التقية في فقه أهل البيت(علیهم السلام)
تقريراً لبحث
سماحة آية الله
الحاج الشيخ مسلم الداوري
(دام ظلّه)
الجزء الأول
محمّد علي المعلّم
محرر رقمي:محمد المنصوري
ص: 1
التقية في فقه أهل البيت(علیهم السلام)
تقريراً لبحث
سماحة آية الله
الحاج الشيخ مسلم الداوري
(دام ظلّه)
الجزء الأول
محمّد علي المعلّم
ص: 2
التقية في فقه أهل البيت عليهم السلام ج1
تقريراً لبحث سماحة آية الله الشيخ مسلم الداوري (دام ظله)
المؤلف : محمد علي صالح المعلم
الاخراج الفني:
الناشر:
المطبعة:
الطبعة:
عدد المطبوع:
الشابك ج1:
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ
ص: 4
عکس
ص: 5
ص: 6
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الغر الميامين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
وبعد ...
فهذا بحث فقهي استدلالي لإحدى المسائل التي يكثر الابتلاء بها، انتزعناه من المحاضرات الفقهية المفصّلة، والتي كان يتفضّل بها سماحة العلامة الاُستاذ آية الله الشيخ مسلم الداوري (دام ظلّه) على طلابه . وقد اتسع البحث وامتد ليشمل جميع موارد التقية في جميع أبواب الفقه الواردة في روايات أهل البيت (علیهم السلام). وآثرنا إفراده في كتاب مستقل؛ نظراً لأهمية موضوعه ولتشعّب فروعه.
وقبل الدخول في موضوع البحث نمهّد له بحديث يتناول التقية عبر التاريخ؛ للتأكيد على أنّها إحدى السمات البارزة في الشرائع السماوية السابقة، ونؤيّد ذلك بذكر الشواهد التاريخية من حياة الأنبياء والأولياء والمصلحين.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يمدّنا بالعون والتوفيق وأن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، ومحلّاً لرضاه، بحق محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
والحمد لله ربّ العالمين
ص: 7
ص: 8
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
يعود تاريخ التقية إلى اللحظة التي أحسّ فيها الإنسان بعجزه عن درء الخطر عن نفسه أو عن معتقده، ولم يكن ثمّة ما يبرّر مواجهة الخطر أو مقاومته. وهي فترة موغلة في القدم بقدم وجود الإنسان على الأرض؛ ذلك لأنّ للإنسان حالات طبيعية تعتريه ومنها الخوف. وهو أحد الحالات التي جبلت عليها فطرة الإنسان، ويستوي فيها جميع بني البشر لا يشذّ عنها أحد، إلاّ اُولئك الذين زوُّدوا بطاقات خاصة وكفاءات معيّنة أمكنتهم من الوقوف على أسرار الكون والعلم بحقائق الأشياء، وكانوا في كل حركاتهم وسكناتهم مع الله تعالى، وهؤلاء لا يعتريهم ما يعتري سائر البشر من الاضطراب النفسي والقلق وعدم الاطمئنان، وإذا كان هؤلاء يخافون فإنما يخافون على اُمور اُخر تعود إلى ما يحملون من مبادىء وقيم يخشون عليها من أن تقع في غير مواضعها فيساء استغلالها، ويتمثّل هذا المعنى في الصفوة المنتجبة من البشر، وهم السفراء بين الحق والخلق؛ فإنّ شأن المعصومين (علیهم السلام) غير شأن سائر الناس، وإن كانوا يجرون على مقتضى السنن الطبيعية لحكم ومصالح وأسرار. وعلى كل تقدير فالخوف هو المنشأ الطبيعي للتقية.
ثم إنّ التقية بمفهومها الواسع لا تقتصر على جانب من جوانب الحياة دون
ص: 9
آخر، بل تعم جميع ما يتّخذه الإنسان من الأساليب المتاحة له لدفع الأخطار عن نفسه أو عن من يهمه أمره، سواء كانت الأخطار طبيعية أو غير طبيعية. فالإنسان يلجأ إلى دفع ما يتهدده من أخطار الطبيعة من حرّ أو قرّ أو جوع أو مرض أو سبع أو نحو ذلك، ويتوسل بأساليب شتّى لئلّا يقع ضحيتها، بل قد يتخذ الأساليب الوقائية عن الأخطار المحتملة.
ولكن لما كانت هذه الاُمور الطبيعية لا جدال فيها ولا نقاش؛ لاتفاق البشر وغير البشر عليها، اتخذ البحث عن التقية منحى آخر، وهو ما يواجهه الإنسان من أخطار غير طبيعية ناشئة عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في ظل ظروف اجتماعية أو سياسية معينة، كما أنّها قد تكونإحدى الوسائل لإيصال المعارف الإلهيّة إلى من يصعب إفهامه إياها بصورة مباشرة.
فالتقية حالة علاجية مؤقتة قد يتوسل بها الإنسان لدفع الخطر بإظهار الموافقة وكتمان المخالفة في ظروفه الصعبة. وقد يتوصل بها لتهيئة الأذهان وإعداد النفوس لتقبّل الحقائق، نظير ملاطفة الأطفال والتصابي لهم ومداراتهم، وهي إحدى الركائز الفطرية التي يستند إليها الإنسان، وكان دور الدين فيها هو الإمضاء والتقرير، بل عدّها من صميم الدين وسنة من سنن الأنبياء (علیهم السلام) والأولياء (علیهم السلام)، وأكّدها القرآن الكريم في نصوصه الصريحة، وحدّدت كيفيتها ومواضعها الآثار الدينية الاُخرى.
وإنّ من أقسى ما يواجهه الإنسان أن تكبّل حريته فلا يسعه البوح بما يرى ويعتقد، في الوقت الذي يكون اعتقاده حقاً ورأيه صواباً، فيضطر إلى الكتمان إبقاء على نفسه وحفاظاً على حياته، الأمر الذي يمكن معه الجزم بأنّ كثيراً من الحقائق قد ضاعت أو اُهملت؛ لأنّها لم تعط الفرصة للظهور، ولو لم يكن الأمر كذلك لتغيّر وجه التاريخ، ولكانت الإنسانية تعيش ظروفاً أفضل ممّا هي عليه.
ص: 10
ولمّا كان موضوع التقية يتسع للكثير من القول، آثرنا الحديث عنها - في هذه المقدمة - من وجهتها التاريخية؛ لأنّ هذا الجانب هو أقوى ما تثبت به السيرة العملية - أي من خلال سيرة الأنبياء والأولياء (علیهم السلام) - التي هي أحد الأدلة المسلّمة والمتّفق عليها عند المسلمين. وليس الغرض إلّا التأكيد على صحة ما هو ثابت من مذهب أهل البيت (علیهم السلام) من أمر التقية، وإقامة الحجة على من خالفهم واتهمهم زوراً وبهتاناً؛ إمّا لقصور في الإدراك أو لاعوجاج في السليقة، وعدم الفهم الصحيح لاُصول الدين وأحكامه.
ويمكننا تقسيم البحث إلى قسمين رئيسين:
الأول: التقية قبل الإسلام.
الثاني: التقية بعد الإسلام.
ذكرنا أن التقية تعود إلى فترة موغلة في القدم وأنها بدأت مع شعور الإنسان بعجزه عن مواجهة الخطر، ولإثبات هذا الأمر نستعرض جملة من النصوص الدينية والتاريخية تؤكد هذه الحقيقة، وسنعتمد فيما نذكر من الأدلة والشواهد على الآيات القرآنية، وعلى ما اُثر من الروايات،والحوادث التاريخية الواردة من طرق الشيعة والسنة حتى لا يبقى مجال للتوهم والإرتياب في حقيقة التقية ثبوتاً وإثباتاً:
إنّ أول جريمة قتل سُفِك فيها الدم الحرام هي الجريمة النكراء التي قتل الأخ فيها أخاه حسداً وعدواناً، وقد تحدّث القرآن الكريم عن تلك الواقعة فقال
ص: 11
تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ)(1).
كما تحدّث التاريخ عن هذا الحدث، وكشفت الروايات عن كثير من ملابساته، وقد نصّت على أن هابيل كان وصياً لآدم (علیه السلام) وبعد شهادته انتقلت الوصية إلى أخيه شيث - وتفسيره هبة الله(2) - ، وكان هذا الأخير أول من مارس التقية خوفاً من بطش قابيل وعدوانه.
روى القطب الراوندي في قصص الأنبياء بإسناده عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن قابيل أتى هبة الله (علیه السلام) فقال له: إن أبي قد أعطاك العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك وأحق به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب علي فآثرك بذلك العلم عليّ، وإنك والله إن ذكرت شيئاً مما عندك من العلم الذي ورثك أبوك لتكبر به عليّ وتفتخر عليّ لأقتلنّك كما قتلت أخاك، فاستخفى هبة الله بما كان عنده من العلم لتنقضي دولة قابيل، ولذلك يسعنا في قومنا التقية لأن لنا في ابن آدم أسوة(3).
ورواها صاحب البحار عن قصص الأنبياء بسند صحيح إلى هشام بن الحكم وفيها: فحدّث هبة الله بالميثاق سراً، فجرت السنة والله بالوصية من هبة الله في ولده يتوارثونها عالم بعد عالم، فكانوا يفتحون الوصية كلسنة يوماً . الحديث(4)
ص: 12
وفي رواية اُخرى عن قصص الأنبياء أيضاً بإسناده عن زرارة مثله، وزاد فيه: ثمّ قال أبو عبد الله بيده إلى فمه فأمسكه، يعلمنا أي هكذا أنا ساكت، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة معشر شيعتنا فتمكّنوا عدوكم من رقابكم فتكونوا عبيداً لهم بعد إذ أنتم أربابهم وساداتهم، فإن في التقية منهم لكم ردّاً عما قد أصبحوا فيه من الفضائح بأعمالهم الخبيثة علانية، وما يرون منكم من تورعكم عن المحارم وتنزهكم عن الأشربة السوء والمعاصي وكثرة الحج والصلاة وترك كلامهم...(1).
وجاء في كتاب مختصر بصائر الدرجات بسند صحيح إلى هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: أوصى آدم إلى هابيل فحسده قابيل فقتله، ووهب الله له هبة الله وأمره أن يوصي إليه وأن يسرّ ذلك، فجرت السنة في ذلك بالكتمان والوصية، فأوصى إليه وأسر ذلك، فقال قابيل لهبة الله: إني قد علمت أن أباك قد أوصى إليك، وأنا اُعطي الله عهداً لئن أظهرت ذلك أو تكلمت لأقتلنك كما قتلت أخاك (2)
ونقل في كتابه المحتضر عن كتاب الشفاء والجلاء بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قصة آدم مفصلة، إلى أن قال: أوحى الله إليه (آدم): قد انقضت نبوتك وفنيت أيامك، فانظر إلى اسم الله الأعظم وما علّمتك من الأسماء كلها وأثرة النبوة وما تحتاج الناس إليه فادفعه إلى شيث، وأمره أن يقبله بكتمان وتقية عن أخيه لئلاّ يقتله كما قتل هابيل، فإنه سبق في علمي أن لا أخلي الأرض من عالم يعرف به ديني ويكون فيه نجاة لمن تولاه فيما بينه وبين العالم الذي آمره بإظهار ديني ... فأقبل قابيل على شيث وقال له: أين الذي دفعه إليك أبوك مما كان دفعه إلى هابيل؟ فأنكر ذلك وعلم أنّه إن أقرّ قتله، فلم يزل شيث يخبر
ص: 13
العقب من ذريته ويبشرهم ببعثة نوح ويأمرهم بالكتمان ...(1)
ونستفيد من هذه النصوص أنّ التقية وليدة العجز عن مقاومة الظالم أو اقتضاء المصلحة عدم مقاومته، وأنها أمر فطري مركوز في نفس الإنسان فإن التواصي بالكتمان، وفي التهديد بالقتل، وفي إنكار شيث أن يكون عنده شيء من الإرث، شواهد على أن حفظ الحق عن غير أهله،والإبقاء على النفس وحمايتها من شر المعتدي قد يقتضي مسايرة الظالم وإظهار موافقته وإن انعقد القلب على خلافه، وهذه سنة جرى عليها الأنبياء والأولياء والمصلحون، فقد روى الصدوق بسند معتبر عن أبي حمزة الثمالي - في رواية مفصلة - جاء فيها: فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة حتى بعث نوح ... وكذلك جرى حتى بعث الله تبارك وتعالى محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) ... وكان ما بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ولذلك خفي ذكرهم في القرآن ... وكان بين نوح وهود الأنبياء مستخفين ومستعلنين ... فجرى بين كل نبي ونبي عشرة آباء وتسعة آباء وثمانية آباء كلهم أنبياء، وجرى لكل نبي ما جرى لنوح، وكما جرى لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيم حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب ... ثمّ أرسل عيسى إلى بني إسرائيل خاصة فكانت نبوّته ببيت المقدس، وكان من بعده من الحواريين اثنا عشر، فلم يزل الإيمان يستتر في بقية أهله منذ رفع الله عزوجل عيسى وأرسل الله عزوجل محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الجن والإنس الحديث(2)
وروى الطبري في تاريخه هذا المعنى فقال: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو داود عن يعقوب عن جعفر بن سعيد ... وذكر أن آدم (علیه السلام) مرض قبل موته أحد عشر يوماً، وأوصى إلى ابنه شيث (علیه السلام) وكتب وصيته، ثمّ دفع كتاب وصيّته
ص: 14
إلى شيث، وأمره أن يخفيه عن قابيل وولده لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسداً منه حين خصّه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به(1)
ونقله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الأمم والملوك(2)
وقال ابن الأثير في الكامل: ذكر أن آدم مرض أحد عشر يوماً وأوصى إلى ابنه شيث، وأمره أن يُخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسداً منه له حين خصّه آدم بالعلم، فأخفى شيث وولده ما عندهممن العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به(3)
وفي ذلك دلالة على أن ممارسة التقية أمر خاضع للظروف الدائرة بين المد والجزر والشدة والضعف، ولذلك كان الاستخفاء من بعض الأنبياء والاستعلان من آخرين.
إن خليل الرحمن وهو بطل التوحيد - الذي وقف يقارع الشرك ويفنّد مزاعم المشركين، كما أشار القرآن الكريم إلى بعض مواقفه العظيمة في جهاده ضد الكفر والكافرين حتى ضاق به قومه ذرعاً فتآمروا على إحراقه بالنار: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل
ص: 15
رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)(1) - قد واجه في حياته من القضايا ما دفعه إلى التقية، إبقاء على حياته ودينه.
روى البخاري - بعدة طرق - قال: لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقال: بينا ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل: إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه وسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: اُختي فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك اُختي فلا تكذّبيني...(2).
وأوردها الثعلبي في قصصه وجاء فيه: إنه تخوّف إن قال: هي امرأتي أن يقتله(3)، ورواها ابن كثير في قصص الأنبياء(4) ، ونقلها الطبري في تاريخه(5) ،
ص: 16
وذكر نحوها أبو الفرج ابن الجوزي في المنتظم(1)
وقال الطبري في تاريخه أيضاً : ... ثمّ خرج إبراهيم مهاجراً إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجراً، وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربّه حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى، وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال فكانت لا تعصي إبراهيم شيئاً وبذلك أكرمها الله عزوجل، فلما وصفت لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل إلى إبراهيم فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي، وتخوّف إبراهيم إن قال: هي امرأتي أن يقتله عنها، فقال لإبراهيم: زيّنها ثمّ أرسلها إليّ حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة وأمرها فتهيّأت ثمّ أرسلها إليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت إليه تناولها بيده فيبست إلى صدره ...(2)
وقد جاء في روايات أهل البيت (علیهم السلام) الإشارة إلى ذلك، فقد روى صاحب الوسائل في صحيحة أبي بصير، قال أبو عبد الله (علیه السلام): التقية من دين الله قلت: من دين الله !! قال: إي والله من دين الله، ولقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا شيئاً، ولقد قال إبراهيم: إني سقيم، والله ما كان سقيماً(3)
ويمكن تفسير ما ورد على لسان إبراهيم (علیه السلام) من قوله: إني سقيم وقوله:بل فعله كبيرهم وهكذا بالنسبة إلى قصة سارة بالتقية، فإنه أخفى دينه وعقيدته وحفظ نفسه بذلك وإن كان في صورة الإخبار بخلاف الواقع، وأما بالنسبة إلى
ص: 17
يوسف فتفسير قوله: أيتها العير إنكم لسارقون بالتقية غير واضح وسيأتي بعض التوضيح، نعم روى الثعلبي عن كعب قال: (يوسف) لا يمكنني حبسك إلاّ باشتهارك بأمر فظيع، فقال: لا أبالي إفعل ما تريد، فقال يوسف: أن أدس صاعي هذا في رحلك، ثمّ أنادي عليكم بالسرقة ليتهيّأ لي ردّك بعد تسريحك قال: افعل ...(1)
وروى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن سفيان بن سعيد قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ' يقول: عليك بالتقية، فإنها سنة إبراهيم الخليل، (إلى أن قال:) وإن رسول الله إذا أراد سفراً دارى بغيره، وقال -: أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض، ولقد ادّبه الله عزوجل بالتقية فقال: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(2).
وهذه الرواية وإن جاءت بسند ضعيف إلاّ أن فيها تأييداً لما نحن فيه.
فإذا كانت التقية سنة إبراهيم الخليل وهو أحد اُولي العزم - في مواطن الخوف والدفاع عن النفس - فما ظنك بغيره من سائر الناس؟ الأمر الذي يؤكد أن موضوع التقية يستوي فيه جميع بني البشر عند حدوث دواعيه.
ونبي الله يوسف (علیه السلام) قد مارس التقية وهو في أوج عزه وسلطانه وقد اُوتي الجمال والعلم والكمال وأصبح الآمر الناهي في دولة الفراعنة و (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(3) وقد مني بحسد إخوته وابتلي بمحن شديدة كان السجن أحب إليه وأهون مما لاقاه، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك
ص: 18
وأشارت إلى ذلك عدة من النصوص، ومنها ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر يقول: لا خير فيمن لا تقية له: ولقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون وما سرقوا(1)
وفي رواية اُخرى - في سندها جعفر بن محمّد بن مسعود - عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: التقية من دين الله، قلت: من دين الله !! قال: إي والله من دين الله لقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا شيئاً(2).
وذكرنا آنفاً رواية اُخرى تشير إلى هذا المعنى أيضاً، كما ذكرنا ما أورده الثعلبي وقلنا: إنّ وجه التقية في ذلك غير واضح.
ولكن من المحتمل أنّ يوسف (علیه السلام) لم يكن قادراً على إبقاء أخيه عنده بغير هذا التدبير، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله)(3) ، وكان يوسف (علیه السلام) آنذاك تحت قدرة الملك وسلطانه ودينه، غير أنّه بحكمته (علیه السلام) وحسن سلوكه وتدبيره استطاع أن يجعل الملك - بعد ذلك - يتراجع عن دينه ويعتنق دين يوسف (علیه السلام) ويقرّ بنبوّته ويسير بسيرته في الناس وأصبح يوسف (علیه السلام) الآمر الناهي والسيد المطاع، وقد ورد هذا المعنى في بعض النصوص، روى الطبرسي ! بسنده الصحيح عن الحسن بن علي بن بنت إلياس (الوشاء) قال: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: وأقبل على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن، فلما مضت تلك السنون وأقبلت المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلاّ صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا
ص: 19
جوهر إلاّ صار في مملكته ... وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلاّ صار عبد يوسف فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم، وقال الناس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطاه هذا الملك حكماً وعلماً وتدبيراً.
ثم قال يوسف للملك: أيها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر وأهلها، أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء لأكون بلاءً عليهم، ولكن الله تعالى أنجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: إني اُشهد الله واُشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي ولا تحكم إلاّبحكمي، قال له الملك: ذلك لزيني وفخري أن لا أسير إلاّ بسيرتك ولا أحكم إلاّ بحكمك، ولولاك ما قويت عليه، ولا اهتديت له، ولقد جعلتك سلطاناً عزيزاً لا يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّك رسوله، فأقم على ما ولّيتك فإنك لدينا مكين أمين(1)
لقد تحدث القرآن الكريم في العديد من الآيات عن موسى (علیه السلام) وعن مواقفه الشجاعة في مواجهة فرعون، وأشاد بمقامه وفضّله على كثير من الرسل حيث اختصه بكلامه (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ...)(2)، إلاّ أنّه مع ذلك قد مارس التقية في بعض أدوار حياته في تبليغه الرسالة للناس وقد فسر ما ورد في الآيات التي ذكرت خوفه بأنه لم يكن يخاف على نفسه من القتل والإيذاء، وإنما كان يخاف من غلبة الباطل على الحق، وكان يتوارى
ص: 20
ويترقب لئلاّ يؤخذ ويقتل فيضيع الحق بقتله، وكان يجري في اُموره على مقتضى السنن الطبيعية كما هو شأن سائر الأنبياء، فإنهم لا يلجأون إلى الوسائل الغيبية والإعجازية إلاّ في ظروف معينة مذكورة في محلها من علم الكلام.
ومما يدلّ على أن موسى (علیه السلام) قد مارس التقية ما ورد في صحيحة أبي حمزة الثمالي (وقد تقدم شطر منها) وجاء فيها: إنّ الله عزوجل قال لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) يقول الله عزوجل: كنيّاه وقولا له: يا أبا مصعب(1) الحديث.
فالموقف اقتضى الملاينة في القول، لا إعلان الحرب عليه مع أن فرعون كان في أوج طغيانه.
والمستفاد من الآية الكريمة أن التقية مع فرعون مداراتية لا خوفية ويراد بها ترقيق القلب وتليينه، هذا بالنسبة إلى موسى (علیه السلام) .
وأما بالنسبة إلى أصحاب موسى (علیه السلام) فقد أشار القرآن الكريم إلى أن زمان فرعون كان زمان رهبة وبطش وقهر، ولم يكن الناس آمنين فيهعلى أرواحهم وأعراضهم (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ)(2) وتمادى فرعون في غيّه وضلاله: (فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى)(3) (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ)(4) ، وكان الخوف مهيمناً على الناس، وفي قصة ولادة موسى (علیه السلام) - كما تحدث عنها القرآن الكريم -
ص: 21
ما يكشف عن معاناتهم إلى حد لم يتمكن أحد من البوح بما في نفسه فضلاً عن إظهار المخالفة، فلما ظهر موسى بدعوته آمن به من آمن وكان إيمانهم في طي الكتمان، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء بعض المؤمنين واشار القرآن إلى بعضهم فمنهم:
كما تحدث عنه القرآن: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)(1) وذكر ابن كثير في قصصه: (أن هذا الرجل هو ابن عم فرعون وكان يكتم إيمانه من قومه خوفاً منهم على نفسه، وزعم بعض الناس أنّه كان إسرائيلياً وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظاً ومعنى)(2) ، واختلف في اسمه فقيل: شمعان، قال الدارقطني: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلاّ مؤمن آل فرعون، حكاه السهيلي، وفي تاريخ الطبراني: أن اسمه خير(3)
والغرض أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه، فلما همّ فرعون بقتل موسى (علیه السلام) وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى فتلطّف في ردّ فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب، فقال على وجه المشورة والرأي: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ...)(4) وقال فرعون في جوابه: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى ...)(5)
وذكر الثعلبي أنّه كان حزقيل وهو من أصحاب فرعون وكان نجاراً، وهو الذي صنع لأم موسى التابوت حين ولدته وألقته في البحر، وقيل: إنه كان خازناً لفرعون قد خزن له مائة سنة، وكان مؤمناً مخلصاً يكتم إيمانه، إلى أن ظهر موسى
ص: 22
على السحرة فأظهر حزقيل أمره(1) وجاء في روايات أهل البيت (علیهم السلام) تشبيه أبي طالب في إيمانه وكتمانه بمؤمن آل فرعون، فقد روى فخار بن معد الموسوي بإسناده عن ابن بابويه عن محمّد بن القاسم المفسر عن يوسف بن محمّد بن زياد عن العسكري (علیه السلام) في حديث قال: إن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه(2) وسيأتي تشبيهه بأصحاب الكهف كما سيأتي الحديث - مفصلاً - عن أبي طالب (علیه السلام) .
وجاء في تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين أبداً، علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون، وعليّ أفضلهم(3)
وقد روى السيوطي في الدرّ المنثور روايات قريبة من هذا المضمون(4).
وكانت مؤمنة من إماء الله الصالحات، إلاّ أنها كانت مع بنات فرعون تخدمهن، ولها في إيمانها قصة معروفة ذكرها الثعلبي في قصص الأنبياء(5)
وهي امرأة فرعون (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِيمِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(6)، وقد جاء في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أنّها من زوجات النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)
ص: 23
في الجنة(1)
وقال الثعلبي: إن امرأة فرعون آسية، كانت من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة مخلصة، وكانت تعبد الله سراً حتى إنها كانت لتتعلّل في قضاء حاجتها فتبرز فتصلي يومها في مبرزها خوفاً من فرعون، وكانت على تلك الحالة إلى أن قتل فرعون امرأة حزقيل ...(2)
فقد ذكر المؤرخون أنّ الملك لاجب وامرأته اربيل، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم، وهي تبرز للناس كما يبرز زوجها، وتركب كما يركب، وتجلس كما يجلس في مجلس القضاء، وتقضي بين الناس، وكانت قتّالة للأنبياء، وكان لها كانت مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلّص من بين يديها ثلاثمائة نبي كانت تريد قتلهم(3)
الذي صحبه موسى (علیه السلام) كما تحدث القرآن عنه (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(4) واختلف في أنّه لا زال حياً وعلى ذلك كثير من الروايات، وذهب آخرون إلى أنّه توفي، وقد كان له من التقية نصيب، فقد جاء في قصص الأنبياء: أنّه كان ابن الملك فسلمه إلى المؤدب يؤدبه، وكان يختلف إليه، وكان بين منزله ومؤدبه رجل عابد كان يمرّ به فأعجبه حاله فألفه، وكان يجلس عنده والمعلم يظنّ أنّه في المنزل
ص: 24
وأبوه يظن أنّه عند المعلم حتى شبّ ونشأ فزوجه ... فقال لها: أنا مخبرك بأمر إن أنت سمعته صرف الله عنك شرّ الدنيا وعذاب الآخرة ... قال: إني رجل مسلم لست على دين أبي وليست النساء من حاجتي ...(1)
وقال ابن كثير: وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي: أن الخضر وإلياس كانا أخوين، كان أبوهما ملكاً، فقال إلياس لأبيه: إن أخيالخضر لا رغبة له في الملك فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك له، فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء، فإن شئت أطلقت سراحك وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عزوجل وتكتمين عليّ سرّي فقالت: نعم وأقامت معه سنة ...(2)
هذا ولا يبعد أن يكون هناك آخرون آمنوا بالله وبموسى وكتموا إيمانهم وعاشوا بالتقية آنذاك ولم تصل إلينا أنباؤهم.
تحدّث القرآن الكريم عن أصحاب الكهف فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (3) وأشار إلى ما لاقاه هؤلاء في حياتهم، وأن الله تعالى أرجعهم إلى الحياة بعد أن أماتهم مدة من الزمن بلغت أكثر من ثلاثمائة سنة. ويستفاد من قوله تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)(4) ، أنهم آمنوا بالله أولاً وربط الله على قلوبهم، ثمّ قاموا في مجلس الملك أو فيما بينهم وأعلنوا إيمانهم، وقد كشفت
ص: 25
روايات الخاصة والعامة عن بعض التفاصيل التي أشار إليها القرآن حول أصحاب الكهف، فمن الخاصة ما جاء في موثقة درست الواسطي قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف أن كانوا يشهدون الأعياد ويشدّون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين(1)
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه ذكر أصحاب الكهف، فقال: لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم، فقيل: وما كلّفهم قومهم؟ فقال: كلّفوهم الشرك بالله العظيم، فأظهروا الشرك وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج ...(2)
وفي إرشاد القلوب في حديث الجاثليق والأساقفة مع أبي بكر ثمّ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ... فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وكونوا في أهل ملتكم كأصحاب الكهف، وإيّاكم أن تفشوا أمركم إلى أهل أو ولد أوحميم أو قريب، فإن دين الله عزوجل الذي أوجب له التقية لأوليائه الحديث(3)
وروى الكاهلي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، وكانوا على إجهار الكفر أعظم أجراً منهم على إسرار الإيمان(4)
وفي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم أجرهم مرتين(5)
وروى فخار بن معد الموسوي في كتابه (الحجة على الذاهب) بسنده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث إن جبرئيل نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا محمّد إنّ ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: إن أصحاب الكهف
ص: 26
أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله بالجنة(1)
ونقل الطبرسي في مجمع البيان اختلاف الأقوال في أحوالهم فقال: وقالوا: هؤلاء الفتية قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون الإسلام خوفاً من ملكهم، وكان اسم الملك دقيانوس واسم مدينتهم افسوس، وكان ملكهم يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من خالفه، وقيل: إنه كان مجوسياً يدعو إلى دين المجوس والفتية كانوا على دين المسيح لما برح أهل الإنجيل، وقيل: كانوا من خواص الملك، وكان يسرّ كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه، ثمّ اتفق أنهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم فأووا إلى الكهف، عن عبيد بن عمير، وقيل: إنهم كانوا قبل بعث عيسى(علیه السلام) (2)
وأما ما ورد عن طريق العامة فقد روى الثعلبي: ... فخرجوا في عيد عظيم في زي وموكب، وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فقذف الله في قلوبهم الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه ...(3)
وفي الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة الضيق نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن ... فقال: (ابن عباس): إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان، وهؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض
ص: 27
لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا، ولا يدري هذا، فأخذوا العهد والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضاً، فإن اجتمعوا على شيء وإلاّ كتم بعضهم بعضاً، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: ربنا رب السموات والأرض ...(1)
ونقل السيوطي في تفسيره ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : أصحاب الكهف أعوان المهدي (2)
لم نقف على شيء من الآثار ينص على أن النبيّ عيسى (علیه السلام) قد مارس التقية إلاّ أنّه ورد أن بعض حواريه قد مارسها، ومنهم صاحب يس، وتختلف الروايات في التعريف بهذه الشخصية ففي بعض الروايات أنّه حبيب النجار أحد سباق الاُمم، فقد روى الثعلبي بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو أفضلهم(3) ، وفي بعضها أنّه شمعون الصفا رأس الحواريين(4) ، وقيل هو سمعان(5) ، وقيل: شلوم(6) ، وأكثر المفسرين على أنّه شمعون الصفا(7)
وقد أشار القرآن الكريم إلى قصة اشتملت على التظاهر بعبادة الأصنام فقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(8)
ص: 28
نقل الطبرسي في تفسيره ... فلما كذِّب الرسولان وضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلد متنكراً، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال له ذات يوم: أيها الملك أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل سمعت قولهما؟ ...(1)
قال: وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیه السلام) (2) وأورد القمي في تفسيره القصة كاملة بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (علیه السلام) وجاء فيها: فبعث الله الثالث، فدخل المدينة فقال: ارشدوني إلى باب الملك، فلما وقف على باب الملك قال: أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض وقد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك فقال: أدخلوه إلى بيت الآلهة، فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه، فقال: بهذا ينقل قوم من دين إلى دين بالحذق (بالحرف)، أفلا رفقتما؟ ثمّ قال لهما: لا تقرّا بمعرفتي، ثمّ أدخل على الملك فقال له: بلغني أنك تعبد إلهي فلم أزل وأنت أخي فاسألني حاجتك ... وفيها أنّ الله تعالى أحيى ابن الملك بدعائهما، وأنّ الملك آمن بالله وآمن أهل مملكته(3)
وقال الثعلبي في قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) : أي فقوينا برسول ثالث، وهو شمعون الصفا رأس الحواريين، إلى أن قال: وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل لدخوله ويصلّي كثيراً ويتضرّع حتى ظنوا أنّه على ملّتهم(4)
ص: 29
هذا بعض ما وقفنا عليه مما ورد في التقية قبل الإسلام كما جاء في القرآن الكريم وكتب التفسير والتاريخ وروايات الشيعة والسنة، وليس الغرض من حشد هذا الكم من النصوص والشواهد التاريخية إلاّ التنبيه على أن التقية أمر ثابت في الشرائع السماوية السابقة، كما هو ثابت في شريعة الإسلام، وأنها أمر فطري وعلاج مؤقت يلجأ إليه الإنسان عندالحاجة دفاعاً عن نفسه وحفاظاً على معتقده واتقاء لشر الظالمين كما أنها قد تكون إحدى وسائل البلاغ، بل التقية هي إحدى السمات البارزة في حياة الصفوة من البشر وهم الأنبياء، كما لاحظنا من خلال ما ذكرناه من سيرة شيث وإبراهيم ويوسف وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والأولياء.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في تفسير العسكري (علیه السلام) قال الحسن بن علي ': قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن الأنبياء إنما فضلهم على خلقه أجمعين بشدة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله(1)
وسيوافيك - أيها القارىء العزيز - من أمر التقية ما يكتمل به عقدها ويتسق به نظامها فانتظر وكن معي ولن يطول الانتظار.
والبحث فيها يتسع للكثير من القول إلاّ أنّه لما كانت التقية من الاُمور الفطرية - كما ذكرنا - وهي لا تخضع لزمان معيّن إلاّ زمان الداعي إليها، فإنها تابعة للظرف الذي يقتضيها، وحيث إنّنا في صدد البحث التاريخي للتقية فإعطاء الملامح والشواهد التاريخية لهذا الأمر يقتضي مراعاة المراحل الزمنية المختلفة وعلاقتها بالتقية، ومن خلال ذلك نستطيع تصنيف البحث حول التقية بعد الإسلام إلى مرحلتين
ص: 30
زمنيتين مختلفتين الاُولى: التقية في زمان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، والثانية: التقية بعد زمانه -.
ذكر في تاريخ تلك الحقبة أن الإسلام بدأ غريباً، ولم تكن نفوس الناس آنذاك - إلاّ القليل - مهيأة للاستضاءة بنور تعاليم الدين الجديد، فقد كانوا فريسة الأوهام والخرافات والضلالات، وقد أشار القرآن الكريم إلى المعاناة التي قاساها النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لينقذ الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1)، (وَأَلَّفَ بَيْنَقُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)(2)، (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (3) ، ثمّ إن من خصائص تعاليم النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أنها جاءت لترفع من كرامة الإنسان، وتضع عنه الأغلال التي كبل بها عقله ونفسه، وتجعل جميع بني البشر على قدم المساواة، وإن كان ثمة من تفاوت فإنما هو بما يكتسبه الإنسان من الفضائل والكمالات: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(4) وكان ذلك نذيراً للإطاحة بسلطان الجبابرة والظالمين الذين كانوا يعيشون على دماء المستضعفين من الفقراء والعبيد وغيرهم ممن لا حول لهم ولا قوة، فما كان من هؤلاء الذين لا يملكون إلاّ السيادة الوهمية التي قامت على أشلاء الضعفاء والمساكين إلاّ مقاومة هذه الرسالة الجديدة التي جاءت تهدد مصالحهم، لذلك بدأ الإسلام غريباً.
ص: 31
ولمّا كانت هذه الرسالة هي الخاتمة فلابد من معالجة مختلف القضايا بحكمة ورويّة لكسب الموقف لصالح الإسلام في أيامه الاُولى، فكانت المواقف البطولية الشجاعة التي وقفها من آمن بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وبدعوته، وفي طليعة هؤلاء شيخ الأباطح أبو طالب (علیه السلام) .
إنّ ممّا مني به تاريخ المسلمين أن تحكّمت فيه الأهواء والرؤى الضيقة، وسيطرت شهوات النفس وحب الدنيا على بعض كتابه طمعاً في حفنة من دراهم، أو تزلّفاً لظالم، أو إرضاء لحقد وعداء، وكان من جرّاء ذلك أن أصبح بعض تاريخ المسلمين المكتوب موضع ريب أو توقف.
إن عنصر الأمانة المفتقد في كتابة التاريخ - وهو عنصر أساس - أدّى إلى تلبيس وتدليس في صياغة الأحداث، فأشاد بمن لا يستحق الذكر، وأغفل - عن عمد - ذكر من يستحق التخليد والإكبار. وكان أحد ضحايا هؤلاء المؤرخين أبا طالب فقد نسب إليه زوراً وبهتاناً أنّه مات وهو من المشركين، وكان في هذه الفرية تطاولٌ على كرامة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ومساس بمقام النبوة الأقدس من حيث لا يشعرون.
إن أبا طالب في شخصيته وعظمته ومواقفه البطولية صفحة بيضاءفي تاريخ الإسلام، وإن له الشرف العظيم في حماية الإسلام بحماية النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من كيد قريش الذين خانهم سوء الحظ والفهم والتقدير فاجتمعت كلمتهم على قتل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والقضاء على دعوته.
وما كان ذلك (شرف حماية الإسلام بحماية النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)) ليكون لولا إيمانه العميق بالله تعالى ويقينه الصادق بدعوة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كيف لا وهو القائل يخاطب
ص: 32
النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم):
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثمّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمد *** من خير أديان البريّة دينا(1)
لم يكن أبو طالب أغنى بني هاشم وأكثرهم مالاً ليكون النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في حمايته، وما كان لتحركه العصبية القبلية لحماية ابن أخيه، بيد أنّه كان المؤمن الصادق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ولذاك تفانى في حب النبيّ ورعايته وخدمته وكان يوصي أبناءه بذلك.
إنّ المتيقّن من سيرة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السلام) أنهم ما كانوا ليحابون أحداً على حساب الدين، وشاهده أنهم يبرؤن من كل مشرك لم يؤمن بالله وبالرسول ولو كان من أقرب الناس إليهم وهذا أبو لهب - وهو عم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) - ينزل فيه قرآن يُتلى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (2) إخباراً من الله تعالى بأنه لن يؤمن وأن مصيره بئس المصير (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ) (3) وأمّا أبو طالب فقد شهد النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) - كما سيأتي - بإيمانه وأن الله أتاه أجره مرتين حيث بذل وجوده في خدمة نبي الإسلام بل والدعوة إلى الإسلام(4) :
ص: 33
ولولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدين شخصاً فقاما
فهذا بمكة آوى وحامى *** وهذا بيثرب جسّ الحماما(1)
ولم يكن ليتسنى لأبي طالب حماية النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو في مجتمع الوحوش إلاّ أن يسلك طريقاً يضمن من خلاله أن يوفر الحماية الكاملة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من أناس يتربصون به الدوائر لزعمهم أنّه جاء يسفه أحلامهم ويسخر بآلهتهم، فكان السبيل الأقوم والطريقة المثلى لأبي طالب أن يتقي من قومه.
وأما رميه بالكفر وأنه مات على الشرك فهي «شنشنة أعرفها من أخزم» ولنضرب عنها صفحاً ونكتفي بالإشارة إلى أن أبا طالب (علیه السلام) لو لم يكن أباً لعلي (علیه السلام) لكان سيداً من سادات المسلمين ومن السابقين الأولين بلا منازع.
وأما الأدلة على إيمان أبي طالب فنحن وإن كنا في غنى عن ذكرها ويكفينا الوقوف على سيرته وأقواله وأفعاله إلاّ أننا نذكر بعضها رغبة في إظهار الحق وتفنيداً لمزاعم المغرضين، وأداءاً لبعض حقوق أبي طالب (علیه السلام) علينا فنقول:
استدلّ على إيمان أبي طالب باُمور:
أولها: الإجماع على إيمانه، وقد ادعاه الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والطبرسي والسيد فخار بن معد الموسوي والفتال النيسابوري والسيد ابن طاووس والعلامة المجلسي وغيرهم(2) ، ونقل ابن أبي الحديد إجماع الشيعة وأكثر الزيدية وجملة من أعاظم المعتزلة على ذلك(3)
وثانيها: الروايات وقد تقدم بعضها وأنه شبيه مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف وأنّ الله أتاه أجره مرتين.
وممّا ورد أيضاً ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول
ص: 34
الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) ؟ فشرح - ولادته، إلى أن قال: ثمّ انصرف أبو طالب إلى مكة، قال جابر: يا رسول الله، الله أكبر !! إن الناس يقولون إن أبا طالب مات كافراً !!! قال: يا جابر الله أعلم بالغيب، لما كانت الليلة التي اُسري بي فيها إلى السماء انتهيت إلى العرش، فرأيت أربعة أنوار فقلت: إلهي ما هذه الأنوار؟ فقال: يا محمّد هذا عبد المطلب، وهذا أبو طالب، وهذا أبوك عبد الله، وهذا أخوه طالب، فقلت: إلهيوسيدي فبم نالوا هذه الدرجة؟ قال: بكتمانهم الإيمان وإظهارهم الكفر وصبرهم على ذلك حتى ماتوا(1)
وروى الكراجكي في كنز الفوائد بسنده عن مفضّل بن عمر عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام): أنّه كان جالساً في الرحبة، والناس حوله، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله، وأبوك معذب بالنار !! فقال له: مه، فضّ الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله، أأبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفي أنوار الخلائق إلاّ خمسة أنوار، نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ونور ولده من الأئمة إلاّ أن نوره من نورنا، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(2)
وروى السيد فخار بن معد الموسوي بسنده عن أبي بصير ليث المرادي قال: قلت لأبي جعفر: سيدي إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فقال (علیه السلام): كذبوا والله، إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم، ثمّ قال: كان والله أمير المؤمنين يأمر أن يحج عن أب النبيّ واُمه، وعن أبي طالب، أيام
ص: 35
حياته، ولقد أوصى في وصيته بالحج عنهم بعد مماته(1)
وروى الكراجكي بإسناده عن يونس بن نباتة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها رأسه، فقال: كذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً(2)
وروى أيضاً بإسناده عن أبان بن محمّد قال: كتبت إلى الإمام الرضا علي بن موسى ': جعلت فداك قد شككت في إيمان أبي طالب، قال: فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فمن يبتغ غير سبيل المؤمنين نولّهما تولى، إنك إن لم تقرّ بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(3)
وأما الروايات الواردة من طرق العامة فقد استقصاها العلامة الأميني في الجزء السابع من كتابه الغدير فراجع.
ثالثها: إن من الثابت في شريعة الإسلام - كما هو مقرّر في محلّه من كتب الفقه - عدم جواز نكاح الكافر من المرأة المسلمة، ولذا فرّق الإسلام بين زينب وبين أبي العاص بن ربيعة حين أسلمت إلى أن أسلم أبو العاص فردها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) إليه بنكاح جديد أو بالنكاح الأول(4) ، ولاشك أن فاطمة بنت أسد من السابقات وهي أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبرّ الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (5) ، ولما ماتت جاء أمير
ص: 36
المؤمنين (علیه السلام) إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يبكي، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) : ما يبكيك؟ فقال: ماتت أمي فاطمة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : أمي والله، وقام - مسرعاً حتى دخل فنظر إليها وبكى، وفعل النبيّ أشياء معها لم يفعلها مع أحد من قبل، وسأله المسلمون عن ذلك فقال: اليوم فقدت برّ أبي طالب، إن كانت لتكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها ...(1)
فإذا كانت فاطمة بنت أسد بهذه المثابة من الإيمان، وبهذا المقام عند النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فكيف يبقيها في عصمة أبي طالب لو كان كافراً ؟! وهل يتصور في حق النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أن يعطل حكماً من أحكام الإسلام !؟
وبهذا استدل الإمام زين العابدين (علیه السلام) فقد جاء في رواية أبي علي الموضح قال: تواترت الأخبار بهذه الرواية وغيرها عن علي بن الحسين أنّه سئل عن أبي طالب أكان مؤمناً؟ فقال: نعم، فقيل له: إن هاهنا قوماً يزعمون أنّه كافر! فقال (علیه السلام): واعجباه أيطعنون على أبي طالب، أو على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) !! وقد نهاه الله أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولايشك أحد أن بنت أسد من المؤمنات السابقات، وإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه(2)
هذا ومما يؤيد أن إيمان أبي طالب (علیه السلام) حقيقة ثابتة لا يتطرق إليها ريب أمران:
الأول: شهادة أبي بكر نفسه بإسلام أبي طالب (علیه السلام) ، فقد ذكر المؤرخون أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى،
ص: 37
فقال رسول الله: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه ! فقال: أردت يا رسول الله أن يأجره الله ! أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي ...(1)
الثاني: ما استنتجه الكاتب المصري عبد الفتاح عبد المقصود من خلال عرضه لصورة من صور بغي معاوية بن أبي سفيان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) ، حيث قال: إن سياسة ابن هند كما هو معلوم، وكما هي سياسة مثله من البغاة الطغاة، كانت تقوم على تزييف الحقائق، وابتداع الادعاءات، ثمّ ترديد ما زيف وابتدع ترديداً يضمن لزوره أن يظل دائماً - كوسوسة الشيطان الخنّاس - يملأ الأسماع، ويحشو الأرواع، ويلتوى بالأذهان فينال من قدر علي ويمسخ صورته في مدارك الناس فبذلك وحده يلتوي بالحق باطله، ويبدو - وإنه لظالم ! - كأنه مظلوم ! ... ولقد ركب الرجل إلى غرضه هذا كل مطاياه !
وها هي صفحات تاريخه تسربت في تحديثنا بادعاءاته على الإمام، وبفراه الغالية في البهتان، وبقدحه في بنيه وذويه، وبخوضه بالباطل في سير صحابته الأبرار، فأي نصيب كان نصيب «أبي طالب» من هذه الأراجيف(2)
ومن جانب آخر كان أبو الحسن (علیه السلام) في منتهى الصراحة في كشف واقع ابن أبي سفيان وأسلافه ومصيرهم المنتظر، وأنهم أحقر من أن يُقرنوا ببني هاشم، وقد استعرض الكاتب مقاطع من المكاتبات التي دارتبين الإمام (علیه السلام) وبين معاوية وكان من بينها قول الإمام (علیه السلام) في جوابه على كتاب لمعاوية: وأما قولك: إنا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصّريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار
ص: 38
جهنم(1)
«ولم نسمع معاوية يرد هذا الاتهام، ولا رأيناه يحاول الكيل لعلي صاعاً بصاع، فيخوض في إيمان أبي طالب زاعماً أنّه مات على غير الإسلام لو وسعه لفعل فأفحش في القول، وأوفى الكيل ... فأمّا وقد كف ادعاءه، وابتلع خيلاءه، فذلك لأنه لم يكن يملك في إيمان أبي طالب اثارة شبهة أو دليل ينفد من خلالها إلى نقض هذا الإيمان، سواء أكانت هذه الاثارة رأي شانىء معاصر عايش شيخ بني عبد مناف، أم رواية لاحق آثر الانحراف.
ولمن يشاء أن يحاج في هذا الذي نراه، فليأتنا من رسائل ابن أبي سفيان إلى الإمام، أو في أحاديثه التي ملأ بها آذان مناصريه، بكلمة تشير من قريب أو من بعيد، إلى ما يخدش إيمان أبي طالب وينال من صدق إسلامه»(2).
ذكرنا فيما تقدم إجماع الشيعة على إيمان أبي طالب (علیه السلام) ونكتفي هنا بذكر أقوال بعض علماء السنة تأييداً لهذه الحقيقة فمن ذلك:
1 - قال ابن الأثير في جامع الاُصول: وما أسلم من أعمام النبيّ غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت (علیهم السلام) (3)
2 - وقال البرزنجي بعد استشهاده بأبيات أبي طالب واثبات إيمانه:
وهذا نطق بالوحي قبل صدوره من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فإنه أخبر بذلك بعد مدة من قول أبي طالب، والحديث وحي كالقرآن، فثبت بهذه الأخبار والأشعار أن أبا طالب كان مصدقاً بنبوة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وذلك كاف في نجاته(4)
ص: 39
وقال: فمن وقف على ما ذكره العلماء في ترجمته علم يقيناً أنّه كان على التوحيد، وهكذا بقية آبائه إلى آدم، وبهذا يعلم أن قول أبي طالب هو على ملة عبد المطلب إشارة إلى أنّه على التوحيد ومكارم الأخلاق، ولو لم يصدر من أبي طالب من الاشارات الدالة على توحيده إلاّ قوله: وهو على ملة عبد المطلب كان ذلك كافياً(1)
3 - وقال التلمساني في حاشيته على الشفاء عند ذكر أبي طالب: لا ينبغي أن يذكر إلاّ بحماية النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) لأنّه حماه ونصره بقوله وفعله، وفي ذكره بمكروه أذية للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومؤذي النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كافر، والكافر يقتل(2)
4 - وقال أبو طاهر: من أبغض أبا طالب فهو كافر(3)
هذا ومن شاء الوقوف على المزيد من الأقوال فليرجع إلى الجزء السابع من الغدير وإلى كتاب منية الراغب في إيمان أبي طالب وكتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب.
ثم إنّ هناك جوانب اُخرى في حياة أبي طالب (علیه السلام) جديرة بالإكبار إلاّ أن لها مقاماً آخر.
وخلاصة القول إن إيمان أبي طالب حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها إلاّ مريض القلب والإيمان.
وهو أحد السابقين الأولين، ومن الذين واكبوا مسيرة الإسلام منذ أيامها الاُولى مع النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وختم حياته شهيداً في معركة الحق والباطل يوم صفين.
ص: 40
وبلغ من المقام أن قال فيه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : «عمار جلدة ما بين العين والأنف»(1) بل جعله مقياساً للحق، فقال -: «تقتله الفئة الباغية»(2) الأمر الذي جعل بعضهم ينتظر شهادة عمار ليحدد موقفه يوم صفين(3) ، وقد علّل بعض الكتّاب انصراف الزبير يوم الجمل عن محاربة علي (علیه السلام) بأنهرأى عماراً في صفوف جيش الإمام (علیه السلام) فترك المعركة خوفاً من قتله(4)
وليس غريباً أن يكون عماراً كذلك، بل الغريب أن لا يكون، فهو الذي مُلىء حباً للحق وأهله وبذل حياته في سبيل الحق والدفاع عنه والموت دونه، وقد لاقى من الشدائد والمحن ما اضطره إلى إعلان كلمة الكفر.
قال الزمخشري في كشافه بعد قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ): روي أن اُناساً من أهل مكة فتنوا، فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من اُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد بالإيمان، منهم عمار بن ياسر وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا، ... فأمّا عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً(5)
وقال المراغي في تفسيره: فمن نطق بكلمة الكفر وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافراً، بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مُليء بالإيمان، وفيه نزلت آية: (... مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ... ) ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم
ص: 41
لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله -: ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة(1)
وقد ورد في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أن ما جاء به عمار بن ياسر هو عين الصواب، ففي موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (علیه السلام) ... والله ما ذلك عليه، وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا(2)
وفي موثقة محمّد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): ما منع ميثم رحمه الله من التقية، فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (3)وهناك روايات اُخرى بهذا المضمون وسيأتي ذكر بعضها في مباحث الكتاب.
قلنا: إن التقية لا تخضع لزمن معين إلاّ أنها اقترنت بعد رحيل النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) باسم أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم إلى يوم الناس هذا، ولا تحصى شواهدها كثرة، حتى أن أغلب الأزمنة التي عاشها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) (4) وشيعتهم كانت على التقية.
والذي نؤكد عليه - بعد كل ما ذكرنا - أن التقية لم تكن وليدة فكرة مذهبية
ص: 42
انبثقت عن الخلاف القائم بين مذاهب المسلمين كما يحلو للبعض أن ينعتها بذلك، وليست هي غطاءً يخفي وراءه تنظيماً سرّياً يهدف إلى هدم الدين وتقويض دعائمه كما يرجف بذلك آخرون أو يحاول الإرجاف، بل هي أمر فطري أكّده القرآن وأيّده البرهان.
وإذا كانت التقية قد اقترنت باسم الشيعة بعد وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فليس لأن الشيعة هي الأساس فيها، وإنما هي إحدى الضحايا التي اضطرتها الظروف العصيبة لممارسة التقية على مرّ الزمان، كنتيجة طبيعية لما لاقاه الشيعة في سبيل الحفاظ على منهجها عبر التاريخ، وهناك عوامل عديدة ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في اقتران التقية باسم الشيعة.
إنّ الشيعة الإماميّة - وهي الفئة المؤمنة - التي انتهجت طريقاً رسمه لها قادتها - الأئمة المعصومون (علیهم السلام) - وكان طريقاً صعباً - أرادت الحفاظ على السير قدماً فيه لتقطعه إلى نهايته، فاستسهلت فيه كل عسير، واسترخصت من أجله كل ثمين، لأن غايته أشرف الغايات، ونهايته أسعد النهايات، وكان لزاماً عليها أن تدفع ضريبة ولائها لأهل البيت الطاهر، وتتحمل في سبيل ذلك كلّ مشقّة وعناء، ولم يكن ذلك نتيجة جبر أو إكراه، بل كان بمحض القناعة والرضا والإرادة، اقتداء بمسيرة أئمةالهدى (علیهم السلام) في سيرتهم واستجابة لنداء القرآن والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).
إن تاريخ الشيعة كما هو حافل بالعطاء في مجالات الفكر والعلم والعمل كذلك هو حافل بالمآسي والآلام، فقد صبّ أعداؤهم عليهم العذاب صبّاً، ولم يألوا جهداً في التنكيل بهم، قتلاً وسجناً وتشريداً، حتى اصطبغت صفحات التاريخ بدمائهم الزاكية، وضاقت بهم غياهب المعتقلات، وشتتوا لا يلجأون إلى مأوى، في محاولات مسعورة من أعدائهم لمحو كل أثر لهم في الوجود، لا لشيء إلاّ لأنّهم قالوا ربنا الله ثمّ استقاموا.
ص: 43
وإنّ الشرارة التي أذكت نارالتقية، وأصبحت بعد ذلك مقترنة بالشيعة بدأت برحيل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ولقائه بالرفيق الأعلى، حينما اُقصي أمير المؤمنين (علیه السلام) عن منصب قيادة الاُمة بالحق ومع الحق وإلى الحق فالتزم الصمت عن المطالبة بحقه إبقاءاً على الدين، وحفاظاً على مبادىء السماء، وإلاّ فقد كان بمقدوره أن يشعلها حرباً لا هوادة فيها - وهو الفارس المهاب - لتكون بعد ذلك فتنة لا ينجو منها أحد، بيد أنّه - وعند تزاحم المقتضيات - آثر السكوت وإن جُهل قدره ومقامه أو سُلب حقه المشروع.
ولم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام) قد خسر في ذلك شيئاً، فما كانت الخلافة لتضيف إلى مقامه شأناً، أو ترفع من قدره مقداراً، فهو علي وكفى به تعريفاً. وإنما وقع الخسران على الناس، حيث حرموا أنفسهم وأضاعوا حظهم، (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)(1) (ويعرف التّالون غبّ ما أسسه الأولون)(2).
وتوالت الأحداث مؤلمة، على علي وأولاد علي، وشيعة علي، وكأنما لم يكن علي أخا الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ونفسه وقرين بضعته وباب مدينة علمه وحامل لوائه، وكأنما لم يكن أولاد علي (علیه السلام) ذريّة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وعترته والقربى الذين أمر الله بمودتهم ومحبتهم(3) ، وكأنما لم يكن شيعة علي (علیه السلام) هم الذين صدّقوا الرسول فيما قال اتّبعوه فيما أمر.
وتمخضت تلك الأحداث المؤلمة عن مصرع علي في محرابه، وقتل أولاده غيلة وصبراً، وتشريد شيعته في الآفاق.
ص: 44
ويحدثنا التاريخ عن فجائع مروعة، لولا أنها وصلت إلينا عن طرق الثقات لكانت ضروباً من الخيال والأساطير (لقد بلغت الاُمور حداً استقرّت فيه قناعة عامة لدى الأكثرية بأن الرافضة ويعنون بهم الشيعة هم من مذهب خارج عن الإسلام، وبالتالي فليس ثمة أيّة حرمة لنفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وعلى أثر هذه القناعة المجحفة والاعتقاد الظالم هدرت دماء مئات الآلاف من الأبرياء حتى بات من الصعب أن تجد بقعة وإن كانت في أطراف العالم الإسلامي لم تلطخ بدماء الشيعة)(1)
ويرسم لنا الإمام الباقر (علیه السلام) صورة عما لاقاه آل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم من الأذى والاضطهاد، قال ابن أبي الحديد: وقد روي أن أبا جعفر محمّد بن علي الباقر ' قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ! إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش، حتى أخرجت الأمر من معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثمّ تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غدر به، وأسلم، ووثب عليه أهل العراق، حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل، ثمّ بايع الحسين (علیه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه ثمّ لم نزل - أهل البيت - نُستَذَل ونُستظام، ونقصَى ونُمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون
ص: 45
الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله، وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (علیه السلام) فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد، قاتل الحسين (علیه السلام) ، ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظِنّة وتهمة، حتى إن الرجل ليقالله: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال له: شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع(1)
ولقد حوت صفحات التاريخ من الأحداث ما يندى له جبين الشرف والإنسانية خجلاً، وإن منها لما تعفّ المروءة حياء من ذكره، وإن منها لما يفتت الأكباد.
