تَجَارِبُ الأُمم
وتَعاقُبُ الهِمَم
تأليف
أبی علي أحمد بن محمد بن يعقوب مِسْكَوَیه
المتوفى سنة 421 ه
تحقيق
سيد كسروي حسن
الجزء الخامس
يحتوي على الحوادث التي جرت منذ خلافة المقتدر بالله العبّاسي سنة 295 ه
حتى سنة 369ه من خلافة الطائع الله العباسي
منشورات
محمد علی بیضوی
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
ص: 1
منشورات محمد علی بیضوی
دار الكتب العلمية
جميع الحقوق محفوظة
Copyright
All rights reserved Tous droits réservés
جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظه لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطياً
Exclusive rights by
Dar Al-Kotob Al-ilmiyah Beirut - Lebanon No part of this publication may be translated, reproduced, distributed in any form or by any means, or stored in a data base or retrieval system, without the prior written permission of the publisher.
Droits exclusifs à
Dar Al-Kotob Al-ilmiyah Beyrouth - Liban
Il est interdit à toute personne individuelle ou morale d'éditer, de traduire, de photocopier, d'enregistrer sur cassette, disquette, C.D, ordinateur toute production écrite, entière ou partielle, sans l'autorisation signée de l'éditeur.
الطبعة الأولى
2003 م - 1424 ه
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
رمل الظريف - شارع البحتري - بناية ملكارت
الإدارة العامة: عرمون - القبة - مبنى دار الكتب العلمية
هاتف وفاكس: 804810/11/12/13 (9615 +)
صندوق بريد : 9424 - 11 بيروت - لبنان
ISBN 2-7451-3414-0
9782745134141
http://www.al-ilmiyah.com/
e-mail: sales@al-ilmiyah.com info@al-ilmiyah.com baydoun@al-ilmiyah.com
Dar Al-Kotob Al-ilmiyah
Beirut - Lebanon
Raml Al-Zarif, Bohtory Str., Melkart Bldg. 1st Floor
Head office
Aramoun - Dar Al-Kotob Al-ilmiyah Bldg. Tel Fax: (+961 5) 804810/11/12/13 P.O.Box: 11-9424 Beirut - Lebanon
Dar Al-Kutub Al-ilmiyah
Beyrouth - Liban
Raml Al-Zarif, Rue Bohtory, Imm. Melkart, 1er Étage Administration général
Aramoun - Imm. Dar Al-Kotob Al-ilmiyah Tel Fax: (+961 5) 804810/11/12/13
P.P: 11-9424 Beyrouth - Liban
ص: 2
بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبويع جعفر بن المعتضد بالله وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكنيته أبو الفضل
لما ثقل المكتفي في علّته فكر العباس بن الحسن وهو الوزير فيمن يقلّده الخلافة وترجح رأيه وكان يركب من داره إلى دار السلطان ويسايره واحد من الأربعة الذين يتولّون الدواوين وهم أبو عبد الله محمد بن داود بن الجرّاح وأبو الحسن محمد بن عبدون وأبو الحسن بن الفرات وأبو الحسن علي بن عيسى فركب معه محمد بن داود فشاوره العباس فأشار بأبي العباس عبد الله بن المعتزّ فقرظه ووصفه . ثم ركب معه اليوم الثاني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات فشاوره فقال له هذا شيء ما جرت به عادتي واستعفاه وقال : إنما أشاور في العمال. فأظهر العباس غضباً وقال : هذه محاجزة وليس يخفى عليك الصحيح. وألح عليه فقال له : إن كان رأى الوزير قد تقرر على إنسان بعينه فليستخر الله ويمضي عزمه قال ابن الفرات فعلم أني قد عنيت ابن المعتز لاشتهار الخبر به فقال لي : ليس أريد منك إلا أن تمحضني النصيحة. فقلت له : إذا أراد الوزير ذلك فإني أقول : «اتق الله ولا تنصب في هذا الأمر من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وجارية هذا وضيعة هذا وفرس هذا ومن لقي الناس ولقوه وعرف الأمور وتحنك وحسب حساب نعم الناس» قال فاستعاذ ذلك مني الوزير دفعات ثم قال: فبمن تشير فقلت بجعفر بن المعتضد فقال ويحك جعفر صبي قلت إلا أنه ابن المعتضد ولِمَ تجيء برجل يأمر وينهى ويعرف ما لنا وبمن يباشر التدبير بنفسه ويرى أنه مستقل ولمَ لا تسلم هذا الأمر إلى من يدعك تدبره أنت .
ثم شاور أبا الحسن علي بن عيسى في اليوم الثالث واجتهد به أن يُسمّي له أحداً فامتنع وقال : أنا لا أشير بأحد ولكن ينبغي أن يتقي الله وينظر للدين فمالت نفس العباس ابن الحسن إلى رأي أبي الحسن بن الفرات ووافق ذلك ما كان المكتفي عهد به من تقليد أخيه جعفر الخلافة فلما مات المكتفي آخر نهار يوم السبت الثاني عشر من ذي القعدة نصب الوزير العباس جعفراً في الخلافة على كراهية منه لصغر سنه. ومضى
ص: 3
صافي الحُرمي فحدره من دار ابن طاهر فلما اجتازت الحراقة التي حدر فيها وانتهت إلى دار العباس بن الحسن صاح غلمان العباس بالملاح أن ادخل. فوقع لصافي الحرمي أن العباس إنما يريد أن يدخله إلى داره لتغيّر رأيه فيه وأشفق أن يعدل عنه إلى غيره فمنع الملاح من الدخول وجرّد سيفه وقال للملاح: إن دخلت رميت برأسك. فانحدر وجهاً واحداً إلى دار السلطان.
فتم أمر جعفر ولقب المقتدر بالله وأطلق السلطان يد العباس فأخرج المال للبيعة . وحكى القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي أن القاضي أبا عُمر محمد بن يوسف حدثه أن العباس بعد إتمامه أمر المقتدر استصباه وكثر كلام الناس فعمل على أن يحلّ أمره ويقلّد أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله . وكان أبو عبدالله بن المعتمد حسن الفعل جميل المذاهب فوسط الوزير أمره بينه وبينه القاضي أبا عُمر. وسامَهُ اليمين فقال ابن المعتمد : إن لم تصح نيته لم تغن فيه اليمين وإن صحت استغنى عنها. وله الله راع وكفيل على أني لا أغدر به ولا أنكبه.
وكان العباس ينتظر بأمره قدوم بارس الحاجب غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان فإنه كان ورد كتابه وقدَّر أنه يستظهر به وبمن معه على غلمان المعتضد فتمادت الأيام بقدوم بارس ووقع بين ابن عمرويه صاحب الشرطة ببغداد وبين أبي عبدالله محمد بن المعتمد منازعة فاجتمعا يومئذٍ في مجلس الوزير العباس بن الحسن وجرى بينهما خطاب فأربي عليه ابن عمرويه في الكلام ولم يكن علم بما رشح له ولم يمكن أبا عبد الله أن ينتصف منه لمحله فاغتاظ غيظاً شديداً كَظَمَهُ فغشي عليه وفُلجَ في المجلس فاستدعى العباس عماريّة وأمر بحمله فيها إلى داره فحمل ولم يلبث أن مات فعمل العباس على تقليد أبي الحسين من ولد المتوكل على الله مكانه فمات أيضاً، وتمّ أمر المقتدر .
وفيها كانت فتنة عبد الله بن المعتز
ذكر الخبر عن ذلك
كان التدبير يقع بين محمد بن داود بن الجرّاح مع الحسين بن حمدان على إزالة أمر المقتدر بالله ونصب عبد الله بن المعتز مكانه وواطأ على ذلك جماعة من القوّاد والكُتّاب والقُضاة. فركب يوماً العباس بن الحسن يريد بُستانه المعروف ببستان الورد فاعترضه الحسين بن حمدان وعَلاهُ بالسيف وقتله وكان إلى جانبه فاتك المعتضدي يُسايره فصاح بالحسين منكراً عليه فعطف عليه الحسين وقتله. واضطرب الناس وركض
ص: 4
الحسين بن حمدان قاصداً إلى الحلبة مُقدّراً أن المقتدر هناك يضرب بالصوالحة فيقتله، فلما سمع المقتدر الضجة بادر بالدخول إلى داره وغلقت الأبواب دون الحسين. فانصرف إلى الدار المعروفة بسليمان بن وهب بالمخرم وبعث إلى عبد الله بن المعتز يُعرفه تمام التدبير، فنزل عبد الله من داره التي على الصراة وعبر إلى المخرم. وحضر القواد والجند وأصحاب الدواوين ومنهم علي بن عيسى ومحمد بن عبدون وحضر القضاة ووجوه الناس سوى أبي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فبايع من حضر عبد الله بن المعتز وخوطب بالخلافة وانعقد له الأمر ولقب المرتضى بالله واستوزر أبا عبد الله محمد بن داود بن الجرّاح وقلد علي بن عيسى الدواوين والأصول ومحمد بن عبدون دواوين الأزمة ونفذت الكتب إلى الأمصار كلها عن عبد الله بن المعتز ووجه إلى المقتدر بالله يأمره بالانصراف إلى دار ابن طاهر مع والدته لينتقل هو إلى دار الخلافة فأجيب بالسمع والطاعة .
وعاد الحسين بن حمدان من غدٍ إلى دار الخلافة فقاتله من فيها من الخدم والغلمان والحشم ومن كان هناك من الرجالة من وراء السور ودفعوه عن الدار فانصرف في آخر النهار وحمل ما قدر عليه من ماله وحرمه وولده وسار بالليل إلى الموصل. ولم يكن بقي مع المقتدر من رؤساء القُوّاد غير مونس الخادم ومونس الخازن وغريب الخال والحاشية فلما راسل ابن المعتز المقتدر بالانصراف إلى دار ابن طاهر قالت هذه الجماعة بعضها لبعض : يا قوم نسلّم الأمر هكذا؟ لم لا نجرد أنفسنا في دفع ما قد أظلنا فلعل الله أن يكشفه عنا . فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في شذاءات ومعهم جماعة ففعلوا ذلك وألبسوا الجماعة الجواشن والحُوَذ والسلاح وصاروا إلى دار المخرّم فلما قربوا منها وراءهم من كان فيها على شاطئ دجلة قالوا شذاءات مصعدة من دار السلطان. ووقع الرعب في قلوبهم فتطايروا على وجوههم قبل أن تجري بينهم حرب وقبل وصول الشذاءات إلى الدار. وخرج عبد الله بن المعتز ومعه وزیره محمد بن داود و حاجبه يُمْن . وقد شهر يُمْن سيفه وهو ينادي معشر العامة ادعوا الله لخليفتكم . وأخذوا طريق الصحراء تقديراً منهم أن يتبعهم الجيش ويصيروا إلى سُرَّ مَن رأى فيثبت أمرهم فلم يتبعهم أحد . فلما رأى محمد بن داود نزل عن دابته لما حاذى داره ودخلها واستتر ونزل أبو عبد الله بن المعتز في موضع آخر ومشى إلى دجلة وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصاص ودخلها واستجار به ففرّ الناس على وجوههم ووقعت الفتنة والنهب والغارة والقتل ببغداد وكان محمد بن عَمْرَويه صاحب الشُرطة فركب وقاتله العامة لأنه كان من أكبر أعوان عبد الله بن المعتز فهزموه. وقلّد المقتدر مكانه من يومه مونساً الخازن .
وكان خرج في الوقت الذي خرج فيه ابن المعتز من داره أبو الحسن علي بن
ص: 5
عيسى ومحمد بن عبدون مع من خرج من دار عبد الله بن المعتز واستترا في منزل رجل يبيع البقل. ونذر بهما العامة فكبسوهما وأخرجوهما وسلّموهما إلى بعض خدم المقتدر المجتازين في الطرق فأركبهما جميعاً على بغل أكاف كان معه ولحقهما في الطريق من العامة أذى شديد حتى حصلا في الدار ووكل بهما .
وقبض في ذلك اليوم على وصيف بن صوراتكين وخرطامش ويُمن وفاتك وجماعة ممن كان حاضراً دار ابن المعتز وفيهم القاضي أبو عمر محمد بن يوسف والقاضي أبو المثنى أحمد بن يعقوب والقاضي محمد بن خلف بن وكيع واعتقل الكل في دار الخلافة وسلّموا إلى مونس الخازن ثم أمر بقتلهم أجمعين فقتلهم تلك الليلة سوى علي بن عيسى ومحمد بن عبدون والقاضي أبي عمر والقاضي محمد بن خلف فإن هؤلاء سلموا .
وأنفذ المقتدر مونساً الخازن إلى دار أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات التي كان ينزلها بسوق العطش بعد أن أعطاه خاتمه وأعلمه أنه يريد أن يستوزره. وكان ابن الفرات مستتراً بالقرب من داره فلم يظهر له فأعيد إليه مرة أخرى فرفق بالجيران وأعلمهم أنه يستوزر فظهر له وقت العصر من ذلك اليوم وصار به إلى دار السلطان ووصل إلى المقتدر وقلّده وزارته ودواوينه وعاد إلى داره بسوق العَطَش. وبكر يوم الاثنين وهو غد ذلك اليوم فخُلع عليه خلع الوزارة وسار بين يديه القوَّاد بأسرهم. وخلع في ذلك اليوم على مونس الخازن بسبب تقلده الشرطة وأطلق ابن الفرات للجند مالاً الصلة ثانية وجدد البيعة للمقتدر .
صار خادم لأبي عبد الله بن الجصاص يعرف بسوسن إلى صافي الحُرمي يسعى بأن عبد الله بن المعتز مستتر في دار مولاه فأنفذ المقتدر بالله صافياً الحرمي في جماعة حتى كبس منزل أبي الجصاص واستخرج منه عبد الله بن المعتز فحمله وحمل معه أبا عبد الله بن الجصاص إلى دار السلطان. ثم صودر ابن الجصاص على مال بذله وأطلقه إلى منزله بعد أن تكفل به الوزير أبو الحسن بن الفرات .
وسُلم علي بن عيسى ومحمد بن عبدون إلى أبي الحسن بن الفرات وناظرهما بمراسلة وصادرهما وخفف عن علي بن عيسى وثقلها على محمد بن عبدون العداوة كانت بينهما وقال للمقتدر لم يكن لهذين في أمر ابن المعتز صنع وتكفل بهما وبالقاضي محمد بن خلف بن وكيع وخلصهم. ثم نفى محمد بن عبدون إلى الأهواز وأمر بتسليمه إلى محمد بن جعفر العبرتاي ونفى علي بن عيسى إلى واسط بعد أن افتداه من ماله بخمسة آلاف دينار دفعها إلى سُوسَن الحاجب واستكفّه بها عنه فإنه كان يغري
ص: 6
به ويقول : كان مطابقاً لِعَمّه. وظهر موت عبد الله بن المعتز في دار السلطان ودفع إلى أهله ملفوفاً في زلّي برذون. وتم ما كان في سابق علم الله عزّ وجلّ وحكم به من ثبات أمر المقتدر وبطل اجتهاد المخلوقين وحيلهم في إزالته.
فأما محمد بن داود فحكى أبو علي محمد بن علي بن مقلة قال : كنا بحضرة الوزير أبي الحسن في يوم هو فيه مُتخل ودخل إليه بعض غلمانه فساره فظهر منه غم شدید. وإذا هو قد أبلغ قتل محمد بن داود وقال : كان عداوته لي رجلاً عاقلاً كثير المحاسن يجمع إلى صناعته كتابة الخراج والجيش والبلاغة والفقه والأدب والشعر وكان كريماً سخياً وقد جرى عليه من القتل أمر عظيم. ثم لعن علي بن الحسين القُنّاي النصراني وقال : هو غرّ هذا الرجل فإن ما كان بينه وبينه من المودة مشهور فخلص نفسه وقتل صديقه .
كان سوسن عدوَّا لمحمد عدوا لمحمد بن داود وكذلك صاف الحرمي فأغريا المقتدر بالله وقالا له إن علي بن الحسين القناي يعرف موضعه . فقبض عليه وهدد بالقتل فحلف أنه لا يعرف الموضع الذي استتر فيه محمد بن داود وإنما تأتيه رقافة بيد امرأة تجيء إلى امرأة نصرانية تجيئه بها وضمن أنه يحتال فى إثارته فأطلق وكاتب محمد بن داود وأعلمه أنه قد سفر له مع سوسن في أمر يكون به خلاصه وإن ما جرى في ذلك لا يحتمله المكاتبة وإن الوجه أن يأذن له في المصير إليه في المواضع الذي هو فيه مستتر فإن لم يأذن في ذلك صاحب داره خرج مُتنكّراً وصار إليه فكتب إليه محمد بن داود أنه يصير إليه في ليلة ذكرها فمضى علي بن الحسين برقعته إلى سوسن وصاف فأقرأهما إيَّاها فتر صدا تلك الليلة وأمرا صاحب الشرطة أن يتقدّم إلى أصحاب الأرباع وأصحاب المسالح بترصدهِ فلما خرج تلك الليلة ظفر به وسُلّم إلى مونس الخازن فقتله ثم طرحه على الطريق حتى أخذه أهلُهُ فدفنوهُ.
وحكى أبو علي بن مُقلة وأبو عبد الله زنجي الكاتب أن محمد بن داود كتب إلى ابن الفرات رُقعةً وصلت إليه فلم يقدر أن يكتب الجواب بخطه وقال لموصلها وكان ثقة عنده : تقرأ عليه السلام وتقول له : « ليس جُرمك يسيراً والعهد به قريب والاستتار صناعة» فينبغي أن تصبر على استتارك أربعة أشهر حتى ينسي قصتك ثم دعني والتدبير في أمرك فإني بإذن الله أسفر بعد هذه المدة في صلاحك وآخذ لك أمان الخليفة بخطه. وأقول« إنه دخل فيما دخل فيه القوّاد وكُتابهم وقد دعت الضرورة إلى الصفح عنهم ولهذا بهم أسوة وأشير عليه بما يصلح أمرك » فلم يصبر محمد بن داود فجرى ما حكيتُهُ .
وحكى أيضاً ابن زنجي أنه كان بحضرة أبي الحسن بن الفرات إذ كتب إليه صاحب
ص: 7
الخبر بأن متنصحاً حضر وذكر أن عنده نصيحة لا يذكرها إلا للوزير فتقدم الوزير إلى حاجبه أن يخرج إليه ويسأله عنها فخرج وسأله فأبى أن يخبره بها وقال : أريد أن أشافه بها الوزير قال : وكنا بين يديه جماعة فأومأ إلينا فقمنا وخلا به ثم دعا بحاجبه العباس الفرغاني وقال له : اجمع الرجال الذين برسم الدار . ثم دعا أبا بشر بن فرجويه وقال له سراً : إن هذا الرجل تنصح إليَّ في أمر محمد بن داود وذكر أنه يعرف موضعه وأنه بات البارحة عنده والتمس أن أنفذ معه من يسلمه إليه وقد بذلت على ذلك ألف دينار إن كان صحيحاً أو نيله بالعقوبة إن كان باطلاً فصر على ذلك فاكتب إليه الساعة أن ينتقل عن موضعه فإني أبعث إلى مكانه من يكبسه ويلتمسه . ولم يزل يستعجل الحاجب في جمع الرجال فيقول :« قد فرّقت النقباء في طلبهم فإنهم في أطراف البلد منهم من ينزل في قصر عيسى ومنهم من ينزل بباب الشماسية» ولم يزل يدافع بالأمر إلى أن عاد الجواب إلى أبي بشر بشكره وأنه قد انتقل من موضعه إلى غيره. فتقدم حينئذ إلى المتنصح أن يمضي إلى الموضع مع القوم وتقدم بالاحتياط عليه وعلى ما يليه وكبسه بعد ذلك وحمله فإن لم يجده فتّش الدور التي تلي الموضع وأن يستظهر بحفظ أفواه الدروب حتى لا تفوته الحُرَم ويأخذ معه السلاليم. فمضى العباس الحاجب والمتنصح والرجال ووكل بأفواه الدروب والدور المجاورة للموضع . ودخل الدار التي ذكرها المتنصح فلم يجده فقال المتنصح : في هذا الموضع والله العظيم خلفته وههنا كان بائتاً . وأقبل يسير إلى موضع موضع وما علمه فيه . ثم التمسه في الدار المجاورة فلم يجده وعاد به إلى حضرة الوزير فأنكر على المتنصح سعايته بالباطل وأمر بحمله إلى باب العامة وضربه مائتي مقرعة وأن يشهر على جمل وينادي عليه «هذا جزاء من يسعى بالباطل» وكتب إلى المقتدر وعرّفه الصورة وأنه كبس على محمد بن داود عدة دور فلم يجده فأوقع العقوبة بالساعي حتى لا يقدم نظراؤه على السعاية بالباطل. فلما عاد الساعي إلى داره تقدم بأن يحمل إليه مائتي دينار وأن يُجدر إلى البصرة وقال لنا : قد صدق الرجل فيما حكاه وقد عاقبناه ولو لم أفعل ما فعلته لم آمن أن يمضي إلى دار السلطان. وكان أبو بشر يعرف موضع محمد بن داود بن الجراح وعرَّف الوزير موضعه فكتمَهُ الوزير ولم يظهره. وهذا مما لم ينكر من أبي الحسن بن الفرات مع كرمه وجلالة قدره ونبل أفعاله .
كان السبب في ذلك أن سوسن الحاجب كان مع ابن المعتز في تدبيره وظن أنه يقرره على الحجبة فلما عدل عنه إلى يمن استوحش وصار إلى دار السلطان وكان سوسن يدخل مع العباس بن الحسن في التدبير بحضرة المقتدر بالله فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة تفرد بالتدبير دون سوسن فظهرت الوحشة بين سوسن وبين
ص: 8
أبي الحسن بن الفرات لأجل ذلك. وذاع الخبر بصحة عزم سوسن على الفتك بابن الفرات بمواطأة عدة من الغلمان الحجرية على ذلك. ودبر أن يكون الوزير محمد بن عبدون وأشار بذلك على المقتدر بالله وبذل على ذلك مالاً عظيماً. وأنفذ بني بن نفيس إلى الأهواز لإحضار محمد بن عبدون بغير موافقة ابن الفرات وأظهر بني أنه إنما أنفذ لأخذ أموال كانت مودعة للعباس بن الحسن بالبصرة ولم يصل محمد بن عبدون إلى واسط حتى ظهر الخبر لابن الفرات فقرر ابن الفرات في نفس المقتدر أن سوسناً عمل على الإيقاع به أولاً ثم به وأنه كان من أكبر أعضاد عبد الله بن المعتز وإنما خالفه أخيراً لما علم أنه قد استحجب غيره فوافق المقتدر على القبض عليه فقبض عليه وقتله من يومه . وكان المتولي لذلك تكين الخاصة وكان تكين هذا مرشحاً للحجبة ومديراً لها .
ثم أنفذ الوزير إلى محمد بن عبدون من أزعجه في الطريق واعتقله في دار السلطان وصادره مصادرة مجددة ثم سلم إلى مونس الخازن فقتله وقلق أبو الحسن علي ابن عيسى لذلك وهو بواسط فكتب إلى الوزير كتاباً يحلف فيه أنه على قديم عداوته لمجد بن عبدون إلا أنه لا يدع الصدق من فعله وأن محمد بن عبدون لم يكن ليسعى على دم نفسه بتضمنه الوزارة بل كان راضياً بالسلامة بعد فتنة عبد الله بن المعتز وإن سوسنا عمل ذلك بغير رأيه ولا موافقته. وسأل في أمر نفسه أن يبعده إلى مكة ليسلم من الظنة ولينسى السلطان ذكره فأجابه ابن الفرات إلى ذلك وأخرجه من واسط إلى مكة على حال جميلة فشخص إليها على طريق البصرة وكتب علي بن عيسى هذا الكتاب مقدراً أن يخلص به محمد بن عبدون من القتل ويسلم هو فوفاه الله في نفسه بجميل نيته وحضر أجل محمد بن عبدون فلم ينفعه اجتهاد علي بن عيسى في خلاصه .
ولما استقر أمر المقتدر بالله في الخلافة فوّض الأمور إلى أبي الحسن بن الفرات فدبرها أبو الحسن كما يدبرها الخلفاء وتفرد المقتدر على لذاته متوفراً واحتشم الرجال واطرح الجلساء والمغنين وعاشر النساء فغلب على الدولة الحُرم والخدم فما زال أبو الحسن ينفق الأموال من بيت مال الخاصة ويبذر تبذيراً مفرطاً إلى أن أتلفها. ومن محاسن ابن الفرات أنه افتتح أمره بإخراج أمر المقتدر بمكاتبة العمال في جميع النواحي بإفاضة العدل في الرعية وإزالة الرسوم الجائرة عنهم وإخراج أمره لجماعة بني هاشم بجار ثم أخرج أمره بزيادة جميعهم ثم أخرج أمره بالصفح عن جميع من كان خرج عن طاعته ووالى ابن المعتز وإلحاقهم في الصلة بمن لم تكن له جناية . وتلطف في أمر الحسين بن حمدان وإبراهيم بن كيغلغ حتى رضي المقتدر عنهما وقلدهما الأعمال وفعل ذلك بابن عمرويه.
أنه عرّف المقتدر بالله أنه متى عاقب جميع من دخل في أمر ابن المعتز فسدت
ص: 9
النيات وكثر الخوارج ومن يخشى على نفسه فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة. وأشار بإحراق جميع الجرائد التي وجد فيها أسماء المتابعين لابن المعتز فاستجاب إلى ذلك وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد في دجلة ففعل ذلك وسكن الناس وكثر الشاكرون.
كان القاضي يوسف بن يعقوب شيخاً كبير السن يلزم ابن الفرات ويبكي بحضرته ويسأله تخليص ابنه أبي عمر من القتل فيذكر له أبو الحسن أنه لا يتمكن من ذلك إلا بإطماع المقتدر بالله في مال جليل من جهته فبذل أبوه أن يفقر نفسه وابنه طلباً للحياة. فسأل ابن الفرات المقتدر بالله الصفح عنه وأطمعه في ماله ومال ولده فسلمه المقتدر إليه فصادره على مائة ألف دينار واعتقله في ديوان بيت المال ليؤدي المال فأدى أكثره. ودخل فيما أداه وديعة قيل إنها كانت عنده للعباس بن الحسن مبلغها خمسة وأربعون ألف دينار فلما أدى تسعين ألف دينار أمر ابن الفرات بإطلاقه إلى منزله وترك له العشرة الآلاف الدينار وأمره بملازمة منزله وألا يخرج منه .
كان سليمان بن الحسن بن مخلد متحققاً بأبي الحسن بن الفرات ومدلاً بأحوال كانت بين أبيه وبين والد الوزير أبي جعفر محمد بن موسى بن الفرات وكان سليمان يختص لذلك بأبي الحسن بن الفرات ووجد أبو الحسن كتباً في البيعة لعبد الله بن المعتز بخط سليمان لتحققه كان بمحمد بن داود بن الجراح وللقرابة بينهما فلم يظهر أبو الحسن ذلك للمقتدر ولا ذكره ونوّه باسم سليمان وقلده مجلس العامة رئاسة ثم إن سلیمان جنى على نفسه بالسعي لأبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الحميد في الوزارة وعمل في ذلك نسخة بخطه عن نفسه إلى المقتدر بالله يسعى فيها بأبي الحسن وبأمواله وضياعه وكتابه وأسبابه. وكانت الرقعة في كمه ودخل دار ابن الفرات وهي معه وقام ليصلي صلاة المغرب مع جماعة من الكتاب في دار ابن الفرات فسقطت الرقعة من كمه وظفر بها الصقر بن محمد الكاتب لأنه كان يصلي إلى جنبه فأقبل بها مبادراً إلى الوزير من وقته فقبض عليه وأحدره في زورق مطبق إلى واسط ووكل به وصودر. وجرى على طبعه وشاكلته فأحسن إليه وقلده .
وفيها كوتب أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان في قصد أخيه الحسين ومحاربته وأمد بالقاسم بن سيما في أربعة آلاف فاجتمعا ولقيا الحسين فانهزما وانحدر إبراهيم بن حمدان لإصلاح أمر أخيه الحسين فأجيب إلى ما التمس وكوتب للحسين أمان وصار إلى الحضرة. ونزل في الصحراء من الجانب الغربي ولم يدخل دار السلطان وقلد أعمال
الحرب بقمّ وحملت إليه الخلع فلبسها ونفذ إلى قم وانصرف عنها العباس بن عمرو.
ص: 10
وفيها قدم بارس غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان في أربعة آلاف غلام أتراك وغيرهم وصار إلى بغداد مستأمناً. وكان مولاه اتبعه إلى الري مظهراً الاستيحاش من قبول السلطان غلامه فكاتبه ابن الفرات بما سكن منه حتى عاد إلى خراسان وقلد بارس ديار ربيعة فأنفذه إليها.
وقلد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وآذربيجان وعقد له عليها وضمنه إياها بمائة ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة محمولة إلى بيت مال العامة بالحضرة فسار من الدينور إليها .
وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين في قبة على بغل وقد كشف جلالها وهما بين يدي أبي الفضل عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي كاتب سُبكري المتقلد فارس ووصل إلى حضرة المقتدر ووصلا معه بعد أن حلت قيودهما وخلع على عبد الرحمن بن جعفر ورتب في الفوج الأول وركب عبد الرحمن
في الخلع وأنزل في دار في مربعة الخُرسي وحبس طاهر ويعقوب في دار السلطان .
وكان سبكري متغلباً على فارس فلما قدم عبد الرحمن كاتبه قرر أمر سبكري مع السلطان على شيء يحمله عن فارس ثم عاد إلى صاحبه فورد الخبر بعد ذلك بأن الليث ابن علي خرج من سجستان وقصد فارس فدخلها وخرج سبكري فندب مونس الخادم للشخوص إلى فارس و خلع عليه وسار فوجد سبكري برامهرمز واجتمع مع مونس وسار بمسيره وسار الليث إلى أرجان ليلقي مونساً .
ثم إنه بلغ ليئاً أن الحسين بن حمدان قد سار من قم إلى البيضاء فخاف أن تؤخذ منه شيراز فوجه أخاه مع قطعة من جيشه إلى شيراز ليحفظها وأخذ هو دليلاً يدله على طريق مختصر قريب إلى البيضاء ليوقع بالحسين بن حمدان فأخذ به الدليل في طريق الرّجالة وهو طريق صعب ضيق لا يحمل الجيوش فلقي في طريقه مشقة عظيمة حتى تلفت دوابه وتلف رجاله فقتل الدليل وعدل عن الطريق فخرج إلى خوابذان وقد وصل إليها مونس فلما أشرف الليث على عسكر مونس قدر أنه عسكر أخيه الذي أنفذه إلى شيراز فكبر أصحابه فخرج إليه مونس فأوقع به وأخذه أسيراً. فلما حصل في يده أشار عليه قواده بالقبض على سبكري فلم يفعل وألح عليه أصحابه فأظهر القبول منهم وقال : إذا صار إلينا في غد قبضنا عليه وكان سبكري كل يوم يركب من مضربه إلى مونس فيسلم عليه فوجه إليه مونس سراً وعرفه ما أشار عليه قواده وأشار عليه بالمسير إلى شيراز والإسراع ففعل سبكري بما أشار به فلما أصبح وتعالى النهار قال : يا قوم ما جاءنا سبكري اليوم
ص: 11
فوجهوا إليه وتعرفوا خبره. وعاد الرسول وعرّفه أن سبكري قد سار إلى شيراز من أول الليل. فعاد باللوم على قوّاده وقال لهم : من جهتكم شاع الخبر وبلغه فاستوحش. وسار مونس ومعه الليث راجعاً إلى مدينة السلام وانصرف الحسين إلى قُمْ .
لما حصل سبكري بشيراز كان معه قائد يقال له القَتَّال فضرّبه على كاتبه عبد الرحمن بن جعفر وأعلمه أنه في جنبة السلطان وأنه قد أحلف قُوّاده كلهم للسلطان وأخذ له البيعة عليهم وليس يتعذر عليه متى شاء أن يُورد كتاباً من السلطان بالقبض عليه . ففزع سبكري من هذه الحال وقبض على عبد الرَّحمن بن جعفر واستكتب مكانه رجلاً يعرف بإسماعيل بن إبراهيم التيمي فحمله إسماعيل هذا على الخلاف وقال له : قد انصرف عنك عسكر السلطان وليس يمكنه أن يعود إليك سريعاً فاربح ما كنت تحمله إلى السلطان واصلح أمورك وأرض جندك ثم تنظر.
واحتال عبد الرحمن بن جعفر من محبسه حتى كتب إلى ابن الفرات بخبره وما جرى عليه وبخلاف سبكري على السلطان فكتب ابن الفرات إلى مونس وقد صار إلى واسط كتاباً يقول فيه : إن كنت فتحت فقد أغلقت وإن كنتَ قد أسرت قد أطلقت ولا بدّ من أن تعود تُحارب سُبكري فعاد مونس إلى الأهواز وأخذ سبكري في مُلاطفة مونس ومُهَادَاته ومسألته أن يبذل للسلطان عن أعمال فارس وكرمان زيادة على ما كان مُقاطعاً عليه القاسم بن عبيد الله في أيام المكتفي بالله فإنه كان مُقاطِعاً على أربعة آلاف ألف ففعل مونس ذلك وبذل عنه سبعة آلاف ألف فلم يرضَ بذلك ابن الفرات فلم يزل يزيد ألف ألف حتى بلغ تسعة آلاف ألف خالصة للحمل وذكر أن باقي الارتفاع يحتاج إليه سبكري لإعطاء الجند بفارس وكرمان وأعلمه كثرة المؤن هناك فأقام ابن الفرات على أنه لا يقنع إلا بثلاثة عشر ألف ألف فأشار مونس على سبكري بأن يقارب السلطان والوزير فأبي سبكري أن يزيد على عشرة آلاف ألف شيئاً فاغتاظ الوزير من تماتُن سبكري وانّهم مونساً بالمَيْل إليه .
ثم إنه عدل إلى إنفاذ وصيف كأمه مع عدة قُوّاد من مدينة السلام وإنفاذ محمد بن جعفر العَبَرْتايَّ معهم وعوّل عليه في فتح فارس وكتب إلى مونس أنه لا يثق بأحدٍ سواه في حفظ الليث وأن سبيله أن يوافى به إلى مدينة السلام ويدع أكثر قواده وأصحابه مع محمد بن جعفر بالقرب من نواحي فارس لئلا ينجذبوا بأسرهم إلى بغداد قبل أن يتقرّر
ص: 12
الأمر مع سبكري في مال المفارقة فيطمع سبكري في السلطان .
فخرج مونس عن الأهواز وكتب الوزير حينئذ إلى محمد بن جعفر العبرتاي والقوّاد بالمبادرة إلى شيراز مع جماعة من بالأهواز من القُوّاد وانضم إليه وصيف كأمه ثم أمده بسيما الخَزَري وفاتك المعتضدي ويمن الطولوني. فلما تكامل الجيش لمحمد بن جعفر سار إلى سبكري وواقعه علی باب شیراز فانهزم سبكري إلى بمّ وتحصن بها وتبعه إلى هناك فهزمه أيضاً ودخل مفازة خراسان وأسر القتال. وورد الكتاب بالفتح فخلع السلطان على الوزير عند ذلك وقلد محمد بن جعفر العبرتاي فتيحاً خادم الأفشين أعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان وكان يميل إلى فتيح لحسن وجهه.
وفيها ورد كتاب أحمد بن إسماعیل صاحب خراسان بفتحه سجستان وأسره محمد ابن علي بن الليث ثم ورد كتابه بأسره سبكري فكتب إلى أحمد بن إسماعيل بحمل سبكري ومحمد بن علي بن الليث إلى الحضرة. فلما كان في شوال شوال من هذه السنة أدخل سبكري ومحمد بن علي بن الليث مشهرين على فيلين فخلع على الوزير ابن الفرات ثم على المرزباني خليفة صاحب خراسان وحمل مع الرسل الذين حملوا سبكري ومحمد بن علي بن الليث هدايا وخلع وطيب وجواهر إلى صاحب خراسان .
وفيها ورد الخبر بوفاة العبرتاي ثم بوفاة فتيح وقلد عبد الله بن إبراهيم المسمعي أعمال المعاون بفارس .
وفيها غرقت فاطمة القهرمانة في طيارها تحت الجسر في يوم ريح عاصف وكانت زوّجت ابنتيها من بُنَيَّ بن نفيس وقيصر فحضرا جنازتها وحضرها خلق من القواد والقضاة. وجعلت السيدة مكانها أم موسى الهاشمية قهرمانة فكانت تؤدي رسائلها ورسائل المقتدر إلى ابن الفرات .
وفيها قُبض على الوزير ابن الفرات ووُكّل بداره وهتك حرمه أقبح هتك ونهبت داره ودُور كُتّابه وأسبابه وافتتنت بغداد ونهب الناس وكان مونس الخازن يلي شرطة بغداد و تحت يده برسمها تسعة آلاف فارس وراجل فكان يركب إذا اشتدت الفتنة وزاد النهب فيسكن الناس ويكفّ النهب هيبة له فإذا نزل من ركوبه عادت الحال إلى ما كانت عليه . فلقي الناس من ذلك شدّة شديدة ثلاثة أيام بلياليها ثم سكنت الفتنة .
فكانت مدة وزارة أبي الحسن بن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً. وقلّد أبو علي محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة وذلك في ذي الحجة سنة 299 فقلد أصحاب الدواوين ورتبهم في مجالسهم، وردّ مُناظرة أبي
ص: 13
الحسن بن الفرات وأسبابه وكتابه إلى أبي الحسن أحمد بن يحيى بن أبي البغل وقلده ديوان المصادرين وديوان الضياع العبّاسيّة وديوان زمان الفُراتية. واستتر من أصحاب ابن الفرات أبو علي محمد بن علي بن مقلة وأبو الطيب الكلواذي وأبو القاسم هشام وأبو بشر بن فرجويه وقبض على الباقين ونهبت دورهم وهدمت واعتقل هؤلاء الباقون و ناظرهم أحمد بن أبي البغل وعذبهم وناظر ابن الفرات غير أنه لم يُمكن من إيقاع مکروه به ومكن من جميع أسبابه وكتَّابه .
كان أبو الحسن بن أبي البغل مبعداً في أيام ابن الفرات بأصبهان فلما افتتنت بغداد وقلّد أخوه مُناظرة ابن الفرات وأسبابه سفر له أخوه لما تمكن من ملاقاة أم موسى في الوزارة وبذل فيها مالاً جليلاً يثيره ويوفّره فأطمع المقتدر في ذلك فأرجف له بها وكاتبه أخوه بالإسراع إلى الحضرة ونفذ إليه أبو بكر أخو أم موسى . فخاطبه قوم بالوزارة في طريقه وتلقاه القواد وغيرهم عند وروده بغداد.
فركب أبو علي الخاقاني في عشية من العشايا إلى دار السلطان والتمس الإذن في الوصول فأذن له وأوصل إلى المقتدر بالله . فوصف له أن الأمور قد اضطربت والأموال قد تأخرت والدنيا قد خربت بكثرة الأراجيف به لأن ابن أبي البغل يذكر أنه قد استحضر للوزارة فخاطبه المقتدر بجميل وأذن له في إبعاد ابن أبي البغل وأخيه عن الحضرة فقبض عليهما وأبعدهما وتنكرت أم موسى القهرمانة للوزير أبي علي الخاقاني فخافها وأشفق أن تُفسد عليه أمرَهُ فأرضاها بأن قلد أبا الحسين منهما أعمال الخراج والضياع بأصبهان وقلّد أبا الحسن أخاه أعمال الصلح والمبارك .
وكتب الوزير بإطلاق أبي الهيثم العباس بن ثوابة وكان معتقلاً بالموصل وكان ابن الفرات نقله إليها في نكبة محمد بن عبدون لقرابة بينهما وكان ابن ثوابة هذا يكتب لمحمد بن ديوداذ وكان من الموصوفين بالشر فورد بغداد في سنة300وقلده الوزير أبو علي الخاقاني ديوان المصادرين والضياع العبّاسيّة والفُراتية وردّ إليه مناظرة أبي الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتابه فأسرف ابن توابة في إيقاع المكروه بهم وعذبهم بأنواع العذاب فجرت بينه وبين أبي الحسن بن الفرات مُناظرات هاتر في بعضها ابن الفرات وشتمه بحضرة أم موسى فردّ عليه ابن الفرات أقبح رَدّ وشتَمه أغلظ شتيمةٍ ونسبه في نفسه إلى كل حال قبيحةٍ فراسل ابن ثوابة المقتدر بأن ابن الفرات لم يقدم على هذا إلا لشدة بطره وكثرة أمواله واستأذن في مُعاقبته. فبسط يده عليه فقيده وغلّه وألبسه جُبّة صوف وأقامه في الشمس مدة أربع ساعات وكاد يتلف فأنهى بدر الحرمي في حاله إلى المقتدر فأنكرها وأمر بنقله إلى بعض الحُجر التي في يد زيدان القهرمانة للحُرم الخواصّ
ص: 14
وأحسن إليه ورقهه وذلك بعد أن حلف له ابن الفرات بأغلظ يمين بأنه لم يبق له مال ولا ذخيرة ولا متاع فاخر إلا وقد أقرّ به وقت مناظرة ابن أبي البغل، فقبل المقتدر بالله قوله ومنع ابن ثوابة من مناظرته .
ثم صار المقتدر بعد ذلك يشاور ابن الفرات في الأمور ويقرئه رقاع الوزراء إليه ويجيبهم عنها برأيه ثم كثرت السعايات بأبي علي الخاقاني وتمكن أبو القاسم بن الحواري .
كان أبو علي الخاقاني متشاغلاً بخدمة السلطان ومراعاة أعدائه لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة واعتمد على ابنه أبي القاسم عبد الله وقلده مع العرض على الخليفة خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور.
وكان ابنه هذا متشاغلاً بالشراب إنما يُراعي أمر القوَّاد والجيوش والولايات للعُمَّال ويدع ما سوى ذلك. وكان قد نصب لقراءة الكتب الواردة أبا نصر مالك بن الوليد ولقراءة الكُتُب النافذة أبا عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي وكانت لأبي علي الخاقاني وابنه الجوامع بما يرد ويُنفذ فلا يقرأها أحد منهم إلا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكُتب وتبقى الكُتب بالحمول والسفائح في خزانتهما لا تُفَضّ ولا يُعرف حال ما فيها ففسدت الأمور بولاية أبي علي الخاقاني وضاعت .
وكان يقلّد في أسبوع واحدٍ الكورة عِدة من العمال حتى قيل إنه قد قلّد أعمال ماه الكوفة في مدة عشرين يوماً سبعة من العُمّال واجتمعوا في خان بحلوان وقلّد أعمال قردى وبزيذي خمسة من العُمَّال اجتمعوا في خانٍ بعكبرا في يوم واحد وسبب ذلك ارتفاق أولاده وكُتابه من العُمّال الذين يولونهم فسُطرت الأحاديث وحفظت له النوادر . وأطلق يده بالتوقيعات وفي الزيادات والنقل والإثبات يوقع بذلك هو وابناه وبنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمد ابنا سعيد .
وكان أبو علي الخاقاني يتقرب إلى قلوب الخاصة والعامة فمنع خدم السلطان ووجوه القوّاد أن يترجموا رقاعهم بالتعبد ويتقرَّب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد التي على الطَّرُق . فكان إذا رأى جمعاً من الملاحين أو غيرهم من العامة يصلّون في مسجد على الشط قدّم طيّارة وصعد وصلى معهم فاتضعت الوزارة بأفعاله وذلّت.
وكان إذا سأله إنسان حاجة دق صدره وقال : نعم وكرامة : فسُمّي «دقّ صدره» وضاقت الأموال فقصر في إطلاق أموال أصحاب التفاريق والقُوّاد القُدَماء ومن يجري مجراهم فشغبوا عليه وقصدوا المُصلّى فأقاموا فيه وأخرجوا معهم أكثر القوّاد واستفحل أمرهم وبسطوا فيه ألسنتهم فأمره المقتدر بإطلاق أرزاقهم فاعتذر بقصور الأموال ونقصان
ص: 15
الارتفاع وذكران الأموال المستخرجة من ابن الفرات وأسبابه قد حصلت في بيت مال الخاصة وأنه ليس ينفذ له صاحب بيت مال الخاصة أمراً فيها. فأمر بإخراج خمسمائة ألف دينار من بيت مال الخاصة لينفق في الجند المشغبين.
وقلد ديوان البريد بمدينة السلام والإشراف على الوزير وعلى الجيش وأصحاب الدواوين والقضاة وأصحاب الشرط شفيع اللؤلؤي .
فلما رأى ابن ثوابة ضعف أمر الوزير تقرَّب إلى المقتدر برقاع أوصلتها أمُّ موسى يذكر فيها أنه يستخرج من العُمّال أموالاً جليلة أهملها الخاقاني وذكر أنه يستخرج من محمد بن علي الماذرائي وأخيه إبراهيم وحدَهُما سبعمائة ألف دينار فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقوية يد ابن ثوابة ففعل ذلك واستخرج أموالاً بالعسف وتغلب على الأمور وكان يصرف عُمَّال الوزير ويولّي من يرى وتوصّل الأشرارُ إلى كتب الرقاع على يد أم موسى إلى المقتدر يخطبون الأعمال ويتضمّنون الأموال فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقليدهم ذلك فانتشر أمره وشاركه الأشرار في النظر واستخرجوا الأموال من كل وحه بكل عسف.
وكان حامد بن العباس قد تضمّن أعمال واسط ونواحيها أربع سنين فعمل الكتاب له عملاً وحصلوا عليه في كل سنة مائتي وأربعين ألف دينار وألفي وأربعمائة كُرّ بالمعدّل شعيراً للكراع في كل سنة يستوفي منه مع المال الذي ذكرنا مبلغه. وإنما كان حامد ضمن على عبرة السنة المتقدّمة وزيادة يسيرة وكان التقصير والإضاعة والتخليط يقع من الخاقاني وذلك أن الخاقاني كان يتقلد في أيام عبيد الله بن سليمان (وما بعدها إلى وقت استتاره في أيام وزارة ابن الفرات الأولى) أعمال البريد والمظالم والخرائط بماسبذان فلما ولي الوزارة تحير لقلة ونقصان المعرفة بالأعمال فشرع مونس في تقليد علي بن عيسى.
ولما رأى المقتدر بالله اضطراب الأمور وفساد التدبير وانتقاض المملكة شاور مؤنساً الخادم وعرّفه أن الصورة تقود إلى ردّ أبي الحسن بن الفرات وتقليده الوزارة. وكان مونس مستوحشاً من ابن الفرات لأمور حكينا بعضها في حكاية أمره مع سبكري وتقريره أمر فارس ونقض ابن الفرات عليه . فقال مونس للمقتدر بالله إنه يقبح أن يعلم أصحاب الأطراف أن السلطان صرف وزيراً ثم اضطر إليه وردّه بعد شهور من صرفه ثم لا ينسبون ذلك إلا إلى المطمع في ماله فقط وقال : إن كُتاب الدنيا الذين دبروا المملكة دواوينها منذ أيام المعتضد بالله هما ابنا الفرات وأبو العباس منهما قد مات وتقلد الآخر الوزارة إلى أن صرف عنها ومحمد بن داود و محمد بن عبدون وقد قتلا في فتنة ابن
ص: 16
المعتز، وعلي بن عيسى بن داود بن الجرّاح ولم يبقَ من يصلح لتدبير المملكة غيره ووصفه بالثقة والأمانة والديانة والنزاهة والصيانة والصناعة فأمره المقتدر بإنفاذ يليق إليه ليحمله إلى الحضرة وأظهر للخاقاني أنه يحضره ليستخلفه لابنه عبد الله على الدواوين وكان الخاقاني يقول في مجلسه : إني قد كتبتُ بحمل علي بن عيسى إلى الحضرة الأستخلفه لعبد الله، فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم سنة 301 ركب الخاقاني إلى دار السلطان فقُبض عليه وعلى ابنيه عبد الله وعبد الواحد وأبي الهيثم بن ثوابة ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمد ابني سعيد الحاجبين وبنان وسعيد بن عثمان النقاط واعتقلوا في يد نذير الحرمي. وكان سعيد بن عثمان النفاط أحد من سعى للخاقاني في الوزارة فقضى حقه بأن قلّده أعمالاً كثيرة جليلة .
وفي هذه السنة صرف عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أعمال المعاون بفارس وتقلّدها بدر الحمامي وكان بدر يتقلد أعمال المعاون بأصبهان فنقل إلى أعمال فارس وكرمان وقلّد مكانه علي بن وهسوذان الديلمي.
وفيها تقلد أبو الحسن علي بن عيسى الوزارة وقت قدومه من مكة وخلع عليه وركب من دار السلطان إلى داره وركب معه مونس الخادم وغريب الخال وسائر القوّاد والغلمان.وسُلّم إليه في يوم الخلع محمد بن عبيد الله الخاقاني وابناه وجميع من سمّيتهم فيما تقدّم فصادرهم مصادرات قريبة الأمر واستخرج منهم جميع ما صادرهم عليه ثم أطلق الخاقاني إلى منزله ووكّل به فيه وصان حرمه أتم صيانة وأوقع بأبي الهيثم بن ثوابة مكروهاً . ثم صار ينظر في أمر الأعمال في دار الوزارة بالمخرّم، يبكر إليها في كلّ يوم ويعمل فيها إلى آخر أوقات صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرف إلى داره. وكتب إلى كل واحد من العُمّال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إياه بالخلع ورد أمر الدواوين والمملكة إليه ويقرّرهم على مواضعهم ويأمرهم بالجد والاجتهاد في العمارة ويقول في آخر كتابه : وهذا عُنفوان السنة وأول الافتتاح ووقت جموم الخراج . ولست أعلم ما يجب أن أطالبك به فأذكرَهُ وأخاطبك عليه ولكني آمرُك أن تحمل صدراً من المال يتوفر مقدارُهُ وتنفذ الرسائل بذلك مع الجواب عن كتابي هذا عند نظرك فيه . وتكتب إلي بشرح الحال في أمور نواحيك وتنفذ موافقة تقف عليها وبها على موقع أثرك فيها ومخائل تدبيرك في توفيرها وتثميرها وتتوقف عن إمضاء التسبيبات وما يجري مجراها إلى أن يرد عليك كتبي وتوقيعاتي في أستبار رأيك عما يكون عملك عليه وتمكن في نفسك أنه لا رُخصة عندي ولا هوادة في حق من حقوق أمير المؤمنين أغضى عنه ولا درهم من ماله أسامحُ فيه ولا تقصير في شيء من أمور العمل أصبر
ص: 17
لقريب أو بعيد عليه ولا تكون بإظهار أثر جميل في ذلك أشدَّ عناية منك بإنصاف الرعيّة والعدل عليها ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها فإني أطالبك بذلك كما أطالبك بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها وتابع كتبك بما يكون منك وقتاً وقتاً لأعرفه إن شاء الله .
وقلَّد بعد ذلك الدواوين جماعة وعزل جماعةً وفعل مثل ذلك بالعُمّال ونظر إلى من تعود اقتطاع الأموال السلطانية وإقامة مُروّات نفسه منها وقصر في العمارة واعتمد غيره فعزل أمثال هؤلاء ثم عمر الثغور والبيمارستانات وأدرّ الأرزاق لمن ينظر فيها وأزاح علل المرضى والقوَّام وعمر المساجد الجامعة وكتب إلى جميع البلدان بذلك ووقع إلى العُمّال به وكتب إلى العُمال في أمر المظالم كتاباً نسخته :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سبيل ما يرفعه إليك كل واحد من المتظلمين قبل النوروز من مظلمته ويدعي أنه تلف بالآفة من غلّتِه أن تعتمد في كشف حاله على أوثق ثقاتك. وأصدق كفاتك حتى يصح لك أمره فيزيل بالظلم فيه فترفعه وتضع الإنصاف موضعه وتحتسب من المظالم بما يوجب الوقوف عليه حسبه وتستوفي الخراج بعده من غير محاباة للأقوياء ولا حيف على الضعفاء. فاعمل فيما رُسم لك ما يظهر ويذيع ويشتهر ويشيع ويكون العدلُ به على الرعيَّة كاملاً والإنصاف لجميعهم شاملاً إنشاء الله .
وكتب بإسقاط مال التكملة بفارس كتاباً وفي جميع ما يشبه ذلك كُتُباً مشهورة مستحسنة فساس أبو الحسن علي بن عيسى الدنيا أحسن سياسة ورسم للعُمّال الرسوم الجميلة وأنصف الرعية وأزال السنن الجائرة ودبر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامة وعفاف وتصوّن وديانة ونظر في المظالم وأبطل المكس بمكة والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز وجباية الخمور بدیار ربيعة فبانت بركته على الدنيا وعمر البلاد وتوفر الارتفاع واستقام أمر السلطان وعادت هيبة الملك وصلح أمر الرعيّة .
ثم أسقط علي بن عيسى الوزير أكثر ما زاده الخاقاني في وزارته في دواوين الجند وإقطاعاتهم وكانت هذه الزيادة قد لحقت القوّاد وسائر أصناف الجند ولحقت الخدم والحاشية وجميع الكتاب والمتصرفين وكانت كثيرةً فلما أسقطها عاداه أكثر الناس وشنعوا عليه بالضيق والشح وقطع الأرزاق وإنّما اضطر إلى ذلك لما رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادةً مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها في نفقات يستغنى عنها .
وحكى ثابت بن شيبان عن علي بن عيسى أنّه قال: كنتُ عملتُ عملاً لارتفاع
ص: 18
المملكة وما عليَّ من الخرج فكانت الخرج زائداً على الدخل بشيء كثير فقال لي ابن الفرات يوماً بعد صرفه إياي وقد أُخرجتُ إليه في دار السلطان ليناظرني : أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع. فقلتُ له : أي رسم أبطلتُ؟ قال : المكس بمكة والتكملة بفارس فقلتُ : وهذا وحده أبطلتُ ؟ قد أبطلت أشياء كثيرة فمنها ومنها (وعددتُ أشياء مبلغ جميعها خمسمائة ألف دينار في السنة) ولم أستكثر هذا المقدار في جنب ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار وغسلت به عن دولته من الدَرَن والعار ولكن أنظر مما حططتُ وأبطلتُ إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتي ونفقاتك. قال ثابت فقلتُ: فبأي شيء أجابك؟ فقال : خرج الخادم ففرق بيننا قبل أن يجيب .
قال : وحدثني أحمد بن محمد بن سمعون وكان ينظر في أعمال النهروانات قال : مسحنا على الناس غلاتهم فإذا ببعض التنّاء قد ذهب إلى باب الوزير علي بن عيسى ونحن لا نعلم فتظلم أنا زدنا عليه في مساحة قراح له فلم نشعر بشيء إلا وقد جاءنا عامل يعرف بابن البذال ومعه فوج من مساح بادوريا وفرسان ورجالة فلم نشك في أنه صارف لنا فقال لي صاحبي . أحب أن تتلقاه وتتنسم الخبر. ففعلتُ وتلقيته وعرفتُ خبر المتظلم، فعرفتُ صاحبي ذلك فقال لي: لا تدري كيف جرى أمر مساحته. فقلتُ لا .
قال : فاخرج حتى تواقف وتجتهد :قال فخرجتُ ومعي مساح البلد الذين مسحنا بهم واستقصيتُ معهم وما زلتُ الطف إلى أن تقرّرت المساحة وكنا مسحنا القراح باثنتين وعشرين جريباً فخرجت مساحته إحدى وعشرين جريباً وقفيز. فاحتججت بأن القراحُ مسح وفيه غلة قائمة ومُسح في هذا الوقت بعد الحصاد وليس بمنكر أن يكون بين المساحتَيْن في الحالتين هذا المقدار. وانصرف ابن البذال وورد عليه كتاب علي بن عيسى بالصواعق في الإنكار والتوعد بأنه إن وقف على أن أحداً من الرعية حيف عليه في معاملة أو مساحة فعل وصنع . قال : فما جسرنا أن نستقصي على أحد في معاملة. فلما كان في السنة القابلة زاد الارتفاع في العشرة ثلاثة لأن الخبر انتشر بالعدل وقيل قد وقع الحيف والظلم» فنشط الناس للازدياد من العمارة.
وفعل مثل ذلك في المظالم. وحكى ابن المشرف أن بعض عُمَّال بادوريا طالب بالخراج وبقايا عليهم وحبس أهله فصبروا على الحبس فقيدهم فصبروا على القيد ولم يجسر أن يُوقع بهم خوفاً من علي بن عيسى . فكتب بحضرتهم إلى علي بن عيسى يضربه عليهم غاية التضريب ويقول : إن هؤلاء قوم يُدِلّون بالجلد وعليهم أموال وقد الطَّوا وصبروا على الحبس والقيد ومتى لم تطلق اليد في تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه وتأسى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع والوزير أعلى عيناً وما يراه. قال القوم : فجزعنا وخفنا أن يطلق يده فينا فيتلفنا لما كان في نفسه علينا وهممنا بأن نذعن له ثم
ص: 19
اجتمع رأينا على التوقف إلى أن يرد الجواب . قال : فورد وإذا هو قد وقع بخطه على ظهر الرقعة : الخراج عافاك الله دين وليس يجب فيه غير الملازمة فلا تتعد ذاك إلى غيره والسلام :قالوا : ففرّج عنا وأدينا الصحيح مما علينا فلما كانت السنة القابلة زاد ارتفاع بادوريا في العشرة اثنين وزرعنا حتى ( على ) السطوح ثقة بالعدل والإنصاف .
ولما صرف أبو علي الخاقاني عن الوزارة أكثر الناس التزويرات عليه وعُرضت توقيعاته على عليّ بن عيسى فأنكرها وجمعها وأنفذ بها إلى أبي علي الخاقاني وقال : انظر في هذه التوقيعات وعرّفني الصحيح منها والباطل الذي زُوّر عليك . واتفق إن حضر رسوله وأبو علي الخاقاني يصلّي فوضع الرسول التوقيعات بين يدي أبي القاسم ابنه أذى الرسالة. فأخذ أبو القاسم يميزها ويفرد الصحيح منها . فأومأ إليه أبوه بالتوقف فتوقف فلما فرغ من الصلاة أخذها فتصفحها ثم خلطها ودفعها إلى الرسول وقال : تقرأ على الوزير السلام وتعرفه أن هذه التوقيعات كلها صحيحة وأنا أمرتُ بها فما رأيت أن تمضيه أمضيته وما رأيت إبطاله أبطلته . فلما انصرف الرسول قال لابنه. يا بني أردت أن تبغضنا إلى الناس بلا معنى ويكون الوزير قد التقط الشوك بيدك نحن قد صرفنا فلم لا نتحبب إلى الناس بإمضاء كل ما زُوّر علينا فإن أمضاه كان الحمد لنا والضرر عليه وإن أبطله كان الحمد لنا والذم له فاستحسن الناس هذا الفعل من أبي علي إلا أن علي بن عيسى تذمم إلى الخلق من الخاصة والعامة والحاشية بإسقاطه الزيادات التي صارت عند أصحابها كالأصول واطراحِهِ النفقات التي تعود بتمزيق الأموال بغير فائدة. فثقلت وطأته وكره الناس أيامُه وقصدوا التشنيع عليه وثلبوه عند المقتدر بالله وسعى قوم لأبي الحسن ابن الفرات في الوزارة.
وفي هذه السنة قبض على الحسين بن منصور الحلاج بالسوس وأدخل بغداد مشهراً على جمل وكان حمل إلى علي بن أحمد الراسبي فحمله علي إلى الحضرة فصلب وهو حي وصاحبه وهو خال ولده معه في الجانبين جميعاً وحبس الحلاج وحده في دار السلطان. وظهر عنه بالأهواز وبمدينة السلام أنه ادعى أنه إله وأنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف من الناس.
وفيها أطلق الوزير أبا علي الخاقاني وأزال عنه التوكيل. وفيها مات علي بن أحمد الراسبي بدور الراسبي وتقدم مونس الخادم بمشورة علي بن عيسى لقبض أمواله. وكتب إلى الغمر بن عبد الله بالمصير إليه والاجتماع معه على ذلك. فكتب أنه حصل منها نحو ألف ألف دينار.
وفيها خلع على الأمير أبي العباس بن المقتدر بالله وقلد أعمال الحرب بمصر والمغرب واستخلف له على مصر مونس الخادم وقلّد الأمير علي بن المقتدر بالله
ص: 20
الصلات وأعمال المعاون والأحداث والحرب بكور الري وديناوند و قزوین و زنجان وأبهر والطرم.
وفيها ورد الخبر بقتل( أحمد بن إسماعيل) بن أحمد صاحب خراسان على شاطئ نهر بلخ قتله غلمانه وقام مقامه أبو الحسن نصر ابنه فنفذ العهد إليه من المقتدر بالله والكتاب بتقليده خراسان مكان أبيه .
وفيها ورد الخبر بأن خادماً لأبي سعيد الجنابي الحسن بن بهرام المتغلب على هجر قتله. ثم إن ذلك الخادم خرج بعد قتله مولاه فدعا رجلاً من رؤساء أصحابه وقال : السيد يدعوك . فلما دخل قتله وما زال يفعل ذلك بواحدٍ واحدٍ إلى أن قتل أربعة من الرؤساء ثم دعا بالخامس فأحس الخامس بالقتل فصاح واطلع النساء عليه وصحن فقبض على الخادم قبل أن يقتل الخامس وقتل الخادم وكان صقلابياً وقد كان أبو سعيد عهد إلى ابنه سعيد فلم يضطلع بالأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن.
وقد كان القرامطة وافوا إلى باب البصرة في سنة 299 وكان المتقلد لأعمال المعاون بالبصرة محمد بن إسحاق بن كنداجيق وكان يوم جمعة والناس في الصلاة فصاح صائح «القرامطة القرامطة!» فخرج إليهم الموكلون بالباب فوجدوا فارسين قد نزل أحدُهما عند الميل فنظر إليه البوابون جالساً متكياً قد وضع إحدى رجليه على الأخرى والآخر بإزائهم فصاحوا به وبدر إليه رجل من الخول فطعنه القرمطي وقتله وتراجعوا فبكى أخوه فقالوا له : ارجع فجر برجله وخذه لعنكما الله. قالوا: ومن أنتما؟ قالوا : نحن المؤمنون . ثم تنحى فحبا حتى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتى صار إلى الموضع فنظر الديدبان عند صهاريج الحجاج إليهم فقالوا : إنهم نحو ثلاثين فارساً. فخرج إليهم عطارد بن شهاب العنبري وخواصه وعلمان من شحنة البصرة والمطوّعة فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلا من هرب قبل المعاينة وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئاً إلا السراويلات بغير تكك ثم ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلق الباب وجنه الليل فلما أصبح لم يرَ منهم أحداً. فكتب إلى ابن الفرات وكان هو الوزير في الوقت يستنجده، فأمده بمحمد بن عبدالله الفارقي في جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه وجعفر الزرنجي في نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق .
فلما تقلّد أبو الحسن علي بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر في أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي فتقدّم إليه بمكاتبته وانفاذ الكتاب على يدي من يرى فكتب كتاباً طويلاً جداً يُذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول في آخره: إن أمير المؤمنين جعل هذا ظهرياً عليك وحُجّة من الله بيّنةً فيك وقاطعاً لعللك وباباً
ص: 21
يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك .
ونفذ الرُسُل فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبي سعيد فتوقفوا عن المسير وكاتبوا الوزير علي بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه فتمموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدوا الرسالة فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلم فيهم الرسل وعاد بهم الرسل إلى بغداد.
وفيها قبض على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجوهر ما قيمته أربعة آلاف وكان هو يدعي أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز في ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر .
وفيها خرج الحسين بن علي العلوي وتغلب على طبرستان ولقب الداعي فوجه إليه أخو صعلوك جيشاً فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها .
وفيها ورد الخبر بأن الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائباً قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلوي صاحب المغرب لما قصد مصر في نيف وأربعين ألفاً فندب له الوزير علي بن عيسى رائقاً الكبير وخلع عليه وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مُضر إذا انصرف من مصر وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعلي بن أحمد بن بسطام والعباس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلاف ويحفظ الثغور وخاصة الجزرية منها فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إياه وسبيهم كلّ من كان في نواحيه أمرٌ عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة .
ولما صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين فصار رائق إلى مونس واتصلت كُتب علي بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين فجد مونس في المسير ولما قرب من الحسين جاءه هارون كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب كتب بها مونس إلى علي بن عيسى وذكر أن هارون أوصل إليه كتاباً من الحسين يتضمن خطاباً طويلاً قد افتتحه وختمه وكرّر القول في فصوله : إن السبب في خروجه عما كان عليه من الثقة والطاعة عدولُ الوزير أيده الله عما كان عليه في أمره إلى ما أوحشه وأنه لم يف له بضمانات ضمنها له وذكر أنه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل وأنه سأل الرسول عما حمله الحسين من الرسالة إليه فذكر أنه يسأله المقام بحران إذا كانت تحمل عسكره وأن يكاتب الوزير أعزّه الله فى أمره ويسأله صرفه عما يتقلّده من الأعمال وتركه مقيماً في منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة. وأنه عرفه أن هذا متعذر غير ممكن إذ كانت
ص: 22
كتب الوزير متصلة إليه بالانجذاب وإن مخالفته غير جائز وأنه لا يدع الكتاب فيما سأل ولا يثنيه ذلك عما رسمه الوزير أعزه الله . فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان أعزّه الله وجحد نعمته وإن انقاد للحق وسلك سبيله وصار إليه فنزع عما هو عليه كان ذلك أشبه به وإن أبى وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرُّض لطغامه لا لنكول عنه منه لكن لاستهانته بأمره وأنه وكل بكاتبه هذا المترسل عنه وأنه لا يأذن له في الانصراف إلا بعد أن يعرف خبر الحسين .
ثم وردت الأخبار برحيل مونس حتى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله ثم انفل عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلاً أوّلاً. وورد كتاب مونس بأنه قد صار إليه من أمراء الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس وأنه خلع على أكثرهم ونَفِدَ ما كان معه من الخِلَع والمال وأنه في احتيال باقي ما يحتاج إليه ثم ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه وقبض على أملاك بني حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد.
فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشماسية إلى دار السلطان مصلوباً على نقنق منصوباً بأعلى ظهر فالج وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما وسار بين يديه الأمير أبو العباس بن المقتدر بالله والوزير أبو الحسن علي بن عيسى والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القُوّاد والجيش والفيلة. فلما وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله ثم أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحُبس عندها في دار السلطان .
وشغب الرّجالة الحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان وأحرقوا اصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة في أرزاقهم فزيد بكل غلام ثلاثة دنانير في كل شهر من شهورهم وزيد الرجالة كلّ واحد نصف وربع دينار في كل شهر فسكن الشغب.
وقُبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع إخوته وحبسوا في دار السلطان وكان هرب ابن للحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان .
وفيها لقي بأصبهان غلامٌ لعلي بن وهسوذان الديلمي. وكان يتقلد أعمال المعاون بها أحمد بن سيّاه عامل الخراج بها أنفذه صاحبه إليه في حاجة واتفق أنه لقيه وهو راكبٌ فكلّمه في الحاجة فاشتدّ ذلك على أحمد بن سيّاه وقال له : يا مُؤاجر تخاطبني في
ص: 23
حاجَةٍ على ظهر الطريق فانصرف الغلام إلى مولاه محفظاً وحدثه بما جرى فقال له : صدق فيما قال ولولا أنّك مُؤاجر لضربت رأسه بالسيف لما خاطبك بذلك. فعاد الغلام ووجد أحمد ابن سيّاه مُنصرفاً فعلاه بالسيف وقتله . فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف علي بن وهسوذان لأجل ذلك عن أصبهان بأحمد بن مسرور البلخي . فاستأذن علي بن وهسوذان في الانصراف إلى بلد الديلم فأذن له ثم سأل بعد ذلك في أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل .
وفيها قدم محمد بن علي بن صُعلوك مدينة السلام وهو ابن عم صاحب خراسان مُستأمناً فخلع عليه .
وفيها في فصل الصيف تفزّعت العامة من حيوان كانوا يُسمّونه الزَبزَب ذكروا أنهم يرونه في الليل على سطوحهم وأنه يأكل أطفالهم قالوا ورُبّما قطع يد الإنسان إذا كان نائماً أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصواني والهواوين ليفزعوه وارتجّت بغداد لذلك حتى أخذ السلطان حيواناً غريباً أبلق كأنه من كلاب الماء وقال :« هو الزبزب» وأنه صيد فصُلب على نقنِق عند الجسر الأعلى وبقي مصلوباً إلى أن مات فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر وتبين للناس أنه لا حقيقة لما توهموه فأمسكوا إلا أن اللصوص وجدوا فُرصتهم بتشاغُل الناس في سطوحهم فكثرت النقوب .
وفيها تقرّر عند أبي الحسن علي بن عيسى الوزير أنه قد سعى لابن الفرات في الوزارة وتحققه فاستعفى منها ولم يُعفه المقتدر. وأظهر في دار السلطان أن ابن الفرات عليل شديد العلة واتفق إن مات الشاري الذي كان محبوساً في دار السلطان والتدبير في أمر الشراة أن يكتم موت من يؤخذ منهم ممن تسميه الشراة إماماً فإنه ما دام حيا فليس ينصبون إماماً غيره فإن صح عندهم موته نصبوا غيره فأظهر في دار السلطان أن ابن الفرات مات وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات وصلّى عليه الوزير علي بن عيسى ثم انصرف إلى منزله متوجعاً وقال لخواصه« اليوم ماتت الكتابة» ثم مضت الأيام ووقف علي بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعي لابن الفرات وأنه حي فقال لخواصه : ليس ينبغي للإنسان أن يتحدث بكل ما يسمعه .
وكان يضجر في أوقات من سوء أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات ويستعفي من الوزارة ويخاطب المقتدر في ذلك فينكر عليه استعفاءَه إلى أن اتفق يوماً إن صارت إليه موسى القهرمانة في آخر ذي القعدة من سنة 304 لتواقفه على ما يطلق في عيد الأضحى للحرم والحاشية. وكان علي بن عيسى محتجباً فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفاً جميلاً فغضبت من ذلك وعلم علي بن عيسى بحضورها
ص: 24
وانصرافها فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع فأبت أن تعود وصارت إلى المقتدر والسيدة فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة سنة 304 عند ركوبه إلى دار الخلافة ولم يتعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه ولا لأحد من أولاده واعتقل عند زيدان القهرمانة فكانت مدة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً.
فيها تقلد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذي الحجة وخلع عليه وصار إلى داره بالمخرّم التي كان أقطعها في وزارته الأولى وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة وفي فصل منه : ولما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بداً منه وكان كُتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرين برياسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنه الحول القلب المحنك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب انتضاه من غمده فعاد ما عرف من حدّه فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها ودبر الأمور كأن لم يخل منها . ورأى أمير المؤمنين ألا يدع سبباً من أسباب التكرمة كان قديماً جعله له إلا وفاه أباه ولا نوعاً من أنواع المثوبة والجزاء كان أخره عنه إلا حياه به وآناه فخاطبه بالتكنية وكان وكان . .
وقبض ابن الفرات على أسباب علي بن عيسى وإخوته وكتابه وَجَميع عُمَّالِه بالسواد وبالمشرق والمغرب وصادرهم سوى أبي الحسين وأبي الحسن ابني أبي البغل فإنه أقرهُما على ما كانا يَتَوليانه من أعمال أصبهان والبصرة لعناية أم موسى بهما وقبض على أبي علي الخاقاني وتتبع أسبابه وألزم جميعهم مُصادَرَةً ثانية أدوها وطالب العُمَّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها ونصب ديواناً للمرافق وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كل يوم ألفاً وخمسمائة دينار وكانت تنسب إلى تلك الخريطة فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر في كل يوم ألف دينار وللسيدة في كل يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث وللأميرين أبى العباس وهارون ابني المقتدر في كل يوم مائة وست وستون ديناراً وثلثا ..
وكان ابن الفرات قد اتَّسع بما كان استسلفه علي بن عيسى من الخراج فإنه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيام وأعدّ المال في بيت المال لينفقه في العيد في إعطاء الحشم والفرسان والأتراك فقويت نفس كاتب ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات وأموال سفاتج وردت من فارس وأصبهان ونواحي المشرق في درج كُتب بحمول كتبت على أنها تصل
ص: 25
إلى علي بن عيسى فأطلق جميع ذلك في الفرسان والحشم والخدم ومهم النفقات .
وكان الغالب على أمر الدواوين والأعمال في أيام وزارة ابن الفرات هذه من بين سائر كتابه أبو بشر عبد الله بن فرجويه وكان السبب في ذلك أنه سلم من النكبة وقت القبض على ابن الفرات في الدفعة الأولى واستتر مدة وزارة الخاقاني وعلي بن عيسى .
وواصل بعد ما مضت سنة واحدة من وزارة علي بن عيسى مكاتبة ابن الفرات على يد عيسى المتطبب وكان ابن الفرات يجيبه عن رقاعه ويرسم له ما يكاتب به المقتدر عن نفسه في معايب علي بن عيسى وكتَّابه وعُمَّاله، وأنه ليس يصادر أحداً من عماله ويقول :« لا أخوّن عاملاً بعد أن ائتمنته »ويذكر تأخر أرزاق الولد والحرم والحشم حتى أنه اقتصر بالولد والحُرم على جاري ثمانية أشهر في السنة والخدم والحشم بستة أشهر من السنة واقتصر بالفرسان من مائة وخمسين ألف دينار تطلق لهم في الشهر على خمسين ألف دينار. وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع فيُعَرِّفه أن ابن فرجويه خبر بالأمور وأنه صادق في كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف علي بن عيسى فإذا شاور مونساً في ذلك أشار عليه أن لا يفعل ووصف علي بن عيسى بالديانة والأمانة.
فلما خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي صاحب المغرب تمكن ابن فرجوَيه من الجد في السعي على عليّ بن عيسى وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن علي بن عيسى لما غاب مونس . فلما تبيّن لابن فرجويه دفع غريب ونصر عن علي بن عيسى كتب رقعة بخطه إلى المقتدر يذكر فيها أنه إن صرف علي بن عيسى عن الوزارة وقلّد مكانه علي بن محمد بن الفرات أطلق للولد والحُرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يُطلِقه في أيام وزارته الأولى على التمام والكمال والإدرار وأن يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العُمّال ومال مرافقهم والاستثبات في النواحي في كلّ شهر من شهور الأهلة خمسة وأربعين ألف دينار فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة فذكر أن جميع ما تضمَّنته صحيح وبذل خطَّه بضمانِه بضمانه جميع ذلك .فكانت هذه الرقاع من أكبر أسباب التِحاقِه على ابن فرجويه في وزارته هذه واختصاصه به.
واتفق له مع ذلك أن ابن الفرات أودع على يده عند جماعة من التجار والكتاب أموالاً جليلة ولم يقرّ ابن الفرات بما كان أودعَهُ ابن فرجويه لأنه لم يكن يعرف أسماء من أودع ذلك عنده فلما عاد إلى الوزارة استخرج له ابن فرجويه جميع ما كان أودعَهُ له من غير أن يذهب له شيء منه .
وكان أبو علي بن مُقلة متعطّلاً في أيام وزارة الخاقاني وعلي بن عيسى مُلازماً منزله واستتر أيام الخاقاني ثم آمنهُ علي بن عيسى فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختص به لهذه الحال .
ص: 26
لما وقف يوسف بن أبي الساج على الخبر في صرف علي بن عيسى عن الوزارة وكان مقيماً بآذربيجان ومُتقلّداً أيام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال الصلاة والحرب والمعاون والخراج والضياع العامة بأرمينية وآذربيجان ومقاطعاً على مال يحمله في كلّ سنة عنها إلى بيت المال بالحضرة وكان يُزيح العلة في ذلك المال مدّة أيام وزارة ابن الفرات الأولى. فلما ولي أبو علي الخاقاني الوزارة ثم علي بن عيسى طمع فأخر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه واجتمع له من ذلك ما قوي به وحمله على العصيان.
أظهر أن علي بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب بالريّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة وسار مبادراً إليها فلما قرب منها انصرف عنها محمد بن علي صعلوك وهرب إلى نواحي خراسان وكان محمد بن علي هذا مُتغلّباً على هذه النواحي ثم قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضاً. فلما وقف ابن الفرات على ما فعله ابن أبي الساج أنهى ذلك إلى المقتدر ثم ورد كتاب ابن أبي الساج بعد أيام يعتد فيه بما فعله من إخراج محمد بن علي صعلوك عن الري وما يليها ويبشر السلطان بفتحه هذه النواحي ويصف أنه لما ورد عليه العهد واللواء من جهة علي بن عيسى سار إليها فرزقه الله الفتح والنصر فاغتاظ المقتدر بالله من ذلك وتقدّم إلى ابن الفرات بمواقفة علي بن عيسى على ما كتب به ابن أبي الساج فأخرجه من محبسه ورفق به وخاطبه بجميل وقال له : قد يجوز أن تكون دبرت بهذا الفعل على صعلوك وهذا غير منكر. فحلف أنه ما ولاه ولا أنفذ إليه لواء ولا عهداً وقال : لا بد للواء والعهدِ أن ينفذ مع خادم من خدم السلطان أو قائد من قواده وهؤلاء الخدم والقوّاد بين أيديكم سلوهم عن ذلك ولديوان الرسائل كاتب يتقلده بكتب العهود والولايات سلوه هل كتب بشيءٍ فأخذ منه ابن الفرات خطأ بما حكاه بما حكاه وعرضه على المقتدر بالله فازداد المقتدر غيظاً على ابن أبي الساج.
وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبي الساج في هذا المعنى أغلظ كتب وتوعده وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحي وضم إليه الرجال وأنفذ بعده عدة من القواد مدداً له وأنفق الأموال فيهم وكان فيهم مثل محمد بن سرور البلخي وسيما الخزري وتحرير الصغير وجماعة أمثالهم فواقعه ابن أبي الساج وهزمه وأسر جماعة من أصحابه وأدخلهم مشهرين إلى الري . وقدم مونس الخادم من الثغر فندب لحرب ابن أبي الساج وشخص إليه وكتب إلى جميع القواد في طريقه بالانضمام
ص: 27
إليه واستأمن إليه أحمد بن علي صعلوك فأحسن قبوله وصرف خاقان المفلحي عما كان إليه من أعمال الجبل وقلد مكانه تحرير الصغير .
واتصلت كتب ابن أبي الساج يلتمس الرضا عنه ويبذل سبعمائة ألف دينار عن أعمال الخراج والضياع بكورة الري وما يليها خالصة سوى أرزاق الأولياء في تلك الأعمال وسوى النفقات الراتبة فلم يجبه المقتدر بالله إلى ما التمسه فكتب يبذل أن يقيم بالري متقلداً أعمال المعاون والحرب بها فقط حتى ينفذ السلطان إلى تلك النواحي من يتقلد أعمال الصلاة والخراج والضياع والأحكام والبريد والخبر والخرائط والصدقات فأقام المقتدر على أنه لو بذل كلّ بذل لما أقرّه على الري يوماً واحداً لإقدامه على أن سار إليها بغير أمر فلما رأى ابن أبي الساج هذه الحال انصرف عن الري وأعمالها بعد أن أخربها وجبى مالها لسنة 304 في مدة قريبة وقلد مونس الري وقزوين وصيفاً البكْتِمُرِي. ورضي ابن أبي الساج بأن يُجدِّد له العهد والولاية للأعمال التي كانت إليه أوّلاً وأشار ابن الفرات بقبول ذلك منه وضمن أن يلزمه بهذا السبب حمل جملة من المال إلى بيت المال يحسن موقعها فعارض ذلك نصر الحاجب وابن الحواري وقالوا : لا يجوز أن يقرّ على أرمينية وآذربيجان إلا بعد أن يرد الحضرة ويطأ البساط ونسبوا ابن الفرات إلى مواطأته، فأقام المقتدر على أنه لا بد من محاربته أو يرد الحضرة وكتب إلى مونس بالتعجيل إليه لمحاربته .
فلما رأى ابن أبي الساج أن دمه على خطر حارب مونساً بسراة من بلد آذربيجان فانهزم مونس إلى زنجان وقتل من قواد السلطان سيما واستأسر ابن أبي الساج جماعة من قواد مونس فيهم هلال بن بدر وأدخلهم إلى أردبيل مشهرين. وأقام مونس بزنجان يجمع ليوسف وهو مع ذلك يكاتبه ويراسله وابن أبي الساج يلتمس منه الصلح ومونس لا يقبل منه إلا المصير إلى الحضرة. وكان ابن أبي الساج أبقى على مونس لما انهزم حتى سلم في ثلاثمائة غلام ولو أراد ابن أبي الساج لأسره فكان مونس يشكر ابن أبي الساج على هذه الحال .
فلما كان في المحرّم بعد ذلك في أيام وزارة حامد بن العباس واقع مونس يوسف ابن أبي الساج الوقعة الأخرى بأردبيل فأسر يوسف و به ضربات وانصرف به مونس إلى بغداد فلما كان سنة 307 حمل يوسف بن أبي الساج على جمل من باب الشماسية وأدخل بغداد مشهراً على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقف بين يدي المقتدر ثم حبس في دار السلطان في يد زيدان القهرمانة ووسع عليه ثم خلع علي مونس وطُوّق وسُوِّر وخلع على جماعة من قواده وزيد الرجالة نصف دينار لكل واحدٍ في الشهر . أعمال
ص: 28
ولما بعد مونس من آذربيجان وانكفأ راجعاً إلى مدينة السلام ومعه يوسف بن ديوداذ غلب سبك غلام يوسف عليها. فأنفذ مونس إليه محمد بن عبد الله الفارقي وقلده البلد وكان في حدود أرمينية فسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وصار إلى بغداد وتمكن سبك من البلد ثم كتب إلى السلطان يسأل أن يقاطع عن الناحية فأجيب وفورق على أن يحمل في كل سنة مائتين وعشرين ألف دينار وأنفذت إليه الخلع والعقد ولم يف بما ووقف عليه وكان مونس لما ظفر بيوسف بن أبي الساج وقبل انصرافه عن آذربیجان قلد علي بن وهسودان أعمال الحرب بالري وديناوند وقزوين وزنجان وأبهر وسلمها إليه وجعل أموالها له ولرجاله وقلد أحمد بن علي صعلوك أعمال المعاون بأصبهان وقم وجعل مال الخراج والضباع بقم وساوة له ولرجاله مبلغه في كل سنة أكثر من مائتي ألف دينار .
ثم وثب أحمد بن مُسافر صاحب الطرم على ابن أخيه علي بن وهسوذان وهو معه مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه و هرب في الوقت إلى بلده وكان أحمد بن علي أخو صعلوك مقيماً بقُمّ فسار منها إلى الريّ ودخلها فأنكر عليه السلطان فعله وقلّد وصيف البكتمري أعمال علي بن وهسودان وقلد محمد بن سليمان صاحب الجيش الخراج والضياع وكوتب أحمد بن علي بالانصراف إلى قُمّ ففعل ثم جرت بينه وبين محمد بن بها سليمان وحشة فأظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج والضياع عن قم وأخذ في الاستعداد للمسير إلى الريّ وكوتب تحرير الصغير وهو متقلد همذان بالمسير إلى الريّ والاجتماع مع وصيف البكتمري ومحمد بن سليمان على دفع أحمد بن علي وسار أحمد بن علي إلى باب الريّ فواقعوه وانهزم وصيف وتحرير إلى همذان وقتل محمد بن سليمان في الوقعة وحصلت الري في يد أحمد بن علي فشرع في إصلاح ما بينه وبين السلطان وعنى به نصر الحاجب فقاطع عن أعمال الخراج بالريّ وديناوند وقزوین و زنجان وأبهر على مائة وستة وستين ألف دينار محمولة في كل سنة إلى الحضرة وقلد الناحية وقلّد محمد بن خلف النيرماني الضياع بهذه النواحي وأخرج أحمد بن علي عن قم وقلّد من نظر فيها .
(ونعود إلى حديث ابن الفرات )
لما تبين الوزير أبو الحسن بن الفرات عداوة نصر الحاجب وأبي القاسم بن الحواري وشفيع اللؤلؤي ونسبهم إيَّاه إلى مواطأة ابن أبي الساج على العصيان عاداهم ومنعهم أكثر حوائجهم وصرف نصراً وشفيعاً عن أكثر أعمالهم. وكان ابن الفرات قلد أبا علي بن مقلة كتابة نصر الحاجب ثم استوحش أبو علي بن مقلة من ابن الفرات لأجل استخدامه سعيد ابن إبراهيم التستري فذكر لنصر أن ابن الفرات قد استخرج من ودائعه التي سلمت له
ص: 29
خمسمائة ألف دينار بعد أن حلف في وقت نكبته أنه ما بقيت له وديعة لم يُقربها فذكر نصر للمقتدر ذلك ليُغيظه على ابن الفرات وغرّ نصر وابن الحواري أبا علي بن مقلة وأطمعاه في الوزارة ليستخرجا ما عنده من أخبار ابن الفرات التي يُضربون بها المقتدر عليه حتى ظهر الأمر في ذلك واشتهر وكثرت به الأراجيف فذهب أبو الخطاب بن أبي العباس بن الفرات إلى عَمِّهِ فشرح له ما يتحدث به الناس فقال له : إن شككت في أبي علي بن مقلة مع تربيتي له ودفعي منه شككت في ولدي وفيك . ثم تبين ابن الفرات بعد ذلك صحة ما نُسب إلى ابن مقلة واطلع أبا علي بن مقلة على بعض ما وقع إليه من الخوض في أمره على طريق التعجب لِيَصرفه عما شرع فيه فاستوحش أبو علي منه وخاف معاجلته إياه بالنكبة فجد في السعي عليه واعتصم بنصر الحاجب.
وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام على طريق الفرات بهدايا عظيمة والطاف كثيرة يلتمسان الهدنة وكان دخولهما يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرّم فأنزلا في دار صاعد بن مخلد وتقدم أبو الحسن بن الفرات بأن يُفرش لهما ويُعَد فيه كلّ ما يحتاجان إليه من الآلات والأواني وجميع الأصناف وأن يقام لهما ولِمَن معهما الانزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة حتى يتسع بذلك كلّ من معهما. والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله لِيُبلّغاه الرسالة التي معهما فاعلما أن ذلك متعذر صعبٌ لا يجوز إلا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيما قصد إليه وتقرير الأمر معه والرغبة إليه في تسهيل الإذن على الخليفة والمشورة عليه بالإجابة إلى ما التمسا. فسأل أبو عمر عدي بن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن بن الفرات الإذن لهما في الوصول إليه فوعده بذلك في يوم ذكره له .
وتقدم الوزير بأن يكون الجيش مُصطفًا من دار صاعد إلى الدار التي أُقطعها بالمُخرّم وأن يكون غلمانه وحده وخلفاء الحجاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه وبسط له في مجلس عظيم مُذهب السقوف في دار منها يعرف بدار البستان بالفرش الفاخر العجيب وعُلِّقت الستور التي تشبه الفرش واستزاد في الفرش والبسط والستور ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار ولم يبقَ شيء تُجمَّل به الدار ويُفخَّم به الأمر إلا فُعِل وجلس على مصلّى عظيم من ورائه مسند عال والخدم بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله والقوّاد والأولياء قد ملؤوا الصحن ودخل إليه الرسولان فشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما.
ولما دخلا دار العامة أجلسهما الحاجب في رواقها والرجال قد امتلأت بهم الدار ثم أخذ بهما في ممر طويل من وراء هذا الرواق حتى أخرجهما إلى صحن البستان ثم
ص: 30
عدل بهما إلى المجلس الذي كان الوزير جالساً فيه فشاهدا من بهاء المجلس والفرش الذي فيه وكثرة الجمع منظراً عجيباً جليلاً. وكان معهما أبو عمر بن عبد الباقي يترجم عنهما ولهما وحضر نزار بن محمد صاحب الشرطة في جميع رجاله فأقيما بين الوزير أبي الحسن بن الفرات فسلما وترجم لهما ابن عبد الباقي ما قالا فأجابهما بما ترجمه لهما. ورغبا إليه في إيقاع الفداء ومسألة المقتدر بالله الإجابة إليه فأعلمهما له يحتاج إلى مخاطبته فيما ذكراه ثم العمل فيه بما يرسمه والتمسا منه إيصالهما إليه فوعدهما به . وأخرجا من بين يديه وأُخِذ بهما في الطريق الذي دخلا منه وعادا إلى دار صاعد والجيش منتظم طول الطريق بأحسن زيّ وأكمل هيأة. وكان زيهما دراريع ديباج ملكية ووقايات وفوق الوقايات قلانس ديباج محدودة الرؤوس .
وخاطب ابن الفرات المقتدر بالله في إيصالهما إليه وواقفه على ما يجيبهما به وتقدّم إلى سائر الأولياء والقواد وسائر أصناف الجند بالركوب إلى دار السلطان وأن يكونوا منتظمين للظهر من دار صاعد إلى دار السلطان فركبوا ووقفوا في الطريق على هذا الترتيب في الزي الحسن والسلاح التام وتقدّم بأن تُشحن رحاب الدار والدهاليز والممرات بالرجال والسلاح وأن يفرش سائر القصر بأحسن الفرش ولم يزل يراعي ذلك حتى فرغ من جميعه ثم أنفذ إلى الرسولين بالحضور فركبا إلى الدار على الظهر وشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرته وحسن زَيْهِ وتكامل عُدَّته أمراً عظيماً ولما وصلا إلى الدار أخذ بهما في ممر يفضي إلى صحن من تلك الصحون تم عدل بهما إلى ممر آخر وأخرجا منه إلى صحن أوسع من الأول ولم تزل الحجاب يخترقون بهما في الصحون والممرات حتى كلاً من المشي وانبهرا وكانت تلك الصحون والممرات محشوة بالغلمان والخدم إلى أن قرُبا من المجلس الذي فيه المقتدر بالله والأولياء وقوفٌ على مراتبهم والمقتدر جالس على سرير مُلكِهِ وأبو الحسن بن الفرات واقف بالقرب منه ومونس الخادم ومن دونه من الخدم وقوف عن يمينه ويساره فلما دخلا إلى المجلس قبلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما نصر الحاجب وأديا إليه رسالة صاحبهما في الفداء ورغبا إليه في إيقاعِهِ. فأجابهما الوزير عنه بأنه يفعل ذلك رحمة للمسلمين ورغبةً في فكهم وإيثاراً لطاعة الله عزّ وجلّ خلاصهم وأنه ينفذ مونساً لحضور ذلك ولما خرجا من حضرتِهِ خُلع عليهما مَطارِف خز مذهبة وعمائم خزّ وخُلع على أبي عمر أيضاً وانصرف على الظهر معهما والجيش على حاله منتظم للفداء. فتأهب لذلك وابتيع من التمس الرُّسل ابتياعه من الروم المطلوبين وأطلق له وللقوّاد الشاخصين معه من بيت المال بالحضرة مائة ألف وسبعون ألف دينار. وكتب إلى العُمَّال في طريقه بإزاحة علته فيما يلتمسه وحمل إلى كل واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صِلةً لهما وخرجا مع
ص: 31
مونس ومعهما أبو عُمر. وتمّ الفداء في هذه السنة على يد مونس.
وفيها أُطلق أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته من الحبس في دار السلطان وخُلع عليهم خلعة الرضا.
وفيها مات العباس بن عمرو الغنوي وكان متقلّداً أعمال الحرب والمعاون بديار مضر فقلد مكانه وصيف البكتمري. فلم يضبط العمل فقلد مكانه جني الصفواني فضبطَهُ أحسن ضبط.
وفيها قُبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات وكانت مدة وزارته هذه الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب الظاهر في صرف ابن الفرات عن وزارته هذه الثانية أنه أخر إطلاق أرزاق الفرسان الذين مع القوّاد واحتج بضيق الأموال لأجل ما احتيج إليه من صرفها إلى محاربة ابن أبي الساج وأيضاً لأجل نقصان الارتفاع بأخذ يوسف مال الري . فشغب الفرسان فى أول سنة 306 شغباً عظيماً وخرجوا إلى المصلى والتمس ابن الفرات من المقتدر بالله إطلاق مائتي ألف دينار من بيت مال الخاصة ليضيف إليها مائتي ألف دينار يُنفق في الفرسان فغلُظ ذلك على المقتدر وراسله بأنه قد كان ضمن له أن يقوم بسائر النفقات على رسمِهِ كان في وزارته الأولى وبحمل ما ضمن حمله إلى حضرته مفرداً وأنه لم يظنّ أنه يُقدِمُ عليه بطلب مال فاحتج ابن الفرات بما ذكرته فلم يسمع حُجَّته وتنكر له .
وكان عبد الله بن جُبَير لما أقام في وزارة علي بن عيسى بواسط وقد عرف مقدار ارتفاع أعمالها وما يحصل لحامد بن العباس من الفضل على الضمان شرح ذلك لابن الفرات وبين له وجوهه لما عاد إلى بغداد وعند عوده إلى مجلس الأصل في ديوا السواد. فعظم ذلك في نفس ابن الفرات فلما أتى على ذلك مدة استأذن ابن جُبير ابنَ الفرات في أن يُكاتب حامداً في بعض ما كان أنهاه إليه من ضمان حامد فأذن له فيه إذناً ضعيفاً. فكتب من مجلسه (وهو مجلس الأصل في ديوان الخراج) إلى حامد وأجاب حامد وتردّدت بينهما مُكاتبات في هذا المعنى. وتبع ذلك كتب بشر بن علي (وهو خليفة حامد) يعتب على ابن جُبير لما كان يتكلم به في مجلسه فاستوحش فاستوحش حامد من ذلك وتخوّف أن يكون ما يظهره ابن جبير عن مواطأة الوزير ابن الفرات ولشيء قد عرفه من نيته فأنفذ من يسفر له في الوزارة ويُخاطب له نصراً الحاجب . فسعى له في ذلك وعرّف نصراً سعة نفس حامد وضمن له تصحيح أموال جليلة من جهة ابن الفرات
ص: 32
وأسبابه وراسل أيضاً السيّدة في هذا الباب .
ووافق ما سعى له فيه وما بذله له له فيه وما بذله له سوء رأي نصر في ابن الفرات وتخوفه منه والإضافة التي عرضت في الوقت حتى طلب ما طلب فتمّ لحامد ما قدّره بما اجتمع من هذه الأحوال. فرُوسل حامد بالخروج إلى الحضرة من واسط وأن يكتب كتاباً بخروجه على أجنحة الطير . فلما وقف عليه المقتدر أنفذ نصراً الحاجب وشفيعاً المقتدري فقبضا على ابن الفرات وعلى ابنه المُحسِن وموسى بن خلف وعيسى بن جُبير وسعيد بن إبراهيم التُستَري وأم ولد له وابنها منه وحملوا إلى دار السلطان فاعتقل أبو الحسن بن الفرات وحده في يد زيدان القهرمانة واعتقل الباقون في يد نصر. ووصل حامد إلى مدينة السلام وأقام ليلته في دار الحجبة من دار السلطان وتحقق به أبو القاسم بن الحواري .
وجلس حامد يتحدّث فبان للقوّاد وجميع خواص المقتدر حدته وقلة خبرته بأمر الوزارة وحُدّث المقتدر بذلك فاستدعى أبا القاسم ابن الحواري وعاتبه على مشورته به فوصفه ابن الحواري باليسار العظيم وباستخراج الأموال وهيبته عند العُمّال ونُبل النفس وكثرة الغلمان. وكان مع حامد لما قدم أربعمائة غلام يحملون السلاح فيهم عُدَّة يجرون مجرى وجوه القواد وأكابر أصحاب السلطان. وأشار ابن الحواري على المقتدر في عرض كلامه بإطلاق علي بن عيسى وتقليده الدواوين بأسرها ليخلف حامداً عليها فامتنع المقتدر من ذلك إلا بعد أن يلتمسه حامد منه فأحال ابن الحواري على حامد وقال له : التمس ذلك من المقتدر إذا وصلت إلى حضرته وعظم عليه أمر الأعمال والدواوين وحوائج الحاشية وخوفه من سوء أدبهم . وصوّر لحامد أنه إن لم يفعل ذلك فُعل مُراغَمَةٌ له وحلف أنه ناصِحُ له فلما وصل حامد إلى المقتدر بالله وتقلد وزارته قبل الأرض بين يديه وبعقب ذلك سأله إطلاق علي بن عيسى والإذن له في استخلافه على الدواوين والأعمال فقال له المقتدر بالله ما أحسب علي بن عيسى يجيب إلى ذلك ولا يرضى أن يكون تابعاً بعد أن كان متبوعاً رئيساً. فقال حامد بحضرة الناس : لِمَ لا يستجيب إلى ذلك؟ وإنما مثل الكاتب مثل الخياط يخيط ثوباً قيمته ألف دينار ويخيط ثوباً بعشرة دراهم. فضحك الناس منه .
ولما خلع على حامد خلع الوزارة صار إلى دار الوزارة بالمخرّم فنزلها وجلس فيها للتهنئة . ولم يقرّر شيئاً من الدواوين فتركها مختومة ذلك اليوم وتحقق به أبو علي ابن مقلة واختص به واستحضر حامد أبا عبد الله زنجي الكاتب فألزمه داره ورد إليه مكاتبة العمال عنه على رسمه مع ابن الفرات وتحقق بجميع الأمور ابن الحواري وصار هو
السفير بين حامد وبين المقتدر بالله وكتب عن المقتدر إلى جميع أصحاب الأطراف وعمّال المعاون بخبر تقليده حامداً الوزارة أنشأ ذلك أبو الحسن محمد بن
ص: 33
جعفر بن ثوابة. ثم قرر حامد وعلي بن عيسى أمر الدواوين على اتفاق منهما جميعاً ثم ابتدأ بعد ذلك يغير ما رأى تغييره.
وكان علي بن عيسى في أول أيام وزارة حامد بن العباس يحضر دار حامد في كل يوم دفعتين مدة شهرين ثم صار يحضر في كلّ أسبوع دفعة واحدة. ثم سقطت منزلة حامد عند المقتدر بالله أوّل سنة 307 وتبيّن هو وخواصه أنه لا فائدة في الاعتماد عليه في شيء من الأمور. فتفرد حينئذ أبو الحسن علي بن عيسى بتدبير سائر أمور المملكة وأبطل حامداً فصار لا يأمر في شيء بتة حتى قيل فيه:
هذا وزیر بلا سواد*** وذا سواد بلا وزیر
فلما رأى حامد بن العبّاس نفسه لا يأمر ولا ينهى ولا يزيد على لبس السواد والركوب في أيام المواكب إلى دار السلطان فإذا حضر لم يُدخِله المقتدر في شيء من التدبير وكان الخطاب كله مع علي بن عيسى شرع في تضمن أعمال الخراج والضياع والخاصة والعامة المستحدَثَة والعبّاسية والفراتية بالسواد والأهواز وأصبهان وتردّدت بينه وبين علي بن عيسى في ذلك بحضرة المقتدر مناظرات إلى أن تضمن هذه الأعمال.
فضمّن حامد أبا علي أحمد بن محمد بن رُستَم أصبهان بزيادة مائة ألف دينار في كل سنة على ما كان يرتفع به على يده ويد ابن أبي البغل ويد أحمد بن سياه ولما زال ضمان حامد عقد علي بن عيسى على أبي علي بن رستم أصبهان بهذه الزيادة ثم شرح أبو الحسين بن أبي البغل عظيم ما يرتكب أبو علي بن رستم من الظلم لأهل أصبهان فبحث عنه علي بن عيسى حتى تحققه فاستشار ابن أبي البغل فأشار بعقد الضمان على صاحبين له كانا يتوليان له بأصبهان مدة تقلده إياها وهما أبو مسلم محمد بن بحر وأبو الحسين أحمد بن سعد فعقد ذلك عليهما بثمانين ألف دينار زيادة وحط من جملة المائة الألف عشرين ألفاً ليكون في ذلك تزفيه للرعية وسلّم إليهما ابن رستم .
ولما تبين حامد اتضاع حاله عند المقتدر ورأى أنه لا يأمر ولا ينهى في شيء من أمر المملكة استأذن في العود إلى واسط ليدبر أمر ضمانِهِ الأول فأذن له المقتدر في ذلك وأقام بواسط وله اسم الوزارة فقط .
ركب حامد بن العبّاس وعلي بن عيسى ثالث يوم تقلد حامد الوزارة إلى المقتدر ووصل الناس ودخلا إليه والتمس حامد الإذن لِرجُل من الجند وذكر أنه وجده قبل تقلّده الوزارة وأقرّ له بأنه كان رسول ابن الفرات إلى يوسف بن أبي الساج في العصيان فأحضره كتاباً منسوباً إلى ابن أبي الساج من ابن الفرات. فغلظ ذلك على المقتدر واغتاظ على ابن الفرات وأقبل على أبي عُمر القاضي وقال له ما عندك في هذا الفعل
ص: 34
من ابن الفرات؟ قال له: يا أمير المؤمنين لئن صحَ أنه أقدم على هذا الفعل لقد سعى في إفساد أمر المملكة . ثم أقبل بعده على أبي جعفر بن البهلول القاضي فقال له : ما عندك في هذا ؟ قال له عندي : أن الله عزّ وجلّ قد أمر بالتثبت ونهى عن قبول قول الفاسق . ثم ناظر ابن البهلول الرجل مُناظرة أدت إلى أنه كذب فأقرّ الرجل بالكذب فيما ادعاه. فسلّم الرجل إلى صاحب الشرطة وأمر بضربه مائة سوط فضُرب وحُبس في المطبق ثم نفي إلى مصر . ثمّ إن حامداً وعلي بن عيسى أحضرا أبا علي الحسين بن أحمد المادرائي مناظرة ابن الفرات في دار السلطان فكاشف الحسين بن أحمد المادرائي بن الفرات بأنه حمل إليه في وزارته الأولى أربعمائة ألف دينار من مال المرافق بأجناد الشام وإن أبا العباس ابن بسطام وأبا القاسم ابنه بعده حملا إليه ثمانمائة ألف دينار من مال الاستثناء والمرافق يكور مصر حساباً في كل سنة مائتي ألف دينار. وحضر المناظرة القضاةُ والكُتابُ وجلس المقتدر بحيث يسمع ما يجري ولا يراه أحد واحتج ابن الفرات بأن قال: إن هذا العامل قد تولّى أعمال مصر والشام في أيام وزارة علي بن عيسى وقد اعترف بأن هذه أموال واجب استخراجها وادعى أنه حمل بعضها إلي حيث كان متقلداً أعمال أجناد الشام وإن ابني بسطام حملا إلي ما ذكره. وقد ولي علي بن عيسى الوزارة مدة أربع سنين وليس يخلو هذا المال من أن يكون حمل إلى علي بن عيسى فهو واجب عليه أو لم يحمل فهو واجب على هذا العامل في نفسِهِ. ثم قد اعترف أنه قد جبى جبى في أيام وزارتي الأولى ما قال وهو أربعمائة ألف دينار وادعى حملها إلى فصار مُقرَّاً على نفسه ومدعياً عليّ وأنا أقول إنه كاذب في ادعائه علي وحكم الله تعالى ورسوله والفقهاء معروفٌ في أمثاله. فأسمعه حامد ما يكره وشتَمهُ شتماً قبيحاً فقال له ابن الفرات : أنتَ على بساط السلطان وفي دار المملكة وليس هذا الموضع مما تعرفه من ببدر تقسمه ولا هو مثل أكار تشتمه ولا عامل تلاكمه. ثم أقبل على شفيع اللؤلؤي وقال له: يجب أن تكتب عني بما أقوله إلى مولانا أيده الله أن حامداً إنما حمله على الدخول في الوزارة وليس من أهلها إني أوجبت عليه أكثر من ألف ألف دينار من فضل ضمانِهِ أعمال واسط وجددتُ في مطالبته بها فقدّر بدخوله في الوزارة أن يفوز بذلك الفضل وبما يُحصّله مُستأنفاً وقد كان ينبغي له وهو وزير أمير المؤمنين أن يدع ضمان أعمال واسط حتى يتبيّن أمُربح هو أم مخسِرُ فيدبّره أبو الحسن علي بن عيسى فإنه لا يشك أحدٌ في بعد ما بينه وبين حامد في الصناعة والاحتياط. فأما وهو وزير وهو ضامن فهذا أوّل خيانته واقتطاعه. فأمر حامد بن العباس أن ينتف لحيته فلم يمتثل أحد أمره فوتب هو بنفسه إليه وجذب لحيته .
ص: 35
وكان الخطاب قد انتهى أن بذل الحسين بن أحمد المادرائي خطه بخمسمائة ألف دينار إن سُلم إليه ابن الفرات وكان ذلك قبل شتيمة حامد له ومَدّ يده إلى لحيته وكان حامد أحضر أبا علي بن مقلة وواقفَهُ على أن يواجه ابن الفرات بأنه قد استخرج من ودائعه التي كتمها في وزارته خمسمائة ألف دينار فلم يبرز أبو علي صفحته لابن الفرات وراسله حامد في المجلس أن يفي بوعده ويواقفه في وجهه فقال أبو علي : أنا أكتب خطي بذلك فأما أن أواجه ابن الفرات فلا أفعل فغلظ ذلك على حامد وتنكر لابن مُقلة منذ هذا اليوم .
وكان علي بن عيسى لا يزيد على أن يُكلّم ابن الفرات في مواضع الحُجّة بكلام جميل وحامد مشغول بالسفه والشتم وكان ابن الحواري يُري ابن الفرات أنه مُتوسّط بينه وبين حامد وتبيّن في خطابه أنه متحامل على ابن الفرات ولما سمع المقتدر شتم حامد لابن الفرات ووقف على مد يده إلى لحيته أنفذ خادماً أقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبيه . فقال علي بن عيسى وابن الحواري الحامد قد جنيت علينا بما فعلته بابن الفرات. وكان الحسين بن أحمد المادرائي بعد مكاشفته لابن الفرات قال له : إن تأذى إلى المصادرة تحمّلتُ عنك خمسين ألف دينار. فلما خرج من المجلس قال له نصر الحاجب وعلي بن عيسى وابن الحواري : دخلت لتناظر الرجل فلم تبرح حتى بذلت له مرفقاً وصانعته فقال لهم : أدخلتموني إلى رجل قال لي بعضكم لما دخلتُ إليه «انظر لمن تُخاطِب وقال آخر :« انظر بين يديك» وقال آخر: «الله الله في نفسك» فلم أجد شيئاً أقرب إلى الصواب ممّا فعلتُ بعد أن سمعتُ كلامه فمن جميل ما عملهُ ابنُ الفرات أنه لما تقلد بعد هذا الوقت الوزارة وهي وزارته الثالثة قبض على ابن الحسين بن أحمد المادرائي وهو أكبر أولاده فأخذ خطه بخمس وعشرين ألف دينار كانت واجبةً عليه من مال السلطان ولم يطالبه بها واعتقله إلى أن وافى أبوه من الشام. فذكره ابن الفرات ما كان بذله من الخمسين الألف الدينار التي تحمّلها عنه وقال له : قد كنتَ مُخيَّراً أن تفعل وأن لا تفعل وإنما وعدت وعداً وهذه رُقعة بخط ابنك بخمسة وعشرين ألف دينار وهي واجبة عليه حاصلة قبله ولا حجة له ولا لك فيها وقد رددتها عليك مكافأة لك على ما بذلتَ .
وقد كان أنفذ أبو أحمد بن حماد لمُناظرة ابن الفرات بحضرة شفيع اللؤلؤي وغيره فافتح ابن حماد الخطاب بأن قال : إن الوزير والرئيس أدام الله عزّهما يقولان لك : «اصدق نفسك فقد وصل إليك من ضياعك وغلاتك في كل سنة ألف ألف ومائتا ألف دينار ومن وجوه ارتفاقاتك مثلها وهذا مال عظيم فاكتب خطك بألف ألف دينار معجلة تُقدمها إلى أن ينظر في أمرك حتى تسلم نفسك وإلا سلمت إلى مَن يُعاملك بما يُعامل به
ص: 36
مثلك من الخونة الذين دبروا على المملكة فقد صح عند السلطان أنك كاتبت ابن أبي الساج وأمرته بالعصيان» فقال له ابن الفرات قد كان ينبغي أن يشغلك أمرك وما عليك في نفسك عن تحمل الرسائل قد تصرفت لعلي بن عيسى أربع سنين واقتطعت أموالاً فلما نظرتُ في الأمر استترت عني وكتب إلي من تصرّف مكانك باستدراكات عليك وارتفاقات لك كثيرة والكتب بأعيانها في ديوان السلطان محفوظة. فأقبل شفيع على ابن حماد فقال له : لست من رجال ابن الفرات فقم إلى ابنه المحسن فناظره. فقام وأخذ خطّ المحسّن بثلاثمائة ألف دينار.
ثم ناظر موسى بن خلف وسأله عن ودائع ابن الفرات وأمواله فقال له موسى ما له عندي وديعة ولا أعرفُ أخبار ودائعه ولا جرى له على يدي مالٌ ولا وليتُ له عملاً سلطانياً وإنما كنت أنظر في نفقات داره وكان موسى بن خلف شيخاً كبيراً قد أتت عليه نحو تسعين سنة وكان مع ذلك عليلاً به ذربٌ لا فضل له للمكروه فشتمه ابن حماد وكان يتردد بعد ذلك إلى أصحاب ابن الفرات ويُناظرهم فلا يرتفع له شيء وكان علق المحسن بفرد يد من حبل الستارة فلم يصح له من جهته شيء فلما رأى ذلك استعفى منهم فأعفى وأحضر حامد موسى بن خلف فقال له : دُلّ على أموال ابن الفرات فإنك تعرفها ولا تحوج إلى مكروه يقع بك. فقال له: احلفُ بما شئت من الأيمان أني لا أعرفُ شيئاً من ودائعه. فأمر بصفعه فصفع إلى أن سأل علي بن عيسى فيه وأشار إلى الغلمان بالكفّ . ثم عاودَهُ حامد بالمكروه مرَّات حتى أحضره ليلة بين يديه وضربه حتى مات تحت الضرب . فقيل له : إنه قد تلف . فقال : اضربوه فضرب بعد موته سبعة عشر (سوطاً) فلما علم بموته أمر بجز رجله فجر وتعلقت إذنه في زرّ عتبة الباب فانقلعت وحمل إلى منزله ميتاً. واستحسن من فعل موسى بن خلف ووفائه أنه كان يقف على أموال مودَعة لصاحبه عند جماعة فلم يقرّ عليه إلى أن تلف.
وأحضر حامد المحسن وطالبه فذكر المحسّن أنه لا يقدر على أكثر من عشرين ألف دينار فأمر بصفعه فصفع فرأى على رأسه شعراً كثيراً فقال : هذا لا يتألم بالصفع هاتوا من يحلق شعره. فأخرج من بين يديه فحلق شعره ثم أعيد إليه فصفعهُ حتى کاد يتلف وذلك بين أيدي جماعة كثيرة. فشفع إليه علي بن عيسى وسأله أن يقتصر منه على خمسین ألف دينار فحلف أنه لا يقنع منه بدون سبعين ألف دينار فبذل خطه بها وألبسه جُبّة صوف وعذبه ألواناً ثم سلّمه إلى أبي الحسن الثعباني فأدى ستين ألف دينار بعد أن استماحَ الناس وأسعفَهُ عليّ بن عيسى بعشرة آلاف درهم وأقام شهوراً كثيراً يستميح الناس حتى صحح ما بذل خطهُ به وكثُرت الشفاعات فيه فردّه حامد إلى منزله .
وجهد حامد في أن يُسلّم إليه ابن الفرات فقال المقتدر : أنا أسلّمه إليك وأوكَّلُ به
ص: 37
خادماً يحفظ نفسه فقال حامد إذا علم ابن الفرات أنه يُحرس من المكروه نماتَنَ. فقال المقتدر : أنا أسلّمُهُ إلى علي بن عيسى أو إلى شفيع اللؤلؤي فإني أثق بهما. وكان المقتدر يروّي في أمر ابن الفرات فتارة تشره نفسه إلى المال وتارةً يكره أن يتلف في يد حامد فعرفت زيدان القهرمانة هذه الحالة من المقتدر وأعلمتها ابن الفرات فأظهر ابن الفرات أنه رأى أخاه أبا العباس في النوم ووضاه وقال له : أد المال فإن القوم ليس يريدون نفسك وإنما يريدون مالك. وأنه قال : قد أديت إليهم جميع مالي. وإن أخاه أجابه بأن قال له : لم تُؤدِ إليهم المال الفلاني فقلتُ: إن معظم ذلك لورثتك فقال : أده فإنَّا جمعناه من أسلافهم وأذخرناه لمثل هذا اليوم ثم كتب إلى تاجرين بحمل ما عندهما وهو سبعمائة ألف دينار إلى حضرة المقتدر وكتب إلى أبي بكر بن قرابة بشيء آخر وإلى ابن إدريس الحمّال بشيء آخر فأنفذ المقتدر رقاعه إلى حامد وعلي بن عيسى فغلظ ذلك عليهما ويئسا معها من تسلم ابن الفرات؟ وقال علي بن عيسى وابن الحواري الحامد أي شيء عندك فيما فعله ابن الفرات فقال حامد : هذا من إقبال مولانا أمير المؤمنين فقال له علي بن عيسى : هذا لا شك فيه كما قال الوزير أيده الله ولكن ما أشكُ أن ابن الفرات ما فعل هذا حتى توثق بنفسه ولا سمح بهذا المال العظيم عفواً بغير مكيدة وقد كان يجوز أن يقع منه ببعضه إلا لشروعه في تضمن أنفسنا وأحوالنا فقال حامد وابن الحواري : هذا لا شك فيه .
ثم تشاغل حامد وعلي بن عيسى باستحضار من عليه المال وأوصلوا إليهم رقاع ابن الفرات فاعترفوا بصحته سوى ابن قرابة فإنه قال في عشرة آلاف دينار كان أودعه إياها : قد كان أودعني هذا المال ثم ابتاع مني في أول سنة 306 عنبراً ومسكاً كثيراً أهدى أكثره إلى المقتدر بالله واليسير منه لنفسه ومعي توقيعاته بخطه بتواريخ أوقاته واستدعى أن يجمع بينه وبين ابن الفرات فأنفذه حامد إلى دار السلطان وأوصله مفلح إلى ابن الفرات حتى ذكر له ذلك فصدقه وقال له : لا تلمني على ما كتبتُ به فقد كنت أنسيت ما جرى فيه ولعمري لقد كنت جعلت مال الوديعة محسوباً لك في ثمن العطر وكتب ابن الفرات خطه بصحة ما قاله ابن قرابة فسلمت الدنانير لابن الفرات وكان هذا الفعل من ابن قرابة أوكد أسباب تحققه فيما بعد ذلك بابن الفرات .
وقد كان ابن الفرات أودع القاضي أبا عمر مالاً لابنه الحسن بن دولة فلحقت أبا عمر رهبة شديدة من حامد البسطه يده على القضاة والشهود فاعترف أبو عمر القاضي أن لابن الفرات عنده وديعة لما سأله حامد هل عنده وديعة فأمر بإحضاره فأحضره وأداء وبلغ ذلك ابن الفرات فتنكر لأبي عمر فحكى أن أبا بكر بن قرابة قال : لما خلع على ابن الفرات للوزارة الثالثة كنت أول من لقيه في دهليز الحجبة المتصل بباب الخاصة فقال : يا أبا بكر
ص: 38
تقرّب أبو عمر بوديعتي وعرّضني قال : فقلت : الوزير أيده الله صادقٌ فمن أخبره؟ فأوماً إلى زيدان القهرمانة وأن القاضي أبا عمر عرف تنكر الوزير له. ووصل إلى منزله وقت العشاء الآخرة فإذا بأبي عمر وابنه جالسين في مسجد على بابه فأكبر ذلك ونزل إليهما فخلفا عليه أن يدخل إلى منزله ودخلاه بدخوله فقالا :له خبر المجلس عندنا فما الذي ترى؟ فقال لهما : إزالة الاعتذار والاحتجاج وردُّ المال. فاستجابا وكان مبلغ المال ثلاثة آلاف دينار وسألاه التسكين عنهما لئلا يعاجلا فبكر ابن قرابة إلى ابن الفرات فقال له : قد جاءني أبو عمر القاضي وابنه قلقين وذكرا أن المال بحاله فقال : الحمد لله رب العالمين. فلمّا كان في اليوم الثاني من ذلك حمل أبو بكر الثلاثة الآلاف الدينار في برنية كانت ضُمِّنت الوديعة فلما رآها ابن الفرات عجب وأمر بتسلمها .
وعدنا إلى خبر حامد في وزارته. ولما رأى حامد وعلي بن عيسى تمكن ابن الحواري من المقتدر بالله خرج توقيع حامد بخط علي بن عيسى بتقليد ابن الحواري جميع أعمال العطاء في العساكر لسائر نواحي المغرب من حد هيت إلى آخر حدود مصر وأن يقام له من الرزق مثل ما كان يقام لجميع من كان ينظر في ذلك في آخر أيام وزارة ابن الفرات الثانية وأن يقلد ابنه (وكانت سنه في الحال نحو عشر سنين)ويُجرى عليه ما مبلغه في الشهر مائة وخمسون دينار وقلد ابنه هذا بيت مال العطاء بالحضرة بحق الأصل بجاري مائة وثمانين ديناراً في الشهر واستخلف له عليه المعروف بقاطرميز الكاتب. وزاد بعد ذلك اختصاص ابن الحواري وخدمته له في خلواته وكان يشاوره في أموره فقلد أعمالاً أخر وأجرى عليه واستخلف له عليها فكان يصل إليه مال عظيم ولا يباشر شيئاً من الأعمال ولا يدري ما يجري فيها. وصرف نزار عن الشرطة بمدينة السلام وقلد نجح الطولوني واستخلف عليها وأقام في الأرباع فقهاء يعمل أصحابه الشرط في أمر الجناة بما يفتون به في أمرهم فضعفت هيبة الشرطة بذلك واستلان اللصوص والعيارون جانب نجح فكثرت الجراحات والفتن وتفاقم الأمر في اللصوص وكان العيارون يقولون : اخرج ولا تبالي ما دام نجح والي .
كان غرض حامد في الضمانات على النواحي التي ذكرناها تفرُّدُ على ابن عيسى بتدبير المملكة وإبطاله أمر حامد فتضمَّن حامد بهذه النواحي ليكون له بالحضرة أمر ونهي وَلِيوفِّر من هذه الأعمال ما يبطل به السوق التي قامت لعلي بن عيسى عند المقتدر بالكفاية والعفاف. وإنما لم يدخل أعمال فارس في ضمانه لأنها كانت في ضمان أبي القاسم ابن بسطام وكان النعمان يُشير على حامد بترك الدخول في الضمان فإنه زعم أنه تسقط هيبته عند الناس ويصير علي بن عيسى المطالب له بالأموال والمتحكّم عليه وكان
ص: 39
أبو عيسى أخو أبي صخرة قديم الصداقة لحامد وكان يشير عليه بالضمان ليتبين أثره وأن يتضمّن بعبرة سني علي بن عيسى خاصة ليكون ما يُثيره وهو شيء كثير وافر استدراكاً على عليّ بن عيسى فمال حامد إلى هذا الرأي وخاطب علي بن عيسى بحضرة المقتدر وقال له : قد تفرّدت بتدبير الأمور دوني وليس ترى أن تُشاورني في شيء تعمله ولا بدّ من صدق أمير المؤمنين فقد أضعت بالسواد والأهواز وأصبهان أربعمائة ألف دينار في كلّ سنة وأنا أضمن هذه الأعمال أربع سنين بعبرة المحمول والمسبب في سني وزارتك وزيادة أربعمائة ألف دينار في كل سنة . فأجابَهُ علي بن عيسى بأنه لا يستصوب تضمينه هذه الأعمال لأن مذهبه في خبط الرعية وإحداث السنن وضرب الإبسار معروف ومن عمل بهذه السيرة فهو لا محالة يوفر سنة أو أكثر ثم تخرب خراباً لا يتلافى في سنين فيبطل الارتفاع ويسيء الذكر. فتخاصما خصومة طويلة فقال المقتدر : هذا توفير من حامد ولا يجوز تركه فإن ضمنت أنت هذه النواحي بما ضمنَهُ حامد ضمنتك. فقال علي ابن عيسى : أنا كاتب ولست بعامل وحامد أولى بالضمان لا سيّما وقد بذل ما بذل راغباً والأثر في ذلك بأمير المؤمنين لأني قد عمرتُ البلدان لرفقي بالرعية وتقليدي من العُمّال من أزال المُؤن عنهم. وسنة سبع قد تناهت عمارتها قد انقضت منذ مدة فأمر المقتدر بعقد الضمان على حامد وأخذ خطه به فخرجا.
وتقدّم علي بن عيسى إلى أصحاب الدواوين بإخراج العِبَر من دواوينهم بعبر السنين القريبة لأنها أوفر فأخرج عبرة المحمول والمسبب مع مال النفقات الراتبة في نواحي السواد والأهواز لسنة من ثلاث سنين أولاهن سنة ثلاث وأخراهُنّ سنة خمس وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ألف ألف درهم وأخرج عبرة الضياع الخاصة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتية للمحمول والمسبّب ثمانية ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم وأخرج عبرة مال أصبهان مع النفقات الراتبة بقسط سنة واحدة من ثلاث سنين ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم تصير الجميع لسنة واحدة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم ومائة ألف درهم والزيادة التي بذلها حامد وهي عن قيمة أربعمائة ألف دينار خمسة آلاف ألف وثمانمائة ألف درهم مبلغ الجميع ثلاث وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف درهم .
والتمس حامد بن العباس من المقتدر بالله أن يأمر بتسليم جماعة من الكتاب إليه لِيُولّيهم كتابته على ديوان ضمانه واختار عبيد الله بن محمد الكلواذي وأحمد بن محمد ابن زُرَيق وغيرُهما فتقدّم المقتدر بإجابته إلى ما سأله بعد أن عقد علي بن عيسى عليه الضمان باسم صاحبه محمد بن منصور وأخذ خط حامد بتضمنه عنه ما عقده باسمه. واعتمد حامد بن العباس على عبيد الله بن محمد الكلواذي فكان يُنظم الأعمال التي يخرجها كُتاب حامد ويتولّى الموافقة عن حامد في دار السلطان ويرفق في المناظرة
ص: 40
ويستعمل الحجة فقط واعتمد علي بن عيسى على الصقر بن محمد في مناظرة كُتاب حامد فكان حامد إذا حضر لا يزيد على الشتم والسب لعلي بن عيسى وذكره بالقبيح في نفسه وأسلافه واستعمل في ذلك ما فضح به المملكة وشاع في الخاص والعام الخبر به ثم أصلَحَ المقتدر بينهما بحضرته .
وأسرف علي بن عيسى في الإلحاح على حامد في حمل المال واحتاج حامد إلى أن يستأذن في الخروج إلى الأهواز فأذن له وذكر أبو القاسم الكلواذي أنه يضعف عن مقاومة علي بن عيسى عند غيبته فنصب حامد صهرَه أبا الحسين محمد بن أحمد بن بسطام للنيابة عنه في دار السلطان عند المناظرة ولإغرار الكلواذي ليستوفي حجته وظهرت في ذلك الوقت صناعة الكلواذي وكفايته وصحة عمله فكان ذلك من أكبر أسباب نباهته. وجرى خلافٌ كثير بين کتاب حامد وبين كتاب علي بن عيسى يطول ذكرها ورضي حامد بوساطة النعمان فيها وكتب بذلك وتوسط النعمان وقرّر الأمر من سائر أبواب الخلاف على مائة ألف دينار بقسط سنةٍ واحدةٍ وكتب ابن بسطام والكلواذي إلى حامد وهو بالأهواز بصورة ما تقرّرت عليه الحكومة فدبر حينئذ حامد في ذلك تدبير الشيوخ المجرّبين فكتب إلى المقتدر كتاباً وأنفذ مع غلام له فأوصل نصر الكتاب مختوماً إلى المقتدر فوجده قد ذكر فيه أنه لم يدخل في هذا الضمان لاستجلاب فائدة لنفسه ولا للربح على السلطان وإنما أراد أن يبين عن خبرته بالأعمال وحفظ الأموال وقبح آثار علي بن عيسى فيما تولاه قديماً وحديثاً وأنه كان بذل زيادة أربعمائة ألف دينار في كل سنة وأنه لما صار بالأهواز لاحت له زيادة مائتي ألف دينار في دينار في سنة سبع على أربعمائة ألف دينار فوفّر ذلك وكتب كتابه بخطه حجَّةً عليه لينضاف ذلك إلى الزيادة الأولى ويثبت في الدواوين فسر المقتدر بذلك وأمر بتقوية يد حامد وأن يقتصر بعلي بن عيسى على النظر في حوائج القوّاد والحاشية والاحتياط فيما يطلق من الأموال في النفقات فإنه بذلك أبصر من حامد وبإفراد حامد بجباية الأموال والنظر في النواحي. وخاف علي بن عيسى أن تقوى يد حامد فيسلم إليه وأنفق بعقب ذلك إن تحرّكت العامة ثم الخاصة بسبب زيادة السعر وشغبوا شخباً عظيماً متصلاً أشفى به الملك على الزوال وبغداد على الخراب فادعى كُتاب حامد وأسبابه ومن يميل إليه أن علي بن عيسى حمل العامة وأكثر الخاصة على الشغب لأن السعر لم يكن زاد زيادة توجب ما خرجوا إليه وإنما بلغ الخبز الحُوّاري ثمانية أرطال بدرهم.
تجمع الناس وقوم من أماثل العامة فتظلموا من زيادة السعر وضجوا في وجه علي بن عيسى لما ركب ثم نهب العامة دكاكين الجماعة من الدقاقين ببغداد ثم اجتمعوا إلى باب السلطان فضجوا فتقدّم المقتدر إلى ابن الحواري بأن يكتب إلى حامد بأن يبادر إلى
ص: 41
الحضور وينظر في أمر الأسعار فيزيل التربص ببيع الغلات لتنحط الأسعار فنفذ الكتاب بذلك فخرج حامد من الأهواز وأنفذ المقتدر ماهراً الخادم لاستعجاله وخرج أصحاب الدواوين والقوّاد لتلقيه وخرج نصر وابن الحواري فتلقياه وخرج علي بن عيسى فتلقاه وخرج علي بن عيسى ووصل إلى المقتدر بالله فخاطبه بجميل وعرفه إحماده إياه على ما وفّره وأمر بأن يخلع عليه فخلع عليه وحمل على شهري وانصرف إلى منزله.
وتحرك الجند بعد ذلك اليوم في دار السلطان وضجوا لارتفاع السعر وتحركت العامة في المساجد الجامعة ببغداد وكسروا المنابر وقطعوا الصلاة بعد الركعة الأولى واستلبوا الثياب ورجموا بالأجر وكثرت الجراحات واجتمع منهم في المسجد الجامع الذي في دار السلطان عدد كثير على نصر الحاجب فوثبوا عليه ورجموه بالآجُرّ ثم صاروا في ذلك اليوم إلى دار حامد بن العباس فأخرج إليهم غلمانه فرموهم بالآجُرّ والتُشَّاب وقُتل خلق من العامة فحملوا على الجنائز وشنّعوا بهم ووجه حامد جماعة من غلمانه ومعهم ديوداذ بن محمد وهو ابن أخي يوسف بن أبي الساج فدخلوا المسجد الجامع بالجانب الغربي على دوابهم فقتلوا جماعةً وقُتل أيضاً من الجند عدة وبات الناس ليلة السبت على صورة قبيحة من الخوف على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وضعف صاحب الشرطة عن مقاومتهم لكثرة من تجمع من العامة فلما أصبحوا يوم السبت صار من العامة عدد كثير إلى الجسور فأحرقوها وفتحوا السجون ونهبوا دار صاحب الشرطة ودار غيره فأنفذ المقتدر جماعة من الغلمان الحجرية في شذاءاتٍ عدّةٍ لِمُحارَبَة العامة وركب هارون بن غريب الخال في جيش عظيم إلى باب الطاق فأحرق مواضع وتهارب العامَّة من بين يديه إلى المسجد الجامع بباب الطاق ووكّل هارون بباب المسجد وقبض على جميع من وجده فيه ولم يفرق بين المستور والعيار وحملهم إلى مجلس الشرطة فضُرب بعضهم بالسوط وبعضهم بالدرة وقطع أيدي قوم عُرفوا بالإفساد ثم ركب يانس الموفقي يوم الأحد فسكن الناس ونادى فيهم وزالت الفتنة ثم ركب حامد في طيارة يريد دار السلطان فقصده العامة ورجموه بالآجُرّ فأمر المقتدر شفيعاً المقتدري بالركوب لتسكين العامة فركب وسار في الجانب الغربي وفيه كانت الفتنة فسكن الناس ثم قبض على جماعة من العامة فضرب بعضهم بالسوط وقطعت أيدي قوم عرفوا بالرجم وضجت الرجالة المصافية في دار السلطان من زيادة السعر فتقدّم المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت التي لحامد وللسيدة والأمراء أولاد الخليفة والوجوه من أهل الدولة وبيع الحنطة بنقصان خمسة دنانير في الكرّ وبيع الشعير بحسب ذلك وبمطالبة التجار والباعة أن يبيعوا بمثل هذا السعر فركب هارون بن غريب ومعه إبراهيم بن بطحا المحتسب فسُعر الكرّ المعدّل بخمسين ديناراً وتقدم إلى الدقاقين بذلك فرضي العامة وسكنوا وانحلّ السعر.
ص: 42
وخرج توقيع المقتدر إلى حامد بن العباس بفسخه عنه الضمان لأجل الفتنة وضجيج العامة من زيادة السعر وتوقيع إلى علي بن عيسى بأن يدبر هو الأعمال بالسواد والأهواز وأصبهان وتقليدها العُمَّال من قبله وأن يكتب عنه كتاباً إلى العامة يقرأ في الشوارع والأسواق ثم على المنابر بأنه قد زال ضمان حامد بن العباس وحظر على جميع الوجوه والقوّاد والغلمان أن يتضمنوا بشيء من الأعمال وكتب حامد إلى عماله بالانصراف من الأعمال وتسليمها إلى عمال علي بن عيسى وانخزل حامد بن العباس لذلك.
وفيها ورد الخبر من مصر بحركة الفاطمي إليها فأخرج مونس الخادم إليها .
وفيها خلع على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وقُلد طريق خراسان والدينور وخُلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا.
وفيها ورد رسول أخي صعلوك بالمال والهدايا فخُلع عليه.
وفيها وردت الكُتُب وقُرئت على المنابر بهزيمة المغربي واستباحة عسكره وفيها لقب مونس المُظفّر وأنشئت الكُتُب به عن المقتدر بالله إلى أمراء النواحي وعُقد له على مصر والشام.
وفيها دخل رسول صاحب خراسان برأس ليلى بن النعمان الديلمي الذي خرج بطبرستان .
وفيها اشتهر أمر الحلاج واسمه الحسين بن منصور حتى قتل وأُحرق .
انتهى إلى حامد بن العباس في أيام وزارته أنه قد موّه على جماعة من الحشم والحجاب وعلى غلمان نصر الحاجب وأسبابه وأنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه فيحضرونه ما يشتهيه وأنه يعمل ما أحبّ من معجزات الأنبياء وادّعى جماعة أن نصراً مال إليه وسعى قوم بالسّمري وببعض الكتاب وبرجل هاشمي أنه نبي الحلاج وأن الحلاج إله عزّ الله وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً. فقبض عليهم وناظرهم حامد فاعترفوا بأنهم يدعون إليه وأنه قد صح عندهم أنه إله يُحيي الموتى وكاشفوا الحلاج بذلك فجحده وكذبهم وقال : أعوذ بالله أن ادعي الربوبية والنبوّة وإنما أنا رجل أعبد الله عزّ ذكره وأكثرُ الصوم والصلاةَ وفعل الخير ولا غير. واستحضر حامد بن العباس أبا
ص: 43
عُمر القاضي وأبا جعفر بن البهلول القاضي وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم في أمره فذكروا أنهم لا يفتون في قتله بشيء إلى أن يصح عندهم ما يوجب عليه القتل وأنه لا يجوز قبول قول من ادعى عليه ما ادعاه وإن واجهة إلا بدليل وإقرار منه فكان أوّل من كشف أمره رجل من البصرة تنصح فيه وذكر أنه يعرف أصحابه وأنهم متفرقون في البلدان يدعون إليه وأنه كان ممن استجاب له ثم تبين مخرقته ففارقَهُ وخرج عن جملته وتقرب إلى الله بكشف أمره واجتمع معه على هذه الحال أبو على هارون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب الأنباري وقد كان عمل كتاباً ذكر فيه مخاريق الحلاج وجيله فيه وهو موجود في أيدي جماعة والحلاج حينئذٍ مُقيم في دار السلطان مُوسع عليه مأذون لمن يدخُل إليه وهو عند نصر الحاجب وللحلاج اسمان أحدهما الحسين ابن منصور والآخر محمد بن أحمد الفارسي وكان استهوى نصراً وجاز عليه تمويهه وانتشر له ذكر عظيم في الحاشية .
فبعث به المقتدر إلى علي بن عيسى لِيُناظره فأحضر مجلسه وخاطبه خطاباً فيه غلظة فحُكي أنه تقدّم إليه وقال له فيما بينه وبينه : قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئاً وإلا قلبتُ عليك الأرض. وكلاماً في هذا المعنى فتهيب علي بن عيسى مناظرته واستعفى منه ونقل حينئذ إلى حامد بن العباس. وكانت بنت السمري صاحب الحلاج قد أدخلت إلى الحلاج وأقامت عنده في دار السلطان مدة وبعث بها إلى حامد ليسألها عما وقفت عليه من أخباره وشاهدته من أحواله فذكر أبو القاسم زنجي أحواله فذكر أبو القاسم زنجي أنه حضر دخول هذه المرأة إلى حامد بن العباس وأنه حضر ذلك المجلس أبو علي أحمد بن نصر البازيار من قبل أبي القاسم بن الحواري ليسمع ما تحكيه فسألها حامد عما تعرفه من أمر الحلاج فذكرت أن أباها السمري حملها إليها وأنها لما دخلت إليه وهب لها أشياء كثيرة عددت أصنافها. قال أبو القاسم : وهذه المرأة كانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فكان مما أخبرت عنه أنه قال لها : قد زوجتك من سليمان ابنى وهو أعزُّ أولادي عليَّ وهو مقيم بنيسابور وليس يحلو أن يقع بين المرأة والرجل كلام أو تنكر منه حالاً من الأحوال وأنت تحصلين عنده وقد وصيته بك فإن جرى منه شيء تنكرينه فصومي يومك واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد والملح الجريش واجعلي فطرك عليهما واستقبليني بوجهك واذكري لي منه ما تنكرينه منه فإني أسمع وأرى قالت : وأصبحت يوماً وأنا أنزل من السطح إلى الدار ومعي ابنته وكان قد نزل هو فلما صرنا على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت لي ابنته : اسجدي .له فقلت لها : أو يسجد أحد لغير الله (قالت) فسمع كلامي لها فقال : نعم إله في السماء وإله في الأرض (قالت) ودعاني إليه وأدخل يده في كمه وأخرجها مملوءة مسكاً ودفعه إليَّ ثم أعادها ثانية إلى
ص: 44
كمه وأخرجها مملوءة مسكاً ودفعه إليَّ وفعل ذلك مرات ثم قال : واجعلي هذا في طيبك فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب (قالت) ثم دعاني وهو جالس في بيتٍ على بواري فقال: ارفعي جانب البارية من ذلك الموضع وخذي مما تحته ما تريدين وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت تحتها الدنانير مفروشة ملء البيت فبهرني ما رأيت من ذلك فأقيمت المرأة وحصلت في دار حامد إلى أن قتل الحلاج .
وجدَّ حامد في طلب أصحاب الحلاج وأذكى العيون عليهم وحصل في يده منهم حيدرة والسمري ومحمد بن علي القنائي والمعروف بأبي المغيث الهاشمي واستتر ابن جماد وكبس منزله فأخذت منه دفاتر كثيرة وكذلك من منزل محمد بن علي القنائي فكانت مكتوبة في ورق صيني وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطنة بالديباج والحرير مجلدة بالأدم الجيد . ووجد في أسماء أصحابه ابن بشر وشاكر فسأل حامد من حصل في يده من أصحاب الحلاج عنهما فذكروا أنهما داعيان له بخراسان قال أبو القاسم بن زنجي : فكتبنا في حملهما إلى الحضرة أكثر من عشرين كتاباً فلم يرد جواب أكثرها وقيل فيما أجيب عنه منها أنهما يطلبان ومتى حصلا حملا ولم يحملا إلى هذه الغاية. وكان في الكتب الموجودة له عجائب من مكاتبات أصحابه النافذين إلى النواحي وبوصيته إياهم بما يدعون إليه الناس وبما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى وأن يخاطبوا كل قوم على حسب حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلا من كتبها ومن كتبت إليه .
وحكى أبو القاسم بن زنجي قال : كنتُ أنا وأبي يوماً بين يدي حامد إذ نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامة وجلسنا في رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبي ولم يزل يحادثه فهو في ذلك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكلاً بالحلاج وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه فنهض مسرعاً ونحن لا ندري ما السبب فغاب عنا قليلاً ثم عاد وهو متغير اللون جداً فأنكر أبي ما رأى منه فسأله عن خبره فقال : دعاني الغلام الموكل بالحلاج فخرجت إليه فاعلمني أنه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدّم إليه في كل يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتى ليس فيه موضع فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعاً وإن العلام ارتعد وانتفض وحم فبينما نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن في الدخول إليه فدخلنا وجرى حديث الغلام فدعا به وسأله عن خبره فإذا هو محموم وقص عليه قصته فكذبه وشتمه وقال فزعتَ من نيرنج الحلاج ( وكلاماً في هذا المعنى) لعنك
ص: 45
الله اعزب عني . فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمّى مدة طويلة ثم وجد حامد كتاباً من كتبه فيه : إن الإنسان إذا أراد الحج فلم يمكنه أفرد في بيته بناء مربعاً لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يتطرّقه أحدٌ فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وقضى من المناسك ما يقضي بمكة ثم يجمع ثلاثين يتيماً ويعمل لهم أسرى ما يمكنه من الطعام ويحضرهم ذلك البيت ويقدم لهم ذلك الطعام ويتولى خدمتهم بنفسه ثم يغسل أيديهم ويكسو كلّ واحد منهم قميصاً ويدفع إلى كل واحد سبعة دراهم أو ثلاثة دراهم( الشك من أبي القاسم بن زنجي) وإن ذلك يقوم له مقام الحج (قال) وكان أبي يقرأ هذا الكتاب فلما استوفى هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلاج وقال له : من أين لك هذا، قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصري. قال له ابن عمر كذبت يا حلال الدم قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة وليس فيه شيء مما ذكرت فكلما قال له أبو عمر يا حلال الدم قال له حامد اكتب ما قلت فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج فلم يدعه حامد يتشاغل وألح عليه إلحاحاً لم يمكنه معه المخالفة فكتب بإحلال دمه وكتب بعده من حضر المجلس فلما تبين الحلاج الصورة قال : ظهري حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا عليَّ بما يبيحه اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ولي كتب الوراقين موجودة في السنة فالله الله في دمي ولم يزل ( يردد) هذا القول والقومُ يكتبون خطوطهم حتى كمل الكتاب بخطوط من حضر فأنفذه حامد إلى المقتدر بالله .
فخرج الجواب : إذا كان فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضره مجلس الشرطة واضربه ألف سوط فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه ثم اضرب رقبته وانصب رأسه واحرق جثته. فأحضر حامد صاحب الشرطة وأقرأه التوقيع وتقدم إليه بتسلم الحلاج وإمضاء الأمر فيه فامتنع من ذلك وذكر أنه يتخوّف أن ينتزع من يده فوقع الاتفاق على أن يحضر بعد العتمة ومعه جماعة من غلمانه وقوم على بغال يجرون مجرَى الساسة ليجعل على بغل منها ويدخل في غمار القوم وأوصاه بأن لا يسمع کلامه وقال له لو قال لك : أجري لك دجلة والفرات ذهباً وفضةً فلا ترفع عنه الضرب حتى تقتله كما .أُمِرْتَ . ففعل محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ذلك وحمله تلك الليلة على الصورة التي ذكرت وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إلى الجسر وبات محمد بن عبد الصمد ورجاله حول المجلس.
فلما أصبح يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم. وأمر الجلاد بضربه ألف سوط فضرب وما تأوّه ولا استعفى(قال) فلما بلغ ستمائة سوط قال لمحمد بن عبد الصمد : ادعُ بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية. فقال : قد قيل لي
ص: 46
إنك ستقول هذا وما هو أكثر منه وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل. فسكت حتى ضرب ألف سوط ثم قطعت يده ثم رجله ثم ضرب عنقه وأحرقت جُنّته ونُصب رأسه على الجسر ثم حمل رأسه إلى خراسان .
وادعى أصحابه أن المضروب كان عدواً للحلاج ألقى شبهه عليه وادعى بعضهم أنه رآه وخاطبه في هذا المعنى بجهالات لا يكتب مثلها وأحضر الوراقون وأحلفوا أن لا يبيعوا شيئاً من كتب الحلاج ولا يشتروها .
وفيها أطلق يوسف بن أبي الساج بمسألة مونس المظفر من الحبس وشفاعته ثم حُمِلَ إليه مال وكسوة ثم وصل إلى المقتدر بالله وكان ركب في واد فقبل البساط ثم يدَ المقتدر وخلع عليه الرضا وحمل على فرس بمركب ذهب. ثم جلس المقتدر في دار العامة بعد أيام وعقد له على أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بالري وقزوين وأبهر وزنجان و آذربیجان وركب معه مونس المظفر ونصر الحاجب وشفيع ومُفلح وجميع من بالحضرة من القوّاد والغلمان وكانت الدار قد شحنت له بالرجال والسلاح واحتشد له. واستكتب يوسف بن أبي الساج محمد بن خلف النيرماني وقوطع عن الأعمال التي تقلدها على خمسمائة ألف دينار محمولة في كل سنة على أن عليه القيام بمال الجيش الذي في هذه الأعمال والنفقات الراتبة وخلع على وصيف البكتمري وعلى طاهر ويعقوب ابني محمد بن عمرو بن الليث .
وفيها قلد نازوك الشرطة ببغداد وخلع عليه وعزل عنها محمد بن عبد الصمد وخلع على وصيف البكتمري خلعة أخرى وضمّ إلى يوسف بن أبي الساج وشخص يوسف بن أبي الساج إلى عمله على طريق الموصل فلما وصل إلى أردبيل وجد غلامه سبك قد مات.
وفيها وصل إلى بغداد هدية أبي زنبور الحسين بن أحمد المادرائي من مصر وفيها بغلة معها فلو وكان يتبعها ويرتضع منها غلام طويل اللسان يلحق طرف أرنبته .
وفيها قبض على أم موسى القهرمانة وعلى أختها وأخيها .
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أن أم موسى زوّجت بنت أخيها أبي بكر أحمد بن العباس من أبي العباس بن محمد بن إسحاق بن المتوكل على الله وكان من أولاد الخلفاء النجباء وكانت له نعمة حسنة ظاهرة وكان حسن المروءة واللبسة والدواب والمراكب وكان صديقاً لعلي بن عيسى حتى قيل إنه كان يُرشّحه للخلافة. فلما وقعت المصاهرة
ص: 47
بينه وبين أم موسى أسرفت فيما نثرت من المال وفيما أنفقت على دعوات دعت فيها الصغير والكبير من أهل المملكة في بضعة عشر يوماً. فتمكن أعداؤها من السعي عليها ومكنوا فى نفس المقتدر بالله ووالدته السيّدة أنها إنما صاهرت ابن المتوكل ليزيلوا المقتدر بالله عن الخلافة وينصبوا فيها ابن المتوكل فتمّت النكبة عليها وسُلّمت إلى ثمل القهرمانة مع أختها وأخيها وكانت ثمل موصوفة بالشر لأنها كانت قهرمانة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وكان أحمد يسلم إليها من يسخط عليه من جواريه وخدمه فاشتهرت بالقسوة والسرف في العقوبات واستخرجت ثمل منها ومن أختها وأخيها أموالاً عظيمةً وجواهر نفيسة ومن الثياب والكسوة والفرش والطيب ما يعظم مقداره حتى نصب علي ابن عيسى لذلك ديواناً وسماه ديوان المقبوضات عن أم موسى وأسبابها أجرى فيها أمر ضياعهم وأملاكهم وقلده أبا شجاع المعروف بابن أخت أبي أيوب أبي الوزير وقلد الزمام عليه أبا عبد الله اليوسفى الكاتب ويقال إنه حصل من جهتهم نحو ألف ألف دينار ولما قبض على أم موسى صرف علي بن عيسى ابن أبي البغل عن أعماله بفارس وقلدها أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي وصادره ثم لما تقلد ابن الفرات الوزارة الثالثة كتب إلى الكرخي بتجديد مصادرة ابن أبي البغل واعتقاله .
وفيها توفي محمد بن جرير الطبري وله نحو تسعين سنة ودُفن ليلاً لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعت عليه الرفض ثم ادعت عليه الإلحاد.
وفيها دعا المقتدر مونساً المظفر فشرب بين يديه وخلع عليه خلع منادمة وكانت مثقلة بالذهب .
وفيها صرف حامد بن العباس عن الوزارة وعلي بن عيسى عن الدواوين
كانت لذلك أسباب كثيرة منها أن حامداً شرع في تضمن علي بن عيسى لما فسخ ضمانه لتلك الأعمال والبلدان التي ذكرناها وبذل أن يقوم بالأمور ويدبر الأعمال وكان الذي حمله على ذلك ما كان بلغه من عزم المتقدر بالله على تقليد ابن الفرات لما كثر ضجيج الحاشية من علي بن عيسى لتأخيره عنهم أرزاقهم وأرزاق الحرم والولد واقتصر بالخدم والحاشية والفرسان على البعض من استحقاقاتهم وحط من أرزاق العمال شهرين في كلّ سنة ومن أرزاق المنفقين وأصحاب الأخبار والبرد والقضاة أربعة أشهر فزادت عداوة الناس له وخشي حامد بن العباس من ابن الفرات لما سلف منه إليه ولما عامل به ابنه المحسن وسائر كتابه وأسبابه فأمره المقتدر أن يكتب رقعة بخطه بما يضمنه ويبذله
ص: 48
وبتسمية من يقلده الدواوين ففعل حامد ذلك وعرض المقتدر بالله رقعته على ابن الفرات وهو في حبسه وشرح له أمره.
فقال ابن الفرات: لو اجتمع مع حامد بن العباس الحسن بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وسائر من شهر بالكفاية لما كان موضعاً لتدبير المملكة ولا لضبط أعمال الدواوين وأنه إن قلد ذلك انخرقت الهيبة وزالت الحشمة وإن علي بن عيسى على تصرُّف أحواله أقوم منه وأعرف بالأعمال والتدبير ثم إنه قال : أنا أتضمن خمسة أضعاف ما ضمنَهُ حامد إن أعاده ومكنه مما يُريد فوعده المقتدر بذلك .
وكان حامد مقيماً ببغداد لا يدخُل نفسه في شيء من الأمور ولا يزيد على أن يحضر في أيام المواكب وينصرف وضجر حامد من مقامه ببغداد لقبح حاله في الذل ولأنه افتضح بما كان يُعامِلُه به علي بن عيسى في توقيعاته وذلك أنه كان يوقع إلى كُتاب الوزير حامد وإلى كتاب الدواوين إذا ذكره بما لا صبر له عليه وكان يُوقع ليُطالب جهبذ الوزير أسعده الله بحمل وظيفة واسط وليكتب إلى الوزير أسعده الله بأن يُبادر بحمل شعير الكُراع وإذا تظلم إليه مُتظلم من أعمال حامد وعُمَّالِهِ وقع على ظهر رقعه «هذا مما ينظر فيه الوزير أسعده الله» وذكر علي بن عيسى أنه يحتج في ذلك برسم قديم كان للوزراء فاستأذن حامد المقتدر في الخروج إلى واسط والمقام بها لينظر في أمور ضمانه بنواحيها فأذن له وخرج.
ومنها ما جرى من أم موسى وما ذكرناه من خبرها وما تحدث به الناس من أمر ابن المتوكل وأن ابن الحواري دبّر ذلك لميل أم موسى إليه وكشفها له أسرار الخلافة.
وكان بعض أسباب ابن الفرات طرح رُقعة في دار المقتدر فيها بيت شعر :
يُهنيك يُهنيك هذا*** يا ديك دار الخليفة
ولم يذكر في الرقعة غير هذا البيت وهي أبيات فاحشة ليس فيها أصلح من هذا البيت وتعمد أن جُعِلت الرقعة في ممر الخليفة إلى دار حرمة له فقرأ المقتدر الرقعة وقبحت عنده صورة ابن الحواري جداً واعتقد فيه ذلك اليوم استحلال دمه وسفكه ونكبة أم موسى ويظن أن هذا البيت كان من أوكد أسباب نكبتها ونكبته.
ومنها أن المفلح الأسود كان شديد التحقق بالمقتدر مثابراً على خدمته ثم عظم أمره حتى أقطع الإقطاعات وملك الضياع الجليلة ووقعت بينه وبين حامد مماحكة وذكر مفلح حامداً بالقبيح وقال حامد: لقد هممت أن أشتري مائة خادم أسود وأسمي كل واحد منهم مفلحاً وأهبهم لغلماني. فحقد مفلح ذلك عليه ووقف على ذلك المحْسنُ وعلى ما يشبه ذلك فوجّه إلى كاتب مفلح واجتمع معه وضمن له الأعمال والأموال والولايات حتى عقد حالا بينه وبين مفلح .
ص: 49
وكتب المحسن رقعة إلى المقتدر بالله على يد مفلح يذكر فيها أنه إن سُلِم مِنه حامد وعلي بن عيسى ونصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وابن الحواري وأم موسى وأخوها والمادرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار وكان أبو الحسن بن الفرات لا يقصر وهو في الحبس في التضريب على هؤلاء وإطماع المقتدر فيهم .
وكان من طريف ما عمله وعجيبه أن راسل المقتدر يوماً على يدي زيدان القهرمانة يلتمس منه قيمة اثني عشر ألف دينار أو هذا المقدار دنانير بعينها لشيء من أمره فتذمم المقتدر معما أخذه من أمواله أن يمنعه فحملها إليه ثم سأله أن يدخل إليه إذا اجتاز بموضعِه ليُلقي إليه شيئاً لا تحتمله المكاتبة ولا المراسلة وكان المقتدر كثيراً ما يدخل إليه ويُشاوره فدخل إليه فلما رآه ابن الفرات قام وأخذ الكيس التي فيه الدنانير ففتحه وفرّغه بين يديه وقال له يا أمير المؤمنين قد عرفتك أن أموالك تنتهب وتضيع وتقضي بها الذمامات ما تقول في رجل واحد يرتزق في كلّ شهر من شهور الأهلة هذا المقدار من مالك وهو اثني عشر ألف دينار؟ فاستعظم المقتدر ذلك واستهوله وقال : ويحك من هذا الرجل؟ قال له : علي بن محمد بن الحواري وهذا سوى ما يصل إليه من مال المنافع لمكانه منك وموضعه من الاختصاص بك وسوى ارتفاع ضياعه وسوى المرافق التي تصل إليه من الأعمال التي يتولاها وسوى وسوى وردّ الدنانير إلى المقتدر بالله وقال : إنما أردتُ أن تُشاهد ما يُصنَع بك وتراه بعينك فليس الخبر كالمُعاينة. فقام المقتدر بالله وقد عظم عنده أمر ما يجري واعتقد لابن الحواري غاية المكروه. فلما اجتمعت هذه الأسباب قوي عزم المقتدر على ردّ الوزارة إلى ابن الفرات فلما كان يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الآخر وقد انحدر علي بن عيسى إلى دار السلطان قبض عليه وحبس عند زيدان القهرمانة في الحجرة التي كان فيها ابن الفرات فأخرج منها ابن الفرات ليقلد الوزارة .
