقارىء بان يستخلص بنفسه بان الرسل هم «ملائكة» بدليل انهم جاء والمهمة من قبل اللّه تعالى والمهمة هي انزال العذاب على قوم لوط، وان انزال العذاب يتم عادة - من قبل الملائكة كما هو واضح.

في ضوء ما تقدم، أمكننا ملاحظة النمو العضوي لهذه المواقف في القصة، مما يكشف ذلك عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم موضوعاته:

بعضها مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه. وهو أمر لا بد ان نكتشفه لاحقا عند الحديث عن قصة لوط. أن القارىء يتساءل: لماذا ضحكت امرأة ابراهيم ؟ (وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ ...) . القصة ساكتة عن توضيح السبب. قد يكون الضحك بسبب من تكشف الموقف لها حيث نتوقع ان تكون: قد أحزنها عدم تناول الضيوف للطعام فلما عرفت انهم رسل اللّه تعالى ضحكت بسبب من تكشف الموقف... وقد يكون السبب - كما يذكر بعض المفسرين - هو: اطمئنانها لسلامة لوط (ع) من العذاب الذي اخبرت به الملائكة ابراهيم (ع) مما يعني ان القصة قد اختزلت احداثا ومواقف تتعلق بمهمة الملائكة المرسلين الى إنزال العذاب على قوم لوط - حيث تشير فقرة قصصية فيما بعد الى ان ابراهيم (ع) كان يتحاور مع الملائكة في هذه القضية (فَلَمّٰا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جٰاءَتْهُ اَلْبُشْرىٰ يُجٰادِلُنٰا فِي قَوْمِ لُوطٍ) . إن مجادلته في قوم لوط. لعلها استفسارات عن شمولية العذاب للجميع: بما

ص: 303

فيهم طائفة المؤمنين مثلا (وفي مقدمتهم: شخصية لوط نفسه). كل هذا من الممكن ان يستخلصه القارىء، وحينئذ قد يكون ضحك امرأة ابراهيم نابعا من تبشيرها بسلامة لوط مثلا: إذا أخذنا بنظر الإعتبار ان بعض النصوص المفسرة تشير إلى أن الملائكة بشروا ابراهيم بسلامة لوط من العذاب الذي سينزل بقومه.

لكن، لو انسقنا مع الفن القصصي، ثم اعتمدنا النص التفسيري المأثور عن أهل البيت عليهم السلام من ان ضحك امرأة ابراهيم كان بسبب من بشارتها بالإنجاب: حينئذ نكون أمام سمة فنية من سمات الصياغة القصصية، متمثلة في عنصر (التشويق) الذي لايزال يغلف الموقف.

قال تعالى وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لاٰ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ قٰالَتْ يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ * قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ... .

لا نزال مع قصة ابراهيم (ع). هذه القصة التي حفلت بعناصر (التشويق) و (المفاجأة) و (الغموض) الفني... حيث تكشف للقارىء ان الرسل الذين جاءوا ابراهيم (ع)، هم (ملائكة) حملوا البشرى لإبراهيم (وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ ) وانهم أرسلوا إلى قوم لوط. لكن القارىء لا يزال يجهل تفصيلات هذين الموقفين أو الحدثين: البشرى، ومهمة الإرسال الى قوم لوط... أما البشرى فإن القصة تبدأ بالكشف عن تفصيلاتها، فتقول (وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ ) . القاريء يكتشف سريعا بأن البشرى تتعلق بقضية الإنجاب، وتسرّ امرأة ابراهيم بولادة

ص: 304

مولود لها: اسمه (اسحاق) ثم ولادة ولده يعقوب. طبيعيا لا يزال الموقف ملفعا بالغموض، حيث ان دخول بطل جديد إلى القصة (وهو امرأة ابراهيم) يعني أن لهذه الشخصية «دورا» له أهميته (من حيث بناء الشخصية). ليس في صعيد البشرى بإنجاب الولد فحسب بل في صعيد الأحداث المرتبطة بمهمة الرسل المبعوثين إلى إنزال العذاب على قوم لوط: أحداث القصة ومواقفها في جميع المراحل. أي أن النص أبرز النتيجة (وهي الضحك) ثم ارتد إلى المقدمة (وهي البشرى بالإنجاب)، والمهم. سواء أكان السبب هذا أو ذلك، فإن ما يتسم بالأهمية الأشد خطورة هو: موضوع الإنجاب نفسه، حيث انعكس بوضوح على ردود الفعل الصادرة عنها. إنها هتفت مباشرة بعد أن بشرت بالولد قائلة: (يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ ) . وجاء الجواب من الملائكة: قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

طبيعيا، قد يتساءل القارىء عن سر العجب من امرأة ابراهيم (وهي تواجه ظاهرة إعجازية مجيء الملائكة)... بيد إن التأمل في البشرى ذاتها وهي (الإنجاب لشخصيات متميزة وليست عادية) أي: اسحاق ومن بعده يعقوب حيث تنتسب هذه الشخصيات إلى مواقع نبوية بمعنى إنها تكون (أنبياء) يمارسون مهمات التوصيل لمبادىء اللّه تعالى: كل أولئك يفسر لنا ان البشرى بالشيء جاءت متناسبة مع خطورة هذا الشيء ليس مجرد الإنجاب لشخصيات عادية. بل العجب من الإنجاب ذاته (وهي وزوجها في عمر يحوم على مائة سنة أو أكثر أو أقل)، وحينئذ يكون المشار إليه: استثناء من القاعدة، للأصباب التي مر ذكرها.