وتكاد تتفق كلمة المتسلطين على رقاب الاُمة على مناهضة الشيعة والسعي الحثيث لطمس معالمهم يتوارثه الأجيال جيل بعد جيل.
ومما ينبغي إلفات الأنظار إليه أن الشيعة الإمامية وإن كانت تُعدّ أقلّية - من حيث العدد - بالقياس إلى بعض من عداها، إلاّ أن ذلك لا يعني شيئاً في مقياس تقييم الحقائق والأشخاص، فليست الأقلّية عنصر ضعف في الحجة والبرهان، كما أن الأكثرية ليست دليلاً على الأحقية والصواب، بل قد يكون الأمر على العكس تماماً، وفي النصوص الدينية ما يؤكد هذا المعنى، فقد ورد في العديد من الآيات
ص: 46
القرآنية مدح الأقلّية(1) والثناء عليهم، بينما جاء الذم للأكثرية(2) ، مضافاً إلى أن ما تمخض عن الوقائع والأحداث يؤيد هذه الحقيقة، فإن الأكثرية هي التي حاربت النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وهضمت علياً (علیه السلام) وظلمت الزهراء (علیها السلام) ، وإن الأكثرية هي التي اعتدت على الحسن (علیه السلام) وقتلت الحسين(علیه السلام) ، وإن الأكثرية هي التي شرّدت أهل البيت وأذاقتهم الويلات، وارجع إلى ما سطره التاريخ لتقف على هذه الحقيقة في كل زمان ومكان، وهي أن الأكثرية ما كانت ولن تكون المقياس في التقييم والترجيح.
أقول: إنّ هذا الاتفاق - من قبل الفئات التي أحكمت القبضة على زمام الاُمور - على اتخاذ علي (علیه السلام) وأولاده وشيعته أعداء أدّى إلى اتّباع مختلف الوسائل والأساليب في القهر والبطش والاضطهاد، وعلى مر العصور ابتداء من قضية مالك بن نويرة(3)، وما سبقها، وما أعقبها من أحداث وإلى يومنا هذا.
فممّا يحدثنا به التاريخ في العهد الاُموي: أن معاوية بن أبي سفيان دعا بُسر بن أرطأة وكان قاسي القلب سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده، ولا رحمة، فوجهه إلى اليمن وأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة، حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلاّ بسطت عليهم لسانك، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم منك، وأنك محيط بهم، ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي فمن
ص: 47
أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا.
وسار بسر بن أرطأة حتى دخل المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم ... ثمّ شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق، وبني النجار، وبني سالم، وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنّكم أحاديث كالأمم السالفة ...
وفي طريقه إلى مكة قتل رجالاً، وأخذ أموالاً، حتى إذا دخل مكة أدخل في قلوب أهلها الرعب والخوف، وتركهم متوجهاً بجيشه نحو اليمن حيث شيعة أمير المؤمنين.
ويتفق المؤرخون على أن بُسر بن أرطأة عاث في اليمن فساداً وأهلك الحرث والنسل، فقد غار على همدان وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياء من بني سعيد، وروى أبو عمر الشيباني بإسناده عن أبي ذر: أنّه دعا وتعوّذ في صلاة صلاها، أطال قيامها وركوعها وسجودها، فسئل ممّ تعوّذت وفيم دعوت؟ قال: تعوذت بالله من يوم البلاء يدركني، ويوم العورة أن أدركه، فقيل له: وما ذاك؟ فقال: أما يوم البلاء فتلتقي فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً، وأما يوم العورة فإن نساءً من المسلمات يُسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتُريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ... ثمّ أرسل معاوية بُسر بن أرطأة إلى اليمن فسبى نساء مسلماتفأقمن في السوق. ووجد ابنين لعبيد الله بن العباس صبيّين، فأخذهما بُسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه، فأصاب أم حكيم بنت قارظ - زوجة عبيد الله - ولهٌ على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلاّ إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في المواسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
ص: 48
يامن أحسّ بابني اللذين هما *** كالدرتين تشظّى عنهما الصّدف
يامن أحسّ بابني اللذين هما *** سمعي وقلبي فقلبي اليوم مردهف
يامن أحسّ بابني اللذين هما *** مخّ العظام فمخي اليوم مختطف
نبّئت بُسراً وما صدّقت ما زعموا *** من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجَي ابنيّ مرهفة *** مشخوذة وكذاك الافك يقترف
حتى لقيت رجالاً من أُرومته *** شُمّ الأنوف لهم في قومهم شرف
فالآن ألعن بُسراً حقّ لعنته *** هذا لعمر أبي بسر هو السرف
من دلّ والهة حرّى مولهة *** على صبيين ضلاّ إذ غدا السّلف
قالوا: ولما بلغ علي بن أبي طالب ' قتل بسر الصبيين جزع لذلك جزعاً شديداً ودعا على بسر لعنه الله ...(1)
هذه صورة تنبئك عما تلاها من أحداث، فإذا كان هذا بعض ما فعله سيد الأمويين معاوية فما ظنك بمن جاء من بعده!؟
ومما يحدّث به التاريخ في العهد العباسي: أن المنصور لما بنى الأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلباً شديداً، ويجعل من ظفر به منهم في الاسطوانات المجوّفة المبنية من الجص والآجر، فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه، عليه شعر أسود من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) فسلّمه إلى البنّاء الذي كان يبني له وأمره أن يجعله في جوف اسطوانة بمشهده، فجعله البناء في جوف اسطوانة فدخلته رقة عليه ورحمة له، فترك في الاسطوانة فرجة يدخل منها الروح، وقال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة إذا جنّ الليل، ولما جنّ الليل جاء البنّاء في ظلمته وأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الاسطوانة، وقال له: إتّق الله في دمي ودم الفعلة الذين معي، وغيّب شخصك،
ص: 49
فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الاسطوانة لأنّي خفت إنتركتك في جوفها أن يكون جدك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم القيامة خصمي بين يدي الله عزوجل، ثمّ أخذ شعره بآلات الجصّاصين كما أمكن، وقال له: غيّب شخصك وانجُ بنفسك، ولا ترجع إلى اُمك، قال الغلام: فإن كان هذا هكذا فعرّف اُمي أني قد نجوت وهربت لتطيب نفسها، ويقلّ جزعها وبكاؤها إن لم يكن لعودي إليها وجه، فهرب الغلام ولا يُدرى أين قصد من أرض الله، ولا إلى أي بلد وقع، قال ذلك البنّاء: وقد كان الغلام عرّفني مكان اُمه وأعطاني العلامة شعره، فانتهيت إليها في الموضع الذي كان دلّني عليه، فسمعت دويّاً كدويّ النحل من البكاء، فعلمت أنها اُمّه فدونت منها وعرّفتها خبر ابنها وأعطيتها شعره وانصرفت(1).
وغيرها من الفجائع التي عاناها العلويون إبّان الحكم العباسي، وقد ذاق أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ألواناً من القهر والاضطهاد حتى استشهد ستة منهم على أيدي حكام بني العباس، وكانت شهادة بعضهم في غياهب السجون، وهكذا كان بنو العباس مع بني عمهم آل أبي طالب، وقد وضع أبو الفرج الاصفهاني كتاباً سمّاه مقاتل الطالبيين ذكر فيه أسماء العشرات ممن قتل أيام بني العباس من العلويين، وأما من قتل من شيعتهم فحدّث عن ذلك ولا حرج.
ومما يحدّث به التاريخ أيضاً في العهد العثماني(2) : أن السلطان سليم كان شديد التعصب على أهل الشيعة، ولا سيما أنّه كان في تلك الأيام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعية تتنافى مع مذهب أهل السنة، وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة فقتلوا نحو أربعين ألف رجل،
ص: 50
وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنه يؤجر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم(1)
ويقول الشيخ المظفّر في كتابه «تاريخ الشيعة» : ولا تسل عما لقيته الشيعة من ذريع الفتك عندما استلبه (العراق) العثمانيون في هذه المرة (عام 1045 ه-) وهذه النكبة الكبرى إحدى النكبات الفظيعة التي شاهدهاالشيعة في أدوار حياتهم من جرّاء المذهب وما أكثرها(2)
ويستعرض جملة من النكبات التي ذهب ضحيتها الآلاف من الشيعة في مناطق أخرى ويقول: وهكذا استمر التشيع في حلب رفيع البناء، لم تقلعه تلك الهزّات العنيفة، ولم تردمه تلك العواصف الشديدة، إلى أن أفتى الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم تابوا أو لم يتوبوا، فزحفوا على شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالهم، وأخرج الباقون منهم من ديارهم ... واختبأ الشيعة في أطراف حلب في هذه القرى والبلدان، ولم يبق في حلب شيعي أبداً ... ويوجد اليوم في حلب قليل من الشيعة سكنوها بعد تلك الحادثة المؤلمة، وهذه إحدى الوقائع الممضّة التي شاهدها الشيعة من أجل ولائهم لأهل البيت وتمسكهم بعرى مذهبهم ... وهاجم الأمير ملحم بن الأمير حيدر بسبب هذه الفتوى جبال عاملة عام (1048 ه-)، فانتهك الحرمات واستباح المحرمات يوم وقعة قرية أنصار فلا تسل عما أراق من دماء، واستلب من أموال، وانتهك من حريم، فقد قتل ألفاً وخمسمائة، وأسر ألفاً وأربعمائة، فلم يرجعوا حتى هلك في الكنيف ببيروت(3)
وأما الجرائم البشعة التي أحدثها الجزّار في لبنان وأهلك فيها الحرث والنسل فقد سود فيها صفحات من التاريخ.
ولا تكاد تقف على حقبة زمنية مرت على شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في أي بقعة
ص: 51
من بقاع الأرض إلاّ وقد اصطبغت بدمائهم وكانوا فيها ضحايا البطش والقهر والاضطهاد، فإذا كان هذا حال الشيعة عبر التاريخ فماذا تراهم فاعلين؟؟
لقد كانت التقية أنجع وسيلة لحفاظ الشيعة على عقائدهم وأرواحهم بالقدر الممكن حيث استطاعوا من خلالها الإبقاء على أنفسهم، ولم يكن ثمّة مناص عنها إذا ما أرادوا أن يعيشوا كسائر الناس.
إنّ التقية أمر فرضته الظروف القاسية والأجواء الرهيبة التي مر بها الشيعة عبر التاريخ، وقد دفعوا إليها دفعاً اضطرهم إلى مسايرة الجائرين في الظاهر إبقاءً على أنفسهم وحفاظاً على أرواحهم وأعراضهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يكن ذلك بدعاً من الفعل، ولا تنكّراً للفطرة ولا خلافاً لقوانين الإسلام وتعاليمه، ولعمر الحق إن قضية التقية أمر لا مراءفيه غير أن المغرضين أرادوا نبز الشيعة بها فكان مآلهم الخسران.
هذا كله ما لم تكن هناك مصلحة أهم من الإبقاء على النفس، وغاية أسمى يسترخص من أجلها كل ثمين، الأمر الذي يفسر لنا إقدام البعض على معانقة الموت واستقبال أهواله في عمليات فدائية حدّدها الشارع الحكيم وعيّن مواطنها.
ولكن مع ذلك قد نجد بعض من لا يبصر أبعد من أنفه يتّخذ من التقية موضوع نبز وافتراء، فيتّهم الشيعة بالنفاق لقولهم بالتقية، لأن ملاكها إظهار خلاف ما انطوت عليه النفس وانعقد عليه القلب، وهو عبارة اُخرى عن النفاق. وقد فات هذا القائل أن معنى النفاق هو عبارة عن إظهار الإيمان وإخفاء الكفر(1) ، وأما التقية فهي وسيلة اتقاء مع اطمئنان القلب بالإيمان، وقد تضطر الإنسان لإظهار الكفر ومجاراة من يخافه ويخشاه في القول والعمل، على أن
ص: 52
القرآن الكريم قد تحدّث عن النفاق والمنافقين ووعدهم بالدرك الأسفل من النار، بينما تحدّث عن أولئك الذين مارسوا التقية فأثنى عليهم وآتاهم أجرهم مرتين، فليست التقية - مفهوماً ومصداقاً - تلتقي مع النفاق في شيء أبداً.
وقد يحلو للبعض أن يصم التقية بأنها تنطوي على تنظيم سرّي يهدف إلى تقويض الدين وزعزعة أركانه ببث الأفكار الهدّامة للدين في الخفاء.
أقول: إنّ الشيعة الإمامية أتقى وأبرّ من أن تدنّس شرف ولائها لأهل البيت الطاهر (علیهم السلام) بذلك، فإنها قد اعتصمت بحبل الله المتين، واستسهلت في سبيله كل عسير، وما فتىء تاريخها حافلاً بمواقف التضحية والفداء دفاعاً عن حريم الدين والمعتقد الحق.
وتتهاوى كل الافتراءات التي تلصق بالشيعة في ممارستهم لهذا المبدأ، فإنها ما مارست التقية في سيرتها العملية في بعض الظروف إلاّ لأجل الإبقاء على نفوسها حيث دفعت إلى ذلك دفعاً، واضطرها إليها جور الجائرين واستبداد الظالمين، ولو أن هؤلاء الذين يحلو لهم هذا النوع من العبث السخيف لاقوا بعض ما لاقاه الشيعة في حياتهم عبر تاريخهم المرير لعرفوا وعلموا أن ما يفعله الشيعة لا يعدو الحق ولا يحيد عن الصواب.ثم إنّ التقية حافظت على قيم الإسلام وتعاليمه، واستطاع رجال الشيعة في تاريخهم أن يساهموا في صيانة الدين والدفاع عنه والمحافظة عليه من عبث العابثين، وتكون التقية بذلك قد أسدت للدين خدمة جُلّى ستبقى آثارها حيّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إنّ المعاناة الروحية والجسدية التي واجهها الشيعة في تاريخهم المظلوم دفعت بأئمتهم (علیهم السلام) من أجل الحفاظ على شيعتهم إلى بيان الأحكام في صورتين:
الأولى: بيانها في الصورة الصريحة الواضحة، كما جاء بها النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكما
ص: 53
هي في القرآن الكريم، وهي المعبر عنها بالأحكام الأوّلية، وذلك في حالات الأمن من العدو والاطمئنان من تربّصه أو انشغاله بغيرهم، وهذا ما نجده في الموسوعات الشيعية الروائية، فإنها زاخرة ببيانات الأئمة(علیهم السلام) في مختلف شؤون الحياة.
الثانية: بيانها وقد ارتدت لباس التقية وهي المعبّر عنها بالأحكام الثانوية في بعض وجوهها، وذلك في حالات الخوف والتربّص بالأئمّة (علیهم السلام) وشيعتهم، وقد امتزجت الروايات في التبويب والتصنيف مما أدّى إلى ظهور التعارض البدوي بينها في بعض جهاته، الأمر الذي احتاج - في عملية الفصل بين الصورتين - إلى مهارة فقهية وتضلع راسخ في معرفة ما يتناسب ومذهب أهل البيت (علیهم السلام) من غيره، ورد كل حكم إلى منشئه، ويحتاج إلى قدرة علمية فائقة وذوقاً فقهياً رفيعاً لمعرفة الضوابط وعمليات الجمع بين الروايات مما جعل البحث في ذلك شاقاً وعسيراً.
وقد بحث فقهاء الإمامية قدس الله أسرارهم - على مر تاريخهم المعطاء - مسألة التقية بجميع أبعادها في جميع أبواب الفقه إلاّ أن أبحاثهم جاءت بحسب اقتضاء المناسبة فكانت مبعثرة في جميع أبواب الفقه ولم تنتظم في سلك عقد واحد، ومن هنا جاء هذا الكتاب ليكون نواة في هذا المجال، ورائد السبق في هذا المضمار حيث يقوم بحصر جميع موارد التقية في الفقه الإمامي الواردة في روايات أهل البيت (علیهم السلام) على نحو استدلالي لوحظت فيه جميع الأدلة الأخرى.
ويمكننا إيجاز منهجية الكتاب على النحو التالي:
أولاً: بيان أصل الحكم الأولي والدليل عليه في المسألة المبحوث عنها.
ثانياً: الإشارة إلى جهات الاختلاف فيها.ثالثاً: ذكر ما عليه العامة - في أغلب الأحيان - وبيان جهة اختلافهم مع الخاصة.
رابعاً: بيان الحكم عند عروض التقية وما يترتب عليه من الآثار.
وستقف - قارئي العزيز - على مواطن ذلك في صفحات هذا الكتاب.
وهذا هو الجزء الأول من هذا الكتاب ويتناول موضوع التقية في أصول الدين والتقية في بعض الفروع وهي الطهارة والصلاة والصوم والحج والزكاة،
ص: 54
وأما بقية الفروع وما يتعلق بها من المسائل والأحكام ففي ما سيليه.
وهذا الكتاب هو مجموعة المحاضرات الفقهية التي كان سماحة العلامة الأستاذ آية الله الحاج الشيخ مسلم الداوري دام ظلّه، يتفضّل بها في مجلس بحثه اليومي في الحوزة العلمية في عشّ آل محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) بقم المقدسة.
وإن من ألطاف الله تعالى - وله الحمد - أن حالفني التوفيق للتشرف بالحضور في مجلس البحث وتدوين هذه المحاضرات تحت إشرافه ورعايته.
وقد حظيت من قبل بشرف تدوين محاضراته في علم الرجال وكان من ثمراتها المباركة كتاب أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق.
وكنت قد ذكرت في مقدمته طرفاً من حياة شيخنا الأستاذ دام ظله، والتي كانت أنموذجاً يحتذى في الدأب والجد في العلم والعمل، وهو مصداق من أعطي العلم كلّه، ورهن حياته في خدمة مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وفقه آل محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم).
أسأل الله الكريم المنّان أن يديم ظله وارفاً، وأن ينفع ببركاته أبناء الحوزات العلمية المقدسة، كما أسأله تعالى أن يشمل بعين رعايته هذا الجهد وينظر إليه نظرة القبول والرضا، وأن يكون موضعاً لعناية السادة الأطهار (علیهم السلام) ولا سيما بقية الله في أرضه إمام العصر وصاحب الزمان أرواحنا فداه، وأن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين
محمّد علي المعلم
عش آل محمّد - قم المقدسة20 جمادى الثانية 1417 ه-
ص: 55
ص: 56
· التحديد اللغوي والاصطلاحي للتقية.
· الأدلة الأربعة على مشروعية التقية بل وجوبها.
· دفاع عن حريم التشيع.
· فهرسة إجمالية لفصول الكتاب.
· الموارد المستثناة من حكم التقية.
· منهجية البحث في هذا الكتاب.
ص: 57
ص: 58
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين.
اختلف في تحديد لفظ التقية، من جهة كونه مصدراً أو اسم مصدر، فالذي يظهر من شيخنا الأنصاري ): أنّ التقية اسم لاتقى يتقي(1)
والذي يذهب إليه السيد الأستاذ !: أن التقية مصدر تقي يتقي والاسم التقوى، وهي مأخوذة من الوقاية وتاؤها بدل من الواو(2)
والمستفاد من المعاجم اللغوية أن التقية مصدر ثان لتقي أتقي، والاسم هو التقوى.
قال في القاموس: واتَّقَيْتُ الشيءَ وَتَقيْتهُ أتَّقيه وأتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وتِقاءً ككساء حَذِرْتهُ، والاسم التَّقْوى(3)
وقال في اللسان: وقد توقَّيتُ واتَّقَيتُ الشيء وتَقَيْتهُ أتَّقيه واتْقِيه تُقىً وتَقِيّةً وتقاء: حذرته، الأخيرة عن اللحياني، والاسم التقوى، التاء بدل من الواو والواو بدل من الياء(4)
وجاء في بعض الكتب اللغوية: أن مصدر اتقيت هو الإتقاء.
قال في المصباح: اتقيت الله اتقاءً، والتقية، والتقوى اسم منه والتاء مبدلة من واو، والأصل وقوى من وقيت لكنه أبدل ولزمت التاء في تصاريف الكلمة،
ص: 59
والتقاة مثله وجمعها تُقى(1)
وقال في المجمع: والتقوى فَعْلَى كنجوى، والأصل فيه وقوى من وقيته: منعته قلبت الواو تاء، وكذلك تقاة، والأصل وقاة، قال تعالى: (إِلاَّأَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)(2)، أي اتقاءً مخافة القتل، وجمع التقاة تقى كطلى للاعناق وقرىء تقية، والتقية والتقاة اسمان موضوعان موضع الاتقاء(3)
ويقرّب هذا المعنى: أنّ الوارد في كثير من الروايات أنسب بالاسم المصدري، كقوله (علیه السلام): «التقية ديني ... الخ»، و «التقية ترس المؤمن»، و «التقية حرز المؤمن» وغير ذلك من الموارد التي وردت محكوماً عليها بنحو الإخبارأو متعلقة للحكم كسائر المتعلقات مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها.
وعلى كل تقدير فالتقوى أو التقية أو الإتقاء لها معنيان أحدهما عام، والآخر خاص، أما المعنى الأول فهو التحفّظ والحذر من الوقوع في المحرمات والإخلال بالواجبات، وبعبارة أخرى: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله حاجزاً، وهذا إنما يتم بالعمل الصالح.
وقد أسند هذا المعنى في الكتاب العزيز إلى الله تعالى في آيات كثيرة، ومنها: (وَاتَّقُوا اللهَ )(4)، (وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(5) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)(6)، وغيرها من الآيات.
وهذا المعنى يشمل بمقتضى عمومه، التحفّظ عن كل ضرر، والإتّقاء من كلّ ما يخاف ويخشى، دينياً كان أو دنيوياً، وليس لهذا المعنى حكم شرعي
ص: 60
مولوي بل حكمه الوجوب العقليّ، وما ورد من الأمر فهو محمول على الإرشاد إلى ما أدركه العقل.
وأما المعنى الثاني فهو اصطلاحي خاص، وهو: التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في القول والعمل.
قال في معجم الفقهاء: التّقِيّة: بفتح التاء وكسر القاف وتشديد الياء المفتوحة، مصدر وقي، الحذر والمخافة: إظهار غير ما يعتقد وقاية لنفسه من أذى قد يصيبها(1)
ولهذا المعنى حكم المولويّة، ويتّصف بالأحكام الشرعية الخمسة من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، وهو محلّ البحثوالكلام.
ويمكن الاستدلال على التقية بالأدلة الأربعة:
وقد استدلّ بعدة آيات:
الأولى: قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً )(2).
الثانية: قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(3).
والآيتان صريحتا الدلالة في التقية، وقد ذكر المفسرون أن الآية الثانية نزلت في شأن عمار بن ياسر في قصة مشهورة تقدم ذكرها(4)
الثالثة: قوله تعالى (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ )ورد في الرواية أن
ص: 61
المراد من الحسنة هي التقية(1) ، وستأتي الرواية في الدليل الثاني.
الرابعة: قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ )أي أشدّكم تقيّة، كما في صحيحة عبد الله بن حبيب عن أبي الحسن (علیه السلام) (2)
الخامسة: قوله تعالى: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) ورد في رواية المفضل عن الصادق (علیه السلام) أنها التقية، وقوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً)، قال: إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقبا(3)
السادسة: قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )، ورد عن حذيفة عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: هذا في التقية(4)
السابعة: قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) وردفي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله قال: بما صبروا على التقية(5)، وسيأتي نصّ الرواية في الدليل الثاني.
الثامنة: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا )ورد في رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... )قال: اصبروا على المصائب وصابروهم على التقية ورابطوا على من تقتدون به، واتقوا الله لعلكم تفلحون(6).
وغيرها من الآيات .
والحاصل: أنّ التقية ثابتة بالكتاب العزيز، وبعض الآيات وإن لم تكن
ص: 62
صريحة في دلالتها، وإنما دلّت بمعونة الروايات التفسيرية، إلاّ أنّ بعضها الآخر صريح في دلالته كما هو بيّن.
والروايات الواردة في التقية كثيرة تبلغ أكثر من سبعين رواية، ولذا لا يبعد القول بأنها متواترة إجمالاً بحيث تطمئن النفس بصدورها عن المعصومين (علیهم السلام) .
وبعض هذه الروايات ورد في بيان أصل مشروعية التقية، وبعضها الآخر في بيان الحكم بالوجوب.
أما الطائفة الأولى: وهي التي يستفاد منها المشروعية فمنها:
ما ورد في صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)، قال: بما صبروا على التقية (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ )قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة(1)
ومنها: صحيحة حريز عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال: التقية ترس الله بينه وبين خلقه(2)
ومنها: صحيحة هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ماعبد الله بشيء أحب إليه من الخباء» ، قلت: وما الخباء؟ قال: «التقية» (3)
ومنها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به(4)
ومنها صحيحة إسماعيل الجعفي ومعمّر بن يحيى بن سالم، ومحمّد بن مسلم، وزرارة قالوا: سمعنا أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم
ص: 63
فقد أحلّه الله له» (1)
ومنها: رواية محمّد بن مروان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: كان أبي(علیه السلام) يقول: وأي شيء أقرّ لعيني من التقية، إنّ التقيّة جنّة المؤمن(2)
ومنها: رواية حبيب بن بشر قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليّ من التقية، يا حبيب: إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله. يا حبيب: إن الناس في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا(3)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الدالة على أنّ التقية أمر مشروع.
أما الطائفة الثانية: وهي التي يستفاد منها وجوب التقية فهي أيضاً روايات كثيرة:
منها: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اتّقوا على دينكم واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنما أنتم في الناس كالنّحل في الطير، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السرّ والعلانية، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا»(4).
ودلالة هذه الرواية صريحة في الوجوب فإنّها تنفي الإيمان عمّن لا تقية له.
ومثلها في الدلالة صحيحة معمّر بن خلاّد، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام)عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر (علیه السلام): التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيّة له(5)
وهكذا صحيحة عبد الله بن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول:
ص: 64
«التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له»(1)
ومعتبرة أبان بن عثمان، عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «لا دين لمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا ورع له» (2)
وصحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لا خير فيمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا تقية له» (3)
وما أورده صاحب السرائر في خاتمة كتابه، نقلاً من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا علي بن محمّد ' من مسائل داود الصرمي، قال: قال لي: «يا داود لو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً» (4)
ورواية الحسين بن خالد، عن الرضا (علیه السلام) ، قال: «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، وإن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، قيل: يابن رسول الله إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منّا» (5)
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وجوب هذا الحكم، بل إنه من أعظم الواجبات، فاتصاف التقية بالوجوب مما لا إشكال فيه.
وأما كيفية ذلك فسيأتي بيانه.
فإنّ المتسالم عليه عند الفقهاء، أنّ التقية واجبة، بل لا نظن أن أحداً منالفقهاء يخالف في ذلك. نعم المتيقن به أنها محلّ اتفاق في الجملة لا في كل مسألة مسألة، فلا خلاف فيها بين الفقهاء، بل قد تعدّ من ضروريات المذهب، وقد ذهب بعض العامة إلى القول
ص: 65
بوجوبها، كما نسب ذلك إلى الشافعي وغيره، وهكذا سيرة العلماء والمتشرعة على ذلك، وهذه السيرة تنتهي إلى الأئمة (علیهم السلام) ، وإنها ممضاة من قبلهم (علیهم السلام) عملاً، وهذا مما لا يعتريه ريب بل تتصل بالأنبياء والأوصياء السابقين قبل الإسلام، كما تقدم في الحديث - مفصلاً - عن تاريخ التقية.
فإنّ التقية موافقة لمقتضى حكم العقل، والاستدلال به على التقية على نحوين:
الأوّل: استقلال العقل بهذا الحكم، فيقال: إن العقل يرى أن أحكام الدين إنما شرعت لسعادة الإنسان في حياته إلى الأبد، فإذا كانت هذه السعادة وإدامة الأحكام متوقفة على التقية والإخفاء عن الأعداء في فترة من الزمن، فالعقل يستقل بالحكم بحسن التقية تقديماً للأهم على المهم، نظير سكوت أمير المؤمنين(علیه السلام) عن حقه رعاية لبقاء الدين.
والشاهد على ذلك سيرة العقلاء في حياتهم العملية، فإنهم في حالات الخوف من الأعداء يخفون عقائدهم ويظهرون الموافقة لخصومهم تحفظاً على أنفسهم، وذلك أمر شايع بيّن، وقد تحدث القرآن عن ذلك في العديد من الآيات ومن ذلك:
أصحاب الكهف فإنهم فتية آمنوا بربهم إلاّ أن الخوف على أنفسهم وإيمانهم دفعهم للتقية، فكانوا يشدون الزنانير ويشهدون أعياد الناس، فآتاهم الله أجرهم مرتين كما نطقت بذلك الروايات.
كما تحدث القرآن عن إبراهيم الخليل (علیه السلام) فإنه مارس التقية مع قومه حيث قال: إني سقيم، وهكذا بالنسبة إلى موسى الكليم (علیه السلام) فإنه عاش في بيت فرعون بالتقية إلى أن صار مأموراً بالتبليغ، ومثله يوسف الصديق (علیه السلام) فإنه أصبح خازن
ص: 66
الملك الكافر وقد عاش في تلك الأجواء بالتقية، وكذلك تحدثت السيرة عن أبي طالب (علیه السلام) وتمكنه من الدفاع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بواسطة التقية وقد اشار القرآن الكريم إلى قضية عمار بن ياسر كما مر.
وغيرهم من الأنبياء والأوصياء والأخيار والعقلاء الذين كانوا يمارسون التقية.
وإذا كان الأمر كذلك فلا ندري كيف ساغ للعامة الإنكار على الشيعةلقولهم بالتقية؟ وكيف اجترأوا على الشيعة بالتشنيع لذلك، وهل هذا إلاّ ضلال منهم عن الصراط المستقيم وانحراف عن الحق والهداية، حيث لم يدخلوا البيوت من أبوابها ولم يأخذوا الأحكام من معادنها ولم يتبعوا أئمة الهدى (علیهم السلام) وأهل بيت العصمة والطهارة الذين هم أحد الثقلين الذين أمرنا بالتمسك بهم(1).
الثاني: الاستدلال بالعقل غير المستقل، بأن يقال: إن نظر الشارع المقدس في أحكامه أنه: إذا دار الأمر بين الضرر كالقتل والقطع وأمثالهما وبين حكم شرعي بوجوب شيء ما مثلاً فالعقل يحكم بتقديم الضرر على الحكم الشرعي، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وأحلّ الله ما اضطروا إليه، فتدخل المسألة بهذه المقدمة في الأدلة الحاكمة على الأحكام الأولية وحينئذ يرتفع الحكم الشرعي، وتجب التقية بحكم العقل لا مستقلاًّ بل بمعونة الشارع.
ويمكن الاستدلال أيضاً بالقواعد الكلية إذا تحققت صغريات بعض المسائل، كما إذا كان هناك ضرر راجع إلى النفس، أو العرض، أو المال الخطير، فيقدم على الحكم الشرعي، ولابد حينئذ من التقية، وإن كان هذا يرجع إلى النحو الأول كما لا يخفى.
ثم أنّه ليس في سرد بقيّة أحكام التقية من الحرمة والاستحباب والكراهة
ص: 67
والإباحة كثير فائدة، ولهذا نقتصر على الحكم الأول وهو الوجوب، وقد نتعرض لبعض هذه الأحكام تبعاً، ونعطف الكلام على ذكر ما هو المهم في المقام، وهو البحث حول موارد التقية المشهورة الواردة في الروايات في جميع أبواب الفقه كما ذكرنا آنفاً، والتحقيق في كل مورد بخصوصه بحسب ما تقتضيه طبيعة المورد نظراً لأهمية التقية في مجال التشريع ولعموم الابتلاء بمواردها واستمراره في مجالي العمل والتطبيق، فقد ورد في الاحتجاج عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري ' ، في حديث أن الرضا (علیه السلام) جفا جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما هذا الجفاء العظيم، والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال: لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لابدمن التقية(1)
وغيرها من الروايات الواردة في هذا المعنى.
ولما كان تشخيص مواردها وبيان الوظيفة العملية فيها وكيفية التعامل معها في جهتي الموافقة والمخالفة من الأهمية بمكان، ولم نقف إلى الآن على كتاب جامع يخدم هذا الغرض وإن كان علماؤنا رضوان الله تعالى عليهم بحثوا موضوع التقية ووضعوا فيها كتباً ورسائل إلاّ أنها تناولت كليات مسائلها وبعضاً من مواردها، ولذلك انعقد العزم بتوفيق الله على التعرّض لموارد التقية المشهورة في جميع أبواب الفقه والتي صارت مورداً للبحث والكلام أو وردت في روايات أهل البيت (علیهم السلام) (2).
وينبغي أولاً الإشارة إلى العناوين التي تنطبق عليها التقية.
وثانياً: الموارد المستثناة التي لا يجوز فيها التقية.
ص: 68
أما بالنسبة للأمر الأول فقد أحصينا العناوين التي تتعلق بها التقية ووردت في الآيات والروايات فوجدناها تبلغ إلى أكثر من أربعين مورداً وهي:
أ - التقية في أصول الدين وتتضمّن المباحث التالية:
1 - إظهار الكفر أو إنكار أحد أصول الدين.
2 - البراءة.
3 - سبّ أحد الأنبياء أو أحد الأئمة (علیهم السلام) .
ب - التقية في فروع الدين وهي تارة تلاحظ بالإضافة إلى الكفار فقط وأخرى على نحو أعم، أما الأول فيتضمن المباحث التالية:
1 - في حكم مودتهم واتخاذهم أولياء.
2 - في حكم الابتداء بالتسليم عليهم.
3 - في الحكم بطهارتهم أو نجاستهم.
4 - في جواز إطعامهم وعدمه.
5 - في حكم دخولهم المساجد.
6 - في إلحاق أهل الكتاب والمخالفين بالكفار وعدمه.
7 - في حكم بيع المصحف وما في حكمه إليهم.
8 - في حكم طعامهم وذبائحهم.9 - في حكم مناكحتهم.
10 - في بيان آثار الحكم التكليفي والوضعي في حال التقية وبعدها.
وأما الثاني فهو تارة يكون في أمر غير مشروط بقصد القربة، وأخرى يكون في أمر مشروط بها، وثالثة في العقود والمعاملات، ورابعة في الإيقاعات، وخامسة في الأحكام.
أما الأول فيتضمن المباحث التالية:
1 - التقية في كتمان الدين والولاية، والحديث عن الكفار والمخالفين.
ص: 69
2 - التقية في تسمية الحجة .
3 - في حكم الجمع بين اسمه (علیه السلام) وكنيته في المولود.
وأما الثاني فهو يشمل المباحث التالية:
أولاً: التقية في الوضوء وتتناول:
1 - في غسل الوجه واليدين مرة أو ثلاثاً.
2 - في غسلهما من الأعلى أو من الأسفل.
3 - في مسح الرأس كلاًّ أو بعضاً مع الأذنين أو بدونهما.
4 - مسح الرأس والرجلين بماء الوضوء أو بماء مستأنف.
5 - في جواز المسح على الخفين وعدمه.
ثانياً: التقية في الوقت وتتناول:
1 - وقت صلاة المغرب والإفطار من الصوم هل هو ذهاب الحمرة المشرقية أو سقوط قرص الشمس.
2 - في حكم الصلاة قبل غروب الشمس.
ثالثاً: التقية في الصلاة وتتناول:
1 - جواز الاقتداء والائتمام بالمخالف تقية وعدمه.
2 - حكم الاقتداء بسائر فرق الشيعة من غير الإمامية تقية.
3 - حكم الاقتداء بالموافق تقية مع عدم إحراز الشرائط.
4 - في حكم الجهر بالبسملة وإخفائها.
5 - في حكم التأمين في الصلاة.
6 - في حكم التكفير في الصلاة.
7 - في حكم السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس وغيرها.
ص: 70
رابعاً: التقية في الصوم وتتناول:
1 - حكم الإفطار في حال التقية.
2 - في وجوب القضاء وعدمه.
خامساً: التقية في الحج وتتناول:
1 - حكم التظليل حال الإحرام تقية.
2 - حكم الوقوف بعرفات والمشعر ومنى في حال التقية.
سادساً: التقية في الزكاة وتتناول:
1 - شرائط المستحق للزكاة.
2 - في حكم إعطاء الزكاة للمخالف.
سابعاً: التقية في الجهاد وتتناول:
1 - أقسام الجهاد.
2 - اشتراط الجهاد الابتدائي بإذن المعصوم (علیه السلام) وعدمه.
3 - التحقيق حول الجهاد الابتدائي في زمان النبيّ (علیه السلام) .
4 - التهمة بأن الإسلام دين الدم والسيف والجواب عنها.
وأما الثالث فيتضمّن المباحث
التالية:
أوّلاً: التقية مع السلطان الجائر وتتناول:
1 - حكم معاونة السلطان الجائر.
2 - حكم قبول الولاية من قبل السلطان الجائر في القضاء والفتوى.
3 - حكم قبول الولاية من قبله في السياسة وتدبير الأمور.
4 - حكم التقية في الإضرار بالناس والتفصيل في أقسام الإضرار بالغير.
5 - حكم جوائز السلطان وأقسامها.
ص: 71
6 - حكم أموال السلطان بالنسبة إلى الورثة والمستحقين والحاكم الشرعي.
7 - ولاية الحاكم الشرعي - حدودها وأحكامها.
ثانياً: التقية في الغناء ويتناول:
1 - موضوع الغناء وحدوده وحكمه.
2 - حكم الآلات والأفعال اللهوية.
3 - الموارد المستثناة من الغناء والتحقيق حولها.
4 - حكم الغناء حال التقية.
ثالثاً: التقية في النكاح ويتناول مناكحة أهل الكتاب والمخالفين.
وأما الرابع فهو يتضمن:
التقية في الطلاق.وأما الخامس فيتضمن:
التقية في الميراث.
وأما بالنسبة للأمر الثاني وهو الموارد التي لا يجوز فيها التقية فهي ستة:
1 - التقية في الدم.
2 - التقية في ما يوجب الفساد في الدين.
3 - التقية في البراءة من أمير المؤمنين (علیه السلام) .
4 - التقية في متعة الحج.
5 - التقية في المسح على الخفين.
6 - التقية في شرب النبيذ.
ثم إنّ الضابط في دخول المورد في التقية هو كل ما يكون الحكم الإلزامي فيه الثابت عند المخالف إجماعاً أو شهرة على خلاف ما هو عند أهل البيت (علیهم السلام) ولا
ص: 72
يمكن التقصي عنه أو علاجه إلاّ بالتقية، وأما الضابط في الموارد المستثناة فهو كل ما ثبت فيه الحكم الإلزامي ولم يرخص الشارع بمخالفته إلى التقية.
ويقع الكلام حول هذه الموارد من جهات ثلاث:
الأولى: التحقيق حول الحكم الواقعي في المسألة.
الثانية: بيان الحكم الثانوي وهو العمل على طبق ما تقتضيه التقية، والآثار المترتبة عليها تكليفاً ووضعاً.
الثالثة: التحقيق حول ما إذا خالف المكلف وظيفته الفعلية وأتى بالواقع بدلاً من العمل على طبق التقية وبيان ما يترتب عليه من جرّاء ذلك.
ومما نلفت إليه أننا لن نتقيد بحرفية هذا الترتيب فقد تقتضي المناسبة تقديم بعض الموارد وتأخير بعضها عن مواقعها من هذا الترتيب، نعم نلتزم بالترتيب العام بجعل كل مورد في موقعه كما هو الحال في ترتيب أبواب الفقه.
ثم إنّ تفصيل الموارد والتحقيق حولها يتم في عدة فصول:
ص: 73
ص: 74
إمكان التقية في أصول الدين.
الأدلة من الكتاب والسنة.
البراءة والسب والفرق بينهما.
هل تجوز التقية في البراءة أو لا؟
الجمع بين الروايات المختلفة.
الوجوه التي من أجلها لم يبرأ أصحاب
علي (علیه السلام) منه.
ص: 75
ص: 76
التقية
في أصول الدين
وهي تشمل أموراً ثلاثة:
الأول: إظهار الكفر أو إنكار أحد الأصول.
الثاني: البراءة من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو أحد الأئمة (علیهم السلام) .
الثالث: سب أحد الأنبياء (علیهم السلام) أو أحد الأئمة (علیهم السلام) .
وقد قيل بجواز التقية في جميع هذه الأمور، ويقع الكلام فيها في مقامات:
الأول: في الأدلة. وقد استدل له بالآيات والروايات:
الدليل الأول:
الآيات ومنها قوله تعالى: (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1)
وقوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(2) وقد وردت هذه الآية في قضية عمار بن ياسر كما ذكرنا سابقاً ، وغيرها من الآيات . وقد ذكرنا جملة منها في ادلة التقية .
الدليل الثاني: الروايات: وهي على طائفتين:
الأولى: الروايات العامّة، وهي متعددة، واشتملت على الصحاح،
ص: 77
وحاصلها أنّ التقية في كل ضرورة، ومن جملة الضرورات التقية في أصول الدين.
الثانية: الروايات الخاصة ومنها: رواية معمّر (عمر) بن يحيى بن سالم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: التقية في كل ضرورة (1) ، وهذه الروايةوإن كان في سندها معمّر أو عمر وهما محل كلام إلاّ أن البرقي يرويها في المحاسن بسند صحيح عن الحارث بن المغيرة عن أبي جعفر (علیه السلام) (2)
ومنها صحيحة إسماعيل الجعفي، ومعمر بن يحيى بن سالم، ومحمّد بن مسلم، وزرارة قالوا: سمعنا أبا جعفر (علیه السلام) يقول: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له(3)
ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به(4)
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه وأخوته، كيف هو؟ وبما يثبت؟ وبما يبطل؟ فقال: إن الإيمان قد يتخذ على وجهين: أما أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك، فإذا ظهر لك مثل الذي تقول به أنت حقت ولايته وأخوته، إلاّ أن يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك فإن جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك خرج عندك مما وصف لك وأظهر وكان لما أظهر لك ناقضاً، إلاّ أن يدعي أنّه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله، لم يقبل منه ذلك، لأنّ للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له،
ص: 78
وتفسير ما يتقى مثله [أن يكون] قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية بما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز(1)
ومنها: صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين(2)
ومنها: موثقة أخرى لمسعدة بن صدقة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن الناس يروون أن علياً (علیه السلام) قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعونإلى سبّي فسبوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤا مني، فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (علیه السلام) ، ثمّ قال: إنما قال إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يقل ولا تبرؤا مني، فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه، وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان فأنزل الله عزوجل فيه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا(3).
ومنها: معتبرة محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): ما منع ميثم ) من التقية؟! فوالله لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )(4) ، وهذه الرواية وإن كان في سندها محمّد بن مروان وهو مشترك بين جماعة إلاّ أن الظاهر أن المراد به عند إطلاقه هو محمّد بن مروان
ص: 79
الذهلي وأما الحناط فهو قليل الحديث، وأما البصري فقد حدث عنه أسيد بن زيد، وأما الأنباري فهو متأخر من حيث الطبقة وقد روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري فالظاهر انحصار الراوي عن الصادق (علیه السلام) في محمّد بن مروان الذهلي، وهو المعروف وإن له كتاباً وما عداه فليس بمعروف وهو وإن لم يوثق صراحة إلاّ أن المشايخ الثقات قد رووا عنه فيحكم بوثاقته واعتبار روايته(1) ، وسيأتي له ذكر أيضاً عما قريب.
ومنها: رواية عبد الله بن عجلان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سألته فقلت له: إن الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن تدعى إلى البراءة من علي (علیه السلام) فكيف نصنع؟ قال: فابرأ منه قلت: أيهم أحب إليك؟ قال: أن تمضوا على ما مضى عليه عمّار بن ياسر أخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فبرأ منه، فأنزل الله عزوجل عذره (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (2).
وبعض هذه الروايات صريح الدلالة في جواز السب تقية، كما أنبعضها شامل للبراءة، إلاّ أن في البراءة كلاماً سيأتي.
وهناك روايات أخرى يمكن عدّها طائفة ثالثة مؤيدة لما تقدم، منها:
رواية عبد الله بن يحيى، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، أنّه ذكر أصحاب الكهف فقال: لو كلّفكم قومكم ما كلفهم قومهم فقيل له: وما كلفهم قومهم؟ فقال: كلفوهم الشرك بالله العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسرّوا الإيمان حتى جاءهم الفرج(3)
ومنها: رواية درست، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ما بلغت تقية أحد ما بلغت تقية أصحاب الكهف ، إنهم كانوا يشدون الزنانير، ويشهدون الأعياد،
ص: 80
فآتاهم الله أجرهم مرتين(1)
ومنها: رواية الكاهلي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، وكانوا على إجهار الكفر أعظم أجراً منهم على إسرار الإيمان(2)
ومنها: رواية عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في (حديث)، أن جبرئيل (علیه السلام) نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا محمّد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين، وأن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه الله أجره مرتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله بالجنة(3)
وهناك روايات أخرى لا يخرج مفادها عما يستفاد من الروايات المتقدمة من جواز التقية في أصول الدين، وهكذا بالنسبة إلى سبّ أحد المعصومين (علیهم السلام) .
وفيه جهتان:
الأولى: في أصول الدين الخمسة.
الثانية: في سب المعصوم.أما بالنسبة إلى أصول الدين من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، فيحتمل القول بالجواز كما يحتمل القول بالوجوب.
أمّا الجواز فلأن الآية الشريفة (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (4) ،
ص: 81
وإن كانت واردة في قضية الإيمان وإخفائه وإظهار الكفر وإبرازه، إلاّ أنها لا تشتمل على الأمر بالتقية، نعم فيها أن المقام خارج عن غضب الله وعقابه، وإنما يتوجّه العقاب لمن شرح صدره بالكفر كما هو صريح الآية.
وكذلك الحال بالنسبة للروايات الواردة في ذيل هذه الآية، فإنها وردت في عمار وقضيته مع أهل مكة، وأصحاب الكهف وقومهم، وأبي طالب (علیه السلام) وقريش.
كما ورد أن هؤلاء يعطون الأجر مرتين أجر الإيمان وأجر الإخفاء، ولم يرد في هذه الروايات أمر بالإخفاء، فيمكن حمل ذلك على الاستحباب.
وأما القول بالوجوب فذلك:
أولاً: للأدلة العامة التي دلّت على أن التقية في كل ضرورة، ومنها أصول الدين.
وثانياً: لما ورد في ذيل موثقة مسعدة بن صدقة وهو قوله (علیه السلام) لعمار: إن عادوا فعد ... وقد أمرك أن تعود الحديث(1)
إلاّ أنّه يمكن الجواب عنهما - أما عن الأول - فبأنها في مقام بيان أصل المشروعية والجواز، وأما عن الثاني فبأن مقتضى الجمع بينها وبين ما تقدم هو الرجحان، مضافاً إلى ما في الرواية من قوله: فقد أنزل الله عذرك، وأمرك أن تعود، فوجود الأمر هنا بعد قبول العذر نظير الأمر بعد الحظر وليس في ذلك دلالة على الوجوب، مضافاً إلى أنّه قد ورد المدح في كثير ممّن لم يتق كما في آسية بنت مزاحم، فإنها عذبت من أجل أن تعلن الكفر فأبت ولم تعلنه حتى استشهدت وورد فيها من الفضائل والمناقب الشيء الكثير(2)
والحاصل: أن المستفاد من جميع الآيات والروايات الواردة في المقام أن
ص: 82
التقية ليست بواجبة، نعم ربما تكون راجحة في بعض الموارد، كمافي أصحاب الكهف وعمار وغيرهم، فإنه ورد عنهم (علیهم السلام) استحسانهم فعل عمار بن ياسر كما ورد أن التقية رخصة وهي أحب إليهم (علیهم السلام) ، والأخذ بالرخصة أمر راجح في نفسه، فيمكن حمل ذلك على الاستحباب.
وأما بالنسبة إلى الجهة الثانية وهي سب الأنبياء أو أحد الأئمة (علیهم السلام) فمقتضى الأدلة أن التقية فيها واجبة، فإنه لم يرد دليل على الجواز كما في الجهة الأولى، فإن من وقع بين الأعداء وطلب منه أن يسب نبياً أو إماماً فبمقتضى ما مر من الروايات العامة - من أن من لا تقية له لا دين له وغيرها - والروايات الخاصة - كما يأتي في البراءة فإنه قد أمر فيها بالسب عند الاضطرار وخوف النفس - أنّه يجب عليه أن يعلن السب بلسانه تقية منهم وحفاظاً على نفسه.
نعم ورد في بعض الروايات: أن حكم من سب النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو الإمام(علیه السلام) القتل إلاّ أن هذا الحكم في غير التقية وسيأتي الكلام عنه في موضعه إن شاء الله، وأما بالنسبة إلى مورد التقية فهي واجبة.
والمسألة محل خلاف لاختلاف النصوص الواردة فيها، ويمكن تقسيمها على نحو الإجمال إلى ثلاث طوائف:
الأولى: ما يستفاد منها وجوب التقية.
الثانية: ويستفاد منها عدم الوجوب.
الثالثة: ويستفاد منها التخيير.
وقد يقال: إن المستفاد من مجموع الروايات أرجحية التقية من عدمها،
ص: 83
ومال إليه الشيخ الأنصاري!(1)، إلاّ أنّ بعضهم استفاد العكس، ومال إليه السيد الأستاذ !، فإنه يذهب إلى القول بالتساوي أو أرجحية عدم التقية(2)
ولتحقيق الأمر لابد أولاً أن نذكر الروايات الواردة في المقام، ومن ثمّ ملاحظة ما قيل أو ينبغي أن يقال.
أما الروايات فقد جاءت على طوائف ثلاث كما ذكرنا:
الطائفة الأولى: وهي الروايات التي يستفاد منها وجوب التقية، وهي عدة روايات، منها: ما تقدم من الروايات العامة من أن التقية في كلضرورة، وهي شاملة لهذا المورد كما هو واضح.
ومنها: معتبرة مسعدة بن صدقة، وقد تقدم ذكرها أيضاً، وهي عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن الناس يروون أن علياً (علیه السلام) قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤا مني، فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (علیه السلام) . ثمّ قال: إنما قال: إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يقل ولا تبرؤا مني فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل الله عزوجل فيه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا(3)
والرواية معتبرة سنداً فإن مسعدة بن صدقة ثقة، لوقوعه في أسناد تفسير
ص: 84
علي بن إبراهيم القمي(1) ، كما أنها واضحة دلالة، وأنه لابد من التقية، فإن الإمام (علیه السلام) قال: والله ما ذلك عليه وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر.
ومنها: معتبرة محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): ما منع ميثم ) من التقية؟! فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (2).
وظاهر هذه الرواية أن ميثم ) كان عليه أن يتقي، وكلام الإمام (علیه السلام) وارد مورد التعجّب من فعل ميثم، مع أنّه يعلم أن الآية نزلت في عمار وأصحابه، ففيها دلالة على لزوم التقية، إما على نحو الوجوب أو الاستحباب.
الطائفة الثانية: وهي الروايات التي يستفاد منها أن البراءة ليست من موارد التقية وهي أيضاً عدة روايات منها:
رواية الحسن بن محمّد الطوسي )، عن أبيه، عن محمّد بن محمّد بن عمر الجعابي، عن أحمد بن محمّد بن سعيد، عن يحيى بن زكريا بنشيبان، عن بكر بن مسلم، عن محمّد بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده (علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام): ستدعون إلى سبّي فسبّوني، وتدعون إلى البراءة فمدوا الرقاب، فإني على الفطرة(3)
والرواية من حيث الدلالة واضحة، إلاّ أن سندها ضعيف فإن بكر بن مسلم ومحمّد بن ميمون لم يرد فيهما توثيق.
ومنها: ما رواه ابن الشيخ أيضاً، عن أبيه، عن هلال بن محمّد الحفار، عن إسماعيل بن علي الدعبلي، عن علي بن علي، أخي دعبل بن علي الخزاعي، عن
ص: 85
علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أنّه قال: إنكم ستعرضون على سبّي، فإن خفتم على أنفسكم فسبّوني، ألا وإنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تفعلوا فإني على الفطرة(1)والرواية كسابقتها، فهي وإن كانت تامة الدلالة إلاّ أن في سندها ضعفاً، فإن إسماعيل بن علي لم يرد فيه توثيق.
ومنها: ما ورد في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال: أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد فاقتلوه، ولن تقتلوه ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرؤا (تتبروا) مني، فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة(2)
ولا إشكال من حيث الدلالة، وإنما الكلام من حيث الطريق فإنه وإن كان معتبراً إلى السيد الرضي، إلاّ أن طريق السيد الرضي إلى الإمام (علیه السلام) غير مذكور.
ومنها: ما أورده صاحب الوسائل عن الشيخ المفيد في الإرشاد قال: استفاض عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال: ستعرضون من بعدي على سبّي فسبّوني، فمن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه فإن برىء مني فلا دنيا له ولا آخرة(3) وفي النقل اختلاف يسير فلاحظ(4)
إلاّ أن الكلام في السند، فإن الاستفاضة أقصى ما تفيده الظن، مضافاً إلى أنّه لم يذكر طريقاً لها، وبناء عليه فلا يمكن التعويل على ما ادعاه الشيخ المفيد في مقام الاستدلال.
ص: 86
ثم إن هنا رواية أخرى ذكرت في ذيل هذا الباب من الوسائل ولم يذكرها الحر العاملي في متن الوسائل، وهي ما رواه الصدوق في عيون الأخبار بإسناده عن محمّد بن عمر الجعابي، عن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن العباس الرازي التميمي، عن الرضا (علیه السلام) ، عن آبائه (علیهم السلام) ، عن علي (علیه السلام) قال: إنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تبرؤا مني فإني على دين محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) (1)
وهذه الرواية وإن كانت دلالتها تامة إلاّ أن الإشكال في سندها، فإن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن العباس الرازي التميمي لم يرد في حقه توثيق.
هذه هي الطائفة الثانية من الروايات ولا إشكال فيها من حيث الدلالةوإنما الإشكال من جهة السند فبينها وبين الطائفة الأولى تهافت في الدلالة.
الطائفة الثالثة: وهي التي يستفاد منها التخيير وبمقتضاها تكون التقية جائزة، وتكون جامعة بين الطائفتين الاُوليين، وهي أيضاً روايات عديدة، منها:
ما رواه الكشي، عن جبرئيل بن أحمد، عن محمّد بن عبد الله بن مهران، عن محمّد بن علي الصيرفي، عن علي بن محمد، عن يوسف بن عمران الميثمي، قال: سمعت ميثم النهرواني يقول: دعاني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ' وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني اُمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرأ منك، قال: إذاً والله يقتلك ويصلبك، قلت: أصبر فذاك في الله قليل فقال: يا ميثم إذاً تكون معي في درجتي(2) الحديث.
والمستفاد من هذه الرواية عدم وجوب التقية، فإن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يلزم (ميثم) ميثماً بالتقية، وإنما أخبره بما يجري عليه وما يصير إليه مآله.
ثم إن هذه الرواية رواها الكشي بهذا السند وهو ضعيف.
ص: 87
وذكر صاحب الوسائل(1) أن القطب الراوندي أورد الرواية في كتابه الخرائج، عن عمران، عن أبيه ميثم، إلّا أن الموجود في الخرائج عن يوسف بن عمران، عن ميثم التمار، نعم اُشير في ذيل الحديث من كتاب الخرائج أن في الأصل عمران عن أبيه ميثم(2)
وعلى كل تقديم فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لعدم تمامية الطريق أو تصحيحه، فإن القطب الراوندي وإن كان له طريق إلى كتب الشيخ ورواياته إلاّ أن الطريق من الشيخ إلى يوسف بن عمران، أو عمران غير مذكور.
ومنها: رواية عبد الله بن عطا قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): رجلان من أهل الكوفة اُخذا فقيل لهما: ابريا عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فبرىء واحد منهما وأبى الآخر، فخلّي سبيل الذي برىء وقتل الآخر، فقال: أما الذيبرىء فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة(3)
والمستفاد من الرواية الرخصة في البراءة تقية، ولهذا عبّر الإمام (علیه السلام) عن الذي اتقى بالفقيه، وعبر عن الثاني بأنه تعجّل إلى الجنة.
ومنها: رواية أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في حديث) أنّه قيل له: مدّ الرقاب أحب إليك أم البراءة من علي (علیه السلام) ؟ فقال الرخصة أحب إليّ، أما سمعت قول الله عزوجل في عمار: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(4)
وهذه الرواية تفيد أن الإنسان مخير في البراءة وعدمها، وإن كانت التقية أحب إلى الإمام (علیه السلام) .