قال أبو محمد علي بن هشام. كنت حاضراً مع أبي مجلس أبي الحسن بن الفرات فسمعته يتحدّث في وزارته الثانية قال : دخل إلي أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري في محبسي من دار المقتدر بالله فطالبني أن أكتب خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار فقلت : ما جرى قدر هذا على يدي للسلطان في طول ولايتي فكيف أصادر على مثله فقال : إني أحلفتُ بالطلاق أن تكتب خطك بذلك . فكتبتُ بثلاثة عشر ألف ألف من غير أن أذكر ما هي أو ضماناً فيها فقال : فاكتب ديناراً لتبرئني من يميني : فلما كتبت ديناراً ضربت عليه وأكلتُ الرقعة وقلتُ : قد برئت عن يمينك ولا سبيل لك إلى غير هذا. فاجتهد جهده فلم أجبه إلى شيء فلما كان من الغد دخل إلى الحبس ومعه أم موسى فطالب بذلك وأسرف في سبي وشتمي ورماني بالزنا فحلفت بالطلاق والعتاق
ص: 50
والأيمان المغلظة أني ما دخلت في شيء من محظور هذا الجنس منذ نيف وثلاثين سنة وسمته أن يحلف بمثل ذلك أن غلامه القائم على رأسه لم يأته في ليلته تلك فأنكرت أم موسی هذه الحال وغطت وجهَها حياء منه فقال لها ابن ثوابة : هذا إنما تبطره الأموال التي وراءه ومثله في ذلك مثل المزين مع كسرى والحجام مع الحجاج بن يوسف فاستأمري السادة في إنزال المكروه به حتى يذعن بأموال( قال أبو الحسن يعني بالسادة المقتدر ووالدته وخالته وخاطف و دستنبويه أم ولد المعتضد لأنهم إذ ذاك يدبرون الأمر معاً لحداثة المقتدر ) . قال ابن الفرات فمضت أم موسى ثم عادت فقالت لابن ثوابة : يقولون لك قد صدقت ويدك مطلقة فيه. وكنت في حجرة ضيقة وحرّ شديد فأمر بكشف البواري حتى صرتُ في الشمس ونحى الحصير من تحتي وأغلقت أبواب البيوت حتى حصلت في الشمس ثم قيدني بقيد ثقيل وألبسني جُبة صوف قد نُقعت في ماء الأكارع وغلني بغل وأقفل باب الحجرة وانصرف فأشرفت على التلف.
فلما مضت نحو أربع ساعات إذا صوت غلمان مُجتازين في الممر الذي فيه الحجرة التي أنا فيها محبوس فقال لي الخدم الموكلون هذا بدر الخادم الحرمي وهو لك صنيعة . فاستغثت به فصحتُ : يا أبا الخير الله الله في لك مكان من السادة ولي عليك حقوق وقد ترى حالي والموت أسهل علي مما أنا فيه فخاطب السادة وذكرهم حُرمتي وخدمتي في تثبيت دولتهم إذ خذلهم الناس وافتتاحي البلدان المنغلقة وإثارتي الأموال المنكسرة فإن كان ذنبي يوجب القتل فالموت أروح فرجع إليهم فخاطبهم ورققهم ولم يبرح حتى حلّ الحديد كله عنّي ثم أذنوا في إدخالي الحمام وأخذ شعري وتغيير لباسي وتسليمي إلى زيدان وترفيهي فجاءني مُبشِّراً بذلك فلم يبرح حتى فعل جميع
ذلك وقال : يقولون لك لن ترى بعدها بؤساً .
وتقلد أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات الوزارة الثالثة في ذلك اليوم وخُلع عليه واستدعى المقتدر بالله المحسن ابنه من منزله بسوق العطش فخلع عليه مع أبيه ولم يوصل المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم أبا القاسم بن الحواري وظهر أولاد ابن الفرات وأسبابُه و استتر بعض أسباب حامد وقبض المحسّن في طريقه على جماعة من أسباب حامد .
وكان أبو علي بن مقلة يتقلّد لعلي بن عيسى زمام السواد طول أيام وزارة حامد فلما تقلّد ابن الفرات هذه الوزارة تجلد ولم يستتر وصار إليه وظهر من إعراض ابن الفرات عنه ما غضّ منه ولم يقبض عليه للمودّة التي بينه وبين ابن الحواري فلما قبض بعد ذلك على ابن الحواري قبض عليه. وانتقل ابن الفرات إلى داره الأولى التي بالمخرم وركب إليه ابن الحواري ليهنئه فأطال عنده وآنسه ابن الفرات وشاوره وخلا به
ص: 51
فتحقق به وأظهر السرور بولايته معما يُبطنُه من الخوف الشديد منه وكان أسباب القاسم بن الحواري قد أشاروا عليه بالاستتار وقالوا له : إن المقتدر بالله لم يأذن لك عند تقليده ابن الفرات مع علمه بالعداوة بينكما إلا لسوء رأيه فيك. فقال ابن الحواري : لو كان كذلك لقبض عليّ قبل تقليد ابن الفرات . فلما كان يوم الاثنين ركب ابن الفرات وركب ابن الحواري إلى دار السلطان فأذن لابن الفرات ولم يؤذن لابن الحواري فاستوحش ابن الحواري. ثم صرف الأمر إلى ابن الفرات وقد كان شرط على ابن الفرات أن يجريه على رسمه في وزارته الثانية فإنه لم يكن يصلُ مع ابن الحواري ظاهراً وإنما كان يصل سرّاً فلما خرج ابن الفرات من عند المقتدر بالله وانفرد دخل إليه ابن الحواري فأقبل عليه وشاوره في جميع أموره وقال قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنتَ عارف بها وأريد أن تعاضدني وتستعمل ما يلزمك بحق المودّة.
فتلقى ابن الحواري قوله بالشكر وإظهار المناصحة وأنشأ ابن الفرات معه حديثاً طويلاً ونهض قبل أن يستتمه ونزل إلى طياره وأنزل معه ابن الحواري وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه ومحمد بن عيسى صهره وعلي بن مأمون الإسكافي كاتبه وعلي بن خلف النيرماني وكان أخوه محمد بن خلف مصاهراً له وأظهر لجماعتهم الإكرام والاختصاص وما زال يضاحكهم إلى أن حصل في داره ثم أسرَّ إلى العباس الفرغاني حاجبه بأن يقبض على ابن الحواري وجميع أسبابه فقبض عليهم واعتقلهم في حجرة الدار واستحضر ابن الفرات في الوقت شفيعاً اللؤلؤي فأنفذه إلى دار ابن الحواري ليحفظها من النهب وضم إليه جماعة من الفرسان والرجالة وأمر بمُعاملته بالجميل في مطعمه ومشربه وأفردت له دار واسعة وفُرّشت بفرش نظيف وأفرده عن كتابه ومن يأنس به .
وراسلُه ابن الفرات في المصادر وتوسط ابن قرابة بينهما وكان ابن قرابة مُتحققاً بابن الفرات وشديد الإنس بابن الحواري فتقررت مصادرته بعد خطاب كثير على سبعمائة ألف دينار في نفسه دون كتابه وأسبابه واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار لينصرف في أداء مال التعجيل وهو مائتان وخمسون ألف دينار فأطلق وأزيل التوكيل عن دار ابن الحواري وأسبابه وسُلّم جميعها إلى أحمد بن نصر .
وأمر ابن الفرات بكبس مواضع فيها أسباب حامد وكُتابه فأثارهم وكان المحسن يُسرف في المكروه الذي يوقعه بمن يحصل في يده منهم حتى أنه أحضر ابن حماد الموصلي وأخذ خطّة بمائتي ألف دينار وسلَّمه إلى مستخرجه فصفعه المستخرج صفعاً عظيماً فلم يرض المحسن ذلك وأخرجه إلى حضرته وصفعه على رأسه حتى خرج الدم من أنفه وفمه ومات. ولم ينكره المقتدر وقد كان أشفق المحسّن من إنكاره وخافه خوفاً شديداً فلما كان بعد أيام أنفذ المقتدر إلى المحسن خلع منادمته وأجرى عليه من الرزق
ص: 52
كلّ شهر ألفي دينار زيادة على رزق الدواوين فضري المحسّن على مكاره الناس وأسرف المقتدر في استصابة أفعاله إلى أن بلغ الأمرُ فيه إلى أن غنّى الجواري بحضرته «أحسن المحسن أحسن» .
وكان استتر أبو الحسين محمد بن أحمد بن بسطام صهر حامد بن العباس فاستخرجه واستخرج منه ستين ألف دينار وأخذ خطّهُ بمائتي ألف دينار بعد مكروه غليظ وغضبه على خادم يعرف بمرج كان مشهوراً بالميل إليه وقبض على جماعة فأخذ خدمهم وغلمانهم الرُوقة وأوقع بهم المكاره .
كان المقتدر قد شرط على ابن الفرات أن لا ينكب حامداً وأن يناظره على ما يجب عليه من فضل الضمان فإذا وجب عليه شيء بقول الكتاب والقضاة أخذ بعضه وقال : قد خدمني ولم يأخذ مني الأزرق سنة واحدة وشرط عليّ أن لا أسلمه لمكروه ولا أدعُ عليه حقاً . فاضطر ابن الفرات إلى إقراره على أعمال واسط وخاطبه بأجل دعاء ثم عمل له الأعمال واستقصى عليه الحجّة وخرّج عليه أموالاً عظيمة وكاتب أصحابه بمطالبته والإلحاح عليه فإن تقاعد بها وُكِّلَ به من يطالبه بالمال الواجب عليه للمصالح والبذور إذ كان ممّا لا سبيل إلى تأخيره« فإن أمير المؤمنين ليس يأذن في تضمينه مستأنفاً» فأظهر صاحب الوزير ابن الفرات هذا الكتاب في مجلسه وبلغ حامداً الخبر في الوقت فأظهر بواسط أن كتاب المقتدر ورد عليه يأمر فيه بالمسير إلى بغداد وخرج من واسط مع جميع كُتابه وحاشيته ورجالته وحمل معه من الفرش والآلات والكسوة جميع ما كان يخدم به بعد أن احتاط في أمواله وأمتعته الفاخرة وأودعها عند ثقاته بواسط وضرب عند خروجه بالبوقات وأجلس غلمانه وحاشيته بأسرهم في الزواريق والسميريات. وبادر بخبره على أيدي الفيوج وعلى أجنحة الطير إلى ابن الفرات وقاد دوابه ودوابَ حاشيته وأصحابه على الشط فوصل خبره إلى ابن الفرات فاستشار ابنه المحسن ومن يختصه فيما يعمل به فأشاروا عليه بأن يبادر إلى المقتدر ويقرأه كتاب حامد ففعل ذلك وقال المقتدر : ما وقفت على ما عمله حامد ولا كتبت بشيء مما ادعاه عليّ . فقال ابن الفرات: فإن كان كذلك فالصواب أن ينفذ نازوك في جمع من الغلمان الحجرية والفرسان والرجالة بعضهم في الماء وبعضهم في الظهر حتى يقبض على حامد وأسبابه . فأذن له في ذلك فانصرف ابن الفرات إلى داره وأنفذ نازوك وتقدم إليه بالمبادرة حتى يقبض على حامد وعلى أسبابه حتى لا يفوته أحدٌ منهم. فسار نازوك وأخطأ بأن قبض على أوّل من لقيه من أسباب حامد وعلى دوابه وغلمانه وبلغ حامداً خبره فاستتر من الطريق ونهب أسباب نازوك بعض ما كان مع القوم من الأمتعة واستظهر نازوك على
ص: 53
الكتب والحسابات والأعمال وصار بالجميع إلى الحضرة.
فأمر المقتدر بتسليم جميع الكتب والأعمال إلى ابن الفرات وفرق الأمتعة في خزائنه والدواب في اصطبلاته ووجد ابن الفرات في الكُتُب المحمولة إليه عجائب من كُتب مَن تقرّب إليهم فقبض عليهم وكان حين ورد كتاب حامد بالمسير من واسط استظهر بالتوكيل بجهبذه إبراهيم الذي كان بالحضرة فلما تم قبضُ نازوك على أسباب حامد أمر ابن الفرات هشاماً بالرفق بهذا الجهبذ مرّة وبالغلظة أخرى وسئل عن ودائع . حامد ففعل هشام به ذلك فأقر عفواً أن لحامد عنده مائة ألف دينار عيناً ثم حلف على أنه ليس عنده لحامد ولا لأحدٍ من أسبابه وديعة غيرها فآمنه ابن الفرات على نفسه وأن لا يسلَّمَهُ إلى المحسِّن ولم يُطلع ابن الفرات المقتدر بالله على خبر هذه المائة الألف إلا بعد أن تسلم حامداً.
وانتشر الخبر في رجب أن حامداً إنما استتر لأن المقتدر كتب إليه يُنكر خروجه من واسط على تلك الحال التي خرج عليها ويأمره أن يستتر ويوافي بغداد حتى يتوثق منه ويأخذ خطّهُ بما بذل أن يضمن به ابن الفرات والمحسّن وكُتابهما وأسبابهما ليسلّم الجماعة إليه فاستتر المحسّن والفضل والحسين والحسن أولاد أبي الحسن بن الفرات وحُرمهم وأكثر الكتاب ولم يبق في دار ابن الفرات من كتابه الذين يحضرون مجلسه إلا أبو القاسم بن زنجي وحده وكانت مدة سعادة حامد قد انقضت فصار إلى دار السلطان في زي الرُّهبان ومعه مونس خادمه وصعد إلى دار الحجبة التي فيها نصر الحاجب فاستأذن له فارس بن رُنداق على نصر وقال: حامد بن العباس قد حضر الباب وهو يستأذن على الأستاذ . فقال : قُل له يدخُل فلما دخل قال له قبل أن يجلس إلى أين جئتَ ؟ قال : جئتُ بكتابك. فقال له فإلى هاهنا كتبتُ إليك أن تجيء ولم يقم له واعتذر إليه أنه تحت سخط الخليفة . ووجّه نصر إلى مُفلح يسأله الخروج إليه وكان مفلح يتولى الاستئذان على المقتدر إذا كان عند حُرمه فخرج مفلح وكلّمه نصر في أمر حامد وقال له هو في هذا الوقت في حال رحمة ومثلك من استعمل معه الجميل ولم يؤاخذه بما كان منه في تلك الأمور. ثم قال حامد المفلح : تقول لمولانا أمير المؤمنين عنّي بأني أرضى أن أكون معتقلاً في دار أمير المؤمنين كما اعتقل فيها علي بن عيسى ويُناظرني الوزير والمحسّن والكُتاب بحضرة الفقهاء والقضاة ووجوه القُوّاد فإن وجب عليّ مال خرجتُ منه بعد أن أكون مالكاً لاستيفاء حُجّتي ومحروساً في نفسي ولم يمكن المحسن من دمي فيجازيني على المكاره التي كنتُ أوقعها به في طاعة مولانا أمير المؤمنين وهو شابٌ وأنا شيخ قد بلغتُ هذه السِّنِّ العالية واليسير من المكروه يتلفني . فوعده مفلح بذلك ودخل على المقتدر بالله فخاطَبَه في أمره بضد ما وعده به فتكلمت السيّدة في أمر
ص: 54
حامد وقالت : لا يضر أن يُعتقل في الدار ويُناظر حتى تُحرس نفسه. فقال مفلح : إن فعل هذا لم يتمّ لابن الفرات عمل لأن الأراجيف قد كثرت به وخربت الدنيا وبطلت الأموال فقال المقتدر لمفلح : صدقت. وأمرَهُ أن يخرج إلى نصر فيأمره أن يُنفذ حامداً إلى ابن الفرات فخرج مفلح إلى نصر بذلك فأخذ نصر يطيب نفس حامد بأن يقول : لا بد من أن تصير إلى حضرة الوزير مع ثقةٍ لي ثم أردك إلى دار أمير المؤمنين. فالتمس حامد من نصر ثياباً يغير بها ما عليه من زيّ الرُّهبان فامتنع مفلح من الإذن له في ذلك وقال : قد أمرني مولاي أن أوجّه به في الزي الذي حضر فيه . فما زال نصر يشفع له حتى أذن له في تغيير زيّهِ وأنفذه مع ابن رُنداق الحاجب وبادر مفلح بإنفاذ كاتبه إلى ابن الفرات يُبَشِّره بحصول حامد وما أمر به المقتدر من تسليمه إليه وكان ابن الفرات على قلق وانزعاج لما وقف على حصول حامد في دار السلطان واستتر كتابه وأولاده كلهم فلما جاءته رسالة مفلح سكن بعض السكون وصلى الظهر وجلس بين يديه غير ابن زنجي وهو ينظر في العمل نظراً خفيفاً إلى أن ذكر بعض الغليان أن طياراً من طيارات الخدمة قد أقبل ثم قدّم عند درجة داره وبادر البوابون يخبره ودخل ابن الرنداق ومعه حامد بن العباس فلما رآه ابن الفرات قال له : لمَ تركتَ عملك وجئتَ ؟ قال : بكتابك جئتُ . قال : فلِمَ لم تقصد داري إن كنت جئت بكتابي ؟ قال : حرمت التوفيق. ولم يزل يُخاطبه بالكاف من غير ذكر الوزارة وأخرج ابن الرُّنداق رُقعة نصر الحاجب إلى الوزير بإنفاذ حامد إليه فألقاها إلى ابن زنجي وقال : اكتب بوصوله فكتب وسلم الجواب إلى ابنُ رنداق فنهض من المجلس.
فلما انصرف ضعفت نفس حامد وأقبل يُخاطب ابن الفرات بالوزارة ولان كلامه وبان فيه الخضوع. وأمر ابن الفرات يحيى بن عبد الله قهرمان داره بأن يفرد لحامد داراً واسعة في داره ويفرشها فرشاً حسناً ويتفقده في طعامه وشرابه وطيبه حتى يُخدم بمثل ما كان يخدم به وهو وزير وأن يقطع له كسوة فاخرة ويجعل معه لخدمته إذا كان خالياً خادمين أسودين أعجميين وأمره أن يؤنسه عند الأكل وأن يخدمه في تلك الحال من الخدم والفرّاشين من يوثق به ففعل يحيى ذلك .
دخل إلى حامد وقت العصر من ذلك اليوم عبدالله بن فرجويه وأحمد بن الحجاج بن مخلد صهر موسى بن خلف وقد كان حامد استعمل معهما في أيام وزارته من المكاره ما لم يسمع بمثله قط فوبّخَاهُ على ما فعل بهما فجحد أن يكون رآهما أو وقع بصره عليهما فلما أكثرا عليه قال لهما قد أكثرتُما عليَّ وأنا أجمل القول لكما إن كان ما استعملته من الأحوال التي تصفان وما عاملتُ الناس به قد أثمر لي خيراً
ص: 55
فاستعملا مثله وزيدا عليه وإن كان قبيحاً وهو الذي أصارني إلى أن تمكنتم مني فتجنبوه فإن السعيد من وعظ بغيره فذهبا وأعادا ذلك على ابن الفرات فاسترجح حامداً وقال : ما أدفع رجلته ولا أنكر دربته ولكنه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس.
قال ثابت في كتابه في التاريخ : ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن بن الفرات هذا القول ويُصدق قول حامد ويستجيده ويقول إنه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا يُنكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كل أحدٍ على المحسن ابنه طرائقه المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العباس وقد زاد عليها للواحد واحداً ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامداً فيرجع« ويكون السعيد الذي وعظ بغيره» فإن مَنْ يُقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغتر غافل .
ثم راسل ابن الفرات حامد بن العباس في الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه لأنه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ في يد ابن الفرات وأخذ المحسن شيئاً آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله وكتب إليه أنه أخذ ذلك عفواً بغير مناظرة ولا مكروه وأطمع المقتدر من جهة حامد في أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخرى. واستحضر ابن الفرات حامد بن العباس بحضرة الفقهاء والقضاة والكُتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حجته إلى أن أخرج ابن الفرات عملاً وجده في صناديق غريب غلام حامد وكان هذا الغلام يتولى لحامد بيع غلاته في الفُرضة . فواقف حامداً عليه وأحضر غريباً فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهواً منه لأن حامداً كان في كل سنة يجمع جميع حسباناته ويغرقها في دجلة فلما جرى المقدار على حامد بما جرى أنسي أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان في جملة الظهور فكان ما ثبت في ذلك العمل من أثمان الغلات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيفاً وأربعين ألف دينار سوى شعير الكُرّاع المحمول إلى الحضرة فبان أن في الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضاً أن أسعار تلك السنة الثانية في العمل أسعار ناقصة وأن أسعار السنين التي بعدها بأسرها أَزْيَدُ واتَّجَهَت حُجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتاب وسفيع اللولوي بما ظهر من الحجّة على حامد .
وكان ابن الفرات يرفق في المناظرة ولا يُسعه ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجة عليه ويدعُه حتى يستوفي منه لنفسه الحجة وكان المحسن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول : ليس يخرج المال منك إلا مثل المكاره التي كنتَ تُجريها على
ص: 56
الناس. ويقول : إني أعطي خطي إن سلم مني أن استخرج منه ألفي ألف دينار معجلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك ... ويستكفه أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهي .
فقال حامد .أيها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يُخاف أعظم من القتل ولولا ما يلزمني من توقير بمجلس الوزير لرددت عليه .فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسن لشتم حامد ليستعفين الخليفة من مُناظرته فحينئذٍ أمسك عن الشتم ثم أعاده إلى المناظرة مرات وكان يحصل في آخره أنه لا مال له وكان قد باع ضياعَهُ ومستغلاته وفرشه ودارَهُ ولم يبق له حيلة .
فلما أعيت ابن الفرات الحيلة فيه خلا به في دار من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنه صدقَهُ عن أمواله وذخائره لم يُسلّمهُ إلى المحسّن ولم يُخرجه عن داره و حفظ نفسه فإما أقام في داره مكرماً وإما خرج إلى فارس مُتقلّداً لها أو إلى أي بلدٍ أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه ووكد اليمين على ذلك ثم قال له : أنت تعلم أنك ضمنتني من أمير المؤمنين لأسلم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفواً من مالي حتى سُلمتُ منك وأنت فقد تناسبت كل جميل فعلتُه وفعله أخي بك والخليفة الآن مقيم على أن يُسلمك إلى المحسن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحدٌ مع وزير ولا مع ولد وزير وأنا أرى لك أن تفتدي نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة من التسليم إلى المحسن. ووكّد له الإيمان فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقر له من الدفائن في البلاليع احتفرها وتولى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار وأقر بأن له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقر بأن له كسوةً وطيباً مودوعة بواسط فأخذ ابن الفرات خطه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسن ولا عرفه شيئاً من الخبر فسر المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كل من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات بإنفاذ شفيع ليسلم هذا المال بواسط فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله .
وما زال حامد في دار ابن الفرات مَصُوناً إلى أن توصل المحسن إلى المقتدر بالله على يد مُفلح فالتمس منه أن يوقع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة فتردّد مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبي الحسن بن الفرات وتنكر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خُلع على المحسن وركب معه أبوه والقوّاد ثم انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسن إلى داره. ثم ركب المحسن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال : قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته وإن سُلّم إلي استخرجت منه خمسمائة ألف دينار فأمر المقتدر أبا
ص: 57
الحسن بتسليمه إليه فقال ابن الفرات : قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه فراجع المحسن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمراً لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه فسلَّمه إليه وحمله المحسن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروهاً وأقام حامد على أنه لم يبق له مال ولا حال فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشي عليه وما زال يُصفَع إلى أن تكلّم وقال : أي شيء تريد مني ؟ قال : أريد المال . قال : ما بقي غير ضيعتي . قال : فاكتب بوكالة لابن مُكرم (وكان أحمد بن كامل القاضي حاضراً) تقرّ فيها أنك قد وكلته في بيعها . فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد ثم إن المحسن عامله بعد ذلك بمعاملة تجري مجرى السخف من إذلاله والوضع منه ثم سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجالة ليحدروا به إلى واسط ويبيع ضياعه وأملاكه .
وشاع ببغداد أن حامداً طلب ليلة انحداره بيضاً فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات وإن خادم المحسن الموكل به طرح فيه سماً فما استقر في جوفه حتى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لما به فسلمه الخادم إلى محمد بن علي البزوفّري وجعله في داره وبادر الخادم بالانصراف وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغدّ إلا بسويق السُّلْت وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتاباً يقول فيه« إن حامداً وصل إلى وساط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه في طريقه بين بغداد وواسط وأنه إن تلف من ذلك الذرب فإنما مات حتف أنفه ولا صنعَ لِلبزوفري في شيء من أمره» ووجه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه فلما دخل إليه القاضي والشهود قال لهم : ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لي بأيمان البيعة والطلاق على أني إن أقررت بجميع أموالي لم يُسلّمني إلى ابنه المحسن وصانني عن كل مكروه وأطلقني إلى منزلي وولأني أجلّ الأعمال فلما أقررت له بجميع ما ملكته سلَّمني إلى ابنه المحسن فعذبني بأصناف العذاب وأخرجني مع فلان الخادم واحتال علي وسقاني بيضاً وطرح فيه سما فلحقني الذرب ولا صنع للبزوفري في دمي في هذا الوقت ولكنه فعل وصنع ثم أخذ قطعة من أموالي وامتعتي وجعل يحشوها في المساور البزيون المخلقة فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوي ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم. وتبين البزوفري حينئذ أنه أخطأ فيما فعله. وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلم به حامد .
وتوفي حامد بن العباس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة 311
لما قبض المقتدر على عليّ بن عيسى وجعله في يد زيدان القهرمانة راسله بأن يقرّ
ص: 58
بأمواله فكتب رُقعة يقول فيها إنه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. واتفق أن ورد الخبر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنابي إلى البصرة سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر في ألف وسبعمائة راجل وأنه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور ثم نزل إلى البلد وقتل البوابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح عن كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه. وإنه لم يعرف سُبك المفلحي والي البصرة إلا في سحر يوم الاثنين ولم يعلم أنه ابن أبي سعيد الجنابي وقدّر أنهم أعراب فركب مغتراً ولقيه وجرت بينهم حرب شديد وقتل سبك ووضع أبو طاهر في أهل البصرة السيف وأحرق المزيد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر وهرب الناس إلى الكلاء فكانوا يحاربونهم عدة أيام ثم أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم . وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يوماً ويحمل على جماله كل ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان ثم انصرف إلى بلده فأنفذ ابن الفرات في الوقت الذي ورد فيه خبر القرمطي بُني بن نفيس وجعفراً الزرنجي إلى البصرة وقلد محمد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر في الطيارات والشذاآت وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبي طاهر الجنابي عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بُني والزرنجي .
وكان بُني بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنهم استأمنوا إليه وأنهم زعموا أن علي بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنه وجّه إليهم في عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال في ذلك إلى المقتدر بالله .
عرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج علي بن عيسى إليه ليناظره والجمع بينه وبين القرامطة حتى يواجهوه بما قالوا فيه ففعل ابن الفرات. فاحتجَّ علي بن عيسى بأن قال : إنه من كان في مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفَهُ الناس بالكذب والباطل لا سيما إذا كان الوزير منحرفاً ومُغتاظاً . ثم أحد ابن الفرات يُخاطبه في أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال : قد أخذ ابن بسطام خطوطهما في أيام وزارتي الثانية صلحاً عما وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدة تقلدهما في أيامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأديا في أيامي نحو خمسمائة ألف دينار. فصرفت على ابن بسطام ساعة وليت الدواوين وقلدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتاباً عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما . ثم ادعيت أن أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فقال : لم آمر بشيء من هذا ولا ظنَّ أن أحداً يُقدم
ص: 59
عليه بمثلها . فأجاب علي بن عيسى بأنه كان في الوقت (كاتباً) لحامد بن العباس يخلفه على العمل : وكان أمير المؤمنين أمرني قبول قوله : وإن حامداً ذكر أن أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقع بذلك توقيعاً فوقعتُ تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه فقال له ابن الفرات أنت كنتَ تُعارض حامداً وتخاصمه أبداً في اليسير تخرجه عليه في عِبَره ما كان ضمنه حتى جرى بينكما ما تحدث به الناس فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين في هذا المال العظيم الجسيم؟ فقال علي بن عيسى : كنتُ في أوّل الأمر كاتباً لحامد مدة سبعة أشهر ثم بان الأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد عليَّ وكان الذي جرى من أمر المادرائيين في صدر أيام حامد فقال له ابن الفرات: فلما اعتمد عليك أمير المؤمنين إلا صدقته عن خطأ حامد في هذا الباب وتلافيته ؟ فقال : أغضبت عن ذلك لأني كنتُ في ذي القعدة سنة ست أوصلتُ الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذتُ خطّه في مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع بمصر والشام بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش في تلك النواحي وهو ألف ألف دينار في كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرف فيه من عَطاء الجيش والنفقات الراتبة في ناحية ناحية ووقفتُ عليه في كل سنة لما ينكسر ويتأخر في هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار وخطه بذلك في ديوان المغرب وهذا غاية ما قدرتُ عليه فقال ابن الفرات: أنتَ تعملُ أعمال الدواوين منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثم وليتَ الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدة طويلة هل رأيت من يدع مالاً واجباً يُؤدي معجلاً ويأخذ عوّضاً منه مالاً مؤجّلاً يُحَال به على ضمانٍ وهَبْك أغضيت كما ذكرت ورأيتَ ذلك صواباً في التدبير فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن في مدة خمس سنين دبرت فيها المملكة ؟ فأجاب عن ذلك بأنه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى حلةٌ ثم سار العلوي من أفريقية حتى تغلب على أكثر النواحي بمصر فنقذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلوي ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر. فقال ابن الفرات: فقد انهزم العلوي منذ صغر سنه تسع ووجب على هذا الضامن مال سنتين كاملتين بعد هزيمة العلوي فهل استخرجت من هذا الضامن ألفي ألف دينار؟ فأجاب على ذلك ما لم يحفظ ثم قال له في آخر خطابه : فقد أمر أمير المؤمنين بمطالبتك بالأموال التي جمعتها وحُنُتهُ فيها فينبغي أن تقرّ بها عفواً وتصون نفسك عن المكروه. فقال علي بن عيسى لستُ من ذوي المال وما أقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.
ثم ناظره على أموال الحاشية فقال لعلي بن عيسى : أنتَ قد أسقطت من أرزاق
ص: 60
الحرم والولد والحشم والفرسان الذين كنتُ أوفّيهم أرزاقهم على الأدرار في أيامي الأولى والثانية مدّة خمس سنين دبّرتَ فيها أمر المملكة ما يكون مبلغه في كل شهر مع ارتفاع الضياع التي هي ملك خاصةً خمسة وأربعون ألفاً يكون في السنة خمسمائة وأربعون ألف دينار وفي هذه المدة ستة ألف ألف دينار ولست تخلو من أن تكون احتجنتها لنفسك أو أضعتها فقال علي بن عيسى : ما استغللته من هذه الضياع ووفّرته من أرزاق من يستغني عنه تمَّمتُ به عجز الدخل عن النفقات المسرفة حتى اعتدلت الحال فلم أمد يدي إلى بيت مال الخاصة فأما الخمسة والأربعون الألف الدينار التي كنتَ تحملها من أموال المرافق فإني ما استصوبُ ما استصوبته أنت من أخذها والإذن للعُمَّال في أن يرتفقوا بل حظرتُها ورفعتها فلم أعرض لها لأنها كانت طريقاً إلى تلف أموال السلطان وظلم الرعية وخراب البلاد وأنتَ كنتَ تُعوِّل في النفقات على ما كنتَ تحوّلُهُ من بيت مال الخاصَّة إلى بيت مال العامة فترضى به الحاشية وتخرب به بيت المال. وتكرّر الخطاب في هذا المعنى .
ثم ناظره على ما حمله إلى القرامطة من الهدايا والسلاح وما تردّدت بينه وبينهم من المكاتبات مرّةً والمقاربات أخرى فقال : أردتُ استمالتهم وإدخالهم في الطاعة وكففتُهُم عن الحاج وأعمال الكوفة والبصرة مدة ولايتي دفعتين وأطلقوا من الأسارى الذين كانوا من المسلمين عدة، فقال له ابن الفرات فأي شيء أعظم من أن يشهد أن أبا سعيد وأصحابه الذين جحدوا القرآن ونبوّة النبي عليه السلام واستباحوا عُمان وقبلوا أهلها وسبوهم مسلمون وتكاتبهم بذلك وتؤخر إطلاق أرزاق من يحفظ السور بالبصرة حتى أخلوا بمراكزهم فدخلها القرمطي وقتل أهلها فاحتج بحجج يطول شرحها.
فسأل نصر الحاجب والمحسن أبا الحسن بن الفرات أن يدعهما يخلوان به فخلوا وأشارا عليه بالمصادرة فاستجاب إليها وألزماه ثلاثمائة ألف دينار يُعجل منها في مدة شهر مائة ألف دينار أوّلها يوم خروجه من دار السلطان إلى حيث يأمن فيه على نفسه ويصل إليه الناس فأخذ ابن الفرات خطه بذلك وأنفذه إلى المقتدر بالله فأمضاه ثم كتب ابن الفرات كتباً عن نفسه إلى كل واحدٍ من أصحاب الدواوين يذكر فيها خيانة علي بن عيسى وسرقته وما واجهه به وما بذله من المصادرة .
وحكى أبو الفرج بن هشام عن ابن المُطوّق أن أبا الحسن علي بن عيسى كان سأل أبا الحسن بن الفرات أن يتجافى له عن ارتفاع ضعته لسنة 311 ليؤديه من جملة المُصادرة وأن ابن الفرات قال له : هو خمسون ألف دينار فقال علي بن عيسى : قد رضيتُ بعشرين ألف دينار. وذكر أنه دون ذلك فلما نفي إلى مكة وجد في ضيعته نحو الخمسين الألف الدينار.
ص: 61
قال أبو الفرج : فسمعتُ الهماني الواسطي يقول :سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يُوبخ أبا عبد الله البريدي ويقول له : يا أبا عبد الله أما خفت الله حيث حلفت بما حلفت به ونحن مجتمعون في دار السلطان أطال الله بقاءه أن استغلالك واستغلال إخوتك من ضيعتكم بواسط عشرة آلاف دينار وقد وجدتُه من حساب رفعَهُ إِليَّ (يعني الهُماني) ثلاثين ألف دينار . فقال أبو عبد الله : اقتديت بسيدنا أيده الله حيث سأله أبو الحسن بن الفرات عن ارتفاع ضيعته فلم يصدقه وسائَرَهُ وعلمتُ أنه مع ديانته لو لم يعلم أن التقية مباحة عند من يخاف ظلمه لَمّا حلف بتلك اليمين فكأنّه ألقم علي بن عيسى حجراً .
ونعود إلى تمام خبر علي بن عيسى مع ابن الفرات. امتنع المقتدر من تسليم علي ابن عيسى إلى ابن الفرات فذكر علي بن عيسى أنه لا يمكنه أن يؤدّي مال مصادرته إلا بعد أن يخرُج من دار الخليفة وأحضره المحسن دفعتين وطالبه ورفق به فلم يؤد إلا ثمن دار باعها فقيده المحسّن فلما رأى نصر ذلك نهض عن المجلس وطالب المحسن علي ابن عيسى فقال : لو كنتُ أقدرُ هاهنا على أداء المال لَمَا قُيّدتُ. فألبسه جُبةَ صوف وأقام على أمره فحينئذ صفعَهُ عشر صفعات فقام نازوك من المجلس فقال المحسّن : إلى أين تقوم ؟ فقال : ما أحب أن أحضر مكروة هذا الشيخ وأعيد علي بن عيسى إلى محبسه وبلغ أبا الحسن بن الفرات ما عامل به المحسن علي بن عيسى فأقلقه ذلك وقال لابنه : قد جنيت علينا بما فعلته كان يجب أن تقتصر على القيد ثم كاتب المقتدر بالله يشفع لعلي بن عيسى وذكر أنه لما وقف على ما جرى عليه لحقه من الغمّ أمر لا يذكر مثله وأنه لم يطعم طعاماً منذ عرف خبره لأنه شيخ من مشايخ الكتاب وقد خدم أمير المؤمنين وتحرّم بداره ومثله يُخطئ وأمير المؤمنين أولى بالصفح وسأل أن يُزال عنه القيدُ والجُبّة الصوفِ فأجابَهُ المقتدر بأن علي بن عيسى مُستحق لأضعاف ما جرى عليه وأن المحسن قد أصاب فيما عامله به وأنه قد شفعَهُ في أمره وأمر بحل قيده ونزع جُبَة الصوف عنه وتقدّم بعد ذلك بتسليم علي بن عيسى إلى ابن الفرات ليؤدي مال التعجيل من مصادرته. فلما حُملَ إليه قال لستُ أحبّ أن يكون في داري لئلا يلحقه مرض وهو شيخ فيُنسب إليَّ وأنا أسألُ أمير المؤمنين أن يأذن في تسليمه إلى شفيع. فقيل للمقتدر ذلك فقال :أنا أُسلّمه إليك لأنك الوزير فأحفظ نفسه ولا تُسلمه إلى المحسن فأما غير هذا فأنت أولى وما تراه فأنفذ ابن الفرات إلى شفيع وأحضره.
وأخذ ابن الفرات في توبيخ علي بن عيسى وعاتبه على أمر وقوفِ وقَّع أميرُالمؤمنين بردّها عليه وأن مالها كان ينصرف إلى أشياء يتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ وينصرف بعضها إلى ولده وغلمانه وأن ما فعله لا يجوز في الدين ولا في المروءة. فأخذ علي بن عيسى يعترف بالتفريط الذي وقع منه وسأله قبول عذرِه وكان المحسن
ص: 62
حاضراً فأطنب في توبيخه وتقريعه على هذا الباب فأجابه بمثل ما أجاب به والده وزيادة وقال في عرض كلامه أنا والله استجليك. فقامت على المحسن القيامة من هذه الكلمة وغلظت على أبيه أيضاً فأجابه المحسن بجواب فيه غلظة وأقبل أبوه يسكنه ويرفق به ثم قال لعلي بن عيسى: أبو أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته (وأخذ يصف محله منه وتفويضه إليه وأخذ علي بن عيسى في الاعتذار من تلك الكلمة. ونهض علي بن عيسى مع شفيع فأجلسه شفيع في صدر طياره وحمله إلى داره.
وحكى أبو الحسن بن أبي هشام أنه كان حاضراً المجلس وأنه رأى الحسن بن دولة بن أبي الحسن بن الفرات خرج في تلك الحال فقام له علي بن عيسى وقبل رأسه وعينه فاستكثر ذلك ابن الفرات وقال له : لا تفعل يا أبا الحسن هذا ولدك . ثم فتح دواته ووقع إلى هارون بن عمران الجهبذ أن يحمل إلى أبي الحسن علي بن عيسى بلا دعاء ألفي دينار يستعين به على أمره في مصادرته وقال لابنه المحسّن وقع أنت أيضاً بشيء. فوقع بألف دينار ثم أحضرا بشر بن هارون وكتب قبضاً لعلي بن عيسى من مال مصادرته بهذه الثلاثة الآلاف الدينار فانصرف علي بن عيسى شاكراً.
ولم يقبل علي بن عيسى من أحدٍ من الكتاب معونة في مصادرته مع بذل جماعتهم له وحملهم إليه ما أطلق كل واحد منهم إلا من ابن فرجويه وابني أبي الحسن ابن الفرات الفضل والحسين فإنه قبل من كلّ واحد منهما خمسمائة دينار وحمل إليه أبو الهيجاء بن حمدان عشرة آلاف دينار فردها وقال : لو كنتَ متقلداً فارس لقبلتها منك ولكني أعلم أن هذه جميع مالك وما أحب أن أثلمك فحلف أبو الهيجاء أن لايرجع إلى ملكه ففُرّقت في الطالبيين وفي الصدقة على الضعفي وبذل له شفيع اللؤلؤي ألفي دينار فامتنع من قبولها وقال : لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتي في مصادرتي. وقبل من هارون بن غريب ومن نصر الحاجب وشفيع المقتدري .
فلما أذى علي بن عيسى أكثر مال مصادرته قال ابن الفرات للمقتدر : إن في مقام علي بن عيسى في دار شفيع ضرراً عليه فإن الأراجيف قد كثرت وإن ردّ دار السلطان زاد الأرجاف والتمس الإذن في إبعاده إلى مكة فأذن له المقتدر في ذلك فأطلق ابن الفرات لما قدر له من نفقته وما يحتاج إليه سبعة آلاف درهم فخرج إليها ثم كتب ابن الفرات بإبعاده إلى صنعاء من بلاد اليمن فأبعد إليها .
ثم استخرج ابن الفرات من أسباب علي بن عيسى وعماله وكتابه مالاً عظيماً بالمكاره وبسط يد ابنه فأنكر الناس أخلاقه وما كان يعرف من كرمه ونبله . فأما أبو علي ابن مقلة فإنه كتب إلى أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي رقعة وكانت بينهما مودة وضمنها أبياتاً له ما أثبتها لأني لم أستجدها وكتب رقعة إلى ابن الفرات يذكره
ص: 63
بحرمته وقديم خدمته ويستعطفه وجعلها في درج تلك الرقعة وسأله إيصالها فلما وقف ابن الفرات عليها تقدّم بحل قيده وتقرّر مصادرته على ما ينهض به ثم خفف عنه بعد ذلك وأطلقه .
فأما ابن الحواري فإن ابن الفرات سلمه إلى ابنه المحسن فصفعه صفعاً عظيماً في دفعات وضربه بالمقارع ثمّ أخرجه إلى الأهواز مع مستخرج له فلما وصل إليها قتله المستخرج .
فأما المادرائيان فإنه كتب بإشخاصهما فحمل الحسين بن أحمد وهو أبو زنبور فاعتقله ابن الفرات في داره واستحضر القضاة وأصحاب الدواوين إلى داره وحضر المحسن وأحضروا أعمالاً عملوها لأبي زنبور وناظره ابن الفرات عليها وأخذ خطه من الأبواب التي نوظر عليها بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار ثم استكثر ابن الفرات هذا المال فقرر مصادرته على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وعرض خطه بذلك على المقتدر بالله فاستصاب فعله وتناهى ابن الفرات في معاملته بالجميل وكان يسترجله ويصف فهمه ويقول إنه ما خاطب عاملاً أفهم منه ولا أجلد وسَامَهُ أَن يُواجه علي بن عيسى بأنه أرفقه في أيام تقلده ديوان المغرب وفي أيام وزارته فاستعفاهُ من ذلك فقال له ابن الفرات؛ فكيف واجهتني أنا بأمره ولا تُواجهه بأمري فقال : ما حمدتُ معه تلك الحال ولا أستحسنها إلى أحد مع الظاهر من إساءة الوزير إليَّ بتسليمه إياي إلى ابن بسطام وبسط يده علي في أيام وزارته الثانية فكيف تستحسنون لي هذه الحال في معاملة علي بن عيسى مع قديم وحديث إحسانه إليَّ فأعفاه ابن الفرات من ذلك .
ثم قدم محمد بن علي المادرائي ولم يكن تقلد في أيام وزارة حامد بن العباس شيئاً من الأعمال فناظره ابن الفرات على المال الباقي عليه وعلى الحسين بن أحمد من ضمان أجناد الشام ومصر وعن حق بيت المال في ضمانه وهو حينئذ شريك للحسين بن أحمد في الضمان فاحتج في بعضه فقال له ابن الفرات: لست بأفهم من الحسين وقد احتج بأكثر ما ذكرت فلم تثبت له حجّةٌ. وأخذ خطه بلا تهديد ولا مكروه بألف ألف وسبعمائة ألف دينار ثم سلَّمه إلى المحسّن وكان في داره على أتم صيانة وأقام فيها يوماً واحداً وكان المحسّن يتطاول عليه إذا حضر ثم أطلقه وكان السبب في ذلك أنه حمل إليه مالاً جليلاً وثياباً فاخرة وجواهر نفيسة وخدماً رُوقة .
كان ورد مونس من الغزو بعد أن ظفر بالروم ظفراً حسناً فتلقاه المحسّن ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وسائر القواد ولقي المقتدر بالله فتحدّث الناس أن مونساً أنكر ما جرى على الكتاب والعمال من المكروه العظيم من ابن الفرات والمحسن وما ظهر من
ص: 64
وفاة حامد بن العباس وإن أكثر الفرسان التفاريق بالحضرة قد عملوا على الانضمام إلى عسکر مونس المظفر لتروج أرزاقهم. فغلُظ ذلك على ابن الفرات وصار إلى المقتدر بالله بعد أسبوع من قدوم مونس المظفر فخلا به وأعلمه ما عمل مونس عليه من ضمّ الرجال إليه وأنه إن تم له ذلك صار أمير الأمراء وتغلب على أمر المملكة ولا سيما والقوّاد والغلمان مُنقادون له وعظم عليه الأمر وأغراه به إغراء شديداً فلما ركب مونس
. المظفر إلى دار المقتدر بالله قال له المقتدر بحضرة ابن الفرات ما شيء أحب إلي من مقامك لأني أجمع إلى الأنس بك والتبرك برأيك الانتفاع بحضورك في أمر الحضرة كله ولكن أرزاق الفرسان برسم التفاريق عظيمة وما يتهيأ أن تطلق أرزاقهم على الإدرار ولا النصف من استحقاقهم وليس يطيعون في الخروج إلى نواحي مصر والشام لأنهم يحتجون بقصور أحوالهم عن ذلك وقد علمت أن الرتي وأبهر وزنجان متغلقة بأخي صعلوك وكذلك أرمينية وأذربيجان بيوسف بن أبي الساج وإن أقمتَ ببغداد التمس الرجال الانضمام إليك فإن لم أجبهم شغبوا وافتنوا البلد وإن أقمت لم يَرُج من مال ديار ربيعة ومضر والشام شيء وليس يفي مال السواد والأهواز وفارس بنفقات الحضرة ومال عسكرك والوجه أن تخرج إلى الرقة وتتوسط عملك وتُنفذ عُمالك في اقتضاء الأموال وتستخرج ما يجب على المادرائيين من الأموال العظيمة التي بذلوا بها خطوطهم وتهابك عمال المعاون والخراج بمصر والشام فيستقيم أمر الملك، ورسم له الشخوص من رقة في سائر الغلمان الحجرية والساجية برسمه .
فعلم مونس أن هذا من رأي ابن الفرات وتدبيره وعرف شدّة عداوته له فسأل المقتدر بالله أن يأذن له في المقام بقية شهر رمضان حتّى يُعيد ببغداد فأجابه إلى ذلك. فلما عيد صار إلى ابن الفرات لوداعه فقام له قياماً تاماً فاستعفاه مونس وحلف عليه أن يجلس في المصلّى فامتنع وسأله مونس في عدة أمور فوقع له بجميع ما التمسَهُ وأراد القيام عند خروجه من حضرته فاستحلفه برأس الخليفة ألا يفعل ثم ودّع الخليفة وخرج إلى مضربه في يوم مطير .
ولمّا فرغ ابن الفرات من مصادرة جميع الكتاب وأخرج مونساً شرع في القبض على نصر الحاجب وشفيع المقتدري فوصف للمقتدر ما في جنب نصر خاصة من الأموال والضياع وكثرة ما يصل إليه من الأعمال التي يتولاها ثم من سائر وجوه مرافقه فأجابه المقتدر إلى تسليمه إليه واتَّصل الخبر بنصر فلجأ إلى السيدة واستغاث إليها فكلَّمت ابنها وقالت له : قد أبعد ابن الفرات مونساً عنك وهو سيفك وثقتك ويريد الآن أن ينكب حاجبك ليتمكن منك فيجازيك على ما عاملته به من إزالة نعمه وهتك حُرمه
ص: 65
فليت شعري بمن تستعين عليه إن أراد بك مكروهاً من خلعك والتدبير عليك لا سيما ما أظهر من شرّه وإقدام ابنه المحسن على كل عظيمة وقد كان نصر مضى إلى منزله واستظهر بتفريق ماله في الودائع واستتر فراسلته السيدة بالرجوع إلى داره فوثق وعاد وهو مع ذلك شديد التذلل لابن الفرات وابنه وابن الفرات يُعرّف المقتدر من أحواله ومن إفساده ابن أبي الساج حتى ضيَّع على الخلافة خمسة آلاف ألف دينار من ارتفاع نواحيه ما يُهم معه المقتدر بتسليمه إليه .
فلمّا كان في ذي الحجة من هذه السنة ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبي الساج بأحمد بن علي أخي صعلوك وقتله إياه وأنه أخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد فركب المحسّن إلى المقتدر والتمس من مفلح أن يوصله إليه من غير حضور نصر الحاجب فأوصله وبشره بالفتح وأعلمه أن نصراً الحاجب يكره ذلك وأنه عدوّ لابن أبي الساج وهو الذي أفسدَهُ على السلطان فلذلك كتَمَهُ الخبر .
فلما كان بعد أيام ظهر في دار للسيدة كان المقتدر يكثر الجلوس فيها عند والدته رجل أعجمي على سطح مجلس من مجالسها وعليه ثياب فاخرة وتحتها مما يلي بدنه قميص صوف ومعه محبرة ومقدحة وسكين وأقلام وورق وسويق وحبل ويقال إنه دخل مع الصُناع فحصل في الموضع وبقي أياماً فعطش وخرج ليطلب الماء فظفر به وسئل عن خبره فقال : ليس يجوز أن أخاطب غير صاحب الدار. فأخرج إلى الوزير أبي الحسن بن الفرات فقال له : أنا أقوم مقام صاحب الدار فقل ما شئتَ فقال : ليس يجوز غير خطابه في نفسه ومسألته عمّا احتاج إليه . فرفق به فلم يغن الرفق فلما لم تكن فيه حيلة أخذ الخدم يقرّونه بالضرب والعنف فعدل عن الكلام بالعربية وقال بالفارسية: ندانم ولزم هذه اللفظة فلم يزل عنها في كلّ ما يخاطب به وأخرج فعوقب حتى تلف وهو لا يزيد على «ندانم» فصلب ولف عليه حبل من قنب ومشاقة ولطخ بالنفط وضرب بالنار .
وخاطب ابن الفرات نصراً الحاجب بحضرة المقتدر في أمر هذا الرجل وقال له : ما أحسبك ترضى لنفسك أن يجري عليك في دارك مثل هذا الذي جرى على أمير المؤمنين وأنت حاجبه وحافظ داره وما تم مثل هذا على أحد الخلفاء من في قديم ولا حديث وهذا الرجل هو صاحب أحمد بن علي أخي صعلوك لا محالة والدليل على ذلك أنه أعجمي فإما أن يكون أحمد بن علي قبل أن يقتل وأطأك حتى أوصلته إلى هذا الموضع وإما أن تكون أنت دسسته ليفتك بأمير المؤمنين لتخوفك على نفسك منه ولأجل عداوتك لابن أبي الساج وصداقتك لأحمد بن علي ولأجل عظيم ما وصل إليك من أحمد بن علي من الأموال فقال له نصر الحاجب ليت شعري أدبر على أمير
ص: 66
المؤمنين لأنه أخذ أموالي وهتك حُرمي أو قبض ضياعي أو حبسني عشر سنين. فقال المقتدر : لو تم هذا على بعض العوّام لكان عظيماً وتمكن ابن الفرات منه واندفع عنه المكروه بما ورد به الخبر مما جرى على الحاج من القرمطي وسنشرحه فيما بعد فشغل ابن الفرات بنفسه وقوي أمر نصر وسلم من ابن الفرات.
وفي هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر في مصير ابن أبي الساج من أذربيجان إلى الرتي ومحاربته أحمد بن علي وحمل رأس أحمد بن علي وجئته إلى مدينة السلام.
وفيها فرق ابن الفرات على طلاب الأدب مالاً وعلى من يكتب الحديث مثله وكان السبب في ذلك أنه جرى حديثهم في مجلسه فقيل : لعل الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق فضة أو دونها ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر. وكان ابن الفرات موصوفاً بسعة الصدر وحسن الخلق وكان فرّق في الشعراء مالاً فقال لما جرى حديث هؤلاء : أنا أولى من عاونهم على أمرهم وأطلق لهم لما يصرفونه إلى ذلك عشرين ألف درهم.
فذُكر أنه لم يُسبق ابن الفرات إلى ذلك إلا ما حدث به الضبعي عن رجاله أن مسلمة بن عبد الملك أوصى عند وفاته بالثلث من ثلثه لطلاب الأدب وقال : «هم مجفوون» .
وكان يستعمل كلّ يوم في مطبخ ابن الفرات من لحوم الحيوان وفي دوره من الثلج الكثير ومن الأشربة التي تعرض على كل من دخل ومن الشمع ومن القراطيس ما لم يستعمله أحد قبله ولا بعده وكان إذا ولي الوزارة ارتفعت أسعار الشمع والثلج والقراطيس خاصة وإذا عزل رخصت. وكان أهدى إلى مونس المظفر عند موافاته من المغرب والي بُشرى ويلبق وإلى نازوك وغيرهم من الغلمان والخدم لما حضر النوروز هدايا عظيمة لم تسمح نفس أحد بمثلها وقدّر أنه يستكفهم بها فلم يقع موقعه الذي أراد .
اتفق أن ورد الخبر إلى بغداد على ابن الفرات بأن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي ورد إلى الهبير ليتلقى حاج سنة 311 في رجوعهم فأوقع بقافلة فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرها واتصل خبره بهم وهم بقيد فأقاموا حتى فنى زاد من فيها وضاق بهم البلد فارتحلوا على وجوههم. وأشار عليهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وكان إليه طريق الكوفة وطريق مكة وبَذَرقَة الحاج لما بلغهم خبر الهجري أن يعدل بهم من فَيْد إلى وادي القرى لئلا يجتاز بالهبير فضجوا من ذلك وامتنعوا عليه وساروا وسار معهم ضرورة إلى الهَبير فلما قربوا من الهبير عارضهم أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي وقاتلهم
ص: 67
فظفر بهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن كشْمَرْد وتحرير العُمري وأحمد بن بدر عمّ السيدة أم المقتدر وجماعة من خدم السلطان وحرمه وأخذ أبو طاهر جمال الحاج في سائر القوافل وسبى ممن كان فيها من اختار من النّساء والرجال والصبيان وسار بهم إلى هِجْر وترك باقي الحاج في مواضعهم بلا زاد ولا جمال وكانت سنّ أبي طاهر في ذلك الوقت سبعة عشر سنة ومات أكثر من خلَّف من الحاجّ بالعطش والحفا والرُجلة.
وانقلبت بغداد وطُرُقها في الجانبين وخرج النساء حُفاة مُنشّرات الشعور مسودات الوجوه يلطمنَ ويصرخن في الشوارع وانضاف إليهن حُرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات وذلك في يوم السبت لسبع خلون من صفر فكانت صُورةً فظيعة قبيحة شنيعة لم ير مثلها. وتقدّم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة في الجانبين ببغداد بسبب حركة العامة فركب في جميع جيشه من الفرسان والرجالة والنفاطين حتى سكن العامة . ثم قدم سابق الحاج فشرح الصورة لابن الفرات فركب ابن الفرات آخر هذا اليوم وقد ضعفت نفسه إلى المقتدر وشرح له الحال واستدعى نصراً الحاجب وأدخله في المشاورة وتمكن نصر من خطاب ابن الفرات بحضرة المقتدر وانبسط لسانه عليه وقال له : الساعة تقول : «أي شيء الرأي» بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرّضتها للزوال بإبعادك مونساً الذي يُناضِل الأعداء ويدفع عن الدولة فمن يمنع الآن هذا الرجل عن السرير ومن الذي أسلم رجال السلطان وقوادَهُ وحُرمه وخدمه إلى القرمطي سواك؟ وقد ظهر الآن أمرُ الأعجمي الذي وُجد في دار السلطان وأنه إنما كان صاحب القرمطي. وأشار نصر على المقتدر بمُكاتبة مونس بالتعجل إلى الحضرة فأمر أن يُكتب بذلك ووثبت العامَّة على ابن الفرات ورحمت طياره بالآجُرّ وركب المحسن من داره يُريد طياره فرجموه وضجت العامَّةُ في الطرقات بأن ابن الفرات القرمطي الكبير وليس يقنعه إلا إتلاف أمة محمد وتحرّكت العامة فامتنعت من الصلاة في المساجد الجامعة ذلك اليوم وارتجت بغداد بأسرها من الجانبين.
وأشار ابن الفرات بإنفاذ ياقوت إلى الكوفة لضبطها لئلا تردها الهجريَّةُ ويضمّ الغلمان الحجرية ووجوه القوّاد إليه وإن كان الهجري مقيماً سار لمُحاربته فتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالشخوص وإلى ابن الفرات بإزاحة عليه فالتزم ابن الفرات له ولوالدَيْهِ وهما المظفّر ومحمد وللزيادة في إقطاعهم وموائدهم ولمن ضمّ إليه أموالاً عظيمة .
وخرج ياقوت بمضربه إلى باب الكناسة وورد الخبر على ابن الفرات بانصراف الهجري إلى بلده فوقع إلى ياقوت بالرجوع فرجع وبطل نفوذه إلى الكوفة.
وأصلح المقتدر بين ابن الفرات وبين نصر وأمر الجماعة بالتضافر على ما فيه
ص: 68
الصلاح للدولة وكفاية الهجري ودخل مونس بغداد وتلقاه الناس فلم يتأخر عنه أحد وركب إليه ابن الفرات للسلام عليه ولم تجر له بذلك عادة ولا لأحد قبله فلما عرف مونس خبره خرج إلى باب داره وتلقاه وسأله أن ينصرف فلم يفعل وصعد إليه من طياره حتى هناه بمقدمه فلما خرج لينصرف خرج معه مونس إلى أن نزل إلى طياره.
استوحش المحسن بعد إيقاع الهجري بالحاج من المنكوبين ونظر إلى سقوط حشمته فخاف أن يظهر ما أخذه وارتفق به وما أسقطه من أداء المصادرين وفاز به فنصب أبا جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر وكان هذا يدعي من حلول اللاهوت فيه ما ادعاه الحلاج وكان المحسن قد عنى بهذا الرجل فاستخلفه بالحضرة لجماعة من العمال وكان له صاحب يعرف بملازمته مقدام على الدماء من أهل البصرة فسلم المحسن إلى صاحب ابن الفرات هذا البصري جماعة فيهم النعمان بن عبد الله وعبد الوهاب بن ما شاء الله ومونس خادم حامد وأظهر أنه يطالبهم بما بقي عليهم من المال فلما حصلوا في يده ذبحهم كما يذبح الغنم . وكان جماعة مستترين فكتب ابن الفرات إليهم كتباً جميلة حتى ظهروا ثم صادرهم واستخرج منهم أموالاً كثيرة .
واشتدّ الإرجاف بابن الفرات حتى استتر أولاده وكُتابه فراسله المقتدر على لسان نسیم. فحكى أبو القاسم بن زنجي أنه كان بين يديه إذ جاءه نسيمٌ فتقدّم إليه فأدى الرسالة التي كانت معه فسمعته يقول في جوابها قل له : أنت تعلم يا أمير المؤمنين إني عاديتُ في استيفاء حقوقك الصغير والكبير واستخرجتُ لك المال من الدني والشريف وبلغت غاية ما أمكنني في تأييد دولتك ولم أفكر في أحدٍ مع سلامة نيّتك وما قربني منك واجتلب لي حُسن رأيك فلا تقبل في قول من يريد إبعادي عن خدمتك ويُغريك بما لا فائدة فيه ويدعوك إلى ما تُذَمّ عواقبه وبعد فطالعي وطالعك واحدٌ وليس يلحقني شيء إلا يلحقك مثله فلا تلتفتُ إلى ما يُقال فقد علمت الخاصة والعامة أني أطلقت للرجال النافذين إلى طريق مكة ما لم يطلقه أحدٌ تقدّمني واخترت رؤساء الجند والقوّاد وشجعان الرجال وأزحتُ العِلة في كل ما التمس مني فحدث من قضاء الله عزّ وجلّ على الحاج ما قد حدث مثله في أيام المكتفي بالله رحمه الله فما أنكره على وزيره ولا ألزمه جريرته ولا أفسد عليه رأيَه ... وتكلم في هذا المعنى بما يُشاكله وانصرف نسيمٌ والغلمان بانصرافه .
واحتدت الأراجيف وكثرت بأبي الحسن بن الفرات والمحسن ابنه وأراد المقتدر أن يسكن منهما فكتب إليهما رُقعة يحلف فيها على ما هو عليه لهما وما يعتقده من الثقة
ص: 69
بهما وأنه ينبغي لهما أن يثقا بما تقرر في نفسه من موالاتهما وأمرَهُما أن يظهرا رُقعته إليهما لأهل الحضرة ويكتب بنسختها إلى جميع عُمّال الحرب والخراج في البلدان .
ثمّ ركب بعد ذلك ابن الفرات والمحسّن إلى الدار فوصلا إلى المقتدر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرة ولما خرجا أجلسهما نصر الحاجب وكان راسل الغلمان الحجرية المقتدر في القبض عليهما فدخل مفلح برسالتهم ثم أشار عليه بتأخير الأمر وقال له: إن صرف الوزير بكلام الأعداء خطر وخطأ في التدبير وإطماع للغلمان. فأمره أن يقدّم إلى نصر بإطلاقهما ويُعرّف الغلمان. أن الأمر يجري فيما راسلوه على محبّتهم فقدم مفلح وقال : لينصرف الوزير. فأذن نصر للوزير وابنه في الانصراف فقام ابن الفرات في الممرات كالمهزول حتى وصل إلى طيّاره وكذلك ابن المحسن فلما وصلا إلى دار الوزير دخل إليه المحسّن فساره إسراراً طويلاً ثم خرج من عنده وانصرف إلى منزله وجلس فيه ساعة وتقدّم بما أراد ثم خرج فاستتر وجلس أبوه غير مكترث ينظر في العمل وبين يديه وجوه الكتاب وانصرفوا آخر النهار وقد تشككوا فيما بلغهم من صورة الأمر لما رأوه من نشاطِهِ وانبساطه وجريه على رسمه في الحديث والأنس والأمر والنُّهي . وتحدّث بعض خواصه قال : سمعته يقول في آخر الليل وهو في مرقده يتمثل بهذا البيت:
وأصبحَ لا يدري وإن كان حازماً*** أقدّامُهُ خيرٌ له أم وراؤهُ
فدل ذلك على سهرِهِ وتفكُّره في أمره. وجلس من الغد ينظر في أمره قال أبو القاسم ابن زنجي : فبينما هو كذلك إذ وردت رقعة لطيفة مختومة فقرأها فما عرفت مِمّن هي في الوقت ثم عرفت أنها كانت من مفلح . ثمّ وردت رقعة أخرى من رجل يجري مجرى الجند كان ملازماً لدار السلطان فلما قرأها أمسك قليلاً ثم دعا يحيى قهرمانه فأسر إليه بشيء وانصرف ثم صرف الناس ووعدهم البكور ونهض ابن الفرات عن مجلسه إلى دور حُرمه وتفرّق الناس . فلما صرت إلى الروشن ذكرت شغلا عليّ كان شغلني به فانصرفتُ وجلستُ لذلك فإذا بنازوك قد دخل عليه سيفه وبيده دبوس وإذا بيلبق يتلوه وهُما بخلاف ما أعهدهما من الانبساط ومع كل واحد منهما نحو خمسة عشر غلاماً بسلاح . فلما لم يجدوه في مجلسه دخلوا إلى دار حرمه فأخرجوه منها حاسراً وأجلس في طيار وحمل إلى دار نازوك وقبض معه على ابنيه الفضل والحسين ومن وُجد من كُتّابه .
ومضى نازوك ويلبق إلى مونس المظفّر وعرّفاه الخبر وكان قد خرج إلى باب الشَّمَّاسيَّة وأظهر أنه خرج للنزهة فانحدر معه هلال بن بدر وجماعة من قواده وذهب يلبق إلى دار نازوك وأخرج ابن الفرات من هناك مع ولديه وأسبابه وأخرج نازوك من داره رداء قصب وطرحه على رأسه لأنه كان حاسراً. فلما رأى ابن الفرات مونساً أظهر الاستبشار بحصوله في يده فأجلسه معه في الطيار وخاطبه بجميل مع عتاب فتذلل ابن
ص: 70
الفرات وخاطبه بالاستاذية فقال له مونس : الساعة تخاطبني بالاستاذية وبالأمس تخرجني على سبيل النفي إلى الرّقة والمطر يُصب على رأسي ثم تذكر لمولانا أمير المؤمنين أني أسعى في فساد مملكته وانحدر به إلى دار السلطان وتقدّم بحمل ولديه وكتابه إليها وتسليمهم إلى نصر .
فتكاثر العامة على ابن الفرات ومعهم أسباب المنكوبين يدعون عليه ويضجون واجتهد مونس في دفعهم فما قدر على ذلك ورجموا طيار مونس لمكان ابن الفرات فيه وصاحوا قد قبض على القرمطي الكبير وبقي القرمطي الصغير ولما وصلوا إلى باب الخاصة صعد جمع عظيم من السميريات لرجم ابن الفرات وولديه وكتابه بالآجُرّ حتى حوربوا واحتيج إلى رميهم بالسهام وجرح بعضهم فانصرفوا وتسلّمهم نصر .
فكانت مدّة ابن الفرات في هذه الوزارة الثالثة عشرة أشهر وثمانية عشر يوماً . ثم اجتمع وجوه القوّاد إلى دار السلطان وأقاموا على أن ابن الفرات إن حبس في دار الخلافة خرجوا بأسرهم إلى المصلى وأسرفوا في التهدد فدعا المقتدر مونساً ونصراً و شاورهُما فأشارا بتسكين القواد وبأن يخرج ابن الفرات ويسلّم إلى شفيع اللؤلؤي ويعتقل عنده فاستحضر شفيع وسلم إليه .
كان أبو القاسم عبد الله بن محمد الخاقاني استتر في أيام وزارة ابن الفرات الثالثة وأبوه أبو علي شديد العلة وقد أسنّ وتغير فهمه ولما اضطرب أمر ابن الفرات عندما جرى على الحاج ما جرى سعى عليه أبو القاسم الخاقاني وعلى ابنه المحسن وعمل لهما عملاً وسعى له في ذلك نصر الحاجب وثمل القهرمانة وغيرهما. وكان مونس أشار بأبي القاسم الخاقاني قبل ذلك فقال المقتدر : أبوه خرب الدنيا وهو شرّ من أبيه ولكن تقلد الحسين بن أحمد المادرائي. فعرفه مونس أنه قد نفذ إلى مصر وأن استحضاره يبعد ثم ساعده نصر وابن الخال في ذلك ثم استحضره المقتدر وشافهه بتقليده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه مونس المظفر وهارون بن غريب إلى داره .
ذكر أبو الحسن أنه سلّم إلى شفيع كما ذكرنا فراسله شفيع على يد المعروف بالجمل كاتبه فيما يبذله من المصادرة عن نفسه ليسلم من أعدائه ومن تسليمه إلى الخاقاني وأبي العباس بن بعدشر وهو كاتب الخاقاني فأجابه ابن الفرات بأنه لا يفعل أو
ص: 71
يَثِق من المقتدر بالله في حفظ نفسه من تسليمه إلى أحد من هذه الطبقة. وقال للكاتب الملقب بالجمل: قل لصاحبك : إني قد خلفتُ في يد هارون الجهبذ وابنه مائة ونيفاً وستين ألف دينار حاصلها قبلهما من مال المصادرين ليعرف الخليفة ذلك ويتقدّم بحملها إلى بيت مال الخاصة من وقته هذا حتى لا يوهمه الخاقاني أنه هو استخرجه ثم يصرفه في النفقات التي سبيلها أن ينفق من بيت مال العامة فركب شفيع للوقت وأنهى ذلك إلى المقتدر فوجه إلى الجهبذين وكانا في دار الخاقاني لم يُكلّمهُما بعدُ لتشاغله بالتهنئة فأحضرا واعترفا بالمال وحملاه وصححاه في بيت مال الخاصة.
وتقدّم المقتدر إلى نصر الحاجب بتسليم أولاد ابن الفرات وكُتّابه وأسبابه إلى الخاقاني فسلمهم إليه وأخذ خطهُ بتسلمهم وسلمهم الخاقاني إلى أبي العبّاس بن بُعدشرّ فقيدهم وأجلسهم على الأرض في الحر الشديد ثم أخذ خطّ كلّ واحدٍ من ولدي ابن الفرات بمائة ألف دينار وخطّ سعيد بن إبراهيم بمائتي ألف دينار وخط أبي غانم كاتب المحسن بمائتي ألف دينار ووقع النداء على المحسن وهشام وابني فرجويه والتهديد لمن وُجدوا عنده بعد النداء بالنهب وإحراق المنازل وضرب ألف سوط . وواقف أبو الحسن شفيعاً على أن يضمن عنده مالاً إن ردّ إلى دار السلطان ولم يسلّم إلى أحدٍ فذهب شفيع فخاطب في ذلك المقتدر فقال له المقتدر : إن مونساً ونصراً وهارون بن غريب قد اجتمعوا على أنه لا يمشي للخاقاني أمر إلا بتسليم ابن الفرات إليه وضمن أن يستخرج منه ومن ابنه وأسبابه ألفي ألف دينار.
فانصرف شفيع ووجه إلى ابن الفرات بكاتبه يشرح الصورة له فقال هذا الكاتب وهو الملقب الجمل: كنتُ أدخل إلى ابن الفرات في كل يوم لتفقد أحواله فكنتُ أجده أقوى الناس نفساً وأصبرهم على نوائب الدهر قال ولقد سألني عمَّن تقلد الوزارة فعرفته أنه أبو القاسم بن أبي علي الخاقاني فقال : «السلطان نكب وما نكبتُ أنا» وسلني عمَّن تقلد الديوان (يعني ديوان السواد )فقلتُ : محمد بن جعفر بن حفص. فقال: «بحجره رُمي» وسألني عمَّن تقلد باقي الدواوين فعرفته أنهم يحيى بن نُعيم المالكي ومحمد بن يعقوب المصري وإسحاق بن علي القُنَّائي فقال: «لقد أيَّد الله هذا الوزير بالكفاة».
وكان المُناظِر لابن الفرات ابن بُعدشرّ فرفَق به فوعده أن يتذكر ودائعهُ ويُعرّفه إياها فعاوده بالرفق فأقرّ أن له عند التجار مائة وخمسين ألف دينار وكان المقتدر رسم أن يكون مال مصادرة ابن الفرات وحده يُحصّل في بيت مال الخاصة ومال مصادرة أسبابه في بيت مال العامة . ولما استُخرج ما ذكره ابن الفرات من التجار أعاد ابن بُعدشرّ مطالبة ابن الفرات فذكر أنه لم يبق له مال فأوقع به مكروهاً يسيراً ولم يكن ابن الفرات مِمَّن يستجيب بالمكروه فتقاعَدَ وامتنع دفعة واحدة من أداء شيء. فمضى هارون بن غريب
ص: 72
إلى المقتدر وعرّفه أن الخاقاني جنى على السلطان بتسليمه ابن الفرات إلى ابن بُعدشرّ وأنه كان ينبغي أن يرفُق به ويُداريه فإنه ممن لا يستجيب بالمكروه فتقدم المقتدر إلى الخاقاني بأن تكون مُناظرة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب وأن يرفق به. وكان ابن بعدشر قد ضيّق على ابن الفرات في مطعمه ومشربه حتى أنه أدخلَ إليه خبز خُشكار وقثاء وماء الهواء فوجه إليه بطعام واسع وشراب وثلج كثير وفاكهة واعتذر إليه عما جرى وحلف أنه لم يعلم بما عُومل به .
ثم إن الخاقاني راسله على يد خاقان بن أحمد بن يحيى برفق ومداراة بأن يقهر بماله ولا يلاج السلطان فليس ذلك بمحمود فأجابه بأن قال : قُل للوزير : لست حدثاً غرّاً فتحتال عليَّ في المناظرة ولست أقول إني لا أقدر على المال ولكن إذا وثقت لنفسي بالحياة فديتها بالمال وإنما أثق بذلك إذا كتب أمير المؤمنين بخطه لي أماناً وشهد الوزير والقُضاة بخطوطهم ويكتب لي الوزير أيده الله أماناً بخطه ويسلّمني إلى أحد رجلين إما مونس المظفّر وإن كان عدوي وإما شفيع اللؤلؤي فإن لم يفعل ذلك فقد وطئتُ نفسي على التلف. فوجه إليه الخاقاني : بأني لو قدرتُ على التوثق لك لتوثقتُ ولكن إن تكلّمتُ في هذا المعنى عاداني خواص الدولة لأجلك ثم لم تنتفع أنت بذلك وقد ردّ الخليفةُ أمرك إلى هارون بن غريب فتواعدوا إلى دار الخاقاني بالمخرم واستحضر ابن الفرات وناظَرَهُ ابن بعدشر بحضرته فتماتن ابن الفرات فبدأ ابن بُعدشرّ يُسمعه المكروه فأنكره هارون وزبره وقال بهذا تريد أن تستخرج مال ابن الفرات؟ وأقبل هو على ابن الفرات وداراه وخاطبه بجميل وقال له : أنت أعرف بالأمور من كلّ من يخاطبك والخلفاء لا يُلاجهم وزراؤهم إذا سخطوا عليهم. فقال له ابن الفرات: أشر علي أيها الأمير فإن من كان في مثل حالي عزب عنه الرأي. فلم يزل معه في مناظرات إلى أن أخذ خطّهُ بمصادرة ألفي ألف دينار على أن يُعجل منها الربع وعلى أن يحتسب له من الربع بما أدّاه وما أُخِذ بعد ذلك مما لعلَّه استخرج ذلك مما لعله استخرج من ودائعه بغير إقرار منه ويطلق له بيع أملاكه وما يستبيع من ضياعه وأمتعته وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان ويطلق الكلوذاني ليتصرّف في جمع أمواله وتطلق له الدواة ليكاتب من يرى مكاتبته. فأخذ هارون بن غريب خطَّۀُ بجميع ما كتب به وحمله إلى المقتدر بالله .
كان المحسن استتر عند حماته حنزابة وهي حماته ووالدة الفضل بن جعفر بن الفرات فكانت تحمله كلّ يوم بكرة إلى المقابر في زي النساء وتردّه إلى المنازل التي تثق بها بالليل. فمضت به يوماً إلى مقابر قريش في زي النساء على رسمه وأمست فبعد عنها الطريق إلى الكرخ فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تثق بها ليس معها رجل
ص: 73
لأن زوجها مات منذ سنة فصارت حنزابة مع النسوة والمحسن إلى هناك فقالت لصاحبة الدار : إن معنا امرأة لم تتزوّج بعد وقد عادت من مأتم وضاقت عليها فافردي لها بيتاً. فأفردت لها بيتاً في صُفّةٍ وأدخلت إليه المحسن ثم ردّت عليه الباب وجلس النسوة مع المحسن في البيت فجاءت جارية سوداء بسراج معها فوضعته في الصفة وأدخلت حنزابة إلى المحسن بسويق وسُكر وكان المحسن قد نزع ثيابه فاطَّلعت الجارية السوداء من حيث لا يشعُر المحسن ولا حنزابة في البيت وعلمت أنه رجل فانصرفت وأخبرت مولاتها فلما جن الليل جاءت مولاتها وطالعت البيت فرأت المحسن. وكان ذلك من نحس المحسن وخذلان الله إياه لأن تلك المرأة كانت زوجة لمحمد بن نصر وكيل علي ابن عيسى وكان المحسن طلبه فأدخل إلى ديوانه فرأى ما يلحق الناس من المكاره بحضرة المحسن فمات من الفزع فُجأة من غير أن يكلمه المحسن. فمضت المرأة في الوقت إلى دار السلطان حتى وصلت إلى دار نصر الحاجب وشرحت له الصورة فأنهى نصر الحاجب الخبر إلى المقتدر بالله فتقدّم بالبعثة إلى نازوك ليركب إلى الموضع ويقبض على المحسن فركب نازوك من وقته إلى الموضع وكبسه وقبض على المحسن. وضربت الدبادب لذلك نصف الليل عند الظفر به حتى ارتاع الناس ببغداد وظنُّوا أن القرمطي قد كبس بغداد.
وحمل المحسن إلى دار الوزارة بالمخرم وتسلّمه ابن بعدشر فأوقع به ابن بعدشر وجرّعهُ في وقته مكروهاً عظيماً وأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف دينار. وحضر هارون بن غريب دار المخرّم وناظر المحسن فوعدَهُ أن يتذكَّر ودائعه ويقربها ولحقه في يومين متواليين مكروه عظيم فلم يذعن بدرهم واحدٍ وقال ليس يجمع بين نفسي ومالي. وحضر بعد ذلك هارون بن غريب ومعه شفيع اللؤلؤي وأحضر المحسن والكتاب وابن بعدشر وناظر المحسن وأوقع به مكروهاً عظيماً وقال له : هبك لا تقدر أن توفي المال الذي أخذ خطّك به لا تقدر أن توفي مائة ألف دينار؟ فقال له : بلى إذا أمهلت وزال عني المكروه. فقال له نحن نمهلك فاكتب خطك بمائة ألف دينار. وثبت بذلك خطه وأنه يؤديها في مدة ثلاثين يوماً فلما قرأ هارون بن غريب الرقعة قال : كأنك ترجو أن تعيش ثلاثين يوماً. فخضع له المحسن وقال له : افعل ما يأمر به الأمير. قال: اكتب بأنك تؤدّيها في مدة سبعة أيام. فارتجع الرقعة ليكتب بدلها فلما حصلت في يده مضغها وبلعها وامتنع أن يكتب غيرها. فقيد وغلّ وألبس جبة صوف وضرب على رأسه بالدبابيس على أن يكتب ما كان كتبه فلم يكتب فأعيد إلى محبسه وعذَّب فيه بأنواع العذاب فلم يذعن بدرهم واحد.
فلما كان بعد ذلك حضر الأستاذ مونس ونصر الحاجب والقضاة والكتاب مجلس
ص: 74
الوزير الخاقاني وأحضر أبو الحسن بن الفرات وناظره الخاقاني ولم يكن الخاقاني من رجاله وكاد أبو الحسن بن الفرات أن يأكله فكان فيما قال له : إنك استغللت ضياعك في مدة أحد عشر شهراً ألف ألف دينار فقال : قد كانت هذه الضياع في يد علي بن عيسى عشر سنين أيام وزارته وأيام وزارة حامد بن العباس وما ارتفع له منها إلا أربعمائة ألف دينار فقد ادعيتَ لي المعجزات. فقال له : أضفت حقوق ضياع السلطان إلى ضياعك . فقال : الدواوين لا يمكن أن يكتم ما فيها فتنظر في ارتفاع النواحي السلطانية في أيام نظري فيها وفي ارتفاعها أيام علي بن عيسى ووزارة حامد بن العباس ووزارة أبيك التي دبَّرتها أنت حتى تعلم هل زادت ارتفاع ضياع السلطان في أيامي أم نقصت.
ونوظر فيمن قتل وشنع عليه بهم فقال : ليس يخلو ذلك من أحد أمرين إما أن يقال إني أنا قتلتهم فلم أغب عن الحضرة والقتل لم ينسب إليَّ والمدعي قتله بالبعدِ منها وإما أن يقال: كتبت خطَّك بقتلهم وهؤلاء أصحاب المعاون وثقات السلطان وعمال الخراج ووجوه متصرّفي عمال السلطان قد حكمتهم على نفسي. فقيل له قد قتلهم ابنك. فقال : أنا غير ابني وأنتم تناظرونني. فقال له ابن بعدشر كذا : إذا قتل ابنك الناس فأنت قتلتهم. فقال له ابن الفرات هذا غير ما حكم الله ورسوله فإنه عزّ وجلّ يقول: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]. وقال النبي عليه السلام لرجل من أصحابه : «أهذا ابنك ». فقال : نعم . قال : « أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . ومع هذا فهو في أيديكم سَلُوه فإن وجب عليه قود بادعاء قتل في موضع ناء عنه يقال فيه إن غيره تولى قتله فالحكم في هذا معروف .
فتحير القوم في الجواب فقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب إن رأى الحاجب أن يقول له حيث كنت تقول لمن تُطالبه : «إن أدّيت وإلا سلّمتُكَ إلى المحسّن أكنت تُسلّمه ليسقيه السويق والسكّر أو ليُعذبه ومن أطلق التعذيب فقد أطلق القتل لأن الإنسان قد يتلف بمقرعةٍ واحدةٍ يُضرب بها فضلاً عن غيرها.
فخاطَبهُ نصر بذلك فقال في الجواب : إن الخليفة أطال الله بقاءه ولي المحسن وأنا إذ ذاك محبوس وهو مُطلَقٌ فضمن ما ضمنه وجرى ذلك على يد مفلح وتوسطه جماعة من ثقات السلطان . ثمّ لما تقلدتُ الأمر كنتُ أحب الرفق بالناس وإذا ناظرتُهم ورفقتُ بهم لم يذعنوا بما يلزمهم فإذا أقاموا على الامتناع سلّمتهم إلى من نصبه السلطان وأمر بتسليمهم إليه . فقال له مونس كأنك تُحيل على الخليفة في قتل الناس فإن الخليفة قال : «ما أمرتُ بقتل أحد سوى ابن الحواري فقط».
أقبل نصر عليه فقال له : معي رسالة من الخليفة إليك فتسمعها وتُجيب عنها .
قال : وما هي ؟ قال : يقول سلّمتُ إليك قوماً بمال ضمنته لي وأريد منك أحد أمرين إما
ص: 75
وفِّيتَني المال أو رددت علي القوم . فقال ابن الفرات: أما المال فقد صح في بيت المال وأما الرّجال فما ضمنت أرواحَهُم ولا بقاءهم وقد تلفوا حتف إنافهم. فقال له مونس المظفر : هب أن لك في كل شيء عذراً وحجّة أي عُذر لك في إخراجي إلى الرقة حتى كأني من العُمّال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين. قال : أنا أخرجتُك ! قال : فمن أخرجني ؟ قال : مولانا أمرني بإخراجك قال مولاي لم يأمر بذلك . قال :معي حجة بخطِهِ كتب إلى رقعة احتفظت بها لأنها بخطه يشكو فيها أفعالك وقتاً بعد وقت وفتحك البلدان بالمؤن الغليظة ثم إغلاقك إياها بسوء تدبيرك وآثارك القبيحة . قال : وأين الرقعة. قال في أيديكم في جملة المهمات التي أمرت بحفظها في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطي بالتحفظ به من المهمات وفيها الأمر بإخراجك إلى الرقة والتوكل بك حتى تخرج فأمر الخاقاني بإحضار السفط فوجده مختوماً بخاتم ابن الفرات ووجد فيه الرقعة بعينها وفيها جميع ما ذكر ابن الفرات بخط المقتدر فأخذها . ومضى مونس من وقته إلى المقتدر حتى لقيه وأقرأه الرقعة فاغتاظ المقتدر على ابن الفرات غيظاً شديداً فأمر هارون بضربه بالسوط فمضى هارون حتى ضرب ابن الفرات بين الهنبازَيْنِ خمس درر فقط وقال: له يا هذا أذعن بمالك. فأعطى خطه بعشرين ألف دینار وقال : هذا مالي.
ثم أخرج المحسن في الوقت فضربه ضرب التلف فلم يذعن بشيء بتة فصار هارون بن غريب إلى المقتدر بالله واستعفى من مناظرة ابن الفرات وابنه وقال : هؤلاء قوم ليس في عزمهم أن يُؤدُّوا شيئاً البتة وقد استقتلوا فأمر بتسليمهما إلى نازوك وبسط المكروه عليهما فأوقع نازوك بالمحسن أنواع المكارِه حتى تدوّد بدنه ولم يبق فيه فضل لمكروه وضرب أبا الحسن بن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يذعن بدرهم واحدٍ واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني الوزير وقال له : ما رأيت شيئاً مما ضمنته من أموال ابن الفرات وابنه صح . فقال : لأنه لم يترك والتدبير وأن ابن الفرات لما عدل به عن مناظرة الكتاب وسلم إلى أصحاب السيوف يئس من الحياة فضنَّ بالمال ونظر إليه ابنه فاقتدی به وقال نازوك للمقتدر. قد انتهيت بهؤلاء القوم من المكاره إلى الغاية حتى أن المحسن مع ترفه قد تدوّد بدنه وصبر بعد ذلك على مكاره عظام لم يُسمَع بمثلها وقد مضت له الآن أيام لم يطعم طعاماً وإنّما يشرب الماء شرباً يسيراً وهو في أكثر أوقاته مغشي عليه، فقال المقتدر بالله : إذا كان الأمر كذلك فلا بد من حملهما إلى داري . فأظهر مونس والجماعة أن الصواب في ذلك وقال الخاقاني: قد وفق الله رأي أمير المؤمنين . وخرجت الجماعة من حضرته .
فأسرَّ الخاقاني إليهم وهم بعد مجتمعون في دار السلطان وقال : إن حمل ابن
ص: 76
الفرات إلى دار الخليفة بذل أسبابه عنه وعن ابنه الأموال وإذا وثق مع ذلك بالخليفة وحصل في داره أخرج أمواله وتوثق لنفسه ولابنه. فإذا أمن على نفسه تضمن الجماعة وحمل الخليفة على تسليمها إليه ويطمعه في أن يوفر أرزاقها وإقطاعاتها وضياعها له أموالاً جليلة خطيرة والوجه أن يقع التجمّع من القواد واليمين على أنهم إن
ويجمع وقفوا على أن ابن الفرات وابنه حملا إلى دار الخليفة خلعوا الطاعة . فقال مونس : هذا شيء إن لم نفعله لم يصف لنا عيش. وتجرد لهذه الحال هارون بن غريب ونازوك فجمعا القوّاد ووجوه الغلمان الحجرية وكان يلبق يستحلفهم .
ثم اجتمعوا بأسرهم إلى مونس ونصر وأظهروا ما في نفوسهم فأشار مونس بأن يلتمس القوّاد نقل ابن الفرات وابنه إلى دار مونس فإن مات المحسن استبقى أبوه فقال له هارون بن غريب : إذا مات المحسن لم يصلح أن يستبقي أبوه وكيف يوثق به وقد قتل ابنه حتى يؤمن على الملك؟ ثم كاشفوا المقتدر بالله وقالوا بأجمعهم : إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء بأسرهم الطاعة. وواصل هارون بن غريب مخاطبة المقتدر في قتل هذين وقال : لستُ آمنُ أن يجتمع الأولياء على البيعة لبعض بني هاشم ثم لا يتلافى الأمر. وأرادت الجماعة من الوزير الخاقاني التجريد في ذلك فقال : لستُ أدخل في سفك الدماء وإنما أشرتُ بألا يحملا إلى دار السلطان فأما قتله فخطأ لأنه ليس ينبغي أن يُسهل على الملوك ولا يُحسّن لهم قتل أحدٍ فإنهم متى فعلوا ذلك خَفَّ عليهم قتل خواصهم حتى يأتوا عليهم بأدنى ذنب وخطأ يكون منهم.
فلما كان يوم الأحد لاثني عشر الأحد لاثني عشر ليلة خلت من شهر ربيع الآخر قُدّم إلى ابن الفرات طعامه فأمر برفعِهِ وقال : أنا صائم. وحضر وقت الإفطار فقدّم إليه لما حضر وقت الطعام فقال : لستُ أفطر .الليلة فحضر عنده من اجتهد به أن يفطر فقال : أنا مقتول في غد لا محالة . فقيل له : أعيذك بالله . فقال : بلى رأيتُ البارحة أخي أبا العباس رحمه الله في النوم وقال لي : أنت تفطر عندنا يوم الاثنين بعد غدٍ وما قال قط في النوم شيئاً إلا صح وغداً الاثنين وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي صلوات الله عليه . فلما كان من الغد وهو يوم الاثنين انحدر الناس إلى دار الخليفة فلم يصلوا فكتب هؤلاء الرؤساء بقتل ابن الفرات وابنه فأجابهم المقتدر أن دعوني أنظرُ في ذلك. فكتبوا إليه : أنه إن تأخَّر قتل ابن الفرات وابنه عن هذا اليوم جرى على المملكة ما لا يتلافى.
وكتب المقتدر إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما ويحمل رؤوسهما إلى حضرته فقال نازوك: هذا أمر عظيم لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع. فأمر المقتدر الأستاذين والخدم بالخروج إليه برسالته بإمضاء ما كتب به فخرجوا إليه بذلك فقال : لا أعمل على رسالة
ص: 77
ولا بدَّ من مشافهة بذلك. وابن الفرات يراعي الخبر فلما قيل له إن الناس قد انصرفوا وأن نازوك انصرف إلى منزله سكن قليلاً ثم قيل له : إن نازوك قد عاد إلى دار السلطان . فاضطرب جدا وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم فجلس في الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلاً فيها ووجّه بعجيب خادمه ومعه السودان حتى ضرب عنق المحسن. وصار برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه. فارتاع لذلك ارتياعاً شديداً وعُرض هو على السيف فقال لنازوك : يا أبا منصور ليس إلا السيف؟ راجع أمير المؤمنين في أمري فإن لي أموالاً عظيمة وودائع كثيرة وجواهر جليلة. فقال له نازوك : قد جلّ الأمر عن هذا وأمر به فضُربت عنقه وحمل رأسه ورأس ابنه إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما فغُرقا في الفرات وغُرّقت الجثتان في الثمانين ببغداد. وكان سن أبي الحسن بن الفرات رحمهُ الله يوم قتل إحدى وسبعين سنة وشهوراً وسن ابنه المحسّن ثلاثاً وثلاثين سنة وقد كان حكم العاصمي المنجم في تلك السنة أنه يخاف فيها على ابن الفرات نكبة وتلفاً بالسيف وذكر ذلك في مولده الذي كان بين يديه وحكم على مولد المحسّن أن عُمرَهُ ثلاث وثلاثون سنة فصحَّ حكمه .
وفي هذه السنة ورد كتاب الفارقي من البصرة يذكر أن كتاب أبي الهيجاء بن حمدان ورد عليه من هجر يذكر أنه كلّم أبا طاهر القرمطي في أمر من استأسر من الحاج وسأل إطلاقهم فوعده بهم وأنه أحصى من عنده من وأنه أحصى من عنده منهم فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين رجلاً ومن النساء نحو خمسمائة امرأة . ثم وردت الأخبار بورود قوم بعد قوم إلى أن كان آخر من ورد منهم أبو الهيجاء وأحمد بن بدر عمّ السيّدة. وقدم بقدوم أبي الهيجاء رسول أبي طاهر القرمطي يستدعي الإفراج عن البصرة والأهواز ونواح أخر فأنزل الرسول وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة ثم صرف ولم يقع إجابة إلى شيء مما التُمس .
وفيها خلع على نجح الطولوني ورُدَّ إلى أصبهان لولاية أعمال المعاون بها .
وفيها ورد رسول ملك الروم ومعه أبو عُمَير بن عبد الباقي ووصل إلى السلطان وأوصله معه هدايا والتمس الهدنة والفداء فأجيب إلى ذلك بعد الغزاة الصائفة وخلع عليهما ورجع الرسول إلى بلد الروم.
وفيها خلع على جني الصفواني وكان ورد من ديار مُضر واستدعى محاربة أبي طاهر القرمطي .
وكان سليمان بن الحسن بن مخلد وأبو علي بن مقلة مبعدين بشيراز في يد أبي عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي فذكر أبو علي أنه كان مجتمعاً مع سليمان في دار واحدة مصونَيْن مُكرَمَيْن . فورد عليه الخبر بالقبض على ابن الفرات وكان أبو الحسين بن أبي البغل معتقلاً في يد صارفه جعفر بن القاسم الكرخي قال : فاطلعت الجماعة على الخبر
ص: 78
وكان ابن أبي البغل قد وقف على ما كان رسمه ابن الفرات والمحسن في أمره فحين وقف على الخبر وقع في حاشية التقويم: وفي هذا اليوم ولد محمد بن أحمد أحمد بن يحيى وله إحدى وثمانون سنة . ولما وقف الكرخي على الخبر أطلق أبا علي بن مقلة وسليمان بن الحسن وهنأهما بالسلامة قبل أن يرد عليه كتاب بإطلاقهما . ثم ورد كتاب الخاقاني على المسمعي والكرخي بإطلاقهما ومراعاتهما حتى لا يخرجا من شيراز فأقام سليمان مدة أسبوع حتى أحكم أمره. ودعا المسمعي جعفر بن القاسم الكرخي دعوة عظيمة وأقام على حال سرور يومين متواليين فخفي عنهما الخبر في خروج سليمان وكان خرج في زيّ الفيوج فلما كتبا إلى الخاقاني بهرب سليمان عظم عليه واشتدّ الأراجيف بوزارة سليمان ودخل سليمان بغداد مُستتراً وأقام أبو علي بن مقلة بشيراز إلى أن توصلت زوجته إلى أسباب الخاقاني وعنى به شفيع المقتدري وأمر الخاقاني بإطلاقه والإذن له في المصير إلى الأهواز وكتب له بإجراء مائتي دينار في كلّ شهر عليه ومنعه من الخروج فأقام مدة ثم أذن له في قدوم بغداد بشفاعات الناس له .
وفيها خاطب مونس المظفّر الوزير الخاقاني في أمر علي بن عيسى وأن يكتب إلى أبي جعفر صاحب اليمن بالإذن له في الرجوع إلى مكة فكتب إليه بذلك فأذن له أبو جعفر وحمل إليه طيباً وكسوة وآلات نحو خمسين ألف دينار وعاد علي بن عيسى إلى مكة مع حاج اليمن فلما حصل بها قلّده الخاقاني بمسألة مونس الإشراف على مصر والشام. وكتب علي بن عيسى لما وصل إلى مكة وقبل تقلده الإشراف على مصر والشام إلى الوزير الخاقاني كتاباً يهنئه فيه بالوزارة ويُعزّيه بأبي علي أبيه ويسأله صيانة أهله وولده والعناية بهم في ضيعته ومعيشته فأجابه الخاقاني بجواب جميل وأنه قد رعى حقه في أهله وولده وحاشيته غير معتد عليه ولا مُتحمّد به.
كان أبو العباس بن الخصيبي وقف على مكان زوجة المحسن بنت حنزابة فسأل أن يولى النظر في أمرها واستخراج مالها ففعل ذلك واستخرج منها سبعمائة ألف دينار وصححها في بيت مال الخاصّة فتمهدت له بذلك حال جليلة عند المقتدر ورشّحه للوزارة. وبلغ ذلك الخاقاني فحمل ابن بعد شرّ على أن بذل خطه أنه يستخرج من الخصيبي مائة ألف دينار معجلة وصل إليه من مال المحسّن وزوجته زيادة على ما صححه من هذه الجهة وعرض الخاقاني الرقعة فلم تقع موقعها واتصل الخبر بأبي العباس الخصيبي فكتب إلى المقتدر رُقعة يذكر فيها معايب الخاقاني وابنه وكتابه وضياع الأموال وفساد التدبير وسلمها إلى من يعرضها على المقتدر والسيدة. وبلغ ذلك الخاقاني واشتدَّت به الأراجيف وضعفت نفسه وكان عليلاً فزادت عليه حتى أقام شهوراً
ص: 79
لا يقدر على أكل لحم حمل ولا طائر وكان يأكل كل يوم وزن أربعين درهماً خبزاً ثم صار عشرين درهماً وظهر به ورَمٌ في بدنه ورجليه ووجهه وكان يتجلّد ويركب في كل شهر مرة أو مرتين إلى دار السلطان وينوب عنه ابنه في أيام المواكب. فشغب الفرسان لطلب أرزاقهم وخرجوا إلى المصلى فوعدوا به وتأخر عنهم فعادوا وطمعوا في النهب وأشرفت بغداد على فتنة عظيمة وخرج إليهم ياقوت بتوقيع المقتدر بالله إلى الخاقاني بإطلاق رزقة تامة لهم وضمن ياقوت ذلك . فراسل المقتدر الوزير الخاقاني بإطلاق نفقاتهم فذكر أنه لا يقدر على ذلك وكان عليلاً فعاوده برسالة يأمره فيها أن يحتال في مائة ألف دينار ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق فيهم فأقام على أنه لا يقدر على احتيال مائة ألف درهم وأن له في توجيه مال النوبة للرجالة ومال الغلمان الحجرية والحشم وخلفاء الحجاب شغلاً طويلاً. فتقدّم المقتدر بإخراج ثلاثمائة ألف دينار من بيت مال الخاصة واعتمد على ياقوت في تفرِقَّتها .
وكان مونس المظفر بواسط فاستدعاه المقتدر لما شغب الفرسان فوافى وتلقاه الأمير أبو العباس والوزير الخاقاني ونصر وسائر الأستاذين والقوَّاد ولقي المقتدر فعرّفه ضيق موال وتبلح الخاقاني وشاوره في صرفه فأشار عليه بالتوقف ليلقاه ويُواقفه فلقيه مونس فعرفه الخاقاني أنه لا حيلة له في شيء يصرفه في المهم واحتج بأنه عليل لا فضل فيه للعمل فأشار مونس لما رأى تبلح الخاقاني الشديد باستحضار علي بن عيسى وتقليده الوزارة فاستبعد المقتدر ذلك فأشارت السيدة والخالة بأبي العباس الخصيبي فقبض على الخاقاني واستتر ابنه عبد الوهاب وإسحاق بن علي القُنَّائي وأخوه وابن بعدشر وخاقان أحمد بن بن يحيى بن خاقان وظهر الباقون فكانت مدة وزارته سنة واحدة وستة أشهر .
واستحضر المقتدر أبا العباس الخصيبي وهو أحمد بن عبيد الله يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فقلده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه هارون بن غريب وياقوت ونازوك وأكثر القواد واستكتبت ثمل القهرمانة مكانه على ديوان ضياع السيدة أبا يوسف عبد الرحمن بن محمد وكان قد تاب من عمل السلطان فلما أسند إليه هذا العمل الجليل كسر التوبة فسماه الناس «المرتد واستدرك أموالاً جليلة كان الخصيبي أضاعها فتنكرت ثمل للخصيبي في الباطن.
وكان أبو العباس الخصيبي يواصل شرب النبيذ بالليل والنوم بالنهار في أيام وزارته كلها وإذا انتبه يكون مخموراً لا فضل فيه للعمل فردّ فض الكتب الواردة من عمَّال الخراج والمعاون وقرامتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين وقراءة الكتب النافذة
ص: 80
والتعليم عليها إلى مالك بن الوليد ويعمل جوامع مختصرة للمهم مما يرد وينفذ فيعرضه عليه إذا انتبه فربما قرأه وربما لم يقرأه فيقرأه أبو الفرج إسرائيل ويوقع فيه على حسب رأيه. وكانت الجوامع تعمل بخط أبي سعيد وهب بن إبراهيم بن طازاذ فتبقى أياماً بحضرته فإذا كثرت تقدم بأن يقرأ عليه ويتقدم بالتوقيع تحت كل فصل بما عنده فيه ويخرج ذلك الجامع إلى مالك بن الوليد فيبقى عنده يوماً أو يومين ثم يخرج إلى صاحب الديوان فيقرأه ويوقع تحته بما يراه ويجاب عن الكتاب من الديوان بما ينفذ إلى صاحب الديوان فيقرأه ويعلم عليه وإلى أن ينفذ الجواب ما قد تمردت البثوق واتسعت الفتوق واحتملت الأعراب الغلات وحدثت الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب.
فلما رأى الكلوذاني ذلك ورأى الضرر يزيد والخطأ لا يتلافي كتب إلى العمال بأن ينفذوا نسخة لما يكتبونها إلى الوزير إليه فكانوا يكتبون إليه نسخاً بما ينفذ منهم إلى الوزير فيوقع على ظهرها بما يجابون به وتخرج إليه الكتب المكتوبة عن الوزير بعد جمعة وأكثر .
وتقدّم الوزير الخصيبي إلى أبي الحسن بن ثوابة بأن يقرأ قصص المتظلمين ويوقع عنه فيها في غير يوم المظالم ويجمع القصص في يوم المظالم ويختصر ما في الرقعة فإذا قرأها وقع بحسبه وكان أكثر اعتماده على أموال المصادرين وكان أول المصادرين أبو القاسم الخاقاني واعتنق مونس أمره وذكر للمقتدر أنه لا فضل فيه للحركة وأنه قد قرر أمر مصادرته عن نفسه وابنه وكتابه المختصين به على مائتي ألف وخمسين ألف دينار. فأمضى المقتدر ذلك وأنفذ خطه به إلى الخصيبي ووضع الخصيبي يده على العمال والكتاب وجاذفهم فيما صادرهم عليه فصادر جعفر بن قاسم الكرخي على مائة وخمسين ألف دينار وقبض على المالكي وعلى هشام وعلي بن الحسين بن هندي وورثة أبي أحمد الكرخي والحسن بن أبي الحسن بن الفرات ويحيى بن عمرويه وأبي الحسن بن مابنداذ وإسحاق بن إسماعيل النوبختي ومحمد بن يعقوب المصري وورثة نصر بن الفتح صاحب بيت المال وابن عبد الوهاب وعبد الله بن جُبَير وكثرت الأراجيف بالخصيبي وأنه مصروف عن الوزارة لأنه حمار لا يُحسِن شيئاً غير المصادرات وهو مشغول بالشرب واللعب وأن الأمور كلّها ضائعة والمهمات واقفة وأرجف بالوزارة لجماعة .
وفيها كانت وقعة أبي طاهر سليمان بن الحسن القرمطي بالكوفة وأسر قُوّاد السلطان .
كان جعفر بن ورقاء يتقلّد أعمال الكوفة وطريق مكة فلما شخص الحاج من بغداد تقدّمهم خوفاً من أبي طاهر القرمطي وكان معه ألف رجل من بني معه ألف رجل من بني عمّه من بني شَيْبان . ثم خرج في القافلة الأولى ثمل صاحب البحر وفي قافلة الشمسة جنّي الصَفْواني
ص: 81
وطريف السُبكري وسياشير الديلمي فكانت عدة من بذرَقَ بالقوافل من أصحاب السلطان ستة آلاف رجل فتلقاهم أبو طاهر الجنابي وكان أوّل من لقِي جعفر بن ورقاء فناوشه قليلاً ثم طلع على جعفر قوم من أصحاب أبي طاهر على نُجَب يقودون خيلاً فنزلوا عن النُّجب وركبوا الخيل وخالطوا جعفر بن ورقاء فلم يثبت لهم وانهزم بمن معه من بني شيبان فلقي القافلة وقد نزلوا من العقبة فردّهم وأخبرهم الخبر فولّوا مُبادرين حتى دخلوا الكوفة. وتبع أبو طاهر رجال السلطان والقوافل حتى بلغ باب الكوفة فخرج قُوّاد السلطان الذين ذكرناهم فأوقع بهم وهزمهم وأسر جنياً الصفواني. وأقام أبو طاهر بظاهر الكوفة ستة أيام يدخل البلد بالنهار ويخرج بالليل فيبيت في معسكره ويحمل كل ما قدر على حمله فكان في جملة ما حمل أربعة آلاف ثوب وشي وثلاثمائة راوية زيت. فلما حمل كلّ ما قدر عليه رحل إلى بلده.
ودخل جعفر بن ورقاء وجماعة المُنهزمين إلى بغداد فتقدّم المقتدر بالله إلى مونس بالخروج إلى الكوفة لمحاربة القرمطي . واضطرب أهل بغداد اضطراباً شديداً وانتقل أكثر أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ودخل مونس الكوفة وقد رحل أبو طاهر الجنابي عنها فاستخلف مونس بها ياقوتاً وسار هو إلى واسط . ولم يتمّ الحجّ لأحدٍ .
وفيها ورد الخبر بمسير علي بن عيسى إلى مكة حاجاً في هذه السنة من مصر وورد سلامة حاجبه بغداد ومعه سفاتج بمائة ألف وسبعة وأربعين ألف دينار وبآتار واستدراكات أَثَرَها وكان الخصيبي قد أقرّ عليّ بن عيسى على ما كان إليه من الإشراف على مصر والشام .
وفيها فتح إبراهيم المسمعي ناحية القفص وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس .
وفي هذه السنة كثرت الأرطاب ببغداد حتى عُمل منها التمور وحملت إلى البصرة فنُسبوا إلى البغي.
وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يرسم لهم أداء الخراج إليه ويقول : إن فعلتم ذلك طائعين وإلا قصدتكم فقد صح عندي ضعفكم .
وفيها دخل الروم ملطية فأخربوا وسبوا وأقاموا ستة عشر يوماً وفيها وصل ثمل إلى عمله من الثغور عند انصرافه من بغداد .
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن محمد الخاقاني وكان أطلق إلى منزله فلما
ص: 82
ارتفعت الصرخة بوفاته كبست داره لطلب عبد الوهاب ابنه فلم يُوجد .
وفيها دخل أهل ملطية بغداد مستغيثين مما نزل بهم من الروم.
وفيها خرج أهل مكة منها ونقلوا حُرمهم وأموالهم لاتصال خبر القرمطي بهم وأنه قريب منهم فتخوّفوا على أنفسهم وأموالهم منه .
وكتب الكلوذاني إلى الخصيبي بأن أبا طالب زيد بن علي النوبندجاني قد صار يجري مجرى أصحاب الأطراف وأنه قد تغلب على ضياع السلطان وأنه يلزمه مما استغله منها ثلاثة آلاف ألف درهم وعمل بذلك عملاً أحال فيه على ما كان كتبه أبو القاسم علي بن أحمد بن بسطام وقت تقلده فارس وكتب إلى الحسن بن إسماعيل وكان شخص لِيُقرّر خلافاً كان بين المسمعي والكرخي بأن يُصادره على مائة ألف دينار فاستدعى الحسن بن إسماعيل أبا طالب زيد بن علي وأخذ خطه بمائة ألف دينار .
دبر الوزير أبو العباس الخصيبي أن يقلد يوسف بن ديوداذ جميع واحي المشرق لِيُسلّم أموالها إليه فيكون مع مال ضمانه أرمينية وأذربيجان مصروفة إلى قواده وجنده وغلمانه وكاتبه في المصير إلى واسط ليُنفذه إلى هجر لمحاربة أبي طاهر الجنابي وأشار بتكنيته وبأن يكون مونس المظفّر ببغداد ليقوى بمكانه أمر الخلافة وتعظم الهيبة في قلوب الأعداء. فلما قرب ابن أبي الساج من واسط وكان فيها مونس المظفر رحل مونس إلى بغداد ودخل ابن أبي الساج واسط وأنفذ قبل وصوله إليها أبا علي الحسن ابن هارون كاتبه وكان يخدمه في خاص أمره على سبيل الخلافة لأبي عبد الله محمد بن خلف النيرماني كاتبه واختص به وخف على قلبه فصار إلى بغداد ليواقف الخصيبي على مال رجاله وأموال الأعمال التي كانت معقودة عليه والأموال التي جعل مالها مصروفاً إلى رجاله زيادة على الأموال المتقدّم ذكرها فإن الخصيبي جعل أموال الخراج والضياع بنواحي همذان وساوه ورُوزه وقم وماه البصرة وماه الكوفة والإيغارين وماسبذان ومهرجانقذق لابن أبي الساج لمائِدته لمحاربة الجنابي. فأمضى المقتدر ذلك وتقدّم بتقليده أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بسائر كور الجبل وأنفذ إليه اللواء وكناه فكان يوسف يتكنى على جميع الناس إلا على الوزير ومونس المظفر والتمس الحسن بن هارون أن يجعل لابن أبي الساج مائدة مبلغها في الشهر خمسة ألف دينار وقال : ليس هو بدون أحمد بن صعلوك. وكان قد جعلت له مائدة في أيام وزارة حامد ابن العباس مبلغها ثلاثة آلاف دينار في الشهر وجعل له عشرة آلاف دينار في كل شهرين
ص: 83
من شهور المماليك لأرزاق غلمان لا يحضرون. وسام الكتاب الحسن بن هارون أن يشرط على نفسه أن ينفذ السلطانُ منفقاً يُنفِق أموال تلك النواحي في رجاله وغلمانه فاستجاب إلى جميع ما طالبوه به وأعطى خطه إلا بأمر المنفق فإنه زعم أن صاحبه لا يصوّر نفسه عند أصحاب الأطراف بصورة من لم يوثق به على مال رجاله. ولما عقد لابن أبي الساج على الجبل وندب لمحاربة القرمطي عقد لصاحب خراسان على الري فصار إلى الري وأنفذ إليه من يخاطبه على المال الذي وقف على حمله من الري .
وصار ابن أبي الساج إلى الري وحمل إليه المقتدر خِلعاً سلطانية وسيفاً ومنطقة ذهب وخيلاً بمراكب ذهب وفضة وطيباً وسلاحاً .
أضاق أبو العباس إضاقة شديدة واضطرب أمره وأشار مونس بعلي بن عيسى. فأنفذ ضحوة نهار يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة إلى الخصيبي حتى قبض عليه وعلى ابنه وكتابه وحملوا إلى دار السلطان وحبسوا عند زيدان القهرمانة وفرّق بين الخصيبي وبين ابنه وحمل باقي المعتقلين إلى دار الوزارة بالمُحَرّم
. فاعتقلوا فيها وأنفذ نازوك وقت قبضه على الخصيبي حتى حفظت داره القديمة من النهب واستدعى المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني وأوصله إلى حضرته وعرفه أنه قد قلد أبا الحسن علي بن عيسى الوزارة وأنه قد استخلفه له ويقدم إليه بالنيابة عنه واستحضر سلامة الطولوني وتقدّم إليه بالنفوذ في البرية إلى دمشق واستحضار علي ابن عيسى منها وانصرف أبو القاسم الكلوذاني من دار السلطان في الطيار الذي قُبض على الخصيبي إلى دار الوزارة بالمخرَّم ونظر في الأعمال وكتب إلى العمال في النواحي وإلى جميع الأمراء وأصحاب البرد والخبر والقضاة بما قلد علي بن عيسى من الوزارة واستخلاف أمير المؤمنين إياه وأمر ونهى وصرف وولي.
وظهر في ذلك اليوم أبو علي بن مقلة وأبو الفتح الفضل بن جعفر بن حنزابة وصارا إلى الكلوذاني وسلما عليه
قد كان جمع الخصيبي عنده جميع رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمال بما ضمنوا من المال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب وكان عنده خط كاتب المسمعي عن مال فارس بما يعجله عن الزيادة في ضمانه وهو ألف ألف درهم وخطَّ سليمان بن الحسن بما استدركه على ابني عبد الوهاب وهو أربعمائة ألف دینار وكسر وما ضمن حمله عن أعمال الشام وهو خمسمائة ألف دينار وخطوط ضمناء
ص: 84
واسط والبصرة وطريق خراسان والنهروانات ونهر بوق والذئب الأسفل وجازر والمدينة العتيقة وغيرهم فحفظ جميع ذلك الكلوذاني إلى أن قدم علي بن عيسى فسلّمه إليه . وأدّى نُصير بن علي إليه مائتي ألف درهم وأحمد بن إسحاق بن زريق عشرة آلاف دينار وورد بعد أسبوع من صرف الخصيبي فيج بكتب سليمان بن الحسن وفي درجها سفاتج بثمانين ألف دينار وورد ما كان حمله علي بن عيسى على الظهر من مال مصر ووصل من جِهةِ البرجمالي من قُمّ عشرة آلاف دينار ووردت من جهة أبي علي بن رُستم من مال الضمان سفاتج بأربعمائة ألف درهم فكان ذلك سبب تمشيته للأمور. وأنفق الكلوذاني في سائر المرتزقة وفي الفرسان قبل العيد ولم يزل أبو القاسم الكلوذاني يدبر الأمور وقد تمكنت الهيبة لعلي بن عيسى في الصدور فاستعان بذلك على أمره. وسار علي بن عيسى من دمشق إلى جسر منبج ثم انحدر في الفرات إلى بغداد وشخص الناس في استقباله سنة خمسة عشرة فمنهم من أبعد إلى الرقة .
وصل علي بن عيسى إلى بغداد وبدأ بدار المقتدر ووصل إلى حضرته بعد عشاء الآخرة ومعه مونس فخاطبه أجمل خطاب وانصرف إلى منزله ووجه المقتدر إليه في ليلته بكسوة فاخرة وفرش ومال يقال إنه بقيمة عشرين ألف دينار وخلع عليه من الغد وسار معه مونس المظفر إلى أن بلغ داره وحلف عليه علي بن عيسى فنزل في داره وسار بين يديه هارون بن غريب وشفيع ومفلح ونسيم وياقوت ونازوك وجميع القواد حتى وصل إلى داره بباب البستان .
وكان قد ضرب علي بن عيسى على هشام فتأخر عنه واستوحش فكاتبه وونَسَهُ حتى حضر مجلسه ثم قال له : ما مذهبي أن أذكر إساءة لأحدٍ من الناس ولما خلصني الله من صنعاء وعدتُ إلى مكة عاهدت الله على ترك الإساءة إلى أحد ممن سعى عليّ في ولايتي ونكبتي ووكلت جميعهم إلى الله ولك خدمة متقدمة توجب لك حقاً وعليك أضعافه فإن كنت لا ترعى ذلك فلن أدع رعايتُه .
وقلد علي بن عيسى الكلوذاني ديوان السواد وقال له هذا أجل الدواوين ومتى تشاغلت بخلافتي اختل وليس يقوم به أحد كقيامك . ثم نظم الأعمال وقلَّد العُمَّال ورثب الدواوين واعتمد على إبراهيم بن أيوب في إثبات أمر المال بحضرته وفي موافقة صاحب بيت المال على ما يُطلقه وينفقه في كلّ يوم ومطالبته بالروزنامجات في كل أسبوع لِيُتعجّل معرفة ما حلّ وما قبض وما بقي. وكان الرسم إذا عُملت الختمة لم يُرفَع
ص: 85
إلى الديوان للشهر الأوّل إلا في النصف من الثاني.
وقلّد أبا الفتح الفضل بن جعفر بن حنزابة ديوان المشرق وأبا بكر محمد بن جنّي ديوان المغرب وأبا علي بن مقلة ديوان الضياع الخاصة والمستحدثة وأبا محمد الحسين ابن أحمد المادرائي ديوان الضياع الفراتية وأبا محمد بن روح ديوان زمام الخراج والضياع العامة بالسواد والأهواز وفارس وكرمان وما يجري فيه. وقلّد أبا القاسم بن النقاط ديوان زمام النفقات والخزائن وأبا جعفر القمّي ديوان الدار وأبا أحمد عبد الوهاب ابن الحسن ديوان البز وديوان الصدقات وأبا الفتح محمد بن أحمد قلنسوه دیوان زمام الجيش ومحمد بن عيسى ديوان الحرم وأبا يوسف ديوان الفص والخاتم.
وقلد أيضاً كفاة العمال واقتصر في أرزاقهم على عشرة أشهر في كل سنة وبأصحاب البرد والمنفقين على ثمانية أشهر في كل سنة . وحط من مال الرجالة برسم النوبة ومن مال الفرسان وجميع أرزاق من كان يرتزق بهذين الرسمين من الكتاب والتجار ومن لا يحمل السلاح وحط أولاد المرتزقة الذين في المهود وحط من مال الخدم والحشم وجميع أرزاق الجلساء والندماء والمغنيين والتجار وأصحاب الشفاعات وحط أرزاق غلمان وأسباب أصحاب الدواوين. ولازم النظر بنفسه في العمل ليلاً ونهاراً والجلوس لأصحاب الدواوين في الليل وكان يسهر أكثر الليل حتى استقامت الأمور وتوازن الدخل والخرجُ وكان إلى أبي عبدالله البريدي في الوقت الضياع الخاصة ضماناً وإقطاع الوزراء وكان أبو يوسف البريدي يتولى لعلي بن عيسى الخراج برامهرمز سهلها وجبلها.
تقدّم المقتدر إلى أبي الحسن علي بن عيسى بمناظرة أبي العباس الخصيبي فأخرج إليه وناظره في دار السلطان بحضرة الأستاذين والقُوَّاد والقضاة مُناظرة جميلة وسأله عن مبلغ ما صح له من الخراج والضياع وسائر النواحي فلم يعرفه وسأله عن مبلغ ما أنفق بالحضرة من بيت المال فلم يحفظه وسأله عما صح له من مال المصادرين وعن رقاعهم بالمصادرات وعن كفالات من كفل منهم وعن ضمانات ما يضمنه عنهم فقال : أما المصادرات فقد صح لي منها في مدة أربعة عشر شهراً تولّيتُ فيها الوزارة نحو ألف ألف دينار فقال له: كم منها من جهة الخاقاني فإن أمير المؤمنين عرّفني أنك ضمنتهم بخمسمائة ألف دينار فقال : دفع عنه مونس المظفّر فردت الجماعةُ قوله وقالوا له : قد سُلم إليك حتى شُنّع عليك بأنك سممتَهُ ثم أطلقته ثم قال له علي بن عيسى : لأيّ شيء استحضرت يوسف بن أبي الساج إلى واسط وسلّمتَ إليه أعمال المشرق بأسرها سوى أصبهان وكيف وقع لك أنه يجوز أن يخرُج هو مع قوم اعتادوا الجبل والمقام فيه
ص: 86
في طريق البرّ يقصدون طريق السواحل في بلدان حوالى هجر . قال : كان عندي أن هذا صواب. فقال له فحيث فعلت ذلك لم لم تقتصر على أن يعرض رجاله وعلمانَهُ ويُجري مال عسكره مجری مال عسكر مونس المُظفّر فإنه يُسبّب له مالٌ ويُطلق على أيدي مُنفِقين من قبل السلطان ويُرفع الحساب بذلك إلى دواوين الجيش ولا يقتصرون على ديوان منها دون جميعها ولا يُزاد أحد ولا يُنقل عنه من رسم إلى رسم إلا على استقبال معروف ثم يُوفر المُعطون كل شهر من التوفيرات بسبب الغُرم ولأجل سُقوط من يسقط جُملة من المال ولِمَ لم تترك الأعمال في أيدي عُمَّال السلطان ويُسبب له عليهم مال رجاله كما يُسبب مال رجال أبي الحسن مونس المُظفّر؟ قال : لم أفعل هذا لأنه تكلف من هذا الأمر عظيماً احتيج معه إلى فضل مُسامحة . فقال له : فلأي سبب ضمَّنتَ إبراهيم بن عبد الله المِسمَعي أعمال فارس وكرمان؟ فقال : لأجل زيادة بذلها . فقال له : أما علمت أن حفظ الأصول أولى من طلب الأرباح؟ وهبك رغبت في الزيادة لِمَ لم تستدعه إلى الحضرة فإذا ورَدَها واردت تضمينه أقام بها واستعمل على العمل خلفاءه وأقام لك الضُمناء الثقات بالمال ومضى بعد ذلك. فقال : إنما رغب في الضمان ليعمله بنفسه فقال علي بن عيسى : أرجو أن يسلّم الله . ثمّ قال : لِمَ قبضت جاري ابنك محمد ألفي دينار في كل شهر وهو لا يقرأ كتاباً ولا يحضر ديواناً ولا يحسن أن يعمل شيئاً؟ قال: سألتُ أمير المؤمنين له رزق المُحسن وعبد الوهاب بن الخاقاني فأجابني إليه . قال : المحسن رُبّي في الدواوين ودبر الأمور وكان مع شره واستحلاله وقبح ديانته كاتباً وابن الخاقاني كان ينوب عن أبيه ويأمر وينهي ويخدم وهو فَهم وابنك لا يجري مجرى واحد منهما فاكتب خطك إنك تردّ ما قبضَهُ فقال : كيف أردُّ مالاً قبضه ابني وأنفقَهُ؟ فقال له على أي شيء أنفقه؟ قال : على ما ينفق مثله الأحداث.
ثم سأله عن أموال المصادرين وما صح من جهتهم فقال : لا أحفظه إلا أنه ثابت في ديوان المصادرين . قال : فعَنْهُ أسألك . قال : هو عند هشام وإن سئل عنه خبر به فإن رقاع المصادرين والكفالات والأعمال في يده فقال له: ما سبقك أحد إلى تسليم خطوط المصادرين إلى صاحب ديوان المصادرات لأن سبيل الخطوط أن تكون في خزائن الوزراء محفوظة يتسلمها وزير بعد وزير فإن كنت أردت عمارة الديوان فكان ينبغي أن تأخذ الخطوط على نسختين نسخة للديوان ونسخة تكون عندك فلو باع صاحب الديوان رقاع المصادرين والكفالات وضمانات الضمناء هل كان على السلطان مضرة في هذا المال أعظم منك؟ وإذا كان هذا تدبيرك فيما لم تكن تحسن سواه فأي شيءٍ دبّرت غيره من أعمال الدواوين؟ فإما أن تكون كُنتَ الأمانة وإما إن لم تُحسن ضبط شيء من الأعمال وكلّ ذلك يُخاطبه به عن غير إسماع مكروه ولا صياح.
ص: 87
ثم قال : غررت المملكة فضرب النساء والحُرم بالمقارع وهتكت الستور بما فعلتَ من تسليمهن إلى الرجال فلأية حال سلمتَ بنت جعفر بن الفرات إلى أفلح وهو رجلٌ شاب جميل الوجه يتصنَّعُ حتى تزوج بها في حبسك ولأية حال ضربت دولة وابنها بحضرتك ثم لم ترض بذلك حتى اعتقلت الجماعة في يد غلمانك وحجابك عِدة شهور؟ ثم قال : ارتزقتَ لنفسك خمسة آلاف دينار في الشهر يكون في مدة أربعة عشر شهراً سبعين ألف دينار سوى ما ارتزقه ابنك وأخذت من إقطاعِك في مدة سنة وشهرين ما ثبت في الختمات الموجودة لجهبذك في ديوانك مائة وثمانين ألف دينار يصير الجميع مائتين وخمسين ألف دينار ثم أخرج عملاً بخط علي بن محمد بن روح بهذا المبلغ وبأنه أنفق في كلّ شهر من النفقات الراتبة ألفي وخمسمائة دينار تكون في أربعة عشر شهراً خمسة وثلاثين ألف دينار وفي النفقات الحادثة والصلات والمؤونة مع ثمن الطيب والكسوة عشرين ألف دينار وفي ثمن عقارات أضافها إلى داره مع ما أنفقَهُ على البناء أربعين ألف دينار وفي ثمن الهدايا في النوروز والمهرجان إلى الخليفة وإلى الأميرين أبي العباس وهارون ابنيه وإلى السيدة والخالة وزيدان ومُفلِح خمسة وثلاثين ألف دينار وفي ثمن بغال ودواب وجمال وخدم وغلمان عشرة آلاف دينار وفيما يحتاج إلى إنفاقه وصرفهِ إلى مَن برسم دار الوزارة من خلفاء الحُجّاب والبوّابين وأصحاب الرسائل وإنزال الفُرسان والرجالة عشرين ألف دينار .
فقال في في الجواب: هذا عمل صحيح وليس كلّ ما أنفقتُهُ كتبتُه فقد كنتُ أصُوغ لِحُرمي وأولادي وانفق نفقات أسترها عن كاتبي وما سرقتُ ولا كُنتُ. فقال له علي بن عيسى ما يقول أحد إنك سرقت أو كُنتَ ولكنك أضعت وأسأت التدبير ودخلت فيما لا تحسنه ولو أخذتَ أضعاف ما أخرجناه عليك لما ناظرك أمير المؤمنين فيه لا سيّما وهو منسوب إلى أرزاقك وإقطاعك ونفقات معروفة لك وكيف تناظرك في ذلك وما نعيش ولا أحدٌ من كتاب أمير المؤمنين إلا في نعمته وإحسانه؟ ولنا ضياع استفدناها في خدمته وخدمة أسلافه رضي الله عنهم .
ولم يزل يرفق به إلى أن أخذ خطه بأربعين ألف دينار يؤديها في مدَّة أربعين يوماً بعد أن حلف أنه لا يتجه له حيلة في غيرها وسلم علي بن عيسى رقعته بها إلى مفلح وقال له : تعرضها على أمير المؤمنين وتقول : إن هذا وإن كان قد غرَّ من نفسه وأضاع وأهملَ فقد تحرم بخدمة أمير المؤمنين وحلف بأيمان بيعته على أنه غاية ما يقدر عليه وليس له ذنب وإنما الذنب لمن غرك منه ولم ينصحك في أمره. ثم كتب رقعة إلى المقتدر بقبول ما بذله الخصيبي وبحمله إلى ثمل القهرمانة إلى أن يُؤدّي ما فُورقَ عليه.
ص: 88
لما نظر علي بن عيسى في الأمور وجد أهم ما يحتاج إليه أمر الرجالة المصافية وكان مبلغ ما لهم في أيامه ثمانين ألف دينار ومال رجال مونس المظفر وهو ستمائة ألف دينار في كل سنة سوى مال الرجالة معه ومال الحجرية برسمه فإنه يطلق مع أرزاق نظرائهم. وكان يُسبب مالُ رجال مونس علی نواح اختارها مونس فإذا أزاح العلة فيما ذكرناه نظر بعد ذلك في أمر مال خلفاء الحجاب والحشم والمتطببين والفرسان برسم التفاريق والمنجمين والفرّاشين والطباخين والساسة وسائر المرتزقة من الخدم فخرج علي بن عيسى يوماً من حضرة المقتدر بالله ليركب في طياره فوتب به الخدم والحشم بألسنتهم وثوباً قبيحاً .
وورد الخبر على علي بن عيسى بأن إبراهيم بن المِسمَعي اعتل علَّةً حادّةً وتوفي بالنوبَندَجان فأشار علي بن عيسى بتقليد ياقوت أعمال الحرب والمعاون بفارس وتقليد أبي طاهر محمد بن عبد الصمد أعمال المعاون بكرمان فخلع عليهما وعقد لهما لواءان . وكتب علي بن عيسى إلى القاسم بن دينار بالمبادرة إلى فارس وقلده أعمال الخراج والضياع بها وقلد ما كان إليه من أعمال الأهواز أبا الحسن أحمد بن محمد بن مابنداذ وابن السلاسل .
فحكى أبو الفرج بن أبي هشام قال : لما بلغ أبا عبد الله البريدي ما تقلَّده هؤلاء من أعمال الأهواز وما حولها قال : يقلد هؤلاء هذه الأعمال ويقتصر بأخي أبي يوسف على سُرْق وبي على ضمان الضياع الخاصَّة ! خذ يا أبا هشام هذا الكتاب (يعني الكتاب الوارد عليه بما قلّد) واعطه ابنك حتّى يمثّل عليه ويتعلّم منه الخط فإن لطبلي صوتاً سوف تسمعُهُ بعد أيَّام. وكان أبو عبد الله البريدي أنفذ أخاه أبا الحسين إلى الحضرة لما بلغه اضطراب أمر علي بن عيسى ووافقه على أن يخطب له عمل الأهواز إذا تجددت وزارة لمن يرتفق : فإن علي بن عيسى يعفّ ولا يرتفق.
فلما تمت الوزارة لأبي علي بن مقلة صار أبو الحسين إلى أبي أيّوب السمسار وبذل له عشرين ألف دينار فقلّد أخوه أبو عبد الله البريدي أعمال الأهواز سوى السوس وجنديسابور وقُلد أبو الحسين الفراتية وأبو يوسف الخاصة والأسافل على أن يكون المال في ذمته إلى أن يقع الوفاء لهم فوفى لهم وقبض المال وكتب أبو علي بن مقلة في القبض على أبي السلاسل فخرج أبو عبد الله بنفسه إلى تستر حتى حصله وأسبابه . ووجد له في صناديقه وعند جهبذه عشرة آلاف دينار فأخذها ووافقه على أن يصك بما كان عند الجهبذ بنفقات باطلة وأخذ من كاتبه ألفي دينار ومن خليفته ثلاثة آلاف دينار
ص: 89
ومن حاجبه ألفي دينار. وكان أبو عبد الله البريدي أحد تجالي الدنيا وشياطينها ثمّ كُثر على أبي علي بن مقلة بأنه أهله لما لا يستحقه فصرفَهُ بأبي محمد الحسين بن أحمد المادرائي وقلده أشرافاً وقلد الأصل جماعة من العمال فما أحلى أبو محمد ولا أمر وكان كاتبه علي بن يوسف وخليفته صحبته من الحضرة فبان من تجلفه وسقوطه ما صار به نكالاً وحديثاً .
وحسبك أن أبا عبد الله البريدي أخذ عليك الطرقات فكان كل ما كتب به يؤخذُ من رسله فما قرئ له كتاب منذ دخل الأهواز إلى أن صرف عنها . ثم صرفه بعد ذلك أبو علي بأبي عبد الله البريدي وقال : اغتررت بطلل ذلك الشيخ وما كل من يصلح للكتابة ينفذ في العمالة .
وعدنا إلى تمام حديث علي بن عيسى وما دبره به المملكة. ولما أخرج إليه الارتفاعات كان فيها مبلغ ارتفاع لضياع أقطاع الوزراء بعد نفقاتهم الراتبة مائة وسبعين ألف دينار فكتب إلى المقتدر بأنه غني عن هذا الإقطاع وأنه قد وفر ماله فإن أمر ضيعته قد صلح وكذلك وقفه بإعادته إياه إلى خدمته وأنه يُوفّر أيضاً رزق الوزارة وهو مع ألفي دينار أجريت لابن الخصيبي سبعة آلاف دينار في كل شهر. وكتب إليه المقتدر بالشكر وأنه لا بد من أن يقبض الرزق على الرسم فحلف علي بن عيسى أنه لا يقبض رزقاً لهذه الخدمة لأن مذهبه ترك التنعم .
وفيها شغب الفرسان برسم التفاريق وخرجوا إلى المصلى فنهبوا القصر المعروف بالقُريَّا وذبحوا الوحش الذي في الحاير وذبحوا البقر التي لأهل القرى التي حوله وخرج إليهم مونس وضمن لهم أرزاقهم فرجعوا إلى منازلهم وفيها خلع على مونس للخروج إلى الثغر لأن ملك الروم دخل سميشاط وضرب في مسجد الجامع بالنواقيس وصلى فيه الروم صلواتهم.
كان السبب في ذلك أن خادماً من خدم المقتدر بالله حكى لمونس أن المقتدر تقدم إلى خواص خدمه بحفر زُبية في الدار المعروفة بدار الشجر من دار السلطان حتى إذا حصل مونس فيها عند الوداع إذا أراد الخروج إلى الثغر حجب الناس وأدخل مونس وحده إلى ذلك الصحن فإذا اجتاز على تلك الزبية وهي مغطاة وقع فيها ونزل إليه الخدم وخنقوه ويظهر أنه وقع في سرداب فمات فامتنع مونس من دار السلطان وركب إليه جميع القواد والغلمان والحاشية وعبد الله بن حمدان وإخوته وأكثر العرب وخلت دار
ص: 90
السلطان من الجند . وقال عبد الله بن حمدان نقاتل بين يديك أيها الأستاذ إلى أن تنبت لك لحية فوجه إليه المقتدر بنسيم الشرابي ومعه رقعة بخطه إليه يحلف له فيها على بطلان ما بلغه فصرف مونس جميع من اجتمع إليه من الجيش وأجاب عن الرقعة بما يجب في مثل ذلك وأنه لا ذنب له في حضور من حضر عنده لأنه لم يستدعهم. وامتنع ابن حمدان من الانصراف وحلف أنه لا الانصراف وحلف أنه لا يبرح من دار مونس ليلاً ونهاراً إلى أن يركب معه إلى دار السلطان ويطمئن إلى سلامته ولازم مونساً أياماً كثيرة. وانضاف إلى ذلك أن إسحاق بن إسماعيل كان يسبب عليه مال مونس ومال رجاله فبلح فيها. وكان علي بن عيسى متنكراً له لأشياء بلغته عنه في غيبته فشغب الفرسان لتأخر أموالهم فجد علي بن عيسى بإسحاق بن إسماعيل واعتقله وأخذ خطه بخمسين ألف دينار من مال ضمانه واعتقل أحمد بن يحيى الجلخت كاتبه وعدة من أصحابه حتى استوفى ذلك ثم صرفه عن أعماله .
وجدّ بعمال السواد حتى صح له في مدة ثلاثة أيام ما أنفقه في أصحاب مونس. وكتب المقتدر إلى جماعة من وجوه القواد بأنه قد صفح عما كان منهم في نهب الثريا وإحراقها وقرئت عليهم فشكروا وسألوا أن يضم جماعة منهم ممن اتهم بذلك إلى مونس المظفر لينحدر معهم إلى حضرته فانحدر معهم ووصل إلى المقتدر بالله وقبل الأرض بحضرته وحلف المقتدر له على صفاء نيته وودعه مونس .
وقرأ عليه علي بن عيسى كتاباً ورد عليه من وصيف البكتمري بأن المسلمين عقبوا على الروم وظفروا بهم وبجميع من في عسكرهم وقتلوا منهم وغنموا غنائم جليلة. وخرج مونس من داره إلى مضربه بباب الشماسية وشيعه الأمير أبو العباس والوزير علي ابن عيسى ونصر الحاجب وهارون بن غريب .
وورد رسول ملك الروم ومعه كتاب من وزير الملك وهو اللغثيط إلى الوزير علي ابن عيسى يلتمس فيه الهدنة.
وفي هذه السنة ظهر الديلم وكان أول من غلب على الري منهم بعد خروج ابن أبي الساج منها ليلى بن النعمان ثم ماكان بن كاكي ودخل هذا الرجل في طاعة صاحب خراسان لأنه كتب إليه واستدعاه فمضى إليه وغلب على الريّ أسفار بن شيرويه وكان مرداويج بن زيار أحد قواده وكان أسفار بن شيرويه لما غلب على قزوين ألزم أهلها مالاً جليلاً وعسفهم عسفاً شديداً وخبطهم وأحل بهم من تسليط الديلم على مهجهم وأموالهم واستباحتهم وتعذيب عمالهم ما استعظمه هو في نفسه فضلاً عن غيره ورقت القلوب منه وضاقت النفوس وبلغت الحناجر ويئس الناس من الحياة وتمنوا الموت
ص: 91
فخرج الرجال والنساء والأطفال إلى المصلى مستغيثين إلى الله تعالى وراغبين إليه في كشف ضرّهم فمضى لهم يوم على ذلك .
وأنهى الخبر إلى أسفار فتهاون بالدعاء فلما كان في اليوم الثاني خرج عليه مرداویج فواقعه وهزمَهُ فمرّ على وجهه فتبعه يومه أجمَعَ فلم يظفر به ولحقت أسفار مجاعة في اليوم الثاني فأوى إلى رحى طحان في قرية وسأله أن يُطعمه فأخرج إليه خبزاً ولبناً وكان يأكل وأطلّ مرداويج على الموضع فوجد آثار الحافر قد انقطع هناك فوقف يتأمل فرأى أكاراً فتشبث به وسأله عن أسفار فأنكر وأرهبه فقال له : ما أعرفُهُ ولكني رأيتُ فارساً قد دخل إلى هذه الرحى وكبس مرداويج الموضع فوجده يأكل خبزاً فاحتزّ رأسَهُ وعاد إلى قزوين فسكن أهلها وتلافاهم وأزال تلك المُطالبة عنهم ووعدهم بالجميل وانصرف عنهم ووهب دعاءهم.
ثم إن مرداويج ذهب فتغلب على الريّ وأصبهان وأساء السيرة بأصبهان خاصّة وتبسط في أخذ الأموال وانتهاك الحُرم وطغى وجلس على سرير ذهب دونه سرير فضة يجلس عليه من يرفع منه وأقام جنده يوم السلام عليه صفوفاً بالبُعدِ منه وسام مرداويج رجاله الخسف وكانوا يرهبونه رهبة عظيمة وكان يقول أنا سليمان بن داود وهؤلاء الشياطين. وكان يغضُّ من الأتراك غضاً شديداً فساءت نيَّاتهم له فطلبوا كيداً يكيدونه به وتمكنت له في نُفُوس الخاص والعام البغضاء وضجروا منه وضعفت نفوس أهل مملكته في أيامه قال وركب يوماً في موكب عظيم وخرج إلى الصحراء وكان ينفرد عن جيشه ويسير وسطاً لا يجسر أحدٌ على القرب منه فكان العالم يتعجبون منه ومن تمرده وطغيانه إذ اشتق العسكر رجلٌ شيخٌ لا يُعرف على دابة فقال : زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفنونه قبل تصرُّم النهار ويأخذه الله إليه فلحقت الجماعة دهشة وتبلدوا قال أبو مخلد عبد الله ابن يحيى وكنتُ في الموكب فنظر بعض الناس إلى بعض ولم ينطق أحدٌ منهم بحرف ومرّ الشيخ كالريح ثم قال الناس : لِمَ لا نتبعه ونستعيده الحديث ونسأله من أين علم أو نأخذه ونمضي به إلى مرداويج لئلا يبلغه الخبر فيلومنا على تركه فركضوا يميناً وشمالاً إلى كل طريق وسبيل في طلبه فلم يُوجَد وكأن الأرض ابتلعتهُ .
ثم عاد مرداويج ولم يلو على أحدٍ ودخل داره ونزع ثيابه ثم دخل الحمَّام وأطال. وكان كورتكين قريباً منه وخصيصه يحرسه ويراعيه في خلواته وحمَّامِهِ فأمره أن لا يتبعه وتأخر عنه مُغضباً . فتمكن منه الأتراك وهجموا عليه في الحمام فقتلوه بعد أن مانع عن نفسه وقاتل بكرنيب فضَّة كان في يده فشقّ بعض الأتراك بطنَهُ فلما خرجت حشوته ظنّ أنه قد قتله فلما خرج إلى أصحابه قالوا له : أين رأسه؟ فعرفهم أنه قد شق بطنه فلم يرضوا بذلك وعاودوه لحزّ رأسه. فوجدوه قد قام على سريرين في الحمام وردّ حشوة
ص: 92
بطنِهِ وأمسكها بيده وكسر جامة الحمام وعاونه قيم الحمام وهم بالخروج من ذلك الموضع إلى سطح الحمام فلما رأوه كذلك حزّوا رأسَهُ . فظهر أمره بين الظهر والعصر بخروج الأتراك الذين كانوا معه إلى رُفقائهم وإخبارهم إيَّاهم بخبره وركوبهم إلى الاصطبلات للنهب .
كان السبب في ذلك أن ابن شيرزاد كان يكتب لهارون بن غريب وينظر في جميع أموره فأطمع هارون فيه وقُرّف بجنايات عظيمة فقبض عليه يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة 315 وسلَّمه إلى خادمه مونس وأمره بالتضييق عليه ومنعه من الدواة. فتأخرت رقعته عن أخيه أبي الحسن زكريا وكان يكتب للخالة على ديوان ضياعها فعرف الخالة صورة أخيه فشكت الخالة ذلك إلى السيّدة فوجهت السيّدة بخادم لها إلى هارون حتى انتزعَهُ من يده وحمله إلى دار السلطان وتقدَّمت بإطلاقه. وخاطب هارون بن غريب علي بن عيسى في أمر ابن شيرزاد وقال له : قد كان اقترض مني للخاقاني أموالاً كثيرة وأخذ بها تسبيبات وفاز بها وقد عمل له المؤمل كاتبي بمال عظيم وأنا أرضى بنظر ثقةٍ من ثقات الوزير في العمل. فتقدّم الوزير علي بن عيسى إلى أبي يوسف كاتب السيدة بالمصير إلى دار هارون وحضر المؤمَّل وكُتابه فنظروا في العمل .
فكان أوّل باب فيه أنه وُجد في دفتر من دفاتر ديوانه ثبت ما قبض من التسبيبات التي سبّبها الخاقاني لابن شيرزاد من مال القُروض التي اقترضها من مال هارون بن غريب وقد حكي فيه أنه قبض خمسة عشر ألف دينار وأنه لم يجد هذا المال في ختمات الجهبذ الثابتة في الديوان وكان كاتب ابن شيرزاد على ذلك الديوان ابن أبي الميمون فقال ابن أبي الميمون قد صح في ختمة الجهبذ ومع صاحبي خط الأمير بقبضه إيَّاه لأنه حمله إلى حضرته وصرفه في ثمن دار المُحسن التي ابتيعت من وكيل الخليفة في وزارة أبي القاسم الخاقاني. فأُخرجت الختمة بعينها فوجد ذلك فيها ووجد مُحرّر هذه الختمة قد كتب هذا المال كأنه تفصيل المال المتقدم وكان سبيله أن يكون مخرجاً بارزاً عن التفصيل الأوّل فوجد أبو يوسف ومحمد بن جنّي الأمر على ما قال كاتب ابن شيرزاد وأخرج ابن شيرزاد خط هارون بن غريب بصحة هذا المال منسوباً إلى تلك الجهة وأنه أدّي فى بيت المال لثمن الدار وأحضر قبضُ صاحب بيت المال به .
ثم نظر في الباب الثاني أن المُطلق للفرسان في عسكر هارون من مالهم فيه الرُبعُ دراهم تساوي ستَّة عشر درهماً بدينار وأنه لم يضع الصرف من مال الرجال وأنه يلزمهُ منه في مدة ولايته كتابة هارون نيف وعشرون ألف دينار فأخرجوا الختمات فوجدوا
ص: 93
الجهبذ قد احتسب بما صرفهُ في أعطيات الرجال ورقاً من غير أن يُوضَع منه شيء لفضل الصرف فاحتجَّ كاتب ابن شيرزاد بأن فضل الصرف في ختمة تورد في أصول الأموال في آخر باب من أبواب الأصول وهو ما يتوفر من هذا الباب وغيره من سائر نفقات هارون بن غريب فأخرج ذلك من الختمات .
فلما بطل هذان البابان وهما معظم ما كان في العمل نهض أبو يوسف ومحمد بن جني وقام معهما ابن شيرزاد وأقبل عليه هارون فقال : قد هتكني كاتبي هذا الجاهل الناقص قبَّحه الله وقد جنيتُ على نفسي بصرفك ولكن إن تصرفت لأحدٍ فعلتُ وصنعتُ ... وتهدده فذهب ابنُ شيرزاد وشرح لعلي بن عيسى ذلك فصار ذلك سبباً لعناية علي بن عيسى به واشتهر حديثه وفاض في الكُتّاب .
وفيها ورد الخبر وكتابُ الفارقي من البصرة بأنه قد اجتاز بباب البصرة مما يلي البرية جيش للقرمطي كثير العدد يقصد الكوفة فكتب المقتدر إلى مونس المظفّر يأمرهُ بالرجوع إلى بغداد فرجع من تكريت ودخل بغداد بعد صلاة العصر بعد أن أنفذ قطعة من جيشه إلى الثغر.
وخرج ياقوت إلى مضربه بالزعفرانية متوجهاً إلى عمله بفارس .
وفي هذه السنة قبض يوسف بن أبي الساج على كاتبه أبي عبد الله محمد بن خلف النيرماني وقلد مكانه أبا علي الحسن بن هارون وقيد محمد بن خلف بقيود ثقال وأخذ منه يوم قبض عليه من المال والفرش والكسوة والغلمان ما قيمته مائة ألف دينار وأخذ خطَّهُ بخمسمائة ألف دينار مصادرة عن نفسه .
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك ما استعمله بواسط من السرف في التكبر والتجبر والتوسّع في النفقات حتى أنه جعل في داره بواسط في شراب العامة ثلاثين غلاماً وفي شراب الخاصة عشرين غلاماً وكان يخرج من داره إلى دار صاحبه يوسف ويبكر إليه جميع قواد ابن أبي الساج ورؤساء غلمانه ورؤساء العمال ويسلمون عليه كما يفعل الناس ببغداد بالوزراء في أيام المواكب. وكان قبل ذلك في مسير ابن أبي الساج من الري إلى واسط قد لبس القباء والسيف والمنطقة إلا أنه لم يكن يركب إلى دار صاحبه بسواد فرقاً بينه وبين وزير السلطان واحتمله ابن أبي الساج على ذلك. ثم أطمع نفسه أيام مقامه بواسط في الوزارة للسلطان وتبين عداوة نصر الحاجب لابن أبي الساج فكاتبه ووجه إليه يمن يثق به يلتمس منه أن يشير على المقتدر بتقليده الوزارة مكان علي بن عيسى وضمن أن يستخرج من علي بن عيسى وأخيه وسليمان بن الحسن وأبي زنبور المادرائي والكلوذاني
ص: 94
وأسبابهم ألف ألف دينار. ويقوم بنفقات السلطان وأرزاق الأولياء.
وسعى بصاحبه وقال إنه كان يستر عنه مذهبَهُ في الدين وأنه لما سار إلى واسط أنس به وانبسط إليه فكشف له أنه يتدين بأن لا طاعة عليه للمقتدر ولا لبني العباس على الناس طاعة وإن الإمام المنتظر هو العلوي الذي بالقيروان وإن أبا طاهر الهجري صاحب ذلك الإمام وأنه قد صح عنده أنه يتدين بدين القرامطة وأنه إنما صير العلوي متحققاً به وبجميع أسراره بهذا السبب وأنه ليس له نية بالخروج إلى هجر وأنه إنما يحتال بالوعد بالخروج إلى هجر حتى يتم له أخذ الأموال وأنه قال له في شهر ربيع الآخر: أي شيء بقي لنا على الخليفة ووزيره من الحجة ولِمَ ليس تخرج إلى هجر ولا أراك تستعد لذلك. فقال له في الجواب : لِمَ لا تكون لك معرفة بالأمور من في نيَّتِهِ الخروج إلى هجر، وأنه قال له : فلِمَ غررت السلطان من نفسك ووعدته بهذه الحال حتى سلّم إليك جميع أعمال المشرق فأجابه بأنه يرى انتقاض الخليفة وسائر ولد العباس الغاصبين أهل الحق فرضاً لِلَّه عزّ وجلَّ عليه وإن طاعته طاغية الروم أضلَح من طاعته الخليفة وأنه قال فهبك فعلت ذلك ما الذي يؤمنك من القرمطي أن يوافي إلى واسط وإلى الكوفة فلا تجد بداً من لقائه ومحاربته ؟ فقال في الجواب : ويحك كيف أحارب رجلاً هو صاحب الإمام وعدة من عدده! فقال له : فإن أراد هو حربك أي شيء تعمل؟ فقال له : ليس لهذا أصل وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلداً أكون فيه ولا يحاربني بوجه ولا سبب. وأنه ختم القول بأن قال : إني إنما أنتظر أن يقبض رجالي بأسرهم أموال سنة 314 فإذا قووا بذلك منعت أولاً من أعمال واسط والكوفة وسقي الفرات وأنفذت إليها العمال فلا بد للسلطان أن ينكر حينئذ ما أفعله فأكاشفه وأخطب للإمام وأظهر الدعوة وأسير إلى بغداد فإن من بها من الجند قوم يجرون مجرى النساء قد ألفوا الدور على دجلة والشراب والثلج والخيش والمغنيات فآخذ نعمهم وأموالهم ولا أدع الهجري يفوز بالاسم وأكون أنا سائق الدولة إلى الإمام فإن أبا مسلم خراز النعال لم يكن له أصل وقد بلغ ما بلغ ولم يكن معه لما ارتفع النصف ممَّن معي وما هو إلا أن أظهر الدعوة حتى قد اجتمع مائة ألف ضارب سيف ويقول محمد بن خلف : قد صدقت أمير المؤمنين عن هذا الأمر فإن ولاني الوزارة انقمع ابن أبي الساج وبطل عليه تدبيره. وأخبب حينئذ رجاله وغلمانه فإما أسروه وإما هرب طائراً على وجهه إلى أذربيجان فإني إذا وليت الوزارة جدّدت به في المطالبة بالخروج إلى هجر فإن كاشف دبَّرت عليه .
فأنهى نصر الحاجب كلّه إلى المقتدر وعرّفه أن محمد بن خلف قد كتب إليه يحلف له على أنه ما حمله على هذا الفعل إلا الغضب للدين أوّلاً ثم الأنفة من أن يتم لهذا القرمطي على الخليفة وسائر الخاصة والعامة ما دبَّرهُ وكان الحسن بن هارون
ص: 95
يخلف محمد بن خلف ويقف دائماً بين يديه على رجله ويخدمه كما يخدم ابن أبي الساج فلما رأى اختصاصه بابن أبي الساج تنكّر له وعمل على القبض عليه وإتلافه وأظهر ذلك لأبي بكر بن المُنتاب وكان قد اختصّ به وغلب عليه . فاتفق أن شرب ابن المُنتاب مع جماعة من إخوانه بواسط وفيهم عبد الله بن علي الجرجرائي عامل الصلح والمبارك فسأله عبدالله بن علي أن يشكر له أبا علي الحسن بن هارون لما يوليه من الجميل وقال له : تعرضُ لي رقعة على سيدنا أبي عبد الله محمد بن خلف أسأله فيها أن يُعرفه شكري ويأمره بالزيادة فيما شكرتُهُ عليه . فقال له ابن المُنتاب: اتَّقِ الله في نفسك ولا تفعل فإن أبا عبد الله على غاية التنكر للحسن بن هارون ولن يبعد أن يقبض عليه ويبلغه فحفظ ذلك عبدالله بن علي وتقرب به إلى الحسن بن هارون. ووقعت بين محمد بن خلف
وبين عبد الله بن علي مُماحكة فيما سُبب عليه لقوم يعتني بهم محمد بن خلف فشتمهُ محمد بن خلف وهدّدهُ وأمر بإخراجه من مجلسه على أقبَح صورة. فاجتمع عبدالله بن علي والحسن بن هارون على التدبير على محمد بن خلف ونصبا عليه أصحاب الأخبار إلى أن وقفا على ما عملَهُ في السعي في تقلد الوزارة للمقتدر وسعايته بصاحبه فاطلع عبد الله بن علي بن أبي الساج على ذلك وتقرب إليه . فنصب يوسف بن أبي الساج أصحاب أخبار على محمد بن خلف إلى أن وقف على أن خادماً له يثق به قد أنفذه دفعات إلى بغداد وأظهر أنه إنما ينفذه لابتياع كسوة وفرش ودواب وغلمان له وأنه هو السفير بينه وبين نصر الحاجب في التدبير على ابن أبي الساج. فتقدّم ابن أبي الساج إلى عبد الله بن علي في أخذ الطُرُق على هذا الخادم وإلى الحسن بن هارون بمراعاة الوقت الذي ينفذ فيه الخادم فلما نُفذ من واسط عرفه الحسن ذاك فوجه بثقاته وأمرهم أن يرصدوا الخادم في الطريق فإذا عاد من بغداد قبضوا عليه وسلموه إلى صاحب عبد الله بن علي بجرجرايا وتقدم إلى عبد الله بن علي بأن يوجه بمن ينتظره بجرجرايا. وأنفذت الكتب التي معه إلى ابن أبي الساج فوجدها بخط كاتب نصر جوابات عن كُتب محمد بن خلف إليه تدلّ على إشارات ورموز وتراجم وفيها كلّ مكروه وسعى على دم ابن أبي الساج وحاله وإطماع في ماله وحاله وتحذير من تأخر القبض على علي بن عيسى. فبادر ابن أبي الساج في إنفاذ الحسن بن هارون إلى الحضرة بكتب ورسائل إلى علي بن عيسى على رسمه ووجه بتلك الكُتُب بعينها وقال له تقول للوزير عني : قد سعى هذا الرجل على دمي ودمك ودماء أصحابك وأريد أن أقبض عليه وأكثر ذنوبه عندي سعيه عليك . فلما وقف علي بن عيسى على جميع كُتبه ورسائله تعجب وقال له : تقول لأخي أبي القاسم : إن كنت تريد أن تفعل ذلك لتُريح نفسك من هذا الرجل الخائن المُستحلّ فالله يوفقك ويُحسِن معونتك وإن كنتَ تفعل هذا بسببي فوالله ما أشكرُ أحداً كما أشكرُ من يسعى في صرفي عن الوزارة فالحبس والنفي أسْهَل مَمَّا أقاسيه منها.
ص: 96
وزوّر عبد الله بن علي عن الخادم كُتباً على أنها من بغداد إلى محمد بن خلف بأنه «قد أحكم أكثر ما تحتاج إليه وأنه سريع العود إلى واسط» فسكنت نفس محمد بن خلف إلى ذلك. وصار عبد الله بن علي إلى محمد بن خلف وترضاه وبذل له أن يحمل إليه من ماله مائة ألف درهم مرفقاً ليزول ما في نفسه عليه فظنّ محمد أن ذلك صحيحٌ ودعا عبد الله بن علي وواكله وشاربَهُ .
ولم يلبث الحسن بن هارون أن عاد من بغداد فبدأ بدار محمد بن خلف ووقف بين يديه فقال محمد بن خلف : یا عاض قد بلغني أنك شنّعتَ عليَّ عند علي بن عيسى وذكرت له أني أطلب الوزارة مكانهُ وأنك مع ذلك قد ضربتَ عليَّ حاشية الأمير وغلمانَهُ ووالله يا كلب لأضربنك خمسمائة سوطٍ ولآخذن منك ثلاثين ألف دينار قد أبطرَتك.
والحسن بن هارون لا يزيد على أن يقول له : الله بيني وبين من أغرى مولاي ومن أنا عبده وغرسه ومحمد بن خلف يشتمه إلى أن قال له لقيت الأمير. فقال الحسن بن هارون ما لقيتُهُ بعد فقال له : فامض إلى لعنة الله فالقَهُ وعُد إليَّ فمضى إلى ابن أبي الساج وشرح له جميع ما وقف عليه من سعي محمد بن خلف عليه وما خاطبه به لما
لقيه بعد قدومه من بغداد.