أخيرا، ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى عمارة القصة الكريمة: من حيث تنامي مواقفها وأحداثها: حيث لحظنا مدى الصلة بين الشخصيات: (الملائكة

ص: 305

و ابراهيم وامرأته) وبين موضوعات القصة، فيما يفصح ذلك عن إحكامها الهندسي، بالنحو الذي تقدم، الحديث عنه وبالنحو الذي سنوضحه لاحقا.

سورة هود (11): الآیات 77 الی 83

قال تعالى وَ لَمّٰا جٰاءَتْ رُسُلُنٰا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضٰاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قٰالَ هٰذٰا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَ جٰاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كٰانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ قٰالَ يٰا قَوْمِ هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قٰالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا لَنٰا فِي بَنٰاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مٰا نُرِيدُ * قٰالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ * قٰالُوا يٰا لُوطُ إِنّٰا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهٰا مٰا أَصٰابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا جَعَلْنٰا عٰالِيَهٰا سٰافِلَهٰا وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهٰا حِجٰارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مٰا هِيَ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ بِبَعِيدٍ .

هذه القصة، هي القصة الخامسة من القصص التي تضمنتها سورة هود.

إنها تتناول قضية لوط (ع) مع قومه حيث طبع سلوكهم نمط خاص من الإنحراف الجنسي. وبالرغم من أن غالبية القصص جاءت في سياق الحديث عن الفكر الوثني لدى مجتمعات نوح وهود وصالح وشعيب الخ، إلا أن قصة لوط - ومثلها قصة ابراهيم - جاءتا لتتناولا موضوعات خاصة: تحسيسا بأهمية هذه الموضوعات، فقصة ابراهيم جاءت لتلفت النظر الى الإنجاب المعجز، وقصة لوط جاءت لتتناول نمطا من الإنحرافات الإجتماعية، وان كلا من الموضوعين منفصل عن الآخر، لكنهما يرتبطان عضويا بأكثر من حدث وموقف. فالرسل أو الملائكة الذين بشروا ابراهيم بالأولاد، هم أنفسهم جاءوا ليصبوا العذاب على قوم لوط... وهذا واحد من الخيوط العضوية بين القصتين حيث يستخلص القارىء بأن هناك تخطيطا غيبيا تقوم الملائكة

ص: 306

بتنفيذه، فهم - أى الملائكة - يقومون - من جانب - بعملية تبشير ويقومون - من جانب آخر - بعملية تدمير... التبشير يتصل بأضخم الشخصيات العبادية والتدمير يتصل بأتفه الشخصيات... التبشير يتصل بميلاد بشر، والتدمير يتصل بموت بشر. التبشير يتصل بولادة أنبياء من أنبياء (ولادة اسحاق تم يعقوب، من ابراهيم). والتدمير يتصل بابادة بشر منحط. هذا التقابل الفني بين الشخصيات: الأرفع والأحط، بين عملية توليد وعملية إماتة، الخ يكسب النص جمالية فائقة، كما إنه يخضع لعنصر مشترك هو قيام الملائكة بتنفيذ هذا الفل (البشارة، والإماتة).

وهذا كله حيث صلة القصتين: قصة ابراهيم ولوط مع بعضها.

أما قصة لوط وحدها، فهي تمضي إلى نهايتها المتمثلة في إبادة قوم لوط (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود)... لكن ينبغي ان نعرض لبنائها الفني قبل ذلك... إن الملائكة - كما جاءوا أبطالا في ملامح بشرية بالنسبة إلى ابراهيم... كذلك تنكروا أمام لوط، وكما حلوا أضيافا عند ابراهيم كذلك حلوا أضيافا عند لوط. وكما جهلهم ابراهيم جهلهم لوط أيضا. وكما إن عنصر (التشويق) لعب دورا في قصة ابراهيم، كذلك نجد أن (التشويق) ترك فاعلية في قصة لوط حيث أن القاريء يظل متطلعا إلى معرفة النتيجة التي ينتهي إليها الحدث، فقد رسمت القصة لوطا: قد ساءه مجيء هؤلاء الضيوف، وضاق بهم ذرعا، نظرا لهجوم المنحرفين على داره، حتى إنه هتف قائلا (هٰذٰا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) . لقد عرض عليهم العنصر النسوي (قٰالَ يٰا قَوْمِ هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) . ثم خاطبهم من جديد محذرا (فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) . ثم خاطبهم أيضا (أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟) . كل ذلك، لم يترك أثرا فيهم، بحيث التمس قوى خارجية لكي تسنده في معالجة لموقف. (قٰالَ لَوْ أَنَّ لِي قُوَّةً أَوْ آوِي إِلىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) .

ص: 307

هذه العبارة الأخيرة التي نطق بها لوط: جاءت (من حيث البناء الهندسى للقصة) إرهاصا بانفراج الأزمة، بحيث أفضت إلى الخلاص وذلك حينما جاءت المفاجأة: لتعلن هوية الرسل وإذا بهم يخاطبون لوطا (ع). (يٰا لُوطُ إِنّٰا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...) . وهكذا تكشف الموقف بهذه العبارة القصصية، وحسم الأمر، حيث رسموا للوط (ع) طريقة النجاة من العذاب الذي سيلحق هؤلاء القوم، قائلين له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهٰا مٰا أَصٰابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ . وبهذا التخطيط لعملية الهروب من المدينة (بالنسبة للوط وأهله عدا امرأته)، تعرضت القصة للنهاية المتمثلة في: نزول العذاب على القوم وإبادتهم تماما.