ومنها: رواية عبد الله بن عجلان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته فقلت
ص: 88
له: إن الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن تدعى إلى البراءة من علي(علیه السلام) فكيف نصنع قال: فابرء منه قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: أن تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر، اُخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فبرأ منه وأنزل الله عزوجل عذره (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (1)
وقد تقدمت هذه الرواية عند الكلام حول التقية في اُصول الدين، والمستفاد منها في المقام التخيير كالرواية السابقة، فإنها لم تشتمل على الأمر أو النهي، وأما قوله (علیه السلام): فابرأ منه فهو وإن كان أمراً والأمر يقتضي الوجوب، إلاّ أن في المقام قرينة تصرفه عن الحمل على الوجوب وهو قوله(علیه السلام): أحبّ إلي ... بعد سؤال الراوي أيهما أحب إليك؟
والحاصل: أن الرواية تحمل على الرخصة.
وأما كيفية استفادة الحكم من مجموع هذه الروايات وهل أنّ التقية هي الأرجح؟ كما يظهر من كلام الشيخ الأنصاري ) أو أن عدمها هو الأرجح؟ أو أنّه لا أقل من عدم دلالة شيء من الروايات على أرجحيةأحدهما على الآخر، فالأمران متساويان، كما ذهب إليه السيد الأستاذ ) فهذا هو محل الكلام.
وتحقيق المقام يقتضي تنقيح الروايات سنداً ودلالة بالنسبة إلى كلا الدعويين فنقول:
إن روايات الطائفتين الثانية والثالثة كلها ضعيفة من جهة السند، وأما الطائفة الاُولى فهي بالإضافة إلى الروايات العامة تشتمل على روايتين معتبرتين، الاُولى: معتبرة مسعدة بن صدقة، والثانية معتبرة محمّد بن مروان،
ص: 89
وكلتاهما دالتان على لزوم التقية، ففي الاُولى أنكر الإمام عدم التقية، وقال (علیه السلام): والله ما ذلك عليه، وفي الثانية قال (علیه السلام): ما منع ميثم ... فوالله لقد علم ... الخ.
ودلالة قول الإمام (علیه السلام) على لزوم التقية واضحة.
إلاّ أن السيد الاُستاذ ! ناقش في الرواية الاُولى بأنها لا تدل على لزوم التقية لقصور دلالتها على حرمة القتل ووجوب التبري عند الإكراه(1)
وناقش في الرواية الثانية بأن كلمة منع يمكن أن تقرأ بالبناء للفاعل فتكون واردة في مقام التعجب، ويكون مفاد الرواية حينئذ أن ميثم (ميثماً) خالف التقية وعرّض نفسه للهلاك، ويمكن أن تقرأ بالبناء للمفعول ويكون مفادها حينئذ أن ميثم لم يكن ممنوعاً من التقية ولو كانت التقية واجبة عليه لامتنع، والشاهد على ذلك أن لفظ ميثم وردت مرفوعة، فهي واقعة موقع الفاعل ونائبة منابه.
وقد يقال: إن ميثم اسم غير منصرف، وجوابه أنّه غير ممنوع من الصرف وبناء على هذا فلا دلالة في الرواية على لزوم التقية(2)
وفي ما أورده السيد الاُستاذ من المناقشة في كلتا الروايتين نظر.
أمّا الرواية الاُولى: فإن قوله (علیه السلام): والله ما ذلك عليه، ولا له إلاّما مضى عليه عمار بن ياسر، يمكن أن يكون راجعاً إلى بيان التكليف والوظيفة، ومعناه أن التكليف لابد وأن يكون من الشارع، والتكليف من الشارع في هذه المسألة هو لزوم التقية، ولذلك لما قال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة، بيّن له الإمام (علیه السلام) أن الوظيفة هي المضيّ على ما مضى عليه عمار، فإنه اتّقى، ووظيفة السائل هي أن يتقي أيضاً، فإن اختيار الإنسان وظيفته العملية ليست بيده بل بيد الشارع، وعليه فماذكره السيد الأستاذ في غير محلّه، ولا قصور في دلالة الرواية على لزوم التقية، لأنّ الإمام (علیه السلام) في مقام بيان الوظيفة العملية
ص: 90
للسائل.
وأما الرواية الثانية: فهي واردة في مقام التعجب كما ذكرنا سابقاً، وكلمة منع جاءت للبناء للفاعل، وأما كلمة ميثم فجاءت مرفوعة إما تصحيفاً وإما أنها غير منصرفة لأنه ورد في بعض الروايات(1) أن ميثم اسم أعجمي، فيكون غير منصرف.
والحاصل: أن الجملة ظاهرة في التعجب سواء كان لفظ ميثم منصرف أو غير منصرف، وبناء على هذا فالمستفاد من الرواية هو لزوم التقية.
وقد حكم السيد الأستاذ ! بالتعارض بين الروايات المثبتة والروايات النافية، وجمع بينها بحمل الروايات المثبتة على التخيير بقرينة الطائفة الثالثة، إلاّ أن الذي يوجب الاستغراب في كلام السيد الأستاذ ! أنّه ناقش في الروايات الدالة على لزوم التقية سنداً ودلالة، والحال أنها من حيث السند معتبرة على مبناه في التوثيق، فإن مسعدة بن صدقة واقع في أسناد تفسير القمي، وقد ذكرنا ذلك سابقاً، وهكذا محمّد بن مروان في الرواية الثانية، فهو وإن كان مشتركاً بين الثقة وغيره إلاّ أن المنصرف إليه هو محمّد بن مروان الذهلي الثقة، فإنه المعروف الذي له كتاب، وأما غيره ممن سمي بمحمّد بن مروان من أصحاب الصادق (علیه السلام) فليس فيهم رجل معروف(2) ، وقد تقدم منا قريباً تحقيق ذلك وعليه فالرواية معتبرة، وأما مناقشته في الدلالة ففيها ما تقدم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الروايات الدالة على الجواز كلها ضعيفة، ولم نظفر برواية معتبرة، فكيف حكم السيد الأستاذ ! بأن الروايات متعارضة؟! إذ المفروض ملاحظة أسناد الروايات أيضاً لتتم بها أركان التعارض، فمقتضى الصناعة لابد وأن نقول بلزوم التقية، وذلك لدلالة الروايات
ص: 91
العامة المشتملة على الصحاح والخاصة المعتبرة، والروايات المقابلة لها كلها ضعيفة الأسناد فلا تعارض بين الروايات، نعم إذا قلنا: إن الروايات ثابتة إجمالاً وغضضنا الطرف عن المناقشة في أسنادها، وبضميمة ما وقع في الخارج كما في أحوال ميثم، ورشيد، وحجر، وقنبر، وغيرهم رضوان الله ورحمته عليهم، فحينئذ يصح الجمع بين الروايات بالحمل على التخيير وإن كان التبري أرجح.والحاصل: أن المستفاد من الروايات أن التقية هي الأرجح كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري !.
الأول: الفرق بين السب والتبري:
أما السب فهو الشتم واستنقاص الغير باللسان، فهو يرجع إلى الكلام اللفظي، وقد يستوجب الحد كما في سب الإمام كما سيأتي، أو التعزير وسقوط العدالة كما في سب المؤمن، وتفصيل ذلك في محلّه.
وأما التبرّي فالمستفاد من الاستعمال اللغوي هو انقطاع العصمة ومعناه التخلّص والبينونة. وقد ورد التبرّي في القرآن الكريم كقوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) (1) أي خروج من عهودهم وتخلص منهم، وقد أمهلوا أربعة أشهر ثمّ يقتلوا حيث وجدوا(2)
فإن كانت البراءة من شيء معين كعهد ونحوه فهو، وإلاّ فهي مطلقة ومعناها انقطاع العصمة من جميع الجهات، والبراءة من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام(علیه السلام) من هذا القبيل، وإن كان الأظهر منها هو التبري من ولايته وهي بهذا المعنى تكون داخلة في مسائل الاعتقاد بخلاف السب فإنه من الأحكام.
فبناء على أن معنى التبري هو عدم الاعتقاد بالإمام وانقطاع الصلة به
ص: 92
تكون المسألة من أصول الدين، وكل ما ذكرناه هناك يجري هنا، كما وقع لعمار بن ياسر وقد ورد الاستشهاد في التبري بقضية عمار كما تقدم.
ويكون حينئذ معنى البراءة من الإمام (علیه السلام) وولايته هو البراءة من الدين فإنه (علیه السلام) قال: فإني ولدت على الفطرة، وعليه فيلاحظ إن كان التبري بالقلب فهو المحرم، وإن كان بالقول فهو شبيه بفعل عمار وقد مرّ أن التقية فيه جائزة.
ومما يؤيده ما ورد في الرواية من قوله (علیه السلام): «وإن إظهارك براءتك منّا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولئن تبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أولياءناوإخواننا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك ... الخ» (1)
والحاصل: أن الإظهار باللسان لا إشكال فيه، وإنما الإشكال والحرمة في التبري الواقعي.
الثاني: هل تختص البراءة بالإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ، أو أنها تشمل الأئمة والأنبياء والمؤمنين؟
قد يقال: إن المستفاد من عنوان المسألة والتعليل الوارد في الرواية هو التعميم، نعم ورد في رواية واحدة زيادة جملة: «وسبقت إلى الإيمان والهجرة»(2)، وأما غيرها من الروايات فلم يرد فيها إلاّ الولادة على الفطرة.
فإن قلنا: إن السبق إلى الإيمان والهجرة دخيل في التعليل فلا يجري في غيره، وإن قلنا: إن التعليل هو خصوص الولادة على الفطرة فيشمل الأئمة(علیهم السلام) والأنبياء والمؤمنين فإنهم ولدوا على الفطرة، ويكون المراد هو التبري من الدين والإيمان، وبناء على هذا يمكن التعدي إلى غير أمير المؤمنين (علیه السلام) ولا خصوصية
ص: 93
لأمير المؤمنين (علیه السلام) في هذا المقام بالذات بمقتضى التعليل الوارد إذ التعليل يعمم ويخصّص.
الأولى: قد تبيّن مما ذكرنا أن التقية في هذا المورد مشروعة فيما إذا كان لها فائدة، كحفظ النفس والعرض ونحوهما، أما إذا لم يترتب عليها شيء من ذلك فلا يستفاد من الأدلة مشروعيتها.
الثانية: إذا كانت مصلحة التقية في أصول الدين أكثر من تركها فهي سائغة وتكون مشمولة للأدلة المتقدمة. وأما إذا كان العكس أي إذا كانت المصلحة في ترك التقية كما إذا لزم من تركها ترويج للدين وإظهاره، أو كان في التقية إذلالٌ أو إضعافٌ للدين فليست بمشروعة.
وبهذا يمكن تفسير ما صدر من خواص أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) مثل ميثم ورشيد وحجر وغيرهم رضوان الله عليهم، فإن أدلة التقية وإن كانت تشملهم إلاّ أن عملهم على خلاف التقية يمكن أن يوجه بأمور:
الأول: ما تقدم من الأدلة، فإن المستفاد من بعضها التخيير وإن كاناختيار التقية هو الراجح إلاّ أن هؤلاء اختاروا الشق الآخر من التخيير لجهة أخرى هي الموجبة للترجيح عندهم، وهي التعجّل إلى الجنة، فمع أنهم يعلمون برجحان التقية إلاّ أنهم تركوها فراراً من الدنيا ولحوقاً بأمير المؤمنين (علیه السلام) في الدار الآخرة، وقد كشفت بعض الروايات عن ذلك.
الثاني: أن هؤلاء يعدون من أركان الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وخواص أصحابه وحملة أسراره، وأمرهم في الولاء لعلي (علیه السلام) ظاهر مشهور، فالتقية بالنسبة إليهم توجب وهن الولاية وضعف المذهب، بينما صمودهم وتركهم للتقية يوجب
ص: 94
ترويج أمر الولاية وإعزاز المذهب، وليس حالهم كحال سائر الناس العاديين في اتخاذ موقف معين، فكان فعلهم هذا سبباً لرفع شأن الدين والمذهب والولاية حتى في حال موتهم فإن لهم شأناً بعد شهادتهم إذ صاروا مقصداً للناس كما كانوا في حياتهم، فمن أجل إعزاز الدين وحمايته أقدموا على ذلك.
الثالث: أن هؤلاء قد علموا أن الأعداء لا يكتفون منهم بإظهار البراءة، بل يراد منهم الترويج للظلمة وأن يكونوا منهم ومعهم وهذا مما لا يلتزمون به، فالتبري لو كان بالقول فقط لأمكن ذلك إلاّ أن التبري تترتب عليه لوازم أخرى وإنما أقدموا على ما أقدموا عليه من مخالفة التقية لئلاّ يُلزموا بما لا يلتزمون به.
الرابع: أنهم علموا بعدم الفائدة من إظهار التبري وإنما هو ذريعة للتوصّل إلى قتلهم سواء تبرؤا أم لا، يعني إنهم وإن أظهروا التبري فسيقتلون لا محالة، لأنهم عرفوا بولائهم لأمير المؤمنين (علیه السلام) وحبهم له وتفانيهم في الدفاع عنه فلما علموا أن لا فائدة من إظهار التبري وأنهم يقتلون على كل حال أقدموا على مخالفة التقية.
الخامس: أن هؤلاء بلغوا من حب علي (علیه السلام) وولائه مبلغاً بحيث لا يستطيعون أن يظهروا البراءة منه وكأنما تجسد في أنفسهم هذا الحب والولاء والمعرفة بمقام أمير المؤمنين (علیه السلام) فلا يمكن فرض الانفصال في أنفسهم عنه ولو بالقول، فيكون طلب التبري منه أمراً غير مقدور بالنسبة إليهم وشاهد ذلك أن الإمام (علیه السلام) لما أخبر ميثم بما يجري عليه وكأنما الإمام كان يمتحن صلابته في الحق وولاءه وحبه لأمير المؤمنين (علیه السلام) فقال ميثم: والله لا أبرأ منك - وكان هذا قبل وقوع وبلوغ الأمر مرحلة الفعلية - ولما قال له الإمام(علیه السلام): إذن والله يقتلك ويصلبك، أجابه ميثم قائلاً: أصبر فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم إذن تكون معي في درجتي.
والحاصل: أنّه يمكن أن يوجّه فعل هؤلاء - من تركهم التقية - أنهم لا
ص: 95
يستطيعون ، لأنهم ملؤا حباً لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، ولا ينافي هذا ما ورد من أنّه (علیه السلام) سئل عن ذلك فقال: أحب أن تبرأ وتأخذ بما أخذ عمار، وقد قلنا إن هذه الروايات الدالة على الجواز ضعيفة الأسناد.
فبهذه الوجوه يمكن أن يوجه فعل هؤلاء من تركهم للتقية، ولا يمكن أن نقول: إن فعلهم مرجوح كما أنّه يمكن أن تكون هناك وجوه أخر يفسر بها فعلهم ويحمل على أمر لا ينافي العمل بالتقية لخصوصية فيهم دون سواهم.
وبهذا يتم الكلام عن الفصل الأول وهو التقية في أصول الدين.
ص: 96
التقية في فروع الدين التي لا يشترط فيها قصد القربة
حكم موالاة الكفار
والمخالفين على ضوء الكتاب والسنة.
كيفية التعامل مع الكفار في شؤون الحياة.
التحقيق حول نجاسة الكفار وأهل الكتاب وأهمية هذه المسألة.
· حكم طعام الكفار وإطعامهم ودخولهم المساجد والسلام عليهم ابتداءً.
جريان هذه الأحكام في أهل الكتاب والمخالفين وعدمه.
التحقيق في أن المأتي به تقية هل يجزي عن الواقع أو لا؟
في بيان موضوع الكتمان وحكمه.
الخلاف في جواز ذكر اسم الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن' وكنيته والتحقيق في ذلك.
هل يجوز الجمع بين اسمه الشريف وكنيته أو لا
ص: 97
ص: 98
التقية في فروع الدين التي لا يشترط فيها قصد القربة:
ذكرنا فيما سبق أن موارد التقية في الفروع على نحوين عبادية وغير عبادية، كما ذكرنا أن منهجية بحثنا حولها تقتضي التكلم فيها من خلال جهات ثلاث وهي:
بيان الحكم الواقعي لكل مورد ثمّ بيان حكم التقية فيه وآثاره التكليفية والوضعية ومن ثمّ بيان الحكم عند المخالفة وما يترتب على ذلك.
وآثرنا تقديم النحو الثاني لانسجامه مع بحوث الفصل الأول، مضافاً إلى طول الحديث في بحوث النحو الأول وتعدد مواضيعه.
ويقع الكلام في هذا الفصل في عدة موارد:
ص: 99
فإن كان في مورد التقية فلا بأس، وإلاّ فهو محرم حرمة شديدة، ويدل على ذلك الكتاب والسنة وغيرهما من سائر الأدلة.
أما الكتاب فقد وردت عدة آيات تتضمن النهي عن مودة الكفار والمخالفين إلاّ ما كان في حال التقية ومن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) (1).
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) (2).
وهذه الآية دالة على المراد، إلاّ أنها مقيدة بمن اتخذوا الدين هزواً ولعباً، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من الكفار.
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(3).وهذه الآية جاءت مطلقة غير مقيدة بشيء.
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) (4)
ص: 100
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقّ) (1)
وهذه الآيات وردت مورد الخطاب، وصدّرت بيا أيها الذين آمنوا، ومن الآيات الواردة في هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)(2).
ومنها: قوله تعالى: (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً)(3)
هذه هي الآيات الواردة في الكتاب، وهي صريحة في النهي الشديد والحرمة المغلظة عن اتخاذ الكفار أولياء، ولعل هناك آيات أخرى وفي ما ذكرناه كفاية.
نعم إن لفظة الولي جاءت بعدة معان منها الصديق، ومالك الأمر، والناصر، وغيرها من المعاني، وأظهرها في الآيات هو المعنى الأول، وإليه أشارت بعض الآيات المتقدمة، فالتودد والتحبب إلى الكفار حرام، وإنه ليس من الله في شيء، وأشارت بعض الآيات إلى أنها صفة من صفات المنافقين.
وأما بالنسبة إلى الروايات فهي كثيرة وجاءت على طوائف:
الطائفة الأولى: وتدل على النهي عن مودة الكافر وعدم جوازها، ويستفاد هذا من عدة روايات، وبعضها صحيح السند ومنها:
معتبرة الحسن بن علي الخزاز قال: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: إن ممن
ص: 101
ينتحل مودتنا أهل البيت من هو أشد فتنة على شيعتنا من الرجال، فقلت: بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا، إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل واشتبه الأمر، فلم يعرف مؤمن من منافق(1)
ومنها: موثقة ابن فضال، عن الرضا (علیه السلام) قال: من والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله، وحق على الله أن يدخله نار جهنم(2).
وهاتان الروايتان معتبرتان من حيث السند واضحتان من حيث الدلالة، فإن الموالاة أعم وتشمل الكافر والمخالف.
ومنها: رواية العلاء بن الفضيل، عن الصادق جعفر بن محمّد ' قال: من أحب كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحب الله، ثمّ قال(علیه السلام): صديق عدو الله عدو الله(3)
والرواية من حيث الدلالة لا إشكال فيها وأما من جهة السند ففيها محمّد بن سنان وقد رجحنا وثاقته فتكون الرواية معتبرة.
ومنها: رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (علیه السلام) في كتابه إلى المأمون، قال: وحب أولياء الله واجب، وكذلك بغض أعداء الله والبراءة منهم ومن أئمتهم(4)
وهذه الرواية أوردها الصدوق في الخصال(5) بإسناده عن الأعمش عن الصادق(علیه السلام) وسندها قابل للاعتبار.
ومنها: معتبرة الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا' ، في حديث قال: إنما وضع الأخبار عنا في الجبر والتشبيه، الغلاة الذين صغّروا
ص: 102
عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن جفاهم فقد برّنا، ومن برّهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن ردهم فقد قبلنا، ومن قبلهم فقد ردّنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدّقهم فقد كذّبنا، ومن كذّبهم فقد صدّقنا، ومنأعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا، يابن خالد: من كان من شيعتنا فلا يتخذنّ منهم ولياً ولا نصيراً(1)
وهذه الرواية تامة الدلالة إلاّ أنها مختصة بالغلاة ولا تشمل جميع الكفار.
وهناك روايات أخرى كثيرة، وبعضها صحيح السند وكلها تدل على حرمة موالاة الكفار، وأعداء الله والأئمة (علیهم السلام) .
الطائفة الثانية: ما ورد فيها أن الحب والبغض في الله، وهي كثيرة وقد تصل إلى سبعين رواية وبعضها صحيح السند.
الطائفة الثالثة: ما ورد فيها من الروايات الدالة على حرمة التشبّه بالكفار، ويمكن الاستدلال بها بالملازمة على حرمة موالاتهم ومحبتهم، فإنه إذا كان التشبّه بهم حراماً فكذلك موالاتهم بالطريق الأولى.
والحاصل: أنّه يمكن دعوى التواتر الإجمالي للروايات الواردة في هذا المعنى.
وأما بالنسبة إلى الإجماع فهو ثابت بحسب الظاهر، فإن المتسالم عليه عند الخاصة حرمة موالاة الكفار، وإن حرمتها شديدة وهكذا بالنسبة إلى العامة فإنه ورد عنهم حرمة موالاة الكفار، وهم وإن ناقشوا في التقية بأنها منحصرة في زمان الضعف وعدم الشوكة ولا تشمل جميع الأحوال، كما ذكر ذلك عن الحسن البصري وغيره، إلاّ أن نقاشهم في التقية بما هي تقية، أما مسألة الموالاة للكفار
ص: 103
فلا إشكال في حرمتها عندهم.
وعلى كل تقدير فإجماع الطائفة المحقة ثابت على حرمة الموالاة للكفار.
ولا حاجة بعد ذلك إلى بيان الدليل العقلي فإن المهم هو ثبوت ذلك من الكتاب والسنة والتسالم عند الخاصة والعامة.
ثم لا يخفى أنّا قد جعلنا الكلام في الأعم من الكفار وأهل الكتاب وإن كان المستفاد من آيات القرآن الكريم أن الكفار فئة أخرى غير أهل الكتاب، وإنما عمّمنا ذلك لأن بعض الأدلة شاملة لكلتا الفئتين وسيأتي بعض ما يتعلق بالمقام عند الكلام حول نجاسة الكافر.
وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى: هل أن حرمة التولي مطلقة أو مقيدة بما يرتبط بعقيدتهم؟
يمكن أن يقال: إنها على نحو الإطلاق كما يمكن أن يقال: إنها علىنحو التقييد.
وقد يستدل على تقييد الحرمة بما تشعر به بعض الأدلة المتقدمة كما في الآية الكريمة (لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)(1) أي غير المؤمنين أو عند المؤمنين، وفي هذا إشعار بأن ولاء الكافر إنما حرم من جهة عقيدته، ومثلها في الإشعار بذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)(2) وقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ )(3) فأخذ عنوان العدو أو عنوان المحادة لله يشعر أن التولي من هذه الجهة أي من جهة كونهم عدو أو كافرين أو محادين لله ورسوله، فتكون التقية
ص: 104
حينئذ لهذه الجهة.
ولكن يمكن أن يقال: إنه لا دلالة في هذه الآيات على التقييد بذلك، بل هي واردة في مقام بيان الحكمة في التحريم أي بما أنهم عدو أو كافرون أو محادون لله ولرسوله، وفي هذا تأكيد للحرمة وترغيب للانتهاء لا أن الحيثية تقييدية.
ثم على فرض الشك في ذلك فالأصل هو الأخذ بسائر الإطلاقات وهي الدلالة على الحرمة المطلقة والتولي المطلق، نعم إذا لم يكن هناك إطلاق وشككنا في أن ولاءهم هل هو من جهة الكفر أو غيرها، فهذه شبهة بدوية ونقتصر فيها على القدر المتيقن. وحينئذ نرجع إلى الأصل العملي، وهو يقتضي البراءة بالنسبة إلى الإطلاق.
ولكن بما أن الأصل اللفظي قائم في المقام فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي، والأصل اللفظي يقتضي حرمة التولي مطلقاً من جهة العقيدة وغيرها.
قد يقال: إن هذه الإطلاقات غير تامة لأن هنا رواية معارضة وهي ما أورده صاحب الوسائل، عن مستطرفات السرائر، نقلاً عن جامع البزنطي، عن أبي جعفر وأبي الحسن ': لا لوم على من أحب قومه وإن كانوا كفاراً قال: فقلت له: فقول الله: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) فقال: ليس حيث تذهب، إنه يبغضه في الله، ولا يواده ويأكله ولا يطعمه غيره من الناس(1)
فهذه الرواية معارضة للإطلاقات المتقدمة.
ولكن في هذه الرواية شيء وهو أن ظاهرها التنافي في المدلول، إلاّ أن يحمل الحب على الحب الظاهري، بمعنى أنّه لا يحبه واقعاً وإنما في الظاهر بمعاشرته لأنه من قومه، فيحمل بقرينة الذيل على هذا المعنى وإن كان ظاهر صدر الرواية
ص: 105
أنّ الحب هو الميل القلبي.
والحاصل: أن الرواية ليست معارضة لتلك الروايات فإن حب الكفار ليس حباً واقعياً، فتكون الروايات المطلقة سليمة عن المعارض، والمستفاد منها الحرمة المطلقة.
المسألة الثانية: أن حرمة الولاية للكافر هل هي مشروطة بالاتخاذ أم أنها مطلقة؟
والمفهوم من الآيات أنها مقيدة بالاتخاذ المفسر بالركون إليهم فأكثر الآيات الواردة اشتملت على النهي عن الاتخاذ، إلاّ في آية واحدة لم يرد فيها ذكر وهي قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (1)
ولا يخفى أن الاتخاذ غير التولي مفهوماً، والمنهي عنه في الآيات هو الاتخاذ فيمكن التفريق بينهما، وعليه فقد يقال بالتفصيل بين الاتخاذ ونفس التولي الذي هو الميل القلبي والمحبة، إلاّ أن الظاهر من الروايات عدم الفرق بينهما.
ثم إن المراد من الولاية هنا هي المحبة - كما ذكرنا ذلك في مطلع الحديث - فإن من أحب شيئاً تولاه، ويستفاد ذلك أيضاً من الروايات، وهو الظاهر من القرائن.
ولابد أن تكون المحبة أمراً اختيارياً وإلاّ لما ساغ أن يتعلق به النهي، وأما ما ورد من الروايات التي يستفاد منها عدم الفرق بين الاتخاذ وغيره.
فمنها:
رواية عمرو بن مدرك، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأصحابه: أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم:
ص: 106
الصلاة وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصوم، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغضفي الله وتوالي أولياء الله، والتبري من أعداء الله(1)
والرواية ضعيفة السند بعمرو بن مدرك ورواها البرقي في المحاسن(2) بنفس السند كما رواها الصدوق في معاني الأخبار(3) بسند ينتهي إلى علي بن مروك(4)
ومنها: رواية يوسف بن محمّد بن زياد، وعلي بن محمّد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي العسكري، عن آبائه (علیهم السلام) ، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله احبب في الله وابغض في الله، ووال في الله وعاد في الله، فإنه لن «لا خ ل» تنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا عليها يتوادون وعليها يتباغضون وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً فقال الرجل: يا رسول الله فكيف لي أن أعلم أني واليت في الله وعاديت في الله؟ ومن ولي الله حتى أواليه ومن عدوه حتى أعاديه؟ فأشار له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى علي (علیه السلام) فقال: أترى هذا؟ قال: بلى، قال: ولي هذا ولي الله فواله، وعدو هذا عدو الله فعاده، وال ولي هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك، وعاد عدو هذا ولو أنّه أبوك أو ولدك(5)
وهذه الرواية واردة في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) وفي سنده كلام ذكرناه في محله(6)
ص: 107
ومنها: رواية الحسن بن علي الخزاز قال: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت من هو أشد فتنة على شيعتنا من الدجّال، فقلت: بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا، إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق(1)
وهذه الرواية معتبرة السند واضحة الدلالة وقد تقدم ذكرها في ما سبق.
ومنها: موثقة ابن فضال، عن الرضا (علیه السلام) قال: من وال أعداء الله فقدعادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله، وحق على الله أن يدخله نار جهنم(2)
ودلالتها تامة فإنها مطلقة تشمل الاتخاذ وعدمه، وقد ذكرنا هذه الرواية أيضاً فيما سبق.
ومنها: رواية أخرى وقد تقدم ذكرها أيضاً وهي رواية العلاء بن الفضيل عن الصادق جعفر بن محمّد ' قال: من أحب كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحب الله، ثمّ قال (علیه السلام): صديق عدو الله عدو الله(3)
ومنها: أيضاً رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (علیه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: وحب أولياء الله واجب، وكذلك بغض أعداء الله، والبراءة منهم ومن أئمتهم(4).
وغيرها من الروايات وفيها الصحاح وغيرها وكلها مطلقة شاملة للاتخاذ وغيره فيمكن على فرض التقييد بالاتخاذ الجمع بجعل الاتخاذ مقدمة للموالاة وعليه فلا تنافي بين الآيات والروايات.
ص: 108
لقد وردت عدة روايات - وبعضها صحيح السند - تنهى عن التسليم عليهم، منها: صحيحة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين: لا تبدؤا أهل الكتاب بالتسليم، وإذا سلموا عليكم فقولوا: عليكم(1)
ويؤيدها رواية أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: لا تبدؤا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بالسلام، وإن سلموا عليكم فقولوا: عليكم، ولا تصافحوهم ولا تكنوهم إلاّ أن تضطروا إلى ذلك(2).
ورواية الجعفريات بسنده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده عليبن الحسين، عن أبيه، عن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن يهود خيبر يريدون أن يلقوكم فلا تبدؤوهم بالسلام، فقالوا: يا رسول الله فإن سلموا علينا فما نرد عليهم؟ قال -: تقولون: وعليكم(3)
ورواية الدعائم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عن النزول على أهل الكنائس في كنائسهم، وقال: إن اللعنة تنزل عليهم ونهى أن يبدؤوا بالسلام وإن بدرهم (بدأهم) (بدؤوا) به قيل له: عليكم(4)
نعم قد يستفاد من بعض الروايات الكراهة، كما في رواية المستطرفات نقلاً عن رواية أبي القاسم بن قولويه، عن الأصبغ، قال: سمعت علياً (علیه السلام) يقول: ستة لا ينبغي أن تسلم عليهم: اليهود والنصارى، وأصحاب النرد، والشطرنج، وأصحاب خمر وبربط وطنبور، والمتفكهين بسب الأمهات والشعراء(5)
ص: 109
والمستفاد من هذه الرواية هو الكراهة لاشتمالها على ما ليس بمحرم قطعاً كالسلام على الشعراء والمتفكهين وورود كلمة «لا ينبغي» قرينة على الكراهة في جميع الموارد.
ومما يستدل به على الكراهة أيضاً، ما ورد في كتاب محمّد بن مثنى الحضرمي، عن جعفر بن شريح الحضرمي، عن ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن التسليم على اليهودي والنصراني والرد عليهم في الكتب؟ فكره ذلك كله(1)
ولكن يمكن الخدشة في كلتا الروايتين سنداً ودلالة.
أما من حيث السند فكلتاهما ضعيفتان.
وأما من حيث الدلالة ففي الأولى أولاً: لا منافاة في الجمع بين موارد الحرمة والكراهة في سياق واحد، وثانياً: أن الإتيان بلفظ «لا ينبغي» قد يرد ويراد منه الحرمة كما وقع نظيره في بعض الروايات.
وفي الثانية أولاً: أن الكراهة قد تطلق ويراد منها الحرمة، وثانياً: أن مورد الرواية هو الكتابة، وهي مما استثني كما سيأتي، ولكن عمدة الإشكال ضعف سند الروايتين، نعم ورد في صحيحة عبد الرحمن بنالحجاج كما سيأتي: «نعم إنه لا ينفعه دعاؤك» (2) وهذا التعليل وإن كان وارداً في مقام الحاجة إلى الكافر ولكنه عام يشمل كلتا الحالتين، وبناء على ذلك فيقوى القول بالكراهة كما هو المشهور بين الفقهاء، وعلى فرض الشك فمقتضى البراءة عدم الحرمة.
والحاصل: أن مقتضى ما تقدم هو رفع اليد عن ظاهر الرواية الناهية وحملها على الكراهة.
والذي يظهر من رواية أبي البختري عدم جواز المصافحة وتسميتهم
ص: 110
بالكنى، ويدل على الأول صحيحة الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في (حديث المناهي) نهى عن مصافحة الذمي(1)
ويمكن أن يحمل النهي هنا على التنزيه أو على الاجتناب عنهم من جهة نجاستهم وملاقاتهم مع الرطوبة وسيأتي تفصيل ذلك في المسألة التالية.
ويستثنى من ذلك ما إذا دعت الحاجة إلى الكافر، فيجوز السلام عليه والدعاء له بلا فرق بين المشافهة والكتابة، ويدل على الأول ما ورد في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن (علیه السلام): أرأيت إن احتجت إلى طبيب وهو نصراني أسلم عليه وأدعو له؟ قال: نعم إنه لا ينفعه دعاؤك(2)
وفي رواية محمّد بن عرفة، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) بيان لكيفية الدعاء قال: قيل لأبي عبد الله (علیه السلام) كيف أدعو لليهودي والنصراني؟ قال: تقول: بارك الله لك في دنياك(3)
ويدل على الثاني ما رواه أبو بصير قال: سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن الرجل تكون له الحاجة إلى المجوسي أو إلى اليهودي أو إلى النصراني أو أن يكون عاملاً دهقاناً من عظماء أهل أرضه فيكتب إليه الرجل في الحاجة العظيمة أيبدأ بالعلج ويسلّم عليه في كتابه وإنما يصنع ذلك لكي تقضى حاجته؟ فقال: أما أن تبدأ به فلا ولكن تسلم عليه في كتابك، فإن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يكتب إلى كسرى وقيصر(4)وقد عنون صاحب الوسائل الباب بما إذا كانت الحاجة لأهل الذمة، إلاّ أن الروايات مطلقة تشمل الكافر أيضاً.
ص: 111
وقد وردت فيه عدة روايات منها: ما رواه الكليني ! عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: من أشبع مؤمناً وجبت له الجنة، ومن أشبع كافراً كان حقاً على الله أن يملأ جوفه من الزقوم، مؤمناً كان أو كافراً(1)
وهذه الرواية تفيد النهي ولكن عن الإشباع لا مجرد الأكل، كما أن الظاهر منها أن الإشباع منهي عنه مطلقاً أي سواء كان بالمباشرة أو مع الواسطة.
ومنها: ما في معاني الأخبار عن محمّد بن علي ماجيلويه عن عمه محمّد بن أبي القاسم عن النهيكي رفعه إلى أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: من مثل مثالاً أو اقتنى كلباً فقد خرج من الإسلام، فقلت له: هلك إذاً كثير من الناس، فقال: إنما عنيت بقولي: من مثل مثالاً، من نصب ديناً غير دين الله ودعا الناس إليه، وبقولي: من اقتنى كلباً، مبغضاً لأهل البيت اقتناه فأطعمه وسقاه، من فعل ذلك فقد خرج من الإسلام(2)
والرواية وردت في المبغض لأهل البيت (علیهم السلام) ، وهو أخص من الكافر وموضوعه الاقتناء، والاقتناء يراد به الملك، وقد يراد به الاختيار، كما أن المقصود هو الأكثر من الإشباع.
ومنها: ما عنه أيضاً - أي عن محمّد بن علي ماجيلويه - عن عمه، عن محمّد بن علي، [عن ابن فضال]، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد أحداً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وتبرؤن من أعدائنا،
ص: 112
ثمّ قال (علیه السلام): من أشبع عدواً لنا فقد قتل وليّاً لنا(1)
وهناك روايات أخرى في المقام إلاّ أن العمدة هذه الروايات الثلاث ويمكن الاستدلال بها على حرمة إشباع الكافر، والرواية الأولى صريحة في الكافر.إلاّ أن هذه الروايات الثلاث كلها ضعاف فالأولى مرسلة، والثانية مرفوعة، والثالثة فيها محمّد بن علي ماجيلويه ولم يرد فيه التوثيق، نعم هو أحد مشايخ الصدوق ! وقد أكثر الرواية عنه في الفقيه وغيره مترضياً عليه(2) ، فيمكن الحكم بوثاقته، إلاّ أن الرواية اشتملت على محمّد بن علي وهو الصيرفي المعروف بأبي سمينة، فإن محمّد بن أبي القاسم يروي عن الصيرفي(3) ، وعليه فالرواية ضعيفة لا يمكن الاستناد إليها، وفي مقابل هذه الروايات وردت الآية الشريفة وهي قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(4)
وإذا كان الكافر غير حربي فلا نهي عن برّه والقسط له، وبناء على اعتبار الروايات فيمكن التخصيص بالإشباع، وأما إذا قلنا بعدم اعتبارها كما هو الظاهر فلا يمكن القول بأن إشباع الكافر حرام، وقد ذهب بعضهم إلى القول بالكراهة، وأما الإطعام ودعوته للأكل فقد صُرّح في بعض الروايات بجوازه كما تقدم في المسألة المتقدمة.
ص: 113
ويقع الكلام فيه في مقامين:
الأول: بالنسبة إلى الدخول في المسجد الحرام، ولا إشكال في حرمة دخولهم فيه لصريح الآية المباركة (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ... )(1) مضافاً إلى عدم الخلاف فيه، بل في الجواهر: أنّه إجماعي بين المسلمين محصّلاً ومحكيّاً مستفيضاً، بلا فرق بين اللبث وعدمه، ولا بين تعدي النجاسة وعدمها(2).
الثاني: بالنسبة إلى الدخول في المساجد غير المسجد الحرام.
والمشهور عند الخاصة عدم الجواز بل ادعي الإجماع عليه، كما عن الشهيد(3) ، وفي كنز العرفان أنّه الموافق لنصوص أهل البيت (علیهم السلام) (4) بلعن المنتهى نسبته إلى مذهب أكثر أهل العلم(5)
وأما العامة فالمشهور عندهم هو الجواز، قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام ولا شيء من المساجد لا بإذن ولا بغير إذن، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا يجوز لهم أن يدخلوا المسجد الحرام بحال لا بإذن الإمام ولا بغير إذنه، وما عداه من المساجد لا بأس أن يدخلوها بالإذن، وقال أبو حنيفة: يدخل الحرم والمسجد الحرام وكل المساجد بإذن(6)
ص: 114
وقال العلامة في التذكرة: لا يجوز لأحد من المشركين دخول المساجد مطلقاً سواء أذن له المسلم أو لا، ولا يجوز للمسلم الإذن فيه، وبه قال مالك، لقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )وغيره من المساجد مشاركة له في كونه مسجداً، ولقوله (علیه السلام): جنبوا مساجدكم النجاسة، وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) وقال الشافعي: لا يجوز له دخول المسجد الحرام بكل حال، ويجوز له دخول غيره بإذن المسلمين لأن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أنزل المشركين في المسجد، وربط تمامة بن أثال الحنفي في سارية المسجد وهو كافر، ونمنع ذلك بعد التحريم، وقال أحمد: لا يجوز له دخول الحرمين، وفي سائر المساجد روايتان المنع والجواز بالإذن، وقال أبو حنيفة: يجوز له دخول سائر المساجد والمسجد الحرام أيضاً لقوله (علیه السلام) يوم الفتح: من دخل المسجد فهو آمن، وهو خطاب للمشركين، وأنه مسجد كسائر المساجد، والآية ناسخة لقول أبي حنيفة(1)
والذي يظهر من كلماتهم أن المشهور عندهم هو الجواز مطلقاً أو مع الإذن، بل يظهر من بعضهم الخلاف في المسجد الحرام أيضاً، وأما المشهور عندنا فهو المنع وعدم الجواز.
ويمكن الاستدلال على ذلك مضافاً إلى دعوى الإجماع بوجوه:
الأول: الآية الشريفة: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ... ) وذلك بأحد وجهين:
أ - عدم القول بالفصل بين المسجد الحرام وبين غيره للاشتراك في كون الجميع مساجد وبيوتاً لله تعالى وأماكن لعبادته، كما في التذكرة - ولافرق في ذلك بين كونه من جهة نجاستهم أو لا.
ب - أن الحكم بالتعميم من جهة نجاستهم المصرح بها في الآية الشريفة،
ص: 115
فيستفاد المنع، إما من التفريع في الآية من أن كل نجس لا يجوز له أن يقرب المسجد، وإما من النجاسة التي لا يجوز إدخالها المسجد لصريح الروايات الواردة في المنع، وهي عدة روايات منها: موثقة إسحاق بن عمار عن محمّد الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا دار فلان فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً؟ فقال: لا بأس إن الأرض تطهر بعضها بعضاً، قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال: لا يضرك مثله(1)
والمستفاد من هذه الرواية: عدم جواز إدخال النجاسة إلى المسجد.
ومنها: ما ورد في آخر السرائر نقلاً عن نوادر البزنطي بسنده عن محمّد الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه وليس علي حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى قال: فلا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً، قلت: فأطأ على الروث الرطب؟ قال: لا بأس، أنا والله ربما وطأت عليه، ثمّ أصلي ولا أغسله(2)
ومنها: ما ورد في النبوي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: جنبوا مساجدكم النجاسة(3).
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ' قال: سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلّى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جف فلا بأس(4)
والمستفاد من السؤال في الرواية: أن المرتكز في أذهان المتشرعة وجوب
ص: 116
إزالة النجاسة عن المسجد، هذا من جانب ومن جانب آخر وجود الملازمة بين وجوب تطهير النجاسة عن المسجد وحرمة تنجيسه، فيظهر من الرواية أن هذين الأمرين كانا مركوزين في أذهانهم، وأنهما حكمان قطعيان عندهم، والسؤال إنما هو عن وقت ذلك، ولذا لم يردع الإمام (علیه السلام) السائل من هذا الاعتقاد والارتكاز، وإن كان مورد الرواية هو بول الدابة.ثم إن الرواية وإن كانت معتبرة سنداً إلاّ أنها نوقشت من حيث الدلالة بأنه لم يظهر منها وجه السؤال وهل هو من جهة اللزوم أو الاستحباب، إذ من المحتمل أن بول الدابة من المستقذرات، والسائل إنما سأل عن أفضلية الصلاة أو التطهير قبلها، ولذلك أجابه الإمام (علیه السلام) بقوله: إذا جف فلا بأس، ولو كان نجساً فالجفاف لا ينفع بل لابد من التطهير.
ومنها: ما ورد من الروايات المستفيضة في جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه ومواراته بالتراب(1) ، ولا بأس بالاستدلال بها على اعتبار طهارة المسجد، هذا ولكن يمكن المناقشة في جميع ذلك.
أما في الوجه الأول فبعدم إحراز الاشتراك، إذ من الواضح أن بعض الأحكام تختص بالمسجد الحرام دون غيره من المساجد ولعل هذا منها.
وأما في الوجه الثاني فالجواب: أن التفريع المذكور في الآية إنما يتم ذلك بناء على تمامية الصغرى، وهو الحكم بنجاستهم الذاتية، والحال أن المسألة محل خلاف.
وأما الجواب عن الروايات فيقال: أولاً: إنه لم يعلم من روايتي الحلبي أن الوجه في السؤال هو دخول المسجد أو الصلاة في النجاسة، بل المستفاد من ذيل الرواية الثانية أن السؤال من جهة الصلاة فيها حيث قال (علیه السلام): أنا والله ربما وطأت عليه ثمّ أصلي ولا أغسله.
ص: 117
وثانياً: إنه لم يحرز أن ذلك من جهة السراية أو مطلقاً أي حتى إذا كانت جافة ولم تتعد، وبذلك يمكن الجواب عن الروايات المستفيضة الدالة على جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه وردمه بالتراب.
والحاصل: أنّ هذه الروايات على فرض تمامية دلالتها فهي إنما تدل على الحرمة فيما إذا كانت النجاسة مسرية وموجبة للتعدي لا مطلقاً.
وأما عن الرواية الثالثة فهي مضافاً إلى إرسالها لم يعلم عمل الأصحاب عليها، لأن غير واحد حمل المساجد فيها على مواضع السجود(1) إلاّ أن في هذا الحمل بعداً لورود نظير هذا المعنى في الروايات كقوله (علیه السلام): جنبوا مساجدكم صبيانكم ...(2)
الوجه الثاني الاستدلال بالروايات الخاصة الواردة في المقام، ومنها: ما ورد في المستدرك عن الجعفريات بسنده عن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): لتمنعن من مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم أو ليمسخنكم الله قردة أو خنازير ركعاً أو سجداً(3)
ورواها السيد الراوندي في نوادره وصاحب الدعائم في دعائمه.
وهذه الرواية وإن جمع فيها بين الكفار والصبيان في الحكم إلاّ أن هذا ليس دليلاً على الكراهة، فإن الجمع بينها وبين الحرمة في الأخبار غير عزيز، وإنما الإشكال في سند الرواية فإن الطريق إلى الجعفريات غير ثابت، وطريق الراوندي غير معتبر، ومثله في عدم الثبوت الطريق إلى روايات الدعائم، وقد حققنا ذلك في محلّه من علم الرجال(4) ، وبناء على ذلك فلا يمكن الاعتماد على هذه
ص: 118
الرواية من هذه الجهة.
الوجه الثالث: إنه يلزم من دخولهم الإهانة والهتك لحرمة المساجد، وهي بيوت الله وأماكن عبادته، وبناء على أن كلما يوجب إهانة وهتكاً بالمسجد فلا يجوز إدخاله فيه، وهذا الوجه وإن كان تاماً من جهة الكبرى إلاّ أن الكلام فيه من جهة الصغرى.
وإلى هنا تبين أنّه يحكم بعدم جواز الدخول في صورتين:
الأولى: ما إذا كان الدخول موجباً للهتك والإهانة.
الثانية:ما إذا كان الدخول موجباً لسراية النجاسة وتلويثهم المسجد بها كما أفاده السيد الأستاذ ! (1)
وها هنا وجه آخر يمكن جعله مانعاً مطلقاً من دخولهم المساجد وهو أن الكفار لما كانوا لا يغتسلون عن الجنابة فهم محكمون بحدثها، ومن المعلوم عدم جواز دخول المحدث بالجنابة في المسجد كما لا يجوز تمكينهم من الدخول في صورة العلم بذلك على وجه، وهذا لا يبتني على شيء مما تقدم.
هذا تمام ما يمكن أن يستدل به على الحكم.
ولكن على ما تقدم مما اخترناه من دلالة الآية الشريفة على النجاسة، وهي المناط في عدم دخولهم المسجد الحرام، فالمستفاد أن النجس لا يجوز دخوله أو إدخاله المسجد، ولا يفرق فيه بين مسجد وآخر، فمن هذه الجهة يقوى القول: بعدم جواز إدخال النجاسة في المسجد مطلقاً شركاً كان أو غيره من النجاسات، نعم بالنسبة إلى غير الشرك يبتني الحكم فيهعلى القول بالنجاسة كما تقدم.
ص: 119
أن الكافر نجس العين، ولابد من الاجتناب عنه فيما يشترط فيه الطهارة، وهذا هو المشهور عند الفقهاء، وهنا بحث طويل والمسألة ابتلائية وهي محل خلاف بين الفقهاء، ونظراً لأهميتها وعموم الابتلاء بها فلابد من التحقيق حولها بالتفصيل فنقول:
إن هذه المسألة محل خلاف بين الخاصة والعامة، أما الخاصة فقد اشتهر - عندهم - القول بنجاسة الكافر بجميع أقسامه شهرة عظيمة، ويستوي فيه المنكر للتوحيد، والمشرك، وأهل الكتاب، كما يستوي فيه الكافر الأصلي، أو المرتد، وكذا من يلحق بهم من الأولاد، والنواصب والغلاة، ومن أنكر ضرورياً من ضروريات الدين، على خلاف في الأخير، وقد ادعى الإجماع على ذلك كما نسب إلى السيد المرتضى، والشيخ، وابن زهرة، والعلاّمة(1)
ونسب إلى المفيد في رسالته الغرية(2) القول بكراهة أسآرهم، إلاّ أنّه في بقية كتبه حكم بالنجاسة، وذهب ابن الجنيد وابن أبي عقيل إلى القول بعدم النجاسة(3) ولعل الشيخ المفيد كان على هذا ثمّ رجع عنه، ولذا ذكر تلاميذه دعوى الإجماع والاتفاق على النجاسة، وأما مخالفة ابن الجنيد وابن أبي عقيل فلا تضرّ بالإجماع.
وأما العامة فالأمر بالعكس، إذ المشهور عندهم هو القول بالطهارة،
ص: 120
وذهب بعضهم إلى القول بالنجاسة.
قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم، وقال الشافعي: لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: لا يجوز استعمالها(1)وقال في المغني: الآدمي طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامة أهل العلم(2)
وقال في عمدة القارىء: إن المؤمن لا ينجس، وإنه طاهر، سواء كان جنباً أو محدثاً حيّاً أو ميتاً وكذا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه وكذا الكافر في هذه الأحكام(3)
وقال في البدايع: سؤر الطاهر المتفق على طهارته سؤر الآدمي بكل حال مسلماً كان أو مشركاً(4)
وكذا في غيرها من كتب العامة.
وفي مقابل هذا ذهب الرازي في تفسيره إلى القول بنجاسة المشرك لظاهر الآية الشريفة: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ... )ونقل عن الحسن: من صافح مشركاً توضّأ. وقال هذا قول الهادي من أئمة الزيدية(5)
ونسب في فتح الباري القول بالنجاسة إلى أهل الظاهر وقال: الآدمي الحي ليس بنجس العين(6)
وفي المحلّى ذهب إلى النجاسة، وتعجب ممن يقول بالطهارة(7)
ص: 121
والذي يظهر من مجموع أقوال العامة أن المشهور عندهم هو القول بالطهارة على خلاف مشهور الخاصة من القول بالنجاسة.
أما القول المشهور فقد استدل له بأمور:
أ - الكتاب.
ب - السنة .
ج - الإجماع.
وحيث إن الحكم بالنجاسة ينتهي إلى الإجماع فنبدأ أولاً به تبعاً للفقهاءقدس الله أسرارهم(1)
ولابدّ من ملاحظة أقوال فقهاء الطائفة في المسألة، ومن ثمّ ملاحظة الآيات والروايات فنقول:
قال الشيخ المفيد في المقنعة: وإذا صافح الكافر المسلم ويده رطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء، وإن لم تكن رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب(2)
وذكر في رسالته الغرية كراهة سؤر اليهودي والنصراني(3) كما ذكرنا آنفاً.
وظاهر كلامه في المقنعة نجاسة الكافر، فيحمل كلامه في الرسالة على أنّه عدل عن القول بالكراهة بقرينة أن تلاميذه كالسيد والشيخ وغيرهما، ادعوا الاتفاق والإجماع على النجاسة، ومن البعيد جداً أنهم لم يلاحظوا فتوى شيخهم المفيد ولم يطلعوا عليها، فيحتمل قوياً رجوعه عما في الرسالة، وإن كان يمكن القول أن حكمه بالنجاسة في المقنعة تنزيهي لا تحريمي بقرينة قوله: وإن لم تكن
ص: 122
رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب.
وقال الشيخ الصدوق في المقنع: ولا تصل في جلد الميتة على كل حال ولا تصل في السواد ... ولا تجوز الصلاة في شيء من الحديد إلاّ إذا كان سلاحاً ... ولا تصل على بواري اليهود والنصارى(1)
وقال في الهداية: ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي ولا النصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام(2)
وقال في الفقيه: ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي ولا النصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام، وأشد من ذلك سؤر الناصب(3)
وقال: فإن اجتمع مسلم مع ذمي في الحمام اغتسل المسلم من الحوض قبل الذمي، ولا يجوز التطهير بغسالة الحمام لأنه يجتمع فيه غسالةاليهودي والنصراني والمجوسي والمبغض لآل محمّد (علیهم السلام) وهو شرهم(4)
وأورد في باب الصيد والذبائح من الفقيه عدة روايات تنهى عن مؤاكلة اليهود والنصارى وأكل أسآرهم، واستعمال آنيتهم، وفي بعضهم الأمر بغسل آنية المجوس عند الاضطرار إليها(5)
وظاهر كلماته يحمل على القول بالنجاسة، وإن كان احتمال النجاسة التنزيهية وارداً، لعطف سؤر ولد الزنا في الموردين الثاني والثالث، وعدم جواز الصلاة في السواد والحديد في المورد الأول.
وقال السيد ابن زهرة في الغنية: والثعلب والأرنب نجسان بدليل الإجماع المذكور، والكافر نجس بدليله أيضاً، وبقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) وهذا
ص: 123
نص وكل من قال بذلك في المشرك قال به في من عداه من الكفار، والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع(1)
وكلامه صريح في الحكم بنجاسة الكافر بجميع أقسامه.
وقال السيد المرتضى في الانتصار: مسألة: ومما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر وخالف جميع الفقهاء في ذلك ... ويدل على صحة ذلك مضافاً إلى إجماع الشيعة عليه قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ...(2)
وقال في الناصريات عند شرح قوله: «سؤر المشرك نجس» : عندنا أن سؤر كل كافر بأي ضرب من الكفر كان كافراً نجس، لا يجوز الوضوء به، وأجاز الوضوء بذلك أبو حنيفة وأصحابه، وحكى الطحاوي عن مالك في سؤر النصراني أو المشرك أنّه لا يتوضأ به، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الفرقة المحقة قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )وفي هذا تصريح بنجاسة أسآرهم، وروى عبد الله بن المغيرة، عن سعيد الأعرج، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني فقال: لا(3)
وقال سلار في المراسم: وإزالة النجاسة على أربعة أضرب أحدها بالمسح على الأرض والتراب، وهو ما يكون في النعل والخف، والآخربالشمس وهو البول إذا وقع على الأرض والبواري والحصر، والآخر برش الماء على ما مسه كمس الخنزير والكلب والفأرة والوزغة وجسد الكافر، إذا كان كل من ذلك يابساً وكذلك من ظن أن في ثوبه نجاسة ولم يتيقن ذلك فإنه يرش الثوب بالماء، والآخر ما عدا ما ذكرناه من النجاسات فإنه لا يزول إلاّ بالماء ولا يجزي فيه
ص: 124
غيره(1)
وصريح كلامه أن الكافر نجس كالكلب والخنزير.
وقال ابن حمزة في الوسيلة: وإذا لم يبلغ (الماء) كراً نجس بوقوع كل نجاسة فيه، وبمباشرة كل نجس العين مثل الكلب والخنزير وسائر المسوخ، وكل نجس الحكم مثل الكافر والناصب وبارتماس الجنب فيه(2)
وقال في موضع آخر من الوسيلة: فما تجب إزالة قليله وكثيره أربعة أضرب: أحدهما يجب غسل ما مسه إن كانا رطبين أو كان أحدهما رطباً، والثاني يابساً يجب رش الموضع الذي مس يابساً بالماء إن كان ثوباً، والثالث يجب مسحه بالتراب إن مسه البدن يابسين، والرابع يجب غسل ما أصابه بالماء على كل حال، فالأول والثاني والثالث تسعة أشياء الكلب والخنزير والثعلب والأرنب والفارة والوزغة وجسد الذمي والكافر والناصب، فإنه يجب غسل الموضع الذي مسه رطباً بالماء ثوباً كان أو بدناً إن مس الثوب يابسين، ومسحه بالتراب إن مس البدن يابسين، والرابع أحد وعشرون شيئاً ...(3)
وظاهر كلامه في أن الكافر كسائر النجاسات.
وقال الشيخ في الخلاف: ... لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم، وقال الشافعي: لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد بن حنبل وإسحق: لا يجوز استعمالها.
دليلنا: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) فحكم عليهم بالنجاسة، فيجب أن يكون كلما باشروه نجساً، وعليه إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط تقتضي تنجيسها (تجنبها).
ص: 125
وروى محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن آنية أهل الذمةوالمجوس؟ قال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخونه ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر(1)
وقال في التهذيب: أجمع المسلمون على نجاسة المشركين والكفار إطلاقاً(2).
ولا يبعد أن يكون مراده من المسلمين هم الشيعة.