فقال ابن أبي الساج لخازنه الذي يتسلَّمُ من محمد بن خلف : الأموال المحمولة إليه التي ينفقُها في رجاله وغلمانه ونفقاته : قد كنتَ أحضرتَني مُنذ مدة مالاً نصفه غَلَّة ودراهم بهرجة وخراسانية وذكرت أن ابن خلف حمله إليك لتنفقه في الأولياء وغيره وذكرت أن الأمر مُسرفٌ في فضل الصرف وأنه كثير فعرّفني الآن الحال فيما يحملُهُ إليك . فقال : الذي يحمله الآن شر من كل ما تقدّم وقد أخرجتُ من مائة ألف درهم حملها اليوم ألف وخمسمائة درهم جديد وألفي درهم صحاح لا سيئة واثنين وأربعين درهم ألف غَلّة ردية. وعظم عليه الأمر في فضل الصرف في ذلك فقال له : فإذا حضر محمد بن خلف العشيَّة فادخل إلي واحمل المال كهيئته وعرّفني أن جميع غلماني ورجالي قد فسدت نياتهم بهذا السبب . ففعل الخازن ذلك فقال ابن أبي الساج : يا أبا عبد الله أنت تعلم أن هذا المال لا يجوز لأحد أن يقبض مثله وإذا فوت رجالي شهراً وأعطيتهم مالاً جيداً أو مُقارباً للجودة كان أصلح من هذا فغضب محمد بن خلف وقال له : ما جرَّأ هذا الكلب على خطابي بحضرتك في هذا الباب إلا لأنه قد وقف على فساد رأيك فيّ وإنما أفسدك عليّ من قدّر أن يتولّى كتابتك وهو هذا العلج الحسن بن هارون وأهوّن به وبهذا الخازن وبجميع غلمانك ورجالك علي وأنا عقدتُ لك هذه الحال وهذا الأمر والآن فوالله لا نظرتُ في شيء من أمرك فاعمل ما شئت.
ونفض يده في وجهه وخرج من مجلسه فجعل ابن أبي الساج يحلف عليه أن يعود
ص: 97
فلا يفعل ويحلف أنه لا يرجع فلما طال ذلك بينهما وبلغ أن يعطف إلى دهليز يغيب به عن عينه قال ابن أبي الساج لغلمانه: ضعوا أيديكم في قفا الكلب اللأحد الخنزير فاسمعوني صوته بالصفع. فضفع نحو من مائة صفعة وأخذ سيفه ومنطقته. واستدعى ابن أبي الساج عبد الله بن علي وأحضر للوقت فوجه به إلى دار محمد بن خلف ليحفظها ويقبض على سائر غلمانه وأسبابه وخزائنه وكان عبد الله بن علي مشهوراً بالعفاف والثقة وتقدم إلى الحسن بن هارون بأن يتقلّد كتابته مكانه واستحلفه أن يدخل إلى الحجرة التي اعتقل فيها ويقيده بخمسين رطلاً ويلبسه قميص بايباف ففعل به الحسن ابن هارون ذلك فقال له يا محمد بن خلف أخبرني أغرّك أني أقول لك« يا مولاي» إنما كنتُ أسخر منك أينا كان أبعد غوراً وتدبيراً أنا أم أنت؟ وأخذ الحسن بن هارون خطَّه بستمائة ألف دينار بعد أن أهانه وصفعه وضربه بالمقارع فأدى نحو خمسين ألف دينار إلى أن رحل ابن أبي الساج من واسط إلى الكوفة لمحاربة الهجري وحمله معه مُقيَّداً وشُغل عنه بالحرب وأسر فأفلت محمد بن خلف.
كتب يوسف بن ديوداذ من واسط إلى الوزير أبي الحسن علي بن عيسى يلتمس منه حمل مال إليه ليصرفه فيما يحتاج إليه من إعداد الأنزال والعُلوفات بين واسط والكوفة ويحتج بأن أموال المشرق متأخرة عنه وأن الأمر ليس يحتمل مع قرب موافاة الهجري بأن ينتظر ورود مال من الجبل ويقول إنه لا يُقنعه لذلك أقل من مائة ألف دينار. فعرض علي بن عيسى كتابه على المقتدر فتقدم بأن يحمل من بيت مال الخاصة سبعون ألف دينار ويُنفّذ إليه .
وورد الخبر بخروج أبي طاهر من هجر بنفسه يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان فنزل في الموضع المعروف بالحس وبينه وبين الإحساء مسيرة يومين وأقام به إلى يوم السبت ورحل من غد وكتب السلطان إلى ابن أبي الساج بما ورد من خبره ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة وكتب علي بن عيسى إلى عُمّال الكوفة بإعداد الميرة والعُلوفات ليوسف وسار يوسف من واسط يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان نحو الكوفة وعاد سلامة الطولوني منصرفاً من عنده وكان حمل إليه المال.
ولما قرب أبو طاهر الهجري من الكوفة أطلق جميع من كان معه من أسارى الحاج وهرب عُمّال السلطان من الكوفة فأخذ أبو طاهر جميع ما أعدّ ليوسف من المير
ص: 98
والعلوفات وهو مائة كرّ دقيقاً وألف كرّ شعيراً وقد كان خفٌ ما مع أبي طاهر من الميرة ولحقهُ وأصحابه شدة فقوي ومن معه بما صار إليهم. ووافى يوسف إلى ظاهر الكوفة يوم الجمعة لثمان خلون من شوّال وقد سبقه أبو طاهر إليها بيوم واحد فحال بينها وبينه . وحكي عن أبي طاهر أنه قال إن عسكره قرب من عسكر يوسف في الطريق بين واسط والكوفة؟ وكان يوم ضباب فلم ير أحدهما صاحبه وأنه أحس به ولو شاء لأوقع به . ووجه يوسف إلى أبي طاهر يدعوه إلى الطاعة فإن أبى فإن الوعد للحرب يوم الأحد.
فحكى الرسول أنه لما صار إليه حمل إلى موضع فيه جماعة متشاكلو الزي وقيل له : تكلّم فإن السيد يستمع. ولم يعرف من هو منهم فأدى الرسالة فأجيب بأنه غير مُستجيب لما دعاه إليه ولا لتأخير المُناجزة فكانت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة 315 على باب الكوفة . فيقال إنه ابن أبي الساج لما عاين عسكر أبي طاهر ووقف على عزّته أزرى عليه واحتقره وقال: من هؤلاء الكلاب؟ هؤلاء بعد ساعة في يدي. وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء تهاوناً به وزحف كلّ واحد منهما إلى صاحبه .
فلما سمع الهجري صوت البوقات والدبادب والزعقات عن عسكر ابن أبي الساج وكانت عظيمة جداً التفت رجل منهم إلى رفيق له وهو يُسايره فقال له: ما هذا الزَجَل؟ فقال له رفيقهُ فَشَلِّ، فقال له : أجل . ما زادَه لفظة ورسم عسكر أبي طاهر أن لا تكون فيه بوقات ولا دبادب ولا صياح. وعبّى ابن أبي الساج رجاله وانفرد هو مع غلمانه على عادة له في الحرب وكان ابتداء الحرب بينهما مذ ضحوة نهار يوم السبت إلى وقت غروب الشمس. وما قصر ابن أبي الساج في الثبات وأثخن أصحاب أبي طاهر بالنشاب وجرح منهم خلقاً فلما رأى أبو طاهر ذلك وكان واقفاً في عمارية له مع من يثق به من أصحابه نحو مائتي فارس بالقرب من حيطان الحيّز نزل من العمارية فركب فرساً له وحمل بنفسه مع ثقاته وحمل يوسف بنفسه وغلمانه عليه واشتبكت الحرب بينهما فأُسر ابن أبي الساج آخر النهار و به ضربه على جبينه بعد أن اجتهد به غلمانه أن ينصرف فامتنع عليهم وحصل أسيراً في يد أبي طاهر مع جماعة من غلمانه بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون.
ولما أُسر يوسف وقت المغرب حمل إلى معسكر أبي طاهر وضُربت له خيمة وفُرش له فيها ووكل به وأحضر رجل مُعالج يعرف بابن السبيعي فقال ابن السبيعي :هذا لما دخلتُ إليه إلى الخيمة التي حُبس فيها وجدته جالساً وعليه دُرّاعة ديباج فضي وجُرّبانها ولبنتها من ديباج أحمر وقد تلوّنت بالدم الذي سال من الضربة التي في جبينه . ووجدت الدم قد جمد على وجهه فالتمست ماءً حارا فقال لي بعض أصحاب أبي طاهر : والله ما ذاك عندنا ولا عندنا ما يُسخن فيه . وكانوا خلفوا سوادَهم بالقُرب من
ص: 99
القادسيّة وتجردوا للقتال فغسلتُ وجهه بماء بارد وغسلت موضع الضربة وعالجته . وسألني عن اسمي وبأي شيء أعرَف فذكرتُ له ذلك فوجدته يعرف أهلي أيَّام كان بالكوفة وهو صبي مع أخيه الأفشين وكان يتقلد الكوفة. فعجبتُ من ذكره وفهمه وقلّة اكتراثه بما هو فيه.
وورد خبر الوقعة وأسْرِ ابن أبي الساج على علي بن عيسى فراح إلى دار السلطان واجتمع مع نصر الحاجب ومونس المُظفّر على إنهاء الخبر إلى المقتدر بالله وانتشر الخبر فدخلت الخاصة والعامة لأبي طاهر هيبة عظيمة ورهبة شديدة. وعملت الجماعة على الهرب إلى واسط ثم إلى الأهواز وابتدأ المنهزمون بالدخول إلى بغداد وأخرج مونس المظفّر مضربه إلى ميدان الأشنان وخرج على أن يمضي إلى الكوفة. وورد كتاب العامل بقصر ابن هبيرة على علي بن عيسى بأن أبا الطاهر وأصحابه رحلوا عن الكوفة يوم الثلاثاء لاثني عشرة خلت من شوّال قاصدين عين التمر وورد كتابه بعد ذلك بنزولهم عين التمر. فبادر علي بن عيسى باستئجار خمسمائة سميريَّة وجعل فيها ألف رجل ومعها عِدة من شذاءات وطيارات وحوّلها من دجلة إلى الفرات وفيها جماعة من الغلمان الحجرية لمنع الهجري من عبور الفرات وتقدم إلى جماعة من القوَّاد بالمسير على الظهر من بغداد إلى الأنبار لضبطها.
فلما كان يوم الجمعة رأى أهل الأنبار ومن بها من القوَّاد خيل أبي طاهر مقبلةً من الجانب الغربي فبادروا إلى قطع جسر الأنبار وأقام أبو طاهر إلى أن أمكنه العبور بالسفن فعبر يوم الثلاثاء نحو مائة رجل ولا يعلم بهم أصحابُ السلطان إلى أن حصلوا بالأنبار ونشبت الحرب بينهم وبين جماعة من القوّاد فلما خلا البلد من أصحاب السلطان عقد أبو طاهر جسر الأنبار وعَبَر وخلّف سوادَهُ في الجانب الغربي وفيه ابن أبي الساج. ولما علم من في الشذاءات من أصحاب السلطان أن أبا طاهر قد عقد الجسر ساروا إليه بالليل فضربوه بالنار فبقي أبو طاهر في جماعة من أصحابه في الجانب الشرقي من الفُرات وسواده في الجانب الغربي منه وحالت الشذاءات والطيارات منه وحالت الشذاءات والطيّارات بينهم ولما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار وقتله من بها من القُوّاد خرج نصر الحاجب ومعه الحجرية والرّجالة المصافية وجميع من كان بقي ببغداد من القوّاد وبين يديه عَلَمُ الخلافة وهو شبيه باللواء أسودُ وعليه كتابة ببياض «محمد رسول الله» .
وكان مونس قد صار بباب الأنبار واجتمع مع نصر وكان عدد من معهما من الفرسان والرجالة وغيرهم يزيد على أربعين ألف رجل وخرج أبو الهيجاء ومن إخوته أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السرايا في أصحابه وإعرابه وسار نصر وسبق مونساً على قنطرة النهر المعروف بزُبارا بناحية عقرقوب على نحو فرسخين من بغداد ولحق به
ص: 100
مونسّ واجتمعا على النهر. وأشار أبو الهيجاء على نصر الحاجب بقطع قنطرة نهر زُبارا وألحّ عليه في ذلك فلما رآه يتثاقل عن قبول رأيه قال له: أيها الأستاذ اقطعها واقطع لحيتي معها فقطعها حينئذ .
وسار أبو طاهر ومن حصل معه من أصحابه من الجانب الشرقي من الفرات قاصدين نهر زُبارا فلما صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذي القعدة بات بموضعه ليلته وباكر المسير إلى قنطرة نهر زُبارا. وتقدّم من رجالته راجل أسود يقال له صُبح فكان أمام عسكره فما زال نُشاب أصحاب السلطان تأخذه وهو يتقدم ولا يهوله وقد صار بالنُشَّاب كالقُنفذ فلما صار إلى القنطرة ورآها مقطوعة رجع وما زال أصحاب أبي طاهر يمتحنون غور الماء في النهر فلما علموا أنه ليس يُخيض انصرفوا راجعين القهقرى من غير أن يولوا ظُهُورهم وصاروا إلى الحسينية فوجدوا الماء قد أحاط به لأن نصراً ومونساً وجها قبل ذلك بمَن بثق هناك بثوقاً كباراً فصار ماء المخر محيطاً بعسكر أبي طاهر. فأقام هناك الثلاثاء وسار هو وأصحابه إلى الأنبار ولم يجسر أحدٌ من أصحاب السلطان أن يتبعُهُ أو يُصلح قنطرة زُباراً أو يعبرها. وكان ما أشار به أبو الهيجاء من قطع هذه القنطرة توفيقاً من الله فإنها لو كانت صحيحة لعبر أصحاب القرمطي عليها وما هالَهُم وفور عسكر السلطان ولانهزم أصحاب السلطان وملك القرمطي بغداد وذاك أن أكثر أصحاب السلطان كروا إلى بغداد منهزمين لما بلغهم وصول أبي طاهر إلى النهر من غير أن يروهم أو يقع عين عليهم لعظيم ما تداخل القلوب من الرعب بعد الحارث بابن أبي الساج ولم يحدث أحد نفسه بعد ذلك أن يجوز له أن يثبت في وجهه .
وكان مع أبي طاهر جماعة من الأدلاء فعدلوا به عن المخر وسار نحو الأنبار ولما ولي أبو طاهر وأصحابُهُ عن موضع العسكر بزبارا ارتفع التكبير والتهليل من أصحاب السلطان ليذيع الخبر به وبادر أصحاب الأخبار إلى علي بن عيسى بالسلامة وبانصراف أبي طاهر ورجوعه إلى الأنبار وبأنه لا طريق له ولا مخاضة ولا حيلة في الوصول إلى معسكر عسكره ولا إلى نواحي بغداد وطمع مونس في الظفر بسواده وباقي رجاله الذين خلفهم في الجانب الغربي من الأنبار وفي تخليص ابن أبي الساج فأنفذ يلبق حاجبَهُ وجماعة من القوَّاد ومن غلمان ابن أبي الساج في ستة آلاف رجل وظنوا أنه لا يتم لأبي طاهر العبور إلى خيله وسواده وبلغ أبا طاهر ذلك فاحتال حتى انفرد عن رجاله ومشى مشياً طويلاً حتى خرج عن الأنبار إلى الصحراء التي تتصل بالفرات ثم في زورق صياد يقال إنه دفع إليه ألف دينار حتى عبر به إلى سواده فلما حصل في سواده واجتمع مع أصحابه حارب يلبق ومن معه فلم يثبت له يلبق وانهزم ومن معه وقتل
ص: 101
جماعة من أصحابه. وبصر أبو طاهر في الوقت بابن أبي الساج وقد خرج من خيمته التي كان معتقلاً فيها متطلعاً إلى الطريق لينظر ما يكون من حال الوقعة فوقع له أنه أراد أن يهرب فدعا به إلى حضرته وقال : أردت الهرب. ويقال إن غلمانه كانوا نادوه فقال له القرمطي : طمعت أن يخلصك غلمانك . فأمر به فضربت عنقه بحضرته وضرب أعناق جماعة كانوا في الأسر.
واحتال بعد ذلك أبو طاهر حتى عبر جميع أصحابه الذين كانوا معه في الجانب الشرقي من الفرات بالأنبار فحصلوا معه في الجانب الغربي الذي يلي البرية. وعاد يلبق منهزماً مفلولاً إلى مونس المظفر.
وحكى أبو القاسم بن زنجي أنه كان عدة أصحاب أبي طاهر ألف وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وأنه عرف ذلك من رجل أنباري كان يقيم له ولرجاله الخبر وقد قيل إنهم كانوا الفي وسبعمائة قال : وسمعت بعض مستأمنة أبي طاهر وقد سُئل عن السبب في سرعة هزيمة أصحاب السلطان وثباتهم هم فقال : السبب في ذلك أن أصحاب السلطان يُقدّرون أن السلامة في الهرب فيقدمونه ونحن نقدّر أن السلامة في الصبر فنثبت ولا نبرح.
ورتب علي بن عيسى بين بغداد ونهر زُبارا المرتبين وسلم إليهم مائة طير إلى مائة رجل منهم يكتبون على أجنحتهم كتباً بخبر العدو في كلّ ساعة. وكان السبب في سلامة بغداد وأهلها يوم قصد القرمطي زُبارا مع كثرة العيارين والمتشبهة بالجند وتشوفهم إلى النهب أن علي بن عيسى تقدّم إلى نازوك بمواصلة الركوب والتطواف في جميع جيشه كل يوم غدوة وعشية في الجانبين ففعل ذلك ثم تقدم إليه في يوم موافاة أبي طاهر إلى نهر زُبارا أن يُبكّر إلى باب حرب بجميع جيشه ويُقيم فيه إلى وقت العتمة وأن يُواصل النداء في الجانبين بأنه: من ظهر من العيارين والمتشبهة بالجند ومن وُجد معه حديد ضرب عنقه. فانجحر العيارون وأغلق أهلُ باب المحوّل ونهر طابق والقلائين وغيرهم دكاكينهم وتحرز الناس فنقلوا أمتعتهم إلى منازلهم وأما وجوه الناس فأكثروا الزواريق وجعلوها في الشوارع في دجلة ونقلوا إليها أمتعتهم ومنهم من حدرها إلى واسط . ونقل قوم من المجهرين أمتعتهم إلى حلوان ليحمل إلى خراسان مع الحاج ولم يكن عند أحد من الخواص والعوام شك في أن القرمطي يملك بغداد وأقام نازوك في ذلك اليوم كما رسم له علي بن عيسى على ظهر دابته من أول النهار إلى أن مضى صدر من الليل لا ينزل هو ولا أحد من أصحابه عن دوابهم إلا للصلوات وضربت له ولهم الخِيَم فنزلوها بالليل وكان ذلك سبباً لسلامة البلد .
وقصد القرمطي إلى هيت وبادر هارون بن غريب وسعيد بن حمدان إلى هيت لدفعه
ص: 102
عنها فسبقا القرمطي إلى هيت وصعدا إلى سورها وقويت بهما قلوب أهل هيت فلما وصل القرمطي إليها قاتلوه بالمنجنيقات فقُتل من القرامطة جماعة وانصرف أبو طاهر عنها. وورد الخبر بذلك إلى بغداد فسكنت النفوس واطمأنّت القلوب وتصدّق المقتدر والسيدة لما بلغهما خبر انصرافه بمائة ألف درهم. وكان مونس ونصر أحضرا جرائد جميع الرجال الذين اجتمعوا على نهر زُبارا مما يلي بغداد سوى الأعراب فوجدوهم اثنين وأربعين ألف رجل سوى غلمانهم وأسبابهم فإنهم كانوا أضعاف هذه العِدّة .
وكان علي بن عيسى لما بلغه أسرُ ابن أبي الساج بادر في الوقت إلى المقتدر وقال له : إنَّما جمعَ الخلفاء المتقدمون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين ولم يلحق المسلمين مُنذ قُبض النبي شيء أعظم من هذا الأمر لأن هذا الرجل كافر وقد أوقع بالحاج في سنة 312 فجرى ما لم يُعهد مثله وقد تمكنت له هيبة في قلوب الأولياء والخاص والعام، وإنما جمع المعتضد والمكتفي في بيت مال الخاصة ما جمعوا لمثل هذه الحوادث والآن فلم يبق في بيت مال الخاصة كبير شيء فاتَّقِ الله يا أمير المؤمنين وتخاطب السيدة فإنها دينة فاضلة فإن كان عندها مال قد ذخرته لشدّة تلحقها أو تلحق الدولة فهذا وقت إخراجه وإن تكن الأخرى فاخرج أنت وأصحابك إلى أقاصي خراسان فقد صدقك ونصحتك . فدخل إلى والدته ثم عاد فأخبر أن السيدة استرأته وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار من مالها إلى بيت مال العامة لينفق في الرجال وسأل علي بن عيسى عن مقدار ما بقي في بيت مال الخاصة من المال فعرّفَهُ علي بن عيسى أن فيه خمسمائة ألف دينار.
وتجرّد علي بن عيسى لحفظ الأموال وتقدّم ألا يُضيّع منها درهم واحدٌ في قضاء الذمامات وجَمَع أموال النواحي وأنفذ المُستحثين إلى العُمَّال فاجتمعت له جملة أخرى . وتنصح إلى علي بن عيسى رجل من التجار بأنه وقف على خبر رجل شيرازي يتخبر للقرمطي ويكاتبه فأنفذ معه جماعة فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان. وناظره علي بن عيسى بحضرة القاضي أبي عمر والقوَّاد وقال : أنا صاحب أبي طاهر وما صحبته إلا على أنه على حق وأنتَ وصاحبك ومن يتبعكم كفَّار مبطلون ولا بد لله في أرضه من حُجّة وإمام عدل وإمامنا المهدي فلان بن فلان بن إسماعيل بن جعفر الصادق وليس نحن مثل الرافضة الحمقى الذين يدعون إلى غائب منتظر . فقال له علي بن عيسي : اصدقني عمن يكاتب القرمطي من أهل بغداد والكوفة . قال : ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتى أسلّمهم إلى قوم كافرين فيقتلونهم لا أفعل ذلك أبداً. فأمر بصفعه بحضرته وضربه بالمقارع وقيَّدَهُ وغلَّهُ بغل ثقيف وجعل في فمه سلسلة وسلَّمه إلى نازوك وحبسه في المطبق فمات بعد ثمانية أيام لأنه امتنع من أن يأكل ويشرب حتى مات. وشغب الجند.
ص: 103
ودخل مونس المظفر بغداد من الأنبار ودخل بعد نصر وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم وكان الجند قد شغبوا بالأنبار لطلب الزيادة في أرزاقهم فأقاموا ببغداد على مطالبتهم فزيد كلّ واحد منهم ديناراً وأنفق فيهم على الزيادة.
وورد الخبر بدخول أبي طاهر القرمطي الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئاً وقتل من أهلها جماعة . ثم سار إلى الرَحْبة فدخلها بعد أن حارب أهلها ووضع السيف فيهم بعد أن ملكهم ونُدب مونس المُظفّر للخروج إليهم بالرقة. وكان أهل قرقيسيا وجهوا إلى القرمطي يطلبون الأمان منهم ووعدهم بجميل ثم أنفذ إليهم من نادى بقرقيسيا ألا يظهر بها أحدٌ بالنهار فلم يجسر أحد بها أن يظهر. فعبرت سرية له إلى الأعراب على جسر عقده بالرحبة فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ جمالهم وأغنامهم فرهبه الأعراب رهبة شديدة وصاروا لا يسمعون بذكره إلا تطايروا وجعل عليهم إتاوة إلى هذه الأيام وهي من كلّ بيت دينار في السنة ثم أصعد من الرحبة إلى الرقة. وسار مونس المظفّر إلى الموصل ومنها إلى الرقة فانصرف أبو طاهر عن الرقة على طريق الفرات ووصل إلى الرحبة فحمل ما معه من الزاد وغيره في زواريق وانحدر في الماء وعلى الظهر ليعاود هيتاً. وكان أهلها قد نصبوا على سورها عرّادات و منجنيقات فحاربوه وقتلوا من أصحابه فانصرف عنها إلى ناحية الكوفة وزاد الخبر بذلك فأخرج بني بن نفيس وهارون بن غريب على مقدّمة نصر.
وجاءت خيل القرمطي ومعها ابن سنبر إلى قصر ابن هبيرة وعبروا الفرات بِمَخاضَة فقتلوا جماعة من أهل القصر فخرج نصر الحاجب ومعه القوّاد والرجالة المصافية يريدون مواقعة أبي طاهر وحُمَّ نصر حمى حادَّة فلم يمنعه ذلك حادة فلم يمنعه ذلك من المسير إلى سُورا. ووافى أبو طاهر إلى شاطئ سورا وقت المغرب فلم يكن في نصر نهوض للركوب لشدّة علته فاستخلف أحمد بن كيغلغ وأنفذ معه الجيش فانصرف القرمطي قبل أن يلقاه أحمد بن كيغلغ . واشتدَّت علة نصر وجفٌ لِسانهُ من شدّة اللحمى فردّ إلى بغداد في عمارية ومات في الطريق. فخرج شفیع المقتدري برسالة المقتدر إلى الجيش الذي كان مع نصر بأنه قد جُعل الرئيس عليهم مكان نصر هارون بن غريب فدخل هارون بن غريب مع الجيش بغداد .
لما رأى علي بن عيسى اختلال النواحي في أيَّام وزارة الخاقاني والخصيبي ونقصان الارتفاع وزيادة النفقات وما لحق من زيادة الرجالة بعد انصرافهم من الأنبار من
ص: 104
حرب القرمطي وإن زيادتهم بلغت مائتي وأربعين ألف دينار في السنة مضافةً إلى النفقات المفرطة هالَهُ ذلك واستعظمه ووجد رجال السلطان قد ضعفوا عن القرمطي وتبين انحراف نصر الحاجب عنه وذلك لميل مونس إليه استعفى المقتدر من الوزارة فأمرَهُ بالصبر وقال له : أنت عندي بمنزلة المعتضد بالله ولي عليك حقوق . فواصل الاستعفاء فشاور المقتدر مونساً المُظفّر وأعلمه أنه قد سُمي له ثلاثة الفضل بن جعفر بن حنزابة فلم يشر به لأجل من قتل من آل الفرات وأبو علي بن مقلة فلم يشر به لحداثته وقال : لا يصلح للوزارة إلا شيخ له ذكر وفيه فضل ومحمد بن خلف النيرماني فلم يشر به وعرفه أنه جاهل لا يحسن أن يتهجى اسمه وأنه متهوّر وأشار بمداراة علي بن عيسى .
ثم لقي مونس علي بن عيسى ورفق به وداراه فقال له علي بن عيسى لو كنت مقيماً بالحضرة لاستعنتُ بك وعملتُ ولكنّك خارج إلى الرقة. وبلغ أبا علي بن مقلة ذلك فجد في السعي وشاور المقتدر نصراً الحاجب في أمر الثلاثة فقال : أما الفضل بن جعفر فلا يدفع عن صناعة ومحلّ ولكنك بالأمس قتلتَ عمه وبنو الفرات يدينون بالرفض وأما ابن مقلة فلا هيبة له وأشار بمحمد بن خلف لما كان بينهما مما ذكرناه فيما تقدّم ففر المقتدر منه لما عرفه من جهله وتهوره. وواصل ابن مقلة مداراة نصر الحاجب فأشار على المقتدر به وقال : يُقلد فإن قام بالأمر كما يجب وإلا فالصرف العاجل بين يديه. واضطر المقتدر إلى أن استوزر أبا علي بن مقلة.
وكان ما مال به المقتدر إلى أبي علي أن أبا طاهر القرمطي لما قرب من الأنبار تشوف إلى علم خبره ولم يكن يكاتب بشيء من خبره غير الحسن بن إسماعيل الإسكافي عامل الأنبار فلما عرف أبو علي بن مقلة الصورة طلب أطياراً وأنفذها إلى الأنبار وكُوتب عليها أخبار القرمطي وقتاً بعد وقت فكان ينفذها إلى نصر لوقته ويعرضها نصر على المقتدر ووجد بذلك نصر السبيل إلى تقريظ ابن مقلة وقال للمقتدر : إن كان هذه مُراعاته الأمورك ولا تعلق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعتَهُ.
فلما كان يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأول سنة 316 أنفذ هارون بن غريب للقبض على علي بن عيسى فصار هارون إلى دار علي بن عيسى ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وكان أبو جعفر متعطلاً في الوقت فوجَّه بأبي جعفر إليه لأنه استحيا منه وعرفه ما أمر فيه فلما أدّى إليه الرسالة قال له : أنا جالس متوقع له. وكان قد لبس علي بن عيسى حُفَّا وعمامة وطيلساناً وفي كمه مُصحف ومقراض وسأل هارون أن يصون حُرَمَهُ وولدَهُ ففعل وحملَه مع أخيه أبي على عبد الرحمن إلى دار السلطان فسلّم علي بن عيسى إلى زيدان القهرمانة واعتقل عبد الرحمن عند نصر فكانت وزارته هذه سنة واحدة وأربعة أشهر ويومين.
ص: 105
فلما كان في آخر نهار يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر أحذر أبو علي بن مقلة إلى دار السلطان ولم يصل إلى المقتدر وأقام عند نصر الحاجب في دار السلطان. وجد محمد بن خلف في طلب الوزارة وضمن ثلاثمائة ألف دينار مُعجَّلةً غير أموال النواحي فقلق أبو علي بن مقلة لذلك وحضر من غد دار السلطان ولم يصل أيضاً. واجتمعت الألسن على المقتدر بإمضاء أمره وبالذم لمحمد بن خلف فأمضاه وحضر يوم الخميس للنصف من الشهر ووصل وخلع عليه وحمل إليه من دار السلطان طعام على رسم الوزراء إذا تقلدوا .
وكان أبو الحسن علي بن عيسى قبل صرفه عن الوزارة بعشرين يوماً كتب إلى أبي عبد الله البريدي يأمره باستخراج ما كتب به ابن مابنداذ أنه قد اجتمع في بيت مال الأهواز من مال الأهواز وهو ألف ألف وخمسون ألف درهم وانضاف إلى ذلك ما حمله القاسم بن دينار من مال فارس وكرمان على الظهر وهو سبعمائة ألف درهم سوی ما حمله أبو علي بن رستم من مال أصبهان وهو أربعمائة وخمسون ألف درهم فيصير الجميع ألفي ألف ومائتي ألف درهم. وكان في أبي عبد الله البريدي حركة ورجلة يحتاج إليهما في ذلك الوقت فكتب إلى ابن مابنداذ يطالبه بالمال فكتب بأن المال حاصل. وكان ابن مابنداذ بتستر فوجّه إليه يستعجله ولم ينتظره واستحضر كاتبه فحمل في الشذاءات ألفي ألف ومائتي ألف در هم وكتب أنه إن عادت الشذاءات حمل فيها باقي المال فصرف علي بن عيسى قبل موافاة بقية المال.
وقد كنا ذكرنا انحراف نصر الحاجب عن علي بن عيسى لِمَيْل مونس المُظفّر إليه فلما نكب علي بن عيسى ادعى نصر الحاجب أنه وجد رجلاً يعرف بالجوهري أقرّ أنه صاحب القرمطي وأنه جعله سفيراً بينه وبين علي بن عيسى وحكى عنه أن علي بن عیسى كان يكاتب القرمطي على يده وجمع بينه وبين علي بن عيسى حتى واجهه بذلك فقال له علي بن عيسى : بهتني وما خلق الله لما يقوله أصلاً. وعاون أبو علي بن مقلة نصراً الحاجب في هذه القصة إلى أن كاد يتمّ المكروه على علي بن عيسى وهم المقتدر أن يضربه بالسوط على باب العامة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين فاحتالت السيّدة واستكشفت الحال فيما ادعى عليه فوقفت على بطلانه وقررت ذلك في نفس ابنها وأزالت ما كان أمره به فيه .
وأخذ أبو علي بن مقلة خطوط العُمال والضُمناء بنحو مائة ألف دينار وبلغ أبا عبد الله البريدي وهو بالأهواز تقلد أبي علي بن مقلة الوزارة وكان بينهما مُودة فأنفذ إليه من وقته سفاتج بثلاثمائة ألف دينار من حمله الباقي بالأهواز بعد ما كان حمله. وكان
ص: 106
القاسم بن دينار وأحمد بن محمد بن رُستم قد حملا إلى علي بن عيسى سفاتج بستمائة ألف درهم فوصلت بعد صرفه فقبضها ابن مقلة فمشى أمر أبي علي بن مقلة بهذه الاتفاقات وكتب أبو علي بن مقلة كتاباً برفع كلّ الجنايات والمصادرات وسكن من الناس لينبسطوا في أعمالهم .
كان السبب في ذلك أن سُوّاس هارون بن غريب وسواس نازوك تغايروا على غُلام أمرد ووقع الشرّ بینهم وأخذ نازوك سُوّاس هارون بن غريب وأودعهم حبس الجرائم بعد أن ضربهم. فصار أصحاب هارون بن غريب إلى مجلس الشرطة ووثبوا على أبي الجود خليفة نازوك وانتزعوا أصحابهم من يده وركب نازوك إلى المقتدر وشكى إليه هذه الحال فلم يكن من المقتدر إنكار رضيه نازوك فانصرف محفظاً وجميع رجاله . وجمع هارون بن غريب رجاله وباتا جميعاً مستعدين فلما أصبحوا زحف أصحاب نازوك إلى دار هارون بن غريب وأغلق هارون با به دونهم وخارج الباب جماعة من غلمان هارون وأصحابه فقتل منهم قوم وفتح باب هارون حينئذ وخرج أصحابه واستحكمت الحرب بينهم واشتدت فوجه نازوك إلى أصحابه بمن صرفهم. ثم ركب الوزير أبو علي ومعه مفلح الأسود لتوسط القصة فبدأ بابن الخال وأدى إليه رسالة المقتدر بالكف ثم صار إلى نازوك فأدى إليه مثل ذلك فسكنت القصة واستوحش نازوك وأقام في داره وفيها غلمانه وأصحابه ورجاله وظهر في ساقه توتة وقلعها وجعلها سبباً في ترك الركوب وبعد ثلاثة أيام صار إليه هارون بن غريب بدراعة فاصطلحا وأقام نازوك في داره وصار هارون بن غريب إلى البستان النجمي فأقام فيه ليبعد عن نازوك وكثر الناس عليه وأرجفوا له بإمرة الأمراء. فاشتد ذلك على أسباب مونس المظفر وكتبوا به إليه وهو بالرقة فأسرع الشخوص منها على طريق الموصل إلى بغداد ووصل إليه ولم ينحدر إلى المقتدر ولا لقيه وصاعد إليه الأمير أبو العباس والوزير أبو علي فسلما عليه وانحدر نازوك.
وأقام هارون بن غريب في دار السلطان منابذاً لمونس المظفر ودخل أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان من الجبل وصار إلى مونس المظفر . وما زالت المراسلات تتردد بين مونس والمقتدر.
ص: 107
لما كان يوم السبت لثمان خلون من المحرم خرج مونس المظفر إلى باب الشماسية وخرج الجيش معه وركب نازوك من داره في غلمانه وأصحابه في السلاح فلما وصل إلى الجسر وجده مقطوعاً فأقام بمكانه إلى أن أصلح وعبر هو وأصحابه عليه وصاروا إلى مونس وخرج أبو الهيجاء بن حمدان إليه وسائر القوّاد ثم انتقلوا من باب الشماسية إلى المصلى وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والحجرية والرجالة المصافية فلما كان آخر النهار انفض أكثر من كان في دار السلطان وصاروا إلى مونس وصرف مونس تحرير الصغير عن الدينور وردها إلى أبي الهيجاء مضافة إلى أعماله .
وراسل مونس المقتدر بأن الجيش عاتبٌ منكرٌ للسرف فيما يصير إلى الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم في الرأي والتدبير ويطالبون بإخراجهم من الدار وإبعادهم وأخذ ما في أيديهم فكتب المقتدر إلى مونس رقعة نسختها بسم الله الرحمن الرحيم : أمتعني الله بك ولا أخلاني منك ولا أراني سوء فيك. تأملت الحال التي خرج أولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسكوا بها وأقاموا عليها فوجدتهم لم يريدوا إلا صيانة نفسي وولدي وإعزاز أمري وملكي واجتلاب الخير والمنفعة من كل جهة وتطلبها بكل سبيل بارك الله عليهم وأحسن إليهم وأعانني على صالح ما أنويه فيهم. وأما أنت يا أبا الحسن المظفر لا خلوت منك فشيخي وكبيري ومن لا أزول ولا أحول عن الميل إليه والتوفر عليه والتحقق به والإيجاب له اعترض ما بيننا هذا الحادث أم لم يعترض وانتقض الأمر الذي يجمعنا أم لم ينتقض وأرجو ألا تشك في ذلك إذا صدقت نفسك وحاسبتها وأزلت الظنون السيئة عنها أدام الله حراستها والقوة بالله والذي خاض لأصحابنا فيه من أمر الخدم والحرم الذين يخرجون من الدار ويباعدون عنها وتسقط رسومهم في الخدمة ويمنعون منها ويبرؤون من نعمهم ويحال بينهم وبينها إلى أن يفرجوا عما في أيديهم من المال والضياع ويردّوها إلى حقوقها قول إذا تبينوه حق تبينه وتصفحوه کنه تصفّحه علموا أنه قول جافٍ والبغي عليَّ فيه غير مستتر ولا خاف. ولإيثاري موافقتهم واتباعي مسرَّتهم ما أجبتهم إلى المتيسر في أمر هذه الطبقة خاصة فأتقدم بقبض بعض إقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم وبسط إيغاراتهم وإخراج من يجوز إخراجهُ من داري ولا أطلق للباقين الدخول في تدبيري ورأيي وأوعز بمكاتبةِ العُمال في
ص: 108
استيفاء حقّ بيت المال في ضياعهم الصحيحة الملك دون ما يقال إنه قد لابَسَهُ الريبُ والشك وانظرُ بنفسي في أمر الخاصّة والعامّة وأبلغُ في إنصافها والإحسان إليها الغاية . ولا أعتمد في ذلك على وزير ولا سفير البتة وانتصب لإثارة الأموال وجمعها ووضعها في مواضعها وأنفيها من كلّ ما يثلمها وينتقضها واشمرُ في ذلك وأبلغ في مناهضة الأعداء قُرباً وبُعداً. وهذا إنما قعدت عنه اعتماداً عليكم وتفويضاً إليكم وثقة بأنكم شركائي وسُهمائي والمخصوصون بخير أيامي وشرّها وحُلوها ومرها. ولو علمتُ أنه يُجعل ذلك ذنباً لي وجُرماً يتجنّى به عليَّ لَكُنت أول شاخص إلى كل تعب وأوَّل مُبادِرٍ نحوه من غير إبطاء عنه ولا ريث فأما أنتم فمعظم نعمكم منّي وما كنت لأغور عليكم في شيء سمحت به لكم ورأيته في وقته وأراه الآن زهيداً في جنب استحقاقكم وأنا بتثميره أولى وبتوفيره أخرى والله المطَّلع على جميل معتقدي للجماعة فيها والشاهد على محبّتي لإيصالها إلى أقصى أمانيها ونازوك فلست أدري من أي شيء عتب ولا لأيّة حال استوحش واضطرب لأني لم ألمه على محاربة هارون بن غريب الخال ولم أمنعه من الانتصار منه والأخذ بثأره عنده ولا أمرت بمعاونة هارون عليه ولا قبضت يده عما كانت طويلة إليه منبسطة فيه متمكنة منه ولا غيرت له حالاً ولا حزت له مالاً ولاسمع مني ولا بلغه عني ما يسوء موقعه وينفر منه والله يغفر لنا وله . وعبدالله بن حمدان فالذي أحفظه صرفه عن الدينور وقد كان يتهيأ إعادته إليها إن كان راغباً فيه فيسعف بمسألته وأن يستدعي تعويضه من الأعمال ما هو أعظم خطراً من الدينور فلا نقصر عن إرادته وما عندي له ولنازوك وللعصاة كلها إلا التجاوز والإبقاء والإغضاء وقبل هذا وبعده فلي في أعناقكم بيعة قد وكدتموها على أنفسكم دفعةً بعد دفعةٍ ومن بايعني فإنما بايع الله ومن نكث إنما نكث عهد الله ولي أيضاً عليكم نعم وأياد وعندكم صنائع وعوارف آمل أن تعترفوا بها وتلتزموها ولا تكفروها تشكروها وإن راجعتم الجميل وتلافيتم هذا الخطب الجليل وفرّقتم جموعكم ومزقتموها وعدتم إلى منازلكم واستوطنتموها وأقبلتم على شؤونكم وتشاغلتم بها وأجريتم في الخدمة على عادتكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزلة من لم يبرح من موضعه ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه وكنت الذي تعرفونه في الثقة بكم والإيثار لكم والسكون إليكم والاشتمال عليكم لكم بذلك عهد الله إن عهده كان مسؤولاً. وإن أبيتم إلا مكاشفة ومخالفة وإثارة فتنة وتجديد محنة فقد وليتكم ما توليتم وأغمدت سيفي منكم وتبرأت إلى الله إن أمد باعي إلى أحد منكم ولجأت في نصري ومعونتي وكفايتي إلى الله عزّ وجلّ. ولم أخرج من منزلي ولم أسلم الحق الذي جعله الله لي إلا كما خرج عثمان بن عفان عن داره وكما سلم حقه لما خذله عامة ثقاته وأنصاره وكان ذلك حجة فيما بين الله عزّ وجلَّ وبيني ومعذرة وسبباً بإذن الله لما أؤمّلِهُ من الفوز في الدنيا والآخرة. والله بصير بالعباد
ص: 109
وللظالمين بالمرصاد وحسب وحسبي الله ونعم الوكيل .
ولما وصلت هذه الرقعة إلى مونس ووقف نازوك وأبو الهيجاء على ما تضمنت عدلوا إلى مكاتبته بإخراج هارون بن غريب عن بغداد فأجابهم إلى ذلك وقلّد هارون الثغور الشامية والجزرية وخرج من يومه ومضى إلى قطريل فأقام
بها .
ولما كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم دخل مونس المظفر والجيش بغداد وعدلوا عن دار السلطان كراهية لمعرّة الجند. وظهر عند الناس ظهوراً بيّناً وأرجفوا إرجافاً قوياً إن نازوك وأبا الهيجاء واقفاً مونساً المظفر على الاستبدال به ونصب غيره في الخلافة . فلمّا كان يوم الأربعاء لاثني عشرة ليلة خلت من المحرَّم خرج مونس إلى باب الشماسيّة دفعة ثانية وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك ويُنَيّ بن نفيس وجميع القوَّاد والجيش وزحفوا إلى دار السلطان .
لما زحف القوم بأسرهم إلى دار السلطان هرب المظفر بن ياقوت وسائر الحجاب والحشم والخدم والوزير أبو علي بن مقلة منها ودخل مونس من باب الزاوية وحصل الجيش كله في دار السلطان. فلما كان بعد عتمة بساعة أُخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواص جواريه من الدار وأصعد أصعد بهم إلى دار مونس المظفر ودخل هارون بن غريب
من قطريل سرًا إلى بغداد واستتر بها .
ومضى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى دار ابن طاهر ليحدر منها محمد بن المعتضد بالله فلم يفتح له كافور الموكَّل بحفظ الدار وطالبه بعلامة من مونس فلم تكن معه فانصرف وأصعد ونازوك بعد أن أخذ العلامة وطرح في طريقه النار في دار هارون ابن غريب وأحدر محمد بن المعتضد ووصل إلى دار السلطان في الثلث الأخير من ليلة السبت للنصف من المحرّم وسُلّم عليه بالخلافة وبايعه مونس والقُوَّاد ولقب القاهر بالله .
وأخرج مونس علي بن عيسى من الحبس في دار السلطان وأطلقه إلى منزله وأحضر أبا علي بن مقلة وقلّده وزارة القاهر بالله وقلد نازوك الحجبة مضافة إلى ما إليه من الشرطة بمدينة السلام وأضاف إلى ما كان إلى أبي الهيجاء من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وطريق سُرّ من رأى ويُزُرْج سابُور والراذانَيْن ودَقوقاً وخانيجان كذا والموصل أعمال المعاون بهَمَذَان ونهاوند والصَّيْمَرة والسيروان وما سَبَذَان ومهرجانقَذق واززن .
ووقع النهب في دار السلطان ومضى بُنَيَّ بن نفيس إلى تربة السيدة بالرصافة فوجد لها هناك ستّمائة ألف دينار فحملها إلى دار السلطان. وخلع المقتدر بالله من الخلافة
ص: 110
يوم السبت النصف من المحرّم وأشهد على نفسه بذلك القضاة وسلم الكتاب بذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف.
فحدّث أبو الحسين بن أبي عمر أن أباه سلم الكتاب إليه بالخلع وقال له : يا بُنَيَّ احفظهُ واسترهُ ولا يراه أحد من خلق الله عندك . قال : فقلت له : وما الفائدة في كتمانه وقد علم به الخلق؟ قال: فقال لي : وما الفائدة في إظهاره ومن أين تعلم ما يكون؟ قال : فامتثلت أمره. فلما أعيد المقتدر بالله إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو أبو عمر ذلك الكتاب فسلمه إلى المقتدر بالله من يده إلى يده وحلف له على أنه ما رآه أحد من خلق الله عنده غيري فحسن موقع ذلك من المقتدر جدا وشكره له وقلده بعد مديدة قضاء القضاة قال فقال لي: يا بني ما ضرنا كتمان الكتاب وستره شيئاً .
وانصرف الناس من دار السلطان يوم السبت ولما كان من غد وهو يوم الأحد جلس القاهر بالله وحضر الوزير أبو علي بن مقلة ووصل إليه وأمره بالجلوس بين يديه وسكن النهب وكتب أبو علي بن مقلة بخبر تقليد القاهر بالله الخلافة كتاباً أنشأه إلى الولاة في النواحي . وأمر نازوك الرجالة المصافية بقلع خيمهم من دار السلطان وأقام رجالته مكانهم فاضطربوا من ذلك ثم تقدّم إلى خلفاء الحجاب والبوابين ألا يدخل الدار إلا من كانت له مرتبة فاضطربت الحجرية من ذلك وتكلموا وصار ذلك سبباً لردّ المقتدر إلى الخلافة .
فلما كان يوم الاثنين السابع عشر من المحرَّم بكر الناس إلى دار السلطان لأنه يوم موكب ودولة جديدة فامتلأت الدهاليز والممرات والرحاب وشاطئ دجلة منهم وحضر الرجالة المصافية بالسلاح يطالبون بالبيعة ورزق سنةٍ ولم ينحدر مونس إلى دار السلطان ذلك اليوم وأقام في منزله وارتفعت زعقات الرجالة وسمعها نازوك وأشفق أن يجري بین أصحابه وبينهم قتال فتقدم إلى غلمانه وأصحابه ألا يعرضوا لهم. وزاد شغب الرجالة وهجموا يريدون الصحن التسعيني فلم يمنعهم أحد لما كان نازوك تقدم به إلى أصحابه ودخل منهم من كان على الشط من الروشن بالسلاح المشهور وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وكان جالساً في رواق التسعيني وبين يديه أبو علي بن مقلة ونازوك وأبو الهيجاء فوجه بنازوك ليخاطبهم. وكان نازوك مخموراً كالسكران قد شرب طول ليلته فلما برز إلى الروشن ونظر إليه الرجالة أسرعوا نحوه فخافهم لأنهم شهروا السلاح عليه فولى منهم وعدا وأطمعهم في نفسه وعدوا خلفه وانتهى به الهرب منهم
ص: 111
إلى باب كان هو سدّه أمس ذلك اليوم بالآجر والجص ولم يمكنه النفوذ ووصلوا إليه وقتلوه وقد كانوا قتلوا قبله عجيباً وصاحوا مقتدر يا منصور فتهارب كل من في الدار من الوزير والحجاب والحشم وسائر الطبقات حتى بقيت الدار خالية .
وصلب الرجالة نازوك وعجيباً على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة . ثم صار الرجالة إلى دار مونس يُطالبون بالمقتدر بالله وبادر الخدم في دار السلطان فغلقوا أبوابها وكان جميعهم خدم المقتدر وحاشيته وصنائعه وأراد أبو الهيجاء أن يخرج من الدار فتعلق به القاهر وقال : يا أبا الهيجاء تُسلمني فدخلت أبا الهيجاء الحمية والآنفة فرجع معه وقال : والله لا أسلمتك وعاد فوجد الأبواب مغلقة فدخلا دار السلم وارتفعت ضجة وتكبير فقال فائق وجه القصعة لبعض الخدم الصغار الرسائلية . انظر ما هذه الضجة. فمضى وعاد وقال : قُتل أبو الهيجاء . فقال له : انظر ويلك ما تقول . فأعاد ذلك ثلاثاً فقال : أبو الهيجاء هو ذا لنا ويلك. فقال الخادم غلطت قتل نازوك. فقال القاهر لوجه القصعة : افتح لي الباب لأخرج إلى الشط . فقال : إن وراءه أبواباً كثيرة يتعذر منها الوصول إلى الشط ولكن نفتحه على كل حال . ففُتح فأفضى بالقاهر المشي إلى درجة الدواليب المنصوبة على دجلة فوق موضع التاج فصعدها ويده في يد أبي الهيجاء بن حمدان وأشرفا على دجلة فرأيا الرجالة في السلاح من نهر المُعلَّى مُنتظمين مُتراصين إلى التاج وإلى باب الخاصة لا يحصيهم العدد فنزل مُبادراً فقال له أبو الهيجاء امض يا مولاي فَوَتُربة حمدانَ لا فارقتُكَ أو أقتل دونك. ومضيا حتى دخلا الفردوس وخرجا من باب الفردوس إلى الرحبة فلقيا غلاماً لمقبل الخادم راكباً فلما رآهما ترجّل وقالا :له من أين جئت؟ قال : من باب النوبى. فنزع أبو الهيجاء سواده ومنطقته ودفعها إلى الغلام وقال له : اعطني جبتك .
وكانت عليه جبة صوف مصري فأعطاه إياها فلبسها وركب دابة الغُلام وترك القاهر مع الخدم :وقال يا مولاي قف بمكانك حتى أعود إليك . فلم يظل أبو الهيجاء حتى عاد فقال له القاهر: ما وراءك ، فقال : صرتُ إلى باب النوبى فلقيني جعفر البواب فقلت له : افتح الباب . فقال : لا يمكنني لأن وراءه من الرجالة والجيش من لا يحصى لأنه قد جيء برأس نازوك إلى هاهنا . ثم قال للقاهر : هذا أمر من السماء فعد بنا. ودخلا الفردوس فجالا فيه ثم خرجا إلى القُرب من القلاية ثم دخلا الصحن الحسني الصغير ثم دخلا إلى دار الأترجة وخف من معهما من الخدم وتأخر هناك فائق وجه القصعة وقال لمن وقف بوقوفه من الخدم : ادخلوا إليهما فافرغوا من عدوّ مولاكم. فدخل نحو عشرة منهم بعضهم بقسي وبعضهم بدبابيس فلما رآهم أبو الهيجاء صاح بهم وجرّد سيفه ونزع الحبة الصوف التي كانت عليه فلفها على يده وأسرع نحوهم فانجفلوا من بين يديه ودهشوا وسقط بعضهم في البركة وغشيهم فرموه ضرورةً فرجع ودخل بيت ساج في بستان دار الأترجة فلما حصل في
ص: 112
البيت خرج من كان في البركة من الخدم وصاروا إلى قُرب البيت وأحس بهم فخرج إليهم بسيفه فولوا بين يديه إلى جانب من الصحن وفتحوا باباً من زاوية هذا الصحن فدخل منه خمار جويه أحد أكابر الغلمان الحجرية ومعه قوس ونُشّاب ومعه غلامان أسودان بسيفين ودرقتين وأقبل على الخدم وقال لهم : أين هو يا أصحابنا؟ فقالوا : هو في البيت الساج : فقال لهم : تحرشوا به حتى يخرج فشتموه فخرج كالجمل الهائج وقال : يا آل تغلب أأقتلُ بين الحيطان! أين الكميتُ أين الدهماء؟ فرماه خمار جويه بسهم أصابه تحت ثديه واتبعَهُ بسهم آخر فأصاب ترقوته ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشك فخذيه .
قال بُشرى وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي شك فخذيه فقطعَهُ وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمی به ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف وأخذ السيف وغشيَهُ الأسود الآخر فحزّ رأسه فأسرع بعض الخدم فانتزع الرأس من يد الأسود ومضى مُبادراً به .
وكان الرّجالة لما انتهوا إلى دار مونس وسمع زعقاتهم قال : ما الذي يريدون؟ فقيل له : يريدون المقتدر بالله . فقال : سلموه إليهم. فلما قيل للمقتدر «امض معهم إلى الدار حتى تعود إلى أمرك» خاف أن يكون حيلة عليه فامتنع فحمل حملاً على رقاب الرجال من دار مونس إلى الطيار ومن الطيار إلى درجة الصحن التسعيني فحين وضع رجله في الدار صار إلى دار زيدان القهرمانة وقال : ما فعل أبو الهيجاء؟ فقيل: هو في دار الأترجة . فدعا بدواة فأبطأ بها الغلمان ولم يزل يطلبها حتى جاؤوه بها فكتب له أماناً بخطه ودفعها إلى بعض الخدم وقال : ويلك بادر به لئلا يحدث عليه حادثة. فلقي الخادمُ الخادم الذي معه الرأس فعاد معه فلما رآه قال له : ويحك ما وراءك . قال عمر الله أمير المؤمنين . فقال : ويلك من قتله؟ فغمزه مفلح الأسود فقال : لا أدري من قتله ولا يعرف قاتله فإن أخلاط الرجالة قاتلوه . قال : فإنا لله وأقبل يكرّرها وقال : ما كان يدخل إليّ في هذه الأيام وأنا في دار مونس من يسليني ويظهر لي الغم حتى كأنه بعض أهلي سواه هذا إلى ماله ولأهله من الحقوق وظهر فيه من الكآبة أمر عظيم.
فبينما هو كذلك إذ ارتفعت ضجة فشغل عن أمر أبي الهيجاء وقال: ما هذا؟ فجاءه خادمٌ يعدو وقال : محمد (يعني القاهر بالله) وقد أخذ وجيء به فأحضر القاهر بالله فأجلسه بين يديه واستدناه ثم جذبه إليه وقبل جبينه وقال له : يا أخي أنت لا ذنب لك وقد علمتُ أنك قهرت . والقاهِر بارك يقول : نفسي نفسي الله الله يا أمير المؤمنين. فلما كرر ذلك قال له : وحق رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لا جرى عليك سوء مني أبداً ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حي ولأحرصن على انصرافك إلى منزلك من دار ابن طاهر في
ص: 113
هذه الليلة فطب نفساً ولا تجزع.
واخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهراً في الشوارع ونودي عليهما هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته وسكن الهَيْج وعاد أبو علي بن مقلة إلى وزارته وكتب عن المقتدر بالله المقتدر بالله برجوع الخلافة إليه وتجديد البيعة له إلى الولاة في النواحي.
ولما تمكّن المقتدر من دار الخلافة وأقرّ أبا علي بن مقلة على وزارته أطلق للجند البيعة أمَّا للرجالة فست نوائب وزيادة دينار لكلّ راجل وأما الفرسان فثلث رزق وزيادة ثلاثة دنانير لكلّ فارس ولما نفدت الأموال في ذلك أخرج ما في الخزائن من الكسوة وغيرها فباع ذلك . ثم أطلق لهم بها العُهَد بالأشريَّة على وكيل نصبَهُ المقتدر وهو علي ابن العباس النُوبَختي وأشهد على نفسه بتوكيله إيّاه في البيع وشرط للمبتاعين في كتب الأشرية أن يحملوا في حق بيت المال فيما اشتروه على معاملة القطائع المعشورة ثم بيع منهم بالصلة فضل ما بين المعاملتين في أملاك الرعيّة وهو فضل ما بين الأستان والقطيعة ووقعت لهم الشهادة بذلك على عليّ بن العباس وحسبت عليهم الضياع والأملاك بأرخص الأثمانِ .
فحکی ثابت بن سنان أنه حضر مجلس الوزير أبي علي بن مقلة ولم يكن له شغل غير التوقيع للجند ببيع الضياع وفضل ما بين المعاملتين بالصلة ولا كان لأصحاب الدواوين عمل غير إخراج العبر لما يباع وكان الناس مجتمعين عليه وهو يُوقع إذا استُؤذن لعليّ بن عيسى عليه فأذن له فلما رآه قام له قياماً تاماً وأجلسه معه على دستِه وأقبل عليه وترك ما كان فيه . فلما سأله عن خبره رأى الناس مُنكبين عليه فقال له : يشتغل الوزير أيده الله بشغله. وأقبل أبو علي بن مقلة على الناس يُوقع لهم فَلمَحَ علي بن عيسى خرجاً قد أرج بعب بعبرة ضياع جبريل والد بختیشوع فوجد الثمن بالإضافة إلى ما اشتريت نزراً يسيراً فقال : لا إله إلا الله بلغ الأمر إلى هذا فترك ابن مقلة ما كان في يده وأقبل عليه فقال : حدثني شيخنا أبو القاسم رحمه الله (يعني عيسى بن داود) أن المتوكل على الله لما غضب على بختيشوع المُتطبب أنفذ إلى داره لإحصاء ما في خزائنه فوجد في خزانة كسوته رقعةً فيها ثبتُ ما اشتراه من الضياع وهو ببضعة عشر آلاف ألف درهم فقد آل أمرها إلى أن تُباع بهذا القدر النزر . فعجبا جميعاً من ذلك وعاد ابن مقلة إلى شغله وقام علي بن عيسى لينصرف فقام له الوزير أبو علي كما قام لدخوله .
وفي هذه السنة خلع على أبي علي بن مقلة وكُنّي وكُتب إلى جميع النواحي وفيها قلد أبو عُمر قضاء القضاة وكتب عهده.
وفيها أوقع القرمطي بالحاجّ في البيت الحرام بمكة وقتل أميرها .
ص: 114
كان منصور الديلمي بَذرَق بالحاجّ في هذه السنة فسلموا في طريقهم فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية فقتل الحاج في المسجد الحرام وفي فجاج مكة وفي البيت قتلاً ذريعاً وقلع الحجر الأسود وقتل ابن مجلب أمير مكة وعرَّى البيت وقلع الباب واصعد رجلاً من أصحابه ليقلع المرزاب فتردّى الرجل على رأسه ومات وأخذ أموال الناس وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن باقيهم في مصارعهم في المسجد الحرام وغيره من غير أن يصلي عليهم وأخذ أسلاب أهل مكة وانصرف إلى بلده و حمل معه الحجر الأسود.
وفيها قلد ابنا رائق شرطة بغداد مكان نازوك
وشغّب الفرسان وتهدّدوا بأمور عظيمةٍ فأحضر المقتدر قوادهم وخاطبهم بجميل ووعدهم بإطلاق أرزاقهم في الشهر الجديد فانصرفوا ويكنوا وشغب الرَّجالة فأطلقت أرزاقهم.
وفي شوّال منها خلع المقتدر على الأمير هارون ابنه وركب معه الوزير والجيش وكانت ولاية فارس وكرمان و سجستان و مكران إليه . وفي ذي القعدة منها خلع المقتدر على ابنه الأمير أبي العباس وركب معه الوزير ومونس المظفّر وجميع الجند وكان مرسوماً بولاية المغرب ومونس يخلفه عليه وفيها صرف ابنا رائق عن الشرطة وقلدها أبو بكر محمد بن ياقوت .
كان قد عظم الأمر في تسحّب الرجّالة المصافية وأدلوا بأنهم كانوا السبب في ردّ المقتدر إلى الخلافة بعد ما خلع وثقل ما لهم واحتدّت مطالبتهم وكثر شعبهم وزاد تعديهم وبلغ مالهم في كلّ شهر من شهور الأهلة مائة وثلاثين ألف دينار. فاتفق أن شعب الفرسان وطالبوا بأرزاقهم وناوشهم الرجالة فقتل منهم جماعة . واحتجَّ السلطان على الفرسان بأن المال منصرف إلى الرجالة فحاربوهم حتى طردوهم من دار السلطان وركب محمد بن ياقوت فنادى فيهم ألا يقيموا ببغداد وكان من وجد منهم بعد النداء قبض عليه وأودع حبس الجرائم وهدمت دور عرفاء الرجالة وركب في ذلك ابن ياقوت وجدّد النداء فيهم ثم ظفر بنفر منهم فضربوا وشهروا وقبضت أملاك الرجالة المصافية وهدمت دورهم ثم هاج السودان بباب عمار فركب محمد بن ياقوت والقواد الحجرية
ص: 115
فأوقعوا بهم وضربوا الصقع بالنار. وكانت لأبي العلاء سعيد بن حمدان فيهم نكاية مشهورة وهربوا متفرقين ثم اجتمع منهم جماعة من البيضان من رجالة المصافية وغيرهم فكثر عددهم وانحدروا إلى واسط ورأسوا على أنفسهم رجلاً من الفرسان يعرف بنصر الساجي وطردوا عمال السلطان بواسط. فانحدر إليهم مونس وأوقع بهم بواسط وقتلهم فلم يرتفع لهم راية بعد ذلك .
كان المُقتدر مُتهماً لابن مقلة لممايلة مونس المظفر وكان مستوحشاً من مونس يظهر له الجميل وانحرف عنه يقاوت لميل مونس إليه واتفق أن خرج مونس المظفر إلى أوانا متنزهاً وانحدر أبو علي بن مقلة إلى دار السلطان فتغنم المقتدر بالله فيه غيبة مونس فقبض عليه. وكان محمد بن ياقوت معادياً له فلما قبض عليه أنفذ إلى داره بالليل من أحرقها .
وكان المقتدر قد عمل على أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله فرحل مونس من أوانا ودخل بغداد وراسل المقتدر بالله بكراهيه للحسين بن القاسم وسأله ردَّ أبي علي ابن مقلة فاغتاظ المقتدر وعزم على قتل ابن مقلة وكان السفير علي بن عيسى فكان يداريه إلى أن سكنه وقال : ما ذنب وزيرك في شفاعة مونس له. ولم يزل به حتى انصرف عن رأيه. وكان المقتدر من محبته لأن يستوزر الحسين بن القاسم استحضرَهُ وبيته عنده وخلع عليه ووعده أن يصل في غد تلك الليلة بحضرة الناس ويخلع عليه الوزارة. فلما اتصل ذلك بمونس غلظ عليه أن يتفرد المقتدر بهذا التدبير ولا يشاوره فيه وقد كان طعن عليه قديماً وقال : لا يصلح للوزارة فتردّدت الرسائل بينه وبين المقتدر على لسان علي بن عيسى فاستشار المقتدر علي بن عيسى فأشار بردّ أبي علي بن مقلة موافقةً لمونس وذلك بعد أن سأله أن يتقلدها هو فامتنع فقال المقتدر : هذا غير ممكن فاذكرْ سِواه. فذكر سليمان بن الحسن وأشار به أو عبد الرحمن بن عيسى فمال المقتدر إلى سليمان لما كان قدّمه من الطعن على ابن مقلة وما ظهر من عداوته له فأمر بإحضاره وانصرف الحسين بن القاسم من دار السلطان واستتر وكانت مدة وزارة أبي علي محمد ابن علي بن مقلة سنتين وأربعة أشهر.
أحضر سليمان بن بن الحسن يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى
ص: 116
دار السلطان ولم يوصله المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم وعاد من غد وهو يوم الخميس فوصل وخلع عليه وتقدّم المقتدر إلى علي بن عيسى بالإشراف على سائر الأمور من الأعمال والدواوين وبمُعاضَدَة سليمان وإلا يتراخى في ذلك فصار يصل مع سليمان إلى المقتدر ولا يقلّد سليمان أحداً ولا يصرفُهُ ولا يعمل شيئاً إلا بمُوافَقَةِ علي بن عيسى .
حكى أبو الفرج بن أبي هشام قال : كان أبي يكتب لأحمد بن نصر القُشوري وكان أحمدُ يطمَع أن يُجعل مكان أبيه نصر ويُستحجب قال : فبينما نحن بين يدي أحمد بن نصر بالأهواز وكان يتولّى أعمال المعاون بها إذ ورد عليه توقيع من المقتدر بالله بخطه مع ركابي يعرفه سراً يقول فيه : يا أحمد قد عرفت ذنبك الذي جنيتُه وحرمت به نفسك رأيي وقد تيسر لك تلافيه بامتثال أمري فيما أضمّنه توقيعي هذا فاقبض على البريديين الثلاثة وحصلهم في دارك وإياك أن تفرج عنهم إلا بتوفيع يرد عليك بخط كهذا الخط الذي في هذا التوقيع وثق مني بالعود لك إذا فعلت ذلك إلى ما يرفع منك ويصلح حالك ويعيد منزلتك . قال : فاقرأني أحمد بن نصر هذا التوقيع وسجد شكراً لله على ثقة المقتدر به وعبر في الوقت إلى دار أبي عبد الله وأنفذ حاجبَهُ أبا يعقوب إلى دار أبي يوسف وأنفذ أحمد بن مقبل إلى دار أبي الحسين فوجدوهم قد خرجوا قبل ركوبه بلحظة وركبوا طياراتهم. وكان الخبر قد سبق إليهم فأظهروا أنهم يريدون مسجد الرضا المُتصل بالشاذروان بالأهواز فاتبعهم وعرف أنهم ساروا إلى البصرة فقامت قيامته من ذلك .
وأنفذ أبا يعقوب والغلمان وراءهم فاتفق إن عصفت الريح على البريديين فمنعتهم عن السير ولحقهم الطلب فأخذوا .
وبذل أبو عبد الله لأبي يعقوب خمسين ألف دينار على أن يفرج عنهم فما أجابه ثم سأله أن يفرج عن أحد أخويه ويقبل منه عشرين ألف دينار فأبى وردّهم وحصلوا في دار أحمد بن نصر. ولم تمض خمسة أيام حتى ارتفعت ضجة فقال لي أحمد بن نصر : اخرج فاعرف ما سبب هذه الضجة قال : وكان سلم إليهم داره الشطية واعتزل في حجرة فخرجتُ مُبادراً فرآني أبو عبد الله فقال : قُل له وبشِّره أن الفرج قد أتى وأن هذا كتاب الوزير بالإطلاق وإقراري وأن أنظر في الأعمال وأعطاني الكتاب وبادرت به إلى أحمد ابن نصر فقرأه وخرج إليه وإلى أخويه وقال : هذه نعمة يلزمني فيها الشكر والصدقة والوفاء بالنذر ولكن هذا خط أمير المؤمنين إليَّ بما رسمه وأريد خطاً مثله بما ينقضه . فتغيرت وجوه الإخوة من ذلك واضطربوا حتى ظهر على وجوههم ما في قلوبهم ثم أخذوا في مُداراته ومسألته الرفق .
ص: 117
فلما كان من الغد شغّب الرجّالة بالأهواز تعصُّباً لهم وقالوا: لا بدّ من إطلاقهم. وحملوا السلاح وكان مع أحمد بن نصر طوائف من البصرية وعده كثيرة من السودان والغلمان الحجرية فجمعهم ثم حلف بالطلاق أنه إن هجم على داره أحد منهم قتلهم وأخذ رؤوس الثلاثة وحملها إلى الخليفة وقال : هذا كتاب مُزوّر وإلا فلِمَ لا يقع تثبيت وإنما ضربتُم عليَّ الرجالة وراسلتموهم في حمل السلاح وأخذكم من منزلي لئلا يظهر ما زوّرتموه وتتعجلون الخروج والهرب . فلما رأوا المصدوقة اعتذروا ووضعوا جنوبهم له وراسلوا الرجالة في الانصراف بعد أن حلفوا أنهم يتبرعوا بالتعصب لهم وأقاموا بمكانهم .
ووافى بعض عشرة أيام ابن موسى دانجو بتوقيع مثل ذلك التوقيع وذلك الخطّ فتسلمهم وحملهم وعلم أنهم كانو زوروا واحتالوا وتأكدت الوحشة بينهم وبين أحمد بن نصر القشوري ولم يزالوا عليها حتى فرق بينهم الدهر .
ولما ورد البريديون الحضرة نوظروا على المُصادرة فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي وكان في الوقت عدواً لهم : بكرت إلى أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وقلتُ له : الأهواز خطة القاسم أبيك وهي دارك ودار أخيك وأنتم تتصرفون فيها منذ ستين سنة فلم تركتموها لهؤلاء الفعلة الصنعة وهَلاً سعيت على سحقهم وسحبهم حتى لا يبقى لهم جناح يطيرون له؟ فقال : يا أبا زكريا ما الذي تقدّره في مصادرتهم التي تؤديهم إلى هذه الحال؟ فقلتُ : معظماً ثلثمائة ألف دينار يزهق الله به نفوسهم. فقال لي: يا أخ قم بنا حتى نعبر إلى دار الوزير . (وكان يومئِذٍ أبو القاسم سليمان بن الحسن)فخرجت معه فنزلنا الطيار فلما وصلنا وتوسطنا الدار وجدنا أبا القاسم الكلوذاني في جانب منها والبريديين بين يديه والكتاب فقال لي أبو جعفر : ترى أن نقضي حقه ونُعرّج عليه ونعرف الصورة من أمرهم فنبني ما نُخاطِب الوزير به بحسبه؟ فقلتُ : صواب. فعدلنا إلى أبي القاسم وجلسنا عنده فقال لأبي جعفر قد فصلنا أمر أصحابنا وأنت وجه الحضرة وتاجها وحُرُّها وهم إخوتك وما أحقك بمعونتهم فقال : إن أيسر ما يكون لهم أيدهم الله مُشاركتهم في المحنة فأما المعونة فما أقنع من نفسي بها فعلى كم انفصل أمرُهُم ؟ فقال : على تسعة آلاف ألف درهم . قال أبو زكريا : فنظر إليَّ أبو جعفر وقد بُهِتُ ونهضنا فقال : يا أبا زكريا هذا خلاف ما كان عندك . فقلتُ : هذا الأمر يُراد والله ما يملكون هذا المال فإني أعرف بمكاسبهم ولكن لأبي عبد الله نفس أبية وهمة علية فعرفت نفسه على سلطانه فأعطاه أكثر مما أطمع فيه ومما سعى به أعداؤه متربصاً بالأيام والأوقات ومتوقعاً للدوائر وأن يسمع الخليفة التزامه هذا المال الجليل فيستكثر قدره ويرغب في تجديد الصنيعة عنده وما كل أحد يغرر هذا التغرير وما هذا آخر أمره وسيكون له شأن عظيم كفانا الله شَرَّهُ . قال أبو زكريا : وعدلت مذ ذلك اليوم إلى مداراته وخدمته واستصلاحه.
ص: 118
وتقدّم المقتدر بالله إلى سليمان بن الحسن وأبي الحسن علي بن عيسى بمناظرة أبي علي بن مقلة فاختارا لذلك أحمد بن محمد بن صالح العكبري وأنفذه إلى دار السلطان فناظره ولم يزد على توبیخه و موافقته علی قبیح آثاره. فالتمس أبو علي بن مقلة أن يكون المناظر له عيسى بن عيسى فاجتمع الوزير سليمان وعلي بن عيسى على مناظرته في دار الحجبة بحضرة ياقوت الحاجب فأغلظ له سليمان في الخطاب والتخطئة والاحتقار ونسبه إلى التضريب بين السلطان وأوليائه إلى أن قرّر علي بن عيسى أمره على مائتي ألف دينار على جمل يُعجل منها النصف ويودي الباقي من نجوم المصادرات وكانت تلك النجوم إنما هي رسم لا يطالب من يؤخذ خطه بها . فكتب مونس المظفر إلى المقتدر يشفع لابن مقلة ويسأله أن يعفيه من المصادرة وأن يكون معتقلاً في يد مرشد الخادم فأجابه إلى ذلك.
وفي هذه السنة استوحش مونس المظفر زيادة استيحاش
كان محمد بن ياقوت منحرفاً عن سليمان ومائلاً إلى الحسين بن القاسم ومونس المظفر وأسبابه يميلون إلى سليمان لمكان علي بن عيسى وثقتهم به وينحرفون عن الحسين بن القاسم وقوي أمرُ محمد بن ياقوت وقلّد مع الشرطة الحسبة واستضم رجالاً وقویت بهم شوكتُهُ فشقّ ذلك على مونس وسأل المقتدر صرفه عن الحسبة وتقليد ابن بطحاء ففعل ذلك. وتقدّم مونس إلى أصحابه بالاجتماع إليه فلما فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمد بن ياقوت. وقيل لمونس إن محمد بن ياقوت قد عمل على كبس داره بالليل وما فارقَهُ أصحابه حتى أخرجوه إلى باب الشماسية وخرجوا معه وصار إليه علي بن عيسى فعرفه خطأ هذا الرأي وأشار عليه بأن يعود إلى داره فلم يقبل منه وأقام على أمره .
وطالب بصرْف محمد بن ياقوت عن الحِسبة والشرطة وياقوت عن الحجبة وإبعادهما عن الحضرة فوجّه المقتدر قاضي القضاة أبا عمر وابنَهُ الحسن وابن أبي الشوارب وجماعة من شيوخ الهاشميين أصحاب المراتب إلى مونس برسالةِ يرفق فيها ويسألهُ الرجوع إلى داره فقال قاضي القضاة : الوجه أن يكتب رُقعة بما حمَّلناه من الرسالة نرجع إليها ونثني الكلام على معانيها فإنا جماعة والقول يختلف والنسيان غير مأمون. فقال الوزير وما معنیهذا؟ فقال علي بن عيسى : هذا هو الصواب. وكتب بذلك رُقعة .
وقعد الوزير وعلي بن عيسى في دار السلطان ينتظران عود الجماعة فعادوا وذكروا
ص: 119
أنهم لم يصلوا إلى مونس وأنهم أجلسوا في الحديدي وراسلهم مونس في إعلامه بما وردوا فيه فذكروه له فصار إليهم كتابه يخاطبونهم خطاباً جميلاً عنه . فبينما هم كذلك إذ هجم الجيش على الحديدي فكادوا يغرقونه وقالوا لا نرضى إلا بإخراج ياقوت وابنيه .
وتكلموا بكلام قبيح فراح في آخر النهار الوزير سليمان بن الحسن وعلي بن عيسى ومن معهما من خدم الخاصة إلى باب الشماسية فشافهوا مونساً بالرسالة فلم يبعد عليهم وخرجوا من عنده فقبض عليهم عند مغيب الشمس وحبسَهُم في الحديدي. فخرج ياقوت في تلك الليلة ونزل المدائن ومعه أبناء فلما كان من غد ذلك اليوم وعرفت المونسية أن ياقوتاً وابنيه قد خرجوا عن الحضرة أفرجوا عن الوزير والجماعة وانصرفوا إلى منازلهم.
وقلَّد المقتدر ياقوتاً أعمال الخراج والمعاون بفارس وكرمان وكتب إلى أبي طاهر محمد بن عبد الصمد بالانضمام إليه وانضم إليه وخاطبه بالأستاذية وقلد المظفر بن ياقوت أصبهان وتقلد ابنا رايق إبراهيم ومحمد مكان ياقوت وأقام ياقوت بشيراز مدة وكان علي بن خلف بن طناب متضمناً أموال الضياع والخراج بها فتظافرا وتعاقدا فقطعا الحمل عن السلطان إلى أن ملك علي بن بُوَيه الديلمي فارس يوم السبت سنة 322.
وفيها دخلت قوافل الحاج من مكة سالمين مع مونس الورقائي فاستبشر الناس بتمام الحج وانفتاح الطريق وضربت له القبابُ ببغداد وفيها قبض على الوزير سليمان ابن الحسن.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أن سليمان أضاق إضاقة شديدة وكثرت عليه المطالبات وبلح واتصلت الرقاع ممن يلتمس الوزارة بالسعاية فقبض على سليمان بن الحسن وأبي القاسم عبیدالله بن محمد الكلوذاني فشق من ذلك وجزع جزعاً عظيماً وحملا إلى دار السلطان. وكان المقتدر شديد الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع عليه مونس وأشار بتقليد الكلوذاني فاضطر المقتدر إلى تقليده وكانت مدة وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين وأياماً . واستحضر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني من دار مونس يوم السبت لخمس بقين من رجب وخرج إليه مفلح برسالة المقتدر بأنه قد قلده وزارته ودواوينه ولم يوصله إليه وتقدّم إليه بأن ينحدر إليه يوم الاثنين ليخلع عليه . فخاف الكلوذاني من حيلة تتمّ للحسين بن القاسم في تقلده الوزارة لأنه بلغه أن الحسين قد جد بعد القبض على سليمان وراسل مونساً المظفر وقال : لا يؤمن أن يحتج الخليفة في تأخر الخلع على الكلوذاني بأنه لم تعدّ له الخلع . وأشار بأن يوجه مونس بخلع من عنده إلى دار السلطان ليخلعها عليه ففعل مونس ذلك وخلع المقتدر على أبي القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني يوم الاثنين وخاطبُه
ص: 120
بتقليده الوزارة والدواوين وتقدّم إليه بأن يقلد الحسين بن القاسم ديواناً جليلاً ليظهر ويزول عنه الأراجيف بالوزارة. ووصل علي بن عيسى بوصول الكلوذاني فأمره المقتدر بحضرة الكلوذاني بأن يجري على عادته في الأشراف على الأمور والحضور معه وعرفه أنه قد أفرده بالنظر في المظالم دون الكلوذاني فركب الكلوذاني في الخلع من دار السلطان إلى داره فأخذ خط سليمان بن الحسن بمائتي ألف دينار .
وقدم أبو الفتح الفضل بن جعفر من الشام وأبو جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله من نواحي جند قنسرين والعواصم وكان أبو الفتح منصرفاً إلى ناحية قومس فأشار مونس بتقليده ديوان السواد فقلده الكلوذاني مكرهاً وانقطعت بتقليده مواد كانت تصل إلى الكلوذاني وأبي الفياض من أرزاق قوم لا يحضرون وتسبيبات بأسماء قوم لم يخلقوا وما كان يسبب للغلمان والوكلاء في الدار والحاشية برسم الفقهاء والكتاب وما كان يستطلق لهم من الورق والقراطيس ويبتاع ببعضه ما يحتاج إليه وأشياء تشبه هذه ولم تنبسط يد الكلوذاني على قوم لعناية مونس المظفر بهم .
وكان أبو بكر بن قرابة متحققاً بمفلح الأسود فأوصله مفلح إلى المقتدر وجعلَهُ واسطة للمرافق التي أخلق بها الخلافة. وكان ابن قرابة ذكر له أن الوزراء كانوا يرتفقون بها وأن الضمناء قد بذلوا أن يرفقوا به الخليفة ليصرفه في مُهمّ نفقاته لشدّة الإضافة . وكان ابن قرابة يظهر للمقتدر ولمفلح الأسود أنه يمشي أمر الوزارة وأن الوزراء لا يتم أمرهم من دونه وكان يلزم دار الكلوذاني ويقرضه عن بني البريدي وغيرهم بربح درهم فی كل دينار فأقرضه مائتي ألف دينار مشى بها أمرُ الكلوذاني وبمال المصادرات .
وفيها ورد الخبر بوقعة كانت بين هارون بن غریب و بین مرداویج بنواحي همذان وأن هارون انهزم وملك مرداويج الجبل بأسره إلى حلوان. ونزل هارون بدير العاقول.
وفيها قصد لشكري الديلمي أصبهان وحارَبَهُ أحمد بن كيغلغ فانهزم أحمد وملك لشكري أصبهان وهذا لشكري من أصحاب أسفار بن شيرويه فلما قصد هارون بن غريب ابن الخال أسفار استأمن إليه لشكري ثم لما انهزم ابن الخال انهزم لشكري بانهزامه إلى قنسرين فلما تأهب ابن الخال ثانياً وجُهَزَت إليه العساكرُ من بغداد لحرب مرداويج أنفذ لشكري إلى نهاوند من الدينور مع جماعة من الغلمان لحمل مال إليه ورسم أن يحمل المال إلى هَمذان ويقيم بها حتى يلحقه هناك فلما صار لشكري إلى نهاوند رأى يسار أهلها وكثرة أموالها وطمع فيهم وصادرهم على نحو ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها في مدة أسبوع وأثبَتَ جنداً ثم خرج إلى الكرج ففعل مثل ذلك واتصل الخبر بابن الخال فطلبه فرحل من بين يديه وسار حتى وقع إلى أصبهان والوالي عليها أبو العباس أحمد بن كيغلغ .
ص: 121
حكى أبو الحسن المافروخي أنه كان بأصبهان في الوقت وأن أحمد بن كيغلغ انهزم أقبح هزيمة ثم لجأ إلى بعض القُرى في ثلاثين نفساً معه وراء حصنها. ودخل أصحاب لشكري أصبهان ونزلوا فى الدور والخانات والحمامات وتأخر لشكري بنفسه عن العسكر ثم سار قليلاً ونزل عن دابته لإهراق ماء فرأى كَوكبة أنكرها وقال : ما هذه ؟ فقيل : شرذمة من الكيغلغية فركب في الوقت يريدُها فلما قرب منها أسرع أحمد بن كيغلغ إليه بعد أن علم أنه هو فتناوشا وكاد لشكري يَستأسِره فخرج أهل تلك القرية فزعقوا به فضعفت نفس لشكري وتقارب هو وأحمد فضربه أحمد بسيفه ضربة قدَّ المغفَر والخُوذة ونزل السيف في رأسه فقتله وخر لشكري ساقطاً فنزل أحمد إليه وحزّ رأسَهُ وعرف أصحابُهُ الخبر فطاروا هاربين وكان فتحاً طريفاً واتفاقاً عجيباً وكانت سنُ أحمد بن كيغلغ يومئذ تجاوز سبعين سنة .
وفيها صرف الكلوذاني عن الوزارة وقلدها الحسين بن القاسم.
كان أبو القاسم بن زنجي يحكي في توصل الحسين بن القاسم إلى الوزارة خبراً طريفاً ويقول : كان أبو علي الحسين بن القاسم يُعرف بأبي الجمال وكان لي صديقاً يسكن إليّ ويستدعيني إلى الموضع الذي كان مُستتراً فيه ويشاوِرني فألزمني بذلك حقاً وحرمة فاجتهدت في السعي له والتوصل بكل سبب وحيلة إلى أن تقلد الوزارة. فكان من أنْجَع ما عملته أن رجلاً بمدينة السلام يُعرف بالدانيالي كان يلزمني ويبيت عندي ويخرج إليَّ بسره ويحدثني أنه يظهر كتباً ينسبها إلى دانيال بخط قديم ويودع تلك الكتب أسماء قوم من أرباب الدولة على حروف مُقطَّعة إذا جمعت فهمت واستوى له بذلك جاه وقامت له به سوق. ووصلت إليه جُملة من القاضي أبي عُمر وابنه أبي الحسين ووجوه الدولة وغلب على مفلح واختص به لأنه عرفه أنه وجد في وجد في الكتب أنه من ولد جعفر بن أبي طالب فجاز ذلك عليه ووصل إليه منه بر كثير. فانفتح لي أن سألته إثبات فصل في كتب يكتبها بشرح ما أسألُهُ فأجابني إلى ذلك فوصفتُ له الحسين بن القاسم واقتصرتُ من وصفِهِ على ذكر قامته وآثار الجدري في وجهه والعلامة التي في شفته العليا وخفة الشعر هناك وأنه إن وزر للثَّاني عشر من خلفاء بني العباس استقامت أموره كلها وعلا على أعدائه وانفتحت البلاد على يده وعمرت الدنيا في أيامه . ودفعت النسخة إلى
ص: 122
الدانيالي وواقفني على عمل دفتر يذكر فيها أشياء ويجعل هذا الباب في تضاعيفها فسألتُهُ تقديم ذلك ولم أزل أطالبه حتى أعلمني أنه لا يستوي على ما يريد حتى لا يشك في قدمه وعِتْقه في أقل من عشرين يوماً وأنه يحتاج أن يجعله في التبن أياماً ثم يجعله في الخُفّ ويمشي فيه أياماً وأنه يصفر ويعتق . فلما بلغ المبلغ الذي قدّر صار إليَّ وهو معه وأرانيه فوقفتُ على الفصل ورأيتُ دفتراً لولا ما عرفته من الأصل فيه لحلفتُ على أنه قديم لا شك فيه . ومضى بذلك إلى مفلح فقرأه عليه في جملة أشياء قرأها فقال له مفلح : أعد عليَّ هذا الفصل فأعاده ومضى مفلح إلى المقتدر بالله فذكر له ذلك فطلب لدفتر منه فأحضره إياه فقال له من تعرف بهذه الصفة؟ وأقبل المقتدر يكرّرها فذكر مفلح أنّه لا يعرف أحداً بها وحرص المقتدر على أن يعرف إنساناً يوافق هذه الصفة صفته فقال مفلح : لستُ أعرفُ بهذه الصفة إلا الحسين بن القاسم الذي يقال له أبو الجمال. فقال له المقتدر : إن جاءك صاحب له برقعةٍ فخذها منه وإن حملك رسالة فعرفنيها واكتم ما يجري في أمره ولا تعلم أحداً .به وخرج مفلح إلى الدانيالي فقال له : هل تعرف أحداً بهذه الصفة؟ فأنكر أن يعرف ذلك وقال : إنما قرأتُ ما وجدتُهُ في كتب دانيال ولا علم لي بغير ذلك.
وانصرف إليَّ فحدثني بهذا الحديث فقمتُ من فوري إلى الحسين بن القاسم فأعدتُه عليه فسر به غاية السرور وابتهج نهاية الابتهاج وظهر في وجهه استبشارٌ عظيم وقال لي : اعلم أن أبا بشر الكاتب كان أمس عند مفلح برسالة لي إليه فانصرف كاسف البال ظاهر الانخزال مغموماً بما شاهده من إعراضه عنه فغمني ذلك. فقلتُ : الآن يتبين لنا صدقُ الدانيالي من كذبه ابعث بأبي بشر في غد إلى مفلح برسالة منك فإنه سيتبين له فيما يعامله به صحة ما حكاه من بطلانه فدعا أبا بشر النصراني كاتبه وحمله إليه رسالة ووحد عليه في البكور إليه فلما كان من غد آخر النهار مضيت إليه أتعرَّفُ خبره وما جرى فدعا أبا بشر وقال له : أعِد عليه خبرك . فأعلمني أنه دخل إليه وفي مجلسه جماعة فرفعه عليهم فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه يحدثه ثم استدناه وسأله سراً عن خبر الحسين بن القاسم واستمع رسالته وقال: «تقرأ عليه سلامي وتعرفه تكفلي بأمره وقيامي به» وكلاماً فى هذا المعنى وأن ينفذ إليه رُقعة ليوصلها وينوب معه. قال لي أبو بشر : وانصرفت وأنا في نهاية قوة النفس والثقة بالله عزّ وجلّ وبتمام ما يسفر فيه. فأعلمتُ الحسين أن الرجل قد صدق فيما ذكره وقد بان لنا أثره .
قال : ثم إن الدانيالي طالبني بالمكافأة فطيبتُ نفسُه واستمهلته إلى أن تقلَّد الحسين الوزارة فأذكرته حق الرجل فقلده الحسبة ببغداد وأجرى له مائة دينار في كل شهر واختص به وكان يحضر مجلسَهُ فيجلسه إلى جانب مِسوَرَتِه ثم مضت أيّام فقال : لا
ص: 123
يقنعني ما أجرى لي وسأل زيادة فكلَّمتُ الحسين بن القاسم في أمره فأجرى له مائة دينار أخرى تسبب برسم الفقهاء وكان ما ذكرتُه من حديث الدانيالي من أوكد الأسباب في تقليد الحسين الوزارة مع كثرة الكارهين له والمعارضين في أمره.
وانضاف إلى هذا الخبر الذي أخبر به أبو القاسم بن زنجي أن الكلوذاني عمل عملاً لما يحتاج إليه من مُهم النفقات وأخذ خط صاحبي ديوان الجيش والنفقات بأعمال أخر مفردة عملوها لما يحتاج إليه بزيادة مائتي ألف دينار على ما عمل هو حتى تبين للمقتدر بالله وقوع الاحتياط منه فيما عمل واقتصر عليه فكان العجز سبعمائة ألف دينار وعرض ذلك على المقتدر وقال له : ليس لي معوّل إلا على ما يطلقه أمير المؤمنين لا نفقهُ. فعظم ذلك على المقتدر فلما بلغ الحسين بن القاسم خبر العمل الذي عمله الكلوذاني كتب رُقعةً إلى المقتدر يضمن فيها القيام بجميع النفقات من غير أن يطلب منه شيئاً وأنه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت مال الخاصة. فأنقذ المقتدر رقعته إلى الكلوذاني وقال : هذه رُقعة فلان ولستُ أسومك الاستظهار بالمال وما أريد منك إلا القيام بالنفقات فقط. فقال الكلوذاني : قد يجوز أن يتم لهذا الرجل ما لم يتم لي. لي. وسأله تقليد من ضمن هذا الضمان فإعفاءه من الأمر. فلما وقف المقتدر على تبلح الكلوذاني وحصل في نفسه ما بذله الحسين بن القاسم عمل على أن يستوزره وعلم شدة كراهية مونس المظفر لذلك فراسله على يد مفلح بأن يجتهد في إصلاح أعدائه. فابتدأ الحسين ببني رائق فكان يمضي بنفسه إلى كاتبهم إبراهيم النصراني ويضمن لهم الضمانات حتى صلحوا له ثم فعل ذلك بأبي نصر الوليد بن جابر كاتب شفيع ثم فعل مثله باصطفن بن يعقوب كاتب مونس وقال له : إن تقلّدتُ الوزارة فأنتَ قلدتنيها . فأشار عليه بملازمة أبي علي يحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق ففعل ذلك وكان يلبق قد سمع أنه متّهم في دينه شرير فجمع أبو علي الطبري بينه وبين يلبق حتى حلف له الحسين بكلّ يمين يحلف مسلم ومعاهد أنه مكذوبٌ عليه في كل ما يطعن به عليه في ديانته أولا ثم في عداوته لمونس وخاصته وأصحابه لا ينوي لأحد من الناس سوأ ولا يأخذ الأموال إلا من بقايا صحيحة على تجار ملإ كسروا مال السلطان من أثمان الغلات ومن ضُمناء قد ربحوا ربحاً عظيماً وضمن الحسين ليلبق ضياعاً جليلة كذلك لكاتبه فسعى له يلبق وسأل مونساً في أمره وسأل مونس المقتدر فتقرّرت الوزارة له وبلغ ذلك الكلوذاني فواصل الاستعفاء .
واتفق أن دخل خمسمائة فارس كانوا مقيمين بالجبل في ماء الكوفة وحلوان وهذه نواح لم يتغلب عليها مرداويج وكانت أرزاقهم قد تأخرت فطالبوا الكلوذاني وأمرهم الكلوذاني بالرجوع لينفق فيهم هناك فلم يسمعوا ورجموه بالآخر وهو منصرف في
ص: 124
طيَّاره. فجعل ذلك حجة وأغلق بابه وحلف على أنه لا ينظر في أعمال الوزارة فكانت مدة وزارته شهرين وثلاثة أيام.
وكتب المقتدر إلى الحسين بن القاسم توقيعاً بتقليد الوزارة وركب إليه وجوه الكتاب والعمال والقوَّاد وبلغ ذلك أبا الفتح الفضل بن جعفر فصار إليه مع قاضي القضاة أبي عمر محمد بن يوسف وابنه والقاضي ابن أبي الشوارب وكتب عن المقتدر بخبر تقليده الوزارة إلى خراسان وجميع النواحي والأطراف وكان تقلده للوزارة يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان. فعدل عن الجلوس للتهنئة وتشاغل بالنظر في أمر المال وما يحتاج إليه في نفقة العيد ولزمه الفضل بن جعفر وهشام بن عبد الله لأنهما كانا يتوليان ديوان المشرق وزمامَهُ وديوان بيت المال وأخذ خطوط عدة من العُمّال والضمناء بسبعين ألف دينار.
وصار إليه علي بن عيسى آخر النهار فهناه وقد كان الحسين شرط لنفسه ألا ينظرُ علي بن عيسى في شيء من الأمور ولا يجلس للمظالم فأجيب إلى ذلك .
وتبسط كاتب بني رائق وكلّ مَن كان سعى له في الوزارة في طلب الأموال حتى قبضوا علي شذاة وردت من الأهواز فيها مال الأهواز وأصبهان وفارس فكتب الحسين الوزير إلى المقتدر يشكو هذه الحال فلم يُنكِر كلّ الإنكار فوقع الاتفاق بين الحسين وبين ابني رائق على أن يأخذوا من المال النصف ويفرجوا عن الباقي ففعلوا ذلك.
وكانت دمنة جارية المقتدر حظِيَّةً عنده وكانت تُوصل رقاع الحسين إلى مولاها وتقوم بأمره فحمل إليها جملة عظيمة من المال وبعث إلى ابنها وهو الأمير أبو أحمد إسحاق أيضاً جملة واستأذن المقتدر أن يستكتب له ابنه القاسم بن الحسين فأذن له في ذلك وضمن لدمنة أن تحمل إلى ابنها في كلّ يوم مائة دينار وتدفع عن صرفه .
واختصّ به بنو البريدي وأبو بكر بن قرابة وقدَّم له جُملة من المال عن الضمناء بربح درهم في كلّ دينار على رسمه واختص به من القُوّاد جعفر بن ورقاء وأبو عبد الله محمد بن خلف النيرماني وقلِّده أعمال الحرب والخراج والضياع بحلوان ومرج القلعة وماه الكوفة والبسه القباء والسيف والمنطقة وتسمى بالأمارة وخوطب بها وضمن أن يجمع الرجال ويفتح أعمال كُوّر المشرق وينتزعها من يد مرداويج وكان قد احتجن أموال السلطان من بقايا ضمانٍ كانت عليه في أيام سليمان بن الحسن لأعمال الضياع والخراج الخاصة والعامة وكانت جملة عظيمة. وكان تقلد كرمان في بعض الأوقات واستخرج من مالها شيئاً كثيراً فحملها وانصرف فكتب صارفه أنه ما أنفق منها درهماً واحداً واتفقت له أشياء تجري هذا المجرى. وتجرّد الحسين بن القاسم لإخراج علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن إلى مصر والشام فراسل المقتدر علي بن عيسى في ذلك ودفع عنه مونس المُظفر وقال : هذا شيخ يُرجع إلى رأيه ويُعتضد بمكانه . إلى أن تقرّر أمرُهُ
ص: 125
على أن يخرج إلى الصافية فخرج.
وابتدأ مونس في الاستيحاش والتنكر في يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجّة
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك ما بلغه من اجتماع الوزير الحسين بن القاسم مع جماعة من القُوَّاد على التدبير عليه. وبلغ الحسين تنكر مونس له وأنه عزم على كبسه بجماعة من خواصه في الليل للقبض عليه فتنقل في مدة عشرة أيام في نحو عشرة مواضع وكان لا يُعرَف له دارٌ ولا موضع يلقاه فيه أحد وكان لا تلقاه أصحاب الدواوين إلا إذا طلبهم ثم ختم الأمر بأن أقام في دار الخليفة وراسل مونس المظفر المقتدر بالله في صرف الحسين ابن القاسم عن الوزارة فأجابه إلى صرفه والتقدم إليه بلزوم منزله فلم يقنع مونس بذلك وطالب بالقبض عليه ونفيه إلى عُمان فامتنع المقتدر من ذلك وتردّدت بينهما فيه رسائل .
وأوقع الحسين بن القاسم للمقتدر أن مونساً قد عمل على أخذ الأمير أبي العباس من داره بالمُخرّم والخروج به إلى مصر والشام ليعقد له الأمر في الخلافة هناك وأشار برد الأمير أبي العباس إلى داره من دار الخلافة ففعل المقتدر ذلك. ووقف الأمير أبو العباس على ما فعله الحسين بن القاسم فحقده عليه في نفسه إلى أن أفضت إليه الخلافة فأنزل به من المكروه ما سنشرحه في موضعه إن شاء الله .
وكتب الحسين بن القاسم إلى هارون بن غريب وهو بدير العاقول بعد هزيمته من بين يدي مرداويج بالمُبادرة إلى الحضرة فزادت وحشة مونس بهذه الأحوال وصح عنده أن الحسين بن القاسم في تدبير عليه فخرج من داره لخمس خلون من المحرم وجلس في حديدي وامتدٌ إلى باب الشماسية وخرج أكثر رجاله وضربوا مضاربهم هناك. وكتب مونس إلى المقتدر بأن مفلحاً الأسود مُطابق للحسين بن القاسم في التدبير عليه وأن نفسه لا تسكن إلا بإنفاذ مفلح إليه ليُقَلّده أجلَّ الأعمال ويخرج فكتب المقتدر بأن مفلحاً خادمٌ يثق به في خدمته وأنه ليس ممّن يُدخل نفسه فيما ظنَّهُ .به وبلغ مونساً أن الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجرية في دار السلطان وأنه قد ابتدأ بالنفقة فيهم وأن هارون بن غريب قد قرب من بغداد فأظهر الغضب وسار إلى الموصل. ووجه ببُشرى خادِمه ليؤدي رسالة إلى المقتدر فلما حصر بُشرى في دار السلطان بحضرة الحسين بن القاسم قال له الحسين: هات الرقعة التي معك . فقال له : ليس معي رقعة وإنما معي رسالة . قال فتذكرها. فقال : قد أمرتُ ألا أذكرها إلا للخليفة. فوجّه الحسين إلى المقتدر بالله وعرَّفُه ذلك فوجه المقتدر إلى بُشرى يأمره أن يؤدي الرسالة إلى الحسين فقال بشرى حتى أمضي واستأذن صاحبي في ذلك وأعود. فشتمهُ الحسين وشتم صاحبَهُ وأمر به فقُبض عليه وضربه بالمقارع وقال : لا أرفع عنك الضرب أو تكتب خطك بثلاثمائة ألف دينار .
ص: 126
فكتب وأمر به إلى الحبس ثم وجه للوقت إلى داره وقبض على امرأته وصادرها وحمل ما فيها . ولما بلغ مونساً ما جرى على خادمه بشرى امتدّ واصعد ومعه من كان برسمه من قوادِه وأصحابه وكتب الحسين بن القاسم إلى من كان معه من القُوَّاد والغلمان بالانصراف عنه والمصير إلى باب السلطان فانصرف عنه جماعة منهم ومضى مونس في خواصه وغلمانه مسرعاً إلى الموصل. ووقَّع الحسين بقبض أملاك مونس وضياعه وضياع أسبابه وأفرد لها ديواناً سماه ديوان المخالفين وردّه إلى محمد بن جني .
وزاد محلّ الحسين بن القاسم عند المقتدر وأنفذ إليه طعاماً من بين يديه وأمر بأن يكنّى ويلقب عميد الدولة وأن يضرب لقبُهُ على الدنانير والدراهم ففعل ذلك وخلع عليه يوم الاثنين لأربع بقين من المحرّم وأنشأ في ذلك كتاباً نفذ إلى جميع الأعمال والأطراف. وصرف قوماً وقلد قوماً فكان فيمن قلد أبو يوسف يعقوب بن محمد البريدي وذلك بمسألته فقلده أعمال البصرة من الخراج والضياع والمراكب وسائر وجوه الجبايات بها فضمنه ذلك بمقدار نفقات البصرة وفضل له بعده ثلاثون ألف دينار وقع بتسبيبها على مال الأهواز. فلمّا وقف أبو الفتح الفضل بن جعفر على ذلك استعظم ألا یفي ارتفاع البصرة بنفقاتها حتى يحتاج إلى أن يسبب على غيرها وتقدم بإخراج الجماعات والحسبانات إليه وتقدّم إلى كلّ واحد من أصحاب المجالس أن يخرج إليه ما عنده من ارتفاع البصرة لثلاث سنين وأخرجت الجماعات إليه وهو ينظر فيها وفي أعمال كُتّاب المجالس ويضيف من عمل إلى عمل ويعمل بيده من صلاة الغداة إلى بعد العتمة إلى أن انتظم العمل على ما أراد ثم أحضر أبا يوسف البريدي وواقفه عليه ولم يتهيأ له إنكار شيء مما أخرجه فأعطاه خطه بالقيام بجميع ما يجب للأولياء وأن يثبت لحفظ السور ألف رجل زيادة على رسم من يحفظه ومن ينضم إليه وسائر النفقات الراتبة ويحمل إليه بعد ذلك كله ستين ألف دينار إلى بيت المال بالحضرة فصار الفضل بن جعفر بالخط إلى الوزير الحسين بن القاسم متبجحاً به وعرضه عليه وعرفه ما جرى بينه وبين ابن البريدي حتى تقرّر على ما كتب به خطَّهُ .
فلم يقع ذلك من الحسين بن القاسم الموقع الذي قدّره الفضلُ وتبين منه تكره له وظنّ أنه كالتوبيخ والتقريع وكالزيادة على عمله فلما تبين الفضل الصورة راسل المقتدر بما فعله فوقع ذلك عنده أحسن موقع وشاع ما عمله في الدواوين وتناقلته الرؤساء والكتاب بينهم واتصل ذلك بالحسين فغلظ عليه وأراد أن يضع منه فواقف ابن جبير على مهاترته في المجلس والغضّ منه ففعل ابن جبير ذلك حتى تكلم بما لم تجر العادة بمثله والحسين ممسك عن الجميع لا يكف أحدهما عن الآخر فلما تبين أبو الفتح ذلك وعرف الغرض نهض عن المجلس وقال : ليس المكلم لي أنت بل المكلم غيرك . فلما
ص: 127
ولي خارجاً عرف الحسين الخطأ فيما جرى فقال لأبي عبد الله زنجي: إن أبا الفتح صديقك وهو يطيعك وما أحبّ أن يخرج على هذه الجملة فأحب أن تلحقه وترضيه وتردّه . فبادر إليه أبو عبد الله وما زال يرفق به حتى ردّه واعتذر إليه الحسين من خطاب ابن جبير له وانصرف وهو مستوحش واستتر عند أبي بكر بن قرابة وبقي ديوانه شاعراً إلى أن يئس الحسين من ظهورِهِ فقلد أبا القاسم الكلوذاني الديوان ولم يزل أبو الفتح يسعى له في طلب الوزارة حتى تم له كما سنذكرُهُ . ولما لم يعد مونس إلى بغداد وجه الحسين إلى ابن مقلة فصادره وكان معتقلاً فأعطى خطه بمائتي ألف دينار وأنفذ إلى علي ابن عيسى وهو بالصافية يستحضره وأطمع المقتدر من جهته في مائتي ألف دينار فلما وصل الرسول إلى الصافية وجد بها هارون بن غريب وكان هارون شديد العناية بعلي بن عيسى فمنعه من حمله وقال : أنا أخاطب أمير المؤمنين في أمره. فلما وقف الحسين على عناية هارون بعلي بن عيسى أمسك عنه .
ولما وصل هارون بن غريب إلى دار السلطان وصل إليه في خلوة وانصرف إلى داره فقصده الوزير وابنا رائق ومحمد بن ياقوت ومفلح وشفيع وعظم أمره. فخاطب المقتدر في أمر علي بن عيسى فأعفاه من المصادرة وخاطبه في أمر أبي علي بن مقلة فحط من مُصادرته خمسين ألف دينار وأمر بحمله إليه . ثم لم يستصوب ذلك وخاف أن يكاتب مونساً أو يُراسله فسأل ابنُ مقلة هارون أن يُعاود الخطاب في بابه ويستحلفه بأيمان مغلظة إلا يكاتب ولا يراسل مونساً ولا أحداً من أسبابه ففعل ذلك وحمل إليه :قال فحدّثنا أبو علي بن مقلة في وزارته للراضي أنه أخذ في استماحة الناس وأدى المال كله بما وصل إليه من المال من الجهات وفضل له عشرون ألف دينار وأنه اشترى بها ضياعاً باسم عبد الله بن علي النفّري ووقفها على الطالبيين .
وكتب الحسين إلى ياقوت بالقبض على الخصيبي وحمله وكان بشيراز فبادر خليفة علي بن محمد بن روح بالخبر إليه فخرج من يومه من شيراز مستتراً حتى وافي بغداد واستتر عند أبي بكر بن قرابة وكان الفضل بن جعفر مستتراً عنده أيضاً فلم يعلم أحدهما خبر صاحبه وقدم محمد بن ياقوت من الأهواز. وقُبض على محمد بن المعتضد بالله وعلى أبي أحمد بن المكتفي بالله وحدرا إلى دار السلطان واعتقلا فيها ولم تقصر السيّدة في التوسعة على محمد بن المعتضد وفي إكرامه وأهدت إليه عدة من الجواري.
وابتدأ أمر الحسين الوزير بالاضطراب
ذكر السبب في ذلك
اشتدت الإضاقة فباع الحسين من الضياع نحو خمسمائة ألف دينار واستسلف من مال سنة 320 شطره قبل افتتاحها بشهور ولم يبق له وجه حيلة لتمام نفقات سنة 319
ص: 128
الخراجيّة. وعرف هارون بن غريب ذلك فصدق المقتدر عنه فعزم على تقليد الخصيبي الوزارة وكتب له أماناً فظهر فخوطب في تقلد الوزارة فذكر أنه لم يبق للسلطان في النواحي من مال سنة 19 شيء وقد بقي منها نحو ثلاثة أشهر وأن الحسين قد استسلف مال سنة 20 قطعةً وافرةً وأنه لا يغرّ السلطان من نفسه. فأشار عليه هارون أن يتقلّد من أزمة الدواوين من قبل المقتدر وتكون دواوين الأصول في يد الحسين ليضبط الأموال مُستأنفاً فرضي الحسين بذلك وتقلد الخصيبي الحسين بذلك وتقلد الخصيبي دواوين الأزمة وأجرى عليه وعلى كُتابه ألفي وسبعمائة دينار في كل شهر وخلع المقتدر على الحسين ليزول عنه الإرجاف.
ثم إن الحسين بن القاسم عمل أعمالاً أخذ فيها خطوط أصحاب الدواوين الأصول والأزمة بصحتها وفيها ارتفاع الأموال من النواحي وما يُرجى حصوله منها. وقدر النفقات تقديراً متقارباً للارتفاع فسكن بذلك قلب المقتدر فسلَّم المقتدر ذلك العمل إلى الخصيبي وأمره بتتبعه فوجد الخصيبي الحسين بن القاسم قد احتال بأن أضاف إلى ما يقدّر حصوله من النواحي أموال نواح قد خرجت عن يد السلطان بتغلب من تغلب عليها مثل الديلم على أعمال الري والجبل ومونس على أعمال الموصل وديار ربيعة وما لم يُحمَل من ديار مُضَر ومن مصر والشام منذ أربع سنين وذلك جملة عظيمة وأسقط من النفقات الزيادات التي زادها هو للجند والحاشية وغيرهم ولم يُسقط من الأموال التي يقدر حصولها من النواحي ارتفاع ما باع من الضياع فعمل الخصيبي عملاً عرضه على المقتدر فأمر المقتدر أن يواقف عليه الوزير فاجتمع الكتاب وأمره المقتدر بمناظرتهم. فلما خاطبوه أخذ في التشنيع عليهم وأنهم سعوا به وقال في أي شيء غالطتُ السلطان؟ أليس هذه خطوط الضمناء؟ فقالوا : معاذ الله أن يقول أحد في الوزير ذلك ولكن العمل أخرج بما اضطر الوزير أيده الله إلى التسبيب به على مال سنة 320 من الأموال المستحقة في سنة 19 وقد رفع الضمناء إلى ديوان الزمام أعمالاً لما أطلقوه من مال سنة 20 وما كانوا ضمنوا اطلاقه من مال هذه التسبيبات عند إدراك الغلات ولهذا أحضرنا فقال الحسين : أفتعلم كم مبلغه ؟ فقال : نعم . وأحضر عملاً كان عمله بمبلغ ذلك فوجد أن الذي سُبّب على مال السواد والأهواز وفارس لسنة 320 قبل افتتاحها بشهور أربعون ألف ألف درهم وإن الذي يبقى إلى آخر سنة 20 على الضمناء إلى افتتاح سنة 321 عشرون ألف ألف درهم. وقد كان قيل في العمل إن هذا ما لم يجر به في قديم الدهر ولا حديثه رسم بمثله .
فلما وقف الحسين على ذلك استعظمه وأراد أن يقطع المجلس بالمشاغبة وقال : يكتب في الأعمال التي عملت ما لم يعمله أحد من الوزراء قط ثم يُعرض عليّ . فقال هشام: هذا غلط كتب على سبيل السهو وليس مما يزيد في المال ولا ينقص منه وضُرب على تلك الحكاية وقال : إنما أحضرنا لننظر في أمر المال ونصدق الوزير عنه . فعدل إلى الخصيبي يُهاتِره فترك الحجة فنهض الخصيبي عن المجلس لما ظهرت الحجّة
ص: 129
على الحسين وصارمع الضمناء ومع أبي جعفر بن شيرزاد إلى هارون بن غريب فشرحوا له ما جرى. وأعيد المجلس كهيئته إلى المقتدر ثم شافه الخصيبي بمثله الحسين بحضرة المقتدر فانحلَّ أمر الحسين وقبض عليه فكانت وزارته سبعة أشهر .
واستوزر أبو الفتح الفضل بن جعفر وخلع عليه يوم الاثنين لليلتين بقيتا في شهر ربيع الآخر فركب في الخلع وركب معه القُوّاد وخواص المقتدر. وسلم المقتدر الحسين ابن القاسم إلى الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر فأجمل عشرته وقرر أمره على أربعين ألف دينار فلما أذاها استأذن الوزير أبو الفتح المقتدر في تقليده الإشراف على مصر والشام فأذن له في ذلك. ثم ظهر أنه أراد أن ينقب الموضع الذي كان فيه وقال الخصيبي : هذا رجل في جنبه للسلطان مالٌ عظيمٌ وليس يصلح أن يخرج وأن يدبر شيئاً من الأعمال. فتأخر أمره وصودر أيضاً ثم تسلمه الوزير فبقي عنده مدة ثم أبعده إلى البصرة وأقام له في كل شهر خمسة آلاف درهم.
وفي هذه السنة حضر من ناظر عن مرداويج بن زيار والتمس أن يُقاطع عن الأعمال التي غلب عليها من أعمال المشرق وتكفل هارون بن غريب بأمره فقرّره على أن يسلم إلى السلطان أعمال ماه الكوفة وهمذان ويُقلّد باقي الأعمال ويحمل عنها مالاً وكُتب له العهد وأنفذ إليه اللواء ومعه خِلعٌ.
ثم أن المقتدر هم بتقليد أبي علي بن مقلة الوزارة وبلغ ذلك هارون بن غريب فكره ذلك لِمَيل أبي علي إلى مونس فاجتمع مع الوزير أبي الفتح وألزما أبا عبدالله البريدي مائة ألف دينار وسلّم ابن مقلة إليه فمشى أمر الوزير أبي الفتح وحمل ابن مقلة إلى شيراز مع رشيق الأيسر .
وفيها مات أبو عمر القاضي فأغرى أبو بكر بن قرابة بورثته إغراء شديداً وقال للمقتدر : ينبغي لابنه أن يحمل مائة ألف دينار فإنه من ورائها وإلا حضَرَ من يتقلد قضاء القُضاة ويُوفِّر هذا المال من جهته. فرسم المقتدر لهارون بن الخال أن ينفذ كاتبه ولِلوزير أن يضمّ إليه ثقته حتى يصيرا مع ابن قرابة إلى أبي الحسين بن أبي عُمر ويخاطبه بحضرتهما . فمضى أبو بكر بن قرابة ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وأبو على أحمد بن نصر البازيار فلما حصلوا عند أبي الحسين القاضي وجدوا عنده عالماً من الناس مُعزّين له فعزّوه وجلسوا وأمسكوا كما يحسن أن يعمل في المصائب فقال ابن قرابة ما لهذا حضرنا قُم يا أبا الحسين معنا حتى نخلو . فنهض واستوفى عليه ابنُ قرابة استيفاء شديداً فقال أبو الحسين : إن نعمتي ونعمة والدي من أمير المؤمنين المقتدر ولستُ ادخر دونه شيئاً. وسأل أن يمهل يومَهُ حتى يُحصِلَ أمرَهُ ويبكر فيصدقُ عنه وكان شهر رمضان فلمّا
ص: 130
جنّه الليل قصد أبا بكر بن قرابة وقت الإفطار فاستأذن عليه ودخل والمائدة بين يديه فدعاه إلى الإفطار فغسل يده وسمى وأكل ومصيبته طرية وإنها ليومه ولكنه ليستكفي شرَّهُ فلما انقضى الإفطار قال له يا سيدي قد جئنك مُستسلماً إليك فدبّرني بما تراه. فقال له : قم فامض بسلام وما بك حاجة إلى أن توصيني ولا تفكر في أمرك فإني أفصلُهُ وأعمل فيه ما يرضيك . وكان على مائدة أبي بكر بن قرابة أبو عبد الله وأبو يوسف ابنا البريدي فلما فرغوا من الأكل قرب البريديان من القاضي أبي الحسين كالمتوجعين له ووصفا مُشاركتهُما إياه واستصوبا قصدَهُ أبا بكر وإفطارَهُ معه وقالا له : أنت مقبل . وعرض عليه أبو يوسف ثلاثة آلاف دينار وقال : إن احتجت إليها فخُذها وافتد نفسك وإن أوجبت الصورة أن تستتر فأنفقها في استتارك فلم ينفد حتى يأتيك الفرج. ولم يحتج أبو الحسين إلى الاستتار وتعطف عليه المقتدر بالله وعاونه البريديون وإخوانه أحسن مُعاونة فقلّده قضاء القضاة فقويت نفسه ومشى أمرُه .
ثم إن المقتدر وصف لابن قرابة الإضاقة فقال له: يا أمير المؤمنين لِمَ لا يُعاونك هارون بن الخال وعنده آزاج مملوة مالاً. فأعاد المقتدر ذلك على ابن الخال فقال. يا أمير المؤمنين إن كنتُ أملك ما قال فلستُ أبخل عليك به لأني أسلم بسلامتك وفي جيشك أنفِقُهُ وإليك معاده وابن قرابة معه من المال ما لا يحتاج أبداً إليه وأنا استخرجُ لك منه خمسمائة ألف دينار وليس بينه وبين أمير المؤمنين الذي يجمعني وإياه فلم يُترك عليه وأنا أؤدّيها من مالِهِ إليك . فقال له اذهب فتسلمه . فقبض عليه وجرى عليه من المكروه ما أشفى به على التلف حتى قتل المقتدر بالله فتخلص ولا عجب من أمر الله .
وكان قد وقع الوزير أبو الفتح بأن يُعمل لابن قرابة عمل بما صار إليه من الربح في الأموال التي قدمها عن الضمناء وبقايا مُصادرته في أيام عبد الله الخاقاني وما يجب عليه من الفضل فيما ابتاعَهُ من الضياع فأخرج عليه من هذه الجهات ألف ألف دينار فصح له من هذه الجملة تسعون ألف دينار ثم شغل الوزير وهارون بورود الخبر عليهما بانحدار مونس من الموصل وكان هارون قيده وسلَّمه إلى حاجبه وعِدّة من غلمانه ليخرجوه إلى واسط فقتل المقتدر في ذلك اليوم فهرب من كان مُوكلا به وبقي معه غلامان كان هو اشتراهُما لابن الخال فعُنيا به وصارا معه إلى فُرضة جعفر وأدخلا إلى مسجد وأحضرا حداداً وحلا قيوده وأطلقاه فمشى إلى منزله بسويقة غالب ووهب لهما خمسمائة دينار .
وحكى ثابت بن سنان في كتابه أن أباه سنان بن ثابت كانت بينه وبين أبي بكر بن قرابة مودّة. فصرنا إليه لتهنئه بخلاصه فقال لوالدي : يا أبا سعيد قد اجتمع لي فيك المحبة والعقل وجودة الرأي وأريد أن أستشيرك في أمري. فقال له أبي: قل فإني امحضك النصيحة . فقال : أنت تعلم أني كنت في بحار من التخليط وكانت عليَّ تبعاتْ فيما كنتُ أدخلُ فيه وأُقدِّمه من مالي عن الضمناء لم يكن على أحد مثلها وقد غسلت
ص: 131
هذه النكبة وما اديتُ فيها من المصادرة دون ما كنتُ فيه وقد حصل لي الآن ما يرتفع منه عشرون ألف دينار خالصة وحصل لي من البساتين والمستغلات بعد ذلك ما ليس لأحد مثله ولي من الفرش والآلات والبلور والمخروط والصيني والجوهر والطيب والكسوة ما ليس لأحد مثله ومن الرقيق والخدم والروقة والغلمان والكراع ما ليس لأحد مثله ولي بعد ذلك كله ثلاثمائة ألف دينار صامت لا أحتاج إليها. وبيني وبين هذا الوزير( يعني أبا علي بن مقلة وقد كان القاهر استوزره وهو بفارس) مودة وكيدة فهل ترى لي إذا قدم أن اقتصر على لقائه في الأوقات لعمارة الحال بيني وبينه ولا أداخله ولا أعاود ما كنت فيه أو أعاود وأرجع إلى التخليط ؟ فقال له :والدي ما رأيت أعجب من هذه المشاوَرَة وإنما يشاور في المشكل من الأمر فأما الواضح فيستغني فيه عن الرأي. انظر أعزك الله فإن كان ذلك التخليط أثمر لك ما تحب فارجع إليه وإن كان إنما أثمر ما تكره وعرضك لزوال المهجة وزوال النعمة فلا تعاوده. ومع هذا فإن الإنسان إنما يكدُّ ويكدح ويتعرَّض للمكاره ليحصل له بعض ما حصل لك فاحمد الله وتمتع بالنعمة وقد حصل لك من الجاه ما يحرسها واربح الصيانة وحسن العافية فسمع ذلك كله وقال : قد علمت والله إنك قد نصحت وبالغتَ ولكن لي نفساً مشؤومة لا تصبر وسأعاود ما كنت فيه. فقال له والدي خار الله لك . وانصرفنا فقال لي والدي : يا بني ما رأيت قط أجهل من هذا الرجل ولا يموت مثله إلا مقتولاً أو فقيراً بأسوأ حال.
فكان الأمر على ما قدر وأدّاه التخليط إلى أن قبض عليه القاهر فأزال نعمته وقبض أملاكه وهدمت داره وأراد قتله حتى زال أمر القاهر ثم عاد أيضاً إلى التخليط ومضى إلى البريديين لما خالفوا السلطان ثم مضى إلى أبي الحسين أحمد بن بويه لما غلب على الأهواز ثم وقع أسيراً لما انصرف الأمير أبو الحسين من نهر ديالي وصودر حتى لم يبق له بقية واضطر إلى أن يخدم ناصر الدولة أبا محمد بن حمدان برزق مائة دينار في كل شهر فكثرت في عينه وكان ينفق مثلها كلّ يوم ومات بالموصل ونعوذ بالله من الجهل والإدبار .
كان السبب في ذلك ما ذكرناه من استيحاش مونس فلما تم له الانصراف إلى الموصل كتب الحسين بن القاسم إلى داود وسعيد ابني حمدان والحسن بن عبد الله بن حمدان بمحاربة مونس ودفعه عن الموصل فإنه عاص. وكان مونس يكتب في طريقه إلى رؤساء العرب في ديار ربيعة بأن السلطان أنفذه لمحاربة بني حمدان يريد بذلك أن يقعدهم عنهم فامتنع داود من لقاء مونس لإحسانه إليه فإنه كان عظيماً جدًا فما زال أهله
ص: 132
به حتى فتؤوا رأيه وقالوا له: نحن بعد ما غسلنا قبيح ما عمله الحسين بن حمدان ثم ما عمله أبو الهيجاء بالأمس نريد أن نعمل لنا حديثاً ثالثاً وما زالوا به حتى استجاب على تكرُّهِ شديدٍ وقال : يا قوم بأي وجه ألقى مونساً مع إحسانه العظيم إليَّ؟ وكان يعدّدها ثم يقول : والله ما آمن أن يجيئني سهم عائرٌ فيقع في هذا الموضع مني (يعني حلقه) فيقتلني. (قال) فوالله ما هو إلا أن لقيه مونس حتى أتاه السهم العائر فوقع في موضع أصبعه فذبحه ولم يقتل غيره .
وكان بنو حمدان في ثلاثين ألفاً ومونس في ثمانمائة رجل فانهزموا وقتل داود وكان مونس إذا قيل له : قد أقبل داود لمحاربتك . يعجب ويقول : يا قوم يلقاني داود وفي حجري طهر ولي عليه من الحق ما ليس لوالده. فلما ملك مونس أموال بني حمدان وغلاتهم وضياعهم واستولى على أعمال الموصل خرج إليه الناس من الأولياء إرسالاً وكثروا عنده فحملوه على الخروج من الموصل وقصد بغداد وكان أقام بالموصل تسعة أشهر. فانحدر مونس وبلغ الجند بالحضرة ذلك فشغبوا وطالبوا بالرزق فأطلق المقتدر المال وجلس في الجوسق وأنفق فيهم وأخرج مضرباً له يسمى مضرب الدم إلى باب الشمَّاسيَّة . ووافى مونس وأصحابه إلى باب الشماسية وكان المقتدر قد وجّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافياً البصري في خيل إلى سر من رأى ثم أنفذ أبا بكر محمد بن ياقوت في ألفي فارس ومعه الغلمان الحجرية إلى المعشوق. ثم أنفذ مونساً الورقائي على سبيل الطلائع فلما قرب مونس أقبلوا يراجعون حتى اجتمعت الجماعة بعكبرا فلما قرب مونس من عكبرا انكفأت الجماعة مع محمد بن ياقوت إلى البردان فلما نزل مونس عكبرا انكفأت الجماعة إلى باب الشماسية فعسكروا هناك واضطرب الأمور وتقاعد الضمناء والعمال بحمل الأموال . واجتهد المقتدر بهارون أن يشخص إلى حرب مونس فتقاعد واحتج بأن معظم أصحابه ممن انضم إليه من رجال مونس أو ممن كان معه في وقت محاربته مرادويج في المشرق أو من استأمن إليه من عسكر الديلم وقد عرف محاربتهم وأنهم ينهزمون ولا يثبتون للحرب وليس يثق بأحد منهم لأنه يعلم أنهم يستأمنون ويسلمونه ودافع بالخروج إلى أن صار أصحاب مونس بباب الشماسية بإزاء عسكر محمد بن ياقوت . فجاء محمد بن ياقوت إلى الوزير الفضل بن جعفر فانحدر إلى المقتدر ومعهما ابنا رائق ومفلح فشرح محمد بن ياقوت الصورة وقال له : إن الرجال لا يقاتلون إلا بالمال وأن أخرج استغني عن القتال واستأمن أكثر رجال مونس ودفعت الضرورة مونساً إلى الهرب أو الاستتار. وقال له : إن الوزير أطلق مالاً لم يعم . وسألوه أن يحتال مائتي ألف دينار من جهته وجهة والدته ليصرف في المهم فعرفه أنه لم يبق له ولا للسيدة حيلة في مال يطلق وتقدّم الشذات والطيارات لينحدر هو وحرمه إلى واسط ويسلم البلد إلى مونس ويكتب من واسط إلى من بالبصرة والأهواز وفارس يستنجدهم
ص: 133
ويستحضرهم لقتال مونس ودفعه . فقال له محمد بن ياقوت : اتق الله يا أمير المؤمنين في جماعة غلمانك وخدمك ولا تسلم بغداد بغير حرب. وجعل يفثأه عن رأيه ويشير بأن يخرج بنفسه إلى المعسكر حتى يراه الناس ويقاتلون وقال له : إن رآك رجال مونس أحجموا عن محاربتك . فقال له المقتدر : أنت والله رسول إبليس ، ثم أمر هارون على لسان الوزير الفضل بن جعفر أن يخرج ووبخه فمضى إليه ووافقه على أن يخرج يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوَّال إلى دار السلطان. وركب المقتدر وهم معه وعليه البردة التي توارثها الخلفاء وبيده القضيب وبين يديه الأمير أبو علي بن المقتدر والأنصار ومعهم المصاحف المنشورة والقرّاء يقرؤون القرآن وحوله جميع الحجرية رجالة بالسلاح وخلفه الحجرية رجالة بالسلاح وخلفه جميع القوَّاد مع الوزير. واشتق بغداد إلى الشماسية وكثر دعاء الناس له جدا وسار في الشارع الأعظم إلى المعسكر . فلما وصل إليه أشير عليه أن يقوم إلى موضع عال بعيد عن موضع الحرب واشتدَّت الحرب بين أصحاب مونس وأصحاب المقتدر بالله وكان مونس مقيماً بالراشدية لم يحضر الحرب وثبت محمد بن ياقوت وهارون بن غريب واشتبكت الحرب. وصار أبو العلاء سعيد بن حمدان إلى المقتدر بالله برسالة هارون بن غريب ومحمد بن ياقوت بأن حضر الحرب وقال له : إن رآك أصحاب مونس استأمنوا . فلم يبرح من موضعه ومضى أبو العلاء ووافاه صاف البصري فقال له مثل هذا القول فلم يسمع منه ثم حضر محمد بن أحمد القراريطي كاتب محمد بن ياقوت فاستدعى الوصول إلى المقتدر بالله فأوصل إليه وهو واقف على ظهر دابته فقبل الأرض وقال له : يا أمير المؤمنين القوّاد وعبدك محمد بن ياقوت يقول :« يا مولانا أمير المؤمنين الله الله سر بنفسك إلى الموضع فإن الناس إذا رأوك انفلوا» فلم يبرح وبقي واقفاً على دابته وخلفه الوزير أبو الفتح ومفلح الأسود وجماعة من الغلمان الخاصة. فهم على تلك الحال إذ وافت رسالة القوّاد المحاربين فتقدم بعضها بأن ينادي بين يديه «من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة دنانير» فنودي بذلك . ثم جاءته رقعة فسلمت إليه فقرأها ثم استدعى مفلحاً والقراريطي فسارّهما ثم استدعى الوزير فساره وأجابه بشيء ما سمع به ثم وردت رقعة أخرى فقرأها ثم وافته الرسائل علانية من القواد تؤدي إليه ويسمع الناس أن الرجال في الحرب يقولون :« نريد أن نرى مولانا حتى نرمي بأنفسنا على هؤلاء الكلاب» ولم يزل القراريطي وغيره يسهلون عليه ويسألونه المسير حتى سار مع مفلح ومن بقي معه . وتخلف الفضل بن جعفر عنه وسار نحو الشط وانكشف أصحاب المقتدر وانهزموا من قبل أن يصل المقتدر إلى موضع المعركة وكان آخر من ثبت وحارب حرباً شديداً محمد بن ياقوت واستؤسر أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد.
ولقي علي بن يلبق المقتدر وهو في الطريق لم يصل إلى المعركة في صحراء منبسطة فلما وقعت عينه عليه ترجل وعليه سلاحه وقال مولاي أمير المؤمنين. وقبل
ص: 134
الأرض ثم قبل ركبته. ووافي البربر من أصحاب مونس فأحاطوا بالمقتدر وضربَهُ رجل منهم من خلفه ضربة سقط منها إلى الأرض وقال : ويحكم أنا الخليفة. فقال البربري : إياك اطلب. وأضجعه فذبحه بالسيف وكان معه رجل من خلفاء الحجاب طرح نفسه عليه فذبح أيضاً ووقع رأس المقتدر على سيف ثم على خشبة وسلب ثيابه حتى سراويله وتُرك مكشوف العورة إلى أن مر به رجل من الأكرة فستر عورته بحشيش ثم حفر له في الموضع ودُفن حتى عفا أثَرهُ .
ونزل يلبق وعلى ابنه في المضارب وأنفذ للوقت إلى دار السلطان من يحفظها وانحدر مونس من الراشدية إلى الشماسية فبات بها ومضى عبد الواحد بن المقتدر ومفلح وهارون بن غريب ومحمد بن ياقوت وابنا رائق على الظهر إلى المدائن. فكان ما فعلهُ مونس من ضربه وجه المقتدر بالسيف وقتله إياه ودخوله بغداد على تلك السبيل سبباً الجرأة الأعداء وطمعهم فيما لم تكن أنفسهم تحدّثهم به من الغلبة على الحضرة وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة مذ ذلك وتفاقم حتى انتهى إلى ما نشرحه فيما بعد إن شاء الله .
وحكى ثابت حكاية في تبذير المقتدر للأموال ما رأيت أن أثبته مشروحاً لئلا يغتر أحدٌ من الملوك ومدبري أمر المملكة بكثرة الأموال فيترك تثميره ويعدل عن التعب به إلى الراحة اليسيرة فإنه حينئذٍ يبتدر ولا يلحق . ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثم يتسع فلا يضبط .
قال صاحب الكتاب : ولقد وعظتُ أنا بذلك بعض مدبّري الملك فأكثرتُ عليه فتبسم تبسم المدِلّ بكثرة الذخائر والأموال فما أتت عليه سنتان حتى رأيته في موضع الرحمة حيث لا ينفعه الرحمة. وسأشرح خبره وحاله إذا انتهيتُ إليه بمشيئة الله .
فأما المقتدر فإنه أتلف نيفاً وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في موضعه وأخرجه في وجوهه وهذا أكثر مما جمعه الرشيد وخلفه ولم يكن في ولد العباس من جمع أكثر مما جمعه الرشيد فإن القاسم بن عبيد الله قال للمعتضد وقد سأله عن مقدار ما خلفه واحد واحد من ولد العباس من المال أنه لم يكن فيهم من خلف أكثر مما خلفه هارون الرشيد فإنه خلّف في بيت المال ثمانية وأربعين ألف ألف دينار. وهذه نسخة لما أثبته بعض كتاب أبي الحسن بن الفرات لما وزّره المقتدر بالله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الذي كان في بيت مال الخاصة لما تقلّد المقتدر الخلافة : أربعة عشر ألف ألف دينار. وافتتح أبو الحسن بن الفرات أعمال فارس وكرمان سنة 299 فارتفع من مال
ص: 135
الخراج والضياع العامة والمعروف بالأمراء في كلّ سنة ثلاثة وعشرون ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم . منها من مال فارس ثمانية عشر ألف ألف درهم. ومن مال کرمان: خمسة آلاف ألف درهم يكون ذلك في مدة إحدى وعشرين سنة آخرها سنة 320 الخراجية بعد وضع ثمانمائة ألف درهم كانت تنكسر في كلّ سنة من مال البقايا :أربعمائة ألف ألف درهم وثلاثة وثمانين ألف درهم. وإذا وضع من ذلك ما كان يحمله من يتغلب على فارس وكرمان إلى بيت مال العامة بالحضرة وهو نحو أربعة آلاف ألف في السنة ومبلغه في هذه السنين ثلاثة وثمانين ألف ألف درهم . كان الباقي بعد ذلك أربعمائة ألف ألف درهم قيمتها ثمانية وعشرون ألف ألف دينار.
ومن أموال مصر والشام في هذه السنين زيادة على ما كان يحمل منها في أيَّام المعتضد: ثلاثة آلاف ألف وستمائة وستمائة ألف دينار.
وأخذ المقتدر من أموال علي بن محمد بن الفرات في مصادرته ومصادرات كتابه وأسبابه : أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار منها في الدفعة الأولى: ألفي ألف وثلاثمائة ألف دينار. وفي الدفعة الثانية : ألف ألف ومائة ألف دينار. وفي الثالثة مع ما أخذ من زوجة المحسن دولة : تسعمائة ألف دينار وما حصل من ارتفاع ضياع ابن الفرات الملك سوى الإقطاع والإيغار في مدة سبع عشرة سنة مع ما انصرف في ذلك من المبيع والمقطع والموغر للحاشية حساباً في السنة : مائتي وخمسين ألف دينار أربعة آلاف ألف ومائتي وخمسون ألف دينار.
وما صحّ مما أخذ لأبي عبد الله الجصاص الجوهري دون ما كان يذكره وهو يتكثر به من العين : ألفي ألف دينار.
وما حصل من ضياع العباس بن الحسن بعد قتله في مدة أربع وعشرين سنة حساباً في السنة : مائة وعشرين ألف دينار ألفي ألف وثمانمائة ألف دينار.
وما أخذ من أموال حامد بن العباس وأسبابه ومع ما يرتفع من ضياعه إلى أن ردّت على ولده ألفي ألف ومائتي ألف دينار.
وما أخذ من أموال الحسين بن أحمد ومحمد بن علي المادرائيين في أيام وزارة أبي علي الخاقاني ووزارات ابن الفرات الثلاث وأيام أبي القاسم الخاقاني وأبي العباس الخصيبي وأبي الحسن علي بن عيسى الثانية وأبي علي بن مقلة : ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار.
وما أخذ من أموال علي بن عيسى وابن الحواري وسائر الكتاب ووجوه العمال المصادرين : ألفي ألف دينار.
ص: 136
وما أخذ من تركة الراسبي : خمسمائة ألف دينار.
وما أخذ من تركة إبراهيم المسمعي : ثلاثمائة ألف دينار.
وما حصل من ثمن المبيع في أيَّام الوزراء وازداده الفضل بن جعفر : ثلاثة آلاف ألف دينار.
وما حصل من أموال أم موسى وأخيها وأختها وأسبابها : ألفي ألف دينار.
فصار الجميع من العين ثمانية وستين ألف ألف وأربعمائة وثلاثين ألف دينار.
: وضع من ذلك لارتفاع ما خرج من المبيع منذ سنة 317 إلى آخر سنة 320 حساباً في السنة على التقريب : تسعمائة ألف دينار ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف دينار .
الباقي بعد ذلك مما حصل في خزانة المقتدر زائداً على ما كان يحمل إلى بيت مال الخاصة في أيام المعتضد والمكتفي من أموال الضياع والخراج بالسواد والأهواز والمشرق والمغرب أربعة وستين ألف ألف وثمانمائة وثلاثين ألف دينار. وقد كان كل واحد من المعتضد والمكتفي يستفضل في كل سنة من سني خلافته من أموال النواحي بعد الذي يُصرف في أعطيات الرجال والغلمان والخدم والحشم وجميع النفقات الحادثة معما كان يحصله في بيت مال الخاصة : ألف ألف دينار .
وكان سبيل المقتدر أن استفضل مثلها فيكون مبلغهُ في خمسة وعشرين سنة خمسة وعشرين ألف ألف دينار فيكون جملة ما يجب أن يحضر في بيت مال الخاصة للمقتدر بالله في هذه السنين إلى آخر سنة عشرين تسعة وثمانين ألف ألف دينار وثمانمائة ألف وثلاثين ألف دينار. خرج من ذلك ما ليس يجري مجرى التبذير وهو ما أطلق في البيعة ثلاث دفعات وما أنفق على فتح فارس وكرمان : بضعة عشر ألف ألف دينار. وبقي بعد ذلك ما بُذر وأتلف نيف وسبعون ألف ألف دينار.
وكانت مدة وزارة أبي الفتح الفضل بن جعفر للمقتدر خمسة أشهر وتسعة وعشرين يوماً.
ص: 137
لما قتل المقتدر بالله وحمل رأسه إلى بين يدي مونس بكى وقال : قتلتموه والله لنقتلن كلنا فأقل ما يكون أن تظهروا بأن ذلك جرى بغير قصد منكم ولا أمر به وأن تنصبوا في الخلافة ابنه أبا العباس فإنه تربيتي وإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه بإخراج المال فعارض هذا الرأي أبو يعقوب إسحاق ابن إسماعيل النوبختي لحسنه وما سبق له في حكم الله تعالى وقال: بعد الكد استرحنا ممن له والدة وخالة وخدم فنعود إلى تلك الحالة وما زال بمونس وأسبابه حتى فثاً رأيهم عن أبي العباس وعدل به إلى محمد بن المعتضد بالله ليتم المقدار من جزي قتله جزي على يده وحضر فائق وجه القصعة الحرمي فذكر لمونس أن والدة المقتدر لما بلغها قتل ابنها أرادت الهرب وأنه وكل بها وتوثق منها وذكر أن محمد بن المعتضد ومحمد بن المكتفي معتقلان في يده فوجه به مونس وأمره بإحضارهما وأصعد بهما إلى دار مونس بعد أن أطلق بشرى خادمه .
وابتدأ مونس بخطاب محمد بن المكتفي فامتنع من قبول الأمر وقال : عمي أحق .به فخاطب حينئذٍ محمد بن المعتضد فاستجاب واستحلف لمونس المظفّر وليلبق ولعلي ابنه وليحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق فلما توثقوا منه بالإيمان والعهود بايعوه وبايعه من حضر من القضاة والقوّاد ولقب القاهر بالله وكان ذلك سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال. وأشار مونس بأن يستوزر له عليّ بن عيسى ووصف سلامته واستقامة أموره ومذهبه ودينه فقال يلبق وابنه : الحال الحاضرة لا تحمل أخلاق علي بن عيسى وأنه يحتاج إلى مَن هو أسمح منه وأوسع أخلاقاً. فأشار بأبي علي بن مقلة وبأن يُستخلف له إلى أن يقدم من فارس أبو القاسم الكلوذاني فأمضى مونس ذلك وكتب إلى أبي علي بن مقلة بالإسراع وإلى ياقوت بحمله وتعجيله .
وانحدر القاهر إلى دار الخلافة وصعد الدرجة وانحدر مونس وأسبابه إلى دورهم وصرف محمد بن المكتفي إلى داره في دار ابن طاهر واستحجب القاهر بالله علي بن يلبق واستكتب علي بن يلبق أبا علي الحسن بن هارون ووجّه مونس المظفر فاستقدم علي بن عيسى من الصافية فراسله القاهر على يد الحسن بن هارون واستدعاه فلقي
ص: 138
مونساً ثم انحدر إلى القاهر فوصل إليه وخاطبه بجميل وذلك قبل ورود ابن مقلة. واستحضر مونس أبا القاسم الكلوذاني وانحدر معه إلى دار السلطان وأوصله إلى القاهر فعرفه أنه قد استوزر أبا علي بن مقلة واستخلفه له إلى أن يقدم وأمره أن ينتفل إلى دار مفلح ليقرُب عليه إذا طلبه ففعل ولقيه أصحاب الدواوين وهنؤوه وأمر ونهى. وتشاغل القاهر بالبحث عمن استتر من أولاد المقتدر وحُرمه وبمناظرة والدته وكانت في علة عظيمة من فساد مزاج وابتداء استسقاء ولما وقفت على ما لحق ابنها من القتل وأنه لم يدفن جزعت جزعاً شديداً ولطمت رأسها ووجهها وامتنعت من المطعم والمشرب حتى كادت تتلف ورفق بها رفقاً كثيراً إلى أن اعتدت بيسير من الخبز والملح وشربت الماء. ثم دعاها القاهر فقررها بالرفق مرة وبالتهديد مرة فحلفت له على أنه لا مال لها ولا جوهر إلا صناديق فيها صياغات وثياب وفرش وطيب وأن هذه الصناديق دار تتصل بالدار التي كان تسكنها من دار السلطان ووقفته على تلك الدار وتلك الصناديق وقالت لو كانت عندي مال لما سلمتُ ولدي للقتل . فضربها حينئذ بيده وعلقها بفرد رجل وأسرف في ضربها على المواضع الغامضة من بدنها ولم يرع لها إحسانها وقت اعتقال المقتدر إياه ولما أوقع بها المكروه لم يجد زيادة على ما اعترفت به طوعاً فلما كان مستهل ذي القعدة حضر يلبق وعلي ابنه ومعهما أبو القاسم الكلوذاني دار السلطان فأوصلهم إلى حضرته فطالبوه بحمل مال إلى مونس المظفّر ليُنفق في صلة البيعة فحدثهم بما فعله بوالدة المقتدر وأنه ضربها بيده مائة مقرعة ضرب التقرير على المواضع الغامضة من بدنها فما أقرت بدرهم واحد غير ما كانت أقرت به عفواً وقال لهم : هي بين أيديكم ثم أدخلهم إلى الدار التي فيها الصناديق فإذا فيها ثياب وشي وديباج رومي وتُستري مثقلة بالذهب وفرش أدمي وخز رقم وديباج وصناديق فيها تیاب فاخرة وصياغات يسيرة ذهب وصياغات كثيرة فضة وطيب كثير من عود هندي وعنبر ومسك وكافور وتماثيل كافور قيمة ذلك نحو مائة وثلاثين ألف دينار وقيمة التماثيل نحو ثلاثمائة ألف درهم فتسلم أكثر ذلك مونس المظفّر ليباع فتركوا بعضه ليخدم به القاهر.
وصودر جميع أسباب المقتدر وظهر الفضل بن جعفر فعنی به مونس ويلبق وابنه وخاطبوا فيه القاهر فقال : هذا كان وزير المقتدر ولا بد من مصادرته. فبذل عشرين ألف دينار عاجلة فقال مونس : أنا أزن هذا المال عنه فإنه ثقة عفيف كاتب دين ورسم أن يقلد ديوان الضياع المقبوضة عن والدة المقتدر وديوان أولاد المقتدر وما قبض عنهم وعن سائر الأسباب وأكرم كل إكرام وصار إلى الكلوذاني فقام له لما حضر ولما انصرف ووقّع له القاهر بجميع تلك الدواوين التي ذكرتها فتسلم الدواوين ولم يؤثر فيها شيئاً لأنه
ص: 139
لم يستحسن وكان بالأمس وزير المقتدر أن يتقلد اليوم ديوان المقبوضات عن والدته وأولاده وأسبابه فاستحضر الكلوذاني هشاماً وقلده ذلك أزمة وقلد أبا محمد المادرائي ديوان الأصول فكانت مدة ولاية الفضل هذه الدواوين سبعة عشر يوماً.
وكانت مصادرة أبي بكر بن ياقوت قد اشتهرت وأنه لم يؤدّ منها إلا تسعين ألف دينار فطولب بتمامها وأخرج القاهر والدة المقتدر لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنها قد حلت وقوفها ووكلت في بيعها علي بن العباس النوبختي ونوظرت على ذلك فامتنعت منه وذكرت إنها وقفته على مكة والثغور على الضعفاء والمساكين ولا أستحل حلها «فأما أملاكي الطلق فقد وكلت علي بن العباس في بيعها» فنهض القاضي عمر بن محمد والشهود إلى حضرة القاهر فأشهدهم على نفسه بأنه قد حل وقوفها ووكل في بيعها علي بن العباس النوبختي وفي بيع سوى ذلك من الضياع الخاصة والفراتية والعباسية والمستحدثة والمرتجعة وما يجري مجراها في سائر النواحي ووكل أبا طالب النوبختي وإسحاق بن إسماعيل وأبا الفرج جلخت في بيع المستغلات بالحضرة المقبوضة وما أمكنهم بيعه من فضل ما بين المعاملتين. ورأى أسباب مونس أنه لا يتم البيع إلا بأن يبتدئوا بالشراء منهم فابتاعوا أشياء بنحو خمسمائة ألف دينار.
وقدم أبو علي بن مقلة من شيراز في يوم النحر وكان كتب إلى القاهر بالله ويسأله أن يجلس له في الليل لأنه كان اختار لنفسه أن يلقاه بطالع الجدي وفيه أحد السعدين والآخر في وسط السماء فوصل في الوقت الذي قدره وصادف القاهر ينتظره فلقيه وخرج من عنده وقد أعدت له دار هارون بن المقتدر وفرشت فدخلها ووقع فيها بتقليد قوم وخلع عليه من الغد خلع الوزارة وصار إلى دار مونس المظفر فسلم عليه وانصرف إلى داره وحضر الناس للتهنئة وراح إليه في آخر النهار علي بن عيسى فلم يقم له واستقبح الناس له ذلك وصار إليه أبو بكر بن قرابة ووفى بوعده في مداخلته إياه والعود إلى التخليط كما كنا شرحناه من أمره .
كان أبو علي بن مقلة عاتباً على الكلوذاني وذاك أنه لم يعرف خبر أحد من إخوته وولده وحرمه وأسبابه بعد تقليده خلافته ولا صار إلى داره ولا قلد أحداً من أسبابه شيئاً من الأعمال ولا تفقد حرمه وولده بشيء وأعظم من هذا كله أن أبا عبد الله بن ثوابة استأذن أبا القاسم الكلوذاني في وقت خلافته أبا علي في ذكر كنيته على الكتب النافذة إلى العمال فلم يأذن له فقبض على الكلوذاني وأسبابه وكان هذا أول ما وبخه به وأخذ خطه بمائتي ألف دينار ونقله مع كاتبه وأسبابه إلى أبي بكر بن قرابة ثم قبض على جماعة من العمال وكتاب الدواوين وقبض على إسحاق بن إسماعيل النوبختي وعلى بني البريدي
ص: 140
وضمن أعمالهم من محمد بن خلف النيرماني بما كانت عليهم وزيادة ثلاثمائة ألف دينار وضمن أيضاً أن يصادرهم على ستمائة ألف دينار وتسلمهم وحملهم إلى داره وجميع ذلك بتوسط ابن قرابة فاعتقلهم محمد بن خلف في داره وفرق بينهم. وجمع أبو علي بن مقلة لمحمد بن خلف مع هذه الأعمال أعمال المعاون فخاف إسحاق بن إسماعيل وبنو البريدي على أنفسهم لما يعرفونه من شدة إقدام محمد بن خلف وقهوره فأما أبو عبد الله البريدي فإنه دارىی محمد بن خلف ورفق به وأوهمه أنه يعمل من قبله ويقوم بمال النواحي وبالزيادة التي بذلها وأن يطيعه في المال كله ويعمل بما يأمره فيه ولا يخالفه فرفهه من بين الجماعة وأوقع بأخويه وعلق عليهما الجرار المملوءة ودهقهما فلم يذعنا بشيء وضيق على إسحاق بن إسماعيل ولم يوقع به مكروهاً .
وكانت بين أبي جعفر بن شيرزاد وبين إسحاق بن إسماعيل مودة وكيدة فخاطب أبو جعفر الوزير أبا علي في لقاء إسحاق وقال : احتاج أن أواقفه على ما سبب لصاحبي هارون بن غريب عليه في أيام المقتدر وما أطلقه حتى لا يحيل عليَّ بما لم يطلقه. فوجه معه بحاجب من حجاب الوزارة فأوصله إلى إسحاق فلما وقعت عين إسحاق عليه قال له : يا سيدي الله الله في أمري بادر إلى الأستاذ المظفر ولا تفارقه حتى يخلصني من يد هذا المجنون. فمضى أبو جعفر إلى مونس ولم يزل يسأله حتى دعا يلبق وأمره أن يمضي إلى أبي علي بن مقلة ويخاطبه في أمره فإن أطلقه وإلا انتزعه من يد محمد بن خلف وحمله إليه . فمضى يلبق إلى ابن مقلة فخاطبه فلم يجد ابن مقلة بدا من الاستجابة لتقريب أمر إسحاق .
فحكى أبو الفرج بن أبي هشام عن أبي سعيد بن قديدة أن السبب فيما لحقهم عَتبُ أبي بكر بن قرابة عليهم لتأخيرهم مالاً كان له عليهم وهو الذي قدّمه عنهم فتقاعدوا عن الوفاء له فعاهد محمد بن خلف يوم تضمنهم من أبي علي بن مقلة بستمائة ألف دينار على أن يستوفي له من جماعتهم ما قدمه عنهم ويردّه عليه فلما حصلوا في يد محمد بن خلف استخرج من أبي عبد الله وأخويه عشرين ألف دينار وأنفذ قبضَ بعض الصيارف بدرب عون إلى أبي بكر بن قرابة بها وجعل ذلك من دينه عليهم وجدَّ بهم.
واستسلم له أبو يوسف وأبو الحسين ولحقهما منه مكاره عظيمة وأطمعه أبو عبد الله اطماعاً لم يصح ورفق به فلما كان في اليوم ورفق به فلما كان في اليوم الثالث ركب محمد بن خلف إلى أبي علي ابن مقلة فقال له أبو علي يا أبا عبد الله غررتنا والقوم في يدك فنفذت مخاريقهم عليك وذهبت بربحك . فخجل محمد واغتاظ وقال : قد حملت من جهتهم عشرين ألف دينار وإنما ضمنتُ المال في مدة ثلاثة أشهر فأتي عتب للوزير علي حتى يخاطبني بهذا الخطاب البشع ! فقال الوزير ما سمعتُ بهذا إلا منك فإلى من سلمت المال ، قال : إلى
ص: 141
ابن قرابة فدعا بابن قرابة وهنأ له عما ذكر محمد بن خلف فقال : أنفذ أيها الوزير هذا الخط ووالله ما قبضت ماله من الصيرفي وزعم أنه من دين لي عليهم ولو قال إنه من الحمل لأنهيت حاله في الوقت وإذ قد بدا له فها هي الرقعة بارك الله له فيها. وسلمها إلى محمد بن خلف فقال محمد : لا والله ما جعلتها من دينك وكيف يجوز أن أقدم مالك على مال السلطان؟ فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه وبلغ أبا عبد الله البريدي خبر المجلس فسرّى عنه واجتهد في أن يكتب رقعة إلى ابن قرابة يسأله فيها المصير إليه فلم يجد دواة ولا من يحملها واتفق أن أنفذ أبو سعيد بن قديدة غلامه أحمد ليشاهد حاله فاستأمن إليه أبو عبد الله ورغبه في الاصطناع والإحسان ووعده أن يغنيه إذا أوصل رقعة له إلى ابن قرابة فاستجاب له الغلام واحتال له في جوفة جعل فيها كرسفاً وأحضره قلماً صغيراً وقطعة من كاغد فكاتب أبا بكر بن قرابة وحلف له أنه إن أخذه إليه وفاه ماله عن آخره وخدمه أحسن خدمة. فبكر أبو بكر بن قرابة إلى محمد بن خلف وأظهر له أنه قد قصده لمعاتبته حتى استوفى المفاوضة معه ثم قال له: أخرج ابن البريدي إليَّ فإنه يستقيم إلى كلامي حتى أقرر مصادرته وأعرف ما عنده في ديني. فأخرج إليه أبا عبد الله فقال أبو عبد الله : أول إقبالي إن قلت لمحمد بن خلف «لم يبق من السحر إلا السرار فيتفضل الأمير ويخلي لنا مجلسنا» فنهض محمد بن خلف من مجلسه وسلمه إلى برفاعته وقال : أنا داخل إلى دار الحرم فتخاطبنا وجلست مجلسه وقعدت مقعده فتفاءلتُ وقلتُ :« هذا مجلس كان لي فانتقل إليه وقد عاد إليَّ» فاستصلحتُ أبا بكر بن قرابة ووعدني بتخليصي ووفى ومضى ففصل أمرنا وضمن الوفاء عنا فلما كان في اليوم الثاني رضي عنا أبو علي بن مقلة واستدعاني وإخوتي فدعانا محمد بن خلف وسكِّن بنا وأنفذنا إليه فلما أردتُ الخروج قلتُ لمحمد بن خلف : أيها الأمير أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل خادمك ومونس يعتني به وسينفذ الساعة من يأخذه فدعني حتى أستصلحه لك وأعقد بينك وبينه عهداً ويميناً. فقال : افعل. فخلوت بإسحاق بن إسماعيل وقلتُ له : قد سخرتُ من هذا النفس وأنا منصرف فعاقده واحلف له ثم قل له :« بيننا الآن عهد ولا بدّ من صدقك ابن مقلة يبغضك ويتهمك بأنك تطلب الوزارة وإنما أراد أن يستنفر لك الأعداء ويأخذ أموالنا بيدك ثم يحملنا على أن نتضمنك وقد ضمنك أبو عبد الله البريدي بثلاثمائة ألف دينار وحدثني بهذا فلا تركب أياماً فإن كان الوزير سأل عنك فقد حماك منه الخليفة وإن طلبك فإنما يريد أن يسلمك إليه» ثم انعطفتُ إلى محمد بن خلف وقلتُ : قد فرغتُ من القصة والرجل يخدم الأمير كما يريد . وخرجنا فأعاد عليه إسحاق ما سمعه مني فانصرف قبل العصر بعدي .
فلما جلس محمد بن خلف في منزله ولم يركب إلى أبي علي بن مقلة مضى أبو
ص: 142
عبد الله البريدي إلى ابن مقلة وقال له : قد عرفتُ من دار محمد أنه يطلب الوزارة وأن رسله منبثُّون إلى أسباب مونس وإلى القاهر فلا تدعه يقيم في البلد. وكان ابن مقلة جباناً فطلبه وكان ذلك القول الأول قد تقدم إلى محمد بن خلف فوثب بخدم ابن مقلة وغلمانه وحاجبه وضربهم وحصلهم في بيت وقفل الباب عليهم وتسوّر السطوح وهرب فلم يظهر إلا في وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله للقاهر بالله . وكان أبو عبد الله البريدي مقيماً بالأهواز وعرف محمد بن خلف من بعد أن الحيلة تمت عليه فقال لمن بلغ أبا عبد الله البريدي: ظننت بك ظناً جميلاً ولم أعلم أنك في الحيلة عليَّ وكنت قد صدقت عنك فلم أقبل. فقال أبو عبد الله البريدي لأبي علي الكاتب : اكتب إلى فائق الغلام أن يقول لمحمد بن خلف هذه الحيلة يجوز أن تخفى عليك فقد خفى مثلها على من هو أكبر منك ولكن أعظم من ذلك أنه كان لنا من الموضع الذي حبسنا فيه طرق إلى دور حمرتك وذهبت عليك ولم تعرفها فاحترس منها في المستأنف.