ومن الواضح أن خطوط القصة التي أفضت إلى نهايتها المشار إليها، تفصح عن مدى إحكام البناء الفني لها، من حيث تنامي أجزائها وتلاحمها:

بعضها مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

سورة هود (11): الآیات 84 الی 87

قال تعالى وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لاٰ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيٰالَ وَ اَلْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيٰالَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قٰالُوا يٰا شُعَيْبُ أَ صَلاٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوٰالِنٰا مٰا نَشٰؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ... .

هذه القصة السادسة من القصص التي تضمنتها سورة هود. إنها تتحدث عن شعيب (ع) وقومه حيث تطرح موضوعات مماثلة لما لحظناه في قصص نوح وهود وصالح الخ، لكن مع سياقات جديدة أبرز ما فيها هو: التركيز على أحد

ص: 308

اشكال التعامل الإقتصادي المحظور وهو. التطفيف في الموازين... لاشك ان أهم الأهداف التي تضمنتها القصص هو. قضية «التوحيد»، كما أن الموضوع الرئيس الذي حامت عليه السورة هو «التوحيد» نفسه، لكن، حينما يعرض النص القرآني الكريم قضية ثانوية قي سياق جديد عن قضية رئيسة، فهذا يعني أن النص يستهدف لفت النظر إلى هذه القضية الثانوية ونعني بها:

التطفيف في الميزان.

وأهمية هذه القضية تتمثل في كون «التطفيف» عملية ذات بعد نفسى له خطورته في ميدان السلوك بعامة، فالتطفيف هو تعبير حاد عن (ذاتية) الشخص بحيث يفح بوضوح عن أشد أشكال «الأنانية» من جانب، وأشد أشكال الإنغلاق عن الاخرين من جانب آخر. وإذا أدركنا أن جميع المبادىء الإسلامية تستهدف تدريب الشخص على محورين. أحدهما «سحق الذات» والاخر «الإنفتاح» على الآخرين، حينئذ يمكننا أن نستكشف بوضوح مدى أهمية هذا المبدأ الذي طرحه النص بالنسبة للتطفيف في الموازين بصفة أن التطفيف يعني أولا أن الشخص يحاول أن يجتذب المنفعة إلى (ذاته) فيخسر الميزان حتى يكسب الفائدة إليه، ويعني ثانيا أن كسب المنفعة لنفسه يتم على حساب الضرر الذى يلحق الآخرين، إن الحرص على جلب المنفعة وحده (كما لو كان الشخص يجمع الأموال أو الأطعمة دون أن يترتب ضرر على الآخرين) هذا الحرص وحده: مفصح عن سمة ذاتية بغيضة، فإذا أضفنا إلى هذه السمة سمة أخرى وهي (العدوان) على الاخرين (كما لو كان الجمع للمال أو الطعام يتمم على حساب الضرر المترتب على الآخرين)، حينئذ تبلغ (الذاتية) قمة المفارقة مما تفسر لنا واحدا من الأسباب التي تكشف عن سر العناية بطرح هذا الموضوع (وهو التطفيف) في سياق الحديث عن مجتمعات الكفر، حتى إن سورة كاملة من القرآن «و هي سورة المطففين» يخصها النص بطرح هذا الموضوع بحيث يستهلها النص بقوله «ويل للمطففين» وبحيث يجعلها تتصدر

ص: 309

الحديث حتى عن قضية التوحيد والإيمان باليوم الآخر. وكل أولتك يكشف عن الأهمية التي يكسبها النص للموضوع المشار إليه.

والآن إذا غادرنا هذا الجانب من بناء القصة (قصة شعيب) (ع) واتجهنا إلى الجوانب الأخرى من بنائها الفني: لوجدنا، أن القصة تتماثل مع قصص نوح وهود وصالح ولوط بالنسبة لقضايا الدعوة إلى توحيد الله تعالى، ونبذ الأوثان، والتحذير من المصائر الكسيحة التي ينتهي الكافرون إليها دنيويا مثل حوادث الطوفان والصيحة وسواهما. لكن، بما أن هذه القصة تشكل خاتمة للعنصر القصصي في هذه الصورة حينئذ نلحظ ان النص (من حيث البناء الهندسي للسورة) يطرح تحذيرا خاصا على لسان شعيب (ع) هو:

سورة هود (11): آیة 89

وَ يٰا قَوْمِ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقٰاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مٰا أَصٰابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صٰالِحٍ وَ مٰا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ... إن هذا التذكير (على لسان البطل) له أهميته الفنية الضخمة، وذلك لجملة من الأسباب، منها: ان هذه القصة تشكل خاتمة لقصص نوح وهود وصالح ولوط، ومنها: إن القصة (زمنيا) متأخرة عن أزمنة القصص السابقة، ومنها. أن الآثار المترتبة على إبادة المجتمعات السابقة:

تظل بمرأى وبمسمع من مجتمع شعيب وبخاصة: مجتمع لوط (بصفة أنه آخر المجتمعات التي تعرض لها النص) حيث تظل آثار الجزاء الدنيوي محتفظة بفاعليتها، وهو أمر أشارت القصة إليه بوضوح حينما قالت على لسان شعيب (وَ مٰا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) .

إذن، أمكننا ملاحظة السر الفني الكامن وراء هذه الشريحة القصصية التي تميزت بها قصة شعيب (ع) وصلتها بالقصص السابقة، فضلا عن الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها مما يفصح ذلك جميعا عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم وتجانس أجزائه. بعضها مع الآخر.

ص: 310

سورة هود (11): الآیات 96 الی 103

قال تعالى وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّٰارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ * وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ * ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْقُرىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهٰا قٰائِمٌ وَ حَصِيدٌ * وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مٰا زٰادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَ كَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذٰا أَخَذَ اَلْقُرىٰ وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خٰافَ عَذٰابَ اَلْآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ .

بهذا المقطع من سورة هود، يختم العنصر القصصي الذي وظفته السورة الكريمة لإنارة موضوعاتها المتصلة بسلوك الكافرين المعاصرين لرسالة محمد (ص). لقد تعرض النص عابرا إلى قصة موسى مع فرعون، حيث لحظنا أن قصص نوح وهود وصالح الخ قد عرضت مفصلة، بينما تعرض الان قصة موسى مجملة. كما لحظنا أن القصص المشار إليها قد تم التركيز فيها على العذاب الدنيوي الذي لحق المجتمعات السابقة، بينما نلحظ الآن أن قصة موسى تعرض للعذابين: الدنيوي والأخروي. والمهم هو أن نقف على الأسرار الفنية لهذه الأقصوصة (اقصوصة موسى): وصلتها بالمبنى الهندسي للسورة الكريمة وملاحظة هذه الفوارق بينها وبين القصص السابقة وانعكاسات ذلك على المبنى الهندسي المذكور.

إن السورة الكريمة ما دامت تتحدث عن الكافرين المعاصرين لرسالة الإسلام وما دام الجزاء الأخروي هو العذاب الذي ينتظر هؤلاء المكذبين حينئذ فلا بد أن تختم العنصر القصصي بقصة تجمع بين العذاب الدنيوي الذي يجسد إنذارا لهؤلاء الكافرين وبين العذاب الأخروي الذي ينتظرهم، وهذا ما تكفلت به أقصوصة موسى مع فرعون من حيث جمعها بين العذابين، وبما أن

ص: 311

رؤساء الكفر في الزمن المعاصر لرسالة الإسلام، لعبوا دورا في تضليل أتباعهم: حينئذ فإن عرض أقصوصة مثل أقصوصة موسى مع فرعون يجسد صدى مماثلا لسلوك هؤلاء حيث ان فرعون وجماعته كانوا أسماء متميزة في الضلال وكانت الغالبية من مجتمعهم أتباعا لا فاعلية لهم في صنع القرارت، لذلك يجيء التجانس بين التركيبة الإجتماعية لفرعون ومجتمعه وبين التركيبة الإجتماعية للمشركين ملحوظا في هذا الميدان، مما يفسر لنا واحدا من أسرار العرض القصصي الذي ختم به هذا القسم من السورة حيث اتجهت السورة بعد ذلك إلى الحديث مجددا عن المشركين: بعد أن قطعت رحلة قصصية طويلة عن مجتمعات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب.

لكن، خارجا عن هذه العمارة القصصية وصلتها بعمارة السورة الكريمة، يعنينا ان نعرض لعناصر الأقصوصة: بخاصة العنصر الصوري وصلته بالعمارة المشار إليها. وأول ما يلاحظ في هذا الصعيد إن النص القرآني الكريم حاول - من خلال العنصر الصوري - أن يبلور للمتلقي مفهوم التبعية للرؤساء.

يقول النص. فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّٰارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ * وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ . الصور هنا تتجسد في صور (تمثيلية) أو (رمزية) هي الرفد والورد حيث تتضمن هاتان الصورتان دلالات ايحائية متنوعة: أبرز ما فيها هو: عنصر (التضاد) بين ايحاءات العبارة، فالورد والرفد يجسد أولهما:

الماء الذي يشربه الشخص و يجسد الآخر. العطاء الذي يقدم له، إلا أن النص القصصى منحهما إيحاء مضادا للشرب والعطاء، بحيث يتحولان إلى تجربة مؤلمة بدلا من التجربة المسرة التي يفرزها الشرب بالعطاء. والمهم بعد ذلك - أن هذه الصور صيغت في سياق الحديث عن فرعون الذي يقدم قومه يوم القيامة فيوردهم النار التي رسمها النص صورا (تمثيلية) هي: الورد المورود والرفد المرفود، وكل أولئك يكشف بوضوح عن مدى إحكام السورة الكريمة

ص: 312

من حيث تجانس عنصرها القصصي والصوري مع بعضها ثم تجانسها مع موضوعات السورة الكريمة ومن ثم تجانس وتلاحم أجزائها بعضها مع الآخر.

قال تعالى ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْقُرىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهٰا قٰائِمٌ وَ حَصِيدٌ وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مٰا زٰادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَ كَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذٰا أَخَذَ اَلْقُرىٰ وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ .

بهذا المقطع ينتهي العنصر القصصي الذي تضمنته سورة هود، حيث عرض النص القرآني الكريم مجموعة من قصص المجتمعات السابقة (قصص نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب وموسى) في سياق الحديث من أجل إنارة الموضوعات التي طرحها النص عن سلوك المشركين. وها هو النص يعرض لنا السبب الفني الكامن وراء سرده لقصص الماضين، مبينا أن الهدف من ذلك هو: تذكر المعاصرين لرسالة الإسلام بمصائر الأمم البائدة، حيث لم تغن أصنامهم التي كانوا يعبدونها عن نزول العذاب عليهم. هذا التذكير بأصنامهم الماضين، إنما هو منحى فني غير مباشر يستهدف منه لفت نظر المشركين لحملهم على نبذ الأصنام: كما هو واضح. وبما أن عذاب الإستئصال الدنيوي قد رفعته السماء عن أمة محمد (ص)، وأجّلت ذلك إلى اليوم الآخر، لذلك، ربط النص القرآني الكريم بين هدفه من سرد قصص الماضين، وبين تذكير المعاصرين لرسالة الإسلام بالعذاب الأخروي قائلا:

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خٰافَ عَذٰابَ اَلْآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ .

وهكذا انتقل النص هذه النقلة الفنية التي تكشف عن جمالية وإحكام المبنى الهندسي للسورة الكريمة حيث استثمر هذا الجانب، فرسم لنا البيئة

ص: 313

الأخروية التى تنتهي إليها مصائر الناس، إلى الجنة أو الجحيم، فقال.

سورة هود (11): الآیات 104 الی 108

وَ مٰا نُؤَخِّرُهُ إِلاّٰ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ * فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ * وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ .

في هذا المقطع نواجه رسما فنيا قائما على ما يطلق عليه مصطلح (التقابل أو التضاد من خلال التماثل)، أي: نواجه رسما يقوم على (التقابل) بين الجنة والنار، بصفة أن أحدهما ضد للآخر. وهذا التضاد يتم - في الوقت نفسه - من خلال (التماثل) بين هذين المصيرين. فالملاحظ، أن النص قام أولا بعملية تصنيف الناس الى (شقي) و (سعيد)، ثم فصل الحديث عن كل صنف فقال عن الصنف الأول: (فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ) . وقال عن الصنف الآخر: (ف أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ ) ، وهذا هو عنصر (التقابل). وأما عنصر (التماثل)، فيتجسّد في قوله تعالى عن كل من هذين الفريقين بأنه خالد في الجنة أو النار ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء اللّه تعالى. قال تعالى عن الصنف الأول: (خٰالِدِينَ فِيهٰا - أي النار - مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ ، إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ ... ).

وقال تعالى عن الصنف الآخر - مستخدما نفس الكلمات: (خٰالِدِينَ فِيهٰا - أي الجنة - مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ ...).

ومما لاشك فيه، إن هذا (التقابل) بين الجنة والنار، ثم إخضاعه لعنصر (التماثل) من حيث الخلود في كل منها، ومن حيث استثناء إشاءة الله تعالى في ذلك. هذا النوع من الصياغة ينطوي على جمالية فائقة من حيث التقابل الهندسي بين أجزاء النص، فضلا عما لحظناه من الربط العضوي بين

ص: 314

موضوعات السورة الكريمة وبين العنصر القصصي فيها، ثم الربط العضوي بين ذلك وبين الحديث عن اليوم الآخر.

سورة هود (11): الآیات 109 الی 115

قال تعالى فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّٰا يَعْبُدُ هٰؤُلاٰءِ مٰا يَعْبُدُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنّٰا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّٰا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمٰالَهُمْ إِنَّهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ وَ لاٰ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لاٰ تُنْصَرُونَ * وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ طَرَفَيِ اَلنَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ ذٰلِكَ ذِكْرىٰ لِلذّٰاكِرِينَ * وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ... الخ.

بهذا المقطع وما بعده تختم سورة هود التي حامت موضوعاتها على سلوك المشركين، وختمت بمجموعة من التوصيات التي تطالب باليقين، والإستقامة، وعدم الركون إلى الظالم، وإقامة الصلاة، والصبر... الخ.

و يعنينا من هذا الختام ما ينطوي عليه من أداء فني يرتبط بعمارة السورة الكريمة وبجزئياتها.

وأول ما يواجهنا في هذا الصعيد هو «التشبيه» القائل عن المشركين بأنهم (مٰا يَعْبُدُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ) كما يواجهنا (النموذج) الصوري القائل (وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ...) . إن هاتين الصورتين (التشبيه، والنموذج) تنطويان على قيم بنائية لها أهميتها الكبيرة بالنسية إلى عمارة السورة الكريمة. أما «التشبيه - تشبيه المشركين بما يعبد آباؤهم» فقد ورد في سياق القصص التي أوردها النص عن مجتمعات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب وموسى، حيث ذكر

ص: 315

القرآن المصائر التي تنتهي إليها أولئك البائدون دنيويا، نتيجة لكفر هم...

والأهمية الفنية لهذا التشبيه تكمن في انطوائه على قيمة فكرية هي: إن المجتمع المعاصر لرسالة محمد (ص) بما إنه لم يكتب للمنحرفين فيه بعذاب الإستئصال بل بتأجيل ذلك. أخرويا، لذلك، اكتفى النص بصياغة «تشبيه» يربط بين المشركين وبين عبادة آبائهم السابقين مع تعقيب على هذا السلوك، هو «وانا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص». فهذا التعقيب الذاهب إلى أن اللّه تعالى سوف يوفي هؤلاء المشركين جزاءهم في اليوم الآخر يتناسب مع عملية التأجيل التي أشرنا إليها... والمهم - فنيا - إن عنصر «التشبيه» جاء متساوقا مع العنصر القصصي في توظيفها جميعا من أجل إنارة الموضوعات المرتبطة بسلوك المشركين وما ينتظرهم من الجزاء الأخروي.

وأما «الصورة النموذجية» التي قدمها النص عن مجتمع موسى، (لَقَدْ آتَيْنٰا اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) ، فهي بدورها تصب في الهدف المشار إليه، إن النص يريد أن يقول لمعاصري رسالة الإسلام ان قوم موسى قد اختلفوا فيما بينهم حيال الكتاب الذي أنزل عليه عصرئذ، وإن الإختلاف المذكور لا يزال ممتدا حتى زمن رسالة الإسلام. لكن - بما أن أحد المبادىء الإجتماعية التي قررتها السماء يقضي بأن يؤجل الى اليوم الآخر: عذاب هؤلاء القوم المختلفين فيما بينهم - حينئذ لا ضرورة إلى استئصالهم دنيويا كما كان الأمر بالنسبة للأمم البائدة. اذن، يظل هدف النص منصبا على تقرير حقيقة هي: أن الجزاء الأخروي - وليس الدنيوي - هو المقرر بالنسبة للمشركين وسائر المنحرفين الذين لم يلتزموا بمبادىء السماء.