وقال في المبسوط: فسؤر الآدمي كله طاهر، إلاّ من كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو كافر ملة، ولا يجوز استعمال ما شربوا منه أو باشروه بأجسامهم من المياه وسائر المايعات، وكذلك ما كان أصله مايعاً فجمد أو جامداً فغسلوه بأيديهم وجففوه، فلا يجوز استعماله إلاّ بعد تطهيره فيما يمكن تطهيره من غسل الثياب، وما عداه فإنه يجتنب على كل حال(3)
وقال أيضاً: وأواني المشركين ما يعلم منها استعمالهم لها في المايعات لا يجوز استعمالها إلاّ بعد غسلها، وإذا استعملوها في مايع طاهر ينجس بمباشرتهم، وما لم يستعملوها اصلاً أو استعملوها في شيء طاهر ولم يباشروها بأجسامهم فلا بأس باستعماله، وحكم سائر الكفار في هذا الباب سواء كانوا عباد الأوثان وأهل الذمة أو مرتدين أو كفار ملة من المشبهة والمجسمة والمجبرة وغيرهم(4)
وقال في التبيان في تفسير قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ... )(5) : وذلك يختص عند أكثر أصحابنا بالحبوب، لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب، فأمّا ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه نجس(6)
ص: 126
وقال في النهاية: ولا يجوز استعمال أسآر من خالف الإسلام من ساير أصناف الكفار، وكذلك أسؤر (أسآر) الناصب لآل محمّد (علیهم السلام) العداوة(1)
وقال: وماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كانت له مادة من المجرى، فإذا (فإن) لم يكن له مادة فهو على طهارته ما لم تعلم فيه نجاسة، فإن علمت فيه نجاسة أو أدخل يده فيه يهودي أو نصراني أومشرك أو ناصب ومن ضارعهم من أصناف الكفار فلا يجوز استعماله على حال(2)
وقال في باب تطهير الثياب: وكذلك إن مس الإنسان بيده أحد ما ذكرناه أو صافح ذمياً أو ناصباً معلناً بعداوة آل محمّد (علیهم السلام) وجب عليه غسل يده إن كان رطباً، وإن كان يابساً مسحها بالتراب(3)
وقال في باب الأطعمة المحظورة والمباحة: ولا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلاّ بعد غسلها بالماء، وكل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله، لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه، وقد رخص في جواز استعمال الحبوب وما أشبهها مما لا يقبل النجاسة وإن باشروهم، بأيديهم ... إلى أن قال: ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، وإن دعاه فليأمره بغسل يديه ثمّ يأكل معه إن شاء(4)
وقوله: فليأمره ... الخ محمول على الدعوة إلى الأكل من طعام لا يقبل النجاسة كالحبوب ونحوها.
وقال العلامة في المختلف في باب الأطعمة والأشربة: قال الشيخ في النهاية:
ص: 127
يكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، وإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثمّ يأكل معه إن شاء، وقال شيخنا المفيد: لا تجوز مؤاكلة المجوس، وقال ابن البراج: لا يجوز الأكل والشرب مع الكفار، وقال ابن إدريس: قول شيخنا في النهاية رواية شاذة أوردها إيراداً لا اعتقاداً، وهذه الرواية لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها لأنها مخالفة لأصول المذهب، لأنا قد بيّنا بغير خلاف أن سؤر الكفار نجس ينجس المايع بمباشرته، وأيضاً الإجماع على خلافها، وقال السيد المرتضى في انتصاره: مما انفردت به الإمامية أن كلّ طعام عالجه الكافر من اليهود والنصارى وغيرهم ممن ثبت كفرهم بدليل قاطع فهو حرام، لا يجوز أكله ولا الانتفاع به، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والمعتمد ما اختاره ابن إدريس لنا أنهم أنجاس ... الخ(1)
وقال في باب لباس المصلي: قال الشيخ في النهاية: إذا عمل مجوسيثوباً يستحب أن لا يصلي فيه، وكذلك إذا استعار ثوباً من شارب الخمر أو مستحلّ شيء من النجاسات يستحب أن يغسل أولاً بالماء ثمّ يصلي فيه، وقال في المبسوط: إذا عمل كافرٌ ثوباً لمسلم فلا يصلي فيه إلاّ بعد غسله، لأن الكافر نجس، وكذلك إذا صبغه له، لأن الكافر نجس، وسواء كان أصلياً أو كافر ردة أو كافر ملة، وتعليل الشيخ يؤذن بالمنع وهو اختيار ابن إدريس، وجعل قول الشيخ في النهاية خبراً واحداً أورده إيراداً لا اعتقاداً بل اعتقاده وفتواه ما ذكره في المبسوط.
وقال ابن الجنيد: فإن كان استعاره من ذمي أو ممن الأغلب على ثوبه النجاسة أعاد، خرج الوقت أم لم يخرج، وهو يؤذن بقول الشيخ في المبسوط مع أنّه قال قبل ذلك: واستحب تجنب ثياب المشركين، ومن لا يرى غسل النجاسة
ص: 128
من ثوبه والتنظيف لجسده منها وخاصة ميارزهم وما سفل من أثوابهم التي يلبسونها وما يجلسون عليه من فرشهم، ولو صلى فيه أو عليه ثمّ علم بنجاسته اخترت له الإعادة في الوقت وغير الوقت(1)
ثم قال العلامة: والوجه عندي اختيار الشيخ في النهاية، وأجاب عما تمسك به ابن إدريس من دعوى الإجماع على نجاسة أسآر الكفار، ومن رواية عبد الله بن سنان بأن السؤر يستلزم المباشرة فينجس بخلاف الثوب فالأصل فيه الطهارة، وحمل الرواية على الاستحباب(2)
وقال في التذكرة: الأسآر كلها طاهرة إلاّ سؤر نجس العين وهو الكلب والخنزير والكافر على الأشهر(3)
وقال: الكافر عندنا نجس لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) والحذف على خلاف الأصل والوصف بالمصدر جايز لشدة المعنى، وقوله تعالى كذلك: (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ولقول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد سئل إنّا بأرض قوم أهل كتاب نأكل في آنيتهم؟ : لا تأكلوا فيها إلاّ أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثمّ كلوا فيها، وسؤال الصادق (علیه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني فقال: لا.
ثم قال: لا فرق بين أن يكون الكافر أصلياً أو مرتداً، ولا بين أن يتدين بملة أو لا، ولا بين المسلم إذا أنكر ما يعلم ثبوته من الدين ضرورةوبينه، وكذا لو اعتقد المسلم ما يعلم نفيه من الدين ضرورة(4)
وقال في المنتهى: مسألة: الكفار أنجاس وهو مذهب علمائنا أجمع، سواء كانوا أهل كتاب أو حربيين أو مرتدين وعلى أي صنف كانوا خلافاً للجمهور.
ص: 129
لنا قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) لا يقال: إنه مصدر فلا يصح وصف الجنس (المشبه) إلاّ مع حرف التشبيه ولا دلالة فيه حينئذ، لأنا نقول: إنه يصح الوصف بالمصادر إذا كثرت معانيها في الذات كما يقال: رجل عدل، وذلك يؤيد ما قلناه.
وما رواه الجمهور عن أبي تغلبة، قال: قلت: يا رسول الله إنّا بأرض أهل كتاب أفنأكل في إنائهم؟ فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها متفق عليه. وما رووه عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «المؤمن ليس ينجس» ، وتعليق الحكم على الوصف يدل على سلبه عما عداه. ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى قال: سألته عن فراش اليهودي ... الخ.(1)
وقال المحقق في المعتبر: وأما الكفار فقسمان يهود ونصارى ومن عداهما، أما القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم سواء كان كفرهم أصلياً أو ارتداداً لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ولقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لا يقال: الرجس العذاب رجوعاً إلى أهل التفسير، لأنا نقول: حقيقة اللفظ يعطي ما ذكرناه فلا يستند إلى مفسر برأيه ولأن الرجس اسم لما يكره فهو يقع على موارده بالتواطي، فيحمل على الجميع عملاً بالإطلاق. وأما اليهود والنصارى فالشيخ قطع في كتبه بنجاستهم، وكذا علم الهدى، والاتباع، وابنا بابويه، وللمفيد قولان أحدهما: النجاسة ذكره في أكثر كتبه والآخر: الكراهية ذكره في الرسالة الغرية(2) ثمّ استدل على الحكم بما رواه الخاصة والعامة.
ونكتفي بهذا القدر من كلمات الفقهاء.
ص: 130
والمتحصّل من مجموع هذه الأقوال أمور:
الأول: نسبة المخالفة في المسألة إلى ابن أبي عقيل فقط ولم نقف علىكلامه وأما ابن الجنيد فنسب إليه الاحتياط في بعض كلماته، والحكم بالنجاسة في البعض الآخر.
الثاني: الظاهر من كلمات من ذكرنا أن هذا الحكم مطابق للإجماع واستدلالهم به، بل عن السرائر أنّه من أصول مذهب الإمامية.
الثالث: أن عمدة حكمهم بالنجاسة هو الاستشهاد بالآية الشريفة (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) كما ورد في كلمات ابن زهرة، والسيد المرتضى، والشيخ، والعلامة، والمحقق، كما استشهد بعضهم مضافاً إلى هذه الآية بقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) كما في كلمات العلامة، والمحقق.
الرابع: لم يظهر الفرق بين الشرك وغيره في كلماتهم إلاّ ما جاء في كلام المحقق من أنّه قسّم الكافر إلى قسمين، بل إن بعضهم نفى الفرق صريحاً كما في كلام ابن زهرة المتقدم.
وأما الدليل الثاني وهو الكتاب فالمستفاد من كلمات الفقهاء أن مدرك الإجماع لما اعتمدوه في الحكم بالنجاسة هو الآيات، وقد استدلوا بآيتين الأولى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا... )(1) ، والثانية قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(2)
أما الآية الأولى فقد استدل بظاهرها على أن المراد من قوله تعالى: (نَجَسٌ ) هو النجاسة الاصطلاحية، والآية وإن كانت مطلقة بمعنى أن النجس يطلق ويراد به القذر وما ليس بطاهر، إلاّ أن النجاسة تشمل الذاتية والواقعية ولا
ص: 131
سيما مع تفريع الأثر وهو عدم جواز دخولهم المسجد الحرام بل سائر المساجد فالمستفاد من الآية هو القذارة الذاتية.
وإليه ذهب صاحب الحدائق(1)، وصاحب الجواهر(2)، وغيرهما، كما مر وسيأتي.
وذهب آخرون كالسيد الأستاذ ! (3) وغيره إلى عدم استفادة هذا المعنى من الآية وناقشوا دلالتها بأمور:الأول: في أن كلمة نجس مصدر ولا يصح حمل المصدر على الذات إلاّ بتقدير ذي ونحوها أو التأويل بالمشتق فإذا قيل: فلان نجس فالمقصود ذو نجاسة وهذا أعم من كونه نجساً ذاتاً أو عرضاً، وحيث إن من المعلوم من سيرة الكفار والمشركين وطريقتهم، عدم تجنبهم عن النجاسات كالميتة والخمر والبول وغيرها فالمناسب هو الحمل على النجاسة العرضية ولا أقل من عدم الاختصاص بالنجاسة الذاتية، وبناء على ذلك فلا يمكن الاستدلال بالآية فإنها أعم من المدعى.
الثاني: أن لفظ نجس في اللغة بمعنى القذارة وفيها محتملات أربعة:
الأول: القذارة القائمة بالجسم القابلة للتعدي.
الثاني: القذارة المعنوية وهي الخبث الباطني القائم بالنفس.
الثالث: القذارة المعنوية القائمة بالجسم غير القابلة للتعدي كالجنابة والحيض ونحوهما.
الرابع: القذارة بمعنى النجاسة الاصطلاحية وهي أمر اعتباري وتترتب عليه الآثار من السراية والتعدي مع الرطوبة.
ص: 132
وحيث إن المعنى المراد دائر بين هذه المعاني الأربعة فلا وجه لتخصيصه بالأخير إذ لا دليل عليه بخصوصه.
الثالث: أن لفظ المشركين مختص بفئة معينة من الناس، ولا يشمل كل من لا يدين بدين الإسلام، فهو أخص من الكفار ويكون مقابلاً لأهل الكتاب، نعم هو يشمل الوثنيين وغيرهم ممن يقولون بتعدد الآلهية، وأما أهل الكتاب فلا يشملهم لفظ المشركين فلا يستفاد من الآية شمول الحكم لجميع الأصناف.
وقد يجاب بعدم القول بالفصل بين هذه الأصناف.
وفيه أولاً: عدم ثبوت القول بعدم الفصل.
وثانياً: أن هذا ليس استدلالاً بالآية وحدها بل بضميمة أمر آخر.
وقد يقال: إن المشرك قد يطلق ويراد به أهل الكتاب أيضاً بمفاد الآيات الواردة ومنها قوله تعالى: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُعَمَّا يُشْرِكُونَ) (1)
وفي هذه الآية نص صريح بنعت اليهود والنصارى بالشرك، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ... ) (2)
والمستفاد: أن إطلاق لفظ المشركين شامل لليهود والنصارى.
وأما المجوس فكذلك لأنهم ثنوية قائلون بتعدد الآلهة وأن مبدأ الخير هو يزدان، كما أن مبدأ الشر هو اهرمن أو النور والظلمة(3)
ص: 133
والمتحصل: أن أهل الكتاب داخلون في الآية.
وفيه: أن نعت أهل الكتاب بأنهم مشركون إنما هو بالعناية والالتفات إلى واقعهم، والتعريف بحقيقتهم وأنهم مشركون واقعاً لا بالإطلاق، والظاهر من الآيات وإطلاقها انصراف لفظ المشركين إلى الوثنيين في مقابل أهل الكتاب، ولذا فإن القرآن الكريم في العديد من آياته ولاسيما في سورة التوبة تناول هذه الأصناف وجعل لكل منها أحكاماً خاصة بها.
هذا وقد أجيب عن هذه الإشكالات.
أما عن الإشكال الأول فيقال في جوابه أولاً: إن لفظة نجس قد تأتي صفة لا مصدراً.
وثانياً: على فرض كون نجس مصدراً فما المانع من حمله على الذات؟ كما يقال: زيد عدل على نحو المبالغة بلا حاجة إلى تقدير، فيصح أن يقال: المشركون نجس كما هو ظاهر الآية الشريفة، وهذا هو الأرجح لاحتمال الخدشة في الوجه الأول بعدم التطابق بين الصفة والموصوف.
هذا وقد قرر سيدنا الأستاذ ! (1) الإشكالين الأخيرين والتزم بهما.
أما الإشكال الثاني فقد قرره بوجهين:
الأول: أنّه لا دليل لنا على أن النجاسة استعملت بالمعنى الأخير، وذلك لأن الأحكام كانت تنزل بصورة تدريجية فلم يعلم أن هذا المعنى ثابت وقت نزول الآية الشريفة، وحيث إن أصل ثبوته غير معلوم فكيف يمكن صرف الآية عن بقية المعاني وحملها على معنى يشك في وجوده؟
الثاني: أن الأنسب بمعنى الآية هو المعنى الثاني وهو الحمل علىالقذارة الباطنية والخبث المعنوي وأنهم رجس ينبغي اجتنابه، وذلك لمناسبة عدم جواز
ص: 134
دخولهم المسجد الحرام، فإن النجاسة بالمعنى الأخير لا تتنافى مع دخول المسجد الحرام - على الخلاف فيه - إذا لم تستلزم الهتك، وعليه فالمناسب لتفريع هذا الحكم هو المعنى الثاني من المعاني الأربعة.
ولكن يمكن أن يقال: إن الوجه الأول لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن عدم ثبوت هذا المعنى في زمان نزول الآية بعيد جداً إذ الآية الشريفة وردت في سورة التوبة وهي من آخر السور نزولاً على النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهل يتصور عدم ثبوت هذا المعنى إلى أواخر زمان دعوة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟
نعم لو كان نزول الآية في أول البعثة لكان له وجه، وأما كون زمان نزولها أواخر سني الدعوة فلا يتصور ذلك، فإن كان مراد السيد الأستاذ! هذا المعنى فغير تام، وإن كان مراده هو عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فكذلك، فإن الوقوف على الروايات والكلمات الواردة في زمان الوحي يعطي أن لفظ النجاسة كان مستعملاً في نفس هذا المعنى الشرعي بلا قرينة، وقد تتبعنا جملة من روايات العامة والخاصة.
أما في روايات العامة فقد استعمل هذا اللفظ في المعنى الشرعي في عدة موارد:
الأول: ما رواه حذيفة بن اليمان بطرق متعددة متفق عليها عندهم، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لقيه في الطريق وهو جنب فحاد عنه فاغتسل ثمّ جاء فقال: كنت جنباً، فقال: المسلم لا ينجس(1) وفي رواية السنن الكبرى: إن المؤمن لا ينجس(2)
الثاني: ما رواه أبو سعيد الخدري بطرق صحيحة عندهم أيضاً: قيل يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها لحوم الكلاب والحيض والنتن؟
ص: 135
فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): الماء طهور لا ينجسه شيء(1)
الثالث: ما رواه عبد الله بن عمر - وقد رواها الخمسة - قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يُسأل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض ... إلى أن قال (صلی الله علیه و آله و سلم): إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث(2) وفي لفظ ابن ماجه: لاينجسه شيء(3)
الرابع: ما روته كبشة بنت كعب بن مالك - ورواها الخمسة أيضاً - في الهرة، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوّافين عليكم والطوّافات(4).
الخامس: ما رواه أنس (متفق عليه) قال: أتانا منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر فإنها رجس(5)
السادس: ما رواه ابن مسعود أنّه أمره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأن يؤتيه بثلاثة أحجار، فقال: وجدت الحجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة فأتيت بهن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: هذه ركس(6) وفي لفظ ابن ماجه(7) وابن خزيمة: رجس وهما بمعنى نجس(8)
السابع: انزاله (صلی الله علیه و آله و سلم) وفد ثقيف في المسجد فقال الأصحاب: إنهم قوم أنجاس، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم(9) وورد عن ابن عباس - كما نقل البخاري - أنّه قال: المؤمن
ص: 136
لا ينجس حياً ولا ميتاً(1)
وغير هذه من الموارد التي وردت فيها هذه الكلمة بنفسها وبمشتقاتها.
هذا من جهة العامة.
وأما من جهة الخاصة فقد وردت عدة روايات أيضاً على لسان النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، منها ما ذكره صاحب الوسائل قال: وروى جماعة من أصحابنا في كتب الاستدلال عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: جنبوا مساجدكم النجاسة(2).
ومنها ما رواه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى محمّد بن علي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: بينا أمير المؤمنين (علیه السلام) ذات يوم جالساً معمحمّد بن الحنفية، إذ قال له: يا محمّد ايتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة، فأتاه محمّد بالماء فأكفأه فصبه بيده اليسرى على يده اليمنى، ثمّ قال: بسم الله وبالله، والحمد لله الذين جعل الماء طهوراً ولم يجعله نجساً ... الخ(3)
ومنها ما نقله صاحب الوسائل عن المحقق الحلي في المعتبر قال: قال(علیه السلام): خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلاّ ما غير لونه أو طعمه أو ريحه(4)
ورواه ابن إدريس مرسلاً في أول السرائر، إلاّ أنّه نسبه إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) (5)
ومنها ما رواه في المستدرك، عن الجعفريات بسنده عن علي بن أبي طالب ': لو أن رجلاً جامع في ثوبه ثمّ عرق فيه منه حتى ينعصر لأمرناه بالصلاة فيه، ولم نأمره بغسل ثوبه لأن الثوب لا ينجسه شيء(6)
ومنها ما في المستدرك أيضاً عن الجعفريات بسنده عن علي (علیه السلام) قال: أربع
ص: 137
لا ينجسهن شيء، الأرض والجسد والماء والثوب، فسئل ما نجاسة الجسد؟ - إلى أن قال : - قالوا: فالأرض يا أمير المؤمنين قال: إذا أصابها قذر ثمّ أتت عليها الشمس فقد طهرت(1)
ومنها ما رواه عن الدعائم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): أنّه رخص في الادام والطعام يموت فيه خشاش الأرض والذباب ما لا دم له، وقال: لا ينجس ذلك شيئاً ولا يحرمه ... الخ(2)
ومنها ما رواه عن الجعفريات بسنده أن علياً (علیه السلام) كان يقول: من صلى حتى يفرغ من صلاته وهو في ثوب نجس فلم يذكره إلاّ بعد فراغه ليعد صلاته(3)
ومنها ما رواه عن نوادر الراوندي بإسناده عن موسى عن جعفر عن آبائه قال: قال علي (علیه السلام): من صلى في ثوب نجس فلم يذكره إلاّ بعد فراغه فليعد صلاته(4)ومنها ما رواه في الدعائم، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي صلوات الله عليهم، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عن الصلاة بجلود الميتة وإن دبغت وقال: الميتة نجس وإن دبغت(5)
ومنها ما رواه عن الإرشاد بإسناده عن موسى بن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال في ذكر فضل نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمته على سائر الأنبياء وأممهم: إن الله سبحانه رفع نبينا إلى ساق العرش فأوحى إليه فيما أوحى: كانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى نجس قرضوا من أجسادهم وقد جعلت الماء طهوراً لأمتك من جميع الأنجاس والصعيد في الأوقات(6)
ص: 138
ومنها ما رواه عن الدعائم، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال: ليس ينجس الماء شيء(1)
ومنها ما رواه عن عوالي اللئالي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: الماء لا ينجسه شيء(2)
وفي حديث آخر: خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلاّ ما غير لونه أو طعمه أو رائحته(3)
ومنها ما رواه عن الجعفريات بسنده عن علي (علیه السلام) قال: الماء الجاري لا ينجسه شيء(4)
ومنها ما رواه عن الجعفريات ونوادر الراوندي بسندهما عن علي (علیه السلام) قال: الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم فيتوضأ منه ويشرب منه ليس ينجسه شيء(5)
وعن الجعفريات أيضاً بسنده عنه (علیه السلام) قال: أربع لا ينجسهن شيء، الأرض، والجسد، والماء، والثوب، ثمّ فسر (علیه السلام) مراده في كل واحد منها، إلى أن قال: والماء الجاري يمر بالجيف ... الخ(6)إلى غير ذلك من الروايات.
والمستفاد من مجموع هذه الروايات أن لفظ النجاسة كان مستعملاً في عصر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في المعنى الرابع، ولم يكن استعماله بأقل إن لم يكن أكثر من سائر المعاني الأخرى للنجاسة، فالمناقشة في أن هذا اللفظ لم يستعمل في هذا المعنى
ص: 139
ليست في محلها.
والحاصل: أنّه لا إشكال في حمل ما ورد من لفظ النجاسة في الآية الشريفة على معناها الشرعي.
ثم إنه إذا كان هذا المعنى هو الأظهر من هذه المعاني حيث ورد الاستعمال فيه في زمان الوحي، فما ذكره الراغب في مفرداته من قوله: النجاسة القذارة، وذلك ضربان ضرب يدرك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة، والثاني وصف الله تعالى به المشركين فقال: إنما المشركون نجس(1) ، وما ذكره غيره من اللغويين، فليس بحجة لأنه ناشىء عن تأثر بفقهائهم. فتأمل.
وأما الوجه الثاني فهو قابل للمناقشة أيضاً، فإنه وإن تعددت المعاني لكن يمكن حمله على المعنى الأخير وهو الأنسب لا المعنى الثاني كما ذكرنا، ولا سيما مع استعمال لفظ إنما الدالة على الحصر والاخبار عنهم بأنهم نجس. والتفريع المذكور في الآية يتلاءم مع المعنى الأخير، ويكون حال المشركين حال الكلاب من عدم جواز تمكينهم الدخول في المساجد، مضافاً إلى ما تقدم من استعمال لفظ النجاسة في معناها الشرعي في زمان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم).
والحاصل: أن هذا الوجه غير تام فالإشكال غير وارد، وعلى فرض الاغماض عن ذلك فما ذكر من الترجيح والأنسبية بالآية سواء كان بالمعنى الثاني أو الرابع أو غيرهما فإنما هي استحسانات عقلية.
وأما الإشكال الثالث فقد قرره السيد الأستاذ ! بوجهين أيضاً:
الأول: أن المراد من المشركين في الآية مرتبة خاصة وهي المقابلة لأهل الكتاب وليس المراد جميع المراتب، وإلاّ لشمل المسلم المرائي في عمله فإن الرياء في العمل شرك، ولا يمكن الالتزام بنجاسة المرائي وعدم جواز دخوله المسجد.
ص: 140
الثاني: أن الظاهر من الآيات الواردة في المقام - ومنها هذه الآية - أنالمشركين هم في مقابل أهل الكتاب لا الأعم، وذلك لأن لكل من أهل الكتاب والمشركين أحكاماً خاصة بكل صنف فمثلاً لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين، ويجب عليه الخروج منها، وأما أهل الكتاب فلا بأس بسكناهم في بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية ونحوها، فدعوى أن المشركين في
الآية أعم من أهل الكتاب خلاف الظاهر(1)
ولكن هذا الإشكال قابل للدفع أيضاً وذلك:
أولاً: أن لفظ المشركين أطلق على أهل الكتاب أيضاً في آيات عديدة منها ما جاء قبل هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ) (2)
والمشركون هنا في مقابل المؤمنين وهو يشمل أهل الكتاب.
ومنها ما جاء بعد الآية وهو قوله تعالى: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (3)
وهنا تصريح بأنهم مشركون.
ومنها أيضاً ما ورد بعد ذلك في سياق بيان أوصاف اليهود والنصارى وهو
ص: 141
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )(1)
ومنها ما ورد في غير هذه السورة وهو قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) (2) وفي هذه الآية تعريض باليهود والنصارى بأنهم مشركون.
ومنها ما ورد في وصفهم بالشرك وهو قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَقَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3)
وهذه الآية بيان لحقيقة شركهم وقولهم بتعدد الآلهية.
وغيرها من الآيات الكثيرة الواردة في بيان أن أهل الكتاب قد يطلق عليهم لفظ المشركين.
وثانياً: أن مناسبة الحكم والموضوع ومقتضى الفهم العرفي كون الحكم بالنجاسة إنما هو من جهة عدم الإيمان بالله ولا فرق في هذا بين الوثنيين وأهل الكتاب وغيرهم من أقسام الكفار.
ويؤيده: أن بعض الفقهاء - كما تقدم - قال بعدم الفصل حيث حكم بنجاسة الجميع، نعم ورد في كلام المحقق تقسيم الكفار وهو مشعر بالفصل، ولم يصرح بذلك بل استدل بالآية على النجاسة، فليس في المقام قول صريح بالفصل.
ويؤيده أيضاً: ما ورد في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) فإن قوله (لا يؤمنون) عام شامل لجميع أقسام الكفار بناء على أن الرجس هو النجاسة، وسيأتي الكلام حول الآية ومفادها
ص: 142
قريباً كما يمكن تأييد ذلك أيضاً بما ورد من الروايات المعتبرة من أن المؤمن لا ينجس كما سيأتي، وجاء في روايات العامة بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ المسلم كما تقدم عن ابن عباس، ومفهوم هذه الروايات: أن غير المؤمن نجس بلا فرق بين أقسامهم، وإلاّ فلا فضل لاختصاص هذا بالمؤمن.
والمستفاد من هذين الوجهين إمكان إطلاق لفظ المشركين على أهل الكتاب، ولا يختص بمرتبة معينة من الكفار كما ذكر السيد الأستاذ !.
وأما ما ذكره ! من اختصاص كل صنف منهم بأحكام لا تشمل الآخر فيمكن الجواب عنه أولاً: بأنا لا نقول: إن لفظ المشركين حقيقة في الجميع بل نقول: إن للفظ صلاحية في إطلاقه عليهم كما ذكرنا، وثانياً: أن كون كل صنف له أحكام خاصة مما لا إشكال فيه عند الاجتماع، ويكون من قبيل الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
والحاصل: أن لفظ المشركين في الآية الشريفة أطلق على جميع أصناف الكفار بلا فرق بين فئة دون أخرى، هذا بناء على تماميةالوجهين وإلاّ فلابد من الاقتصار على الشرك بمعناه الأخص ومن ساواه ومن دونه كالملحد كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ )(1) فقد استدل بها على نجاسة الكفار قاطبة بظاهر قوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ ) فإنه عام شامل لجميع أقسام الكفار، وإن الرجس بمعنى النجس، ويتألف قياس من الشكل الأوّل تكون نتيجته: أن كل من لا يؤمن فهو نجس.
أما عموم قوله تعالى: (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) فواضح، وأما أن الرجس بمعنى النجس فقد استعمل في القرآن بهذا المعنى.
ص: 143
قال الشيخ في التهذيب - في نجاسة الخمر - : والذي يدل على أن هذه الأخبار - أي أخبار طهارة الخمر - محمولة على التقية ما تقدم ذكره من الآية، وأن الله تعالى أطلق اسم الرجاسة على الخمر، ولا يجوز أن يرد من جهتهم ( ما يضاد القرآن وينافيه ... إلى أن قال: وإذا عملنا على تلك الأخبار - أي أخبار النجاسة - كنا عاملين بما يلائم ظاهر القرآن ... (1)
وتقدم كلام العلاّمة في التذكرة، وأنه استشهد بالآية الشريفة على نجاسة الكافر.
وقد أشكل على الآية بنظير الإشكال على الآية الأولى: بأن الرجس قد ورد بعدة معان كاللعنة والعذاب والقذر والأعمال القبيحة والمآثم ولطخ الشيطان ووسوسته وفسر قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) بالشطرنج(2)، وبناء على هذا فكون الرجس بمعنى النجاسة غير ثابت ولا يمكن حمل الآية عليه.
والتحقيق: أنّه جاء في أكثر التفاسير أن الرجس بمعنى اللعن في الدنيا والعذاب في الآخرة. وجاء في الميزان(3) بمعنى القذارة وهو معنى مطلق فيشمل ما ذكر من المعاني من العذاب والوسوسة والأعمال القبيحة وغيرها، فإن القذر هو ما تنفر منه الطباع كما تنفر من الغذاء المتلطخ بالقذر، وورد في تفسير العياشي(4) بمعنى الشك وهو من مصاديق القذارة. قال في المصباح: الرجس النتن والرِّجس القذر والرجس القَذَر قال الفارابي: وكل شيء يستقذر فهو رجس، وقال النقاش: الرجس النجس وقال في البارع: وربما قالوا: الرجاسة والنجاسة أي جعلوها بمعنى وقال الأزهري: النجس القذر الخارج من بدن الإنسان، وعلى هذا فقد
ص: 144
يكون الرجس والقذر والنجاسة بمعنى، وقد يكون القذر والرجس بمعنى غير النجاسة، ورجس رجساً من باب تعب ورجس من باب قرب لغة(1)
وقال في المجمع: قال بعض الأفاضل: الرجس وإن كان في اللغة بمعنى القذر وهو أعم من النجاسة إلاّ أن الشيخ قال في التهذيب: إن الرجس هو النجس بلا خلاف، وظاهره أنّه لا خلاف بين علمائنا في أنّه في الآية: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ... ) بمعنى النجس(2)
وقال في المعجم: رجس يرجَس رجَسَاً ورَجَاسَةً: نَجُسَ ورجُس يرجُس رجاسة قَذِرَ والرجْسُ القَذَر والشيء القدر والفعل القبيح والحرام واللعنة والكفر والعذاب، وفي التنزيل العزيز (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) ورجس الشيطان وسوسته(3)
والمستفاد من ذلك: أن الرجس بمعنى القذارة هو أبرز المعاني، وهو المعنى الأعم الشامل للنجاسة وغيرها، ومع الشك في المراد من الآية أي أن الرجس جاء بمعان متعددة ولا يعلم أنّه في الآية بمعنى النجس إلاّ أنّه يمكن استفادة ذلك من رواية خيران الخادم، وقد رواها الكليني بسنده عن خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل (علیه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صل فيه فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه، فكتب (علیه السلام): لا تصل فيه فإنه رجس(4) الحديث.
ولابد من التكلم حول سند الرواية ودلالتها فنقول:
أما من جهة السند فقد رواها الكليني(5) بسنده عن خيران وفيه سهل بن
ص: 145
زياد، كما أن الشيخ(1) رواها بإسناده وفيه سهل أيضاً، فلا يمكن الاعتمادعلى الرواية من هذه الجهة ولكن يمكن تصحيح سند الرواية عن طريق النجاشي، حيث ذكر خيران فقال: مولى الرضا (علیه السلام) له كتاب أخبرنا أحمد بن محمّد بن هارون قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن سعيد، قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن عبد الرحمن بن فنتي قال: حدثنا محمّد بن عيسى العبيدي قال: حدثنا خيران(2)
وفي هذا السند أحمد بن محمّد بن عبد الرحمن بن فنتي، وهو ممن لم يرد فيه التوثيق فلا يمكن الاعتماد عليه، إلاّ أنّه قد وقع في السند محمّد بن عيسى العبيدي الراوي المباشر عن خيران وحيث إن للنجاشي(3) وللشيخ(4) طريقاً معتبراً إلى جميع رواياته وكتبه، فهذا الكتاب - وهو كتاب خيران مشمول لروايات محمّد بن عيسى وداخل فيها، وبهذا يصبح طريق النجاشي إلى خيران الخادم معتبراً وهذا النحو من التصحيح للسند هو أحد مصاديق المورد الرابع من موارد تصحيح الروايات التي ذكرناها في مباحثنا الرجالية وخلاصته: أنّه إذا كان للنجاشي طريق صحيح إلى شخص يروي به جميع رواياته وكتبه، وكان للشيخ طريق فيه ضعف، وحيث إن كلا الطريقين يلتقيان في شخص واحد فيكون طريق الشيخ صحيحاً لصحة طريق النجاشي(5) ، وبناء على هذا فطريق الشيخ معتبر ولا بأس بالاعتماد على الرواية من حيث السند .
هذا كله على أن يكون خيران مولى الرضا (علیه السلام) هو خيران الخادم كما هو
ص: 146
الظاهر، وذلك لأن النجاشي(1) ذكر خيران مولى الرضا ولم يذكر خيران الخادم والشيخ(2) بالعكس، ومن البعيد جداً أن يكون هناك شخصان ويتعرض الشيخ لواحد منها والنجاشي للآخر، مضافاً إلى أنهما في طبقة واحدة فإن محمّد بن عيسى يروي عنهما كليهما فلا إشكال في اتحادهما .
وأما من جهة الدلالة فالاحتمالات فيها ثلاثة:
الأول: أن قوله (علیه السلام): «فإنه رجس» إشارة إلى الآية الشريفة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ...).والظاهر أن الرجس بمعنى النجس ولذلك أمر (علیه السلام) بالاجتناب ونهى عن الصلاة في ثوب أصابه الخمر لنجاسته، ومنه يظهر أن الرجس في لسان الشرع بمعنى النجاسة ولا فرق بين هذه الآية وغيرها إلاّ أن يرد دليل خاص على الخلاف.
الثاني: أن يكون قوله (علیه السلام) علة مستقلة ولا ربط له بالآية ولكنه (علیه السلام) استعمل الرجس في معناه العرفي أي: بمعنى النجس وليس اصطلاحاً حديثاً، وبذلك يعلم أن زمان نزول الآية كان على هذا المعنى.
الثالث: أن يكون قوله (علیه السلام) اصطلاحاً حديثاً، ولم يكن مستعملاً في هذا المعنى من قبل بل هو أمر حادث.
وعلى ضوء الاحتمالين الأولين تتم دلالة الآية، وعلى الثالث لا تتم لعدم الملازمة بين المعنى الحديث والمعنى السابق عند نزول الآية، إذ لا يعلم إرادة المعنى الحديث عند نزول الآية، ثمّ إن هذا الاحتمال بعيد في نفسه ويتوقف الاستدلال بالآية على ثبوت الاحتمالين الأولين أو أحدهما.
هذا ولا يخفى أنّ ورود لفظ الرجس في الروايات قليل جداً عند الخاصة
ص: 147
والعامة، نعم ورد في القرآن الكريم في تسعة موارد بمعان مختلفة منها قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)(1)) ومنها قوله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (2) ومنها قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (3) ومنها آية التطهير(4) وغيرها.
والنتيجة: هي توقف الاستدلال بالآية الشريفة على نجاسة الكفار على استظهار أحد الاحتمالين الأولين كما هو ليس ببعيد.
وأما الدليل الثالث وهو الروايات فقد وردت في المقام عدة روايات وهي على ست أو سبع طوائف:
الطائفة الأولى: ما ورد في النهي عن سؤر الكافر، ومنها ما ورد في الكافي، والتهذيب، وهي صحيحة سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عنسؤر اليهودي والنصراني؟ فقال: لا(5) ، وفي الفقيه: عن سعيد الأعرج أنّه سأل الصادق(علیه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يشرب؟ قال: لا(6)
ومنها: ما أورده صاحب المستدرك نقلاً عن كتاب درست بن أبي منصور عن أبي المغرا، عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیه السلام) قال: لا نأكل (تأكل) من فضل طعامهم ولا نشرب (تشرب) من فضل شرابهم(7)
ومنها صحيحة علي بن جعفر ... وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده
ص: 148
في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلاّ أن يضطر إليه(1)
وإنما أوردنا هذه الرواية والرواية التالية في هذه الطائفة بناء على أن السؤر هو مباشرة الجسم للماء وعدم اختصاصه بالفم(2)
ومنها: موثقة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في حديث) قال: وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وان الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه(3)
والظاهر من روايتي الأعرج وموثقة ابن أبي يعفور هو نجاسة الكافر، فإن الحكم بعدم جواز الشرب والأكل من فضل شرابهم وطعامهم، وعدم استعمال غسالتهم أسند إلى مباشرة أنفسهم وأعيانهم للطعام والشراب، لا لنجاسة عرضية وإن كان احتمال النجاسة العرضية وارداً إلاّ أنّه خلاف الظاهر.
وأما صحيحة علي بن جعفر فصدرها واضح الدلالة، إلاّ أن قوله (علیه السلام): إلاّ أن يضطر إليه يوهنها، نعم إن حمل الاضطرار على التقية كما حملها الشيخ(4) فالدلالة تامة، وإلاّ فلابد من حمل الرواية على الكراهة أو على النجاسة العرضية، فإن الماء إذا كان كثيراً فالحكم بعدم التوضي منهلجهة الكراهة، إلاّ أن يضطر إليه فيجوز، وإن كان الماء قليلاً فالحكم بعدم التوضي منه لجهة النجاسة العرضية، إذ الغالب أن الكفار لا يجتنبون النجاسات من البول وغيره، وحينئذ يحتاط بالاجتناب عنه إلاّ مع الاضطرار إليه.
وقد حمل السيد الأستاذ ! (5) الرواية على الاحتمال الثالث وهو النجاسة
ص: 149
العرضية بينما حملها صاحب الوسائل(1) على الاحتمال الثاني وهو كثرة الماء وكريته، فيكون مفادها الكراهة ولا ينافي ما ورد في السؤر.
الطائفة الثانية: ما ورد من النهي عن مصافحتهم وهي عدة روايات منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، في رجل صافح رجلاً مجوسياً فقال: يغسل يده ولا يتوضأ(2)
والمقصود أن المصافحة لا تنقض الوضوء ويكفي التطهير.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (علیه السلام) قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه؟ قال: لا(3)
ومنها: صحيحته الأخرى عن أخيه موسى بن جعفر ' قال: سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس، ولا يصلي في ثيابهما، وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه(4)) .
ومنها: موثقة أبي بصير عن أحدهما ' في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني قال: من وراء الثوب فإن صافحك بيده فاغسل يدك(5)
ومنها: رواية الحسين بن زيد عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، في حديث المناهي: نهى عن مصافحة الذمي(6)
والظاهر من هذه الروايات هو النجاسة، وأن النهي عن المصافحةوالأمر بغسل اليد بعدها - لو وقعت المصافحة - ليس إلاّ لأنهم أنجاس، نعم لابد من تقييد
ص: 150
المصافحة بأن تكون مع الرطوبة المسرية.
وقد استشكل السيد الأستاذ ! في هذه الروايات بأنها لا دلالة فيها وحاصل ما أفاده: أن الأخذ بإطلاقها أي سواء كانت المصافحة مع الرطوبة أو بدونها يقتضي أن يكون النهي تنزيهاً، وحملها على وجود الرطوبة حمل على غير الغالب والفرد النادر، إذ الغالب هو عدم الرطوبة في اليد، وليس الحمل الثاني أقرب من الأول ليرجح، هذا أولاً. وثانياً: أن ما ورد في موثقة أبي بصير من التفريق في المصافحة بين الثوب وغيره لم يظهر له وجه، لأنه إن كان المصافحة مع الرطوبة فلا فرق بين الثوب وغيره فكما أن اليد تنجس بملاقاة يد الكافر فكذلك الثوب ولابد من الاجتناب، وإن كانت بدون الرطوبة فتجوز المصافحة بدون الثوب.
ولكن يمكن المناقشة في كلا الوجهين:
أما في الوجه الأول فيقال: إن الحمل ليس على الفرد النادر لأن مورد الروايات هو المناطق الحارة والغالب فيها أن تعرق اليد فتحصل الرطوبة المسرية، ولا أقل من التساوي بين الرطوبة وعدمها فدعوى الندرة غير تامة.
وأما في الوجه الثاني فلعل المراد - على فرض وجود الرطوبة - هو أن المصافحة من وراء ثوب الكافر لا ثوب المسلم حتى يتنجس، كما قد يستظهر ذلك من الروايات.
ويؤيد ما ذكرنا: ما رواه الشيخ بسنده عن سيف بن عميرة، عن عيسى بن عمر مولى الأنصار، أنّه سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يحلّ له أن يصافح المجوسي؟
فقال: لا، فسأله يتوضأ إذا صافحهم؟ قال: نعم، إن مصافحتهم ينقض الوضوء(1)
ص: 151
وقد حمل الشيخ الوضوء(1) في هذه الرواية على غسل اليد، كما جاء في اللغة استعمال الوضوء بمعنى الغسل، قال في المجمع: وقد يطلق الوضوء على الاستنجاء، وغسل اليد، إلى أن قال: ومن الثاني حديثهما في المؤاكلة حيث قال: إذا أكل طعامك وتوضأ فلا بأس، والمراد به غسل اليد إلى قوله ومنه صريحاً من غسل يده فقد توضأ ومنه صاحب الرجل يشرب أول القوم ويتوضأ آخرهم، ومنه ... ومنه الوضوء قبل الطعامينفي الفقر والوضوء بعد الطعام ينفي الهم، ونحو ذلك(2).. الخ.
إلاّ أن الإشكال في سند الرواية فإن فيه من لم يرد فيهم توثيق ومنهم عيسى بن عمر، وتكون الرواية حينئذ مؤيدة لما سبق.
وبناء على اندفاع كلا الأمرين فلا بأس بالاستدلال بهذه الطائفة أيضاً.
الطائفة الثالثة: ما ورد في النهي عن مؤاكلتهم في قصعة واحدة أو من طعامهم وهي عدة روايات منها:
صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (علیه السلام) قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ... قال: لا(3) ، وقد تقدم ذكر هذه الرواية في الطائفة الثانية.
ومنها: صحيحته الأخرى أيضاً، عن أخيه موسى بن جعفر قال: سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه قال: لا بأس، ولا يصلي في ثيابهما، وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة(4)
وهذه الرواية ذكرها الشيخ عن نوادر الحكمة، وهي غير الصحيحة الأولى
ص: 152
فإنا قد تتبعنا روايات كتاب علي بن جعفر ولم نعثر عليها فيه.
ومنها: صحيحة هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ فقال: لا(1)
وقد نوقش في الرواية الأولى بأنها متضمنة لقوله: وأرقد معه على فراش واحد، وهذا قرينة على كون النهي تنزيهياً لأن النوم معاً على فراش واحد لا يوجب سراية الرطوبة من أحدهما إلى الآخر.
ويمكن الجواب عنه: بأن النهي ظاهره الحرمة، وعلى فرض وجود قرينة في فقرة من الرواية على أن النهي فيها تنزيهي لا يوجب ذلك في سائر الفقرات، وله نظائر كثيرة في الروايات.
وأما كون الحرمة لجهة النجاسة فيدل عليه الرواية الثانية، فقد ورد في ذيلها: وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله.
والجملة الأخيرة شاهد على أن النهي إنما هو لجهة النجاسة لا غيرها.وأما الصحيحة الثالثة فظاهر إطلاق الحكم بعدم جواز الأكل من طعامهم يدل على نجاستهم، لا لأجل كونه ميتة أو لنجاسة عرضية، وإلاّ فلابد من بيان ذلك.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر(2)
وهذه الصحيحة كصحيحة هارون بن خارجة المتقدمة فإن إطلاق قوله من طعامهم الذي يطبخون، دال على نجاستهم.
ص: 153
ومنها: صحيحة العيص، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي أفآكل من طعامهم؟ قال: لا(1)
وهذه الرواية كالروايتين السابقتين في الدلالة بمقتضى الإطلاق.
ومنها: صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي، وأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم(2).
وهذه الرواية محمولة على التقية، ولا منافاة بينها وبين ما تقدم من حيث الدلالة.
الطائفة الرابعة: ما ورد في النهي عن استعمال آنيتهم ومنها:
صحيحة محمّد بن مسلم - المتقدمة - قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر.
وهذه الرواية تدل على النجاسة للإطلاق في قوله (علیه السلام): لا تأكلوا في آنيتهم وأما ما ذكر بعد ذلك من قوله: ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر فلا يمنع الظهور، وذلك لأن الأصل عدم التكرار وإلاّ لزم كون النهي الأول لغواً، وعليه فتخصيص النهي ثانياً بالذكر لتأكد النجاسة الذاتية بالعرضية فما أشكل به على هذه الرواية من أن ذكر الآنية ثانياً مانع عن الإطلاق في غير محله.ومنها: صحيحة إسماعيل بن جابر، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): لا تأكل ذبائحهم ولا تأكل في آنيتهم، يعني أهل الكتاب(3)
ومنها: صحيحته الأخرى قال أبو عبد الله (علیه السلام): لا تأكل من ذبائح اليهود
ص: 154
والنصارى ولا تأكل من آنيتهم(1)
والروايتان بإطلاقهما تدلان على النجاسة، إلاّ أن يقال: إن قوله (علیه السلام): لا تأكل من ذبائحهم، كما في الأولى وقوله: لا تأكل من ذبائح اليهود والنصارى، كما في الثانية قرينتان على أن المراد بالآنية، الآنية التي تجعل فيها الذبائح، وهو بعيد.
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) في آنية المجوس، قال: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء(2)
وهذه الرواية صريحة الدلالة على نجاستهم لأنه إذا كان يجب غسل الآنية في حال الاضطرار ففي غيره بطريق أولى، ولا وجه لذلك إلاّ النجاسة، والاضطرار هنا بمعنى الحاجة كما هو شائع في الاستعمال.
فهذه الطائفة من الروايات تدل على النجاسة بمقتضى الإطلاق.
الطائفة الخامسة: ما ورد من النهي عن الصلاة في لباسهم وعلى فرشهم ومنها:
صحيحة علي بن جعفر - المتقدمة - عن أخيه موسى بن جعفر ' قال: سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس ولا يصلي في ثيابهما ... قال: وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله(3) ، وورد ذيلها في قرب الإسناد(4) وفي السرائر عن جامع البزنطي(5) هكذا: قال: وسألته عن الرجل يشتري من السوق لبيساً لا تدري لمن كان ... الخ.
ص: 155
والرواية صدراً وذيلاً تدل على النجاسة.
ومنها: صحيحته الأخرى - ولم نعثر عليها في الوسائل بل في نفس كتاب علي بن جعفر - عن أخيه، قال: وسألته عن ثياب اليهودي والنصراني أيصلح أن يصلي فيه المسلم؟ قال: لا(1)
ومنها: صحيحته الثالثة عن أخيه موسى بن جعفر (في حديث) قال: سألته عن الصلاة على بواري النصارى واليهود الذين يقعدون عليها في بيوتهم أتصلح؟ قال: لا تصلّ عليها(2)
ولا وجه للنهي عن ذلك إلاّ النجاسة.
وأما ما ورد من الروايات الدالة على جواز الصلاة في الثياب التي يصنعها المجوس، ومنها: صحيحة معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب) ، وهم يشربون الخمر، ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلّي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخططته وفتلت له إزاراً ورداء من السابري، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة(3)
ومنها: صحيحة المعلى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: لا بأس بالصلاة في الثياب التي تعملها المجوس والنصارى واليهود(4)
وغيرها من الروايات.
فهي لا تنافي الروايات الناهية لإمكان الجمع بينها بأن ما يصنعه المجوسي واليهودي أو النصراني من الثياب لا يجب غسلها، بخلاف ما يلبسها فإنه يجب
ص: 156
غسلها إلاّ إذا كان قد استعارها من مسلم فلا يجب الغسل كما دلت عليه صحيحة عبد الله بن سنان الآتية.
ومما يدل على هذا الجمع، معتبرة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمّد عن أبيه: أن علياً (علیه السلام) كان لا يرى بالصلاة بأساً في الثوب الذي يشترى من النصارى والمجوس واليهود قبل أن تغسل يعني: الثياب التي تكون في أيديهم فينجّسونها وليست ثيابهم التي يلبسونها(1)
فالتفصيل في الثياب شاهد على ما ذكرنا من الجمع، هذا إذا كان قوله:يعني ... الخ من الإمام لا من الراوي، وإلاّ فلا شاهد فيها، فهذه الطائفة لا بأس بدلالتها على المدعى.
وهنا رواية أخرى تدل على نجاستهم من جهة النهي عن المشاركة مع النصراني في الاغتسال بماء واحد وهي صحيحة علي بن جعفر، أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر ' عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام؟ قال: إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل(2)..
ويمكن الاستدلال بها على المدعى من جهتين:
الأولى: إن الإمام (علیه السلام) أمره بالاغتسال بغير ماء الحمام.
الثانية: إنه إذا أراد أن يغتسل بماء الحمام ينتظر فراغ النصراني ثمّ يطهر المكان ويغتسل بعد ذلك، وقد حمل صاحب الوسائل صدر الرواية على أن الماء لا مادة له وذيلها على كرية الماء(3) ، إلاّ أن هذا الحمل بعيد والصحيح أن يقال: إن الأول أي الحكم بالاغتسال بغير ماء الحمام مبني على عدم غسل أطراف الحوض، والثاني مبني على أن الاغتسال بعد غسل أطرافه بشرط
ص: 157
الانفراد، لا مع النصراني لئلاّ يصيبه شيء من الماء الملاقي لبدن النصراني فإنه موجب للتنجس، والماء في كلا الحالين له مادة.
وبناء على هذا المعنى فيمكن الاستدلال بهذه الرواية على النجاسة.
ثم إن هنا طائفة أخرى يمكن الاستدلال بمفهومها على نجاستهم وهي على قسمين:
القسم الأول: ما ورد في حلية طعامهم المذكور في قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )(1) المفسر في بعضها بالحبوب، وفي بعضها بالعدس والحبوب، وفي بعضها بالحبوب والبقول وأشباه ذلك، وهي عدة روايات، منها:
موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال: الحبوب(2)
وهذه الرواية وإن كان في سندها محمّد بن سنان إلاّ أننا رجحنا الأخذ بروايته.ومنها: موثقة أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )قال: الحبوب والبقول(3)
ومنها صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (علیه السلام) قال: العدس والحمص(4) وغير ذلك.
والمستفاد من هذه الروايات انحصار حلية طعامهم في هذه الأشياء، وبدلالة
ص: 158
مفهوم التحديد، يمكن القول: إن ما عدا هذه الأشياء ليس بحلال مطلقاً أي سواء كان من ذبائحهم أو غيرها، وما تباشره أيديهم مطبوخاً كان أو غيره، ووجه عدم الحلية هو النجاسة لا غير.
نعم ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق (علیه السلام) في تفسير الآية قال: عنى بطعامهم هاهنا الحبوب، والفواكه غير الذبائح التي يذبحون، فإنهم لا يذكرون اسم الله عليها أي على ذبائحهم ثمّ قال: والله ما استحلوا ذبائحكم فكيف تستحلون ذبائحهم(1) ؟
وفيه أولاً: ان هذا ليس تخصيصاً بل من باب ذكر بعض المصاديق.
وثانياً: إن الرواية مرسلة فلا تنهض لمعارضة الروايات المتقدمة.
والحاصل: أنّه يمكن التمسك بمفهوم التحديد للدلالة على نجاسة الكفار لنجاسة طعامهم إلاّ ما استثني، وان مطلق ما لم يستثن غير حلال، وهو شامل لجميع أطعمتهم، ولا وجه لذلك إلاّ كون المستند هو نجاستهم.
القسم الثاني: ما ورد في أن المؤمن لا ينجسه شيء، كما في صحيحة زرارة، ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه، وان المؤمن لا ينجسه شيء إنما يكفيه مثل الدهن(2)
وليس المراد بالنجاسة في الرواية النجاسة العرضية إذ لا فرق فيها بين المؤمن وغيره، بل المراد هي النجاسة الذاتية، وبدلالة مفهوم التحديد يكون غير المؤمن نجساً وإلاّ فلا وجه لتخصيص المؤمن بذلك.
ص: 159
والحاصل: أنّه يمكن الاستدلال بهذين القسمين من الروايات علىالنجاسة بدلالة المفهوم وإن لم يرد في كلمات الأصحاب.
هذه هي الروايات التي يمكن الاستدلال بها على نجاسة الكفار.
وفي إزاء هذه الروايات عدة روايات تدل على طهارتهم.
أما ما ورد في مقابل الطائفة الأولى فمنها: موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهودي؟ فقال: نعم فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم(1)
وهذه الرواية - بحسب ظاهرها - معارضة لتلك الروايات وقد حمل الشيخ(2) قوله: على أنّه يهودي، على الظن وعدم التحقق من كونه يهودياً إذ لا يحكم عليه بالنجاسة إلاّ مع اليقين، وحملها صاحب الوسائل(3) على التقية ولعل التأكيد وتكرار السؤال يؤيده، وقد تقدم في ذيل صحيحة علي بن جعفر من قوله (علیه السلام): إلاّ أن يضطر إليه، وبناء على كون الماء قليلاً تكون هذه الصحيحة معارضة أيضاً.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر أيضاً الواردة في كتابه، قال: عن اليهودي والنصراني يشرب من الدورق أيشرب منه المسلم؟ قال: لا بأس(4)
وظاهر الرواية أن الشرب من سؤر اليهودي والنصراني فتكون الرواية دالة على الطهارة، إلاّ أن يحمل السؤال عن استعمال الدورق لا الشرب من بقية الماء ولكنه بعيد.
وأما ما ورد في مقابل الطائفة الثانية فموثقة خالد القلانسي، قال: قلت لأبي
ص: 160
عبد الله (علیه السلام): ألقى الذمي فيصافحني قال: امسحها بالتراب أو بالحائط، قلت: فالناصب قال: اغسلها(1)
وظاهر هذه الرواية الدلالة على التنزيه لا على النجاسة، فإن المسح بالتراب أو الحائط لا يوجب الطهارة، وفي الجمع بين الروايات حمل صاحب الوسائل هذه الرواية على عدم الرطوبة والمسح والغسل على الاستحباب، وما تقدم من الروايات الدالة على وجوب الغسل محمول علىوجود الرطوبة.
وأما ما ورد في مقابل الطائفة الثالثة فعدة روايات منها:
صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي - المتقدمة - قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي، وأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم(2)
وظاهر قوله (علیه السلام) أكره ... الدلالة على التنزيه، وإلاّ فلو كان حراماً فهو حرام على السائل أيضاً، إلاّ أن تحمل على التقية كما تقدم.
ومنها: صحيحة عيص بن القاسم - على رواية الكليني - قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن مواكلة اليهود والنصراني والمجوسي؟ فقال: إن كان من طعامك وتوضأ فلا بأس(3)
وفي رواية الشيخ والصدوق بإسنادهما عن العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك وسألته عن مؤاكلة المجوسي؟ فقال: إذا توضأ فلا بأس(4)
والفرق بين الروايتين: أن رواية الكافي ورد فيها التقييد بكون الطعام من
ص: 161
طعامك أي: من طعام السائل مع اشتراط الوضوء، وحينئذ فلا بأس في المؤاكلة، وأما إذا كان الطعام من المجوسي فلا يجوز مطلقاً.
ولكن في رواية الشيخ ورد فيها التقييد بكون الطعام من طعام السائل فقط من دون اشتراط الوضوء إلاّ مع مؤاكلة المجوسي فلابد من الوضوء من دون فرق بين كون الطعام منه أو من المسلم، وعلى كل تقدير فالتقييد بأنه من طعامك واشتراط التوضي يستفاد منهما عدم النجاسة، نعم لما كان طعامهم مشتملاً على النجاسة العرضية أو لمباشرته بأيديهم مع عدم توقِّيهم عن النجاسة العرضية اشترط الوضوء عند المؤاكلة.
هذا إذا كان الطعام رطباً وإلاّ فلا حاجة إلى التوضي، فكلتا الروايتين تدلان على الطهارة.