وتوسط أبو بكر بن قرابة أمور الجماعة وفصلها مع ابن مقلة فوقع ابن مقلة بإعادة ابني البريديين إلى أعمالهم فاستقامت أمورهم. ولما بطل ضمان محمد بن خلف ما كان ضمنه من ضمانات البريديين وإسحاق بن إسماعيل صُرف أيضاً عن أعمال المعاون في هذه النواحي وطلبه ابن مقلة (وكان من وثوبه برسله وحاجبه واستتاره ما ذكرناه) ووجه ابن مقلة إلى دار محمد بن خلف ثم فتح الباب عن خدمه وغلمانه وحاجبه وانصرفوا.
وكان أبو علي بن مقلة يعادي أبا الخطاب بن أبي العباس بن الفرات ولم يكن يجد إلى القبض عليه طريقاً ديوانياً لأنه كان ترك التصرف عشرين سنة ولزم منزله وقنع بدخل ضيعته وكان سبب عداوة أبي علي له أنه كان استسعفه أيام نكبته فاعتذر بالإضافة ولم يسعفه . ثم إن أبا الخطاب طهر أولاده فتجمل كما يتجمل مثله ودعا أولاد أبي علي ابن مقلة فشاهدوا مروة تامة وآلات جليلة وصياغات كثيرة وكان بعضها عارية فانصرفوا وحدّثوا أباهم الحديث وعظموا وكثروا وصار أبو الخطاب بن أبي العباس بن الفرات إلى الوزير أبي علي بن مقلة طي رسمه يوم الموكب للسلام عليه فقبض عليه. فحكى أبو الفرج بن أبي هشام أن أبا زكريا يحيى بن أبي سعيد السوسي حدثه أنه كان حاضراً حين قبض على أبي الخطاب وأن الوزير أبا علي أنفذ إليه وسائط وأنه كان فيهم وطالب بثلاثمائة ألف دينار وأن أبا الخطاب قال : بماذا يتعلق الوزير عليَّ وقد تركت التصرف منذ عشرين سنة ولما تصرفت كنت عفيفاً سليماً ما آذيت أحداً ولى على الوزير حقوق وليس يحسن به أن يتناساها مع اشتهاره بالكرم ويقبح بي أن أهجنه بخطوط له عندي قبل هذه الحال الغالية فقولوا له : أيها الوزير أبو علي ذكرتك بما لو طالبتك برعايتها أو بالمجازاة على ما أسلفتك فى أوقات انحراف الزمان عنك أو سألتك ولاية أو إماحة أو
ص: 143
إحساناً في معاملة في ضيعة أو إرفاد وهل من الجميل إلا أجد عندك إذا رفَّهتك من هذا كله سلامة في نفسي فيما قد ركبته مني مما إذا صدقت نفسك خفت العقوبة من الله عزّ وجلّ ثم قبح الأحدوثة من الناس أما ما ظننته عندي فما الأمر كما وقع لك لأن هذا المال إن كان موروثاً عن أبي رحمه الله فلست وارثه وحدي ولو كان لاقتسمناه ونحن عدة فلم يكن بد من أن يشيع ويعرف خبره وإن ظننته من كسبي فتصرفي وما وصل إلي منه معروف وما خفيت عنك نزارته ومن بحضرتك من أصحاب الدواوين يشهدون لي بأني ما حظيت ببعض مروءتي وإن ظننته من استغلال فما استغله مقسوم بين الورثة وإن رجعت إليهم بالمسألة لم تجد ما يخصني في زمان تصرفي إلا بعض ما أتصرف إلى مؤنتي ومروءتي. وقد خلف الوزراء والأكابر أولاداً مثلي في كفايتي ودوني فتعرضوا لمواقف واستشرفوا لِرُتب وراسلوا وروسلوا فهل رأيتني إلا في طريق التسلم وراضياً بامتداد ستر الله تعالى والزهد في هذه الدنيا؟ فأي شيء تقول لله تبارك اسمه ثم لعباده إذا أسأت إلي؟ فلما أعيد هذا الكلام على ابن مقلة من غير جهتنا (فإنه كان أنفذ من يتسمع )خجل وتبلد وتحير ثم قال : هذا يدلّ علي بالفُراتية وأمير المؤمنين ليس يمكنني من رعاية حقوق أمثاله وأنا أنفذه إلى الخصيبي فإنه أعرف بدوائه. فقمنا وجئتُ إلى الخصيبي فحدثته بما جرى في المجلس وقلتُ له : أعيذك بالله أن تنتصب للتشرُّر على الناس وأن يقال إن النعم تزال بك وأنت وزیر ابن وزير وقد رفع الله قدرك من ذلك وأجلك بصناعتك وعفافك وأبوّتك . فقال : أحسن الله جزاءك ستعلم أني أرده إليه بعد أن أعزر باليسير إليه.
ثم إن أبا علي بن مقلة استدعى الخصيبي وسلمه إليه بعد أن اضطره إلى كتب خطه بثلاثمائة ألف دينار يصححها في مدة عشرين يوماً فأحضر له الخصيبي صاحب الشرطة وجرّده وضربه عشر دررٍ وخُلع تخليعاً يسيراً ثم ضربه بالمقارع فأقام على أنه لا مال له وأن ضياعه قد وقفها ولا يمكنه بيعها فاستعفى الخصيبي منه وردّه إلى دار ابن مقلة فحبسه ثم سلمه إلى المعروف بابن الجعفري النقيب وأحضر له غلاماً من غلمان القاهر وذكر له أنه قد أمر بضرب عنقه إن لم يودّ صدراً من المال فما زال يعللهم إلى آخر الوقت ولم يودّ شيئاً. فلما حضر الوقت أحضره السيف وشدّ رأسه وعينيه فقال له أبو الخطاب : وجهني رحمك الله إلى القبلة. فوجهه ثم قال له : برفق. وتشاهد فبادر بالخبر ابن الجعفري إلى ابن مقلة فقال ابن مقلة : لا يجوز أن يكون بعد هذا شيء وقال مونس المظفر لابن مقلة : أي طريق على رجل لم يعمل عملاً منذ آخر سنة 299 فأخذه ابن مقلة وسلمه إلى حاجبه وأمره أن يعتقله فأقام فيه يومين وحضر أبو يوسف البريدي فشكا إليه ابن مقلة ما أقام عليه أبو الخطاب من التجلد ووسطه بينه وبينه فصار
ص: 144
إليه أبو يوسف وقرّر أمرَهُ على عشرة آلاف دينار فحلف أبو الخطاب ألا يودّي منها درهماً ولو قتل أو يطلق إلى منزله فوجه إليه ابن مقلة بخلعة من ثيابه وحمله على دابة بمركب واستدعاه ووثب إليه حتى كاد أن يقوم له ثم قال له كثر على الخليفة في أمرك وعزيز عليّ ما لحقك فامض مصاحباً إلى منزلك . فانصرف وأدى المال في مدة عشرة أيام وأطلق ضياعه وأملاكهُ .
وأحضر ابن مقلة إسحاق بن إسماعيل وأخذ خطه بأن يحمل في كلّ شهر من شهور الأهلة مثل ما كان يحمله إلى المقتدر بالله لخريطته على سبيل المرفق وهو ألفا دينار وأخذ خط أبي عبد الله البريدي بحمل ثلاثة آلاف دينار في كل شهر على هذه السبيل وخط أبي يوسف وأبي الحسين أخويه بألف وخمسمائة دينار في كلّ شهر .
كتب هارون بن غريب إلى أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد من واسط بأن يقطع أمره على مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له ضياعه الملك في سائر النواحي ومستغلاته دون الإجارات والوقوف التي كانت في يده وعلى أن يودّي حقوق بيت المال على الرسوم القديمة ويرتجع إقطاعاته وعُني به مونس المظفر وأسبابه وكتب له القاهر أماناً وقبلت مصادرته التي بذلها وقلد أعمال المعاون بماه الكوفة وماسبذان ومهرجانقذق .
وخرج عبد الواحد بن المقتدر ومحمد بن ياقوت الباهلي وابنا رائق وسرور ومفلح من واسط مفارقين لهارون بن غريب من واسط إلى السوس وجنديسابور فأفسدوا أمر الأعمال هناك وعاتوا وخرَّبوا ومدّوا أيديهم إلى التناء والتجار ثم خرجوا على الظهر إلى سوق الأهواز فلما طال مقامهم بالأهواز شخص يلبق والجيش معه معه نحوهم نحوهم فلقيه هارون ابن غريب بجرجر ايا ثم نفذ الحرب القوم .
فأما ما حكاه أبو الفرج بن أبي هشام عن مشاهدة وعيان فإنه قال : إن الهاربين من قواد المقتدر مع عبد الواحد ابنه دخلوا سوق الأهواز من طريق الطيب وما دخلوا السوس ولا جنديسابور واستبد محمد بن ياقوت بالأمور على ابني رائق والجماعة وقلد أبا إسحاق القراريطي كاتبه النظر فاستخرج وأمر ونهى وكانت الأموال تنصب إلى ابن ياقوت ويعطى منها ابنا رائق وغيرهما ما يريد فتغيرت له القلوب واعتقدوا الخلاف عليه .
وتحقق أبو عبد الله البريدي بأبي علي بن مقلة وكانت الكتب ترد عليه من الأهواز بجميع ما يجري فأشار بأن يتلاحق أمرهم وقال : إن القوم متخاذلون وابن ياقوت مستبد عليهم وقلوبهم شتى وإن ابني رائق صديقاه فإن أخرج إليهم جيش اختلفت كلمتهم وإن
ص: 145
تركوا قويت شوكتهم بأموال الأهواز وعقدوا لعبد الواحد الخلافة وطلبوا الحضرة. فأنفذ أبو علي بن مقلة أبا مقلة أبا عبد الله البريدي إلى مونس حتى شافهه بذلك كله فقال مونس : قد ترى الحيرة في مال البيعة وقد استحق الناس رزقة لأن الحادثة بالمقتدر منذ ثلاثة أشهر فمن أين المال؟ فقال أبو عبد الله البريدي : أنا أضمنه ويسبب عليَّ وأقدم بالحضرة ثلاثين ألف دينار وأصحح بالسوس خمسين ألف دينار وبتستر عشرين ألف دينار والباقي بالأهواز وأحضر صاحب ديوان الجيش وعمل جريدة لمن تجرَّد مع يلبق وأجمل مالهم فبلغ مائتي وخمسين ألف دينار فحمل أبو عبد الله الثلاثين الألف الدينار التي ضمن تعجيلها بالحضرة وخوطب القوَّاد وتكاثرت العساكر مع يلبق وأبو عبد الله البريدي معه . وخرج بدر الخرشني في الماء وكوتب أحمد بن نصر القشوري وكان يتقلد البصرة أن يسير معه فلما تحصلت الجيوش بواسط تغيرت القلوب على محمد بن ياقوت وتبين ذلك فقال للجماعة : أنا واحد منكم ولستُ أخالفكم في رأي ولكن الوجه أن نجتمع بتستر فإنها حصينة منيعة وندبر أمرنا بما يوفق الله عزّ وجلّ له ولا نحارب وواقفهم على مال يعطيهم وساروا للوقت إلى عسكر مكرم وأفرجوا عن قصبة الأهواز فعمل القراريطي بها ما لا يعمله الدمستق وفتح الدكاكين بالليل وبعث إليها البغال وحمل منها أمتعة التجار وصادر الأسود والأبيض ولما ورد الخبر بنزول يلبق السوس نفذت الجماعة إلى تستر وورد البريدي وسلك طريق القراريطي وزاد وما زال يحتال حتى وفى الخمسين الألف الدينار ثم وافى يلبق والجيوش جسر تستر فوجده مقطوعاً وحال بينه وبين تستر دُجيل.
فحكي عن أبي عبد الله البريدي بعد ذلك أنَّه قال : هممت بالتغلب ووضعتُ في نفسي الإمرة وتدبير الرجال منذ ذلك لما رأيتُ انحلال يلبق وسقوط ابن الطبري كاتبه لأني رأيتهما متخلفين ساقطين. وكان الشارد قد طار وضجّ يلبق واضطرب رجاله فهم بالانصراف فثبته أبو عبد الله البريدي وما زال بتردّد إلى القوّاد ويهزّهم ويهاديهم ويسكنهم ويكاتب ابني رائق بالمودة ويشير عليهما بمفارقة ابن ياقوت ويذكر لهما سوء أخلاقه وشدة عجبه وتطاوله عليهما حتى استجابا إلى تقلد البصرة والانصراف عن تستر . فما عرف ابن ياقوت الخبر حتى ضربا بالبوق بكرةً ورحلا فلم يكن له بهما يدان لأنه لو کاشفهما لعبر العسكر الذي بإزائه إليه وقتل أو أسر.
ولما توجه ابنا رائق إلى البصرة استأذن مفلح وسرور في العبور بعبد الواحد إلى يلبق وقالوا لمحمد بن ياقوت : قد ضعفت نفوسنا وأنت معتصم برجالك ونحن فلا عدة لنا ولأصحابنا إلا غلماننا فردّ الاختيار إليهم كاتبوا وتوثقوا لنفوسهم من يلبق وعبروا إليه وتحير محمد بن ياقوت فراسل يلبق في أن يحلف بسلامة نيته إذا لقيه ليعبر إليه ويفاوضه ويعود إلى معسكره فأجابه وحلف له على ذلك وعبر إليه محمد بن ياقوت
ص: 146
بدُرّاعة بيضاء وعمامة وجمشك في رجله ومعه غلام واحد وقت العصر فقام له يلبق وتفردا وتطاولا حديثاً ما عرف في الوقت واشتعلت النيران في ثياب البريدي وتردّد دفعات إلى ابن الطبري يشير بالقبض على ابن ياقوت وراسل ابن الطبري يلبق بذلك وقال له : البريدي خليفة الوزير وثقة الأستاذ مونس يشير بذلك ولست أقول أنا شيئاً . فقال يلبق : ما كنت بالذي أخفر أمانتي وأحنث في يميني ولو ذهبت نفسي. وحضر وقت الصلاة فقام محمد بن ياقوت تحت الفازة في موضع فسح فأذن وأقام وتقدم للصلاة يلبق وأكثر العسكر وراءه ولما استتم المكتوبة انثنى إلى يلبق معانقاً له فقام إليه وودع كل واحد منهما صاحبه وعاد محمد بن ياقوت إلى عسكره. وظهر السر وكان تعاتبهما أولاً ثم تحالفا وتعاقدا واصطلحا على أن يسيرا إلى الحضرة بشروط الأمان على أن يكون بينهما في المسير منزل فمنزل.
ورحل محمد بن ياقوت بعد ثلاثة أيام من تستر إلى عسر مكرم ودخل يلبق تستر فعمل بها البريدي أعظم مما عمل القراريطي بكثير لأن الناس توقوا منه فلما رأوا أصحاب السلطان أنسوا . فأتى البريدي عليهم وكبس اليهود وهم معظم التجار وتجاوز كل قبيح ووفى بالمائة الألف الدينار وسار يلبق إلى الأهواز وأهلها هاربون من محمد بن ياقوت فسلموا لأنهم مضوا إلى البصرة. وابتلى البريدي أهل عسكر مكرم وتستر فأيسر ما عمل أن ركب إلى دور الصيارف فأخذ ما وجد من الأموال لهم ولمن يضاربهم وخسف بالسواد حتى صحح ليلبق مائتي ألف دينار وبقيت على البريدي خمسون ألف دینار وعنی به ابن الطبري لأن البريدي خدمه خدمة تامة حتى أنه كان يحضر أبواب البيع في البلدان ويجلس على غاشيته ينتظر خروجه فإذا خرج سأله أن يعطيه برشائه فإذا أعطاه قبله وجعله في كمه وأشهد له بضياع ارتفاعها عشرة آلاف دينار فكان ذلك سبب عناية ابن الطبري به وخاطب له يلبق وقال له : أبو عبد الله ثقة ونجعل هذه الخمسين الألف الدينار فيما يخص الأمير(وكان ماله في الجملة)وقد خدم وبيّض وجه الأمير فيما خدم ودبر وبدّد شمل هؤلاء وإنه لأحق بمجلس أبي علي بن مقلة منه وانفذ في التدبير والأمور. فأجابه يلبق إلى ما سأل وخلف غلاماً عند البريدي يقال له إيتاخ.
ورحل ابن ياقوت إلى شابرزان وتبعه يلبق ودخلوا مدينة السلام. وأطلقت أملاك ابني رائق ومحمد بن ياقوت ومُفلح وسرور دون اقطاعاتهم وأطلق لعبد الواحد بعض أملاكه القديمة وأعفي هو ووالدته من المصادرة وعادت يد ابن البريدي إلى عمالة الأهواز واستقامت الأمور. وخلع القاهر على يلبق وطوّقه وسوره بطوقين وسوارين مرضعين بالجوهر .
وخرج أمر القاهر ببيع دار المخرّم التي كانت برسم الوزارة وكانت قديماً لسليمان
ص: 147
ابن وهب فقطعت وبيعت من جماعة من الناس بمال عظيم لأن ذرعها يشتمل على أكثر منثلثمائة ألف ذراع وصرف ثمنها في ماله الصلة لبيعة القاهر بالله .
وورد الخبر بموت تكين الخاصة بمصر فأشار الوزير أبو علي بن مقلة بإنفاذ علي ابن عيسى إليها للإشراف عليها فابتدأ بالاستعداد للخروج ثم صار إلى أبي علي بن مقلة في بعض العشايا وصادفه خالياً فعرَّفه كبر سنه وضعف حركته ونقصان قوته وأنه لا يستشفع إليه بغير كرمه ولا يوسط بينه وبينه أحداً غيره وحلف على موالاته إيماناً أكّدها وسأله إعفاءه من الشخوص وتذلل له وانكب على يده ليُقبلها فمنعه من ذلك وخاطبه بمعرفته بحقه وعلمه بمكانه فأعفاه من الشخوص فانصرف علي بن عيسى شاكراً. وورد کتاب محمد بن تكين يخطب مكان أبيه فأجيب إلى ذلك وحمل إليه الخلع والعهد.
وكتب القاهر رقعةً بخطه إلى أبي علي بن مقلة بالتكنية وبزيادة في التشريف والرتبة وأمره أن يكتب بذلك إلى الأمصار والأعمال كلها ففعل ذلك ثم حمل إليه خلعة بعد خلعة للمنادمة وحمل إليه صينية فضة مذهبة فيها ند وعنبر وغالية ومسك وصينية أخرى فيها رطلية بلور فيها شرب مطبوخ عتيق وقدح بلور وكوز ومغسل فضة.
وشغب الجند بمصر على محمد بن تكين فقاتلهم وهزموه .
وفي هذه السنة استوحش مونس المُظفر ويلبق وعلي ابنه والوزير أبو علي بن مقلة من القاهر بالله فضيقوا عليه وعلى أسبابه.
ذكر السبب في ذلك
مقلة كان السبب في ذلك انحراف الوزير أبي علي بن عن محمد بن یاقوت فمكن في قلب مونس المُظفّر ويلبق وعلى ابنه أنه في تدبير عليهم مع القاهر بالله وأن عيسى المتطبب يترسل للقاهر إليه فوجه مونس بعلي بن يلبق إلى دار السلطان وسأل عن عيسى فُعُرِّف أنه بحضرة القاهر فهجم عليه غلمان على ابن يلبق فوجدوه واقفاً بحضرة القاهر فقبضوا عليه وأخرجوه إليه فنفاه من وقته إلى الموصل واجتمع رأي مونس ويلبق وابنه والوزير أبي عليّ على الإيقاع بمحمد بن ياقوت والنداء في أصحابه ألا يقيموا ببغداد.
فلما كان يوم الأربعاء لليلة خلت من جمادى الآخرة خرج علي بن يلبق في الجيش ومعه طريف السبُكري للإيقاع بمحمد بن ياقوت وبلغ محمد بن ياقوت ذلك فانكشف من معسكره من ميدان الأشنان وطلبه علي بن يلبق فلم يقف على خبره وذلك أنه دخل إلى بغداد واستتر بها وتفرق رجاله وانصرف علي بن يلبق من فوره إلى دار السلطان وأوقع التشدّد على القاهر ووكل بالدار أحمد بن زيرك وأمره أن يفتش كل من يدخل ويخرج من الرجال والنساء والخدم ويفتش كل ما يدخل إلى القاهر ففعل أحمد
ص: 148
ابن زيرك ما أمره به حتى بلغ الأمر به أن فتش لبناً حمل إلى القاهر وأدخل يده فيه لئلا يكون فيه رقعة. ونقل علي بن يلبق المحبوسين في دار السلطان إلى داره من والدة المقتدر وغيرها ومُنع القاهر أرزاق حشمه وأكثر ما كان يقام له وطالب علي بن يلبق القاهر إن يسلم إليه ما بقي عنده من الفرش وأمتعة والدة المقتدر وابن الخال فسلم ذلك إليه وبيع وحصل ثمنه في بيت المال وأطلق للجند. وباع أبو علي بن مقلة من الضياع وأملاك السلطان لتمام الصلة للبيعة بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار مع ما باعه الكلوذاني أيام خلافته إياه قبل قدومه من شيراز ومكثت والدة المقتدر عند والدة علي بن يلبق مكرمة مرفهة مدّة عشرة أيام وماتت لست خلون من جمادى الآخرة لزيادة العلة عليها ولما جرى عليها من مكاره القاهر فحملت إلى تُربتها بالرصافة ودفنت فيها.
وفيها همَّ علي بن يلبق والحسن بن هارون كاتبه بلعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فاضطربت العامة من ذلك وتقدم علي بن يلبق بالقبض على البربهاري رئيس الحنبلية فنذر به وهرب وقبض على جماعة من كبار أصحابه وجعلوا في زورق مطبق وأحدروا إلى البصرة .
وفيها نفذت حيلة القاهر على مونس المظفر وانعكس ما دبره الوزير أبو علي بن مقلة من القبض على القاهر حتى قبض على مونس ويلبق وابنه وهرب أبو علي بن مقلة والحسن بن هارون .
لما ضيّق علي بن يلبق على القاهر وعومل بما ذكرناه أخذ القاهر في الحيلة على مونس وأصحابه وبلغه فساد نية طريف السبكري وبشر ليلبق وابنه ومنافستهما إياهما على مراتبهما الجليلة ثم علم أن مونساً ويلبق أكثر اعتمادهما إنما هو على الساجية وكانا وعداهم بالموصل إذا دخلا بغداد أن يجعلاهم برسم الحجرية وإنهما ما وفيا لهم بذلك وإن نيَّاتهم متغيرة لهما. فراسل القاهر الساجية وهزّ بهم على مونس ويلبق وضمن لهما أن ينقلهم إلى رسم الحجرية (وكان الساجية يقبضون في كل ستين يوماً برسم المماليك والحجرية يقبضون في كل خمسين يوماً) وأن يلحقهم في النزل والعلوفة بالحجرية .
وكان بين اختيار القهرمانة وبين أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله معرفة قديمة وبينها وبين والدته مخالطة فأشارت على القاهر بمكاتبته وأن يعده بوزارته ليعاونه على التدبير على مونس وأصحابه وأشارت على محمد بن القاسم بأن يكاتب القاهر ويصدقه عن تدبير أبي علي بن مقلة وابن يلبق عليه. وكانت اختيار هذه تخرج من دار السلطان إلى دار القاهر القديمة التي في دار ابن طاهر وتظهر أن خروجها في حوائج حرم القاهر وولده فإذا كان بالليل صارت إلى محمد بن القاسم ولقيته . وبلغ أبا علي بن مقلة أن
ص: 149
القاهر قد جدّ في التدبير عليه وعلى مونس ويلبق وابنه والحسن بن هارون وحملهم على الجد والمبادرة إلى خلعه من الخلافة واتفق رأيهم على تقليدها أبا أحمد بن المكتفي بالله وواقفوا شاذ امروز حماة إبراهيم بن خفيف صاحب ديوان النفقات وكانت متحققة بأبي أحمد على ما دبروه وعقدوا الأمر سرّاً لأبي أحمد ابن المكتفي بالله وحلف له يلبق وابنه وأبو علي بن مقلة والحسن بن هارون ثم كشفوا ما فعلوه لمونس فقال لهم مونس : لست أشكّ في شر القاهر وقد أسرفتم في الاستهانة به وأخطأتم في تقليد الأمر فلا تعجلوا الآن وترفَّقوا حتی تؤنسوه ويأنس وينبسط إليكم ثم حينئذ تقبضون عليه فقال علي بن يلبق والحسن بن هارون الحجبة إلينا والدار في أيدينا وما نحتاج أن نستعين بأحد في القبض عليه لأنه بمنزلة طائر في قفص. وعملوا على معاجلته .
فاتفق أن ركب يلبق إلى الميدان فصدمه خادم له فسقط واعتل ولزم منزله وتمكن علي بن يلبق من متابعة ابن مقلة وحسنوا الأمر عند مونس وهوّنوه عليه وعلى يلبق حتى أذنا فيه. فلما كان يوم السبت سلخ رجب انصرف أبو علي بن مقلة من دار السلطان واجتمع إليه كتابه وأخوه ومن جرى عادته بمواكلته وفيهم أبو بكر بن قرابة فلما فرغ من طعامه التفت إلى أبي بكر بن قرابة فقال له : قد وافى صديقك القرمطي إلى الكوفة في ثلاثة آلاف راحلة ومعه صاحبه فلان ودخل الكوفة ونادى بأنه قد آمن الرعية سوى أصحاب المعروف بمحمد المتلقب بالقاهر. فقال ابن قرابة أيها الوزير هذا باطل لأن ابن بسر الكوفي جاري واليوم كان عندي وقد وقعت عليه أطيار بأخبار السلامة فقال أبو علي : سبحان الله أنت وابن بسر أعرف من صاحب المعونة بالكوفة وقد سقط من عنده طائر على أبي الحسن بن يلبق وقد جاءني سعيد بن حمدان ومعه رجل من الأعراب قد قتل نفسه وقطع عدة من الأفراس فخبر عن معاينة ومشاهدة. وكان ابن مقلة قد واطأ سعيد بن حمدان على ذلك . ثم دعا بالدواة وثلث قرطاس وكتب بخطه إلى القاهر رقعة يقول فيها : إن القرمطي الهجري المعروف بأبي طاهر قد وافي الكوفة في ثلاثة آلاف راحلة فنزلها وسقط عليّ من عامل الخراج وعلى علي بن يلبق من عامل المعونة طائران بكتابين بتاريخ يومنا هذا بنزوله ونزول أصحابه بها وإني أنا ويلبق سترنا ذلك عن القوَّاد والجند وخواص الدولة لئلا يذيع الخبر وتضعف قلوب الأولياء وقد اتفقت مع مونس على إخراج علي بن يلبق مع أكثر قواده وقوّاد أبيه إلى نواحي الكوفة ليدفع القرمطي عن الرحيل منها إلى بغداد وهو يخرج في سحر غد مارًا إلى صَرصَر من حيث لا يضرب بباب بغداد مضرباً حتى يلحق به الرجال وقد وجه النقباء في عشية يومنا وقد وافقت عليّ بن يلبق على الرواح إلى دار مولانا أمير المؤمنين ليصل إليه ويودّعهُ وعملتُ على التأخر لئلا يشيع الخبر بحضوري في غير وقت حضور مثلي الدار ويفسد
ص: 150
التدبير في خروج علي بن يلبق بكرة غد وأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ليقف عليه ويسكن إلى ما دبرته وينعم بإيصال علي بن يلبق إذا حضر العشية إن شاء الله . وأنفذ الرقعة ونام فكتب القاهر في جوابها وأنه استصوب فعله وبأنه يوصل ابن يلبق إذا حضر. ولما انتبه ابن مقلة من النوم لم ينتظر ورود جواب رقعته إلى القاهر وأعاد إليه رُقعةً ثانية بمثل ما كتب به فلما وصلت الثانية إلى القاهر ولم تكن الحالُ تقتضيها لنفوذ جوابه عن الأولى استراب وخاف أن تكون حيلة عليه. ثم نم إليه الخبر من جهة طريف السبكري بما عمل عليه علي بن يلبق من القبض عليه إذا أوصله إليه فأخذ القاهر حذرَهُ وراسل الساجية بالحضور وعرفهم أن علي بن يلبق يحضر لحيلة يوقعها فحضروا متفرقين. فلما كان بعد العصر حضر علي بن يلبق وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف في طياره وأنفذ جماعة من غلمانه بسلاح إلى دار السلطان وصعد من طياره في الروشن وراسل القاهر يسأله إيصاله إليه فدافعه القاهر إلى أن حضر الساجية كلهم بالسلاح فبرزوا إليه وشتموه وعملوا على القبض عليه وحامي عنه غلمانه وحاجبه ابن خندقوقي وحالوا بينه وبينهم ونادى بهم وطرح نفسه من الروشن إلى الطيارة وعبر واستتر من ليلته . وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر من ليلته واستتر الحسن بن هارون وأبو بكر بن قرابة وانحدر يلبق إلى دار السلطان وانحدر بانحداره جميع من حضر دار مونس من القوّاد وقدّر يلبق أنه يمسح القاهر ويعتذر لابنه فلما حصل في الدار قبض عليه وحبس وقبض على أحمد بن زيرك وعلى يمن الأعور صاحب الشرطة وحصل الجيش كله في دار السلطان .
فراسل حينئذ القاهر مونساً وسأله الانحدار إليه ليشاوره فيما يعمل وقال له : أنت عندي كالوالد وما أُحبُّ أن أعمل شيئاً ولا أمضى عزماً إلا عن رأيك فاعتذر مونس بثقل الحركة عليه وألح القاهر في طلبه وسأله الحمل على نفسه فاستقبح له طريف السبكري التأخر وحمله على الانحدار فلما حصل في الدار قبض عليه وحبس .
فكانت وزارة علي بن مقلة للقاهرة تسعة أشهر وثلاثة أيام ووجه القاهر إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله فاستحضره يوم الأحد مستهل شعبان فلقيه وقلد وزارته ودواوينه وخلع عليه من غد وهو يوم الاثنين خلع الوزارة ووجه القاهر من يومه بمن استقدم عيسى المتطبب من الموصل وطرحت النار في دار أبي علي بن مقلة بباب البستان وأحرقت ووقع النهب ببغداد. وظهر محمد بن ياقوت وصار إلى دار السلطان وخدم فيه الحجبة يومه ذاك ثم وقف على كراهية طريف السبكري والساجيّة والحجريّة إياه فاحتال إلى أن تمّ له الهرب واستتر وانحدر إلى أبيه وهو بفارس فلم يتجاوز كورة
ص: 151
ازجان ولا لقي أباهُ. وكان جلس في الماء بزيّ أصحاب المحابر وركب البحر ووافي مهروبان وجاء ليلاً إلى ارجان فنزل على أبي العباس بن دينار. وحمل إليه أبوه مالاً وكسوة ودوّاب وكانت له على فارس تسبيبات فاستوفاها ولحق به رجاله وكاتبه القاهر بما يسكنه منه وأعلمه أنه عجل على نفسه واستوحش وقلده المعاون بكور الأهواز فأقام بارّجان حتى اعتل وكان يفسد مزاجه ثم انتقل إلى رامهرمز . وكان القاهر قد كاتب مرداويج بالإفراج عن أصبهان ليقلّده الرئي والجبل ويصير في جملة الأولياء ويزول عنه العصيان فأتم له وكاتب وشمكير بالانصراف عن أصبهان فانصرف وبقيت شاغرة سبعة عشر يوماً خالية من مدبر وكاتب القاهر محمد بن ياقوت بتقليده أصبهان وأمره أن يسير إليها وكان ذلك بعقب هزيمة المظفر بن ياقوت وبعد انصراف علي بن بويه من أصبهان .فأخذ محمد بن ياقوت في التأهب فبقي هو كذلك إذ ورد عليه الخبر بخلع القاهر فانتكث أمرُه.
ولما استتر علي بن يلبق وهرب محمد بن ياقوت استحجب القاهر سلامة الطولوني وطلب المستترين وقلّد أبا العباس أحمد بن خاقان الشرطة ببغداد وطلب أبا أحمد بن المكتفي فوجده مستتراً في دار عبد الله بن الفتح فقبض عليه وتقدّم القاهر بأن يقام في فتح باب ويسدّ عليه بالجص والآجر وهو حي ففعل وأمر بنهب دور بني مقلة ودار الحسن بن هارون ودار أبي بكر بن قرابة. ووُجد علي بن يلبق مستتراً بقُرب باب المقبرة وكبس وأخذ من تنور كان دخله لما أحس بالكأس وأطبق على نفسه بغطاء التنور وقد كان خفي أمره وخرج من كان يفتش عنه حين لم يجده فاتفق إن تأخر بعض الرجالة لطلب شيء يأخذه من الدار فانتهى إلى التنور وطلب فيه خبزاً يابساً فلما كشفه وجد علي بن يلبق فصاح حتى رجع القوم وأخذوه وحملوه إلى دار السلطان. وضرب بحضرة القاهر ضرباً مبرحاً فأقر بعشرة آلاف دينار فوجدت وصححت في بيت المال ثم أعيد الضرب عليه فلم يوجد له غيرها وحبس.
وكان الحسين بن القاسم بن عبيد الله مستتراً فراسله أخوه الوزير محمد بن القاسم ابن عبيد الله وسأله أن يظهر ويعينه حتى يقلده ديوان السواد وديوان الجيش وديوان النفقات ويستخلف له الكلواذي وإبراهيم بن خفيف وعثمان بن سعيد وحلف له بحضرة السفير الذي كان بينهما بالله العظيم وبسائر إيمان البيعة بعتق مماليكه وبطلاق نسائه على صحة ضميره له وبان باطنه له مثل ظاهره فيما بذله له وكتب له بذلك رقعة بخطه أشهد فيها الله على نفسه وتسلم ذلك السفير وحمله إلى الحسين فأعاد عليه ما جرى ولم يزل محمد يتوقع أخاه إلى آخر النهار فحكى ابن أخيه القاسم ابن الحسين أن عمه الوزير أبا جعفر صار في الليلة إلى الحسين أخيه وليس معه غلام فخاطبه في الظهور وسأله معاونته
ص: 152
بنفسه وأعاد عليه تلك الايمان حتى وعده بالرواح إليه وعرف الحسين أصحابه فاجتمعوا بالعشي له وركبوا بركوبه وصار إلى أخيه وكان الوزير أخوه قد أعد له زورقاً مطبقاً فلما حصل عنده أمر بتحصيله في الزورق فوقفت والدته على خبره فجاءت حتى وقفت له على شاطئ دجلة في الموضع الذي ينزل منه إلى طيارة وهناك خلق من الناس فاستغاثت إليه وكشفت شعرها بين يديه وأظهرت ثديها وحلّفته بكل حق لها عليه أن يطلق ابنها فلم يلتفت إليها ولا يفكر فيها وجلس في طيّاره وانحدر إلى دار السلطان فلم يبق أحد ممن حضر إلا استقبح فعله ودعا عليه وذهب فحكى للقاهر أنه إنما طلب أخاه الحسين ونفاه إلى الرقة لما كان يعتقد من مذهب ابن أبي العزاقر وأنه خاف منه على الدولة فوكل القاهر بدور بني بسطام لما كان يذكر عنهما في اعتقادهما لدين ابن أبي العزاقر .
اضطرب حال مونس ويلبق وشغبوا وشغب معهم سائر الجيش وخرجوا إلى الصحراء ثم قصدوا دار الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وأحرقوا روشنه ونادوا بذكر مونس فكان ذلك سبب القتل لمونس . ودخل القاهر إلى الموضع الذي كان فيه مونس ويلبق وابنه معتقلين فذبح علي بن يلبق بحضرته ووجه برأسه إلى أبيه فلما رآه جزع وبكى
بكاء عظيماً ثم ذبح يلبق ووجه برأسه ورأس أبيه إلى مونس فلما رآهما لعن قاتلهما فأمر فجر برجله إلى البالوعة وذُبح كما يذبح الشاة والقاهر يراه. وأخرجت الرؤوس الثلاثة في ثلاث طسات إلى الميدان حتى شاهدها الناس وطيف برأس علي بن يلبق في جانبي بغداد ثم رُدّ إلى دار السلطان وجعل مع سائر الرؤوس في خزانة الرؤوس على الرسم .
قال ثابت : فحدثنا سلامة الطولوني الحاجب أنه لما أخرج إليه رأس مونس ليصلحه فرّغ الدماغ منه ووزنه فكان ستة أرطال وسمعت أنا ذلك من الجُفني وكان حاضرُه .
ومما جرى في ذلك أنه كيس جماعة من الفرسان والرجالة أبا بكر بن نباتة العدلَ الدقاق في درب الريحان وأظهروا أن السلطان وجّه بهم لطلب الحسن بن هارون وأخذوا من منزله ثلاثين ألف دينار وطرحوا منديلاً على رأس واحدٍ منهم وأخرجوه وأظهروا أنه الحسن بن هارون فركب أحمد بن خاقان في طلب القوم فظفر طلب القوم فظفر بواحدٍ منهم وقرَّره فاقرٌ على جماعة ظفر ببعضهم ووجد اليسير من المال وقتل من وُجد من هؤلاء الكباسين.
وفيها خرج أمر القاهر بتحريم القيان والخمر وسائر الأنبذة وقبض على من عرف بالغناء من الرجال والمخانيث والجواري المغنيات فنفى بعضهم إلى البصرة وبعضهم إلى الكوفة وبيع الجواري على أنهن سواذج وكان القاهر مع ذلك مولعاً بشرب الخمر ولايكاد يصحو من السكر ويسمع الغناء ويختار من جواري القيان من يريد .
ص: 153
وسعى بأبي عبد الله بن مقلة فوجد وقبض عليه ووُجد عنده خطوط أخيه أبي علي في رقاع فحمل إلى دار الوزير أبي جعفر فسأله عمن كان يوصل إليه الرقاع فذكر أن أبا عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري كان ينفذها إليه فقبض عليه وعلى أخيه وسئل عما يعرفان من خبر أبي علي بن مقلة فحلفا أنهما لا يعرفان له خبراً منذ استتر وعرّف القاهر أنهما من قواد السلطان وسهل أمرهما فأطلقا ولم يستترا وكانا يركبان في أيام المواكب إلى دار السلطان .
وقبض الوزير أبو جعفر على أبي جعفر محمد بن شيرزاد واحتج عليه بأنه قد تقلد أعمالاً جليلة وابتاع من المبيع ضياعاً كثيرة وأن ارتفاعه قد بلغ ألف ألف ألف ألف درهم في درهم في السنة فتوسط بينه وبينه إسحاق بن إسماعيل وأخذ خطه بعشرين ألف دينار وأطلق إلى منزله من يومه .
كان بنو البريدي بعد استتار ابن مقلة والجماعة استتروا فقلد الوزير مكانهم على أعمالهم أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي فتوسط إسحاق بن إسماعيل أمرهم فأخذ لهم أماناً من الوزير حتى ظهروا ثم أشار إسحاق على الوزير أبي جعفر بأن يخاطب القاهر في أمر بني البريدي ويعرفه أن الوجه ردهم إلى ضمانهم بالبصرة والأهواز فقبل الوزير مشورته وخاطب الخليفة وعرفه أنه ذامٌ لمحمد بن القاسم الكرخي لتقصيره في أمر استخراج الأموال وحملها وإن البريديين أقوم بذلك وأطمعه في أن يزداد عليهم في مقدار مال الضمان فوعده القاهر وقال : حتى أنظر فى ذلك . واستدعى القاهر عيسى المتطبب وأعاد عليه ما جرى وكان عيسى كارهاً للوزير محمد بن القاسم لأنه لم يكن له مدخل في تقليده الوزارة لغيبته بالموصل فطعن على هذا الرأي وعلى الوزير أبي جعفر وأشار بتقليد الخصيبي الوزارة فأمره القاهر بلقاء الخصيبي ومسألته عما عنده في أمر البريديين وغيرهم فصار إليه وتقرر الأمر معه وضمن استخراج أموال جليلة.
وكتب إلى القاهر على يد عيسى أنه متى ظهر أنه تقلد الوزارة استتر من عنده الأموال التي وعد باستخراجها وأن الوجه أن يتقدم إلى الوزير بالقبض على جماعة سماهم على مهل فإذا قبض عليهم وجه القاهر فحملهم إلى داره وانتزعهم من يد الوزير فتركهم معتقلين أياماً ثم قبض على الوزير محمد بن القاسم . ففعل القاهر ذلك وتقدم إلى سابور الخادم بالمصير إلى دار الوزير والقبض على بني البريدي وإسحاق بن إسماعيل فوجه سابور بثقة له إلى دار الوزير لينظر هل يجد فيها بني البريدي وإسحاق بن إسماعيل فيرجع إليه بالخبر . وكان بنو البريدي قد نصبوا أصحاب أخبار على سابور وسلامة وأصحاب القاهر فبلغهم ما تقدم به سابور إلى الرجل الذي وجه به يتعرف أخبارهم فاستتروا . وكان سابور قد قال لثقاته : إن
ص: 154
الخليفة أمرني بتفتيش دار إسحاق لأنه قد بلغه أن جواريه قد سترن جماعة من جواري القيان . وأمرهم أن يستعدوا للركوب معه فبلغ الخبر إسحاق من وقته ولم يقع له أن ذلك لمکروه يراد به فقال لجواريه : إن صار إليكم سابور بطلب المغنيات فلا تمنعوه ودعوه يفتش . وانحدر هو إلى دار الوزير وصار سابور إلى دار الوزير أبي جعفر فوجد إسحاق بحضرته فقبض عليه وحمله إلى دار السجان .
ووجه القاهر بمن كبس دور البريديين فلم يوجدوا وكبست دور إسحاق في النوبختية وعلى شاطئ دجلة وتهارب حرمه وولده وسلموا وقبض على أحمد بن الكوني كاتبه واستحضر القاهر علي بن عيسى وعرّفه أنه ليس لوزيره نظر في أعمال واسط وسقي الفرات وكانت في ضمان إسحاق وقلده هذه الأعمال واعتمد في تدبير المعاون فيها عليه ووقع له بخطه فتقلده علي بن عيسى .
وورد الخبر بموت أبي علي أحمد بن محمد بن رستم بأصبهان وأن المظفر بن ياقوت مد يده إلى ماله ودوابه فحازها لنفسه وكان المظفر إليه أعمال المعاون بأصبهان فتنكر القاهر له ولأبيه ولأخيه. وسُعي بأبي يوسف البريدي فكبس عليه وأخذ وحمل إلى دار الوزير محمد بن القاسم فأجمل عشرته وكتب القاهر إلى الوزير بأن يقرر معه مصادرته ومصادرة أخويه فأحضره الوزير وخاطبه وسامَهُ أن يقرّر الأمر معه في مصادرتهم فقال له أبو يوسف : إذا وثقنا بأن الأمر لك وإنك مقرّ على الوزارة قررنا الأمر معك فأما ونحن نتحقق أن الوزارة لغيرك فلا يجوز فصل الأمر معك . فلما كان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة انكسف القمر وقبض القاهر على الوزير محمد بن القاسم أنفذ إليه سابور الخادم فأخذه وأخذ من وجد في داره وفيهم أبو يوسف البريدي وغيره فنقلهم إلى دار السلطان فكانت مدة وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان للقاهر ثلاثة أشهر واثني عشر يوماً .
ووجه القاهر إلى إسحاق بن علي القنائي وأحضره وأحضر معه عبد الوهاب بن عبدالله الخاقاني على أن يقلّد أحدهما الوزارة والآخر الدواوين فلما حضرا قبل القواد أيديها وجلس بين أيديها سلامة الحاجب فلم يلبث أن خرجت رسالة القاهر بالقبض عليهما وإدخالهما الحبوس الغامضة.ثم وجه القاهر إلى سليمان بن الحسن واستحضره للوزارة وحضر في طيَّاره وتلقاه القوّاد والنَّاس وقبلوا يده وجلس الأستاذون بين يديه في دار السلطان ووجّه القاهر من قبض عليه وأدخله الحبوس الغامضة. ووجه إلى الفضل ابن جعفر للوزارة وقد ظهر ما عمله بالخاقاني وبسليمان فاستتر الفضل ولم يتقرّر الوزارة لأحد في ذلك اليوم .
فلما كان من الغد تقدّم القاهر إلى عيسى المتطبب أن يحضر الخصيبي يوم
ص: 155
الخميس ويأمره بالتأهب للوزارة وأن يحضر بسواد وسيف ومنطقة فراسله عيسى بذلك فحضر كما رُسم له وخلع عليه خلع الوزارة وركب فيها إلى داره ولقيه الناس فهنؤوه ونظر في الدواوين وقلدها من استصلحه ونصب ديواناً للمبيع وأحضر الناس وناظرهم وألزمهم لفضل ما بين المعاملتين خمسين ألف دينار وكتب لهم شروطاً ووقع لهم فيها بالإمضاء وصادر الناس وقبض على خلق .
وتوسط عيسى وسلامة الحاجب أمر البريديين بعد مكاره عظيمة لحقت أبا يوسف على اثني عشر ألف ألف درهم وكتبت الأمانات لأحمد وعلي ابني البريدي بخط الخليفة والوزير وأشهدا القضاة والعدول فيها على أنفسهما فظهرا. فحكى أبو زكريا السوسي وأبو سعيد بن قديدة أن أبا عبد الله البريدي حضر عند أبي العباس الخصيبي بطيلسان وعمامة وخف وهما معه فاستخلاه المجلس فأخلاهُ له فعاتبه عتاباً طويلاً وذكَّرَهُ بحقوق كثيرة وضروب من الخدمة خدمه بها في أوقات مختلفة عند نكبات كانت للخصيبي وقال له في آخر کلامه : إنما أعددتك بجميع هذا للدنيا لا للآخرة وأنت معذور في أمر المال لأنك تزعم أنه بأمر الخليفة وطاعته واجبة وفي ضربك أبا يوسف لأنه تماتن عليك لِمَ ذكرتَ أمَّ أبي يوسف وهي أمي ولِمَ استحسنت قذفها أما استحققتُ عليك بجميع حقوقي هذه أن تصونها عن الذكر بالقبيح لأجلي؟ فخجل الخصيبي وقال : صدقت كان يجب أن أفعل ذلك ولكن لم أضبط نفسي عند الغيظ وأنا معتذر إليك ودع ما مضى الخليفة مقيم على أنه لابدّ من ألف ألف دينار وقد وصفتك لأمير المؤمنين وقلتُ :« أبو يوسف حرجُ الصدر وأبو عبد الله أخوه رحب الصدر ولا يخالف أمير المؤمنين » ولولا ذلك لنقل أبا يوسف إليه ولما أمنتُ عليه فأحِبُّ أن تكفيني أمركما فحسبي حيائي مما مضى واكتب خطك بزيادة ألفي ألف درهم فقال أبو عبد الله : لقد أغنيتني أيها الوزير وما قصرت وأحسنتَ العذر والتلافي . فقال :له بحياتي لما كتبت فقال : اكتب وأنا آمن أيها الوزير مما أقول والله ما أملك ولا إخواني هذا المال فإن عطف الله بقلب الخليفة وقلبك علينا تصرّفنا وأدينا وإن حرمنا ذلك استدفعنا القتل إلى مدّة فإن الله قد أجرى عادتنا بالكفاية ونحن نرجو تفضله. فقال الخصيبي ولم يكن في المجلس إلا أبو زكريا وابن قديدة مستخرج الخصيبي : يا أبا عبد الله قد قسمت ووفيت الرأي ...
وضحك وأخذ خطه بألفي ألف درهم زيادة وانصرف .
وكان أبو عبد الله البريدي قد تحقق بأبي بكر محمد بن رائق وتناهى أبو بكر في إكرامه وواقفه أبو بكر على أن يتنجز تسبيباته وتسبيبات رجاله على الأهواز ويخرج إليها ويتغلب عليها . وشخص هو عن البصرة لئلا يتم هذا الرأي بمقامه عنده فينسب إليه فلما وافى واسطاً وجد بها أبا الحسن علي بن عيسى وقد عمر واسطاً فعقدها عليه القاهرُ
ص: 156
( لأنه كان من قبله لا من قبل الوزير) بثلاثة عشر ألف ألف درهم. وأشهد على أبي عبد الله البريدي بالضمان واستخلف أبو عبد الله أبا الحسن محمد بن حمد بن حمدون الواسطي وأقام مدة خمسين يوماً بالنعمانية ينظر في أعمال الموفقي ثم مضى إلى بغداد وركب يوماً هو وأخوه إلى سوق الثلاثاء ينتظرون خروج الخصيبي فراسله عيسى المتطبب بأن القاهر قد عزم على القبض عليهم فانحطوا عن دوابهم وغيروا زيهم واستتروا فما ظهروا حتى خلع القاهر من الخلافة وتقلدها الراضي بالله .
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من ذي الحجة من هذه السنة ورد كتاب علي بن خلف بن طناب إلى الخصيبي يذكر فيه مصير رجل من وجوه قوّاد الديلم الذين كانوا مع مرداويج إلى نواحي ازجان يقال له علي بن بُوَيه وأن هذا الرجل كان ضامناً لنواحي ماه البصرة فانكسر عليه مال لمرداويج ففزع منه وعصى عليه وصار في أربعمائة من الديلم إلى أرجان وتغلب عليها .
كان أبو الحسن علي بن بويه وأخوه أبو علي الحسن بن بويه من قوّاد ماكان بن كاكي ولم يزل الحال بين ماكان و بین مرداويج جميلاً منذ اتفقا على قصد أسفار بن شيرويه وانصرافه عن قلعة سميران بالطرم. وكانا يتهاديان ويتلاطفان إلى أن قتل مرداويج أسفار كما كتبنا أخبارهما فيما تقدم وملك نواحي الري والجبل واستعلى أمره وقوي بالمال والرجال. وقصد ما كان نواحي آمل وطبرستان فملكها وامتد إلى نيسابور عند انصراف نصر بن أحمد صاحب خراسان عنها واشتغاله بأخويه الخارجين عليه فلما فرغ من استصلاح خراسان عاد إلى نيسابور وراسل ما كان يسأله أن يعود إلى مكانه وأن يفرج عن نيسابور ويلطف له ويستبقي الحال بينهما ففعل ما كان ذلك وعاد إلى جرجان وطبرستان .
وابتدأت الحال تنقدح بينه وبين مرداويج على طريق التحاسد والتباغي فاستدعى مرداویج خلفاءه بالجبل وأصبهان وسائر نواحيه وجميع جيوشه وسار إلى ما كان فثبت له ما كان واستظهر عليه مرداويج وهزمه وملك طبرستان ورتب فيها بلقسم بن بالحسن وكان اسفهسلاره ومدبر جيشه وكان رجلاً نجداً جيد الرأي في الحرب. ثم مضى إلى جرجان وكان فيها من قبل ما كان شيرزيل بن سلار وباعلي بن تركي فهربا جميعاً وملكها مرداویج ورتب فيها سرخاب بن بلوس على خلافة بلقسم بن بالحسن لأن سرخاب خال ولد بلقسم فجمع لبلقسم جرجان وطبرستان وعاد إلى أصبهان ظافراً غائماً. ثم قصد ما كان أبا الفضل الثائر مستنجداً له فأكرمه وعظمه ثم سار معه بنفسه إلى طبرستان وبها بلقسم بن بالحسن وكان مستعداً لهما فبرز إليهما وتحاربوا فانهزم
ص: 157
الثائر وما كان جميعاً. فأما الثائر فعاد إلى بلده بالديلم وأما ما كان فامتد على طريق الساحل مفلولاً ضعيفاً حتى ورد جرجان ثم منها إلى نيسابور قاصداً بها أبا علي أحمد ابن محمد بن محتاج صاحب جيش خراسان فدخل في طاعته واستنجده وأقام بلقسم ابن بالحسن بجرجان إلى أن بلغهُ مسير أبي علي أحمد بن محمد بن محتاج إليه مع ما كان فكتب إلى مرداويج يستمده فأمده بأكثر عسكره ووجوه أصحابه وبالغ في تقويته ووافى ابن محتاج وما كان فبرز إليهما وواقعهما فظهر عليهما وهزمهما فانصرفا إلى نيسابور. ثم كرّ ما كان كرة أخرى على نواحي الدامغان طامعاً في أن يستولي عليها وكان فيها من قبل مرداويج الجيش بن او ميذوار فسار إليه بلقسم بن بالحسن حتى اجتمعا على دفع ما كان فانهزم ثانياً ويئس من هذه الأعمال فأنفذه صاحب خراسان إلى كرمان وقلده إياها وكان بها أبو علي محمد بن إلياس بن اليسع وواقعه وهزم أبا علي وملك كرمان على طاعة صاحب خراسان .
فأما أبو الحسن علي بن بويه وأخوه أبو علي الحسن فإنهما عند هزيمة ما كان الأولى وضعفه انحازا إلى مرداويج بعد أن استأذناه وقالا : إن الأصلح لك مفارقتنا إياك لتخفّ عنك مؤونتنا ويقع كلّنا على غيرك فإذا تمكنت عاودناك على غيرك فإذا تمكنت عاودناك . فأذن لهُما واقتدى بعلي ابن بويه جماعة من القوّاد لما صار علي بن بويه وأخوه أبو علي إلى مرداويج فقبلهما وأكرمهما وخلع عليهما وقلد كل واحد من قوّاد ما كان ناحية من نواحي الجبل أما علي ابن بويه فإنه قلّده الكرج وأما اللشكري بن مردى فإنه ردّه إلى عمله وكان متقلّداً ديناوند وأما سليمان بن سركلة فإنه قلّدَهُ همذان وكذلك سائر القوَّاد .
كان السبب في ارتفاع علي بن بويه وبلوغه ما بلغ سماحة كثيرة كانت في طبعه وسعة صدره واقترن بهذا الخلق الشريف خلق آخر أشْرَف منه وهي شجاعة تامة كانت له واتصل بجميع ذلك اتفاقات محمودة ومولد سعيد فمن ذلك أنه لما قلّد الكرج وقلّد الجماعة المستأمنة معه النواحي التي ذكرناها وكتبت لهم العهود ووردوا الري وبها وشمكير وأبو عبد الله الحسين بن محمد الملقب بالعميد (وهو والد أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة) وكان ناظراً في الأمور بالري فعُرضت عليه بغلة حسنة كانت لعلي بن بويه أراد بيعها والاستعانة بثمنها وكان ثمنها ثلاثة آلاف درهم قيمتها مائتي دينار فاشتراها وحمل المال إليه فظهر لعلي بن بويه أنها تشتري لأبي عبد الله العميد فقادها إليه وحلف ألا يأخذ ثمنها ثم تابع ذلك بملاطفات كثيرة إلى أن عمرَهُ بالبر. ثم أوجب الرأي عند مرداويج أن يتعقب ما أمر به من تولية أولئك القوّاد وكتب إلى أخيه وشمكير
ص: 158
وإلى أبي عبد الله العميد بمنعهم من الخروج من الري وإن كان بعضهم خرج منع من بقي. وكانت الكتب تصدر أولاً إلى العميد فيقف عليها ثم تعرض على وشمكير جملها فحين وقف على الكتاب تقدّم إلى علي بن بويه سرًا أن يبادر إلى عمله فسار من وقته وساعته وطوى المنازل وأصبح العميد من الغدِ فأظهر الكتب فلما عرضها على وشمكير كان قد صار علي بن بويه على مسافة بعيدة فمُنع من لم يكن خرج من أولئك القواد. وفاز علي بن بويه بالولاية التي كانت سبب ملكه وتمكنه وليس يُعرف الجميع ذلك بعد قضاء الله عزّ وجلّ سبب إلا سخاءه وسعة صدرِهِ .
فلما وصل إلى الكرج ابتدأ بالإحسان إلى الرجال وملاطفة عامل البلد فكان العامل يكتب يشكره وضبطه الناحية وحمايته. واتفق أن افتتح قلاعاً كانت في أيدي الخُرّميَّة في تلك الأطراف ووقع بين أربابها خلافٌ فانحاز بعضهم إليه وأظهرَهُ على ذخائر جليلة صرفها كلها إلى استمالة الرجال واستعطاف القلوب . فلما عاد مرداويج إلى الري سبب أموال جماعة من قواده على ناحية الكرج وفيهم إبراهيم بن سيارهى المعروف بكاسك وجماعة أكبر منهم فاستمالهم علي بن بويه وأفضل عليهم حتى أوجبت الجماعة طاعته. فاتصل ذلك بمرداويج فأوحشه ذلك وندم على إخراج أولئك القواد الأكابر إليه وكاتبه بالمصير إليه وكاتب القوّاد بمثل ذلك فدافعه وتعلل عليه ورفق به إلى أن أخذ العهود والمواثيق عليهم وعلم استيحاش الجماعة وخوفهم من غدر مرداویج وسطوته فحينئذ خرج بهم عن الكرج وجمع أكثر ما قدر عليه من المال واستأمن إليه من جرباذقان شيرزاد أحد قوّاد الديلم في أربعين رجلاً فقويت نفسه وعرض رجاله فكانوا ثلاثمائة رجل وكسر ا لكنهم أعياناً ونخب مستظهرين بالآلات والعدد وتوجّه إلى أصبهان وبها أبو الفتح ابن ياقوت في نحو عشرة آلاف وأبو علي بن رُستم يلي الخراج فقدم إليها كتباً جميلةً وعرفهما أنه ينحاز إليهما داخلاً في طاعة السلطان فدافعاه عن ذلك. وكان أبو علي بن رستم أشدّ الناس كرهاً له وإنكاراً لقدومه واتفق موت أبي علي بن رستم وبرز أبو الفتح ابن ياقوت حتى صار من أصبهان على ثلاثة فراسخ وكان في أصحاب ابن ياقوت ديلم وجيل كثير مقدارهم ستمائة رجل وكانوا يسمعون فضل علي بن بويه وعطاءه وسعة صدره فاستأمنوا إليه وواقعه الوقعة وانهزم ابن ياقوت لما ضعف باستئمان هؤلاء ولما ظهر له من ثبات الديلم واضطراب أصحابه ومضى نحو فارس وملك علي بن بويه أصبهان فقوي شأنه وكبر في عيون الناس لأنه هزم بمائتين من أصحابه ألوفاً وألوفاً من أصحاب السلطان وبلغ ذلك مرداويج فأقلقه ودبّر في أمرهم تدبيراً لم يتم له .
أشفق مرداويج أن يستأمن أصحابه إلى علي بن بويه لما يسمعون من إقباله ولما
ص: 159
انتشر من صيته وفيض عطائه ولأن سيرة مرداويج كانت سيرة صعبة لا يسكن إليها أحدٌ ولا يصبر عليها من له نفس أبية فرأى أن يراسل علي بن بويه بعتاب وتأنيس ويرفق به ويستدعي جوابه وضمن ضمانات له يرغب في مثلها ووجه في أثره أخاه وشمكير في عسكر عظيم كثيف قوي فعلم علي بن بويه أن الرسالة لا تشبه التأهب له فنذر به فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهراً وتوجه إلى أرجان وبها أبو بكر بن ياقوت فانهزم بين يديه إلى رامهرمز من غير حرب ودخلها علي بن بويه واستخرج منها أموالاً قوي بها.
ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن علي النوبندجاني يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شيراز ويهوّن عنده أمر ياقوت وأصحابه لتهوره في جباية الأموال وكثرة مؤنته ومؤنة جنده وثقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وخورهم. فأشفق علي بن بويه أن يلقى ياقوتاً مع صيته وكثرة رجاله وأمواله وحصول ابنه أبي بكر بن ياقوت من ورائه فأبى علي بن أبي طالب وتمنع عليه ولم يقبل مشورته. فشجّعه أبو طالب وأعلمه أنه إن توقف لم يأمن أن يتفق بين ياقوت ومرداويج أمرٌ يجتمعان له عليه وأن أعداءه كثير ومتى اجتمعوا عليه لم يقم لهم وتمكنوا بطول الزمان من التدبير عليه وربما لحق مدد السلطان فتجتمع الجيوش من كل وجه والصواب لمن كان في مثل صورته أن يبادر ويعاجل من بين يديه ولا ينتظر بهم الاحتشاد وإنشاء التدابير عليه ولم يزل يراسل علي بن بويه ويهوّن عليه الخطب إن بادر ويعظمه إن توانى وتأخر إلى أن سار نحو النوبندجان. وسبقه مقدَّمة ياقوت وهي في نحو ألفي رجل وفيهم وجوه أصحابه وشجعانهم مثل المعروف بكور مرد الخراساني وابن خركوش وكانا شديدين مذكورين بالبأس ومعهما أشباههما من أهل النجدة فوافاهم علي بن بويه إلى النوبندجان فلم يثبتوا وانهزموا إلى كركان وجاءهم ياقوت وأصحابه إلى هذا الموضع فنصب أبو طالب النوبندجاني وكلاءه وثقاته لخدمة علي بن بويه وتنحى بنفسه إلى ضيعة له مغالطة لياقوت وراسل ياقوتاً أن الخوف الذي شمله والناس ألجأه إلى الهرب والتباعد واستشاره فيما يعمل وهو مع ذلك مجتهد في نصيحة علي بن بويه وإرشاده إلى صواب الرأي وإهداء الأخبار إليه ودلالته على المسالك والطرق وأقام لمؤنته وإنزاله من يزيح علته في الجميع حتى أضافه وجميع عسكره أربعين يوماً ولزمته مؤونة عظيمة يذكر أن مبلغها مائتا ألف دينار.
وأنفذ علي بن بويه أخاه أبا علي إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج منها أموالاً عظيمة وأثار ذخائر جليلة كانت للأكاسرة يتوارثها قوم هناك فزاد استخراجه على استخراج أخيه. وأنفذ ياقوت عسكراً ضخماً إلى الحسن بن بويه فواقعهم بالنفر اليسير الذين معه معه فهزمهم وصار موفوراً إلى أخيه علي بن بويه ثم اتفق أن تتم عليه مواطأة ياقوت ووشمكير ومرداويج وبلغه من ذلك ما أوجب أن يسير إلى كرمان فتوجه من
ص: 160
النوبندجان إلى اصطخر ومنها إلى البيضاء وياقوت يتبعه بجميع عسكره ويقفو أثره وانتهى بعلي بن بويه المسير إلى قنطرة كان الطريق عليها إلى كرمان فسبقه ياقوت إلى القنطرة وحال بينه وبين عبورها واضطره إلى الحرب.
وابتدأت الحرب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة سنة 22 وأصبحوا يوم الأربعاء على أشد ما تكون الحرب. فاستدعى على بن بويه أصحابه ليلة الخميس وأعلمهم أنه يترجل معهم ويقاتل كأحدهم ووعدهم ومناهم واستوثق منهم الإيمان في الثبات والجهاد والجد.
أما التدبير السيئ الذي استعمله ياقوت وتسرع فيه فإنه استأمن إليه من أصحاب علي بن بويه رجلان من وجوه الديلم فحين وقفت عينه عليهما أمر بضرب أعناقهم وتيقن الديلم أنه لا أمان لهم عنده فشحذ ذلك بصائرهم وجاهدوه جهاد المستقتلين . وأما الاتفاق الذي اتفق عليه فإنه باكر الحرب يوم الخميس وقدم على مصافه رجالة كثيرة من أصحابه يحاربون بمزاريق النفط والنيران فانقلبت الريح واشتدت للوقت فاحترق شيء من مصاف ياقوت وأكب الديلم على أولئك الرجالة فقتلوهم وانهزم الفرسان وزحف الديلم على تعبيتهم .
لما أشرف الديلم على سواد ياقوت عند هزيمته وهزيمة أصحابه طلب نشزاً من الأرض عالياً في طريقه فصعد إليها وركز عليها رأيته فاجتمع إليه نحو من أربعة آلاف .رجل. وظن أن الديلم يتسرعون إلى خزائنه ويشتغلون بالنهب فيضطرب نظامهم ويكرّ عليهم (وهذه لعمرى مكيدة طال ما صارت سبباً لظفر قوم بعد هزيمتهم )فقال لأصحابه : لا تفرقوا وتأهبوا للكرّة فإنها الظفر لا محالة وأحس على بن بويه بذلك فبرز أمام مصافه ونادى أصحابه وقال لهم : لا تبعدوا ولا تنقضوا تعبيتكم فإن الخصم واقف ينتظر اشتغالكم بالنهب ثم يعطف عليكم ولم يبق له غير هذه المكيدة. وأعلمهم أن الغنيمة لا تفوت فلما رأى ياقوت ثباتهم وامتناعهم من النهب واحترازهم من مكيدته مضى على وجهه منهزماً وملك علي بن بويه جميع ذلك السواد. ووجد لياقوت صناديق فيها برانس وقيود وما أشبه ذلك كان أعدها للأسارى فأشار جماعة من قوّاد علي بن بويه
ص: 161
بأن يجعل ذلك لأسارى رجال ياقوت وأن يجعل البرانس على رؤوسهم والقيود في أرجلهم ويشهر بهم في المعسكر ثم في البلد فأبى ذلك علي بن بويه وقال: بل تعدل عن هذا إلى العفو عمن أظفرنا الله بهم من أعدائنا ونشكر الله على هذه النعمة فإنه ادعى للمزيد وأبعد من البغي والطغيان .
ثم امتد إلى الزرقان يوم الجمعة وإلى الدينكان يوم السبت وتولّت المستأمنة والشحنة وأكابر الناس إليه وتتابعوا فتقبل الجميع وأحسن إليهم قولاً وفعلاً وصفح عن كل من بلغه عنه فحش في الخطاب أو إساءة في عمل وأحسن في سيرته حتى اطمأن إليه الناس وأمنه أعداؤه. وعسكر بظاهر شيراز ونادى فيها ببثّ العدل وأمان للناس من جميع ما يكرهون وأمر العامة بالانتشار في معائشهم والخروج إلى مصالحهم آمنين ففعل الناس ذلك .
ثم اضطرّ بعد ذلك إلى سيرة أخرى لكثرة مطالبات الجند واقتراحاتهم وبلغ من أمره ما سنكتبه في موضعه بمشيئة الله وعونه .
وفيها ورد كتاب أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وكان يتقلد أعمال الخراج والضياع بالبصرة والأهواز بتاريخ يوم الثلاثاء لأربع خلون من المحرم بأن الكتب وردت عليه بدخول أصحاب مرداويج أصبهان وأنه خرج من جملة مرداويج قائد جليل كان يتقلد ماه البصرة وفاز بمال جليل وهرب إلى أرجان يقال له علي بن بويه وأنه كتب إليه أنه في طاعة السلطان وهو يستأذن الوزير في ورود الحضرة أو النفوذ إلى شيراز لينضم إلى ياقوت مولى أمير المؤمنين .
وفي هذه السنة صار أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي توّج وسينيز في مراكب وخرجوا منها إلى البلد فلما بعدوا من المراكب أحرقها صاحب لياقوت كان يتقلد البلد ثم اجتمع مع أهل البلد وأوقع بالقرامطة وقتل منهم وأسر ثمانين رجلاً فيهم رجل يعرف بابن الغمر. فقدم رسول محمد بن ياقوت بهؤلاء الأسارى فأدخلهم مشهرين فوضع على رأس ابن الغمز منهم قروناً وكانوا على جمال بدراريع ديباج وبرانس حتى دخلوا دار السلطان فاعتقلوا بها .
وفيها قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل وأبا السرايا نصر بن حمدان .
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في قتله إسحاق أنه كان أراد شراء الجارية المعروفة برتبة قبل الخلافة وكانت موصوفة بالجمال والغناء فزايده إسحاق بن إسماعيل فيها واشتراها . وسبب قتله أبا السرايا أنه كان أراد شراء جارية أخرى قبل الخلافة فاشتراها أبو السرايا. فحكى ثابت
ص: 162
عن خادم حضر قتلهما قال : جاء القاهر فوقف على رأس بئر كانت في موضع ذكره ثم استحضر إسحاق فأحضر وهو مقيَّد فأمر بطرحه في تلك البئر فرمينا به فيها بقيده وهو حي. ثم أمر بإحضار أبي السرايا فأحضرناه وهو مقيَّد فأمر بطرحه في تلك البئر فما زال أبو السرايا يتضرع إليه ويسأله العفو وهو لا يلتفت إليه وتعلق بسعف نخلة كانت بقرب البئر فأمرنا بضرب يده فضربناها فخلى عن السعفة ودفعناه في البئر ثم أمر يطم البئر فطرحنا عليهما التراب حتى امتلأت وهو واقف فسبحان الله العظيم ما أعجب أمر المقادير ! أراد مونس لما قتل المقتدر أن ينصب في الخلافة أبا العباس بن المقتدر فما زال إسحاق بن إسماعيل مجتهداً قائماً قاعداً إلى أن عدل بها إلى القاهر بالله وهو لايعلم أنه إنما يسعى في حتف نفسه ليتم الأمر المقدور .
وفيها حضر دار سلامة الحاجب أبو بكر بن مقسم وقيل إنه ابتدع قراءة لم تعرف للقرآن. وأحضر ابن مجاهد والقضاة وناظروه فاعترف بالخطأ وتاب فأحرقت كتبه.
وفيها خرج رجل من الصغد يعرف بأبي علي محمد بن إلياس واجتاز بكرمان حتى بلغ باب اصطخر وأظهر لياقوت أنه يريد أن يستأمن إليه ثم عرف ياقوت أن ذلك حيلة منه فخرج إليه ياقوت فلم يثبت له ابن إلياس وانكفأ راجعاً إلى كرمان وصار إليه من قبل صاحب خراسان ماكان بن كاكي الديلمي فواقعه وانهزم ابن إلياس وصار إلى أعمال فارس فواقعه ياقوت وانهزم ابن إلياس .
وفيها استوحش الحجرية والساجية من القاهر فدبروا عليه وتم لهم القبض عليه .
كان السبب في ذلك أن أبا علي بن مقلة كان يراسل الساجية والحجرية في استتاره ويضرّ بهم على القاهر ويوحشهم منه والحسن بن هارون يفعل مثل ذلك ويلقاهم بالليل وهو يتزيا بزي السؤال وفي يده زبيل وفي وقت بزي النساء إلى أن شحذ نياتهم وجمع كلمتهم على قصد القاهر وألفتك به وحذرهم منه وعرَّفهم أنه قد بنى لهم المطامير واحتال من جهة منجم كان لسيما حتى لقّنه أن يقول لسيما من جهة النجوم أنه يخاف عليه من القاهر ويحذره منه وأعطى الحسن بن هارون هذا المنجم مائتي دينار فملأ عينه حتى مكن في نفس سيما الخوف من القاهر وكان سيما يقبل منه ويستحسن إصاباته ثم دس إليه من جهة منامات يدعيها أشياء حتى اشتدَّ خوف سيما من القاهر. فلما كان يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر وقع بين الغلمان الحجرية وبين الغلمان الساجية خلاف وذكر الساجية أن القاهر يريد أن يفتك بسيما وهو رئيس الساجية وخرج سيما من دار السلطان مبادراً إلى داره واجتمع إليه الساجية. بأسرهم والقوَّاد في السلاح وأقاموا عنده إلى آخر النهار ثم انصرفوا وباكروه فاجتمع قوّاد الساجية مع قواد الحجرية
ص: 163
وتحالفوا أن تكون كلمتهم واحدة ثم استحلفوا باقي الحجرية والساجية واتصل ذلك بالقاهر وبالوزير وبالحاجب فوجهوا من يسألهم عما أوحشهم فقالوا : قد صح عندنا أن القاهر عزم على القبض على سيما وعلى حبسنا في مطامير قد بناها لنا . وكان الفضل بن جعفر يتولى بناء مطامير من ماله ويحتسبها من مال مصادرة عليه فعرّف القاهر ما يقولونه فتقدّم إلى سلامة بالخروج إليهم وحلف القاهر له على أنه لم يفعل ذلك ولا هم به وإنما بنى حمامات رومية للحرم وخرج سلامة لذلك .
وخلا الخصيبي وعيسى المتطبب بالقاهر فذكرا له أن الآفة في هذا كله الفضل بن جعفر وأنه هو الذي قال للساجية والحجرية ذلك لأنه شيء لم يعرفه غيره. وكان سلامة أشار بالفضل حتى أعفي من المصادرة عناية منه واقتصر منه على ما ينفقه على المطامير فتقدم القاهر بالقبض على الفضل بن جعفر وطالبه الوزير الخصيبي بحضرة عيسى بثلاثمائة ألف دينار فقال الفضل: لو كنتُ ذا مال لكانت لي ضياع ودور وخدم ومروءة بحسبها . فاغتاظ الخصيبى وظن أنه قد عرض به وخاطبه بمخاطبة فيها جفاء فاستوفى الفضل عليه الجواب فهم الوزير الخصيبي أن يوقع به فقال سابور الخادم : أمرتُ بصيانته وألا يلحقه مكروه. وردَّه إلى دار السلطان وحبس في الموضع الذي كان إسحاق ابن إسماعيل محبوساً فيه.
وورد يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأخرى كتاب أبي جعفر الكرخي وكتاب أبي يوسف عبد الرحمن بن محمد الذي كان يكتب للسيدة بأن أصحاب ابن رائق كبسوا سوق الأهواز وأنهم استولوا على سائر عمل الأهواز وصار كل من يتقلد المعاون في أعمال الأهواز من قبله سوی محمد بن ياقوت فإنه كان يتقلد المعاون بالسوس وجنديسابور فلم ينفذ لا بن رائق لأنه نظيره فكتب الخصيبي رقعة بما ورد عليه من ذلك إلى القاهر. وكان القاهر قد ابتدأ بشرب فدعا بسلامة وأقرأه الكتاب وقال له امض إلى الخصيبي واجتمع معه على التدبير في ذلك . وعاود شربَهُ فمضى سلامة وعيسى معه إلى الخصيبي وأطالا عنده إلى نصف الليل ولم يتقرر لهم رأي على شيء فانصرف سلامة إلى منزله لعلمه بأن القاهر قد سكر ولا فضل فيه باقي ليلته وصدر نهار الغد وبكر سلامة إلى الخصيبي فوجد عنده عيسى المتطبب وبلغهم خبر الساجية والحجرية واجتماعهم لقصد دار السلطان فتقدّم الخصيبي إلى عيسى بأن يبادر إلى دار السلطان ويعرف القاهر الخبر ليتحرّز وإن وجده نائماً أنبهه فمضى عيسى واجتهد في أنباه القاهر فلم تكن فيه حيلة وقيل له كان يشرب إلى أن طلعت الشمس وأنه لو أنبه لما فهم عنه ما يقوله لشدة سكره.
وكانت الحجرية والساجية قد اجتمعوا عند سيما وتحالفوا على اجتماع الكلمة فی
ص: 164
كبس دار الخليفة والقبض على القاهر فقال لهم سيما إن كان قد صح عزمكم على هذا فقوموا بنا الساعة حتى نمضيه فقالوا بل نؤخره إلى غد فهو يوم الموكب ويظهر لنا فقبض عليه . فقال لهم سيما إن تفرقتم الساعة وأخرتموه إلى ساعة أخرى اتصل الخبر به فتحرز ودبر علينا فأهلكنا كلنا فقبلوا رأيه وركبوا معه إلى دار السلطان بالسلاح فرتب سيما على كل باب من أبوابها غلاماً من الساجية وغلاماً من الحجرية ومعهما قطعة وافرة منهما فلما أحكم أمر الأبواب كلها وقف على باب العامة وأمر بالهجوم فهجموا كلهم من جميع الأبواب في وقت واحد. وبلغ سلامة والخصيبي الخبر وهما مجتمعان في دار الخصيبي فخرج الخصيبي في زي امرأة واستتر وانحدر سلامة إلى مشرعة الساج واستتر.
ولما دخل الساجية والحجرية الدار لم يدخلها سيما وأقام بمكانه من باب العامة إلى أن قبض على القاهر فلما قبض عليه دخل .
ولما علم القاهر بحصول الغلمان في الدار انتبه من سكره وأفاق وهرب إلى سطح حمام في دور الحرم فاستتر فيه ولما دخل الغلمان إلى المجلس الذي كان فيه لم يجدوه وأخذوا من كان بالقرب مثل زيرك الخادم وعيسى المتطبب واختيار القهرمانة فوكلوا بهم. ووقع في أيديهم خادم صغير فضربوه بالطبرزينات حتى دلهم على موضعه فدخلوا فوجدوه على سطح الحمام على رأسه منديل دبيقي وفي يده سيف مجرد واجتهدوا به على سبيل الرفق أن ينزل إليهم وقالوا: نحن عبيدك وما نريد بك سوءاً وإنما نتوثق لأنفسنا فأقام على الامتناع من النزول إلى أن فوق إليه واحد منهم بسهم وقال : إن لم تنزل وضعته في نحرك . فنزل حينئذٍ وقبضوا عليه وكان ذلك ضحوة نهار يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الآخرة سنة 322 وصاروا به إلى موضع الحبوس وقصدوا البيت فيه طريف السبكري ففتحوه ووجدوا فيه طريفاً فكسروا قيده وأطلقوه وأدخلوا القاهر إلى موضعه وحبسوه فيه ووكلوا بالباب جماعة من الساجية والحجرية ووقع النهب ببغداد وانقضت خلافة القاهر بالله .
ص: 165
واستدلَّ الغلمان الساجية والحجرية حين قبضوا على القاهر على الموضع الذي فيه أبو العباس بن المقتدر فدلهم عليه خليفة لزيرك الخادم ففتحوا عنه الباب ودخلوا عليه وسلَّموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير وبايع له قواد الساجية والحجرية وطريف السبكري وبدر الخرشني ولقب الراضي بالله وتقدم بإحضار علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأحضرا فوصلا إليه وشاورهما واعتمد عليهما فيما يعمل . فعرّفهُ علي أبن عيسى أن سبيله أن يعقد لواء لنفسه على الرسم في ذلك فاستحضر اللواء وعقده بيده ثم أمر بالاحتفاظ به. وأشار عليه بتسلم خاتم الخلافة فسلمها من كان في يده وهو خاتم فضَّة فصه من حديد صيني وعليه كتابة ثلاثة أسطر : محمد رسول الله . وأشار عليه بتسلم خاتم الخلافة من القاهر بالله فوجّه إليه الراضي ثم فتح عنه الباب وطالبه بخاتمه فسلَّمَهُ وكان فصَّهُ ياقوتاً أحمر وعليه منقوش : بالله محمد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثقُ .
وصار به إلى الراضي فأمر أن يسلَّم إلى حاذق من حُذاق الخزانة ليمحو ذلك النقش منه ففعل ذلك ونقش له خاتم آخر عليه : الراضي بالله .
وتقدّم علي بن عيسى بأن يُحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمد والقاضي أبو محمد بن أبي الشوارب والقاضي أبو طالب البهلول وجماعة من الشهود وممن يقرب من دار السلطان فحضروا فحكى القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي ابن أمّ شيبان أنه لما استدعي القاضي أبو الحسين عند القبض على القاهر بالله وجم وجمع أطرافه وأخذ معه خمسين ديناراً في حجزة سراويله استظهاراً واستخلفه في داره ومضى وانصرف بعد أن مضى أكثر الليل إلى منزله قال فقال لي : أنا أعرفُ ضيق صدرِك وتطلُعك إلى معرفة حديثنا فاسمعه اعلم أني مضيتُ فأدخلتُ إلى حجرة فيها القاهر بالله ومعي ثلاثة من الشهود وطريف السبكري فقال له طريف : تقول يا سيدي. وكرّر ذلك دفعات فقال له : اصبر . ثم التفت إليَّ فقال : ألست تعرفني؟ فقلتُ : بلى . فقال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد بالله رحمة الله عليه ثم القاهر بالله بيعتي في عنقك وأعناق أهلي وسائر الأولياء ولستُ أبرئكم منها ولا أحلكم بوجه ولا سبب فانهضوا : فقمنا فلما بعدنا عذلتُ طريفاً ولمتُه ملاماً كثيراً وقلتُ: أي رأي كان إحضارنا إلى رجل لم يوطّأ ولم يؤخذ خطه ويشهد عليه الكتاب والجند؟ كان ينبغي أن تقدم ذلك ثم تحضرنا له.
ص: 166
وعدل بنا إلى علي بن عيسى فسألنا عما جرى فحدثناه به فقطب وجهه ثم قال : يخلع ولا يفكر فيه فإن أفعاله مشهورة وأعماله معروفة . وما يستحقه غير خاف فقلتُ له : بنا لا تعقد الدول وإنما يتم بأصحاب السيوف ونصلح نحن ونراد لشهادة واستيثاق وقد سمعتُ من الرجل ما حدثتك به ولم يكن الرأي أن يجمع بيننا وبينه إلا بعد إحكام أمره فتغاضب وحضر وقت الصلاة فقمنا فقال القاضي أبو الحسن محمد بن صالح فسمعتُ ذلك منه وبكرنا إلى دار السلطان فقيل له إن القاهر سمل البارحة .
فلما حضر أبو علي بن مقلة استُدعينا وكنتُ مع القاضي أبي الحسين وثلاثة من الشهود واجتمعنا بحضرة الراضي بالله فأومأ إلى مفلح الأسود فأحضر ثلاثة من إخوته فأجلسهم عن يمينه وأخرج أبو علي بن مقلة قرطاساً من كُمّه ونشره فاستحلفهم على البيعة. ثم أومأ الراضي إلى مفلح إيماء ثانياً فأحضر اثنان آخران من إخوته فأجلسهما عن شماله وأخذت البيعة عليهما . ثم أعطى أبو علي القرطاس القاضي أبا الحسين فأخذ عليه البيعة وكتبنا خطوطنا في ذلك القرطاس على من بايع وانصرفنا .
وكان سيما أشار بسمل القاهر تلك الليلة فستر الراضي ذلك عن علي بن عيسى واستحضر بختيشوع بن يحيى المتطبب وسأله عمن يحسن أن يسمل فذكر له رجلاً فأحضره وسمل القاهر.
وما زال علي بن عيسى يوم الأربعاء إلى الليل يأخذ البيعة للراضي بالله على القضاة والقُوّاد وكتاب الدواوين والغلمان وطالبه الراضي أن يتقلد الوزارة فامتنع وذكر أنه لا يفي بالأمر فأشار سيما بأبي علي بن مقلة قال : هو يضمن أن يقوم بسائر الأمور. فقال علي بن عيسى قد أشرتُ به على أمير المؤمنين وما يصلح للوقت غيره وكان علي ابن عيسى يسأل في الفضل بن جعفر فأطلق بمسألته ووقع الراضي إلى أبي علي بن مقلة فبكر يوم الخميس لسبع خلون من جمادى الأولى سنة 322 وحضر علي بن عيسى وأخوه عبد الرحمن ووقفا بين يديه يستحلفان من يحضر ويأخذان البيعة عليه وتأخر الفضل بن جعفر والحسن بن هارون وخلع على أبي علي بن مقلة خلع الوزارة وركب معه سيما وطريف السبكري وسائر القوَّاد والغلمان والخدم الخاصة. وظهر الحسن بن هارون وأبو بكر بن قرابة وصاروا إلى أبي علي بن مقلة ثم انصرفوا إلى منازلهم.
واستأنف أبو علي بن مقلة سيرة حسنة وقال : قد عاهدتُ الله في استتاري ألا أسيء إلى أحد ونذرت نذوراً فوفى وأطلق كلّ من كان في حبس كان في حبس القاهر من كاتب وجنديّ وأطلق عيسى المتطبب وإسحاق بن علي القنائي وكان الراضي أنفذهم إليه. ثم تعقب الرأي في عيسى المتطبب فصادَرهُ وكان القاهر قد اعترف بوديعة أودعها إيَّاهُ من العين والورق والطيب فاستخرج كله منه وسأل في أمر أبي العباس الخصيبي فكتب له
ص: 167
أمانٌ وقّع الراضي فيه بخطه وتسلَّمهُ الوزير أبو علي وأنفذه في درج رقعة منه بخطه إلى الخصيبي وخاطبه أجمل مخاطبة وظهر الخصيبي فقلده دواوين الضياع الخاصة والمستحدثة والعباسية والفراتية والمقبوضة عن أم موسى ونذير وشفيع اللؤلؤي وضياع المخالفين وضياع البرّ وضياع الجدّة والدة المقتدر وديواني زمام المشرق والمغرب وأجرى عليه لنفسه سوى أرزاق كتابه في هذه الدواوين ألف دينار في كلّ شهر وقلّد الراضي بدراً الخُرشي الشرطة بمدينة السلام .
ولما تقلّد الراضي الخلافة وردت كتب أبي جعفر الكرخي وأبي يوسف كاتب السيدة بتخلصهما من الأهواز إلى نواحي دور الراسبي هاربين من محمد بن رائق. وكان بنو البريدي يستترون في أنهار الأهواز نهر بعد نهر ووصل الخبر إلى ابن رائق وهو بالباسيان أن القاهر خلع من الخلافة وتقلدها الراضي بالله وأنه قد ندب للحجبة فرجع منكفئاً إلى واسط ولم يدخل البصرة ورجع الكرخي إلى البصرة ثم عاد إلى غيلة بالأهواز فنظر وعمل إلى أن ضمن ابنُ مقلة بني البريدي أعمال الأهواز.
كنا كتبنا فيما تقدَّم أن أبا الحسن علي بن بويه لحق بمرداويج وهو في حدود طبرستان فقوده وضمّ رجالاً إليه فلما أنفذه إلى الري وكان أخوه وشمكير بها اتفق أن عامل الكرج طمع في مالها فأنفذ علي بن بويه ليتلافى أمر الكرج ومعه دون مائة رجل من أصحابه فأقام بها وتلفق إليه من الأطراف ديلم فصار في نحو ثلاثمائة رجل فأنكر مرداويج أمره وكاتبه بالانصراف فتأخر ورُوسِل فتعالل وكان قد استخرج من مال الكرج نحو خمسمائة ألف وفوقها في مدّة يسيرة واستوحش مرداويج وهدده ففزع وأخذ مرداويج ووشمكير في تدبير القبض عليه .
وكان علي بن بويه قد استخلف بحضرة وشمكير وهو بالريّ عند خروجه خروجه أحمد حاجبه(وهو والد أبي إسحاق الطبري الشاهد) في هذا الوقت فكتب إليه أحمد بما فيه مرداويج ووشمكير من الخوض في سيئه وكان مرداويج قد صار إلى عند أخيه بالري بهذا السبب ولتسريب الجيوش إليه فخرج من الكرج إلى أصبهان خائفاً ليستأمن إلى المظفر بن ياقوت وكان عند المظفر بن ياقوت في الوقت سبعمائة رجل من الديلم ووجهم فناخسره والد الحسن الديلمي الذي كان ببغداد ونظر في الشرطة بها فلما قرب من أصبهان خرج إليه المظفر ليمنعه ومعه نحو أربعة آلاف رجل فتخاذل أصحابه ووقع بين أصحابه من الديلم خلاف لأن فناخسره كان له عدو من الديلم يضاره فتقاعد المولدون أيضاً وافترقت كلمتهم وانهزم المظفر بن ياقوت إلى فارس وبها أبوه ياقوت .
واستأمن إلى علي بن بويه نحو من أربعمائة رجل من الديلم فصارت عدته سبعمائة رجل
ص: 168
وملك أصبهان وهو في ثلاثمائة رجل . وبلغ الخبر مرداويج فسير أخاه وشمكير لطلبه في الوقت لما قرب من أصبهان رحل عنها علي بن بويه وصار إلى أرجان وكان قد تهيّبها لحصوله بين ياقوت وهو بفارس وبين ابنه محمد وهو برامهرمز فصُوّر عنده بالمهانة واضطراب الرأي والرجال فدخل أرجان واستوطنها وكاتب ياقوت واستخرج من مال أرجان خراجاً نحو ألفي ألف درهم ووصل مع ذلك إلى ودائع ونظم أمره للمسير إلى كرمان وبها ماكان بن كاكي الديلمي ليستأمن إليه فلم يجبه ياقوت عن كتابه ولم يقبله فكاتبه علي بن بويه وخاطبه بالإمارة والتعبد وعرّفه أنه يسأله أحد أمرين إما أن يقبله أو يأذن له في المصير إلى باب السلطان فلما لم يقبله ياقوت وسار إليه مع ابنه المظفر ليحاربه سار علي بن بويه إلى النوبندجان وقدّر أن تكون الحرب بها وقدّم كتبه إليه وطلب منه الأمان واستعفاه من الحرب فحذره ياقوت وخشي إن يغتاله وكان قيل له أن علي بن بويه يريد الحيلة عليه ليحصل بفارس ويخدعه عنها وكان علي بن بويه قد حصل أيام مقامه بكازرون وبلد سابور وذلك عند خروجه من أرجان نحو خمسمائة ألف دينار مع كنوز كثيرة وجدها فقويت شوكته وزاد رجاله فلما صار إلى النوبندجان قام بأمره أبو طالب زيد بن علي ونكفل بنفقاته فلزمه عليه في كل يوم خمسمائة دينار وأقام عنده مدة فلما خرج إليه ياقوت تهيبه هيبة شديدة وذلك أن جيش ياقوت كانوا سبعة عشر ألف رجل من جميع الأصناف ساجية وحجرية والرجالة المصافية وغيرهم من الديلم وأصناف العسكر وعلي بن بويه في ثمانمائة رجل فسأله أن يفرج له عن الطريق لينصرف عنه ويجتاز إلى حيث يجتاز فمنعه ياقوت وطمع فيه لقلة عدده ولوفور ما وصل إليه من المال. فلم يثبت له علي بن بويه وسار إلى البيضاء فمنعه ياقوت وواقعه على باب اصطخر يومين فكانت لياقوت فاشتد طمع ياقوت فيه وزاد تهيب علي بن بويه وحنق عليه المسألة في الإفراج له لينصرف عنه فامتنع عليه فلما كان يوم الخميس الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة 322 واقعه مستقتلاً.
فحدثني من شهد الوقعة من الديلم أنه ترجل ستة نفر من الديلم وصفوا تراسهم وتقدموا زحفاً واستأخر من واجههم من أصحاب ياقوت فاشتلموا وتقدموا وحمل أبو الحسين أحمد بن بويه في نحو ثلاثين رجلاً فانهزم ياقوت وجميع من معه وذلك وقت الظهر من ذلك اليوم وانصرف إلى شيراز. فقدر علي بن بويه أن انصرافه مكيدة منه لا هزيمة فتوقف في موضعه ولم يتبعه إلى وقت العصر فلما صح عنده أنها هزيمة سار إلى شيراز فنزل أول منزل قرية يقال لها الزرقان على ستة فراسخ من شيراز وبكر منها يوم السبت فنزل قرية يقال لها الدينكان وعنده أنه سيحارب عن البلد ويدفع عنه لأن الجيش الذي انهزم عنه كانوا قد انصرفوا عنه موفورين لم يحاربوه ولا وقفوا بين يديه. فنزل
ص: 169
على فرسخ من شيراز في مضاربه وبلغه أن ياقوتاً وعلي بن خلف بن طناب قد خرجا عن شيراز والبلد شاعر خال فوجه بجماعة من الديلم وأخلاط من الجند إلى شيراز للمقام بها وضبطها فبادر إليهم العامة بشيراز مع جماعة من الرجالة السودان ومماليك للثناء. وكان الديلم قد تفرقوا في الأسواق فقتلوا منهم نحو سبعين رجلاً فبلغ علي بن بويه ذلك ووجه بأخيه أبي الحسين أحمد وكان سنه إذ ذاك تسع عشرة سنة وهو أمرد وهو حينئذ صحيح اليدين وأنفذ معه ثمانين رجلاً من الديلم فقتل من السودان نحو ألف رجل ونادى في البلد ألا يقيم فيه أحد من أصحاب ياقوت ولا من الجند وأن من وجد بعد النداء فقد أباح دمه وماله فلم يبق في البلد أحد منهم .
ودخل علي بن بویه شیراز واتفقت له بها ضروبٌ من الاتفاقات عجيبة كانت سبباً لثبات ملكه فمنها أن أصحابه اجتمعوا وطالبوه بالمال ونظر فإذا القدر الذي معه لا يرضيهم وأشرف أمرُهُ على الانحلال فاشتغل قلبه واغتم غماً شديداً. فبينما هو مفكر قد استلقى على ظهره في مجلس ياقوت من داره وقد خلا فيه للفكرة والتدبير إذ رأى حية قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعاً آخر منه وخاف أن تسقط عليه وهو نائم فدعا بالفراشين وأمرهم إحضار سُلم وإخراج تلك الحية ففعلوا.
ولما صعدوا وبحثوا عنها وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين فعرفوه ذلك فأمرهم بفتحها ففتحت ووجد فيها عدة صناديق فيها من المال والصياغات خمسمائة ألف دينار فاستوى جالساً وحمل إلى بين يديه ذلك المال فسرّ به وأنفقه في رجاله وثبت أمرُهُ بعد أن أشفي على الانحلال.
وحكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي أن علي بن بويه أراد قطع ثياب وسأل عن خياط حاذق فوصف له خياط لياقوت فأمر بإحضاره وكان أطروشياً ووقع له أنه قد سعى به إليه في وديعة كانت لياقوت وأنه طلبه بهذا السبب فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثنا عشر صندوقاً لا يدري ما فيها فعجب علي بن بويه من جوابه ووجّه معه بمن حملها فوجد فيها أمراً عظيماً من المال والثياب .
والذي كان يكتب لعلي بن بويه في ذلك الوقت رجل نصراني من أهل الري يعرف بأبي سعد إسرائيل بن موسى ثم قتله بعد مدة بسبب سنفرد له خبراً واستكتب مكانه أبا العباس أحمد بن محمد القُمّى المعروف بالحناط وسفر الأمير أبو الحسن علي بن بويه بعد تمكنه من البلد في أن يقاطع السلطان عنه ويتقلده من قبل الراضي فأجيب إلى ذلك وقنع منه بما بذل وهو في كل سنة بعد جميع المؤن والنفقات الراتبة والحادثة ثمانية آلاف ألف درهم خالصة للحمل. وكتب إلى الوزير أبي علي بن مقلة يحلف له بأغلظ الأيمان على موالاة الوزير أبي علي بن مقلة وابنه أبي الحسين
ص: 170
ومعاضدتهما وما يقال في هذا المعنى وأكَّدهُ. فأنفذ إليه الوزير أبو علي بالخلع واللواء في شؤال سنة 322 ورسم للرسول وهو أبو عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي الكاتب ألأ يسلّم اللواء والخلع إلا بعد أن يتسلّم المال ووقف عليه . فلما قرب المالكي من البلد تلقاه علي بن بويه على بعد وسار معه إلى ظاهر شيراز وطالبه بأن يسلم إليه اللواء والخلع فعرفه ما رُسم له وأنه لا يمكنه من ذلك إلا بعد تسلم المال الذي ووقف عليه فخاشنه علي بن بويه وأزهمَهُ حتى سلّم إليه الخلع ولبسها ودخل بها إلى شيراز وبين يديه اللواء وأقام المالكي مدّة يطالب بالمال فلم يدفع إليه شيئاً بتة وحصل على المواعيد والمطل والتوقف ثم اعتل المالكي ومات بشيراز وحمل تابوته إلى بغداد في سنة 23.
وانفتح لعلي بن بويه وجوه الذخائر والودائع ووزيره أبو سعد النصراني فضمن له بقايا مال السنة أبو الفضل العباس بن فسانجس وابن مرداس وأبو طالب زيد بن علي وغيرهم من وجوه البلد بأربعة آلاف ألف درهم واستخرجت له الذخائر وانفتحت له كنوز وودائع عمرو بن الليث ويعقوب بن الليث وياقوت وابنه وعلي بن خلف ورجال السلطان وكثرت أموال علي بن بويه وعمرت خزائنه واستأمن إليه رجال ماكان بن كاكي من كرمان وكثر جمعه واستفحل أمره وانتهى خبره إلى مرداویج فقامت قيامته ووافي أصبهان وبها وشمكير أخوه لأنه لما خلع القاهر من الخلافة وتأخر محمد بن ياقوت عنها وبقيت سبعة عشر يوماً خالية أعاد مرداويج أخاه إليها فلما استقر بها وورد مرداویج لتدبير علي بن بويه عند استعصائه عليه ردّ أخاه وشمكير إلى الري لخلافته عليها وأنفذ شيرج ابن ليلى اسفسهلاره مع حاجبه الشابشتي ومعهما ألفان وأربعمائة رجل من الجيل والديلم ووجوه القوَّاد مثل بكران وإسماعيل الجيلي إلى الأهواز وكان غرضه أن يملكها فيأخذ الطريق على عليّ بن بويه ويحجز بينه وبين السلطان حتى إذا قصده بعد ملكه الأهواز لم يكن له منفذ إلا إلى تخوم كرمان والتيز ومكران وأرض خراسان .
ولما نزلت عساكر الجيل ايذج خاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين علي بن بويه فوافى الأهواز ومعه ابنه وقلده السلطان أعمال الحرب والمعاون بها وارتسم أبو عبد الله أحمد بن محمد البريدي بكتابة ياقوت مصافة إلى ما إليه من أعمال الخراج والضياع بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف أخاه وياقوتاً بالحضرة. وحصل رجال مرداويج برامهرمز في غرّة شوال من سنة 322 وصلوا العيد بها وخطبوا لمرداويج وساروا إلى الأهواز فعسكر ياقوت بقنطرة أربق وقطعها والماء الذي تحت هذه القنطرة حاد الجرية. فأقام رجال مرداويج بإزاء ياقوت أربعين يوماً لا يمكنهم العبور إليه وسار ياقوت إلى بغداد على طريق دور الراسبي وسار علي بن خلف بن طناب في البحر من ساحل مهروبان إلى البصرة. ورحل جيش مرداويج عن قنطرة أربق وضمن لهم طائفة من
ص: 171
العيّارين أن يعبروا بهم نحو المسرُقان بعسكر مكرم حتى يصير الطريق بينهم وبين الأهواز جدداً فعدلوا إليها. واجتمع البريدي وياقوت فتشاوروا وقرّر الرأي على إنفاذ مونس غلام ياقوت في أربعة آلاف رجل إلى عسكر مكرم لدفعهم عن عبور المسرقان وكانا حسبا أن القوم بعد منزلة أربعين يوماً قد ضجروا وانصرفوا وأنهم لا يلبثون بعسكر مكرم إلا يومين أو ثلاثة فلما حصلوا بها عملوا أطوافاً من خشب وشاشاً من قصب وعبر منهم خمسون رجلاً عليها فانهزم مونس لوجهه وعاد إلى مولاه فأخبره الخبر. وكان قد ورد إليه مددّ من بغداد وخيلٌ عظيمة فرحل لوقته من قنطرة أربق بعد اجتماع الجيل إليه بيومين وصاروا بأجمعهم إلى قرية الريح وهم بالحقيقة قد حصلوا من أمرهم على الريح. وصار ياقوت ومن تبعه وهم عدة وافرة كثيرة إلى باذاورد ومنها إلى واسط فأفرج له محمد بن رائق عن غربيها فنزله بعسكره وعرف علي بن بويه حصول عسكر مرادويج بالأهواز وشرح ما جرى وتملق لكاتب مرداويج واستصلحه وأقام الخطبة وواقفه على مال وأنفذ إليه رهينة فسكن مرداويج وقلّد علي بن بويه أرجان بعد انصراف ياقوت وعلي بن خلف عنها إبراهيم بن كاسك.
واستقرت كتابة ياقوت لأبي عبد الله البريدي فورد عليه الخبر وهو بالبصرة في بستان المؤمًا يريد المسير في طياره إلى واسط بقتل مرداويج في الحمام بأصبهان فأنفذ للوقت أبا عبد الله بن جني الجرجرائي إلى الأهواز بخلافته عليها وقال له : اقصد ظاهر البلد بل أقم على فرسخ منه فإذا صح عندك خروج الجيل والديلم فأدخله واثبت عند دخولك الفرسان والرجالة فإني أنفذ من واسط أبا الفتح بن أبي طاهر وأبا أحمد الجستاني ألف رجل لضبط البلد وكور الأهواز . ثم وافى أبو علي غلام جوذاب كاتب البريدي في طريق الماء وترتب ابن أبي طاهر بالأهواز وأبو أحمد الجستاني بعسكر مكرم ووافي إبراهيم بن كاسك من أرجان إلى رامهرمز طمعاً في الأهواز لما خلت فكاتبه علي بن بويه بالتوقف وألا يبرحها حتى يمده بالجيش فمن قبل ورود الجيش عليه من فارس ما وافى ياقوت إلى عسكر مكرم على طريق السوس فلما بلغ إبراهيم بن كاسك خبره رحل من رامهرمز إلى أرجان. وكانت مع ياقوت قطعة من الديلم والأتراك والخراسانية فظن أنهم يثبتون وأنه مستظهر بهم ووافاه أبو عبد الله البريدي والتقيا بعسكر مكرم وأنفق فيه وفي رجاله ثلاثمائة ألف دينار على يد ابن بلوى وابن سريج المنفقين وسيرهم إلى أرجان ووافاهُ علي بن بويه وحاربه بها فانهزم یاقوت هزيمة ثانية لم يفلح بعدها ولا شد منها حزاماً ولم ينفعه عدد العجم والديلم ولا عجب من أمر الله وتبعه علي بن بويه إلى رامهرمز وخيف على الأهواز منه فراسله أبو عبد الله البريدي في الصلح فاستجاب وكاتب الوزير أبا علي ابن مقلة فيما قرره من الصلح فعرضه على الراضي بالله فأمضاه. فانصرف علي بن بويه
ص: 172
إلى شيراز وعقدت فارس على عليّ بن بويه بما ذكرناه ونفذ إليه أبو عيسى المالكي باللواء والعهد وكان من أمره ما قدّمتُ ذكره .
كان السبب في ذلك أن أبا سعد كان مكيناً عند علي بن بويه يتبرك به ويكرمه جداً وكان يقود الجيش وله غلمان أتراك ولبس القباء والسيف والمنطقة وكان قد حارب في وقت ياقوتاً فهزمه فكان أبو العباس الحناط القمي يضرب عليه دائماً ويجتهد في إفساد رأي صاحبه فيه فلا يقبل منه وينهاه عن ذكره فلا ينتهي إلى أن قال يوماً وقد أكثر عليه في الإغراء به يا هذا إن هذا الرجل صحبني وحالي صغيرة وقد بلغتُ ما ترى ولستُ أدري هل ما وصلت إليه بدولته أم بدولتي وليس إلى تغيير أمره طريق فإياك أن تعاودني فيه . فما أغنى ذلك منه ولا أنتهي عن الوقيعة فيه وثلبه .
وكان بين أبي سعد هذا وبين حاجب لعلي بن بويه يقال له خطلخ (وإليه مع الحجبة رئاسة الجيش) عداوة فاتفق إن دعى أبو سعد دعوة عظيمة دعا فيها علي بن بويه والقواد وأنفق فيها في الخلع والحملان ما له قدر كثير ودعا خطلخ فلم يستجب إلى المصير إليه واجتهد به فلم يكن له فيه حيلة وأصبح أبو سعد من غد يوم الدعوة فأقام على أمره ودعا من يأنس به وانتبه خطلخ من نومه وهو مغتاظ يزعم أنه لا بد له من أن يركب إلى أبي سعد فيقتله لأنه رأى في نومه أبا سعد يريد قتله فاجتهد به خواصُهُ في أنيؤخر ذلك فامتنع وحمل في خفه دشنيا وركب. وقيل لأبي سعد إن خطلخ قد ركب على أن يجيئه فأنكر ذلك لأنه كان دعاه فامتنع فلم يعرف لمجيئه إليه بغير استدعاء وجهاً فاستعد ليستظهر وقال لغلمانه : تأهبوا بالطبرزينات وكونوا مستترين في المجالس حوله فإن أنكر من خطلخ أمراً صاح بهم فخرجوا ووضعوا عليه. وحضر خطلخ فتلقاه أبو سعد وجاء حتى جلس وأخذ يتجنّى ويُعربد إلى أن ضرب يده إلى خفه وأخرج الدشني فصاح أبو سعد بالغلمان فخرجوا بالدبابيس والطبرزينات ووضعوا على خطلخ ووقع في رأسه دبوس فدوّخه وسقط وقدّر أنه مات وحمل إلى منزله فعاش يومين ومات. فبادر أبو العباس الحناط إلى الأمير في الوقت فوجده نائماً فقال للغلمان انبهوه فلم يجسروا فصاح وجلب إلى أن أنبهه ودخل إليه وقال له إن أبا سعد قتل حاجبك خطلخ. فلم يصدّقه وانتهره فقال : وجه وانظر فورد عليه الخبر بصدقه فاستعظم ذلك ووجم ساعة. ودخل أبو سعد فلم يظهر له أنه أنكر شيئاً ولا أنه استوحش وسأله عن السبب فيما فعله فعرّفه الصورة واستشهد من حضر فاستصوب ما فعله . وخاف أبو سعد ووجد أبو العباس الحناط فرصته وأقبل يقول : هو ذا يأخذ البيعة على القواد وهو خارج
ص: 173
عليك لا محالة. فوجه الأمير إلى أبي سعد فأنسه غاية التأنيس وحلف له إيماناً مؤكدة على ثقته به وأنه لا يلحقه سوء من جهته. واتفق إن أخرج أبو سعد صناديقه من البيوت إلى صحن داره ليسترها استظهاراً وخلا بموسى فياذة يشاوره فمضى الحناط إلى الأمير علي بن بويه فقال له : قد استحلف أبو سعد قوادك وآخر من استخلفه موسى فياذة وها هو قد أخرج صناديقه وهو خارج الساعة . فوجه الأمير بمن عرف خبرَهُ فرأى الرسولُ الصناديق وموسى فياذة خارجاً من عنده فعاد إليه بالخبر فلم يشك الأمير حينئذ في صحة قول الحناط. فقبض عليه وعلى جميع ماله من سائر الأصناف واعتقله وكان في الاعتقال إلى أن ورد بعض قُوّاد الأتراك من بعض أعمال فارس فواطأه الحناط على الدخول مع أصحابه وهم خمسون رجلاً مخرقي الثياب مسودي الوجوه يضجون بما جرى على خطلخ من أبي سعد ويتهددون إن لم يقتل أبو سعد ففعل القائد ذلك ودخل والأمير على شرب فأمر بقتل أبي سعد ثم وقعت الندامة عند الصحو وبعد فوت الأمر واستكتب الأمير بعده أبا العباس الحناط وبقي معه إلى أن مات الأمير علي بن بويه .
ونعود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام لما حصل محمد بن ياقوت بالحضرة وحصلت له الحجبة ورياسة الجيش أدخل يده في تدبير أعمال الخراج والضياع ونظر فيما ينظر فيه الوزراء وطالب أصحاب الدواوين بحضور مجلسه وألا يقبلوا توقيعاً بولاية ولا صرف ولا غير ذلك من سائر الأحوال إلا بعد أن يوقع فيه بخطه. وتجلّد أبو علي واحتمل ذلك والزم نفسه المصير إليه فإذا صار إليه دفعتين صار هو إليه دفعةً واحدة. فكان أبو علي كالمتعطّل لا يعمل شيئاً ملازماً لمنزله ويجيئه أبو إسحاق القراريطي كاتب محمد بن ياقوت فيطالعه بما يجري وما يعمل .
كان سبب ذلك أنه لما بلغ هارون بن غريب تقليد الراضي الخلافة وكان مقيماً بالدينور وهي قصبة أعمال ماه الكوفة وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبماسبذان ومهرجانقذق وحلوان وتدبر أعمال الخراج والضياع بها وهي النواحي التي كانت بقيت في يد السلطان من نواحي المشرق بعد الذي غلب عليه مرداويج رأى أنه أحق بالدولة من كل أحد فكاتب جميع القوّاد بالحضرة وأنه إن صار إلى الحضرة وتقلد رياسة الجيش وتدبير الأمور أطلق لهم أرزاقهم على التمام ولم يؤخر عنهم شيئاً منها. وسار إلى بغداد حتى وافي خانقين فغلظ ذلك على الوزير أبي علي بن مقلة وعلى محمد بن ياقوت وعلى الحجرية والساجية والمونسية وخاطبوا بأجمعهم فقال الراضي : أنا كاره له فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك.
ص: 174
فلما كان يوم السبت لسبع خلون من جمادى الآخرة استحضر أبو بكر بن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد وأوصله إلى الراضي بالله حتى حمّله رسالة إلى هارون بن غريب بأن يرجع إلى الدينور وكتب معه كتاباً فنفذ من وقته ووجد هارون قد صار إلى جسر النهروان وأذى الرسالة وأوصل الكتاب فأجاب هارون بأنه قد انضم إليه من الرجال من لا يكفيهم مالُ عمله وعاد أبو جعفر بالجواب وأدّاه إلى الراضي بالله بحضرة الوزير أبي علي والحاجب أبي بكر محمد بن ياقوت. فبذلوا له أن يقلدوه أعمال طريق خراسان كلها ويكون مالها مصروفاً إليه زائداً على ما يأخذه وقال الراضى بالله سبيله أن يقتصر على بعض من معه من الرجال فنفذ أبو جعفر ومعه أبو إسحاق القراريطي بهذا الجواب فلما أديا إليه الرسالة امتنع وقال : إن الرجال لا يقنعون بهذه الزيادة . ثم قال : ومن جعل ابن ياقوت أحق بالحجبة والرياسة مني ؟ الناس يعلمون أنه كان في آخر أيام المقتدر يجلس بين يدي ويمتثل أمري ومن جعله أخصّ بالخليفة مني وأنا نسيب أمير المؤمنين وقريبه وابن ياقوت ابن غلام من غلمانه؟ فقال القراريطي : لو كنت تُراعي ما بينك وبينه من القرابة لما عصيته فقال : لولا أنك رسول لأوقعت بك قم فانصرف ووضع هارون يده في الاستخراج فاستخرج أموال طريق خراسان وقبض على عمال السلطان وجبى المال بعسف وخبط وظلم وتهور وكان الوقت قريباً من الافتتاح. فلما اشتدت شوكته شخص محمد بن ياقوت من بغداد في سائر الجيوش بالحضرة ونزل في المضارب بنهربين واستظهر بإنفاذ أبي جعفر محمد بن شيرزاد دفعةً ثانية برسالة جميلة ووعده أن يوافقه على عدّة الرجال الذين يتقرر الأمر معه على كونهم في جملته وينظر في جرائدهم وأرزاقهم لسنة خراجية فإن وفى مالُ أعماله بماله ومالهم رجع إلى الدينور وإلا سبب له بالباقي على أعمال طساسيج النهروانات ونفذ إليه بهذه الرسالة يوم الاثنين. وقد وقعت طلائع عسكر هارون على طلائع عسكر محمد بن ياقوت وأصحاب هارون هم المستظهرون وكثر مضي الجند من عسكر محمد بن ياقوت إلى هارون بن غريب مستأمنة إليه فتبين أبو جعفر من هارون أنه اتهمه بالميل إلى محمد بن ياقوت وابن مقلة فلما رأى منه ذلك استأذنه في الانصراف بالجواب فقال : إني أخاف عليك منه أن يعتقلك وإنما بيننا وبين الوقعة وانكشاف الأمر بيننا ليلةٌ واحدةٌ .
فلما كان في يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران وكان المبدأ من أصحاب هارون واشتد القتال واستظهر أصحاب هارون لأن عددهم أضعاف عدد ابن ياقوت وانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت وقطعة من الغلمان الحجرية ونهب أصحاب هارون أكثر سواد ابن ياقوت ونكسوهم عن دوابهم وأثخنوا فيهم الجراحات وقتلوا منهم عدّةً فركب حينئذ محمد بن ياقوت وسار حتى عبر قنطرة نهربين. ولم تزل
ص: 175
الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار وركب هارون بن غريب مبادراً وسار منفرداً عن أصحابه على شاطئ نهر بين يُريد قنطرتُه لما بلغه أن ابن ياقوت قد عبر القنطرة وقدّر أنه يقتله أو يأسره فتقطر به فرسه فسقط منه في ساقيه فلحقه فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات ثم سلّ سيفه ليذبحه فقال له :هارون يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلي ! أي شيء أذنبتُ به إليك؟ فقال له نعم أنا أفعلُ بك هذا وحزّ رأسه ورفعه وكبر فتبدّد رجال هارون ودخل بعضهم من طرق أخر إلى بغداد ونُهب سواد هارون وأصحابه وأسر قوم وسار محمد بن ياقوت إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه وأنفذ بمن يحفظ دار هارون من النهب ودخل بغداد وبين يديه رأس هارون وعدة من قوّاده فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامة وخلع على ابن ياقوت وطوق وسوّر.
وفيها قلد الراضي ابنيه الأمير أبا جعفر وأبا الفضل المشرق والمغرب واستكتب لهما أبا الحسين علي بن أبي علي بن مقلة وخلع على أبي الحسين لذلك يوم الاثنين لخمس خلون من المحرّم واستخلف أبو الحسين على كتابتهما أبا الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وكتبت به الكتب.
وفيها ورد الخبرُ بغداد بأن غلمان مرداویج بن زيار الجيلي قتلوه في الحمام بأصبهان فتبجح محمد بن ياقوت وزعم أن التدبير في ذلك كان له وأنه كاتب غلاماً كان له واستأمن إلى مرداويج بضعة عشر كتاباً مع فيوج ذكرهم وسماهم من حيث لا يعلم أحد وأظهر كتباً من الغلام إليه في هذا المعنى وأنشأ كتباً قرئ بعضها في المسجد الجامع بهذا الخبر والشرح وكتب إلى أصحاب الأطراف وأعلمهم. أن التدبير كان له وكل ذلك كذب فإنا سمعنا من شرح الصورة ما اقتضاه الأمر من أوّله إلى آخره ما نعلم أنه لم يكن من تدبير بشريّ.
قال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد مسكويه أدام الله نعمته :
حدثني الأستاذ الرئيس حقاً أبو الفضل ابن العميد رحمه الله أنه لما حضرت ليلة الوقود التي تعرف بالسذق كان يقدم مرداويج قبل ذلك بمدة طويلة أن تجمع له الأحطاب من الجبال والنواحي البعيدة وأن ينقل له في الوادي المعروف بزر بن رُوذ وما قرب من الغياض والمحتطب فكان يجمع ذلك من كل وجه . وأمر بجمع النفط والنفاطين والزراقات ومن يحسن معالجتها واللعب بها وتقدم بإعداد الشموع العظام المجلسة ولم
ص: 176
يبق جبل مشرف على جرين أصبهان ولا تلّ ظاهر إلا عبيت عليه الأحطاب والشوك وعمل على مسافة بعيدة من مجلسه بحيث لا يمكن أن يتأذى بالوقود كهيئة قصور عظيمة من الأجذاع وضُبّت بالحديد الكثير حتى تماسكت وحشيت بالشوك والقصب وصيدت له الغربان والجداً وعلق بمناقيرها وأرجلها الجوز المحشو مشاقةً ونفطاً. وعمل بمجلسه الخاص تماثيل من الشمع وأساطين عظام منه لم ير مثلها ليكون الوقود في ساعة واحدة على الجبال ورؤوس اليفاعات وفي الصحراء وفي المجلس على الطيور التي تطلق . ثم عمل له سماط عظيم في الصحراء التي تبرز إليها من داره وجمع فيه من الحيوانات والبقر والغنم ألوف كثيرة وزيّن واحتشد له بما لم تجر العادة بمثله. فلما فرغ من جميع ذلك وضربت مضاربه قريباً من السماط وحضر الوقت الذي ينبغي أن يجلس فيه مع القوم للطعام ثم للشرب خرج من منزله وطاف على سماطه وعلى الآلات التي ذكرتها للوقود فاستحقرها كلها واستصغر شأنها قال : وذلك لأجل سعة الصحراء ولأن البصر إذا امتد في فضاء واسع ثم انقلب عنه إلى هذه الأشياء المصنوعة استحقرها وإن كانت عظيمة فاغتاظ وتداخله من النخوة والجبرية ما سكت معه ولم يتكلم بحرف ودخل إلى خركاه في خيمة عظيمة واضطجع ثم حوّل وجهه إلى خلاف الباب والتف بكسائه لئلا يكلمه أحد. واجتمع الأمراء والكبار والقواد وسائر الجند والنظارة ولم يجسر على خطابه أحد ولا على تحريكه وأبطأ على الناس خروجه حتى فات الوقت. وأخذ الناس في الإرجاف به فتحدثوا سراً وهمساً وخيفت الفتنة فحينئذ مشى العميد حول الخركاه ودمدم بكلامه المقتضي للجواب فلم يتكلم بحرف ولم يزل يداري في الكلام ويدعوا له إلى أن اضطره إلى الجلوس ثم دخل إليه فقال : أيها الأمير ما هذا الكسل في وقت النشاط وحضور الأولياء وفرح الصديق وانخزال العدوّ؟ فقال : يا أبا عبد الله وأي نشاط يحضرني مع الاستخفاف والاستهانة وقصور الأمر! والله لقد افتضحتُ فضيحة لا يغسلها عني شيء أبداً. قال العميد ودهشت ساعةً ثم قلت : أيها الأمير وما ذلك؟ فقال: أما ترى نزارة ما أمرت به من الاستكثار منه وقلته ووتاحتَهُ من الطعام والسماط ثم من جميع آلات الوقود والأشياء المتصلة بها. فقلت : والله أيها الأمير لقد عمل من هذه الأشياء ما لم يسمع بمثله فضلاً عن أن يُرى فقم إلى مجلس أنسك وعاود النظر. فأبى ولج إلى أن قلتُ : فإن الأعداء يرجفون بكيت وكيت فاتق الله اركب وطف طوفةً لتزول الأراجيف ثم اعمل ما بدا لك فإنَّا سنعتذر عنك . فزَادَه ما حكيتُه له من أراجيف الناس به غيظاً وحنقاً ثم قام فركب كارهاً متحاملاً وطاف مغضباً مغتاظاً بقدر ما رآه الناس وانصرف إلى موضعه ولزم حالته الأولى. وجمع الناس الذين دعوا على خبط فأبى أكثرهم وانصرف من كان حاضراً وقالوا: لا نأمن إلا يأنس الأمير.
ص: 177
وبقي في معسكره ثلاثاً لا يظهر ولا يرى إلا أنه يعلم أنه حاصل في قصر أبي علي بن رستم فلما كان اليوم الثالث تقدّم بإسراج الدواب ليعود من جرين إلى داره وهي التي كانت لأبي علي بن رستم بالمدينة ولها باب إلى الصحراء وباب إلى المدينة فأسرج الغلمان واجتمعوا بالباب وذلك بعد الظهر فنعس نعسة ونام فأبطأ ودخل وقت العصر واتفق أن شغبت دَواب الغلمان وارتفعت أصواتها وأصوات من يزجرها ولم يمكن أن يفرق بينها لازدحامها بالباب ولأن أكثرها بأيدي غلمان الغلمان ينتظرون ركوب الأمير فركب الغلمان بركوبه. فانتبه مرداويج مذعوراً لما كان في نفسه من إقدام الناس عليه بالأراجيف وسأل من يليه عن السبب فلم يعرفوا صورة الأمر فقام بنفسه واطلع على الدواب والشاكرية وإذا هم بأسرهم يصيحون لزجر الدواب والدواب قد سقط بعضها علي بعض ولها أصوات هائلة منكرة فارتاع ساعة حتى عرف حقيقة الأمر ثم سكن فسأل عن أصحاب الدواب فقيل : هم الغلمان الأتراك فأمر أن تحط السروج عن ظهور الدواب وتُجعل على ظهور الغلمان آلتها ويدفع الدواب بأرسانها إليهم مع جميع ليقودوها بأنفسهم إلى الاصطبلات ففعلوا ذلك وكانت صورة قبيحة يتطير من مثلها ويتشاءم بها. ثم ركب هو بنفسه مع خاصته وهو يتوعد الغلمان حتى صار إلى منزله قرب العشاء وكانت طشة من مطرة بلته فلما دخل داره كانت كالخالية ليس فيها إلا صبيان الأصاغر وخادم أسود كان أستاذ أولئك الغلمان فدخل الحمام يغير ثيابه. وقد كان قبل ذلك بطش بغلمان أتراك كبار فحقدوه ولكن لم يكونوا يجدون أعواناً فلما فعل بالجماعة ما فعل اغتنموا الصورة وانتهزوا الفرصة وقال بعضهم لبعض : ما وجه صبرنا على هذا الشيطان. فاتفقوا على الفتك به ولما دخل الحمام سألوا الغلام الذي يلي خدمته في الحمام ألا يحمل معه سلاحه (وكان رسمه أن يدخل معه إلى الحمام دشنيا ملفوفاً في منديل)فقال الغلام: لا أجسر أن أتقدم بين يديه وليس معي الدشني. فاتفقوا على أن يكسروا حديدته ويتركوا النصاب في الجفن ثم يلف في المنديل حتى لا ينكر الصورة ويتركه في زاوية الحمام على الرسم ثم هجم عليه جماعة والخادم الأسود جالس على كرسي بباب الحمام فلما رآهم ثار في وجوههم وصاح بهم فضربه بعضهم بسيفه فاتقاه بيده فطاحت من الذراع وسقط وهجم القوم وارتفعت الضجة. فأحس مرداویج بالشر فبادر فسند الباب من داخل بسرير وكان يجلس عليه بعد أن طلب الدشني فلم يجده ودفع الغلمان الباب فتعذر عليهم فصعد نفر منهم إلى قبة الحمام فكسر الجامات ورموه بالنشاب فدخل البيت الحار وأخذ في مداراتهم وضمن لهم كل جميل فكأنهم تهيبوه ساعة ثم علموا أن الغاية التي بلغوها منه ليس يجوز أن يكون بعدها صلح فحمل بعضهم على ناحية الباب الذي وراءه السرير حتى كسروه ودخلوا عليه فشق بعضهم جوفه بسكين معه وضرب هو وجه بعضهم بكرنيب فضة في يده فأثر فيه أثراً
ص: 178
قبيحاً وخرجوا من عنده وعندهم أنه قد فرغوا منه فقال لهم رُفقاؤهم الذين كانوا خارج الحمام ما صنعتم؟ قالوا: شققنا جوفه. فقال أحدهم : عودوا إليه فحزوا رأسه. وإنما فعلوا ذلك لأنه كان اتفق في تلك الأيام أن بعض الفرَّاشين في الدار شق بطنه بجراحة فخيط الجرح وعولج فسلم فخافوا أن يجري ذلك المجرى فحزوا رأسهُ.
وقيل إنه لما عاودوه قد جمع حشوة بطنه وردها وقبض عليها بشماله وقاتل بكرنيبه ساعة حتى فرغ منه . فلما طرحوا رأسه فى الدار بادروا إلى الاصطبلات فأسرجوا الدواب وأوكفوا البغال واحتملوا من الخزائن ما أمكنهم من المال والسلاح ورحلوا .
وفي خلال ذلك تهيأ لبعض من في الدار تسور الحيطان فدخلوا المدينة وقد (جهنّم) الليل فخبّروا الجند والقوّاد بما جرى و هم سكارى متفرقون واجتمع بعضهم وأوقدوا النيران وضربوا بالبوقات وأسرجوا الدواب وأخذوا السلاح وساروا إلى الصحراء لينقلبوا إلى الباب الذي منه المدخل فإلى أن يفعلوا ذلك فاتهم الغلمان ولم يجدوا غير غليمة أصاغر لا ذنب لهم فقتلوا منهم عدة ثم كفّوا عنهم وخشي أهل الرأي من حشمه أن تنتهب الخزائن فأشار العميد بإحراقها وهدم البنيان عليها فسلم المال وأكثر الذخائر لأن المتهمين حضروا والنار والدخان ثائرة في الموضع فلم يصلوا إلى شيء.
وكان ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه رهينة عند مرداويج من جهة أخيه علي ابن بويه عماد الدولة فلما أحسّ بالصورة دارى الموكلين به وضمن لهم ضمانات كثيرة فساعدوه حتى هرب بعد ليلة من قتل مرداويج .
لما خرج بقيوده إلى الصحراء وجلس ليكسرها أقبلت بغال عليها (تین) وعليها أصحابه فنكسهم وركب هو ومن معه البغال وحثها حتى سلم وفات الطلب . فأما الأتراك فافترقوا فرقتين أما فرقة فسلكوا نحو فارس مستأمنين إلى علي بن بويه (وفيهم خجخج الذي سمله توزون لما ملك العراق) وأما فرقة فسلكت الجبل وهي الأكثر عدداً وفيهم بحكم الذي ملك الأمر بالعراق وتقلد أمارة الأمراء بها في أيام الراضي وسنذكر من أخباره ما يليق بهذا الكتاب فأما ما جرى عليه أمر أصحاب مرداويج فإن أبا مخلد كان يتحدث وكان من خدم مرداویج وصاحب دولته أن تابوت مرداويج حمل إلى الري قال : فما رأيت يوماً أعظم من اليوم الذي دخل فيه تابوته الري وذاك أن الجيل والديلم بأجمعهم ساروا مشاةً حفاةً معه أربعة فراسخ . وذكر أنه كان أخوه وشمكير ماشياً معهم ثم مضوا من أصبهان على مكبرة أبيهم معه إلى الري وكان الناس لا يشكون أنهم يستأمنون إلى علي بن بويه فبطل هذا الظن وقال : لم أر قط عسكراً
ص: 179
هلك صاحبه فوفى له رجاله وجنده بغير درهم ولا دينار ذلك الوفاء فإنهم صاروا إلى أخيه وشمكير على هذه الحال. وعرف شيرج أن أصبهان خالية وكان بالأهواز من قبله فسار للوقت إلى عسكر مكرم وستر الخبر وكان بها هرجام الجيلي فأسر إليه بالخبر وأخذه معه ثم سار إلى تستر وبها جيلي وكان وجهاً كبيراً فحدثه وأخذه معه وقصد جنديسابور وبها إسماعيل الجيلي وكل واحد من هؤلاء نظير لشيرج فاطلعه على الأمر وسار بمسيره فصارت الجماعة إلى السوس وبها عبد الله بن وهبان القصباني البصري عامل كور الأهواز من قبل مرداويج والشابشتي الحاجب وكان ثقة مرداويج وكان رتبهم مرداويج على ما ذكر أبو مخلد على أن يتوجه شيرج إلى واسط ثم إلى بغداد وكان مرداويج ينتظر خروج الشتاء في سنة 23 فيقصد أرجان أولاً ثم يناجز علي بن بويه فإذا فرغ منه عدل إلى الأهواز ثم منها إلى السوس وينفذ معظم خيله إلى شيرج ليتقدمه إلى واسط وكان في نفسه أن يملك بغداد ويعقد التاج على رأسه ويعيد ملك الفرس فعوجل بالقتل فسار عسكره كله كما ذكرنا مع شيرج والشابشتي وابن وهبان من السوس إلى الري على طريق شابر خواست والكرج يريدون وشمكير أخاه ما عارضهم معارض ولا أقدم أحد على منابذتهم والإفساد عليهم ولما حصلوا بها بايعوه واستوزر وشمكير ابن وهبان وشكر له حسن تصرفه لأخيه بالأهواز .
وكان مرداويج يوم قلده الأهواز أرزقه ألفي دينار في الشهر وقال له : إن نصحت وأديت الأمانة استوزرتك بالحضرة ونصبت الرايات بين يديك إلى باب نصيبين وإن خنتني وشرِهَت نفسك فإن كركرتك كبيرة ومعدتك عظيمة والحلاوات بالأهواز كثيرة فهذا دشني ترى انبساطه وحده والله لأشقنَّ به بطنك هذه الكبيرة . فقال له : ستعلم أيها الأميركيف أنصح وأؤدي الأماني وإني مستحق لاصطناعك. وكان هذا الرجل من أهل البصرة وله أب قصباني وإنما تقلد في أيام ابن الخال همذان فلما انهزم ابن الخال من وقعة مرداويج وقصد الحضرة لانتزاع الرئاسة من محمد بن ياقوت وجرى عليه ما جرى حصل مرداویج بهمذان ووقع في يده ابن وهبان فعفا عنه واستعمله فنفق عليه. وكانت كُتب مرداويج ترد على ابن وهبان أن يُعِدّ له إيوان كسرى منزلاً إذا تقدّمه إلى الحضرة ويعمره ويعيده كهيئته قبل الإسلام وأنه معتقد للمقام بواسط إلى أن يُستتم ذلك وأنه يراه وشيرج مع من معهما أكفاء لمن بالحضرة من ابن ياقوت والحجرية والساجية وسائر الأصناف وأنه مُستغن عن أن يلقاهم بنفسه. وكان قد صاغ تاجاً عظيماً ورصّعة ُبالجوهر وذكر أبو مخلد أنه رآه قبل الحادثة بأيام جالساً على سرير ذهب قد جعل عليه مِنصَّةٌ عظيمة وتفرّد بالجلوس عليه وجعل دونه سرير فضَّةٍ وعليه فرش مبسوط ودون ذلك كراسي كبار مذهبة وغير ذلك ليرتب أصحاب الأوزار مراتبهم في الإجلاس قال : وكان
ص: 180
الكافة من الناس بالبعد قياماً ينظرون إليه ما ينطقون إلا همساً إعظاماً له وإكباراً لقدره .
وفيها وقع بين أصحاب ياقوت ومحمد بن رائق شر فاقتتلوا وقتل بينهم خلق .
كان السبب في ذلك أن أبا علي كان قلقاً من غلبة محمد بن ياقوت على تدبير الأمور ونظره في جباية الأموال وحضور أصحاب الدواوين مجلسه وتفرده بما يعمله الوزراء وعطلته هو إلى أن تم تدبيره عليه فلما كان يوم الاثنين لست خلون من جمادى الأولى ركب القواد إلى دار السلطان على رسمهم في أيام المواكب وحضر الوزير أبو علي بن مقلة وأظهر الراضي أنه يريد أن يقلد جماعة من القواد عدة نواح من المملكة . ويخلع عليهم وحضر محمد بن ياقوت للخدمة وأبو إسحاق القراريطي كاتبه معه وجلسوا على رسمهم في الصحن التسعيني ثم خرج الخدم إلى محمد بن ياقوت فعرفوه أن الخليفة يطلبه فقام مبادراً فلما دخل عدل به إلى حجرة قد أعدت له وأخذ سيفه ومنطقته ووكل به ثم خرج الخدم إلى أبي إسحاق القراريطي فعرفوه أن صاحبه يطلبه فلما دخل عدل به إلى حجرة أخرى وحبس ووجه بقوم إلى دار المظفر بن ياقوت فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وحبس مع أخيه وكان وجد قريباً من السكر لأنه كان يشرب. ونفذت حيلة الوزير أبي علي عليهم وتقدّم إلى الغلمان الحجرية والساجية أن يصيروا إلى دار السلطان وأن يضربوا مضاربهم في بابي الخاصّة والعامة ليحفظوا الدار . وأمر مُفلح الأسود أن يصير إلى دار محمد بن ياقوت .. وخلع عليه وسلم القراريطي إلى الوزير أبي علي فأخذ خطه بخمسمائة ألف دينار ثم تقرّر أمره على ثلاثة آلاف ألف
درهم .
وانحدر ياقوت من واسط إلى السوس بجميع أصحابه وكتب إلى الراضي بالله كتاباً في أمر ابنيه يستعطفه فيه لهما ويرقق قلبه عليهما ويسأله الإحسان إليهما وتجديد الصنيعة عندهما وعنده فيهما وأن يلحقهما ليعاوناه على أمره ويكونان معه في حروبه .
ولما زال أمر محمد بن ياقوت وتفرد أبو علي بالتدبير استخلف ابنه أبا الحسين على جميع الدواوين والأعمال وصارت مكاتبة جميع أصحاب الدواوين له وإنفاذهم الأعمال إليه فصار يعزل ويولي ويحل ويعقد. وصار إليه أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي وطرح نفسه عليه وارتسم بكتابته وكان يكتب لأبي إسحاق القراريطي وكان مستولياً عليه فقبله أبو علي واختص به وبابنه .
وشغب الجند وطالبوا بأرزاقهم وصاروا إلى دار الوزير أبي علي ونهبوا اصطبلاته
ص: 181
وأخذوا من بابه من كان في مجلسه ونكسوا جماعة ممن لقيهم من الكتاب عن دوابهم وأخذوها منهم فأطلق لهم أرزاقهم وسكنوا .
وفيها قوي أمر أبي عبد الله البريدي واستفحل أمره.
ذكر أسباب ذلك
كان أبو عبد الله البريدي ضامناً أعمال الخراج والضياع بالأهواز فلما وافاها شيرج
ابن ليلى الديلمي من قبل مرداويج خرج إلى البصرة بعد هزيمة ياقوت وغلامه مونس كما كتبناه فيما قبل وأقام يدبر أسافل الأهواز إلى أن قرر له محمد كتابة ابنه فخرج معه إلى واسط. فبينما هو معه يدبر أمره إذ ورد بالقبض على محمد والمظفر ابني ياقوت فارتاع ياقوت من ذلك ارتياعاً شديداً. وكتب أبو علي بن مقلة إلى أبي عبد الله البريدي أن يسكنه ويعرفه أن الجند اضطربوا وتطيروا لهما وشغبوا مراراً كما بلغك» ثم أرسلوا للخليفة بأنه إن لم يقبض عليهما أحدثوا في الملك حادثة عظيمة واضطر إلى أن يرضيهم بما أمضاه فيهما وأنه يتلافى أمرهما عن قرب وينفذهما إليه وأن الرأي أن يبادر هو لفتح فارس فخرج ياقوت من واسط على طريق السوس إلى عسكر مكرم وأخرج أبو عبد الله البريدي معه أبا الحسن بن حميد البصري ليخلفه على كتابته وكان صنيعته وأخرج أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي لخدمته في بلده فدخل ياقوت عسكر مكرم وهما معه ثم وافى أبو عبد الله البريدي من طريق الماء إلى الأهواز وورد بعده أبو يوسف أخوه وكان إليه السوس وجنديسابور شركة بينه وبين أخيه أبي الحسين. وادعيا أن مال سنة 322 احتمله شیرج بن ليلى وأن النواحي معطّلة الارتفاع في السنة التي بعدها فأنفذ أبو علي ابن مقلة بن عينويه لكشف ذلك وطابقهما وكتب يصدقهما .
فكانت هذه الفتنة نعمة على أبي عبد الله وأبي يوسف البريديين فإنه تحصل لهما بها ومما بعدها إلى وقت انهزامهما من الأهواز على ما حدث به أبو الفرج بن أبي هشام أربعة آلاف ألف دينار خرجا بها على السلطان. ثم قصدا عسكر مكرم للاجتماع مع ياقوت فوافياها وتلقاهما في الموضع المعروف بفوهة النهرين وسيراه إلى أرجان لفتح فارس .
وفيها خرج توقيع الراضي بالله بأن تكون المخاطبة والمكاتبة من جميع الناس لأبي الحسين علي بن محمد بن مقلة بالوزارة وكان سنه إذ ذاك ثماني عشرة سنة وأن يكون الناظر في الأمور صغيرها وكبيرها وتقدم إلى جميع أصحاب الدواوين بذلك وخلع على أبي الحسين خلع الوزارة وخوطب بها وحمل على شهري وانصرف من دار السلطان على الظهر ومعه القوّاد والجيش والخدم وأصحاب الدواوين. وانصرف أبو علي في طياره إلى منزله وصار إليه ابنه بالخلع وطرح له مصلى في مجلس أبيه ودخل الناس معه وهنؤوا أبا على وأنشده الشعراء وأمر أبو الحسين ونهى ووقع وصار طرح
ص: 182
المصلى في مجلس أبيه رسماً له. وخرج رسم أبيه إلى جميع أصحاب الدواوين ألأ ينفذوا توقيعاً له إلا بعد عرضهم إيَّاه على ابنه أبي الحسين واستثماره فيه وأخذ توقيعه بخطه فيه بامتثاله.
وشغب الفرسان شغباً بعد شغب وكانوا يأخذون دواب الناس من باب الوزير .
وفيها ركب بدر الخرشني فنادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمد البربهاري الحنبلية ألا يجتمع منهم نفسان في موضع واحد وحبس جماعة منهم واستتر البربهاري وكان سبب ذلك كثرة تشرُّطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتصلة. وخرج توقيع الراضي بالله إلى الحنبليين بما نسخته :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من نافق بإظهار الدين وتوثب على المسلمين وأكل به أموال المعاهدين كان قريباً منسخط رب العالمين وغضب الله وهو الله وهو من الضالين وقد تأمل أمير المؤمنين أمر جماعتكم وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم زُيّن لحزبه المحظور ويُدلّي لهم حبل الغرور. فمن ذلك تشاغلكم بالكلام في ربّ العزّة تباركت أسماؤه وفي نبيه والعرش والكرسي وطعنكم على خيار الأمة ونسبكم شيعة أهل بيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى الكفر والضلال وإرصادهم بالمكاره في الطرقات والمحال . ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن ولا يقتضيها فرائض الرحمن وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع وإنكم مع إنكاركم ذلك تتلفقون وتجتمعون القصد رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) و وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرُّع عند حفرته فلعن الله ربا حملكم على هذا المنكرات ما أرداه وشيطاناً زيَّنها لكم ما أغراه وأمير المؤمنين يقسم الله قسماً جهدالية يلزمه الوفاء به لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنكم ضرباً وتشريداً وقتلاً وتبديداً ويستعملن السيف في رقابكم والنار في محالكم ومنازلكم فليبلغ الشاهد منكم الغائب فقد أعذر من أنذر وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وفيها شغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فوقع النهب في خزانة له فيها زجاج مخروط وبلور وصيني وغير ذلك فدخلوا الدار وشغبوا فيها وخرج الوزيران عن دورهما وصارا إلى الجانب الغربي. وكان الوزير أبو علي نفى الخصيبي وسليمان بن الحسن إلى عُمان وكاتب صاحب عمان بحبسهما والتضييق عليهما فأطلقهما ووردا بغداد مستترين
ص: 183
فورد على الوزير من ذلك ما أقلقه وكبس عليهما عدة مواضع فلم يظفر بهما .
كان أبو العلاء شرع في تضمن الموصل وديار ربيعة فضُمن ذلك سرّاً وخلع عليه وأظهر أنه ينفذ إلى الموصل لمواقفة ابن أخيه أبي محمد على ما عليه من مال الضمان ومطالبته بحمله وشخص في نحو خمسين غلاماً من غلمانه فدخل الموصل. وعرف ابن أخيه خبر موافاته فخرج نحوه مظهراً لتلقيه واعتمد أن يخالفه الطريق فلا يراه ومضى أبو العلاء إلى دار أبي محمد فنزلها وسأل عن خبره فعرف أنه خرج ليتلقاه فجلس ينتظره. فلما علم أبو محمد أن عمه قد حصل في داره وجه بغلمانه فدخلوا إلى أبي العلاء إلى البيت الذي كان فيه فقبضوا عليه وقيدوه ثم وجّه بقوم علوه بأسيافهم وقتلوه ولم يقع بينه وبين ابن أخيه لقاء وورد الخبر بذلك إلى الراضي فأنكره وتقدم إلى الوزير أبي علي بالتأهب للخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن بن عبد الله بن حمدان والنائب بن حمدان والنائب عنه بالحضرة .
فذكر أن علي بن عيسى كتب إلى الحسين بن عبد الله بن حمدان بخطه عن أمير المؤمنين الراضي بالله بالانفراج عن ضمانه وألا يحمل شيئاً إلى الحضرة من ماله وأن يمنع من حمل الميرة إلى بغداد فأخذ أبو علي بن مقلة خطه بذلك وأحضر جماعة من الشهود حتى شهدوا عليه وسلم الوزير الكتاب إلى ابن سنجلا ليعرضه على الراضي بالله فلما كان من غد وهو يوم الأربعاء انحدر الوزير أبو علي إلى دار السلطان وانصرف إلى منزله فوجه الراضي براغب وبشرى خادميه إلى علي بن عيسى فحملاه إلى الوزير أبي علي فلم يُوصله إليه واعتقله في حجرة من داره وراسله علي بن أحمد بن علي النوبختي وعرّفه ما أشهد به سهل بن هاشم على نفسه وإن الخليفة أنكر فعله وما زالت المراسلات تتردد بينهما إلى أن ألزمه أبو علي مصادرة خمسين ألف دينار على أن يجعل في باب أبي جعفر بن شيرزاد صاحب ديوان النفقات للأتراك عشرة آلاف دينار وتؤخذ منه عقار وضياع بعشرة آلاف دينار فالتزم أبو الحسن ذلك فيقال إن طليباً الهاشمي كان قال لعلي بن عيسى عن الراضي بالله أن يكاتب الحسن بن عبد الله عنه ويتوسط بينهما على أن يحمل إليه سراً سبعين ألف دينار في نجوم وشرط عليه الحسين أن يحميه ويمنع منه ومن تشعيث أمره ويقرّره على ضمانه ولا يقبل زيادة عليه فحمل بعض تلك النجوم وأخر باقيها. وأنكر الخليفة كل ما جرى في هذا الباب وذكر أنه لم يصل إليه شيء.
وأخرج مضرب الوزير أبي علي وخرج على مقدمته نقيط الصغير وابن بدر
ص: 184
الشرابي وجماعة من الحجرية وغيرهم وخلف ابنه الوزير أبا الحسين بالحضرة في خدمة السلطان وتدبير الأمور. وقبل شخوصه أطلق أبا الحسن علي بن عيسى وأخرجه إلى ضيعته بالصافية وأحلفه على أنه لا يسعى في مكروهه ولا يتكلم فيه بما يقدح في حاله ولا فيما يفسد أمره ولا يسعى في الوزارة لنفسه ولا لغيره من سائر الناس فحلف وخرج من وقته إلى الصافية.
ولما قرب الوزير أبو علي من الموصل رحل عنها أبو محمد وتبعه الوزير إلى أن صعد جبل التنين ودخل بلد الزوزان فعاد حينئذ أبو على إلى الموصل وأقام بها يستخرج مال البلد ويستسلف من التجار المجهزين للدقيق مالاً على أنه يطلق لهم به غلات البلد فاجتمع له من ذلك أربعمائة ألف دينار. ولما طال مقام الوزير بالموصل احتال سهل بن هاشم كاتب أبي محمد بن حمدان فبذل للوزير أبي الحسين ابن الوزير أبي علي عشرة آلاف دينار حتى كتب إلى أبيه بأن الأمور بالحضرة قد اضطربت عليه وأنه متى تأخر وروده الحضرة لم يأمن حدوث حادثة يبطل بها أمرهم فانزعج الوزير من ذلك وقلد علي بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بالموصل وديار ربيعة وقلد أعمال المعاون بها ما كرد الديلمي من الساجية وتقدّم بتوفية التجار ما استسلفه منهم من المال وانحدر إلى الحضرة وخرج لتلقيه الأمير أبو الفضل وأصحاب الدواوين والقوّاد ولقي الخليفة وانصرف إلى منزله وخُلع عليه من الغد وعلى ابنه خلع مُنادمة وحمل إليهما ألطافٌ وشراب وطيب وبلَّور .
وكان الوزير أبو علي كتب إلى الوزير ابنه قبل أن ينحدر من الموصل بإزالة التوكيل عن أبي الحسن علي بن عيسى وأن يكتب إليه أجْمَل خطاب ويُخيّرهُ بين الإنصراف إلى مدينة السلام وبين المقام بالصافية فكتب إليه الوزير أبو الحسين بذلك وكان السبب فيما كتب به الوزير أبو علي من ذلك أنه كان كتب إلى أبي محمد الحسن ابن عبد الله بن حمدان كتاباً يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فقبل الكتاب وقال للرسول : ليس بيني وبين هذا الرجل عمل (يعني ابن مقلة) ولا أقبل ضمانه لأنه لا عهد له ولا وفاء ولا ذمة ولا أسمع منه شيئاً اللهم إلا أن يتوسط أبو الحسن علي بن عيسى بيني وبينه ويضمن لي عنه فأسكن إلى ذلك وأقبلُهُ .
وكان أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي مقيماً بالحضرة في وقت خروج أبي علي ابن مقلة إلى الموصل ويلزم مجلس الوزير أبي الحسين يظهر له النصيحة والموالاة ويجتهد في التخلص منه والبعد عنه إلى أن منه والبعد عنه إلى أن ورد كتاب أبي عبد الله البريدي يونس فيه من حمل مال إلى الحضرة في ذلك الوقت فغلظ على الوزير أبي الحسين ذلك لأنه كان أعد ما يحمله لوجوه فأقرأ أبا عبد الله الكوفي كتاب البريدي فاستعظم ما فيه وأشار بأن
ص: 185
يخرج هو إلى الأهواز ليواقف البريدي على أمر الرجال الذين أحال بصرف المال إليهم ويعرضهم ويطلق ما يجب لهم ثم يحمل إلى الحضرة مالاً عظيماً ويحمل ساعة وصوله مائة ألف دينار. فكتب الوزير أبو الحسين إلى أبي عبد الله البريدي بأنه لا يقبل في تأخر المال عنه عُدْرَهُ وقد أحوجه إلى إنفاذ أبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي لمواقفته على أمر المال ومطالبته بحمله ونُفذ الكتاب وتبعه أحمد بن علي إلى الأهواز. فلما حصل عند أبي عبد الله البريدي لم يمكنه مخالفته على ما يُريد وكتب أنه لم يتمكن من عرض الرجال ولا المواقفة على أمر المال وأقام عنده إلى أن نظر أبو بكر بن رائق في الأمور بالحضرة.
واستوحش أبو عبد الله الكوفي من البريدي وخافه وأراد البعد منه وخاف بَوَادِرهُ فأطمعه في إفساد أمر الحسين بن علي النوبختي مع ابن رايق . وكان الحسين بن علي من أعدى الناس للبربريديين فقبل منه وأطلقه ووافقه على ما يعمل به ويبذله من المال لإزالة أمر الحسين بن علي النوبختي. وكان أبو عبد الله الكوفي عند مقامه عند أبي عبد الله البريدي يُصغر في نفسه أمر الحضرة ويصف له إدبارها بسوء تدبير ابن مقلة وإبطاله مال واسط والبصرة بابن رائق وبإيقاعه ببني ياقوت وما دبر في أمر الحسن بن عبدالله ابن حمدان وباجتثاثه أصل الخلافة دفعة واحدة وقال في ذلك وأكثر وقال في عرض ذلك : هو الذي جرّأ الغلمان الحجرية على ابن ياقوت فهم بعد أشدّ جرأة عليه وإن هلاكه ليس يبعد. فوقع ذلك من البريدي أحسن موقع واختصَّ الكوفي ولم يستكتبه بل كان يشاوره ويكرمه ويعاشره.
فذكر أبو الفرج بن أبي هشام أن أبا عبد الله الكوفي قال له بواسط في أيام سيف الدولة : ما مرّ لي عيش أطيب من عيشي مع البريدي فإني أقمتُ عنده نحو سنة غير متصرّف ولا داخل تحت تبعه ولا تعب بنظر في عمل ولقد عاشرني أجمل عشرة ووصل إليّ منه عيناً وورقاً ومن قيمة العروض التي أنفذها إليَّ خمسة وثلاثون ألف دينار ولم أخرج من الأهواز إلا وأنا متقلد كتابة ابن رائق . وقد كفيت أمر ابن مقلة بالقبض عليه وكان غير مأمون والحمد لله الذي لم يخرجه من الدنيا حتى دمر عليه كتدميره على الدنيا ألحق الله ابنه به فإنه شرّ منه لأن ما كان في أبيه فهو فيه من وقاحة وقساوة وخسة وكان الأب على عيوبه ربما رحم وأكرمَ على حاشيته وأهل داره دون الغرباء ولكن هذا ناصر الدولة مجتهد في أن يغرّه ويحصّله وإن حصل رجوتُ أن يسلمه فإن في نفسه عليه وعلى ابنه العظائم. وأطلق الكوفي لسانه بهذا كله في مجلسه وليس بين يديه غيري وغير أبي علي بن صفية كاتبه النصراني .
وأظهر أبو عبد الله البريدي بالأهواز كتاباً من أبي علي بن مقلة بخطه إليه يقول
ص: 186
فيه : الويل للكوفي الغاض مني أنفذته ليصلحك لي فأفسدك علي وأطمعك وأصغيت بالشرَةِ إليه والله لأقطعن يديه ورجليه فأما أنت فأرجو ألا تُصِرٌ على كفر نعمتي وإحساني إليك وأن تُنيب بك الروية إلى رعاية حقوق اصطناعي لك فترضيني من نفسك وتعينني في مثل هذه الحالة الصعبة التي لم يدفع من جلس مجلسي في دولة من الدول إلى مثلها وأن تجيرني مما قد أظلَّني بمال تحمله فتحفظ به نعمتيك التي إحداهما في يدي والأخرى في يدك إن شاء الله.
ولما انحدر أبو علي بن مقلة من الموصل عاد أبو محمد عن الزوزان إليها وحارب ما كرد الديلمي وانهزم الحسن بن عبد الله ثم عاود محاربته وكانت الوقعة بينهما على باب الروم من أبواب نصيبين فانهزم ماكرد إلى الرقة وانحدر منها في الفرات إلى بغداد. وانحدر علي بن خلف بن طناب وتمكن الحسن بن عبد الله من الموصل وديار ربيعة وكتب إلى السلطان يسأل الصفح عنه وأن يضمن نواحيه فأجيب إلى ذلك وضمنها .
ووافى التجار الذين استسلف أبو علي مالهم ولم يُوفوا الغلات التي ابتاعوها فطالبوا أبا علي برد أموالهم عليهم فدفعته الضرورة إلى أن يسبب لهم على عمال السواد بعض مالهم ودافعهم ثم باع عليهم بالباقي ضياعاً سلطانية فلم يُحصل لخرَجته كبير فائدة بعد الذي رد على التجار وبعد الذي أنفق على سفره والجيش الخارج معه .
وفي هذه السنة حجّ الناس فلما بلغوا القادسية اعترضهم أبو طاهر القرمطي وكان مع الحاج من قبل السلطان لؤلؤ غلام المتهشم فظنّ لؤلؤ أنهم أعراب فحاربهم أهل القوافل.....(1) شيئاً كثيراً وسأل عمر بن يحيى العلوي فيمن دخل القادسية فآمنهم ثم تسلّلوا من القادسية وبطل الحج في القادسية وبطل الحج في هذه السنة وصار أبو طاهر إلى الكوفة وأقام بها .
وفي تلك الليلة بعينها انقضت الكواكب من أول الليل إلى آخره ببغداد والكوفة وما والاهما انقضاضاً مسرفاً جداً لم يعهد مثله ولا ما يقاربهما .
وشغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فنقبوا عدة مواضع ولم يصلوا لأن غلمان الوزير دفعوهم ورموهم بالنشاب من فوق السور.
وفيها مات أبو بكر محمد بن ياقوت في الحبس في دار السلطان بنفث الدم فأحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمد ومعه جماعة وأخرج إليهم محمد بن ياقوت حتى فتشوه ومدوا لحيته وعلموا أنه مات حتف أنفه ثم تسلم إلى أهله وباع الوزير ضياعه وأملاكه وقبض على أسباب محمد بن ياقوت كلهم .
ص: 187
وفي هذه السنة قلد الوزير أعمال الجبل أبا علي الحسن بن هارون وخرج إليها فلما حصل بها استأمن إليه غلمان مرداويج الأتراك الذين قتلوه في الحمام فقبلهم وكانوا ثلاثمائة غلام فلما كان بعد مدة شغبوا عليه وطالبوه بالأرزاق وقبضوا عليه وقيدوه ثم أطلقوه ولما ورد الخبر بالقبض عليه قلد الوزير مكانه أبا عبد الله محمد بن خلف النيرماني وبلغ ذلك الحسن بن هارون فخافه للعداوة بينهما واستتر وصار إلى بغداد مستتراً وأقام على استتاره مدة ثم راسل الوزير أبا علي وقرّر أمره على مصادرة أوقعها بخمسة عشر ألف دينار فلما تقرر أمره ظهر وأقام محمد بن خلف في الجبل مُديدة.
وأقبل غلمان مرداويج وفيهم بحكم إلى جسر النهروان وراسلوا السلطان فأمرهم بدخول الحضرة فدخلوا وعسكروا بالمصلى واضطربت الحجرية وظنوا أنها حيلة عليهم فاجتمعوا وطالبوا الوزير أبا علي بأن يرضيهم ويردّهم فاستدعى جماعة من وجوههم ووافقهم على أن ينضموا إلى محمد بن علي غلام الراشدي (ويقلده الجبل) ويُطلق لهم أربعة عشر ألف دينار نفقات لهم ثم يسبب مالهم على أعمال الجبل فقالوا: ننصرف ونعلم باقي أصحابنا ذلك. فلما انصرفوا لم يقنعوا وكان خبرهم قد اتصل بأبي بكر بن رائق بواسط وهو متقلد أعمال المعاون بها وبالبصرة فكاتبهم فراسلهم واستدعاهم ووعدهم الإحسان فمالوا إليه واختاروه وساروا إليه فقبلهم وأثبتهم وأسنى لهم بالرزق ورأس عليهم بحكم وسماه بحكم الرائقي ورفع منه ومؤلهُ وأحسن إليه وأفرط في ذلك وضم جميع الغلمان إليه وتقدّم إليه بأن يكاتب كل من بالجبل من الأتراك والديلم بالمصير إليه ليثبتهم فصار إليه عدة وافرة منهم فأثبتهم وضمهم إلى بجكم.
وفيها أطلق المظفر بن ياقوت من حبسه في دار السلطان إلى منزله بمسألة الوزير أبي علي عنه وحلف الوزير بالأيمان الغليظة على أنه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له في مكروه .