وما دمنا نتحدث عن عنصر الصورة الفنية (أي: النموذج القصصي عن مجتمع موسى، والتشبيه القصصي بالمجتمعات البائدة)، ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى عنصر صوري آخر. جاء في سياق التوصيات التي قدمها النص،

ص: 316

ومنها التوصية بالصلاة، حيث عقب عليها النص قائلا: (إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ ) ، فالحسنات هنا (رمز) - وليست أعمالا مطلقة - للصلاة، بدليل إنها جاءت بعد قوله مباشرة (وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ طَرَفَيِ اَلنَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ ) ، مضافا إلى إنها قد فسرت فنيا بهذا العنصر الرمزي من قبل إئمة أهل البيت عليهم السلام، وأهمية «الرمز» - أي كون «الحسنات» ترمز الى الصلاة - تتمثل في تحسيس المتلقي بخطورة الصلاة بحيث تجسد «الحسنات» التي تصدر عن الإنسان. مع ان الحسنات متنوعة بتنوع السلوك العبادي وليست مقتصرة على الصلاة وحدها، لكن، بما ان للصلاة أهميتها الخاصة، حينئذ جاء «الرمز» لها بالحسنات أمرا له مسوغة الفني المشار إليه. والمهم - بعد ذلك كله - إن عنصر الصورة - في صعيد الرمز للصلاة التي استثمرها النص في هذا المجال - وسائر الأدوات الفنية، قد وظفها النص لإنارة الموضوعات التي تضمنتها السورة الكريمة ما يفصح عن إحكام المبنى الهندسي لها بالنحو الذي لحظناه.

ص: 317

ص: 318

سورة يوسف

اشارة

ص: 319

ص: 320

لعل سورة يوسف هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن، تتمحض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها، دون أن يتخللها نثر غير قصصي: عدا الآيات التسع التي تنتهي السورة بها: وهي - في الواقع - تعقيب على القصة ذاتها.

ومن الواضح، أن تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة: يتحرك من خلالها بطل رئيس واحد، ثم أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل...

أقول: ان تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة، إنما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار - ونحن نتناول البناء الهندسي للقصة.

والآن، ما هي الخطورة التي تنطوي عليها القصة أولا؟ وما هي خطوط الشكل الفنّي الذى اعتمدت القصة عليه، ثانيا؟ وصلة ذلك بعمارة السورة أساسا.

إن أهمية قصة يوسف تتمثل في تضمنها أحداثا ومواقف في غاية الإثارة.

وهذه الإثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهم الدوافع لدى الإنسان وأشدّها إلحاحا، وفي مقدمتها: الدافع الجنسي.

يلي ذلك، دافع (الحسد) أو (الغيرة)، وهو دافع ملحّ بدوره لا يكاد يتحرّر الإنسان منه إلاّ بالتدريب الشّاق: من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع وطرائق تهذيبه أو التصعيد به، أو التخلّص منه.

هناك أيضا دافع ثالث ملحّ بدوره، تكشف القصة عنه، ألا وهو دافع

ص: 321

السيطرة أو التفوّق.

وفضلا عن ذلك كله. ثمة دوافع وحاجات وميول ومواقف تكشف القصة عنها، مبيّنة لنا طرائق التعامل معها، وإشباعها بالطريقة السوية أو الشاذّة.

هذه الحاجات والمواقف ستتبلور أمامنا بصورة واضحة، حيث نقف على تفصيلات هذه القصة، وما تحف به من أحداث وأبطال وبيئات ومواقف:

وبخاصة أنّها جميعا صيغت في شكل قصصى حافل بأنواع الإثارة الفنّية.

الشكل الفنيّ للقصة

لقد بدأت قصة يوسف على النحو التالي.

إِذْ قٰالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ :

يٰا أَبَتِ : إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ .

هنا أجابه أبوه، قائلا:

يٰا بُنَيَّ : لاٰ تَقْصُصْ رُؤْيٰاكَ عَلىٰ إِخْوَتِكَ ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

إذن، القصة تعتمد على مادة حلمية منذ البداية.

والحلم - كما هو واضح - يشكّل في القصة المعاصرة بخاصة مادة فنية غنيّة في التقنية القصصية.

وأهمية الحلم تنبثق من كون الحلم، واحدا من أهمّ فعاليات السلوك البشري: في الجانب اللاشعوري من الشخصية. ولذلك، فإنّ استخدام مادة الحلم - في أعمال قصصية يكتبها البشر - إنّما تعدّ ذات أهمية كبيرة، نظرا لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الإنسان.

ص: 322

ونحن الآن لا يعنينا أن نتحدث عن اللاشعور بمعناه الأرضي وافتراقه عن التفسير الإسلامي للاشعور، وصلة الأحلام بذلك، بل لهذا البحث مكان آخر تحدثنا عنه مفصلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي، وإنما يهمنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهم فعاليات السلوك: في نطاقه خارج اليقظة، أو ما يسمّيه البحث الأرضي. خارج (الوعي).