ومنها: صحيحة إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): ماتقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: لا تأكله ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: لا تأكله ولا تتركه تقول: إنه حرام ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير(1)
والرواية واضحة الدلالة فإن التعليل المذكور للنهي هو النجاسة العرضية، إلاّ أن تحمل الرواية على التقية ويكون التعليل ناظراً إلى ذلك أي: إلى بيان الوجه في التقية.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر الواردة في كتابه، قال: سألته عن أهل الأرض (أهل الذمة) أنأكل في إنائهم إذا كانوا يأكلون
الميتة والخنزير؟ قال: لا، ولا في آنية الذهب والفضة(2)
ويمكن الاستدلال بهذه الرواية على جواز الأكل من آنيتهم إذا لم يأكلوا
ص: 162
فيها الميتة والخنزير، إلاّ أن هذا المفهوم مستفاد من كلام السائل لا من كلام الإمام (علیه السلام) .
ثم إن الجمع بين هذه الطائفة وبين الطائفة المقابلة لها الدالة على النجاسة يتم بأحد وجوه:
الأول: حمل روايات هذه الطائفة على التقية، فتكون روايات النجاسة سليمة عن المعارض، ولكن هذا لا يتأتى في جميع هذه الروايات كصحيحة العيص بن القاسم وغيرها إذ لا وجه للأكل من طعامه لو كان للتقية.
الثاني: حمل روايات النهي على أن الممنوع هو طعامهم المطبوخ الذي تباشره أيديهم فقط، وأما طعام المسلم أو طعامهم غير المطبوخ كالحبوب والعدس والبقول والفواكه فيجوز أكله.
الثالث: حملها على النهي التنزيهي دون التحريمي، وشاهده ما دلت عليه - صريحاً - صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة.
وأما ما ورد في معتبرة ابن القداح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمّت اليهودية النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذراع، وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) يحب الذراع والكتف، ويكره الورك لقربها من المبال(1)
فقد يستدل بها على الطهارة لأن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) تناول من طعام اليهود الذيباشرته أيديهم، فلو كان نجساً ولا يجوز استعماله فكيف تناوله النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ وبناء على هذا تكون هذه الرواية داخلة في الطائفة الثالثة من الروايات الدالة على الطهارة.
ولكن يمكن القول إن الرواية غير قابلة للاستدلال، وذلك لما ورد في مختصر البصائر بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: سُمّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يوم خيبر، فتكلم اللحم فقال: يا رسول الله صلوات الله عليك وعلى آلك إني مسموم
ص: 163
فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عند موته: اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلتها بخيبر، وما من نبي ولا وصي إلاّ شهيد(1)
ومن المعلوم أن فتح خيبر كان في السنة السابعة من الهجرة، وإلى ذلك الوقت لم يشرّع الحكم بنجاسة الكفار بعد، فإن سورة البراءة نزلت في السنة التاسعة من الهجرة(2) ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بالرواية المذكورة إلاّ أن يقال: إن سورة البراءة وإن كان نزولها في السنة التاسعة إلاّ أن الآية الثانية نزلت قبل الهجرة فإنها واردة في سورة الإنعام وآياتها مكية إلاّ ست(3) آيات وهذه الآية ليست منها، وعلى هذا فالآية نزلت قبل قضية خيبر، وهذا مما يوهن المناقشة في معتبرة ابن القداح، بل في الاستدلال بالآية الثانية، مضافاً إلى أن سند رواية المختصر يشتمل على علي بن أبي حمزة(4) ، وهو ممن وقع الخلاف فيه.
وأما ما ورد في مقابل الطائفة الرابعة فمنها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما ' قال: سألته عن آنية أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير(5)
وظاهر الرواية أن النهي عن الأكل في آنيتهم مشروط بأكلهم فيها الميتة والدم ولحم الخنزير، وينتفي المشروط بانتفاء شرطه، ونتيجة ذلك هي الطهارة.
ومنها: رواية زكريا بن إبراهيم، قال: كنت نصرانياً فأسلمت فقلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن أهل بيتي على دين النصرانية فأكون معهم في بيت واحدوآكل من آنيتهم ؟ فقال لي (علیه السلام): أيأكلون لحم الخنزير؟ قلت: لا، قال: لا بأس(6)
ص: 164
ودلالة هذه الرواية تامة إلاّ أن في سندها زكريا بن إبراهيم السائل للإمام (علیه السلام) وهو ممن لم يرد فيه توثيق، فتكون الرواية مؤيدة.
وأما ما ورد في مقابل الطائفة الخامسة فمنها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (علیه السلام): الخياط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً، وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضأ ماتقول في عمله؟ قال: لا بأس(1)
وظاهر هذه الرواية يدل على الطهارة، فإن الخياطة وإن كانت لا تستلزم الرطوبة إلاّ أن القصارة تستلزمها، مضافاً إلى أن السائل مهّد لسؤاله بقوله: وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضأ والغرض منه الإشارة إلى النجاسة العرضية، وجواب الإمام (علیه السلام) يرجع إلى عدم النجاسة الذاتية، إلاّ أن يحمل قوله (علیه السلام): لا بأس على نفي البأس عن العمل بقرينة أن السؤال عن العمل، وليس ناظراً إلى حكم الثوب من حيث الطهارة والنجاسة.
ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال: يرش بالماء(2)
وهذه الرواية واضحة الدلالة فإنها تدلّ على أنّ الثوب لا يحتاج إلى التطهير، ولو كان نجساً فرشّه بالماء ليس تطهيراً له.
ولكن يمكن حمل الرواية على ما تقدم من التفصيل بين الثياب التي يلبسونها، والثياب التي يصنعونها، ويكون المراد من ثوب المجوسي في الرواية هو ما يصنعه المجوسي، وحينئذ لا تكون الرواية شاهدة على ما نحن فيه.
ومنها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود الأخرى قال: قلت للرضا (علیه السلام): الجارية النصرانية تخدمك، وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال: لا بأس، تغسل يديها(3)
ص: 165
وظاهر الرواية يدل على طهارة الكتابي فإن أكثر الخدمة من الجواري أو جلّها ملازمة لاستعمال اليد مع الرطوبة وخصوصاً مع قوله (علیه السلام): تغسليديها.
وأما ما قيل: من أن الرواية محمولة على التقية بقرينة الخطاب وأن الإمام (علیه السلام) كان مضطراً إلى ذلك فبعيد.
ويرده أولاً: أن الإمام الرضا (علیه السلام) لم يبلغ إلى هذا الحد من التقية بل كان (علیه السلام) مرجعاً في الأحكام في مقابل العامة.
وثانياً: أن السائل في معرض التمثيل والفرض، لا في معرض التقرير بمعنى أن الإمام (علیه السلام) كان له جارية نصرانية تخدمه، بل كان في مقام طرح المسألة على نحو القضية الحقيقية لا على نحو القضية الشخصية، فليس للخطاب في هذا المورد وأشباهه ظهور.
وثالثاً: تقدم في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود السابقة وخطابه للرضا(علیه السلام) بنحو هذا الخطاب من قوله وأنت تعلم ... وليس مراده قضية معينة.
والحاصل: أن الرواية تامة الدلالة على الطهارة.
ثم إن في مقابل الطائفة الأخيرة وهي الدالة على النجاسة بمفهومها روايات أخرى كثيرة تدل بمفهومها على الطهارة، ومنها: ما ورد في تغسيل الكتابي للميت المسلم عند فقدان المغسّل المسلم(1)
ومنها: ما ورد في اتخاذ الظئر الكتابية(2)
ص: 166
بناء على القول بحرمة إعطاء النجاسة للطفل.
ومنها ما ورد في التسرّي بالكتابية(1) أو النكاح المنقطع بها(2) فهي تدلبمفهومها على الطهارة.
إن المتراءى بعد استعراض جميع ما يمكن أن يستدل به من الروايات على الطهارة والنجاسة هو التعارض بين الروايات، فلابد من رفعه وإنما يتم رفع التعارض بالجمع بينها بأحد وجوه الجمع وهي:
الأول: أن تحمل روايات النجاسة على الحكم التنزيهي والكراهية دون الحكم التحريمي، بأن ترفع اليد عن دلالة الروايات على النهي وتحمل على الكراهة، وأن تحمل روايات الطهارة على وجود الحزازة بأن ترفع اليد عن دلالة الروايات على الجواز المطلق وتحمل على أن فيه غضاضة، فتكون النتيجة في كلا الأمرين هي الكراهة.
ووجه هذا الجمع لا يخلو إما أن يكون للتجنب عن النجاسة العرضية المظنونة في أهل الكتاب عادة، ولئلاّ يقع المكلف في هذه المظنة يحكم تنزيهاً بذلك.
وإما أن يكون للحزازة الباطنية وهو كفرهم، ويحكم تنزيهاً بالتجنب عنهم لذلك، وقد يعبر عن هذا بالحكم الأخلاقي.
ثم إن هذا الجمع ينسجم مع جلّ هذه الروايات لا كلها كما تقدم في مواردها.
ص: 167
الثاني: أن تحمل روايات المنع على النجاسة العرضية، وروايات الطهارة على عدم النجاسة الذاتية.
وهذا الوجه يلتئم مع جميع الروايات وفي بعضها دلالة على هذا الجمع كما تقدم.
الثالث: أن تحمل روايات الطهارة على التقية لموافقتها مشهور العامة كما تقدمت كلماتهم، وهذا الوجه ينطبق على أكثر روايات الطهارة لا كلها كما مر.
فهذه هي الوجوه المتصوّرة في مقام الثبوت، والمهم هو تعيين أحدها في مقام الدلالة، وقد يقال في ترجيح الوجه الأخير: إن الفقهاء قاطبةفهموا ذلك، وحملوا أخبار الطهارة على التقية، ولا ينبغي وقوع الخطأ عن مثل هؤلاء الأعلام ومهرة الفن بجميع طبقاتهم مع ملاحظة أنهم على التفات للوجهين الأولين كما يظهر ذلك من كلمات الشيخ كما تقدم، مضافاً إلى أن المنشأ لهذا الحمل إما أنهم رأوا أن روايات الطهارة مخالفة للكتاب دون روايات النجاسة إذ أنّ بعضهم - كالشيخ والمحقق وغيرهما - استدل بالآيات وقد تقدم البحث عن ذلك مفصلاً، وإما أنهم رأوا أن السيرة القطعية المتصلة بزمان الأصحاب والأئمة (علیهم السلام) قائمة على ذلك، فكان هذا الحكم معلوماً ومفروغاً عنه عندهم حتى عدّه صاحب السرائر من أصول المذهب(1)، أو أن المنشأ كلا الأمرين معاً، وبناء على ذلك حكموا بالنجاسة وحملوا روايات الطهارة على التقية جمعاً بين الروايات.
ولكن يلاحظ على الأمر الثاني أن
الذي يظهر من غير واحدة من الروايات أن الحكم ليس بهذه المثابة من الارتكاز في أذهان الأصحاب، بل الظاهر أن المرتكز في أذهانهم هو النجاسة العرضية، ويدل على ذلك عدة روايات تقدم أكثرها ومنها:
صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (علیه السلام): الخياط أو القصار
ص: 168
يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضأ(1)
ومنها: صحيحته الأخرى قال: قلت للرضا (علیه السلام): الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة(2)..
ومنها: صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب) ، وهم يشربون الخمر، ونساؤهم على تلك الحال(3)..
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله (علیه السلام) وأنا حاضر: أني أعير الذمي ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (علیه السلام): صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنّه نجسه(4)ومنها: ما رواه في الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان : عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة لا يغتسلون من الجنابة، وينسجون لنا ثياباً فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب: لا بأس بالصلاة فيها(5)
ومنها: رواية أبي جميلة عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال: نعم قلت: يشربون الخمر، قال: نعم، نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها ولا نغسلها(6)
ومنها: رواية زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقلت:
ص: 169
إني رجل من أهل الكتاب، وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية، وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون الخنزير فقلت: لا، ولكنهم يشربون الخمر فقال لي: كل معهم واشرب(1)
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما ' قال: سألته عن آنية أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير(2).
ومنها: صحيحة المعلى بن خنيس قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: لا بأس بالصلاة في الثياب التي تعملها المجوس والنصارى واليهود(3)
وغيرها من الروايات فالقول بأن السيرة القطعية قائمة، وأن المركوز في أذهانهم هو النجاسة الذاتية لا يمكن المساعدة عليه.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إن هذه الإضافات والتقييدات للإيهام بإرادة الأمر المقبول عند التقية، ولكن التصديق بهذا مشكل.
والمتحصل: أن الحكم بالنسبة إلى المشرك ومن ساواه، ومن هو دونه كالملحد ونحوه، هو النجاسة بلا خلاف بين الفقهاء، لدلالة الآية والروايات ولمقتضى القاعدة.
وأما بالنسبة إلى أهل الكتاب فالحكم بنجاستهم موضع تأمل، والاحتياط لا يترك.
إنّ ما مرّ من حرمة تولّي الكفار وكراهة بدئهم بالسلام وغيرهما، لا ينافي التعامل معهم بسائر الأخلاق الشرعية والإنسانية كحق الجوار، والمصاحبة، والمجالسة، والبشاشة في وجوههم، وعلى المسلم أن يتحلّى بالآداب الإسلامية
ص: 170
والأخلاق الشرعية بغض النظر عن حقيقة الطرف الآخر.
وبناء على ذلك فالحب والموالاة للكفار شيء ومعاشرتهم بالتي هي أحسن شيء آخر، ولا ملازمة بينهما، وقد ورد في بعض الروايات أن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان على ذلك ففي معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن آبائه (علیهم السلام) : أن أمير المؤمنين (علیه السلام) صاحب رجلاً ذمياً فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى أن قال: فقال له الذمي: لم عدلت معي؟ فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا. الحديث، وفيه أن الذمي أسلم لذلك(1)
هل الحرمة تختص بالكافر أو أنها شاملة لأهل الكتاب والمخالفين؟
أما ما ورد من الآيات فأكثرها متعلق بالكفار، وبعضها يتعلق بأهل الكتاب.
وأما بالنسبة إلى المخالفين فلم يرد من الآيات فيهم شيء، نعم يمكن استظهار ذلك من الروايات، ومنها ما تقدم ذكره من الروايات التي لم يرد فيها عنوان الكافر، وإنما ورد فيها عنوان العدو فإن عدو أهل البيت (علیهم السلام) عدو لله، وهذا شامل للمخالفين المنكرين ولاية آل محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإن كان في بعض الروايات اختصاص للحرمة بالمخالفين الغلاة كما في رواية الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا ' ، إلاّ أن بعضها عام كما في رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (علیه السلام) ، فإنه ورد فيها: وحب أولياء الله واجب وكذلك بغض أعداء الله ...
وهو شامل للغلاة وغيرهم من المخالفين، ومثلها في الدلالة رواية يعقوب بن ميثم التمارمولى علي بن الحسين ' قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام) فقلت له: إني
ص: 171
وجدت في كتب أبي أن علياً(علیه السلام) قال لأبي: يا ميثم احبب حبيب آل محمّد وإن كان فاسقاً زانياً، وابغض مبغض آل محمّد وإن كان صواماً قواماً، فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يقول: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية» ثمّ التفت إليّ وقال: هم والله أنت وشيعتك وميعادك وميعادهم الحوض غداً غراً محجّلين متوّجين، فقال أبو جعفر (علیه السلام): هكذا هو عندنا في كتاب علي(علیه السلام) (1)
إلاّ أن هذه الرواية اشتملت على الأمر ببغض مبغض آل محمّد فهي تختص ببعض المخالفين لا كلهم.
والحاصل: أنّه يمكن الاستدلال بها للتعميم أي سواء كان كافراً، أو مبغضاً لآل محمد، أو منكراً للولاية، فإن محبة هؤلاء منهي عنها وبغضهم مأمور به.
ثم إن هناك أحكام أخرى تختص بالكفار نشير إليها على نحو الإجمال وهي:
1 - حرمة بيعهم المصحف وما في حكمه، والمسألة وإن كانت خلافية إلاّ أن القول بالحرمة هو المشهور.
2 - حرمة بيع العبد المسلم للكافر، وحرمة ذبيحة الكافر ومن بحكمه من المسلمين كالغلاة والنواصب والخوارج وكل من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين، وهذه المسألة طويلة الذيل وردت فيها روايات مختلفة والمشهور هو القول بالحرمة.
3 - حرمة مناكحتهم وعدم جواز تزوج المؤمنة من الكافر وكذلك العكس، إلاّ ما استثني من جواز المتعة بالكتابية، وما عداها محل إشكال وسيأتي البحث حول هذه المسائل في مواضعها من هذا الكتاب.
هذه جملة من الأحكام المتعلّقة بالكفار ولعل هناك غيرها أيضاً.
وسيأتي الكلام بعد هذا حول التقية في هذه الأحكام.
ص: 172
ذكرنا فيما تقدم جملة من الأحكام المتعلقة بالكفار، وهنا نذكر شمول التقية لهذه الأحكام وعدمه، فنقول:أما الحكم الأول وهو التولي فقد تقدم، والآيات والروايات الواردة في المقام تشير إلى أنّه من موارد التقية، ومن ذلك قوله تعالى: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)(1).
وأما بالنسبة إلى سائر الأحكام فهي على قسمين:
الأول: ما يكون أخف من التولي. الثاني: ما لا يعلم حاله.
أما الأول فأدلة التقية الواردة في التولي شاملة له كالسلام، والكتابة، والدعاء ابتداء، والأكل من الذبيحة، والدخول في المسجد، وهذا بالأولوية القطعية لأنه إذا كانت التقية جارية في التولي فهي في السلام والكتابة والدعاء من باب أولى. فدليل التقية الوارد هناك شامل لما نحن فيه، مضافاً إلى ورود الروايات الخاصة في المقام، كما في مورد الحاجة إلى الطبيب مثلاً، والحاجة أعم من أن تكون لضرورة أو لا.
والحاصل: أنّه لا إشكال في شمول أدلة التقية لهذا القسم.
وأما القسم الثاني كالمناكحة وبيع العبد والمصحف فالتمسك بأدلة التولي مشكل، ولابد من التماس دليل آخر غير دليل التقية في التولي.
ويمكن الاستدلال على ذلك بما تقدم من الأدلة العامة من أن التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، وإن التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين
ص: 173
تنزل به، وغيرها من الروايات الصحيحة الدالة بمنطوقها على المراد.
كما أنّه وردت بعض الروايات يستفاد من مفهومها جواز التقية في موارد هذا القسم، ومنها: صحيحة زرارة قال: قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً : شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج(1).
فيفهم أن ما عداها يتقى فيه.
ولكن لابد من بيان ضابط الضرورة والاضطرار، فهل هما بمعنى واحد؟ أو متغايران؟ والظاهر هو الأول فقد جاء في بعض الروايات تفسير أحدهما بالآخر كما في صحيحة زرارة، ورواية الفضلاء المتقدمتين فهما من حيث المفهوم شيء واحد.
وهاهنا مبحثان:
الأول: هل يعتبر في التقية مع الكافر عدم المندوحة أم لا؟
الظاهر أنها تعتبر فلا تجوز
التقية مع وجود المندوحة، وذلك لأنه مقتضى القاعدة الأولية، إذ مع المندوحة لا يصدق الاضطرار الموجب للتقية، وليس لنا دليل مستقل على أن التقية مع الكافر مطلقة، فلابد من الاقتصار في التقية على عدم المندوحة، نعم في التقية مع المخالف لا تعتبر المندوحة.
قد يقال: إن عدم اعتبارها مع الكافر بالأولوية، وذلك لأنه إذا كانت مع المخالف غير معتبرة والتقية معه مطلقة فهي مع الكافر من باب أولى.
وجوابه: أن الأولوية محل كلام فإنه يمكن القول: إن في مسألة المخالف مصلحة تقتضي المداراة، وتوجب عدم اعتبار قيد المندوحة، وهذه المصلحة مفقودة في مسألة الكافر، مضافاً إلى أن كون الكافر أشد من المخالف في هذا الحكم محل كلام.
ص: 174
وبناء على هذا فلابد من ملاحظة المندوحة وينبغي مراعاتها، وإذا لم تكن في البين مندوحة أمكنه الاتقاء سواء كان في التولي أو غيره من الأحكام.
الثاني: هل المرفوع بالنسبة إلى التقية مع الكافر هو الحكم التكليفي؟ أو يشمل الحكم الوضعي الذي نسبته إلى الفعل كنسبة الحكم إلى موضوعه مثل الضمان والكفارة والحد وغير ذلك؟ أو يعمهما ويعم الشرطية والمانعية والجزئية؟ وهذه المسألة عامة تأتي في جميع موارد التقية التي تكون مشتملة على الحكم الوضعي أيضاً، فلابد من التحقيق فيها، والكلام يقع في جهات ثلاث:
أما الجهة الأولى - وهي ارتفاع الحكم التكليفي بواسطة التقية - فهي القدر المتيقن، وذلك لأن التقية وإن كان يظهر منها رفع المؤاخذة والعقاب إلاّ أن المؤاخذة منتزعة من الأحكام التكليفية، والشارع بما هو شارع لا نظر له إلى الثواب والعقاب، فإنه أمر آخر، وإنما نظره إلى الأحكام التكليفية، وبناء عليه فكل حكم وجوبي يرتفع بواسطة التقية وهكذا الحرمة، فإذا اضطر الإنسان إلى أن يخالف واجباً تقية أو يفعل محرماً كذلك، فلا يبقى الحكم الإلزامي، وتجوز له المخالفة إذ لا يجتمع حكمان في شيء واحد، وهذا مما لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية - وهي ارتفاع الحكم الوضعي كالملكية والزوجية ونحوهما وما يترتب عليها من الآثار - فقد وقع الخلاف في ذلك بين الأعلام، فمنهم من قال: بالارتفاع مطلقاً، ومنهم من قال: بالمنع مطلقاً،ومنهم من فصل في المقام.
ذهب إلى القول الأول سيدنا الأستاذ ! وأفاد: إن ذلك هو مقتضى القاعدة، مضافاً إلى الأدلة الخاصة الواردة في خصوص المقام، نعم استثنى من ذلك موردين تأتي الإشارة إليهما.
أما أنّه مقتضى القاعدة فلأن المرفوع في حال الاضطرار هو العمل، ومعناه
ص: 175
أنّ عمله كلا عمل، فإذا لم يعمل بالوظيفة الأولية تقية فلا يترتب على ذلك بطلان عمله أو يُلزم بالكفارة مثلاً، فإن هذا هو معنى الرفع، فكأنه لم يأت به أصلاً، أو أن ما أتى به من عمل - تقية - هو من الدين، فإذا كان الحال كذلك فترتفع عنه جميع الآثار المترتبة عليه لارتفاع الموضوع تعبداً، فالقاعدة تقتضي ارتفاع جميع الآثار المترتبة على الفعل عند التقية والاضطرار(1)
وأما أنّه مفاد الروايات الخاصة فقد وردت عدة روايات منها:
صحيحة أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن صفوان، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، جميعاً عن أبي الحسن (علیه السلام) ، في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك يلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا وما أخطأوا(2)
وهذه الصحيحة مؤيدة لمقتضى القاعدة، حيث استشهد الإمام (علیه السلام) بعدم الإلزام بالعتق والطلاق لأنه مستكره ومضطر إليه، والاضطرار رافع لما يترتب من الآثار فلا يلزم بمضمون يمينه.
ووجه التأييد: أن الحلف بهذه الأمور وإن كان غير صحيح حتى اختياراً إلاّ أن استشهاد الإمام (علیه السلام) بقول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) لرفعها بالحديث يدل على أن الرفع يشمل جميع الآثار.
ومنها: رواية داود بن الحصين، عن رجل من أصحابه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس: إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت: لا، والمائدة بين يديه، قال: فادن فكل، فدنوت فأكلت، قال: وقلت: الصوم معك والفطر معك، فقال الرجل لأبيعبد الله (علیه السلام): تفطر يوماً
ص: 176
من شهر رمضان؟ فقال: إي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي(1)
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه، وأنا أعلم والله أنّه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله(2)
وفي الرواية الثانية ذكر أمر القضاء ولم يذكر الكفارة، ولو كانت الكفارة لازمة لكان الأولى ذكرها لأن الكفارة أشد من القضاء، ففيه إثبات لبعض الآثار، ولكن لقيام الدليل الخاص عليه، وإلاّ فكان عليه أن يلزم بالكفارة أيضاً، وعلى أي حال فالرواية مؤيدة لما تقتضيه القاعدة.
ومنها: رواية الأعمش عن جعفر بن محمّد ' في (حديث شرائع الدين) قال: ولا يحل قتل أحد من الكفار والنصاب في التقية إلاّ قاتل أو ساع في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك، واستعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه(3)
والرواية وإن كان في سندها ضعف إلاّ أنّه يمكن جعلها مؤيدة لمفاد القاعدة.
ثم إنّ السيد ! قد استثنى من ذلك موردين:
الأول: ما إذا كان ذلك يستوجب خلاف الامتنان على نفس الفاعل، كما إذا اضطر إلى بيع داره أو ثيابه لصرف ثمنها في معالجة أو معاش، فإن الحكم ببطلان البيع خلاف الامتنان، لأنه يوقعه في ضرر أشد.
ص: 177
الثاني: ما إذا كان يستوجب خلاف الامتنان في حق الغير، كما إذا اضطر إلى إتلاف مال الغير فإن الحكم بعدم الضمان لمال الغير يوقع مالك المال في الضرر، وهو خلاف الامتنان(1)
هذا وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الشيخ الأنصاري ! ، وأضاف إلى ما تقدم بعض الروايات التي يمكن الاستدلال بها.ومنها: موثقة سماعة، عن الرجل يصلي فدخل الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة؟ قال: إن كان إماماً عادلاً فليصل أخرى وينصرف ويجعلها تطوعاً وليدخل مع الإمام في صلاته، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ثمّ يتم صلاته معه على ما استطاع، فإن التقية واسعة، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله(2).
وحاصل هذه الرواية: أنّه يأتم بالإمام ويصلي في نفس الوقت مع اتساعه، ودلالتها واضحة، فإن الإمام (علیه السلام) أمره بالائتمام مع اتساع الوقت، ولم يأمره بالإعادة أو القضاء.
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث: إن المؤمن إذا أظهر الإيمان، ثمّ ظهر منه ما يدل على نقضه خرج بما وصف وأظهر، وكان له ناقضاً، إلاّ أن يدعي أنّه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يُتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما
ص: 178
لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز(1).
ومحل الشاهد من الرواية هو قوله (علیه السلام): فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز.
ثم إن قوم السوء مطلق يشمل كل من ينطبق عليه هذا الوصف أي: سواء كان كافراً أو مخالفاً أو كان من الشيعة.
وحاصل الرواية: أنّه لا يترتب عليه شيء من الآثار لأنه جائز، والجواز معناه عدم الإشكال فيه، وإن ما أتى به نافذ ومشروع.
ومنها: قوله (علیه السلام) في رواية أبي الصباح: ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة(2)
وهذه الرواية نظير قوله (علیه السلام): هم في سعة ما لم يعلموا(3)والحاصل: أنّه لا يترتب في مقام التقية أثر من الآثار كالكفارات والقضاء والإعادة ونحو ذلك.
وبناء على ذلك فيمكن الاستدلال بهذه الروايات على المدعى، كما يمكن الاستدلال بمفهوم الروايات المشتملة على استثناء النبيذ أو المسكر ومتعة الحج والمسح على الخفين، وقد تقدمت، وبمقتضى مفهومها: أن التقية في غير هذه الموارد جائزة.
هذه هي الأدلة التي استدل بها الشيخ الأنصاري على دعواه.
ثم إن الأثر - أي لما عمله تقية - هل يرتفع بارتفاع موضوعها أم أنّه يبقى؟
ذهب المحقق الهمداني - في حاشية المصباح - إلى القول: ببقاء الأثر وعدم ارتفاعه، وذكر وجهه وهو استصحاب أثر الحكم الوضعي، فإن من صلى تقية أو
ص: 179
توضأ كذلك فهو محكوم بالصحة، وبعد ارتفاع موضوع التقية لا ندري هل ارتفع أم لا؟ ومع الشك في ارتفاعه نستصحب بقاءه.
وقد استشكل فيه ! بما نصه: والإنصاف أن استفادة صحة ما صدر من الأعمال تقية إذا أخلّ بشيء من أجزائها وشرائطها التي هي من مقومات ماهية ذلك العمل كالطهارة في الصلاة أو إطلاق الماء في الوضوء أو طهارته ما لم يرد فيه دليل بالخصوص من عمومات أخبار التقية في غاية الإشكال، بل غاية ما يمكن استفادته منها إنما هو كون التقية من الأعذار المسوغة للإخلال بأجزاء العبادات وشرائطها التي ينتفي اعتبارها لدى الضرورة، فتصح العبادات في مثل الفرض لا مطلقاً حتى فيما لو أخل بما يختص شرطيته بحال التمكن كالأمثلة المتقدمة، ولذا لو صلى الظهر جمعة تقية لم يجز فتوى ونصاً، فكذا لو صلى بلا طهارة فإنها ليست بصلاة لا اختيارية ولا اضطرارية، وكذلك الوضوء بالمسكر أو بماء متنجس فإنه ليس بوضوء أصلاً، فالتقية إنما تبيح فعله بدلاً عن الواقع لا صحته ... الخ(1)
وأما الجهة الثالثة وهي حول التحقيق في المقام فالكلام فيها يقتضي تقسيم هذه الآثار إلى أقسام أربعة:
1 - الإعادة والقضاء.
2 - الآثار الوضعية من الطهارة والنجاسة والصحة والبطلان.
3 - الضمان والكفارات.
4 - الجزئية والشرطية والمانعية.
والأخير من الأحكام الغيرية لا النفسية، وعليه فالكلام يقع في ثلاثة مواضع:
الأول: ما كان داخلاً في المؤاخذة والقرارات الشرعية كالكفارات
ص: 180
والحدود ونحوها، والذي يظهر أنها مرتفعة في حالة التقية سواء كانت من الكافر أو من غيره وذلك:
أولاً: أنّه مقتضى القاعدة الأولية وقد تقدم ذلك، فإن العمل الصادر من الإنسان تقية هو كلا عمل، فلا يترتب عليه الحد أو الكفارة وغيرها من الآثار التي لوحظت فيها المؤاخذة، إذ بعد أن جعل الشارع ذلك من الدين فلا معنى لمؤاخذته بشيء، فالقاعدة تقتضي عدم ترتب شيء من ذلك.
وثانياً: قيام الأدلة الخاصة، فقد وردت عدة روايات في هذا المعنى، منها: رواية إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف؟ قال: لا جناح عليه، وعن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلف لينجو به منه؟ قال: لا جناح عليه، وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال: نعم(1)
ومنها: صحيحة أبي الصباح قال: والله لقد قال لي جعفر بن محمّد': إن الله علم نبيه التنزيل فعلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علياً، قال: وعلمنا والله، ثمّ قال: ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة(2).
وقد تقدم أن الشيخ الأنصاري ! قد ذكر الرواية ونقلنا موضع الشاهد منها وهذه الرواية أوسع دائرة من السابقة لأن قوله: ما صنعتم من شيء شامل لغير الحلف أيضاً.
ومنها: صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منا إلاّ بذلك؟ قال: فاحلف لهم، فهو أحل [احلى] من التمر والزبد(3)
ص: 181
ومنها: ما رواه صاحب الوسائل عن الصدوق في الخصال بإسناده عنالأعمش، عن جعفر بن محمّد ' (في حديث شرائع الدين) قال: ولا يحل قتل أحد من الكفار والنصاب في التقية إلاّ قاتل أو ساع في فساد . وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك، واستعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه(1)
وهذه الرواية رواها الصدوق في عيون الأخبار(2) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (علیه السلام) وسند الصدوق إلى الفضل في هذه الرواية فيه بحث، وقد تقدم ذكر هذه الرواية.
ومنها: الصحيحة المتقدمة عن أبي الحسن (علیه السلام) في
الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا(3)
والرواية صريحة الدلالة في عدم الإلزام بآثار الحلف.
وقد يقال: إن الرواية واردة في غير التقية فهي قابلة للمناقشة من هذه الجهة مع إمكان الاستدلال بها.
ومنها: رواية زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قلت له: إنا نمر على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا وقد أدّينا زكاتها، فقال: يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاؤا [بما شاؤا] قلت: جعلت فداك بالطلاق والعتاق قال: بما شاؤا(4)
ثم قال صاحب الوسائل: وعنه عن معمر بن يحيى قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إن معي بضايع للناس ونحن نمر بها على هؤلاء العشار فيحلفونا عليها
ص: 182
فنحلف لهم؟ فقال: وددت أني أقدر على أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها، كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية(1)
وقد ذكر في ذيل الروايتين الأخيرتين أن مصدرهما كتاب فقه الرضا،وهذا الكتاب فيه بحث ذكرناه مفصلاً في بحوثنا الرجالية(2) ، ولعلنا نشير إلى بعض ما يتعلق به فيما يأتي.
والحاصل: أن هذه الأحكام في حال التقية مرتفعة بلا إشكال.
الثاني: وهو الآثار الوضعية من الطهارة والنجاسة والصحة والبطلان.
أما بالنسبة إلى أحكام الطهارة والنجاسة فالظاهر عدم ارتفاعها بناء على القول بأنها آثار واقعية، بل هي غير قابلة للرفع لأن رفعها ووضعها ليس بيد الشارع، نعم الشارع كاشف عنها فمن اغتسل غسلاً باطلاً فالحدث باق، وبعد ارتفاع التقية لابد من رفع الحدث بغسل صحيح، وهكذا الحال بالنسبة للطهارة من الخبث.
وبالجملة هذه الآثار باقية ببقاء الموضوع، نعم المرفوع هو الحكم التكليفي كحرمة أكل النجس، وكذلك بالنسبة إلى المؤاخذة كما تقدم.
وهكذا أيضاً بناء على القول بأنها مجعولة من الشارع، وذلك لعدم الدليل الواضح على رفع هذه الآثارلأن الأدلة المتقدمة إما راجعة إلى الأحكام التكليفية أو إلى الأحكام الوضعية، وأما دلالتها على ارتفاع آثار الطهارة والنجاسة فليست تامة. فإن المستفاد من أدلة الاضطرار والإكراه - كما ذكرنا - هو الحلية ورفع المؤاخذة، وشمولها للطهارة والنجاسة بعد ارتفاع التقية والحكم بالطهارة وعدم النجاسة مشكل جداً، فإن الأدلة اللفظية خاصة بالأحكام التكليفية، وأما الأدلة اللبية فلم يقم إجماع، أو تثبت سيرة متصلة بالشارع بحيث يمكن أن يستدل
ص: 183
بها، فالأدلة اللفظية واللبية قاصرة عن شمول آثار الطهارة والنجاسة، ولعل هذا هو المتسالم عليه عند المتشرعة فإنهم لا يرتبون أحكام الطهارة على المتنجس بعد زوال التقية.
ثم إن الابتلاء مع الكفار كان قليلاً، فلم تعلم كيفية التعامل معهم من هذه الناحية.
والحاصل: أنّه لا دليل لنا على ارتفاع أحكام الطهارة والنجاسة.
وأما بالنسبة إلى آثار الصحة والبطلان بمعنى أن ما أتى به من عمل حالة التقية كما إذا باع أو اشترى أو عقد على امرأة أو نحو ذلك، فهل يحكم بالصحة أو يحكم بالبطلان بعد ارتفاع التقية؟
وبيانه: أن الصحة والبطلان إما أن تكون راجعة إلى الجزء أوالشرط أو المانع، وإما أن تكون راجعة إلى أصل العمل، فإن كانت راجعة إلى الأول فسيأتي الكلام عنه قريباً، وإن كانت راجعة إلى الثاني فما ذكرناه بالنسبة إلى آثار الطهارة والنجاسة يأتي هنا حرفاً بحرف، فإن الأدلة اللفظية واللبية قاصرة عن إثبات ذلك، وغاية ما تدل عليه رفع الحكم التكليفي والمؤاخذة عليه، أما من جهة الصحة فلا دليل عليها، فمن تزوج بامرأة كافرة أو بعقد فاسد فلا يمكن الحكم بصحة العقد بعد ارتفاع التقية، ولا يستفاد ذلك من أدلة التقية كما ذكرنا في آثار الطهارة والنجاسة، وإن كانت آثار الولدية مثلاً مترتبة ولا ربط لها بالصحة والبطلان، فإنها مسألة أخرى.
وبناء على هذا فلابد من القول بالبطلان وعدم ترتب آثار العقد، ولابد من الإعادة.
الثالث: وهو ما يرجع إلى الصحة والبطلان بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط والموانع، فمن اضطر في حالة التقية إلى الإخلال بجزء أو الإتيان بمانع فهل يوجب ذلك بطلان عمله أم لا؟ ويترتب على هذا الأمر مسألة القضاء والإعادة.
ص: 184
وبيانه: أن المانعية تارة تكون مترتبة على الحكم التكليفي لا أنها مستقلة في مورد التكليف، فمثلاً حينما يقال: الغصب حرام، فهذا الحكم موجب لمانعية الغصب في الصلاة من جهة المكان أو اللباس أو الماء، فالصلاة في اللباس المغصوب باطلة، إذ لا يتحقق قصد القربة بذلك، فمن هذه الجهة يكون الغصب مانعاً وهكذا بالنسبة إلى الشرطية والجزئية.
وتارة يكون الشيء بنفسه مانعاً لا أنّه ناشىء من حكم تكليفي.
فإن كانت المانعية على النحو الأول فالظاهر أنّه ملحق بالقسم الأول من الآثار وهو المؤاخذات والقرارات، فإذا صدر الأمر فيه تقية كما إذا لبس ثوباً مغصوباً وصلى أو توضأ بماء مغصوب فصلاته ووضوءه صحيحان، ولا تلزمه الإعادة أو القضاء، وهذا يجري في كل أمر يكون دليله منتزعاً من الأحكام التكليفية، وذلك لأنه إذا ارتفعت المانعية وهي حرمة الغصب فلا يبقى ما يمنع من الحكم بالصحة، فإن المفروض أن المانعية هي الحرمة فإذا صارت جائزة بواسطة التقية فيحكم تبعاً بصحة الصلاة لعدم وجود المانع حينئذ.
وما يقال: إن ملاك الحرمة موجود فلا يمكن الحكم بالصحة لعدم ارتفاع المانعية.
فجوابه: أن الملاك هو الحكم التكليفي ومع ارتفاع الحرمة يرتفعملاكها تبعاً لها، وبناء عليه فيحكم بالصحة ولا حاجة إلى الإعادة أو القضاء.
وإن كانت المانعية على النحو الثاني وهي ما إذا لم تكن ناشئة من الحكم التكليفي بل بنفسها مانعاً مستقلاً وتسمى بالأحكام الغيرية فهي على صورتين:
الأولى: أن لا يكون لأدلتها إطلاق إما لفقدانه كأن يكون الدليل منحصراً في الإجماع والسيرة، وإما لأن الدليل اللفظي وإن كان موجوداً إلاّ أنّه لا إطلاق له.
الثانية: أن يكون لأدلة المانعية والجزئية والشرطية إطلاق.
ص: 185
أما الصورة الأولى: فالحكم فيها هو الصحة، وذلك لأنه بعد فرض عدم الإطلاق لهذه الأدلة وعدم علمنا أن الشرط أو المانع في جميع الأحوال، أو أنّه مختص بحال الاختيار فقط، فالقدر المتيقن من ذلك هو حال الاختيار، وأما في حال التقية والاضطرار فلا نعلم أنّه شامل للحالين أم لا، فإن كان لدليل الواجب إطلاق فلنا أن نتمسك به ونحكم بصحة الصلاة حتى مع عدم وجود الشرط، وإن لم يكن له إطلاق فالحكم هو البراءة عن التكليف الزائد، فمثلاً إذا لم نعلم أن لدليل المانعية أو الشرطية في الصلاة إطلاقاً أم لا فالقدر المتيقن اعتبار ذلك في حال الاختيار، ثمّ إن كان هناك إطلاق من جهة المتعلق وهو الواجب أخذنا به وحكمنا بصحة الصلاة حتى مع عدم وجود الشرط، وإن لم يكن لدليل الواجب إطلاق نحكم بالبراءة، لأن الشك حينئذ يكون في التكليف بين الأقل والأكثر وحكمه الأخذ بالأقل، فنحكم بالصحة مع عدم الشرط أو وجود المانع في حال التقية.
والحاصل: أنّه إذا لم يكن لأدلة الجزئية والشرطية والمانعية إطلاق سواء كان لدليل الواجب إطلاق أو لم يكن فعلى الأول نأخذ بالإطلاق وعلى الثاني نأخذ بالبراءة وعلى كلا الحالين نحكم بالصحة.
وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا كان للأدلة إطلاق فهل الحكم هو الصحة أو البطلان؟ والمسألة محل خلاف.
فذهب بعضهم إلى القول بالصحة، واستدل له بأدلة الاضطرار كحديث الرفع(1) ونحوه فهي تدل على عدم التكليف به، فإذا كانت الأجزاء والموانع والشرائط مرفوعة وكأنها لم تكن مجعولة فتكون الصلاة بدونهاصحيحة، وهذا نظير الجهل قصوراً، ونظير ما لا يعلم إلاّ أن يقوم دليل خاص.
ص: 186
ويؤيده رواية عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل، قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1) امسح عليه(2)
فإن الإمام (علیه السلام) أحاله على هذه الآية ومعناه رفع الشرط وهو المسح بالمباشرة، ويستفاد من ذلك أن رفع الحرج كرفع الاضطرار ولا أولوية لأحدهما على الآخر فيكون هذا مؤيداً لما تقدم، ووجه التأييد: أن الرواية محل كلام من جهة السند والدلالة.
أما من جهة السند فإن فيه عبد الأعلى مولى آل سام وقد نوقش في جميع الوجوه التي ذكرت للدلالة على وثاقته(3)
وأما من جهة الدلالة فكذلك نوقش فيها بأن قوله (علیه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله وارد في مورد الرفع، وأما الحكم بالمسح فإنه من الإمام لا من الكتاب فلا يمكن جعل أحدهما كالآخر(4)
ولكن نقول: إن كل هذا يفهم من الكتاب فإن الإمام أحال التكليف إلى الآية الشريفة، لا أن الإمام في مقام التفصيل وأن بعضها من الكتاب وبعضها منه (علیه السلام) ، فإن الحكم وإن كان دقيقاً ولا يلتفت إليه كل أحد إلاّ أنّه يستفاد من الكتاب سواء فهمنا ذلك أم لم نفهمه، وبناء على ذلك فيبقى الإشكال من جهة السند فتكون الرواية مؤيدة لما تقدم كما ذكرنا.
والحاصل: أن حالها حال الأحكام التكليفية فكما أن نفس الأحكام
ص: 187
التكليفية مرفوعة حال التقية فكذلك الجزئية والشرطية والمانعية، وأما ما عداها فلابد من الإتيان به ويحكم بصحته، وإلى هذا ذهب صاحب الوسائل(1) وغيره.
ولكن هذا الاستدلال يتوقف على ما يفهم من الروايات من أن المرفوع ما هو؟ هل هو المؤاخذة؟ أو الأحكام التكليفية؟ أو مطلق الآثار؟ وقد تقدمالكلام فيه مفصلاً.
وذهب جماعة إلى أن المرفوع هو المؤاخذة والعقاب فقط، كما ذهب بعض إلى أن المرفوع هو الأحكام التكليفية فقط، وذهب غيرهم إلى أن المرفوع هو الآثار.
ويمكن تأييد القول الثاني بأن المؤاخذة أمر مترتب على الأحكام التكليفية، وليس وضعها ورفعها بيد الشارع فالمرفوع والموضوع شرعاً هو ما يكون تحت تصرّف الشارع.
وعليه فينحصر الكلام في اختيار أحد القولين الأخيرين، وهما أن المرفوع هو منشأ المؤاخذة وهي الأحكام التكليفية، أو أنّه مطلق الآثار وإن كانت بالواسطة بمعنى أنّه ليس حكماً تكليفياً مجعولاً ابتداء من الشارع كالجزئية والشرطية والمانعية بمعنى أنها مجعولات تبعاً للمشروط والمركب لا أنها مجعولات على نحو الاستقلال.
وقد ادعي أن الظاهر من الرواية أن المرفوع هو خصوص ما جعله الشارع ابتداء، أي: الأحكام التكليفية ولا تشمل ما جعله الشارع بالواسطة فقوله (علیه السلام): رفع يعني ما يكون حكماً تكليفياً، نعم ترتفع تبعاً له المؤاخذة والآثار المترتبة عليه.
وذلك لأن المجعول لا مستقلاً تابع لجعل منشئه، فلابد أن يكون المرفوع والمجعول هو المنشأ وهو نفس المركب والمشروط، وأما نفس الجزئية والشرطية فهي تابعة لنفس المركب والمشروط، وبناء على هذا فإذا اضطر المكلف إلى ترك
ص: 188
جزء أو شرط والإتيان بمانع فالباقي لا يقتضي الإجزاء ولا تسقط الإعادة أو القضاء.
أما عدم سقوط الإعادة فلأنه مع بقاء الوقت لا يصدق عليه عنوان الاضطرار إلى طبيعي المأمور به إذ يمكنه أن يأتي بالمأمور به شاملاً للأجزاء والشرائط في جزء آخر من الوقت وحينئذ فالإشكال صغروي.
وأما إذا خرج الوقت أو كان الوقت مضيقاً فكذلك لأن الدليل لا يفيد سقوط القضاء، وإنما المستفاد من الرواية هو رفع منشأ الجزئية والشرطية أي الحكم المتعلق بالمركب والمشروط، ورفعه في الوقت لا يقتضي إيجاب الباقي والاجتزاء به، وإذا كان الأمر كذلك وقام دليل على القضاء وجب القضاء خارج الوقت، وإلى هذا ذهب أكثر المحققين(1) وهكذا الحال بالنسبة إلى الجهل إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بالباقي،وحينئذ لا تجب الإعادة ولا القضاء، ومع عدمه فالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء والاجتزاء.
وقد تتبعنا أدلة الأجزاء والشرائط وظفرنا بعدة روايات وبضمها إلى أدلة العسر والحرج والاضطرار يمكن استفادة القول بسقوط الإعادة والقضاء.
أما الروايات فهي:
الأولى: صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل محرم وقع على أهله؟ فقال: إن كان جاهلاً فليس عليه شيء، وإن لم يكن جاهلاً فإن عليه أن يسوق بدنة، ويفرق بينهما حتى يقضيا المناسك ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، وعليه الحج من قابل(2)
وهذه الرواية واردة في الجاهل فإنه إذا كان جاهلاً فليس عليه شيء، فإن قلنا: إن الجهل داخل في قوله (علیه السلام): «ما لا يعلمون» فالرواية شاهدة على ما نحن فيه من سقوط الإعادة والقضاء.
ص: 189
الثانية: صحيحة عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث - إن رجلاً أعجمياً دخل المسجد يلبّي وعليه قميصه، فقال لأبي عبد الله (علیه السلام) إني كنت رجلاً أعمل بيدي واجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحداً عن شيء، وأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي، وأنّ حجي فاسد، وأنّ علي بدنة، فقال له: متى لبست قميصك أبعد ما لبّيت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبّي، قال: فأخرجه من رأسك، فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعاً وصل ركعتين عند مقام إبراهيم (علیه السلام) ، واسع بين الصفا والمروة، وقصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهلّ بالحج واصنع كما يصنع الناس(1).
والرواية وإن كانت واردة في فساد الحج إلاّ أنّه يمكن تعميمها للأمور التكليفية كالقضاء والإعادة، مضافاً إلى أن مورد الرواية هو الحكم بالحج من قابل وإن كان غير ثابت في نفسه.
والحاصل: أن الرواية يمكن الاستدلال بها في كل الموارد بمقتضى مفاد كلمة شيء الشاملة لكل الموارد، والقضاء شيء داخل في العموم، ودلالة الرواية قوية جداً.الثالثة: صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن متمتع وقع على امرأته قبل أن يقصّر؟ قال: ينحر جزوراً، وقد خشيت أن يكون قد ثلم حجه إن كان عالماً، وإن كان جاهلاً فلا شيء عليه(2)
ومحل الشاهد هو الجملة الأخيرة، ولا كلام لنا في انثلام حجه فإنه منوط بالعلم، وهذه الرواية يمكن أن تكون أيضاً كالصحيحة الأولى مصداقاً لقوله (علیه السلام): «ما لا يعلمون» ، فإن قلنا بذلك فهو شامل لجميع ما يُضطر إليه في جميع الأحكام سواء كان بالواسطة أو عدمها.
ص: 190
وإذا ضممنا إلى هذه الروايات أدلة العسر والحرج والاضطرار يتم الدليل العام الشامل للتكليف الابتدائي أو مع الواسطة.
وقد استشكل السيد الأستاذ ! في دلالة هذه الروايات على المدعى بأن غاية ما يفيده هذا الدليل هو رفع الجزء والشرط برفع منشئه، أما أن يكون الباقي واجباً أم لا، فلا دلالة فيه(1)
ونقول: إن الروايات التي ذكرناها يمكن الاستدلال بها على عدم لزوم الإعادة، والقضاء في الحج كما هو الظاهر منها، كما أن أدلة الاضطرار كافية في عدم لزوم الإعادة والقضاء، ونضيف أيضاً: أنّه بناء على قاعدة الميسور يمكن الاستدلال بها على ثبوت الباقي، وفي القاعدة بحث أشرنا إليه في أبحاثنا الفقهية وذكرنا أنها وإن كانت واردة في كتاب العوالي(2) إلاّ أن لنا تحقيقاً حول الكتاب فصلناه في أبحاثنا الرجالية(3) ، ونتيجته إمكان القول بثبوت القاعدة والاستدلال بها، وحينئذ فهي شاملة للأجزاء والشرائط فمن ترك جزءاً أو شرطاً فالباقي باق على وجوبه بمقتضى هذه القاعدة ولا حاجة إلى الإعادة أو القضاء.
ثم إن هنا وجهاً آخر يمكن الاستدلال به وهو استصحاب وجوب الباقي، فإنّنا بعد ارتفاع الجزء أو الشرط نشك في وجوب الباقي فنستصحب بقاءه، إلاّ أن الاستدلال بالاستصحاب محل إشكال، وفي ما ذكرناه من الوجهين الأولين كفاية.
هذا وقد وردت في المقام روايات أخرى استدل بها على الإجزاء وعدم الحاجة إلى الإعادة أو القضاء:منها: صحيحة أبي الصباح وقد تقدم ذكرها وفيها: ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة(4)
ص: 191
ومحل الشاهد قوله (علیه السلام): فأنتم منه في سعة، فإنه عام يشمل الأجزاء والشرائط والإعادة والقضاء.
وقد ناقش السيد الأستاذ ! في دلالة هذه الجملة على المدعى: بأن ذلك فيما إذا كان فيه ضيق، وأما ما ليس فيه ضيق فلا يرد هذا، فمورد الرواية هو الضيق لا السعة، والإعادة والقضاء ليسا من موارد الضيق وما جاء به ناقصاً في حالة التقية يقتضي الإعادة لأنّ التبعية أمر واقعي وهذا مقتضى النقصان.
واستشهد على ذلك بأن من غسل ثوبه المتنجس بالبول مرة تقية فهل ترتفع النجاسة بعد ارتفاع التقية؟ ولا يمكن الالتزام بذلك، وهكذا الحال بالنسبة إلى ما نحن فيه، فإن التمامية والنقصان والصحة والبطلان ليست من حكم الشارع(1)
ويمكن المناقشة في ما أفاده ! بأن السعة أعم من الأحكام التكليفية وما يترتب عليها، بل تشمل حتى القضاء والإعادة، فإن الحكم بهما لا يتناسب مع التوسعة، ثمّ إن ما أفاده من أن التمامية والنقصان ليسا بيد الشارع، في غير محلّه وذلك لأن الشارع إذا حدد مقدار ما يكتفي به من المكلف وذلك أمر بيد الشارع، فالقضاء والإعادة وإن كانا مترتبين على المأتي به لكن المأتي به بيد الشارع، فإذا حكم بالإتيان بمقدار معين وهو تكليفه الفعلي فما أتى به المكلف على طبق تحديد الشارع له لا يحتاج إلى إعادة أو قضاء، سواء كانت الإعادة تشتمل على حرج ومشقة أم لا، فالموضوع لا يختص بالحكم التكليفي.
وأما ما ذكره ! من الاستشهاد فهذا له دليل خاص.
ولكن مع ما في كلام السيد الأستاذ ! من المناقشة إلاّ أن الجزم بالحكم وشموله للإعادة والقضاء مشكل، نعم فيه إشعار بأنه شامل لكون السعة شاملة
ص: 192
للقضاء والإعادة والمسألة ترجع إلى الاطمئنان.
ومنها: رواية أبي (ابن خ) عمر الأعجمي عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث أنّه قال: لا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلاّ في النبيذوالمسح على الخفين(1).
واستدل الشيخ الأنصاري(2)! وجماعة بهذه الرواية على الشمول للأجزاء والشرائط، وذلك:
أولاً: بقوله (علیه السلام): كل شيء فإنه عام يشمل الأحكام التكليفية مع الواسطة أو بدونها.
وثانياً: بدلالة الاستثناء فإن الرواية استثنت النبيذ والمسح على الخفين، والأول حكم والثاني شرط، فيكون المستثنى منه دالاًّ على العموم ويشمل الأجزاء والشرائط.
إلاّ أن الرواية محل نقاش سنداً ودلالة.
أما من جهة السند فإن الأعجمي لم يرد فيه توثيق، وإن كان الراوي عنه هشام بن سالم وهو من الأجلاء ورواية الأجلاء عن شخص لا تدل على وثاقته كما حققناه في محلّه(3) ، كما أنّه لم يثبت أن هشام بن سالم لا يروي إلاّ عن الثقات.
وروى الصدوق ! هذه الرواية في الخصال عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن أبي سعيد الآدمي، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن جندب، عن أبي عمر الأعجمي، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية ... الخ(4) ، وقد ذكرناها فيما تقدم، ووردت أيضاً في المحاسن(5) إلاّ أن فيها عن هشام وعن أبي عمر العجمي، فإذا كان الأمر كذلك فالرواية معتبرة، إذ الراوي لها شخصان، ولكن في بقية المصادر: هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي، ولما لم نحرز أن الراوي شخصان فلا يمكن الاعتماد
ص: 193
عليها والقول بأن السند معتبر، ثمّ إنه ورد بمضمون هذه الرواية روايات أخرى وقد تقدم ذكر بعضها كصحيحة زرارة، وصحيحة محمّد بن الفضيل بن هاشم، وغيرهما إلاّ أنها وردت خالية عن ذكر المستثنى.
وأما من جهة الدلالة فقد ناقش فيها السيد(1) الأستاذ ! : بأن المسكرمما وقع الاتفاق على تحريمه عند الجميع، وأنه ليس من موارد التقية، وأما المسح على الخفين فلم يقل أحد بوجوب المسح عليهما، فلا يمكن حمل الاستثناء على التخصيص، فالموردان لم يشرع فيهما التقية حتى يمكن الاستثناء وإثبات العموم في ما عداهما للمستثنى منه.
ثم يضيف السيد: والعجب من الشيخ كيف استدل بهذه الرواية؟ ولم يلتفت إلى هذه النقطة مع وجود القرينة، وهو أن شرب المسكر مما لا تقية فيه، فهو خارج تخصصاً لا تخصيصاً، مضافاً إلى الروايات الواردة في أن المسكر لا تقية فيه.
وما أفاده السيد الأستاذ ! قابل للمناقشة وذلك:
أولاً: أن خروج مورد واحد تخصصاً لا يعني خروج جميع الموارد كذلك، فمثلاً إذا قلت: جاء القوم إلاّ زيد وعمرو وبكر وعلمنا بدليل خاص أن أحد هؤلاء الثلاثة خارج تخصصاً فلا معنى لإخراج الآخرين تخصصاً أيضاً، وهكذا بالنسبة إلى ما نحن فيه، وبناء على هذا فلا تكون القرينة تامة على الشمول بمجرد علمنا أن فرداً واحداً خارج تخصصاً وأنه شامل لكل الأفراد.
وثانياً: أن قابلية المورد للدخول في المستثنى منه كافية للتخصيص رفعاً للتوهم، وإن كان المورد في نفسه خارجاً بدليل خاص. وهكذا الجزء والشرط فإذا فرضنا أنهما خارجان تخصصاً ولكن قابليتهما لأن يكونا من موارد التقية يكفي في ذلك، ويتمسك حينئذ بإطلاق المخصص من هذه الجهة.
ص: 194
وعليه فالتقية كما تجري في الأحكام التكليفية كذلك تجري في الأجزاء والشرائط.
ولكن مع ذلك نقول: إن الرواية في تمامية دلالتها على المدعى محل تأمّل، مضافاً إلى عدم الاعتماد عليها من حيث السند.
ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلي فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة؟ قال: إن كان إماماً عدلاً فليصلّ أخرى وينصرف، ويجعلهما تطوعاً وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبنِ على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثمّ ليتم صلاته معه على ما استطاع، فإنالتقية واسعة وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله(1)
واستدل الشيخ(2) ! بقوله (علیه السلام): ما استطاع، أن صلاته صحيحة، وإن زاد أو نقص، وهو شامل للأجزاء والشرائط.
ولكن الاستدلال بذلك مشكل جداً، لأن قوله (علیه السلام): ما استطاع، مجمل غير مبين، فيحتمل أن المراد أنّه ما استطاع متابعته، كما يحتمل أنّه ما استطاع من تحقيق صورة الائتمام كما إذا كان المأموم في الرابعة والإمام في الثانية، وأما أن ذلك شامل لزيادة ركعة أو نقصانها فغير معلوم، ومورد الرواية أن الإمام دخل الصلاة والمأموم في الثانية، فالتمسك بهذه الرواية للاستدلال بها على المدعى محل نظر.
وقد ذكر السيد الأستاذ(3) أن الرواية لا دلالة لها على المدعى أصلاً.
ونقول: إنه على فرض الدلالة إلاّ أنها ليست بواضحة، مضافاً إلى أن الرواية مضمرة، وإن كان الإضمار لا يضر في روايات سماعة.
ص: 195
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة، وورد فيها: إن المؤمن إذا أظهر الإيمان ثمّ ظهر منه ما يدل على نقضه خرج مما وصف وأظهر، وكان له ناقضاً، إلاّ أن يدعي أنّه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، وكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز(1)
ومحل الشاهد هو الجملة الأخيرة: فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز، واستدل بها على الأجزاء فإن مفادها أن ما أتى به ممضى من قبل الشارع فلا يحتاج إلى الإعادة أو القضاء.
وقد استدل بذلك الشيخ ! وغيره، إلاّ أن السيد الأستاذ ! ناقش في الرواية من جهة السند وقد تقدم أن الرواية معتبرة فالمناقشة من هذهالجهة غير واردة، كما ناقش فيها من جهة الدلالة بأن ظاهر الرواية أن المفهوم من الجواز هو الجواز التكليفي لا الوضعي بمعنى أن فعله ليس بحرام لا بمعنى أن ما جاء به صحيح، فإنه خلاف المتفاهم العرفي المستفاد من ظاهر الرواية، مضافاً إلى أن صدر الرواية قرينة على أن المورد هو جهة التكليف (إلاّ أن يدعي التقية)، أما أن ما أتى به صحيح أو غير صحيح فأجنبي عن مورد الرواية، لأنها في مقام تشريع التقية لا في مقام تصحيح العمل أو الحكم بصحته، وبناء على هذا فلا مجال للاستدلال بها على المدعى، وما أفاده ! من المناقشة في محله ومع التنزل فلا أقل من الشك في شمول الرواية وحينئذ فالدلالة ساقطة.
ومنها: رواية السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه، نقلاً من تفسير
ص: 196
النعماني بإسناده عن علي (علیه السلام) قال: وأما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإن الله نهى المؤمن أن يتخذ الكافر ولياً، ثمّ منّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر «إلى أن قال:» قال الله تعالى: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ) فهذه رحمة تفضّل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه(1).
هذا ما ذكره صاحب الوسائل من هذه الرواية إلاّ أنّه ورد في ذيلها من كتاب الوسائل مكان قوله: «إلى أن قال» هذه العبارة: في الظاهر أن يصوم لصيامه ويفطر بإفطاره ويصلي بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك موسعاً عليه فيه، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمة. قال الله ... الخ، كما أن صدر الرواية يختلف عما في الذيل، والمهم أن محل الشاهد هو قوله (علیه السلام): «ويظهر له استعمال ذلك موسعاً عليه فيه» فإذا كانت هذه الأعمال الصادرة منه تقية مظهراً للجواز والرخصة فلازمه أن تكون ممضاة من قبل الشارع بمقتضى كونه موسعاً عليه فيه، مضافاً إلى ما ورد في نفس الرواية إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه.
والحاصل: أن دلالة الرواية على الأجزاء تامة.
إلاّ أن الكلام في سند الرواية فإن السيد المرتضى يرويها عن كتاب التفسير لأبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، والسند المذكور في الوسائل أن النعماني يرويها عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، عن أحمد بن يونس بن يعقوب الجعفي، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسين بن علي بن أبي حمزة، عن
ص: 197
أبيه، عن إسماعيل بن جابر، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ' يقول: وذكر الحديث عن آبائه عن أمير المؤمنين(1)
ومحل الكلام هو أحمد بن يونس بن يعقوب الجعفي فمع أنّه شيخ ابن عقدة إلاّ أنّه لم يرد فيه توثيق، وبناء عليه تكون الرواية غير معتبرة.
وقد ورد هذا السند في كتاب جامع أحاديث الشيعة في رواية أخرى هكذا: عن ابن عقدة عن أحمد بن يوسف بن يعقوب، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن إسماعيل بن جابر(2) ، والاختلاف بين السندين في شخصين ففي الوسائل: أحمد بن يونس بن يعقوب والحسين بن علي بن أبي حمزة وفي الجامع: أحمد بن يوسف بن يعقوب والحسن بن علي بن أبي حمزة، ومن المعلوم أن هذا سند واحد فلابد أن يكون قد حصل اشتباه في أحد النقلين والأكثر أن التصحيف والاشتباه وقع في نسخة صاحب الوسائل وذلك لأنّ السند عين الطريق إلى كتاب الحسن بن علي بن أبي حمزة(3) ، والطريق إلى الحسن بن علي فيه أحمد بن يوسف لا أحمد بن يونس.
ثم إن أحمد بن يوسف ثقة كما ذكر ذلك الشيخ في رجاله وأنه من أصحاب الرضا(علیه السلام) (4)
والحاصل: أن السند المذكور في الجامع هو الصحيح، وهو الموافق للمذكور في رسالة المحكم والمتشابه المطبوعة ضمن كتاب بحار الأنوار(5)
وبناء على ذلك يكون محل الكلام هو الحسن بن علي بن أبي حمزة فإن كان
ص: 198
هو البطائني كما هو الصحيح فالسند ضعيف، وإن كان هوالثمالي فالرواية معتبرة.
ومنها: ما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد الله (علیه السلام) في رسالة إلى أصحابه، قال: وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم، وإياكم ومماظتهم، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم الحديث(1)
والرواية طويلة وفيها مطالب جمّة.
ومحل الشاهد قوله (علیه السلام): دينوا فيما بينكم وبينهم ... بالتقية أي اجعلوها ديناً فهي شاملة لما نحن فيه.
ولكن دلالتها على المراد ليست بواضحة.
وأما من جهة السند فلها طريقان:
الأول: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال، عن حفص المؤذن، عن أبي عبد الله (علیه السلام) .
والثاني: عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر(2)
أما الأول ففيه حفص المؤذن ولم يرد فيه توثيق.
وأما الثاني ففيه محمّد بن سنان وقد استظهرنا وثاقته كما حققنا ذلك في بحوثنا الرجالية خلافاً للسيد الأستاذ ! ، وبناء على ذلك فالرواية معتبرة سنداً إلاّ أن الكلام في الدلالة.
ومنها: صحيحة المعلى بن خنيس، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا معلّى اكتم أمرنا ولا تذعه، فإنه من كتم أمرنا ولا يذيعه، أعزّه الله في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنة، يا معلّى، إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلّى: إن الله يحب أن يعبد في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، والمذيع لأمرنا كالجاحد له(3)
ص: 199
وهذه الرواية قد يستظهر منها صحة المأتي به تقية، وإن كان غير تام الأجزاء والشرائط وذلك بمفاد قوله (علیه السلام): «إن الله يحب أن يعبد في السر» ، فإن معنى ذلك هو التقية، وأن ما يأتي به تقية هو عبادة سرية، ومقتضى كونه محبوباً أن يكون صحيحاً ومجزياً فلا حاجة إلى الإعادة أوالقضاء.
ولكن مع أن الرواية معتبرة السند إلاّ أن دلالتها على المدعى ليست بواضحة، إذ يتوقف هذا على أن المراد من قوله (علیه السلام): «أن يعبد سراً» أي الإتيان بالعمل تقية مع ترك الواقع رأساً - وأما إذا كان المراد به هو الإتيان بالواقع سراً وخفيةً وإن كان يعمل في الظاهر والعلانية بخلافه فلا يكون شاهداً على المدّعى، وإن كان المعنى الأولى أظهر فحينئذ لا ملازمة بين كتمان العبادة وصحتها، ولا يمكن الالتزام بعدم لزوم الإعادة والقضاء.
ومنها: رواية الكشي بإسناده عن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقلت له: جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له أنا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي، فأخذ زاوية من البيت فسأله عما سألته في عدة الطهارة، فقال له: ثلاثاً ثلاثاً من نقص عنه فلا صلاة له.
قال: فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبد الله(علیه السلام) إليّ وقد تغيّر لوني، فقال: اسكن يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده، وكان بيت ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد. فقال أبو جعفر: إني مطّلع على أمر طهارته فإن هو توضأ وضوء جعفر بن محمّد فإني لأعرف طهارته حققت عليه القول وقتلته، فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبد الله (علیه السلام)
ص: 200
فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر فدعاه.
قال: فقال داود: فلما دخلت عليه رحب بي وقال: يا داود، قيل فيك شيء باطل وما أنت كذلك، قال: قد اطلعت على طهارتك وليست طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حل، فأمر له بمائة ألف درهم.
قال: فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله(علیه السلام) فقال له داود بن زربي: جعلني الله فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجوا أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) لداود بن زربي: حدّث داود الرقي بما مر عليكم حتى تسكن روعته، قال: فحدثته بالأمر كله، قال: فقال أبو عبد الله (علیه السلام): لهذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل منيد هذا العدو، ثمّ قال: يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى، ولا تزيدن عليه، وإنك زدت عليه فلا صلاة لك(1)
وهذه الرواية أصرح من جميع الروايات السابقة في الدلالة على أن ترك الجزء والشرط تقية لا يوجب البطلان، وذلك بمفاد قوله (علیه السلام): «ثلاثاً ثلاثاً من نقص عنه فلا صلاة له» فالمستفاد من هذه العبارة صحة الصلاة يقيناً، فمن أتى بالثلاث حال التقية فصلاته صحيحة بلا إشكال، أما من خالف التقية فهل تكون صلاته صحيحة أم لا؟ فهذا أمر آخر .
والحاصل: أن الرواية من حيث دلالتها على المدعى لا إشكال فيها، إلاّ أن يقال: بأنها واردة في خصوص الوضوء للصلاة والأجزاء فيهما لا إشكال فيه، وإنما الكلام في غيرهما .
وأما من حيث السند فقد رواها الكشي عن حمدويه وإبراهيم، عن محمّد بن إسماعيل الرازي، عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقي، والإشكال في أحمد بن سليمان، فإنا في حدود ما فحصنا لم نعثر على توثيق وارد في
ص: 201
حقه، فإن ورد في حقه توثيق فالرواية معتبرة سنداً ودلالة، وإلاّ فالإشكال في سندها فقط .
ومنها: صحيحة هشام بن سالم قال: «سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقية» (1)
وجه الاستدلال: أن ما أتى به في حال التقية من العبادات أحب العبادات عند الله، ومن البديهي امتناع اجتماع المحبوبية مع الفساد والبطلان، لأنهما كاشفان عن عدم المحبوبية - فهذه الرواية واضحة دلالة ومعتبرة سنداً، ولكن ربما يشكل بأن المراد بالتقية إذا كان العمل الذي يتقى به فالدلالة تامة، وأما إذا كان المراد به نفس
الاتقاء فهو محبوب وعبادة والعمل مقدمة لذلك لا أنّه محبوب في نفسه، فلا يدل على ذلك كما ورد في الروايات من أن التقية من الدين أو دين آبائي وأمثال ذلك، ومما يؤيد المعنى الأول ما ورد في رواية إسحاق بن عمار من قوله (علیه السلام): « ... فادخل معهم في الركعة واعتد بها فإنها من أفضل ركعاتك ...» (2) إلاّ أن في سندها محمّد بن الحصين على نسخة وكذلك محمّد بن الفضيل -وكلاهما موردان للإشكال ولولا ذلك لكان دليلاً مستقلاً على الأجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء في الصلاة .
هذا مجموع ما ذكره الشيخ والسيد الأستاذ وغيرهما قدس سرهم مما يمكن الاستدلال به على عدم لزوم الإعادة والقضاء، وقلنا: إن العمدة في الروايات هي الطائفتان الأولى والثانية، وأما بقية الروايات فهي محل نقاش من جهة الدلالة أو السند أو من كلتا الجهتين، ونحن نلتزم بالإجزاء في مقام التقية جزءاً كان المتقى فيه أو شرطاً، خلافاً للسيد الأستاذ ! ، ثمّ لا يخفى أن هذه المسألة هي من أهم مسائل هذا الباب .
ص: 202
ولا يخفى أن التقية تختلف باختلاف الدوافع، فتارة تكون اضطرارية والدافع فيها الخوف على النفس والمال والعرض، وتارة يكون الدافع فيها المداراة لا من جهة الخوف، وثالثة يكون الدافع هو الكتمان، وهو أعم من الخوف وعدمه، فالأقسام ثلاثة.
فهل الأقسام الثلاثة مشروعة مع الكافر والمخالف أو يختص الحكم ببعض دون بعض؟
أما القسم الأول فلا إشكال في مشروعية التقية فيه مطلقاً، فإن من خاف على نفسه أو ماله أو عرضه أو إخوانه وجبت التقية عليه، بلا فرق بين الكافر والمخالف أو غيرهما.
وأما القسم الثاني فالظاهر أنها ليست مشروعة مع الكافر، فإنا لم نظفر بدليل يسوّغ التقية بدافع المداراة، وأدلة هذا القسم تختص بالمخالفين في المذهب، أما بالنسبة إلى الكفار فلم يثبت الدليل على ذلك، إذ لا خوف ولا موجب لإخفاء العقيدة عن الكفار ولا سيما في هذا الزمان.
وأما القسم الثالث - وهو المورد الخامس من الموارد المبحوث عنها في هذا الفصل - فهو محل الكلام ولذلك أفردناه بالبحث وجعلناه عنواناً مستقلاً ويقع الكلام فيه من جهتين:
الأولى: الكتمان عن الكافر والمخالف وغيرهما.
الثانية: موضوع الكتمان.
أما الجهة الأولى فبالنسبة إلى الكافر فإن كان سببه الخوف فقد تقدم، وإن كان سببه غير الخوف فحيث إنّ بعض الروايات الواردة في المقام مطلقة فتكون
ص: 203
شاملة للكافر، وأمّا بالنسبة إلى المخالفين فلا إشكال في مشروعية التقية معهم بل في وجوبها للأدلة الخاصة الواردة فيخصوص المخالفين.
وأما بالنسبة إلى غير الكافر والمخالف كمن يخشى منه إذاعة السر وإن كان من الخاصة فهو مشمول لإطلاق الروايات.
أما الروايات التي يستفاد منها الإطلاق فهي عدة روايات.
منها: رواية عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: اتقوا الله على دينكم واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجوف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا(1).
وسند الرواية معتبر فإن عبد الله بن أبي يعفور من الأجلاء وجابر المكفوف قد عده ابن شهراشوب من خواص أصحاب الصادق (علیه السلام) ، وأما دلالتها فالمستفاد من قوله (علیه السلام): «اتقوا الله على دينكم واحجبوه بالتقية» ، هو الإطلاق فيشمل الكتمان عن الكافر وغيره إلاّ أن المستفاد من قوله (علیه السلام): «ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت» وقوله (علیه السلام): «رحم الله عبداً كان على ولايتنا» أنّه خاص بأمر الولاية وينبغي كتمانها، فإن قلنا: إنّ الدين هو الولاية فالرواية مطلقة وحينئذ تكون شاملة للكافر والمخالف وإن قلنا إنّ الولاية أمر خاص فالرواية لا تشمل الكافر بل هي خاصة بالمخالفين، وبناء على ذلك فدلالة الرواية على المراد غير صريحة.
ومنها: ما تقدم ذكره من رسالة الإمام الصادق (علیه السلام) إلى أصحابه قال: وعليكم بمجاملة أهل الباطل ... دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم
ص: 204
وخالطتموهم ونازعتموهم بالتقية ...(1)
وقد ذكرنا أن لها سندين واحدهما معتبر، وأما من جهة الدلالة فالمقدار المنقول في الوسائل مطلق لأنّ «أهل الباطل» شامل للكافر والمخالف، وبعد الوقوف على متن الرسالة من كتاب روضة الكافي(2) تبيّن أنها وردت على شبه فصول ومقاطع، وهي بمثابة منهاج خاطب به الإمام (علیه السلام) شيعته يوجههم فيه لإدراك سعادة الدارين، ولم يرد في المقطع الذياشتمل على ما نقله صاحب الوسائل منها على قرينة خاصة تختص بالعامة، بل جاء كلام الإمام(علیه السلام) عاماً كقوله (علیه السلام): «فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق» ونحوه من التعابير العامة الشاملة للكافر وغيره، كما استشهد (علیه السلام) في هذا المقطع من كلامه ببعض الآيات الواردة في صبر الأنبياء وتكذيب أممهم لهم، وليس في هذا المقطع ما يشير إلى أمر الولاية، نعم في بقية الفصول الأخرى من كلامه (علیه السلام) الإشارة إلى اختلاف الأمّة بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والرد على أهل البدع والمقاييس والأهواء ونحو ذلك.
فإن كان ذلك قرينة يصح التعويل عليها فالرواية خاصة بالمخالفين، وإلاّ فهي مطلقة شاملة للكافر وغيره.
ومنها: رواية جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد ' يقول: المؤمن علوي، (إلى أن قال: ) والمؤمن مجاهد، لأنه يجاهد أعداء الله عزوجل في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف(3)
والرواية وإن كانت من جهة الدلالة تامة فإن دولة الباطل شاملة للكفار وغيرهم، إلاّ أن سند الرواية غير تام.
ومنها: رواية المعلى بن خنيس قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا معلى اكتم
ص: 205
أمرنا...(1)
وقد تقدمت الرواية وقلنا: إنّ سندها معتبر، ووردت في موضع آخر من كتاب الوسائل بسند آخر(2) ينتهي إلى حريز عن المعلى، وفيها بعض الإضافات وكأنما هي رواية واحدة وردت بطريقين.
وهذه الرواية يمكن أن يستدل بها على الشمول، لأنّها مطلقة إلاّ أن يقال: إنّ قوله (علیه السلام): «أمرنا» إشارة إلى أمر الولاية، فإن جعلنا هذا قرينة على ذلك فهي خاصة بالمخالفين، وإلاّ فهي عامة تشمل الكفار وغيرهم.
ومنها: رواية خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إن من أمرنا مستور مقنع بالميثاق، فمن هتك علينا أذلّه الله(3)ومنها: رواية عيسى بن أبي منصور قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة، وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله، قال لي محمّد بن سعيد: أكتب هذا بالذهب، فما كتبت شيئاً أحسن منه(4)
ومنها: صحيحة محمّد الخزاز عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا، قال: وقال للمعلى بن خنيس: المذيع لحديثنا كالجاحد له(5)
والروايات في هذا المعنى كثيرة، وهي من قبيل رواية المعلى بن خنيس، ومن مجموعها يستفاد أن كتمان السر وعدم الإذاعة أمر اهتم به الأئمة (علیهم السلام)، وهو شامل للكفار وغيرهم.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان للإرشاد مع قابلية المحل للرشاد، وورد الحثّ
ص: 206
عليه في عدة روايات، وأما مع عدمه فالكتمان هو المرجّح.
هذا وقد وردت روايات في الحثّ على الكتمان بالنسبة إلى الكفار في خصوص سبّ آلهتهم ومقدساتهم.
منها: ما رواه علي بن إبراهيم (في تفسيره) عن أبيه، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إنه سئل عن قول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم): إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله، وكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سبّ آلهتهم لكي لا يسبّ الكفار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون، فقال: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم» (1)
ووردت هذه الرواية في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ...)(2) من تفسير القمّي(3)
وأما الجهة الثانية وهو متعلق الكتمان فالروايات الواردة مختلفة، ففي بعضها ورد فيها مطلق الحديث.ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له إن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيدين الله عزوجل به فيما بينه وبينه فيكون له عزّاً في الدنيا ونوراً في الآخرة، وإن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيذيعه فيكون له ذلاًّ في الدنيا وينزع الله ذلك النور منه(4)
ومنها: صحيحة محمّد الخزاز عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا، قال: وقال للمعلى بن خنيس: إن المذيع لحديثنا كالجاحد له(5) وقد تقدمت الرواية قريباً .
ص: 207
ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان(1)
ومنها: مرسلة يونس بن يعقوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتلنا قتل عمد(2)
وغيرها من الروايات الصريحة في أن المنهي عنه هو إذاعة مطلق الحديث.
وفي بعضها ورد فيها النهي عن إذاعة الأمر، وقد تقدمت عدة روايات كرواية خالد بن نجيح، ورواية المعلى بن خنيس، ومن ذلك أيضاً صحيحة داود الرقي ومفضل وفضيل في حديث قالوا: قال أبو عبد الله (علیه السلام): لا تذيعوا أمرنا ولا تحدثوا به إلاّ أهله، فإنّ المذيع علينا أمرنا أشد علينا مؤنة من عدونا، انصرفوا رحمكم الله ولا تذيعوا سرنا(3)
ومرسلة الحسين بن عثمان عمن أخبره عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: من أذاع علينا شيئاً من أمرنا فهو كمن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ(4)
وفي هذا المعنى روايات كثيرة.
وفي بعضها ورد فيها الصعب من حديثنا وقد وردت في ذلك عدة روايات: منها:
رواية حفص الأبيض، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) أيام قتلالمعلى بن خنيس وصلب، فقال: يا حفص إني نهيت المعلّى عن أمر فأذاعه، فاقبل بما ترى، قلت له: إن لنا حديثاً من حفظه حفظ الله عليه دينه ودنياه، ومن أذاعه علينا سلبه الله دينه، يا معلّى لا تكونوا أسرى في أيدي الناس لحديثنا إن شاؤا منّوا عليكم، وإن شاؤا قتلوكم، يا معلّى إنه من كتم الصعب من حديثنا جعله الله نوراً بين عينيه ورزقه العزّ في الناس، يا معلّى من أذاع الصعب من حديثنا لم يمت
ص: 208
حتى يعضه السلاح أو يموت بخبل، إني رأيته يوماً حزيناً فقلت: ما لك؟ أذكرت أهلك وعيالك؟ فقال: نعم فمسحت وجهه فقلت: أنّى تراك، فقال: أراني في بيتي مع زوجتي وعيالي، فتركته في تلك الحال مليّاً، ثمّ مسحت وجهه فقلت: أين تراك؟ فقال: أراني معك في المدينة، فقلت له: احفظ ما رأيت فلا تذعه، فقال لأهل المدينة: إنّ الأرض تطوى لي فأصابه ما قد رأيت(1)
وهذه الرواية أوردها الكشي (2) مع اختلاف في صدر السند وفي بعض ألفاظ المتن، كما وردت هذه الرواية في جامع أحاديث الشيعة(3) ، نقلاً عن بصائر الدرجات مع الاختلاف في السند وبعض العبارات فلاحظ، فإن محل الشاهد من الرواية وهو قوله (علیه السلام): فلا تذعه ... الخ لم يرد في رواية الكشي والجامع، وإنما ورد: أنت مقتول فاستعد.
ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: حديثنا صعب مستصعب ذكوان، أجرد، مقنع، قال: قلت فسر لي جعلت فداك قال: ذكوان ذكي أبداً قلت: أجرد قال: طري أبداً، قلت: مقنع، قال: مستور(4)
ومنها رواية أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سمعته يقول: إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ثلاث: نبيّ مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، ثمّ قال: يا أبا حمزة ألا ترى أنّه اختار لأمرنا من الملائكة المقربين ومن النبيين المرسلين ومن المؤمنين الممتحنين(5)
وغيرها من الروايات الكثيرة.
وفي بعضها ورد السر وسرنا وقد تقدمت جملة من الروايات، ومن ذلك
ص: 209
أيضاً: رواية جابر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إنّ أمرنا سر في سر، وسر مستسر، وسر لا نعيده، إلاّ سر، وسر على سر، وسر مقنع بسر(1)
وهذه الرواية معتبرة على الأظهر فإنّ في سندها محمّد بن سنان وجابر وقد استظهرنا وثاقتهما.
ورواية مرازم، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): إن أمرنا هو الحق، وحق الحق، وهو الظاهر، وباطن الظاهر، وباطن الباطن، وهو السر، وسر السر، وسر المستسر، وسر مقنع بسر(2)
وغيرهما من الروايات.
هذه هي العناوين الواردة في الروايات والظاهر من مطلق الحديث هو حديث الإمامة والولاية وما يكون من مختصات أهل البيت (علیهم السلام) من المعجزات، والأحكام الخاصة بالإمامية التي لا يفتي بها غيرهم، وليس المراد هو كل حديث عنهم (علیهم السلام) وإن كان في غير هذه الأمور.
كما أنّ الظاهر من أمرهم (علیهم السلام) هو الولاية، ويشهد على ذلك بعض الروايات.
وأما المراد من الصعب والسر فهو ما لا يكون قابلاً للتحمل كالمغيبات ونحوها فيكون شاملاً لخوارق العادة والمعجزات، ويحتمل أن يكون المراد من الصعب هو أمر الولاية وقد فسرت الأمانة في الآية الكريمة: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ...)(3) بالإمامة وهي لا يتحملها كل أحد.
وعليه فيمكن الجمع بهذا النحو من الجمع بين هذه العناوين الواردة في الروايات.
ويمكن أن يستشهد على ما ذكرنا ببعض الروايات الأخرى: منها: رواية عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: أتى الحسين (علیه السلام) أناس فقالوا له:
ص: 210
يا أبا عبد الله حدثنا بفضلكم الذي جعله الله لكم ، فقال: إنكم لا تحتملونه ولا تطيقونه، فقالوا: بلى نحتمل قال: إن كنتم صادقين فليتنح اثنان وأحدّث واحداً، فإن احتمله حدّثتكم، فتنحّى اثنان وحدّث واحداً، فقام طاير العقل ومرّ على وجهه وذهب فكلمه صاحباه فلم يرد عليهما شيئاًوانصرفوا(1)
وفي روايته الأخرى: «فما فرغ الحسين (علیه السلام) من حديث حتى ابيض رأس الرجل ولحيته وأنسي الحديث.
وهاتان الروايتان واضحتان من حيث الدلالة إلاّ أنهما من حيث السند غير تامتين فإن فيها عبد الرحمن بن كثير وهو محل كلام.
ومنها: رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا ' عن الرؤيا؟ فأمسك عني، ثمّ قال: لو أنا أعطيناكم ما تريدون كان شراً لكم، وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر، قال أبو جعفر (علیه السلام): «ولاية الله أسرّها إلى جبرئيل (علیه السلام) وأسرّها جبرئيل (علیه السلام) إلى محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) وأسرّها محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى علي (علیه السلام) وأسرّها علي صلوات الله عليه إلى من شاء، ثمّ أنتم تذيعون ذلك من الذي أمسك حرفاً سمع به؟» (2) والرواية طويلة وهي معتبرة السند.
وغيرها من الروايات.
ثم إنّ بعض الروايات اشتملت على عنوان آخر وإن كان غير خارج في المراد منه عن العناوين المتقدمة، وهو عنوان الدين فقد وردت صحيحة سليمان بن خالد في هذا المعنى، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): إنكم على دين من كتمه أعزّه الله ومن أذاعه أذله الله(3)
والظاهر من الدين هو الولاية كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم وليس المراد من الدين هو الإسلام.
ص: 211
الأولى: هل يجب الكتمان عن مطلق المخالفين أم لا؟
والذي يظهر من الروايات جواز الإظهار لمن يوثق به، سواء كان الأصحاب أو الأهل أو غيرهم، وأما غيرهم فلا يجوز سواء كان من المخالفين أو غيرهم، فيكون شاملاً لبعض أفراد الخاصة ممّن لا يوثق به أو لا يتحمل.
ويدل على ذلك عدة روايات:منها: صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن حديث، فقال: هل كتمت علي شيئاً قط؟ فبقيت أتذكر فلما رأى ما بي، قال: ما حدثت به أصحابك فلا بأس، وإنما الإذاعة أن تحدّث به غير أصحابك(1)
واصرح منها صحيحة داود بن فرقد قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): لا تحدّث حديثنا إلاّ أهلك أو من تثق به(2)
وقوله (علیه السلام): «أو من تثق به» مطلق سواء كان من الأصحاب أو من غيرهم.
وبناء على هذا فالشخص إذا كان من الأهل، أو كان مورداً للوثوق فلا مانع من التحدّث إليه بمقتضى مفاد هذه الرواية.
ومنها: رواية عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد' أنّه قال: ليس هذا الأمر معرفته وولايته فقط حتى تستره عمن ليس من أهله، وبحسبكم أن تقولوا ما قلنا وتصمتوا عما صمتنا، فإنكم إذا قلتم ما نقول وسلمتم لنا فيما سكتنا عنه فقد آمنتم بمثل ما آمنا به، قال الله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا ) (3) قال علي بن الحسين ': حدثوا الناس بما يعرفون، ولا
ص: 212
تحملونهم ما لا يطيقون فتغروهم بنا(1)
ويؤيده رواية عبد الأعلى (مولى آل سام) قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): إنه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته عن غير أهله، فاقرأهم السلام وقل لهم: رحم الله عبداً اجترّ مودة الناس إلى نفسه، حدثوهم بما يعرفون واستروا عنهم ما ينكرون، ثمّ قال: والله ما الناصب لنا حرباً بأشدّ علينا مؤنة من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إذاعة فامشوا إليه وردوه عنها، فإن قبل منكم وإلاّ فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى له، فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإن هو قبل منكم وإلاّ فادفنوا كلامه تحت أقدامكم ولا تقولوا إنه يقول ويقول، فإنّ ذلك يحمل عليّ وعليكم، أما والله لو كنتم تقولون ما أقول لكم لأقررت أنكم أصحابي، هذا أبو حنيفة له أصحاب، وهذا الحسن البصري له أصحاب، وأنا امرؤ من قريش قد ولدني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلمت كتاب الله وفيه تبيان كل شيء، بدء الخلق وأمر السماء، وأمرالأرض، وأمر الأولين وأمر الآخرين، وأمر ما كان، وأمر ما يكون، كأني أنظر إلى ذلك نصب عيني(2)
وفي هذا المعنى روايات كثيرة.
والحاصل مما ذكرنا: أنّه يجوز التحدث للأهل ولمن يوثق به.
الثانية: هل الكتمان واجب من جهة الخوف فقط؟ أو يشمل حالة المداراة وجلب القلوب والمودة وإن لم يكن فيه خوف؟
والظاهر من كثير من الروايات أنّه من جهة الخوف، وذلك للتعليل الوارد في بعض هذه الروايات كقوله (علیه السلام): «ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن
ص: 213
قتلنا قتل عمد» (1) ، فإنّ الإذاعة توجب الهتك والقتل فيكون مرجع وجوب الكتمان إلى الخوف، ثمّ إنّ الإذاعة لا يشترط فيها أن تكون لشخص يخاف منه، بل هي في نفسها كافية بمعنى أنّه لو لم يكن هناك من يخاف منه فالإذاعة أيضاً غير جائزة، لأن إذاعة السر تنتهي بالمآل إلى الخوف، وبناء على هذا فإذاعة السر غير جائزة مطلقاً إلاّ في ما استثني مما تقدم.
وأما إذا كان من جهة المداراة فقد وردت عدة روايات، منها ما تقدم من رواية عبد الأعلى بن أعين، ورواية عبد الأعلى مولى آل سام، وورد فيهما: رحم الله عبداً اجتر مودة الناس إلى نفسه وإلينا، وورد في إحدى الروايتين «حدثوا الناس بما يعرفون ولا تحملونهم ما لا يطيقون» وهاتان الروايتان وردتا بأسانيد متعددة، كما أنّ هناك بعض الروايات اشتملت على هذا المضمون، منها رواية مدرك بن زهير (الهزهازك) قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد ': يا مدرك إن أمرنا ليس بقبوله فقط، ولكن بصيانته وكتمانه عن غير أهله، أقرأ أصحابنا السلام ورحمة الله وبركاته وقل لهم: رحم الله امرءاً اجترّ مودة الناس إلينا فحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون(2).
إلاّ أن استفادة الوجوب من ذلك مشكل، فإن لسان الدليل لا يساعد عليه فإنّ قوله (علیه السلام): «رحم الله عبداً» لا يدل على الوجوب، ومع الشك فالأصل عدمه، نعم القول بالاستحباب المؤكّد له وجه، وعليه فجلب القلوبواجترار مودة الناس إلى أهل البيت (علیهم السلام) مستحب مؤكد.
ص: 214
اختلفت الأقوال في جواز تسمية الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف مطلقاً أي: في حال التقية وعدمها، وأشهر هذه الأقوال خمسة:
الأول: الجواز مطلقاً إلاّ في زمن التقية، وهو قول صاحب الوسائل ! وغيره(1)
الثاني: المنع مطلقاً ونسب إلى المشهور، وهو ظاهر كلام الشيخ المفيد(2) والصدوق(3) والطبرسي(4) والمحدث النوري(5) وغيرهم(6) قدس الله أسرارهم.
الثالث: الحرمة في المحافل والمجالس ومجمع الناس، ونسب إلى المحقق الداماد ! (7)
الرابع: الكراهة ونسب إلى الشيخ الأنصاري ! (8)
الخامس: التفصيل بين زمان الغيبة الصغرى وزمان الغيبة الكبرى، فيحرم في الأول دون الثاني.
والقول الأخير ذكره العلامة المجلسي ! ولم ينسبه إلى قائل معين(9).
ص: 215
ثم إن اختلاف الأقوال متفرع على اختلاف الروايات الواردة ولابد من استعراض جملة منها لنتبيّن حقيقة الحال.
ثم لا يخفى أن هذا وارد في حق الإمام الثاني عشر كما ذكرنا، وأمابقية الأئمة (علیهم السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فلا إشكال في جواز تسميتهم، وإن صعب على بعض العامة سماع اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ' وفاطمة الزهراء (علیها السلام)كما ورد في بعض الروايات: فإنّ الناس ليس شيء أبغض إليهم من ذكر علي وفاطمة(1)
وأما الروايات فيمكن تقسيمها إلى أربع طوائف:
الطائفة الأولى: الروايات الدالة على حرمة التسمية وعدم جواز ذكره بالاسم مطلقاً.
الطائفة الثانية: الروايات الدالة على الجواز بل ورد التصريح فيها باسمه الشريف.
الطائفة الثالثة: الروايات الدالة على المنع عن ذكر اسمه لعدم الأمن عليه وللخوف من وقوع الطلب من الأعداء.
الطائفة الرابعة: الروايات الدالة على المنع عن ذكر اسمه في المحافل ومجامع الناس.
أما الطائفة الأولى فهي عدة روايات:
منها: صحيحة داود بن القاسم الجعفري عن أبي جعفر (علیه السلام) ، (في حديث الخضر (علیه السلام) ) أنّه قال: واشهد على رجل من ولد الحسن لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر أمره فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً إنه القائم بأمر الحسن بن علي ' (2)
وهذه الرواية بالإضافة إلى صحة السند واضحة الدلالة فإن قوله (علیه السلام): لا
ص: 216
يسمى ولا يكنى دال على الحرمة، ونظير ذلك قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1) ، فمفاد الرواية النهي عن التسمية.
ومنها: صحيحة ابن رئاب عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلاّ كافر(2)
وهذه الرواية أوردها الصدوق في كمال الدين عن علي بن الريان، وفي نسخة عن علي بن زياد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) فإن كان الراوي هوابن الريان أو ابن رئاب فلا بأس، والرواية حينئذ معتبرة وهي واضحة الدلالة.
ومنها: موثقة الريان بن الصلت، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) وسُئل عن القائم ، فقال: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه(3)
والمستفاد من الرواية النهي عن الرؤية والتسمية إلاّ أن الأول تكويني والثاني تشريعي.
ومنها: معتبرة داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن العسكري(علیه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ قلت: ولم جعلني الله فداك؟ قال: لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، قلت: كيف نذكره؟ قال: قولوا الحجّة من آل محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) (4)
ودلالة الرواية واضحة، وأما من جهة السند فهو وإن كان فيه محمّد بن أحمد العلوي إلاّ أنّه وارد في أسناد تفسير القمي(5) وفي نوادر الحكمة في المستثنى منه(6) وقد ذكرنا غير مرة أن وقوع الراوي في أسناد أحد هذين الكتابين علامة
ص: 217
على الوثاقة، وقد حققنا ذلك في محله وعليه فلا إشكال في اعتبار السند.
ومنها: موثقة السيد عبد العظيم الحسني عن سيدنا علي بن محمّد ' أنّه عرض عليه اعتقاده وإقراره بالأئمة (علیهم السلام) «إلى أن قال:» ثمّ أنت يا مولاي، فقال له (علیه السلام): ومن بعدي ابني الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت: فكيف ذلك؟ قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، «إلى أن قال: » فقال (علیه السلام): فهذا ديني ودين آبائي(1)
ومنها: موثقة أبي أحمد محمّد بن زياد الأزدي عن موسى بن جعفر' في حديث أوصاف الإمام الثاني عشر وغيبته، قال: تخفى على الناس ولادته، ولا تحل لهم تسميته حتى يظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً،كما ملئت جوراً وظلماً(2)
ودلالة هاتين الروايتين واضحة فإن ذكر اسمه منهي عنه إلى أن يظهر عجل الله تعالى فرجه.
ومنها: معتبرة صفوان بن مهران عن الصادق (علیه السلام) أنّه قيل له: من المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته(3)
والرواية وإن جاء في سندها محمّد بن سنان إلاّ أننا استظهرنا وثاقته كما ذكرنا سابقاً، فالرواية من جهة سندها لا إشكال فيها، كما أنها من جهة الدلالة واضحة.
ومنها: رواية عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمّد بن علي بن موسى': إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمّد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما
ص: 218
ملئت جوراً وظلماً، فقال (علیه السلام): يا أبا القاسم ما منّا إلاّ قائم بأمر الله عزوجل وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله عزوجل به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله (علیه السلام) وكنيّه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، ويجتمع من أصحابه عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض، وذلك قول الله عزوجل: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1) فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله عزوجل، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزوجل، قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي وكيف يعلم أن الله عزوجل قد رضي؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما(2)
ومنها: رواية محمّد بن عبد الجبار، قال: قلت لسيدي الحسن بن علي': يابن رسول الله جعلت فداك أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ قال: إنّ الإمام والحجة بعدي ابني سمي رسول اللهوكنيه الذي هو خاتم حجج الله وخلفائه، إلى أن قال (علیه السلام): فلا يحل لأحد أن يسميه أو يكنيه باسمه وكنيته قبل خروجه صلوات الله عليه(3)
وغيرها من الروايات الدالة على حرمة التسمية مطلقاً.
أما الطائفة الثانية: وهي الروايات التي صرح فيها باسمه الشريف في كلمات الأئمة (علیهم السلام) والرواة فهي أيضاً عدة روايات: منها:
ص: 219
رواية محمّد بن إبراهيم الكوفي أن أبا محمّد الحسن بن علي العسكري' بعث إلى بعض من سماه شاة مذبوحة وقال: هذه من عقيقة ابني محمد(1)
ومنها: رواية أبي غانم الخادم قال: ولد لأبي محمّد (علیه السلام) مولود، فسماه محمداً وعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم وهو القائم(2)
وفي هذه الرواية نقل الراوي أنّ الإمام سماه بذلك.
ومنها: رواية علان الرازي عن بعض أصحابنا، أنّه لما حملت جارية أبي محمّد قال: ستحملين ولداً واسمه محمد، وهو القائم من بعدي(3)
ومنها: رواية جابر بن عبد الله أنّه رأى قدام فاطمة (علیها السلام) لوحاً يكاد ضوؤه يغشي الأبصار، فيه اثنا عشر اسم، قال: فقلت: اسماء من هؤلاء؟ قالت: أسماء الأوصياء أولهم ابن عمي وأحد عشر من ولدي، آخرهم القائم، قال جابر: فرأيت فيه محمداً محمداً محمداً في ثلاثة مواضع وعلياً علياً علياً علياً في أربعة مواضع(4)
وحديث اللوح ورد بعدة طرق وبعضها صحيح وورد بعبارات مختلفة وبمضمون واحد، وإن هذا اللوح ضم أسم القائم وكنيته وخصوصياته، وكان جابر يحدث بما رآه في ذلك اللوح.
ومنها: ما رواه المفضّل بن عمر قال: دخلت على سيدي جعفر بن محمّد ' فقلت له: يا سيدي لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك، فقال لي: يا مفضّل الإمام من بعدي موسى والخلف المأمول المنتظر محمّد بنالحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى(5)
ص: 220
ومنها: ما ذكره محمّد بن عثمان العمري عن أبيه عن أبي محمّد الحسن بن علي ' في الخبر الذي روي عن آبائه (علیهم السلام) أنّ الأرض لا تخلو من حجة الله على خلقه، وإن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال: إن هذا حق كما أن النهار حق، فقيل: يابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمّد هو الإمام والحجة بعدي، فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية(1)
ومنها: رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان - وذكر صفة القائم وأحواله إلى أن قال: - له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأما الذي يخفى فأحمد، وأما الذي يعلن فمحمّد الحديث(2)
فهذه الروايات تشتمل على التصريح باسم الحجة على لسان الأئمة(علیهم السلام) أو على ألسنة الرواة.
وأما الطائفة الثالثة: وهي الدالة على المنع من جهة الخوف، ووقوع الطلب عليه لا مطلقاً فهي عدة روايات:
الأولى: رواية أبي عبد الله الصالحي، قال: سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمّد(علیه السلام) أن أسأل عن الاسم والمكان؟ فخرج الجواب: إن دللتم على الاسم أذاعوه وإن عرفوا المكان دلّوا عليه(3)
الثانية: رواية عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمّد بن عثمان العمري (في حديث) أنّه قال له: أنت رأيت الخلف؟ قال: إي والله «إلى أن قال:» قلت: فالاسم قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن أحلّل ولا أحرّم، ولكن عنه (علیه السلام) فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمّد مضى ولم
ص: 221
يخلف ولداً «إلى أن قال:» وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وامسكوا عن ذلك(1)
الثالثة: معتبرة أبي خالد الكابلي، قال: لما مضى علي بن الحسين دخلت على محمّد بن علي الباقر ' فقلت: جعلت فداك قد عرفت انقطاعيإلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس، قال: صدقت يا أبا خالد تريد ماذا؟ قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطريق لأخذت بيده، قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟ قال: أريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه، فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد، ولقد سألتني عن أمر ما لو كنت محدثاً به أحداً لحدثتك، ولقد سألتني عن أمر لو أن بني فاطمة عرفوه حرصوا على أن يقطعوه بضعة بضعة(2)
الرابعة: رواية الحسين بن حمدان الحضيني في كتابه، عن علي بن الحسين بن فضال، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا علي بن موسى' يقول: القائم المهدي ابن ابني الحسن، لا يرى جسمه ولا يسمى باسمه بعد غيبته أحد حتى يراه ويعلن باسمه فليسمه كل الخلق، فقلنا له: يا سيدنا فإن قلنا: صاحب الغيبة، وصاحب الزمان والمهدي، قال: هو كله جائز مطلقاً وإنما نهيتكم عن التصريح باسمه الخفي عن أعدائنا فلا يعرفوه(3).
ومحل الشاهد قوله (علیه السلام): الخفي عن أعدائنا فلا يعرفوه، فالإخفاء إنما هو عن الأعداء، وأما غير الأعداء فلا نهي.
فهذه الروايات صريحة الدلالة على أن المنع عن ذكر اسمه الشريف إنما هو للخوف عليه من طلب الأعداء.
ص: 222
وأما الطائفة الرابعة: وهي الروايات الدالة على المنع عن التسمية في محافل الناس ومجامعهم فهما روايتان:
الأولى: رواية علي بن الحسين الدقاق وإبراهيم بن محمّد قالا: سمعنا علي بن عاصم الكوفي يقول: خرج في توقيعات صاحب الزمان : ملعون ملعون من سماني في محفل من الناس(1)
الثانية: معتبرة محمّد بن عثمان العمري قال: خرج توقيع بخط أعرفه: من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة الله(2)
هذه جملة من الروايات الواردة في التسمية، وهناك روايات أخرى غير ما ذكرنا لكنها لا تخرج عن واحدة من هذه الطوائف الأربع، ولعلنانشير إلى بعضها فيما سيأتي.
هذا وقد استدل للقول بالمنع عن التسمية مطلقاً بأدلة ثلاثة:
الأول: الروايات المانعة.
الثاني: الإجماع.
الثالث: السيرة العملية.
أما الروايات فسيأتي الكلام عنها.
وأما الإجماع فلا يمكن الاعتماد عليه لأنه لم يحرز أنّه إجماع تعبدي، وإن ورد في كلمات المحقق الداماد وغيره، ونسبوا القول بالمنع إلى قاطبة الأصحاب والمشايخ.
وأما السيرة فكذلك لأنه لا يعلم دلالتها على الحرمة أو الكراهة، ولم يحرز أنها متصلة بزمن الأئمة فتبقى الروايات المانعة وهي معارضة بالطوائف الثلاث الأخرى فلابد من البحث والتأمل.
ص: 223
والتحقيق: أن الروايات الدالة على المنع مطلقاً هي الأرجح من بين الروايات لأن أكثرها صحيح السند وواضح الدلالة، وظاهر النهي هو التحريم فالذي يقوى في النفس هو القول بالنهي عن التسمية مطلقاً ولابد حينئذ من توجيه بقية الروايات فنقول:
أما الطائفة الثانية: وهي التي ورد فيها التصريح باسمه الشريف فهي على نحوين:
الأول: ما ورد التصريح فيها على ألسنة الأئمة (علیهم السلام) .
الثاني: ما ورد التصريح فيها على ألسنة الرواة.
أما بالنسبة إلى النحو الأول فهو غير مشمول للحرمة والدليل الوارد في النهي عن التسمية خاص بما عدا الأئمة (علیهم السلام) ، فتصريح الأئمة (علیهم السلام) بالاسم الشريف للحجة لا مانع منه، وأكثر هذه الروايات من هذا القبيل كخبر اللوح الذي رآه جابر بن عبد الله، ورواية تسمية الإمام العسكري (علیه السلام) ابنه وغيرها كرواية المفضل ورواية السؤال عن معرفة إمام الزمان، مضافاً إلى أن بعضها ضعيف السند، كرواية أبي الجارود فإن في سندها إسماعيل بن مالك وهو لم يعرف.
والمتحصّل إن هذا القسم من هذه الطائفة خارج عن محل الكلام، ولا يصلح لأن يعارض به الروايات الناهية عن التسمية مطلقاً.
وأما بالنسبة إلى النحو الثاني فمع الإغماض عن المناقشة في أسناد هذه الروايات إلاّ أنّه يمكن القول إن الراوي ينقل نفس الألفاظ الواردة عنالمعصوم فتكون من قبيل الحكاية للدعاء أو القراءة للمكتوب، وهذا غير مشمول للأدلة فلابد من ملاحظة الرواية، فإن كانت التسمية من الراوي حكاية عن الإمام ونقلاً لألفاظه فلا إشكال، والإشكال فيما إذا كانت التسمية من نفس الراوي وفعل الراوي ليس حجة علينا، نعم لو صدرت التسمية من الراوي في محضر الإمام
ص: 224
ومجلسه وسكت الإمام كان ذلك تقريراً من المعصوم، ولم نعثر على شيء من ذلك في الروايات، هذا بالنسبة إلى الطائفة الثانية من الروايات.
وأما بالنسبة للطائفة الثالثة وهي الواردة في النهي عن التسمية لجهة الخوف وطلب الأعداء فقد ذكرنا أربع روايات وهي محل نقاش إما من جهة الدلالة، وإما من جهة السند، وإما من كلتا الجهتين.
ففي الرواية الأولى أبو عبد الله الصالحي وورد في بعض الروايات الأخرى أبو عبد الله بن صالح فلعلهما واحد، وعلى كل تقدير فهو مجهول فالرواية لا يعتمد عليها من جهة السند.
وأما من جهة الدلالة ففيها غموض وذلك لأن قوله (علیه السلام): إن دللتم على الاسم أذاعوه وإن عرفوا على المكان دلوا عليه وإن كان وارداً في مقام التعليل من جهة الخوف، ولكن إذا كان الإمام غائباً ولا يرى جسمه ولا شخصه فأي خوف عليه من معرفة الاسم أو المكان، فالحق أن دلالة الرواية غامضة وعليه فلا يمكن الاعتماد عليها سنداً ودلالة.
وأما الرواية الثانية فهي من حيث السند معتبرة إلاّ أن الكلام من حيث الدلالة، فقد يستدل بها على أن الحرمة مخصوصة بظرف معين، وذلك بجملتين من الرواية الأولى قوله: «فإنّ الأمر عند السلطان أن أبا محمّد مضى ...» ، فالحرمة خاصة بزمان السلطان، والثانية: قوله: «إذا وقع الاسم وقع الطلب فاتقوا الله» ، فالتسمية توجب أن يقع عليه الطلب، ولذلك تحرم تسميته وهذه الجملة وإن كانت متفرعة عن الأولى إلاّ أنّه يمكن أن يقال: إن المقصود من السلطان الأعم من سلطان زمانه أو غيره، فيمكن الاستدلال بها على أن الحرمة خاصة بزمان الغيبة الصغرى أو مطلقاً، وعلى كل تقدير فالحرمة خاصة لأجل الخوف عليه من طلب الأعداء.
والجواب: أنّ الرواية وإن كانت معتبرة السند إلاّ أنها من حيث الدلالة
ص: 225
غير تامة، وذلك لأنّ التعليل الوارد في الرواية لم يعلم أنّه من الإمام (علیه السلام) بل من العمري، فإنه هو الذي علل الكلام بذلك، نعم الحكم بالحرمة من الإمام إلاّ أن التعليل من غيره، ومع الشك في ذلك لا يمكن الاستدلال بهاعلى المدعى، مضافاً إلى أنّه يرد على الرواية على أحد التقديرين ما يرد على الرواية الأولى، فتكون دلالتها غامضة.
والحاصل: أنّ هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لتقييد الروايات الناهية عن التسمية مطلقاً حتى يظهر.
وأما الرواية الثالثة وهي رواية الكابلي فهي معتبرة السند ولا إشكال فيها من هذه الناحية فإن عبد الواحد بن عبد الله(1) ثقة ومحمّد بن جعفر - كما في سند البحار نقلاً عن غيبة النعماني - ثقة أيضاً، وذلك لأنّ محمّد بن جعفر الذي يروي عن ابن أبي الخطاب اثنان: أحدهما ثقة وهو الرزاز(2) ، والآخر ضعيف وهو ابن بطة(3) ، والوارد في الرواية هو الأول دون الثاني، فإن النعماني في غيبته(4) صرح بأنه محمّد بن جعفر القرشي وهو أبو الحسين الكوفي الرزاز، ولولا ذلك لتوقفنا في سند الرواية، ثمّ إنّ ابن أبي الخطاب(5) ومحمّد بن يحيى الخثعمي(6) وضريس(7) وأبا خالد الكابلي(8) كلهم ثقات ومحمّد بن سنان وإن كان فيه نقاش إلاّ أننا استظهرنا وثاقته.
والحاصل: أن سند الرواية معتبر كما أنها وردت في غيبة الطوسي بسند
ص: 226
صحيح(1)
وأما من جهة الدلالة فهي تامة أيضاً، فإن الإمام الباقر (علیه السلام) تحفّظ على الاسم ولم يذكره لأبي خالد، ومنه يعلم أنّ التحريم لا يختص بزمان ولادته بل قبل ولادته أيضاً، وإذا كان يخاف على الإمام من بني فاطمة وهم أقرب الناس إلى الأئمة فكيف بغيرهم؟
ولكن هذا التعليل لا يستفاد منه اختصاص الحرمة بزمان دون زمان بل إلى زمان الظهور، فيكون وجهاً لحرمة التسمية مطلقاً ومؤيداً للطائفة الأولى من الروايات.وأما الرواية الرابعة وهي رواية المستدرك فسندها صحيح، وقلنا: إنّ محل الشاهد قوله: «الخفي عن أعدائنا» ، وغير الأعداء لا تقية عنهم، وقد استدل بعضهم بهذه الرواية على اختصاص النهي عن التسمية بالخوف من الأعداء.
والجواب: أنّ الرواية وإن كانت صحيحة السند إلاّ أنّ الكلام في صاحب الكتاب وهو الحسين بن حمدان الحضيني، فقد قال عنه النجاشي: فاسد المذهب(2) وقال عنه ابن الغضائري كذّاب فاسد المذهب ...(3) ، ولا أقل من أنّه لم يرد فيه توثيق، فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية، هذا ما يتعلق بالطائفة الثالثة.
وأما الطائفة الرابعة التي يستفاد منها أنّ النهي عن التسمية في المجامع والمحافل فقد قلنا إنّها روايتان:
أما الرواية الأولى فهي من حيث السند ضعيفة، فإنّ فيه آدم بن محمّد البلخي وهو لم يوثق وإن كان بقية أفراد السند لا بأس بهم.
ص: 227
وأما من جهة الدلالة فقد استدل بها على أن المراد من الناس في الرواية هم العامة كما يطلق ذلك عليهم كثيراً، وأن النهي مختص بمحافلهم وهو مظنة التقية والمفسدة، وذهب إلى ذلك صاحب الوسائل.
والجواب: أن المقصود من الرواية هو شدة الحرمة وتأكدها في المحافل لا أنّ النهي مختص بها، وبناء على ذلك فالرواية سنداً ودلالة غير تامة.
وأما الرواية الثانية فهي من حيث السند معتبرة فإن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق من مشايخ الصدوق وقد ترضى عنه، وبناء على أن الترضي علامة على الوثاقة كما حققناه في محله فيكون محمّد بن إبراهيم ثقة، كما أن محمّد بن همام، ومحمّد بن عثمان ثقتان فلا إشكال في اعتبار السند.
وأما من جهة الدلالة فقد قيل: إنّ الناس هم العامة كما قيل في الرواية السابقة، وبناء عليه فحرمة التسمية مختصة بالتقية من العامة.
وفيه: أولاً: لم يحرز أن الناس هم خصوص العامة وقد وردت روايات أخرى يستفاد منها أن الناس هم مطلق الناس، كما وردت روايات أخرى يستفاد منها أن الناس هم العامة، والظاهر من الرواية هو مطلق الناس وليس فيها قرينة تعينهم بالعامة.
وثانياً: أنّ النهي عن التسمية في مجمع الناس لا يدل على أنّه في غيرالمجمع غير منهي عنه.
وثالثاً: لم تشتمل الرواية على ما يصرف ظاهرها إلى التقية.
وبناء عليه فلا يمكن رفع اليد عن الإطلاقات الكثيرة بهذه الرواية، فإنّ التمسك بها لرفع اليد عن الروايات الصحيحة سنداً والتامة دلالة يلزم منه تخصيص الأكثر.
والذي تحصل: أننا لم نقف على رواية معتبرة السند والدلالة تنهض
ص: 228
لمعارضة الروايات المتعددة الصحيحة في سندها والصريحة في دلالتها على أن الحرمة لا تختص بزمان دون زمان، فالتقييد بزمان الغيبة أو بالخوف أو بمحافل الناس ضعيف جداً، والقول بالحرمة مطلقاً هو الأقوى.
الأول: هل تختص الحرمة بذكر الاسم الشريف للغير؟ أو أنها مطلقة فتشمل الذكر للنفس أيضاً؟
ظاهر الروايات هو الأول وإن كان الذكر في نفسه شاملاً لكلا الحالتين.
وقد ورد الذكر في روايتين الأولى: معتبرة داود بن القاسم الجعفري ففيها: ... ولا يحل لكم ذكره باسمه.
والثانية: موثقة عبد العظيم الحسني وفيها: ... ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج.
والروايتان مطلقتان إلاّ أن انصراف التحريم عرفاً هو الذكر بالنسبة إلى الغير، ولا ينافيه كون الذكر شاملاً للذكر للنفس.
ويؤيد ذلك الروايات المانعة عن التسمية في محافل الناس ومجامعهم، أو عند الخوف من الطلب، ومع الشك في الشمول فالقدر المتيقن هو الذكر للغير، وما عداه يكون مجرى أصالة البراءة للشك في التكليف حينئذ، فالظاهر هو الجواز والاحتياط لا يترك.