وفيها قلد الوزير محمد بن طُغج أعمال المعاون بمصر مضافةً إلى ما يتقلد من أعمال معاون الشام وأدخل الراضي القضاة والعدول حتى عرفهم تقليده محمد بن طغج وأمرهم بمكاتبة أصحابهم وخلطائهم بذلك لئلا ينازعه أحمد بن كيغلغ فإنه كان يتولى مصر .
وفيها قطع محمد بن رائق حمل مال ضمانه عن واسط والبصرة إلى الحضرة واحتج باجتماع الجيش عنده وحاجته إلى صرف المال إليهم .
وفيها تمت حيلة المظفر بن ياقوت حتى قبض على الوزير أبي علي بن مقلة لأنه صح عنده أنه هو قتل أخاه وكان السبب في حبسهما وإزالة أمرهما.
ص: 188
لم يزل يحب التشفي والأخذ بالثار منذ أطلقه الوزير ولكنه يكتم ذلك إلى أن واقف الحجرية وضربهم عليه وبلغ الوزير ذلك فأخذ يعتضد ببدر الخرشني صاحب الشرطة فقوي أمر بدر ووافقه على أن يستولي على دار السلطان فيحصل فيها ويمنع الغلمان الحجرية منها لأنه بلغه أنهم قد عملوا على المصير إلى الدار والمقام ففعل بدر ذلك وحصل هو وأصحابه بالسلاح في الدار ومنع الغلمان الحجرية من دخولها ولم يظهر الوزير أن الذي فعله بدر كان عن رأيه ثم جمع بين الساجية وبين بدر حتى تحالفوا على معاونة بعضهم بعضاً. فلما وقف المظفر بن ياقوت على ذلك ضعفت نفسه وأشار الحجرية بالخضوع للوزير والتذلل له ولم يزالوا يلطفون للوزير ويتحققون بخدمته إلى أن أنس بهم. وسألوه صرف بدر وبذلوا له كل ما أراد من الطاعة والموالاة له إلى أن انخدع وصرف بدراً وأصحابه فلما خلت دار السلطان منهم ومن الساجية تحالف الحجرية على أن تكون كلمتهم واحدة فصاروا بأجمعهم إلى دار السلطان وضربوا خيمهم فيها وحولها وملكوها وصار الراضي في أيديهم وحزبهم. فندم الوزير وعلم أن الحيلة تمت عليه فتقدم إلى بدر بأن يخرج إلى المصلى في أصحابه من غير أن يعلم أحدٌ أنه فعل ذلك برأي الوزير وأمره فخرج بدر وأثبت زيادة من الرجالة. وبلغ ذلك الحجرية فطالبوا الراضي بالله أن يخرج معهم إلى المسجد الجامع في داره فيصلي بالناس ليراه الناس معهم فيعلمون أنه في حيزهم فخرج الراضي يوم الجمعة إلى المسجد الجامع الذي في داره ومشى الغلمان بأسرهم بين يديه وحوله بالسلاح رجالة وصلى بالناس وصعد المنبر وخطب وقال في خطبته : اللهم إن هؤلاء الغلمان بطانتي وظهارتي فمن أرادهم بسوء فأرده به ومن كادهم فكده.
وقلد بدر الخرشني دمشق وأمره بالخروج إليها من المصلى وألا يدخل البلد. وكان المظفر بن ياقوت في هذا كله يظهر للوزير أنه مجتهد في الصلح ويظهر له الخضوع وهو في الباطن يسعى في حنقه وقد قوي أمره بما فعله الراضي . ثم إن الصلح تم بين بدرٍ الخرشني وبين الحجرية فدخل من المصلى إلى منزله وأقرّ بدرُ على الشرطة .
فلما انقضت هذه القصة أشار الوزير على الراضي بالله سرّاً أن يخرج بنفسه ومعه الجيش والحجرية والساجية ليدفع محمد بن رائق عن واسط والبصرة وقال له: قد انغلقت عليك هذه البلدان وهي بلدان المال بما فعله محمد بن رائق من الامتناع من حمل مال ضمانه ومتى رأى غيره أن ذلك قد تمّ له واحتمل عليه تأسي به فذهب مال الأهواز فبطلت المملكة. فعمل الراضي على ذلك وتقدم إليه بالعمل عليه فافتتح الوزير
ص: 189
الأمر مع ابن رائق بأن ينفذ إليه ينال الكبير من الحجرية وماكرد الديلمي من الساجية برسالة من الراضي بالله يأمره فيها أن يبعث بالحسين بن علي النوبختي ليواقف على ما جرى على يده من ارتفاع واسط والبصرة. فلم يستجب ابن رائق إلى إنفاذ الحسين ووهب للرسولين مالاً وأحسن إليهما وسألهما أن يحتملا له إلى الخليفة رسالة في السرّ وهي أنه : إن استدعى إلى الحضرة وفوّض إليه التدبير قام بكل ما يحتاج إليه من نفقات السلطان وأرزاق الجند ومشى الأمور أحسن تمشية وكفى أمير المؤمنين الفكر في شيء من أمره. فلما قدم الرسولان خلوا بالراضي بالله بعد تأدية الرسالة الظاهرة فأديا الرسالة السرّية فلم ينشط الراضي لتسليم وزيره وأمسك .
ولما رأى الوزير امتناع ابن رائق من تسليم الحسين بن علي على عمل على أن يكون ظاهر خروجه إلى الأهواز لا إليه ولا لقصده ودبر أن ينفذ إليه القاضي أبا الحسين برسالة من الراضي ليعرفه ذلك وأنه لم يأمن أن يقع له أن الخروج إنما هو إليه فيستوحش وأنه أنفذ القاضي ليكشف ما في نفسه وعزمه وتوثق له بما يسكن إليه . فلما كان يوم الاثنين لأربع عشر ليلة بقيت من جمادى الأولى وانحدر الوزير إلى دار الراضي بالله ومعه القاضي أبو الحسين ليوصله فيسمع من الراضي بالله الرسالة فلما حصل في دهليز التسعيني قبل أن يصل إلى الخليفة وثب الغلمان الحجرية ومعهم المظفرين ياقوت به فقبضوا عليه ووجهوا إلى الراضي بالله يعرفونه قبضهم عليه إذ كان هو المفسد المضرب ويسألونه أن يستوزر غيره فوجه إليهم يستصوب فعلهم ويعرفهم أنهم لو لم يفعلوا ذلك لفعله هو وردّ الخيار إليهم فيمن يستوزره فذكروا علي بن عيسى ووصفوه بالأمانة والكفاءة وأنه ليس في الزمان مثله فاستحضره الراضي بالله وخاطبه في تقلد الوزارة فامتنع وتكره ذلك فراجعه الراضي بالله وخاطبه الغلمان فيه وطال الخطب معه فأقام على الامتناع فقالوا : فتُشير بمن تراه فأومأ إلى أخيه عبد الرحمن.
فأنفذ الراضي بالله المظفر بن ياقوت إلى عبد الرحمن فأحضره وأوصله إلى الراضي وعرّفه أنه قلده وزارته ودواوينه وخلع عليه وركب في الخلع ومعه الجيش إلى داره وأحرقت دار أبي علي.
لما تقلد عبد الرحمن غلب علي بن عيسى على التدبير فَعَلِمَ أبو العباس الخصيبي
وأبو القاسم سليمان بن الحسن وقد كنا ذكرنا أمرهما وما كان من تفي علي بن مقلة إياهما إلى عمان وتقدمه إلى يوسف بن وجيه صاحب عمان بحبسهما وأن يوسف بن وجيه أطلقهما فصارا إلى بغداد واستترا بها إلى أن قُبِضَ على بن مقلة .
فلما كان في هذا الوقت أكرمهما عبد الرحمن الوزير وكانا يصلان معه إلى الراضي
ص: 190
بالله مع أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وأبي علي الحسن بن هارون وعلي بن عيسى لا يتأخر أيضاً عن الحضور معهم وسلم أبو علي ابن مقلة إلى الوزير عبد الرحمن فضربه بالمقارع وأخذ خَطَّه بألف ألف دينار ثمَّ سلمه إلى أبي العباس الخصيبي فجرت عليه من المكاره والضرب والرهق أمر عظيم وحضر أبو بكر بن قرابة بعد مدة فتوسط أمره وضمن ما عليه وتسلمه وكان أدى إلى الخصيبي نيفاً وخمسين ألف دينار.
وصرف بدر الخرشني عن الشرطة لانحراف الحجرية عنه وولى أعمال المعاون بأصبهان وفارس لأن الحجرية كرهوا مقامه بالحضرة فخلع عليه وأخرج مضاربه إلى ميدان الاشنان وأنفذ إليه اللواء وضم إليه الحسن بن هارون لتدبير أمر الخراج بهذه النواحي ثم توقف عن إمضاء هذا الرأي فبطل خروجه .
وعجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق المال حتى استعفى عبد الرحمن عن تمشية الأمور للراضي بالله ومن الوزارة وسأله أن يقرضه عشرة آلاف دينار إذ كانت وجوه المال قد تعذرت عليه فقبض عليه الراضي في هذه السنة وقلد وزارته الكرخي .
لما قلد أبو جعفر الكرخي الوزارة وخلع عليه وانصرف إلى منزله ومعه الجيش كلف مناظرة علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وحملا إلى داره فصادر علي بن عيسى على مائة ألف دينار وصادر أخاه على سبعين ألف دينار وأقاما على حال صيانة وتكره إلى أن أدّى علي بن عيسى سبعين ألف دينار وأدى أخوه ثلاثين ألف دينار ثم صرفا إلى منازلهما .
وكان الوزير أبو جعفر الكرخي قصيراً فاحتيج بسبب قصره إلى أن ينقص من ارتفاع سرير الملك فنقص منه أربع أصابع مفتوحة وفيها قتل ياقوت بعسكر مكرم.
قد ذكرنا أمر ياقوت في خروجه إلى أرجان لحرب علي بن بويه في قضه وقضيضه وديلمه وأتراكه وسائر خيله. وكان معه من الرجال السودان ثلاثة آلاف رجل وانهزم من بين يدي علي بن بويه بباب أرجان بعسكره كله وكان على الساقة في الهزيمة لأنه ثبت وسار علي بن بويه خلفه إلى رامهرمز وحصل ياقوت بعسكر مكرم في غربيها وقطع الجسر المعقود على المسرقان وأقام علي بن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصلح بينه وبين السلطان .
وكتب أبو عبد الله البريدي إلى ياقوت أن يقيم بعسكر مكرم إلى أن يستريح ويقع التدبير لأمره من بعد وكان غرضه ألا يجمعه وإياه بلدٌ فقبل ياقوت . وأتاه أبو يوسف البريدي متوجعاً بما جرى عليه من الهزيمة ومهنئاً له بالسلامة وتوسط بينه وبين أخيه أبي
ص: 191
عبد الله على أن يطلق له خمسين ألف دينار يعلل بها عسكره إلى أن يكتب إلى السلطان ويستأمره فيما يطلقه له ولرجاله. وعرفه أن الرجال المقيمين بالأهواز فيهم كثرة ويطالبون بما لهم وهم البربر والشفيعية والنازوكية واليلبقية والهارونية وكان أبو علي بن مقلة ميز هؤلاء وأنفذهم إلى الأهواز لتخف مؤنتهم عن الحضرة وتتوفر أموال الساجية والحجرية فذكر أبو يوسف أن هؤلاء لا يطلقون مالاً يخرج من الأهواز إلى سواهم وأنهم إن أحبوا شغبوا فاحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز إشفاقاً على نفسه منهم.
ثم تؤول الحال إلى حرب تقع بعد الهزيمة الأرجانية ولا يدري كيف تكون الحال فيها وأن السلطان ذلك مطالب بحمل مال إليه وقال له : إن رجالك مع سوء أثرهم وقبح بلائهم وهزيمتهم دفعة بعد دفعةٍ إذا أعطوا اليسير قنعوا به وصبروا عليه. فقبل ياقوت ذلك وسبب له بهذا المال على عسكر مكرم وتستر فارضي ببعضه الحجرية وببعضه وجوه القواد وأنفق في سودانه في المسجد الجامع بعسكر مكرم ثلاثة دراهم لكل رجل ومضى الأمر على ذلك شهوراً. وافتتح مال سنة 324 فضجّ رجاله وطالبوه وقالوا: إنه لا صبر لهم على الضرّ وأن المنافسة على خيرات الدنيا في الطبع والجبلة لو كانوا أغنياء فكيف بهم مع اختلالهم وأنهم لا يرضون أن يقبض نظراؤهم بالأهواز على الإدرار ويحرموهم وأن يتجرعوا الأسف والحسرات وأنهم قد سئموا الفقر ومعاناة المجاعة.
وقد كان استأمن من أصحاب علي بن بويه إلى ياقوت طاهر الجيلي وكان ممن يرشح نفسه للأمور الكبار ويرى أنه نظير لشيرج وطبقته واجتمع إليه نحو ثمانمائة رجل من العجم فشعب على ياقوت ثم رحل مع أصحابه وانصرف عنه وقدَّر أنه يملك ماه البصرة وماه الكوفة. فكبسه علي بن بويه ثم سجنه فنجا بنفسه مع بعض غلمانه وأبو جعفر الصيمري كاتبُهُ في الأسر وخلّصه الحناط فخرج إلى كرمان فكان سبباً لإقباله واتصاله بالأمير أبي الحسين أحمد بن بويه فضعفت نفس یاقوت بخروج طاهر الجيلي وأصحابه واستطال باقي رجاله عليه وخاف أن يعقدوا لبعض قواده الرياسة وينصرفوا عنه فكاتب أبا عبد الله البريدي بالصورة وأعلمه أنه كاتبه ومدبر أمره وأنه قد فوّض إليه الرأي والتدبير في رجاله ليمضي عليه وعليهم ما يستصوبه .
كان ياقوت واثقاً برجل ساقط يعرف بأبي بكر النيلي يجريه مجرى الأب وينحطُ إلى رأيه وقوله مع ضعة في النيلي وخساسته في همته وقدره فاستصلحه أبو عبدالله البريدي ووسع عليه فكان النيلي رسول ياقوت إلى أبي عبد الله بما قد ذكرته . فكتب أبو عبد الله البريدي أن عسكره قد فسدوا وفيهم من ينبغي أن يُميّز ويخرج لأن علي بن خلف بن طناب خانه واقتطع أموالاً باسم هؤلاء القوم وزاد قوم زيادات كثيرة وأن
ص: 192
الصواب أن ينفذوا إليه ليعرفهم أن هذه الزيادات تفوّتهم الأصول السلطانية ويشافههم بأن الصواب أن يسقطوها ليتوفّر عليهم الأصول وقال : إنما يتم هذا بالأهواز لأنهم يردونها أفواجاً وزمراً فإن أساؤوا آدابهم وامتنعوا قوموا بالجيش المقيمين بالأهواز وأنهم إن خوطبوا بهذا الكلام وهم بعسكر مكرم تظاهروا وتضافروا وتعاقدوا فلم يتم عليهم ردّهم من الكثير إلى القليل. وأكثر في هذا المعنى حتى قال : يا أبا بكر سبيل العرض أن يقع بحيث الهيبة والخوفُ لا بحيث الحكم والاستطالة. فما قال له النبلي: الهيبة حيث يكون الأمير لا أنتَ ولا كانت له منة لأن يرُدُّ عليه شيئاً .
وسأل أبو عبد الله البريدي أن ينفذ إليه أبا الفتح بن أبي طاهر وأبا أحمد الجستاني ليشاورهما في التقرير ويتعرَّف منهما منازل الرجال واستدعى أبا بكر النقيب الذي كان أبي طاهر محمد بن عبد الصمد ليعرف منه أحوالهم وأنفذ إليه ياقوت من التمس وتقدَّم إلى رجاله بالخروج للعرض. فلما حصلوا عند البريدي استصلح الرجال لنفسه وانتخب منهم من أراد أن أراد ووعدهم يجريهم مجرى من معه بالأهواز فأجابوه وصاروا إلى عسكره وردّوا الأرذال إلى ياقوت بعد أن أسقط زياداتهم. فلما استتم العرض وجد نصف الياقوتية قد انحازوا عنه فقيل لياقوت ذلك ووبّخ وعذل فقال : قد اجتمع لي بمقام من أقام بالأهواز خنّة المطالبة عني وحصولهم مع كاتبي وليس يصلح ابن البريدي لما أصلحُ له فأخافه وإن احتجتُ أو احتيج إلى حرب فالجماعة بالضرورة يعودون إليَّ وهم عدة لي عنده وعاد رجال ياقوت إليه فقالوا له ما حصلنا من الغرض إلا على أن خرج شطرُنا وهيض جناحنا وضعفت شوكتنا فاكتب إلى البريدي أن يحمل ما قرره لنا . فكتب ياقوت بذلك فأجابه أبو عبد الله بأنه يحتال ويحمل .
ثم زاد الإلحاح على ياقوت فخرج بنفسه إلى الأهواز في ثلاثمائة رجل وقلل العدة لئلا يستوحش البريدي وقدّر أنه إلى كاتبه يمضي فتلقاه أبو عبد الله البريدي بالسواد الأعظم واخرج معه كل من بالأهواز من الجيش فلما رأى ياقوتاً ترجل له وانكب ياقوت عليه حتى كاد ينزل عن دابته ثم سار وانزله داره وخدمه بنفسه وقام بين يديه إلى أن طعم وغسل يده فناوله الماء ورد والمنديل وبخّره بيده فهو في ذلك قبل أن يفاوضه إذ ارتفعت ضجة عظيمة وشغب الجند وقالوا: إنما وافى ياقوت إليه ! فقال البريدي : أيها الأمير الله الله اخرج وبادر وإلا قتلنا جميعاً. فخرج ياقوت من وقته خائفاً يترقب من طريق يخالف طريق المشغبين وعاد إلى عسكر مكرم كما بدا منها. ثم ورد عليه كتاب البريدي بأن الرجال بالأهواز قد استوحشوا منه وأن الوجه أن يخرج إلى تستر فإن بينها وبين الأهواز ستة عشر فرسخاً وعسكر مكرم فهي على ثمانية فراسخ وإذا نأتِ الدار زال الاستيحاش وسبب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار فخرج إليها .
ص: 193
فقال له مونس (وكان مونس هذا تربية ياقوت وثقته) : أيها الأمير إن البريدي يحزُّ مفاصلنا مفصلاً مفصلاً ويسخر منا وأنت مغتر به وقد حاز شطر رجالنا ووجوه قوادنا إلى نفسه وضمن لنا اليسير من المقرر وليس يطلق ذلك أيضاً ليستأمن إليه الباقون ثم يأتي على أنفسنا وقد اتصلت كتب الحجرية إليك بأنه لم يبق لهم شيخ غيرك فأما دخلت بغداد وجميع من بها يسلّم لك الرياسة وأولهم محمد بن رائق بالضرورة لسنك وأنك نظير أبيه وإما خرجت إلى الأهواز حتى تطرد البريدي عنها وتقيم أنتَ بها فإنَّا وإن كانت عدّتنا يسيرة دون عِدَّتِه فهو كاتب ونحن في خمسمائة رجل وهو في عشرة آلاف رجل وقد أحصيت من عندنا فوجدتهم نحو خمسة آلاف رجل وفيهم كفاية والعسكر بصاحبه وأنت أنتَ . وقد قال عدوك على ابن بويه :« لو كان في عسكر ياقوت مائة رجل مثله ما قاومته »فالله الله يا مولاي لم تضيّع نفسك وتضيعنا. فقال: سأنظر وأفكر. فخرج مونس مغضباً من عنده وركب في ثلاثة آلاف رجل شاذاً عن مولاه ياقوت ووافي عسكر مكرم يريد الأهواز وقال لنا: لا أعصي مولاي فإنه اشتراني ورباني واصطنعني ولكني أفتح الأهواز وأسلّمها إليه فما استقر بعسكر مكرم ثلاث ساعات من النهار حتى ورد كتاب ياقوت على درك (وكان والي الشرطة بعسكر مكرم )يعرّفه أن مونساً غلامه خرج بغير إذنه وشرح له صورته وسأله أن يجتمع معه ويخوفه الله عزّ وجلّ ويحذره كفر نعمته ويستوقفه إلى أن يلحق به فعبر درك من شرقي عسكر مكرم إلى غربيها ووعظ مونساً وعظاً كثيراً وخاطبه خطاباً بليغاً وكان ترك شيخاً مقدماً إلا أن السنَّ قد أخذت منه وحضر بحضوره أصحابه فقال لمونس خادِمٌ كان معه مكيناً منه وكان معقلاً يا مونس إن مولاك قبض على ابنيه وهما تاجان ودُرّتان فلم يستحل أن يعصي مولاه ولا يكفر نعمته وسلّمها ولم يحارب فيهما ولا طلب بهما أفأنتَ تعصي مولاك فترسل يدك عن طاعته أما تخاف العقوبة، وأن تخذل في هذه الحرب ويظفر بك فتخسر الدنيا والآخرة ولا سيما وقد بذل أن يوافيك ويساعدك على ما تريده انتظر ريث نفوذ كتابنا وورود جوابه. فأقام مونس لما أخذه العذل والتأنيب من درك وأصحابه ووافي ياقوت في اليوم الثاني واجتمع مع غلمانه .
ووافي عسكر البريدي بأسره فنزلوا في صحراء خان طوق ومعهم غلام البريدي يرؤسهم ومعه القُوّاد الكبار وأكبرهم أبو الفتح بن أبي طاهر. ووقعت المنازلة بين ياقوت وأبي جعفر الجمال وتثبت ياقوت بعسكر مكرم عن المسير إلى الأهواز وتهيب الصورة وقال لمونس : السلطان لنا على النيَّة التي عرفناها وكان منه إلى ابني ما لا يجوز أن يصلح لي أبداً وفارس فقد عرفت صورتنا بها ولا مذهب لنا في الدنيا ولا لنا موضع نأويه إلا هذا البلد والحرب سجال وقد كثر عسكر الرجل فإن نحن حاربناه وانهزمنا كُنَّا
ص: 194
بين الأسر والحمل إلى الحضرة وشهرتُ بها واركبتُ الفيل ثم يظنُّ بي أني كفرت نعمة ومولاي فليعنني الناس وبين أن أقتل والوجه المداراة والمقاربة لهذا الرجل وأن نعود إلى تستر ونصير منها إلى الجبل فإن استقام لنا بها أمرٌ وإلا لحقنا بخراسان وشاع هذا الكلام فضعفت نفوس أصحابه وطالت الأيام في منازلة عسكر البريدي فكان كل يوم يستأمن عدة من أصحابه إلى البريدي . فكان مونس يبكّر إليه في كل يوم ويقول له : يا مولاي مضى البارحة من أصحابنا ثلاثمائة أو أكثر أو أقل . فلا يزيده على أن يقول : إلى كاتبنا يمضون وإذا كانت هذه نيَّاتهم لنا فما الانتفاع بهم؟ ولأن يبقى معنا ألف رجل يحصلون فنمضي بهم إلى حيث نقصد أصلح من جميع هذا اللفيف الذي هم كلٌّ في
الرخاء وأعداء يوم اللقاء وقد جربناهم بباب فارس و باب ارَّجان. فلم يزل كذلك حتى بقي في ثمانمائة رجل فلما علم البريدي أنه قد استظهر الاستظهار التام راسله في الموادعة بأبي القاسم التنوخي القاضي وقال : إني لك على العهد والميثاق . وأنه كاتبه وأن الإمارة لا تصلح له وأن البلوى والشقاء قد حلاً به وصارت مطالبة الرجال عليه وأنه يلاقي الموت صباح مساء ويخاف على نفسه منهم وأنه لا رغبة له في ارتباطهم وإنما جرَّ سبب سبباً حتى اجتمعوا عنده وأنه يصاهره حتى يزداد ثقة به ووكل القاضي في تزويج بنته من أبي العباس أحمد بن ياقوت . فوافاه القاضي أبو القاسم التنوخي وأدى إليه الرسالة وقبلها وانعقد الصهر ورحل للوقت إلى تستر .
ووافاه بعقب ذلك غلام للسلطان من الحجرية ومعه المظفّر ابنه بكتاب إليه يذكر فيه أنه قد وهب ابنه هذا له ومن به عليه فالتقيا بتستر فأشار عليه ابنه المظفر بالخروج إلى حضرة السلطان ليشكره على إنفاذه ويقيم بدير العاقول ويستأذنه في الدخول فإن أذن له فقد تمّ له ما يحب ووجد الحجرية مسرعين إليه وإن لم يأذن له تقلد الموصل وديار ربيعة وخرج إليها وإن منع من ذلك جعل مقصده الشام. فخالف ابنه ولم يرتض رأيه وقال : أنا أتأمل ما ذكرته فأقم عندي لنتشاور . فاستعفاه من ذلك وسأله أن يأذن له في المقام بعسكر مكرم فأذن له فأطمع البريدي المظفر في أن يجعله أسفهسلار عسكره وأن يتدبر بتدبيره حتى فارق أباه واستأمن إليه فحصل في بستانه المشهور بالأهواز وأحاط بالبستان من يراعيه ويحفظه من حيث لا يعلم.
ولما استوثق البريدي لنفسه واستظهر تخوف من الياقوتية الذين عنده وأن يراسلوه بلون من الألوان المنكرة من التدبير عليه أو أن يتداخلهم التعصب له فيشغبوا عليه ويدعوا بشعار ياقوت وكتب إلى ياقوت بأن السلطان قد أمره بالخروج عن تستر إلى الحضرة في خمسة عشر غلاماً أو النفوذ إلى الجبل متقلداً لها وبأن يقصده إلى تستر ويخرجه منها قهراً فتحيّر ودعا مونساً غلامه فقال له : أي شيء ترى؟ فقال له : الآن وقد
ص: 195
مضى ما مضى والله لأصحبك إلى الحضرة ولا إلى الجبل أحد ممن معك ولا لهم نفقات تنهضهم فإن أردت أن تمضي في عشرين غلاماً إلى السلطان فذاك إليك . فأجاب البريدي عن كتابه بأنه يروي ويذكر له ما عنده بعد أن استمهله شهراً ليتأهب للسفر الذي يقصده فعاد إليه من جواسيسه واحد كذبه فأخبره بأن الجيش وافى عسكر مكرّم ونزلوا الدور وانبسطوا في المدينة فأحضر غلامه مونساً وقال له : ظفرنا والحمد لله بعدونا وكافر نعمتنا فنسير من تستر وقت عتمة ونصبح عسكر مكرم والقوم غارون في الدور فنكبسهم ونشردهم ونمتد إلى الأهواز فلا يثبت لنا البريدي بل يكون همه الهرب لوجهه . فقال مونس : أرجو أن يكون هذا صواباً .
وسار ياقوت ووصل إلى عسكر مُكرم وقد بدأت الشمس من مطلعها وامتد مشتقاً المبار إلى ناعورة السبيل ونهر جارود فلم ير لرجال البريدي أثراً فخيَّم ونزل عند النهر ومضى يومه إلى آخره وهو متعجب من الغرور الذي غرّه جاسوسه فلما كان وقت العصر ظهرت الطلائع ثم أقبل العسكر وأميرهم أبو جعفر الجمال فنزل على فرسخ من ياقوت وحجز الليل بين العسكرين وأصبح فكانت بينهم مناوشة ومبارزة واتعدوا للحرب في اليوم الذي يليه لأن عسكر البريدي كانت منتظراً عسكراً قد سيره البريدي على طريق دجيل ليدخل من ضفته كميناً على ياقوت حتى يصير وراءه. ثم أصبحوا في اليوم الثالث من ورود ياقوت عسكر مكرم فابتدأت الحرب منذ وقت طلوع الشمس إلى وقت الظهر وثبت ياقوت ومعه ممن نصره مثل مونس وآذريون ومشرق وغيرهم في دون ألف رجل فأعيا من بإزائه من أبي جعفر الجمال وغيره على كثرة عددهم حتى كادت البريدية تنهزم. وجاءت الظهر وقد بلغت القلوب الحناجر فطلع الكمين وهم ثلاثة آلاف رجل جامين فأبلس ياقوت وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأوماً إلى مونس أن يقصدهم ويكفيه إياهم فعدل مونس مع ثلاثمائة رجل إليهم وبقي ياقوت في خمسمائة رجل فما مضت ساعة حتى وافى منهزماً فرمى ياقوت نفسه من دابته ونزع سلاحه وما عليه من ثيابه حتى بقي بسراويل وقميص سينيزي ثم أوى إلى رباط يعرف برباط الحسين بن دبار فاستند إليه ولو دخل الرباط واستتر فيه لا نستر أمره ولجنَّهُ الليل ولجاز أن يسلم فجلس بحيث ذكرت وهو بقرب ناعورة السبيل وغطى وجهه ومد يده يسأل ليقدّر فيه أنه من أرباب النعم افتقر وهو يطلب هدية فركب إليه قوم من البربر ورأوه بهذه الصورة فطلبوه بكشف وجهه فامتنع وأومأ إليه أحدهم بمزراق فقال : أنا ياقوت احملوني إلى البريدي. فاجتمعوا عليه وحزوا رأسه وانهزم مونس ومشرق وآذريون إلى تستر واتبعهم الأعراب والبربر فأسروهم وردوهم وأطلق أبو جعفر الجمال طائراً بالخبر إلى البريدي يستأذن في رأس ياقوت فردّ إليه في الجواب مع غلام يركض
ص: 196
بأن يجمع الرأس والجثة ويدفن الجميع في الموضع الذي قتل فيه وقبض البريدي على المظفر ابنه مدة ثم أنفذه إلى الحضرة .
وطغى البريدي بعد ذلك وشهر نفسه بالعصيان وقد كانت نفسه ضعيفة فيما ارتكبه من أمر ياقوت فقواها أخوه أبو يوسف حتى جهز إليه العساكر وقتله فحكى أبو زكريا يحيى ابن سعيد السوسي أنه سمع سمع أبا أبا يوسف البريدي يخاطب أبا عبد الله أخاه فقال أبو عبد الله : يا أخي أخاف أن تتعصب الحجرية علينا فيقتلونا إن دخلنا الحضرة يوماً وفي العاجل لستُ آمن على أخي أبي الحسين وهو بالحضرة أن يقتل بثأره . فقال أبو يوسف : أما أبو الحسين فنحن نكتب إليه بالخبر حتى يأخذ لنفسه ويستظهر وأما الحجرية ودخولنا الحضرة بعد أن وسمنا بمصادرة اثني عشر ألف ألف درهم فهيهات من ذلك أبعد تخلصنا من القاهر ومن الخصيبي الملعون وسلامة أرواحنا نحدّث أنفسنا بدخول الحضرة بلى ستهدم منازلنا وإلى لعنة الله ما نعود إلى الحضرة فنحتاج إليها وقد دبرت ودع يا أبا عبد الله ما اعتدت فإنك لا ترى مثله مع مع خلوقة الزمان وإدبار الملك وفقر الخلافة وقد كنا نتكسب من السلطان وهو اليوم مثلنا نحن بل نحن مكسب له يريد أن يجتاحنا ويأخذ مالنا ومتى لم نعتصم بهذه العساكر المجتمعة ونخرج ياقوتاً منها سقطنا ثم يطول علينا أن نجد من أيامنا يوماً ووالله ما أشرت عليك بما تسمع إلا بعد أن استعددت له ما يعينني عليه وقد واقفتك على هذا سراً وجهراً وأبو زكريا ممن لا نحتشمه (قال أبو زكريا) وإنما أومأ أبو يوسف بهذا القول إلى مال السوس وجنديسابور فإن أبا عبد الله كان أجمه عنده استظهاراً وأناخ النفقات وأرزاق الأولياء وما كان يعلّل به السلطان على أموال كور الأهواز الباقية وكان يجتذب القطعة فالقطعة منها ويجعل ذلك وراءه ولم يكن له نفقة ولا بذخ حينئذ. وما وهب قط لطارق ولا شاعر ولا ولد نعمة شيئاً وكان عارفاً بورود الأموال وخرجها وجميعها تجري على يده فإن شذ منها شيء عنه إلى إسرائيل بن صلح وسهل بن نظير الجهبذين لم يخف عليه مبلغه قال واستخرج أبو عبد الله وأخوه أبو يوسف من كور الأهواز بعد تقليد الراضي إياهما لسني اثنتين وثلاث وأربع وعشرين وثلاثمائة وإلى شعبان من سنة خمس (فإن بجكم هزمهم وأخرجهم عنها في هذا الشهر) ثمانية آلاف ألف دينار وجميع ما خرج عنها في جميع وجوه النفقات دون أربعة آلاف ألف دينار حاصلة وسمعت يعقوب الصيرفي اليهودي يقول : سمعت أبا عبد الله يقول : نمضي إلى البصرة فإن تم لنا بها أمر فقد كفينا وإن حزبنا أمر لا نطيقه قصدنا عمان واستجرنا بصاحبها (يعني يوسف بن وجيه) فإنه حُرّ ودبرنا أمرنا فأما إن عبرنا إلى فارس واستجرنا بعلي بن بويه فإن دولة الديلم قوية والحضرة مدبرة وأما إن عبرنا إلى التيز ومكران وقصدنا صاحب خراسان فالطريق إليها جدد.
ص: 197
وعدنا إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها كان الوزير غير ناهض بالوزارة وما زالت الإضاقة تزيد ومن في يده مال من المعاملين يطمع وقطع ابن رائق الحمل من واسط والبصرة والبريديون من الأهواز وعلي بن بويه قد تغلب على فارس وابن الياس على كرمان فتحيّر أبو جعفر الكرخى واعتدت المطالبات عليه وانقطعت المواد عنه ونقصت هيبته فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وقت تقلده ووجد في خزانته سفاتج لم تفض وما يجري هذا المجرى من العجز وقلة النفاذ في العمل.
ولما استتر الكرخي استحضر الراضي سليمان بن الحسن أبا القاسم فقلده الوزارة والدواوين فكان في التحير وانقطاع المواد عنه على مثل حال الكرخي فدفعت الضرورة الراضي بالله إلى أن راسل أبا بكر محمد بن رائق وهو بواسط وأذكره بما ضمن من القيام بالنفقات وإزاحة علة الجيش والحشم ومسألته عما عنده من المقام على ذلك أو الانصراف عنه . فتلقى أبو بكر محمد بن رائق الرسول بالجميل ووصله بألف دينار وأجاب عن الكتاب بأنه مقيم على ما ضمنه .
فأنفذ إليه الراضي ماكرد الديلمي من الساجية وعرفه أنه قلده الإمارة ورياسة الجيش وجعله أمير الأمراء وردّ إليه تدبير أعمال الخراج والضياع وأعمال المعاون في جميع النواحي وفوض إليه تدبير المملكة وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك وبأن يكنّي وأنفذ إليه الخلع واللواء مع ماكرد الديلمي وخادم من خدم السلطان وانحدر إليه أصحاب الدواوين كلهم وجميع قواد الساجية والحسن بن هارون. فلما حصلوا بواسط قبض على الساجية وعلى الحسن بن هارون قبل أن يصلوا إليه وحبس الساجية ونهبت رحالاتهم وقيل للحجرية : إنما فعلنا ذلك بالساجية لتتوفر أموالكم .
وورد الخبر بذلك إلى بغداد وكان قد بقي من الساجية ببغداد خلق فخرجوا إلى الموصل وإلى الشام واستوحش الحجرية ببغداد لما جرى على الساجيّة بواسط فقصدوا دار السلطان وأحدقوا بها وضربوا خيمهم حولها ووجه ابن رائق بمونس الأفلحي وبارس الحاجب إلى بغداد فضربوا خيمهم في باب الشماسية وقلد لؤلؤ الشرطة ببغداد. ثم أصعد محمد بن رائق واسط يوم من واسط الجمعة لعشر بقين من ذي الحجة ومعه بحكم فرُتب محمد بن رائق فوق الوزير وخلع عليه وركب إلى مضربه في الحلبة وحمل إليه من دار السلطان الطعام والشراب والفواكه عدة أيام وخدمه في ذلك خدم السلطان . و اجتمع إليه الغلمان الحجرية وسلّموا عليه وأمرهم بقلع خيمهم من دار السلطان والانصراف إلى منازلهم ففعلوا .
ص: 198
وبطل منذ يومئذ أمر الوزارة فلم يكن الوزير ينظر في شيء من أمر النواحي ولا الدواوين ولا الأعمال ولا كان له غير اسم الوزارة فقط وأن يحضر في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقة ويقف ساكتاً وصار ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمر كله وكذلك كل من تقلد الإمارة بعد ابن رائق إلى هذه الغاية وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها وينفقونها كما يرون ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون وبطلت بيوت الأموال .
وفي هذه السنة ملك ابن إلياس كرمان وصفت له بعد حروب جرت له مع جيش خراسان .
وفي هذه السنة جرت الحادثة على أبي الحسين أحمد بن بويه وأصيب بيده ووقع بين القتلى ثم تخلص وأفضى أمره إلى ملك العراق .
ذكر السبب في ذلك
لما تمكن علي بن بويه بفارس وتمكن أخوه الحسن بن بويه بأصبهان نظر في أمر أخيه الأصغر أبي الحسين أحمد بن بويه فتقرر الأمر بينهما مكاتبة ومراسلة على أن يتوجه إلى كرمان فضم إليه علي بن بويه عسكراً فيه من كبار الديلم ومذكوريها ألف وخمسمائة رجل ونحو خمسمائة رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم. وكان يكتب لأبي الحسين في ذلك الوقت رجل يعرف بأبي الحسين أحمد بن محمد الرازي وكان ممتعاً بإحدى عينيه ويعرف بكوردفير ولم تكن له صناعة ولكنه كان واسع الصدر شجاعاً فورد السيرجان واستخرج منها مالاً وأنفقه في عسكره. وكان إبراهيم بن سمجور الدواتي من قبل صاحب خراسان محاصراً لمحمد بن إلياس بن اليسع الصغدي فلما بلغ ابن سمجور خبر الديلم رجع إلى خراسان ونفس عن خناق محمد بن إلياس فتخلص وانتهز الفرصة وخرج عن القلعة التي كان فيها إلى مدينة بم وهي على مفازة تتصل .بسجستان فسار أحمد بن بويه إليه فرحل إلى سجستان من غير حرب فانصرف من هناك وتوجه إلى جيرفت وهي قصبة كرمان واستخلف على بمّ بعض قواده. فلما أشرف على جيرفت تلقاه رسول علي بن الزنجي وكان رئيس القفص والبلوص وهو المعروف بعلي بن كلويه وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الأعمال إلا أنهم يجاملون كل سلطان يرد عليهم ويذعنون له ويحملون إليه مالاً معلوماً ولا يطؤون بساطه . فبذل لأحمد بن بويه ذلك المال على الرسم فأجابه بأن الأمر في هذا إلى أخيه علي بن بويه وأنه لا بدَّ له من دخول جيرفت فإذا دخلها كاتبه وراسله في ذلك وأمره أن يبعد عن البلد فاستجاب ورحل إلى نحو عشرة فراسخ من البلد في موضع وعر صعب المسلك .
وتردَّدت المراسلات بينهما إلى أن تقرّر الأمر بينهما على أن ينفذ إليه رهينته ففعل
ص: 199
وقاطعه عن البلد على ألف ألف درهم يحملها في كل سنة وحمل في الوقت مائة ألف درهم منسوبة إلى الهدية وغير محسوبة من مال المقاطعة وأقام له الخطبة ثم حمل شيئاً من مال التعجيل وسلك سبيل الوفاء معه . فأشار كورد فير الكاتب على أحمد بن بويه بأن يسري إليه ناقضاً ما بينهما من العهود فإنه سيجده غير متحرّز وأصحابه غارين لسكونهم إلى وقوع الاتفاق وزوال الخلاف فيفوز بأموالهم وذخائرهم ويستولي على ديارهم ويتمّ له ما لا يتمّ لأحد قبله.
أصغى أبو الحسين أحمد بن بويه إلى كاتبه ووقع بوفاقه لحداثة سنّهِ واغتراره فحمل نفسه على مفارقة ما يجب عليه في الدين والمروءة وجمع صناديد عسكره وخلف سوادَهُ وما يجري مجراه وأسرى للوقت إلى القوم وذلك عند صلاة العصر ليصبحهم بياتاً. وكان علي بن كلويه متيقظاً قد وضع عيونه عليه فسبق إليه الخبر فجمع أصحابه ورتبهم على مضيق بين جبلين كان الطريق فيه فلما توسط أبو الحسين في الليل مع أصحابه ثأروا به من جميع الجوانب فقتلوا وأسروا رجال العسكر فلم يفلت منهم إلاّ اليسير. ووقعت بأبي الحسين أحمد بن بويه ضربات كثيرة كانت ظاهرة فيه وطاحت يده اليسرى وبعض أصابع يده اليمنى وأثخن بالضرب في رأسه وسائر جسدهِ وسقط بين القتلى وورد الخبر بذلك إلى جيرفت فهرب كاتبه كوردفير ومن تأخر من أصحابه ولما أصبح علي بن كلويه أمر بتتبع القتلى والتماس أحمد بن بويه فوجدوه حيا إلا أنه قد أشفى على التلف فحمل إلى جيرفت وأقبل علي بن كلويه على علاجه وخدمته وبلغ في ذلك كل مبلغ واعتذر إليه وأظهر الغمّ بما أصابه واتصل الخبر بعلي بن بويه فاشتدّ غمه وقبض على كوردفير وأنفذ مكانه أبا العبّاس وخطلخ حاجبه في ألفي رجل ليجمعا ما بقي من سواد معزّ الدولة (أعني أحمد بن بويه بالسيرجان ويضُما من بقي من فلّ العسكر. وأنفذ علي بن كلويه رُسله وكتبه إلى علي بن بويه بالاعتذار مما جرى ويوضح له الصورة ويبذل من نفسه الطاعة ويذكر أنه ما فارقها ولا خرج عنها فأنفذ إليه علي بن بويه قاضي شيراز وأبا العباس الحناط وأبا الفضل العباس بن فسانجس وجماعة من الوجوه وأجابهُ بالجميل وبسط عذره وأمضى ما كان قرَّره وردَّ رهينتهُ وجدَّد له عهداً وعقداً. فحينئذٍ أطلق علي بن كلويه أبا الحسين أحمد بن بويه وأطلق معه اسفهدوست وسائر من كان أسيرا في ي- بعد أن أجمل معاملتهم وخلع عليهم وحمل إليهم آلات وألطافاً. فلما وصل أحمد بن بويه إلى السيرجان وجد كاتبه مقبوضاً عليه وقد جرى عليه مكاره عظيمة أشرف منها على التلف فاستنقذه ونصرَهُ وبرّأهُ وبرأه من الذنب وشفع إلى
أخيه فيه فشفّعهُ وأطلقه .
ص: 200
وتأدى إلى أبي علي بن إلياس ما جرى على أبي الحسين وطمع فيه وسار من سجستان حتى نزل البلد المعروف بخُناب فتوجه إليه أبو الحسين واشتدت الحرب بينهما أياماً إلا أن عاقبة الأمر كانت لأبي الحسين فانهزم ابن إلياس وعاد أبو الحسين ظافراً.
وتتبعت نفسه التشفي من علي بن كلويه وطلب الثأر عنده فتوجه إليه واستعد علي بن كلويه واحتشد ثم سار إليه فلما صار بين العسكرين نحو من فرسخين نزل وعملوا على مباكرة الحرب فأسرى علي بن كلويه في جماعة من أصحابه وهم قوم رجالة قادرون على العدو والمعابرة فيه فوقع على عسكر أبي الحسين ليلاً. واتفق إن تغيمت السماء بمطر جود واختلط الناس فلم يتعارفوا إلا باللغات فأثروا في عسكر أبي الحسين وقتلوا ونهبوا وانصرفوا وبات عسكر أبي الحسين بقية ليلتهم يتحارسون فلما أصبحوا ساروا إلى القوم فأوقعوا بهم وقتلوا منهم عدة وانهزم علي بن كلويه ورجع أبو الحسين وقد تقع بعض غلته إلا أن في صدره بعد حزازات. وكتب إلى أخيه علي بن بويه بالبشارة والظفر بابن إلياس وانهزامه وبعلي بن كلويه وهربه فورد عليه الجواب بأن يقف حيث انتهى ولا يتجاوزه وأنفذ إليه المرزبان بن خسرة الجيلى أحد قواده الكبار ليبادر به إلى حضرته ويمنعه التلؤم والمراجعة وكاتب سائر القوَّاد بمثل ذلك فرجع إلى حضرته كارهاً لأنه ما كان بلغ ما في نفسه من علي بن كلويه وأصحابه فلما وصل إلى اصطخر أقام .
واتفق أن أبا عبد الله البريدي وافى فارس في البحر لاجئاً إلى علي بن بويه وذلك أن محمد بن رائق وبحكم استظهرا عليه في عدّة حروب وانتزعا الأهواز من يده وأشرفا على انتزاع البصرة منه فخلَّف أخاه أبا يوسف وأبا الحسين علي بن محمد بها .فلما ورد حضرة علي بن بويه مستصرخاً به أكرمه وأحسن ضيافته وبذل له أبو عبد الله إذا ضم إليه الرجال أن يمكنه من أعمال العراق ويصحح له أموالاً عظيمة من الأهواز ويسلّم إليه ولدين له رهينة واستقدم علي بن بويه أخاه أبا الحسين من اصطخر فلما قرب منه تلقاه في جميعِ عسكره وقربه ورتبه فوق ما كان في نفسه تسلية له عن مصيبته ثم أنهضه مع أبي عبد الله البريدي في عسكر قوي وعدة تامة وسار واتصل خبره بمحمد بن رائق وبجكم فأما بجكم فإنه عاد إلى الأهواز وكان مع ابن رائق بعسكر أبي جعفر محاصرين البصرة وأراد أن يمنع الديلم من تورد الأهواز وأما ابن رائق فعاد إلى واسط والتقى عسكر بحكم وعسكر أبي الحسين بالقرب من رامهرمز وانحاز بجكم إلى عسكر مكرم بعد حروب سنذكرها إن شاء الله في سنة سنة ست وعشرين .
وفيها أشار أبو بكر محمد بن رائق علي الراضي بالله أن ينحدر معه إلى واسط
ص: 201
ليقرب من الأهواز ويراسل البريدي فإن انقاد إلى ما يراد منه وإن مرق عليه قصده. فاستجاب الراضي إلى ذلك وانحدر يوم السبت غرة المحرم واضطربت الحجرية وقالوا : هذه تعمل علينا ليعمل بنا ما عمل بالساجية ونحن نقيم ..بغداد فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر بعضهم وتأخر أكثرهم ثم انحدر الجميع فلما صاروا بواسط عرضهم ابن رائق وبدأ بخلفاء الحجاب وكانوا نحو خمسمائة حاجب فاقتصر منهم على ستين وأسقط الباقين ونقص ابن رائق من أقرّ منهم. وأخذ يعرض الحجرية ويسقط منهم الدخلاء والبدلاء والنساء والتجار ومن لجأ إليهم فاضطربوا من ذلك ولم يستجيبوا إليه ثم استجابوا وعرضهم وأسقط منهم عدداً كثيراً ثم اضطربوا وحملوا السلاح فحاربهم ابن رائق يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرم حرباً عظيمةً فكانت على الحجرية فقتل بعضهم وأسر بعضهم وانهزم الباقون إلى بغداد فركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداد وأوقع بالمنهزمين واستتروا فنهبت دورهم وأحرق بعضها وقبضت أملاكهم. فلما فرغ ابن رائق من حرب الحجرية وقهرهم تقدم بقتل من كان اعتقلهم من الساجية فقتلوا سوى صافي الخازن والحسن بن هارون.
فلما فرغ من الساجية والحجري~ة عمل الراضي بالله وأبو بكر بن رائق على الشخوص إلى الأهواز ودفع البريدي عنها وأخرجت المضارب إلى ياذبين وبلغ البريدي ذلك فقلق قلقاً شديداً وأنفذ إليه أبو جعفر بن شيرزاد وأبو محمد الحسن بن إسماعيل الإسكافي برسالة من الراضي بالله ومن ابن رائق يعرفان أنه قد أخر الأموال واستبد بها وأفسد الجيوش وحسن لها المروق وأنه ليس بطالبي يسارع على الملك ولا بجندي فيبتغي الإمارة ولا من حملة السلاح فيؤهل لفتح البلاد المنغلقة وأنه كان كاتباً صغيراً فرفع بعد خمول وعاملاً من أوسط العمال فاصطنع وأهل لجليل الأعمال فطغى وكفر النعمة وجازى عن الإحسان بالسوء وخلع الطاعة وأنه إن سلَّم الجند وحمل المال أقرَّ على العمال وإلا قصد وعومل بما يستحق.
فوافياهُ وأخبراه بما تحمّلاه ونصحا له فعقد على نفسه كور الأهواز بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل منها في كلِّ شهر من شهور الأهلة ثلاثين ألف دينار وأن يسلّم الجيش ممن يؤمر بتسليمه إليه ممن يؤمر عليهم ليخرج بهم إلى فارس للحرب إذ كانوا كارهين للعود إلى الحضرة لضيق الأموال بها ولاختلاف كلمة الأولياء فيها ولأنهم لا يأمنون الأتراك والقرامطة وكاتبا ابن رائق بذلك فعرضه على الراضي بالله وشاور فيه الحسين بن علي النوبختي فأشار بألأ يقبل منه ذلك وأن يتمم ما شرع فيه من قصده ما دام قلبه قد نخب وأن يخرج الأهواز من يده ولا يقارّ بها. وأشار أبو بكر بن مقاتل بقبول ما بذله وإقراره في ولايته فمال ابن رائق إلى الهوينا وقبل رأي ابن مقاتل وكان
ص: 202
الرأي الصحيح مع النوبختي وكتب إلى ابن شيرزاد وابن إسماعيل وأذن لهما في العقد والإشهار ففعلا وانصرفا . فأما المال فما حمل منه دينار واحد وأما الجيش فإنه أنفذ جعفر بن ورقاء لتسلُّمه والنهوض إلى فارس به فوافى جعفر بن ورقاء الأهواز وتلقاه أبو عبد الله البريدي في الجيش كله كوكبةً بعد كوكبة حتى ملأ الأرض بهم واسودت منهم حافين بأبي عبد الله حوله فورد على جعفر بن ورقاء ما حيره. ثم أنفذت الخلع السلطانية إلى أبي عبد الله البريدي بالولاية وعُمالة الأهواز فلبسها في جامع الأهواز وانصرف إلى داره فمشى العسكر قوادهم وفرسانهم وصميمهم وعبيدهم ورجالتهم بخفاقهم وراياتهم وأسلحتهم بين يديه فيئس جعفر بن ورقاء وكان راكباً معه وانخزل وسقطت نفسه فلما بلغ داره احتبسه واحتبس القوّاد معه والناس وكان يوماً عظيماً . ثم أقام جعفر بن ورقاء أياماً فدسّ عليه البريدي الرجال فشغبوا وطالبوه بمال يفرق فيهم رزقة تامة للنهوض فاستتر واستجار بالبريدي فأخرجه وعاد إلى الحضرة. وعُني ابن رائق بأبي الحسين البريدي قبل هذه الحال حتى انحدر من بغداد ولحق بأخويه ولما تقرّر أمر البريدي أصعد الراضي بالله وابن رائق إلى بغداد.
ودخل أبو عبد الله الحسين بن علي كاتب الأمير ابن رائق بغداد.
وكان أبو بكر محمد بن مقاتل متمكناً من ابن رائق التمكن المشهور منحرفاً عن الحسين بن علي النوبختي بعد المودّة الوكيدة وكان هو أوصله إلى ابن رائق وأدخله في كتابته فلهذا ولأن الحسين بن علي فوقه ومتفرّد بابن رائق (وهو المدبّر للملك والذي بنى لابن رائق تلك الرتبة العظيمة والذي ساق إليه تلك النعمة وجمع له تلك الأموال التي كان مستظهراً بها من ضمان واسط والبصرة) أشار على ابن رائق أن يعتضد بأبي عبد الله البريدي وأن يستكتبه ليتفق الكلمة ويجتمع جيش الأهواز إلى جيشه وقال له أيها الأمير لك في ذلك جمال عظيم لأنه اليوم كالنظير لك فإذا تواضع وصار تابعاً جاز حكمك عليه. وسيقال لك إن البريدي غدر بالسلطان وبياقوت فكيف تثق به؟ فالجواب عن هذا أنه ليس يجمعكما أرضُ فتتم حيلته عليك كما تمت على ياقوت وأنت غير قادر عليه إلا بحرب وقد يجوز أن تظفر به لو يظهر هو فإذا كنا قد انتهينا إلى هذه الحال معه فحطَّه من الإمارة إلى الكتابة وتصييره تابعاً ثم جذب رجاله وجيشه بالخدعة أو إنفاذه مع بجكم ليفتح لنا فارس وأصبهان أولى من دفعه عمَّا سأل وإيحاشه فيحتاط لنفسه ويخبب الرجال وقد حمل إلى الأمير مع هذا ثلاثين ألف دينار هدية هي في منزلي. وقال له ابن رائق : ما كنتُ لأصرف الحسين بن علي مع نصحه لي وتبركي به ولو فتح لي فارس وأصبهان
ص: 203
وساقهُما إلي خصوصاً وأهداهُما لي دون غيري قال : أيها الأمير فإن كرهت هذا فضمِنهُ واسطاً والبصرة . فقال : هذا لفعلته إن أشار به أبو عبد الله الحسين بن علي. قال : فتكتمهُ أيها الأمير خوضنا في الكتابة ولا تذكرها .
وحضر أبو عبد الله الحسين بن علي بعد ذلك وعرض عليه هذا الرأي فضجّ منه وعدد مساوي البريدي وغدرَهُ وكفرَهُ الصنائع منذ ابتداء أمرهم وإلى أن كاشفوا بالعصيان وأعاد حديث ياقوت ثم التفت إلى ابن مقاتل فقال : ما قضيتَ حق هذا الأمير ولا نصحته . ثم قال : أنا عليل أيها الأمير فإن عشتُ وأنا معك فهيهات أن يتم عليك وإن مضى في حكم الله فنشدتك الله أن تأنس بالبريدي أو تسكن إليه بشيء من أصناف حيله. فدمعت عين ابن رائق وقال : بل يحييك الله ويهلكه (وكان الحسين بن علي عليلاً من حُمى وسعال) ثم انصرف الحسين بن علي وابن مقاتل مغضب فقال لابن رائق : قد حمل الرجل إليك ثلاثين ألف دينار ولا بد من أن تعمل به جميلاً فأقبل أحمد بن علي الكوفي خليفة لنا بحضرتك ونائباً عنه إلى أن ترى رأيك . فقال : أما هذا فنعم .
وكتب ابن مقاتل إلى البريدي بما جرى وأنفذ أحمد بن علي الكوفي ووافي حضرة أبي بكر محمد بن رائق بمدينة السلام واختلط به نيابة عن أبي عبد الله البريدي ونقل الحسين بن علي النوبختي فتأخر عن الخدمة أياماً وكان له ابن أخ قد صاهره فهو يخلفه في مجلس ابن رائق ويوقع عنه فقال أبو بكر بن مقاتل للأمير ابن رائق : حُسن العهد من الإيمان وهو من الأمير أحسَنُ لأنه عائد بالسلامة عليّ ولكن إضاعة الأمور ليس من الحزم والحسين بن علي ميّت فانظر لنفسك فإن الأمور قد اختلت فقال يا هذا الساعة والله سألتُ سنان بن ثابت عنه فقال : «قد صلح وخفّ النفث وأنه أكل الدُرّاج» فقال : سنان رجل عاقل ولا يحب أن يلقاك فيمن تعز بما تكره ولا سيما هو وزير الزمان اليوم ولكن صهرُهُ وابن أخيه خليفته احضره وحلفه أن يصدقك . قال : افعل. وانصرف ابن مقاتل ودعا علي بن أحمد ابن أخي الحسين بن علي وقال له : قد مهَّدتُ لك كتبة الأمير وواقفته على تقلدك إياها وهي وزارة الحضرة وعمك ذاهب فإن سألك فعرفه أنه ميت لا محالة فإني أعود إليه وأناجزه فيخلع عليك قبل أن يطمع فيها غيرك. فاغتر علي بن أحمد وسأله محمد بن رائق من غد بعد أن أخلى نفسه عن خبر عمه فكان جوابه إن بكى وقال : أعظم الله أجرك أيها الأمير في أبي عبد في أبي عبد الله عُدّه من الأمواتِ . ثم لطم وجهه فقال ابن رائق : لا حول ولا قوة إلا بالله أعزز عليّ به لو فدى حي ميتاً لفديته بملكي كله واستدعى ابن مقاتل فقال له : كان الحق معك قد يئسنا من الحسين بن علي فإنَّا لله وإنا إليه راجعون فأي شيءٍ نعمل فقال : هذا أبو عبد الله أحمد ابن علي الكوفي نظير الحسين بن علي وكانا صنيعتي إسحاق بن إسماعيل النوبختي هو
ص: 204
في نهاية الثقة والعفاف وهو خصيص بأبي عبد الله البريدي وإن أنت استكتبته اجتمعت لك كفاية إلى عفافه واستقصائه وانضاف إلى ذلك كله حصول أولئك في جملتهم وانقطاعهم إليك ونعتدّ على أبي عبد الله أنَّا قد أجبناه إلى ما سأل من كتابتك واستخلفنا صاحبه أبا عبد الله الكوفي فقال : استخر الله وافعل ولكن عهدة أبي عبد الله الكوفي عليك ألا يغشَّني ويوثر البريدي في حالٍ من الأحوال. فقال: أنا الضامن عن أبي عبد الله الكوفي كلّ ما شرطه الأمير. فاستكتبه فدبَّر الأمور كلها كما كان يُدبرها الحسين بن علي وأسقط من الكتب التي تكتب عن ابن رائق وكتب فلان بن فلان وكان الحسين ابن علي يكتب ذلك على رسم الوزارة فكانت مدة تدبير الحسين بن علي النوبختي لأمور المملكة ثلاثة أشهر وثمانية أيام وكتب أبو بكر بن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يعتد عليه بما احتال له حتى زحزح الحسين بن علي وساق الأمر إليه واستخلف له أبا عبدالله الكوفي فحمل إليه أبو عبد الله البريدي عشرة آلاف دينار التي قدمنا ذكرها واستقل الحسين بن علي النوبختي وصح جسمه وعوفي فكتم ذلك عن ابن رائق وتمكن البريديون حتى غلبوا على البصرة.
لم يمض شهرٌ من استكتاب ابن رائق أبا عبد الله الكوفي حتى شرع لأبي يوسف البريدي في ضمان البصرة وواسط فأشار علي بن رائق بذلك فقال : لا أفعلُ ولا أثقُ بهما. قال له : ولِمَ أيها الأمير؟ أما واسط فأنا مُدبرها وليس يرد لهم إليها ولا راجل وعلي توفية مالها وأما البصرة فقد قرّرتُ أمرها على أربعة آلاف ألف درهم على أن يقيم لي بها ضمناء .ثقات. وأشار أبو بكر بن مقاتل بمثل ذلك فأذن ابن رائق في العقد عليه فقلد أبو يوسف أبا الحسن بن أسد أعمال الخراج بالبصرة (وكان والي الحرب بها محمد ابن يزداد) فخرج أهل البصرة بأجمعهم إلى سوق الأهواز لتهنئة البريدي بالولاية وكان جمعهم عظيماً جداً. وكان أبو الحسين بن عبد السلام الهاشمي وجيه البصرة قد شذ عن ابن رائق لأنه قصر به وحط منه بالبصرة فقصد أبا عبد الله البريدي وأبا يوسف أخاهُ فطرح نفسه كلّ مطرح عندهما وأشار إليهما بالغلبة على البصرة وإنفاذ العساكر إليها وذكر طاعة الخَوَل وأهل الأنها له فأخذ أبو عبد الله في بناء الشذاآت والزبازب والطيّارات والاستكثار منها حتى اجتمعت له مائة قطعة فى نهاية الوثاقة والجودة. فحين وافاه أهل البصرة للتهنئة قرَّبهم وأكرمهم ورفع منهم وقال: قد اطّلع أبو الحسين بن عبد السلام على نيّتي الجميلة فيكم ومحبتي لصلاحكم وإعداد آلة الماء للجيوش الذين أحصن بهم بلدكم من القرامطة وكنت مستغنياً عن ضمان البصرة إذ لا فائدة لي فيها وإنما امتعضتُ لكم من ظلم ابن رائق ومحمد بن يزداد خليفته لكم وتحملت في مالي
ص: 205
أربعة آلاف دينار في كلّ شهر بإزاء ما كان يؤخذ من الشرطة والمآصير والشوَك تخفيفاً عنكم وقد أزلت جميعها وهذا خطي برفعها عنكم. ووقع بذلك توقيعاً وسلمه إليهم وكثر الدعاء والضجيج بشكره ثم قال لهم : إنه سيبلغ هذا ابن رائق فينكره ويوحشه مني ويصير سبباً للعداوة بيني وبينه ووالله ما أبالي أن يعاديني أخواي أبو يوسف وأبو الحسين وابني أبو القاسم في صلاحكم لأني أعلم أن فيكم بني هاشم وطالبيين وأولاد المهاجرين والأنصار ومن حرمة الإسلام صيانتكم وإني لأقدر أن الله عزّ وجلّ يغفر لي كل ذنب بإزالة الأذية عنكم وسيروم ابن رائق ردّ ما قد أزلته عنكم من هذا الحطام الذي كان يأخذه فأين السواعد القوية والنفوس الأبية التي حاربت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فمتى رام ابن رائق نقض ما عملت فاضربوا وجهه ووجوه أصحابه بتلك السواعد والسيوف وأنا من ورائكم. ثم ذكر أهل البصرة بأيامهم مع عبد الرحمن بن الأشعث ومحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن وقال : لتكن قلوبكم قوية وآمالكم فسحة ونفوسكم شديدة في مجاهدة عدوكم . ثم وقع للنفقة على المسجد الجامع بالبصرة بألفي دينار وقال : بلغني أنه خراب وعرضت عليه الرقاع بالحاجات فوقع بحطائط ونظر وصلات وتخفيف في المعاملات بألفي ألف درهم وانصرفوا عنه وقد صاروا سيوفه. وسير إقبالاً غلامه وحاجبه وكانت له نوبة مع أبي جعفر الجمال وضم إليه ألفي رجل وقال : أقيموا بحصن مهدي إلى أن نكاتب إقبالاً الحاجب بالمسير بهم إلى البصرة واتصل ذلك بابن يزداد فقامت قیامته .
وفي هذه السنة قلد محمد بن رائق أبا الحسين بحكم الشرطة بمدينة السلام وقلد الحسين عمر بن محمد قضاء القضاة مع الأعمال التي إليه .
وأمر الغلمان الحجرية المستترين ببغداد فظهروا وصاروا إليه بالسلاح فعرضهم وامضى من جملتهم نحو ألفي رجل وأثبتهم برزق مستأنف على ما رآه وأسقط الباقين وأخرج من أمضاه وقرر رزقَهُ إلى الجبل فلما صاروا بطريق خراسان أجمع رأيهم على المضي إلى الأهواز فمضوا إلى أبي عبد الله البريدي فقبلهم وأضعف أرزاقهم وخاطبهم بالترتّي لهم مما جرى عليهم من ابن رائق والتعجب منه ووعدهم الإحسان التام وأظهر للسلطان وابن رائق أنه لم يكن به طاقة لما صاروا إليه أن يدفعهم وأنه اضطر إلى قبولهم وجعلهم حجة في قطع ما كان ووقف على حمله واحتج بأنهم اجتمعوا مع الجيش ومنعوه من حمل مال البلد وغلب على الأهواز والبصرة فصارت الدنيا في أيدي المتغلبين وصاروا ملوك الطوائف وكلّ من حصل في يده بلد ملكه ومنع ماله .
فصارت واسط والبصرة والأهواز في أيدي البريديين وفارس في يد علي بن بويه وكرمان في يد أبي علي بن الياس وأصبهان والري والجبل في يد أبي علي الحسن بن
ص: 206
بويه ويد وشمكير يتنازعونها بينهما والموصل وديار ربيعة وديار بكر في أيدي بني حمدان ومصر والشام في يد محمد بن طغج والمغرب وأفريقية في يد أبي تميم والأندلس في يد الأموي وخراسان في يد نصر بن أحمد واليمامة والبحرين ومجر في يد أبي طاهر بن أبي سعيد الجنابي وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد السلطان وابن رائق غير السواد والعراق. ولما حصلت ديار مضر خالية قد خربت وضاق مالها عن كفاية السلطان خرج عنها بدر الخرشني وكان يتولى الحرب بها وعاد إلى الحضرة فلما خلت من صاحب معونة قصدها علي بن حمدان فغلب عليها. وزاد في مرض أبي عبد الله الحسين بن علي النوبختي ما رآه من انتقاض كل ما كان نظمَهُ وما تم عليه من الحيلة فآل أمرُهُ إلى السِلّ.
وفي هذه السنة انكشفت الوحشة بين محمد بن رائق وبين البريديين.
ذكر السبب في ذلك
اتفق أن وافى أبو طاهر القرمطي الكوفة فدخلها في شهر ربيع الآخر من سنة 25 فخرج ابن رائق من بغداد ونزل في بستان ابن أبي الشوارب بقنطرة الياسرية وأنفذ أبا بكر ابن مقاتل برسالة إلى أبي طاهر الهجري وكان أبو طاهر يطالب بأن يحمل إليه السلطان في كل سنة مالاً وطعاماً بنحو مائة وعشرين ألف دينار ليقيم في بلده وبذل له ابن رائق بأن يجعل ما التمسه رزقاً لأصحابه على أن يكسر لهم السلطان جريدة وينفق فيهم ويدخلوا في الطاعة ويستخدموا . وجرت خطوب بينهما ومخاطبات انصرف معها أبو طاهر إلى بلده من حيث لم يتقرّر له أمرّ مع ابن رائق . وبلغ ابن رائق إلى قصر ابن هبيرة ثم عاد منها إلى واسط وكاشف البريدي واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات .
ذكر السبب في ذلك
كان ظنَّ ابن رائق أنه إذا استوزر أبا الفتح جذب له الأموال من مصر والشام فقدم أبو الفتح من الشام ولزم سليمان بن الحسن منزله وكان حمل إليه الخلع قبل وصوله إلى بغداد فوصلت إليه وهو بهيت فلبسها ثم دخل بغداد وأقرّ أبا القاسم الكلواذي على ديوان السواد واستخلف بالحضرة أبا بكر عبد الله بن علي النفري وهو زوج أخته وكتب السلطان في استيزاره أبا الفتح كتاباً نفذ إلى أصحاب الأطراف.
ولما بلغ ابن رائق ما خاطب البريدي به أهل البصرة قلق وتغير للكوفي واتّهمه وهم بالقبض عليه فحامى عنه أبو بكر بن مقاتل ثم رأى أنه يغالط ابن البريدي بكتاب إليه فقال للكوفي. إنه بلغني أن صاحبك خاطب أهل البصرة بما أنا معرض عنه فإنه ربما وقع التزيد في مثله ولكن أكتب إليه .أن الذي أنكرته قبولك الحجرية فإما أن
ص: 207
تردهم وإما أن تطردهم وإن استأذنوك في ناحية يقصدونها فاضمم إليهم من رأيت من قوّادك وأنفذهم إلى الجبل وهذا العسكر الذي أنفذته إلى حصن مهدي فأنا أعلم أنه لما اتصل ورود الهجري إلى الكوفة استظهرت بإنفاذه ليعين من فيها عليه إن احتيج إلى ذلك وقد استغنى الآن عنهم وفي مقامهم بالحصن مع الاستغناء عنهم تسليط الظنون السيئة عليك وإيجاد أعدائك سبيلاً إلى التضريب بيني وبينك .
وبلغني أنك قد كنتَ أنفذت أبا جعفر محمداً غلامك إلى السوس (وكان قد أنفذه على الحقيقة) وأمرته أن يقصد الطيب ويقيم بها إشفاقاً من أن يلحقني وهن من القرامطة فإن احتيج إليه لحماية واسط كان قريباً وإني لما وافيتُ كاتبته بالانصراف فعاد إلى الأهواز وهذا مشكور فاعمل في أمر إقبال ومن أنفذتَهُ إلى حصن مهدي كهذا العمل ثم أنا لك على الوفاء. فكتب الكوفي بهذا كله فكان الجواب : أن جيشه القديم متشبثون بالحجرية لأنهم أقاربهم وبين القوم وصل ورحم وبلدية ولا يمكن إخراجهم جملة واحدة ولكنه على الأيام يفرّق شملهم وإن الأخبار تواترت بأن القرمطي لما انصرف عن الكوفة قصد البصرة واستجار به أهلها فأنفذ هذا العسكر إشفاقاً عليها وإنهم قد حصلوا بها .
وكان البريدي ساعة ورود الخبر عليه بنزول ابن رائق واسط أنفذ إلى من بحصن مهدي بدخول البصرة فدخلوها بعد أن أنفذ من الحجرية قطعة وافرة لمعاضدتهم على دخولها. وأخرج محمد بن يزداد مكان الصغدي وتكين وكانا تُركيين من شحنة البصرة لحربهم فوقعت بينهم وقعة في نهر الأمير انهزم بها الرائقية ثم زاد محمد بن يزداد في عدتهم بالإثبات وبغلمان نفسه فكانت الوقعة الثانية بكسر أبان وبينها وبين الأبلة فرسخ فانهزم الرائقيَّة هزيمة ثانية ودخل إقبال وجيش البريدي البصرة. وأما محمد بن يزداد صاحب ابن رائق فإنه فتح باب البصرة وهرب على طريق البرّ إلى الكوفة وأما مكان وتكين ورجال الماء الرائقية فإنهم اهتدوا في زبازبهم إلى واسط وورد الخبر على ابن رائق بحصول إقبال غلام البريدي وأصحابه بالبصرة وجواب كتاب الكوفي في أيام متقاربة فأنفذ رسولاً إلى البريدي برسالة قسمها بين إرغاب وإرهاب ووعد ووعيد فكان من جوابه : أنه لا يمكنه ردَّ رجاله من البصرة لأن أهلها قد أنسوا بهم واستوحشوا من قبيح ما عاملهم به ابن يزداد في أيامه لأن القرمطي طامع في البلد وليس يأمن متى كاتبهم بالانصراف أن يدخل القرامطة إلى البصرة ضرورة لئلا تعود المعاملة بین أهلها وبين ابن يزداد بعد أن كاشفوه .
وقد كان لعمري أهلُ البصرة في نهاية الاستيحاش من ابن رائق ومحمد بن يزداد فإن محمد بن يزداد سار بهم سيرة سدوم وظلمهم في معاملاتهم ظلماً مفرِطاً وسامهم الخسف وكانوا قد اعتادوا العزّ وقدّروا بالبريدي خيراً ثم رأوا منه ومن أخويه ما ودّوا
ص: 208
أنهم أكلوا الخرشف والخرنوب وصبروا على محمد بن رائق ومحمد بن يزداد ومعاملته . ولما عاد الرسول بالجواب كان ابن رائق قد استدعى بدراً الخرشني وأكرمَهُ وخلع عليه خلعاً سلطانية وحمله. وترجح الرأي في تسيير الجيوش إلى الأهواز والبصرة ثم استقرّ الرأي على أن يقلد بحكم الأهواز بعد حديث لبجكم في ذلك مع ابن مقاتل سنذكره فيما بعد إن شاء الله. وخلع عليه ابن رائق لذلك وسيرة وبدراً الخرشني إلى الأهواز وضم إليه ابن أبي عدنان الراسبي دليلاً ومعيناً وأنفذ حاجبه فاتكا وعبد العزيز الرائقي وأحمد بن نصر القشوري وبرغوثاً وأمرهم أن يقيموا بالجامدة ويحصل جيش البريدي بين حلقتي البطان فبادر بحكم ولم يتوقف على بدر الخرشني ونفذ أمامه فوصل إلى السوس وأخرج البريدي محمداً غلامه المعروف بأبي جعفر الجمال في عشرة آلاف رجل بأتم آلة وأكمل سلاح للحرب فوقعت الحرب بظاهر السوس ومع بجكم مائتان وتسعون غلاماً من الأتراك فانهزم البريدية يوم نزول بدر بالطيب وقال بحكم : إنما بادرت وحملتُ على نفسي ما حملتُ ولاقيتُ هذه العدة العظيمة بهذه العِدة اليسيرة لئلا يشركني بدلّ في الفتح.
وعاد أبو جعفر الجمَّال إلى أبي عبد الله البريدي فصفعه بخفه وقال : انهزمت مع عشرة آلاف من بين يدي ثلاثمائة غلام فقال له :أنتَ ظننت أنك تحارب ياقوتاً المدير وجيشَهُ المدابير قد والله جاءك من لتّ بحكم والأتراك خلاف ما عهدت من سودان باب عمان والمولدين. فقام إليه فلكمه بيده ثم قال له : قد أنفذتُ أبا الخليل الديلمي ومن معي من العجم ومن كان يخلف بالأهواز في ثلاثة آلاف رجل إلى تستر فأنفذ الساعة مع من صحبك إليها حتى تجتمع معهم وتعاود الحرب فقال : افعل وسنعود إليك هذه الكرة بأخرى من الكرة الأولى لأن هيبة بحكم قد تمكنت في نفوس أهل العسكر. ونفذ للوقت في ثلاثة آلاف رجل ووافى بحكم إلى نهر تستر فطرح نفسه وغلمانه أنفسهم في الماء للعبور سباحة وكان الماء قليلاً فانهزم القوم بغير حرب وعادوا إلى أبي عبد الله فخرج في الوقت مع أخويه وجلسوا في طيَّارِ ومعهم حديدي فيه ثلاثمائة ألف دينار كانت في خزائنهم فغرقت بالنهروان وغرق الطيار وأخرجهم الغواصون وأخرج لبجكم بعضُ المال . فقال أبو عبد الله : ما نجونا والله من الغرق بصالح أعمالنا ولكن لصاعقة يريدها الله بهذه الدنيا . فقال له أبو يوسف ويحك ما تدعُ التنادُر في هذه الحال! ثم وافوا البصرة ودخل بحكم الأهواز وكتب إلى ابن رائق بالفتح.
ولما وصل أبو عبد الله إلى الأبلة ومعه أخواهُ أنفذ إقبالاً غلامَهُ إلى مطارا وأقام هو وأخواهُ في طيّاراتهم وأعدّوا ثلاثة مراكب للهرب منها إلى عمان إن اتفق على إقبال بمطارا من الهزيمة مثل ما تمَّ على أبي جعفر بالسوس. وأخرج أبو عبد الله البريدي أبا
ص: 209
الحسين بن عبد السلام لمعاضدة إقبال فانهزم الرائقية وأسر برغوث وحمل به إلى البريدي فأطلقه وكتب إلى ابن رائق كتاباً يستعطفه فيه وأنفذه إليه مع برغوث ودخل البريديون الثلاثة إلى الدور فنزلوها وسكنوا واطمأنوا ولم يمكن بحكم أن يسير من الأهواز لخلو الأهواز من آلة الماء وشغب رجال بدر عليه فانصرف إلى واسط وملك بحكم الأهواز ولما عرف ابن رائق ما جرى على رجاله في الماء أنفذ أبا العباس أحمد ابن خاقان وجوامرد الرائقي إلى المذار على الظهر لمحاربة البريدي وإخراج أصحابه وسير بدراً الخرشني إلى البصرة في الماء في شذاءات مقيرة بناها بواسط فانهزم الرائقية من المذار وأسر أبو العباس بن خاقان ورجع جوامرد إلى واسط وأحسن البريدي إلى ابن خاقان واستحلفه ألا يعود لمحاربته ولا يشايع عليه وأطلقه. واتصل خبر هذه الهزيمة بابن رائق فسار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بحكم أن يلحق به إلى عسكر أبي جعفر فاتفق أن سار بدر الخرشني في الماء إلى نهر عمر ووافي إلى البصرة وملك شاطئ الكلاً وحصل إقبال غلام البريدي في حدود واسط لما عرف خروج ابن رائق عنها وبلغ ابن رائق ذلك فرد فاتكأ حاجبه إلى واسط ليحفظها .
ولما ملك بدر الخرشني الكلا هرب أبو عبد الله البريدي للوقت إلى جزيرة أوال وخرج من كان بالبصرة من الجند لدفع بدر وانضاف إليهم عالم عظيم من العامة فاضطر بدر إلى الإفراج عن شاطئ الكلاً وحصل بالجزيرة التي بإزائه واستتر أبو يوسف البريدي وركب أخوه أبو الحسين يحض الجند والعامة ووافى بحكم إلى ابن رائق وهو في عسكر أبي جعفر يوم ورود بدر الكلا ولما كان وقت العصر عبر ابن رائق وبحكم دجلة البصرة ودخلا نهر دبيس وتبعهما أحمد بن نصر القشوري فرمي بالحجارة وغرق زبزبه واجتمع بدر وابن رائق وبجكم في الجزيرة فشاهدوا أمراً عظيماً وخطباً جليلاً من العامة وتكاثرهم عليهم فقال بحكم لابن رائق : ما الذي عملت بهؤلاء القوم حتى قد أحوجتهم إلى ما خرجوا إليه ؟ فقال : لا والله ما أدري وانصرف بجكم وابن رائق إلى عسكر أبي جعفر ولما جنَّ الليل وجاء المد انصرف بدر إليهما. وبلغ إقبالاً خبر بدر في نفوذه في الماء إلى البصرة من الجامدة ومخالفته إياه الطريق فكر راجعاً ووافى في اليوم الثاني وقت العصر إلى شاطئ الكلاً ونفذ إلى شاطئ الأبلة وحال بين ابن رائق وبحكم وبدر وبين الأبلة وصارت الحرب في دجلة وطالت المنازلة .
ونفذ أبو عبد الله البريدي من جزيرة أوال إلى فارس واستجار بعلي بن بويه فأنفذ معه أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه لفتح الأهواز وورد الخبر بذلك على ابن رائق وأصحابه فتقدم ابن رائق إلى بحكم بالمبادرة إلى الأهواز لحمايتها فقال بحكم : لست أحارب الديلم وأدفعهم عن الأهواز إلا بعد أن تحصل لي أمارتها حرباً وخراجاً وأنت
ص: 210
تعلم أني ما صبرت لأبي العباس الخصيبي لما قلدته الأهواز حتى صرفته أصبر لعلي بن خلف بن طناب أن يتحكم في بلد أحارب عنه؟ (وكان علي بن خلف بالأهواز من قبل الوزير أبي الفتح )فضمن ابن رائق بحكم الأهواز وكورها بمائة وثلاثين ألف دينار محمولة في السنة على أن يوفي رجاله مالهم ويستوفي ما يخصه وغلمانه وأقطعه إقطاعاً بخمسین ألف دينار. ولما كان بعد شهر أو دونه من نفوذ بجكم إلى الأهواز انصرف ابن رائق أيضاً من عسكر أبي جعفر ومضى إلى الأهواز وأحرق ما بقي من سواده الاتفاق سيئ اتفق عليه .
كان طاهر الجيلي وافى إلى واسط مستأمناً إلى ابن رائق فلم يجده بها وقصده إلى عسكر أبي جعفر فتلقاه في طريقه كتاب ابنه وجاريته بحصولهما في يد ابن البريدي لأن أبا عبد الله كان بفارس فقبل ابنه وجمع بينه وبين الجارية فعبر بالليل في مائتي رجل . وزعق بابن رائق وبدر الخرشني ووازرَهُ جميع أصحاب البريدي من عسكر الماء فأما بدر فإنه انهزم إلى واسط وأما ابن رائق فإنه مضى إلى الأهواز وأكرمه بجكم وخدمه وأشير على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل وأقام أياماً حتى وافاه من واسط فاتك غلامه ثم سار إليها وخلف بجكم بالأهواز .
وأما حديث بحكم مع ابن رائق الذي وعدنا به فهو ما حكاه ثابت بن سنان عن والده سنان .
قال ثابت: حدثني والدي أن بحكم قال له بعد أن ملك الحضرة وأزال أمر ابن رائق في عرض حديث جرى بينهما سبيل الملك إذا حزبه أمر من الأمور أن يكون جميع ما يملك من مال وغيره أقل في عينه من التراب وأن يحذف جميعه كما حذفتُ هذه الحصاة فيما يقدر به زوالُ ما قد أظله فإن دولته إذا ثبتت أمكنه أن يستخلف أضعاف ما خرج عن يده وإن هو بخل وشحَّت نفسُهُ وتهيَّب إخراج ما في يده ذهب ما بخل به وذهبت معه نفسه. اذكر وقد قلدني ابن رائق الأهواز ولم يكن ما فعله من ذلك برأي أبي بكر بن مقاتل ولا شاوره فيه فلما بلغ ابن مقاتل الخبر شق عليه ذلك جداً وبادر إلى ابن رائق وقال له : أي شيء عملت قد عزمت على أن تقلّد بحكم الأهواز؟ قال ابن رائق : نعم. قال : قد أخطأت على نفسك نهاية الخطأ أنتَ لا تقوى ببني البريدي وهم كتاب أصحاب دراريع ولا يمكنك صرفهم ولا انتزاع المال من أيديهم تقلّد رجلاً تركياً
ص: 211
صاحب سيف! إنما صحبك قريباً مثل الأهواز ما هو إلا أن تحصل الأهواز في يده ویری جلالتها وحسنها وكثرة أموالها وما يحصل عنده من الجيش بها حتى تحدثه نفسه بالتغلب عليها ثم لا يقتصر عليها حتى يطمع في غيرها وتنازعه نفسه إلى أن ينازعك أمرك ويزيلك عن موضعك ويصير هو مكانك ليأمن على ما حصل له ولا يكون له منازع عليه وأنتَ الساعة على طمع في أن تنتزع البلد من يد البريدي فإن قلدته بحكم فاحسم طمعك عنها وأخرجها من قلبك واصرف همتك إلى حفظ غيرها وليته ينحفظ ! واحفظ مهجتك فقد عرّضتها للتلف . ففتاً رأي ابن رائق وصرفه عما عزم عليه في أمري ولعمري لقد صدقه ونصحه وأشار بالرأي الصحيح .
وبلغني ما جرى بينهما فقامت قيامتي منه ورأيتُ أنه يفوتني ما حدثت نفسي به من الملك فقلقت وشاورتُ محمد بن ينال الترجمان فلم يكن عنده رأي فأخذ يسليني ويقول لي : أنت امض حتى في نعمة وراحة ومحلك من هذا الملك محلّ الأخ . فقلتُ له : أنتَ أحمقُ تعد سميريَّة في هذه الليلة المقبلة. وعملت على قصد ابن مقاتل وعلمتُ أنه تاجر عامي صغير النفس وأن الدرهم ليعظم في نفوس أمثاله فلما كان الليل ونام الناس حملتُ معي عشرة آلاف دينار ونزلت إلى السميرية وأخذت معي محمد بن ينال وحدَهُ ولم آخذ غلاماً وصرتُ إلى بابه فوجدتُه مغلقاً ودققت فخاطبني بوابه من وراء الباب وأعلمني أن الرجل نائم وأن الأبواب بيني وبينه مغلقة فقلت له : دق الباب وانبهه فإني حضرت في مهم . ففعل ودخلتُ إليه وقد انزعج عن فراشه لحضوري في مثل ذلك الوقت فقال : ما الخبر ؟ فقلتُ : خيرٌ وأمر أردتُ أن ألقيه إليك على خلوة فانتظرتُ نوم الناس وخلو الطريق ولم آخذ معي غير الترجمان ولولا أني أردتُه ليترجم بيني وبينك لما أحضرته ولا أطلعته على ما أخاطبك به. قال فقال : قل ما تحبّ قلتُ : قد علمت ما كان عزم عليه الأمير في بابي من تقليدي الأهواز وبلغني أنه توقف عن ذلك ولستُ أعرفُ سبب توقفه وفي إبطاله ما عزم عليه بطلان جاهي بعد اشتهاره وغض مني ولا يشك أحدٌ أنه لسوء رأي. وأنا صنيعتك وصنيعته وغرسكما وإن لم أحظ في أيامكما فمتى أحظى وأي مقدار يكون لي عند الناس؟ وهذه عشرة آلاف دينار قد حملتها إلى خزانتك وأنا أعلم أنه يقبل منك وأريد أن تشير عليه بإمضاء ما كان عزم عليه. فلما رأى الدنانير تخربق وقال : دعني وانصرف في حفظ الله . فتركت الدنانير بحضرته وانصرفت وأنا واثق بحصول الأهواز لي فلما كان بعد ثلاثة أيام صار ابن مقاتل إلى ابن رائق فقال له : أشرتُ بذلك الرأي على الهاجس وظاهر النظر فلما تأملت الحال وجدتُ الصواب معك لأنك إن تركت الأهواز في يد ابن البريدي وإخوته بعدما حصل لهم من الأموال ازداد كلَّ يوم قوّة وطمعاً ومدوا أيديهم إلى غيرها من أعمالك وبلدانك ودبّ فسادهم إلى عسكرك بكثرة ما
ص: 212
يبذل ويعطي ولا يبعد بعد ذلك منازعتهم لك على أمرك هذا وإن خرجت إليهم بنفسك فهي حرب ولا تدري كيف تكون فإن كانت عليك لم تشدّ منها حزاماً أبداً. وإن وجهت بغير بحكم استضعف وغلب وكسر ذلك قلوب أصحابك ولأن تصدمهم بمثل بحكم وهم لا يطمعون في مقاومته أصلحُ فإن حصل له البلد استأصل شافتهم ثم أنت مالك أمرك إن شئتَ أقررته وإن شئتَ صرفته قبل أن يتمكن وقبل أن يجتمع أمره ويحدث نفسه بشيء تكرهه فاستخر الله وامض أمره. فقبل رأيه وامض أمري وقلدني ولم أستقل ولاية الأهواز بذلك المال وباع ابن مقاتل روحه وروح صاحبه ونعمته بعشرة آلاف دينار واستخلفت أنا مكان الدنانير أضعافها وحصل لي ملك ابن رائق.
قد ذكرنا حال أبي عبد الله البريدي وقصده علي بن بويه وأنه تقدم إلى أخيه أحمد ابن بويه بالمسير إلى الأهواز معه. وخلف أبو عبد الله البريدي عند علي بن بويه ابنيه أبا الحسن محمد وأبا جعفر الفياض رهينة وسار مع الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز. وورد الخبر على بحكم بنزول أحمد بن بويه أرجان فخرج بجكم لحربه فانهزم من بين يديه وكان أوكد الأسباب في هزيمته أن المطر اتصل أياماً كثيرة فعطلت القسيّ ومنع ذلك الأتراك أن يرموهم بالنشاب فعاد بجكم وأقام بالأهواز. وقطع قنطرة أربق وأنفذ محمد بن ينال الترجمان إلى عسكر مكرم ووقعت المنازلة بينه وبين محمد بن ينال الترجمان ثلاثة عشر يوماً . ثم عبر أحمد بن بويه بخمسة من الخاصة في سميرية إلى مشرعة يعرف بمشرعة الحاس (كذا) فهزموا من كان رتب فيها وما زال يعبر بقوم بعد قوم حتى حصل ثلاثمائة رجل في الجانب الغربي ثم ضربوا بالبوق واستلموا فانهزم الترجمان وأخذ إلى تستر . وبلغ الخبر بجكم فعبر دجلة الأهواز وقبض على الوجوه بها وفيهم ابن أبي علان وأبو زكريا السوسي وحمل الجميع معه والتقى مع الترجمان بالسوس وسار بجميع عسكره إلى واسط.
ولما حصل بالطيب كتب إلى ابن رائق بالخبر وأنه قد حرب هو ورجاله فلم يبق لهم حال وأن الرجال سيطاولونه وإن كان عنده مائتا ألف دينار ينفقها فيهم فإنهم فقراء فالوجه أن يقيم وإن كانت متعذرة فالصواب أن يصعد إلى بغداد فإنه لا يأمن أن يقع شغب ولا يدري عن أي شيء ينكشف فرهب ابن رائق هذه الحال وبادر وخرج إلى بغداد بعسكره ودخل بجكم وأصحابه واسطاً وأقاموا بها واعتقل الأهوازيين وطالبهم
ص: 213
بخمسين ألف دينار فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد : أردت أن أسبر ما في نفسه من طلب العراق فراسلته وقلت له أيها الأمير أنتَ مطالب بملك ومرشح نفسك لخدمة الخلافة تعتقل قوماً منكوبين قد سلبوا نعمهم وتطالبهم بمال في بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حتى جعل في أمسنا طشت فيه جمر على بطن سهل بن نظير الجهبذ أو لا تعلم أن هذا إذا سمع به أوحش منك وحاربك وعاداك من لا يعرفك ولا سمع بخبرك فضلاً عمن تحقق فعلك هذا أو ما تذكر إنكارك على الأمير ابن رائق بالأمس إيحاشه أهل البصرة وعوام بغداد أضعافهم؟ وقد حملت نفسك في أمرنا على مثل ما كان يعمله مرداويج بأهل الجبل. وهذه بغداد ودار الخلافة لا الري وأصبهان ولا تحتمل هذه الأخلاق. فلما سمع ذلك انحلّ وأمر بحلّ القيود وأزال المطالبة ثم شفع ابن رائق وابن مقاتل والكوفي في يحيى بن سعيد السوسي فأطلقه واختصه لعقله ولما تبينه من نفاقه على كل أحدٍ وشفّع يحيى بن سعيد في الباقين وكفّل
بهم فأطلقهم .
ولما عرف علي بن بويه حصول طاهر الجيلي بالبصرة وفي نفسه عليه ما كان عامله به بأرجان كتب إلى أخيه أبي الحسين أن يطالب أبا عبد الله البريدي به ويقبض عليه ففعل ذلك وأنفذ إلى فارس ولما انهزم الترجمان عبر أحمد بن بويه إلى غربي عسکر مکرم وجلس على شاطئ المسرقان ومعه أبو عبد الله البريدي حتى عقد الجسر الأعلى بها وعبر بباقي رجاله من غد. وعاد إليه جواسيسه من سوق الأهواز وعرّفوه أنه لم يبق بها أحد ونزل البريدي داراً على شاطئ نهر المسرقان ووافاه أهل الأهواز بأجمعهم مهنئين وداعين. وكان يحم الربع وفيمن حضره يوحنا الطبيب وكان متقدماً في صناعته فقال له أبو عبد الله البريدي: أما ترى يا أبا زكريا حالي؟ فقال له : خلّط (يعني في المأكول)لترمي بالأخلاط فقال له : أكثر بما خلطتُ يا أبا زكريا قد أرهجتُ ما بين فارس والحضرة فإن أقنعك ذلك وإلا ملت إلى جانب الآخر وأرهجتُ إلى خراسان.
ولما كان في اليوم الخامس رحل أحمد بن بويه إلى الأهواز وخلف بعسكر مكرم ثلاثة من القواد فأقام أبو عبد الله معه خمسة وثلاثين يوماً ثم هرب منه في الماء إلى الباسيان وأقام بها وكاتبه بعتب كثير وتصرف في ضروب من القول إقامة لحجة نفسه فيما استعمله ولم يكره المقام عنده لضيق المال فإنه كان سلم إلى أبي علي العارض ضمانات و خطوطاً فصح في شهرين بخمسة آلاف ألف درهم وصح منها إلى يوم هربه صدر كثير .
كان طولب بإحضار عسكره من البصرة على أن ينفذهم إلى أصبهان لمضامة الأم أبي علي الحسن بن بويه على حرب وشمكير فوافى بأربعة آلاف رجل وقال للأمير أبي الحسن أحمد بن بويه : إن أقاموا بالأهواز وقعت فتنة عظيمة بينهم وبين الديلم والرأي
ص: 214
أن يخرجوا إلى السوس مع محمد المعروف بالجمال حاجبي وأسبب بمالهم عليها وعلى جنديسابور حتى يقبضوا وينفذوا على طريق البنيان إلى أصبهان . فأجابه إلى ذلك ثم طالبه أن يحضر رجال الماء إلى حصن مهدي حتى يشاهدهم فإذا عاينهم سيرهم في الماء إلى واسط وسار أحمد بن بويه بالديلم على طريق السوس إليها. فاستوحش البريدي من ذلك استيحاشاً شديداً وظن أنه إنما يريد أن يفرق بينه وبين عسكره وقال : هكذا عملت بياقوت فإني أخذت رجاله ثم أهلكته فلو لم أتعلم إلا من نفسي لكفاني استبصاري والله المستعان وكان الديلم أيضاً يستخفون به ويشتمونه إذا ركب ويزعجونه من فراشه وهو محموم وتلقى منهم ما لم تجر عادته بمثله. وكانت الكرامة متوفرة عليه من الأمير أبي الحسين ومن أبي علي العارض فأما الباقون فكانوا يهينونه إهانة عظيمة .
ولما أراد الهرب قدم كتابه في صبيحة الليلة التي خرج فيها وعرف أبا جعفر الجمال غلامه ما عزم عليه وأمره أن يسير إلى الباسيان ومنها إلى نهر تيري ثم إلى الباذاورد والبصرة وتم ذلك على ما نظمه وحصل جيشه بالبصرة موفورين. واتصلت المراسلات بينه وبين أحمد بن بويه في الإفراج عن قصبة الأهواز حتى يردها ويقوم بما عقده للأمير علي بن بويه على نفسه من ضمان الأهواز والبصرة وهي ثمانية عشر ألف ألف درهم لسنة خراجية ولإشفاق الأمير أحمد بن بويه من إنكار أخيه على بن بويه هرب البريدي استجاب إلى حكمه. وانتقل إلى عسكر مكرم وأقام بها في ظاهر داراباز وكتب إلى البريدي كتاباً أنه قد أخلى الأهواز فانتقل البريدي من الباسيان إلي بناتاذر وأنفذ إلى سوق الأهواز من يخلفه بها. وكتب إلى الأمير أن نفسه لا تسكن إلى أن تقيم في بلد على ثمانية فراسخ منه لأنه لا يأمن كبسه ليلاً وسامه أن ينتقل إلى السوس فتبعد الدار بينهما فترسل في ذلك القاضي أبو القاسم التنوخي وأبو علي العارض واستقرت الحال على أن يحمل البريدي ثلاثين ألف دينار إليه لينهضه فرد غلامي هذين الرسولين مع غلام له بأربعة عشر ألف دينار وكتب بأنه يوفيه تتمة الثلاثين الألف الدينار بالسوس. فاجتمع دلان وكان كاتب جيش الأمير أحمد .
ابن بويه وأبو جعفر الصيمري وكان تابعاً لدلان وأبو الحسن المافروخي وكان يتولى عسكر مكرم للأمير ويجزف ويأخذ المال من حيث لاح له فقالوا للأمير أبي الحسين : قد سلك معك البريدي طرقه مع ياقوت وأخذ يبعدك إلى السوس ويضايقك حتى يفل الرجال عنك ثم يأخذ المعابر إلى نفسه وبين الأهواز وبين عسكر مكرم وتستر وبين السوس دجلة ويحتال في تحصيلك إن استوى له فاقشعر الأمير أبو الحسين من ذلك وامتنع أن يخرج من عسكر مكرم وقال : هي على سمت الطريق إلى فارس ولستُ أبعد عن الأمير الكبير هذا البعد حتى يقطع بيني وبينه دجلة أولاً ثم المسرقان. وعرف البريدي ذلك فمنع العارض والتنوخي من الرجوع واستحكمت الوحشة .
ص: 215
واتصل ذلك ببجكم فأنفذ قائداً من قواده يقال له بالبا في ألفي رجل من الأكراد والأعراب والحشر والأثبات والمولدين إلى السوس وجنديسابور للغلبة عليها وكاتباً يعرف بالفياضي . وأقام البريدي ببناتاذر غالباً على أسافل الأهواز وتغلب المخلدية على تستر وبقي الأمير أحمد بن بويه لا يملك من كور الأهواز إلا عسكر مكرم قصبها دون ما سواها فإن أبا محمد المهلبي (وكان في هذا الوقت وكيل أبي زكريا السوسي) قطع المعابر وغلب على الحميدية والمسكول وقتل عاملاً كان هناك بيد الأعراب والرجالة الذين أثبتهم. فكانت الصورة فيما دهم أحمد بن بويه غليظة جداً واضطرب رجاله وفارقوه بأجمعهم وعملوا على الرجوع إلى فارس فعاضده أسفهدوست وموسى فياذة حتى تلافوهم وردوهم وضمنوا لهم أن يرضوهم بعد شهر وكتب أحمد بن بويه إلى أخيه بالصورة فأنفذ قائداً من قواده كان ساربان حماله عظيم المحل من أهل البأس والنجدة ثقة عنده يعرف بِبُل في ثلاثمائة رجل من الديلم ومعه خمسمائة ألف درهم ووافي معه كوردفير لأن الأمير أبا الحسين استدعاه لأنه كان وزيره بكرمان فلما حصل عنده كوردفیر استكتبه للوقت وخلع عليه . وأبو علي العارض معتقل ببناتاذر في يد البريدي واتهمه بمطابقة البريدي على جميع ما عمله أولاً وآخراً وكان الأمير مبغضاً له وإنما ضمه إليه أخوه الأمير علي بن بويه لأنه كان شاهده وزيراً لما كان الديلمي وكان كبيراً في نفسه وكان بحكم مملوكاً له فطلبه منه ما كان فأهداه إليه .
وتقرر الرأي أن ينفذ بُلُ إلى السوس في خمسمائة رجل ومعه أبو جعفر الصيمري عاملاً عليها وينفذ موسى فياذة إلى بناتاذر في ثلاثمائة رجل فهرب بالبا لما سمع خبر بُل وهرب البريدي إلى البصرة وسار موسى فياذة إلى حصن مهدي فملكها وكانت من أعمال البصرة وصارت الأسافل وراءه ودخل الأمير سوق الأهواز فنزل دار أبي عبد الله البريدي وانتظمت له الأمور. وحصل البريدي بالبصرة واستقامت لهم واستقر بحكم بواسط ينازع الملك ببغداد وجمع ابن رائق أطرافه وأقام بها.
ولما رأى الوزير أبو الفتح اضطراب الأمور بالحضرة وما تؤذن به أحوالها أطمع ابن رائق في أن يحمل إليه الأموال من مصر والشام ويمده بها وعرَّفه أن ذلك لا يتم له مع بعده عنها ووافقه على الشخوص وعقد بينه وبينه صهراً بأن زوج ابنه أبا القاسم بابنة ابن رائق وعقد بين ابن رائق وابن طغج صهراً وخرج مبادراً إلى الشام على طريق الفرات .
وقلد أبو بكر بن رائق عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بكور الأهواز وواقفه على النفوذ إلى عمله وأن يبتدئ بأبي الحسين بجكم ويلطف له حتى ينفذ معه لمحاربة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ودفعه عن الأهواز وأن يوافقه على أن يكون عدَّته خمسة آلاف رجل على أن يكون ماله ومال رجاله إن أقام بواسط ولم ينفذ إلى الأهواز ثمانمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال واسط وإن نفذ إلى الأهواز
ص: 216
وفتحها ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال الأهواز .
ولما وصل علي بن خلف إلى واسط ولقي بحكم رأى بحكم أن يستكتبه ورأى علي بن خلف أن يكتب له فخلع عليه وأقام عنده بواسط وأخذ جميع مالها .
وسفر أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح بين ابن رائق وبني البريدي فتم ذلك وأخذ ابن رائق خط الراضي بالله للبريديين بالرضا عنهم وقطعت لهم الخلعة على أن يقيموا الدعوة لابن رائق بالبصرة ويجتهدوا في فتح الأهواز وضمنوا حمل ثلاثين ألف دينار وأطقلت ضياعهم وكتب عن الراضي في هذا المعنى كتاب . وورد الخبر بمسير جيش البريدي إلى واسط فخرج إليه بجكم وأوقع بناحية الدر مکان به وهزمه فجلس ابنه رائق ببغداد في داره للتهنئة بذلك وأقام بحكم بموضعه مدّة ثم بالمدار مدة ثم عاد إلى واسط . وكانت نية بحكم إذلال البريديين وقطعهم عن ابن رائق ونفسه متعلقة بالحضرة .
فأنفذ ثاني يوم الهزيمة علي بن يعقوب كاتب الترجمان المتولي كان للعرض عليه إلى البريدي يعتذر إليه مما جرى ويقول : أنت بدأت بمراسلة ابن رائق وتعرضت لي وهذه كرتك الثانية فإنك حملت الديلم إلى الأهواز وأعقبت ذلك بمراسلة ابن رائق وبذلت له مضافرته عليّ وقد عفوتُ وأنا أعاقدك وأعاهدك على أن أقلدك واسطاً إذا ملكتُ الحضرة . وجرى في أثناء ذلك قول في المصاهرة قال علي بن يعقوب : فرأيتُ أبا عبد الله البريدي وقد سجد شكراً لله تعالى لبجكم على ما ابتدأه به ثم استجاب لكل ما أراده منه ولما سمته إيَّاه وأحضر القاضيين أبا القاسم التنوخي وأبا القاسم بن عبد الواحد وحلف بحضرتهما وأشهد على نفسه في خط كتبه بالوفاء بجميع ما عقدته معه وبرَّني بثلاثة آلاف دينار وقال لي: سأحمل إليه وألاطِفُه حتى يعلم أني أصلح لخدمته وعدتُ إلى بحكم وخبرته بما جرى فقال لي: يا أبا القاسم كلوتته على رأسه؟ فقلتُ: أيها الأمير ما معنى هذا وكيف سألتني عنها ؟ فقال لي : إني كنت رأيتها فعرفني . قلت : نعم قد رأيتها . فقال : يا أبا القاسم هي على رأس شيطان لا على رأس بشر . فقلت : أيها الأمير أنتَ ما رأيتُه فكيف قلت هذا؟ قال : بلى رأيته يوم وقعتنا بأرجان وقد تعمَّم على كلوتته وعزمت على أن أفوّت إليه سهماً ففطن لما أردته وإنما لمح طرفي من بعيد فنزع تلك العمامة والكلوتة وجعلها على رأس غيره وتنحى هو وأقامه مقامُه فقلتُ ذلك المسكين بلا ذنب وأفلت هو لعنه الله فإنه كاذبٌ في جميع ما قاله وحلف عليه ولكن تقبل ذلك منه لحاجتنا إلى قبوله . وانصرف بجكم إلى واسط وأخذ في التدبير على ابن رائق .
كان ابن رائق لما صار إليه تدبير المملكة قبض ضياع أبي علي بن مقلة وابنه. فلما
ص: 217
صار إلى الحضرة لقيه أبو علي بن مقلة ولقي أبا عبد الله الحسين بن علي النوبختي ثم بعده أبا عبد الله الكوفي وأبا بكر بن مقاتل فاستحيوا منه وتذلل للجماعة وسأل ردَّ الضيعة المقبوضة عليه فوعد بذلك ومطل مطلاً متصلاً. فلما رأى أبو علي المطل متصلاً والوفاء لا يصحُ أخذ في السعي على ابن رائق من كل جهة فكتب إلى بحكم يطمعه في الحضرة وفي موضع ابن رائق وكتب بمثل ذلك إلى وشمكير بالري وكتب إلى الراضي بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأسبابه ويضمن أنه متى فعل ذلك استخرج له ثلاثة آلاف دينار ويصححها وأشار باستدعاء بجكم ونصبه مكان ابن رائق فإنه أكثر طاعةً وكانت مكاتبته للراضي على يد علي بن هارون ابن المنجم النديم. فأطمعه الراضي في ذلك فكتب ابن مقلة إلى بجكم يعرفه أن الراضي قد استجاب إلى أمره وأن الأمر تام ويستحثُهُ على التعجل. فلما توثق ابن مقلة عند نفسه من الراضي وافقه على أن ينحدر إليه سرّاً ويقيم عنده إلى أن يتم التدبير على ابن رائق فركب من داره في سوق العطش في سميرية وعليه طيلسان وخفٌ وصار إلى الأزج بباب البستان وركب السميرية ليلة الاثنين لليلة تبقى من شهر رمضان وإنما تعمّد تلك الليلة لأن القمر تحت الشعاع وهو يختار للأمور المستورة. فلما وصل إلى دار السلطان لم يوصله الراضي إليه واعتقله في حجرة ووجه من غد بابن شنجلا إلى ابن رائق وأخبره بما جرى وأنه احتال على ابن مقلة حتى حصله عنده وما زال المراسلات تتردَّد بين الراضي وبين أبي بكر بن رائق . فلما كان يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شوال أظهر الراضي بالله أمر ابن مقلة وأخرجه وحضر فاتك حاجب ابن رائق وجماعة من القوَّاد فقطعت يده اليمنى ورُدّ إلى محبسه وانصرف فاتك إلى ابن رائق فأخبره بما شاهد من قطع يد ابن مقلة .
قال ثابت : فلما كان في آخر هذا اليوم استدعاني الراضي وأمرني بالدخول إليه وعلاجه فصرتُ إليه فوجدتُه في حجرة مقفلة عليه ففتح الخادم الباب فدخلت فرأيته بحال صعبة فدمعت عينه حين رآني ووجدت ساعده قد ورم ورماً عظيماً وعلى موضع القطع خرقة غليظة كردواني كحيلة مشدودة بخيط قنب فحللت الشدَّ ونحيتُ الخرقة فوجدت تحتها على موضع القطع سرجين الدواب فنفضته عنه وإذا رأس الساعد أسفل القطع مشدود بخيط قنب قد غاص في ذراعه لشدّة الورم وابتدأ ساعده يسود. فعرفته أن سبيل الخيط أن يحلّ ويجعل موضع السرجين كافور ويطلي ذراعه بالصندل وماء الورد والكافور قال : فافعل فقال الخادم الذي دخل معي : حتى استأذن مولانا. ومضى يستأذن ثم خرج ومعه مخزنة كافور وقال لي : قد أذن مولانا أن تعمل ما ترى وأن ترفق به وتقدّم العناية به وتلزمه إلى أن الله يهب عافيته. فحللتُ الخيط وفرّغت المخزنة فی موضع القطع وطليتُ ساعدَهُ فعاش واستراح وسكن الضربان ولم أفارقه حتى اغتدى
ص: 218
بشيء يسير من فرّوج ثم حلف أنه ليس يسوغ له شيء آخر وشرب ماء بارداً فرجعت إليه نفسه وانصرفتُ . ثم تردّدتُ إليه أياماً كثيرة إلى أن عوفي وكنتُ إذا دخلتُ إليه يسألني عن خبر ابنه أبي الحسين فأعرفه استتاره وسلامته فتطيب نفسه ثم ينوح ويبكي على يده ويقول : قد خدمتُ بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء وكتبتُ بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدي اللصوص: أتذكرُ وأنت تقول لي : أنت في آخر نكبة وأن الفرج قریب فقلت: بلى والآن ينبغي أن تتوقع الفرج فإنه قد عمل بك ما لم يعمل بنظير لك وهذا انتهاء المكروه وما بعد الانتهاء إلا الانحطاط فقال : لا تفعل فإن المحنة قد تشبّثت بي كما تشبَّثت حُمّى الدّق بالأعضاء فلا تفارقني حتى تؤدّيني إلى الموت :ثم تمثل بهذا البيت :
إذا مات بعضك فابكِ بعضاً*** فبعض الشيء من بعض قريب
فكان الأمر على ما قال.
ومن عجائبه أنه كان يُراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده ويطمعه في المال ويشير بأن يستوزره ويقول إن قطع يده ليس مما يمنع من استيزاره لأنه يمكنه أن يحتال ويكتب. وكانت تخرج له رقاع بعد قطع يده وقبل التضييق عليه فيقال إنه كان يشدّ القلم على ساعده الأيمن ويكتب به.
ولما قرب بجكم من بغداد نقل من ذلك الموضع إلى موضع أغمض منه فلم يُوقف له على خبر ومنعت من الدخول إليه .
ثم قطع لسانه وبقي مدة طويلة في الحبس ثم لحقه ذرب ولم يكن له من يعالجه ولا مَن يخدمُه حتى بلغني أنه كان يستسقي الماء لنفسه من البئر بيده اليسرى وفمه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن في دار السلطان ثم سأل بعد مدة أهله فنبش وسلم إليهم.
وفي هذه السنة دخل بجكم العراق أعني بغداد ولقي الخليفة وقلده إمرة الأمراء مكان محمد بن رائق .
ذكر الخبر عن ذلك
ابتدأ بجكم بالمسير من واسط إلى الحضرة مراغماً لابن رائق فأزال اسمه ومحى أعلامه وتراسه وترك الانتساب إليه وذاك أنه كان يكتب عليها «بجكم الرائقي» وأخذ ابن رائق يستعد للقائه وقتاله وعمل على أن يتحصن في دار السلطان ثم رأى أن يبرز إلى ديالي وفتح من النهروان إليه بثقاً ليكثر ماؤه فلا يخيض وقطع الجسر عليه ليصير خندقاً. وطالب ابن رائق الراضي أن يكتب إلى بحكم كتاباً يأمره فيه بالرجوع إلى واسط فكتب وسلم إلى ابن رائق فأنفذه مع ابن سرخاب إليه أحد خلفاء الحجاب فقرأه ولم يلتفت
ص: 219
إليه وسار إلى بغداد. ووافى بحكم وجيشه إلى نهر ديالي وعبر بعض أصحابه سباحة فانهزم ابن رائق وصار إلى عكبرا وتقطع أصحابه واستتر أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي وأبو بكر بن مقاتل ودخل بحكم يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من ذي القعدة ووصل إلى الراضي بالله فأكرمه ورفع منه وخلع عليه وسار بالخلع إلى مضربه بديالي فأقام فيه يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء وأنفذ سريَّة في طلب ابن رائق وكاتب الجيش الذي معه عن الراضي بالتخلية عنه والوصول إلى حضرة السلطان فانفض الجيش عنه ورجع ابن رائق إلى بغداد سراً واستتر بها. فلما كان يوم الخميس للنصف من ذي القعدة خلع الراضي على بحكم خلعة ثانية وانصرف إلى دار مونس بسوق الثلاثاء وهي التي كان ينزلها ابن رائق . فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من ذي القعدة خلع الراضي على بحكم خلعة ثالثة وعقد له لواء وجعله أمير الأمراء فكان مدة إمارة ابن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وكسر .
ولما كان يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة أنفذ الراضي إلى بحكم خلع منادمة وكناه وأنفذ إليه مع الخلع شراباً وطيباً وتحيات وتمت له الرئاسة تمت المجلدة الخامسة من كتاب تجارب الأمم ويتلوها في المجلدة السادسة حكاية عن بحكم تدل على دهاء ونكر والحمد لله وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين أجمعين .
فرغ من انتساخه محمد بن علي أبو طاهر البلخي في المحرم سنة 605 .
حكى أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي قال: لما ترسلت بين بجكم وبين ابن رائق أشرت على بجكم بأن لا يكاشف ابن رائق. فسألني عن السبب الذي من أجله أشرت عليه بذلك فقلت : لأن بغداد في يده والخليفة معه والرياسة ولأن الجيش معه كثير والأعمال والأموال في يده والمال في يدك قليل وعدة من معك يسير . فقال لي : أما كثرة رجاله فهم جوز فارغ قد خرقتهم وسرفتهم وما أبالي كثروا أم قلوا وكون الخليفة معه لا يضرني عند أصحابي فأما ما توهمته من قلة المال معي فليس الأمر فيه كما ظننته وقد وفيت أصحابي استحقاقاتهم وما لأحد عليّ منهم مطالبة وفي صناديقي معي مال يستظهر به فكم تظنّ مبلغه ؟ قلت: لا أدري فقال على كل حال . فقلت : مائة ألف درهم. فقال . غفر الله لك معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها . (قال) فقلت له : أنتَ أعلم وما تختار (قال) فلما هرب ابن رائق وملك بحكم قال لي يوماً : أتذكر وقد قلت لك إن المال معي كثير وظننت أنه مائة ألف درهم فعرفتك أنه خمسون ألف دينار؟ فقلت : نعم . قال : أفتدري كم كان بالحقيقة معي؟ قلت: لا. قال خمسين ألف درهم. قلت: هذا يدلّ على أنك لم تثق بي ولم تصدقني. قال: لا ولكنك
ص: 220
صاحبي ورسولي فكرهت أن تعلم صحته في القلةِ فيضعف قلبك وإذا ضعف قلبك ضعف كلامك فيطمع ذلك في خصمي وأردت أن تمضي إليه بقلب قوي فتخاطبه بما ينخب قلبه ويضعف نفسه .
وفى هذه السنة تغلب اللشكري بن مردي على آذربيجان. وهذا غير اللشكري الذي تقدّم خبره وكان أوجه من ذاك وأكبر مرتبة وكان من أصحاب وشمكير وخليفته على أعمال الجبل. فجمع مالاً كثيراً ورجالاً وخلف صاحبه وسار إلى آذربيجان ليستولي عليها. وكان بها يومئذ ديسم بن إبراهيم فجمع ديسم عسكراً كثيراً من الأكراد وأصناف أخر وأحرز سواده في بعض الجهات وأقبل إلى اللشكري فواقعه دفعتين في مدة شهرين وانهزم ديسم فيهما جميعاً. واستولى اللشكري على بلاده إلا أردبيل فإن أهلها أجلاد ولهم بأس شديد وهم قصبة آذربيجان ودار
حملة سلاح ومدينتهم محصنة بسور وهي المملكة. فراسلهم اللشكري ورفق بهم ووعدهم الإحسان فأبوا عليه لما كان عندهم من أخبار الجيل ومعاملتهم أهل همذان وغيرها بأنواع الألم فحاصرهم اللشكري وطالت الحرب بينه وبينهم إلى أن تمكن طائفة من أصحابه يوماً من السور فصعدوه ونقبوا أيضاً عدة نقوب فيه وفتحوا الباب وتمكنوا من الدخول وأدركهم الليل.
إن اللشكري لما تمكن من أردبيل سكنت نفسه إلى الظفر وأشفق أن ينتهب البلد وتذهب الأموال عن يده وعن أيدي أصحابها. فرأى أن ينصرف إلى معسكره وكان على ميل من البلد فيبيت ثم يصبح فيدخل المدينة نهاراً فلما فعل ذلك بادر أهل المدينة إلى سد تلك الثلم وإحكامها وأغلقوا الأبواب وعاودوا الحرب فتحيّر اللشكري وعلم أنه فرط حين لم يدخل المدينة ليلاً أو يوكل بالثلم من يحفظها وأقبل قواده عليه يلومونه ويستعجزونه فلم يكن عنده إلا الاعتراف بالخطأ. وبادر أهل المدينة برسلهم إلى ديسم يعرفونه الصورة ويشيرون عليه بالمبادرة في يوم يعينه حتى يخرجوا لمحاربته ويكب ديسم من ورائه فتمَّت لهم الحيلة وأقبل ديسم في ذلك اليوم بجموع كثيرة من الصعاليك والأكراد وخرج أهل المدينة بزي الديلم معهم التراس والزوبينات وهم نحو عشرة آلاف رجل فصافهم الحرب وخرج ديسم من ورائه فحمل عليهم فانهزم أقبح هزيمة وقتل أصحابه مقتلة عظيمة وذهب نحو موقان محروباً مسلوباً ليس معه كراع ولا سلاح. فخرج إليه أصفهبذ موقان ويعرف بابن دلوله متلقياً فأضافه مع قواده فشكره اللشكري وسأله أن يقيم بضيافة أصحابه إلى أن يمضي هو إلى بلده وكانت بينه وبينها مسيرة أربعة أيام فيستخرج ذخائره ويخرج معه ابنه وأخاه ويجمع الرجال فأجابه ابن .دلوله ومضى
ص: 221
اللشكري مخفاً وعاد سريعاً ومعه ابنه وابن أخيه وألف رجل من أحداث الجيل مستظهرين بالسلاح والآلات وعطف على آذربیجان طالباً ديسم وساعده ابن دلوله الأصفهبذ في أصحابه فهرب ديسم وعبر نهراً يقال له الرسُ وماؤه شديد الجرية وأخذ المعابر إلى الجانب الذي حصل فيه ونازله اللشكري مقيماً بإزائه مدَّة لا يصل إليه فاجتمع إليه ابنه وابن أخيه وأحداث الجيل وجميعهم سباح لأن بلادهم على شاطئ البحر وأعلموه أنهم تتبعوا هذا النهر من أعلاه إلى أسفله فوجدوه على ثلاثة فراسخ من معسكرهم موضعاً منه ساكن الجرية واستأذنوه في المخاطرة والعبور فأذن لهم. فصاروا إلى الموضع ليلاً ومعهم جماعة من البوقيين فسبحوا ومدوا حبالاً متيناً بين أوتاد محكمة في الجانبين وأمسكوها وعبر الباقون بتراسهم وأسلحتهم وزحفوا إلى عسكر ديسم وضربوا بالبوقات وقتلوا نفراً فانهزم ديسم واستولى الجيل على أموالهم وسوادهم واستغنوا بما حصل لهم وتم الظفر للشكري.
وقصد ديسم وشمكير وهو بالري فأعلمه ما جرى عليه من اللشكري وأنه قد تمكن من آذربيجان وطابقه ابن دلوله أصفهبذ موقان وإن بلاد الجيل قريبة منه والاستمداد سهل عليه وأنه لا يلبث أن يقصد الري وينازعه إياها ويلتمس منه عسكراً من الجبل والديلم ليكون بإزاء اللشكري وأصحابه وواقفه أن يجمع إليه من الأكراد وغيرهم عشرة آلاف رجل فرساناً وأن يقوم بنفقة العسكر يوم دخوله الخونج وهو أول حدود آذربيجان من ناحية الري وأن يقيم الخطبة على منابر آذربيجان كلها ويحمل إليه في كل ستة مائة ألف دينار خالصة ويرد إليه العسكر الذي يجرد معه بعد فراغه من أمر اللشكري. فلما سمع و وشمكير ذلك أهمه هذا الخطب واستجاب ديسم إلى كل ما يلتمسه وأخذ كل واحد منهما على صاحبه العهد والميثاق بالوفاء وابتدأ بتجريد العسكر. فإلى أن يتكامل ذلك ورد الخبر بوفاة ابن دلوله الأصفهبذ وخلق كثير من أصحابه بعلة الجدري وأقام بقية أصحابه مع اللشكري فأنفذ اللشكري بقائد كبير من أصحابه يقال له بلسوار بن ملك بن مسافر وهو ابن أخي محمد بن مسافر اللشكري إلى نواحي الميانج وهي تجري مجرى الثغر بينه وبين وشمكير وأمره أن يحفظ الطرق ويتتبع المجتازين، ويفتشهم ويقرأ كتبهم تحرزاً واستظهاراً فلم يلبث بلسوار أن ظفر بفيج معه كتب من قواد عسكر اللشكري إلى وشمكير بالاعتذار إليه من دخولهم في طاعة اللشكري وإنهم إنما دخلوا معه وعندهم أنه على طاعتهم وأنهم إن رأوا راية من راياته قد أقبلت إليهم انحازوا إليها وصاروا بأجمعهم عليه فلما وقف اللشكري على هذه الكتب طواها وستر خبرها. وورد عليه انفصال ديسم عن الري في عسكر وشمكير مع حاجبه الشابشتي فركب إلى الصحراء وجمع قواده وعرفهم إقبال العسكر إليه وأنه يتخوف أن يشتغل
ص: 222
بحرب الجيل والديلم فيأتيه ديسم من ورائه ويجري الأمر كما جرى في وقعة أردبيل وأنه قد عزم أن يرحل بهم إلى بلاد الأرمن فيغزوهم ويستبيح أموالهم ويبعد عنهم إلى الموصل وديار ربيعة فإنها بلاد كثيرة الغلات والأموال واسعة والرجال بها قليل.
فساعدوه على ذلك ورحل بهم إلى أرمينية وأهلها غارون فنهبهم واستباح أموالهم ومواشيهم وسبى خلقاً كثيراً وانتهى إلى زوزان وفي يده وأيدي قواده من المواشي التي غنموها شيء كثير لا ينضبط ولا يعرفون مبلغها وقد وكلوا بها الرعاة فكانوا يخرجونها إلى مسارحها بكرة ويردونها عشية إلى معسكرهم. وكان بالقرب من زوزان قلعة للأرمن فيها عظيم من عظمائهم يقال له أطوم بن جرجين وهو قريب لابن الديراني ملك الأرمن فسأل اللشكري بمراسلة لطيفة أن يكف عن الأرمن فإنهم معاهدون يؤدون الإتاوة وأطمعه في مال يحمل إليه صلحاً فأجابه إلى ما طلبه .
كان هذا الأرمني عرف سرعة ركاب اللشكري وخفته وأنه يقدم بلا روية ويتسرع بلا تدبیر فكمن كمينا على جبلين بالقرب من موضعه الذي كان معسكراً فيه بينهما مسلك مضيق ثم دس إلى المواشي التي معه جماعة معه جماعة من الأرمن حتى قتلوا رعاءها واستاقوها في ذلك المضيق وهرب بعض الرعاء إلى اللشكري مجروحاً فصادفه خارجاً من الحمام في سوق زوزان فأخبره الخبر فسار لوقته وأخذ ذلك الراعي بين يديه ليدله على الطريق وليس معه إلا ستة نفر من غلمانه أخذهم فتح اللشكري (وهو أحد قواد السلطان بمدينة السلم وقد شاهدته) وكان موصوفاً بالبسالة والشجاعة وراسل باقي أصحابه في العسكر أن يلحقوه.
اتفق أن غمزت دابة كاتبه لما قضاه الله من سلامته فنزل لينظر ويصلح حافرها فسبقه اللشكري ولم يعرج عليه ومضى مع الخمسة النفر الذين بقوا معه فوصل إلى المضيق قبل أن يلحقه أصحابه الذين استدعاهم من المعسكر وولج الموضع . فلما توسطه ثار إليه الكمناء فقتلوه والغلمان الذين معه وأخذوا رؤوسهم وأشلاءهم وتركوا جثثهم ومضوا ثم وصل العسكر إلى الفتح بهذا الغلام وتبعوا اللشكري فلما رأوا جماعتهم عرفوهم فانصرفوا معتزلين. واجتمع أهل عسكره فعقدوا الرياسة لابنه لشکرستان و تقرر الرأي بينهم على أن يسيروا بأجمعهم في طريق عقبة صعبة شاقة تعرف بعقبة التنين ليحرزوا سوادهم وأثقالهم وغنائمهم من ورائها ويرجعوا إلى بلد أطوم بن
ص: 223
جرجين فيدركوا نارهم منه ويأتوا عليه قتلاً ونهباً .
كان أطوم بن جرجين بث جواسيسه ليعرف أخبارهم واطلع على هذه العزيمة منهم فسبقهم بأن رتب على رؤوس الجبال في طريقهم جموعاً من الأرمن يرمونهم بالحجارة وكان طريقهم من هذه الجبال على موضع عرضه نحو خمسة أذرع وعلى يسرته الجبل وعن يمينه نهر عظيم جار والمهوي إليه أكثر من مائة ذراع ووقف الأرمن متمكنين على هذا الموضع وسار أطوم بنفسه من قلعته في نفر فكمن على طريق المضيق حتى أن أفلت إنسان منهم أوقع به. فلما انتهى الجيل والديلم إلى ذلك المضيق أرسلوا عليهم الحجارة فكانت الصخرة تأتي فتصدم الراكب والمركوب والرجالة والبهائم والجمال فلا يمتنع منها شيء ويسقطون إلى النهر ويتلفون فترجل قوم من الفرسان ودخلوا من قوائم الدواب فربما سلم الواحد بعد الواحد فهلك في ذلك الموضع أكثر من خمسة آلاف رجل وسلم جماعة وسلم لشكرستان فيمن سلم ومضى بمن معه إلى ناصر الدولة وهو بالموصل لائذين به فنزلهم بشيء من الأرزاق الأرزاق يسير فاختار بعضهم أن يقبض نفقة وينصرف عنه واختار بعضهم أن يقيم مع لشكرستان فأما الذين قبضوا النفقات فأخذوا جوازات وانحدروا إلى واسط لاحقين ببجكم وأما الباقون فإنهم كانوا خمسمائة رجل فجردهم ناصراً الدولة مع ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن حمدان من آذربيجان لما أقبل إليها ديسم الكردي وكان هذا ديسم من قواد ابن أبي الساج وكان أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان مقلداً من قبل ابن عمه أبي محمد الحسن بن عبدالله بن حمدان ناصر الدولة أعمال المعاون بآذربيجان .
وفيها اختص قاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بالراضي بالله حتى حل محل الوزراء وصار الراضي يشاوره في الأمور ويدخله في التدبير ويصل إليه مع عبدالله ابن علي النفري خليفة الوزير الفضل بن جعفر ولا ينفد أمراً إلا بعد مشورته .
كان السبب في ذلك أن ناصر الدولة أخر ما اجتمع عليه من مال الحمل الذي كان في ضمانه للموصل وأخر مال الضياع التي في عمله بخدمة الراضي بالله فكان الراضي
ص: 224
مغيظاً عليه فاجتمع رأيه مع بحكم على قصده .
فلما كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من المحرّم خرجا وأقام الراضي بتكريت ونفذ بحكم إلى الموصل في الجانب الشرقي من دجلة. فتلقت زواريق أنفذها ناصر الدولة فيها دقيق وشعير وحيوان هدية إلى الراضي فأخذها بحكم وفرق ما فيها على حاشيته وأصحابه وفرغها وعبر فيها إلى الجانب الغربي وسار حتى لقي ناصر الدولة بالكحيل . وجرت بينهما وقعة وانهزم فيها أصحاب بجكم ثم حمل بحكم بنفسه على ناصر الدولة حملة حقق فيها فانهزم وتبعه بحكم ولم ينزل الموصل إلى أن بلغ نصيبين. ومضى ابن حمدان على وجهه إلى آمد وأقام بحكم بنصيبين وكتب إلى الراضي بالله بالفتح فلما ورد كتابه بالفتح على الراضي بالله سار من تكريت يريد الموصل وكان مسيره في الماء.
وكان قبل ورود كتاب بجكم بالفتح قد لحق القرامطة الذين مع الراضي بتكريت مضائقة في أرزاقهم فانصرفوا مغضبين إلى بغداد فلما وصلوا إليها ظهر ابن رائق من استتاره ببغداد وانضموا إليه ويقال إن انصرافهم من تكريت كان بمراسلة منه إليهم ومكاتبة في اجتذابهم وورد الخبر بذلك مع طائر إلى تكريت فخاف الراضي أن يسري إليه ابن رائق والقرامطة فيأخذونه فخرج من الماء مبادراً وركب الظهر وسار إلى الموصل ودخلها ومعه علي بن خلف بن طناب كاتبه وهو قلق من ابن رائق . ولما بلغ الحسن بن عبدالله بن حمدان انصراف بحكم من نصيبين سار من آمد إليها فانصرف عنها وعن أعمال ديار ربيعة من كان خلفه بجكم فيها من قواده وصاروا إلى الموصل وحصلت ديار ربيعة في يد ابن حمدان فزاد ذلك في قلق بحكم وأخذ أصحاب بحكم يتسللون ويخرجون من الموصل إلى بغداد حتى احتاج بجكم إلى أن يسد أبواب دروب الموصل ويحفظ أصحابه وزاد ذلك في اضطراب بحكم إلى أن قال : حصلنا على أن يكون في يد الخليفة وأمير الأمراء قصبة الموصل فقط .
وأنفذ ابن حمدان قبل أن يتصل به خبر ابن رائق وظهوره ببغداد أبا أحمد الطالقاني الذي كان أسره إلى بحكم يلتمس الصلح ويبذل أن يقدم خمسمائة ألف درهم معجلة. فلما ورد الرسول وأدى الرسالة فُرّج عن بحكم وفرج بأن ابتدأه بنو حمدان بمسألة الصلح وكان فكر في تسليم الموصل إليه والانحدار لدفع ابن رائق. فبادر وركب من وقته إلى الراضي وعرفه ما ورد به الطالقاني واستأذنه في إمضاء الصلح فامتنع الراضي لشدة غيظه علی ابن حمدان فعرفه أن الصواب في إجابته إليه والمبادرة إلى بغداد التي خرجت عن يده وهي دار الملك فأذن له في المصالحة فرد من يومه الطالقاني بالصلح وأنفذ معه الخلع واللواء والقاضي أبا الحسين بن أبي الشوارب ليستحلف ابن
ص: 225
حمدان ورجع مع مال التعجيل .
وبعد نفوذ الطالقاني جاء جعفر بن ورقاء وتكينك من عند بحكم إلى الموصل ثم تبعهما محمد بن ينال الترجمان في مُرقعة منهزمين من يد ابن رائق ووصفوا أنه لما ظهر من استتاره ببغداد انضم إليه ثلثمائة رجل من القرامطة فلقيه بديع غلام جعفر بن ورقاء وانهزم بديع وخرج إلى ابن رائق وهو بالمصلى جماعة من الجند والحجرية وخلق من العامة وقالوا : نحن نقاتل بين يديك. فأعطاهم خمسة دراهم وثلاثة دراهم. وكان جعفر بن ورقاء وأحمد بن خاقان وابن بدر الشرابي في دار السلطان وما يليها فراسلهم ابن رائق وسألهم الإفراج له ليمضي إلى داره التي هي دار مونس فأنزلها بحكم فمنعوه من ذلك فقاتلهم وانهزموا وقتل ابن بدر واستأمن إلى ابن رائق جماعة من الرجال فوعدهم بالعطاء وأعطاهم خواتيم طين تذكرة بالمواعيد وصار إلى دار السلطان وكتب الأمانة لمن فيها وراسل والدة الراضي بالله وحرمه برسالة جميلة وصار إلى دار مونس التي كان ينزلها بجكم فقاتله تكينك عنها وانهزم تكينك وملك ابن رائق الدار. ثم أقبل محمد بن ينال الترجمان من واسط في أربعة آلاف من الأتراك والديلم وغيرهم ليدفع ابن رائق عن بغداد فتلقاه ابن رائق بالنهروان وجرت بينهم حرب شديد وانهزم الترجمان وصار في مُرقعة إلى الموصل .
وأقبل ابن رائق يثير ودائع بجكم وأمواله وأنفذ أبا جعفر بن شيرزاد إلى بحكم بجواب الصلح منه فتقدم إليه بحكم المقام وأنفذ بجواب الرسالة قاضي القضاة أبا الحسين عمر على أن يُقلد طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وينفذ إليها. ورجع الطالقاني وابن أبي الشوارب القاضي من عند ابن حمدان بتمام الصلح وبعض المال فانحدر الراضي وبجكم من الموصل ولما صار قاضي القضاة إلى ابن رائق لقيه وقرر أمره على تقلد الأعمال التي تقدم ذكرها فخرج ابن رائق من بغداد متوجهاً إلى أعماله ووصل الراضي وبحكم إلى بغداد يوم السبت لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة وكان الراضي أنفذ خادماً يستدعيه فوصل الخادم وقد مات فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه سنة واحدة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً وقلد مكانه أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد وسلم إليه علي بن خلف فصادره على خمسين ألف دينار وسفر أبو جعفر بن شيرزاد في الصلح بين بحكم وبين البريدي فتم ما شرع فيه وضمن أبو عبد الله البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار في السنة.
ولما اتفق موت الوزير أبي الفتح وصولح البريدي شرع أبو جعفر بن شيرزاد في تقليد أبي عبد الله البريدي الوزارة وأشار بذلك فأنفذ الراضي بالله أبا الحسين إلى أبي عبد الله البريدي في تقلد الوزارة فامتنع منها ثم استجاب إليها وتقلد الوزارة وخلفه عبد
ص: 226
الله بن علي النفري بالحضرة كما كان يخلف الفضل بن جعفر .
وكان بجكم قلد بالبا التركي أعمال المعاون بالأنبار فكاتبه يلتمس منه أن يقلده أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق وهو بالشام فقلده ذلك فنفذ إلى الرحبة وغلب عليها وكاتب ابن رائق وأقام له الدعوة في إعمال طريق الفرات وعظم أمره بها واتصل خبره ببجكم.
أنفذ بحكم غلامه بوستكين وعدلا حاجبه وقطعة من جيشه نحو أربعمائة رجل فوصلوا إلى الأنبار وقت العصر من يومهم وساروا من سحر ليلتهم إلى هيت وأخذوا منها الإدلاء فسلكوا طريق البرية ووصلوا إلى الرحبة في خمسة أيام فدخلوها من بابين من أبواب الرحبة وجميع ذلك بوصية بجكم ورسمه فعملا بما رسم فعرف بالبا الخبر وهو على طعامه فوثب إلى سطح واستتر عند بعض الحاكة وأخذ من عنده وانحدروا به إلى الأنبار . ثم أدخلاه بغداد مشهراً على جمل عليه نقنق وهو مصلوب ثم خفي أمره فيقال إن بحكم سمه .
وفيها تزوج بحكم سارة بنت الوزير أبي عبد الله أحمد بن محمد البريدي بحضرة الراضي على صداق مائتي ألف درهم.
واشتد أبو جعفر بن شيرزاد في معاملة التناء وزاد في المساحة واحتج عليهم بعلو الأسعار ووفورها وطالبهم بالتربيع والتسعير والسلف وأظهر ظلمه .
وفيها سار الأمير أبو علي الحسن بن بويه إلى واسط وكان البريديون بها فأقام الأمير أبو علي في الجانب الشرقي منها والبريديون في الجانب الغربي.
كان أبو عبد الله أنفذ جيشاً إلى السوس وقتل قائداً من الديلم واضطر أبا جعفر الصيمري إلى التحصن بقلعة السوس وكان متقلداً أعمال الخراج بها. وخاف أبو الحسين أحمد أن بن بويه يصير البريدي إلى الأهواز من البصرة وكان أبو علي الحسن ابن بويه أخوه مقيماً بباب اصطخر فكتب إليه أبو الحسين أخوه يستنجده فوافاه يطوي المنازل طياً في عشرة أيام. وكانت الضرورة دعت أبا الحسين أحمد بن بويه إلى أن خرج من السوس فلما وصل أخوه أبو علي إلى السوس دخل أبو الحسين أحمد بن بويه الأهواز. وكان أصحاب وشمكير قد تغلبوا على أصبهان فسار الأمير أبو علي الحسن بن بويه إلى واسط طمعاً في أن يحصل له فاضطرب رجاله لأنه ما كان أنفق فيهم منذ سنة
ص: 227
واستأمن من أصحابه مائة رجل إلى البريديين وسار بجكم والراضي من بغداد لحربه فأشفق أن يقع التضافر عليه ويستأمن رجاله فانصرف إلى الأهواز ومنها إلى رامهرمز ثم سار إلى أصبهان ففتحها واستأسر بضعة عشر قائداً من قواد وشمكير ورجع الراضي الراضي بالله وبجكم إلى بغداد.
وفيها خرج بحكم إلى الجبل فلما بلغ قرميسين عاد إلى بغداد ومعه مستأمنة الديلم.
لما صاهر بحكم البريدي وخلص ما بينهما كاتبه أن ينفذ إلى الجبل لفتحها وأن يخرج هو إلى الأهواز لفتحها ودفع أبي الحسين أحمد بن بويه عنها وأنفذ إليه حاجبه عد لا في خمسمائة رجل نجدة ليضمهم إلى رجاله. قال أبو زكريا السوسي : وأخرجني معه لأن أزعجه وأحثه على المسير مع الجيش كله إذ كان ابتداؤهم بالسوس. (قال) فحصلت بواسط وأظهر البريدي بما وددت وعدل الحاجب له حتى إذا حصل بحكم بحلوان طمع البريدي في المسير إلى بغداد وأخذ الدفائن التي لبجكم في داره والعود بها إلى واسط وكانت عظيمة فما زال يتربص ويدافع ويقدّم رجلاً ويؤخر أخرى تارة تشره نفسه إلى المال وتارة يرهب من مكاشفة بحكم ويتوقع مع ذلك دائرة على بجكم من قتل أو هزيمة فيتمكن مما يريد وامتدت أيامنا حتى أقمنا زيادة على شهر وكتب بحكم ترد علينا بأن نعرفه ما علمناه فإذا أقرأناها البريدي قال : أنا سائر غير متلوّم ثم يتراخى فقطنا لما في نفسه وقلتُ لعدل سرّاً : أنفذ إلى بحكم من يعرفه الخبر. فبادر إليه بركابي يثق به فلما وصل إلى بحكم لم يلبث أن ركب الجمازات ووافى مدينة السلام وخلف عسكره وراءه .
وسقطت الأطيار على البريدي بدخول بحكم بغداد وأنه لا يدري أهو منهزم أم مجتاز فأبلس ودهش وتحير وهم بالقبض علي وجذبني إلى البصرة وعملتُ أنا على الاستتار فخفت أن يثيرني ويخرجني لأن واسط بلد صغير فكنتُ على ذلك أتردّدُ إليه متجلداً. ثم دعاني وقت عصر بعدّة غلمان فلم أشك في أنه للقبض علي فوصلت إليه وقت المغرب وقد قام فدخل إلى كلة له هرباً من البق فقال لي : عرفت الخبر؟ قلتُ : ماذا . فقال : سقط طائر قبل العصر بأن بحكم قد سار إلى واسط. فقلتُ هذا باطل متى ورد بغداد ومتى خرج ؟ فقال : دَع هذا عنك فإني لا أشك فيه قم اخرجُ الساعة إليه وأزل ما أوحشه مني وهات يدك فناولته إياها وجعلها على أذنه وقال: خذني إلى النخاسين وبعني فإني لا أخالفك واكفني هذا الباب ولا تسألني عما تعمل. فقبلت يده ورجله والأرض بين يديه وقلتُ له : امضي أتأهبُ . فقال : قد تأهبتُ لك وقدّم لك طيارٌ
ص: 228
وجرّدتُ خمسين غلاماً لبذرقتك وانزل إلى الطيار ففيه زاد يكفيك إلى الحضرة وغلمانك يتلاحقون بك. فلم أتمالك سروراً ثم خشيت أن يكون قد اغتالني وإني أخرج فيؤخذ بي إلى البصرة ونهضت من عنده فما ثاب إليّ عقلي إلا بفم الصلح فلما وصلت إلى نهر سابس لقيني خادم من داري ببغداد برسالة بحكم إلي أني أستتر وأسر بذلك إليَّ. وسألني من معي من غلمان البريدي عما ورد به الخادم فعرفتهم أنه أخبرني بحال عليلة لي وأنها مشفية وسرتُ مبادراً وأصبح البريدي نادماً على إنفاذه إياي ووجه خلفي من يطلبني لأن طائراً سقط عليه بما آيسه من صلاح بجكم له وأغرى بي في الكتاب فكفاني الله . ووصلت إلى دير العاقول وبها أحمد بن نصر القشوري فخرجت إليه وأراد أن يأخذ الطيار ويوقع بالغلمان فلم أتركه ندوتُ للغلمان ورددتهم في الطيار وجلستُ أنا في طيار أحمد بن نصر ووافيت الزعفرانية ولقيت بها بجكم وصعدت إليه فحدثته بالحديث. واجتهدت في إصلاحه للبريدي ورده إلى بغداد فأبى فقال : لو لقيني وأنا على درجة من داري لما تهيأ لي أن أعود فإنها تكون هزيمة فكيف وقد سرتُ ووصلتُ إلى ههنا. وانحدرت معه .
فقبض على أبي جعفر بن شيرزاد بواسط لأنه كان سبب البريدي عنده وهو الذي أشار بوصلته. وأظهر بجكم صرف أبي عبد الله البريدي عن الوزارة وأزال اسمها عنه وأوقعه على أبي القاسم سليمان بن الحسن فكان اسم الوزارة عليه وخلع عليه خلع الوزارة والأمور يدبرها كاتب بحكم وهو ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه. فكانت مدة وقوع اسم الوزارة على أبي عبد الله البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوماً .
وكان بجكم عند إخراج مضربه إلى الزعفرانية متوجهاً إلى البريدي أحبّ أن يكتم خبر انحداره وكان انحداره في حديدي فضبط الطرق ومنع من نفوذ كتاب لأحدٍ لئلا يكتب بخبر انحداره .
كان معه في الحديدي كاتب له على أمر داره وجرايات حاشيته وكان له أخ في خدمة البريدي فلما جلس بجكم في الحديدي سقط على صدر الحديدي طائر فصادَه غلمان بجكم وجاؤوا به إلى مولاهم فوجد على ذنبه كتاباً فقرئ فإذا هو كتاب من کاتبه هذا إلى أخيه بخطه يعرفه فيه انحدار بجكم ومن أنفذ على الظهر من الجيش وسائر أسراره وعزائمه . فلما وقف عليه بحكم عجب واغتاظ وأحضر هذا الكاتب ورمى إليه بالكتاب فسقط في يده ولم يمكنه جحده لأنه بخطه المعروف فاعترف به فأمر به فرمي بالزوبينات بحضرته إلى أن قتله ورمى به في الماء وسار إلى واسط فوجد البريدي قد انحدر منها ولم يقف .
ص: 229
وفي ذي الحجة من هذه السنة ورد الخبر بأن ابن رائق أوقع بأبي نصر بن طغج أخي الإخشيد فانهزم أصحاب أبي نصر بن طغج واستؤسر وجوه قواده وقتل أبو نصر بن طغج فأخذه ابن رائق وكفنه وحنطه وحمله في تابوت إلى أخيه الإخشيد وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وكتب إلى الإخشيد معه كتاباً يعزّيه فيه بأخيه ويعتذر مما جرى وأنه ما أراد قتله وأنه قد أنفذ إليه ابنه ليقيده به إن أحبّ ذلك. فتلقى الإخشيد فعله ذلك بالجميل وخلع على أبي الفتح مزاحم ورده إلى أبيه واصطلحا على أن يفرج ابن رائق للإخشيد عن الرملة ويكون باقي الشام في يد ابن رائق ويحمل إليه الإخشيد عن الرملة مائة وأربعين ألف دينار.
وفيها دخل أبو نصر محمد بن ينال الترجمان من الجبل منهزماً من الديلم واتصل خبر هزيمته ببجكم وهو بواسط فوجه بمن ضربه في منزله بالمقارع وقيده وحبسه مدة ثم رضي عنه .
وفيها كان القبض من بحكم على كاتبه ابن شيرزاد واستكتب أبا عبد الله الكوفي فكانت مدة كتابة ابن شيرزاد لبجكم وتدبيره الملك وقيامه مقام الوزراء تسعة عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً. وحين أراد القبض عليه كاتب تكينك خليفته على يد مسرع بأن يحض أبا القاسم الكلواذي وأصحاب الدواوين والعمال والمهندسين ويتقدم إليهم بأن يتوافقوا على أمر المصالح بالسواد وأن يعملوا عملاً بما يحتاج إليه ناحية ناحية فإذا فرغ منه تسلمه منهم وقبض على فلان وفلان (قوم أسماهم له من الكتاب) فلما حصلوا كتب على عدة أطيار بخبر حصولهم فأحضرهم تكينك وناظرهم في دار بحكم على أمر المصالح فلما فرغوا من ذلك وأرادوا الانصراف اعتقل من أسمى له منهم وفيهم أبو الحسن طازاذ بن عيسى ومحمد بن الحسن بن شیرزاد والمعروف برهرمه وجماعة من الكتاب والعمال وكتب بخبر القبض عليهم. فلما عرف خبرهم وحصولهم في القبض قبض حينئذٍ على أبي جعفر بن شيرزاد وزيره .
ومما يستدلّ به على دهاء بحكم ما حكاه ثابت عن أبي عبد الله الكوفي قال : قال بحكم بعد قبضه على أبي جعفر بن شيرزاد كان يقال لي إن أبا جعفر موسر كثير المال وكنتُ أظن أن أعداءه يكثرون عليه فأردتُ أن أمتحن صحة ما يقال فيه فقلت له يوماً : قد أودعت الأرض مالاً كثيراً وعملت على أن أودع الناس شيئاً آخر ولست أثق بأحد ثقتي بك وأريد أن أودع عندك شيئاً فهل تنشط لذلك؟ فقال لي : وكم مبلغه؟ فقلت : مائة ألف دينار فقال لي مسرعاً «نعم» ولم يستكثرها ولا رأيت في وجهه إعظاماً لها .
فلما رأيت قوة قلبه ونشاطه للأمر وأن المقدار لم يهله ولا عظم في نفسه علمت أن
ص: 230
الذي قيل في يساره وكثرة ماله حق فسلمت إليه مائة ألف دينار وتركته مدة طويلة ثم قلت له : قد احتجت إلى تلك الدنانير فينبغي أن تردّها. فقال: «نعم» وحمل بعد أيام جزءاً منها ثم اقتضيته فحمل شيئاً آخر ثم اقتضيته فحمل جزءاً آخر فأظهرت غضباً وقلت له دفعتها إليك جملة وتردها تفاريق فارتاع لغضبي وصياحي عليه ودهش فخجل وقال : أنا أصدق الأمير ليس لي من أثق به في هذه الأحوال إلا أختي وليس تطيق حمل الجميع ولا لها حيلة إلا أن تحمله شيئاً بعد شيء. فسكت وقلت : «يجوز» وحصلت من كلامه أن الذي يجري على يده أمر ودائعه هو أخته فلما قبضت عليه وطالبته أخذ يتماتن فوجهت إليه : لا تماتن فإن أختك قد وقعت في يدي. ولم تكن قد وقعت وإنما أردتُ أن أرعبه (قال) فانحل وبلغ ما أردته .
وفيها في ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول مات الراضي بالله وكان قد انكسف القمر كله وكان موته بالاستسقاء الزقي واستتر كاتبه أبو الحسن سعيد بن عمرو ابن سنجلا وانقضت أيامه. وكان رجلاً أديباً شاعراً حسن البيان يحب محادثة الأدباء ومعاشرتهم ولا يفارق الجلساء وكان سمحاً سخياً واسع النفس وطمع بجكم في جماعة من ندمائه وظن أنه ينتفع مع عجمته بآدابهم فلما نظر لم يجد من يفهمه ما ينتفع به إلأسنان بن ثابت فإن سناناً كان ينادمه الراضي بالله قال سنان: دعاني بحكم ووصلني وأكرمني ثم قال لي : أريد أن أعتمد عليك في تدبيري وأمور جسمي ومصالحي وفي أمر آخر هو أهم إلي من أمر بدني وهو أمر أخلاقي فقد وثقتُ بعقلك وفضلك وقد غمني غلبة الغضب والغيظ علي وإفراطها في حتى أخرج إلى ما أندم عليه من ضرب وقتل فأنا أسألك أن تثفق ما أعمله ثم تعالجني مما تكرهه وإذا عرفت لي عيباً لم تحتشم أن تذكره لي ثم ترشدني إلى علاجه ليزول عني.
(قال) فقلت له : السمع والطاعة ولكن في العاجل اسمع مني جملة علاج ما أنكرته من نفسك إلى أن يجيء التفصيل .اعلم أيها الأمير بأنك قد أصبحت وليس فوق يدك يد لمخلوق وأنه لا يتهيأ لأحد منعك مما تريد ولا أن يحول بينك وبين ما تهواه أي وقت أردته وأنك متى أردتَ شيئاً بلغته في أي وقت شئتَ لا يفوتك منه شيء ثم اعلم أن الغيظ والغضب يحدث في الإنسان سكراً أشد من سكر الشراب المسكر بكثير فكما أن الإنسان يعمل في وقت السكر من النبيذ ما يندم عليه وما لا يعقل به ولا يذكره إذا صحا كذلك يحدث في حال السكر من الغضب بل أشد فيجب كما يبتدئ بك الغضب وتحس بأنه قد ابتدأ يغلبك ويسكرك وقبل أن يشتد ويقوى ويتفاقم ويخرج من يدك. فضع في نفسك أن تؤخر العقوبة على الذنوب وتتركها تغبّ ليلة واثقاً بأن ما تريد أن تفعله في الوقت لایفوتک عمله فی عد. وقد قیل :«من لم یخف فوتاً حلم»فإنک إذا فعلتَ ذلک وبتْ لیلتک
ص: 231
وسكنتَ فلا بدّ لفورة الغضب من أن تبوخ وتسكن وتصحو من السكر الذي أحدثه لك الغضب وقد قيل إن أصح ما يكون الرأي إذا استدبر الإنسان ليلته واستقبل نهاره فإذا صحوت من سكرك فتأمل الأمر الذي أغضبك فإن كان مما يجوز فيه العفو ويكفي فيه العتاب والتهديد أو التوبيخ أو العزل فلا تتجاوز ذلك فإن العفو أحس بك وأقرب لك إلى الله عزّ وجلّ وليس يظن بك المذنب ولا غيره العجز ولا تعذر القدرة وإن كان مما لا يحتمل العفو عاقبت حينئذ على قدر الذنب ولم تتجاوزه إلى ما يقبح ذكرك ويزيغ دينك ويمقت عليه نفسك. وإنما يشتد هذا عليك عند تكلفه أوّل دفعة وثانية وثالثة ثم يصير عادة فيسهل لك ثم تستلذه إذا عملت فضيلة. فاستحسن ذلك بحكم ووعد أنه يفعله وما زال ينبهه على شيء شيء حتى صلحت أخلاقه وكف عن القتل والعقوبات الغليظة واستحلى ما كان يشير به من استعمال العدل والإنصاف ورفع الجور والظلم وعمل به حتى قال : قد تبينتُ أن العدل أربحُ للسلطان بكثير وأنه يحصل له دنيا وآخرة وأن مواد الظلم وإن كثرت وتعجلت سريعة النفاذ والفناء والانقطاع وهو مع ذلك كأنه لا يبارك فيها وتحدث حوادث يحرمها ثم يعود بخراب الدنيا وفساد الآخرة فقلت له : وبالضد فإن مواد العدل تنمي وتزيد وتدوم وتبارك فيها عند ابتداء العمل به. وعمل بواسط وقت المجاعة دار ضيافة وببغداد بيمارستان وعدل في أهل واسط وأحسن إلى أهلها إلا أن مدّته لم تطل فقتل عن قرب. ولله تدبير في أرضه وله أمر هو بالغه .
ص: 232
لما مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفاً انتظاراً لقدوم أبي عبد الله الكوفي من واسط واحتيط على دار السلطان وانتظر أمر بحكم فيمن يُنصب للخلافة فورد كتابه على أبي عبد الله الكوفي يأمر فيه أن يجتمع مع الوزير الذي كان يزر للراضي وهو أبو القاسم سليمان بن الحسن وكل من تقلد الوزارة مع أصحاب الدواوين والقضاة والعدول والفقهاء والعلويين والعباسيين ووجوه البلد وشاورهم فيمن يُنصب للخلافة ممن يرتضي مذاهبه وتحمد طرائقه فمن وجدت فيه هذه الأحوال عُقدت له الخلافة فلما اجتمعوا ذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر فتفرق الناس عن هذا ذلك اليوم من غير تقرير لأمر فلما كان اليوم الثاني دفع كتاب بحكم إلى كاتب فقام وقرأه على الناس وذكر إبراهيم : فقال محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي : هذا الرجل من ولد المقتدر فقُل لنا هذا الرجل المذكور في الكتاب يجب أن يكون من ولد المقتدر أو من غيرهم؟ فقال أبو عبد الله الكوفي : من كانت فيه هذه الأوصاف نُصب في الخلافة كائناً من كان .
فقال له : يحتاج أن يكون الخطاب في هذا سرّاً. فقام أبو عبد الله فدخل إلى بيت وأقبل يدخل إليه الناس اثنان اثنان ويقول لهما : قد وُصف لنا إبراهيم بن المقتدر فأي شيء تقولون؟ فإذا سمعنا ذلك لم يشكّا في أنه شيء قد تقرر وورد فيه أمر بحكم فيقولون: هو موضع لما أهل له وكلاماً في هذا المعنى فلما استوفى كلام الجماعة تقدّم بحمله ليعقد له الأمر في دار بجكم ثم يحمل إلى دار السلطان وانحدر أبو عبد الله الكوفي وعُرضت الألقاب على المتقي لله فاختار منها هذا اللقب وأخذت البيعة على الناس وأنفذ الخلعة واللواء إلى بحكم مع أبي العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني إلى واسط فانحدر بها وخلع عليه وأخذ البيعة عليه للمتقي لله .
وأطلق بجكم لأصحابه صلة البيعة نصف رزقه أو دون ذلك ولم يُطلق للكتاب ولا للنقباء وأشباههم شيئاً. ووجّه بحكم قبل استخلاف المتقي فحمل من دار السلطان فرساً كان استحسنه وآلات كان اشتهاها. وخلع المتَّقي لله على سلامة الطولوني وقلده
ص: 233
حجبته وأقر سليمان بن الحسن على وزارته وإنما كان له من الوزارة الاسم فقط والتدبير إلى أبي عبد الله الكوفي.
وفيها ورد الخبر بدخول أبي علي بن محتاج في جيش خراسان إلى الري وقتله ماكان الديلمي وهزيمته لوشمكير إلى طبرستان .