على أية حال... حين ننقل هذه الظاهرة إلى نطاقها الإسلامي، نجد أنّ الحلم وهو نمطان صادق وكاذب، إنما يعد الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء إلى الشخصية: خارج يقظتها، بغية الإفادة منه في تصحيح السلوك. في نطاق الحالم نفسه، أو نطاق الآخرين، بحيث تتحقق الإفادة إمّا بنحو خاص متصل بالحالم وبمن يعنيه أمره، أو بنحو عام متصل بالجماعات الإنسانية كلّها أو بعضها.

وحين نعود إلى قصة يوسف نجد أن المادة الحلميّة في هذه القصة قد شملت هذه الأنواع الثلاثة من الأحلام، أي:

1 - الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه.

2 - الحلم الخاص بمن يعنيه أمره.

3 - الحلم المتصل بالجماعات الإنسانية.

أما الحلم الخاص بشخصية الحالم، فقد تمثّل في ثلاثة أحلام:

أ - حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكبا.

ب - ج - حلمي صاحبيه في السجن: في رؤية أحدهما يعصر خمرا، ورؤية الآخر حاملا فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه:

ص: 323

وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيٰانِ ، قٰالَ أَحَدُهُمٰا: إِنِّي أَرٰانِي أَعْصِرُ خَمْراً. وَ قٰالَ اَلْآخَرُ: إِنِّي أَرٰانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ .

وهذا كله فيما يتصل بشخصية الحالم.

أمّا فيما يتصل بمن يعنيه أمره، فهو حلم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته. ثم حلما صاحبيه من حيث صلتهما بالملك الذي يخدمه الأول، ويصلب الآخر.

وأمّا النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الإنسانية - في هذه القصة - فهو: حلم الملك الذي رواه على النحو الآتي:

قال الملك:

إِنِّي أَرىٰ سَبْعَ بَقَرٰاتٍ سِمٰانٍ ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجٰافٌ . وَ سَبْعَ سُنْبُلاٰتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يٰابِسٰاتٍ .

وهذا الحلم يتصل - ليس بالحالم نفسه - بل برعيته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها.

إذن، الأنواع الثلاثة من الأحلام، وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنية المثيرة.

ليس هذا فحسب... فالمادة الحلمية لم تقتصر - في هذه القصة - على استقطابها للأنواع الثلاثة من الأحلام - بل تجاوزته أيضا، إلى مهمة فنيّة أخرى هي: مهمة تفسير الأحلام الثلاثة.

إن تفسير الحلم يشكل بدوره جزء خطيرا من السلوك البشري.

فإذا كان الحلم فعالية لا شعورية أو فعالية غيبية، فإن تفسيره هو الذي يمنح المعنى أو الدلالة التي ينطوي السلوك عليها.

ص: 324

من هنا، فإن المادة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت فنيّا حينما أتبعت الحلم بتفسيره، وتوضيح دلالاته.

فالأنواع الثلاثة من الأحلام، لم يتركها النص القرآني بلا جواب، بل أتبع كلاّ منها بالتفسير الذي ينطوي الحلم عليه.

ونقصد بالأحلام الثلاثة: أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم، أو بمن يعنيه من الخاصة، أو بالجماعات الإنسانية على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.

أما عدد الأحلام الذي وجد طريقه في قصة يوسف فهو أربعة أحلام، ذكرت في القصة، يضاف إليها: حلمان ليوسف وأبيه وذكرتهما نصوص التفسير، فيكون المجموع ستة أحلام. أمّا ما نتناوله الآن، فهو أربعة أحلام.

وفي حينه نذكر الحلمين الآخرين.

1 - حلم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكبا.

2 - حلم أحد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمرا.

3 - حلم أحد صاحبيه في رؤيته حاملا فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.

4 - حلم الملك في رؤيته البقرات السمان والعجاف ورؤيته السنبلات الخضر واليابسات.

هذه الأحلام الأربعة، قد أتبعت في قصة يوسف بتفسير كل واحد منها.

واليك تفسيرات هذه الأحلام الأربعة:

أ - حلم يوسف: وقد فسّره أبوه يعقوب على النحو التالي:

لاٰ تَقْصُصْ رُؤْيٰاكَ عَلىٰ إِخْوَتِكَ ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً .

2، 3 - حلم صاحبي يوسف في السجن: وقد فسرهما يوسف على النحو التالي.

ص: 325

«أَمّٰا أَحَدُكُمٰا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» .

«وَ أَمَّا اَلْآخَرُ: فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ » .

4 - حلم الملك: وقد فسره يوسف أيضا، على النحو التالي:

قٰالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمٰا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّٰ قَلِيلاً مِمّٰا تَأْكُلُونَ .

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدٰادٌ يَأْكُلْنَ مٰا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّٰ قَلِيلاً مِمّٰا تُحْصِنُونَ .

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ عٰامٌ فِيهِ يُغٰاثُ اَلنّٰاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ .

هذه هي التفسيرات التي قدمها يعقوب ويوسف للأحلام الأربعة في القصة.

ومنها نستخلص: أن المادّة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت بإضافة العنصر التفسيري لها.

وبهذه الإضافة تكون المادة الحلمية قد تشكلت - فنيّا - على النحو التالي:

1 - القصة أساسا قد اعتمدت على مادة الحلم من حيث دوران أحداثها ومواقفها على حلم بطلها الرئيسي يوسف.

2 - القصة قد اعتمدت على أكثر من حلم يوسف وصاحبيه والملك:

وهذا يعني أن عنصر الأحلام هو العصب الفنّي الذي قام عليه شكل القصة.

3 - القصة - في مادتها الحلمية - قد استقطبت الأنواع الثلاثة التي ينحصر الحلم الصادق فيها، وهي: علاقة الحلم بصاحبه، أو بمن يعنيه أمره، أو بالجماعات الإنسانية.