الثاني: هل تشمل الحرمة كتابة الاسم الشريف أو أنها تختص بالتلفظ؟
يمكن القول بأن الكتابة خارجة وهي غير مشمولة للحرمة، وذلك لأن الكتابة لا يصدق عليها أنها تسمية، مضافاً إلى ما تقدم من التصريح في النهي عن الذكر، والكتابة ليست من الذكر.
وما يقال: من أن المناط واحد فكما أن الذكر محرم فكذلك الكتابة، مدفوع
ص: 229
بأنّ المناط هنا غير معتبر، فإن الناس وإن كانوا يعرفون الاسم إلاّأن الذكر في نفسه محرم، فلم يحرز أن العلم هو المناط في الحرمة، فالقول بالجواز هو الأقوى والاحتياط في محله.
الثالث: هل تختص الحرمة بناء على القول بها بالاسم الشريف؟ أم أنها تعم الكنية أيضاً؟
والوارد من الروايات في هذا المعنى ثلاث روايات:
الأولى: صحيحة أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري - المتقدمة - عن أبي جعفر (علیه السلام) (في حديث الخضر (علیه السلام) ) أنّه قال: واشهد على رجل من ولد الحسن لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر أمره، فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً إنه القائم بأمر الحسن بن علي ' (1)
وهذه الرواية وإن كانت صحيحة السند إلاّ أن دلالتها على الحرمة ليست واضحة، بخلاف الاسم فإنّ الروايات الناهية عن التسمية صريحة الدلالة، كما أنها صحيحة الأسناد.
الثانية: ما أورده صاحب المستدرك نقلاً عن كتاب الغيبة للفضل بن شاذان، عن محمّد بن عبد الجبار، قال: قلت لسيدي الحسن بن علي ': يابن رسول الله جعلت فداك - أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ قال: إنّ الإمام والحجة بعدي ابني سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكنيه الذي هو خاتم حجج الله وخلفائه «إلى أن قال (علیه السلام): » فلا يحل لأحد أن يسميه أو يكنيه باسمه وكنيته قبل خروجه صلوات الله عليه(2)
الثالثة: ما رواه الفضل بن شاذان أيضاً في كتاب الغيبة عن إبراهيم بن محمّد بن فارس النيسابوري، قال: لما همّ الوالي عمرو بن عوف بقتلي، وهو رجل
ص: 230
شديد وكان مولعاً بقتل الشيعة، فأخبرت بذلك وغلب عليّ خوف عظيم، فودّعت أهلي وأحبائي وتوجهت إلى دار أبي محمّد (علیه السلام) لأودعه، وكنت أردت الهرب، فلما دخلت عليه رأيت غلاماً جالساً في جنبه، وكان وجهه مضيئاً كالقمر ليلة البدر، فتحيرت من نوره وضيائه، وكاد أن أنسى ما كنت فيه من الخوف والهرب، فقال: يا إبراهيم، لا تهرب فإن الله تبارك وتعالى سيكفيك شره فازداد تحيري، فقلت لأبي محمّد (علیه السلام): يا سيدي جعلني الله فداك من هو وقد أخبرني بما كان في ضميري؟! فقال: هو ابني وخليفتي من بعدي. وهو الذي يغيب غيبة طويلة، ويظهر بعد امتلاء الأرض جوراًوظلماً، فيملأها قسطاً وعدلاً فسألته عن اسمه، فقال: هو سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكنيّه، ولا يحلّ لأحد أن يسميه أن يكنيه بكنيته إلى أن يظهر الله دولته وسلطنته، فاكتم يا إبراهيم ما رأيت وسمعت منّا اليوم إلاّ عن أهله، فصليت عليهما وآبائهما وخرجت مستظهراً بفضل الله تعالى واثقاً بما سمعت من الصاحب (علیه السلام) الخبر(1)
والروايتان وإن كانتا معتبرتين سنداً وواضحتين دلالة وهما أصرح في الحرمة من الرواية الأولى، واحتمال أن الحرمة فيهما إنما هي للجمع بين الاسم والكنية مدفوع بأنّ الإمام (علیه السلام) عبّر بأو دون الواو، إلاّ أن الكلام في الطريق إلى كتاب الغيبة، فبناء على ثبوت الطريق فالحكم بالحرمة ثابت، وأمّا بناء على عدم ثبوت الطريق وانحصاراستفادة الحكم من الرواية الأولى فلا، لعدم وضوح الدلالة فيها على الحرمة كما ذكرنا، ومع الشك فأصالة البراءة جارية.
الرابع: في الجمع بين الاسم والكنية (في المولود).
ظاهر المشهور الحكم بالكراهة.
قال في الجواهر: «ويكره أن يكنيه أبا القاسم إذا كان اسمه محمداً» (2) ولم
ص: 231
ينقل في المسألة خلافاً وقال في المقنع: «وإذا كان اسمه محمداً فلا تكنه بأبي القاسم» (1)
وقال في الهداية: «ولا يكنّيه بعيسى ولا بالحكم ولا بالحارث لا بأبي القاسم، إذا كان الاسم محمداً» (2) ولم يعبر الشيخ الصدوق بالكراهة أو الحرمة بل عبر بالنهي.
وقال السيد الأستاذ في منهاج الصالحين: يستحب غسل المولود والأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى وتحنيكه بتربة الحسين (علیه السلام) وتسميته باسم أحد الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وتكنيته (ولا يكنى محمّد بأبي القاسم) (3) ، وهكذا في كلمات غيرهم.
وجاء في الروايات النهي عن الجمع بين الاسم والكنية ومنها:
معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عن أربع كنىعن أبي عيسى وعن أبي الحكم وعن أبي مالك وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمداً(4)
وهذه الرواية أوردها الكليني في الكافي (5) والصدوق في الخصال(6) والشيخ في التهذيب(7)
ومنها: ما جاء في المستدرك نقلاً عن دعائم الإسلام عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنّه نهى عن أربع كنى عن أبي عيسى، وأبي الحكم، وعن أبي مالك، وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمداً، نهى عن ذلك سائر الناس، ورخص فيه لعلي (علیه السلام) ، وقال المهدي من ولدي يضاهي اسمه اسمي وكنيته كنيتي(8)
ص: 232
ومنها: ما عن فقه الرضا (علیه السلام) ولا تكنِّ بأبي عيسى ولا بأبي الحكم، ولا بأبي الحارث، ولا بأبي القاسم إذا كان الاسم محمداً(1)
ومنها: ما عن الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين عن أبيه، عن علي بن أبي طالب ' ، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): إني لا أحل لأحد أن يتسمى باسمي ولا يتكنى بكنيتي، إلاّ مولود لعلي(علیه السلام) من غير ابنتي فاطمة (علیها السلام) ، فقد نحلته اسمي وكنيتي وهو محمّد بن علي(2).
ومقتضى الرواية الأخيرة هو الحرمة في الجمع بين الاسم والكنية إلاّ لمن استثني .
إلاّ أن الكلام في سند الكتاب، فإن كان معتبراً أمكن القول بالاحتياط، وقد ذكرنا في بحوثنا الرجالية أن كتاب الجعفريات لم يثبت منه عندنا إلاّ بمقدار الثلث، وما عداه فهو محلّ نظر .
وأما كتاب فقه الرضا فهو أيضاً محلّ كلام وبحث، وفصلنا القول فيه في محله، وهكذا الكلام بالنسبة إلى كتاب دعائم الإسلام .
فتبقى معتبرة السكوني وهي غير تامة الدلالة، لأنّ النهي مطلق يشمل الكراهة والحرمة، مضافاً إلى أن التكنية بأبي عيسى وأبي الحكم وأبي مالك مكروهة، ولم يقل أحد بحرمتها فهذه كذلك، فإنها جميعاً على نسقواحد، نعم ورد النهي عن التسمية بحكم وحكيم وخالد ومالك وحارث وحرب ومرة وضرار وظالم وضريس(3) وهو أيضاً محمول على الكراهة .
وأما التسمية بمحمّد فهي من المستحبات كما يستفاد ذلك من جملة من الروايات ولا بأس بإيراد بعضها تيمناً .
ص: 233
منها: رواية عاصم الكوزي عن أبي عبد الله أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: من ولد له أربعة أولاد ولم يسم أحدهم باسمي فقد جفاني(1) ، وفي رواية أخرى ثلاث بنين(2).
ومنها: رواية جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، في حديث أنّه قال لابن صغير ما اسمك؟ قال: محمد، قال: بم تكنى؟ قال: بعلي، فقال أبو جعفر (علیه السلام): لقد احتظرت من الشيطان احتظاراً شديداً، إنّ الشيطان إذا سمع منادياً ينادي يا محمّد أو يا علي ذاب كما يذوب الرصاص، حتى إذا سمع منادياً ينادي باسم عدو من أعدائنا اهتز واختال(3)
ومنها: رواية أبي هارون مولى آل جعدة، قال: كنت جليساً لأبي عبد الله(علیه السلام) بالمدينة ففقدني أياماً، ثمّ إني جئت إليه فقال: لم أرك منذ أيام يا أبا هارون فقلت: ولد لي غلام، فقال: بارك الله لك فما سميته؟ قلت: سميته محمداً، فأقبل بخده نحو الأرض وهو يقول محمّد محمّد محمد، حتى كاد يلصق خده بالأرض، ثمّ قال: بنفس وبولدي وبأهلي وبأبوي وبأهل الأرض كلهم جميعاً الفداء لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لا تسبه ولا تضربه ولا تسيء إليه، واعلم أنّه ليس في الأرض دار فيها اسم محمّد إلاّ وهي تقدّس كل يوم الحديث(4)
ومنها: ما رواه في عدة الداعي قال: قال الرضا (علیه السلام): البيت الذي فيه محمّد يصبح أهله بخير ويمسون بخير(5)
ومنها: ما ورد في صحيفة الرضا عن آبائه، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إذا سميتم
ص: 234
الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبّحوا لهوجهاً(1)
وغيرها من الروايات الكثيرة التي يستفاد منها الترغيب في التسمية بمحمد.
والحاصل مما ذكرنا: أنّ النهي عن الجمع بين الاسم والكنية محمول على الكراهة، ولم نجد قولاً بالحرمة، وقد تقدم أنّ صاحب الجواهر ذكر قولاً واحداً وهو الكراهة ومع الشك فالقدر المتيقّن هو الكراهة، وما زاد فهو مجرى أصالة البراءة .
الخامس: ذكرنا فيما تقدم في الطائفة الثانية رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) وفيها أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال على المنبر: إنّ لصاحب الأمر اسمين أحدهما معلن والآخر خفي وقد عثرنا على رواية أخرى جاءت في مختصر بصائر الدرجات، وهي أخبرنا جماعة عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن علي بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن محمّد المصري، عن عمه الحسن بن علي، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن الباقرعن أبيه ذي الثفنات سيد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي(علیه السلام): يا أبا الحسن احضر صحيفة ودواة فأملى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع، فقال: يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ، ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أول الاثني عشر الإمام، سمّاك الله في سمائه علياً المرتضى وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون والمهدي، فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك، يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي فمن ثبّتها لقيتني غداً، ومن طلقتها فأنا بريء منها لم ترني ولم أرها في عرصات القيامة، وأنت خليفتي على
ص: 235
أمتي من بعدي، فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمّد الباقر، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى علي الرضا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمّد التقي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذاحضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد صلى الله عليه وعليهم، فذلك اثنا عشر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المهديين، له ثلاثة أسامي اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله، وأحمد، والاسم الثالث المهدي، وهو أول المؤمنين(1)
ووردت بهذا المعنى روايات متعددة، إلاّ أنها غير واضحة الدلالة فلعل المراد منها هو الرجعة، ويحتمل أن الأسماء الثلاثة ترجع إلى المهدي الأول، وهو أول المؤمنين لا إلى آخر الأئمة، مضافاً إلى أنّ هذه الرواية يرد عليها ما ورد على الرواية المتقدمة في الطائفة الثانية.
هذا من جهة الدلالة، وأما من جهة السند فهي تشتمل على عدة من المجاهيل، وعليه فلا يمكن الاعتماد عليها، والداعي لذكر الرواية هو ورود التسمية بأحمد كما في الرواية المتقدمة في الطائفة الثانية.
السادس: ما هو الوجه والحكمة لحرمة التسمية؟
أما ما تقدم من بعض الروايات من أنّه للخوف عليه من طلب الأعداء فلم نفهم له معنى، إذ من الثابت أن له غيبة لا يرى فيها شخصه فكيف يخاف عليه؟!
ص: 236
مضافاً إلى أن اسمه معروف فإنه سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وأما ما ذكر من أن المنع إنما هو للتقية فهذا لا كلام فيه، فإن التقية في كل شيء حتى بالنسبة لغير الحجّة من سائر الأئمة (علیهم السلام) .
وقد ذكرت وجوه أخرى لذلك.
والذي نراه أنّ وراء هذه الحرمة المشددة والنهي المؤكد شيئاً آخر، وهو أن وجه المنع في ذلك إنما هو لسد الباب على المدعين لهذا الأمر، حتى يظهر بنفسه ويعلن عن نفسه مؤيداً بالدلائل والآيات، وإن في التحفّظ عن ذكر اسمه الشريف إحداث شوق في نفوس المؤمنين، وحرص على التمسك به، وتطلّع إليه، والشعور بأهميته كما أنّ في كتمان اسمه والتحفّظ عليه ربطاً بالإمام الحجّة ، لأن المؤمن إذا التفت إلى أنّه يحمل أمانة وسرّاً ازداد تعلّقه وارتباطه، وليس المنع هو مجرد الخوف عليه من طلب الأعداء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى عدم الرؤية، ولعل في الروايات التي تتحدّث عن الظهور وما بعده إشارة إلى ما ذكرناه.
ويحتمل أن هناك وجوهاً ومصالح أخرى لم ندركها بعد.عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره وأعوانه وثبّتنا على القول بعصمته وغيبته.
والحمد لله ربّ العالمين
وبهذا يتم الكلام عن الفصل الثاني
ص: 237
ص: 238
فروع الدين المشروطة بقصد القربة التقية في الوضوء
· تعيين موارد البحث من هذا الموضوع.
· بيان الوضوء الواقعي المستفاد من الكتاب والسنة وعمل النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) .
· الدليل على أنّ الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وأنّ الثالثة بدعة.
· الدليل على أنّ الغسل من الأعلى لا من الأسفل.
· في بيان أنّ الواجب هو مسح مقدم الرأس لا جميعه.
· الدليل على وجوب مسح الرجلين لا غسلهما.
· بطلان المسح على الخفين، واعتراف كثير من الصحابة بذلك.
· أحكام التقية في هذه الموارد وبيان الأحكام المترتبة عند المخالفة.
ص: 239
ص: 240
وهذا البحث هو من أهم البحوث في هذا الموضوع وذلك لعموم البلوى به، واحتجاج كل من الفريقين بعدة أدلة على صحة عمله، وكثرة الروايات الواردة فيه واختلافها.
ونظراً لأهمية البحث لا بأس بمعالجة الموضوع من جميع أطرافه بما يناسب المقام، فنقول: إنّ موارد التقية من الوضوء ستة هي:
الأول: في غسل الوجه واليدين من حيث الكمية (مرة أو ثلاث).
الثاني: في غسل الوجه واليدين من حيث الكيفية (من الأعلى إلى الأسفل أو بالعكس).
الثالث: في مسح الرأس كلاًّ أو بعضاً مع الأذنين أو بدونهما.
الرابع: في غسل الرجلين أو مسحهما.
الخامس: في مسح الرأس والرجلين بماء الوضوء أو بماء مستأنف.
السادس: في جواز المسح على الخفين وعدمه.
أما المورد الأول: فالخلاف بيننا وبينهم بيّن، فهم قائلون بالغسل ثلاثاً وعملهم عليه، حتى أنّه يمكن أن يشخّص الإمامي من غيره بهذا الفعل، فإن المتسالم عليه عند الإمامية أن الواجب في الوضوء هو غسل الوجه واليدين مرة مرة، والثانية مستحبة على خلاف سيأتي، وأما الثالثة فهي بدعة، قال الشيخ في
ص: 241
الخلاف:الفرض في غسل الأعضاء مرة واحدة، واثنتان سنة، والثالثة بدعة، وفي أصحابنا من قال: إنّ الثانية بدعة، وليس بمعول (بمعتمد) عليه، ومنهم من قال الثالثة تكلّف، ولم يصرّح بأنها بدعة، والصحيح الأول. وقال الشافعي: الفرض واحد واثنتان أفضل، والسنة ثلاثة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: مرة أفضل من المرتين، وحكى عن بعضهم أن الثلاث مرات واجب(1)
والمقصود من قوله: وفي أصحابنا من قال: إنّ الثانية بدعة هو الشيخ الصدوق، فقد نسب إليه ذلك كما في السرائر(2) ، كما أن المراد من قوله:ومنهم من يقول: الثالثة تكلف، هو الشيخ المفيد ! (3)
والحاصل: أنّ المشهور عند الإمامية استحباب الثانية وحرمة الثالثة حرمة تكليفية ووضعية، ونسب الجواز إلى ابن أبي عقيل(4) ، وابن الجنيد(5)، والشيخ المفيد(6) وإلى المحقق في المعتبر حيث استوجه عدم البطلان(7)
كما نسب إلى الشهيد(8) في الدروس والذكرى القول بأنّ الغسلة الثالثة مفسدة للوضوء من جهة أنّ الماء المستخدم فيها ماء جديد مستأنف، فيكون المسح بماء غير ماء الوضوء .
وهنا قول آخر ينسب إلى النهاية(9) والمدارك(10) وهو أنّ فساد الوضوء إنما يتحقق إذا كان الغسل بالماء الثالث وقع على اليد اليسرى لا على غيرها من
ص: 242
سائر الأعضاء، وهذا القول أخص من قول الشهيد وسيأتي بيان الحق في ذلك عند تحقيق المقام .
ثم إنّ كل من يرى أنها بدعة يقول: إنها مفسدة للوضوء بقول مطلق.
هذه هي أقوال الخاصة في المسألة، وأما العامة فقد ذكرنا بعض أقوالهم في العبارة المتقدمة للشيخ .
وقال ابن رشد في البداية: اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الاعضاء المغسولة مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنتين والثلاث مندوب إليهما(1).
وفي المهذب: والمستحب أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ... فإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه(2)
وفي المغني: الوضوء مرة مرة والثلاث أفضل، هذا قول أكثر أهل العلم، وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: الوضوء ثلاث ثلاث إلاّ فيغسل الرجلين(3)
وفي فتح الباري: ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الاسفرايني، عن بعض العلماء أنّه لا يجوز النقص من الثلاث ... وهو محجوج بالإجماع(4)
هذه أقوال العامة، ومنها يتبين أنّ الثلاث عندهم سنة بخلاف الخاصة، فإنهم يرونها بدعة وتشريعاً محرماً، ولعل التزام العامة بهذه السنّة عملاً وكأنما يرونها واجباً لهذه الجهة أي لجهة أنّ الخاصة يرون أن الثالثة بدعة .
ثم إنّ الكلام ينبغي أن يكون في مورد الخلاف بيننا وبين العامة وهو خصوص الغسلة الثالثة، وأما الكلام بالنسبة إلى الغسلة الأولى والثانية فهو خارج عن المقام، وقد فصلنا القول فيه في مبحث الطهارة من مباحثنا الفقهية،
ص: 243
وإن كان سيأتي خلال الأبحاث الآتية ما يتعلق بالغسلة الأولى والثانية .
وأما ما يتعلق بما نحن في صدده فالحق أنّ الغسلة الثالثة بدعة منهي عنها، وهي توجب فساد الوضوء، وإلى ذلك ذهب الشيخ كما تقدم، والدليل على ذلك من الكتاب والروايات الكثيرة المتواترة، ويمكن دعوى الإجماع للعلم بشخص المخالف في ذلك وإن جلّ الفقهاءمن الطائفة يعتبرون الثالثة بدعة مفسدة للوضوء .
أما ما يستدل به من الكتاب فقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (1) بتقريب: أنّ الواجب هو غسل الوجه واليدين فمتى تحقق الغسل فقد امتثل المكلف الأمر، وتحقق المأمور به، وهذا إنما يتم بغسلة واحدة، وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل خاص، وقد قام الدليل الخاص على مشروعية الغسلة الثانية بل على استحبابها وأنها متممة للغسلة الأولى، وأما ما زاد على الثانية فلا دليل لنا عليه، فلا يمكن القول بأنّ الثالثة جائزة، وهو لا يخرج عن دائرة التشريع المحرم لأنّ العبادات أمور توقيفية، والمقدار الذي دلّ عليه الدليل هو الغسلة الأولى بالأصل والثانية بواسطة الروايات الخاصة في المورد والزايد على الثانية لم يرد فيه دليل بل ورد النهي عنه .وأما بالنسبة إلى الروايات فيمكن الاستدلال بها أيضاً على عدم جواز الغسلة الثالثة، وهي على طوائف :
الأولى: ما تدل على الاكتفاء بمرة واحدة ولا يجوز التعدي عنها، وإذا كان لا يجوز التعدي عن المرة إلى الثانية فبالأولى لا تجوز الثالثة.
الثانية: ما تدل على جواز الغسل مرتين، وأن الثانية مستحبة، وأن الاستحباب لا يكون أزيد من مرتين .
الثالثة: ما تنص على أنّ الثالثة بدعة .
ص: 244
أما الطائفة الأولى فهي عدة روايات منها الروايات البيانية التي تحكي وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهي :
1 - صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه، ثمّ غمس فيه كفه اليمنى، ثمّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة، ثمّ غرف مِلأها ماء فوضعها على جبهته، ثمّ قال: بسم الله وسدله على أطراف لحيته، ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جبهته مرة واحدة، ثمّ غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى فأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ثمّ غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلّة يمناه .
قال: وقال أبو جعفر (علیه السلام): إنّ الله وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى، قال زرارة: قال أبو جعفر (علیه السلام): سأل رجل أمير المؤمنين(علیه السلام) عن وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فحكى له مثل ذلك(1)
ويستفاد من قوله (علیه السلام): إنّ الله وتر يحب الوتر ... الخ أنّ الواحدة تجزي، وأن الاقتصار على الواحدة ينفي - بحسب ظاهرها - استحباب الزائد حتى الاثنتين لأنه ينافي التعليل .
2 - صحيحة زرارة وبكير، أنهما سألا أبا جعفر (علیه السلام) عن وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): فدعا بطست أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى فغرف بهاغرفة فصبّها
ص: 245
على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق، ثمّ غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لم يحدث لهما ماء جديداً، ثمّ قال: ولا يدخل أصابعه تحت الشراك، قال: ثمّ قال: إنّ الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلاّ غسله، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلاّ غسله، لأنّ الله تعالى يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ).
ثم قال: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه، قال: فقلنا: أين الكعبان؟ قال: هاهنا يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق والكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزي للوجه وغرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله(1)
وصدر الرواية واضح الدلالة في أن وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان بالغسل مرة مرة، نعم قوله (علیه السلام) في ذيل الرواية: والثنتان تأتيان على ذلك كله، غير ظاهر فهل المراد هو الثنتان على كل عضو؟ أو للذراعين؟ ولذا وقع الخلاف في تفسير هذه الجملة.
3 - موثقة بكير بن أعين عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال: ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ فأخذ بكفه اليمنى كفاً من ماء فغسل به وجهه، ثمّ أخذ بيده اليسرى كفاً فغسل به يده اليمنى، ثمّ أخذ بيده اليمنى كفاً من ماء فغسل به يده
ص: 246
اليسرى، ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه(1)
والرواية واضحة الدلالة كما أنها تامة السند.
4 - صحيحة زرارة قال: حكى لنا أبو جعفر (علیه السلام) وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بقدح من ماء، فأخذ كفاً من ماء فأسدله على وجهه (من أعلى الوجه) ثمّ مسح (على) وجهه من الجانبين جميعاً، ثمّ أعاد يده اليسرى في الإناء فأسدلها على يده اليمنى ثمّ مسح جوانبها، ثمّ أعاد اليمنى في الإناءفصبّها على اليسرى، ثمّ صنع بها كما صنع باليمنى، ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء(2).
5 - صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده والماء أوسع، ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ قلت: بلى، قال: فأدخل يده في الإناء ولم يغسل يده فأخذ كفاً من ماء فصبه على وجهه، ثمّ مسح جانبيه حتى مسحه كله، ثمّ أخذ كفاً آخر بيمينه فصبه على يساره، ثمّ غسل به ذراعه الأيمن، ثمّ أخذ كفاً آخر فغسل به ذراعه الأيسر، ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه(3)
6 - موثقة ميسر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ألا أحكي لكم وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ ثمّ أخذ كفاً من ماء فصبها على وجهه، ثمّ أخذ كفاً فصبها على ذراعه، ثمّ أخذ كفاً فصبها على ذراعه الأخرى، ثمّ مسح رأسه وقدميه ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: هذا هو الكعب، وقال: وأومأ بيده إلى الأسفل العرقوب ثمّ قال: إنّ هذا هو الظنبوب(4)
هذه جملة من الروايات البيانية الحاكية لوضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكلها
ص: 247
تنص على أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) يكتفي بالمرة الواحدة في غسل الوجه واليدين.
وهناك روايات أخرى تنص على المرة الواحدة أو تنفي ما زاد عليها منها:
1 - موثقة عبد الكريم بن عمرو قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوضوء فقال: ما كان وضوء علي (علیه السلام) إلاّ مرة مرة(1)
وهذه الرواية صريحة الدلالة على أن الفرض غسلة واحدة ولا يتعدى عنها، وذلك لأنّ الإمام (علیه السلام) نقل فعل أمير المؤمنين (علیه السلام) ولو كان الزائد مستحباً لكان أمير المؤمنين (علیه السلام) أولى بالالتزام به.
2 - موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) في الوضوء قال: اعلم أنّ الفضل في واحدة ومن زاد على اثنتين لم يوجر(2)
والرواية من جهة السند تامة فإنها واردة في نوادر البزنطي، وهي مما استطرفه صاحب السرائر في آخر كتابه والطريق إليها معتبر، كما أنلصاحب السرائر طريقاً إلى الشيخ، وطريق الشيخ إلى البزنطي صحيح فلا إشكال في سند الرواية، وإنما الكلام في دلالتها إذ يحتمل أن المراد من قوله(علیه السلام): الفضل في واحدة أنّ الزائد على الواحدة لا فضل فيه إلاّ أن قوله: ومن زاد على اثنتين ينفي هذا الاحتمال، فهل يستفاد من ذلك استحباب الثانية؟ أو أنها مسكوت عنها؟ كل ذلك محتمل، وعلى كل تقدير فالرواية تنفي الثالثة وهي واضحة الدلالة من هذه الجهة.
3 - رواية ميسر (ميسرة) عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: الوضوء واحد ووصف الكعب في ظهر القدم(3) هذا في رواية الشيخ، وفي رواية الكليني واحدة
ص: 248
واحدة(1)
والرواية من جهة الدلالة لا بأس بها فهي في مقابل الاثنتين أو الثلاث، وتنفي الزائد بنحو الإطلاق وهو الظاهر من الرواية، ويحتمل أنها واردة في مقام بيان الواجب فقط من دون تعرض لما زاد عليه.
ولكن الرواية من جهة السند غير نقية فإنّ فيه علي بن (بن أبي) المغيرة وهو محل اختلاف، هل هو بن المغيرة؟ أو ابن أبي المغيرة؟ وحيث لا يمكن الاعتماد على الرواية من جهة السند فتصبح مؤيدة للروايات السابقة.
وهناك روايات أخرى كثيرة لا يخلو أكثرها عن ضعف السند، وفي ما أوردناه كفاية، وهي بمجموعها تدل على أنّ الغسل في الوضوء مرة مرة.
وأما الطائفة الثانية وهي التي تدل على استحباب الغسل مرتين فهي عدة روايات، منها:
1 - صحيحة معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوضوء، فقال: مثنى مثنى(2)
2 - وصحيحة صفوان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: الوضوء مثنى مثنى(3).
3 - و منها معتبرة علي بن يقطين، أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى (علیه السلام) يسأله عن الوضوء، فكتب إليه أبو الحسن (علیه السلام): فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً، وتستنشقثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً، ولا
ص: 249
تخالف ذلك إلى غيره، فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن (علیه السلام) فيه مما جميع العصابة على خلافه، ثمّ قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن(علیه السلام) ، وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد، وقيل: إنه رافضي فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة، وصلحت حاله عنده، وورد عليه كتاب أبي الحسن(علیه السلام): ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين وتوضأ كما أمرك الله تعالى: اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى اسباغاً، واغسل يديك من المرفقين كذلك وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك. والسلام(1)
ومحل الشاهد من هذه الرواية قوله (علیه السلام): «وتوضأ كما أمرك الله تعالى أغسل وجهك مرة فريضة وأخرى اسباغاً واغسل يديك من المرفقين كذلك» وهي واضحة الدلالة في استحباب الثانية.
4 - رواية داود الرقي، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقلت له: جعلت فداك، كم عدة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي، فسأله عن عدة الطهارة، فقال له: ثلاثاً ثلاثاً من نقص عنه فلا صلاة له، قال: فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبد الله (علیه السلام) إليّ وقد تغيّر لوني فقال: اسكن يا داود هذا هو الكفر، أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد أُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي وأنه رافضي يختلف
ص: 250
إلى جعفر بن محمد، فقال أبو جعفر المنصور: إني مطلع إلى طهارته فإن هو توضأ وضوء جعفر بن محمّد فإني لأعرف طهارته حققت عليه القول وقتلته، فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبد الله (علیه السلام) ، فما تم وضوءه حتى بعث إليه أبو جعفرالمنصور فدعاه، قال: فقال داود: فلما أن دخلت عليه رحب بي وقال: يا داود قيل فيك شيء باطل، وما أنت كذلك، قد أطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حلّ وأمر له بمائة ألف درهم، قال: فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله (علیه السلام) ، فقال له داود بن زربي: جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجوا أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) لداود بن زربي: حدّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتى تسكن روعته، قال: فحدثته بالأمر كله، قال: فقال أبو عبد الله (علیه السلام): لهذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو، ثمّ قال: يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى، ولا تزدن عليه، وإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك(1)
والرواية وإن كانت واردة في التقية كالرواية السابقة إلاّ أنّ محل الشاهد منها قوله (علیه السلام) في صدر الرواية: «ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واحدة لضعف الناس» ، وقوله (علیه السلام) في ذيلها: «يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى، ولا تزدنّ عليه فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك» والعبارتان صريحتان في الدلالة على استحباب الغسلة الثانية، فلا إشكال في الرواية من هذه الناحية وإنما الإشكال من جهة السند، فإنّ فيه أحمد بن سليمان وهو لم يوثق فتحمل الرواية على التأييد.
ص: 251
وهناك روايات أخرى منها ما روي أنه: «من زاد على مرتين لم يوجر»(1)
وكذلك ما روي «أنّ مرتين أفضل»(2)، وكذلك ما روي «في مرتين أنّه اسباغ»(3).
وغيرها من مرسلات الصدوق، وأيضاً ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا(علیه السلام) أنّه قال: الوضوء مرة فريضة واثنتان اسباغ (4)
والمستفاد من روايات هذه الطائفة أنّ الغسلة الثانية مستحبة، وأنّ الثالثة غير جائزة.وأما الطائفة الثالثة وهي التي تدل على عدم جواز الثالثة صراحة فهي عدة روايات منها:
1 - مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا يوجر، والثالث بدعة(5)
والرواية صريحة في أنّ الثالثة بدعة، فلا إشكال من هذه الجهة وأما من جهة السند فهي وإن كانت مرسلة إلاّ أنّ مراسيل ابن أبي عمير معتبرة كما ذكره الشيخ من دعوى الإجماع على العمل بمراسيله، وقد بسطنا القول فيه في مباحثنا الرجالية، فراجع(6)
2 - ومنها معتبرة علي بن يقطين(7) المتقدمة فإنّ الإمام (علیه السلام) أمر علي بن يقطين أن يغسل ثلاثاً في حال التقية، وبعد ارتفاع التقية أمره أن يغسل مرّة
ص: 252
فريضة والثانية اسباغاً، فيعلم أنّه في غير حال التقية لا يجوز الغسل ثلاثاً، كما أنّ الرواية فيها دلالة على أنّ الغسل ثلاثاً على خلاف ما عليه جميع الشيعة، فيكون تسويغ الامام عليه السلام لعلي بن يقطين الغسل ثلاثاً لمكان التقية وبه يجمع بين صدر الرواية وذيلها .
3 - رواية داود الرقي(1) المتقدمة أيضاً، والشاهد هو ما ذكرناه فيما تقدم عند ذكر الرواية .
4 - صحيحة داود بن زربي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوضوء، فقال لي: توضأ ثلاثاً ثلاثاً، قال: ثمّ قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت: بلى قال: فكنت يوماً أتوضأ في دار المهدي فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به فقال: كذب من زعم أنك فلاني وأنت تتوضأ هذا الوضوء، قال: فقلت: لهذا والله أمرني(2)
ودلالة الرواية واضحة فإنّ الإمام (علیه السلام) إنما أمر داود بالوضوء ثلاثاً ثلاثاً لشهوده بغداد وعساكر المخالفين، فيعلم من ذلك أنّه فيما عدا ذلك لا يجوز الثلاث، بل إنّ المركوز في ذهن داود هو عدم الجواز ولذلك لما اطلع عليه بعضهم وقال ما قال، قال داود: لهذا والله أمرني، فالثلاث ليست بمشروعة، والعمل عليها إنما هو من جهة التقية.5 - صحيحة زرارة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يوجر عليه، وحكى لنا وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فغسل وجهه مرة واحدة، وذراعيه مرة واحدة، ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجليه(3)
وظاهر الرواية أنّ المراد من مثنى هو الغسل مرتين، وبعضهم حمل مثنى
ص: 253
مثنى على أنّ المراد غسلات ومسحات، أو أن المراد هو التجديد، وغير ذلك من التأويلات، إلاّ أن الظاهر هو ما ذكرناه من أنّ الغسل مرتان، وما زاد فليس بمشروع.
6 - رواية ابن أبي يعفور(1) الواردة في نوادر البزنطي وقد ذكرناها في الطائفة السابقة ومحل الشاهد هنا هو قوله (علیه السلام): ومن زاد على اثنتين لم يوجر، فتكون الثالثة إما لغواً وإما بدعة، ومثلها في الدلالة ما مر من مرسلة الصدوق(2) : من زاد على مرتين لم يوجر.
وغيرها من الروايات الدالة على أنّ الثالثة ليست بمشروعة.
والحاصل: أنّ الروايات بطوائفها الثلاث تدل بالمطابقة والالتزام على أنّ الغسلة الثالثة في الوضوء بدعة، وهي على خلاف الشرع.
وبعد أن استعرضنا جملة من الروايات الدالة على الغسل في الوضوء مرة أو اثنتين أو ثلاث، وحيث يتراءى من ظاهر بعضها التنافي مع البعض الآخر، مضافاً إلى ما يمكن استفادته من بعض الروايات من حيث الصحة والبطلان والحرمة وعدمها فيقع الكلام في جهات:
الجهة الأولى: في الجمع بين الروايات الدالة على المرة، والروايات الدالة على الاثنتين، فنقول: إننا قد ذكرنا في مبحث الطهارة مفصلاً وجوه الجمع، وأن المشهور بل ادعي الإجماع على أنّ الغسلة الثانية مستحبة، ولا إشكال فيها من هذه الناحية، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ هذه المسألة خارجة عن محل كلامنا.
إلاّ أننا نشير هنا إلى ناحية أخرى من نواحي البحث وهي: أنّه لا إشكال -
ص: 254
كما ذكرنا - في استحباب الغسلة الثانية، غير أنّه قد نسب الخلاف إلى عدد من القدماء وهم الشيخ الصدوق، والشيخ الكليني والبزنطي،وأنهم لا يرون جواز الغسلة الثانية ونقول: إنّ هذه النسبة لكل من هؤلاء غير متحققة ولا صراحة في عباراتهم على ذلك.
أما البزنطي فقد ذكر في نوادره هذه العبارة: واعلم أنّ الفضل في واحدة ومن زاد على اثنتين لم يوجر(1) وهذه العبارة ليست صريحة في الحرمة بل لعلها ظاهرة في الإباحة، فإن الاثنتين مسكوت عنهما وليس في كلامه دلالة على عدم الجواز.
وأما الكليني فإنه بعد أن أورد رواية عبد الكريم بن عمرو وسؤاله أبا عبد الله(علیه السلام) عن الوضوء وجواب الإمام (علیه السلام) له بأنه: ما كان وضوء علي(علیه السلام) إلاّ مرة مرة. قال: هذا دليل على أن الوضوء إنما هو مرة مرة، لأنه إذا كان ورد أمران كلاهما طاعة لله أخذ بأحوطهما وأشدهما على بدنه ... إلى أن قال: ومن زاد على مرتين لم يوجر، وهذا أقصى غاية الحد في الوضوء الذي من تجاوزه أثم، ولم يكن له وضوء وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات، ولو لم يطلق (علیه السلام) في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث(2)
وعبارته كالصريحة في أنّ الثانية مباحة وليست هي كالثالثة، فلم يتّضح أنّ الكليني قائل بعدم جواز الثانية.
وأما الصدوق ! فإنه بعد أن ذكر - في الفقيه - الروايات البيانية والتي تدل على المرة، وذكر الروايات التي تدل على المرتين، وتأول بعضها بالتجديد وبعضها بالإسباغ، أورد رواية وهي «من توضأ مرتين لم يوجر» وفسرها بأنّ من أتى بغير ما أمر به فلا يستحق به أجر(3)
ص: 255
وقال في الهداية: ومن توضأ مرتين لم يوجر ومن توضأ ثلاثاً فقد أبدع(1).
ولا دلالة في هذه العبارات على أن الصدوق قائل بعدم جواز الثانية، نعم هو يرى أنّ الثالثة بدعة، وأما أنّ الثانية محرمة فلا دلالة في قوله لم يوجر عليها.
فتحصل: أنّه ليس في القدماء من يرى أن المرة الثانية محرمة، ولا يظهر ذلك من كلماتهم صراحة، والصحيح أنّ الظاهر من كلماتهم القولبالجواز كما في كلمات البزنطي، والكليني. فالغسل مرتين في الوضوء جائز بل مستحب، وقد ذكرنا وجوه الجمع بين الروايات في غير المقام.
ويقع الكلام تارة في حكمها التكليفي وأخرى في حكمها الوضعي.
أما بالنسبة إلى الأول فأكثر علمائنا قائلون بالحرمة، وأنها بدعة كما ذكر ذلك العلامة في المختلف، بل إنّ دعوى الإجماع غير بعيدة، فإنه لم ينسب الخلاف إلاّ إلى ثلاثة من العلماء وهم الشيخ المفيد، وابن الجنيد، وابن أبي عقيل، فقد نسب إليهم القول بالجواز حيث قال الشيخ المفيد في المقنعة: وتثليثه تكلف ومن زاد على الثلاث أبدع وكان مأزوراً(2). وقال ابن الجنيد: الثالثة زيادة غير محتاج إليها(3)، وقال ابن أبي عقيل: فإنه إن تعدّ المرتين لم يوجر عليه(4) ، ولا يخفى أنّ خلاف هؤلاء الأعلام لا يضرّ بدعوى الإجماع، فإن من عداهم من العلماء قائل بالحرمة.
وأما كون الغسلة الثالثة غير مستحبة ولا رجحان فيها فهذا بالإجماع نقلاً وتحصيلاً، ولا خلاف فيه بين علماء الإمامية. هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي.
ص: 256
وأما بالنسبة إلى الحكم الوضعي ففي المقام أربعة أقوال وقد أشرنا إليها فيما سبق وهي:
الأول: القول بالافساد مطلقاً وهو قول أبي الصلاح(1)
الثاني: القول بعدم الافساد مطلقاً وقد استوجهه المحقق في المعتبر(2)
القول الثالث: إنها مفسدة للوضوء من جهة استخدام ماء جديد وهو ظاهر الدروس والذكرى والبيان(3)
القول الرابع: إنها مفسدة للوضوء إذا كانت على اليد اليسرى أما بالنسبة إلى سائر الأعضاء فلا يوجب الإفساد، وهو منسوب إلى النهاية(4)والمدارك(5).
ويمكن القول إنّ جميع الأقوال تذهب إلى البطلان، إلاّ أن جهة البطلان تختلف من أنها تشريع محرم، أو أنها لاستخدام ماء جديد، إلاّ القول الثاني وهو قول المحقق ).
ورفع التنافي فيما بينها فنقول: إنّ الروايات المتقدمة الدالة على أنّ الغسل مرة مرة، وهكذا الروايات الدالة على المرتين تنفي الغسلة الثالثة، فكما أنّ هذه الروايات تثبت مشروعية المرة والمرتين كذلك تنفي المرة الثالثة، مضافاً إلى ما ورد بالخصوص على عدم مشروعية الثالثة، ومن ذلك رواية ابن أبي عمير المتقدمة فقد جاء فيها: والثالثة بدعة، وقد قلنا: إنّ الرواية وإن كانت مرسلة إلاّ أنها معتبرة بناء على أن مراسيل ابن أبي عمير كالمسانيد كما استظهرناه في محلّه(6) ، فهذه الرواية تامة سنداً ودلالة.
ص: 257
ومن ذلك أيضاً معتبرة علي بن يقطين، فقد جاء في ذيلها «وتوضأ كما أمرك الله تعالى اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى اسباغاً ...» (1) فهذه الرواية تدل على أن ما أمر الله به هو أنّ المرة الأولى فريضة والثانية اسباغاً وما زاد فهو ما لم يأمر به الله. فيكون تشريعاً محرماً.
ويؤيد ذلك: رواية داود الرقي، فإنه قد جاء فيها: يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى، ولا تزدن عليه، وأنك إن زدت عليه فلا صلاة لك(2)
والرواية من جهة الدلالة واضحة فإن الزيادة منهي عنها موجبة لبطلان الصلاة، وأما من جهة السند فقد ذكرنا أنّ فيه أحمد بن سليمان وهو لم يوثق ولذلك جعلناها مؤيدة.
ومما يؤيد ذلك أيضاً: ما رواه القطب الراوندي في لب اللباب قال: وقد توضأ- مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به، فمن ترك شيئاً منه اختياراً، فلا صلاة له، ثمّ توضأ مرتين مرتين، فقال: هذا وضوء من أتى به يضاعف له الأجر مرتين، فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم»(3)
والرواية من جهة الدلالة تامة إلاّ أن الكلام فيها من جهة السند.
وفي مقابل هذه الروايات هناك روايات أخرى يمكن الاستدلال بها على عدم الحرمة، منها صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يوجر عليه ...(4)
وسند الرواية وإن كان فيه القاسم بن عروة وهو لم يذكر بشيء، إلاّ أنّه قد روى عنه ابن أبي عمير فيكون السند معتبراً بناء على ما حققناه في محله من أنّ
ص: 258
رواية مثل ابن أبي عمير عن شخص أمارة على التوثيق.
وأما من جهة الدلالة فإنّ الرواية لم يرد فيها أنها بدعة بل قال (علیه السلام): لم يوجر عليه، فهو بحسب الظاهر فعل لغو والتحريم أخص منه.
ومثلها في الدلالة ما تقدم من مرسلة الصدوق حيث قال: وروى من زاد على مرتين لم يوجر(1) ، وهكذا موثقة ابن أبي يعفور المتقدمة أيضاً، وقد جاء فيها: ومن زاد على اثنتين لم يوجر(2) ، ولم يرد في هذه الروايات عنوان أنها بدعة أو محرمة.
ولكن يمكن الجمع بين هذه الروايات والروايات المتقدمة وذلك بأن يقال: إنّ قوله (علیه السلام): لم يوجر مطلق، وهو إما ساكت عن الحرمة وعدمها، أو مجمل، وأما تلك الروايات فهي صريحة في التحريم وكونها بدعة، فالجمع بين هذه الروايات بأن يؤخذ بالروايات الصريحة في دلالتها وتكون بياناً للروايات الأخرى ورافعة لإجمالها، ويكون المستفاد من الروايات هو حرمة الغسلة الثالثة وأنها بدعة.
هذا ولكن هنا روايتان صريحتان في الدلالة على جواز الغسلة الثالثة:
الأولى: موثقة عثمان بن زياد أنّه دخل على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له رجل: إني سألت أباك عن الوضوء فقال: مرة مرة فما تقول أنت؟ فقال: إنك لن تسألني عن هذه المسألة إلاّ وأنت ترى أني أخالف أبي، توضأ ثلاثاً وخلل أصابعك(3)وهذه الرواية واضحة الدلالة في الأمر بالغسل ثلاثاً.
الثانية: موثقة زيد بن علي عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حين ابتدأت في الوضوء فقال لي: تمضمض واستنشق واستن،
ص: 259
ثمّ غسلت وجهي ثلاثاً فقال: قد يجزيك من ذلك المرتان، قال: فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين، فقال: قد يجزيك من ذلك المرة، وغسلت قدمي، قال: فقال لي: يا علي خلل بين الأصابع لا تُخلّل بالنار(1)
وقد أورد الشيخ هذه الرواية في الاستبصار، وعقبها بقوله: فهذا خبر موافق للعامة، وقد ورد مورد التقية لأنّ المعلوم الذي لا يتخالج فيه الشك من مذاهب أئمتنا (علیهم السلام) القول بالمسح على الرجلين، وذلك أشهر من أن يدخل فيه شك أو ارتياب بيّن، ذلك أنّ رواة هذا الخبر كلهم عامة ورجال الزيدية وما يختصون بروايته لا يعمل به على ما بين في غير موضع(2)
فالشيخ ! ناقش في الرواية من جهة الدلالة وحملها على التقية والمناقشة في محلها، فإن هذه الرواية والرواية السابقة عليها واردتان مورد التقية ويشهد لذلك القرائن الواردة في كلتا الروايتين.
وأما سند الروايتين فمعتبر، فإنّ رجال سند(3) الرواية الأولى كلهم ثقات، ولا إشكال من هذه الجهة وسند(4) الرواية الثانية: محمّد بن الحسن الصفار عن عبد الله بن المنبه، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي وهو معتبر وإن كان أغلب رجاله من العامة.
أما الحسين بن علوان فهو ثقة على الظاهر قال النجاشي: الحسين بن علوان الكلبي مولاهم كوفي عامي، وأخوه الحسن يكنى أبا محمد، ثقة رويا عن أبي عبد الله (علیه السلام) ...(5)
والظاهر رجوع التوثيق للمترجم لا لأخيه كما قيل(6)
ص: 260
وأما عمرو بن خالد فقد وثقه ابن فضال(1) ، وأما زيد فلا إشكال فيوثاقته.
وأما عبد الله بن المنبه فلم يرد في كتب الرجال بهذا الاسم إلاّ في هذا المورد، والظاهر أنّ فيه تصحيفاً بالتقديم والتأخير، والصحيح هو المنبه بن عبد الله وهو ثقة، وقال عنه النجاشي: صحيح الحديث(2)
والحاصل: أنّ رجال سند الرواية وإن كانوا زيدية كما قال الشيخ إلاّ أنهم موثقون.
أما دلالة الرواية فهي وإن كانت تامة إلاّ أنها محمولة على التقية كما ذكره الشيخ ! ، فالمستفاد من الروايات أنّ المرة الثالثة محرمة، لأنها بدعة وإدخال في الدين ما ليس منه، ولكن القدر المتيقن من هذا أنّ الحرمة تختص بما إذا أتى بها بنية الجزئية، وأما مع عدمها فقد يقال: بأنها ليست محرمة في نفسها ولا إشكال فيها من هذه الناحية .
هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي .
وأما بالنسبة إلى الحكم الوضعي أي من حيث الصحة والفساد فالمشهور هو القول بالفساد وقد استدل له بأمور :
الأول: بالأصل وهو أصل الاشتغال أو الاستصحاب، أما الأول فلأن الشك في براءة الذمة من التكليف مع الإتيان بالغسلة الثالثة يرجع إلى الشك في المحصل والمكلف به، مع العلم بالتكليف وهو يقتضي الفراغ اليقيني ومقتضاه الاحتياط والإتيان بوضوء خال من هذه الزيادة، وإلاّ فهو محكوم بالبطلان وعدم الصحة .
وأما الثاني فلاستصحاب الحدث لأنا كنا على يقين منه وبعد الإتيان
ص: 261
بالزيادة نشك في ارتفاعه فنستصحب بقاءه .
ولكن في كليهما نظر:
أما بالنسبة إلى أصالة الاشتغال فقد تقدم منا سابقاً أن الشك في مثل هذا المورد من حيث الجزئية والشرطية يختلف باختلاف المباني، فإن كانت الطهارة أمراً واقعياً تكوينياً والشارع كاشف عنه - كما قواه الشيخ الأنصاري! (1) - فالمقام من موارد أصالة الاشتغال لأنه شك في المحصل إذ لا نعلم بحصول الطهارة الواقعية، والمرجع حينئذ أصالة الاشتغال.وإن كانت الطهارة أمراً اعتبارياً فهو من موارد مجرى البراءة لأنه شك في اشتراط عدم الزائد إذ لا نعلم أنّ الشارع اعتبر عدم الزائد أم لا فيعود إلى الشك في التكليف، والمرجع حينئذ هو البراءة .
إلاّ أنّه قد تقدم منا أيضاً أنّه يمكن أن يجعل المورد مجرى للبراءة لا للاشتغال حتى على القول الأول، وذلك لأنّ الطهارة وإن كانت أمراً واقعياً إلاّ أننا لسنا مكلفين بالواقع، وإنما مكلفون بما هو محدد لنا من قبل الشارع إذ ليس لنا طريق إلى الواقع إلاّ من طريقه، فكلما حدده الشارع فهو مورد التكليف وما عداه فلا تكليف به .
وعلى هذا فلابد من تحصيل ما
تيقنا به وندفع ما نشك فيه زيادة أو نقيصة بإجراء البراءة فيه لأنه حينئذ يرجع إلى الشك في التكليف .
وأما بالنسبة إلى استصحاب الحدث فلا مورد له فيما نحن فيه، إذ تقرر في علم الأصول: أنّه مع إجراء البراءة في الجزء أو الشرط لا يبقى موضوعٌ للاستصحاب وتكون البراءة حاكمة على الاستصحاب، وإن كان الأمر في غير هذا المورد بالعكس .
ص: 262
الثاني: أنّ الغسلة الثالثة موجبة لفوات الموالاة في غسل الأعضاء فينخرم أحد شرائط الوضوء وذلك موجب للبطلان.
وفيه: أنّ هذا الوجه لا يفيد مطلقاً لأنّ فوت الموالاة لا يتحقق بغسلة واحدة فإنها لا تستغرق زمناً طويلاً بحيث تفوّت الموالاة بين الأعضاء، ولو سلمنا أن ذلك يتحقق بالنسبة إلى بعض الأشخاص إلاّ أن هذا ليس ضابطاً كلياً وعلى نحو الإطلاق، فلا يمكن الحكم بفساد الوضوء لهذه الجهة.
الثالث: أنّ الغسلة الثالثة توجب المسح بماء جديد غير ماء الوضوء ويكون الماء الواقع على أعضاء المسح ممزوجاً بماء الوضوء وغيره، وهذا يوجب الفساد.
وفيه: أنّ هذا يمكن منعه في بعض الموارد كما إذا كانت الغسلة الثالثة للوجه واليد اليمنى دون اليد اليسرى، وعلى فرض أن غسل اليد اليمنى يوجب امتزاج الماء إلاّ أن غسل الوجه بالغسلة الثالثة لا علاقة له بالمسح، نعم يمكن تصور ذلك في اليد اليمنى فيما إذا كان الماء الباقي من غسلة اليد اليمنى غالباً على ما غسل اليد اليسرى، فيمتزج الماءان ويشكل المسح به على الرأس والرجل اليمنى، ولكنه إذا غسلت اليد اليمنى بغسلة ثالثة ثمّ جففت أو جفت من الهواء فحينئذ لا يلزم من ذلك المسح بماء جديد، فهذه الموارد لا توجب الغسلة الثالثة فيها بطلان الوضوء.وأما بالنسبة إلى اليد اليسرى فيمكن تصويره بأن تغسل اليد اليسرى بغسلة ثالثة ثمّ تجفف أو تجف، وللمسح يؤخذ الماء من اللحية فيما إذا كان الوجه مغسولاً بغسلة ثالثة، ففي بعض الحالات يمكن تصوير المسألة في اليد اليسرى من دون إشكال ولا ملازمة كلية في جميع الحالات.
ولكن الغالب هو امتزاج ماء الوضوء بماء أجنبي خارج عنه إما لعدم غلبة الماء واستهلاكه أو لعدم الجفاف، وهذا يوجب البطلان، وعليه فما نسب إلى
ص: 263
المحقق ! (1) - من أن المسح بماء الوضوء غير صحيح فإن الماء ليس خالصاً بل ممزوجاً بماء خارج عن الوضوء - لا بأس به مع ملاحظة الصور التي ذكرناها.
الرابع: أنّ مقتضى الروايات الواردة في المقام هو الفساد، لأنّ في الزيادة خروجاً عن حدّ الوضوء ويكون حالها حال النقصان.
وفيه: أنّ الوارد في المقام روايتان:
الأولى: رواية داود الرقي وقد تقدم ومحل الشاهد منها فيما نحن فيه قوله (علیه السلام) في ذيلها: «ولا تزدن عليه وأنك إن زدت عليه فلا صلاة لك» (2)
وهي من جهة الدلالة تامة ولا إشكال فيها وظاهرة في الفساد إلاّ أنها من جهة السند ضعيفة بأحمد بن سليمان فإنه لم يوثق كما تقدم.
الثانية: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: من تعدى في الوضوء كان كناقضه(3)
وهي من جهة السند معتبرة ولا إشكال فيها، وأما من جهة الدلالة ففيها: أنّ قوله (علیه السلام): من تعدى ... يحتمل أن يكون التعدي من جهة الكم، ويحتمل أن يكون من جهة الكيف، فهي شاملة لمحل الكلام فإنّ الثلاث تعدٍ بلا إشكال، وقوله(علیه السلام): كناقضه هذا في أكثر النسخ وقد رواها الصدوق في الفقيه(4) وفي العلل(5) كذلك، كما وردت أيضاً في تحف العقول(6) ولكن فيحاشية الفقيه ورد: أنّه في بعض النسخ - وهي نسخة مراد علي التفريشي(7) - كناقصه بالصاد كما أنها
ص: 264
في حاشية الوافي(1) كذلك. وحينئذ يفسر التعدي بالنقصان.
فإن كانت بالصاد فهي أقوى في الدلالة من نسخة الضاد فإنه (علیه السلام) جعل التعدي بمنزلة النقصان فتكون الرواية دالة على البطلان، وإن كانت بالضاد فهي ليست صريحة في الدلالة على الفساد، لأنه إن كان المراد بالعبارة من تعدى فهو ناقض للوضوء فالدلالة تامة، وإن كان المراد كناقضه فليست صريحة في إفادة البطلان، فإنه كالناقض وليس ناقضاً وحيث لم يتبين المراد من هذه الرواية ولم تحرز قوة دلالتها فلا يمكن التمسك بها من هذه الجهة.
والحاصل: أنّه لم يرد في الروايات ما يدل على أنّ الغسلة الثالثة موجبة لبطلان الوضوء، ولكنها لما كانت توجب المسح بماء جديد فيحكم ببطلانه وفساده، ويتأكد هذا في الإتيان بها في اليد اليسرى.
وأما استفادة الحكم بالبطلان من جهة الأصل، أو لفوات الموالاة، أو من جهة الروايات، فغير تامة.
وبناء على ذلك فإذا جاء المكلف بالغسلة الثالثة ناوياً بها الجزئية والاستحباب اجتمعت الحرمة التكليفية والوضعية معاً، وأما إذا جاء بها من دون أن ينوي بها الاستحباب وإنما أتى بها لمجرد أنها فعل من الأفعال فهذا وإن لم يكن محرماً تكليفاً إلاّ أنّه محرم وضعاً ويحكم ببطلان الوضوء.
والكلام فيها من نواح أربع:
الناحية الأولى: في الحكم، ولا إشكال في وجوب الإتيان بالغسلة الثالثة في حال التقية للأدلة العامة وقد تقدمت، وللروايات الخاصة الواردة في المقام،
ص: 265
ومنها معتبرة علي بن يقطين فإنّ الإمام (علیه السلام) أمره بالغسل ثلاثاً(1)ومنها: موثقة داود بن زربي - المتقدمة أيضاً - قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوضوء، فقال لي: توضأ ثلاثاً ثلاثاً، قال: ثمّ قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت: بلى، قال: فكنت يوماً أتوضأ في دار المهدي فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به، فقال: كذب من زعم أنك فلاني وأنت تتوضأ هذا الوضوء، قال: فقلت: لهذا والله أمرني(2)
ويؤيد ذلك رواية داود الرقي وقد تقدمت الإشارة إليها في أكثر من موضع والحاصل: أنّه لا إشكال في وجوب الإتيان بالثلاث حال التقية.