ذكر السبب في ذلك
كان ماكان مستقراً بكرمان من قبل صاحب خراسان حتى بلغه قتل مرداویج فاجتمع عليه استئمان رجاله إلى عماد الدولة علي بن بويه ومجاورته إيَّاه وطمعه في معاودة أعماله الأولى من جرجان وطبرستان فصار إلى خراسان واستعفى من ولاية كرمان وسأل ولاية جرجان فوليها وسار إليها وفيها بلقسم بن بالحسن من قبل وشمكير . فقدم ما كان كتاباً إلى وشمكير يُداريه فيه ويستنزله عن أعماله التي كانت في يده ويستعيده إلى حال المودة والموادعة. وكان الإجماع قد وقع من الجيل والديلم أنه لم ير فيهم أشجع ولا أنجد ولا أفرس من ماكان وأقر له بذلك كل شجاع مذكور وكل متقدّم مشهور فصادفت رسالته من وشمكير ضعف قلبه بقتل أخيه مرداويج وقرب عهده بالمصيبة وإشفاقه من صاحب خراسان ومن جهة عماد الدولة علي بن بويه فاستجاب له إلى النزول عن جرجان وكتب إلى صاحبه بلقسم بن بالحسن بتسليمها إليه . فلما مضت له مدة استنزله ما كان أيضاً عن سارية فنزل له أيضاً عنها فتأكدت الحال بينهما واستحكمت المودة واستوحش صاحب خراسان من تضافرهما وآل الأمر إلى أن خلع ماكان طاعته وأسقط خطبته. فسار حينئذ أبو علي بن محتاج إلى جرجان لمواقعته في عسكر كثيف أمده به صاحب خراسان وكتب ماكان إلى وشمكير بالصورة واستنجده فأنجده بعسكر قوي ثم اتبعه أيضاً بعسكر ثان مع شيرج بن ليلي. وحاصر ابن محتاج ماكان واشتدّ به الحصار إلى أن أكل أصحابه لحوم الجمال والبغال .
فانتهز هذه الفرصة ركن الدولة الحسن بن بويه واغتنم شغل وشمكير بما كان فطمع في الري وكاتب أبا علي بن محتاج صاحب جيش خراسان وأشار عليه بمُناجزة القوم ووعده بالمعاونة وكذلك فعل عماد الدولة كاتبه وأشار عليه بالمناجزة ووعده بأن يسير أخاهُ إلى الريّ في عسكر قوي وعرف وشمكير الخبر وكتب إلى ماكان بالصورة وأشار عليه بتسليم جرجان إلى الخراسانية وكتب إلى شيرج وإلى سائر عسكره بالانصراف ففعل ماكان ذلك وعاد الجيش بأجمعه إلى الري وحصل ماكان بسارية وتمكن ابن محتاج من جرجان. واتصلت المكاتبة بينه وبين عماد الدولة وركن الدولة واستحكمت المودة بينهم واتفقوا على حرب وشمكير حين اختلط عسكراهما وصارا عسكراً واحداً واشتملت عدة العساكر على سبعة آلاف من الديلم والجيل سوى الأتراك والعرب وأظهرا من السلاح
ص: 234
والجنن والآلات والدواب أمراً عظيماً . فترافدا في التدبير لأن وشمكير كان منفرداً بإطلاق النفقات والأموال وإقامة الانزال والعلوفات وتفقد القواد والرجال لأن الري وأعمالها كانت في يده فأما ماكان فإنه تفرَّد بمباشرة الحرب وترتب منها في القلب .
فسار ابن محتاج على طريق الدامغان حتى قرب منها وأقام الديلم والجيل مصافّها وبات الفريقان على أهبة لمباكرة الحرب والمناجزة وكان وشمكير ضرب عدة خركاهات للمصاف ونصب المطارد والأعلام وأحضر الطعام للناس وأجلس ماكان في الصدر يأكلُ ويُطعم ويُجلس من يرى ووشمكير قائم متردّد على رسمهم في ذلك؟ فكان ماكان يقول : يا أبا طاهر لِمَ لا تأكل معنا ثم تتوفّر على النظر بعد ذلك؟ فيقول : يا أبا منصور نحن بإزاء أمر قد قرب انفصاله فإن كان لنا فسوف نأكل معاً ونطعم وإن كان لغيرنا فسوف يأكل ويُطعم . وكانا يتعاملان مُعاملة النظراء ويتخاطبان بالكنى ويتساويان في جميع أحوالهما فما استتموا طعامهم حتى ورد عليهم الخبر بأن ابن مُحتاج رحل عن موضعهم عادلاً عن سمتهم إلى إسحاق باذ ليجتمع معه العدد الذي أنفذه ركن الدولة لأنه كان سار على طريق قُم وقاشان فارتحلا جميعاً في الوقت إلى هذه القرية وأعاد المصاف بها ووافى ابن مُحتاج وقد عبّى جيشه كراديس .
تقدم ابن مُحتاج إلى أصحابه أن يطرقوا القلب ويلخوا عليه وكان فيه ماكان وجُمرة العساكر وأن يتطاردوا لهم ويستجروهم. ثم وضى الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة خفيفة بمقدار ما يشغلهم عن أن يصيروا مدداً لمن في القلب ولا يطلبوا المناجزة بل يقفوا بإزائهم على هذا السبيل ففعلوا ذلك وألحوا على القلب ثم تطاردوا لهم كالمنهزمين فطمع ماكان وأصحابه الذين كانوا في القلب فيهم فاتبعوهم وفارقوا مصافهم وبعدوا عن ميمنتهم وميسرتهم وصار بينهم فضاء كثير . فحينئذ أمر ابن محتاج الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتركوا من بإزائهم ويدخلوا في الفضاء الذي اتسع لهم وراء القلب وأمر الذين كانوا بإزاء الحرب أن يحملوا ويحققوا عليه مواجهين له فانكسر الديلم وحصلوا بين الكراديس ولم يكن لهم مهرب فقتلوهم كما شاؤوا. وكان ماكان قد ترجل وأبلى بلاء حسناً وظهرت منه آثار لم ير مثلها فوافاه سهم عائر وقع في جبينه فنفذ الخوذة والتراس حتى طلع من قفاه وسقط ميتاً وأفلت وشمكير وقوم من أصحاب الخيل إلى سارية وأسر الباقون وقتلوا بأجمعهم.
وملك ابن محتاج الري وأخذ رأس ماكان بخوذته والسهم فيه وحمل على هيئته وحالته إلى خراسان مع الأسارى ورؤوس القتلى وكانوا عدداً جماً يقال إنهم نحو ستة
ص: 235
آلاف . ثم حمل بعد ذلك رأس ماكان إلى بغداد بعد مقتل بجكم لأن بحكم ينتسب إلى ماكان ويزعم أنه تربيته وقد كان أظهر حزناً وغماً شديداً لما سمع بقتله وجلس للعزاء. فلما قتل بحكم ورد أبو الفضل العباس بن شقيق المرسوم كان بالترسل بين ولاة خراسان وبين السلطان ومعه رأس ماكان وفيه السهم وعليه الخوذة وذلك في سنة 329.
كان الحسن بن الفيرزان ابن عمّ ماكان وصنيعته وكان قريباً في الشجاعة إلا أنه كان شرساً متهوّراً زعِر الأخلاق فلما قتل ماكان التمس منه وشمكير أن يدخل في طاعته وينحاز إليه فلم يفعل ثم لم يقتصر على التثاقل عنه حتى أطلق لسانه فيه وقال هو الذي أسلم ماكان إلى القتل وخذلَهُ ونجا بنفسه. فأفسد ما بينه وبين وشمكير بهذا الضرب من الكلام والوقيعة فيه فقصده وشمكير وهو يومئذ بسارية فانصرف عن سارية وصار إلى ابن محتاج داخلاً في طاعته ومستنهضاً له على وشمكير فقبله ابن محتاج وأحسن إليه وساعده على قصد وشمكير. فلقيه بظاهر سارية واتصلت الحرب بينهما أياماً إلى أن ورد الخبر على ابن محتاج بوفاة نصر بن أحمد صاحب خراسان فصالح وشمكير وأخذ ابناً له يقال له سالار رهينة ووافقه على أمور تقررت بينهما وانصرف إلى جرجان وجذب الحسن بن الفيرزان معه وهو غير طيب النفس بما فعله وأراد منه أن يتمّم الحرب ثم يستخلف الحسن ويمتدّ بعد ذلك إلى خراسان فلما لم يفعل ابن محتاج ذلك انجذب الحسن بن الفيرزان معه على هذا الحقد ودبَّر أن يطلب غرته في طريقه ويفتك به فلما صارا إلى الحدّ بین أعمال جرجان و خراسان وثب الحسن على ابن محتاج وأوقع بعسكره ليقتله فأفلت منه وقتل حاجبه وانتهب سواده واسترجع رهينة وشمكير أعني ابنه سالار وعاد إلى جرجان فاستولى عليها وعلى أعمال الدامغان و سمنان والقلعة التي كان يعتصم بها. وكان وشمكير صار إلى الري فملكها فلما فعل الحسن بابن محتاج ما فعل عاد إلى مواصلة وشمكير وبدأه بالمجاملة ورد عليه ابنه الذي كان رهينة عند ابن محتاج وأراد بذلك أن يستظهر على الخراسانية به إن عاودوا حربه فتسلم وشمكير ابنه وحاجزه في الجواب ولم يصرح له بما ينقض شرائط ابن محتاج عليه .
ثم إن ركن الدولة قصد الري وحارب وشمكير فانهزم وشمكير واستأمن أكثر رجاله إلى ركن الدولة وصار إلى طبرستان فاغتنم الحسن بن الفيرزان ضعف وشمكير فسار إليه واستأمن إلى الحسن بقية أصحابه وانهزم وشمكير إلى خراسان على طريق جبل شهريار . فلما حصل وشمكير بخراسان رأى الحسن بن الفيرزان أن يواصل أبا علي ركن الدولة وينحاز إليه فراسله ورغب في مواصلته فأجابه إلى ذلك وتمت المصاهرة بينهما بوالدة
ص: 236
الأمير على ابن ركن الدولة أعني فخر الدولة وهي بنت الحسن بن الفيرزان.
وفي هذه السنة فرغ من مسجد براثا وجمع فيه.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد وبلغ الكرُ من الدقيق مائة وثلاثين ديناراً وأكل الناس الحشيش وكثر الموت حتى كان يدفن في قبر واحد جماعة من غير غسل ولا صلاة وظهر من قوم ديانة وصدقة وتكفين ومن آخرين فجور وغضب وهم الأكثر .
وفيها انبثق نهر الرُفّيل ونهر بوق فلم يقع عناية بتلافيهما حتى خربت بادُوريا بهذين البثقين بضعة عشر سنة .
وفيها قتل بجكم .
ذكر سبب قتله
كان ورد جيش البريدي إلى المذار وأنفذ بحكم بوشتكين وتوزون في جيش للقائه فكانت بينهما وقعة عظيمة كانت أولاً على أصحاب بجكم فكتبا إلى بحكم يسألانه أن يلحق بهما فخرج بجكم من داره بواسط يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من رجب للمسير إلى المذار ليلحق عسكره وأصحابه فورد کتاب توزون و نوشتكين بظفرهما وهزيمة جيش البريدي وأنه قد استغنى عن انزعاجه فأنفذ بجكم بالكتاب إلى بغداد وكتب به كتاب هناك قرئ على المنابر .
وهمَّ بحكم بالرجوع من حيث وصل إليه الكتاب بالخبر وكانت خزائنه قد سارت فأشار عليه أبو زكرياء السوسي بأن لا يرجع وقال له : تمضي وتتصيد. فعمل على ذلك فلما بلغ نهر جور عرف أن هناك قوماً من الأكراد مياسير فشره إلى أموالهم وقصدهم متهاوناً بهم في بهم في عدد يسير من غلمانه وعليه قباء طاق بلا جبة فهرب الأكراد من بين يديه وتفرّقوا. ورمى واحداً منهم فأخطأ ورمى آخر فأخطأ واستدار من خلفه غلام من غلام من الأكراد وهو لا يعرفه فطعنه بالرمح في خاصرته فقتله وذلك بين الطيب والمذار يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب. واضطرب عسكره جداً ومضى ديلمه خاصةً إلى البريدي وكانوا ألف وخمسمائة رجل فقبلهم وأضعف أرزاقهم في دفعة واحدة.
وكان بنو البريدي عملوا على الهرب وقد ضاقت عليهم البصرة لمراسلة بحكم أهلها بما سكّن نفوسهم فكانوا مجتمعين بمطارا فلما بلغ بني البريدي قتل بحكم فرَّج عنهم ونفّس خناقهم. وعاد أتراك بحكم إلى واسط وسار تكينك بهم إلى بغداد ونزلوا في النجمي وأظهروا طاعة المتَّقي لله وصار أحمد بن ميمون كاتب المتقي لله قديماً هو المدبر للأمور وصار أبو عبد الله الكوفي من قبله فكانت مدة تقلد أبي عبدالله الكوفي كتابة بجكم وتدبيره المملكة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً ومدة إمارة بحكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ص: 237
ووجّه المتقي بجماعة من حجابه فوكلهم بدار بجكم ولم يتعرض لشيء مما فيها حذراً من أن يرد خبر لبجكم يبطل الخبر الأول فلما صح عنده قتله أحضر يكاق صاحب تكينك فأثبت المواضع التي فيها المال مدفوناً فسئل عن سبب معرفته بها فذكر أنه كان يخرج من الخزانة ويستدل على أنه لدفين ثمَّ يتتبع الأثر سراً فلما عرف البيت الذي فيه الدفين والموضع المظنون فيه المال طلب له ثقةً وضمّ إلى نجاح خادم المتقي فاستخرج شيءٌ كثير في قدور كبار منها عين ومنها ورق فلما فرغ مما وجد بذل للحفارين أن يأخذوا التراب بأجرتهم فامتنعوا فأطلق لهم ألفي درهم ثم تقدّم بغسل التراب فغسل وأخرج منه ستة وثلاثون ألف درهم وكان بحكم قد دفن في الصحارى ولم يقتصر على ما دفنه في البيوت فكان الناس يتحدثون أنه إذا دفن في الصحراء شيئاً ومعه من يعاونه قتله لئلا يدل على ما يدفنه في وقت آخر فبلغ بجكم ما يقوله الناس فعجب منه .
فحكى سنان بن ثابت قال : قال لي بحكم : فكرت فيما دفنته في داري من المال وقلتُ : قد يجوز أن يحال بيني وبين الدار بحوادث تحدث فلا أصل إليها فيتلف مالي وروحي إذ كان مثلي لا يجوز أن يعيش بغير مال فدفنت في الصحراء وعلمت أنه لا يحال بيني وبين الصحراء فبلغني أن الناس يشنعون عليّ بأني أقتل من يكون معي ولا والله ما قتلت أحداً على هذه السبيل وأنا أحدثك كيف كنتُ أعملُ . كنت إذا أردت الخروج للدفن أحضرت بغالاً عليها صناديق فرَّغ إلى داري فاجعل في بعضها المال وأقفل عليها وأدخل من أريد أن يكون معي من الرجال إلى باقي الصناديق التي على ظهور البغال وأطبق عليهم وأقفل وأسير بالبغال . ثم أخذ أنا مقود القطار وأسير إلى حيث أريد وأردّ من يخدم البغال وأنفرد وحدي في وسط الصحراء ثم أفتح عن الرجال فيخرجون ولا يدرون أين هم من أرض الله وأخرج المال فيدفن بحضرتي وأجعل لنفسي علامات ثم أرد الرجال إلى الصناديق وأطبقها عليهم وأقفلها وأقود البغال إلى حيث أريد وأخرج الرجال فلا يدرون إلى أين مضوا ولا من أين رجعوا واستغنى عن القتل .
واستوزر المتقي لله أبا الحسين أحمد أبا الحسين أحمد بن محمد بن ميمون وخلع عليه واستخلف أبا عبد الله الكوفي . وطلب تكينك فاستتر.
وقدم الترجمان من واسط فأقره المتقي لله على الشرطة ببغداد وفيها أصعد البريديون من البصرة بعد قتل بجكم .
لما قُتل بحكم اختلف أهل عسكره فأما الديلم فعقدوا الرياسة لبلسوار بن مالك بن مسافر الكنكري فهجم عليه الأتراك وقتلوه فانحدر الديلم بأسرهم إلى البصرة مستأمنين إلى أبي عبد الله البريدي وكانوا ألفاً وخمسمائة رجل مختارين منتجبين ليس فيهم حشوٌ
ص: 238
فقوي البريدي بهم وعظمت شوكته واستظهر بهم على السلطان وانضاف عسكرهم إليهم فبلغوا سبعة آلاف رجل فأصعد البريديون من البصرة إلى واسط فراسلهم المتّقي لله وأمرهم ألأ يصعدوا وأن يقيموا بواسط فأرسلوا : إنَّا محتاجون إلى مال الرجال فأنفذ إلينا ما يرضيهم به ونحن نقيم . فوجه المتقي لله أبا جعفر بن شيرزاد بعد أن ردَّ عليه ضيعته مع عبد الله بن يونس صاحب بيت المال وانحدر في جملته تكينك سرا من المتقی لله.
وقال الأتراك البجكمية والجنكاتي الذي كان استأمن من جهة البريدي للمتقي لله : نحن نقاتل بني البريدي إن جاؤوا فأطلق لنا مالاً وانصب لنا رئيساً . فأنفق فيهم وفي رجال الحضرة القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي وُجد لبجكم وجعل الرئيس عليهم سلامة الطولوني الحاجب وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالي. وعاد عبد الله بن يونس بجواب الرسالة من البريديين يلتمسون المال فحمل إليهم معه من مال بجكم أيضاً مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وقال : أنا أحتاج إلى خمسمائة ألف دينار للديلم فإن حملتِ إليَّ وإلا فإن الديلم لا يمهلوني وعلى كل حال أنا سائر فإن تلقاني المال انصرفت وإلا دخلت الحضرة فقال المتقي لله لما أديت رسالته: أنا قد أنفقت في الأتراك أربعمائة وخمسين ألف دينار وفي غيرهم جملة فمن أين أعطيه ما طلب ؟ دعه يرد الحضرة ويعمل ما شاء فإني أرجو أن أكفي أمره. وسار أبو عبد الله البريدي من واسط نحو الحضرة فلما قرب منها اضطرب الأتراك البجكمية وقلعوا خيمهم واستأمن بعضهم إلى البريدي وسار بعضهم إلى الجنكاتي إلى الموصل ودخل سلامة بغداد واستتر أبو عبد الله الكوفي وسلامه الحاجب ومحمد بن ينال الترجمان وتقلد الشرطة مكان الترجمان أحمد بن خاقان وتأسف الوزير أبو الحسين على أربعمائة ألف دينار ذهبت ضياعاً. ورهب الناس البريدي رهبة عظيمة لعسفه وتهوره وطمعه فهم أرباب النعم بالانتقال .
فتحدث بعض المختصين بأبي الحسن علي بن عيسى قال : كنت بين يديه أنا وأولاده وأخوه وخواصه في تلك الأيام ونحن نتحدّث بأمر البريدي وموافاته الحضرة ونتجارى جُرأَتَهُ وإقدامَهُ وقلة اكترائه وأنه ينعل الناس بنعال الدواب وأشارت الجماعة عليه بألأ يقيم ببغداد وأن يخرج هو وعياله إلى الموصل إلى أبي محمد الحسن بن عبدالله بن حمدان وفزعناه وهوّلنا عليه وهو لا يُصغي إلى رأينا فلما أكثرنا عليه ترجّح رأيه . ثم أطلق لي مائتي دينار على أن أبكر واكترى له بها زواريق ليصعد هو فيها وعياله إلى الموصل فباكرني رسوله مع السحر يأمرني بالمصير إليه وجئت وسألني فعرفته أني ما مكنت امتثال أمره بمُباكرة رسوله واستدعائه إياي فقال : ويحك لفكرتُ البارحة فيما
من أشرتم به فوجدته خارجاً عن الصواب مفسداً للدين أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟ اصرف تلك إلى وجوه الصدقة فإني مُقيم. فرددتُها إلى خزائنه وأقام فلما قرب البريدي انحدر
ص: 239
إليه وتلقاه فأكرمه أبو عبد الله غاية الإكرام ووفَّاهُ حقَّهُ وأعظمه ومنعه من أن يخرُج من طيّاره وانتقل هو إليه وشكر برّه وخاطبه بنهاية الإكرام والتعظيم .
ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ومعه أخوه أبو الحسين وابنه أبو القاسم وأبو جعفر بن شيرزاد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان فنزلوا البستان الشفيعي وتلقاه الوزير أبو الحسين بن ميمون والكتاب والعمال والقضاة والوجوه وكان معه من الشذاءات والطيارات والحديديَّات والزبازب ما لا يُحصى كثرةً. فوجه المتقي إليه يُعرّفه أنسهُ بقربه وحمل له الطعام والشراب والألطاف عدة ليال وكان يخدم في ذلك كله خدمة الخلافة. وظهر محمد بن ينال الترجمان وكان الناس يخاطبون أبا عبد الله البريدي بالوزارة ويخاطبون أبا الحسين بن ميمون أيضاً بالوزارة ويصير أبو الحسين إليه بسيف ومنطقة وقباء ويخاطب كلّ واحدٍ منهما صاحبه بالوزارة ثم لبس أبو الحسين الدرّاعة وأزال عن نفسه اسم الوزارة بمواطأة الخليفة وذلك لست خلون من شهر رمضان فكانت مدّته فيها ثلاثة وثلاثين يوماً وتفرَّد أبو عبد الله البريدي باسم الوزارة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان حضر أبو الحسين بن ميمون ومعه ابنه أبو الفضل مجلس الوزير أبي عبد الله وكان الوزير قد واطأ القوّاد إن أحضر أبو الحسين مجلسه أن يجتمعوا ويكلموه ويتوثبوا عليه ويتهددوه بالقتل ويقولوا إنه :« يضرب علينا الخليفة ويُفسد علينا رأيهُ» ففعل الديلم ذلك في هذا اليوم فما زال الوزير يسكنهم ويعرفهم كذب ما بلغهم عنه ثم قال لأبي الحسين وابنه : قوما ادخلا الرواق، يوهمهما أنه یرید أن يخلصهما من القتل فدخلا الرواق ووكَّل بهما وانصرف القوَّاد وحصلا في قبضه . ثم قال لهما بعد أيام يا أبا الحسين قد قلدتك الإشراف على واسط وأجريتُ لك ألف دينار في كل شهر فامض إلى عملك مع ابنك . فحملا إلى واسط ومنها إلى البصرة ولما قبض عليه استكتب المتقي لله على خاص أمره أبا العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني واعتل أبو الحسين بعد مدة بالبصرة ومات بها .
ولم يلق الوزير أبو عبد الله طول مقامه ببغداد المتقي لله ولا دخل دار السلطان وذهب إليه الأمير أبو منصور بن المتقي لله وهو في النجمي ليسلّم عليه فلبس أبو عبد الله البريدي قباء أسود وعمامة سوداء وتلقاه في أحسن زيّ وأوفر عُدة ونثر عليه دنانير ودراهم . وراسل الوزير أبو عبد الله البريدي المتقي لله على يد القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخِرَقي وأبي العباس الأصبهاني يطالبه بحمل مال فحمل إليه مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وراسله بأنه لا بد من خمسمائة ألف دينار فالتوى المتقي لله فقال للقاضي : انصحه وقل له : «أما سمعت خبر المعتز بالله والمهتدي بالله والمتوكل على الله؟ والله لئن خليتك والأولياء لتطلبنّ نفسك فلا تجدها وأنت أبصرُ إنما الديلم
ص: 240
وافوا لأجل المال الذي أخذتُه لا إلى بغداد وعندهم أنهم أحق به منك ولا يعرفون البيعة ولأمنن لك في رقابهم »وكان الجواب عن هذه الرسالة الإنعام وحمل إليه خمسمائة ألف دينار فاستوفاها عن آخرها في سلخ رمضان ووهب للقاضي الخرقي منها خمسة آلاف دينار. ولما حصلت الأموال عند البريديين انصرفت أطماع الجند كلهم إليه وكان البريدي يبعث الجند على طلب الأموال من الخليفة ويحملهم على الشعب فلما استصفى مال السلطان رجعت المكيدة عليه وتشغب الجند عليه. وكان الديلم قد اجتمعوا يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فرأسوا على أنفسهم كورنكيج بن الفاراضي الديلمي فرأس الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بحكم وانحاز الديلم بأجمعهم إلى دار السلطان وأحرقوا دار أبي الحسين البريدي التي كان ينزلها.
ونفر الجيش عن أبي عبد الله البريدي وصار تكينك إلى الديلم وتضافروا وكان سبب ذلك أن تكينك لم يكن كبيراً في نفوس الأتراك فأرسل إليه كورنكيج وخدعه وقال له : إن تفرَّد كل واحد منا عن صاحبه ضعف وأرى أن نجتمع وتصير أيدينا واحدة. فانخدع له وصار إليه فاجتمعوا فلما تمكن منه عاجله بالقبض عليه إلا أنه استعان به في العاجل لما اجتمعوا ووافقه على قصد البريدي ونهب ما حصل عنده فاتفقوا على ذلك وقصدوا بأجمعهم النجمي وعاونهم العامة. فقطع الوزير أبو عبد الله الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثبت العامة في الجانب الغربي بأسباب أبي عبد الله البريدي وقتل نعجة القرمطي فهرب الوزير أبو عبد الله البريدي وأخوه وابنه وانحدروا إلى واسط في الماء ونهبت داره في النجمي ودور قواده ونهب بعض المال الذي كان حمله إليه المتقي في ذلك اليوم لأن هر به كان يوم الاثنين سلخ رمضان وآخر ما حمل إليه من بقية المال في ذلك اليوم واستتر أبو جعفر بن شیرزاد و نُهبت داره وظهر سلامة الطولوني وبدر الخرشني . فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه أربعة وعشرين يوماً. ولما هرب البريدي حصلت الإمارة لكورنكيج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوال.
فلما كان يوم الخميس لثلاث خلون منه لقي كورنكيج المتقي لله فقلده إمارة الأمراء وعقد له لواء وخلع عليه. وكان يكتب له رجل من أهل أصبهان يُعرف بأبي الفرج بن عبد الرحمن واستدعى المتقي لله أبا الحسن علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبر الأمر عبد الرحمن من غير تسمية بوزارة. وقبض الأمير أبو شجاع كورنكيج على تكينك يوم السبت لخمس خلون من شوال وغرقه ليلاً. وفي يوم الجمعة اجتمعت العامة في الجامع من دار السلطان وضخوا وتظلموا من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعديهم عليهم في معاملاتهم فلم يقع إنكار لذلك فمنعت العامة الإمام من الصلاة
ص: 241
وكسرت المنبر . وشغب الجند فمنعهم الديلم من ذلك فقتل بين الفريقين جماعة .
واستوزر أبو إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي للمتقي لله فكانت مدّة نظر علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن تسعة أيام.
حكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قال : كنتُ بحضرة كورنكيج كاتبه أبي الفرج وفي مجلسه علي بن عيسى وعبد الرحمن أخوه والقراريطي فطالب کورنكيج أبا الحسن علي بن عيسى بالمال وعرّفه حاجته إليه لإعطاء الرجال فبلح هو وأخوه وذكرا أن المال قد استنظف من النواحي وأنه لا وجه له قال : فقال القراريطي : ونحن في المجلس ؟ فيما بيني وبينه : إن رُدّ الأمر إليَّ أقمت به واستخرجت ما يدفع إلى الرجال ويفضل بعده جملة وافرة. فاجتمعت مع أبي الفرج كاتب كورنكيج وعرفته ما خاطبني به فالتمس أن يصير إليه في خلوة ليسمع كلامه فأحضرته في غد فأعاد عليه ما قاله لي وأراه وجوهاً لجملة من المال. فذهب إلى صاحبه كورنكيج فعرفه أن علي بن عيسى وأخاه قد بلحا وأن القراريطي قد حضر وذكر أنه يقوم بالأمر ويزيح علل الرجال حتى لا يقع إخلال بشيء يحتاج إليه فاستروح كورنكيج إلى ذلك وأمره بإحضاره ليلاً فأحضره وخلا به وبكاتبه وجعله على ثقة من القيام بكل ما يحتاج إليه ولم يبرح حتى انعقد له الأمر ووقف المتقي لله عليه .
وأخرج أصبهان الديلمي إلى واسط من قبل الأمير أبي شجاع كورنكيج لمحاربة البريدي وكان أبو يوسف قد أصعد من البصرة إلى واسط فلما سمعوا بانحدار أصبهان الديلمي انحدر البريديون إلى البصرة. وظهر ابن سنجلا وسَلِفُه علي بن يعقوب من استتارهما وصارا إلى دار الوزير أبي إسحاق القراريطي ليسلّما عليه فقبض عليهما من داره قبل أن يصلا إليه وحملهما إلى دار السلطان وكتب فيهما رقعة إلى المتقي لله وأمر بحبسهما ونالهما مكروه غليظ بالضرب والتعليق وصودرا على مائة وخمسين ألف دينار. وفي هذه السنة سار محمد بن رائق من الشام إلى مدينة السلام لما بلغه قتل بجكم .
كان الأتراك البجكمية مثل توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون وكبارهم لما انصرفوا من بغداد بعد قتل بجكم وإصعاد البريدي صاروا إلى الموصل فحاد عنهم أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان وراسلوه في إطلاق نفقاتهم فأطلق لهم ربع رزقة فتقدّموا إلى ابن رائق بالشام فصح عنده قتل بحكم بمصير الأتراك إليه وكتب إليه
ص: 242
المتقي يخبره بقتل بجكم ويخاطبه بخطاب جميل ويستدعيه إلى الحضرة فسار من دمشق فلما قرب من الموصل كتب كورنكيج إلى أصبهان الديلمي بأن يصعد من واسط فأصعد ودخل بغداد وخرج لؤلؤ إلى واسط متقلداً لها ولم يتم أمره ورجع من الطريق. ولما وصل ابن رائق إلى الموصل حاد عنه أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان وجرت بينهما مراسلة تقرر فيها أن يحمل أبو محمد إلى ابن رائق مائة ألف دينار فأخذها وانحدر إلى بغداد وعاد أبو محمد بن حمدان إلى الموصل .
ولما كان يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة قبض كورنكيج على القراريطي فكانت مدة وزارته ثلاثة وأربعين يوماً وقلد الوزارة أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي ولقي المتقي لله في هذا اليوم وخُلع عليه .
وورد الخبر بدخول بني البريدي واسطاً لما انصرف عنها أصبهان الديلمي وخطبوا بواسط والبصرة لابن رائق وكتبوا اسمه على أعلامهم.
وفيها دخل ابن رائق بغداد وانهزم كورنكيج واستتر .
لما قرب ابن رائق من بغداد خرج كورنكيج منها وانتهى إلى عكبرا وقلد لؤلؤ الشرطة ببغداد وخلع عليه وانتهى ابن رائق إلى كورنكيج وابتدأت الحرب واتصلت أياماً متتابعة كانت على ابن رائق . فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة دخل ابن مقاتل بغداد ومعه قطعة من جيش ابن رائق وفي ليلة الخميس لتسع بقين منه دخل ابن رائق بجميع جيشه من الجانب الغربي ونزل في النجمي وعبر في غداة غد هذا اليوم إلى دار السلطان ولقي المتقي لله وسلم عليه واستركبه فركب معه في دجلة إلى زقّة الشماسية وانحدرا من وقتهما إلى دار السلطان فصعد المتقي لله إليها وعبر ابن رائق إلى النجمي. ولما كان بعد الظهر من هذا اليوم وافى كورنكيج في جيشه من عكبرا على الظهر بغداد هو وأصحابه وهم في نهاية التهاون بابن رائق ومن معه وكانوا ينهرون ويقولون : أين نزلت هذه القافلة الواردة من الشام ولما وصل كورنكيج إلى دار السلطان دُفع عنها وكان فيها لؤلؤ وبدر الخرشني فانصرف كورنكيج ونزل في الجزيرة التي بين يدي اصطبل مربط الجمال وخزانة الفرش ويعرف اليوم بدار الفيل.
فتحدث أبو بكر بن رائق بعد ذلك أنه كان عمل على الانصراف والرجوع إلى الشام لما دخل كورنكيج بغداد وأنه حمل ثقله وابتدأ بالمسير قال : ثم قلت في نفسي: أنصرف وأسلّم هذا الأمر فلم تَطِب نفسي وقلت لفاتك حاجبي : استوقف الناس. فاستوقفهم فلم يقفوا حتى بادر إلى بغل من بغال النقل فعرقبه فوقف حينئذ الناس.
ص: 243
وعبرت نحو من مائة رجل من أصحابي مع محمد بن جعفر النقيب على الظهر إلى الجانب الشرقي وعبرت أنا في سُميرية ومعي سباشي الخادم التركي ونحو من عشرين سميرية فيها غلمان واتفق مجيئي مجيء أصحابي على الظهر في وقت واحد فلما رشقنا الديلم بالنشاب سمعوا من ورائهم الزعقات من أصحابي ومن العامة فاضطربوا ونخبت قلوبهم وقدَّروا أن الجيش قد وافاهم من خلفهم وأنهم قد ملكوا ظهورهم فانهزموا وأخذهم الرحمة من العامة وطُرحت الستر عليهم وهرب كورنكيج واستتر وقيل ما عرف أصحابه أي طريق أخذوا وثبت أمرنا .
لما استتر كورنكيج وتقطع جيشه وبطل أمره ظهر أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي لابن رائق وعاد إلى خدمته وأمر ابن رائق بقية الديلم المستأمنة بطرح أسلحتهم وأنفذ خاتمه إلى جماعة منهم كانوا تحصنوا في حصن بالقرب من جسر النهروان فرجعوا ودخلوا الدار المعروفة بدار الفيل فكانوا نحو أربعمائة رجل لم يجسروا أن يتفرقوا. فلما كان يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة وجّه ابن رائق برجالته السودان إلى دار الفيل ووضعوا السيف فيمن اجتمع هناك من الديلم فقطعوهم فلم يسلم منهم إلا رجل يقال له خذاكرد وقع بين القتلى وحمل في جملة المقتولين في الجوالقات إلى دجلة ورمي به مع غمرة فعاش مدة طويلة بعد ذلك. وكان ابن رائق استأمر من قواد الديلم بضعة عشر قائداً فوجه بهم إلى دار فاتك حاجبه وأمره بضرب أعناقهم فضربت أعناقهم صبراً في داره. وكان من المنهزمين من الديلم قوم مضوا في الهزيمة إلى طريق خراسان فلما تجاوزوا جسر النهروان باتوا في بعض الخانات فسقط عليهم الخان بالليل فمات أكثرهم .
ولما كان الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة خلع المتقي لله على ابن رائق
يوم وطوَّقه وسوره بطوق وسوار مرصعين بالجوهر وعقد له لواء وقلده إمرة الأمراء وألزم أبو جعفر الكرخي بيته وكانت وزارته هذه ثلاثة وخمسين يوماً. ودبر الأمور أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي كاتب الأمير أبي بكر بن رائق من غير تسمية بوزارة وأطلق أبو إسحاق القراريطي إلى منزله ووجد كورنكيج فأخذ وحمل إلى دار السلطان.
واستوحش ابن رائق من بني البريدي لأنهم ما حملوا شيئاً من مال واسط والبصرة فلما كان يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرَّم انحدر ابن رائق وهرب البريديون إلى البصرة، وسفر بينهم الكوفي إلى أن ضمن البريدي البقايا بواسط بمائة وسبعين ألف دينار ثم بستمائة ألف دينار في كل سنة مستأنفة وأصعد ابن رائق إلى بغداد.
ص: 244
وفيها دخل العباس بن شقيق ومعه رأس ماكان بن كالي الديلمي مع هدايا صاحب خراسان إلى المتقي لله من غلمان أتراك وطيب وشهابي وشهر رأس ما كان في شذاءات وكان على الرأس خوذة وفيه سهم قد نفذ في الخوذة والرأس؟ ومرَّ من الجانب الآخر من الخوذة.
وفيها شعب الأتراك على ابن رائق وخرجوا إلى المصلى ومعهم توزون ونوشتكين وأخذوا في طريق التجنّي عليه ورحلوا سحر يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر إلى البريدي بواسط فلما وصلوا إليه قوي بهم جانبهُ واحتاج ابن رائق إلى مداراته .
فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة للنصف من شهر ربیع الآخر وأنفذ إليه الخلع الطيب بن سوسن واستخلف له أبا جعفر بن شيرزاد بالحضرة وأوصله إلى المتقي لله إلا أن المدير للأمور كلها أبو عبد الله الكوفي ووردت الأخبار بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد فأزال ابن رائق عنه اسم الوزارة وعزله بأبي إسحاق القراريطي ولزم أبو جعفر بن شيرزاد منزله واستتر وركب المتقي على الظهر ومعه ابنه أبو منصور وابن رائق والوزير أبو إسحاق القراريطي والجيش وساروا على الظهر وبين أيديهم المصاحف المنشورة والقراء واستنفر العامة لقتال البريديين ثم انحدروا إلى داره في دجلة من باب الشماسية . واجتمع خلق من العيارين بالسكاكين المجردة في جميع محال الشرقي من بغداد وفي يوم الجمعة لعن بنو البريدي على المنابر في المساجد الجامعة ببغداد.
خرج أبو الحسين من واسط مصعداً في الجيش إلى بغداد ومعه غلمان أخيه أبي عبدالله والأتراك والديلم فلما قرب من بغداد استأمن كل من كان معه من القرامطة إلى ابن رائق . واستعد ابن رائق للقتال وعمل على أن يتحصن في دار السلطان فسد أكثر أبواب دار السلطان والثلم في سورها ونصب العرّادات والمنجنيقات على السور وعلى شاطئ دجلة في فناء الدار وطرح حول الدار الحسك والحديد واستنهض العامة وفرض بعضهم فصار ذلك سبباً لتوزّع العصبيات بينهم واتصال الحروب. وافتتن الجانب الغربي وأحرق نهر طابق مما يلي دار البطيخ واتصلت الكبسات بالليل والنهار على قوم ذوي أموال واستغفر الناس نهاراً وليلاً وقتل بعضهم بعضاً قتلاً ظاهراً وفتح الحبس ودامت الفتنة. وبرزت خيم السلطان إلى نهر ديالي وخرج ابن رائق إلى الحلبة والقواد معه. فلما كان يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة عبر أصحاب أبي الحسين البريدي نهر ديالي وكان لؤلؤ مقيماً على شاطئ النجمي وبدر الخرشني بالمُصلَّى وما زالت الحرب بين البريدي وابن رائق إلى وقت الظهر وما زالت الحرب في الماء منذ ذلك اليوم إلى
ص: 245
يوم السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة فاشتدت الحرب على الظهر وفي الماء وأوقع الديلم بالعامة الذين فرضوا ودخل الديلم من أصحاب البريدي دار السلطان من جهة الماء وملكوا الدار فخرج المتقي وابنه منها هاربين في نحو عشرين فارساً فخرجا إلى باب الشماسية ولحق بهما ابن رائق وجيشه ولؤلؤ ومضوا إلى الموصل. واستتر القراريطي الوزير فكانت مدة وزارته أحد وأربعين يوماً. وقتل الديلم من وجدوا في دار السلطان ونهبوها نهباً قبيحاً ودخل الديلم دور الحرم وأقام البريدي أبو الحسين في حديدية أياماً على باب الخاصة ووُجد في دار السلطان ابن سنجلا وعلي بن يعقوب فأطلقا وأما كورنكيج فقيده وحدره إلى أخيه أبي عبد الله فكان آخر العهد به ووُجد القاهر في محبسه فأقِرّ فيه من دار السلطان .
فلما كان بعد أيام صعد أبو الحسين البريدي ونزل في دار مونس وهي التي كان ينزلها ابن رائق وقلد أبا الوفاء توزون الشرطة في الجانب الشرقي ونوشتكين الشرطة في الجانب الغربي وأخذ الديلم في النهب والسلب وكُبست الدور وأخرج أهلها ونزلت ولم يزل الناس على ذلك إلى أن تقلد توزون ونوشتكين الشرطة فإن الفتنة سكنت قليلاً. وأخذ أبو الحسين البريدي حرم توزون وابنيه وعيالات أكثر القواد والأتراك وأنفذهم إلى أخيه ليكونوا رهائن في
يده .
وغلت الأسعار ببغداد وظلم البريدي الظُلم المعروف لهم وافتتح الخراج في آذار فخبط التُنّاء حتى تهاربوا وافتتح الجوالي وخبط أهل الذمة وأخذ الأقوياء بالضعفاء ووظف على كرّ من الحنطة سبعين درهما وعلى سائر المكيلات وعلى الزيت وقبض على نحو خمسمائة كرّ كان للتجار ورد من الكوفة وادعى أنه للحسن بن هارون المتقلد كان للناحية وهرب خجخج إلى المتقي لله وكان أخرج إلى بزرج وسابور والراذانين.
وكان توزون ونوشتكين والأتراك تحالفوا على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين بتوزون ونمى الخبر إلى أبي الحسين البريدي فتحرَّز وأحضر الديلم داره واستظهر بهم وقصد توزون دار أبي الحسين فحاربه من كان فيها من الديلم وغلقت الأبواب دونه . وانكشف لتوزون غدر نوشتكين فلعنه وانصرف ضحوة يوم الثلاثاء ومضى مع قطعة وافرة من الأتراك إلى الموصل واضطرب العامة وقاتلوا البريدي.
ولما صار توزون وخجخج والأتراك إلى الموصل وقوي بهم ابن حمدان عمل على أن ينحدر مع المتقي لله إلى بغداد وبلغ ذلك أبا الحسين البريدي وكتب إلى أخيه يستمده فأمده بجماعة من القواد والديلم. وأخرج أبو الحسين مضربه إلى باب الشماسية وأظهر أنه يحارب ابن حمدان إن وافى وذلك كله بعد أن قتل أبو محمد بن حمدان ابن رائق وسنشرح خبره على أثر هذا الحديث. فلما قرب المتقي وأبو محمد بن حمدان من بغداد انحدر أبو الحسين هارباً وجميع جيشه وأخذ معه من كان معتقلاً في يده يطالبهُ
ص: 246
مثل ابن قرابة وأبي عبد الله بن عبد الوهاب وعلي بن عثمان النقاط بن ومن أشبههم فاضطربت العامة ببغداد زيادة اضطراب ونهبت الدور وتسلح الناس في الطرقات ليلا ونهاراً. وكانت مدة أبي الحسين البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً .
ولما وصل المتقي لله وابناه ومحمد بن رائق ومن معهم إلى تكريت وجدوا هناك وهم مصعدون إلى الموصل بعد أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وذاك أن ابن رائق لما قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمد بن حمدان يسأله مدداً ومعاونة على قتاله فأنفذ أبو محمد أخاه فلم يلحقهم إلا بتكريت وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل. فلما التقوا أقام علي بن حمدان للمتقي لله وابنه وابن رائق والقوَّاد كل ما يحتاجون إليه من الميرة والثياب والفرش والدراهم وما قصر في أمرهم وساروا بأجمعهم إلى الموصل . فلما وصلوا إليها حاد عنها أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان وعبر إلى الجانب الشرقي ومضى إلى نواحي مغلثايا فما زالت الرسل تتردد بينه وبين محمد بن رائق إلى أن توثق بعضهم من بعض بالأيمان والعهود والمواثيق حتى أنس أبو محمد وعاد فنزل في الشرقي بإزاء الموصل .
فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي لله ومعه أبو بكر بن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ليسلّموا عليه فلقيهم أجمل لقاء ونثر على الأمير أبي منصور الدنانير والدراهم. فلما أراد الانصراف من عنده ركب الأمير أبو منصور ثم قدّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب فأمسك أبو محمد بن حمدان كمَّهُ وقال له : تُقيم اليوم عندي لتحدّث فإن بينا ما تتجاراه فقال له ابن رائق : اليوم لا يجوز لأني أريد أن أرجع مع الأمير ولكن يكون يوماً آخر. فألح عليه ابن حمدان إلحاحاً استراب به ابن رائق فجذب كمهُ من يده حتى تخرَّق وكان رجله في الركاب فشب به الفرس فوقع وقام ليركب فصاح أبو محمد بغلمانه وأمرهم بالإيقاع به وقال : ويلكم لا يفوتكم. فوضعوا عليه السيوف وقتلوه وأرسل أبو محمد بن حمدان إلى المتقي لله أنه وقف على أن ابن رائق أراد أن يغتاله ويوقع به فجرى في أمره ما جرى فردّ المتقي عليه الجواب يعرّفه أنه الموثوق به ومن لا يشك فيه ويأمره بالمصير إليه فعبر ولقيه .
فخلع عليه المتقي وعقد له لواء ولقبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وكناه وكان ذلك مستهل شعبان وخلع على أخيه علي وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وكتب إلى القراريطي بتقليده الوزارة وذلك في شؤال وجلس في داره وقلَّد
ص: 247
وعزل وأمر ونهى وضبط الأمر إلى أن وافى المتقي وناصر الدولة أبو محمد.
دخل المتقي بغداد مع ناصر الدولة أبي محمد وأخيه علي وجميع الجيوش وعملت لهم العامة القباب ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعي ولقي الوزير القراريطي المتقي لله وناصر الدولة وتقلد أبو الوفاء توزون الشرطة في جانبي بغداد وخلع المتقي على الوزير أبي إسحاق القراريطي خلع الوزارة يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة وفي يوم الخميس خلع المتقي لله على ناصر الدولة وأخيه وطُوّقا وسوّرا بطوقين طوقين وأربعة أسورة ذهبا وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وطوّق بطوق واحد وسوارين ذهباً .
وورد الخبر بأن أبا الحسين علي بن محمد البريدي قد أصعد من واسط يُريد الحضرة فاضطرب الناس ببغداد وعبر المتقي إلى الزبيدية ليكون مع ناصر الدولة وقَدَم حُرمه إلى سر من رأى وهرب جماعة من وجوه أهل بغداد وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها وسار أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان في الجيش. وكان مع أبي الحسين البريدي لما أصعد من واسط أبو جعفر بن شيرزاد وأبو بكر بن قرابة والديلم وجيش عظيم فكانت الوقعة بين أبي الحسن علي بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهلّ ذي الحجة ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجة في القرية المعروفة بكيل أسفل المدائن بفرسخين ومع ابن حمدان توزون وخجخج والأتراك فكانت أولاً على علي بن عبدالله بن حمدان وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة وكان ناصر الدولة بالمدائن ثم صارت على أبي الحسين البريدي فانهزم واستوسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبدالله وأبو الفتح بن أبي طاهر ومحمد بن عبد الصمد ومذكر البريدي والفرج كاتب جيش البريدي واستأمن إلى ابن حمدان محمد بن ينال الترجمان وإبراهيم بن أحمد الخراساني وحصل له جمعُ الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي. وقتل جماعة من قواد البريدي وعاد البريدي إلى واسط مهزوماً مفلولاً ولم يبق في علي بن حمدان وأصحابه فضل لاتباعه لعظيم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.
ولسبع خلون من ذي الحجة عاد المتقي لله من الزبيدية إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف وعاد الحُرم من سر من رأى ومن كان هرب إليها من بغداد. ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة بغداد وبين يديه يانس غلام البريدي وأبو الفتح بن أبي طاهر والمذكر البريدي مشهرين على جمال وعلى رؤوسهم برانس وكُتب عن المتقي كتاب الفتح إلى الدنيا ولقب المتقي لله أبا الحسن
ص: 248
على بن عبد الله بن حمدان لما فتح هذا الفتح سيف الدولة وأنفذ إليه خلعاً وكتب فيه كتاباً وانحدر سيف الدولة إلى واسط فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة وأقام بها ومعه الأتراك والديلم وسائر الجيش .
وراسل أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل ناصر الدولة على يد أبي زكريا السوسي فأخذ له أماناً من ناصر الدولة واشترط فيه ابن مقاتل إن استقرّ بينه وبين ناصر الدولة مصادرة ينهض بها ويطيب نفسه لها أقام على ظهوره وإن لم يستقر عاد إلى استتاره فلما ظهر تباعد ما بينهما فقال له ناصر الدولة : عد إلى استتارك. فقال ابن مقاتل : لم أحُدَّ إلي ذلك حداً فإذا شئتُ فعلتُ. فضح ناصر الدولة من ذلك لأنه مضطر إلى الوفاء بعهده وعلم أن الحيلة قد تمت عليه فاضطر إلى أن فصل أمرَهُ على مائة وثلاثين ألف دينار .
ونظر ناصر الدولة في أمر النقد والعِيار فأمر بتصفية العين والورق وضرب دنانير سماها الأبريزية من أجود عيار وكتب في ذلك كتاباً وفي هذه السنة استولى الديلم على آذربیجان.
ذكر السبب في ذلك
إن دَيسم بن إبراهيم لما تمكن من آذربيجان وقد كتبنا خبره فيما تقدَّم كان معظم جيشه الأكراد إلا طائفة يسيرة من بقية عسكر وشمكير اختاروا المقام معه حين ردّ عسكر وشمكير إليه فتبسط عليه الأكراد وزاد أمرهم في الإدلال والتحكم إلى أن صاروا يتغلبون على حدود أعماله . فنظر في أمره فلم يجد من يستظهر عليهم بهم إلا الديلم فاجتذب جماعة من أكابرهم منهم صعلوك بن محمد بن مُسافِر وأسفار بن سياكولي؟ وجماعة من أمثالهم وصار إليه جماعة من الموصل وفيهم رجل كان من قواد بحكم فنفاه بحكم من عسكره لشيء أنكره منه يقال له علي بن الفضل الصولي فأفضل عليه ديسم وموَّلهُ وعظم محله فاجتذب الديلم إليه فلما قويت شوكة ديسم بهم انتزع من يد الأكراد ما كانوا تغلبوا عليه وقبض على جماعةٍ من رؤسائهم وازداد من عِدة الديلم واستظهر بهم . وكان مُتولّي وزارته أبو القاسم علي بن جعفر وكان من كتاب آذربيجان وكثرت سعاية أعدائه به فأخافه ديسم وأوحشه حتى هرب منه إلى الطرم ليعتصم بمحمد بن مسافر فوافق وصوله إليه الوقت الذي استوحش فيه ابناه منه وهسوذان والمرزبان وملكا عليه قلعته المعروفة بسميران. وكان السبب في وحشتهما قبح سيرته وسوء معاملته لأهل بيته وقبضه عليهم لغير ذنب كبير وذلك لشرّ كان في طبعه وكان استوحش منه وهسودان فصار إلى أخيه المرزبان وكان في قلعة من قلاع أبيه بالطر فعلم محمد بن مسافر أنه لا
ص: 249
يتمكن من القبض عليه إلا بعد أن يفرق بينه وبين م أخيه فكتب إلى المرزبان يستدعيه فقال وهسوذان له : إني لا أقيم في القلعة بعدك القلعة بعدك . وأعلمه أنه إن فارقه تمكن منه وقبض عليه فقال له المرزبان فاخرج معي. فلما صاروا في بعض الطريق ظفرا برسول لأبيهما كان أنفذه سراً إلى المقيمين في القلعة يأمرهم إذا خرج المرزبان أن يقبضوا على وهسودان والاحتياط عليه وعلى القلعة فعجبا من ذلك وجمعهما الاستيحاش من أبيهما فوصلا إلى قلعة أبيهما وقد خرج أبوهما إلى قلعة أخرى فعرّفا أمهما خراسوية ما كتب أبوهما فيهما وكانت أمهما هذه جزلةً فساعدتهما على القلعة وفيها ذخائر محمد بن مسافر وأمواله فاستوليا عليها وتمكنا منها فلما عرف محمد بن مسافر ذلك تحيّر في أمره وحصل في القلعة التي كان قصدها وحيداً قد فرق بينه وبين نعمته. فلما وصل علي بن جعفر كاتب ديسم إلى هذه الصورة اعتصم بالمرزبان وأطمعه في آذربيجان فضمن له أن يملكه إياها فيوصله إلى أموال جليلة من ارتفاعها من وجوه يعرفها فنفق عليه وقرب من قلبه وقلدهُ وزارته. واتفقا مع ذلك على عصمة في الدين وذاك أن علي بن جعفر كان من دُعاة الباطنيّة وكان المرزبان معهوداً فيهم فأذن له المرزبان أن يدعو إلى هذا المذهب ظاهراً فاجتمع له كل ما أرادهُ .
وكاتب عسكر ديسم وكان يعرف من استوحش من ديسم ومن هو غير راض عنه ومن لا يرضى مذهب ديسم لأن ديسماً كان يرى رأي الشراة وكذلك كان أبوه وكان يصحب هارون الشاري أعني أباه فلما قتل هرب إلى آذربيجان وتزوج إلى رئيس من أكرادها فولد ديسم فاصطنعه ابن أبي الساج وارتقى معه إلى ما ارتقى إليه .
ولم يزل علي بن جعفر يصعصع أركانه ويفسد قلوب أصحابه وخاصة الديلم إلى أن استجاب له أكثر أصحابه وكاتبوه وقالوا: إن صار إلينا المرزبان فارقنا ديسماً بأجمعنا. فلما وثق المرزبان بذلك من ثبات أصحاب ديسم سار إلى آذربيجان وسار إليه دیسم فلما صافه الحرب قلب الديلم تراسهم في وجهه وصاروا إلى المرزبان وكانوا نحو ألفي رجل واستأمن معهم كثير من الأكراد وحمل عليه المرزبان ففرق عنه من بقي معه وانهزموا وهرب في طائفة يسيرة إلى أرمينية واعتصم بجاجيق بن الديراني لمودّة كانت بينهما فأحسن ضيافته وحمل إليه ما يحمل إلى مثله. فاستأنف دیسم يألف الأكراد وعرف خطأه في الاستكثار من الديلم وكان أشار عليه بعض النصحاء الفضلاء أن لا يرتبط من الديلم أكثر من خمسمائة رجل بعصاه وملك المرزبان آذربیجان وجرى أمره على سداد بتدبير كاتبه علي بن جعفر إلى أن أفسد ما بينه وبينه .
ذكر السبب في ذلك
كان له كاتب يعرف بأبي سعيد عيسى بن موسى ويعرف بعيسكويه فسعى عليه
ص: 250
وأطمع المرزبان في ماله وكان علي بن جعفر قد أوحش جماعة من حاشية المرزبان فتضافروا عليه وعارضوه في تدبيره وأحس علي بن جعفر بذلك فاحتال على المرزبان بأن أطمعه في أموال عظيمة يثيرها له من بلد تبريز وتبريز هذه مدينة جليلة وعليها سور حصين وحواليها غياض وأشجار مثمرة وهي حصينة وأهلها ذو بأس ونجدة ويسار. فضمّ إليه المرزبان جستان بن شرمزن ومحمد بن إبراهيم ودلير بن أورسفناه والحاجب الحسن بن محمد المهلبي في جماعة من ثقاته فسار علي بن جعفر إلى تبريز. فلما تمكن بها استمال أهل البلد وكتب إلى ديسم يتلافاه ويستدعيه ويعده من نفسه أن يقتل الديلم ويوازره حتى يعود إلى مملكته. فأجابه ديسم بأنه لا يثق به إلا بعد أن يوقع بالديلم فواطأ أهل البلد على الإيقاع بهم وأعلمهم أنه إنما حضر لطمع المرزبان فيهم وأن الديلم لا يساعدونه على صلاح أمرهم وهم لا يرضون إلا باستئصالهم . فواطأه أهل البلد على الوثوب بهم في يوم ذكره وأحضر القوّاد المذكورين في ذلك اليوم فقبض في داره عليهم وقتل الديلم فصار إلى ديسم في العسكر الذي أجمع له .
وكان المرزبان أساء إلى الأكراد الذين استأمنوا إليه فوافق ذلك ظهور ديسم بتبريز فصاروا بأجمعهم إليه واتصل بالمرزبان ما جرى على الديلم فندم على إيحاش علي بن جعفر واستماع كلام أعدائه فيه واستوزر أبا جعفر أحمد الله بن عبد بن محمود وخلع عليه ولقبه المختار . ثم استعد وسار إلى تبريز وقد سبقه دیسم فجرت بينهما حروب وثبت الديلم وانهزم الأكراد فعاد ديسم إلى تبريز متحصناً بها وحامى أهلها عليه وذلك لما سبق من فعلهم بالديلم وحاصرهم المرزبان وابتدأ في استصلاح علي بن جعفر و مراسله وإعطائه عهد الله وميثاقه والعصمة التي بينهما من الدين على أن يعود له فأجابه علي بن جعفر بأنه لا يريد من جميع ما بذله له إلا السلامة وأنه ما فارق ديسماً حين فارقهُ إلا هرباً من المكروه ولا فارقه الآن وعاد إليه إلا هرباً من مثل ذلك وأن الذي يلتمسه منه أن يعفيه من العمل ويصونه في نفسه وحاله ليلزم منزله ويروح ويغدو إليه فأجابه إلى ذلك وسفر بينهما من الثقات الذين الثقات الذين يجمعهم الدينُ من وثق له بجميع ما أراد فسكن إليه. واشتد الحصار على ديسم فثلم ثلمة في سور المدينة ليلاً وخرج منها هو وأصحابه إلى أردبيل ولم يجسر المرزبان على اتباعه في الوقت خوفاً من أن يعطف عليه في صعاليكه ويخرج من ورائه أهل تبريز فتأخر عنه. وخرج إليه علي بن جعفر فوفى له وأقام أهل تبريز على ممانعته.
لما عرف المرزبان حصول ديسم بأردبيل خلف على تبريز بعض جيشه وصار في معظم العسكر إليه واستدعى أخاه وهسودان إليه في جماعة من أطاعه وجد في محاصرة
ص: 251
ديسم. وكان ديسم وكان ديسم استوزر بعد مفارقة علي بن جعفر أبا عبدالله محمد بن أحمد النعيمي فراسله المرزبان وتلطف له ووعده أن يستوزره فاستجاب له وآثره على ديسم وواطأه على التدبير عليه .
أخذ النعيمي في المشورة على ديسم بأن يُنفذ إلى المرزبان وجوه أردبيل ليسألوه الصلح ويعاهدوه ويستوثقوا منه بالأيمان المؤكدة على أن يؤمنه ليدخل في طاعته وخوفه من طول الحصار واستيحاش أهل البلد وأنهم سيواطئون المرزبان ويسلمونه بأن يفتحوا له الباب وأعلمه أنه قد وقف من ذلك على أمر سيظهر له إن لم يبادر بالصلح . ونظر ديسم في أمره فوجد الصورة قريبة مما خوَّفه منه وذلك أن الحصار كان قد اشتد وانقطعت الميرة عنه وعن جنده وعن أهل البلد فالجميع في شدة والدمدمة كثيرة والناس مستوحشون وهم على يأس من الصلاح وخوف من زيادة المكروه. وأنفذ دیسم إليه وجوه البلد وأعيانهم ومذكوريهم ليتوثقوا له بالأيمان والعهود حتى يأنس بها ويخرج إليه ففعل القوم ذلك وتوثقوا له نهاية التوثيق وراسل أبو عبد الله النعيمي المرزبان بأن يحتبس هؤلاء الوجوه ولا يردهم إلى البلد إلا بعد خروج ديسم إليه لئلا يتغير الأمر أو يحدث ما ينقض رأيه ولأن أهل البلد إذا حبس عنهم وجوههم ورؤساؤهم اجتمعوا عليه ولم يمهلوه وعرَّفوه أنه قد أمن على نفسه بالأيمان التي سألها وسكن إلى ما بذل له وليس لتأخره عن الخروج وجه ويشيّد هو أيضاً كلامهم ويؤيده ولا يقنع منه إلا بالخروج إليه في أسرع وقت وأقربه. ففعل المرزبان ذلك واضطرب أهل البلد على ديسم لحصول رؤسائهم في يد المرزبان فخرج إليه فلما أتاه خبره تلقاه وأكرمه وأعظمه ووفى له بكل ما وافقه عليه وقلد أبا عبد الله النعيمي وزارته وقبض على ابن محمود وسلمه إليه فصادره وجميع أصحابه وصادر وجوه البلد واستخرج أموالاً عظيمة. واستقامت أمور المرزبان وخُطب له على جميع منابر آذربیجان .
فليعتبر الناظر في هذا الكتاب هل أتي هؤلاء الملوك إلا من سوء تحفظهم واشتغالهم عن ضبط أمورهم وتفقدها بلذاتهم وشهواتهم وإغفالهم أمر أصحاب الأخبار وتركهم تعرف نيات وزرائهم وقوادهم وأمور عساكرهم وتعويلهم على الاتفاقات والدول التي لا يوثق بها وقلة تصفحهم أحوال الملوك قبلهم ممن استقامت أمورهم كيف كانت سيرتهم وكيف ضبطوا ممالكهم ونيات أصحابهم بضروب الضبط أولاً بالدين الذي يحفظ نظامهم ويملك سرائرهم ثم بأصحاب الأخبار الثقات والعيون المذكاة على مُدبري أمورهم والتفقد لهم يوماً يوماً وحالاً فحالاً وترك إيحاشهم ما أمكن ومداراة من تجب مداراته والبطش بمن لا حيلة في استصلاحه ولا دواء لسريرته. وقد كان حصفاء
ص: 252
الملوك يخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جداً إلى أصحاب الأخبار ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهلتهم ..
فأما ما انتهى إليه أمر ديسم فإنه خاف بعد ذلك على نفسه وسأل المرزبان أن يخرجه إلى قلعته بالطرم ليقيم فيها مع أهله ويقبض على ارتفاع ضياعه وهو ثلاثون ألف دينار في السنة وهو دون ما كان يبذله المرزبان له ويتكلفه من مؤونته فأجابه إلى ذلك وحصل في القلعة مصوناً في أهله ونفسه وضياعه .
وفيها وافى الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى عسكر أبي جعفر بإزاء البصرة وأظهر أن السلطان كاتبه في حرب البريدي فأقام مدة يحاربهم ثم استأمن جماعة من قواده إلى البريديين مثل روستاباش وغیره فاستوحش من المقام وعاد إلى الأهواز بعد أن استأمن إليه جماعة من عسكر البريدي .
وفيها زوّج ناصر الدولة ابنته من الأمير أبي منصور بن المتقي ووقع الأملاك والخطبة بحضرة المتقي ولم يحضر ناصر الدولة وجعل العقد إلى أبي عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي وكان الخاطب القاضي الخرقي فلحن في مواضع وجعل الصداق والنحلة واحداً وجعلهما صداقاً وكان الصداق خمسمائة ألف درهم والنحلة مائة ألف دينار ولم يُحسن أن يعقد التزويج فعقده ابن أبي موسى.
وفي رجب من هذه السنة عبر الوزير أبو إسحاق القراريطي إلى ناصر الدولة على رسمه فقبض عليه وعلى جماعة معه فكانت مدة وزارته ثمانية أشهر وستة عشر يوماً وجعل اسم الوزارة على أبي العباس أحمد بن عبد الله الأصفهاني وخلع عليه المتقي الله خلع الوزارة في دار السلطان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وانصرف بها إلى دار الأمير ناصر الدولة فكان يلبس القباء والسيف والمنطقة في أيام المواكب والمدبر للأمور أبو عبد الله الكوفي وصودر القراريطي والكتاب والمتصرفون .
وكان ناصر الدولة ينظر في قصص أصحاب الجنايات من العامة وفيما ينظر فيه صاحب الشرطة وتقام الحدود الواجبة عليهم من ضرب وقطع يد ورجل بحضرته وتُعرض عليه الأيدي والأرجل إذا قطعت وتُعد بحضرته ويستوفي العدد عليهم لئلا يرتفق أصحاب الشرطة من الجناة ويطلقوا من غير علمه .
كان سيف الدولة أبو الحسن مقيماً بواسط مفكراً في أن يسير بالجيش والأتراك
ص: 253
إلى البصرة ليفتحها وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال ويضايق الأتراك خاصةً وكان توزون وخجخج يُسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط ويتحكمان عليه حتى ضاق ذرعاً بهما. وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفي إلى سيف الدولة أخيه ومعه ألفي ألف درهم وخمسين ألف دينار لينفق في الأتراك فوثب توزون وخجخج به بحضرة سيف الدولة وأسمعاه مكروهاً فضمه سيف الدولة إلى نفسه ثم ستره في بيت وقال لهما : أما تستحيان مني فتجاملاني في كاتبي ! ثم وافق سيف الدولة كاتب خجخج أن يسير خجخج إلى المذار ويُسوّغه ارتفاعها إذا حماها ووافق أبا علي المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامِدَة ويوهب له ارتفاعها وعليه حمايتها وانتظم هذا التدبير وعاد الكوفي إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة ورهب أن يعود إلى منزله وعبر خجخج إلى غربي واسط للمسير واستعد توزون أيضاً للمسير إلى الجامدة. فوافي أبو عمرو المسيحي وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هارباً من ناصر الدولة إلى أخيه أبي علي المسيحي وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطه إليه يقول فيه : قد اتصل طمعك في وانبساطك علي وأنا محتمل وأنت مغتر وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان ووالله لئن لم تخلّصها وتُقصر عن فعلك المذموم لأقطعن يديك ورجليك. فزعم أبو عمرو المسيحي أنه قرأه وانحدر وذكر أنه قال له قبل ذلك بأيام يا مسيحي أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميراً وعلى رأسك تحثو التراب إن بلغ ما تؤمله له لم يرضك كاتباً لنفسه وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهه فاستكتبهُ وأنفَ منك فصادرك.
فتلافى سيف الدولة أبا عمرو المسيحي وواراه وراسل توزون وسكَّنه. وكان سيف الدولة كثيراً يُزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويُضرب بينهم وبين أخيه فكانوا يصدقونه في أخيه ويأتون عليه في البعد من العراق وكانوا يتسحبون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم وينصون على أن يوفيهم يوم الستين من أيامهم استحقاقهم ويستصغرونه وأخاه فلما وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له : نحتاج أن تحمل مال قائد قائد ورجاله وتوفّينا ذلك بالقبَّان وزنةً واحدة مالاً مالاً. فأجاب إلى ذلك قطعاً للحُجَّة وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار فصبر على ذلك كله وأذن فيه . وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفي ليلاً وضم إليه ابن عمه أبا وليد في جماعة من العرب وأصعد معه بنفسه إشفاقاً عليه ثم وصى العرب حتى بلغوا به المدائن . فلما كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان كبس الأتراك سيف الدولة بالليل وهرب من معسكره ولزم نهراً بقرب معسكره فأداه إلى قرية تعرف ببرقة ولزم البرية حتى وافى بغداد وأضرم الأتراك النار في عسكره وقد كان بقي من المال المحمول إليه مع الكوفي من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه ونُهب جميع سواده فهذا خبر سيف الدولة بواسط.
ص: 254
فأما خبر ناصر الدولة ببغداد فإن أبا عبد الله الكوفي وصل إلى بغداد ولقي ناصر الدولة ووصف له الصورة فبرز ناصر الدولة إلى باب الشماسية وركب إليه المتقي لله في دجلة يسأله التوقف عن الخروج من بغداد فعبر ناصر الدولة غلمانه إلى الجانب الشرقي من بغداد وأكثر جيشه ليوهم الأتراك أنه يعبر ويسير في الجانب الشرقي فلما حصل جيشه في الجانب الشرقي قطع الجسر وسار ناصر الدولة في الجانب الغربي فنُهبت داره وأفلت یانس غلام البريدي وأبو الفتح بن أبي طاهر من الحبس وعادا إلى البصرة واستتر أبو عبدالله الكوفي وخرج من بقي من الديلم ببغداد إلى المصلى وعسكروا هناك وضبط الأتراك الذين كانوا ببغداد دار السلطان ورحل الديلم من المصلى ودبر الأمور بالحضرة أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون . فكانت مدة إمارة ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان ثلاثة عشر شهراً وثلاثة أيام.
لما انصرف سيف الدولة من واسط على تلك الصورة وعاد توزون وخجخج إلى معسكرهما وقع الخلاف بينهما وتنازعا الرياسة ثم استقرّت الحال على أن يكون توزون الأمير وجيء بالآس والريحان إليه على رسم العجم إذا ترأس واحد منهم وعلى أن يكون خججج صاحب جيش وهو الاسفهسلار وأمضى القواد ذلك عليهما بغير رضى جماعة ثم صاهر القُوّاد بينهما وطمع البريدي بواسط فأصعد إليها وتقدّم توزون إلى خجخج أن ينحدر إلى نهر أبان ويُراعي من يرد من أصحاب البريدي ويُطالعه فنفذ. ووافي عيسى بن نصر برسالة البريدي إلى توزون يهنئه بالإمارة ويسأله أن يضمّنه أعمال واسط ويُعرفه عنه أن الرأي تعجله إلى الحضرة لإخراج ابن حمدان عنها فأجابه جواباً جميلاً وامتنع من التضمين وقال : إذا استقرت الأمور تخاطبنا في الضمان فأما وأنا بصورتي هذه وأنت تظن أني مطلوب خائف من بني حمدان فلا وعسكري عسكر بجكم الذي قد جربت وخبرت وطائفة منهم تفي بك وانصرفت عيسى بن نصر واتبعه توزون جاسوساً .
فعاد إليه الجاسوس وأعلمه أنه اجتمع مع خجخج وتخاليا طويلاً وإن خجخج على الاستثمان إلى البريدي فسار إليه توزون للثاني عشر من رمضان ومعه مائة غلام من الأتراك ومائة من الخاصة واشكورج وجماعة من الكبار وكبسه في فراشه فلما أحس به ركب دابة النوبة بقميصه وفي يده لتّ ودفع عن نفسه سُوَيعة ثم أخذوه وجاؤوا به إلى واسط وسمله توزون وهدأت نار خجخج .
ص: 255
وسعى أبو الحسين علي بن محمد بن مقلة في الوزارة وراسل المتقي لله واستصلح قبل ذلك الترجمان وضمن له مالاً فبعث المتقي إليه : إني راغب فيك مائل إليك محب لتقليدك ولكن ليس يجوز أن أبتدي بذكرك فأصلح أمرك مع الترجمان وقل له يسميك مع جماعة فإني أختارك من بينهم. ففعل ذلك ولقي المتقي لله وقلّده وزارته وانصرف إلى منزله.
وورد الخبر بنزول سيف الدولة المروفة .
لما بلغ سيف الدولة خلاف توزون وخجخج بواسط طمع في بغداد فوافى المروفة وظهر المستترون من أصحابه من الجند وخرجوا إليه. وانحدر أبو عمرو المسيحي كاتب توزون إلى واسط مستتراً هارباً إلى صاحبه وانحدر أيضاً الترجمان. وأرجف الناس بانحدار المتقي واضطرب الناس وأصبحوا على خوف شديد فأمر المتقي لله بالنداء ببراءة الذمة ممن أرجف بانحداره وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب فنزل في المضارب وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّية وخرج إليه أصحابه ومن يُريد الإثبات وجرت بينه وبين المتقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي وطالب بأن يُحمل إليه مال ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة. فحمل إليه المتقي أربعمائة ألف درهم في دفعات وانضم إليه كل من بقي بالحضرة من القوّاد وما زال يقول في مجلسه: ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام وإلا فليحضر نهاراً ونحن مستيقظون ونحو هذا من الكلام .
وخلع المتقي لله على الوزير أبي الحسين بن مقلة يوم السبت لاثني عشر بقيت من شهر رمضان.
ولما بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة غلام وأصعد مبادراً من واسط إلى بغداد ولما اتصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع من انضم إليه من قوّاد الحضرة وفيهم أبو علي الحسن بن هارون ومضى على وجهه ودخل محمد بن ينال الترجمان آذنا لتوزون إلى بغداد لست بقين من شهر رمضان ودخل توزون من الغد ونزل دار مونس واغتنم البريدي بعد توزون من واسط فوافاها لثلاث بقين من شهر رمضان فنهب وأحرق واحتوى على الغلات وأخذ جميعها . وقبض توزون على أبي عمرو المسيحي كاتبه وقلد كتابته أبا جعفر الكرخي وسُلّم أبو إسحاق القراريطي إلى الوزير أبي الحسين بن مقلة فصادره .
ص: 256
لما حصل توزون ببغداد خلع المتقي عليه وعقد له لواء وقلده إمرة الأمراء. وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها فأما الكوفي فإنه لحق بسيف الدولة وهرب معه. فكان مدّة نظر الوزير أبي الحسين بن مقلة في الأمور إلى أن ينظر فيها أبو جعفر الكرخي نحو شهر.
وقد كان كيغلغ لما استخلفه توزون بواسط أمره بقتال أبي الحسين البريدي فعجز عنه فأصعد إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة بالرجوع إلى واسط إلى أن تستقرّ الأمور بالحضرة وتجهيز جميع ما يحتاج إليه فأقام مدة شوّال وأكثر ذي القعدة إلى أن توطأت الأمور واستقامت .
وكان وقت هزيمة سيف الدولة من واسط أسر غلاماً له يقال له يمل عزيزاً على سيف الدولة فأطلقه ووهبه لسيف الدولة وأكرمه وأنفذه إليه في هذا الوقت لما حصل ببغداد فحسن موقع ذلك منه ومن ناصر الدولة حتى قال بالموصل: توزون صنيعتي وقد قلدتُه الحضرة واستخلفته بها فسكنت نفس توزون إلى ذلك .
وكان مغيظاً على البريدي لقبح ما عامله به فانحدر توزون إلى واسط وخلف الترجمان ببغداد وتقدَّم إلى أبي جعفر الكرخي أن يلحق به وضمن ضياعه أبا الحسين بن مقلة برغبة منه إليه بمائة وثلاثين ألف دينار في السنة. ووافى في هذا الوقت أبو جعفر بن شيرزاد إلى توزون هارباً من البريدي فتلقاه توزون في دجلة وسُرَّ به وقال له : يا أبا جعفر كملت أمارتي بك وتمت النعمة عندي لأجلك أنتَ أبي وهذا خاتمي فنزعه من يده وأعطاه إليه فدبّرني وصرّفني على رأيك . فقبل أبو جعفر يده وسأله أن يُمهله فلم يجبه وكان أبو الحسن الأسمر واقفاً وجماعة فقال الأسمر : بالله يا سيدي أجب الأمير وتصدق بصدقة وانظر في أمره ! ففعل ونظر في أمره وأنفذ طازاد بن عيسى آخر ذلك اليوم إلى الحضرة لخلافته. فكان مدَّة كتابة أبي جعفر الكرخي ونظره نيفاً وعشرين يوماً .
كان يوسف بن وجيه صاحب عمان وافى (في) ذي الحجة في مراكب وشذاءات يُريد البصرة يحارب بني البريدي وكان معه من يحارب بقوارير النار فأحرق شذاءاتهم وز باز بهم فملك الأبلة وضغطهم فهرب في تلك الوهلة أبو جعفر بن شيرزاد ومعه طازاذ وغيره. فأما سبب هزيمة يوسف بن وجيه بعد تمكنه فسنذكره .
ص: 257
كان قد استظهر استظهاراً شديداً وقارب أن يملك البصرة وكان مع البريدي ملاح يعرف بالزيادي فلما ضغط يوسف بن وجيه البريديين وأشرفوا على الهلاك قال هذا الملاح : إن أنا هزمت العدوّ وأحرقت مراكبه ما تصنع بي؟ فوعده الإحسان إليه إن فعل ذلك ولم يعرّفه الملاح ما يريد أن يعمل وكتم أمره ومضى فأخذ بالنهار زورقين وليس يعلم أحد لماذا يريدهما ولم يأخذ معه أحداً من أسباب البريدي ومضى فملأ الزورقين سعفاً (ومثل هذا لا ينكر بالبصرة) وحدرهما في أول الليل (ومثل ذلك بالبصرة كثير لا يستراب به) وكان رسم مراكب ابن وجيه أن تُشدَّ بعضها إلى بعض بالليل في عرض دجلة فيصير كالجسر فلما كان في الليل ونام الناس وكلّ من في المراكب أشعل ذلك الملاح السعف وأرسل الزورقين والنار فيهما فوقعا على تلك المراكب والشذاءات فاشتعلت واحترقت قلوسها وتقطعت واحترق من فيها ونهب الناس منها مالاً عظيماً. وانقلع يوسف بن وجيه ومضى هارباً على وجهه وانكشف وجه البريدي ووفى للملاح بما وعد له .
وفيها استوحش المتقي من توزون .
كان الترجمان قد نفر من توزون لشيء بلغه عنه وكان أبو الحسين بن مقلة خائفاً من توزون لأنه خسر في مال ضمانه وأشفق أن يطالبه به ويهلكه؟ وزاد في نفوره تقلد أبي جعفر بن شيرزاد كتبة توزون وما شك أحدٌ أن أبا جعفر بن شيرزاد وافي عن موافقة البريدي فطارت نفس ابن مقلة خوفاً من ابن شيرزاد وأن يطالبه بمال ضمانه وإقطاع توزون وخاف الترجمان وغيره وساءت الظنون وغلب القنوط على الكافة من أهل الحضرة فوقع التدبير بين أبي الحسين بن مقلة وبين الترجمان على مكاتبة ناصر الدولة في إنفاذ من يُشيع المتّقي ويخرجه إليه وقيل للمتقي : ثبت للبريدي بالأمس فجرى ما ندمت عليه وأخذ منك خمسمائة ألف دينار وخرجت إلى ناصر الدولة في دفعته الثانية فأظفرك الله وعدت موفوراً وقد ضمنك بخمسمائة ألف دينار أخرى وقال لتوزون: هي باقية في يدك من تركة بجكم وهذا ابن شيرزاد وارد لتسليمك بعد خلعك . فانزعج واعتبر بما مضى على مستأنف أمره وأصعد بعد ذلك أبو جعفر بن شيرزاد إلى الحضرة في ثلاثمائة غلام.
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد بخراسان وانتصاب نوح ابنه مكانه .
ص: 258
ووافى أبو جعفر بن شيرزاد لخمس بقين من المحرم فدخل بغداد فلم يشك المتقي لله والجماعة في أنّه إنما وافى لما أرجف به ولقي المتقي لله في اليوم الذي وصل إلى بغداد فيه وحمل الوزير أبو الحسين والترجمان المتقي لله على القبض عليه فلم يفعل. وبادر أبو جعفر بالانصراف وأمر ونهى وأطلق القراريطي من الاعتقال ونظر فيما كان ينظر فيه الوزير .
ووافى أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فنزل باب حرب في جيش كثير فخرج إليه المتقي لله وحرمه والوزير أبو الحسين بن مقلة والترجمان واستتر ابن شيرزاد وخرج وجوه أهل الحضرة وكتَّابها . فلما بلغ المتقي تكريت ظهر ابن شیرزاد وطالب الناس وخبطهم .
وانحدر سيف الدولة من الموصل ومعه الجيش وبلغ توزون وهو بواسط ما جرى بالحضرة من خروج المتقي والوزير من بغداد فجرد موسى بن سليمان في ألف رجل وبادر به إلى بغداد وامتد موسى إلى باب الشماسية وعسكر هناك وأقام توزون حتى عقد واسطاً على البريدي ثم أصعد ودخل بغداد وقلد الشرطة غلامه صافياً. وانحدر ناصر الدولة ومعه الجيش ووصل إلى تكريت فتلقاه الخليفة وسار توزون إلى عكبرا وعبر من الجانب الشرقي إلى قصر الجص بسر من رأى وصاعد المتقي لله إلى الموصل ومعه أبو الحسين الوزير وأبو إسحاق القراريطي وأبو زكريا السوسي.
وسار سيف الدولة للقاء توزون فاشتبكت الحرب بينهما أسفل من تكريت بفرسخين وناصر الدولة بتكريت فدامت الحرب بين سيف الدولة وتوزون يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فلما كان يوم الخميس انهزم سيف الدولة. وأصعد معه ناصر الدولة ونهب الأعراب بعض سوادهما وملك توزون وشغب أصحاب توزون فانحدر إلى .بغداد وتأهب سيف الدولة للقاء توزون ثانية فانحدر إلى تكريت وخرج توزون إلى باب الشماسية ثم سار إلى ناحية أخرى وواقعه هناك فانهزم سيف الدولة وتبعه توزون. فلما وصل سيف الدولة إلى الموصل سار منها وسار ناصر الدولة والمتقي والوزير وسائر من معهم إلى نصيبين ودخل توزون الموصل ومعه ابن شيرزاد وأبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي واستخرج ابن شيرزاد من الموصل نحو مائة ألف دينار.
ورحل المتّقي وحُرمه ومن معه من نصيبين إلى الرقة ولحق بهم سيف الدولة وقد كان توزون عند خروجه من بغداد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي وعقد الأملاك بالشمَّاسية وأنفذ المتقي لله أبا زكرياء السوسي إلى توزون في رسالة يقول فيها : إني استوحشت منك
ص: 259
لأجل البريديين لقبح ما يفعلونه دفعة بعد دفعة وأبلغتُ أنكما اجتمعتُما وصرتما يداً واحدة فخرجت من الحضرة والآن فقد مضى ما مضى فإن آثرت رضائي فصالح ناصر الدولة وارجع إلى الحضرة فإني إذا رأيتك مطيعاً لي عدت واستقامت لك الأمور بي وبرضائي وكان الله عونك . قال أبو زكرياء : فلما وردت حضرة توزون اتّهمني وهم بقتلي فخلصني ابن شیرزاد وقال : أيها الأمير أنا والله سألت أبا زكرياء الخروج مع الخليفة لميله إلينا وليكون خليفتنا بحضرته فإن كان متهماً فأنا متهم . ثم أديتُ الرسالة فتقبلها ابن شيرزاد وأشار على توزون بالإجابة وسفرتُ في الصلح إلى أن تم وصح لأبي جعفر بن شيرزاد قبل الصلح وبعده زيادة على مائتي ألف دينار. وعقد البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وانصرف توزون إلى بغداد.
وتواترت الأخبار بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه واسطاً وكان على وعد من البريديين بعسكر الماء فأخلفوه وانحدر إليه توزون محارباً له والتقيا في الموضع المعروف بقباب حميد وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوماً على اجتهاد شديد بين الفريقين إلا أن توزون كان يتأخر كل يوم ويتقدّم الديلم على سبيل الزحف وعلى عادتهم في مثل ذلك وكثر القتلى من الجانبين إلى أن عبر توزون نهر ديالي يحصل في الجانب الذي يلي بغداد وقطع جسوراً كان عقدها عليه فلما صار بينهما النهر ثبت الأتراك وكان مع توزون زبازب وخيل في الماء فيها غلمان رماة فكانوا يستولون في كل الماء فيها غلمان رماة فكانوا يستولون في كل يوم على قطعة من خزائن أحمد بن بويه وزواريق عسكره ثم يحولون بين العسكر وبين الماء فيعطشون هم ودوابهم فرأى معزّ الدولة أن يُصعد على ديالي إلى نحو جسر النهروان ليبعد عن دجلة ويقرب من الماء ويحتال للميرة فقد كانت ضاقت عليه وأحسّ توزون بذلك .
وعبر توزون بخمسمائة من الأتراك مع تكين الشيرزادي وألف فارس من العرب فيهم إبراهيم المطوّق وقطينه وأمثالهم من حيث لم يشعر بهم معز الدولة فلما سار وسار سواده في أثره خرج عليهم القوم فحالوا بينه وبين السواد ووقعوا في العسكر على غير تعبية. وتعجل توزون فعبر بجماعة من أصحابه سباحة ولم يزل يقتل ويأسر حتى ملّ . وأفلت معزّ الدولة مع الصيمري ونفر يسير معه بأسوأ حال وحصل بالسوس واجتمع إليه نفر من الفلّ بعد أيام وعاد توزون إلى بغداد.
وفي صفر من هذه السنة ظهر لصّ يقال له ابن حمدي وكان أعيى السلطان فخلع عليه ابن شيرزاد وأثبتهُ برسم الجند ووافقه على أن يصحح في كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه وأصحابه وأخذ خطه بها فكان يستوفيها منه ويأخذ البراءات وروزات الجهبذ بما يؤدّيه أولاً أولاً.
ص: 260
وفي هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف .
كان أبو عبد الله البريدي لما حاصره سيف الدولة أيام مقامه بواسط أحد عشر شهراً ثم توزون بعده ضاقت به الأمور فاضطربت رجاله وعملوا على الاستئمان إلى أبي يوسف أخيه ليساره. واستقرض من أبي يوسف قرضاً بعد قرض فكان يعطيه النزر اليسير وذكر تخلُّفه وتضييعه وأنه بالإقبال تمّ له ما تمّ لا لتدبير ثم تعدى ذلك فصار يذكر جنونه و عجلته. وصح عند أبي عبد الله أن أبا يوسف يريد القبض عليه واعتقاله لأن يجري عليه جراية على نقم فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه.
فحكى إسرائيل الجهبذ وكان خصيصاً بأبي عبد الله أنه استدعاه وشكا إليه حاله في الإضاقة ثم قال : قم إلى أبي يوسف أخي (وأوماً إلى درج بين يديه وفتحه فإذا فيه حبّ لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق يبهر الناظرين) وقال : احمل هذا إليه وسله أن يقرض عليه عشرة آلاف دينار. وكان ما في الدرج قد وهبه بحكم لابنته سارة التي تزوج بها وكان بحكم أخذه من دار الخليفة فأخذه أبو عبد الله منها قال إسرائيل : فمضيت إلى أبي يوسف وحدثته بجميع ما خاطبني به أخوه وأخرجت الدرج إليه فقال لي: يا أبا الطيب من سوء تحصيله يُرى ولو مدت دجلة مالاً لبدده هذا رجل حصل له من واسط في كرانه التي تولاها ثمانية آلاف ألف دينار أما وجب أن يستظهر بألف ألف دينار فقلتُ يا سيدي ومن أولى به منك على تصرّف كل حال؟ فتفضل بما طلب . فقال : إني قد أعطيته إلى هذا الوقت ومنذ انصرف من واسط خمسين ألف دينار وما تمتلي عينه ابعث إلى الجوهريين وأحضرهم حتى يقوموا هذا الجوهر وأعطيه قيمته . فوجه إليهم وحضروا وأخرجه إليهم فقالوا : لا قيمة له تُحدّ وإذا حضر ملك يرغب بحكم صاحبه ولو انتهى في السوم إلى أقصى غاية . فاشتط وقال : يا جهَّال من قال لكم إني مروان الأموي (فإنه كان راغباً في الجوهر وحضر للابتياع) أو خمارويه بن أحمد وابن الجصاص؟ قوموه بما إذا طالبتكم به بكرة صححتموه العصر. فقوموه خمسة آلاف دينار فقال : اعطوني خطوطكم بها فتثبتوا ثم ردوها إلى خمسين ألف درهم وضمنوها فقال هذا أعطيك . فقلتُ : يا سيدي اجعلها خمسة آلاف دينار فقال : قم ودع في القيمة فضلاً لطلبه فإنه سيعاود ويطلب . فانصرفت بخمسين ألف درهم إلى أبي عبد الله وحدثته الحديث فقال : لا إله إلا الله قل له : يا أبا يوسف جنوني الذي ذكرته وقلة تحصيلي أقعدك هذا المقعد وصيَّرك كقارون . ثم عدّد ما عمله معه ودمعت عينه وتبين الشر في وجهه. فلما كان بعد أيام نحو العشرة أقام غلمانه وفيهم يانس وإقبال وربيب وملاح يانس في مخترق قد سُقف بین باب داره (وكانت دار فضلان الساجي) بالأبلة وبين الشط فتكمَّن له هؤلاء ووثبوا عليه بالسكاكين وما زال يصيح يا أخي قتلوني قتلوني وأبو عبد الله يقول «إلى لعنة الله»
ص: 261
فخرج أبو الحسين أخوه وكان ينزل في جواره إلى روشن دجلة وقال : يا أخي قتلته! فقال : يا فاعِل خربت اسكت وإلا ألحقتك به. فجمع أبو الحسين نفسه وشعب الجند وظنوه حياً فنبشهُ وأظهره لهم فسكنوا ثم أعاده إلى قبره .
وانتقل إلى الدار بمسماران فساعة ملكها طلب الجوهر فأحضره قال إسرائيل : دخلتُ إليه فقال لما رآني يا غلام هات الدرج فأحضره إياه فقال لي: يا أبا الطيب أخذنا المال والجوهر ومضى الفاعل بن الفاعل إلى لعنة الله . ثم أودع أبو عبد الله هذا الجوهر ابنَهُ أبا القاسم سراً وأمره أن يستره فلما توفي أبو عبد الله وملك الأمر بعده أخوه أبو الحسين طلب هذا الجوهر طلباً شديداً فلم يجد له أثراً وقيل : «أودَعهُ مَن لا يُعرَف» ولما خرج ابنه إلى هَجر أخذه معه فسأله الهجريون أن يُريهم إيَّاهُ ففعل ذلك ووهب لهم منه حبةً واحدة فلما حضر مدينة السلام في أيام أبي الحسين معزّ الدولة طلبه منه ليراه فأحضره عنده ووسط أبا مخلد عبد الله بن يحيى ليبتاعه منه فامتنع من بيعه ثم رأى الوجه في بيعه فاستجاب فقُوّم بما قوّمه تجار البصرة فقال أبو مخلد حط منه ثمن الحبة التي أخذها الهجريون فأعطي ثلاثة آلاف دينار عن قيمة خمسة وأربعين ألف درهم وأحالَهُ بذلك على كار التمر واستوفاه .
وكان أبو عبد الله البريدي يتّهم أبا الحسن بن أسد بالتضريب بينه وبين أخيه وقيل له : إن عنده ستة عشر ألف ألف درهم فلما ملك الأمير أخرج إليه دفتر فيه ثبت ودائع أبي يوسف بخطه فلم يجد فيه وديعة عند أحد إلا ما عند ابن أسد فطالبه بها وبسط منه وأقرّه على ما كان يتولاه فمضى إلى منزله وحمل إليه ألفي ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ولم يظهر له وعرّفه أنه لا وجه للباقي وأن أخاه حصل عليه ذلك من عجز بعد عجز لحقه في مدة سنة معه وأخذ خطه بها أنها وديعة له عنده. وكان في أسفل التثبت الذي وُجد له عمل لكلّ سنة عملاً بالضمان وما صح منه بالأمانة وما تحصل من العجز الذي أخذ خطهُ به وجمع ذلك وكان بإزاء العجز وهو ثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. فقامت قيامة أبي عبد الله وقال : دم أخي في رقبة ابن أسد فإني قتلته طمعاً في المال . فمضى ولم يصل إليه ثم آمنه فظهر وقام بحجته شفاها وذكر أن له بقايا هذه السنة في النواحي زيادة على أربعة آلاف ألف وله أصحاب منهم أبو العلاء صاعد بن ثابت وأبوه وأخوه وأبو علي الأنباري وقد هرب فتوسط أمره القاضي أبو الحسين بن نصرويه .
وصحّ لأبي عبد الله من جميع الوجوه على أحوال قبيحة مع الألفي الألف والخمسمائة الألف الدرهم الموجودة عشرة آلاف ألف درهم وتاه الباقي وذهبت نفس أبي يوسف.
وفيها قبض أبو العباس اشكورج الديلمي وكان توزون قلده الشرطة ببغداد على
ص: 262
ابن حمدي اللص وضرب وسطه فخفَّ مكروه اللصوص عن الناس وانقطع شرهم بعد أن تحارس الناس بالليل بالبوقات وامتنع عنهم النوم خوفاً من كبساته .
وفيها ورد الخبر بدخول الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه واسط وانحدر من كان بها من أصحاب البريدي إلى البصرة.
وفيها صار محمد بن ينال الترجمان إلى سيف الدولة وهو بالرقة فعاتبه سيف الدولة على أشياء بلغته عنه وكان أنّهم بأنه عقد الرئاسة لنفسه على العجم وواطأ المتقي لله على الإيقاع بسيف الدولة فجحد محمد بن ينال ذلك فلما خرج من حضرته بعد العتاب وثب به غلمان سيف الدولة بسيوفهم فقتلوه .
وفيها ورد الخبر بموت سليمان بن الحسن أبي طاهر القرمطي وأنه جذر ومات وصار الأمر لإخوته بعده .
كان ابن سنبر يعادي المعروف بأبي حفص الشريك فاحتال في حياة أبي طاهر بأن أحضر رجلاً من أهل أصبهان فكشف له أسراراً كان أبو سعيد الجنابي كشفها له في حياته ولم يكشفها لغيره وعرَّفه مواضع دفائن له لم يعلم بها غيره ولم يعلم أبو طاهر أن أباه أبا سعيد كشف ذلك لابن سنبر فقال ابن سنبر لهذا الرجل الأصبهاني :امض إلى أبي طاهر وعرّفه أنك الرجل الذي كان أبوه وهو يدعوان إليه فإذا هو سألك عن العلامات والدليل أظهرت له هذه الأسرار وشرط ابن سنبر على هذا الأصبهاني أن يكون إذا تمكن من الأمر قتل أبا حفص الشريك، فضمن له الأصبهاني ذلك فمضى إلى أبي طاهر وأعطاه العلامات وحدثه بالإسرار فلم يشك في صحة تلك العلامات فوتب أبو طاهر وقام بين يديه وسلَّم الأمر إليه وقال لأصحابه : هذا هو الذي كنت أدعوكم إليه والأمر له فتمكن الرجل من الأمر وثبت ووفى بما كان ضمنه لابن سنبر وقتل أبا حفص الشريك . ثم كان يأمر أبا طاهر وإخوته بقتل من يشاء ويقول« قد مُرض» يعني أنه قد شك في الدين فيقتل وأخذ يقتل واحداً واحداً من رؤساء القوم وأهل البصائر منهم والنجدة وأمرُهُ ممتثل مُطاع لا يُخالف إلى أن أتي على عدد كثير منهم. وكان إذا أمر الرجل أن يقتل أخاه أو أباه أو ابنه لم يتوقف وبادر إلى امتثال أمره فخافه أبو طاهر وبلغه أنه عمل على قتله فقال لإخوته : قد وقع عليَّ غلط وشبهة في أمر هذا الرجل وليس هو صاحب الأمر الذي يعرف ضمائر القلوب ولا تخفى عليه الأسرار ويمكنه أن يُبرئ المريض ويعمل كل ما يريد وجاؤوا إلى الرجل فعرَّفوه أن والدتهم عليلة وسألوه أن
ص: 263
يدخل إليها ونوَّموا والدتهُم على فراش وغطوها بإزار فدخل إليها فلما رآها قال لهم : هذه عِلة لا يبرأ صاحبها فطهروها (معناه اقتلوها ).فلما قال لهم ذلك قالوا لأمهم : اجلسي. فجلست وقالوا إنها لفي عافية وأنت كذاب. فقتلوه .
وكان لهم سبعة من الوزراء أكبرهم ابن سنبر وكان أبو طاهر له أخوان أبو القاسم سعيد بن الحسن وأبو العباس الفضل بن الحسن ولهم أخ آخر لا يدخل معهم في أمورهم يقال له أبو يعقوب إسحاق مُقبل على الشرب والقصف وأمر الثلاثة واحد وكلمتهم واحدة لا يخلفون فكانوا إذا أرادوا عقد أمراً وورد عليهم أمرٌ ركبوا وأصحروا واتفقوا على ما يعملون ولا يطلعون أحداً على أمرهم فإذا انصرفوا أمضوا ما اتفقوا عليه .
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله البريدي بحمى حادَّة مكث فيها سبعة أيام فكان بین قتله أخاه أبا يوسف وبين موته ثمانية أشهر وثلاثة أيام فتبارك الله رب العالمين . فتحدّث أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي بعد زوال أمره ومصيره إلى بغداد أن أباه لما مات بالبصرة انتصب أخوه أبو الحسين مكانه وكان لأبي عبد الله عسكر مقيم بنهر الأمير بإزاء الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وعسكر آخر بمطارا وكان ديلم أبي عبد الله مضمومين إلى يانس غلامه وكانوا يميلون إليه وكان بين يانس وبين أبي الحسين مباينة في الباطن وعداوة ولما تمكن أبو الحسين من الرئاسة أخذ في الاستطالة على الديلم والأتراك ويستخف بهم فنفرت قلوبهم منه وأحس يانس بذلك فمضى إلى أبي القاسم مولاه وابن مولاه أبي عبد الله فقال له :
إن كان عندك مالٌ أصلحت لك قلوب الرجال وعقدت لك الرئاسة. فاعترف له أبو القاسم أن عنده ثلاثمائة ألف دينار فأصلح له قلوب الديلم والرجال وواطأهم على الإيقاع بأبي الحسين وعقد الرئاسة لأبي القاسم وضمن لهم عنه الإحسان. فسار الجيش الذي كان بنهر الأمير إلى مسماران وكان أبو الحسين بها فكبسوه وهو نائم فخرج من تحت الكِلَّة ومضى ماشياً متنكراً إلى الجعفرية وكاتب الهجري يستجير بهم وقصدهم فقبلوه أحسن قبول وسألهم أن يعاونوه على الرجوع إلى البصرة وردّه إلى أمره فضمنوا له ذلك وأقام عندهم نحو الشهر وتقررت الرئاسة بالبصرة لأبي القاسم بن أبي عبد الله ثم سار أبو الحسين من هجر ومعه من إخوة أبي طاهر اثنان وصاروا إلى سور البصرة فوجدوا أبا القاسم قد حفظه بالرجال واحترس منه فلم تكن لهم حيلة في الوصول إلى البلد وطال مقامهم فضجر الهجريون وكاتبوا أبا القاسم وسفروا بينه وبين عمه في الصلح وسألوه أن يؤمنه ويأذن له في الدخول إلى البصرة واحتاط أبو القاسم في أمره إلى أن تأهب واختار الشخوص إلى بغداد فأذن له وأطلقه فخرج وصار إلى مدينة السلام.
ثم طمع يانس في الرئاسة وإزالة أبي القاسم عنها فواطأ روستاباش فلما انعقد
ص: 264
الأمر بينهما تحرك روستاباش والديلم واجتمعوا في دار روستاباش وآثر روستاباش الإيقاع بيانس والتفرد بالرئاسة فلما خرج يانس من عنده أتبعه بمن يُوقع به فتحرك يانس ورماه الديلمي بزوبين ووقع في ظهره وهرب وصار إلى خراب بقرب دار أبي القاسم ولم يعرف له أحدٌ خبراً وكان ليلاً وسار روستاباش إلى دار لشكرستان وكان نقيب الديلم والمدبّر ليانس. وكان قد جزع أبو القاسم لما عرف الخبر وهم بالجلوس في طياره والخروج عن داره فلما عرف لشکرستان أن روستاباش قد أوقع بيانس وعزم على التفرد بالرئاسة لم يطعه وصاح الديلم وزبرهم فتفرقوا ومضى بعضهم في الوقت معتذراً وهرب روستاباش بالليل عند تفرق الناس عنه واستتر وأصبح أبو القاسم وقد استقام أمره. وعرف خبر يانس فحمله إلى داره مكرماً ووجد روستاباش فنفاه إلى حيدة وعولج يانس إلى أن برأ وأبو القاسم مُتّهم له فلما كان بعد أيام قبض عليه وعلى لشکرستان وصادر يانساً على مائة ألف دينار ثم نفاه إلى عُمان فلما حصل على الحديدي لينزل به خرج إليه بعض غلمان أبي القاسم فقتله وقتل لشكرستان وتمكن أبو القاسم من الرئاسة.
وفيها عرض لتوزون يوماً وهو جالس للسلام والناس وقوف بين يديه صرع فوتب ابن شيرزاد وموسى بن سليمان ومدا في وجهه رداءً كان على رأس موسى وحجزوا بينه وبين الناس لئلا يروه على تلك الصورة وصُرف الناس وقيل لهم إن الأمير قد ثار المرار به من خُمار لحقهُ .
وفي هذه السنة خرج عسكر الأمة المعروفة بالروس إلى آذربيجان وقصدوا برذعة وملكوها وسبوا أهلها .
هؤلاء أمة عظيمة لهم خلق عظام ولهم بأس شديد لا يعرفون الهزيمة ولا يولّي الرجل منهم حتى يقتل أو يُقتل. ومن عادة الواحد منهم أن يحمل آلة السلاح ويُعلق على نفسه أكثر آلات الصناع من الفأس والمنشار والمطرقة وما أشبهها ويقاتل بالحربة والترس ويتقلد السيف ويُعلق عليه عموداً وآلة كالدشني ويقاتلون رجالة لا سيما هؤلاء الواردين .
وذلك أنهم ركبوا البحر الذي يلي بلادهم وقطعوه إلى نهر عظيم يعرف بالكُرّ يحمل من جبال آذربيجان وأرمينية ويصب إلى البحر وهو نهر برذعة الذي يشبهونه بدجلة. فلما وصلوا إلى الكُر توجه إليهم صاحب المرزبان وخليفته على برذعة وكان معه ثلاثمائة رجل من الديلم ونحو من عددهم صعاليق وأكراد واستنفر العامة فخرج معه من المطوعة نحو خمسة آلاف رجل لجهاد هؤلاء وكانوا مغترين لا يعرفون شدتهم وحسبوا أنهم يجرون مجرى الأرمن والروم . فلما صافوهم الحرب لم تكن إلا ساعة حتى حملت الروسية حملة منكرة فهزموا العسكر وولت المطوّعة بأسرهم وسائر العسكر إلا الديلم فإنهم ثبتوا ساعة
ص: 265
فقتلوا كلهم إلا من كان بينهم فارساً واتبعوا الفل إلى البلد فهرب كل من كان له مركوب بجملة من الجند والرعية وتركوا البلد فنزلته الروسية وملكوه .
فحدثني أبو العباس بن نُدار وجماعة من المحصلين أن القوم بادروا إلى البلد ونادوا فيه وسكنوا الناس وقالوا لهم : لا منازعة بيننا وبينكم في الدين وإنما نطلب المُلك وعلينا أن نحسن السيرة وعليكم حسن الطاعة ووافتهم العساكر من كل ناحية فكانوا يخرجون إليهم ويهزمونهم وكان أهل برذعة يخرجون معهم فإذا حملوا عليهم المسلمون كبروا ورجموهم بالحجارة فكانت الروسية تتقدّم إليهم بأن يضبطوا أنفسهم ولا يدخلوا بين السلطان وبينهم فيقبل أهل السلامة منهم خاصة فأما العامة ومُعظم الرعاع فكانوا لا يضبطون أنفسهم ويظهرون ما في نفوسهم ويتعرضون لهم إذا حمل عليهم أصحاب السلطان فلما طال ذلك عليهم نادى مناديهم بألا يُقيم في البلد أحد من أهله وأجلوهم ثلاثة أيام من يوم ندائهم فخرج كل من كان له ظهر يحمله ويحمل حُرمَهُ وولده وهم نفر يسير وجاء اليوم الرابع والأكثر مقيمون فوضعت الروسية فيهم سيوفهم فقتلوا خلقاً عظيماً لا يحصى عددهم وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف رجل وغلام مع حرمهم ونسائهم وبناتهم وجعلوا النساء والصبيان في حصن داخل المدينة وهي شهرستان القوم وكانوا نزلوه وعسكروا به وتحصنوا فيه. ثم جمعوا الرجال إلى المسجد الجامع ووكلوا بأبوابه وقالوا لهم «اشتروا أنفسكم».
كان بالبلد كاتب نصراني له رأي سديد يعرف بابن سمعون وكان يسعى في السفارة بينهم ووافق الروسية أن يُبتاع كل رجل منهم بعشرين درهماً فتابعه على ذلك عقلاء المسلمين وخالفه الباقون وقالوا : إنما يُريد ابن سمعون أن يلحق المسلمين بالنصارى في أداء الجزية. فأمسك ابن سمعون وتوقف الروسية عن قتل الرجال طمعاً في هذا القدر اليسير أن يحصل لهم من جهتهم فلما لم يحصل لهم شيء وضعوا فيهم السيوف فقتلوهم عن آخرهم إلا عدداً يسيراً أخرجوا في قناة ضيقة كانت تحمل الماء إلى المسجد الجامع وإلا من اقتنى نفسه بذخيرة كانت له فربما وافق الواحد من المسلمين الروسي على مال يقتني به نفسه فحضر معه إلى منزله أو حانوته فإذا استخرج ذخيرته وكانت زائدة على مال موافقته لا يمكن صاحبها منها وإن كانت أضعافاً مضاعفة عليه وعطف بالمطالبة حتى يجتاحه فإذا علم أنه لم يبق له عين ولا ورق ولا جوهر ولا فرش ولا كسوة أفرج عنه وأعطاه طيناً مختوماً يأمن به من غيره فاجتمع لهم من البلد شيء عظيم يجل قدره ويعظم خطره وكانوا قد حازوا النساء والصبيان ففجروا بهن وبهم واستعبدوهم .
ص: 266
فلما عظمت المصيبة وتسامع المسلمون في البلدان بخبرهم تنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد عسكره واستنفر الناس وأتاه المطوّعة من كل ناحية فسار في ثلاثين ألف رجل فلم يقاوم الروسية مع إجماع هذه العدة ولا أمكنه أن يؤثر فيهم أثراً فكان يناديهم القتال ويراوحه وينقلب عنهم مفلولاً واتصلت الحرب بينهم على هذه الصورة أياماً كثيرة فكانت الدبرة أبداً على المسلمين. فلما أعيى المسلمين أمرهم ورأى المرزبان الصورة التجأ إلى الحيلة والمكيدة واتفق له أن الروسية لما حصلوا بالمراغة تبسطوا في الفاكهة وهناك أنواع كثيرة منها فمرضوا ووقع فيهم الوباء لأن بلادهم شديدة البرد ولا ينبت فيها شجر وإنما يحمل إليهم الشيء اليسير من البلاد الشاسعة عنهم . فلما تمحق عددهم وفكر المرزبان في الحيلة وقع له أن يكمن لهم ليلاً وواطأ عسكره أن يُبادروا الحرب فإذا حمل عليهم القوم انهزم هو وانهزموا معه وأطمعهم بذلك في العسكر والمسلمين فإذا تجاوزوا موضع الكمين عطف المرزبان ورجاله عليهم وصاحوا بالكمين بشعار اتفقوا عليه فإذا حصل الروسية في الوسط تمكنوا منهم. فلما أصبحوا على هذه المكيدة تقدّم المرزبان وأصحابه وبرز الروسية وأميرهم راكب حمار وخرج رجاله واصطفوا للحرب فجروا على عادتهم وانهزم المرزبان والمسلمون واتبعهم الروسية حتى تجاوزوا موضع الكمين واستمر الناس على هزيمتهم.
فحكى المرزبان بعد ذلك أنه لما رأى الناس كذلك وصاح بهم واجتهد بهم أن يراجعوا الحرب فلم يفعلوا لما تمكن في قلوبهم من هيبتهم علم أنه إن استمر الناس على هزيمتهم عاد القوم فلم يخف عليهم موضع الكمين فيكون ذلك هلاكهم قال : فرجعت وحدي مع من تبعني من أخي وخاصتي وغلماني ووضعت في نفسي الشهادة فحينئذٍ استحيا أكثر الديلم فرجعوا وكررنا عليهم ونادينا الكمين فخرجوا من ورائهم فصدقناهم الحرب وقتلنا منهم سبعمائة نفس فيهم أميرهم وحصل الباقون في الحصن الذي كانوا فيه من البلد وقد كانوا نقلوا إليه غلات كثيرة وميراً عظيمة وحصلوا فيه السبي والأموال . فبينما المرزبان في مُنازلتهم وهو لا يقدرُ لهم على حيلة سوى المصابرة إذ ورد عليه الخبر بدخول أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان آذربيجان وانتهائه إلى سلماس واجتماعه مع جعفر بن شكويه الكردي في جماهير الهدايانية واضطر إلى أن خلف على حرب الروسية أحد قواده في خمسمائة من الديلم وألف وخمسمائة فارس من الأكراد وألفين من المطوّعة وسار إلى أوران ولقي أبا عبد الله فاقتتلا قتالاً خفيفاً وسقطت ثلجة عظيمة واضطرب أصحاب أبي عبد الله لأن معظمهم أعراب وساروا عنه فسار بسيرهم إلى بعض المُدن الحصينة فلقيه في طريقه كتاب من ابن عمه ناصر الدولة يُعلمه فيه وفاة توزون بمدينة السلام واستئمان رجاله إليه وأنه قد عمل على الانحدار
ص: 267
معهم إلى بغداد ومحاربة معزّ الدولة لأنه كان دخلها فاستولى عليها بعد إصعاد توزون عنها ويأمره بالتخلية عن أعمال آذربيجان والانكفاء إليه ففعل .
فلم يزل أصحاب المرزبان عن قتال الروسية وحصارهم إلى أن ضجروا واتفق أن زاد الوباء عليهم فكان إذا مات الرجل منهم دفنوا معه سلاحه وثيابه وآلته وزوجته أو غيرها من النساء وغلامه إن كان يحبه على سنة لهم فاستثار المسلمون بعد زوال أمرهم مقابرهم فاستخرجوا منها سيوفاً يتنافس فيها إلى اليوم لمضائها وجودتها. فلما قل عددهم خرجوا ليلاً من الحصن الذي كانوا فيه وحملوا على ظهورهم كل ما أمكنهم من المال والجواهر والثياب الفاخرة وأحرقوا الباقي وساقوا من النساء والصبيان والصبايا ما شاؤوا ومضوا إلى الكُر وكانت السفن التي خرجوا فيها من بلادهم معدّة فيها مع ملاحهم وثلاثمائة رجل من الروسية كانوا يمدونهم بأقساطهم من غنائمهم فجلسوا فيها ومضوا وكفى الله المسلمين أمرهم .
فسمعت ممن شاهد هؤلاء الروسية حكايات عجيبة من شدتهم وقلة مبالاتهم بمن يجتمع عليهم من المسلمين فمن ذلك خبر شاع في الناحية وسمعته من غير واحد أن خمسة نفر من الروسية اجتمعوا في بستان ببرذعة وفيهم غلام أمرد وضيء الوجه من أولاد رؤسائهم ومعهم نسوة من السبي وأن المسلمين لما عرفوا خبرهم أحاطوا بالبستان واجتمع عدد كثير من الديلم وغيرهم على حرب أولئك النفر الخمسة واجتهدوا في أن يحصل لهم أسير واحد فلم يكن إليه سبيل لأنه كان لا يستسلم أحد منهم ولم يمكن قتلهم حتى قتلوا من المسلمين أضعافاً كثيرة لعدتهم وكان ذلك الأمرد آخر من بقي فلما علم أنه يؤخذ أسيراً صعد شجرة كانت بالقرب منه ولم يزل يجرح نفسه بخنجر معه في مقاتله إلى أن سقط ميتاً.
وفي هذه السنة ظهر للمتقي من بني حمدان ضجر به وبمقامه عندهم وشهوة المفارقته فراسل توزون في الصلح فتلقى توزون ذلك بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه ووردت رسالة المتقي لله إلى توزون مع الحسن بن هارون وأبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي وتوثقا من توزون واستحلفاه أيماناً مؤكدة للمتقي وللوزير أبي الحسين بن مقلة وأحضر توزون القضاة والعدول والعباسيين والطالبيين ومشايخ الكتاب حتى حلف بحضرتهم للمتقي الله وكتب بذلك كتاب وأحكم ووقعت فيه الشهادة من جميع من حضر على توزون.
ولما كان يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم وصل الإخشيد إلى حضرة المتقي لله وهو بالرقة ولقيه بها وأعظمه المتقي نهاية الإعظام ووقف الإخشيد بين
ص: 268
يديه وقوف الغلمان وفي وسطه سلاح ثم ركب المتقي فمشى بين يديه الإخشيد فأمره أن يركب فلم يفعل ولم يزل على تلك الحال مختلطاً بالغلمان إلى أن نزل من ركوبه وحمل إليه هدايا ومالاً وحمل إلى أبي الحسين بن مقلة عشرين ألف دينار ولم يدع كاتباً ولا حاجباً إلا برَّهُ. واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى مصر والشام فيكون بين يديه فلم يجبه إلى ذلك وأشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل فلما امتنع عليه من الأمرين عدل إلى الوزير أبي الحسين وأشار عليه بأن يسير معه إلى مصر وضمن له إنفاذ أمره وترك الاعتراض عليه في شيء يدبّره فخالفه وكان أبو الحسين بعد ذلك يظهر التندم ويقول: نصحني الإخشيد فلم أقبل وكانت دنانير الإخشيد في صندوق أبي الحسين إلى أن انتهبت لما قبض على المتقي لله .
ولما توثق المتقي لله من توزون انحدر من الرقة يُريد بغداد في الفرات ومعه غلمان من غلامان الإخشيد ومحمد بن فيروز ونقط فلما وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ القاضي الخِرَقي وابن شيرزاد حتى جدّدا على توزون الأيمان والعهود والمواثيق وأكرم المتقي لله توزون ولقبه المظفّر وعاد القاضي إلى هيت وعرّف المتقي أنه قد أحكم الأمر مع توزون وخرج توزون لليلة بقيت من صفر إلى البثق الذي كان بالسندية ونزل الوزير أبو الحسين على شاطئ الفرات وبين توزون والمتقي نحو فرسخ فلما هم بالانحدار استقبله توزون وترجل له وقبل الأرض بين يديه ووكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزل بهم في مضرب نفسه مع حُرم المتقي لله وارتجت الدنيا فسمله وحكى ثابت أن توزون سمله بحضرة قهرمانة المستكفي بالله وانحدر توزون من الغد وفي قبضه الجماعة فكانت مدة وزارة أبي الحسين بن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثني عشر يوماً .
ص: 269
قال ثابت : حدثني أبو العبّاس التميمي الرازي وكيله قال : وكان خصيصاً بتوزون مستولياً عليه قال : كنت أنا السبب فيما جرى على المتقي وذاك أن إبراهيم بن الربنذ الديلمي لقيني يوماً وسألني أن أصير إلى دعوته فاستأذنت توزون في ذلك فأذن لي فيه ومضيت إليه وهو ينزل في دار القراريطي على دجلة فوجدت داره مفروضة منضدة فسألتُهُ عن السبب في ذلك وقلت أحسبك قد تزوّجت . فقال : أنا أحدثك عن أمري أعلم أني خطبت إلى قوم وتجملتُ عندهم بأن ادعيت أن لي محلاً من الأمير واختصاصاً به فقالت لي المرأة : إذا كنت بهذه المنزلة فهل لك أن تسفر في شيء يجمع صلاح الأمير وصلاحك وصلاح المسلمين؟ فقلت لها : نعم. قالت: هذا الخليفة (يعني المتقي الله) قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم وكاشفتموه وليس يجوز أن تصفو نيته لكم آخر الدهر وقد اجتهد في بواركم فلم يتم له فمرّة ببني حمدان ومرة ببني بويه وههنا رجل من ولد الخلافة من فهمه وعقله ودينه ورجلته كيت وكيت تنصبونه في الخلافة وتزيلون المتقي لله وهو يثير لكم أموالاً جليلة لا يعرفها غيره ولا يقدر عليها سواه وتكونون أنتم قد استرحتم من عدوّ تريدون أن تحرسوه وتحترسون منه وتخافونه ويخافكم وتقيمون رجلاً من قبلكم يرى أنكم قد أحسنتم إليه وأن روحكم مقرونة بروحه وأطالت الكلام في هذا المعنى فهؤستَني ودار كلامها في نفسي وعلمت أن محلي لا يبلغ الكلام في مثله والسفارة فيه وكرهت أن أكذب نفسي عندها لما ادعيته من المحل والمنزلة فأطمعتها في ذلك وعلمت أن هذا الأمر لا يتم إلا بك ولا يقدر عليه غيرك وقد أطلعتك عليه فأي شيء عزمك أن تعمل؟ فقلت : أريد أن أسمع كلام المرأة. فجاءني بامرأة تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهمة فخاطبتني بنحو ما خاطبني به الرجل فقلت لها : لا بد من أن ألقى الرجل وأسمع كلامه . فقالت : تعود غداً إلى ههنا حتى أجمع بينك وبينه . فلما كان من غد عدتُ فوجدت الرجل قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة وحصل في دار ابن الرينبذ فلقيته وعرَّفني أنه عبد الله بن المستكفي بالله . وخاطبني رجل حصيف فهم ووجدته مع هذا يتشيّع ورأيته عارفاً بأمر الدنيا وضمن لي ستمائة ألف دينار يستخرجها ويُمشي بها الأمر ومائتي ألف دينار للأمير توزون وقال : أنا رجل فقير وإنما أعرف وجوه أموال لا يعرفها غيري وأعرف من ذخائر الخلافة في يد قوم لا يعرفهم غيري وكرَّ أن وجوهها صحيحة لا شك فيها ولا
ص: 270
يقدر غيره عليها فلما سمعت ذلك وعرفت صحته صرت إلى توزون. وفكرت في أن الأمر لا يتم بي وحدي فلقيت في طريقي وأنا أصعد إلى توزون أبا عمران موسى بن سليمان في الحديدي الذي على باب توزون فأخذت بيده واعتزلنا واستحلفته على كتمان ما أطلعه عليه فحلف ثم حدثته به كله وسألته معاونتي على تمامه فقال : هذا أمر عظيم لا أدخل فيه . فلما أيسني من نفسه سألته أن يُمسك ولا يعارضني فقال : افعل . فدخلت إلى توزون وأدخلته إلى حجرة وخلوت به واستخلفته بالمصحف وبأيمان مؤكدة أن يكتم ما أحدثه به فحلف فلما حلف حدثته الحديث من أوله إلى آخره فوقع بقلبه وقال : صواب ولكني أريد أن أرى الرجل وأسمع كلامه فقلت: علي ذلك ولكن إن أردت تمام هذا الأمر فلا تطلع عليه أبا جعفر بن شيرزاد فإنه يفثأ عزمك ويصرفك عنه فقال : افعل. وبلغ أبا جعفر خلوتي بالأمير فاتهمني أني سعيتُ عليه ومضيت إلى القوم ووعدتهم بحضور الأمير ليرى الرجل ويكون الاجتماع في منزل موسى بن سليمان.
قال : وتشددنا في الطوف بالليل في دجلة فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر وافي عبد الله بن المكتفي بالله إلى دار موسى بن سليمان ولقيه توزون هناك وخاطبه وبايع له في تلك الليلة وكتمنا القصة فلما وافى المتقي لله من الرقة ولقيه توزون وسلم عليه قلتُ لتوزون عزمك على ما كنا اتفقنا عليه صحيح؟ فقال: بلى.
قلت : فافعله الساعة فإنه إن دخل داره بعد عليك مرامه قال : فوكل به وجرى ما جرى . وكانت المرأة التي سفرت في هذا الأمر المعروفة بحسن الشيرازية حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي فلما تمت للمستكفي الخلافة غيرت اسمها وجعلته «علم» وصارت قهرمانة المستكفي واستولت على أمره كله .
وقد كان قبل خلافة المستكفي صار الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى واسط وقت مصير توزون إلى الموصل فلما صالح توزون ابن حمدان وعاد إلى الحضرة عمل على الانحدار لدفعه فخرج في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وورد عليه خبر الأمير أبي الحسين بن بويه بأنه نزل بسيب بني كوما ولقيه جيش توزون وما زالت الحرب بينهما تسعة أيام في قباب حميد وهي في كل يوم على توزون يتأخر توزون إلى خلف ويتقدم الأمير أبو الحسين إلى قدام إلى أن بلغ توزون نهر ديالي وعبره إلى جانب بغداد وقطع الجسر الذي عليه وأقام . ووافاه أحمد بن بويه إلى الجانب مقابلاً له وبينهما الماء فلما كان يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة انصرف الأمير أبو الحسين راجعاً إلى الأهواز .
كان مع الأمير أبي الحسين سواد عظيم وكراع كثير وجمال وافرة فكان إذا سار
ص: 271
جعل سوادَهُ بينه وبين دجلة وله خيمة تُضرب على رسم لهم فما دامت الخيمة منصوبة فالقتال واقع ومتى قلعت كان ذلك علامة الهزيمة. فلما كان يوم مسيره إلى ديالي أخذ السواد يسير على طول ديالي واجتهد أن يضبطه ويستوقفه فلم يمكن ذلك. وأراد أن يضرب الخيمة على الرسم فلما تباعد الديلم وصار بين السواد والديلم فرجة دخل أصحاب توزون وأعرابه بين السواد والديلم وأوقعوا بالسواد ولم يكن عنه دافع فدفعت الضرورة إلى أن ينصرف وصارت هزيمة. واضطر الديلم إلى أن يستأمنوا إلى توزون لأنهم رحالة فاستأمن أكثرهم إلى توزون وأخذ الأمير على طريق بادرايا وباكسايا إلى الأهواز. وقد كانت الميرة أيضاً ضاقت على الأمير أبي الحسين حتى اضطر في الليلة التي انصرف فيها من غد إلى أن ذبح خمسين جملا من جماله وفرق لحمها على أصحابه ورجاله وأخذ له بقر فذبحها ونهب في وقت هزيمته نهباً عظيماً. واستؤسر من وجوه قواده سبعة عشر قائداً فيهم ابن الداعي العلوي وأسر أبو بكر بن قرابة واستأمن من الديلم أكثر من ألف رجل. وأقام توزون وعاوده الصرع يوم هزيمة الأمير أبي الحسين وشغل بنفسه عن الطلب فعاد إلى داره .
ونعود إلى تمام خبر المستكفي بالله . قلد وزارته أبا الفرج محمد بن علي السامري ولم يكن له من الوزارة إلا اسمها والمدبر للأمور أبو جعفر بن شیرزاد وخلع على توزون وطوق ووضع على رأسه تاج مرصع بجوهر وجلس بين يدي المستكفي بالله على كرسي وانصرف بالخلع والتاج والطوق والسوار إلى منزله وطلب المستكفي بالله الفضل بن المقتدر طلباً شديداً فاستتر وأمر بهدم داره وكان الفضل طول أيام المستكفي بالله مستتراً .
كنا ذكرنا حاله إلى وقت خروجه إلى بغداد ولما وصل إلى بغداد ولقي توزون وأنزله أبو جعفر بالقرب من داره في دار طازاذ التي في قصر فرج على شاطئ دجلة . ثم شرع أبو الحسين في مسألة توزون أن يعاونه على فتح البصرة وضمن له إذا فتحها أن يحمل إليه مالاً رغبة عن كثرته فكان يطمع في المال ويعلل بالمواعيد. وسأل أن يوصل إلى المستكفي بالله فوصل إليه مع توزون وابن شيرزاد فخلع المستكفي بالله عليه خلعة الرضاء وانصرف إلى منزله. وبلغ الخبر ابن أخيه أبا القاسم وأن عمه يسعى في أمر البصرة فوجه بمن أصلح أمره مع توزون وابن شيرزاد وحمل مالاً فأقر على عمله وأنفذت الخلع إليه .
ووقف عمه أبو الحسين على ذلك ويئس مما كان شرع فيه ولم يقطع توزون أطماعه فيه .
لما يئس أبو الحسين البريدي من معاونة تلحقه في فتح البصرة سعى في أن يكتب
ص: 272
لتوزون ويقبض على ابن شيرزاد و صح ذلك عند ابن شيرزاد فاستوحش من أبي الحسين ومن توزون فجلس في منزله أياماً وما زال توزون يراسله ويترضاه حتى كتب إليه وأخذ في التدبير عليه. فلما كان يوم السبت لست خلون من ذي الحجة أنفذ أبو العباس وكيله وصافي حاجب توزون إلى أبي الحسين البريدي فقبض عليه وأحدراه إلى دار صافي وضرب هناك ليلة الأحد ضرباً عنيفاً وقيد وأحدر إلى دار السلطان وبسط ابن شیرزاد لسانه فيه أقبح بسط وذكر معايبه وأذكر بذنوبه . وكان أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي أخذ في أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه فأظهرها في هذا الوقت فلما كان بعد أسبوع من القبض عليه استحضر الفقهاء والقضاة وأحضر أبو الحسين البريدي وجمعوا بين يدي المستكفي بالله وأحضر السيف والنطع ووقف السياف بيده السيف وحضر ابن أبي موسى الهاشمي ووقف فقرأ ما أفتى به واحد واحد من إباحة دمه على رؤوس الأشهاد وكلما قرأ فتوى واحد منهم سأله هل هي فتواه فيعترف بها حتى أتى على جماعتهم وأبو الحسين البريدي يسمع ذلك كله ويراه ورأسه مشدود والسيف مسلول بإزائه فی يد السياف فلما اعترف القضاة والفقهاء بالفتوى أمر المستكفي بالله بضرب عنقه فضُربت من غير أن يحتج لنفسه بشيء أو يعاود بكلمة أو ينطق بحرف وأخذ رأسه وطيف به في جانبي بغداد ورد إلى دار السلطان وصلبت جثته حيث كان حديديه مشدوداً فيه لما ظفر بدار السلطان فبقي مصلوباً هناك أياماً . ثم قرأتُ صكاً على الجهبذ بثمن بواري ونفط اشتريت بتسعة دراهم لإحراق جئته فأحرقت للنصف من ذي الحجة .
وقبض على الوزير أبي الفرج السامري وصودر على ثلاثمائة ألف درهم فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه اثنتين وأربعين يوماً .
وفي هذه السنة طالب المستكفي بالله القاهر بأن يخرج من دار السلطان ويرجع إلى دار ابن طاهر فامتنع فسأل فيه أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن وهو يومئذ يكتب للمستكفي بالله على خاص أموره ورفق بالقاهر وضمن أن ينزله عنده ولا يرده إلى دار ابن طاهر قال أبو أحمد فلما قلت له ذلك استجاب بعد أن سألني عن منزلي في أي جانب هو فقلت في الشرقي ناحية سوق يحيى فسكنت نفسه إلى ذلك واستجاب حينئذٍ وأنزلت به إلى طياري بعد أن غيرتُ زيَّه فإني وجدته ملتفاً في قطن محشو جبة وفي رجله نعل خشب مربعة فلما حصل في الطيار عبرت به من إزاء داري وأومأت إلى الملاحين إيماء من غير أن أنطق بحرف فلما وضع صدر الطيار للعبور فطن وقال :« هوذا يعبر بي إلى دار ابن طاهر» وأراد أن يرمي بنفسه إلى الماء فتقدمت إلى غلماني بضبطه فضبطوه إلى أن أصعدت به إلى داره من دار ابن طاهر فأقام فيها مدة ثم خرج في يوم جمعة إلى المسجد الجامع في مدينة المنصور وأخذ في أن يتصدق فرآه أبو
ص: 273
عبدالله بن أبي موسى الهاشمي فمنعه من ذلك وأعطاه خمسمائة درهم ورده إلى داره .
وفي هذه السنة ورد الخبر بأن قوماً يعرفون بالروس يكونون وراء بلدان الخزر خرجوا إلى آذربيجان وملكوا برذعة. وهم قوم لا دين لهم وإنما طلبوا الملك وليس يعرفون الهزيمة وسلاحهم وربهم تشبه سلاح الديلم وفيهم قوة شديدة ولهم أبدان عظام. ثم أوقع بهم المسلمون فلم يبق منهم كبير أحدٍ وكان للمرزبان بن محمد بن مسافر في ذلك أثر كبير وعناء عظيم وقد ذكرناه في موضعه .
وفي المحرم منها مات توزون في داره ببغداد فكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً ومدة كتابة ابن شيرزاد له سنتان وستة عشر يوماً. وورد الخبر على ابن شیرزاد و هو بهيت وكان خرج إليها لمواقفة أبي المُرجّى بن فيان على مال ضمانه وكان قد أخره وطمع في ناحيته بموت توزون واضطرب العسكر ثم اجتمعوا على عقد الرياسة لابن شيرزاد. وكان أبو جعفر قد عزم على عقد الأمر لناصر الدولة فانحدر ابن شيرزاد فلما وصل إلى باب حرب وذلك في مستهل صفر أقام هناك في معسكره وخرج إليه الأتراك والديلم وأنفذ إليه المستكفي بالله خلع ثياب بياض وحمل إليه طعاماً عدة أيام .
فلما كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر أجمع الجيش بأسره على عقد الرياسة له وحلفوا له وأخذ البيعة عليهم لنفسه وحبوه بالريحان على رسم العجم. ووجه ابن شيرزاد إلى المستكفي بالله يسأله أن يحلف له يميناً بحضرة القضاة والعدول تسكن نفسه إليها ففعل المستكفي ذلك ثم سأله إعادة اليمين بحضرة وجوه الأتراك والديلم فاشتد ذلك عليه ثم فعله فدخل ابن شيرزاد من معسكره على الظهر بتعبية إلى دار السلطان ووصل إلى الخليفة وانصرف مُكرّماً .
وزاد ابن شيرزاد الأتراك والديلم في أرزاقهم زيادات كثيرة فاشتدت الإضاقة فأنفذ إلى ناصر الدولة يطالبه بحمل المال ويطمعه في رد الإمارة إليه فحمل إليه دقيقاً وسفاتج بخمسمائة ألف درهم فلم يكن لها موقع مع الإضاقة فنقض ما عزم عليه من عقد الإمارة لناصر الدولة وأقام على أمره وقلد أبا السائب القاضي مدينة المنصور وقلد جماعة القضاة في نواحي بغداد وأخذ في المصادرات وقسط على الكتاب والعُمَّال والتجار وسائر طبقات الناس ببغداد مالاً لأرزاق الجند. وكان الغمازون يغمزون بمن عنده قوت من حنطة أو عدة لعياله فكبسه وأخذه وكان قد انتصب للغمز بذلك وغيره وبمن يرمق بنعمة رجلان من السعاة يعرفان بهاروت وماروت فكانا يصلان إلى ابن شيرزاد في الأسحار والخلوات ويمضيان أيضاً إلى دار المستكفى بالله فلحق الناس منهما أمر عظيم وكذلك من الضرائب فإنها كثرت حتى تهارب التجار من بغداد وعاد هذا الفعل بالخراب وفساد الأمر وزيادة
ص: 274
الإضاقة فاحتيج إلى مصادرة ابن عبد العزيز الهاشمي وإخوته. وكثرت كبسات اللصوص فكان إذا ظفر السلطان بلص قتلته العامة قبل أن يصل إلى الوالي .
وقلد أبو جعفر بن شيرزاد ينال كوشه أعمال المعاون بواسط والفتح اللشكري أعمال المعاون بتكريت فأما الفتح اللشكري فإنه خرج إلى عمله بتكريت فلما وصل إليها امتد إلى ناصر الدولة بالموصل فقبله وأكرمه وقلده تكريت من قبله ورده إليها . وأما ينال كوشه فكاتب الأمير أبا الحسين بن بويه .
وأخرج ابن شيرزاد تكين الشيرزادي إلى الجبل فهزمه أصحاب أبي علي بن محتاج وانصرف إلى بغداد.
ورد الخبر بدخول ينال كوشه في طاعة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأن الأمير قد تحرك من الأهواز يريد الحضرة فاضطرب الأتراك والديلم ببغداد وأخرجوا مضاربهم إلى المصلى وعسكروا هناك وأخرج أبو جعفر مضربه معهم. ثم ورد الخبر بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه باجسري فزاد الاضطراب ببغداد واستتر ابن شیرزاد واستتر المستكفي بالله فكانت إمارة ابن شيرزاد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. فلما وقف الأتراك على استتارهما عبروا إلى الجانب الغربي وساروا إلى الموصل فلما سار الأتراك ظهر المستكفي بالله وعاد إلى دار الخلافة .
وورد أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي صاحب الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ولقي ابن شيرزاد حيث هو مستتر وفاوضه ثم انحدر إلى دار السلطان ولقي المستكفي بالله فأظهر المستكفي بالله سروراً بموافاة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك لينحلّ أمرهم فيحصل الأمر للأمير أحمد بن بويه بلا كلفة . فلما كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة نزل الأمير أبو الحسن في معسكره بباب الشماسية ووصل إلى المستكفي بالله ووقف بين يديه طويلاً وأخذت عليه البيعة للمستكفى بالله واستحلف له بأغلظ الأيمان وأدخل في اليمين الصيانة لأبي أحمد الشيرازي كاتبه ولعلم قهرمانته ولأبي عبد الله ابن أم موسى وللقاضي أبي السائب ولأبي العباس أحمد بن خاقان الحاجب ووقعت الشهادة على المستكفي بالله وعلى الأمير أبي الحسين فلما فرغ من اليمين سأل الأمير أبو الحسين المستكفي بالله في أمر ابن شيرزاد واستأذنه في أن يستكتبه فآمنه وأذن له في ذلك. ثم لبس الأمير الخلع وكنى ولقب بمعز الدولة ولقب أخوه أبو الحسن علي بن بويه بعماد الدولة وأخوه أبو علي الحسن بن بويه بركن الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم وانصرف بالخلع إلى دار مونس ونزل الديلم والجيل والأتراك دور
ص: 275
الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسماً عليهم إلى اليوم.
ظهر أبو جعفر بن شيرزاد من استتاره ولقي معز الدولة ودبر أمر الخراج وجباية الأموال. وقبض الأمير أبو الحسين على أبي عبد الله الحسين بن علي بن مقلة وذلك لوصول رقعة له إليه يطلب فيها مكان ابن شيرزاد .
كان السبب الظاهر أن علماً قهرمانته دعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم فاتهمها الأمير معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي بالله وأن ينقضوا رياسة معز الدولة عليهم ويطيعوه دونه فساء ظنه لذلك ولما رأى من جسارتها وإقدامها على قلب الدول ثم قبض المستكفي بالله على الشافعي رئيس الشيعة من باب الطاق فشفع فيه أصفهدوست فلم يُشفّعه فاحفظه ذلك وذهب إلى معز الدولة وقال : راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكراً في خف وإزار فنتج من ذلك وغيره مما لم يظهر خلعه من الخلافة فلما أن كان الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة انحدر الأمير معز الدولة إلى دار السلطان وانحدر الناس على رسمهم فلما جلس المستكفي بالله على سريره ووقف الناس على مراتبهم دخل أبو جعفر الصيمري وأبو جعفر بن شيرزاد فوقفا في مرتبتهما ودخل الأمير معز الدولة فقبل الأرض على رسمه ثم قبل يد المستكفي بالله ووقف بين يديه يحدثه ثم جلس على كرسي وأذن لرسول كان ورد من خراسان ورسول ورد من أبي القاسم البريدي فتقدّم نفسان من الديلم فمدّا أيديهما إلى المستكفي بالله وعلا صوتهما فارسية فظن أنهما يريدان تقبيل يده فمدها إليهما فجذباه بها وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته في عنقه وجرَّاهُ. فنهض حينئذٍ معز الدولة واضطرب الناس وارتفعت الزعقات وقبض الديلم على أبي أحمد الشيرازي وعلى ابن أبي موسى الهاشمي ودخلوا إلى دار الحرم فقبضوا على علم القهرمانة وابنتها وتبادر الناس إلى الباب من الروشن فجرى أمر عظيم من الضغط والنهب.
وساق الديلمان المستكفي بالله ماشياً إلى دار معز الدولة واعتقل فيها ونهبت دار السلطان حتى لم يبق فيها شيء وانقضت أيام خلافة المستكفي بالله.
وأحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله إلى دار الخلافة في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة 334 وخوطب بالخلافة وبويع له ولقب المطيع لله .
ص: 276
وقام له ابن شيرزاد في تدبير الأمور والأعمال بمقام الوزراء من غير تسمية بوزارة واستخلف على كتابته على خاص أمره أبا الحسن طازاذ بن عيسى واستحجب المطيع لله أبا العباس ابن خاقان وأقام له الأمير معز الدولة لنفقته كل يوم ألفي درهم وكتب بخبر تقلده الخلافة إلى الآفاق .
وتم الصلح بين الأمير معزّ الدولة وبين أبي القاسم البريدي وتسلم ابن البريدي واسطاً وضمن البقايا بها بألف ألف وستمائة ألف درهم واستخلف بالحضرة أبا القاسم عيسى بن علي بن عيسى .
وطلب الأمير معز الدولة ابن شيرزاد برهينة لأنه تبين منه تبليحاً في أمر المال ولم يأمن أن يهرب واضطرب أبو جعفر وسأل الأمير أن يقرضه ما يمشي به أمره فدفع إليه عدة من مراكب ذهب وفضة على أن يرةً مكانها فتسلم أبو جعفر ذلك وسلم أخاه أبا الحسن زكريا رهينة .
وكان وصف للأمير معز الدولة كفاية أبي الفرج بن أبي هشام وشهامته فأوصله إلى حضرته وأنس به ولطف محله ورد إليه أمر الضياع الخراب بالسواد وكلفه عمارتها .
قال ثابت : وأخبرني أبو الفرج أنه قال لمعز الدولة لججت أيها الأمير في أمر أبي جعفر بن شيرزاد في أن يكتب لك وراجعت الخليفة المستكفي بالله دفعات حتى أذن بأن نستكتبه لك ليس هذا لرغبة في صناعته فإنه ما كان صانعاً أمر كتاب الرسائل وأمر كتاب الخراج وإنما ولي ديوان النفقات مرة وكتب لابن الخال وكان امراً متوسطاً وما عده كتاب الحضرة وأصحاب دواوينهم في الكفاة وأهل الصناعة قال: فقال : أنت صادق فإني ما سألتُ عنه أحداً فقال فيه إلا مثل قولك ولما رأيت لحيته قلت:« هذا بأن يكون قطاناً أولى منه أن يكون كاتباً» ولكن وجدته وقد تقلد الإمارة ببغداد واستولى على الخلافة وصار لي نظيراً ولملوك الأطراف وتصوّره الرجال بصورة من يصلح أن يرؤسهم ومن يعقدون له على نفوسهم فأردت أن أحطه من هذه الحال إلى أن أجعله كاتباً لغلام لي أو عاملاً على بلد .
وكان الأمير معز الدولة قد أخرج موسى فياذة وينال كوشه في يوم الجمعة لتسع
ص: 277
بقين من رجب إلى عكبرا مقدّمة له إلى الموصل فلما سارا أوقع ينال كوشه وابن البارد بموسى فياذة وأخذوا سواده ومضوا إلى ناصر الدولة .
وفي يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان استتر أبو جعفر بن شيرزاد وأسلم أخاه أبا الحسن زكرياء .
ونزل ناصر الدولة ومعه الأتراك بسر من رأى لأربع بقين من شعبان وابتدأت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا وسار معز الدولة يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان ومعه الخليفة المطيع الله إلى عكبرا وظهر أبو جعفر بن شيرزاد ومضى فتلقى أبا العطاف جبير بن عبد الله بن حمدان أخا ناصر الدولة فإنه وافى بغداد ونزل باب قطر بل فنزل معه أبو جعفر بن شيرزاد ولؤلؤ وجماعة من العجم. ولقيه أهل بغداد ودبر الأمور أبو جعفر بن شيرزاد من قبل ناصر الدولة والحرب متصلة بين معز الدولة وناصر الدولة بسر من رأى ونواحيها .
فلما كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان وافى ناصر الدولة إلى بغداد فنزل في الجانب الغربي أسفل قطربل بعد أن أحرق خزائن نفسه وأصحابه التي في الزواريق لظهور الديلم عليه وخلف أبا عبد الله الحسين بن حمدان في الحرب. ثم عبر أصحاب معز الدولة الديلم من الجانب الشرقي من سر من رأى إلى الجانب الغربي من دجلة وساروا إلى تكريت ونهبوها ثم صار بعضهم إلى سر من رأى ونهبوها ثم عبر جميعهم مع معز الدولة إلى الجانب الغربي من دجلة والخليفة معهم وساروا منحدرين إلى بغداد وبإزائهم أبو عبد الله الحسين بن سعيد والأتراك في الجانب الشرقي. فلما حصل معز الدولة في الجانب الغربي عبر ناصر الدولة إلى الشرقي ونزل في رقة الشماسية واجتمع مع الأتراك وما خطب ناصر الدولة للمطيع لله ولا ذكر اسمه ولا كنيته في الخطب. وفي يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان أوقع أبو عبد الله الحسين بن سعيد بعسكر معز الدولة في الماء فغرق منهم وملك آلات الماء التي كانت معهم .
ولما كان يوم الخميس لليلتين خلتا من شوال وجّه ناصر الدولة بخمسين رجلاً من الديلم الذين كانوا في جملته إلى الجانب الغربي من بغداد في جملة الجيش الذين عبر بهم لمحاربة معزّ الدولة. فلما صاروا على الخندق الذي في قطيعة أم جعفر وخاطبوا الديلم الذين مع معزّ الدولة أوهموا جيش ناصر الدولة الذين كانوا معهم أن جماعة من ديالمة معز الدولة يريدون أن يعبروا الخندق ليستأمنوا إلى ناصر الدولة فأفرجوا لهم عن الخندق حتى عبروه وقلبوا تراسهم على جيش ناصر الدولة وحاربوه وأوقعوا به فانهزم أصحاب ناصر الدولة بأسره. وحصل القرامطة من أصحاب ناصر الدولة وتكين الشيرزادي وغيره من قواده محدقين بعسكر معزّ الدولة في الجانب الغربي فلم يكن يقدر معز الدولة على تناول شيء من علف ولا غيره فلحق أهل الجانب الغربي غلاء شديد
ص: 278
وعدموا الأقوات. وكان أبو جعفر الصيمري لتشاغله بأمر الحرب قد رد خدمة معز الدولة والقيام بما يحتاج إليه هو وحاشيته وأسبابه إلى أبي علي الحسن بن هارون فحدّثني أبو علي هذا أنه اشترى للأمير معز الدولة كرّ دقيق حواري بعشرين ألف درهم وتعذر على الناس العبور من الجانب الغربي إلى الشرقي ومن الشرقي إلى الغربي لمنع ناصر الدولة من ذلك ولحق الناس في السواد من الجانبين ضرر عظيم بتسلط الجند على غلاتهم فإنهم كانوا يحصدونها ويدرسونها ويحملونها إلى معسكرهم.
وكان السعر في الجانب الشرقي خمسة أرطال خبز بدرهم لورود الزواريق من الموصل بالدقيق وبقي السعر في الجانب الغربي غالياً بعد إدراك الغلات لما ذكرنا فكان الرطل الواحد من الخبز بدرهم وربع إذا وجد وذلك لمنع ناصر الدولة ما يرد من الموصل أن يصل إلى الجانب الغربي ولأن أعرابه منتشرون في الجانب الغربي يحولون بین أصحاب معز الدولة وبين الغلات وضرب ناصر الدولة دنانير ودراهم بسكة سنة 331 باسم المتقي لله وناصر الدولة وسيف الدولة.
واستعان ابن شیرزاد بالعامة والعيارين من بغداد على حرب معز الدولة والديلم وفرض قوماً منهم وكان يركب كل يوم في الماء ومعه عدة زبازب فيها أتراك فينحدر ويُصعد في دجلة ويرمي من على الشطوط في الجانب الغربي من الديلم بالنشاب وكان ناصر الدولة عبر بصافي التوزوني في ألف رجل لكبس معز الدولة وعسكره فلقيه اصفهدوست وأبو جعفر الصيمري فهزماه. فكان جعفر بن ورقاء يقول وكان معهما : كنت أسمع أن رجلاً واحداً يفي بألف رجل فلا أصدق حتى شاهدت اصفهدوست وحملته وهزيمته صافي وزمرته فصدقت بذلك .
وكان معز الدولة بنى زبازب في قطيعة أم جعفر وعددها نيف وخمسون فخرجت يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة إلى دجلة وكان غلمان معز الدولة يحاربون فيها من في زبازب ناصر الدولة من أصحابه وذكر أبو جعفر الصيمري أن الجهد كان قد بلغ منهم والحيل قد أعيتهم وضاق بهم الأمر حتى عزم معز الدولة على الرحيل إلى الأهواز وحمل أثقاله وقال : ترون في طريقنا العبور فإن أمكننا حيلة فيه وإلا جعلنا وجهنا إلى .الأهواز وتهيأ إن عبر الصيمري واصفهدوست وبهما تسعة نفر في سحر يوم السبت انسلاخ ذي الحجة إلى الجزيرة التي بإزاء المخرّم وأرادوا العبور منها إلى الجانب الشرقي فعارضهم ينال كوشه معارضة يسيرة وتهيأ لهم العبور وتبعهم أصحابهم فعبروا .
كان معز الدولة رتب هذه المعابر في الصراة ثم حدرها في الليل على شاطئ دجلة إلى موضع الثمانين لأنه أضيق موضع في دجلة ووافق وزيره الصيمري واصفهدوست
ص: 279
وخواص ديلمه على العبور وأظهر هو أنه يعبر من أعلى قطربل . فمضى بالليل في وقت موافقتهم وضرب البوقات وسار بالمشاعل وحمل بعض تلك المعابر بالأوهاق على الظهر. فلما رأى أعداؤه ذلك سار أكثرهم بإزائه لممانعته فتمكن الصيمري ومن معه من العبور وكان الصيمري أول من بذل نفسه لأن أصحابه تهيَّبوا العبور فلما سبقهم أنفوا وتبعوه . ثم عاد معز الدولة إلى هذا الموضع وقد أحس القوم بحيلته فتكاثروا بالزبازب ومنعوهم من العبور وغرّقوا ركوتين واشتدت الحرب وانهزم الأتراك. وكان ينال كوشه قد شرب ليلته ولما حصل جماعة من الديلم في الجانب الشرقي زعقوا بينال كوشه فانهزم ومضى أصحابه إلى باب الشماسيّة . واضطرب عسكر ناصر الدولة فوجه ابن شيرزاد إلى ناصر الدولة : أن الصواب أن تركب لتلقى من عبر من الديلم. فرد عليه في الجواب : أن العادة قد جرت بأني إذا ركبت انهزم الناس وأن الصواب أن يركب هو فركب أبو جعفر ورأى الناس قد ركب بعضهم بعضاً وليس يلوي أحد على أحد ولا يقف فانهزم هو أيضاً معهم وانهزم ناصر الدولة وملك الديلم الجانب الشرقي وأحرقوا ونهبوا وقتل من العامة جماعة ومات منهم عدد كثير من رجال ونساء وصبيان لأن الخوف حملهم على الهرب لما كانوا قدّموه إلى الديلم من الشتم والحرب في أيام الفتنة فخرجوا حفاة في الحر الشديد ومشوا إلى عكبرا فماتوا في الطريق وجرى معز الدولة على عادته في الرأفة فأمر برفع السيف والكف عن النهب وأمن الناس وملك الجانبين. ولما منعهم معز الدولة ونادى بالكف لم ينتهوا ولا كانت له قدرة على منعهم حتى ركب الصيمري فقتل جماعة وصلب بعض غلمان الديلم وواصل الطوف والحماية بنفسه حتى أمكنه تسكين الجند وحزر ما انتهب فكان مقداره عشرة آلاف ألف دينار وذاك أن القصد وقع على مواضع التجار وحيث الأموال والأمتعة.
ومضى ناصر الدولة وابن شيرزاد والأتراك التوزونية مصعدين إلى عكبرا فلما استقروا بها راسل ناصر الدولة الأمير معز الدولة يلتمس الصلح في آخر المحرم سنة 335 وكان ناصر الدولة فعل ذلك بغير علم الأتراك فلما وقفوا على ذلك أرادوا الوثوب به وهموا به فرقي إليه الخبر وصح عنده ما عزموا عليه فهرب منهم ومضى مغدّاً مسرعاً نحو الموصل وتركهم. وكتب معز الدولة بالفتح عن المطيع لله كتاباً نفذ إلى الأمير عماد الدولة وإلى سائر الأطراف.
ومن أطراف الأمور وأعجبها أن رجلاً قصد مضرب ناصر الدولة وهو بباب الشماسيَّة بإزاء معسكر معز الدولة فدخله بالليل ودخل خيمته وهو نائم فيها ولم يشعر به الحُرّاس ولا الحجاب ولا البوّابون ولا الخدم ومضى حتى عرف موضعه وشاهده وهو نائم وعرف موضع رأسه من المخدّة ورجع ليطفئ السراج وشمعة كانت بقربه خارج
ص: 280
الخيمة فيعود فيضع السكين في موضع حلته . فاتفق أن انقلب ناصر الدولة في نومه ولما رجع الرجل لإطفاء الشمعة من جنب إلى جنب فأطفأ الرجل الشمعة وعاد وقد أظلم الموضع فوضع سكينه في الموضع الذي كان فيه تقديره وما شك أن السكين يقع في حلقه فبقي السكين مغززاً في المخدة مكان رأس ناصر الدولة وعند الرجل أنه قد قتله وخرج من المضرب ولم يعلم به أحد وانتبه ناصر الدولة ورأى السكين وطلب الرجل فلم يُلحق وشاع الخبر فصار الناس إلى ناصر الدولة للتهنئة بالسلامة. ومضى الرجل إلى معز الدولة ليبشره بأنه قد قتله واستشرحه ما عمل فشرحه له فقال معز الدولة : مثل هذا لا يؤمن. وسلمه إلى الصيمري ليحبسه فقتله الصيمري .
وفي هذه السنة أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف وكانت الدابة إذا راثت اجتمع على الروث جماعة فقتشوه ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه وكان يؤخذ بزر قطونا ويضرب بالماء ويُبسط على طابق حديد ويجعل على النار حتى نقب ويؤكل ولحق الناس من ذلك في أحشائهم أورام ومات أكثرهم ومن بقي كان في صورة الموتى. وكان الرجل والمرأة والصبي يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضراً فيصيح الجوع الجوع إلى أن يسقط ويموت وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه وإلا استلب منه ولكثرة الموتى وأنه لم يكن يُلحق دفهم كانت الكلاب تأكل لحومهم وخرج الضعفي إلى البصرة خروجاً مُفرطاً متتابعين لأكل التمر فتلف أكثرهم في الطريق ومن وصل منهم مات بعد مديدة. ووجدت امرأة هاشمية قد سرقت صبياً فشوته وهو حي في تنور فأكلت بعضه وظفر بها وهي تأكل البعض الباقي فضُربت عنقها. وكانت الدور والعقارات تُباع برغفان ويأخذ الدلال بحق دلالته بعض ذلك الخبز. ووجدت امرأة أخرى تقتل الصبيان وتأكلهم ثم فشا ذلك فقُتلت عدة منهنّ. ولما زالت الفتنة ودخلت الغلات الجديدة انحل السعر.
ولما استتر ابن شيرزاد نظر أبو جعفر فيما كان ينظر فيه ابن شيرزاد ثم قلد الأمیر معز الدولة والصيمري الحسن بن علي بن مقلة ما كان أبو جعفر ينظر فيه من أعمال الخراج وجباية الأموال.
وفي هذه السنة شغب الديلم على معز الدولة شغباً قبيحاً وكاشفوه بالاسماع وخرقوا عليه بالسفه الكثير فضمن إطلاق أموالهم في مدة ضربها لهم فأضطر إلى خبط الناس واستخراج الأموال من غير وجوهها. فأقطع قواده وخواصه وأتراكه ضياع السلطان وضياع المستترين وضياع ابن شيرزاد و حق بيت المال في ضياع الرعية وصار أكثر السواد مُغلَقاً وزالت أيدي العمال عنه وبقي اليسير منه من المحلول فضمن واستغنى عن أكثر الدواوين فبطلت وبطلت أزمتها وجمعت الأعمال كلها في ديوان واحد.