ص: 326

4 - القصة لم تقتصر في مادتها الحلمية على فعالية الأحلام فحسب، بل تجاوزته إلى فعالية تفسير الأحلام أيضا.

إن هذه العناصر الأربعة، في مادة الحلم الذي قام شكل القصة عليه، إنما تكشف عن الخطورة الفنية التي انطوت عليها قصة يوسف، من حيث جمالية البناء القصصي، وخطوطه الهندسية التي تناسقت فيما بينها: حيث تلاقت على حلم رئيس وأحلام ثانوية تتواكب معه: من حيث تلاقت على أحلام فردية تخص حالما بعينه، وأحلام تخص شخصيات عادية وأخرى غير عادية، وأحلام تخص جماعة صغيرة، وأحلام تخص جماهير الشعب بأكمله:

ومن حيث أنها أتبعت بتفسير الأحلام أيضا: ومن حيث انحصار التفسير في يوسف وأبيه.

كل هذه الخطوط الهندسية المتناسقة من حيث اعتمادها على مادة الحلم ومستوياته المتقدمة إنما تفصح عن شكل فنّي له خطورته في نطاق البناء القصصي، وانعكاس ذلك على الدلالات الفكرية في القصة.

والآن، حين نتجاوز هذا البناء الفنّي القائم على مادة الحلم وتفسيره...

أقول: حين نتجاوز هذا البناء إلى أشكاله الفنية الأخرى، فماذا سنجد حينئذ؟؟

بناء الحدث:

من حيث البناء الذي تتحرّك الأحداث والمواقف من خلاله، فإن الحدث يأخذ تسلسله في الزمن الموضوعي: أي تسير القصة حادثا بحادث دون أن تقطع الأحداث وفقا لزمنها النفسي، إلا نادرا نتحدث عنه في حينه.

فالقصة تبدأ بحلم يوسف الذي فسره أبوه بأنّ إخوته في صدد أن يكيدوا

ص: 327

له لو قصّ عليهم رؤياه.

ثم تأخذ الأحداث تسلسلها الزمني: بدء من إلقائه في الجب، مرورا بقضيته مع امرأة العزيز، فإيداعه السجن، فولايته على مصر، فقضيته مع اخوته في حادثة الكيل، وانتهاء بعودة أبويه واخوته إليه.

وأمّا البناء الداخلي، للحدث، فإن القصة تسير وفق معمارية بالغة الجمال: من حيث تداخل الأحداث وصلة بعضها بالآخر. ثم نموّها عبر خطوط تتوازى وتفترق حتى تصبّ في نهر واحد في نهاية المطاف.

ولكي نتبين معالم هذا البناء، يحسن بنا أن نقسمها إلى عناصرها من أحداث وشخصيات ومواقف وبيئات وأفكار: نظرا لما ينطوي عليه كلّ عنصر من قيمة جمالية وفكريّة لا غنى للمتلقي من الوقوف عليها، حتى يتعرف على الأسرار الفنية لهذه القصة: ثم ما تنطوي عليه من أفكار تتصل بأهم دوافع السلوك البشري، والإفادة منها في تصحيح سلوكنا وتعديله في ضوء مبادىء السماء التي تصوغ لنا أمثال هذه القصص حتى تكون عبرة لأولي الألباب:

حيث ختمت القصة بهذه الحقيقة. وهي قوله تعالى:

لَقَدْ كٰانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ ، مٰا كٰانَ حَدِيثاً يُفْتَرىٰ ، وَ لٰكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

ونقف أولا مع أبطال القصة، بادئين بأبطالها الثانويين الذين مارسوا مهمات محددة. ثم ببطلها الرئيس يوسف (ع).

ويمكننا أن نحدد هؤلاء الشخوص الثانويين في:

1 - يعقوب.

2 - إخوة يوسف.

ص: 328

3 - الأخ الأصغر.

4 - العزيز.

5 - إمرأة العزيز.

6 - نسوة المدينة.

7 - صاحبي السجن.

ومن الواضح، أن مهمّة البطل الثانوي - في أي شكل قصصي - تتمثل في إبراز هدف محدّد، وفي إلقاء الضوء على الشخصية الرئيسية، مع ملاحظة أنّ بعض الأبطال الثانويين في القصص الأرضي، قد يشكّلون (وجهة نظر مبدع القصة نفسها)، وقد يضطلعون بأدوار قد لا يتاح حتى للبطل الرئيسي ممارستها، والمهمّ ، إنّ القصص القرآنية الكريمة تحدثنا بلغتنا التي نألفها ونتذوقها حسب استجابتنا التي ركبّتها السماء وفق صياغة خاصة: تأخذ كلا من جانب الامتاع الجمالي والفكري بنظر الاعتبار، وهو هدف الفنّ في كل أشكاله.

إنّ الأبطال الثانويين في هذه القصة، مارسوا أدوارا بالغة الأهمية، بحيث يضطلع كل منهم بإبراز هدف محدد: يلقي - من جانب - إنارة على شخصية البطل يوسف، ويبلور لنا - من جانب آخر - أفكارا معينة نفيد منها فى تعديل السلوك.

ولعل كلا من يعقوب (ع)، [اخوة يوسف]، ينهضان بأدوار بالغة المدى بالقياس إلى سائر الأبطال الثانويين، فيما تتجاذبهم من دوافع السلوك المتصل بدافع الأبوة، ودافع الحسد وسواهما.

كما أن [امرأة العزيز] تضطلع بمهمة خاصة تتص