الناحية الثانية: في التطبيق العملي:
وحاصل الكلام فيه: أنا إذا قلنا بأن الغسلة هي الغرفة فكل غرفة غسلة فالأمر واضح، وأما إذا قلنا بأن الغرفة ليست هي الغسلة وإنما الغسلة هي غسل جميع أجزاء العضو فما لم يتحقق غسل الجميع لم تتحقق المرة، وحينئذ فإن كان العامة يعتبرون ذلك وأن مرادهم من الغسلة الثالثة غسلة كاملة فالتقية أيضاً واجبة ولابد من الإتيان بالغسلة الثالثة ولا مجال للتورية فيها.
أما إذا كانوا يكتفون بالغرفة وإن لم تستوعب جميع الأجزاء، ونحن نقول بأن الغسل هو استيعاب الأجزاء بغسلة واحدة فحينئذ لا يتحقق موضوع التقية لأنّ الثالثة ليست حراماً ما لم يكمل غسل العضو بالثانية، فالتطبيق العملي للتقية يتوقف على أحد الأمرين الأولين دون الثالث.
الناحية الثالثة: في القصد وعدمه:
وقد تقدم أنّ الإتيان بها بقصد الجزئية أو الاستحباب تشريع محرم، وأما إذا جيء بها لا بهذا القصد فلا يكون بدعة ولا تشريعاً وحينئذ فهل يجب على
ص: 266
المكلف عدم هذا القصد؟ فإنّ التقية لا تتوقف على القصد، بمعنى: أنّ التقية قد تتحقق ولو لم يقصد.
وبعبارة أخرى: هل يجب على المكلف التورية أم لا ويكفي عدم قصد الجزئية؟
ومقتضى القاعدة في غير المورد أنّه إذا كان هناك مندوحة وجبت التورية، ولكن في مثل المقام وبعض الموارد الأخرى حيث إنّ الدليل ورد على نحو الإطلاق كما في معتبرة علي بن يقطين، وموثقة داود بن زربي، فإنه ورد الأمر فيهما بالغسل ثلاثاً مطلقاً ولم يفصل المعصوم (علیه السلام)بين القصد وغيره، مع أن المورد مما تعم به البلوى وهو (علیه السلام) في مقام البيان فالظاهر من ذلك عدم وجوب التورية في هذا المقام فيجوز له أن ينوي ويقصد الجزئية ويأتي بها بعنوان كونها جزءاً ويفعل كما يفعل العامة، فإنّ الإطلاق محكم ومقتضاه الجواز مطلقاً سواء قصد أو لم يقصد.
هذا بالنسبة للحكم التكليفي.
وأما بالنسبة للحكم الوضعي أي فساد الوضوء وعدمه، من جهة ما ذكرنا من أنّه يلزم استعمال ماء خارج عن الوضوء والمسح به، فلا يفرق فيه هنا بين القصد وعدمه فإنه موجب لبطلان الوضوء، ولكن في حال التقية دل الدليل الخاص على عدم البطلان ولا يفرق فيه بين القصد وعدمه، وأما في غير حال التقية فهو موجب للفساد.
الناحية الرابعة: في مخالفة التقية:
إذا خالف المكلف وظيفة التقية وأتى بالوضوء بوظيفته الأولية فهل يحكم ببطلان وضوئه أم لا؟
وقد تقدم نظير هذه المسألة وهنا نقول: إنّ الغسلة الثالثة لما كانت ليست جزءاً ولا شرطاً ولا دخل لها في أي منهما فمقتضى القاعدة الحكم بصحة الوضوء، والاقتصار على المرتين حال التقية لا يوجب بطلانه، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ
ص: 267
التكليف الخاص لهذا المكلف المعين هو الوضوء على نحو التقية، والوضوء الاختياري ليس واجباً في حقه بل مبغوضاً عند الشارع وحينئذ يحكم ببطلان وضوئه.
وهذا الأمر لا يختص بهذا المورد وقد تقدم الكلام فيه، وقلنا: بأن استفادة المبغوضية عند الشارع من الروايات مشكل.
والحاصل: أنّ مقتضى القاعدة الحكم بصحة الوضوء وإن لم يأت بالغسلة الثالثة أي لم يأت بوظيفة التقية وأتى بالوظيفة الواقعية.
هذا من جهة القاعدة، وأما من جهة الرواية فقد يقال: إنّ رواية داود الرقي تدل على بطلان الوضوء فإنّ الإمام (علیه السلام) لما سأله داود بن زربي عن عدة الطهارة قال له: ثلاثاً ثلاثاً من نقص عنه فلا صلاة له.
ودلالة الرواية تامة، وإن أمكن المناقشة بأن قوله: لا صلاة له لا تدل على البطلان بل على عدم تمامية الصلاة من جهة الثواب مثلاً أو نحو ذلك إلاّ أن هذه المناقشة غير تامة، فإنّ الظاهر من هذا التعبير هو نفي الطبيعة وهو يقتضي بطلان الصلاة كما في ذيل الرواية وهو شاهد على ذلك وهو قوله (علیه السلام): وإن زدت فلا صلاة لك.ولكن الرواية وإن كانت تامة دلالة إلاّ أنها ضعيفة سنداً، وعليه فلا مناص من العمل على طبق القاعدة وهي تقتضي الحكم بالصحة.
ص: 268
في غسل الوجه واليدين من حيث الكيفية أي من الأعلى إلى الأسفل أو بالعكس، وهو محل الخلاف بين الخاصة والعامة، فالمتسالم عليه عند الخاصة هو وجوب الغسل من قصاص الشعر إلى الذقن في الوجه ومن المرفق إلى أطراف الأصابع في اليدين، بل ادعي عليه الإجماع، ونسب الخلاف إلى السيد المرتضى ! في أحد قوليه فقد نقل عنه في المصباح(1) القول بعدم الوجوب وذهب ابن إدريس في السرائر(2) إلى القول بكراهة النكس ومال إليه بعض المتأخرين.
وأما العامة فقالوا بجواز النكس، بل نسب إلى بعضهم القول بالاستحباب، ففي مفاتيح الغيب للرازي أنّه جعل من السنة الابتداء من الأصابع، ونسبه إلى جمهور الفقهاء(3) وقريب منه ما في الفقه على المذاهب الأربعة(4) ومثله ما في البدايع(5)
فهم بين من يقول بالجواز وبين من يقول بالاستحباب.
ويقع البحث في جهتين:
الأولى: فيما تقتضيه الأدلّة.
الثانية: في حكم المسألة حال التقية.
أما الجهة الأولى: فالكلام فيها تارة في الأصل العملي وأخرى في الأصل اللفظي وثالثة في الأدلة الخاصة الواردة في المقام.
ص: 269
أمّا بالنسبة إلى الأصل العملي فنقول: قد تقدم منا أنّ الأصل العملي ومقتضاه يبتني على كون الواجب هو الطهارة المسببة عن الغسلات والمسحات، أو هو نفس الأفعال وبعبارة أخرى يتوقف الأصل على أنّ الطهارة أمر تكويني وهو الواجب، فيجب تحصيله والشارع إنما هو كاشف عنه فتكون الأجزاء والشرائط محصلة لذلك الأمر التكويني أيالطهارة الواقعية، أو ليس الأمر كذلك بل الطهارة هي نفس الغسلات والمسحات، وقد تقدم منّا أنّ الأصل يختلف باختلاف المباني في المقام فإن قلنا: بالأول فالمشهور أنّ الشك هنا شك في المحصل ولابد من الاحتياط بمعنى أنا إذا شككنا أنّ الابتداء من الأعلى معتبر أم لا في تحصيل الواجب فمقتضى الاشتغال اليقيني إبراء الذمة بلزوم الابتداء من الأعلى.
وأما إذا قلنا: بالثاني وليس وراء الغسلات والمسحات شيء آخر فالشك حينئذ في اعتبار الابتداء من الأعلى أو بالعكس شك في الزائد، ومرجعه إلى الشك في التكليف وهو مجرى أصالة البراءة، بناء على أنّ مجرى الشك بين الأقل والأكثر هو البراءة، وأما على القول بعدم جريان البراءة عند الشك فيه فمقتضى الأصل حينئذ هو الاحتياط، ولكن قد قلنا: إنه حتى على المبنى الأول يمكن إجراء البراءة، وذلك فيما إذا كان المدار هو الطهارة المحددة من قبل الشارع لا طبيعي الطهارة الواقعية.
وأما بالنسبة إلى الأصل اللفظي فها هنا أمور:
الأول: الآية الشريفة وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ... )(1)
فإنّ الآية مطلقة بالنسبة إلى الوجه واليدين، وإنما وردت لتحديد مواضع الغسل وحدودها، وأما كيفية الغسل هل هو من الأعلى أو بالعكس؟ فهي غير
ص: 270
دالة على أحدهما، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الآية منصرفة إلى ما هو المتعارف بين الناس من أنهم يبدأون في الغسل من الأعلى فتكون الآية دليلاً على ما ذهب إليه الخاصة.
وأما بيان الإطلاق في الآية فهو من جهة المعاني المحتملة في كلمة (إلى) المذكورة في الآية، وهي ثلاثة:
أ - أن تكون بمعناها الظاهر منها وهو الانتهاء.
ب - أن تكون بمعنى من كما فسرت في بعض الروايات.
ج - أن تكون بمعنى مع كما ورد في بعض الآيات مثل قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)(1) أي مع أموالكم، وورد في بعض الروايات أن إلى بمعنى مع تفسيراً لآية الوضوء أي اغسلوا اليدين مع المرافق، ولم يخالف في ذلك أحد إلاّ نفر من العامة، فإنهم قالوا: إنّالمرفق ليس داخلاً في اليد(2) ، ومن عداهم من كافة المسلمين متفقون على دخول المرفق في المغسول، والظاهر من هذه الاحتمالات هو الأول، وأن (إلى) بمعنى الانتهاء والآية مع ذلك مطلقة لأن الانتهاء المستفاد من إلى: إما أن يكون قيداً للمغسول، أو قيداً للغسل، أو قيداً لكليهما، والأول هو المتيقن دون الأخيرين، وذلك لأنّ اليد لفظ مشترك أو كالمشترك يستعمل في معان متعددة بواسطة الأفعال المتعلقة بها، فتارة تطلق على جميع العضو أي: من المنكب إلى أطراف الأصابع كما في العرف واللغة(3) ، وأخرى تطلق على المرفق فما تحته كما في آية الوضوء(4) ، وثالثة تطلق على الزند فما تحته كما في آية التيمم(5) ، وقد تطلق على أصول الأصابع كما في آية السرقة(6) ،
ص: 271
ومن خلال هذه الاستعمالات يتبين أنّ معنى اليد مجمل، ولابد في بيان المراد منها من قرينة وهي تختلف باختلاف الموارد، وحيث إنّ الغسل لا قرينة فيه على تعيين العضو المغسول فهو قابل للانطباق على جميع هذه المعاني.
وإذا كان قد تقرر أنّ المراد ليس هو جميع العضو فلابد من البيان فهذا القيد وهو «إلى» مبين للمقدار المغسول وهو إلى المرفق، وحينئذ فالقدر المتيقن هو أن «إلى» قيد للمغسول هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ كون إلى قيداً إلى المغسول وهو اليد أقرب منه إلى الغسل، وعند الدوران بين رجوع القيد إلى الغسل أو إلى اليد فالمرجح رجوعه إلى اليد، وأما القول برجوع القيد إلى الغسل فهو باطل قطعاً وذلك لأنّه يلزم الحكم بخلاف ما أجمعت الأمة عليه - كما في مجمع البيان(1) - فإنّ الأمة قاطبة من الخاصة والعامة اتفقت على جواز الغسل من المرفق إلى الأصابع ولا يوجبون العكس، وغاية ما ذهب إليه العامة هو القول باستحباب النكس لا بوجوبه، ولم يذكر في ذلك خلاف إلاّ عن بعض العامة، فعلى القول برجوع القيد إلى الغسل لابد من الالتزام بعدم جواز الغسل من المرفق إلى الأصابع ولا يمكن الالتزام به حتى من العامة، فإنهم لا يقولون بذلك، فإنّ الآية عندهم مطلقة وإنما قالوا بجواز النكس أواستحبابه للروايات التي استندوا إليها.
والحاصل: أنّ هذا الاحتمال غير صحيح.
وأما القول برجوع القيد إلى كل منهما فهو أيضاً لا يمكن الالتزام به وذلك:
أولاً: لزوم المحذور المتقدم وهو الحكم بخلاف ما أجمعت عليه الأمة.
وثانياً: لزوم استعمال اللفظ وهو القيد في أمرين أي الغسل والمغسول ومحذوره أشدّ من محذور استعمال اللفظ في معنيين، وذلك لأنّ الغسل والمغسول هنا في مرتبتين فإنّ المغسول بمنزلة الموضوع وهو متعلق الغسل فلابد من فرض
ص: 272
وجوده قبل الغسل حتى يجب غسله فيكون قيداً في حال واحد - من حيث هو واحداً - متقدماً ومتأخراً وفيه ما لا يخفى، وبناء على ذلك فالقاعدة تقتضي أن يكون القيد راجعاً إلى المغسول فيتعين الاحتمال الأول.
والنتيجة: أنّ الآية مطلقة إن لم نقل بالانصراف كما ذكرنا.
الثاني: الروايات فقد ورد في كثير منها الأمر بغسل الوجه واليدين من دون بيان لكيفية الغسل، فهي مطلقة من هذه الناحية وحينئذ تصل النوبة إلى الدليل الثالث الخاص الوارد في المقام وبه يقيد الإطلاق.
الثالث: بناء على ثبوت الإطلاق من الآية الشريفة ومن بعض الروايات لابد من التماس دليل آخر - كما ذكرنا - على تعيين كيفية الغسل، وهذا الأمر مشترك بيننا وبين العامة فكما أنّ علينا أن نستدل بالأدلة الخاصة من السنة وغيرها لإثبات اعتبار الابتداء في الغسل من الأعلى، كذلك العامة لابد لهم من دليل خاص على استحباب النكس لأنّه تقييد لإطلاق الآية، ولابد من بيانه ولعلنا نشير إلى ذلك.
أما أدلتنا على وجوب الابتداء في الغسل من الأعلى فهي الروايات والإجماع والسيرة، وعمدتها الروايات الواردة في المقام.
ونقول: إنّ جميع ما ورد من الروايات دال على وجوب الابتداء من الأعلى ولم يرد ولو في رواية واحدة الدلالة على جواز النكس، وأما هذه الروايات فهي على طوائف.
الأولى: الروايات البيانية التي تحكي فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهي عدة روايات منها: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): ألا أحكي لكم وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه، ثمّ غمس فيه كفه اليمنى، ثمّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة،
ص: 273
ثمّ غرف ملأها ماء فوضعها على جبهته، ثمّ قال: بسم الله وسدله على أطراف لحيته، ثمّ أمر يده على وجهه وظاهر جبهته مرةواحدة، ثمّ غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ثمّ غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ...(1)
والرواية صريحة الدلالة في أن الابتداء في غسل الوجه من الجبهة وهي أعلى الوجه وفي غسل اليدين من المرفقين، والإمام (علیه السلام) في مقام الحكاية لفعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولو كان هناك استحباب للنكس أو غيره لكان على الإمام (علیه السلام) أن يحكيه فعدم حكايته إلاّ هذه الصورة واقتصاره على هذه الكيفية دليل على عدم وجود غيرها.
ومنها: صحيحة زرارة وبكير، أنهما سألا أبا جعفر (علیه السلام) عن وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فدعا بطست أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفه اليسرى فغرف بها غرفة وأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق، إلى الكف لا يردها إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى وأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ...(2)
وهذه الرواية أظهر من الرواية السابقة، وفيها تأكيد على أنّ الغسل كان من الأعلى وهو قوله: فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق، وهذه العبارة وما بعدها وإن كانت من كلام الراوي إلاّ أنّه كان ينقل فعل الإمام(علیه السلام) الذي هو حكاية لفعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فهي دالة على ما نحن فيه .
ومنها: رواية بكير وزرارة ابني أعين، أنهما سألا أبا جعفر (علیه السلام) عن وضوء
ص: 274
رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بطست أو بتور فيه ماء ... إلى أن قال: ثمّ غمس كفه اليمنى في الماء واغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يرد الماء إلى المرفقين ...(1)
وهذه الرواية عين الرواية السابقة إلاّ في بعض الألفاظ وقد رواها الشيخ في التهذيب(2) بطريقه إلى بكير وزرارة، وأما الرواية السابقة فهي بطريق الكليني ولا يبعد أنها رواية واحدة كما أشار إليه صاحبالوسائل(3)
الطائفة الثانية: الروايات التي تدل على أنّ لفظ «إلى» بمعنى «من» في الآية الشريفة:
ومنها: ما رواه الكليني في الكافي عن محمّد بن الحسن وغيره، عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم، عن الهيثم بن عروة التميمي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) فقلت: هكذا ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق، فقال: ليس هكذا تنزيلها وإنما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم «من» إلى المرافق، ثمّ أمر يده من مرفقه إلى أصابعه(4)
والرواية من جهة دلالتها واضحة، فإنّ الإمام (علیه السلام) أمر يده من مرفقه إلى أصابعه وفسر المراد من الآية بهذه الكيفية، فلابد من الغسل بهذا النحو، إلاّ أن الرواية وردت بلفظ «من» على نسخة ولفظ «إلى» على نسخة أخرى كما في نسخة الوافي(5) ، والظاهر أنّ النسخة الصحيحة هي المشتملة على لفظ «من» كما في نسخة جامع الأحاديث(6) وإلاّ فلا فرق بين كلام الراوي وكلام الإمام (علیه السلام) في قراءة
ص: 275
الآية، ولا معنى لاعتراض الإمام (علیه السلام) على السائل بقوله: ليس هكذا تنزيلها، مضافاً إلى أنّ الشيخ حملها على أن هذا قراءة جائزة في الآية، أو بحمل التنزيل على التفسير، وهذا دليل على أنّ نسخة الشيخ جاءت بمن أيضاً وإلاّ فلا حاجة إلى التماس المحامل، ثمّ إنّ معنى التنزيل في الرواية يدور بين محتملات ثلاثة:
الأول: أنّ المراد من قوله: «ليس هكذا تنزيلها» أي نزول الوحي بها يعني أنّ الوحي نزل بها بلفظ «من» لا بلفظ «إلى» ، فإن كان هذا هو المراد فالرواية ساقطة عن الاعتبار ولا يمكن الأخذ بها لأنها حينئذ منافية لما تقدم من الروايات البيانية وغيرها من أنّ الآية بلفظ «إلى» كما أنّها منافية لما ورد من أنّها بمعنى مع .
الثاني: أنّ المراد هو جواز القراءة بها بمعنى أنّ في الآية قراءتينإحداهما بمن ، والاُخرى ب- «الى» . لكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر الرواية من قوله عليه السلام: «ليس هكذا تنزيلها» .
الثالث: أنّ المراد من التنزيل هو التأويل أو التفسير بمعنى أن تفسير الآية هو ما ذكره لا ما فعله الراوي، وحينئذ فلا يرد إشكال عليه ويكون موافقاً للروايات البيانية، ولا يتنافى مع تفسير «إلى» بمعنى «مع» ، ومع قطع النظر عن هذه الجملة فذيل الرواية صريح في أنّ الغسل إنما هو من المرفق، هذا من جهة الدلالة، وأما من جهة السند ففيه سهل بن زياد وهو مورد للخلاف وقد رجحنا في محله عدم ثبوت وثاقته، إلاّ أنّه يمكن تصحيح طريق هذه الرواية من جهة أنّ لعلي بن الحكم المذكور في الرواية بعد سهل كتاباً وليس له رواية، وقد روى كتابه جماعة(1) من الأصحاب وللشيخ طرق متعددة إلى كتابه، وجاء في فهرست(2) الشيخ ورجال النجاشي(3) أنّ محمّد بن السندي وأحمد بن محمد، ومحمّد بن
ص: 276
إسماعيل وأحمد بن أبي عبد الله يروون الكتاب فلا يختص الطريق بسهل بن زياد، وبناء على هذا فيمكن تصحيح الرواية ولا بأس بالاستدلال بها.
ومنها: ما رواه في المستدرك عن كشف الغمة إلى أن قال: وذكر حديثاً في ابتداء النبوة يقول فيه: فنزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء فقال له: يا محمّد قم توضأ للصلاة، فعلّمه جبرئيل (علیه السلام) الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين(1)
ومنها: ما رواه في المستدرك أيضاً عن كتاب الاستغاثة قال: وفي مصحف أمير المؤمنين (علیه السلام) برواية الأئمة من ولده صلوات الله عليهم من المرافق وإلى الكعبين، حدثنا بذلك علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب، عن جعفر بن محمد، عن آبائه صلوات الله عليهم أنّ التنزيل في مصحف أمير المؤمنين (علیه السلام): (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق) .
ورواية كشف الغمة وإن لم تشتمل على الآية وتفسير إلى بمعنى من، إلاّ أنّه لما كان فيها: فعلّمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين منالمرفق، فتدخل في هذه الطائفة.
ثم إنّ الروايتين الأخيرتين غير تامتين من حيث السند فيمكن اعتبارهما مؤيدتين للرواية الأولى.
الطائفة الثالثة: الروايات الواردة في أنّ الغسل إلى المرافق حال التقية ولزوم الغسل من المرافق بعد ارتفاعها، ومنها:
معتبرة علي بن يقطين فقد جاء في هذه الرواية: والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً ... .
ص: 277
وجاء في ذيل الرواية بعد ارتفاع التقية: ابتدء من الآن يا علي بن يقطين وتوضأ كما أمرك الله تعالى اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى اسباغاً، واغسل يديك من المرفقين ...(1)
والرواية تامة السند صريحة الدلالة على أن ابتداء الغسل من المرفقين في حال الاختيار.
الطائفة الرابعة: الروايات التي تدل على عدم رد الشعر في غسل اليدين ومن ذلك صحيحة زرارة بن أعين قال لأبي جعفر (علیه السلام): أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ الذي قال الله عزوجل، فقال: الوجه الذي قال الله تعالى وأمر الله بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يوجر وإن نقص منه أثم، ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الاصبعان مستديراً فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه؟ فقال(علیه السلام): لا، قال زرارة: قلت له: ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلما أحاط به من الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ولكن يجري عليه الماء، وحد غسل اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع، وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس، وحد مسح الرجلين أن تضع كفيك على أطراف أصابع رجليك وتمدهما إلى الكعبين فتبدأ بالرجل اليمنى في المسح قبل اليسرى، ويكون ذلك بما بقي في اليدين من النداوة من غير أن تجدد له ماء ولا ترد الشعر في غسل اليدين ولا في مسح الرأس والقدمين(2).
ومحل الشاهد من هذه الرواية هي الجملة الأخيرة فلا معنى لقوله (علیه السلام):ولا ترد الشعر، إلاّ عدم جواز النكس وهو لزوم الغسل من المرفق، وهذه الجملة
ص: 278
منه (علیه السلام) تأكيد لقوله: وحد غسل اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع.
ومنها: ما رواه في المستدرك عن العياشي في تفسيره، عن صفوان قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فقال (علیه السلام): قد سأل رجل أبا الحسن (علیه السلام) عن ذلك، فقال: سيكفيك - أو كفتك - سورة المائدة يعني المسح على الرأس والرجلين قلت: فإنه قال: اغسلوا أيديكم إلى المرافق فكيف الغسل؟ قال: هكذا، أن يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبه في اليسرى، ثمّ يفضه (يفيضه) على المرفق ثمّ يمسح إلى الكف قلت له: مرة واحدة؟ فقال: كان يفعل ذلك مرتين قلت: يرد الشعر؟ قال: إذا كان عنده آخر فعل، وإلاّ فلا(1)
ومفاد الجملة الأخيرة أنّه لا يجوز رد الشعر إلاّ في حال التقية.
وهذه الرواية واضحة الدلالة إلاّ أنها من جهة السند غير معتبرة لعدم وضوح طريق العياشي إلى صفوان، نعم إذا كان كتاب صفوان مشهوراً معروفاً أمكن الاستدلال بها وإلاّ فهي مؤيدة .
الطائفة الخامسة: الروايات الواردة في استحباب البدئة في الغسل بباطن الذراع للنساء وبظاهره للرجال، ومنها :
صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: فرض الله على النساء في الوضوء للصلاة أن يبتدئن بباطن أذرعهن وفي الرجال بظاهر الذراع(2)
ومنها: مرسلة الصدوق في الفقيه قال: قال الرضا (علیه السلام): فرض الله عزوجل على النساء في الوضوء أن تبدأ بباطن ذراعيها والرجل بظاهر الذراع(3).
ومنها: رواية الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي، عن
ص: 279
أبي جعفر محمّد بن علي ' في حديث قال: وتبدأ في الوضوء بباطن الذراع، والرجل بظاهره(1)
وهذه الروايات تدل على ما ذكرنا، وأنه لا يستحب الغسل من الأصابعبل المستحب هو من الذراع إما باطنه أو ظاهره، وهذا الاستحباب في مقابل القول باستحباب البدئة من الأصابع، وإلاّ فالواجب هو الابتداء من الأعلى وهو المرفق.
ولكن هذا الاستحباب يتوقف على أنّ المراد من الذراع غير الكف والأصابع كما هو الظاهر، وأما إذا كانت الذراع شاملة للكف والأصابع فلا دلالة فيها.
والحاصل: أنّ هذه الروايات بطوائفها الخمس وغيرها تدل على عدم جواز النكس، بل المعتبر هو الغسل من المرفق، وقد ادعى صاحب الوسائل تواتر النصوص على ذلك، ونضيف: أنّه لم يرد ولو في رواية واحدة جواز النكس - في غير التقية - فضلاً عن الاستحباب، هذا، ويمكن الاستدلال على ذلك أيضاً بسيرة المتشرعة القائمة على أنّ الوضوء من المرفق، والمراد من سيرة المتشرعة هي سيرة الخاصة فإنها متصلة بزمان الأئمة (علیهم السلام) بلا إشكال.
كما يمكن الاستدلال بالإجماع المدعى في المقام ولا يقدح فيه مخالفة من ذكرنا.
والمتحصل: أنّ المتسالم عليه عند الخاصة استناداً إلى الروايات والسيرة والإجماع أنّ الغسل في الوضوء مشروط بالابتداء من الأعلى في الوجه من قصاص الشعر وفي اليدين من المرفقين.
والعجب مما ذهب إليه العامة من القول باستحباب النكس من دون أن يذكروا دليلاً على مدعاهم.
ص: 280
ويقع الكلام فيها من ناحيتين:
الأولى: في حكم المسألة.
ولا إشكال في وجوب الغسل منكوساً حال التقية.
وذلك أولاً: لما تقدم من الأدلة العامة من أن التقية لكل ضرورة وهي شاملة لهذا المورد بلا إشكال.
وثانياً: الأدلة الخاصة الواردة في المقام ومنها: معتبرة علي بن يقطين المتقدمة، فإنّ الإمام (علیه السلام) كتب إليه: والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً.ويؤيدها رواية العياشي عن صفوان المتقدمة أيضاً ومحل الشاهد منها قول صفوان: قلت يرد الشعر؟ قال: إذا كان عنده آخر فعل وإلاّ فلا.
فالحكم بوجوب العمل على مقتضى التقية ومتابعة العامة في ذلك لا إشكال فيه.
الثانية: فيما إذا لم يعمل بما تقتضيه التقية وعمل بالوظيفة الأولية فهل يحكم بصحة وضوئه أم لا؟
والظاهر هو الحكم بالصحة وذلك لما تقدم من أنّ وظيفة المكلف أن يأتي بالغسل جرياً وعكساً، فالمكلف قد أتى بأصل الواجب فيحكم بصحة فعله وإن لم يراع اعتبار النكس، نعم إذا كان الواجب خصوص الغسل نكساً فلم يأت بوظيفته الفعلية وحينئذ فما أتى به لم يكن مأموراً به بل هو مبغوض عند الشارع ومقتضى القاعدة هو الحكم بالبطلان.
ص: 281
ويقع الكلام فيه في جهات:
ذهب الخاصة إلى وجوب المسح على جزء من الرأس، والمشهور هو الاكتفاء بمسمى المسح، وخالف في ذلك الشيخ الصدوق فقد قال في الفقيه: وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاثة أصابع مضمومة من مقدم الرأس(1) ، وهكذا ظاهر النهاية قال: لا يجوز أقل من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار(2)
وأما المسح على جميع الرأس فقد أجمعت الطائفة على عدمه.
وما ذهب إليه المشهور هو الموافق للروايات الواردة في تفسير الآية الشريفة وللروايات الأخرى كما سيأتي.
وأما العامة فقد اختلفت كلماتهم في ذلك:
قال في المغني: روي عن أحمد مسح جميعه في حق كل أحد، وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك، وروي عنه إجزاء مسح بعضه ... إلاّأن الظاهر عن أحمد رحمه الله في حق الرجل وجوب الاستيعاب وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها(3).
وفي بداية المجتهد ذهب مالك أنّ الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه، وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدّاً(4)
وفي المحلّى: وأما قولنا في المسح فإن الناس اختلفوا فقال مالك: بعموم مسح الرأس في الوضوء، وقال أبو حنيفة: يمسح من الرأس فرضاً مقدار ثلاث
ص: 282
أصابع، وذكر عنه تحديد الفرض بما يمسح من الرأس بأنه ربع الرأس وأنه إن مسح رأسه باصبعين أو بأصابع لم يجزه ذلك، فإن مسح بثلاث أصابع أجزأه، وقال سفيان الثوري: يجزىء من الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة، ويجزىء مسحه بإصبع وببعض إصبع، وحد أصحاب الشافعي ما يجزي من مسح الرأس بشعرتين ويجزي باصبع وببعض اصبع، وأحب ذلك إلى الشافعي العموم بثلاث مرات، وقال أحمد بن حنبل: يجزىء المرأة أن تمسح بمقدم رأسها، وقال الاوزاعي والليث: يجزىء مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك، وقال داود: يجزي من ذلك ما وقع عليه اسم مسح وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر وأحب إليه العموم ثلاثاً(1)
وقد استدلّ الخاصة على ما ذهبوا إليه بالآية الشريفة وهي قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )(2)
وقد فسرت الباء في قوله تعالى: (بِرُءُوسِكُمْ) بأنها للتبعيض(3) أي ببعض رؤسكم، فيكون مفاد الآية المسح ببعض الرأس وهو الواجب، وذلك لأنّ الظاهر من الآية الشريفة هو الفرق بين تعدية الفعل بالحرف وعدمه، فإنه لما كان المراد هو غسل جميع الوجه واليدين عدّي الغسل بنفسه، وأما المسح فإنه حيث عدي بالباء علم أنّ المراد بعض الرأس،ولو كان المراد مسح كل الرأس لعدي المسح بنفسه من دون حاجة إلى الباء، فالفرق بين التعدية وعدمها مع أنّ الفعل - وامسحوا - يتعدى بنفسه يدل على أنّ المراد غسل جميع الوجه واليدين، وأما المسح فالمراد منه بعض الرأس والرجلين.
ثمّ إنّ الآية بمعونة الروايات الواردة في تفسير الآية تدل على ما ذكرنا من أن الباء تفيد التبعيض ومن تلك الروايات:
ص: 283
صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين، فضحك، فقال: يا زرارة قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ونزل به الكتاب من الله عزوجل، لأنّ الله عزوجل قال: فاغسلوا وجوهكم فعرفنا أنّ الوجه كله ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: وأيديكم إلى المرافق فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: وامسحوا برؤسكم فعرفنا حين قال: برؤسكم أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: وأرجلكم إلى الكعبين فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثمّ فسّر ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) للناس فضيعوه(1) الحديث.
ومنها: صحيحة زرارة وبكير المتقدمة وقد جاء فيها ... ثمّ قال: إنّ الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلاّ غسله، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلاّ غسله، لأنّ الله تعالى يقول: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، ثمّ قال: وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين، فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ...(2)
ومحل الشاهد قوله (علیه السلام): فإذا مسح بشيء من رأسه، وهو صريح في الدلالة على أنّ المراد هو مسح بعض الرأس لا جميعه.
ومنها: صحيحة زرارة وبكير ابني أعين - أيضاً - عن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال في المسح: تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك، وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطرافالأصابع فقد أجزأك(3)
ص: 284
وهي صريحة الدلالة أيضاً في أنّ المسح ببعض الرأس، ولا يجب استيعاب جميع الرأس، وغيرها من الروايات الواردة في هذا المعنى، وسيأتي ذكر بعض الروايات الأخرى.
والحاصل: أنّه لا إشكال في أنّ المسح يختص ببعض الرأس لدلالة الكتاب والسنة وهكذا السيرة العملية بين المتشرعة المتصلة بزمان المعصوم(علیه السلام) ، وكذلك الإجماع على عدم مسح الجميع.
وأما حمل بعض العامة الباء في الآية الشريفة على الزيادة قياساً على آية التيمم وهو قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم ففيه: أن هذا قياس باطل لا نقول به، مضافاً إلى ورود المناقشة في أصل المقيس عليه، والصحيح أنّ الباء للتبعيض في كلتا الآيتين ولا موجب لحمل الباء على الزيادة.
وبناء على ما ذكرنا فلا إشكال في ثبوت الحكم وهو المسح ببعض الرأس لا جميعه.
فتارة يكون بقصد الجزئية، وأخرى بلا قصد، فإن أتى المكلف به بقصد الجزئية فلا إشكال في حرمة الفعل لأنه تشريع منهي عنه، ولكن لا يحكم ببطلان الوضوء لأنه أتى بمقدار الواجب من المسح، والزيادة لا تضر بما وقع صحيحاً، وأما إذا كان بغير هذا القصد فلا إشكال فيه.
هذا في حال الاختيار، وأما في حال التقية فيجب المسح على جميع الرأس وذلك أولاً: للأدلة العامة وهي شاملة لهذا المورد بلا إشكال.
وثانياً: للرواية المعتبرة الواردة في خصوص التقية وهي معتبرة علي بن يقطين المتقدمة وقد جاء فيها: وتمسح رأسك كله وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما(1).
فالإمام (علیه السلام) يأمره بمسح الرأس كله فلا إشكال من هذه الجهة ولا فرق
ص: 285
حينئذ بين قصد الجزئية والاستحباب وعدمه فإن إطلاق أمره (علیه السلام) يقتضي الشمول.
وقد أجمعت الإمامية على أن مسحهما ليس جزءاً من الوضوء ولا خلاف بينهم في عدم الوجوب، واختلفت العامة في ذلك فذهب بعضهم إلى القول بالاستحباب وبه قال الشافعي، وابن حزم، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب مسحهما وقال: إنهما من الرأس يمسحان معه، وذهب بعضهم إلى القول بوجوب غسلهما وإليه ذهب الزهري، وقال: بأنهما من الوجه يغسلان معه، وذهب مالك وأحمد إلى أنهما من الرأس لكنهما يمسحان بماء جديد، وذهب الشعبي والحسن البصري وإسحاق إلى التفصيل فما أقبل منهما يغسل وما أدبر يمسح مع الرأس(1)
استدل الإمامية على عدم الوجوب - مضافاً إلى إجماعهم - بالكتاب والسنة، أما الكتاب فبالآية الشريفة وهي قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) .
بتقريب: أنّ الواجب هو غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين وحيث لم تذكر الأذنان فعلم أنّه لا حكم يتعلق بهما في الوضوء فلا يجب غسلهما ولا مسحهما.
وأما السنّة ففي المقام عدة روايات منها:
صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: الأذنان ليسا من الوجه ولا من الرأس(2)
والرواية صريحة الدلالة، وحينئذ فلا تدخل الأذنان في الغسل أو المسح.
ومنها: موثقة زرارة قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) قلت: إن أناساً يقولون: إن
ص: 286
بطن الأذنين من الوجه وظهرهما من الرأس، فقال: ليس عليهما غسل ولا مسح(1).
ولكن في مقابل ذلك وردت رواية صحيحة السند وفيها أن الإمام (علیه السلام) جعل الأذنين من الرأس، وحينئذ يجري عليهما حكم الرأس من وجوب المسح وهي صحيحة علي بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) الأذنان من الرأس؟ قال: نعم، قلت: فإذا مسحت رأسي مسحت أذني؟ قال: نعم، كأني اليه أنظر إلى أبي وفي عنقه عكنة، وكان يحفي رأسه إذا جزّه، كأني أنظر اليه والماء ينحدر على عنقه(2).وهذه الرواية بحسب ظاهرها مخالفة للروايتين السابقتين كما ذكرنا، وقد حملهما الشيخ على التقية(3) وهكذا صاحب المنتقى(4)
ولعل التقية فيها واضحة وذلك أولاً: أنّ السائل بعد أن أجابه الإمام (علیه السلام) بأن الأذنين من الرأس سأل مرة أخرى: إذا مسحت رأسي مسحت أذني؟ فكأن السائل في شك من الأمر والمرتكز في ذهنه عدم وجوب المسح.
وثانياً: أنّ الإمام (علیه السلام) علل كلامه بشيء آخر اجنبي عن موضوع السؤال ولا علاقة له به ولا مناسبة بين المسح وبين انحدار الماء على العنق.
واحتمل صاحب الوسائل كون السؤال عن مسح الرأس المستحب بعد الحلق بقرينة قوله: كان يحفي رأسه إذا جزه، والإمام (علیه السلام) كان يغسل رأسه والماء ينحدر على عنقه، وإلاّ لو كان يمسح رأسه لما كان يلزم من ذلك انحدار الماء على عنقه.
والحاصل: أنّ الرواية محمولة على التقية، والحكم في المسألة واضح وليس على الأذنين مسح ولا غسل لا ظاهراً ولا باطناً.
ص: 287
ولا إشكال في لزوم المسح على الأذنين أو غسلهما بحسب ما تقتضيه الحال من التقية، وذلك لما ذكرنا من شمول الأدلة العامة لهذا المورد.
وأما إذا خالف التقية وأتى بالوظيفة الواقعية فهل يحكم بصحة الوضوء أم لا؟
وهذا الأمر يجري في مسح كل الرأس أيضاً، فيما إذا خالف مقتضى التقية ومسح على بعض الرأس فكلتا المسألتين من واد واحد.
والظاهر أنّه لا إشكال في الصحة لأنّهما خارجان عن الوضوء وعن المسح الواجب، وهو بحسب الفرض قد أتى بالواجب وإنما لم يأت بشيء زائد وهذا لا يوجب بطلان الوضوء، وعليه فمخالفة التقية في كلا الموردين لا توجب فساد الوضوء.
لا خلاف عند الإمامية في وجوب المسح على الرجلين فقط، دون الغسل ودون التخيير، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء بل عد من ضروريات المذهب عندهم، وهذا هو المطابق لظاهر الكتاب والأخبار المتواترة من طريق الخاصة ومن طرق المخالفين.
وأما العامة فقد اختلفت كلماتهم في ذلك، فذهب بعضهم إلى وجوب المسح فقط، وذهب بعضهم إلى وجوب الغسل فقط، وذهب آخرون إلى التخيير، ومنهم من قال الجمع بين المسح والغسل وقد جمع الشوكاني كلماتهم وحاصل كلامه: أنّ الآية الشريفة اختلف في قراءتها، فقرأ نافع والحسن البصري، والأعمش، بالنصب - في وأرجلكم - واستدل بهذه القراءة على وجوب الغسل، وذهب جمهور العلماء على هذه القراءة.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، بالجر، ومن قال بالمسح استدل بهذه القراءة وإليه ذهب ابن جرير الطبري وهو مروي عن ابن عباس، ثمّ قال: وقال
ص: 288
ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلاّ الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم، قال الطبري قد روي عن ابن عباس أنّه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وقال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل وإنما نزل فيهما مسح، وقال عامر الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، وقال قتادة: افترض الله المسحتين والغسلتين، قال: وذهب ابن جرير الطبري إلى أنّ فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين وقواه النحاس(1)
هذه هي كلماتهم حول الآية الشريفة وقد رووا في ذلك روايات في كيفية وضوء النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وأنه غسل أو مسح.
والحاصل أنّ آراءهم مختلفة.
ويقع الكلام في المقام في جهتين:
في ما تقتضيه الأدلة، فنقول: أما الكتاب وهو قوله تعالى: (فَاغْسِلُواوُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(2). فهل الآية الشريفة تقتضي وجوب المسح كما يقوله الإمامية؟ أو غيره كما يقوله غيرهم؟
والظاهر من الآية هو وجوب المسح - كما اعترف به كثير من علماء العامة - وذلك لأنّ قوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ) إما أن يقرأ بالجر كما هو قراءة أربعة من القراء، وإما أن يقرأ بالنصب كما هو قراءة ثلاثة منهم، وعلى كلا التقديرين فالمستفاد من الآية هو وجوب المسح، أما على قراءة الجر كما هو المعروف بين القراء وغيرهم من الصحابة والتابعين فيكون قوله تعالى: (أَرْجُلَكُمْ) معطوفاً على رؤسكم والمستفاد حينئذ هو وجوب المسح كالرأس.
ص: 289
وما قيل: من احتمال أن يكون الجر للجوار - كما ذكره بعض العامة - كما في جُحر ضبّ خرب، فهو فاسد، وذلك:
أولاً: لأنّ الجر للجوار مخالف للقواعد العربية، وهو شاذ نادر وإنما يرتكب للضرورة، وما يكون هذا شأنه لا يحمل القرآن عليه وينزه كلام الله تعالى عنه.
وثانياً: إنّ الجر للجوار إنما يصار إليه فيما إذا أمن اللبس كما في المثال المتقدم فإن جعل خرب مجروراً عطفاً على الجوار لا لبس فيه، ولا يحتمل أن يكون نعتاً للضبّ، وأما الآية فهي توجب الوقوع في الالتباس.
وثالثاً: أنّ العطف على الجوار لا يستعمل بالحرف وفي الآية الكريمة جيء بالواو قبل المعطوف، وعلى هذا فالقول بأنّ الجر عطفاً على الجوار غير صحيح، والصحيح هو العطف على الرؤوس وهو يقتضي المسح.
وأما على قراءة النصب فالأمر كذلك أيضاً وذلك لأنّ النصب يحتمل فيه أمران:
الأول: العطف على محل الرؤوس لأنها وإن كانت مجرورة لفظاً إلاّ أنها منصوبة محلاًّ لما تقرر في العربية من أنّ الجار والمجرور مفعول به في المعنى.
الثاني: العطف على الوجوه والأيدي.والظاهر بل الصحيح هو الأول لأنه أولاً: أنّ الرؤوس أقرب إلى المعطوف والعطف على الأقرب أولى.
وثانياً: أن العطف على المحل سائغ ولا محذور فيه.
وثالثاً: أنّ في العطف على الوجوه والأيدي فصلاً بالأجنبي وذلك غير جائز بحسب القواعد العربية، وعلى هذا فالعطف - بناء على قراءة النصب - على محل رؤوسكم ويكون أرجلكم متعلق بقوله وامسحوا.
والنتيجة: أن مقتضى الآية الشريفة - على كلا التقديرين - بحسب القواعد العربية هو المسح ولا مجال لاستفادة الغسل منها أصلاً.
وأما ما قيل: من أنّ قوله تعالى: وامسحوا جاء بمعنيين فهو في الرأس بمعناه الظاهر، وفي الأرجل بمعنى الغسل، ففيه من التكلف والتعسف بما لا يصدر
ص: 290
عن منصف، وأما القول بالتخيير بين المسح والغسل فهو خلاف ظاهر الآية، فإنها لم تذكر إلاّ المسح فقط ومقتضى التخيير أن يذكر العدل الآخر.
ويؤيد ما ذكرنا: قراءة الجر، وذهاب عدة من الصحابة والتابعين إلى القول بوجوب المسح، وأنهم قرأوا الآية بالجر ويبلغ عددهم قريباً من ثلاثين شخصاً منهم أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابن عباس، وتميم بن زيد الأنصاري وعبد الله بن زيد الأنصاري، وحذيفة بن اليمان وغيرهم فإنهم قرأوا بالجر وأفتوا بالمسح ونقلت أقوالهم وفتاواهم في تفاسير العامة ومسانيدهم وكتبهم الفقهية.
الأول: ذكرنا آنفاً أنّ كثيراً من علماء العامة قد اعترف بدلالة الآية على المسح ومنهم الرازي فإنه قال: لا يمكن رفع اليد عن ظاهر الآية بالروايات لأنها آحاد(1) ، ومع ذلك فقد تمسك الرازي بأنّ الغسل مشتمل على المسح والاتيان بالغسل أحوط وهو المتعين، وهو كما ترى إذ لازم كلامه دلالة الآية على المسح إلاّ أنّه قال بالغسل لاشتماله على المسح فكأن الآية في نظره قاصرة عن تأدية المعنى، أليس في ذلك نسبة العجز إلى الله تعالى عن تأدية المراد؟!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الثاني:
قد ظهر مما ذكرنا من ذهاب عدة من الصحابة والتابعين إلىالقول بالمسح وقراءتهم الآية بالجر وفتواهم على لزوم المسح واعتراف عدة من علماء العامة كالرازي وابن حزم وغيرهما بدلالة الآية على المسح ما في كلام بعضهم - كما نقلناه حيث قال: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك إلاّ
ص: 291
الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم، فكيف يكون كلامه هذا مطابقاً للواقع !!! وفي قوله: من غيرهم، ما لا يخفى فتأمل.
وأما السنة: وهي الروايات الواردة في المقام فهي كثيرة جداً من طرقنا ومن طرق المخالفين.
أما الروايات - من طرقنا - على وجوب المسح فهي من الكثرة بلغت إلى حد التواتر، حتى نسب إلى السيد المرتضى - كما في الجواهر(1) - بأنها أكثر من الرمل والحصى.
وهي على طوائف، ونحن نكتفي بذكر بعضها:
منها: صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): ألا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ونزل به الكتاب من الله عزوجل، لأنّ الله عزوجل قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )فعرفنا أنّ الوجه كله ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال: (بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسر ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) للناس فضيعوه(2) الحديث.
ومنها: معتبرة محمّد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): إنه يأتي على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه(3).
ص: 292
وهذه الرواية يشير فيها الإمام (علیه السلام) إلى ما عليه المخالفين من التزامهم بغسل الرجلين خلافاً لما أمر الله به ، فالصلاة باطلة وغير مقبولة لذلك.
ومنها: رواية سالم وغالب بن هذيل، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عنالمسح على الرجلين، فقال: هو الذي نزل به جبرئيل(1)
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وابن عباس عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : أنّه توضأ ومسح على قدميه ونعليه(2)
ومنها: ما روي أيضاً عن ابن عباس أنّه وصف وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فمسح على رجليه(3)
ومنها: ما روي عنه أيضاً أنّه قال: إن في كتاب الله المسح، ويأبى الناس إلاّ الغسل(4)
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه قال: ما نزل القرآن إلاّ بالمسح(5)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الدالة على أن الواجب هو المسح فقط ولا يجزي الغسل أصلاً ... والحكم في ذلك أوضح من أن يبيّن.
وما ورد من بعض الروايات الدالة على جواز الغسل فهي بالإضافة إلى شذوذها وندرتها وحملها على التقية لا تقاوم روايات المسح ولا تعارضها.
هذا بالنسبة إلى روايات الخاصة.
وأما روايات العامة فقد ظفرنا بأكثر من عشرين رواية في صحاحهم ومسانيدهم وكتبهم، وأسانيدها معتبرة عندهم، وهي تدل على المسح، نعم
ص: 293
وردت عنهم بعض الروايات في مقابلها حيث يدل بعضها على وجوب الغسل، وهذه الروايات القليلة في مقابل تلك الروايات الكثيرة المعتضدة بالكتاب العزيز الدالة على المسح.
فهل تقتضي القواعد العلمية الترجيح لتلك الروايات وإسقاط هذه العدة القليلة؟ أو أنها تقتضي إسقاطهما معاً لتعارضهما والرجوع إلى الكتاب؟ أو أنها تقتضي الأخذ بخصوص هذه الروايات ورد تلك الروايات المعتضدة بالكتاب؟ أو أنها تقتضي الاعتماد على الاستحسانات والأقيسة والخيالات؟ وهذا أمر متروك إليهم وهم أدرى بما يفعلون.
وأما عندنا فلا إشكال في وضوح الحكم، وأنّ المسح واجب بالكتاب والسنة، هذا ويمكن الاستدلال أيضاً بالإجماع والسيرة العملية المتحققةولم ينقل عن أحد خلاف في ذلك.
والكلام فيها في ناحيتين:
الأولى: هل يجب غسل الرجلين حال التقية أم لا؟
الظاهر هو الوجوب وذلك للأدلة العامة فإنها شاملة لهذا المورد بلا إشكال، مضافاً إلى الدليل الخاص الوارد في المقام، ومنه معتبرة علي بن يقطين فإن الإمام(علیه السلام) أمره بذلك فقال: وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً(1) ، وذلك يدل على وجوب متابعة المخالفين حال التقية ولابد من غسل الرجلين.
الثانية: إذا خالف التقية وأتى بالوظيفة الواقعية فمسح على الرجلين ولم يغسلهما، فهل يحكم بصحة الوضوء؟
والظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو بطلان الوضوء، لأنه لم يأت بالواجب فإن
ص: 294
المسح لم يكن واجباً عليه، وإنما الواجب حال التقية هو الغسل، فما أتى به لم يكن واجباً عليه فقد أنقص جزءاً واجباً من الوضوء، وعليه فالقاعدة تقتضي البطلان.
لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم في أنّ المسح لابد أن يكون بنداوة الوضوء ما دامت النداوة باقية، فإذا جفت فالمشهور أن يأخذ من سائر أعضائه كلحيته أو حاجبيه ولا يعيد وضوءه، وذكر الشيخ في الخلاف(1) أنّ أكثر الأصحاب لا يجوّز أن يستأنف لمسح الرأس والرجلين ماء جديداً.
وفي مختلف(2) العلامة نسب إلى ابن الجنيد أنّه قال: إذا لم يستبق النداوة - أي ماء الوضوء - أخذ ماءاً جديداً لرأسه ولرجليه.وإطلاق كلامه يشمل ما إذا كان الجفاف وعدم البقاء في يديه مع بقاء النداوة في لحيته وسائر أعضائه وعدمه.
وأما العامة فقد نقل الشيخ في الخلاف(3) عنهم أنهم يوجبون استئناف الماء إلاّ مالكاً فإنه أجاز المسح ببقية الماء وإن كان الأفضل عنده الاستئناف.
وفي المغني(4) : ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذي وجوزه الحسن وعروة والاوزاعي... ، ولنا ما روى عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بماء غير فضل يديه ... ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزي المسح به كما لو فصله في إناء ثمّ استعمله.
وفي بداية المجتهد(5) : أكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياساً
ص: 295
على سائر الأعضاء.
وفي جامع الترمذي(1) بعد ذكر رواية عبد الله بن زيد قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديداً.
وفي أحكام القرآن(2) : أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لكل عضو ماءً جديداً.
ومن ذلك يتبيّن مورد الخلاف بيننا وبينهم، فإنا نعتبر أن يكون المسح بماء الوضوء وهم يعتبرونه بماء جديد.
ويقع الكلام في جهتين:
الأولى: في ما تقتضيه الأصول العملية واللفظية وما يستفاد من الأدلة الخاصة.
أما الأصل العملي فتقريره بوجهين:
الأول: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الأمر دائر بين اعتبار أن يكون المسح بماء الوضوء وبالنداوة الباقية أو لا يعتبر ذلك، بل يجوز أخذه من الخارج، ويستفاد هذا مما تقدم الكلام في نظائره من أنّه هل يكون المقاممورداً للبراءة أو للاشتغال؟ من جهة الاختلاف الواقع في الطهارة وكونها أمراً بسيطاً يحصل من الغسلات والمسحات، أو كونها أمراً مركباً هي نفس الغسلات والمسحات وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً.
الثاني: أنّه إذا قلنا بأنّ المكلف به مردد بين أن يكون الواجب هو المسح بالنداوة الباقية كما ذهب إليه أكثر الخاصة، أو أنّ الواجب هو استئناف ماء جديد للمسح به كما ذهب إليه العامة، وحينئذ فمقتضى الأصل هو الاحتياط لأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في المكلف به وبراءة الذمة من الفعل المأتي به، ومقتضاه الاحتياط، وذلك لأننا نعلم يقيناً بالتكليف وهو وجوب المسح ولكن لا ندري أنّ الواجب أي الفردين، فمقتضى العلم الإجمالي هو لزوم الاحتياط على المكلف والإتيان بهما معاً، ولكن هذا مخالف للإجماع المتفق عليه بين الإمامية وغيرهم أنّ
ص: 296
الواجب أحدهما لا الجمع بينهما.
وبناء على هذا الوجه فليس في المقام أصل عملي يرجع إليه عند الشك.
وأما الأصل اللفظي فمقتضى الآية الشريفة وبعض الروايات الدالة على وجوب مسح الرأس والرجلين هو الإطلاق، إذ لم يبين فيها اعتبار كون المسح بنداوة اليد أو باستئناف ماء جديد، وغاية ما تفيده الآية الشريفة أنها تتكفل ببيان أصل الوجوب فقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )(1) مطلق وهكذا غير واحدة من الروايات.
وما يقال: إنّ الظاهر من المطلقات هو المسح بنداوة اليد لأن استئناف ماء جديد يدخل في الغسل ولا يصدق عليه المسح، لا يمكن الالتزام به، وذلك لأنّ بين الموردين عموم من وجه إذ قد يبقى في اليد ماء كثير أو زائد يمكن الغسل به، كما أنّه يمكن أخذ ماء قليل جداً لا يسع الغسل، فالتلازم بين الماء الجديد وبين الغسل لا يكون صحيحاً في جميع الموارد.
وبناء على هذا فلا يمكن التمسك بإطلاق الآية الشريفة والروايات.
وأما ما يستفاد من الأدلة الخاصة ففي المقام روايات كثيرة ادعي تواترها تدل على وجوب المسح بما بقي من ماء الوضوء وهي على طوائف:
الطائفة الأولى: الروايات البيانية التي تحكي وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومنها: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): ألا أحكي لكم وضوءرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ إلى أن قال: ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه، وقال في ذيل الرواية: وقال أبو جعفر (علیه السلام): إنّ الله وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى(2)
ص: 297
ومنها: صحيحة زرارة وبكير انهما سألا أبا جعفر (علیه السلام) عن وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بطست أو تور فيه ماء ... إلى أن يقول: ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لم يحدث لهما ماءً جديداً(1)
ومنها: صحيحة بكير بن أعين عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال: ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ... إلى أن قال: ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه(2)
ومنها: صحيحة زرارة قال: حكى لنا أبو جعفر (علیه السلام) وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بقدح من ماء ... إلى أن قال: ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء(3)
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده والماء أوسع، ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قلت: بلى، قال: فأدخل يده في الإناء ... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه(4)
ومنها: صحيحة زرارة قال: حكى لنا أبو جعفر (علیه السلام) وضوء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بقدح من ماء فأدخل يده اليمنى ... إلى أن قال: ثمّ مسح ببقية ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء(5)
ومنها: صحيحة بكير وزرارة ابني أعين أنهما سألا أبا جعفر (علیه السلام) عن وضوء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فدعا بطست أو بتور فيه ماء فغسل كفيه ... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء(6)
وهي عين الصحيحة الثانية المتقدمة مع اختلاف في الألفاظ.
ص: 298
وغيرها من الروايات وهي صريحة الدلالة على أنّ المسح يجب أن يكون بنداوة ماء الوضوء.
لا يقال: إنّ هذه الطائفة من الروايات حكاية لفعل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وغاية ما تدل عليه هو المشروعية لا الوجوب، فلا يمكن استفادة الحكم من فعله- .
لأنا نقول: إنّ الإمام المعصوم (علیه السلام) في حكايته لفعل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) إنما حكاه لأنه حجة لا أنّه فعل، وذكر هذه الخصوصية من كيفية المسح والتركيز عليها دليل على الوجوب ولو كان غيرها جائزاً لما كان لذكر هذه الخصوصية وجه.
والحاصل: أنّ المتأمل لا يرتاب في دلالة هذه الروايات على الوجوب لا على المشروعية فقط.
الطائفة الثانية: الروايات الدالة على وجوب ذلك من قول الأئمة (علیهم السلام):
ومنها: صحيحة زرارة المتقدمة، وهي الرواية الأولى من الطائفة المتقدمة وقد جاء فيها: وقال أبو جعفر (علیه السلام): إنّ الله وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمينك ناصيتك وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى.
وهذه ا