ص: 281
إن التدبير إذا بُني على أصول خارجة عن الصواب وإن خفي في الابتداء ظهر على طول الزمان ومثل ذلك مثل من ينحرف عن جادة الطريق انحرافاً يسيراً ولا يظهر انحرافه في المبدأ حتى إذا طال به المسير بعد عن السمت وكلما ازداد إمعاناً في السير زاد بعده عن الجادة وظهر خطأه وتفاوت أمره. فمن ذلك أنه أقطع أكثر أعمال السواد على حال خرابه ونقصان ارتفاعه وقبل عودته إلى عمارته . ثم سامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرُشَى وأخذوا المصانعات في البعض وقبلوا الشفاعات في البعض فحصلت الإقطاعات لهم بعبر متفاوتة. فلما أتت السنون وعمرت النواحي وزاد الارتفاع في بعضها بزيادة الغلات ونقص في بعضها بانحطاط الأسعار (وذلك أن الوقت الذي أقطع فيه الجند الإقطاعات كان السعر مُفرط الغلاء للقحط الذي ذكرناه) فتمسك الرابحون بما حصل في أيديهم من إقطاعاتهم ولم يمكن الاستقصاء عليهم في العبرة ورد الخاسرون إقطاعاتهم فعُوّضوا عنها وتممت لهم نقائصها واتَّسع الخرق حتى صار الرسم جارياً بأن يخرب الجند إقطاعاتهم ثم يردوها ويعتاضوا عنها من حيث يختارون ويتوصلون إلى حصول الفضل والفوز بالربح وقُلّدت الإقطاعات المرتجعة من كان غرضه تناول ما يجده فيها ورفع الحساب ببعضه وترك الشروع في عمارتها ثم صار المقطعون يعودون إلى تلك الإقطاعات وقد اختلط بعضها ببعض فيستقطعونها بالموجود بعد تناهيها في الاضمحلال والانحطاط . وكانت الأصول تذوب على ممر السنين ودرست العبر القديمة وفسدت المشارب وبطلت المصالح وأتت الجوائح على التناء ورقت أحوالهم فمن بين هارب جال وبين مظلوم صابر لا ينصف وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شرّه ويوافقه . فبطلت العمارات وأغلقت الدواوين وامحى أثر الكتابة والعمالة ومات من كان يحسنها ونشأ قوم لا يعرفونها ومتى تولى أخذهم شيئاً منها كان فيه دخيلاً متجلفاً. واقتصر المقطعون على تدبير نواحيهم بغلمانهم ووكلائهم فلا يضبطون ما يجري على أيديهم ولا يهتدون إلى وجه تثمير ومصلحة ويقطعون أموالهم بضروب الإفساد واعتاض أصحابهم مما يذهب من أموالهم بمصادراتهم وبالحيف على معامليهم. وانصرف عمال المصالح عنها لخروج الأعمال عن يد السلطان ووقع الاقتصار في عملها على أن يقدر ما يحتاج إليه لها ويقسط على المقطعين تقسيطات يتقاعدون بها وبأدائها وإن أدوها وقعت الخيانة فيها فلم تنصرف إلى وجوهها وقل حفل الناظرين بالحوادث تعويلاً على أخذ ما صفا وترك ما كدر والرجوع على السلطان بالمطالبة وردّ ما تخرب على أيديهم من الإقطاعات وفوض تدبير كل ناحية إلى بعض الوجوه من خواص الديلم فاتخذه مسكناً وطعمة والتحف عليهم المتصرفون الخونة وصار غرض أحدهم الترجية والتمشية والدفع
ص: 282
من سنة إلى سنة وعقدت النواحي الخارجة من الإقطاعات على طبقتين من الناس إحداهما أكابر القواد والجند والأخرى أصحاب الدراريع والمتصرفون فأما القواد فإنهم حرصوا على جمع الأموال وحيازة الأرباح ودعوى المظالم والتماس الحطائط فإن استقصى عليهم صاروا أعداءهم. ولما كثرت أموالهم وانفتقت بهم الفتوق خرج منهم الخوارج وإن سومحوا استشرى طمعهم ولم يقفوا منه عند غاية. وأما أصحاب الدراريع فكانوا أهدى من الجندي إلى تغريم السلطان والحيلة عليه في كسب الأموال ونظر بعضهم إلى بعض فيما تجري عليه معاملاتهم وبذلوا المرافق واعتصموا بالوسائل ووجب أن يجمع الناس حكم واحد وتوالت السنون عليهم فتفردوا بنواحيهم وخلوا بمعامليهم فمن مستضعف يصادر ويغير رسمه وتنقص معاملته على قدر حاله وماله ومن مانع جانبه فيخفف عنه الرسوم ويرتفق على ذلك منه بالأموال ويتخذه الضامن عضداً في شدائده وعند مناظرة سلطانه ويصطلم المستضعفين فبطل أن ترفع الدواوين جماعة أو تعمل لعامل مؤامرة أو يسع لأحد ظلامة أو يقبل من كاتب نصيحة واقتصر في محاسبة الضمناء على ذكر أصول العقد وما صح منه وبقي من غير تفتيش عما عوملت به الرعية وأجريت عليه أحوالها من جور أو نصفة من غير إشراف على احتراس من الخراب أو خراب يعاد إلى العمارة وجبايات تحدث على غير رسم ومصادرات ترفع على محض الظلم وإضافات إلى الارتفاع ليست بعبرة وحسبانات في النفقات لا حقيقة لشيء منها ومتى تكلم كاتب من الكتاب في شيء من ذلك فكان ذا حال ضمن ونكب واجتيح وقتل وباعه السلطان بالتطفيف. وإن كان ذا فاقة وخلة أرضى باليسير فانقلب وصار عوناً للخصم ولم يكن بذلك بملوم لأن سلطانه لا يحميه إذا خاف ولا ينصره إذا قال .
فهذه جملة الحال في ضياع الدخل فأما الخرج فإن النفقات تضاعفت وسوق الدواوين أزيلت والأزمة بطلت إلى غير ذلك من أمور يتسع فيها القول ويقتضي بعضها سياقة بعض فاقتصرنا على الإشارة دون التطويل .
ثم ركب معز الدولة الهوي في أمور غلمانه فتوسع في إقطاعاتهم وزياداتهم وأسرف في تمويلهم وتخويلهم فتعذر عليه أن يذخر ذخيرة لنوائبه أو أن يستفضل شيئاً من ارتفاع ولم تزل مؤونته تزيد ومواده تنقص حتى حصل عليه عجز لم يكن واقفاً على حد منه بل يتضاعف تضاعفاً متفاقماً وأدى ذلك على مر السنين إلى الإخلال بالديلم فيما يستحقون من أموالهم وداخلتهم المنافسة للأتراك من أجل حسن أحوالهم. وقادت الضرورة إلى ارتباط الأتراك وزيادة تقريبهم والاستظهار بهم على الديلم وبحسب انصراف العناية إلى هؤلاء ووقوع التقصير في أمور أولئك فسدت النيات وفسد الفريقان أما الأتراك فبالطمع والضراوة وأما الديلم فبالضر والمسكنة واشر أبوا إلى الفتن وصارت هذه المعاملة لقاحاً لها
ص: 283
وسبباً لوقوع ما وقع فيها مما سنذكر جملاً منه في مواضعها بمشيئة الله .
وفي هذه السنة سملت علم القهرمانة وقطع بعد ذلك لسانها .
وفيها ورد الخبر بأن نوحاً صاحب خراسان قبض على إخوة أبي علي بن محتاج وقتل بعضهم .
ذكر السبب في ذلك
لما انهزم ابن لما انهزم ابن محتاج من بين يدي ركن الدولة بعد أن كان ضمن لصاحب خراسان فتح الري آمده صاحبه بابن ملك وجماعة من نظرائه وقواده وبالغ في تقويته فسار في عدة وعُدة وافرة. فكاتب ركن الدولة عماد الدولة وسأله المدد فأمره أن يخلي لهم الطريق ويصير إليه وأعلمه أن له تدبيراً في ذلك ففعل ركن الدولة ذلك ودخل الخراسانية الري. فراسل عماد الدولة صاحب خراسان سراً يعرفه قلة جدوى الري عليه مع ما يلتزمه من النفقات على العساكر العظيمة وأن الاستيحاش بينهما زائد مع ذلك ويسأله أن يزيل هذه الوحشة بأن يضمنه أعمال الري عشر سنين بمثل ما تقرر عليه بينه وبين ابن محتاج وزيادة مائة ألف دينار في كل سنة على أن يسلفه مال سنة . وسأله إنفاذ ثقة من ثقاته ليوقع العهد معه ويحمل المال على يده وأنه يعاونه بعد ذلك على ابن محتاج حتى يظفر به فوردت هذه الرسالة على نوح بن نصر ونيته فاسدة لابن محتاج وتطلعت نفسه إلى تحصيل المال فشاور ثقاته وكلهم أضداد وأعداء لابن محتاج فأشاروا عليه بقبول ما بذله عماد الدولة فأظهر حينئذ ما كان في نفسه وقبض على إخوة أبي علي بن محتاج وأهله وأسبابه وقتل بعضهم وأنفذ إلى عماد الدولة علي بن موسى المعروف بالزرار وكان من قواده وأكابر حاشيته فسار على الجمازات واستقبله عماد الدولة وأكرمه وواصل إليه العطايا والتحف وماطله فيما ورد له وراسل أبا علي بن محتاج يعلمه خبر هذا الرسول ويطلعه على ما ورد له وقرر في نفسه أنه على عهده محافظ على وده وحذره من غدر نوح وخوفه منه فحينئذ أنفذ ابن محتاج رسوله إلى إبراهيم بن أحمد وهو عم نوح وكان إذ ذاك بالموصل أحد قواد ناصر الدولة فعرفه أنه قد عقد له الرئاسة وأخذ له البيعة على أصحابه على أن يكون إليه خراسان ويمضي معه فيحاربان نوحاً ويؤكد عليه أن يعجل إليه فرغب إبراهيم بن أحمد في ذلك واستأذن ناصر الدولة في المضي فقال له : نحن على المصير إلى بغداد فانتظر حتى ندخلها فإذا دخلناها قلدك الخليفة وخلع عليك من داره وعقد لك لواء فيكون أعز لك وأقوى لأمرك . وكان هذا في آخر أيام المستكفي بالله فعمل إبراهيم بن أحمد على ذلك فلما طالت المدة وحدث على المستكفي بالله الحادثة وانحدر ناصر الدولة إلى بغداد تتابعت رسل أبي علي بن محتاج إلى إبراهيم فعبر تكريت في سبعين غلاماً ومضى إلى دقوقا
ص: 284
ومنها إلى طريق خراسان ثم وردت كتبه من الري على ناصر الدولة بأنه سائر إلى نيسابور المحاربة ابن أخيه نوح فأنفذ إليه ناصر الدولة خلعاً سلطانية ولواء عقده له عن لخليفة المطيع لله وحمل إليه ذلك مع خجخج المسمول فتطير الناس له من ذلك وقالوا إنه لا يتم أمره. ولما بلغ أبا علي مسير إبراهيم تلقاه إلى همذان وعاهده على السمع والطاعة والنصيحة وعاد معه إلى الري ثم نهضا جميعاً إلى خراسان وكتب كتاباً إلى ركن الدولة بأنه سائر إلى خراسان وأنه قد أفرج له عن الري فكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة بالمسير إليها فبادر إلى ذلك واضطرب خراسان على نوح بن نصر .
لما فرغ عماد الدولة من التضريب بين ابن محتاج وبين صاحبه وتمت المكاشفة بالعداوة بينهما بادر برة الزرار رسول صاحب خراسان علی نوح برسالة يقول فيها : إنه قد ظهر ما كان ينذره به من سوء نية ابن محتاج وسعيه عليه وأنه لما كاشفه بالحرب مع عمه إبراهيم أنفذ أخاه ركن الدولة إلى عسكره حتى إذا سارت جيوش نوح بن نصر إلى عمه وإلى ابن محتاج واحتاج إلى أن يسير ركن الدولة من ورائهم معاوناً له عليهما فعل ذلك . وأقبل نوح إلى نيسابور في عساكره وجميع من معه من أصحاب جيوشه ورجاله فبرز له إبراهيم وابن محتاج فحارباه وكسراه وأسرا إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين وعدداً كثيراً من قواده واستأمن أكثر جيشه وانصرف نوح مقلولاً على حال سيّئة من الضعف والحيرة واتبعه إبراهيم وابن محتاج وحملا معهما إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين أسيرين واستمرَّت بنوح الهزيمة إلى سمرقند فدخل إبراهيم بن أحمد بخارى واشتمل على الخزائن والذخائر وذلك في سنة 335 وكتب ابن محتاج إلى عماد الدولة يبشره بما جرى ويسأله تجديد أمر السلطان لإبراهيم بن أحمد بالخلع والعقد له على خراسان .
كان سبب ذلك أن إبراهيم أصغى إلى قوم حساد لأبي علي بن محتاج فكانوا يوهمونه أن أبا علي إنما استعان به ليجتمع له جيوش خراسان فإذا فرغ من نوح عطف عليه فعامله بمثل ما عامل به نوحاً وأن الصواب له أن يحترز منه . فوقر ذلك في نفس إبراهيم وأطلق ابن سمجور وابن قراتكين وخلع عليهما من غير رأي أبي علي بن محتاج فاستوحش ابن محتاج وانقبض عن إبراهيم وتمكن ابن سمجور وابن قراتكين من استمالة الجند وكاتبا نوحاً وترددت الرسل بينهم سراً. ثم إن نوحاً سار إلى ثغور خراسان فجمع منها جيشاً واستخرج أموالاً وعاد إلى بُخارى فملكها وقهر عمه وحصل أسيراً في يده
ص: 285
فسمله وسمل جماعة من أهل بيته .
كان إبراهيم وابن محتاج خرجا إلى ظاهر بُخارى وعسكرا بموضع يقال له ریکستان فبينما هم نزول إذ صاح صائح في الميدان الذي بحذاء دار الإمارة ببخارى نوح يا منصور واجتمع إليه طائفة من الحشم ثم إن نوحاً زحف إلى عمه إبراهيم وكان يدبر أمره ابن أبي داود البلخي فاحتال على تقوية قلوب أصحابه بأن أعلمهم أن مدداً كثيراً قد أقبل إليهم وهم يلحقون في الليل وكانت الحرب قد وقعت في ذلك اليوم فكانت على نوح فلما كان في الليل أنفذ طائفة من عسكره مع مراكبهم وأمرهم بالإبعاد فإذا كان في الثلث الآخر من الليل ضربوا بطبولهم وبوقاتهم ودبادبهم ودخلوا العسكر في صورة المدد ففعلوا ذلك فلم يزالوا إلى الصبح يدخلون العسكر على هذه الصورة فلما أصبحوا وتصافوا للحرب استأمن الديلم الذين كانوا مع إبراهيم وانهزم قوم من أصحابه وانهزم أبو علي بن محتاج وظفر نوح بإبراهيم وعامله بما ذكرتُ .
وفي هذه السنة مات أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد وتقلد مكانه ابنه أبو القاسم أنوجور وغلب كافور الخادم الأسود وكان خادم الإخشيد على الأمر
وفيها مات علي بن عيسى عن تسعين سنة .
لما اجتمع لمعز الدولة أمر بغداد في هذه السنة زاد في التوثق من أمير المؤمنين المطيع لله فاستحلفه بيمين عظيمة ألا يتغيب عن معز الدولة ولا يبغيه سوءاً ولا يُمالئ له عدواً فلما حلف أزال عنه التوكيل وعاد إلى دار الخلافة واعتزل أبو علي الحسن بن هارون النظر في الأمور لتحامل الصيمري عليه ومصادرة كاتبه فردَّ النظر في الأعمال إلى أبي الحسين علي بن محمد بن مقلة من قبل أبي جعفر الصيمري ورعى له معز الدولة مكاتبته له أيام مقامهِ في الجانب الغربي فلما عبر معز الدولة ولقيه لزمه ثم ردَّ في في هذا الوقت إليه النظر في الأمور وقلّد كتبة الخليفة أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي وسُلّمت إليه ضياع الخدمة ارتفاع مائتي ألف دينار في السنة .
وفيها ورد الخبر في المحرّم بدخول الأمير ركن الدولة الري وأنه ملك الجبل بأسره.
وفيها ورد أبو بكر بن قرابة من عكبرا برسالة ناصر الدولة يلتمس فيها من معز الدولة الصلح وقد كان تردد قبل هذه الوقعة مرات فتقرّر أمر الصلح على أن يكون في يد ناصر الدولة من حد تكريت إلى فوق ويضاف إلى أعماله مصر والشام على أن لا يحمل عن الموصل وديار ربيعة شيئاً مما كان يحمله من المال ويكون الذي يحمله عن مصر والشام ما
ص: 286
كان يحمله الإخشيد محمد بن طغج عنهما وعلى أن يدرّ ناصر الدولة الميرة إلى بغداد ولا تؤخذ لها ضريبة وحلف معز الدولة بحضرة الخليفة والقضاة على ذلك والوفاء به .
وأنفذ القضاة مع ابن قرابة إلى معز الدولة لالتماس الصلح بغير موافقة منه للأتراك ولا علم منهم فلما علموا بذلك وظهر أمر الصلح اجتمع الأتراك للإيقاع به وأحس ناصر الدولة بذلك فخرج بالليل وعبر إلى خيمة ملهم. وكان ملهم والقرامطة في الجانب الغربي والأتراك وناصر الدولة في الجانب الشرقي واستجاره فأجاره وسيره في الجانب الغربي ومعه ابن شيرزاد وبقي الأتراك في الجانب الشرقي. فلما فاتهم ناصر الدولة اجتمعوا على تأمير تكين الشيرزادي وقبضوا على أبي بكر بن قرابة بعد أن نزل به مكروه عظيم وقبضوا على كُتاب ناصر الدولة وأسبابه وساروا يطلبونه واستأمن ينال كوشه ولؤلؤ إلى معز الدولة وأسرع ناصر الدولة في سيره فلم يلحقه الأتراك. ولما صار إلى مرج جهينة قبض على ابن شيرزاد وسلمه وعلى طازاذ وعلى أبي سعيد وهب بن إبراهيم وجوهر خادم ابن شيرزاد وأنفذ جماعتهم إلى القلعة ولم يتلبث ناصر الدولة ومضى إلى نصيبين ورحل تكين الشيرزادي والأتراك إلى الموصل وغلبوا عليها ثم ساروا في طلبه فمضى إلى سنجار فتبعوه وكتب إلى معز الدولة يستصرخه فأنفذ إليه معزّ الدولة جماعة من قواده ثم أنفذ أصفهدوست بعدهم ثم أخرج الصيمري. ولما سار تكين الشيرزادي إلى سنجار في طلب ناصر الدولة سار من سنجار إلى الحديثة فتبعه تكين إلى الحديثة فلما قرب منه سار ناصر الدولة إلى السن وهناك لحق به جيش معز الدولة وأبو جعفر الصيمري و اصفهدوست فساروا بأسرهم إلى الحديثة للقاء تكين الشيرزادي ووقعت الوقعة بالحديثة وكانت شديدة فانهزم تكين وتقطع أصحابه واستؤسر منهم وجوه القوَّاد وجماعة من الأصاغر وقتل منهم خلق بعد أن كان استعلى واستظهر في الحرب .
كانت العرب على كثرة عددهم في عسكر الصيمري ينقضون صفوف الديلم ولا يصدقون اللقاء فقال لهم الصيمري: اعتزلوا عنا ولا تدخلوا بيننا وانظروا فإن انهزم واحد منهم فاتبعوه وإن ثبت فدعونا وإياه ما دام ثابتاً واعلموا أنكم إذا قربتم منا واختلطتم بمصافنا بدأنا بكم قبل أعدائنا . ففعلوا واعتزلوا وصبر الفريقان وحمل الأتراك حملات شديدة ثبت لها الديلم ثم وثبوا في وجوه الأتراك فلما ولوا حمل عليهم العرب ووضعوا الرماح بين ظهورهم ونكسوهم فأكثروا القتل والأسر . ثم استأسر جنود تكين الشيرزادي فتقربوا به إلى ناصر الدولة فسمله للوقت وأنفذه إلى قلعة من قلاعه وسار ناصر الدولة وأبو جعفر الصيمري إلى الموصل فنزل الصيمري في الجانب الشرقي بإزاء الموصل ودخل إليه ناصر الدولة وحصل عنده في خيمته وخرج من عنده وعبر إلى الموصل ولم يعد إليه بعدها .
ص: 287
فحكى عن ناصر الدولة أنه قال : لما حصلت مع أبي جعفر الصيمري في خيمته ندمت وعلمتُ أني قد أخطأت وغررت فبادرت إلى الانصراف وحكى عن الصيمري أنه قال : لما خرج من عندي ناصر الدولة ندمت على تركي القبض عليه وعلمت أني قد ضيعت الحزم وأخطأت بعد أن فاتني الصواب .
ثم تسلم أبو جعفر الصيمري طازاذ ووهباً وجوهراً وألف كر حنطة وشعيراً وانحدر بهم إلى بغداد مع ابن لناصر الدولة رهينة يقال له هبة الله وأدخل ابن شيرزاد بعده بيوم إلى بغداد موكلاً به وصادره معزّ الدولة على خمسمائة ألف درهم ثم حمل ناصر الدولة تكين الشيرزادي مسمولاً إلى معز الدولة فأحسن إليه معز الدولة وأطلقه واقطعه إقطاعاً.
وفيها خرج لشكررور بن سهلان في جيش إلى الأهواز ومعه عامل خراج وظهرت الوحشة بين الأمير معز الدولة وبين أبي القاسم البريدي.
وقبض معزّ الدولة على ينال كوشة وكان استحجبه وعلى أرسلان كور وعلى فتح اللشكري وحملهم إلى قلعة رامهرمز .
وفي يوم الأحد لثمان خلون من شوال ضرب الصيمري ابن شيرزاد بحضرته بالمقارع وطالبه بمال المصادرة وانحدر الصيمري إلى الأهواز .
وفيها جرت وقعة بين أصحاب البريدي وبين أصحاب معزّ الدولة فكانت على البريدي وأسر منهم نحو مائتي رجل من وجوه الديلم.
وفيها سار المطيع لله والأمير معز الدولة إلى البصرة وانتزعاها من يد أبي القاسم البريدي فسارا من واسط في البرية على الطفوف فلما صاروا في البرية ورد على الأمير معز الدولة رسول الهجريين القرامطة من هجر بكتاب منهم إليه بالإنكار عليه في سلوك البريَّة من غير أمرهم إذ كانت لهم فلم يجب عن الكتاب وقال للرسول : قل لهم : «ومن أنتم حتى تستأذنوا في سلوك البرية وكأني أنا أقصد البصرة إنما قصدي بلدكم وإليكم بعد فتحي إياها وستعرفون خبركم» وكلام في هذا المعنى فانصرف الرسول وانحدر أبو جعفر الصيمري وموسى فياذة في الماء فملك مسماران ودخل دار البريدي بها بعد حرب يسيرة ووصل الخليفة والأمير معز الدولة إلى الدرهمية فاستأمن إليه جيش البريدي بأسره وهرب أبو القاسم البريدي إلى هجر وملك معز الدولة البصرة فانحلت الأسعار كلها ببغداد انحلالاً شديداً. وقبض معز الدولة على جميع قوَّاد البريدي بالبصرة واستخرج أمواله وودائعه وقبض خزائنه وأحرق كل ما وجد له من آلات الماء من الشذاءات والطيارات والزبازب واستدعى لؤلؤاً من بغداد فقلده أعمال البصرة والحرب. ووصل معز الدولة من البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة وتأخر الخليفة والصيمري
ص: 288
بالبصرة. وتأخر كوركير عن صحبة معز الدولة من غير مواقفة وقيل إنه في التدبير عليه وعقد الرئاسة لنفسه فوجه إليه بأبي جعفر الصيمري فامتنع عليه وحاربه في داره فظفر به أبو جعفر وقبض عليه وصار به إلى معز الدولة فأنفذه إلى القلعة برامهرمز.
ولقي معز الدولة أخاه عماد الدولة فقبل الأرض بين يديه واجتهد به عماد الدولة أن يجلس بين يديه فلم يفعل وكان يتردد إليه كل يوم بالغداة والعشية فيقف ولا يجلس.
وقيل للأمير معز الدولة إن عماد الدولة يريد أن يسأله في الإفراج عن رامهرمز وعسكر مكرم فحكى أبو الحسن المافروخي أنه كان مع معز الدولة وكان عماد الدولة ورد أرجان فالتقيا بها قال : فدعاني عماد الدولة وقال : بلغني أنه حكي لأخي أني وافيت إلى هذا الموضع لأرتجع منه بعض أعمال الأهواز . وضرب بيده إلى لحيته وقال : سوءة لها إن أنا تواضعتُ لهذه الحال من لي حتى احتاج إلى استكثار البلاد وادخار المال له : هذا وأخوه ابناي وإنما أريد الدنيا لهما والله ما وافيتُ إلا لأعقد ما بينهما من الرياسة حتى لا يجري خلاف إن حدثت بي حادثة فإني عليل كما تري وأسأله أن يقدم الكبير على نفسه كما جرت العادة وبارك الله له في بلاده ولو أراد بعض فارس لوهبته له ولقد أصبحتُ وأمسيتُ وما مناي على الله إلا العافية وسلامتها وإبقاؤهما فإنهما أخواي بالنسب وابناي بالتربية وصنيعتاي بالولايات ومن لي غيرهما فيقدر ما يقدر . قال : فعدتُ إلى معزّ الدولة وحدثته بالحديث فبكى وحضر في آخر النهار عند عماد الدولة فأسرف في الشكر والدعاء وتذكر الكلام فبكى بحضرته حتى ضمه عماد الدولة إلى نفسه .
ثم انصرف إلى بغداد وامتد إلى باب الشماسية وقدم الخليفة فنزل بالزبيدية. وأظهر معز الدولة أنه يريد الموصل وكتب عن المطيع لله كتاباً إلى ناصر الدولة وورد أبو بكر بن قرابة إلى هناك بجواب الرسالة وتردد مرات ثم حمل المال وتم الصلح .
وفيها ورد الخبر بوقعة للروم مع سيف الدولة انهزم فيها سيف الدولة وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس .
وفيها قبض معزّ الدولة على أصفهدوست و حمله إلى قلعة رامهرمز .
ذكر السبب في ذلك
كان أصفهدوست خال ولد معز الدولة وولد له من أخته الحبشي وكان يكثر الدالة عليه ويقل الهيبة له وكان يزري عليه في كثير من أفعاله وبلغ معز الدولة عنه أنه يراسل المطيع لله في الإيقاع به وأنه قد استجاب له إلى ذلك فلما كثر عليه ذلك قبض عليه .
وفيها ورد الخبر بأن ركن الدولة هزم العلوي الذي كان بجرجان وطبرستان .
ص: 289
وفيها دخل أبو القاسم البريدي في الأمان إلى بغداد ولقي معز الدولة وقبل الأرض بين يديه وأنزله وأقطعه بمائة وعشرين ألف درهم ضياعاً.
وفيها ورد الخبر بمسير السلار وهو المرزبان بن محمد إلى الري طامعاً فيها وفي دفع ركن الدولة عنها فحاربه ركن الدولة وأسره مع ثلاثة عشر قائداً من قواده وحمله إلى القلعة بسميرم و وحبسه فيها وعاد الأمير ركن الدولة إلى الري وقد شرحنا أمره على الاستقصاء فيما بعد.
وفيها خرج الأمير معزّ الدولة إلى الموصل ودخلها وجرت مراسلات بين ناصر الدولة ومعز الدولة استقرّ آخرها على أن يحمل عن الموصل وديار ربيعة وديار مضر والرحبة والشام في كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويقيم الخطبة لعماد الدولة ومعز الدولة وبختيار بن معز الدولة وأخذ الفضل والحسين ابني ناصر الدولة رهينة وانصرف إلى بغداد. ولم يكن الصيمري أخذ خط ناصر الدولة بهذه المفارقة وذلك لأن ابن قراتكين غلام صاحب خراسان قصد الري واضطرب معز الدولة فبادر إلى بغداد لينفذ منها جيشاً إلى أخيه فعسف أبا جعفر عسفاً شديداً في فصل القصَّة فقال الصيمري تسكيناً له : ارحل إذا شئت فقد أخذتُ الخط بثمانية آلاف ألف درهم ونما بعض الخبر إلى ناصر الدولة فامتنع على أبي جعفر من بذل الخط وخاف أبو جعفر أن يخبر الأمير معز الدولة بالصورة بعد الاعتراف فلا يقيله العثرة وانحدر إلى بغداد.
فقال أبو محمد المهلبي وكان يخلف الصيمري: قلت لأبي جعفر: بأي شيء تحتج على الأمير إذا طالب بهذا الخط فلم تحضره إياه ؟ فقال : أطالب ابن قرابة حتى يكتب خطه عنه فإنه لا يقدر على مخالفتي ثم إن أنكر ناصر الدولة قلت إنه خليفته وما كتب عنه يلزمه . قلت : فإن لم يكتب ابن قرابة خطه وهذا مما لا يجوز أن تكرهه عليه؟ قال : نزور على خط ابن قرابة وكان ببغداد من بزور على الخطوط عجباً قلت : فإذا صح رأيك على هذا فلا تطالب ابن قرابة بكتب الخط فإنه إن امتنع عليك بطل التزوير به ولكن نزور فزورنا والله على خط ابن قرابة ضماناً بثمانية آلاف ألف درهم وخرج الصيمري لحرب عمران ثم حدثت الحادثة من موت عماد الدولة وشخص وكانت كرّته التي ما عاد بعدها. ووافى ابن قرابة وطالبته بالمال فأبى وأريته الخط فجحده وحلف بالطلاق أنه ما كتبه ثم قال: ما أشك أنه خطي ولكن ما كتبته . ثم هذا يا هذا أنا قد شککت فكيف غيري ممن تشتبه عليه الخطوط؟ وأنت تعلم يا محمد أن ناصر الدولة امتنع من كتب الخط علي بن جعفر وأن أبا جعفر خرج وما أخذه وقد أحاطت بي البلوى وليس هذا حقي عليك. فقلتُ : الأستاذ أبو جعفر غائب وكلامك فيه لا يقبل والأمير ينصر وزيره ولا ينصرك ويشهد ونحن معه أن هذا خطك لئلا يبطل ماله ويصير
ص: 290
محصوله مخاصمة وزيره ولكن الرأي أن تقول للأمير: لما حدث أمر ابن قراتكين وخرج الجيش إلى الري طمع ناصر الدولة وجحد الضمان والوجه مقاربته حتى يصح من جهته بعض المال وإلا بطل الأصل ثم إذا زال هذا الشغل بعد سنة صار الكلام لسنة مستأنفة ويعجل ويعجل شيئاً يؤخذ منه فإن هذه السنة أصلح فأعاد ذلك على الأمير معز الدولة ودعاني على خلوة وقال لي : أي شيء ترى؟ فقلت : الوجه أن نقارب ونأخذ ومتى تمكنا من قصد الموصل فالضمان معنا ونحن نستوفي تمام الثمانية آلاف الألف الدرهم. قال فافعل وقررنا الأمر على ثلاثة آلاف ألف درهم لسنة واستوفيناها وكان الصيمري لما انصرف من عند ناصر الدولة بالصلح صار ناصر الدولة إلى الموصل وعسف الناس وطالبهم بمال التعجيل .
وفي هذه السنة خرج سبكتكين الحاجب ومعه أكثر الجيش والقرامطة إلى الري مدداً لركن الدولة ثم أتبعه معز الدولة بروزبهان وعليكان وجماعة من الديلم ولحقوا به.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب فيه أن جيش خراسان تحرك فورد الخبر على ركن الدولة وكان ابن عبد الرزاق من كبار أصحاب الجيوش بخراسان إلا أنه كان مستوحشاً من صاحبه فكاتب ركن الدولة بأنه صائر إليه في الجيش الذي معه فاستعدّ له ركن الدولة وأعد أصناف الكرامات له. وكاتب أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه معز الدولة وأخاه أبا الحسن علي بن بويه عماد الدولة فحمل كل واحد منهما إليه شيئاً كثيراً من المال والدواب والثياب والألطاف فصرفها كلها إليه مع ما أضاف إليه من جهته وذلك بعد أن حضره ووطئ بساطه ورده إلى الدامغان فوصل إليه شيء لا عهد له بمثله وإنما رده إلى الدامغان لئلا يتضايق الري بالعساكر وقيل له : فرّق من الأموال ما ترى على من ترى . ثم استقر الرأي بين الأمراء الثلاثة أعني عماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة على تقليد ركن الدولة خراسان والعقد له عليها ليكون محاربته إياهم على الأصل والولاية. ثم وردت الأخبار بحركة المرزبان بن محمد بن مسافر وهو السلار وأنه عازم على قصد الري لمحاربة ركن الدولة مغتنماً ورود جيش خراسان وأنه سيشغله ذلك عنه . فندب عند ذلك معز الدولة سبكتكين الحاجب للمسير إلى ركن الدولة مدداً له بعد أن عظم أمره وفخم شأنه وضم إليه جماهير عسكره وأكابر قواده وفيهم بورریش و روزبهان ومن يجري مجراهما وقطعة وافرة من الأتراك وثلاثة آلاف من شجعان العرب المعروفين فيهم إبراهيم بن المطوق المعروف بابن البارد وعمار المجنون وأحمد بن صالح الكلابي وطبقتهم وأطلق الأموال وأزاح العلل في الخيل والسلاح وغيرها وكتب عهد ركن الدولة على خراسان وعقد لواءه وحملت الخلع إليه معه وخرج بذلك أحد حجاب السلطان مع سبكتكين الحاجب فسارت الجماعة معه
ص: 291
على أتم أهبة. فلما وصل العسكر إلى ظاهر الدينور خلع بورريش الطاعة وأنف من متابعة سبكتكين والمسير تحت رايته وجمع إلى نفسه الديلم الذي في العسكر فاستجابوا له جميعاً وبكروا عليه في غداة غدٍ وهو فيها غافل جالس في خيمة له فغافصوه ورماه بزوبین أثبته في كتفه وولى من موضعه وخرج مجروحاً من تحت ذيل خيمته وركب جنيبة النوبة فبرز إلى الصحراء وتلاحق به غلمانه وسائر الأتراك مع العرب وتمكن الديلم من رحله وسواده فنهبوه ونهب رحل حاجب السلطان الذي معه الخلع فذهبت في النهب وتحيز الديلم كلهم مع بورريش إلا روزبهان ونفراً قليلاً معه فإنهم اختاروا طاعة سبكتكين على طاعة بورريش ومرّ بورريش هائماً على وجهه ورجع عنه الديلم إلى سبكتكين فقبلهم سبكتكين وبسط عذرهم ولم يسيء إلى أحد منهم. وأمر العرب بطلب بورريش فلم يكن بأسرع من أن يوافي به إبراهيم بن المطوق المعروف بابن البارد أسيراً مسلوباً فأقيم بين يدي سبكتكين فخاطبه بما يجري مجرى التشفي وأسمعه القبيح ثم أمر بتقييده ورحل إلى همذان واستأنف تجديد الخلع التي انتهيت حتى أقام العوض عنها ثم تمم المسير إلى حضرة ركن الدولة فوجده نازلاً بباب الري فسلم بورريش إليه فكان آخر العهد به. ولبس الخلع فبرز فيها للناس وقرئ عهده على خراسان بمشهد من القضاة والقواد ووجوه الناس ووافاه المدد من شيراز واستدعى محمد بن عبد الرزاق من الدامغان لمناجزة المرزبان فإنه كان أهم وأولى بالابتداء فلما واقعه ظفر به وأخذ أسيراً كما حكينا في أخباره .
وفيها انحدر أبو جعفر الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين وكان هذا الرجل من أهل الجامدة وجنى جناية فهرب إلى البطيحة من سلطان الناحية فأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده من السمك قوتاً ثم اضطر إلى معارضة من يسلك البطيحة متلصصاً وعرف خبره جماعة من صيادي السمك فاجتمعوا إليه مع جماعة من المتلصصة هناك حتى حمي جانبه من السلطان فلما أشفق من أن يقصد استأمن إلى البريدي فقلده أبو القاسم الجامدة للحماية والأهواز التي في البطائح فما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوي فغلب على تلك
النواحي .
وفيها ورد الخبر بأن ابن قراتكين غلام صاحب خراسان انصرف إلى نيسابور وتفرقت جموعه عنه وبقي وشمكير بطبرستان فسار إليه ركن الدولة يريده فلما قرب منه انصرف بغير حرب وعارضه علي بن سرخاب أحد قواد ركن الدولة فأوقع بسواده واستأمن أكثر أصحاب وشمكير إلى ركن الدولة ودخل ركن الدولة آمل .
وفيها أوقع الصيمري بعمران بن شاهين دفعة بعد دفعة واستأسر أهله وعياله وهرب عمران بن شاهين واستتر . ثم ورد الخبر بموت عماد الدولة علي بن بويه
ص: 292
فاضطرب الجيش هناك وكتب معز الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها فترك الصيمري ما كان فيه من طلب عمران بن شاهين وبادر إلى شيراز . ووافي ركن الدولة إلى شيراز واجتمعا على تقرر الأمور وضبط البلد وإصلاح أمر الجيش فلما استقام الأمر وصلح البلد سلماه إلى الأمير أبي شجاع فناخسره بن ركن الدولة وانصرفا عنه.
وكانت علة عماد الدولة التي مات فيها قرحة في كلاه طالت به ونهکت جسمه ولما مات نفذت كُتب الخليفة بأنه قد نصب أخاه الأمير ركن الدولة مكانه وجعله أمير الأمراء . وتغيرت نيَّة الأمير معز الدولة على أبي الحسن المافروخي وقبض على أبي محمد علي بن عبد العزيز ابن عمه بالبصرة ثم على أبي الحسن بعده لما عجزا عن ضمان البصرة والأسافل فإن أمرها كان مشتركاً وكتب إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز بأن يُنفذ إليه أبو الفضل العباس بن فسانجس فأنفذه وقلده الدواوين التي كانت إلى أبي الحسن المافروخي ويسألها منه قبل أن يستكتب الأمير معز الدولة أبا محمد المُهلبي بأسبوع ثم حاول أن يُدخل يده في ديوان السواد ليجري في ديوانه فمنعه أبو محمد المهلبي واحتجَّ عليه بأن هذا الديوان كان يجري في ديوان الصيمري ثم حاول أن يُدخل يده في ديوان النفقات وكان يتولاه أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وفي ديوان الجيش وكان إلى سهل بن برديشت وفي حساب الخزانة الذي يتولاه أبو علي الحسن بن إبراهيم الشيرازي فمنعه معز الدولة من ذلك لخصوص هذه الطائفة به وسكونه إليها .
وفيها ورد الخبر بأن كوركير وينال كوشه قتلا الموكلين بقلعة رامهرمز وكسرا قيودهما وخرج ينال كوشة وهرب فلقيه الأكراد ومانعهم فقتلوه ولم يخرج كوركير ولا فتح اللشكري ولا أرسلان كور ولا أصفهدوست وكتب معز الدولة إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز أن يبادر إلى القلعة وحفظها فبادر وكان أصفهدوست عليلاً من قولنج فمات بها ولما بعد الصيمري عن عمران وشغل بهذه الأسباب بعد أن لم يبق في أمره شيءٌ تنفس وخرج من استتاره وعاد إلى أمره وجمع إليه من كان تفرق عنه من رجاله وقوي أمره.
وفي هذه السنة أحس علي بن بويه عماد الدولة بالموت لمخالفة العلل إياه وخاف لِبُعد أخيه عنه وكثرة من في جملته من كبار الديلم أن يطمع في مملكته بعده فاستدعى فناخسره بن ركن الدولة من أبيه ليرشّحه للأمر بعده ويأنس به القواد والجيش ففعل ذلك وسار فناخسره بن ركن الدولة إلى شيراز وضم عسكره إليه أبوه حاشيته الثقات ولما قرب من شيراز تلقاه عماد الدولة في جمع وأجلسه في داره على السرير وأمر الناس بالسلام عليه
ووقف بحضرته لئلا يمتنع أحدٌ فكان يوماً عظيماً مشهوداً ثم عهد إليه بعد ذلك ومات .
ص: 293
كان عماد الدولة يتهم جماعة من أكابر قواده ويعرفهم بطلب الرياسة لأنفسهم وكانوا يرون أنفسهم أكرم منه منصباً وأحق بالولاية فنظّف عسكره منهم وقبض على جماعة. فكان ممن قبض عليه شيرنجين بن جليس فخوطب فيه وتشفّع فيه وجوه حاشيته وثقات أصحابه فقال لهم : إني أحدثكم عنه بحديث فإن رأيتم بعد استماعه إن أطلقه فعلت . ثم ابتدأ يُحدّثهم أنه كان بخراسان في خدمة نصر بن أحمد قال : ونحن يومئذ في شرذمة من الديلم وكان يجلس نصر بن أحمد للسلام في كل أسبوع مرتين فجلس ذات يوم وحواليه من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر آلاف غلام سوى سائر العسكر فرأيت شيرنجين هذا قد جرد دشنيا واشتمل عليه بكسائه فقلت له: ما هذا؟ قال : أريد أن أصنع اليوم ما أذكر به آخر الدهر . قلتُ وما هو ؟ قال : ادنو كأني متظلم أو طالب حاجةٍ فأقبل الأرض ولا أزال أدنو حتى إذا وثقت بالوصول إلى هذا الغلام (يعني نصر بن أحمد) فتكتُ به ثم لا أبالي أن أقتل بعده وقد أنفت من القيام بين يدي صبي(وكان لنصر بن أحمد يومئذٍ عشرون سنة وقد خرجت لحيته) فعلمت أنه إن فعل لم يُقتل وحده حتى نُقتل كلنا معه معاشر الديلم فأخذت بيده وقلت له: بيني وبينك حديث. وجمعت عليه الديلم وحدثتهم بما هم به وما يجيء علينا كلنا إن تم له ما يُريد فقبضوا على يده وأخذوا منه الدشنى. أفتريدون من بعد أن سمعتم رأيه في نصر بن أحمد إن أمكنه من الوقوف بين يدي هذا الصبي؟ فأمسكوا ؟ فأمسكوا عنه وقالوا : الأمير أعلم بجيشه. ولم يزل محبوساً حتى توفي في محبسه .
وفي هذه السنة قلّد أبو السائب عتبة بن عبيد الله قضا القضاة.
وفيها ورد الخبر بدخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الري وانصراف من كان بها من أصحاب ركن الدولة وكان ركن الدولة بطبرستان واستولى أصحاب ابن قراتكين على الجبل كله .
وفيها مات أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري في حمى حادة بالبزبوني من الجامدة لما عاد لمحاربة عمران بن شاهين.
وفيها استكتب معز الدولة أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي ولما ورد الخبر بموت أبي جعفر الصيمري أرجف لجماعة بأن الأمير معز الدولة يستكتبه فمنهم أبو علي الطبري ومنهم أبو علي الحسن بن هارون ومنهم أبو محمد المهلبي واجتمع أبو محمد المهلبي وأبو علي الحسن بن هارون فتحالفا على أن من صح له الأمر منهما كان لصاحبه
ص: 294
على مودة ومشاركة وسعى أبو علي الطبري وكان رجلاً أمياً في أول أمره نحاساً يبيع الرقيق فخطب كتبة الأمير أبي الحسين مكان أبي جعفر الصيمري وبذل مالاً فأطمعه معز الدولة فيما قدر وتقدّم إليه بحمل المال فحمل إلى الخزانة مالاً فلما صح المال عدل عنه إلى أبي محمد المهلبي فقلده كتابته وتدبير أعمال الخراج وجباية الأموال وخلع عليه لذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى. وزوج أبو محمد المهلبي ابنته من أبي علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب واستخلفه بالحضرة وانحدر إلى الأهواز .
سبب ذلك أنه وجده جامعاً لأدوات الرياسة وكان لا يجمعها غيره وإن كان فيهم من هو أرجح كتابة وأيضاً فقد أنِسَ به على طول الزمان وأنه خلف الصيمري على الوزارة فعرف غوامض الأمور وأسرار المملكة وكان الباقون لا يعرفون ذلك ولا يخرج إليهم ولا يوثق بهم فيها. وكان مع ذلك حسن الأنباء عن نفسه فصيحاً مهيباً متوصلاً إلى إثارة الأموال عارفاً برسوم الوزارة القديمة سخياً شجاعاً أديباً يفصح بالفارسية فتلافي أكثر ما دارس من رسوم الكتابة واستدرك كثيراً من العمارات وأثار وجوه الأموال من مواضعها فحسنت آثاره وتوفر مع ذلك على أهل الأدب والعلوم فأحيا ما كان درس ومات من ذكرهم ونوَّه بهم ورغب الناس بذلك في معاودة ما أهمل منها. ثم خرج إلى الأهواز فجمع أموالاً كان قد طمع فيها العمال من بقايا وزيادات زادها في العقود عليهم ومن مؤامرات ناظر عليها العمال والضمناء فألزمهم أموالها فاتصلت حموله وظهر فضله على من تقدمه. ثم انتقل من الأهواز إلى البصرة فكان أثره فيها أوفر وإثارته للأموال منها أكثر كما سنذكر بعضه.
وفي هذه السنة ورد الخبر بأن سيف الدولة غزا وأوغل في بلاد الروم وفتح حصوناً كثيرة من حصون الروم وسبى عدداً فلما أراد الخروج من بلد الروم أخذ الروم عليه الدرب الذي أراد الخروج منه فتلف كل من كان معه من المسلمين أسراً وقتلاً وارتجع السبي الذي كان سباه وأخذ سواده وكُراعه وخزائنه وأمواله وسلاحه وغنم الروم منه غنيمة لم يروا مثلها وأفلت في عدد يسير .
وفيها خرج الحاجب سبكتكين إلى همذان مدداً لركن الدولة فلما دخل قرميسين أسر من كان بها من أصحاب ابن قراتكين .
وفيها رد القرامطة الحجر الأسود إلى موضعه من البيت الحرام بمكة وكان أخذه
ص: 295
أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي من البيت الحرام وكان بجكم بذل في رده خمسين ألف دينار فلم يرُدّ وقيل: إنَّا أخذناه بأمر وإذا ورد الأمر برده رددناه فلما كان في ذي القعدة من هذه السنة كتب إخوة أبي طاهر كتاباً يذكرون فيه أنهم ردوا الحجر بأمر ممن أخذوه بأمره ليتم مناسك الناس وحجهم. وكان الذي جاء به أبو محمد بن سنبر ثم سار به إلى مكة ورده إلى موضعه .
قد كان معز الدولة لما فتح البصرة ودخلها تظلم إليه الرعية من سوء ء معاملات البريديين فعرف أكثرها وذلك أن أبا يوسف البريدي خاصة تفرّد بالنظر في أعمال البصرة وجباية أموالها فرسم لأبي الحسن بن أسد الكاتب أن يُطالب ملاك الأرضين التي يؤخذ منها حقُّ العشر (وتعرف بصدقات أراضي العرب) بالبصرة عن كل جريب من الحنطة والشعير عشرين درهماً وإنما فعل ذلك بسبب زيادة الأسعار بالبصرة وأن الكُر بالمعدّل من الحنطة بلغ بها مائتي دينار ولم يُستعمل ذلك إلا على تدريج . فلما قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف أقرّ ابن أسد على العمل وأجرى الناس على ذلك الرسم. وكانت العمارة تنقص في كل سنة لأجل جور البريديين وعُمَّالهم وهم يُطالبون بالعبرة فنقص مال العبرة عن جربان العمارة فزاد ذلك ما يلزم كل جريب في السنة على ما كان يلزمه في السنة التي قبلها. وكان قد قحط أهل البصرة بالمحاصرات التي لحقتهم فالزموا أن يزرعوا تحت النخل حنطة وشعيراً فلما فعلوا الزموا عن كل جريب أربعين درهماً فقصروا في العمارة فجعل ما كان يرتفع عبرة عليهم واستوفى من ملاك أرض العشر فتهارب الناس فزاد ذلك على من بقي . فلما تقلد أبو محمد المهلبي وزارة معز الدولة ودخل البصرة وتظلم إليه أهل البصرة من العبر التي جعلت عليهم في أرضي الحنطة والشعير فوعدهم بكل ما أنسوا به . ثم قرر أمرهم على أن يردّوا إلى رسمهم القديم في أخذ العُشر حبا بعينه من غير تربيع ولا تسعير ونظر فيما بين ذلك وبين ما يؤخذ منهم على تقريب فأشار على أرباب العُشر أن يبتاعوا فضل ما بين المعاملة على الظلم والمعاملة على الإنصاف بثمن يرغب فيه معز الدولة عاجلاً فيسهل عليه ما ينحط من الارتفاع مع ما يتعجل له من المال ثم يضاف إلى ذلك ما يثمره العدل وموقعه من قلوب الناس مع الرجاء في المستقبل لزيادة الارتفاع. فاستجابوا وتقرر الأمر بينهم على ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم وكتب لهم بذلك وثيقة ثم حط من الجميع عن الضعفي مائتي ألف درهم وكتب إلى معز الدولة بأن في ذلك حظاً عاجلاً وصلاحاً ووفوراً في ارتفاع الناحية في المستقبل فحسن موقع فعله من معز
ص: 296
الدولة فأمضاه. وحضر البصريون فاشهدوا على المطيع لله بالبيع وسجلوا بالابتياع ونسب المبتاع إلى فضل ما بين المعاملتين في العبر فعمر الناس وتضاعف الارتفاع للسلطان وزال عن البصرة تلك الرسوم وصار يرتفع عن المراكب ما يعدل ألفي ألف درهم فكان هذا من الآثار الجميلة لأبي محمد المهلبي.
وفي هذه السنة ورد الخبر بشغب جرى في عسكر الحاجب سبكتكين وأن القرامطة انصرفوا عنه مع الأتراك بعد أن أوقع بهم ركن الدولة.
ذكر السبب في ذلك
كان الاجتهاد شديداً في استصلاحهم لأنهم كانوا بإزاء حرب فلما تعذر قال ركن الدولة : هؤلاء أعداء معنا في عسكرنا وهم أشد علينا من أعدائنا الذين بإزائنا والوجه أن نحاربهم ونطردهم فحاربهم وهزمهم فأما العرب فصاروا إلى معز الدولة وأما الأتراك فمضوا إلى الموصل ولما سار ركن الدولة إلى همذان ارتحل ابن قراتكين من الري إلى أصبهان.
وفي هذه السنة واقع أبو محمد المهلبي عمران بن شاهين ومع أبي محمد المهلبي روزبهان فكانت على المهلبي وروزبهان واستؤسر أكثر قوادهما وقتل أبو الفتح بن أبي طاهر بعد أن استظهر المهلبي واستعلى .
كان السبب في ذلك أن معز الدولة كان عول على روزبهان في محاربة عمران فبنى آلات الماء وأثبت الرجال واحتشد فطاوله عمران وتحصن في مكامنه من البطائح فضجر روزبهان وأقدم عليه طلباً لمناجزته فاستظهر عليه عمران وهزمه وهزم أصحابه وغنم جميع آلاته وسلاحه فقوي بها وتضاعف طمعه في السلطان وضري أصحابه على جند السلطان واستخفوا بهم فكان بعد ذلك إذا اجتاز بهم الحجاب الكبار المحتشمون والقوَّاد والأمراء من الديلم والأتراك سفهوا عليهم وطالبوهم بحق المرصد والبذرقة فإن تأبى عليهم أحد تناولوه بالشتم القبيح والضرب المهين وكان الجند لا يستغنون عن الاجتياز بهم لحاجتهم إلى ضياعهم ومعاملاتهم بالبصرة والأهواز ثم انقطع طريق البصرة إلا على الظهر فشغل ذلك قلب معز الدولة وكثر بكاء الأمراء والحجاب والقواد بين يديه بما يجري عليهم من الهوان في اجتيازاتهم فكتب إلى الوزير المهلبي بالإصعاد إلى واسط لتلافي الحادثة والتجرد لطلب عمران ومعاودته الحرب وجرد إليه عسكراً جراراً فيه ابن أبي طاهر ووجوه قواده وغلمانه وحمل إليه سلاحاً كثيراً وأطلق يده في إنفاق الأموال فزحف إلى عمران وسد عليه مذاهبه وانتهى إلى مضيق في البطيحة شعب لا
ص: 297
يعرف مسالكها إلا عمران وأصحابه. فأحب روزبهان أن يلحق المهلبي مثل ما لحقه من الهزيمة ولا يستبد بالظفر فأشار عليه بالاقتحام والهجوم وتوثق المهلبي وأراد سد تلك المضايق فأخذ روزبهان في التضريب عليه وعارضه في كل ما دبره ومنعه من هذا الاستظهار وسد الشعب وكتب إلى معز الدولة يستعجزه ويذكر أنه إنما يحجم ويجنح إلى المطاولة ليحتسب بالأموال في النفقات ولم يزل بذلك وشبهه إلى أن وردت كتب معز الدولة بالاستبطاء فترك المهلبي الحزم وركب الخطا وعدل عما يدبره كله ودخل بجميع عسكره هاجماً على عمران وتأخر روزبهان ليصير أول الخارجين عند الهزيمة وقد كمَّن عمران كمناءه في تلك المعترضات وشحنها بالآلات الموافقة لتلك المضايق فخرجوا على العساكر وهم متزاحمون متضايقون في طريق الماء لا يعرفونها فوضعوا فيهم الحراب فقتلوا وأسروا وانصرف روزبهان موفوراً ونجا الوزير المهلبي سباحة وحصل القواد والوجوه في الأسر. فاضطربت الحال إلى مصالحة عمران فقوي واستفحل أمره وأجيب إلى كل ما اقترح .
وقد كنا ذكرنا ورود الخبر بمسير السلار المرزبان إلى الري ووعدنا هناك باستقصاء خبره والآن حين نبدأ بذلك .
كان المرزبان أنفذ رسولاً إلى معز الدولة في أمور حمله إياها فورد مدينة السلام وقد رحل عنها إلى البصرة فافتتحها وأقام هذا الرسول منتظراً له إلى أن عاد فأدى إليه الرسالة وكان فيها ما غاظه فتقدم بحلق لحيته ففعل وأسمع نهاية ما كره وانصرف على هذه الحال. فحكى للمرزبان ما جرى عليه فامتعض وأخذ في جمع الرجال والاستعداد ورأى أن يبتدئ بالري فراسل ناصر الدولة سراً يبذل له المعاونة بنفسه وأولاده ورجاله وماله وأشار عليه بأن يبتدئ بقصد بغداد فخالفه وأجابه بجميل وأعلمه أنه يرى الصواب في الابتداء بالري فإن تم له ما يريد طلب بعد ذلك بغداد وغيرها. وكان استأمن إليه من قواد الري علي بن جوانقوله فعرفه نية القواد الذين وراءه بالري وأنهم على المصير إليه فزاده ذلك طمعاً واستدعى أباه محمد بن مسافر وأخاه أبا منصور وهسوذان فلما وافاه أبوه تلقاه وقبل الأرض بين يديه وأجلسه في صدر الدست ووقف بحضرته وامتنع من الجلوس حتى حلف عليه أبوه دفعات كثيرة فجلس وامتنع وهسوذان من الجلوس فلما جنَّ الليل خلوا جميعاً وتفاوضوا فلما عرف أبوه صحة عزمه في قصد الري فئأ عزمه
ص: 298
وعرفه أحوالاً توجب الامتناع من قصدها فأبى عليه وقال : قد وردت علي كتب وأكثر القواد هناك مستعدون للانحياز إلي. فلما كان وقت الوداع بكى أبوه وقال يا مرزبان أين أطلبك بعد يومي هذا. فقال مجيباً له : أما في دار الإمارة بالري وأما بين القتلى.
وقد كان ركن الدولة حين عرف خبره كتب يستمد من أخويه عماد الدولة ومعز الدولة وخشي أن يعاجله المرزبان قبل ورود المدد فكتب إليه على سبيل المكر والخديعة يعظمه ويستخذي له ويسأله أن ينصرف عنه على شريطة أن يفرج له عن أبهر وزنجان و قزوين ولم تزل الرسائل تتردد بينهما إلى أن ورد حضرة ركن الدولة بارس الحاجب في ألفي رجل من جيش عماد الدولة وورد سبكتكين الحاجب في ألفي رجل من جيش معز الدولة وكان قد صار إليه محمد بن عبد الرزاق مستأمناً من عسكر خراسان ومحمد بن ماكان مدداً من جهة الحسن بن الفيروزان فلما تناهی استظهاره قبض على جماعة من قواده الذين شك فيهم واتهمهم بمكاتبة المرزبان وسار إلى قزوين في جميع هذه الجيوش. فعلم المرزبان أنه لا طاقة له به ولكنه أنف من الرجوع فعمل على محاربته وكان مع المرزبان يومئذ خمسة آلاف من الديلم والجيل والأكراد فحملت ميمنة ركن الدولة وميسرته على ميمنة المرزبان وميسرته فانهزمتا جميعاً وثبت هو في القلب إلى أن قتل بين يديه حموه بلى وونداسفحان بن ميشكي وأسر علي بن ميشكي المعروف ببلط ومحمد بن إبراهيم وعدة من أكابر قواده وأحاطت الرجال به فأسر وحمله ركن الدولة إلى الري ومنها إلى أصبهان وحمل من أصبهان إلى قلعة سميرم .
فلما انفصل من الري مع جماعة من قواد ركن الدولة وخواصه وكانوا مضمومين إلى الأستاذ الرئيس حقاً أعني أبا الفضل بن العميد رحمه الله وكان هو المتولي حفظه والاستظهار عليه إلى أن يحصل في القلعة .
حدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل قال : لما كنا بين الري وأصبهان تحقق عندي مراسلة الديلم إياه واجتماعهم على أن يأخذوه قهراً ويحلوا قيوده ويفتكوا بي وظهر ذلك حتى كادت المكاشفة تقع . فلما خفت فوت التدبير سايرته وهو في عمارية وحادثته وهو ينتظر في ذلك اليوم أن يتم له ما يريد وجعلت أقاربه وألين له فأظهر التوجع والتألم مما حصل فيه فلما أطمعته في نفسي وكان لا يطمع في ذلك من قبل أمال إليَّ رأسه وقال : أنت مقبل فإن كنت صادقاً فابدأ بحل قيودي وعلي لك كيت وكيت.وضمن الضمانات التي تبذل في مثل ذلك الوقت قال : فأوهمته أني لا أعرف شيئاً من مواطأة الديلم له وقلت :
ص: 299
أخشى ألا يساعدني من معي على ذلك . فقال : غفر الله لك أنت لا تعرف الصورة جميع من معك قد عملوا على فك قيودي والفتك بك وأنا أريد ذلك الساعة إن شئت . فقلت : يكفيني أن أثق بذلك ثم أنا أول عبد خدمك وناصحك وتابعك حتى يتم لك ما تريده .
وحدثته بأشياء أنكرتها من صاحبي وحقود في قلبي عليه فاستدعى واحداً بعد واحد من القواد الذين كانوا معي وأسر إليهم أني معه وموال له ووصل حديثه معهم بأن أدخلني معهم في التدبير فأظهرت سروراً شديداً بذلك وتواعدنا النزول في المنزل القريب وإتمام التدبير.
فلما نزلنا وضربت خيمتنا وخركاهاتنا وحصل في موضعه راسلني وأخلاني بنفسه ثم قال : ابعث إلى فلان وفلان ( يعني جماعة ممن يثق بهم) حتى يحضروا . فقلت : أيها السلار إن ههنا تدبيراً يجب أن تسمعه فإن وقع بوفاقك وإلا فما تأمر به ممتثل . فقال : وما هو . فقلت : إن حرم ركن الدولة وأولاده وخزائنه كلها بأصبهان وأنا وزيره وثقته والمتولي للجميع فلو امتددنا على صورتنا هذه حتى لانتهم لتمكنت من القبض على الجميع وحصلنا في مدينة عامرة نتمكن فيها من التدبير ومع ذلك فإن حرم جميع القواد بأصبهان وكذلك أولادهم فإذا قبضنا عليهم لم يبق في واحد منهم فضل لمحاربتك واستسلم الجميع لك وانهد جانب ركن الدولة انهداداً لا انجبار له وتمكنا أيضاً من قلاعه وذخائره وأخرجناها ولم يكن له بقية وإن نحن عاجلنا الأمر وخرجنا من هذا المكان طلبنا الخيول وأحدقت بنا ولم نأمن مع ذلك تقرب بعض من هو الآن معنا إلى تلك الجنبة ونحن في عدة يسيرة وحوالينا أصحابه ورجاله ولا نثق بالسلامة إلى المأمن . قال : فرأيته قد تهلل وجهه ولم يملك نفسه لما استخفه من السرور وقال : ليس الرأي إلا ما رأيت قلت: فإني منصرف عنك فراسل أنت كل من واطأك على رأيك الأول بما حدث لك من الرأي . قال : نعم . وقمت عنه وليس عنده شك في حصول الملك له بمواطأتي وأنه قد أقبل جده وتمت سعادته بتمام تدبيري وشاع في أصحابه ومن كان واطأه أنا في تدبير فسكنوا بعد أن كانوا هموا بما هموا به وسرت آمناً حتى حصلت بأصبهان فلما تمكنت من الرجال والتدبير بدأت بالقبض على أولئك القواد واستظهرت على المرزبان بثقاتى حتى حصلته في القلعة بقيوده.
اجتمع من أفلت من عسكره وقواده وفيهم جستان بن ثيرمزن وعلي بن الفضل وشهفيروز بن كردويه وجماعة من الرؤساء مع ألفي رجل من الفلّ إلى الشيخ محمد بن مسافر فعقدوا له الرئاسة عليهم وصاروا إلى أردبيل فملك آذربيجان وهرب ابنه وهسودان منه وتحصن في قلعته بالطرم لما كان يعرفه من حقده وسوء رعايته. فلم تأت الأيام على محمد بن مسافر حتى تجبر وعاد إلى أسوأ أخلاقه مع الديلم فاجتمع الديلم على الوثوب به فشغبوا وهموا بقتله فالتجأ بالضرورة إلى ابنه وهسوذان وعنده أنه يعصمه فقبض عليه
ص: 300
وحبسهُ في قلعة شيسجان التي كان فيها وضيق عليه فلم تنبسط له يدٌ ولا نفذ له أمر حتى توفي وكانت وفاته قبل خلاص ابنه المرزبان من قلعة سميرم . وقلد ركن الدولة محمد بن عبد الرزاق أعمال آذربیجان بعد أسر المرزبان وأنفذه إليه فتحير وهسوذان في أمره واضطرّ إلى إخراج ديسم بن إبراهيم من القلعة لطاعة الأكراد إياه ولرياسته القديمة على آذربيجان فأطلقه وخلعه عليه وقوّاهُ ومكنه ووافقه على جمع أكراد آذربيجان ومن يطيعه من غيرهم ويقصد محمد بن عبد الرزاق. وكان الديلم بعد محمد بن مسافر اجتمعوا إلى علي بن الفضل ورأسوه فتوسط وهسوذان بينهما حتى أطاعه علي بن الفضل وتم أمره وسار ديسم إلى أردبيل واستكتب أحمد بن عبد الله بن محمود وورد ابن عبد الرزاق فانحاز عنه إلى ورثان من نواحي برذعة ليستخرج الأموال وترد عليه عساكر الأكراد.
كان بنواحي خوَي وسلماس كاتب نصراني يعرف بابن الصقر من جهة المرزبان قبل أسره فلما بلغه خبر ديسم صار إليه وحمل إليه ما كان جباه فحسن موقعه من ديسم فأكرمه وبالغ في إكرامه حتى صار يخلو به ویشاوره فاستوحش وزيره ابن محمود واتقاه . فلما استعد للقاء ابن عبد الرزاق سلم إلى ابن محمود خزائنه ونقله وأمره بالمصير إلى جبال موقان للتحصن بها استظهاراً إلى أن ينكشف الأمر فتسلم ابن محمود ذلك كله وعدل إلى أردبيل وأرسل ابن عبد الرزاق بأنه صائر إليه وسأله أن يستقبله بطائفة من عسكره ففعل ذلك ووقع ذلك من ابن عبد الرزاق أحسن موقع. وفتّ في عضد ديسم وبلغه ذلك یوم القتال فضعفت نفسه واضطرب رأيه وتبين ذلك منه أصحابه فاضطربوا واستظهر عليه ابن عبد الرزاق فهزمه
وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك في المحرم من هذه السنة.
قال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب : أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصل يجري عندي خبره مجرى ما عاينته وذلك أن مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد رضي الله عنه خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبره وما اتفق له فيها فلم يكن أخباره لي دون مشاهدتي في الثقة به والسكون إلى صدقه ومثل أبي محمد المهلبي رحمه الله خبرني بأكثر ما جرى في أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة. وحدثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما
ص: 301
شاهدته وجربته بنفسي فسأحكيه أيضاً بمشيئة الله .
فحدثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن العميد رضي الله عنه عن هذه الوقعة وأنا أحكي أولاً السبب في ورود ابن قراتكين.
كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس فلما بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أن فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الري فاستخلف بها علي بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكل حدث نفسه بأمر. وكتب ركن الدولة إلى معز الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبي جعفر الصيمري وهو يومئذٍ مُنازل لعمران بن شاهين بالبطائح بأن يُخلي ما هو بسبيله ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحُسن موقع ذلك من ركن الدولة. فلما وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب اصطخر فمشي حافياً حاسراً ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر. وأنفذ نصيباً من تركة عماد الدولة إلى أخيه معز الدولة وكان في جملتها مائة وسبعون غلاماً ومائة وقر من السلاح ثم ما يجري مجرى ذلك من الثياب والآلات واقتطع من أعمال فارس أرجان وهي كورة من كوّر فارس إلى أعماله وخلف وزيره هناك وانقلب إلى الري . وحدّت أطماعُ من ذكرت وامتدت إلى الري والجبل وأصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الري ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن علي بن كامه قد انحاز إلى أصبهان وتفرق قوّاد عسكر ابن قراتكين في ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام وفي كل بلد من بلدان الجبل مثله. وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معز الدولة وهو بعد بفارس يستدعي من يدفع معرّات هؤلاء فأمده بشبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونية وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة 339 فدبَّر سبكتكين تدبيراً جيداً.
رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسري إلى قرميسين وكان فيها قائد من قواد الأتراك الخراسانية يقال له بحكم الخمارتكيني
ص: 302
وكان ينال قام أنفذهُ إلى همذان والياً عليها فكبسه سبكتكين وهو في الحمام وأخذه أسيراً وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معز الدولة فاعتقله مدة طويلة ثم أطلقه . ولما بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بحكم هذا فارقوا مراكزهم واجتمعوا إلى ينال قام بهمدان فلما سار سبكتكين نحوهم ساروا من همدان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظراً ركن الدولة وذاك أن كُتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنه يسير من فارس على طريق الجبل ثم تأخر انتظاراً لانحسار الثلوج ثم ورد همذان وتقدم إلى سبكتكين بالمسير على مقدمه . فشعب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجر بالمقام الطويل فتوسط الأستاذ الرئيس أبو الفضل رحمه الله بينهم وداراهم وسكنهم فسكنوا في الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتهموا فسمعت أبا الفضل بن العميد رحمه الله يقول : إني قلتُ للأمير ركن الدولة : هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتفق الرأي بيننا أن نُسكنهم فإن سكنوا وإلا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلما عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين وسبق خبرهم إلى معز الدولة فكتب إلى ابن أبي الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين في أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا فأما الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأما الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيئة .
وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرُّف خبر ابن قراتكين إلى أن صح عنده مسیر قراتكين من الري نحو همذان فبثَّ جواسيسه وطلائعه لتعرُّف خبره فأتاه الخبر بأنه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّي إلى أصبهان فسار ركن الدولة في أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان فعاث بها عيثاً كثيراً مدة ما أقام ثم عرف قُرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من أصبهان فنزل منها على زرين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره. وقد قطعوا المفازة ومسهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان ليلزم سمت قری زرین رود ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضاً له لئلا يملك عليه ظهره فالتقيا في الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرین رود ولكنه يُخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس العبور وذاك أن الفصل كان ضيقاً. فدامت الحرب بينهما سبعة أيام واشتدت في اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين في اليوم السابع .
وعاد الحديث إلى حكاية أبي الفضل بن العميد رضي الله عنه عن هذه الوقعة حكى أنه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الإضاقة وعوز الميزة والعلوفات وتعذر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكن أحد من اطلاع رأسه عن المعسكر وانقطعت عنا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا
ص: 303
ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه في رأس الوعاء وأسفله كله تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجري هذا المجرى كثيرة قال : فكنا ننحر الجمل أو الدابة فنتوزع لحمه بين عدد كبير ونتبلغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدة في الحرب وكان أعداؤنا الأتراك في مثل حالنا إلا أنهم لا يصبرون كما نصبر ولا يقنعون بما نقنع فإذا ذبحنا نحن جزوراً ذبحوا أضعافاً كثيرة ثم إن أصحابنا يعودون إلى نشاطهم في الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه في الحرب إلى أن ملوا وأصبحنا يوماً وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدقنا به حتى عبر عنا جماعة وتلاهم العسكر أولاً أولاً وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلا هزيمة وذهبوا على وجوههم .
حكى الأستاذ أبو الفضل بن العميد نضر الله وجهه أن ركن الدولة دعاه في اليوم السابع وقد نفذ صبره وصبر أصحابه وشكا إلى شدة الأمر وصعوبته عليه وكأنه يفكر في حيلة للانهزام وإن كانت متعذرة عليه فقلت : أيها الأمير إنك كنت منذ أسبوع مالك أكثر تملك سریرالخليفة فينفذ أمرك في أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك في سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضاً تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجملاً ويطيعك تهيباً وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء ليغصبوا عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلا إلى الله عزّ وجلّ فأخلص نيتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحتها وانو للمسلمين خيراً ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفي به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلي إلى من تلي عليه فإن الحيل البشرية كلها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلا هذا الذي نصحتك به. قال فتبسم وقال : يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به .
وجرى في هذا الباب ما يجري مثله من الندور وصدق النية . وبتنا تلك الليلة على حالنا فلما كان في الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قوي النفس بخلاف ما عهدته وقال : يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتي وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريباً غير بعيد قلت وما ذاك قال: رأيت كأني على دابتي المعروف بفيروز وقد انهزم عدونا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لي نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب فبينا نحن في هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتماً يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب
ص: 304
فقلت للركابي الذي بين يدي يا غلام هات ذاك الخاتم فتطأطأ ورفعه إليّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته في أصبعي السبابة وتبركت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر (وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عُرب وكذلك لقب دابته الذي رآه فيروز) . قال أبو الفضل بن العميد رحمه الله : فوالله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأن العدو قد رحل فما صدقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجبين لا نعرف سبب هزيمته حتى عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمد ركوب دابته فيروز ليصدق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه «يا غلام ناولني ذلك الخاتم»فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج فأخذه ولبسه في سبابته والتفت إلي وقال : هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدثتك بحديثه منذ ساعة . فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدثه وجلالة قدر من حكاه لي وبعده عن التزيد لما سطرته في كتابي هذا .
وفيها تم الصلح بين معز الدولة وبين عمران بن شاهين وقلده معز الدولة البطائح وأطلق إخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القواد وغيرهم.
فأما ابن قراتكين فإنه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الري ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنه كان شرب أياماً متوالية بلياليها فأصبح يوماً ميتاً وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة .
وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبي محمد المهلبي وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدة من مراكبه ودخل أبو محمد المهلبي بغداد ومعه المراكب والأسارى.
وفيها ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها.
وفيها ضرب الأمير معز الدولة أبا محمد المهلبي بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقره على كتابته .
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أن أبا محمد المهلبي لما خرج إلى عمان وأنفق في ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكر له معز الدولة وهم بالقبض عليه فلما حدث بالري ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عما في نفسه منه. وكان ورد أبو العباس الحناط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة إلى مكاتبة الوزير المهلبي وهو بواسط قد وافاها منهزماً وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم
ص: 305
ألف ألف درهم إلى أبي العباس الحناط من القلعة ورد العوض مما يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرب الجيوش إلى الأهواز على طريق أصبهان إلى الري فنفذ لذلك كله وفي نفس الأمير معز الدولة عليه ما فيها. فلما أصعد المهلبي إلى الحضرة أثر فى أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثراً كبيراً وذاك أنه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمد المهلبي إليها وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا .
كنا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معز الدولة ومن جوابه إياهم عن رسالتهم واستخفافه بهم فلما عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم في البصرة وسألهم أن يمدوه من ناحية البر فأمدوه بأخيهم أبي يعقوب في سرية قوية فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله في مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه. ووافق ذلك فراغ المهلبي من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القواد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم في الجيش والسلاح وأنفذ إليه معز الدولة مدداً من بغداد وكان المهلبي رتب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القواد مثل نشكرورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أياماً ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخف بذلك بعض ما كان في قلب معز الدولة وانجلى هم كثير كان في نفسه .
فلما قدم بغداد تلقاه معز الدولة وجاملَهُ مُديدة ثم وقف على طازان مال من ضمانه له قدر وكان سُبّب عليه للأتراك والمهمات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معز الدولة فطالب أبا محمد المهلبي وهزّ المهلبي طازان فاستسلم وأظلمت القصة فدخل المهلبي إلى معز الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من جريته في الأمر وأثار ما كان في نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألا يعود إليه إلا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيباً. وحرك بطازاذ فصحح له مالاً ونهض إلى الأمير مُعجباً له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له فلما حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة ترازح منها ثم أمر بأن يرفع عنه الضرب حتى يوبخه ويبكته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسخ وثقل وقيل له إنه كالتالف وأراد أن يرمي به إلى دجلة يرمي به إلى دجلة ثم تماسك ورده إلى منزله ووكل به وفي اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضاً وضربه وعمل على صرف المهلبي فلم يرتض خدمة أحد ممن كان بحضرته في الوقت فترجّح رأيه وصعد وصوّب فلم يقم أحد مقام أبي محمد وكان أبو محمد المهلبي شهماً قوي النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملاً
ص: 306
يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية في الممالك والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنه يقيم باستخراجه وأنه إن تمادت الأيام في التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معز الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال: هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه مني هذا المكروه العظيم ؟ فقال أبو مخلد قد ضرب مرداویج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه ورده إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حل به من الضرب فركب عمارية ونثر عليه في الطريق مال ولا يمكنه أن يستقل بالجلوس وبقي كذلك مدة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه. فعند ذلك راسله معز الدولة بالركوب إليه إذا استقل وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلبي وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره.
وكان معز الدولة حديداً سريع الغضب بذي اللسان يكثر سب وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفتري عليهم فكان يلحق المهلبي رحمه الله من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله وكنت أنادمه في الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثراً ويجلس لأنه نشيطاً مسروراً حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول في عرض كلامه : إن الأمير إذا اتصل به أنسك وقلةُ اكتراثك لغضبه وما يلحقك من شتيمته نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك في ضرره عليك فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرُّمُك وانقباضُك كان أحرى أن يقصر ويندم ولا....(1)معك وغضه منك . فقال له أبو محمد المهلبي : ما يذهب عليّ ما تقول ولكن هذا أمير خِرقٌ عجول لا يملك لسانه فإن ذهبتُ أظهرُ الاستيحاش من هذياناته وقع له إني قد تنكرت له وإني لا أناصحه وأنه يتهمني بما لا يدور في فكري فيكون سبباً لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن فإن لم يكن ذلك خوفاً من غضبه فليس إلا قلة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك .
وحدثني أبو بكر بن أبي سعيد رحمه الله أن معز الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدي افترى على المهلبي وذكر جرمه وأفحش عليه وكان المافروخي حاضراً فلما انصرفنا من عنده قال لي المافروخي : قد ساءني أن أجري هذا الفحش القبيح بحضرتي على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟( وإنما أراد ألا يتهمه بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به) فقلتُ : الإمساك في مثل هذا أولى من الكلام فأمسك أياماً لا يركب إليه إلا مع الناس وقت الأذن ثم اتفق إن دخل المافروخي وأنا معه لمهم فوجدناه واجماً مطرقاً فقال المافروخي : أرى الوزير واجماً فهل تجدّد أمر ؟ فقال : ويحك إني أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عما كان يتعاهدنا به من بره بلسانه وأخاف أن يكون
ص: 307
مشغول القلب بطارق تطرقه وأنا مفكر في ذلك. قال أبو بكر بن أبي سعيد :فلما خرجنا من عنده قال لي المافروخي: هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟ فقلت : لا .
وفيها خرج أبو مخلد وأبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة المطيع لله إلى صاحب خراسان في الصلح بينه وبين أمراء بني بويه وكتب معهما كتاب عن الخليفة .
وفيها مات أبو الفضل العباس بن فسانجس بالبصرة وقلد الديوان بعده أبو الفرج محمد ابنه وأجرى على رسم أبيه .
وفيها ليلة الجمعة للتاسع من جمادى الآخرة ولد الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن معز الدولة بطالع السنبلة .
وفيها وافى أبو سالم ديسم بن إبراهيم الكردي منهزماً من آذربيجان هزمه السلار المرزبان وهو الذي حكينا أن ركن الدولة أسره وحبسه في قلعة سمیرم فاحتال حتى فكّ قيده وقتل صاحب القلعة وخرج منها وسنحكي حيلته هذه فيما بعد. وعاد إلى آذربيجان واجتمع إليه من كان مع ديسم من الديلم وانصرف ديسم عنها وصار إلى الحضرة مستجيراً بمعزّ الدولة ومستنصراً فأكرمه معز الدولة جداً ووقع منه وأنس به وعاشره وحمل إليه مالاً وثياباً وكان يسميه في كتبه «الأخ أبو سالم».
كنا ذكرنا خبر ابن عبد الرزاق وتمكنه من آذربيجان من قبل ركن الدولة واتفق أن أوحش كاتباً له كان صحبه من خراسان واعتمد لوزارته ابن محمود لخدمته إياه بالأموال قديماً ولخبرته بالبلدان فاستوحش الكاتب وتركه إلى أن أشخصه لجباية الأموال في نواحي ديسم وضم إليه جيشاً فلما وجد الفرصة كاتب ديسماً وهرب إليه بذلك الجيش كله فنفرت نفس ابن عبد الرزاق من آذربيجان وعاد إلى الري وأخذ معه ابن محمود وسار ديسم إلى أردبيل واستأذنه الكاتب الخراساني في العود إلى بلده فأذن له وأحسن إليه بالخلع والجوائز ودبَّر أمرَهُ أبو عبد الله النعيمي وابن الصقر النصراني وتوافر إليه الديلم والأكراد فملك آذربيجان وبلادها وجبى الأموال وأعطى البلاد له باليد فتمكن من نَشَوا ودبيل وكان عليهما الفضل بن جعفر الحمداني وإبراهيم بن الضابي على سبيل التغلب فصلحت حاله وانتظمت واتفق إن مات ابن الصقر النصراني فوصل من تركته إليه مائة ألف درهم سوى ما أغضى عنه وهو شيء كثير فتفرّد النعيمي بوزارته ولم يزل
ص: 308
أمره منتظماً إلى أن شره إلى مال النعيمي وطمع فيه فقبض عليه ونصب في موضعه كاتباً له يقال له علي بن عيسى فاحتال النعيمي إلى بذل خطه بكل ما اقترحه عليه ولم يُحالفه وسلك سبيل المداراة ثم قال له : إن رددتني إلى العمل وسلمت إلي خليفتي علي بن عيسى صححتُ لك من جهته وجهتي سوى مال الموافقة ألف ألف درهم. فشرهت نفسه إلى ذلك ورده إلى موضعه وقبض على عليّ بن عيسى وسلمه إليه .
وكان المرزبان بن محمد في تلك الأيام قد ملك القلعة التي حبس فيها بسميرم وقتل الموكل به وهو شير اسفار وكان أيضاً قد أفلت علي بن ميشكي المعروف ببلكا المأسور معه من حبس ركن الدولة وصار إلى الجبل وجمع جمعاً كثيراً وكاتب الديلم الذين كانوا مع ديسم واستمالهم وسار حتى قرب من وهسودان أخي المرزبان فكانا جميعاً يدبران على ديسم. ثم وصلت كتب المرزبان إليهما بخلاصه من القلعة وكاتب سائر الديلم بآذربيجان وليس عند دیسم من الخبر كله إلا خبر علي بن ميشكي وظن أنه وحده يقاتله . فلحق بأردبيل ابن أخت له يقال له غانم مضموماً إلى وزيره النعيمي ومستوفياً عليه المال الذي ضمنه عن نفسه وعن علي بن عيسى خليفته وسار على اغترار بمن معه من الديلم فوجد النعيمي الفرصة لما كان في نفسه وأفسد غانماً على خاله ديسم وقتل علي بن عيسى بالمكروه العظيم واستأمن إلى علي بن ميشكي واحتمل معه كل ما قدر عليه من المال. وبلغ الخبر ديسماً فعاد إلى أردبيل بعد أن كان بلغ إلى زنجان وشغب الديلم عليه فأخرج كل ذخيرة له من الصياغات وغيرها وتوجه إلى برذعة على سبيل النزهة والصيد وهو يظن أن خصمه علي بن ميشكي وليس عنده خبر المرزبان. وكان أنفذ إلى أرمينية من يوطئ له نيات ملوكها من ابن الديراني وابن جاجيق وأخيه حمزة وابن سباط وغيرهم ليلجأ إليهم أن حزبه أمر وورد عليه خبر علي بن ميشكي بتوجهه إلى أردبيل مع عدة يسيرة ثقة بأن الديلم الذين مع ديسم سيستأمنون إليه فانكفاً ديسم إلى أردبيل ووقعت الحرب فقلب الديلم تراسهم في وجهه وانحازوا إلى ابن ميشكي سوى جستان بن شرمزن فإنه أخلص مودة ديسم فقبض الديلم عليه وانهزم ديسم في نفر من الأكراد إلى بلد الأرمن فحمل إليه ملوكها ما تماسك به وورد عليه خبر المرزبان هناك في مسيره عن قلعة سميرم التي كان محبوساً فيها وحصوله بأردبيل وتسلُّمه القلاع والأموال وإنفاذه علي بن ميشكي في جيش لطلب ديسم فلم يمكنه المقام فهرب إلى الموصل ثم صار إلى بغداد وذلك في سنة 342 فتلقاه معز الدولة وأكرمه ورتبه في أعلى مرتبة وقضى حقه وواصل إليه المبار والألطاف وبذل له خمسین ألف . دينار إقطاعاً في كل سنة على أن يقيم بحضرته فأقام مديدة في أطيب عيش وأرخى بال فكان يقول ذلك لكتابه وأسبابه ويقول : أرغد عيش لي وأهناه أيام مقامي ببغداد.
ص: 309
ثم كاتبه أسبابه من آذربيجان بما اغتر به فنزع إلى الإمرة والاستبداد فرحل من بغداد وزوده معز الدولة مالاً كثيراً وثياباً ودواب ومراكب فسار إلى الشام زائراً سيف الدولة في طريقه ثم انقلب من عنده إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن جاجيق لثقته كانت به وأنه كان أودعه ذخيرة له وكتب المرزبان إليه يلزمه القبض عليه فدافعه ثم اضطر إلى أن أطاعه في القبض عليه وسأله ألا يلزمه تسليمه إليه فأجابه المرزبان إلى ذلك فأوقع ابن الديراني الحيلة على ديسم حتى قبض عليه وحصله عنده فلما فعل ذلك كتب إليه المرزبان يلزمه حمله إلى حضرته ناقضاً الشرط فدافعه مدة ثم اضطر إلى تسليمه فحبسه عنده ثم سمل عينه فلما توفي المرزبان قتله بعض أسبابه خوفاً من غائلته.
لما حصل المرزبان في القلعة امتنع من الطعام والشراب خاصة اللحوم وما أشبهها واقتصر على القوت اليسير من الحنطة التي يستظهر منه أيضاً فبلغ خبره ركن الدولة فأمر أن يوصل إليه طباخه الذي يثق به ليتولى له ما كان يتولاه من المأكل والمشرب فحصل الطباخ في القلعة معه وأخذ المرزبان في تدبير الخلاص على يده وكان الطباخ خفيفاً أحمق وظهر منه ما في نفسه وعرف خبره شیر اسفار صاحب القلعة فرمى به من قبلة القلعة فهلك وضيق على المرزبان وكانت والدة المرزبان خراسويه بنت جستان بن وهسوذان الملك تبذل الأموال في تعرّف أخباره وتحتال في خلاصه وكان إبراهيم المعروف بابن الضابي (وقد تقدم ذكره) في حبس ديسم فتخلص معه ولم يجد مفزعاً الأخراسوية فقصدها ولاذ بها وضمن لها أن يتوصل إلى المرزبان فأطلقت له مالاً وأنفذته . وكانت المراغة بها رجل يعرف بتوبان يصارع ويقامر ويدخل في كل منكر فطلبه أصحاب الشرط بها فخاف وهرب من المراغة وقصد خراسويه وضمن لها السعي لها في أمر ابنها فطمعت في جلادته وأطلقت له مالاً وعرّفته خبر ابن الضابي وأنه نفذ قبله فاجتمعا ولبسا لباس التجار وأظهرا الستر والدين والورع ولزما فناء القلعة وراسلا شير اسفار وعرفاه أنهما تاجران وأنهما كانا فيما مضى يعاملان المرزبان وأنه أخذ بضائعهما وأمتعة التجار وسألاه أن يجمع بينهما وبين المرزبان ليتنجرا كتبه وعلاماته بإزاحة علتهما فيما يستحقانه وتستحقه التجار عليه وواصلا الدعاء له وعلى المرزبان وأكثرا لعنه وشتمه وكانا يقولان : الحمد لله الذي كفى الناس شر هذا الظالم الذي لا يعرف الله ولا يؤمن بنبيه ولا يؤمن بنبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) . وما أشبه هذا حتى رق شير اسفار لهما وأوصل واحداً واحداً منهما إليه من غير اجتماع فقال المرزبان لا أعرفهما فأغلظا له وواجهاه بالقبيح وخوفاه بالله وسوء العاقبة وقال : إني لا أعرف حسابهما ولكني أكتب بأن يحاسبا. وكثر
ص: 310
ترددهما إليه فضمت والدته إليهما وصيفاً الديلمي للتنقب وكان في عسكر السلطان قديماً ورجلاً آخر يعرف بأبي الحسن بن جني وجماعة من أهل الطرم على هيئة التجار وحملوا الألطاف إلى شير اسفار وأسبابه وإلى بواب القلعة وكانوا يشترون منهم الحوائج ويعدونهم إلى أن يصلوا إلى أموالهم وبضائعهم أنهم يبذلون لهم أموالاً جليلة وفي خلال ذلك يبكون ويشكون ظلم المرزبان وعدوانه وكانوا يصلون إلى المرزبان فرادى ويوصلون الكتب ويتنجزون الأجوبة ويدسون إليه في خلال ذلك الدنانير الكثيرة ليبذلها وينفقها فيما يحتاج إليه .
وكان لشير اسفار الموكل بالقلعة غلام أمرد وضيء الوجه يحمل ترسه على مذهب الديلم فأظهر المرزبان عشقاً له ومحبة مفرطة فكان يعطيه سراً الشيء بعد الشيء ويعده إن هو تخلص بأمور عظيمة وولايات كبار حتى طمع الغلام وواطأه على كل ما أحب وأوصل إليه درعاً في زنبيل فيه تراب وعدة سكاكين وأوصل إليه شموعاً فيها مبارد واجتمع معه على وجوه الحيل وأظهر أولئك القوم الذين كانوا في زي التجار النسك والتأله والخشوع فصاروا يصلون إلى باب القلعة ويوصلهم البواب واحداً واحداً إلى أن تمت الحيلة بموافقة هذا الغلام للأسير سراً وكان اتفق معه على يوم بعينه إذا دخل إليه شير اسفار يناوله الترس والزوبين الذي لصاحبه إذا استدعاه منه ووافق بعض أولئك التجار أن يكونوا مع البواب ليفتكوا به إذا صاح بهم. فلما كان في ذلك اليوم وصل إليه توبان وكان أجلدهم وجلس آخر مع البواب ليفتك به إذا سمع الصوت وجلس الباقون قريباً من الباب ليدخلوا عند التمكن فلما صار إليه شير اسفار على رسم كان له وكان المرزبان قد برد مسمار قيده على مر الأيام ولبس في ذلك اليوم درعه والتف بكسائه وكان يخاطب شير اسفار قديماً ويسأله أن يطلقه ويعده المواعيد العظام فيمتنع عليه شير اسفار ويقول : لا أخون ركن الدولة أبداً ولكن أساعدك على كل ما يخفف عنك غير هذا الباب . فلما كان في ذلك اليوم عاد المرزبان في مسألته وكان توبان حاضراً فقال لهم توبان : بالله إلا خلصتموني من الديون عليكم ثم عودوا لشأنكم . فقال المرزبان الشير اسفار قد أطلت عنائي. ونهض من موضعه وقد أخرج رجله من القيد وبادر إلى الباب فتسلم الترس والزوبين من الغلام ونهض شير اسفار ليتعلق به فوثب توبان إليه وعاركه وصرعه ثم وجاه بسكين كان معه حتى قتله وصاح المرزبان اشتلم على عادة الديلم فوثب الرجل الذي كان في الدهليز على البواب فقتله ودخل القوم الذين كانوا بالقرب فأحدقوا بالمرزبان وكان منغمساً في دم شير اسفار. وكان الموكلون في القلعة على تفرق ولعب بالنرد فتداخلهم العرب واجتمعوا وطلبوا الأمان فجمعهم المرزبان في بيت وأخرج حرم المقتول شير اسفار وحرم الجماعة ثم طلب سلاح القوم الذين في
ص: 311
البيت فملكه ثم أخرجهم من القلعة وتوافى إليه الرجال حتى خرج ولحق بمأمنه .
وفي هذه السنة تم الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج بعد حروب كثيرة على باب الري ومنازلة ثلاثة أشهر وانصرف ابن محتاج إلى خراسان .
ذكر السبب في ذلك
كان استمد وشمكير على عادته صاحب خراسان فأمده بأبي علي بن محتاج في جموع كثيرة وتوجهوا إلى الري وظنوا أنه الاستيصال وأنه لا ثبات لركن الدولة ولا بقية له وجاء وشمكير على ثقة بذلك فعلم ركن الدولة أنه لا يقوم لهؤلاء الجمع الكثير إلا بالمطاولة والتحصن بحيث يكون القتال من وجه واحد فجعل بلد الري خلفه وحارب في الموضع المعروف بطبرك فدامت الحرب وصبر الفريقان إلى أن قرب الشتاء ومل الخراسانية فلم يصبروا وخافوا أيضاً سقوط الثلج عليهم فأخذوه في العتاب والتراسل ورق أمر الحرب. وكان الواسطة من قبل الخراسانية أبو جعفر الخازن وهو صاحب الكتاب المعروف بزيج الصفائح وله تقدم في علوم الرياضة ومرّ بينهما كلام كثير انتهى إلى الموادعة والصلح .
فأشير على ركن الدولة بأن يجهز على الجرح ولا ينفس عن خناق عدوه فإنه إنما جنح للسلم عن ضرورة وقد نفد صبره وماله وشغب عليه جنده «ووراءك بلدة مثل الري وأنت وادع جام بها» ولم ير له أحد من نصحائه أن يجيبهم إلى الصلح وذاك أن النكول كان قد ظهر فيهم. فلم يقبل ركن الدولة هذا الرأي من أحد على سداده ووضوحه ولو صدقهم بصدمة يصدمهم بها لأتى عليهم والله أعلم بعواقب الأمور فقبل الصلح وشق ذلك على وشمكير وبلغ منه مبلغاً عظيماً وذلك أنه كان لا ينتظر ولا يرجو أن يجمع أكثر مما جمع ولا يحتشد أكثر من هذا الاحتشاد. فلما انصرف ابن محتاج طلب رکن الدولة وشمكير فانهزم من بين يديه ولم يقف فاتبعه حتى أخرجه من طبرستان وجرجان وحصل بأسفرايين. وكتب إلى نوح بن نصر يعرفه ما جرى ويغريه بابن محتاج فاغتاظ نوح وتحرك منه ما كان في نفسه على ابن محتاج فعزله من الجيش ببكر بن مالك وأنفذه في جيوش عظيمة فصار ذلك سبباً قوياً ضرورياً لمكاتبة أبي علي بن محتاج ركن الدولة وعدوله إلى طاعته بعد أن أصابه في نفسه وأسبابه وأحواله مكاره عظيمة أزالت ثقته بصاحبه وثقة صاحبه به ولم يبق بينهما حال يرجى معها الصلاح.
وكتب الخليفة في هذا الصلح كتاباً نفذ على يد ابن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة وأبي مخلد عبد الله بن يحيى صاحب معز الدولة واتفق موت نوح قبل أن يؤدي الرسالة والكتاب وقعد مكانه عبد الملك بن نوح. ولما قدم أبو مخلد من خراسان عائداً ومعه أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي اعترضهما ابن أبي
ص: 312
الشوك الكردي من الشاذنجان وكان متقلداً أعمال المعاون بحلوان وإليه الحماية والطريق وأظهر الخدمة وخرج معهما مبذرقاً بهما ثم غدر فنهبهما ونهب القافلة التي كانت معهما وأسر أبا مخلد وأفلت أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي فطالب ابن أبي الشوك معز الدولة بإطلاق رهائنه ووعد أنه إن أطلقوا أطلق أبا مخلد فضمن له ذلك وأطلقوا وأطلق أبا مخلد ثم خرج الحاجب سبكتكين إلى حلوان للإيقاع بالأكراد فدخل حلوان وقرر أمر الأكراد وابن أبي الشوك وعاد.
وفيها خرج أبو سالم ديسم من بغداد وذلك لما يئس من نصرة معز الدولة.
سبب ذلك أن ركن الدولة صالح المرزبان بن محمد السلار وصاهره وتمكن سلار من آذربيجان فانصرف ديسم من حضرة معز الدولة وودعه وظن أنه يجد عند ناصر الدولة عوناً فقصده وأقام عنده بالموصل مدة ثم مضى من عنده بعد اليأس منه إلى سيف الدولة أخيه وأقام علته أيضاً مدة.
وفي هذه السنة قصد أبو علي بن محتاج ركن الدولة للضرورة التي ذكرناها وجاء على طريق جبل ونَداز هرمز فاستقبله ركن الدولة وبالغ في إكرامه وأضافه وجميع من معه وأقام لهم الأنزال الواسعة والتمس ابن محتاج عهداً يُكتب له من جهة الخليفة على خراسان فكوتب معز الدولة في ذلك فتكفل له حتى فعل .
وفيها وصل رسول ابن محتاج إلى بغداد ولقي معز الدولة فاحتشد له احتشاداً كثيراً وأوصله إلى الخليفة حتى عقد لأبي عليّ على خراسان وقلده إياها مكان نوح بن نصر وسلم إليه العقد والخلع وضم إليه أبا مخلد وأبا بكر بن أبي عمرو الشرابي وأنفذ معهم معز الدولة أبا منصور لشكرورز نجدة لأبي علي بن محتاج ومعاونة له على نوح فلما كان بعد مدة ورد كتاب أبي علي بن محتاج بأنه قد خطب لأمير المؤمنين المطيع لله بنيسابور ولم يكن خُطب له إلى هذه الغاية في شيء من بلدان خراسان وذكر في كتابه صحة موت نوح .وورد الخبر بأن نوحاً لما حضرته الوفاة كان بحضرته ابن مالك وهو أحد قواده الكبار فغلب على الأمور وعقد الأمر لعبد الملك بن نوح في ولاية خراسان وتقلد هو رئاسة الجيش مكان أبي علي بن محتاج وسار يطلب ابن محتاج وانفل عن ابن محتاج رجاله وعادوا إلى صاحب خراسان وبقي أبو علي في مائتي رجل من أصحابه سوى من ضم إليه من الديلم فاضطر إلى الهرب من بين يدي ابن مالك .
وورد خبره من الدامغان بأنه صائر إلى ركن الدولة مستجيراً به فقبله ركن الدولة أحسن
ص: 313
قبول وأقام عنده بالري . ونزل ابن مالك بنيسابور وتتبع أسباب ابن محتاج .
وفيها صرف الأبزاعجي عن الشرطة ببغداد واعتقل وصودر على ثلاثمائة ألف درهم وقلد الشرطة مكانه تكينك نقيب الأتراك وقد كان طولب قبل صرفه بأربعين ألف درهم على أن يقرر في عمله من الشرطة ووعد بإقطاع فلم يفعل.
كان الإبزاعجي منقطعاً إلى أبي علي الخازن فاستشاره وكان أبو علي يعتني به فأشار عليه ألا يلتزم شيئاً ولا يدخل تحت شيء مما يُطالب به وقال له : هذا يطمع فيك ويسير رسماً عليك فإن امتنعت انحسم الطمع فيك وفيما بعده. فقبل رأيه فأداه ذلك إلى النكبة وما أراد به أبو علي إلا الخير ولكنه أخطأ الرأي كما يخطئ الإنسان ولما أدى هذا المال وانصرف إلى منزله قبض أيضاً عليه وتكب نكبة ثانية وسُلّم إلى تكينك فجرى عليه مكروه عظيم وصودر على مائتين وخمسين الفاً فأداها .
وفيها دخل ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو علي بن محتاج بغير حرب وانصرف وشمكير عنه ودخل خراسان .
وفيها خُطب بمكة والحجار لركن الدولة ومعزّ الدولة وبختيار وبعدهم لابن طغج وذلك بعد حرب جرت بين أصحاب معز الدولة وبين المصريين وكان أبو علي بن محمد بن عبيد الله صاحب الحاج من قبل السلطان بمكة وقاتل وقتل ابن له بين يديه .
وفيها عقد معز الدولة لابنه أبي منصور بختيار الرياسة وقلده إمرة الأمراء وذلك في المحرم من هذه السنة وكان سبب ذلك أنه عرض لمعز الدولة علة يقال له فريا فسمس وهي علة الإنعاظ الدائم ويكون معه وجع شدید مع تواتر القضيب وكان معز الدولة خواراً في أمراضه فأوصى وقلد ابنه كما حكينا إمرة الأمراء .
وبلغ عمران بن شاهين أن معز الدولة قد مات واجتاز به مال يحمل إلى معز الدولة من الأهواز ومعه كار كبير فيه للتجار أمتعة عظيمة وكان مقدار المال المحمول لمعز الدولة مائة ألف دينار وما للتجار أضعاف ذلك . فمد عمران يده إلى المال والكار على رسمه في مثل ذلك فأخذ الجميع وقبض على المزعبل ملاح معز الدولة الذي كان المال فصادره وضربه ضرباً عظيماً ودهقه إلى أن أزمنه ثم أنفذ إليه معز الدولة أبا الحسين الكوكبي نقيب الطالبيين برسالة إلى أن رد المال وذهبت أمتعة التجار وانتفض الصلح وتأدى الأمر إلى الوحشة .
ص: 314
وكان الحاجب سبكتكين أخرج إلى شهرزور في جيش كثير ومعه عرادات ومنجنيقات فأقام مدة عليها ولم يمكنه فتحها واتفق أن جيشاً ورد من صاحب خراسان إلى الري فاحتيج إلى إنفاذ سبكتكين إلى ركن الدولة مدداً له فانصرف من شهرزور ولم يصنع شيئاً.
وفيها ورد ابن ماکان اصبهان وكان مسيره إليها على طريق المفازة من خراسان فهجم هجوماً واضطر أبو منصور بويه بن ركن الدولة وعيال ركن الدولة وجميع أصحابه أن يخرجوا على وجوههم إلى خان النجان ومنها إلى الرباط على أقبح صورة واستولى ابن ماكان على أصبهان. وكان الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن العميد رفع الله درجته بأرجان فبادر مع قطعة من العرب ونفر يسير من الديلم كانوا معه فوجد ابن ماكان قد تبع أبا منصور بويه بن ركن الدولة ومن معه من الحرم فلحق سواده وملك خزائنه وتخلص الأمير بويه والحرم علي. وقد أشرف هو والحرم على الفضيحة والأسر فلحقه الأستاذ الرئيس فعارض ابن ماكان و دافعه بخان النجان فأوقع به واستأسره وبه ضربات وأسر جميع قواده وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً. وحمل الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن ماكان وقواده إلى القلعة بالخان ثم صار إلى أصبهان فأوقع بمن فيها من أصحاب ابن ماكان وورد الأمير أبا منصور بويه بن ركن الدولة مع الحرم إلى أصبهان مصونين وتلافى ذلك الخطب العظيم أحسن تلاف.
وكان يحدثني رحمه الله بخبر هذه الوقعة مرات فيقول : لما التقينا بالخان انهزم عن أصحابي واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب والغارة وثبت آنفة فقط من غير رجاء مني في ظفر بل وقفت وقوف المستسلم للقتل والأسر. وذلك أني فكرت في تلك الحالة وقلت إن انصرفت بنفسي سالماً ومثلت بين يدي صاحبي أي وجه يكون لي عنده وأي لسان يدور بعذر لي بحضرته بعد أن أسلمت أعزته وأولاده وحرمه بالجملة ملکه!» ونظرت فإذا القتل علي في حالتي تلك أهون من هذه الحال التي تصورتها فصرت لأن أقتل كريماً قال فكنت واقفاً وراء خيمة لي بعمودين وأنا أرى أطنابها تقطع وما فيها يخرج ومن يراني لا يظن أني أثبت في ذلك الموضع مع تلك الصورة فبينما أنا كذلك وأصحاب ابن ماكان مشغولون عني بالنهب إذ ثاب إلى غلامي روين وفلان وفلان وراءهم العرب فتاب منهم جماعة يسيرة فحملت بهم وصاح الناس الكرة فقتلنا وأسرنا ولم يفلت أحد ولما كان بعد ساعة من النهار لم يبق من جيش ابن ماكان عين تطرف إلا من أخذ أسيراً وحمل اليَّ ابن ماكان و به ضربة وبه ضربة في يده وقد تعلق منها اصبعان بجلدة رقيقة شدّها حتى قطعها قال فهو على ذلك بين يدي حتى شق الزحمة إليه مكار أو ركابي فصفعه صفعة طنَّ بها الموضع وغاص فلحقني غيظ عظيم وأمرت بطلبه
ص: 315
و هممت بالمثلة به وقطع يده فما وقف له على أثر ولا عُرف له خبر إلى اليوم.
وكان ابن ماكان مع عظم قدره في نفوس الديلم وشدة بأسه محارباً عظيم القوة ورأيت أنا جوشنه وهو رزين جداً يعرض على فتيان الديلم وأشدائهم أن يلبسه فسيتعفي منه لثقله على اليد .
وفي هذه السنة أنجد سيف الدولة ديسماً وعاضده بعض الأكراد فقصد سلماس وملكها وخطب لسيف الدولة بها وكان السلار غائباً بناحية باب الأبواب مشغولاً بقوم خرجوا عليه هناك فلما عاد من باب الأبواب وأصلح أمره هناك وظفر بعدوه فقصد ديسماً فاستأمن رجاله إلى سلار وهرب ديسم ومضى إلى ابن الديراني صاحب أرمينية مستجيراً به فقبله ثم غدر به وقبض عليه وقيده وحمله إلى السلار. فيقال إن السّلار سمله ثم قتله وفيها مات أبو علي بن محتاج وابنه بالري في وبأ حدث هناك .
وفيها تم الصلح بين ركن الدولة وصاحب خراسان .
وفيها ورد أبو الفضل القاشاني صاحب ركن الدولة مع ابن أخت ابن مالك مالك برسالة عبد الملك بن نوح صاحب خراسان يلتمس أن ينفذ إليه خلع ولواء على خراسان فعقد له الخليفة اللواء وسلمه مع الخلع إلى ابن أخته الوارد برسالته ورده مع أبي الفضل القاشاني وقاد أيضاً إليه فرساً وأضاف إلى خلع الولاية خلع منادمة .
وفيها خوطب أبو محمد المهلبي بالوزارة وأمر بذلك معز الدولة وخلع عليه وزاد في إقطاعه .
وفيها خرج روزبهان بن ونداذ خرشيد الديلمي على معز الدولة وخرج أخوه المسمى ببلكا بشيراز وكاشفا بالعصيان وفعل مثل ذلك أخوه الآخر أسفار بالأهواز وجاء روزبهان إلى الأهواز وكان بها الوزير المهلبي ليحاربه فاستأمن رجاله إلى روزبهان وانحاز الوزير عنه. وورد الخبر بذلك على معز الدولة فلم يكن يصدق بذلك لشدة ثقته به فإنه هو الذي اصطنعه ونوّه باسمه فكان خاملاً وعظم قدره وكان صغيراً قبل ذلك من رجال موسى فياذه وصغار أصحابه .وأنفذ معز الدولة شيرزيل على مقدمته للحرب واضطرب الديلم بأجمعهم على معز الدولة اضطراباً شديداً وأظهروا أشياء كانت في نفوسهم عليه من العتب والاستبطاء وكاشفوه وواجهوه بكل ما كره وأخذوا يستأمنون.
فقلد معز الدولة الابزاعجي الشرطة بواسط وأنفذه إليها وفي يوم الخميس لخمس خلون من شعبان خرج معز الدولة من داره ببغداد متوجهاً إلى قتال روزبهان وزاد الأمر في استئمان الديلم إلى روزبهان. وخرج الخليفة المطيع لله منحدراً إلى معز الدولة وذلك
ص: 316
أن ناصر الدولة لما بلغه خبر روزبهان وما عمله هو وإخوته حدث نفسه ببغداد فوجه بابنه أبي المُرجى وآخر من أولاده إلى بغداد وبلغ ذلك معز الدولة فرد الحاجب سبكتكين من واسط لضبطها وكتب إلى مسافر بن سهلان وكان بنهاوند متقلداً لها يأمره بالتعجل إلى بغداد لمضامة الحاجب سبكتكين ببغداد فشغب الديلم المقيمون ببغداد لطلب أرزاقهم فبعث إليهم مسافر وسبكتكين ولشكرورز ووعدهم بالمال فسكنوا وكان مسافر نزل في أعلى القطيعة وخرج سبكتكين الحاجب فنزل بباب الشماسية وهم على قنوط من معز الدولة ومنع معز الدولة جميع الديلم من العبور لقنطرة أربق معه لما رأى من استئمانهم إلى روزبهان ووكل بالقنطرة من يمنعهم من عبورها قلة ثقة بهم وخوفاً من أن يغدروا به ويشوشوا باقي عسكره لأنه كان ينفق فيهم فإذا قبضوا النفقات صاروا إلى روزبهان من فورهم فما عبر معه من الديلم إلا ليلى بن موسى فياذه وشيرزيل ابن وهری والحسن بن فناخسره فقط .
وكان اعتماد معز الدولة على غلمانه الأتراك فحارب روزبهان يوم الاثنين انسلاخ شهر رمضان نهاره كله إلى أن سقط القوم ثم حمل بنفسه في غلمان داره وحضهم بأن قال : يا أولادي قد ربيتكم تربية الأولاد فأروني غناءكم الساعة. فحملوا معه حملة الصبيان الأغمار فلم يردهم شيء وانهزم روزبهان وأصحابه وأسر روزبهان و به ضربات وأسر كوركير وفتح اللشكري وأرسلان كور .
استوحش الديلم من منع معز الدولة إياهم من العبور فاجتمعوا عليه وقالوا له : إن كنا رجالك فأخرجنا نقاتل بين يديك فإنا لا نصبر أن نجلس مع الصبيان لحفظ سوادك ونرى الأتراك يقاتلون عنك فمتى ظفرت بعدوك خرجنا من المحمدة ومتى ظفر عدوك فلحقنا العار والسبة وكأنهم سلكوا في هذا الكلام مسلك الحيلة ليُطلق لهم العبور فيتمكنون من كسر عسكره والاستثمان إلى عدوه فسألهم التوقف وقال : إنما أريد أن أشام القوم ولا أناجزهم فيما فعلت بالأمس فإذا كان في غد باكرناهم بأجمعنا على تعبية واستعناً بالله وناجزناهم وكان يدرّ عليهم النفقات ويواصل العطايا ويكثر المداراة فامسكوا عنه وعبر معز الدولة وعبّى غلمانه كراديس تتناوب في الحملات إلى وقت غروب الشمس فهناك فشل الأتراك وانقطعت حيلهم وفني تشابهم وشكوا إلى معز الدولة وقالوا ليس فينا فضل وقد أمسينا فنستريح الليلة وتفرق فينا النشاب ونباكرهم الحرب .
فعلم معز الدولة أنه إن رجع عن هذه الحالة زحف روزبهان والديلم وثار من خلف وراءه من أصحابه الديلم الذين كان يتهمهم فلا يمكنه الهرب وكان الهلاك فبكى بين أيدي غلمانه وكان سريع الدمعة ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلها ويحملوا وهو في
ص: 317
أولهم فإما أن يظفروا وإما أن يُقتل أول من يقتل فطالبوه بالنشاب فقال : قد بقي مع الغلمان الأصاغر نشاب فخذوه وتوزعوه وكانت عدة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد العتاق وعليهم الحُبب والتجافيف وكانوا سألوا معز الدولة أن يأذن لهم في الحملة نوبة في الكراديس فلم يأذن لهم وقال لهم : إذا كان الوقت الذي يصلح لكم ما سألتم اذنتُ فيه. فوجّه إليهم بنقيب وأومأ بيده أن اقبلوا ما يقول النقيب ليأخذ النشاب منهم فلم يشكوا أنه إنما أومأ اذناً لهم فيما كانوا يسألونه ووعدهم به فحملوا وهم مستريحون . كذلك خيلهم فصدموا صفوف الديلم فكسروا بعضهم فوق بعض وصاروا من ورائهم وحمل معز الدولة فوضع فيهم اللتوت فكانت إياها وكتب بالظفر إلى بغداد.
فورد على الديلم المقيمين ببغداد ما أدهشهم ولم يصدّقوا به وقدروا أنه أرجف بذلك ارجافاً فكانوا يستهزئون استهزاء ظاهراً ويقولون نعم كانوا دجاجاً وضع عليهم مكبّة فما أفلت أحد وكانت نفوسهم اشرأبت إلى روزبهان فلما صح عندهم الخبر ضعفت نفوسهم .وانخذلوا وأسرع معز الدولة الانصراف ليلحق بغداد قبل ورود أصحاب ناصر الدولة إليها فدخل بغداد يوم الجمعة لاثني عشرة ليلة بقيت من شوال ودخل داره ثم سار في يومه ذلك في الماء إلى معسكر الحاجب بباب الشماسية في زيزب ومعه روزبهان في زبزب آخر مكشوفاً ليراه الناس وكوركير في زبزب آخر واجتمع الناس على الشطوط فدعوا له وعلى روزبهان. وقد كانت العامة محبين لأيام معز الدولة وذلك لماكان منه في سد بثق نهر الرفيل وسد بثق بادوريا فإنه خرج بنفسه حتى سد هذا البثق وحمل التراب بنفسه في بركة قبائه حتى فعل جميع العسكر مثل فعله وسد ذلك البثق ثم خرج إلى النهروانات فسد بثقابها وكانت النهروانات قد بطلت وكذلك بادوريا فلما سد بثوقها عمرت بغداد وبيع الخبز النقي عشرين رطلاً بدرهم فمالت العامة إلى أيام معز الدولة وأحبوه .
ومضى الأمير معز الدولة ممتداً إلى عسكره بقطريل وكان أبو المُرجى وأخوه قد وصلا إلى عكبرا ووصلت خيولهما إلى البركان فلما بلغهما قدوم معز الدولة وما جرى علی روزبهان انصرفا من عكبرا إلى الموصل وتبعهما الحاجب سبكتكين فلم يلحقهما لإغذاذهما السير.
و حبس روزبهان بالصراة في حصن كان هناك فكان الديلم يحدّثون أنفسهم بكبس موضعه وإخراجه وأشار أبو العباس مسافر على معز الدولة بقتله فأبى وكره ذلك إلى أن قال جماعة من ثقاته : إنك إن لم تبادر إلى قتله أخذه الديلم غصباً وزالت الدولة وذهبت أرواحنا . فأخرج حينئذ بالليل وغُرّق في سُميريةً أسفل دار الخليفة وورد الخبر بعد ذلك بظفر الأستاذ ابن العميد ببلكًا أخي روزبهان وردّه الملك على أبي شجاع فناخسره بن
ص: 318
ركن الدولة. فانطوى ذكر روزبهان وأخويه بعد أن اشتعل اشتعال النار وانحاز إليه وإلى أخيه بلكًا الديلم وظنوا أنهم قد نقلوا مُلك بني بويه ولله الأمر من قبل ومن بعد، ثم إن معز الدولة أسقط الديلم الروزبهانية وقبض على جماعة من قواده وأعرض عن سائر الديلم وأقبل على الأتراك واصطنعهم وكتب بالفتح إلى الأمصار .
وفيها ورد الخبر بموت السلار المرزبان بآذربيجان في شهر رمضان وكانت وفاته بفساد المزاج فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان على أن يكون الرياسة له ثم من بعده لابنه جستان وكان قد تقدم إلى أصحاب قلاعه الموكلين بحفظها أن حدث عليه حدث الموت ألا يسلّموها إلا الى جستان ابنه فإن حدث به حدث الموت فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر. وكان له ولد رابع يقال له كيخسره فلم يذكره لصغره وقال«فإن لم يبق من هؤلاء أحد فسلموها إلى أخي وهسوذان» ولما وصى إلى أخيه وصيته هذه عرّفه علاماته التي بينه وبين أصحاب قلاعه فأنفذ وهسوذان بعلاماته وخاتمه إلى المرتبين في القلاع في تسليمها إليه فأبوا عليه وأظهروا وصيته المستورة. وكان إبراهيم بن المرزبان متزوجاً بابنة ولكين بن خرشيد وهو من أكابر الديلم وكان ولكين هذا محبوساً من جهة المرزبان بأردبيل فلما مات المرزبان خاطبته زوجته في أبيها وحملته على أن يمضي بنفسه ويُخرجه من محبسه فركب وأخرجه من غير استئذان عمه وهسودان فاستوحش وهسودان وفكر في مُخاتلة أخيه له في الوصية وفي إقدام ابن أخيه إبراهيم عليه وإخراجه ولكين من محبسه بغير إذنه فساء ظنه وخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستولى جستان على ممالك أبيه وأطاعه أخواه إبراهيم وناصر وقلد وزارته أبا عبدالله النعيمي وتوافى إليه قواد أبيه الأجستان بن شرمزن فإنه تأخر عنه وفكّر فى التغلب على ناحية أرمينية وكان والياً بها وأخذ وهسوذان في التضريب بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وإطماع أعدائهم فيهم والتشفّي بما عومل به حتى اضطرب عليهم عسكرهم وطالبوهم بما لا يتسعون له حتى تمكن منهم وقتل بعضهم وحرض على من لم يمكنه قتله حتى بلغ ما أراد واشتفى وزاد.
وفي هذه السنة كثر ببغداد أورام الحلق والماشرا وكثر الموت بهذين الضربين وموت الفجأة وكل من افتصد انصبت إلى ذراعه مادّة حادة عظيمة يتبعها حمى ى حادة فيحتاج إلى بط وما سلم أحد ممن اقتصد وكانت شتوة هذه السنة دفية عادمة الأمطار وحكى أهل البحر أن البحر نقص في هذه السنة ثمانين باعاً وأنه ظهر لهم جبال وجزائر لم يعرفوها ولا سمعوا بها قط وكانت زيادة دجلة في هذه السنة يسيرا نحو عشرة أذرع وكان بالري ونواحيها زلازل عظام مات فيها من الناس ما يعظم مقداره ويكثر عدده.
ص: 319
وفيها كثرت الزلازل ببغداد وحلوان وبلدان الجبل وعظم أمرها بالجبل خاصة فخربت الأبنية وقتلت الخلق .
وفيها شغب الأتراك والديلم بالموصل على ناصر الدولة وزحفوا إلى داره وأرادوا الفتك به فحاربهم بغلمانه وبالعامة وظفر بهم وقتل بعضهم في الوقعة وقبض على جماعة وهرب الباقون إلى بغداد.
وفيها ورد الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة إلى بغداد يخطب ابنة معز الدولة ومعه أبو علي بن أبي الفضل القاشاني وزيراً ومعه أبو القاسم اسمعيل بن عباد يكتب له على سبيل الترسل . فلما كان ليلة السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى زُفّت بنت معز الدولة إلى أبي منصور بويه ثم حملها إلى أصبهان .
وفيها خرج معز الدولة نحو الموصل يوم الخميس لأربع عشرة خلت من جمادي الآخرة وعبر من باب الشماسية إلى قطربل وضرب مضاربه هناك وعزم على قصد الموصل لمحاربة ناصر الدولة وأولاده لما كان منهم في قصد ممالكه والطمع فيها بعد الصلح والموادعة وتردَّدت الرسل فأمر معز الدولة أن تُكتب عنه توبيخات وتهجينات عنيفة شديدة وأمر أن تُقرأ وتُستوفى أجوبتها .
قال فيها : أنت ذاكر ما جرى عليك من تكين الشيرزادي فإنه أخرجك من نعمتك وكاد يأتي على مهجتك فلجأت إلي بعد عداوة سبقت امنك لي ومنازعة نازعتنيها عن بلاد لم يكن في يدك منها شيء فاطرحت لأحقاد واغتفرتُ الذنوب وآثرتك على تكين وهو إذ ذاك يبذل لي الخدمة والطاعة وحمل المال وإقامة الخطبة ولا يلتمس مني إلا ترك الدخول بينك وبينه والانصراف عن النصرة لك عليه فآثرتك وأنفذت كاتبي وعسكري بأموال أنفقتها ومؤن تكلفتها حتى أخذت بناصيته وسلمته إليك فشفيت صدرك منه وعدت إلى وطنك . ثم حصلت في يد وزيري الصيمري حصول المستجير الذليل فوفي لك ولو شاء لأسرك سرك واشتمل على بلادك وقلاعك وظننت أنك تعرف لي حق هذه النعمة وتُطالب نفسك عليها بالمجازاة فأبيت إلا غدراً بي وتقبيحاً في معاملتي . وليتك لما لم تعمل عمل الأصدقاء الأوفياء عملت عمل الأعداء الحزماء فكاتبتني تعرض نفسك علي في النائبة العظيمة التي نابتني في أوثق الناس عندي وتبذل لي معاونتك فكنتَ تنفذ عسكرك التي تكريت على أنه مددّ لي فإن لاح لك استظهار مني تحمَّدت عليَّ وتودَّدت إليَّ وإن لاح لك استظهار عليّ أظهرت ما في نفسك حيث تكون فيه أعذر وأقل ملامة ثم اتبع هذا القول
ص: 320
بالتوعُّد والتهدُّد بالمسير إلى أعماله واستيصاله .
إنك قد صدقت في جميع ما عددت وأني معترف به ووالله ما كان عن رأي ولا أمرت به ولكني شيخ لي أولاد أحداث يخالفونني في تدبيرهم فيركبون الهوى في أمورهم ولا رأي لمن لا يطاع. وتمت الموافقة بينه وبينه على تعجيل ألفي ألف درهم فعجلها له والتزم مثلها في كل سنة فأظهر معز الدولة الرضاء ضرورة لأنه كان غير واثق برجاله ولأن أعماله اختلت بتلك الفتنة فعاد إلى داره. ثم أخر ناصر الدولة المال الثاني لأن الأول كان في سنة ست فخرج معز الدولة إليه وسار ناصر الدولة إلى نصيبين ودخل معز الدولة الموصل وسار إلى نصيبين وخلف سبكتكين بالموصل . وأنفذ سريّة إلى سنجار لأنه بلغه أن أبا المرجى وهبة الله ابني ناصر الدولة بها وبلغهما خبر السرية فانصرفا وقد كان أعجلهما الأمر فتركا خيمهما وجميع معسكرهما بحاله ولم يمكنهما حمل شيء فأسرع الديلم الذين كانوا في السرية إلى الغارة والنهب .
إن الديلم نزلوا في خيم أبي المرجى وأخيه فعادا وكبسا العسكر واستأسرا جماعة وقتلا جماعة وكان ممن قتل ابن ملك الديلمي المعروف بسیاجشم قتله هبة الله ووقع فی الأسر شيرزاد وشيرمردي وعدد كثير .
كان من عادة ناصر الدولة إذا تنحى من بين يدي معز الدولة ألا يترك في البلد لا كاتباً ولا دليلاً ولا أحداً ممن يعرف نفع السلطان وضره ويحشرهم إلى قلاعه مع حسباناته ودواوينه ثم يأمر الصعاليك والعرب أن يتطرفوا البلد ويمنعوا العلاقة ومن يخرج لطلب العلف والطعام إلا أن يكون معهم عسكر قوي فإذا رأوا عسكراً قوياً لم يظهروا ولم يتعرضوا وكان غرضه في ذلك أن يضيق المير والعلوفات فينصرف عنه معز الدولة ففعل ذلك في هذا الوقت. وبلغ معز الدولة كثرة الغلات بنصيبين وكانت للسلطان فقصدها وخلف حاجبه سبكتكين بالموصل فلما صار ببرقعيد بلغه أن أبا المرجى وهبة الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فعمل على كبسهما وندب لذلك جماعة من القواد الكبار وجعل الرئيس عليهم تكين الجامدار وكان غلاماً أمرد وضيء الوجه منهمكاً في الشرب لا يعرف الصحو ولا تقدمت له حُنكة فأشار الوزير المهلبي ألاً يخرجه في مثل هذا الوجه وأن يعدل إلى أحد مشايخ القواد فلم يقبل منه وأنفذه في خمسمائة رجل فأشرفوا على أبي المرجئ وهبة الله فأرهقوهما عن تقويض الخيم واستصحاب شيء من رجالهما وافلتا على ظهور دوابهما وتركوا جميع مالهم فانتهبه
ص: 321
العسكر. ثم تعجل أصحاب معز الدولة إلى الخيم وتركوا الحزم فنزلوها واستقروا فعطف عليهم أولئك وصارت الكبسة لهم فقتلوا وأسروا وغنموا ما شاؤوا وبقي معز الدولة في عدد يسير ببرقعيد في طريقه إلى نصيبين فكتب إلى بغداد يستدعي العساكر فتعجلوا وتلاحقوا إليه فلما قويت عدته سار من برقعيد إلى نصيبين وسار ناصر الدولة من نصيبين إلي ميافارقين وفض جيشه عنه بأسره وصرفهم فصار جميعهم إلى معز الدولة في الأمان واستأمن أبو زهير أخو ناصر الدولة إلى معز الدولة ورحل ناصر الدولة من ميافارقين إلى حلب مستجيراً بأخيه سيف الدولة فتلقاه أخوه بأجمل تلق وقبله أحسن قبول وخدمه بنفسه حتى تولى نزع خفه بيده وكان حامد بن النمس توجه من قبل معز الدولة إلى الرحبة فهزم من كان بها من جيش ناصر الدولة.
وكان طريف الخادم و هزار مرد وهما غلاما ناصر الدولة يتطرفان الموصل في الجانب الشرقي منها كل يوم ويلتقطان عمال معز الدولة ويأخذان العلاقة من عسكر الحاجب ويمنعان ورود شيء إلى الموصل حتى صارت محاصرة وأخذا من الثرثار من عمال معز الدولة رجلاً يعرف بعلي بن الصقر وحملاه إلى القلعة ثم كبسا الحديثة وكان فيها محرز حاجب الوزير أبي محمد المهلبي وأبو العلاء بن شاذان يتقلد عمالتها فقبضا عليهما ثم أطلقا محرزاً وحملا أبا العلاء إلى القلعة.
وكان معز الدولة راسل كافور الخادم بمصر يأمره بحمل مال إلى الحضرة فحبس كافور الرسول حبساً جميلاً وطاوله وبث جواسيسه لتعرف الأخبار فلما عرف انصراف معز الدولة عن ذلك الوجه إلى بغداد رد الرسول خائباً .
وورد عمرو النقيب من قبل ناصر الدولة إلى نصيبين وسفر في الصلح وطال الخطب بينه وبين معز الدولة فلم يتم الصلح فلما رأى عمرو الصورة استأمن إلى معز الدولة وأقام بحضرته ولم يعد إلى ناصر الدولة ثم ترددت رسائل بين معز الدولة وبين سيف الدولة وتوسط بين أخيه وبينه حتى تقرر ما بينهما ورجع معز الدولة من نصيبين قاصداً الموصل.
لما صار معز الدولة بين المونسية وآذرمة في اليوم الخامس عشر من شباط هبت ريح باردة مغربية ووقع دمق فتلف في ساعات يسيرة من النهار عدد عظيم من عسكره ولحق معز الدولة غشية وكاد يتلف من كثرة ما عليه من الوبر والخر. فقلع أهل العسكر سقوف آدرمه وأبوابها وأوقدوها فاطلق معز الدولة لأهلها ثلاثة آلاف درهم ليبتاعوا بها مكان ما أخذ من أنقاضها .
ص: 322
دبر معز الدولة عند فراغه من حرب روزبهان أن يطرد الديلم الروزبهانية يمسك من لم يفارقه منهم وإن كانوا متهمين عنده وكان وعدهم للعشرة ثلاثة في أصول أموالهم وظن إنه إن وفى للكل لم يتسع له مع أن الفتح للأتراك وكان مائلاً إليهم بالهوى قبل الاستحقاق فكيف بعد هذا الأثر العظيم فابتدأ يجازي الأتراك بالإحسان فقود منهم جماعة واستحجب جماعة ونقب جماعة ورفع كل طبقة إلى ما هو أعلى منها ونفى الديلم الروزبهانية ليتوفر عليهم ما لهم ويصير ذلك بإزاء ما يلزمه لأصحابه الديلم من الزيادات .
فأخرجهم إلى الأهواز وكتب إلى وزيره المهلبي بجمعهم من جميع النواحي والأعمال والتوكيل بهم والمسير معهم إلى آخر الحدود ليتفرقوا حيث شاؤوا ، فدفع الوزير من ذلك إلى خطة صعبة وحال مخاطرة عظيمة لأن القوم كانوا ذوي عدد وعدة إلا أنه تلطف وأحسن التدبير حتى أخرجهم زمرة بعد زمرة. ثم حمل معز الدولة الأتراك على التحسب على الديلم وتعييرهم بشق العصا وخلع الطاعة وتقريعهم بهذا ونحوه وإن عدد الأتراك مع قلته وفوا بهم حتى قهروهم وأذلوهم . ثم رسم للأتراك رسوماً صار سبباً لضراوتهم وطلب الأموال والتغلب على الأعمال والتسحب على العمال وذاك أنه أمر بتسبيب ما يستحقونه على واسط والبصرة والأهواز وأخرجهم طبقة بعد طبقة على النوبة لاستيفاء أموالهم ولمن وراءهم من رفقائهم المقيمين وأن يقام لهم نزل يأخذونه راتباً في كل يوم إلى أن يستوفي ماله ومبلغه عشرة دراهم لكل غلام في كل يوم وعشرون درهماً لمن كان نقيباً وأراد أن ينفعهم عاجلاً لا مؤبداً . وانفتح عليه من ذلك باب من الفساد كان أضر عليه من زيادة أوزارها في أصول استحقاقاتهم وذلك أنهم أثروا أن تتأخر أموالهم المسببة لتكثر أيام مقامهم وصيروا أصول أموالهم بضائع يتجرون فيها وإذا راج لهم من مال تسبيباتهم لم ينسبوا شيئاً منه إلى الأصل وقد بقي لهم درهم واحد ويستروح العمال إلى إطلاق الشيء بعد الشيء لئلا يرهقوا بالمال جملة فربما أقاموا سنتين وثلاثة وحلت التجارات في صدورهم وإجازة ما يحصل لهم في الطريق بغير ضريبة ولا مؤونة ثم تجاوزه إلى الدخول التلاجئ فملكوا البلاد واستطالوا على العمال وحاموا على التجار ومن اعتصم بهم فضعفت أيدي العمال واستعبدوا الناس واستمر ذلك وازداد إلى اليوم.
وفيها وافى أبو محمد الفياضي كاتب سيف الدولة إلى الموصل في المحرم وتقرر الأمر على أن عقدت الموصل وديار ربيعة والرحبة على سيف الدولة بألفي ألف درهم
ص: 323
وتسعمائة ألف في السنة وذلك لأن معز الدولة لم يستجب إلى عقدها على ناصر الدولة وعلى أن يقدم من ذلك ألف ألف درهم ويطلق الأسارى الذين أسروا بسنجار. فلما تقرر هذا انحدر معز الدولة وتأخر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين بالموصل والجيش بأسره معهما إلى أن يحمل مال التعجيل ثم وردا مع الجيش ومع أبي محمد الفياضي كاتب سيف الدولة .
كان السبب في إصعاده الإضاقة الشديدة التي لحقته بعد الأمور التي ذكرناها وتأخر أموال الحمول عنه فعلم ناصر الدولة بذلك فانهزم من بين يديه وقال لأصحابه : اذهبوا حيث شئتم فإني لا أقف للحرب. فاستأمن أصحابه إلى معز الدولة كما كتبنا فيما تقدم فازدادت إضافة معز الدولة ولم يمكنه ضبط النواحي ولا الحماية وتقاعد الناس بأداء الخراج احتجاجاً بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم وطلبوا الحماية واضطر معز الدولة إلى الانحدار ولكنه أنف وأقام على كره ومشقة فلما ورد عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه بالشكر الجميل وشكا إليه أخاه وقلة وفائه والغدر به مرة بعد مرة وقال له : إن ضمنته أنت أجبت فضمنه وانحدر معز الدولة .
السبب في ذلك ما كنا ذكرناه من استيلاء الأتراك واستضامتهم العمال ومضايقتهم إياهم حتى اضطر وهم إلى بذل المرافق الكثيرة لهم فاقتنوا الأملاك وحاموا على قوم على سبيل التلاجئ فتغلبوا على حقوق بيت المال وصار العمال يعولون على الغلمان الأتراك أخذ حقوقهم على التناء فيتنجزونها كما يتنجزون تسبيباتهم وتشبه بهم الديلم واصطلح الفريقان على هذا السبيل فكسروا على السلطان حقوقه. واجتمع العمال بذلك فكسروا أصول العقود وسألوا إزالة ما دهمهم فلم يمكن ذلك وصارا بمنزلة الداء الذي لا يرجى حسمه لأن الديلم كانوا مستوحشين ومتفرقين والأتراك متطاولين مدلين فلو قمعوا لصارت كلمتهم مع الديلم واحدة .فجرى الرسم بأن ينقل ما رفعه العمال من فاضل ما عليهم إلى السنة التي بعدها وحصل الوزير وكل من دبر فيه تدبيراً متعرضاً لسفك دمه وذهاب نفسه إلا أن هذا الفساد كان في أيام معز الدولة كالطفل الناشئ لهيبته وبقية حشمته ثم ظهر الإفراط بعد على أولاده ولما أتى عليه الزمان بعد وفاته .
وفيها خلع السلطان على الأمير أبي منصور بختيار بن معز الدولة وعقد له لواء وقلده إمرة الأمراء ولقبه عز الدولة .
ص: 324
وفيها أنفذ لواء وعهد إلى أبي علي محمد بن الياس وكان السفير في ذلك كله القاضي أبو بكر أحمد بن سيار الصيمري وفيها مات أبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي وكان يكتب لمعز الدولة وكتب له بعده أبو محمد علي بن عبد العزيز المافروخي مدة شهر ثم استعفي وانصرف وتقلد مكانه أبو بكر بن أبي سعيد.
وفيها كانت وقعة بين علي بن كامه ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون بن وشمكير فكانت على بيستون .
وفيها غرق الحاج الواردون من الموصل وكانوا في بضعة عشر زورقاً كباراً فيها من الرجال والنساء نحو ألف نسمة.
وفيها غزا الروم المسلمين فأسروا وقتلوا وسبوا وانصرفوا وذلك في طرسوس والرها.
وفيها ورد الخبر بأن صاحب خراسان قتل رجلاً من قواده يسمى بختكين وكان من وجوه قواد الأتراك فاضطربت خراسان لأجله .
وفيها ورد الخبر بأن ابناً لعيسى بن المكتفي بالله ظهر بناحية أرمينية وتلقب بالمستجير بالله يدعو إلى المرتضى من آل محمد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ولبس الصوف وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وكان هذا الرجل مضى إلى بلد الجيل فاستنصر بجماعة من الديلم المعروفية والمسودة والمنتسبين إلى مذهب السنة من مذاهب المسلمين فخرجوا معه وصاروا إلى آذربيجان فغلب على عدة بلدان منها ما كان في يد سلاء الديلمي .ثم ورد الكتاب في شهر رمضان من جهة ابن سلار بأنه أوقع بهذا الرجل المتلقب بالمستجير بالله فأسره وقتله .
ذكر السبب في خروجه وسرعة هلاكه
كان السبب فيه أن جستان بن المرزبان ترك طريقة أبيه في سياسة الجيش وتوفر على النساء واللعب ثم أدخلهن في التدبير. وكان جستان بن شرمزن تحصن بسور أرمية وكان وهسوذان بالطرم ويضرب بين أولاد المرزبان كما حكينا فيما تقدم. وكان جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي وأنفق بين النعيمي وبين كاتب جستان بن شرمزن وهو أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه مصاهرة فلما قبض جستان بن المرزبان علی النعيمي استوحش صهره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وحمل صاحبه على مكاتبة أخي جستان وكان يومئذ بأرمية وأطمعه في أموال عظيمة ووعده أن يقوم بين يديه وينصره بجيشه الذين جمعهم ويقيم مقام أخيه فعمل إبراهيم على ذلك وأشار عليه
ص: 325
نصحاؤه بألا يفعل فخالفهم وركب هواه وسار إلى أرمية واجتمع مع جستان بن شرمزن وكاتبه أبو الحسن عبيد الله بن حمدويه ووعدهما بكل ما سكنا إليه فصاروا إلى المراغة واستولوا عليها. وقد كان جستان بن المرزبان صار إلى برذعة فلما عرف خبر أخيه إبراهيم وانحيازه إلى جستان بن شرمزن عاد إلى أردبيل فراسل ابن شرمزن وكاتبهما ومناهما ووعدهما بإطلاق النعيمي وبذل لهما كل ما اقترحاه فعاد إلى موالاته وتركا إبراهيم وانصرفا عنه إلى أرمية وأخلفاه في كل ما كانا بذلاه فلما رأى إبراهيم ذلك عاد إلى أرمية وبقي جستان بن شرمزن وكاتبه يطمعان كل واحد من الأخوين أعني إبراهيم وجستان ابني المرزبان أنهما معه حتى استكملا بناء سور أرمية وقلعة في داخلها منيعة واستكثرا من جمع الأقوات والآلات. وظهر للأخوين معاً نية ابن شرمزن فى النفاق والعداوة فتراسلا وتصالحا وعملا على أن يجتمعا ويقصداه. واتفق أن هرب أبو عبد الله النعيمي من حبس جستان بن المرزبان وصار إلى موقان وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله المتلقب بالمستجير بالله وأطمعه في الخلافة وأن يجمع له من الرجال من يستولي بهم على آذربيجان فإذا قوي بالمال والرجال قصد الغراق. فسار المستجير بالله في نحو ثلاثمائة رجل من المسودة ولم يكن بعد تمكن ولا اجتمع له من الرجال ما أراد فلما أطمعه النعيمي صار إليه واجتمع معه وصار أيضاً إليه جستان بن شرمزن في عسكره فقوي به وقلده أمر عسكره وبايعه الناس وسار إليه جستان وإبراهيم ابنا المرزبان في جموعهما فلما عبي جستان عسكره تقدم إليهم بأن يلزموا مصافهم ويحفظوا نظامهم ولا يحملوا حتى يأذن لهم وكان معهم الفضل بن أحمد الكردي القحطاني وهم صنف من الأكراد ومع جستان الصنف الآخر من الأكراد الذين يعرفون بالهدايائية وتلقاهم الهدايانية وابتدأوا بالحرب فانتقض على جستان بن شرمزن صفوفه فخرج من موضعه الذي كان فيه مع الديلم لينكر على الفضل مخالفته إياه ويرده إلى موضعه فوجده قد أبعد فاتبعه فما شك أصحابه في انهزامه فاقتفوا أثره وصحت الهزيمة وركب الهدايانية وأصحاب جستان وإبراهيم أكتافهم واضطر جستان بن شرمزن إلى الانصراف إلى أرمية وظفر بإسحاق بن عيسى بن المكتفي بالله ولم يدر ما فعل به إلا أني سمعت بقتله وسمعت بموته حتف أنفه في الحبس .
وتم لوهسوذان تفريق كلمة بني أخيه وذلك أنه استزار إبراهيم فلما صار إليه أكرمه ووصله بجوائز كثيرة وحمله على دواب وكاتب ناصراً واستغواه حتى صار إلى موقان مفارقاً لأخيه ووجد الجند سبيلاً إلى إقامة سوقهم والمطالبة بالأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى ناصر فقوي وسار إلى أردبيل فملكها وألجأ أخاه جستان إلى القلعة المعروفة بالنير. ثم اجتمع الديلم والأكراد على ناصر يطالبونه بما لا يفي به وقعد به عمه وهسوذان فعلم حينئذ أن وهسودان عمه كان يغويه وعرفا جميعاً مغزاه فتراسلا وتصالحا وسلم ناصر الأمر إلى أخيه جستان فنزل من قلعته وصارا جميعاً إلى أردبيل
ص: 326
على إضاقة شديدة لنفاد الأموال وكثرة المتغلبين على الاطراف فاضطرا إلى الخروج إلى عمهما وهسودان مع والدة جستان بعد أن توثقوا منه بالأيمان الغليظة والعهود فلما حصلوا تحت قبضته حبسهم ونكث واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل بن وهسوذان وسلم إليه أكبر قلاعه شميران وأخرج الأموال وأرضى الجند وجعل أبا القاسم شرمزن بن ميشكي صاحب جيشه وأخرجه إلى أردبيل. وكان إبراهيم قد صار إلى أرمينية فتأهب لمنازعة إسماعيل ومحاربته ولا ستنقاذ أخويه جستان وناصر من محبس عمهما وهسودان وكان وهسوذان قد ضيق عليهما وأساء كل الإساءة إليهما فلما عرف وهسودان اجتماع إبراهيم على حرب إسماعيل واجتماع خلق من الديلم معه بادر بقتل جستان وناصر وأمهما وأتى على كل من يقرب منهم ويخاف ناحيتهم وكاتب جستان بن شرمزن والحسين بن محمد بن الرواد بقصد إبراهيم وأنفذ إليهما مدداً من جهته فاستجابا له وزحفا إليه وزحف إسماعيل فهرب إبراهيم إلى أرمينية وكان جستان بن شرمزن قريباً منه فاستولى على عسكره وملك المراغة وأضافها إلى أرمية .
وفيها غزا سيف الدولة في جمع كثير فأثر في بلدان الروم آثاراً عظيمة وأحرق وفتح حصوناً وحصل في يده سبي كثير وأسارى وانتهى في غزوه إلى خرشنة فلما أراد الخروج أخذ الروم عليه المضايق فما تهيأ له أن يتخلص إلا بجهد عظيم هو ونحو ثلاثمائة غلام وهلك باقي أصحابه أسراً وقتلاً وارتجع منه السبي كله والأسارى والغنيمة وأخذ جميع خزائنه وسلاحه وكراعه وقتل من الوجوه الذين كانوا معه حامد بن النمس وموسى بن سياكان والقاضي أبو حصين وكان معه من المسلمين ثلاثون ألفاً وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا .
ذكر السبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة
كان هذا الرجل أعني سيف الدولة معجباً يحب أن يستبد برأيه وألا تتحدث نفسان إنه عمل برأي غيره وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم لأنهم علموا أن الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه وشحنوه بالرجال فلم يقبل منهم ولج فأصيب المسلمون بأرواحهم وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه .
وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بأبي العربان أخو عمران بن شاهين وصار إلى واسط بحرمه وعياله وولده لأنه خاف أخاه ودخل بغداد في ذي القعدة ولقي معز الدولة .
وفيها أملك أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي بابنة الوزير أبي محمد المهلبي.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن البريدي .
ص: 327
وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاه .
وفيها انصرف حاج مصر بعد أن قضوا حجهم فنزلوا في واد بمكة فلما كان بالليل حملهم الوادي وهم لا يشعرون فغرق أهل مصر وكانوا عدداً كثيراً جداً وكبسهم الماء مع امتعتهم إلى البحر .
فيها اشتدت علة معز الدولة وامتنع عليه البول فاشتد جزعه وقلقه واستدعى الوزير أبا محمد المهلبي في الليل والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما عن وحشة قديمة وبكى وندب على نفسه على عادة الديلم فلما كان آخر الليل بال دما بشدة ثم تبعه رمل وخف ألمه فلما كان الغد من وهو يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سلم داره وكراعه وغلمانه إلى ابنه عز الدولة وفوض إليه الأمور وجمع المهلبي الوزير والحاجب سبكتكين على الوصاة به وخرج في عدة يسيرة من غلمانه وخاصته ليمضي إلى الأهواز .
ذكر سبب هذه الحركة والخروج بعد ظهور الصلاح والبرء من المرض
كان سبب ذلك استشعاره أن بغداد هي التي أحدثت له الأسقام وهي التي افسدت عليه صحته وتذكر أيام مقامه بالأهواز وهي أيام شبابه ووفور قوته وظن أن الأهواز هي التي كانت تجلب له الصحة وأنها توافقه فوصى الحاجب سبكتكين والوزير المهلبي بابنه عز الدولة وبالجيش وغيره مما كان في نفسه وانحدر إلى كلواذى. فلما صار بها أشار المهلبي بأن يقيم ويتأمل أمره ويفكر فيه ولا يعجل فأقام بكلواذى وأخذ في تقدير بناء قصر ثم انتقل إلى الشفيعي وقدر هناك البناء ثم انتقل منه إلى قطر بل لأنها أعلى بغداد والهواء والماء هناك أصفى وأعذب وعمل على أن يبني من حد قطريل إلى باب حرب قصراً ثم صاح من علته وأبو محمد المهلبي في كل ذلك يعلله ويصرف رأيه لعلمه بكثرة المؤن والنفقات التي تلزمه وبكراهة الجند والحاشية لانزعاجهم من أوطانهم ومألفهم ولكراهية تخريب بغداد بانتقال الملك عنها فلم يزل به حتى صرف رأيه . ولما علم أنه لم يكن من البناء بد فيجب أن يكون متصلاً ببغداد من أعاليها ليكون هواؤه وماؤه أصح وأنظف أنزله في البستان المعروف بالصيمري وهو في أعلى بغداد من الجانب الشرقي بقصر فرج وأخذ في هدم ما يليه من العقارات وابتياعها من أهلها إلى حدود ربيعة الدور وكلف أبا القاسم بن مكرم وأبا القاسم بن جستان العدلين ابتياع العقارات المجاورة له وأصلح ميداناً على طول دجلة وبني الاصطبلات على نهر مهدي وقلع الأبواب الحديد التي على المدينة (مدينة أبي جعفر المنصور) والتي بالرصافة وعلى شارع نهر المعلى
ص: 328
ونقلها إلى داره ونفض قصور الخلافة بسر من رأى وسور الحبس المعروف بالحديد وبنی به داره وبالآجر الذي استعمله وطبخه في الأتاتين ووثق البناء واختيرت له الآلات والجص والنورة وبالغ في الأحكام وجلب له البناؤون الحذاق المشهورون من جميع البلدان الكبار من الأهواز والموصل وأصبهان وبلدان الجبل وغيرها ونزل سفلاً في الأرض لبعض الأساسات ستاً وثلاثين ذراعاً ورفعها إلى وجه الأرض بالنورة والأجر إلى أن ارتفع فوق الأرض بأذرع. ولزمه على هذا البناء إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم صادر فيها أسبابه سوى ما لم يشتره من الآلات التي ذكرناها والتي لم نذكرها .
وكان مقيماً طول المدة في بستان الصيمري ثم انتقل إلى الدار التي بناها في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة سنة 35 قبل أن يستتم بناؤها .
وفيها مات أبو بكر أحمد بن كامل القاضي رحمه الله ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبي جعفر الطبري وكان صاحب أبي جعفر قد سمع منه شيئاً كثيراً ولكني ما سمعت منه عن أبي جعفر غير هذا الكتاب بعضه قراءة عليه وبعضه إجازة لي وكان ينزل في شارع عبد الصمد ولي معه اجتماع كثير .
وفيها مات قاضي القضاة أبو السائب عُتبة بن عبيد الله وقبضت أملاكه وصودر محمد الحاجب غلامه وضربه الوزير أبو محمد المهلبي بحضرتي ضرب التلف لما كان بلغه عنه من التخرم والتهتك في أيام أبي السائب ولم يكن به إلا التشفي منه فنثر كعابه ضرباً. وكان هذا الرجل عاهراً يتعرض لحرم الناس وكان مرسوماً بحجبة قاضي القضاة فكان لا يمتنع عليه من لها خصومة أو حاجة عند قاضي القضاة وكان جميلاً مقبول الصورة ويتصنع مع ذلك ويتهم بفواحش مع صاحبه.
وفيها مات أبو نصر إبراهيم بن علي بن عيسى كاتب الخليفة فجأة وتقلد كتبة الخليفة عن خاص أمره أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا .
وفيها قبض معز الدولة على أبي علي الخازن وأبي مخلد وأبي الفرج محمد بن العباس صاحب الديوان وعلى أبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وأبي سهل ديزويه صاحب ديوان الجيش وحملهم إلى دار الوزير المهلبي وسلمهم إليه .
ذكر السبب في ذلك
احتيج إلى النفقة على البناء وكان الوزير المهلبي رحمه الله يقصد أبا علي الخازن لشيء كان بلغه عنه قديماً وكذلك أبا مخلد وأبا الفرج فذكر لمعز الدولة أنه يلزم مالاً ويلزم كل واحد من هؤلاء مما ادخره واحتجنه ولا يحتاج إليه مالاً يتم به أمر البناء وكان معز الدولة شديد الثقة بأبي علي الخازن وكان أبو علي كثير التمويه متفاقراً يظهر من
ص: 329
الفقر والاقتصاد أكثر مما يحتمل مثله فقال معز الدولة للوزير أبي محمد ما تريد من هذا البائس الذي قد قنع منا بالقوت اليسير ؟ فقال له الوزير أنا أستخرج منه وحده ما يحتاج إليه للبناء. وتكلم على غيره بقريب من ذلك فسُلّم الجميع إليه فحضرتُ مناظرة الوزير أبي محمد للجماعة .
أما أبو مخلد فإنه لما خوطب والتمس منه مال قال : إني خدمت الأمير معز الدولة ولا أملك إلا طنفسة وكساء ودواة وأنا اليوم نظير أكبر ملك من ملوك الأطراف مالاً وضياعاً وأثاثاً وغلماناً رُوقة وفرشاً فإلى أن أعود إلى رأس مالي فأنا على الربح . فألزمه الوزير خمسمائة ألف وجزاه الخير وصرفه إلى منزله بعد أن أخذ خطه بها فلما خرج التفت الوزير إلينا وقال : هذا رجل مقبل كنت أظنه يتماتن ويخاطبني بحسب دالته وموضعه من الأمير فقد اتَّقاني بما قال وحمى نفسه وعرضه وماله وهكذا يصنع الإقبال بصاحبه.
وخاطب أبا علي الخازن فسلك سبيله المعروف وزعم أنه لا يستبيت ولم يستجب إلى شيء بتة فتحي من بين يدي الوزير ووُكّل به في ناحية من الدار .
وأما أبو سهل ديزويه فتمارض وشد رأسه بخرقة فأحضر كرّازاً ووضعه عند رأسه وقال : أنا غريب فأضحك الناس من نفسه وأعرض الوزير عنه ذلك اليوم.
وأما أبو الفضل فلحقته عناية الوزير لما بينهما من الوصلة فأخذ خطه بثلاثمائة ألف درهم و صرفه إلى منزله وكذلك فعل بأبي الفرج صاحب الديوان أجراه مجرى أبي الفضل وأخذ خطه بثلاثمائة ألف فلما كان بعد أيام راسله ديزويه وسأله أن يعفو عنه ويُجريه مجرى أبي الفضل ففعل ذلك به.
وبقي أبو علي الخازن على لجاجه لا يلتزم شيئاً ثم أنعم بعد التهديد بشيء وراسل أخت معز الدولة يستقرض منها ما يشتري به نفسه من مكروه الوزير ونظن أن ذلك يبلغ الأمير فيكون سبب إطلاقه فخاطب معز الدولة الوزير فيه وقال : ألم أقل لك إنه لا يملك شيئاً. فقال : أيها الأمير لا تلتفت إلى مخاريقه وخدائعه ودعني أستخرج منه مالاً عظيماً . فسكت عنه وراسل أبو علي الخازن كل من عرفه فاستقرض منه حتى شاع خبره في الدولة بالفقر وأن الوزير يقصده فلما كان في بعض الليالي لسعه في ظهره شيء أدماه وتألم منه وكان موضعه الذي وكل به فيه من دار الوزير موضع غنم فيما تقدم فظنه الناس لسع طبوع وقالوا : ليس شيء من الهوام يُخرج بلسعته الدم إلا هذا الحيوان أو الأفعى. فاتفق إن مات أبو علي الخازن بعد أيام قلائل في اعتقاله وقلعت على الوزير أبي محمد المهلبي القيامة وخاف أن يتهم به ومع ذلك فلم يكن ارتفع من جهته إلا شيء نزر قليل ثم عرف أنه قد وصل إليه من القروض ضعاف ما أداه في مصادرته فتعجب من جلادته وتوقع عتب الأمير معز الدولة في بابه ووطن نفسه على كل مكروه. ثم رأى أن يبتدئ معز الدولة ويستأذنه في
ص: 330
البحث والتنقير عن أسبابه وأظهر أنه على ثقة من تلك الأموال التي وعده بها من جهته حتى سكن من معز الدولة وأخذ إذنه في ذلك (ولم يكن يثق بشيء مما ضمنه من جهته ولكنه يردّ عن نفسه في الحال). ثم أخذ في التفتيش فأثار له أموالاً كثيرة بعضها جرى بحضرتي فكان من ذلك أن قبض على غلمانه وأسبابه وخلا بواحد واحد منهم فأرهبه وأرغبه وسأله هل يتهم موضعاً من داره بدفين أو يتّهم مُحاملاً له بوديعة فقال له : إن هذا الرجل كان أدهى من أن يعمل شيئاً مما تطلبه وتبحث عنه بحضرة أحد ولست أنّهم أحداً إلا أنه طرد غلاماً له مزيناً من حجرة مرسومة به وجلس في حجرته للخلوة أياماً. فعبر الوزير بنفسه إلى دار أبي علي الخازن والتمس حجرة المزيّن وكان غلاماً حبشياً أو نوبياً فجلس فيها فحفر مواضع فيها فظفر بمال لم أعرف مبلغه وكان في جملة المدفون آلة شبيهة بميزان أعني بيت الميزان من خشب الساج له طبق كطبق الميزان وليس فيه موضع كفة ولا موضع السنج بل هو محفور من ترابيعه شبيهاً بحوض وعليه طبقة مهندماً عليه وهو خال لا شيء فيه فعجب منه ثم قلب ذلك الطبق ووجد عليه كتابة فحمل تلك الآلة إلى منزله وحمل المال إلى خزانة معز الدولة .
فعهدي به يقلب تلك الآلة ويتأمل تلك الكتابة وكانت بخطه خط رديء فإذا هي أسماء قوم ورموز لا يفهم منها شيء وكانت تلك الأسماء مفردة لا يقترن بها شيء يستدل به على صاحبه. فما شك الوزير أن تلك الأسماء أسماء قوم مودعين وأن تلك الرموز مبلغ ما عندهم من المال فاستعمل دهاءه فيه وقال : أجد هذا الاسم وهو «عليّ» مكرراً فإن استخرجناه أخرج لنا باقي الأسماء. فقيل له كم من رجل اسمه علي كان يواصل هذا الرجل . فقال : لا تفعلوا فإن المعاملين الذين هذا اسم لهم قليلون فمن كان منهم يصلح للوديعة أقل منهم. ثم تجاوز ذلك إلى اسم أظنه «أحمد» فقال : هذا اسم صيرفي في دار أبي علي (وهو في درب عون) فأحضرونيه فأحضر وقال له الوزير : قد وجدنا ثبتاً باسمك وبخط أبي علي بمبلغ ما عندك فأنفذ الساعة صاحبك ليحضره. فاضطرب الرجل وأنكر أن يكون له عنده مال فبطش به ولحقه أذى ومكروه ثم أمر به فحبسه وقيده بقيد ثقيل فيه ثلاثون منا فتفسخ فيه الرجل ودخل إليه المستخرج وهدّده فاعترف وكان باسمه سبعة أنوكي ولم يكن فينا أحد يعرف معنى «أنوكي» فقال الوزير: فطالبوه بسبع بدر دنانير استظهاراً. ففعل ذلك فوافق تخمينه صحة الأمر وأدى خمسين ألف دينار. ثم لم يزل يتتبع تلك الأسماء وقد صحت له الرموز فاستخرج نحو مائتي ألف دينار من هذه الوجوه سوى دفائنه. وقامت حرمة الوزير أبي محمد عند معز الدولة و انبسط لسانه وجاهه وصار مقبول القول عنده بعد أن ظن أن الذي فاته من خازنه شيء لا عوض له منه أمانة وثقة ودينا. وتقلد مكان أبي علي الخازن أبو محمد علي بن
ص: 331
العباس بن فسانجس للنصف من شعبان وأقطع أقطاع أبي علي .
وفيها تقلد القاضي أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب القضاء في جانبي بغداد ومدينة أبي جعفر المنصور وقضاء القضاة وخلع عليه من دار السلطان من حيث امتنع الخليفة من أن يصل إليه وركب بالخلع من دار معز الدولة وبين يديه الدبادب والدرك والبوقات وفي موكبه الغلمان الأتراك والجيش وكان توصل إلى تقلد ذلك بأن خدم أرسلان الجامدار فتى معز الدولة ووافقه على أن يحمل إلى خزانة الأمير في كل سنة مائتي ألف درهم وكتب عليه بها كتاب وجعلت على نجوم معروفة ولم يأذن الخليفة أن يصل إليه هذا القاضي في يوم موكب ولا غيره وكان فعل القاضي ما فعله من سماجته وقبح ذكره سبباً لأن ضُمنت الحسبة ببغداد وضمنت الشرطة بعشرين ألف درهم في كل شهر من شهور الأهلة وهذا القاضي مع قبح فعله قبيح الصورة مشوَّهها.
وفيها وافى أبو القاسم أخو عمران مستأمناً.
وفيها ورد الخبر بأن عبد الملك بن نوح صاحب خراسان تقطر به فرسه فمات وافتتنت خراسان ونُصب مكانه أخ له يسمى منصوراً.
وفيها حمل إلى إبراهيم السلار من دار السلطان خلع وعقد له على آذربيجان .
وفيها نقل الوزير أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي سنة خمسين الخراجية إلى
سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وفيها دخل الأمير ركن الدولة سارية من بلد طبرستان وانصرف عنها وشمكير إلى جرجان واستأمن من أصحابه إلى ركن الدولة ثلاثة آلاف رجل .
وفيا: ورد الروم عين زربة في مائة وستين ألفاً وهي في سفح جبل والجبل مطل عليها فلما جاءه الدمستق في هذا الجمع العظيم أنفذ....(1) من جيشه إلى الجبل ونزل هو على بابها فملك جيشه الجبل فلما رأى أهل عين زربة أن الجبل قد مُلك عليهم وإن جيشاً آخر قد ورد إلى باب المدينة وأن مع الدمستق دُبَّابات كثيرة وأنه قد أخذ في نقب السور طلبوا منه الأمان فآمنهم وفتحوا له باب المدينة فدخلها. فوجد خيله الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة فندم على إعطائهم الأمان فنادى في البلد من أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع وأن من تأخر في منزله قتل فخرج من أمكنه الخروج فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة وكانوا ستين ألف رجل وكل من وجدوه في
ص: 332
منزله قتلوه فقتلوا عالماً من الرجال والنساء والصبيان والأطفال وأمر بجمع ما في البلد من السلاح فجُمع منه أمر عظيم وكان في جملته أربعون ألف رمح وقطع ما في البلد من النخل فقطع نحو خمسين ألف نخلة. ونادى فيمن حصل في المسجد الجامع من الناس بأن يخرجوا عن البلد إلى حيث شاؤوا وأن من أمسى ولم يخرج قتل فخرج الناس مبادرين وتزاحموا في الأبواب فمات بالضغط جماعة من الرجال والنساء والصبيان ومروا على وجوههم حفاة عراة لا يدرون إلى أين يتوجهون فماتوا في الطرقات ومن وُجد في المدينة آخر النهار قتل وأخذ كل ما خلفه الناس من أمتعتهم وأموالهم وهدم السوران اللذان على المدينة وهدمت المنازل وبقي الدمستق مقيماً في بلدان الإسلام أحد وعشرون يوماً وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصناً منها بالسيف ومنها بالأمان.
فكان في بعض الحصون التي فتحت بالأمان حصن أمر أهله بالخروج منه فخرجوا فتعرض بعض الأرمن للنساء اللواتي خرجن منه فلحق رجالهن غيرة عليهن فجردوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق منهم وأمر بقتل الجميع وكانوا أربعمائة رجل وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلا جارية حدثة أو من يصلح أن يسترق .
فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد الفطر وزعم أنه يخلف جيشه بقيسارية .
وكان ابن الزيات صاحب طرسوس خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع به الدمستق وقتل جميع من كان معه وقتل أخاه وكان ابن الزيات قد قطع الخطبة لسيف الدولة وأنفذ إليه رسلاً فلما وقف ابن الزيات على ذلك لبس سلاحه واعتمَّ وخرج إلى روشن داره وكانت داره على شاطئ نهر فرمی بنفسه من داره إلى النهر فغرَّقها .
وفيها دخل ركن الدولة جرجان وذلك في المحرم.
وفيها ورد الخبر بأن صاحب خراسان أنفذ جيشاً كثيفاً إلى غلام له شذَّ عنه يقال له الفتكين وإن الفتكين أوقع بالجيش وهزمه واستأسر وجوه القوّاد وفيهم خال صاحب خراسان .
وفيها لقب الخليفة الأمير أبا شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة عضد الدولة وكتب به کتاب.
وفيها أسر الروم أبا فراس بن أبي العلاء بن حمدان من منبج وكان متقلداً لها.
وفيها ورد الخبر بأن الدمستق ورد إلى حلب وملكها وكان الدمستق وافاها ومعه ابن أخت الملك ولم يعلم سيف الدولة ولا أحد بخبره لأنها كانت كبسة فلما علم سيف الدولة به أعجله الأمر فخرج نحوه وحاربه قليلاً فقتل أكثر من معه وقتل جميع ولد داود بن حمدان وابن للحسين بن حمدان فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره وهي خارج مدينة حلب فوجد لسيف الدولة من الورق ثلاثمائة وتسعون بدرة فأخذها
ص: 333
ووجد له ألف وأربعمائة بغل فتسلمها ووجد له من خزائن السلاح مالا يحصى كثرة فقبض جميعها وأحرق الدار وملك الربض. وقاتله أهل حلب من وراء السور فقتل من الروم جماعة بالحجارة وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلهم وطمع الروم في تلك الثلمة فأكبوا عليها ودفعهم أهل البلد عنها فلما جنّهم الليل اجتمع المسلمون عليها فبنوها وأصبحوا وقد فرغوا وعلوا عليها وكبروا وبعد الروم قليلاً إلى جبل هناك يعرف بجبل جوشن وذهب رجالة الشرطة بحلب إلى منازل الناس وخانات التجار ينهبونها وقيل للناس الحقوا بمنازلكم فإنها قد نهبت فنزلوا عن السور وأخلوه ومضوا إلى منازلهم مبادرين ليدفعوا عنها فلما رأى الروم السور خالياً وطالت المدة وتجاسر الروم صعدوا وأشرفوا على البلد ورأوا الفتنة فيه والنهب فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا فوضعوا السيف في الناس فقتلوا كل من لقيهم ولم يرفعوا السيف إلى أن كلوا وضجروا وكان في البلد من أسارى الروم ألف ومائتا رجل فتخلصوا وحملوا السلاح على المسلمين وكان سيف الدولة قد أعد من الروم سبعمائة رجل ليفادي بهم فأخذهم الدمستق وسبى من البلد من المسلمين والمسلمات بضعة عشر ألف صبي وصبية وأخذ من خزائن سيف الدولة وأمتعة التجار ما لا يحد ولا يوصف كثرة فلما لم يبق معه شيء يحمل عليه أحرق الباقي بالنار وعمد إلى الحباب التي يحرز فيها الزيت فصب فيها الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض وأخرب المساجد وأقام فيها تسعة أيام.
وكان بذل لأهل البلد قبل أن يفتحه الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ويحملوا إليه مالاً وأمتعة حدّها وينصرف عنهم فلم يستجيبوا له إلى ذلك. وذكر أن عدة رجاله كانت مائتي ألف رجل وإن عدة أصحاب الجواشن فيهم ثلاثون ألف رجل وفيهم ثلاثون ألف صانع للهدم ولتطريق الثلج أربعة آلاف بغل عليها حسَك الحديد يطرحه حول عسكره بالليل وخركاهات عليها لبود مغربية فمن صعد قلعة حلب تخلص بحشاشته فلما كان بعد تسعة أيام أراد الدمستق أن ينصرف بما فاز به وحصل في يده فقال له ابن أخت الملك: هذا بلد قد حصل في أيدينا وليس بإزائنا من يدفعنا عنه ومن كان فيه من العلوية وبني هاشم والوزراء والكتاب ومن لهم أموال مقيمون في القلعة فبأي سبب ننصرف عنه قبل فتح القلعة؟ فقال له الدمستق قد وصلنا إلى ما لم نكن نقدره ولا يقدرها الملك وقتلنا وسبينا وأسرنا وأحرقنا وهدمنا وخلصنا أسراءنا وأخذنا من أردنا أن نفادي به بلا فدية وغنمنا غنيمة ما سمع بمثلها ومن حصل في القلعة فهم عُراة وإذا نزلوا هلكوا لأنهم لا يجدون قوتاً والرأي أن ننصرف عنهم فإن طلب النهايات والغايات ردى . فأقام ابن أخت الملك على أمره ولح وقال : لا أنصرف أو أفتح القلعة.
فلما لح قال له الدمستق: فأنزل عليها وحاصرها فإن الصورة والضرورة تقود من فيها
ص: 334
إلى فتحها . فقال : لا أفتحها إلا بالسيف فقال له شأنك وما تريد فإني أنا مقيم في عسكري على باب المدينة. فلما كان من غد ترجل وأخذ سيفاً ودرقة وصعد راجلاً والمسلك إلى باب القلعة ضيق لا يحمل أن يسلكه أكثر من واحد فصعد وتبعه أصحابه واحداً واحداً. وقد أصحابه واحداً واحداً. وقد كان حصل في القلعة الجماعة من الديلم فتركوه حتى إذا قرب فتحوا الباب وأرسلوا عليه حجراً فوقع عليه وانقلب ثم وثب وهو مدوخ فرماه واحد من الديلم بخشب فأنفذ صدره وركب رأسه فأخذه أصحابه وانصرفوا إلى الدمستق فلما رآه مقتولاً أحضر من كان أسر من المسلمين فضرب أعناقهم بأجمعهم وسار إلى بلد الروم بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها وقال لأهلها هذا البلد قد صار لنا فلا تقصروا في العمارة فإنا بعد قليل نعود إليكم.
وفيها ورد الخبر بأن قوماً من رجالة الأرمن صاروا إلى الرها فاستاقوا خمسة آلاف رأس من الغنم وخمسمائة رأس من البقر والدواب واستأسروا نفراً من المسلمين وانصرفوا موفورين.
وفيها قلد القاضي أبو بشر عمر بن أكثم القضاء بمدينة السلام على أن يتولى ذلك بلا رزق وأعفى مما كان يحمله أبو العباس بن أبي الشوارب وخلع عليه وأمر بألا يمضي شيئاً من أحكام وسجلات ابن أبي الشوارب ثم قلد قضاء القضاة .
ومنها خرج الوزير أبو محمد المهلبي ومعه الجيش لفتح عمان وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الآخرة فانحدر وبلغ إلى هلتي من فم البحر واعتل فكنت أسمع من طبيبه فيروز بأنه مسموم لا محالة وكنت أسأله عمن سمه فلا سمه فلا يصرح باسمه إلى أن كان بعد ذلك بمدة وانقضت تلك الأيام فذاكرته بذلك فقال : كان خرج معه فرج الخادم وكان أستاذ داره والمستولي على خاص أمره ومعه جماعة من الخدم يطيعونه وكان قد فارق نعمة ضخمة وخرج من خيش وثلج وتنعم إلى حر شديد وشقاء كثير وتوجه إلى عمان فواطأ الخدم على سمه وقتله والراحة من ذلك السفر وظنوا أنهم يسلمون ويعودون إلى نعمهم .
وكان فيروز الطبيب لما أحس بذلك استأذن في العود إلى بغداد وزعم أنه لا يركب البحر فأرغب في مال كثير فامتنع ثم أرهب بالحبس فصبر وقال : لا أخرج البتة . فأذن له وانصرف . فلما كان في النصف من شعبان ثقل ورد إلى الأبله زائل العقل مسبوقاً فيئس منه وعملت له آلة شبه المحفة يحمله أربعون رجلاً يتناوبون عليه وينام فيها ورد على طريق البر فلما كان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان وقت العصر مات رحمه الله بزاوطا .
وكان معز الدولة لما سمع بخبر علته أنفذ أبا علي حمولى إليه لتعرف خبره وتقدم إليه إن وصل إليه وقد توفي أن يحتاط على تركته وأسبابه ففعل ذلك وقبض على كتابه
ص: 335
وأسبابه وحمل جميعه إلى الحضرة. وورد تابوته مدينة السلام يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان وقبض على عياله وولده ومن دخل يوماً إليه مثلاً وصودروا حتى المكارين والملاحين الذين كانوا يخدمون حاشيته وجرى من ذلك ما لا جرى مثله إلا على عدو مكاشف واستفظع الناس ذلك واستقبحوه لمعز الدولة. وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ومات بموته عن الكتاب الكرم والفضل رحمه الله . ولما مات الوزير أبو محمد المهلبي رحمه الله نظر أبو الفضل وأبو الفرج في الأمور من غير تسمية لواحد منهما بالوزارة.
وفيها ورد الخبر بأن الطرسوسيين غزوا ودخلوا من درب من دروب الروم إلى بلد الروم ودخل نجا غلام سيف الدولة من درب آخر فغنم أهل طرسوس غنيمة يسيرة وأقام سيف الدولة على درب آخر ولم يدخل لأنه كان عليلاً من فالج لحقه قبل ذلك بسنتين فلما خرج نجا والطرسوسيون عاد سيف الدولة إلى حلب وهو عليل ولحقته غشية ظن منها أنه قد تلف. وجاء أبو الحسين بن دنحا إلى هبة الله بن ناصر الدولة ليسلم عليه ويهنئه بعيد الفطر وكان هبة الله راكباً فاستجر أبا الحسين بن دنحا الحديث إلى إزاء صخر ثم رماه بخشب كان في يده فوقع في لبته ومضى يركض يريد الهرب فلحقه هبة الله وإنما فعل ذلك لغيرة لحقته من تعرض ابن دنحا لغلام من غلمانه. وبلغ هبة الله أن عمه لم يمت وأنه أفاق من غشيته فخافه واستوحش مما فعله بابن دنحا فجد في السير إلى حران .
وابن دنحا هذا هو الذي كان استأمن إلى معز الدولة ثم انصرف عنه إلى سيف الدولة لأنه لم يصل ببغداد إلى ما كان يرجوه وما جسر أن يعود إلى ناصر الدولة فساقه الحين إلى ما ذكرت فتبع نجا غلام سيف الدولة هبة الله فلم يلحقه ولحق سواده فأخذه وانصرف به إلى سيف الدولة ودخل هبة الله حران وأوهم أهله أن عمه قد مات فإنه قد كتب إلى أبيه ناصر الدولة يستنجده لينجده بالرجال ويقيم بحران ويدفع كل من نازعه عليها وطالب أهل حران بأن يحلفوا له أن يكونوا معه حرباً لمن حاربه وسلماً لمن سالمه وظن أهل حران أن الذي خبرهم به صحیح فحلفوا له على ما أراد واستثنوا في يمينهم إلا أن يكون الذي يحاربه عمة سيف الدولة فإنهم لا يحاربونه ورضي بذلك منهم .فلما كان بعد أيام وافى نما أخو نجا غلام سيف الدولة فأغلق هبة الله وأهل حران أبواب حران في وجوههم وعلم نما أنه لا يمكنه فيهم حيلة فأظهر أنه لم يرد (أبواب) حران وإنما أراد قصد أرزن وميافارقين فانصرف عن حران إليها وكتب إلى أخيه نجا (يعرفه ما جرى ويغريه بأهل حران فسار نجا )إلى حران فلما قرب منها هرب هبة الله إلى أبيه وأسلم أهل حران فنزل نجا خارج حران وخرج إليه وجوه أهلها وأشرافها وهم سبعون شيخاً ليسلموا عليه فوكل بهم وتهددهم بالقتل وطالبهم عن البلد بألف ألف
ص: 336
درهم أرش ما عملوه من غلق الأبواب في وجه أخيه ولم يسمع لهم عذراً وجرت لهم معه خطوب إلى أن قنع منهم بثلاثمائة ألف درهم وعشرين ألف درهم ووجه معهم بالفرسان والرجالة وألزمهم الأجعال الثقيلة ورسم أن يستخرج له المال في يوم واحد وبعد الجهد إلى أن يكون المدة خمسة أيام وقسط المال على أهل البلد وأدخل فيه الملي والذمي والسوقة والنساء الأرامل وغيرهم ووضع عليهم العُصِيَّ والضرب في دورهم بحضرة حرمهم وعيالاتهم فأخرجوا أمتعتهم وباعوا ما يساوي ديناراً بدرهم ولم يجدوا من يشتري لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون فاشترى أصحاب نجا الأمتعة والحلي بحكمهم وبما أرادوا ولزم أهل البلد من الأجعال أمر عظيم وخرب بذلك البلد وافتقر أهله وانصرف عنهم نجا إلى ميافارقين بعد أن استوفى جميع المال وترك البلد شاغراً بلا سلطان فتسلط عليهم العيارون وأظهر نجا الخلاف على مولاه سيف الدولة والخروج عن طاعته ولم يزرع في هذه السنة أحد بديار مُضَر كبير شيء للجور الذي كانوا فيه .
وفيها ورد الخبر من حرَّان بأنه اجتاز بهم الغازي الوارد من خراسان في نحو خمسة آلاف رجل ماضين إلى حلب إلى سيف الدولة وهذا الرجل وافى من خراسان على طريق آذربيجان ثم إلى أرمينية ثم إلى ميافارقين ثم إلى حران ثم إلى حلب ثم ورد بأن هذا الغازي اجتمع مع نجا غلام سيف الدولة. وكان ببلاد أرمينية وملازجرد رجل يعرف بأبي الورد قد استولى عليها فطمع نجا فيه ولم يلتفت إلى حديث الغزو ولا إلى الخراساني وقصد أبا الورد فأوقع به وملك قلاعه وبلده وحصل في يده من أمواله ما يكثر قدره فأقام في القلعة وحصل في يده من بلدان أرمينية وملازجرد وخلاط وموش . ومضى الغازي الخراساني إلى سيف الدولة فلما اجتمع معه نفر إلى المصيصة وورد الخبر بنزول الروم على المصيصة في جيش ضخم وفيه الدمستق وأنه أقام عليها سبعة أيام ونقب في سورها نيفاً وستين نقباً ولم يصل إليها ودفعه أهلها عنها ثم انصرف لما ضاقت به المير وغلا السعر وبعد أن أقام في بلاد الإسلام خمسة عشر يوماً. وأحرق رستاق المصيصة وأذنة وطرسوس وذلك لمعاونتهم أهل مصيصة فظفر بهم الروم وقتل منهم خمسة آلاف رجل وقتل أهل أذنة من الروم عدداً قليلاً وكذلك أهل طرسوس. ولما مضى سيف الدولة والخراسانية إلى المصيصة وجد جيش الروم قد انصرف عنها وتفرقت جموع الخراساني لشدة الغلاء في الثغور وبحلب ورجع أكثرهم إلى بغداد وعادوا منها إلى خراسان وقبل انصراف الدمستق عن المصيصة وجه إلى أهلها بأني منصرف عنكم لا لعجز عنكم وعن فتح مدينتكم ولكن لضيق العلوفة وأنا عائد إليكم بعد هذا الوقت فمن أراد منكم الانتقال إلى بلد آخر قبل رجوعي فلينتقل ومن وجدته بعد عودي قتلته .
ص: 337
وفيها اجتمع الأكراد على قافلة الحاج الصادرة إلى خراسان فملكوها واجتاحوها فوق حلوان ورجع الحاج إلى حلوان.
وورد الخبر بأن الغلاء اشتد بأنطاكية وجميع الثغور حتى لم يقدر أحد على الخبز وأكل الناس الرطبة والحشيش وانتقل قوم من الثغور إلى الرملة ودمشق وغيرها نحو خمسين ألف إنسان هرباً من الغلاء فإن الدمستق قد جمع الجموع للخروج إلى بلدان الإسلام وإن السلطان بحران مقيم بعد الذي جرى على أهلها من نجا على ظلمهم وطرح الأمتعة عليهم والجور في معاملتهم وأن الغلاء بها وبالرقة شديد جداً.
وفيها استهدى الهجريون من سيف الدولة حديداً فقلع سيف الدولة أبواب الرقة وهي من حديد وسد مكانها وأخذ حديداً بديار مضر حتى أخذ سنجات الباعة والبقالين ثم كتبوا إليه : إنا قد استغنينا عن الحديد. فأخذ القاضي أبو حصين الأبواب فكسرها وعمل منها أبواباً لداره. ثم كتب الهجريون يلتمسون الحديد فأخذ الأبواب التي عملها أبو حصين وسائر ما قدر عليه من الحديد وحمله في الفرات إلى هيت ثم منها إليهم في البرية .
وفيها ورد أبو الحسين الباهلي برسالة ناصر الدولة ليقرر ما بينه وبين معز الدولة فنقرر على أن يحمل ناصر الدولة عن سنة 352 ألف ألف درهم يقدم منها ثلاثمائة ألف درهم وعن سنتي ثلاث وأربع ألفي ألف درهم يقدم منها مائتي ألف درهم والباقي في .نجوم. ولما تقرر الأمر بذل ناصر الدولة زيادة عشرة آلاف دينار على أن يعقد لابنه أبي تغلب فضل الله الغضنفر فلم يستجب معز الدولة إلى ذلك فلما كان مستهل جمادى الآخرة وردت الخمسمائة الألف الدرهم التي وقع الاتفاق عليها مع الباهلي وقبضت وصحت في الخزانة. وأظهر معز الدولة الإصعاد إلى الموصل وأخذ يستعد له فسأله الباهلي التوقف عن المسير إلى أن يمضي برسالة إلى ناصر الدولة ويعود فقيل له : تمضي وتلتمس رد ما لزم من النفقة على التأهب للسفر. فمضى وأخرج معز الدولة مضاربه إلى باب الشماسية وخرج الحاجب سبكتكين وجماعة من القواد على المقدمة إلى الموصل وتبعه معز الدولة ومد الجسر الذي ببغداد إلى السن وعقد هناك وعبر عليه مع الجيش إلى الجانب الغربي وسار على الظهر إلى الموصل.
وكان الباهلي قد عاد بجواب الرسالة وبذل أن يحمل ثلاثمائة ألف درهم عوضاً عما لزمه من النفقة على السفر فلم يقبل منه وانصرف الباهلي من تكريت وتمم معز الدولة المسير . ولما بلغ ناصر الدولة أن معز الدولة قد قرب من الموصل ولم يكن له عزم على لقائه رحل من الموصل إلى نصيبين ورحل معز الدولة من الموصل إلى بلد في آخر النهار وخلف بالموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الغلات ويستخرج الأموال وخلف بكتوزون وسبكتكين العجمي ووهرى وجماعة من الأتراك والديلم لضبط البلد. ولما بلغ
ص: 338
ناصر الدولة مسير معز الدولة نحوه سار من نصيبين إلى ميافارقين(يوم السبت للنصف من شعبان وسار خلفه الحاجب الكبير فلما قرب من ميافارقين) رحل ناصر الدولة عنها ورجع الحاجب إلى نصيبين وعرف معز الدولة أن العدو قد رحل لما قرب منه وأنه لا يدري أين قصد فرحل معز الدولة للوقت من نصيبين يريد الموصل خوفاً من مخالفة ناصر الدولة إليها وخلف الحاجب وجماعة من القواد بنصيبين. وكان صار أبو تغلب بن ناصر الدولة وإخوته إلى الموصل ووقع بينهم وبين من خلفهم معز الدولة بها حرب شديدة وكانت على أولاد ناصر الدولة وانصرفوا إلى الموصل وأحرقوا زبازب معز الدولة التي كانت ببلد وزواريق العسكر التي كانت بالموصل وبلغ ذلك معز الدولة فسكنت نفسه إلى ظهور أصحابه بالموصل على بني حمدان. فلما كان بعد ذلك اجتمع ناصر الدولة مع أولاده وقصدوا الموصل فأوقعوا ببكتوزون وسبكتكين العجمي وعسكر معز الدولة الذي كان خلفه بالموصل واستأمن الديلم إلى ناصر الدولة فأخذ تراسهم وأحرقها ووهب لكل واحد منهم عشرة دراهم وصرفهم وأسر بكتوزون وسبكتكين وسائر الأتراك ووهرى وصاعداً وأحمد الطويل غلام موسى فياذه وكان قد أصعد من الأهواز ليتظلم إلى معز الدولة من وضيعة لحقته في ضمان كان في يده وأخذ بنو حمدان ما كان لمعز الدولة بالموصل من كراع وسلاح وثياب خز ومائتي ألف درهم كانت (حملت إليه من بغداد ومائتي ألف درهم كانت) للحاجب وحمل جميع ذلك مع الأسارى إلى القلعة. وبلغ ناصر الدولة وأولاده مسير معز الدولة من نصيبين فلم يقيموا ومضوا إلى سنجار وصار معز الدولة إلى برقعيد ولم يكن عنده ما جرى على أصحابه بالموصل وبلغه ببرقعيد أن ناصر الدولة قد صار بالجزيرة فعدل من برقعيد إلى الجزيرة فبلغه إقبال حمدان بن ناصر الدولة إليه فوقف له فإذا هو مستأمن إليه مع علوان القشيري وسار معز الدولة إلى الجزيرة فلم يجد بها ناصر الدولة فسار إلى الموصل وبلغه في طريقه ما جرى على أصحابه بالموصل فكتب إلى الحاجب وهو بنصيبين أن يصير إلى بلد وعبر هو إلى بلد وأنفذ سواده إلى تكريت. ووافاه الحاجب وأبو الهيجاء حرب بن أبي العلاء بن حمدان مستأمناً وسار يريد نصيبين ووافاه أبو جعفر العلوي النصيبيني برسالة ناصر الدولة يلتمس الصلح فلم يجبه .
وكان أبو تغلب قد صار إلى الموصل ونزل في الدير الأعلى ولم يهج في أيام مقامه أسباب معز الدولة ولا عرض لهم وأظهر جميلاً.
ومضى حمدان إلى الرحبة وكان بها الفتكين فحاربه هناك وأقبل معز الدولة إلى الموصل فرحل أبو تغلب من الدير الأعلى وجاء معز الدولة فنزل مكانه واستأمن إليه هزار مرد الصغير من غلمان أبي تغلب وجاء المسيب والمهيأ بكشمرد أسيراً فخلع على المسيب والمهيأ وطوقا وسُوّرا وراسل أبو تغلب معز الدولة بصاحبه أبي الحسن علي بن
ص: 339
عمرو بن ميمون وجرت له خطوب استقرَّت على أن ضمن أبو تغلب ما كان في يد أبيه ناصر الدولة من الموصل وديار ربيعة والرحبة على أن يحمل عن بقايا سنة 353 ستمائة ألف درهم وعن أربع سنين مستأنفة آخرها سنة 57 لكل سنة ستة آلاف ألف ومائتي ألف در هم وأن يعجل حمل الستمائة الألف مع الأسارى الذين في يده إلى الحديثة إذا حصل الأمير معز الدولة بها وضمن أن يرد من جملة ما حصل في أيديهم من المال والأمتعة التي أخذت في وقت الإيقاع ببكتوزون ما حصل في يده بقسطه ووعد بطلب الباقي وحمله وتقرر ذلك وأشهد معز الدولة على نفسه القواد والعدول وقاضي البلد بإمضاء ذلك وكتب إلى الفتكين بالانصراف من .الرحبة وكتب علي بن عمرو خطه بضمان ما تقرر عليه الأمر ورهن نفسه على إمضاء أبي تغلب ذلك وسار معز الدولة إلى الحديثة وورد صاحب أبي تغلب بالمال ثم وافاه بكتوزون وسبكتكين العجمي وسار إلى بغداد.
وفيها ورد الخبر بالموصل بأن أبا عبد الله محمد بن الحسين المعروف بابن الداعي الحسني خرج من بغداد سراً إلى بلد الديلم وخلف والدته وابنه وعياله في داره ببغداد ظاهرين .
وصار سيف الدولة إلى ميافارقين واحتال أصحابه على القلعة التي كانت حصلت له من أبي الورد وهرب نجا فحصل لسيف الدولة القلاع وأسارى الروم وأخ لنجا.
وأقام الدمستق على المصيصة وهادى سيف الدولة ببغال ودواب وثياب ديباج رومية وصياغات ذهب وقابله سيف الدولة بهدايا فصار سبباً لمقام الدمستق في بلدان الإسلام ثلاثة أشهر لا ينازعه أحد ولا يمكنه فتح المصيصة وانصرف عنها لأن البلد لم يحمله ووقع في أصحابه الوبأ فاضطر إلى الانصراف بعد أن حمل إليه مال من المصيصة .
وفيها ظهر بالكوفة رجل ذكر أنه علويّ وكان مبرقعاً فوقعت بينه وبين أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقائع فلما دخل معز الدولة بغداد هرب المبرقع .
وورد الخبر بأن نجا صار إلى مولاه سيف الدولة فأعاده إلى مرتبته .
وفيها فتك غلمان سيف الدولة بحضرته على نجا بالسيوف فقتلوه ولحق سيف الدولة في الوقت غشية مكث فيها نحو الساعة فأمرت زوجته وهي بنت أبي العلاء سعيد بن حمدان أن يُجر برجل نجا ففعل ذلك إلى أن أخرج من قصرها وفيه كان جرى على نجا ما جرى وطرح في مجرى ماء ينصب إليه المياه والأقذار وبقي فيه إلى الغد وقت العصر ثم أخرج وكُفِّن ودُفن .
وفيها وصل أبو أحمد خلف بن أبي جعفر بن بانو إلى الخليفة أوصله معز الدولة
ص: 340
فقلده سجستان وخلع عليه وعقد له لواء .
وورد الخبر بأن الأتراك نزلوا على بلد الخزر واستنصروا أهل خوارزم فامتنعوا من نُصرتهم وقالوا : أنتم يهود فإن أحببتم أن نعاونكم فأسلموا . فاسلموا إلا ملكهم. وورد الخبر بأن أبا عبد الله ابن الداعي لما وصل إلى بلد الديلم اجتمع إليه منهم عشرة آلاف رجل وأن ابن الناصر العلوي هرب من بين يديه .ثم أوقع بقائد كبير من قواد وشمكير وأنه تلقب بالمهدي لدين الله .
وورد الخبر بأن نقفور ملك الروم بنى بقيسارية مدينة وهي تقرب من بلاد الإسلام فأقام بها ونقل إليها عياله ليقرب عليه ما يريد من بلدان الإسلام وأن أهل المصيصة وطرسوس أنفذوا إليه رسولاً يسألونه أن يقبل منهم إتاوة يؤدونها إليه على أن ينفذ إليهم صاحباً له ليقيم فيهم فعمل على إجابتهم إلى ذلك فورد عليه الخبر بأن أهل هذه البلدان قد ضعفوا جداً وأنه لا ناصر لهم ولا دافع له عنها وأنه لم تبق أقوات وأنه قد آل الأمر بأهل طرسوس إلى أكل الكلاب والميتة وإنه يخرج منها في كل يوم ثلثمائة جنازة فانصرف رأيه عما كان عمل عليه وأحضر رسولهم وضرب له مثلاً وقال : مثلكم مثل الحية في الشتاء إذا لحقها البرد وذبلت وضعفت حتى يقدّر من رآها أنها قد ماتت فإن أخذها إنسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ولدغته وأنتم إنما بخعتم بالطاعة لما ضعفتم وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذيت بكم. وأخذ الكتاب الذي أورده فأحرقه على رأسه فاحترقت لحيته وقال امض إليهم وعرفهم أنه ليس عندي إلا السيف. فانصرف وجمع الملك جيوشه وعمل على أن ينفذ جيشاً إلى الشام وجيشاً إلى الثغور وجيشاً إلى ميافارقين وكان سيف الدولة بميافارقين قد تخلّص البطارقة الذين في يد نجا وكان بميافارقين نحو ألف كُرّ حنطة فمزقها وفرقها لئلا تأخذها الروم.
ثم أن ملك الروم أنفذ إلى المصيصة قائداً من قواده فأقام عليها يحارب أهلها ثم جاء الملك بنفسه فأقام عليها وفتحها عنوة بالسيف ووضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم رفع السيف وأمر أن يُساق من بقي في المدينة من الرجال والنساء والصبيان إلى بلد الروم وكانوا نحو مائتي ألف إنسان ثم سار عنها إلى طرسوس فحاصرها فأذعن أهلها بالطاعة فأعطاهم الملك الأمان وفتحوا له أبوابها فدخلها ولقي أهلها بالجميل ودعا رؤساءهم إلى طعامه فأكلوا معه وأمرهم بالانتقال عنها وأن يحمل كل واحد من ماله وسلاحه ما أطاق حمله ويُخلّف الباقي ففعلوا وساروا وسير معهم ثلاثة نفر من البطارقة يحمونهم فعرض لهم قوم من الأرمن فأوقع الملك بهم وعاقهم وقطع أنافهم لمخالفتهم أمره. ولم يزل طول طريقهم يتعرَّف أخبارهم بكتبه ورسله إلى أن عرف سلامتهم وحصولهم بأنطاكية وحمل بعضهم في البحر في شلنديات له إلى حيث أرادوا .
ص: 341
ثم جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلا لدوابه ونقل ما كان فيه من قناديل إلى بلده وأحرق المنبر وقلد البلد بطريقا من بطارقته في خمسة آلاف رجل وقلد المصيصة بطريقاً آخر وتقدم بعمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها من كل جهة فعمرت ورخص السعر بها حتى صار الخبز بها رطلين بدائق فتراجع أهلها إليها ودخلوا في طاعة الملك وتنصر بعضهم وعمل الملك على أن يجعلها حصناً ومعقلاً له لحصانتها وليقرُب عليه ما يريد من بلدان الإسلام .
وكان معز الدولة قد أنفذ كردك النقيب إلى عمان فلقي أميرها نافعاً ووافقه على الدخول في طاعة الأمير معز الدولة وإقامة الخطبة له وكتب اسمه على الدنانير والدراهم واستجاب نافع إلى ذلك وكتب اسم معز الدولة على الدراهم والدنانير . فلما انصرف كردك عنه وقف أهل البلد على ما عمله نافع من ذلك فوثبوا به وأخرجوه من البلد وأدخلوا أصحاب الهجريين القرامطة وسلموا البلد إليهم فهم يقيمون فيه نهارهم ويروحون إلى معسكرهم في آخر النهار وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليرد عليهم الأمر بما يعملون به.
وورد الخبر بأن نقفور ملك الروم عاد إلى قسطنطينية وأن الدمستق وهو ابن الشمسقيق كتب إليه يستأذنه في قصد سيف الدولة إلى ميافارقين فكتب إليه بالتوقف إلى أن يلحق به بقسطنطينية فمضى إليه وكان سيف الدولة قلد رشيقاً النسيمي وهو من وجوه أهل طرسوس فلما حصل سيف الدولة بديار بكر وسلم رشيق هذا طرسوس في جملة من سلمها إلى ملك الروم خرج إلى أنطاكية. فالتصق به إنسان صغير القدر يعرف بابن الأهوازي كان يتضمن الأرجاء بأنطاكية وكان قد اجتمع عنده مال فأغوى رشيقاً وسلم إليه ما اجتمع عنده من المال وأطمعه في أن سيف الدولة لا يعود إلى الشام وخرج معه إلى حلب وجرت بينه وبين قرغويه حروب كثيرة وصعد قرغويه إلى قلعة حلب فتحصن فيها قانفذ سيف الدولة خادماً له أسود ويعرف ببشارة ليكون مع قرغويه في القلعة فنزل هذا الخادم في بعض الأيام وانضم إليه قطعة من الأعراب كانوا قد وافوه وجماعة من الجند والغلمان فلما أحس بهم رشيق انهزم وسقط عن دابته فنزل إليه رجل من الأعراب من بني معاوية عرفه فحز رأسه وصار به إلى قرغويه وبشارة وانهزم أصحاب رشيق وتركوا كل ما لهم في ظاهر حلب وهرب ابن الأهوازي إلى أنطاكية وكان أخوه مقيماً بها . فنصب رجلاً من الديلم اسمه دِزْبَر وسماه الأمير واعتضد برجل علوي أفطسي ووعده العلوي إن تم له الأمر أن يجعله الرئيس والمدبر وتسمى بالأستاذ فظلم الناس بأنطاكية وجمع الأموال وقصده قرغويه إلى أنطاكية وجرت بينهما وقعة فكانت على الأهوازي أكثر الليل وقطعة من النهار ثم صارت له على قرغويه لأن أهل البلد عاونوه .
ص: 342
وقد كان سيف الدولة كتب إلى قرغويه ألا يخرج إلى أنطاكية فانهزم قرغويه وعاد إلى حلب وانصرف سيف الدولة من الفداء ودخل حلب وأقام بها ليلة وخرج من غد فواقع دزبر وأضر دزبر وابن الأهوازي في ضيعة في طريق بالس يعرف بتسعين فانهزم أصحاب دزبر وأسر دزبر ومضى ابن الأهوازي فطرح نفسه في بيوت بني كلاب فوجه إليهم سيف الدولة يطالبهم به ووهب لهم ثلاثين ألف درهم فسلموه إليه وقتل دزبر واعتقل ابن الأهوازي مدة ثم خرج ملك الروم إلى الشام واشتغل سيف الدولة به وأمر بإحضار ابن الأهوازي فقتل بحضرته .
وفي هذه السنة أنفذ أبو تغلب بن ناصر الدولة إلى الأمير معز الدولة شيئاً كثيراً من المال والثياب التي كانت أخذت بالموصل وقت القبض على بكتوزون فأما المال فإنه قبله وأما الثياب فإنه ردها عليهم وقال : لعل فيها شيئاً استحسنتموها وقد وهبتها لكم . وكانت لها قيمة عظيمة ولكنه ترفع عن ارتجاعها.
وفيها ورد الخبر بأن بني سليم قطعوا الطريق على قافلة المغرب ومصر والشام الحاجة إلى مكة في سنة 354 وكانت قافلة عظيمة وكانت فيها من الحاج والتجار والمنتقلين من الشام إلى العراق هرباً من الروم ومن الأمتعة التي لهم نحو عشرين ألف حمل منها دق مصر ألف وخمسمائة حمل ومن أمتعة العرب اثني عشر ألف حمل وكان في الأعدال الأمتعة من العين والورق ما يكثر مقداره جداً. وكان فيها لرجل يعرف بالخواتيمي قاضي طرسوس مائة وعشرون ألف دينار عيناً وإن بني سليم أخذوا الجمال مع الأمتعة فبقي الناس رجالة منقطعاً يهم كما أصاب الناس في الهبير سنة القرمطي فمن الناس من عاد إلى مصر ومنهم وهم الأكثر تلف.
وورد الخبر بأن أبا عبد الله العلوي ابن الداعي لبس الصوف وأظهر النسك والصوم وتقلد المصحف وواقع ابن وشمكير فهزمه وأسر جماعة من أصحابه وقواده وعمل على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتاباً يدعوهم فيه إلى الجهاد. وفيها لقب الحبشي بن معز الدولة بسند الدولة وكتب به كتاب عن الخليفة .
كنا حكينا من أمر عمان ما جرى في أمرها إلى وقعت دخول القرامطة إليها باختيار أهلها وكان مع القرامطة كاتب يعرف بعلي بن أحمد وكان هو الذي ينظر في أمر البلد والجيش. وكان قاضي البلد رجلاً له عشيرة وعزّ منيع فرأى مع وجوه البلد بعد نفي نافع من البلد أن ينصبوا في الإمرة رجلاً يعرف بابن طغان وكان من صغار القواد بعمان
ص: 343
وأدناهم مرتبة فخاف من القواد الذين فوقه في المرتبة والمحل أن يغلبوه على أمره فقبض على ثمانين قائداً منهم وقتل بعضهم وغرق بعضهم. وقدم إلى البلد ابنا أخت لرجل ممن غرق وسألا عن حاله فعرفا أنه غرق فأمسكا وأقاما مدة فلما كان يوم من أيام السلام دخلا في جملة المسلمين على ابن طغان فلما تقوض المجلس فتكا به وقتلاه .
فأجمع رأي الناس على عقد الأمر لعبد الوهاب بن أحمد بن مروان قرابة القاضي فوجهوا يلتمسونه فاستتر فألزموا القاضي إحضارَهُ وإلزامه تقلد إمارة البلد ففعل القاضي ذلك وراسله فظهر وتقلد الأمر وبويع له واستكتب له علي بن أحمد الكاتب الذي كان وافى مع الهجريين ووافق علي بن أحمد الجيش على أن يطلق لهم رزقتين صلة فأخرجت الأموال وابتدأ علي بن أحمد ينفق في الناس رزقتين فلما انتهى إلى الزنج وهم ستة آلاف رجل لهم بأس وقوة وقال لهم : إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أطلق لكم أنتم رزقة واحدة فقط. واضطربوا من هذا فقال لهم : امضوا إليه وخاطبوه . فمضوا فلما بعدوا منه قليلاً استردهم إلى مجلسه وقال لهم : إنكم إذا مضيتم لم يوصلكم إليه ولم يزدكم على رزقة واحدة فهل لكم أن تبايعوني وأطلق لكم رزقتين وتكون الإمارة لي؟ فقالوا: نعم. فأطلق لهم رزقتين فاضطرب البيضان من ذلك ووقع بينهم وبين الزنج مناوشة فقتل من البيضان جماعة فسكنوا وصارت كلمتهم وكلمة الزنج واحدة وبايعوا علي بن أحمد ثم راسلوا عبد الوهاب بن أحمد بن مروان بأنا قد عقدنا الأمر لغيرك فاخرج عن البلد. فخرج وحصل الأمر لعلي بن أحمد .
وفيها خرج الأمير معز الدولة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين وأنفذ جيشاً إلى عمان وكان خروجه من بغداد يوم الثلاثاء الحادي عشر من رجب ورحل إلى واسط وهو محموم فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من رجب وافى نافع الأسود مولى يوسف بن وجيه مستأمناً إليه فقبله. ونظر معز الدولة فيما يحتاج إليه من أمر عمان مما سنذكره وانحدر من واسط إلى الأبلة ونزل في شاطئها في شاطئ عثمان في دار البريديين وأخذ في الاستعداد لإنفاذ جيش إلى عمان وبنى الشذاءات والمراكب قبل ذلك وطالب الديلم بالخروج إلى عمان فاستجابوا إلا قوماً وهم بضعة عشر رجلاً فإنهم امتنعوا فأمر بطردهم فانقاد الديلم والأتراك إلى ما أراد وندب أبا الفرج محمد بن العباس للخروج مع الجيش إلى عمان لرياستهم وتدبير الحرب وولاية البلد إذا فتحه .
فلما كان يوم الخميس للنصف من شوال نفذ الجيش في المراكب والشذاءات وهي مائة قطعة ومعهم المعروف بأبي عبد الله جبّ ونافع الأسود فلما صاروا بسيراف انضم إليه جيش عضد الدولة في مراكب وشذاءات وكان أعدهم هناك نجدة لعمه فلما وصل أبو الفرج إلى عمان مع الجيش دخلها وملكها وقتل بها مقتلة عظيمة وأحرق
ص: 344
مراكب أهل عمان وهي تسعة وسبعون مركباً. فأما عمران بن شاهين فإنه أنفذ معز الدولة إليه أبا الفضل العباس بن الحسين الشيرازي مع جيش فابتدأ أبو الفضل يسد الأنهار عن البطائح وأصعد معز الدولة إلى واسط ومنها إلى بغداد وخلف بواسط عسكره وغلمانه والحاجب الكبير على أن يعود إلى واسط بعد عشرين يوماً فيستتم ما شرع فيه من أمر عمران فلما وصل إلى بغداد مات فدفعت الضرورة إلى مصالحة عمران كما سنشرحه من أخباره في سنة 356.
وفي هذه السنة انهزم إبراهيم السلار من بين يدي أبي القاسم بن ميشكي بآذربيجان وورد حضرة ركن الدولة بدابته وسوطه ولم يفلت معه أحد فأكرمه ركن الدولة للوصلة التي كان عقدها المرزبان وكان ركن الدولة قد رزق من أخت إبراهيم ابنه أبا العباس وبالغ ركن الدولة في إعظام إبراهيم وأجزل له العطاء وحمل إليه من كل صنف يكون عند الملوك وفي خزائنهم. وكنت حاضراً بالري فركبت للنظر إلى الهدايا المحمولة إلى إبراهيم فوقفت مع جماعة النظارة قريباً من دار الإمارة وابتدأت الهدايا تحمل من تخوت الثياب والرزم والإسفاط من جميع أصناف الثياب فكانت مع مائة رجل يحملونها على رؤوسهم ثم ابتدأت هدايا الطيب وكانت على صواني فضة وآلاتها من الأدراج وغيرها وكانت على أيدي ثلاثين رجلاً ثم ابتدأت بدر الأموال فكانت على صدور الرجال مع صرار الذهب أما أكياس الدراهم فكانت مع خمسين رجلاً وأما صرر الدنانير فكانت من حرير أحمر مع عشرين رجلاً ليفرق بينهما وكانت أكياس الورق بيضاء ثم ابتدأت خزائن الفرش على البغال فلم أحصها وتبعها جنائب الدواب بمراكب ذهب وفضة وجلال ثم تبعها الجمال مزينة موقرة بآلات الفرش الثقيل والخيم والخركاهات والشرع والسرادقات فكانت كثيرة حسنة لم أر مثلها هدية في وقت واحد يسمح بها.
لما انهزم إبراهيم من بين يدي إسماعيل بن وهسوذان وأبي القاسم بن ميشكي إلى أرمينية ابتدأ في أهبة أخرى واستعداد آخر فبالغ واجتهد وكاتب ملوك أطرافه من الأرمن وغيرهم وجمع الأكراد واستصلح ناحية جستان بن شرمزن ورغب الناس في الولايات والإقطاعات وبذل خطه لهم بها واتفق أن توفي إسماعيل بن وهسوذان فسار إبراهيم إلى أردبيل وملكها وانصرف ابن ميشكي مع جماعة إلى طاعة وهسوذان فزحف إبراهيم إلى الطرم منازعاً عمه وطالباً بثأر أخويه جستان وناصر فأحجم وهسودان عن لقائه والثبات له وشجعه أبو القاسم بن ميشكي فأبى عليه ورأى أن يسير إلى بلاد الديلم فسار معه أبو القاسم بن ميشكي ودخل إبراهيم إلى أعماله فخبط أسبابه ودوخ دياره وبحث عن أمواله
ص: 345
وبالغ في الإضرار به مدة ثم عاد إلى آذربيجان. وجمع وهسودان وابن ميشكي الرجال من سائر بلدان الديلم فاحتفلا واحتشدا ورجعا إلى الطرم وسار أبو القاسم بن ميشكي إلى آذربيجان وقد قواه و هسودان بالمال والرجال فنزل إليهم إبراهيم وجرت بينهما حروب كانت على إبراهيم فانهزم على تلك الحال وتبعه الطلب من قبل عمه وهسوذان فتقطع الناس عنه حتى بلغ الري إلى حضرة ركن الدولة على حاله لائذاً به.
وفي هذه السنة تم الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي حصين.
وفيها لقب الخليفة أبا منصور بويه بن ركن الدولة بمؤيد الدولة وكتب بذلك إلى الأمصار.
ورد الخبر على ركن الدولة بالري بخروج قوم من خراسان يحزرون عشرين ألفاً ويظهرون أنهم غزاة واستراب بهم صاحب الحد وهو لسفوزن بن إبراهيم وذلك أنهم عاثوا لما دخلوا الحد وخاطبهم وراسل رؤساءهم فلم يجد عندهم نكيراً ولم ير سيرتهم سيرة الغزاة ولم يكن لهم رئيس واحد بل كان لأهل كل بلد من بلادهم رئيس منهم فلما ورد كتاب أسفوزن بصورتهم أشار الأستاذ الرئيس حقاً على ركن الدولة ألا يأذن لهم في دخولهم مجتمعين وأن يراسلهم في أن تصير منهم عدة في نحو ألفي رجل إلى الري فإذا خرجت هذه العدة منها ورد مثلها حتى يتتابعوا على ذلك فلا تكون منهم معرة ولا يحدثوا أنفسهم بسوء أدب فامتنع ركن الدولة من قبول رأيه «ولا يتحدث الملوك إني احترزت من لفيف خراسان وخشيت نايرتهم» فقال له وزيره أعني الأستاذ الرئيس حقاً : فإن لم تفعل هذا فكاتب عساكرك فإنهم متفرقون عنك بالجبل وأصبهان وغيرها حتى تتوافى إليك فإن معك بالري عدة يسيرة وأنت غير مستظهر بالرجال ولا آمن أن يكون لهؤلاء القوم مواطأة مع صاحب خراسان وعددهم كثير وهم مستعدون بعلة الغزو ونحن على غير أهبة ولا استعداد فأبى عليه في هذا الرأي ولم يحفل بالقوم وكاتب صاحب الحد بأن يأذن لهم ويفرج عن وجوههم ولا يُصير للشر مبدأ .
فسار القوم بأجمعهم ومعهم فيل عظيم من بين الفيلة حتى نزلوا بالري واجتمع رؤساؤهم إلى مجلس الأستاذ الرئيس يخاطبونه في مسألة الأمير ركن الدولة أن يطلق لهم ما لا يستعينون به على أمرهم فوعدهم بذلك وظن أن القليل يسعهم على رسم الغزاة فإذا هم
ص: 346
يطمعون في شيء كثير وقالوا: نحتاج إلى مال خراج هذه البلدان كلها التي في أيديكم فإنكم إنما جبيتموها لبيت مال المسلمين لنائبة إن نابتهم ولا نائبة أعظم من طمع الروم والأرمن فينا واستيلائهم على ثغورنا وضعف المسلمين عن مقاومتهم . وسألوا مع ذلك أن يخرج معهم جيش ينضمون إليهم وأخذوا في هذا النحو من الكلام وتبسطوا في الاقتراح ورفع الأصوات وكان معهم فقهاء خراسان وشيوخها مثل المعروف بالقفال وغيره. فتبين الأستاذ الرئيس خبث سرائرهم وتيقن ما كان ظنه بهم من الشر وطلب الفتنة ولكنه كان يداريهم ويرفق بهم . فلما لم يجدوا سبيلاً من طريق القول إليه والشغب به عدلوا إلى مشافهة الديلم فكانوا يكفرونهم ويلعنونهم وكان ذلك في شهر رمضان وكانوا يخرجون ليلاً ومعهم آلاتهم من السيوف والحراب والقسي والسهام ويزعمون أنهم يأمرون بالمعروف فيسلبون العامة مناديلهم وعمائمهم وإذا تمكنوا من تفتيشه وأخذ جميع ما معه لم يقصروا فيه والناس مع ذلك يدارونهم. فاتفق أن وقعت بينهم وبين بعض أصحاب إبراهيم بن بابي خصومة لم يحتملها منهم فتأدى إلى القتال فقتل ذلك الرجل الديلمي واجتمع رفقاؤه للقتال فاجتمع من الغزاة نحو ألف رجل على باب إبراهيم بن بابي فخرج إليه محامياً على أصحابه وقاومهم مدة إلى أن راسله ركن الدولة بالكف وراسلهم بمثل ذلك فأبوا فتسرع الديلم ومن كان قريباً لنصرة الديلم فاشتبكت الحرب وحجز بينهم الليل ورجع الخراسانية إلى معسكرهم يضربون بطبولهم الليل كله ويتواعدون للقتال . فلما أصبحوا باكروا الحرب ودخلوا المدينة من ناحية أجران وفيها دار الأستاذ الرئيس (وبرز للقائهم وبين يديه حاجبه روين وكان شهماً شجاعاً فحمل عليهم في غلمان دار الأستاذ الرئيس) فحاربهم وكسرهم حتى رجعوا إلى الدرب الذي دخلوا منه ثم كثروا عليه ولم يول عنهم حتى طعنه بعضهم بحربة دخلت في كم درعه وأفضت إلى ساعده فخرقته وكثر الناس عليه وحامى عليه الأتراك الذين معه حتى رد إلى منزله وقد نزفه الدم وضعف وانكسر الأستاذ الرئيس ومضي كل من معه وثبت بنفسه على عادته . فتعلق به السلار وكان حاضراً معه وقال له : أيها الأستاذ ارجع إلى الأمير ولا تفجعه بنفسك فإنه لم يبق حواليك أحد. وأخذ بلجامه ورده وسمعته يقول : عصبها بي وأنت بريء من عارها فرجعا إلى دار الإمارة واشتغل الخراسانية بنهب داره واصطبلاته وخزائنه وكانت موفورة جامة إلى أن أتى الليل وانصرفوا وكان إليَّ خزانة كتبه فسلمت من بين خزائنه ولم يتعرض لها . فلما انصرف إلى منزله ليلاً لم يجد فيه ما يجلس عليه ولا كوزاً واحداً يشرب فيه ماء فأنفذ إليه ابن حمزة العلوي فرشاً وآلة . واشتغل قلبه بدفاتره ولم يكن شيء أعزّ عليه منها وكانت كثيرة فيها كل علم وكل نوع من أنواع الحكم والآداب يحمل على مائة وقر وزيادة فلما رآني سألني عنها فقلت : هي بحالها لم تمسها يد. فسرى عنه وقال : أشهد أنك ميمون النقيبة أما سائر الخزائن فيوجد منها عوض وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها . ورأيته قد أسفر وجهه وقال : باكر بها في غد إلى الموضع الفلاني. ففعلت
ص: 347
وسلمت بأجمعها من بين جميع ماله .
واجتمع الخراسانية من غد ذلك اليوم وكانوا قد كسروا ركن الدولة في آخر نهار أمسه وقويت نفوسهم وكانوا قصدوا باب روين الحاجب لينتهبوا داره وكان طريحاً فيها غير مستقل فأمر غلمانه بطرح الحطب المعد للشتاء خلف الباب وإشعاله بالنار ففعل ذلك فلم يصلوا إلى الدار من نحو الباب وراموا أن يتسوّروا سورها فرماهم الغلمان بالسهام فتراجعوا عنها وعملوا على مباكرتها من الغد فلما أصبحوا راسلهم ركن الدولة وداراهم وعرض على أن ينقلعوا من مملكته فلم تكن فيهم حيلة وكان الأمر قد أبرم معهم بخراسان وكانوا ينتظرون مدداً يلحقهم. وأشار على ركن الدولة نصحاؤه بالمسير إلى أصبهان مع أولاده وحرمه ويترك هؤلاء والري حتى يجتمع إليه عساكره ويقصدهم بعديد وعباد فأبى عليهم وخاطر بنفسه ودولته فإنه كان في خمسمائة من قواده وخواصه ونحو ثلاثمائة من الغلمان وباقي عسكره كما ذكرنا متفرقون في ولاياتهم فلما كان من غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان تفرق الخراسانية على أبواب المدينة وهجموا من كل وجه فامتلأت منهم الشوارع والمحال ونادوا في البلد بما يسكن الناس والرعية وقصدوا دار الإمارة وفيها الأمير وأولاده وخزائنه . وكان الأستاذ الرئيس أمر بتحميل ما أمكن والمبادرة بالحرم وصغار الأولاد إلى طريق أصبهان لينتظروا ما يكون من أمر الحرب وهم على ظهور الدواب مستعدين للتوجه إلى حيث شاؤوا فاغتص الميدان الذي في الدار بالبغال التي عليها صناديق الخزائن والعماريات فلم يكن للأمير ركن الدولة مخلص من بينها وكان قد ركب في غلمان داره والأستاذ الرئيس معه وجماعة من قواده وحاشيته فلم يجدوا طريقاً إلى الخروج لتزاحم من ذكرت فوضع بينهم الدبابيس وكسرت عدة الصناديق والبغال حتى أفرج للفرسان على ضغط شديد وزحمة منكرة فخلصوا إلى الطريق وكنت مع القوم. وكان الخراسانية قد دنوا من الباب ومعهم السلاليم وعندهم أن ركن الدولة يتحصن في داره فخرج ركن الدولة من نحو الميدان وخرج حجابه من الأبواب الأخر وصدموا القوم وصدقهم الديلم في المضايق حتى ردوهم إلى الصحراء من الناحية المعروفة بالشجرة بعد أن أشرفنا على ذهاب النفس وزوال الدولة فلما حصلوا في السعة صافوا رجالهم للحرب .
كان ديلم ركن الدولة ضعفت نفوسهم لما رأوا كثرة الرجال من أعدائهم وقلة عددهم وأقبلوا يقولون: أتينا من ورائنا فأشفق ركن الدولة إشفاقاً شديداً وقال لأصحابه : طيبوا نفساً فإن الذين وراءنا هم أصحابنا وبشرهم بورود علي بن كامه وتقدم إلى الركابية والمجرين أن يبادروا إلى نحو طريق علي بن كامه الذي يقبل منه
ص: 348
وأمرهم أن يركضوا هناك ويثيروا الغبرة ما استطاعوا ففعل القوم ذلك وارتفع الرهج وكبر الناس وقالوا هذا علي بن كامه ونشط الناس ركن الدولة وقال لهم : احملوا حملة قبل وروده فحمل الديلم بنشاط واستبشار بورود المدد فكانت إياها وركب الخراسانية بعضهم بعضاً فدس ركن الدولة إلى بعض رؤساء الخراسانية بالانحياز إليه فأمنه وبذل له ففعل وتحطم ذلك العسكر وقتلوا كل مقتلة وطلبوا الأمان فأمنهم على أن يتخلى لهم الطريق فأجابهم إلى ذلك. وكان قد حصل منهم عدد كثير بالبلد يذبحون كل من وجدوه على زي الديلم فإذا ذبحوه كبروا كما يفعل في بلد الكفر بالكفار فبينما هم كذلك إذ انكفأ إليهم الديلم ظافرين فهموا بهم وقتلوا بعضهم حتى نادى فيهم ركن الدولة بالأمان وأمر الديلم بالكف فلما كان بالليل تحملوا وانصرفوا على سمت قزوین هائمين على وجوههم لا يلوي بعضهم على بعض .
ثم وردت بعدهم خيل أخرى نحو ألفي رجل بالعدة والسلاح ولم يلحقوا أصحابهم إلا مفلولين هاربين فراسلهم ركن الدولة بأن يتوقفوا ولا يرحلوا وأشفق أن يكون لهم بقزوين أو في بعض الممالك عبث واجتماع آخر فلم يفعلوا وتعجلوا بالرحيل في أثر أصحابهم فأسرع في طلبهم وركض خلفهم حتى أدركهم فصافوا الحرب فقتل منهم عدداً كثيراً ورد الباقين إلى الري بعد أن طلبوا الأمان. ثم أذن لهم في الخروج وأطلق أساراهم وأقر لهم بنفقات فخرجوا. وقد ذهبت حشمتهم وزالت هيبتهم عن صدور الناس ولو أنهم خرجوا بالماء الذي كان لهم لبلغوا من الروم كل مبلغ ولكثرت غزاة المسلمين معهم ولله أمر هو بالغه .
فسمعت الأستاذ الرئيس رحمه الله بعد ذلك يقول : لم أر قوماً أشد من هؤلاء وما فرق جمعهم إلا كثرة رؤسائهم وتحاسدهم وقد كانت لهم فرص لو انتهزوا بعضها لتم لهم أمرهم منها يومهم الذي دخلوا فيه الري فإنهم اجتازوا بأجمعهم وفي مواكبهم على باب الأمير وهو غار وليس ببابه كبير أحد فلو هجموا عليه ما حال بينهم وبينه أحد . ومنها ليلة دخلوا البلد لو أقاموا وقصدوا دار الإمارة ما تحرك في وجوههم أحد وكانت ليلة مقمرة وهي ليلة النصف وهي كنهار غدها إشراقاً وإضاءة ولكن القوم عملوا على دخول البلد يوم عيد الفطر والناس مشغولون (بالصلاة) بمصلاهم غارون وانتظروا أيضاً المدد الذي وعدوا به وكانت الأخبار والرسل تأتيهم بقربهم منهم فعملوا على ذلك. وأبت المقادير إلا صنع الله لركن الدولة وذلك بحسن نيته ودعاء رعيته له ونظر الله تعالى للناس .
وكان لإبراهيم السلار في هذه الأيام مواقف حسنة وآثار جميلة وأصابت بطنه حربة لم تصل إلى أحشائه لكثرة شحمه لأنه كان سميناً بطيناً ولكنها صارت فتقاً فكان يشدها بعصائب ورفائد إلى أن توفي بعد ذلك بسنين .
ص: 349
وفي هذه السنة أخرج ركن الدولة الأستاذ الرئيس مع إبراهيم السلار مددا له في نخب الرجال من الديلم والعرب وأصناف العسكر حتى فتح بلاد آذربيجان وأصلح الأستاذ الرئيس له قلوب أصحاب الأطراف وطوائف الأكراد وقاد جستان بن شرمزن إلى طاعته فلما فرغ من جميع ذلك ووطأ له النواحي ومكنه منها خرج عائداً إلى حضرة ركن الدولة (بالري).
لما صار الأستاذ الرئيس حقاً إلى آذربیجان رأى زكاء أرضها وكثرة ريعها وسعة مياهها واحتمالها للعمارة وحسب ما يرجى من ارتفاعها فوجده مالاً عظيماً مثل ارتفاع ممالك ركن الدولة أو قريباً منه ونظر إلى ما تحصل لإبراهيم السلار منه فوجده شيئاً نزراً قليلاً جداً وذلك لسوء تدبير إبراهيم وإهماله الأمور واشتغاله باللعب والنساء والسكر الدائم وطمع ضروب المعاملين فيه ولا سيما الأكراد الذين قد استأكلوا تلك النواحي . ثم قد عرف بالتزيد وقلة الوفاء فليس يوثق بيمينه ولا عهوده فعلم الأستاذ الرئيس أنه إذا فارق الناحية عادت الصورة مع إبراهيم إلى ما كانت ولم يلبث أن يطمع فيه ويخرج من المدينة ثم من الناحية كلها أو يقتل فيضيع سعي ركن الدولة وسعيه . فكتب إلى ركن الدولة بصورة الناحية وصورة إبراهيم فيها وعرفه مقدار ما يصل إليه منها وأشار عليه أن يدبر الناحية لنفسه ليرفع له منها خمسون ألف ألف درهم ويعوض إبراهيم مما يحصل له وكان مقدار ما يرتفع له من هذه الجملة بعد ما يخرج في إقطاعات الديلم والأكراد وبعد ما يستولي عليه قوم متعززون لا يتمكن من استيفاء الحقوق عليهم وبعد ما يضيع بالإهمال وترك العمارة أقل من ألفي ألف درهم فرأى أن يعوض إبراهيم من ارتفاع الري أو أصبهان أو همذان هذا المقدار ويجلس آمناً فارغ البال ويشتغل بما يوثره من صحبة المغنين والمساخر ويتسلم الأستاذ الرئيس آذربيجان فيرفع منها لركن الدولة ما ذكرت مبلغه وكان يرجو أكثر منه ولكنه استظهر عليه . فأبى عليه ركن الدولة وفكر في شيء يفكر فيه مثله من أصحاب الهمم الكبار وقال : يتحدث الناس أني افتتحت البلاد لرجل لجأ إليّ ثم طمعت فيه ! وأمر الأستاذ الرئيس بالانصراف إليه مع عسكره وتسليم البلاد إلى إبراهيم.
فاذكر يوماً كنت جالساً فيه بين يدي الأستاذ الرئيس وهو يحدثني بالشدة التي قاساها هو وعسكره فى سفرته وقلة جدواها وثمرتها وأنها لو أثمرت نعمة باقية عند إبراهيم لكان محتملاً لها وراغباً فيما ينشر من الأحدوثة الجميلة عنه بعدها ثم قال : ولكني سأضرب لك مثلاً لما نحن فيه وتأمله الآن لتتذكره فيما بعد. أما شهدت من يغزل الإبريسم ويفتله بالمغازل الكثيرة المعلقة بالصنارات على شبيه الصوالجة من
ص: 350
الزجاج . قلت بلى قال : أما تعلم أن الصانع إنما يتعب حتى ينصب هذه الآلة وينظمها ثم يكفيه بعد ذلك أن يتتبع أذناب تلك المغازل ويتعاهدها بالفتل؟ فنحن قد أحكمنا الآلة والمغازل دائرة والإبريسم ممدود والفتل مستمر به فإذا فارقنا الموضع ابتدأت القوة التي في الدوران تضعف وليس لها من يمدها بحركة فيبتدئ في الاسترخاء وتضعف سرعة دوران المغازل ثم تبتدئ في الانتكاث وتنقلب راجعة بعكس ما كانت تدور ثم لا تجد أيضاً من يتعاهدها فيتساقط أولاً أولاً حتى لا يبقى منها شيء. فكأن هذا المثل كان وحياً فإنه ما أخطأ شيئاً من صورة إبراهيم بعد خروجنا وانتهى أمره بعد ذلك النظم الذي نظم له إلى أن طمع في ملكه حتى انسلخ منه شيئاً بعد شيء إلى أن أسر وحبس في بعض تلك القلاع كما سنحكيه فيما بعد إن شاء الله .
وفيها قصد معز الدولة عمران بن شاهين صاحب البطائح وكان قد صمم على مناجزته وأبى أن يقبل منه صلحاً ومالاً أو يرضى منه إلا بحضور بساطه. فاتفق أن اعتل من ذرب لحقه وأحس بالضعف فعاد إلى واسط وخلّف على عسكره سبكتكين الحاجب وظن أنه يتماثل فيعاود واشتدت به العلة وكان لا يثبت في معدته طعام وأحس بالموت ورجع إلى بغداد وعهد إلى ابنه بختيار عز الدولة وأظهر التوبة وأحضر وجوه المتكلمين والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحتها ولقنوه ما يجب أن يقول ويفعل وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه وردّ شيئاً كثيراً من المظالم وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة 356 وكانت له أخبار وأحوال منها إنفاذه جيش الماء والديلم إلى عمان حتى فُتحت له ولم يكن فيها ما يستفاد منه تجربة فطويناها .
وكان اتفق عند موته اتفاق حسن لعز الدولة فرأينا إثباته ليكون معدوداً في جملة أمثالها من الاتفاقات العجيبة .
لما مات معز الدولة ألخ المطر ببغداد ثلاثة أيام بلياليها إلحاحاً شديداً منع الناس من الحركة ولم يتمكن الديلم من اطلاع رؤوسهم ومنع سائر الناس من البروز وتردّد النقباء إلى رؤسائهم فأرضى كل أحد بما سكن إليه وانجلت السماء عن سكون الجند ورضاء الكافة . فكاتب عز الدولة سبكتكين وسائر العسكر بمصالحة عمران بن شاهين والانصراف عنه إلى بغداد ففعل ونُفِّس خناق .عمران وصولح صاحب الموصل واستقرت الأمور بيده.
وفيها وردت الأخبار بإقبال جيش قوي من خراسان مع ابن سمجور ليجتمع مع وشمكير .
ص: 351
ذكر السبب في ذلك
لما اعتل أبو علي محمد بن الياس وفلج بكرمان وخالفه أولادهُ وقصده عضد الدولة رحل إلى خراسان ولقي صاحب خراسان وبرىء بعض البرء وصار نديماً له يعاشره ويؤانسه فسوّل له قصد ممالك الديلم وأطمعه فيها وزعم أن أصحاب جيوشه ليس يناصحونه ويقبلون الهدايا والرشى . فوافق ذلك ما كان يشكوه إليه وشمكير حالاً بعد حال فاتصلت المكاتبة بين وشمكير وبين صاحب خراسان وكذلك الحسن بن الفيرزان إلى أن وقعت المعاضدة والموافقة على أن يدبّر جميع الجيوش وشمكير. وأنفذ صاحب خراسان إلى وشمكير وإلى الحسن بن الفيرزان هدايا كثيرة من دواب وغلمان وآلات وسرّب إليهما أمداد الجيوش مع صاحب جيشه محمد بن إبراهيم بن سمجور وعلى أن يكون الرئيس على الجميع وشمكير. فورد من ذلك على ركن الدولة ما لم يكن في الحساب وعلم أن الأمر قد بلغ الغاية وليس إلا الفيصل فكاتب عضد الدولة يستمده الرجال والمعونة وكاتب عز الدولة بمثل ذلك. فأما عضد الدولة فأمدَّه بخيل عليها أبو جعفر بن روزمان و شخص بنفسه إلى إصطخر ليسير إلى خراسان وسير أحد حجابه في جيش المقدَّمة إلى طُريث وأظهر في عسكره أن جيش خراسان قد ساروا بأجمعهم مع لفيف البلدان وغُزاتهم إلى الري وخراسان خالية وليس دون ملكها شيء واتصل ذلك بالقوم فأحجموا قليلاً. واتفق سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته فانتقض ذلك الأمر كله.
اتفق أن استعرض وشمكير خيله وما قيد إليه من جهة صاحب خراسان فكان في جملها فرس أدهم حسن الصورة فأعجبه وأمر بإسراجه وعزم على ركوبه والتصيد في ذلك اليوم. فدخل إليه منجمه فنهاه عن الركوب فخالفه فلما أصحر عارضه خنزير قد أفلت من أصحابه وقد رُمي بحربة فثبتت فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو كالغافل فضربه وفرسه فشبَّ الفرس وسقط وشمكير على دماغه فخرج من أنفه وأذنيه دم وحمل ميتاً وذلك يوم السبت في أول يوم المحرَّم سنة 357.
وقد كان بختيار عز الدولة اجتهد في إخراج سبكتكين مع جيش كثيف على الرسم فامتنع سبكتكين عليه فأوحشه بذلك واضطرب بختيار لأنه لم يجد من يطيعه في الخروج إلى أن انتدب الفتكين وقد كان يتلو سبكتكين في المرتبة وأحب أن يظهر في تلك الحالة فضلاً وحسن طاعة للمنافسة التي كانت بينه وبين سبكتكين فضم إليه جيشاً وورد الري وقد استغنى عنه فعاد .
ص: 352
كان أبوه معز الدولة حسين أيقن بالتلف وصاه بطاعة ركن الدولة واستشارته في كل ما يعرض له من مهم وكذلك بطاعته لابن عمه عضد الدولة لأنه أسن منه وأقوم بالسياسة . ووصاه بإقرار كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمد بن العباس فإنهما أكفى من غيرهما وأعرف بوجوه الخدمة. ووصاه بمداراة الديلم وإزاحة عللهم عند أوقات استحقاقاتهم لئلا يخرقوا هيبته بالشعب وطلب الفتن ووصاه بالإحسان إلى الأتراك فإنه جمرة عسكره وإذا رابه من الديلم ريب أمكنه أن يقمعهم .به. ووصاه بعد الإحسان إلى الأتراك بكبار الحاشية وصغارهم وأن يجريهم على عادتهم ورسومهم . فخالف هذه الوصايا كلها واشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المساخر والمغنين والنساء وأوحش كاتبيه وضرب بينهما حتى استوحشا جميعاً منه وطمع في إقطاعات كبار حاشيته وفي سبكتكين خاصة وهو صاحب جيشه وكان معز الدولة وصاه بألا يقطع أمراً دونه وكان ذا إرب وسياسة وله رئاسة في العسكر قديمة متمكنة يهابه الجميع ويطيعونه واحتجب عن عسكره بما ذكرته من الشغل باللعب والسكر الدائم. وابتدأ بمناوأة عضد الدولة وذلك أنه منع صاحبه المقيم ببغداد من شري الدواب وآلات خدمته التي كان يستدعيها وجرت عادته بالتمكن منها وترك استشارة عمه ركن الدولة في كل ما عرض له فكان من عاقبة ذلك أن سبكتكين صاحب جيشه لما أحس بطعمه فيه وفي نعمته انقبض عنه فصار لا يركب إليه ولا يثق به واقتصر على التراسل على أيدي المتوسطين وكان لسبكتكين أصحاب أخبار في العسكر وفي دار بختيار خاصة وله عيون وجواسيس من خاصة حاشيته وبطانته فكان لا يخفى عليه شيء من حركاته فضلاً عن تدابيره. فأما كاتباه أبو الفضل العباس بن الحسين وأبو الفرج محمد بن العباس فإنهما لما عرفا قصده في إفساد نية بعضهما لبعض فقد كان بينهما قبل ذلك منافسة في المرتبة وتحاسد في (النعمة أخذا جميعاً أهبة التحرز منه وأخذ هو في الحيلة عليهما حتى أزال بأحدهما نعمة الآخر. ثم قبض عليه بأصاغر الحاشية وأدانى الحشم ومكن منهما الأوغاد والسفلة فاضطربت أحوال المملكة واضطر إلى الاستعانة بمن رفعه من السُقاط ومن لا يكمل للنظر في قرية ولا يصلح للتوسط بين نفسين فضلاً عن العسكر المضطرب فاحتلت أصول أمره وفروعها .
وأما كبار الديلم ووجوههم فإنه نفاهم عن مملكته طمعاً في إقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فتبسط أصاغرهم واستلانوا جانبه وتحالفوا عليه وطالبوه بزيادة في رسومهم واضطر إلى النزول على حكمهم ثم عجز عن إرضائهم. وأما الأتراك فإنهم نظروا إلى ما تم للديلم من التحكم فعملوا مثل عملهم من الاشتطاط والتسحب
ص: 353
والمواجهة بالمخاطبة الغليظة واضطر إلى التدبير عليهم والراحة منهم. وابتدأ بسبكتكين وكان متحرزاً متيقظاً فما تم له عليه شيء من تدبيراته فتحزب الأتراك وصاروا يداً واحدة. وتحركت الأحقاد والحفائظ التي كانت في نفوس الديلم على معز الدولة فبرزوا إلى الصحراء مع الأسلحة والجنن وساموه أن يثبت من أسقطه معز معز الدولة وأن يعطيهم أرزاقهم ويعجل لهم رزقة منسوبة إلى البيعة غير محسوبة. فجمع بختيار الأتراك إلى داره مع أسلحتهم ليعتصم بهم وترك الديلم في الصحراء ثلاثة أيام فغاظهم ذلك وازدادوا تباعداً في الاشتطاط عليه وفي الاشتداد بالمطالبة إلى أن نزل على بعض حكمهم وأعطاهم ثلث رزقة غير محتسب به .
وخيَّر أصحاب الإقطاعات بين الإقامة في أيديهم والتمسك بنواحيهم وبين تعريضهم منها وأثبت من الديلم الساقطين كل من كان صريحاً في الديلم أو صريحاً في الجيل دون من اختلط بهم ممن ليس منهم. فلما تم لهم ودخلوا البلد اجتمع الأتراك
تمَّ أيضاً على الشغب فخرجوا إلى الصحراء واستدعوا الأصاغر من غلمان الحجر في دار بختيار حتى برزوا معهم وتحالفوا وتعاهدوا أن تكون كلمتهم متفقة وأن ينصر كبيرهم صغيرهم وقويهم ضعيفهم وقد كانت اجتمعت لهم أموال مسببة من تلك الزيادات المضافة إلى الأصول التي زادها معز الدولة فطالبوا بتوفيتهم ذلك كله وأن يسلك فيهم سبيل أبيه في الاستحجاب والتقويد والتنقيب والزيادة في المنازل والمراتب. ثم اتفق الديلم والأتراك على ألا يعارض كل فريق منهم صاحبه جميع ما التمسوه وإزاحة العلل فيه ولم يتسع لذلك ولا لبعضه فاضطر إلى مناظرة وزرائه على الاحتيال لهذا المال والنظر في جمعه من أين كان وكيف كان .
وكان أبو الفضل العباس أشد جسارة وإقداماً من أبي الفرج فضمن ذلك لهم واستعان بكاتب الفارسية شيرزاد بن سُرخاب وكان متمكناً من بختيار قريباً منه يسمع كلامه ويتدبر برأيه وضمن له مرفقاً على ذلك ومالاً يحمله إليه في كل سنة فسعى له شيرزاد في الوزارة ووعد بها وقيل له« إذا ظهرت كفايتك فيما ضمنته من إرضاء الجند وغيره كانت الوزارة مقصورة عليك» فأخذ في مصادرة الحاشية وألزمهم أموالاً علم أنهم يفون بها ولا يُجحف بهم وافتتح الخراج واجتهد حتى وفى الديلم ما ضمن لهم وفرّق الأتراك في النواحي لتنجز تسبيباتهم فتم لهم أيضاً ما التمسوه وذلك لجمام الأمر وأنه كان مبدأ فوجد أموال الحاشية جامة النواحي في بقايا العمارة فمشى أمره في هذه السنة.
واتصل خبره بأبي الفرج محمد بن العباس وهو يومئذ بعمان وكان خرج إليها في حياة معز الدولة وكانت له بها وقائع بين العمانيين حتى استوسقوا له فلما عرف وفاة معز الدولة وطمع أبي الفضل في الوزارة وسعى شيرزاد له فيها لم يلبث أن سلّم الناحية إلى
ص: 354
رجل من أهل عمان يعرف بابن نبهان وأظهر أن الأمر ورد عليه بالإفراج عن البلد وتسليمه إلى صاحب عضد الدولة وأقبل مسرعاً إلى العراق فلما قرب منها استقبله أصحاب أخيه أبي محمد علي بن العباس الخازن وكتابه وكتبه يشيرون عليه بالمبادرة وترك التأخر عن الحضرة قبل أن يتم لأبي الفضل العباس بن الحسين تقلد الوزارة فورد وصار الناس حزبين وطلب كل واحد منهما عثرات صاحبه وخطب الوزارة لنفسه. ثم تمكن أبو الفضل بمعاونة شيرزاد إلى أن تمت له الوزارة .
لما سمع أولاد ناصر الدولة باضطراب بختیار وسوء سیاسته وشغله عن تدبير الملك باللعب والسكر الدائم وشغب جنده وانخراق هيبته هموا بإخراج الأموال والانحدار إلى بغداد ومقارعه بختيار عن سرير الملك فقال لهم أبوهم ناصر الدولة: لا تعجلوا فإن معز الدولة قد خلف لابنه خميرة من المال يسيرة وسيفرّقها على جنده هؤلاء وسيجذب أيضاً كتابه وعماله أيضاً من نواحيه ومن مصادرات أسبابه ما أمكنهم ولستم بمستظهرين عليه ولا متمكنين من دولته إلا بعد أن تفنى حِيله وتخلو يده فإذا كان ذلك الوقت فانحدروا إليه وكاثروه بالمال وأفسدوا عليه قلوب الرجال فإنكم تملكونه لا محالة. وكان الرأي ما قال فإن معز الدولة كان أتلف ماله على البناء الذي أحدثه وعلى الأتراك الذين اصطنعهم وكان مقدار ما خلفه أربعمائة ألف دينار فأخرجها بختيار شيئاً بعد شيء عند الضرورات وعند اجتداد المطالبات وكان كتابه يستقرضون منه لهذه المهمات على أن يردّوا العوض عنه ثم لا يتمكنون من الوفاء حتى استغرقت النفقات والنوائب جميع ذلك بعد مديدة يسيرة .
واختلفت كلمة بني حمدان فشغلوا عن مشورة أبيهم وكان مبدأ الشر بينهم أن أبا تغلب قبض على أبيه ناصر الدولة لما رآه قد كبر ولم يبق فيه بقية غير سوء....(1) والتقتير على أولاده وعلى حاشيته فلما قبض عليه أصعده إلى قلته ووكل به من يخدمه ويزيح علته في حاجاته. فامتنع بعض إخوته وانتشر النظام الذي كان يجمعهم فشغلهم حفظ ما في أيديهم عن طلب ما ليس لهم. واحتاج أبو تغلب إلى مداراة السلطان وتجديد عقد الضمان والتماس الخلع والعهد والعقد ليحتج بذلك على الجند ويستظهر به على إخوته المخالفين والموافقين فأنفذ كاتبه أبا الحسن علي بن عمرو بن ميمون حتى أخذ له من السلطان ذلك وبذل لبختيار ألف ألف ومائتي ألف درهم في كل سنة على الرسم وانصرف إلى صاحبه بقضاء حاجاته قرير العين بما تم على يده غير مفكر في شيء مما كان يهم به .
وفي هذه السنة تلاحق مشايخ الملوك بالموت وتتابعوا وكان مدخل القرن التاسع
ص: 355
فهلك معز الدولة أحمد بن بويه وقبض أبو تغلب على أبيه ناصر الدولة وهلك سيف الدولة وهلك نقفور ملك الروم وهلك كافور صاحب مصر وهلك وشمكير بن زيار وهلك الحسن بن الفيرزان وهلك أبو علي محمد بن الياس وجماعة أمثالهم وبقي ركن الدولة من بينهم وعُمّر إلى أن استوفى أجله.
قد ذكرنا ما كان من أبي الفضل العباس بن الحسين من تمشيته للأمور في السنة التي مد يده فيها إلى الحاشية وما وجده في النواحي وما تأول به على العمال حتى أرضى الجند . فاستطال على بختيار وانطلق لسانه وزعم أنه قد أظهر الكفاية التي وعده بها وذكر أن دخل المملكة يعجز عن خرجها وأنه إن قلد الوزارة جبر هذا العجز وقام بالأمر كما قام به في تلك السنة وضمن لشيرزاد إذا تمم له الوزارة مالاً. وشخص إلى الكوفة لتقرير أمور المقطعين بسقي الفرات فاجتهد له شيرزاد في الوزارة حتى أنعم له وبلغ أبا الفرج ذلك فشمر عن ساقه في فسخ نية بختيار وزعم أن الذي ذكره أبو الفضل من عجز الدخل عن الخرج لا حقيقة له وأن الأموال التي استخرجها ومشى بها الأمور إنما كانت من مصادرات الناس ومن بقايا في النواحي وأنه لم يؤثر أثراً ولا فتح فتحاً ولا استحق من المراتب ما لا يستحق مثله واتصل ذلك بأبي الفضل فوافى من الكوفة ركضاً وجرت بينهما مناظرات استقرت على أن يعمل كل واحد منهما عملاً لأصول الارتفاعات وما ينضاف إليه وعملا لأصول النفقات الراتبة وما ينضاف إليها من الحوادث لتعرف الصورة فيما اختلفا فيه ولازما الديوان مع كتابهما حتى ارتفعت هذه الأعمال. فأما أبو الفرج محمد بن العباس فإنه أورد في عمله أصول العقود على عبرها وأبواباً ينكسر بعضها ثم خفف النفقات الحادثة وحذف الاستظهار لها حتى لم يظهر العجز وقام الدخل بالخرج وأما أبو الفضل فإنه وضع من الأصول ما نسبه إلى المنكسر وما ينظر به للضمناء واعتد بالزاجي دون التاوي واستظهر في تقدير النفقات الحادثة وزاد في مبلغه حتى أوجب في عمله عجزاً في الدخل عن الخرج . ثم حكى في عمله أنه يقيم وجوهاً لهذا العجز وأنه إن بقيت منه بقية نقلها في كل سنة إلى التي تليها على الرسم الجاري في ذلك. وتقابلا على حسابهما وتناظرا على الخلاف بينهما ووقف الكلام بين المتوسطين وفيهم شيرزاد على إبطال الوزارة والتراضي بالاشتراك في الكتابة . ثم جد شيرزاد سراً في أوقات خلواته ببختيار في السعي لأبي الفضل وبذل عنه لبختيار مالاً على سبيل الهدية وأعلمه أن فيه إقداماً وبسالة
ص: 356
يحتاج إليهما في الوقت وأنه ذو مال ويسار يزيد على مال أبي الفرج أضعافاً وأنه ذو حيلة وتأول وبطش وأبو الفرج صاحب تقشف وتوقف وتعقد وأن الأمر بمثله لا يمشي فلم يزل بهذا وأشباهه حتى أمضى بختيار العزيمة .
وقلد أبا الفضل الوزارة وخلع عليه القباء والسيف والمنطقة المحليين بالذهب وحمله على فرس بمركب ذهب وأقطعه إقطاعاً بخمسين ألف دينار على دينار على رسم الوزارة وضم إليه عدداً كثيراً من الديلم على رسوم الوزراء. فصار إليه أبو الفرج مسلماً وأظهر الامتناع من العمل وكره أبو الفضل ذلك لأنه أحب أن يجري على رسمه في تقلد الديوان ليشغله عن تتبعه والطعن عليه وأيضاً ليراه بعين من يعدو ويروح إليه وينحط عن رتبة المساواة التي كان فيها إلى رتبة الاتباع وكره أبو الفرج جميع ذلك فخوطب فيه واعلم أنه إن لم يصبر على هذه الحال والقناعة بها انقطعت العلائق بينه وبين صاحبه بختيار ونصب للديوان غيره ثم يكون مطرحاً بعرض النكبة وربما تأدى الأمر إلى أكثر من ذلك من تسلط أعدائه عليه وانبساط أيديهم فيه وفي أعزته فاستجاب إلى عمل الديوان واستونف بتقليده إياه وخلع عليه الدراعة على رسم الكتابة. وكان مما وفره أبو الفضل في وزارته إقطاعات استرجعها من قوم مثل أبي الفتح أخي عمران بن شاهين ومثل أبي عبد الله الأيسر المعروف بالجب ثم تجرد للأهواز ومحاسبة آزاذرويه وكتابه .
واتفق في وزارته أن أظهر الحبشي بن معز الدولة عصيان أخيه وطمع في البصرة والتفرد بها .
لما توفي معز الدولة احتوى على الحبشي ابنه بالبصرة جماعة من حاشيته وجند البلد وأطمعوه في البصرة وأقاموا في نفسه أن المال الذي يرتفع من البصرة ينصرف معظمه إلى الجيش المقيمين بها وباقيه مصروف إلى نفقاته وليس يبقى بعد ذلك إلا ما لا يستكثر أن يجعل حظه من ميراث أبيه ويغضي عنه . ثم أوهموه مع ذلك أن أخاه بختياراً لا يتمكن من الوصول إليه مع حصانتها لوهم بذلك فابتدأ يستبد بالأموال والأمور ويستولي على العمال ويتحيفهم. وكان مغيظاً على عامل البصرة الحسين بن الحسن المكني أبا طاهر فعمل على القبض عليه والتشفي منه وإزالة الحشمة فيه ونمى الخبر إلى العامل فهرب إلى الحضرة. وكتب الحبشي في أثره إلى بختيار يذمه ويطعن عليه وينسبه إلى الخرق والجهل وأنه لم يخف شيئاً أنكره ولكن قصد التشنيع وذكر في الكتاب أنه قد تقدم بحفظ الأعمال والأموال إلى أن يعود فيجري على رسمه في التدبير لها. ثم سأل في هذا الكتاب أن تسلم إليه المدينة ويخلي بينه وبين تدبيره وأن يواقف على ارتفاعه
ص: 357
ويحتسب له بنفقاته التي تخصه وبأموال الجند المقيمين بحضرته وإن بقيت بقية سُبب عليه ليزيح العلة فيها فأجابه بختيار بالتصديق لقوله ووعده أن يعمل بمحبته . ثم زاد تبسط الحبشي حتى كان يشرق الأمر ويظهر الخلاف وكتب إليه بختيار بالتأنيس والاستمالة والمعاتبة اللطيفة وأعلمه أن وزيره العباس بن الحسين شاخص إلى الأهواز وأنه سيراسله منها ويبلغ محابه في الأمور التي التمسها وندب وزيره العباس للشخوص وأمره بالحيلة عليه حتى ينتزع البصرة من يده إما مكراً وخديعة وإما حرباً ومكاشفة فاستخلف أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني بالحضرة وانحدر وأخذ معه أبا الفرج محمد بن العباس صاحب الديوان وأبا سهل ديزويه العارض وجرد معه عسكراً وأزاح علته في السلاح والجنن والآلات سراً. فلما وصل إلى واسط أقام بها شهراً ونظر في أمورها ومصالح أعمالها ومظالم أهلها وأظهر أنه راحل إلى الأهواز وكتب إلى ليلى بن موسى فياذه وكان بالأهواز يأمره بالاستعداد لقصد البصرة والمسير إلى بيان وقدم حديدياته وسفنه على أن فيها أثقاله وكانت مملوة بالسلاح وأمر أصحابه المنحدرين فيها بأن يتجاوزوا الأبلة ولا يدخلوها ويقصدوا بيان ويظهروا أنهم يحملون ما معهم إلى الأهواز على طريق حصن مهدي وحدر الطيارات والزبازب تفاريق وكتب إلى أحمد بن محمد المعروف بالطويل بأن يصير إلى بيان وكان يتقلد حصن مهدي وأن يحفظ هذه الآلات واطلعه على التدبير وكتب إلى الحبشي بن معز الدولة من واسط بأنه يفعل كل ما يوثره ويهواه ويتحمد عليه بأن مصيره عاجلاً إلى الأهواز ليستدعي كاتبه إليها ويوافقه على ارتفاع البصرة ويسلمها إليه وأوماً في آخر الكتاب إلى التماس صلح منه على ذلك ويقول في جملة تعريضاته «أنه قد التزم عن الوزارة غرماً ثقيلاً » ويسأله معونة بما يحمله إليه فسكن الحبشي إلى قوله ووعده وحمل إليه عاجلاً مائتي ألف درهم ولم يشك أنه قد اشترى بها منه البصرة فلما وصلت إليه أنفذها إلى بختيار ورحل كأنه يريد الأهواز إلى الحويزة ونهر العباس ثم عدل عنها إلى البصرة وكان للحبشي رسل قد أنفذهم بأطيار ليكاتبوه بخبره فأرسلت الأطيار إليه بخبره فثار الحبشي وهاج ولم يملك نفسه وأظهر المنابذة والخلاف .
واستوحش من كان بالبصرة مقيماً من الغلمان الأتراك في تسبيباتهم فهربوا إلى بيَّان فصادفوا بها عسكراً قوياً مع ليلى بن موسى فياذة وأحمد الطويل فانضموا إليهما وكانت قد حصلت الزبازب عندهم والملاحون والجنن والآلات والسلاح. وأخرج الحبشي عسكره إلى الأبلة ورتب غلمانه وأثبت من عشائر العرب قوماً رتبهم على أفواه الأنهار وقلد حاجباً له تركياً يقال له بكتيجور رياسة عسكر الماء وجعل اسفهسلار الديلم في عسكر الظهر صعلوك بن با طاهر أحد وجوه قواد البصريين. فلما ورد الوزير أبو الفضل عسكر أبي جعفر وجّه إلى ليلى بن موسى فياذة وإلى أحمد الطويل ومن معهما يأمرهم أن يشحنوا تلك الزبازب والطيارات بالرجال والسلاح ويصعد إليه على تعبية من جانب
ص: 358
دجلة الشرقي المعروف بالفرات ولا يعبروا في طريقهم إلى الأبلة ولا يقاتلوا أصحاب الحبشي ولا يهيجوهم إلى أن يصلوا إليه فيضيف إليهم من معه من الخواص والغلمان وقد كانوا مستقلين بنفوسهم ومن حصل عندهم من الأتراك الذين هربوا إليهم من البصرة وأقام ليلته ينتظرهم وتعذرت الميرة عليه وانقطعت المادة عن عسكره وتحير في أمره حتى لو تأخر الفتح يوماً لما أمكنه المقام ولاحتاج إلى الرحيل فتكون هزيمة عليه . فلما كان الغد أصعد ليلى بن موسى والجماعة على أهبة وتعبية وعملوا على امتثال الأمر وترك التعرض لمن في طريقهم من أصحاب الحبشي فلما جازوا الأبلة خرج أولئك نحوهم وبدأوهم بالحرب فعدل حينئذ ليلى بن موسى ومن معهم إليهم وواقعوهم وغرقوا عدة من زبازبهم واستأمنت عدة أخرى وهرب بكتيجور صاحب الحبشي ناجياً بحشاشته واشتملوا على بقية عسكر الماء. ثم طمعوا في الظهر فتقدموا إلى الديلم هناك وقاتلوهم ساعة ثم تهيأ لطائفة أن صعدوا إلى شاطئ الأبلة وصاروا في ظهورهم فاضطربوا وانهزموا وقتل منهم نفر وانهزم قوم واستأمن آخرون وملكت الأبلة .
وأنفذ ليلى غلاماً له في بعض الزبازب إلى الوزير أبي الفضل مبشراً بالفتح فالتمس السفن والزبازب وعبر إلى قرية فوق الأبلة وعسكر بها وكتب إلى الحبشي يشير عليه بالخروج إلى الأهواز فالتمس منه الأمان والتوثقة فآمنه على النفس والولد والحرم وتوقف عن ذكر المال والحال فتنبه الحبشي على ذلك وترددت فيه الرسل فلم يسكن ولم يخرج. فعبى الوزير أبو الفضل عسكره وزبازبه وزحف إلى البصرة وملك منها الموضع المعروف بالسيالجة ولم يزل ينفذ إليه رسولاً بعد رسول من شجعان الأتراك والديلم ويأمرهم أن يقيموا عنده ويتوكلوا به ولا ينصرفوا بالجواب إلى أن أحاط به منهم بضعة عشر رجلاً بالسلاح ثم أنفذ أبا سهل ديزويه العارض في طائفة وافرة من العسكر فدخلوا إليه وأخرجوه إخراجاً بين الجميل والقبيح وحمل معه أهله وولده وما خف من ماله وجواهر كانت له فلم يوصله الوزير إليه وأمر بأن يسلم إلى أحمد الطويل ليصير به إلى حصن مهدي ففعل ذلك وأقام هناك معتقلاً أياماً ثم حمل إلى الأهواز وبقي مدة أخرى ثم إلى رامهرمز واعتقل بها اعتقالاً جميلاً ثم أزيل التوكيل عنه وحمل إلى عمه ركن الدولة بحديث يطول ولا فائدة في ذكره ثم حصل عند عضد الدولة فأقطعه اقطاعاً يسعه ومن معه وأمره أن يحصل بسابور وهي كورة من كور فارس نزهة كثيرة العيون والأشجار والصيد فأقام بها إلى أن توفي في آخر سنة 369.
وملك الوزير أبو الفضل البصرة عنوة وأنفذ إليه بختيار خلعاً جليلة فلبسها وركب فيها ونصبت له القباب فانبسطت يده وقوي سلطانه وصادر أصحاب الحبشي وكتابه وحاشيته ومعامليه وارتجع منه منه كان حمله معه من المال والجواهر واستخرج من
ص: 359
الأموال شيئاً كثيراً وظفر بخزائنه كلها فكان في جملتها خزانة كتبه وفيها خمسة عشر ألف مجلد سوى الأجزاء والمشرس غير المجلد ووجد له من خزائن الأسلحة والفرش والثياب الفاخرة والآلات شيئاً يستكثر لمثله فحمل ذلك كله إلى بختيار وقلد بختيار ابنه المرزبان البصرة وسنه ثمان سنين واستكتب له أبا الغنائم المفضل بن أبي محمد المهلبي وهو خال ولد الوزير أبي الفضل.
وفي هذه السنة ظهرت دعوة بين الخاص والعام يدعي فيها إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وقيل إنه الرجل الذي ورد بذكره الخبر وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد أعداء المسلمين ويجدد ما عفا من رسوم الدين فتطلعت إليه نفوس العامة وجعل دعاته يأخذون البيعة على الرجل بعد الرجل فمن كان من أهل السنة قيل له إنه عباسي ومن كان من أهل التشيع قيل له إنه علوي وكتبت عنه رسالة على عدة نسخ وطرحت في المساجد والمحافل يدعو فيها إلى مثل ما حكيناه عنه فحصلت نسخة منها عند الوزير أبي الفضل في أول وزارته فتقدم بإذكاء العيون على الطائفة الخائضة في هذا الباب والقبض على من يوجد منها ثم انحدر قبل أن يظفر بأحد منهم وتقدم إلى خليفته أبي العلاء صاعد بن ثابت بالجد في طلبهم . فلما نظر في ذلك وجد جماعة من وجوه الكتاب وأماثل الناس قد دخلوا في هذا الأمر وبايعوا الدعاة إليه وكذلك وجدوا خلقاً كثيراً من الديلم والأتراك والعرب قد بايعوه وكان فيهم سبكتكين العجمي أحد أكابر القواد قواد معز الدولة ممن قاد الجيوش وتقلد الأعمال وكان شجاعاً مطاعاً جواداً نازلاً عند الأتراك بمنزلة من لا يخالف في الرضاء والسخط وكان يتشيع وقيل له إن الرجل علوي وإنه يقلدك إمرة الأمراء فاستجاب واستفحل أمر القوم.
كان هذا الرجل محمد بن المستكفي طرأ إلى مصر فتقبله كافور الإخشيدي الخادم وأحسن إليه وأجرى عليه رزقاً سنياً فكاتب جماعة من أصحابه بالدعاء إليه فجرى أمره كما حكيناه فلما كثر المستجيبون له وهم لا يعرفونه وتقووا بمكان سبكتكين العجمي كاتبوه بالحضور وكتب إليه سبكتكين : إني أقوم لك بالأمر. فورد هيت وهو لا يشك أن الأمر مستقر له ومستتب على إرادته وخرج سبكتكين العجمي وكان يتقلد حماية طريق الفرات إلى الأنبار وأظهر للسلطان أنه ينظر في مصالح عمله فتلقاه وترجل له وأكرمه ثم أدخله البلد مستتراً وأنفذ إليه فرشاً فاخراً وثياباً نفيسة وطعاماً كثيراً وشراباً. وعمل على إيقاع حريق وفتنة في ليلة النيروز المعتضدي لتشاغل الناس بذلك ويهجم على بختیار ويوقع به وواطأه على ذلك خلق من الجند فظهر له قبل النيروز أنه عباسي وليس بعلوي فتغيرت نيته وتصوره بصورة المحتال وواجه بعض أولئك الدعاة بذلك وأعلمه أنه كذاب مموّه وتثاقل
ص: 360
عن نصرته وأظهر الندم وخاف محمد بن المستكفي أن يقبض عليه وأحس أصحابه ودعاته بذلك فاستوحشوا وتفرقوا فبعضهم هرب إلى ناحية السواد وبعضهم أمعن في الهرب وعرف السلطان خبرهم فكاتب العمال بالتيقظ في طلبهم وإذكاء العيون عليهم فظفر ببعضهم فأمر بتقريره بالسوط فأقر على جماعة أخذوا ولم يزل التتبع يقع حتى حصل محمد بن المستكفي وأخوه فأوصله بختيار إليه واستشرحه لأمر فشرحه بعد أن آمنه على نفسه. فالتمس المطيع لله من بختيار أن يسلمه إليه مع أخيه فأبى عليه ودافع عنه وقال : قد آمنته. فبذل المطيع لله لهما الأمان على النفس فلما حصل الجميع في يده تقدم بجدع أنف محمد بن المستكفي وقطع أنف أخيه وحبسهما مدة ثم هربا وخفي خبرهما ووقع الاستقصاء على كل من دخل في بيعته فصودروا وأدبوا ضروب التأديب ولم يقع الإقدام على سبكتكين العجمي ولا على أحد من وجوه الجملة وإنما خوطب سبكتكين خطاباً خفيفاً فجنح في الجواب إلى الإنكار وأغضى عنه وعن الجند.
وفي هذه السنة صفت كرمان لعضد الدولة وملكها وفتح قلعة بردسير وهي خزانة أبي علي بن الياس التي جمع فيها ذخائره على مر السنين من الأموال والجواهر والأمتعة الفاخرة .
ذكر السبب في ذلك
كان أبو علي بن الياس لما عاود كرمان بعد إبراهيم بن كاسك جرى مجرى بعض المتصعلكين وآمن ناحية عماد الدولة علي بن بويه لما ذكرناه فيما تقدم فشارك اللصوص وصعاليك القفص والبلوص فحصل عنده على طول السنين من جهتهم مال عظيم في القلعة التي وصفناها ولما مات علي بن بويه عماد الدولة وترعرع عضد الدولة فناخسره كان في نفسه من هذه القلعة مالاً يظهره فلما استوحش اليسع بن محمد بن الياس من أبيه صار إلى عضد الدولة وأقام عنده حتى أصلح له نية أبيه وعاد إليه فوعده بولاية العهد ورئاسة العسكر. ولما كان في هذه السنة وقع القفص على قافلة عظيمة وغنموا أموالاً عظيمة للتجار فخرج إليهم محمد بن الياس يطلب نصيبه من غنيمتهم فأصابه في الطريق علة الفالج ورُدّ إلى منزله واستمرت به العلة فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة اليسع وسليمان والياس فخاطبهم بما ظن أنه يجمع كلمتهم واعتذر إلى اليسع من النبوة التي سبقت منه حتى فارقه ثم جمع إليه تدبير عسكره وولاية عهده ومن بعده اليأس فأما سليمان فإنه أشار عليه بأن يرجع إلى بلده وهو الصغد وأظهر له تذكرة فيها ثبت دفائنه وودائعه هناك وأراد بذلك إبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما فأظهرت الجماعة قبول أمره والانتهاء إلى رأيه . وشخص سليمان نحو الصغد بما قسمه له فلما صار بظاهر المدينة عدل عن ذلك السمت وقصد القفص وطلب منهم ذلك القسم الذي كان أبوه شخص لتسلمها فتم له الوصول إليه وأخذ منهم مالاً جليلاً واستضم إلى نفسه جماعة
ص: 361
منهم ليقوى بهم ثم عاد إلى السيرجان وكان يتولاها من جهة أبيه . فلما بلغ أباه ما صنع غضب من مخالفته إياه واغتاظ منه فأمر اليسع بطلبه وقواه بالرجال وقد كان العسكر مطيعين له وأمره أن يضطره إلى الخروج إلى الصغد أو معاودة حضرته ليقبض عليه ووصاه إن خرج نحو الصغد أن يخلي له الطريق ولا يتبعه فخرج اليسع إلى السيرجان وتحصن سليمان منه واقتتلا أياماً ثم استظهر اليسع فحمل سليمان جميع ما كان حصل له وخرج من باب من أبواب المدينة قاصداً خراسان فتركه اليسع امتثالاً لأمر أبيه وعاقب جماعة من أهلها الذين كانوا عاونوا سليمان عليه ثم صفح عنهم .
الله كان في جملة محمد بن الياس رجل يعرف بعبد بن مهدي ويقل ببسوَيه شديد الغلبة عليه والتمكن منه وبينه وبين اليسع وحشة متأكدة فخافه على نفسه فاجتمع مع إسرائيل المتطبب وكان أيضاً مكيناً عنده ومهندس كان معه يقال له المرزبان على إفساد نية أبي علي بن الياس على ابنه اليسع وشككوه فيه وحركوا ما كان في نفسه قديماً منه وأشاروا عليه بأن ينقض ما عقده له من تدبير جيشه ويجعله لحاجب من حجابه يقال له ترمش ليكون الأمر غير خارج عن يده ما دام حياً وليكن غلامه صاحب جيشه فيتصرف معهم على رأيه فقبل منهم هذا الرأي وكتب إلى اليسع بأن ينكفي إليه واستدعاه إلى القلعة وكان لا يصعدها إلا وحده دون كل أحد على رسم القلاع. فلما حصل عنده وليس فيها إلا هو وهؤلاء الثلاثة ونفر من ثقات أصحابه وجماعة حرمه وجواريه قبض عليه وقيده وفوض أمر الجيش إلي ترمش الحاجب فلم يجتمعوا عليه ولا رضوا به. فمشت والدة اليسع إلى والدة الياس وقالت لها : إن صاحبنا كان عقد لولدينا عقداً هو الصواب لكنه قد اختل عقله وعزب رأيه بهذه العلة وغلب عليه هؤلاء الثلاثة وتم لهم على ابني ما سيتم مثله على ابنك وحينئذ تخرج هذه المملكة عن آل الياس وتنتقل إليهم وإلى من نصبوه ( يعني ترمش الحاجب) والصواب أن تساعديني على تخليص ولدي ليكون الأمر جارياً مجراه الأول فساعدتها وقبلت رأيها .
وكان ابن الياس ربما أغمي عليه في علته فاتفقت المرأتان على أن جمعتا الجواري وكان عددهن كثيراً وقصدن عبد الله بن مهدي بسوية ليوقعن به فاتفق له أن أفلت وهرب واستنقذن اليسع وعالجن قيده فلم يكملن لكسره وخشين فوت الأمر فاتخذت له أمه حبالاً متينة من ثياب ديباج حتى تدلي من القلعة إلى الأرض لأنها لم تتمكن من إخراجه من باب القلعة فلما حصل في الأرض رآه بعض الجند فكسر قيده وأعطاه دابته فركب وتوسط العسكر فاستبشروا به وعادوا إلى طاعته وخدمته وهرب ترمش الحاجب وجمع اليسع الجيش ليسير بهم إلى تحت القلعة ويحاصرها ويتغلب عليها وكان الشيخ في جميع
ص: 362
ذلك مغمي عليه لا يعقل شيئاً مما جرى فلما أفاق من غمرته وعرف الصورة راسل اليسع واطلع عليه وسأله أن يكف عنه ويؤمنه على نفسه وحرمه ومن معه حتى يسلم إليه القلعة مع جميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عوناً له هناك متى احتاج إليه. فأجابه ابنه إلى ذلك ومكنه من جميع ما أراد فاحتمل مائة وقر من المال والثياب والجوهر وفاخر المتاع واستصحب ثلاثمائة غلام من غلمانه وما احتاج إليه من الآلات والكراع وشعث القلعة وأحرق بقية ما كان فيه من الآلات والكسوة ورحل فلم يؤاخذه اليسع بما فعل بل احتمله ووفى له بالأمان الذي بذله له وتركه حتى نفذ إلى مقصده. وتسلم اليسع القلعة وظفر بأولئك النفر الثلاثة وسلمهم إلى كاتبه ومدبر أمره أبي نصر محمد بن إسماعيل البمّي وأمره بمطالبتهم فاستخرج منهم مالاً عظيماً. وتلف إسرائيل الطبيب ثم وجه للمعروف ببسويه كتاباً كتبه إلى خراسان فيه الإغراء به والدم له وكان قد عفا عنه فأعاده إلى العقوبة حتى هلك فيها .
وابتدأ فناخسره عضد الدولة في نخبيب رجال ابن الياس فاستأمن إليه أكثر الديلم والأتراك وكان حينئذ أبو علي بن الياس بخراسان يطمع صاحبها في مملكة الديلم فكان من عاقبته ما شرحناه من موت و شمكير وغير ذلك. وتفرّغ عضد الدولة لقصد كرمان ودس إلى كل من له رأي أو نجدة من خبّبه وأصلح قلبه له ثم توجه إليها فافتتحها ودخلها في شهر رمضان سنة 357 واستولى على جميع أعمالها وملك قلعة أعمالها وملك قلعة بردسير وهي عظيمة فيها عدة قلاع متصلة بعضها ببعض وانهزم اليسع إلى خراسان وصادف وصول اليسع إلى خراسان موت والده فاحتوی صاحب خراسان على ما سلم معه من بقية ماله وكراعه ولما تمّ لعضد الدولة فتح كرمان واتصل خبره بصاحب سجستان كاتبه وترددت بينهما الرسل حتى صالحه وخطب له وهو أبو أحمد خلف بن أبي جعفر المعروف بابن بانويه. وأنفذ إلى عضد الدولة من الحضرة ببغداد عهد الخليفة وخِلعه من الطوق والسوارين والعقد على أعمال كرمان كلها فقلد عضد الدولة هذه الأعمال أكبر أولاده أبا الفوارس شيرزيل واستخلف له عليها كوركير بن جستان وكان وجه قواد عسكره وانصرف إلى شيراز .
وفيها استأمن حمدان بن ناصر الدولة إلى بختيار ودخل إلى مدينة السلام.
ذكر السبب في ذلك
كان ناصر الدولة قلد حمدان ابنه الرحبة وسوّغه ارتفاعها وكان أبو تغلب وأخوه أبو البركات وأختهما المسماة جميلة بني زوجته فاطمة بنت أحمد الكردي وكانت مالكة أمر أبيهم فاستولى أبو تغلب على مالها وأموال ناصر الدولة وقلاعه وكانت هي مدبرة جميع ذلك وتطابقت الجماعة على الشيخ وغلبوه على جميع ذلك ولم يكن له بهم طاقة لتناهيه
ص: 363
الكبر والضعف فابتدأ يدبر القبض عليهم وكاتب ابنه حمدان ليستظهر به ويعتمده فيما هم به فظفروا بكتابه هذا ولم ينفذوه وزاد ما بينهم شروقاً وانفراجاً حتى خافوه ودخل معهم في الخوف كاتبه وأكابر غلمانه الذين تابعوا أبا تغلب فاجتمعوا وقبضوا عليه ليلاً وحملوه إلى القلعة واتصل ذلك بحمدان فامتعض لأبيه وكان عدوّا مبايناً لإخوته هؤلاء وهو أشجع أولاد ناصر الدولة وأفرسهم وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها ثم سار من الرقة إلى نصيبين . واستفز على أبي تغلب من أطاعه من أهله وإخوته وجندهم وطالبهم بالإفراج عن أبيه وردّه إلى منزله وأمره فتوجه إليه أبو تغلب فانهزم حمدان من بين يديه قبل اللقاء وتحصن بالرقة ومنها في الرافقة ونازله أبو تغلب عليها طويلاً ثم اصطلحا على ذحل وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
وعاش ناصر الدولة شهوراً ومات في سنة 58 واستعمل أبو تغلب وعماله كل قبيح مع حمدان في ضياعه وأملاكه وطرد عنها وكلاؤه وانخرقت الحشمة بينهما فأنفذ إليه أخاه أبا البركات في جيش كثيف فلما قرب منه استأمن إليه معظم أصحاب حمدان فخرج عن البلد منهزماً واحتمل حرمه وعياله وغلمانه ومن تبعه وورد هيت مستأمناً إلى بختيار وكتب إليه يستأذنه في الدخول فأجابه بالإذن والقبول وخرج فتلقاه ومعه سبكتكين الحاجب وجماعة جيشه وأنزله في دار حسناء وفرشها فرشاً فاخراً وحمل إليه هدايا من مال وافر وثياب فاخرة وطيب وفرش وبغال ودواب بمراكب ذهب وفضة وتكفل بالتوسط بينه وبين أخيه أبي تغلب وأنفذ إليه أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين برسالة في الصلح فتم بينهما وحلف لكل واحد صاحبه وشخص حمدان إلى الرحبة وحمل إليه بختيار هدية مثل الأولى وزيادة مع جمال وآلات السفر فرحل وشيعه بختیار مع جيشه ثم عاد مستأمناً دفعة ثانية على ما سنذكره .
وفي هذه السنة ورد الخبر بدخول جوهر صاحب أبي تميم العلوي صاحب المغرب مصر فاشتمل عليها وتقطع جيش كافور وجماعة الإخشيدية وتمزقوا .
كان شيرزاد مسئولياً على بختيار كما حكيناه وأسرف في التجبر وحلف بختيار على أن لا ينفذ عزماً ولا يقرر أمراً إلا بعد مشاورته ورضاه وتحقق بالجندية وادّعى الشجاعة وأعاره الناس من ذلك ما لم يكن عنده تقرباً إليه وكثر تعلقه بالأموال والتلاجي وشره إلى اكتساب الأرباح من غير وجوهها ولم ينقبض عن شيء هم به ولم يمكن أحد أن يعتصم منه . ومنع بختيار من عطاياه التي كان يبذلها للديلم والأتراك وقوي عزيمته على الثبات والتماسك وخاض معه في إيقاع حيلة على سبكتكين الحاجب وقيل إنه واطأ
ص: 364
بعض الديلم على الفتك به إذا حضر الدار ليتسع بأمواله ونعمته. وعزم على تقلد الجيش والتسمية بالإسفهسلار فبلغ ذلك سبكتكين وامتنع أن يلقى بختيار أو يدخل داره إلا في الأحايين البعيدة على تحرُّز واستظهار. وثقل أمر شيرزاد على الجند لأن بختيار كان عوّدهم ألا يردهم عن شيء يلتمسونه من واجب ومحال وقليل وكثير فمنعه شيرزاد من ذلك وناصبه الكُتاب أيضاً العداوة للخوف من شره وانقباض أيديهم عمن يلتجي إليه وكثر الدعاء عليه من أفناء الناس واجتمع الأتراك على عداوته وصاروا ينسبون كل حال يكرهونها وينكرونها إليه وأخذ الوزير أبو الفضل يتحرز منه لما فسد بينه وبينه ويستميل الأتراك ويوسع عليهم فمشى بعضهم إلى بعض وتوافقوا على الفتك به ثم رأوا أن يستأذنوا سبكتكين الحاجب فقصده جماعة لذلك. ونمى الخبر إلى بختيار فتقدم إليه بالمصير إلى سبكتكين واستصلاحه وطرح النفس عليه ومسألته كف القوم وضم إليه الوزير أبا الفضل ليعاونه وبينهما إذ ذاك منافقة لم ينهتك سترها فقصدا سبكتكين ووجدا طائفة كثيرة من الأتراك عنده يستأمرونه في قتل شيرزاد فلم يأذن لهم ولكن أمرهم بتخويفه حتى يهرب وإلا يقاروه بالحضرة فأمسكوا عن قتله بعد أن هموا به وكان يجري أمره مجرى صالح بن وصيف بسر من رأى أيام المهتدي بالله .
فلما وصل شیرزاد وأبو الفضل الوزير إليه وخاطباه وتضرعا إليه صدقهما عن الصورة وأعلمهما أنه لولا خطره على الأتراك لقُتل شيرزاد ولما تركوه أن يصل إليه وأشار عليه بالرحيل من ساعته إلى حيث شاء. فخرج وهو يائس من صلاح حاله وخائف على مهجته فصادف الأتراك مجتمعين في دار سبكتكين يموجون في أمره ويتوعدونه ويغلظون له ويشتمونه فأسرع الخروج إلى حضرة بختيار وعرفه ما جرى ثم التف إلى الوزير فأسمعه غليظ ما يكره وقال له هذا من عملك وتدبيرك. فحلف له بالطلاق على براءته مما ظنه به فأجابه بيمين الطلاق أنه كاذب في جحوده.
ثم خلا بختيار بشيرزاد فحذره شيرزاد من الوزير أبي الفضل وعقد معه عقداً وعهداً إليه عهداً في صرفه عن الوزارة والقبض عليه واستصفاء نعمته ونعم أسبابه ووافقه على أن يحرس عليه بعد خروجه داره وأهله وولده وضياعه وأن يوقع عليه اسم ابنه سلار بن بختيار لتنحسم عنها اطماع الديلم والجند إلى أن يستصلح نيات الأتراك ونيات سائر العسكر ثم يعود إلى حاله ويجري على رسمه في الخدمة وانحدر في الوقت إلى الأهواز ثم صار منها إلى أرجان وبها يومئذ الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن العميد. وكان حاجبه روين قريباً لشيرزاد وكان قد توفي ففجع به جداً ووجد به وجداً شديداً فلما وصل إليه شيرزاد رأى فيه شبهاً منه وتخيل فيه شمائله فعطف عليه وتحفّى له وأكرمه . وحمل إليه مالاً وكسوة وكتب له إلى ركن الدولة كتباً مؤكدة ووعده بتوسط أمره وأشار
ص: 365
عليه أن يخرج إلى حضرة ركن الدولة بكتبه ويقيم ببابه إلى أن يرد بنفسه فيتوسط أمره فاتفق أن خرج إلى الري وتوفي بها .
وكان من سوء ملكة بختيار وقلة وفائه إنه ثاني يوم خروجه قبض اقطاعه وضياعه وأملاكه وجواريه ودوره ونكب كاتبه وأسبابه واستثار أمواله وودائعه ونقل ابنه سلار إلى داره وسلم إليه اقطاعه لا على الأصل الذي قرره معه شيرزاد بل على أن يصير له ذلك خاصة يتوفر عليه. وحكى أيضاً أن نفي شيرزاد كان في سنة 359 ثم إنه بعد شهرين من نفي شیرزاد قبض على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين وكتابه وأسبابه واستصفى أموالهم وقلد الوزارة أبا الفرج محمد بن العباس وقلد الدواوين أبا قُرة الحسين بن محمد القنّائي .
ذكر السبب في القبض عليه
كان أبو الفضل الوزير استخدم أبا قرة وهو رجل من دير قُنّى حسن الذكاء قد نشأ بین کتاب واسط وعمالها وتخرَّج معهم واختص بأحمد بن علي القُنائي فتمهر ولم يزل يتدرّج في التصرف حتى تقلد واسط رئاسة من قبل السلطان فاقتني أموالاً جليلة وصارت له نعمة ضخمة وكان شديد الجرأة على السلطان يقدم على أمواله إقداماً لا يقدم عليها غيره هذا مع اهتداء إلى وجوه الحيل عليه ومعرفة بوجوه الارتفاق والإرفاق فإنه كان يُرفق الوزراء والعمال باليسير ويتوصل به إلى الارتفاق الكثير. فاضطر أبو الفضل في وزارته لبختيار عند الحاجة والإضافة إلى معاملته وكان يشتري منه غلات القضيم بالثمن الزائد ويحتسب له بالمال غلات ضمانه يسعرها في وقت البيدر فربما قام عليه السكر بثلاثة أكرار هذا إلى أمثال ذلك في معاملات الحنطة وغيرها وعظمت نعمته وتمكن من رعيته بواسط فانبسطت يده عليهم فتأوّل عليهم وقوي بأموالهم. وكان الواحد منهم إذا تظلم منه لم ينصف وردّ إليه أمره فيبسط المكروه عليه فصارت رعيته تشكره على طريق الخوف منه .
ولما غاب أبو الفضل الوزير إلى الموصل أيام معز الدولة مكنه واستخلفه ببغداد ووصل بينه وبين شيرزاد كاتب الفارسية ليعزه ويمنع منه مراغمة أبي الفرج محمد بن العباس. فكان أبو قرة يُهدي إلى شيرزاد ويلاطفه ويكثر وجوه المرافق والمبار له ليمنع من الاستيفاء عليه وتأكدت الحال بينهما حتى انقطع إليه ولم يتمكن أحد من الرجلين منه أعني أبا الفرج وأبا الفضل وكانا يومئذ كاتبين لا يتسمى أحد منهما بالوزارة طول أيام معز الدولة. وكان أبو قرّة يرفع حسابه على ما يريد ولا يتمكن أحد من الكتاب أن يستوفيها عليه فيقرر بأكثر ارتفاع ضمانه سوى الأرباح التي ذكرناها وسوى ما يستغله من أملاكه وسوى ما يستخرجه من المصادرات والمصانعات. وكان شيرزاد يطالب الوزير أبا
ص: 366
الفضل بما كان وافقه عليه إذا تمَّم له الوزارة وكان أبو الفضل يعتد عليه بما يصل إليه من جهة أبي قرة وقال له هذا الرجل عاملي وإنما ضممته إليك لينوب عني عند غيبتي عن مدينة السلام وقد حصل لك من جهته ما ينبغي أن احتسب به عليك وتعتده لي. ويستجيبه شيرزاد بأنه لا يحتسب له إلا بما يصل إليه من صلب ماله وخاص إقطاعه وارتفاقاته ولم يزل ذلك يتردد بينهما حتى استوحش كل واحد من صاحبه واستوحش أبو قرة أيضاً واختص زيادة اختصاص بشيرزاد فطمع في المنازل العالية لما يرجع إليه من الكفاية في نفسه ثم للحال المتأثلة واليسار العظيم واضطر الوزير إلى مغالطته عن نفسه وإيناسه والاستعانة به على شيرزاد وهو كان سبب اتصاله به فلما تم على شيرزاد ما تم من النفي هم الوزير بالقبض عليه ثم أمهله ودبر أمره على أن تدرك غلاته وخشي في الحال أن مد يده إليه أن تنقطع مادة ما كان يقيمه من قضيم الكراع ووافق بختيار على أنه يستخرج منه عند حضور الوقت مائتي ألف دينار.
وكان بختيار لا يضبط لسانه ولا يكتم شيئاً من أسرار نفسه ولو فيما جرّ عليه ذهاب النفس والملك فأخرج حديثه وسره فبلغ أبا قرة ما جرى وكان يخشى عداوة أبي الفرج فصار يخشى عداوة الوزير ولم يكن له وَزَرٌ غير شيرزاد وكان قد نفي فاضطرب واحتال حتى توصل إلى سبكتكين الحاجب وبذل له على يد أبي بكر الأصبهاني صاحبه وثقته ذلك المال الذي كان يرتفق به شيرزاد بن سرخاب فنصره سبكتكين نصرة زادت على نصرة شيرزاد فصار في ظل أحصن من الظل الأول وتعذر على الوزير أن يملأ عينه منه فضلاً عن أن يمد يده إليه . فحينئذ اجتمعت على أبي الفضل الوزير أمور منها الإضاقة وانقباض يده عن استيفاء الحقوق ومنها مطالبة بختيار له بالقرض التي كان اقترضها ولم يتسع لردّها عليه ومنها عداوة سبكتكين له وخوفه من حيله ومكايده ومنها حسده له على ظاهر حاله وما جمع من الغلمان والحجاب والمروءة الظاهرة ومنها استمالته وجوه الأتراك ومكاثرته إياه في الإحسان إليهم ومنها عداوة بختكين آزاذرويه وكاتبه سهل بن بشر إياه لقصده إياهما بالأهواز واستقصائه عليهما ومصادرته إياهما ومنها عداوة صاحب الديوان أبي الفرج وأخيه علي بن العباس على قديم الأيام ومنها انقلاب أبي قرة عليه للأسباب التي ذكرناها فخلا من كل صديق ومعين واصطلحت هذه الطائفة عليه . ثم اضطر أبو الفرج محمد بن العباس إلى مصادقة أبي قرَّة ليتعاضد على أبي الفضل لا لمودّة حقيقية فاتفقا على أن يخاطبا سبكتكين الحاجب في مراسلة بختيار وموافقته على القبض على أبي الفضل وضمنه أبو الفرج محمد بن العباس تسعة آلاف ألف درهم يستخرجها منه ومن خلفائه وكتابه وجميع المتصلين به على أن يتقلد الوزارة ويتقلد أبو قرَّة الديوان ففعل ذلك وقبض على أبي الفضل كما سبق القول فيه .
ص: 367
فلم يلبث محمد بن العباس أبو الفرج في وزارته إلا يسيراً حتى اضطربت أموره ولم يف بما ضمنه لبختيار وتمكن أبو قرة من السعي عليه وردَّ أبي الفضل إلى وزارته وضمن لبختيار تصحيح سبعة آلاف ألف من جهته بضمان سبكتكين عنه .
لما خلع على أبي الفرج الخلعة التي تخلع على الوزراء ومكن من أبي الفضل وسلم إليه مع جميع أسبابه والمتصلين به اتسع بما راج له من جهاتهم وحبس أبا الفضل داره وضيق عليه وبحث عن أمواله وأموال أهله وحرمه بغاية ما أمكنه فلما وقف عليه الأمير طالبه بالمال وناظره فاستقر ما بينهما على أن التزم ثلاثة آلاف ألف درهم يحتسب منها بما صح من خاص أمواله وأثمان غلاته وآلاته وكراعه ويوفي ما يبقى واشترط أن يوسع عليه ويسهل الأذن لمن دخل إليه ليستعفهم ويقرض منهم. فأحجم أبو الفرج محمد بن العباس عن التنفيس عنه خوفاً من نفاذ حيلته عليه وأعاده إلى الحبس والتضييق وانفسخ ما قرره معه وعطف على أسبابه فثنى المصادرات عليهم وعسفهم وأرهقهم وجازفهم ومات في حبسه صهر لأبي الفضل العباس بن الحسين يقال له إبراهيم بن محمد الدهكي فاتهم به وأنه قتله بالعذاب والمطالبة. وخلع على أبي قرة لتقلد الديوان بعد أن أرفق بختيار بمال على ذلك وأقرت واسط في يده فصار ضامناً لها خاصة مستوفياً على غيره من الضمناء وتلقب بالرئيس لأن أبا الفرج كان أيام تقلده الديوان متلقباً بهذا اللقب فأنكر أبو الفرج ذلك على أبي قرة وأمر الناس أن يخاطبوه بالوزير الرئيس تحصيناً لهذا اللقب عن أبي قرة.
وابتدأ أبو قرة يطالب بجميع مراتب أبي الفرج التي كانت له قبل الوزارة وزعم أنها من حقوق صاحب الديوان ويجب أن يستوفيها فاضطربت الحال بينه وبين الوزير أبي الفرج ولم يزل يتزيد حتى ترامت إلى نهاية الفساد وضمن أبو قرة عن هذا اللقب مالاً ثانياً حتى أمضى له وخرج الأمر بأن يخاطب به. وكان معز الدولة اطلق لأبي الفرج وأبي الفضل عند إخراجه إياهما إلى جهتي عمان والبطيحة للحرب عليهما أن يضربا على أبوابهما بالدبادب فى أسفارهما عند حضور أوقات الصلوات فصار ذلك رسماً لهما استمرا عليه ولم يقطعاه عند انصرافهما من وجه الحرب فلما تقلد أبو قرة الديوان أجراه مجرى حقوق العمل التي تستوفي وأحب أن يضرب على بابه بالدبادب فسأل بختيار ذلك فأجابه
ص: 368
إليه ومنعه أبو الفرج الوزير منه وأنكر ثم بذل فيه أبو قرة مالاً فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك . ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة في التنافس إلى أبعد غاية وفي العداوة إلى أقصى نهاية وكان صاحبهما لاهياً عنهما واتصلت المنازعة بينهما في أمثال هذه الأشياء ولم تحفظ مرتبة الوزارة وفضلها على غيرها حتى لم تتميز من سواها .
فتقدم الوزير أبو الفرج إلى كتابه بعمل لأبي قرة ومؤامرة تشتمل على ما يجب عليه في مردود حسباناته التي عملها في سني ضمانه وإثارة جميع ما غبن فيه السلطان ومرافقه القديمة والحديثة فعملت هذه المؤامرة واشتملت على ستة آلاف ألف درهم ونسبت هذه الأموال إلى جهاتها وعرضت على بختيار وأطمع في وجوبها وأن حاله تفي بها فأمر بمطالبته. واعتصم بسبكتكين الحاجب فحامى عليه واغتاظ بختيار من تعززه عليه ووجد خصومه الطريق إلى إغرائه به وأقاموا في نفسه أنه سيحمل سبكتكين على خلع طاعته وإزالته عن مملكته فأنفذ بختيار إليه نقيباً ووكله به في دار سبكتكين ثم أنفذ ثانياً يستدعيه وضعف سبكتكين عن مقاومة صاحبه بختيار ومنابذته وكان شاع عنه أنه إنما يحامي على أبي قرة لمرفق يأخذه منه فترك الإغراق في نصرته وسلمه إلى بختيار على موجدة في نفسه وحمية في قلبه ووعد أبا قرة أنه سيتكلم فيه ويستنقذه. فلما صار عند بختيار سلمه إلى الوزير أبي الفرج وأمره باستخراج المال فضعف الوزير عن منابذة سبكتكين فيه ولم يقدم على عسفه ولم يسكن إلى إطلاقه فحصل معتقلاً اعتقالاً جميلاً ووقفت الأمور التي كان ينظر فيها من إقامة القضيم للكراع ومهمات التسبيبات عليه . وندم سبكتكين على تقليد أبي الفرج الوزارة ومساعدته على نكبة أبي الفضل وتذكر ما كان يعامله به من المجاملة والنفاق ورأى أنه على عِلاته كان أصلح له من أبي الفرج وضعف قلب أبي الفرج بفساد رأيه .
وكان أخوه أبو محمد علي بن العباس الخازن مستولياً على بختيار مالكاً لقياده لا يفارق مجلسه عند الأنس والمنادمة فأشفق أن يجري عليه من سبكتكين ما جرى على شيرزاد منه فاتفقا على إرضاء سبكتكين بإطلاق أبي قرة وتقرير أمره على مال قليل لا يؤثر في حاله وأن يصير إلى واسط على رسمه الأول ويعتزل الديوان فلما أفرج عنه أقام القضيم ونفذ الأمور المتعلقة به وانحدر إلى واسط بعد أن واطأ سبكتكين على السعي لأبي الفضل في الوزارة وإنقاذه من محبسه والقبض على أبي الفرج وأبي محمد علي بن العباس وأسبابهما .
وقد كان الوزير أبو الفرج عطّل ديوان أبي قرة ونقل الأعمال عنه واستبد بمكاتبة العمال وكان له كاتب أهوازي يعرف بابن السكر قد اتسعت حاله فشرع في تقلد هذا الديوان وبذل لبختيار مالاً يصححه له في كل سنة من حقوق المحاسبات وأعلمه أن هذا
ص: 369
الديوان زمام له على الوزراء وأن الوزير الآن مستبد بالجميع وفي ذلك ضياع الدخل والخرج وفساد الأصل والفرع واتصل الخبر بأبي الفرج فغلظ عليه وعظم في نفسه وراسل بختيار بأنه لا يصبر على أن يتقلد كاتبه هذا الديوان على مراغمته فأجابه بأنه لا بد من صاحب ديوان يكون معه «فاختر أنت من تحب» فهان عليه رد أبي قرة إلى نفسه وكان أخف على قلبه وأيسر محملاً من نظر ابن السكر فيه فكوتب بالإصعاد فورد وجددت له الخلع وقلد الديوان وكانت المراسلات بينه وبين أبي الفضل متصلة وذلك أن أبا الفضل كان واسع الصدر فأفضل على الموكلين به من غلمان الوزير أبي الفرج ووسع عليهم وأكثر في برهم والإحسان إليهم فلم يمنعوه من مكاتبة من يريد مكاتبته وواصلوا إليه كتب من كاتبه فاحتال ضروب الحيل وتم له أكثر ما حاوله فلما ورد أبو قرة بغداد تمكن من إتمام أمره والسعي له .
واشتدت الإضاقة بأبي الفرج ووقفت عليه أموره ومطالبه لأن واسط انغلقت عليه بأبي قرة والبصرة والأهواز انغلقتا عليه بالأتراك الذين استبدوا بأموالهما في تسبيباتهم ولم ينهض بما ضمنه عن أبي الفضل لأنه اقتصر على أخذ ظاهره وخاف أن يطلقه ليضطرب فيحتال عليه ويسعى في الوزارة ( وهو لا يعلم أنه قد سعى وفرغ) واجتمعت عليه مطالبات كثيرة وصارت حاله فى انحراف بختيار عنه وعداوة سبكتكين الحاجب له ولأخيه وتعصب الجند عليهما كحال أبي الفضل لما قبض عليه.
لما أحس باضطراب أمره خاف أن يعاجله بختيار بالقبض عليه فأحال على أموال وقفت عليه بالأهواز وأنه يريد الشخوص إليها فمنعه بختيار من الخروج إلا بعد إقامة الوجوه للنفقات التي بحضرته لئلا تتوجه عليه المطالبات بعد خروجه ويقع إخلال بالإقامات فاحتاج أن يستخلف أخاه بحضرته حتى ضمن له ذلك. ووافقه على وجوه ظن أنها راجية وأضاف إليه ابن أخته المعروف بأبي القاسم علي بن الحسين المشرف على أنه ناظر في الدواوين والحسبانات وشخص إلى واسط. وشخص أبو قرة على أثره بعد أن قرر أمر أبي الفضل وفرغ منه ولكن تعلق طمع بختيار بالمواعيد التي وعده بها أبو الفرج والضمانات التي ضمنها أخوه فلما حصلا بواسط ضايقه أبو قرة في الأمور وعارضه في التدبير وكان مستولياً على البلد بالضمان ثم على سائر الأعمال بحق النظر في الديوان ثم بالعناية التي كانت له من سبكتكين فخفف الوزير أبو الفرج المقام بواسط وبرز عنها يريد الأهواز. فحدث عند تدبيره وعمله على المسير أن توفي رجل كان متغلباً على أسافل واسط وهي أعمال نهر الصلة ونهر الفضل وكان يعرف هذا الرجل بأحمد بن خاقان وهو جار محمد بن عمران بن شاهين واستولى على هذه النواحي وكان يقاطع عنها السلطان
ص: 370
كما يريد ولا يمكن الاستيفاء عليه وله حال قوية ونعمة عظيمة فقدر محمد بن العباس الوزير أن يصل إلى أمواله فانتقل إلى هذا الوجه وسبقه ابن له يقال له خاقان فاحتمل غلات أبيه وأمواله ودخل إلى مضايق البطيحة . ووجد أبو قرة فرصته فأخذ في مراسلته وتقويته وتشجيعه وأعلمه أنه معه وعونه ثم عمل أعمالاً أوجب بها لنفسه بحق الضمان الذي له في واسط على هذا المتوفى شيئاً كثيراً من الغلة والمال ثم قال للوزير أبي الفرج محمد بن العباس أنه لا حق له في شيء مما يصل إليه من أموال هذا المتوفى إلا بعد أن يستوفي منه هذه البقايا أو يحتسب بها له من مال ضمانه فسار الوزير أبو الفرج إلى بلاد لم يجد فيها شيئاً ولو وجده لنازعه فيه أبو قرة وحصل منازلاً لخاقان بحيث لا يمكنه الدخول إليه ولم يصادف في تلك الأعمال إنساناً يكلمه ولا حبة من غلة ولا أثراً من مال فجنح إلى مراسلة خاقان والتماس مصالحته فامتنع عليه ونازله أياماً كثيرة حتى مل وساءت حاله وحال من معه وانقطعت عنهم المواد فاضطر إلى الرحيل ورضي بمال يسير لم يتمكن من استيفائه وحصل من هذا اليسير شيء يسير ووقعت المنازعة فيه بينه وبين أبي قرة حتى اتفقا على اقتسامه وبادر بالخروج إلى الأهواز .
وكاتب أبو قرة بختيار يعلمه أنه ليس له وجه درهم واحد وأنه خرج «مستروحاً إلى البعد عنك لتندفع عنه النكبة التي خافها من جهتك» وكتب إلى بختكين آزاذرويه يحذره منه فكتب بختكين إلى بختيار بأنه لم يبق عليه شيء وأن تسبيبات الأتراك وانزالهم تستغرق الواجب وزيادة كثيرة وإن محمد بن العباس الوزير إنما يصير إلى أعماله ليتأول عليه بالمحالات ويعمل له المؤامرات ويمد يده إلى أموال السنة المقبلة. ووافق ذلك أن أخاه أبا محمد علي بن العباس الخازن صحح البعض من تلك الوجوه التي أقيمت بالحضرة ووقف عليه الباقي لضعف يده ولكثرة الأراجيف بأخيه وبه وبأن بختيار قد تمت الموافقة بينه وبين أبي الفضل على إعادته إلى الوزارة وأخذ خطه في أبي الفرج وأبي محمد أخيه وأسبابهما بسبعة آلاف ألف درهم وأنه يطلق الاستحقاقات ويدر النفقات. فكتب بختيار إلى بختكين بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وكتب إلى أبي قرة بمثل ذلك وبالاحتياط عليهم حتى لا يفوت أحد منهم وقبض بختيار على أبي محمد الخازن أخيه وكان جالساً معه يشرب على رسم كان له في منادمته وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وكان في دار أبي الفرج وخلع عليه للوزارة.
وفي هذه السنة خرج الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن العميد إلى الجبل في خيل عظيمة لتدبير أمرها وتقرير أمر حسنويه بن الحسين الكردي.
ذكر السبب في ذلك
كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوي واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه
ص: 371
بالفتوح الكبار ولأنه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم وخدم خدمة يستحق بها الإحسان إلا أنه مع ما أقطع وأغضي عنه من الأعمال التي يتسط فيها والإضافات التي يستولي عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان فكان يزيد أمره على الأيام وتتشاغل الولاة عنه إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحة تلاحا فيها إلى أن قصده ابن مسافر بالحرب فهزمه حسنويه وكان يظن ابن مسافر أنه لا يكاشفه ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه فلم تقف الحرب حيث ظن وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصا ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرقوا بإزائهم. ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كل فارس منهم على رأسه رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرة تقدم بطرح النار فيه من عدة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفاً وحميت الشمس عليهم مع حر النهار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عما هم به. وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل هذا كله له وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين العميد وهو الأستاذ الرئيس بقصده واستئصال شافته وأمره بالاستقصاء والمبالغة. فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدة وزينة وخرج ركن الدولة مشيعاً له وخلع على القواد ووقف حتى اجتاز به العسكر قائد بعد قائد وكوكبة بعد كوكبة ورضي العدة والقوة فودع حينئذ الوزير ابن العميد وعاد إلى الري.
وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح وكان شاباً قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند فهو بذكائه وحده ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقاً شديداً على ركن الدولة وهو مع ذلك لقلة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه ويحب أن يسير في خواص الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم ويخلع عليهم خلعاً كثيرة ويحمل رؤساءهم وقوادهم على الخيول الغُرَّة بالمراكب الثقال ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدامه إذا ركب وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أن ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه .
ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع وأنه ما ملكهم أحد قط إلا بترك الزينة وبذل مالاً يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبر
ص: 372
عليهم ولا يكون إلا في مرتبة أوسطهم حالاً وأن من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حالة فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسده على نعمته والسعي على إزالتها وترقب أوقات الغرة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت. وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظن أنه قد ملأ قلبه رعباً وأنه سيكف عن السيرة التي شرع فيها فما هو إلا أن يفارق مجلسه ذاك حتى يعاود سيرته تلك فأشفق الأستاذ الرئيس في سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلج في هذه الأخلاق ويغتر بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهي إلى ما لا يتلافاه فسيره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا علي محمد بن أحمد المعروف بابن البيع وكان فاضلاً أديباً ركيناً حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقاً وأدباً .
فلما كان في بعض الطريق وكان يركب العماريات ولا يستقل على ظهور الدواب لإفراط علة النقرس وغيرها عليه التفت حوله فلم ير في موكبه أحداً وسأل عن الخبر فلم يجد حاجباً يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري فسألني عن الخبر فقلتُ له : إن الجماعة بأسرهم مالت مع أبي الفتح إلى الصيد فأمسك حتى نزل في معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام وكان يحضره كل يوم عشرة من القوّاد على مائدته التي تخصه وعدة من القواد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم فلما كان في ذلك اليوم لم يحضره أحد واستقصى في السؤال فقيل «إن أبا الفتح أضافهم في الصحراء» فاشتط من ذلك وساءه أن يجري مثل هذا ولا يستأذن فيه . وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو في وجه حرب ولم يأمن أن يستمر هذا التشتت من المعسكر فتتم عليه حيله فدعا أكبر حجابه ووصاه بأن يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصي النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته وظن أن هذا المبلغ من الإنكار سيغض منه وينهى العسكر من اتباعه على هواه فلم يؤثر كلامه هذا كبير أثر . وعاد الفتى إلى عادته واتبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب وكان لا يخليهم من الخلع والألطاف فشق ذلك على الأستاذ الرئيس جداً ولم يجب أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه ولا أن يبالغ في الإنكار وهو في مثل ذلك الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوه فدارى أمره وتجرع غيظه وأداه ذلك إلى زيادة في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في مجلس خلواته ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلا هذا الصبي (يعني ابنه ) ويقول في مرضه : ما قتلني إلا جرع الغيظ التي تجرعتها منه.
ومما حصلته عنه في وجهه هذا وقد سألته عن عاقبة أمر حسنويه معه وهل إلى استئصاله سبيل فقال : أما بهذه السرعة وفي هذا الزمان فلا ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنا وزيادة شيء ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء ثم يُدبر أمره على الأيام.
ص: 373
فلما حصل بهمذان اشتدت علته فتوفي بها رحمه الله وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه وكان العسكر كما ذكرت مائلاً إليه فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومناهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضه على الطاعة وأوماً إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على ذلك العسكر وتتوفر بعد ذلك بقيته على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل ذلك مع ركن الدولة. وكان يشق على سهلان بن مسافر لما في نفسه من حسنويه ولأنه يحب الانتقام منه ويكره أن ينصرف مثل ذلك العسكر عنه ولم يؤثر في أمره أثراً يسمع به وليه وعدوه إلا إن أبا الفتح كان كان يرى أن مقاربة حسنويه والعود إلى صاحبه ببابه لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق مكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه غيره أولى وأشبه بالصواب (وقد كان أبو علي محمد بن أحمد خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد )فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرر أمره على خمسين ألف دينار ينكسر بعضها وجبى كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوى نفسه وشد مُنّته وأحمد جميع ما كان دبره وأمر بالعود إلى الحضرة بالري.
وكانت وفاة الأستاذ الرئيس بهمذان في صفر ليلة الخميس السادس منه سنة ستين وثلاثمائة ففقد به الفضل اجمع وعدمت المحاسن التي ما اجتمعت لغيره في الإسلام.
كان هذا الرجل قد أدى من الفضائل والمحاسن ما بهر به أهل زمانه حتى أذعن له العدو وسلم الحسود ولم يزاحمه أحد في المعاني التي اجتمعت له وصار كالشمس التي لا تخفى على أحد وكالبحر الذي يتحدث عنه بلا حرج ولم أر أحداً قط زادت مشاهدته على الخبر عنه غيره. فمن ذلك أنه كان أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظاً للغة والغريب وتوسعاً في النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات وحفظاً للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام. ولقد حدثني أبو الحسن علي بن القاسم رحمه الله قال : كنت أروي أبي أبا القاسم القصائد الغريبة من دواوين القدماء لأن الأستاذ الرئيس كان يستنشده إذا رآه وكان لا يخلو إذا أنشده من رد عليه في تصحف أو لحن مما يذهب علينا فكان ذلك يشق عليَّ وأحب أن تصح له قصيدة لا يعرفها الأستاذ الرئيس أو لا يرد عليه فيها شيئاً فأعياني ذلك حتى وقع إليَّ ديوان الكميت وهو مكثر جداً فاخترت له ثلاث قصائد غريبة ظننت أنها ما وقعت إلى الأستاذ الرئيس وحفظته إياها وتوخيت الحضور معه فلما وقع بصره عليه قال هات أبا القاسم أنشدني شيئاً مما حفظته بعدي . فابتدأ ينشده فلما استمر في قصيدة من هذه القصائد قال له : قف فقد تركت من هذه القصيدة عدة
ص: 374
أبيات. ثم أنشده إياها فخجلت خجلة لم أخجل مثلها. ثم استزاد فأنشده القصيدة الأخرى فأسقط فيها كما أسقط في الأولى واستدركه عليه أيضاً . قال : فعلمت أن الرجل بحر لا ينزف ولا يؤتى ما عنده فهذا ما حدثني به هذا الرجل وكان أديباً كاتباً.
وأما ما شاهدته منذ مدة صحبتي إياه وكانت سبع سنين لازمته فيها ليلاً ونهاراً أنه ما أُنشد شعر قط لم يحفظ ديوان صاحبه ولا غرب عليه بشعر قديم ولا محدث ممن يستحق أن يحفظ شعره ولقد سمعته ينشد دواوين قوم مجهولين أتعجب من تعاطيه حفظ مثلها حتى سألته يوماً وقلت: أيها الأستاذ كيف تفرغ زمانك لحفظ شعر هذا الرجل.
فقال : وكأنك تظن أني أتكلف حفظ مثل هذا إنما ينحفظ لي إذا مر بسمعي مرة. وقد صدق رحمه الله فإني كنت أنشده لنفسي الأبيات التي تبلغ عدتها ثلاثين وأربعين فيعيدها بعد ذلك مستحسناً وربما سألني عنها ويستنشدني شيئاً منها فلا أقوم بإعادة ثلاثة أبيات منتظمة على نسق حتى يذكرنيها ويعيدها. وحدثني غير مرة أنه كان في حداثته يخاطر رفقاءه والأدباء الذين يعاشرهم على حفظ ألف بيت في يوم واحد وكان رحمه الله أثقل وزناً وأكثر قدراً من أن يتزيد فقلت له كيف كان يتأتى لك ذلك. فقال : كانت لي شريطة وهي أن يقترح علي من شعر لم أسمع به ألف بيت في يوم واحد يكتب واحفظ منه عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين أعيدها وأبرأ من عهدتها. فقلت وما معنى البراءة عن عهدتها قال : لا أكلف إعادتها بعد ذلك . قال : فكنت أنشدها مرة أو مرتين وأسلمها ثم اشتغل بغيرها حتى أفرغ من الجميع في اليوم الواحد.
وأما كتابته فمعروفة من رسائله المدونة ومن كان مترسلاً لم يخف عليه علو طبقته فيها وكذلك شعره الذي جد فيه وهزل فإنه في أعلى درجات الشعر وأرفع منازله. فأما تأويل القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار فكان منه في أرفع درجة وأعلى رتبة ثم إذا ترك هذه العلوم وأخذ في الهندسة والتعاليم فلم يكن يدانيه فيها أحد فأما المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته إلا أن يكون مستفيداً أو قاصداً قصد التعلم دون المذاكرة وقد رأيت بحضرته أبا الحسن العامري رحمه الله وكان ورد من خراسان وقصد بغداد وعاد وعنده أنه فيلسوف تام وقد شرح كتب أرسطاطاليس وشاخ فيها فلما اطلع على علوم الأستاذ الرئيس وعرف اتساعه فيها وتوقد خاطره وحسن حفظه للمسطور برك بين يديه واستأنف القراءة عليه وكان يعد نفسه في منزلة من يصلح أن يتعلم منه فقرأ عليه عدة كتب مستغلقة ففتحها عليه ودرسه إياها .
وكان الأستاذ الرئيس رضي الله عنه قليل الكلام نزر الحديث إلا إذا سئل ووجد من يفهم عنه فإنه حينئذ ينشط فيسمع منه ما لا يوجد عند غيره مع عبارة فصيحة وألفاظ
ص: 375
متخيرة ومعان دقيقة لا يتحبس فيها ولا يتلعثم . ثم رأيت بحضرته جماعة ممن يتوسل إليه بضروب من الآداب والعلوم فما أحد منهم كان يمتنع من تعظيمه في ذلك الفن الذي قصده به وإطلاق القول بأنه لم ير مثله ولا ظن أنه يخلق، وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجري بحضرته نبذ منه فرغب إليه في إتمامه تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنه بارع في ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمد لهم في الميدان ويرخي من أعنتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه فهذه كانت مرتبته في العلوم والآداب المعروفة ثم كان يختص بغرائب من العلوم الغامضة التي لا يدعيها أحد كعلوم الحيل التي يحتاج فيها إلى أواخر علوم الهندسة والطبيعة والحركات الغريبة وجر الثقيل ومعرفة مراكز الأثقال وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل وعمل آلات غريبة لفتح القلاع والحيل على الحصون وحيل في الحروب مثل ذلك واتخاذ أسلحة عجيبة وسهام تنفذ أمداً بعيداً وتؤثر آثاراً عظيمة ومراي تحرق على مسافة بعيدة جداً ولطف كف لم يسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم التضاوير وتعاط له بديع ولقد رأيته يتناول من مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته وأهل أنسته التفاحة وما يجري مجراها فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها وعليه صورة وجه قد خطها بظفره لو تعمد لها غيره بالآلات المعدة وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتى له مثلها .
فإذا حضر المعارك وباشر الحروب فإنما هو أسد في الشجاعة لا يصطلي بناره ولا يدخل في غباره ولا يناويه قرن ولا يبارزه بطل مع ثبات جأش وحضور رأي وعلم بمواضع الفرص وبصر بسياسة العساكر والجيوش ومعرفة بمكايد الحروب.
فأما اضطلاعه بتدبير الممالك وعمارة البلاد واستغزار الأموال فقد دلت عليه رسائله ولا سيما رسالته إلى أبي محمد بن هند والتي يخبر فيها باضطراب أمر فارس وسوء سياسة من تقدمه لها وما يجب تقدمه لها وما يجب أن يتلافى به حتى تعود إلى أحسن أحوالها فإن هذه رسالة يتعلم منها صناعة الوزراء وكيف تتلافى الممالك بعد تناهي فسادها وما منعه من بسط العدل في ممالكه وعمارة ما يدبره منها إلا أن صاحبه ركن الدولة مع فضله على أقرانه من الديلم كان على طريقة الجند المتغلبين بتغنم ما يتعجل له ولا يرى النظر في عواقب أمره وعواقب أمور رعيته وكان يفسح لجنده وعسكره على طريق مداراتهم ما لا يمكن أحداً تلافيه وردهم عنه وكان مضطراً إلى فعل ذلك لأنه لم يكن من أهل بيت مير يومه
ص: 376
الملك ولا كانت له بين الديلم حشمة من يمتثل جميع أمره وإنما يرأس عليهم بسماحة كثيرة كانت فيه ومسامحة في أشياء لا يحتملها أمير عن مأمور وهذه سيرة إذا عوَّدها الجند لم يمكن أن يفطموا عنها بل تزداد على الأيام وتتمادى حتى ينتهي إلى ما انتهى إليه جند عصرنا من نسبهم على الملوك واقتراحاتهم ما لا يفي به دخل المملكة وخروجهم في سوء الأدب إلى ما يخرج إليه السباع التي تضرأ ولا تقتل الأدب. ثم كان الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله مع هذه السيرة قد دارى جنده ورعيته وصاحبه مداراة لو ادعى له فيها المعجزة لاشتبه على قوم وذلك أنه لما استوزر لركن الدولة كان تقدمه قوم عجزة وباشروا مع عجزهم أموراً مضطربة وجنداً متحكمين والدنيا في أيديهم يملكونها كيف شاؤوا لا يمنعهم أحد منها وإنما أميرهم يسمى بالإمرة ما دام يستجيب لهم إلى اقتراحاتهم ومتى خالفهم استبدلوا به وكان ركن الدولة وقبله عماد الدولة يوسعان عليهم في الإقطاعات ويبذلان لهم من الرغائب ما لا يبقى لهم معها حجة ولا موضع طلبة وهم مع ذلك يتحكمون ويبسطون أيديهم ويطمعون فيما لا مطمع فيه وكان قصارى الوزير والمدبر أن يقيم كل يوم وجهاً لنفقة الأمير يومه ذلك من مصادرة العامة أو قرض من الخاصة أو حيلة على من يتهم بيسار كائناً من كان وربما تعذر عليهم قضيم الكراع يوماً ويومين فأما نفقات الحشم وجراياتهم وما يقيم أرماقهم فكانت تتمحل وربما امتنع عليهم إقامتها أياماً ومع ذلك فإن هؤلاء المدبرين كانوا لا يتمكنون من الفكر في وجوه الحيل لكثرة من يزدحم عليهم من الجند أعني الديلم والأتراك وخاصة من يطالبهم بالمحالات فيهربون منهم ويتواعدون من الليل إلى مواضع غامضة يجتمعون فيها وربما خرجوا إلى الصحراء ويجتمعون على ظهور دوابهم ويثنون أرجلهم على أعناقها بقدر ما يدبرون الرأي في وجه الحيلة وإقامة وظيفة ذلك اليوم فإذا تم لهم ذلك فهو عيدهم ونشاطهم وغاية كفايتهم في صناعتهم. فلما تولى الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله وزارة الأمير ركن الدولة استقام الأمر حتى رأيناه يركب إلى ديوانه من دار السلطان ولا يلقاه غير خاص كتابه ثم يلقى صاحبه فلا يدور بينهما إلا عوارض المهم الذي لا يخلو من مثله ملك ووزير وضبط أعماله ونظم أموره ورتب أسباب خدمته حتى كان أكثر نهاره مشغولاً بالعلم وأهله وبسط عدله وأقام هيبته في صدور الجند والرعية حتى كان يكفيه رفع الطرف إلى أحدهم على طريق الإنكار فترتعد الفرائص وتضطرب الأعضاء وتسترخي المفاصل وقد شاهدت من ذلك مواقف كثيرة لو شرحتها لأطلت هذا الفصل إطالة تخرج عن غرض الكتاب. ولولا أن صاحبه كان لا يستجيب إلى عمارة نواحيه كما حكيته في أول هذا الجزء خوفاً من إخراج درهم واحد من الخزانة ويقنع بارتفاع ما يحصل للوقت ويرى أن دولته مقرونة بدولة الأكراد فلذلك لا يمنعهم من العيث ولا يطلق يد حماة
ص: 377
الأطراف في قصدهم ويرضى أن يقال له قطعت القافلة وسيقت المواشي فيقول: «لأن هؤلاء أيضاً يعني الأكراد يحتاجون إلى القوت ولقد قيل مرة إن الأكراد وقعوا على بغال له خرجت للعلوفة فساقوها وذلك بالقرب من البلد وبحيث يلحقون إن طلبوا فقال في الجواب : كم كانت البغال فقيل : ستة . فقال : وكم كانت عدة الأكراد فقيل : سبعة .
فقال : سبعة بينهم الخلاف كان يجب أن تكون البغال سبعة بعددهم. فإذا كان هذا رأيه في الإنكار على أهل العيث وذلك رأيه في توفير العمارات واستغزار الأموال فما حيلة وزيره ومدبره فتأمل هذه الصورة وانظر إلى سيرة ملك قد عوّر وزراءه هذه العادات ورضي منهم بما تقدمت حكايتهم من تمشية أمره يوماً بيوم .
ثم آلت الحال إلى النظام الذي ذكرته واطردت الأمور اطرادها المشهور الذي دبره الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله أي كفاية كانت له وأي سياسة مشت بين يديه ولكنه رحمه الله لما حصل بفارس علم عضد الدولة وجوه التدابير السديدة وما تقوم به الممالك وصناعة الملك التي هي صناعة الصناعات ولقنه ذلك تلقيناً فصادف منه متعلماً لقنا وتلميذاً فهماً حتى سمع من عضد الدولة مراراً كثيرة أن أبا الفضل بن العميد كان أستاذنا وكان لا يذكره في حياته إلا بالأستاذ الرئيس وربما قال الأستاذ ولم يقل معه الرئيس ولا يحفظ عليه أنه ذكره قط بعد موته إلا بالأستاذ وكان يعتد له بجميع ما يتم من تدابیره و سیاسته ویری أن جميع ذلك مستفاد منه ومأخوذ عن رأيه وعلمه. ولعلنا نذكر منه طرفاً إذا انتهينا إلى سيرة عضد الدولة وما تم له من حيازة الممالك وحفظ الأطراف وقمع الأعداء والحرص على العمارة مع الشدة على المريب وإطفاء نائرة الأكراد والأعراب وإعادة الملك إلى رسومه القديمة إن أخر الله في الأجل، ولعل من يطلع على هذا الفصل من كتابنا ممن لم يشاهده يظن أنا أعرناه شهادة أو ادعينا له أكثر من قدر علمه ومبلغ فضله لا والذي أنطقنا بالحق وأخذ علينا ألا نقول إلا به.
وفي هذه السنة رأى بختيار ورئي له أن يعقد بين رؤساء الأتراك ورؤساء الديلم مصاهرات لتزول العداوات التي نشأت بينهم فابتدئ بعقد مصاهرة بين المرزبان بن عز الدولة وبين بختكين المعروف بآزاذرويه مولى معز الدولة وثنى بمصاهرة بين سالار بن عز الدولة وبين بكتجور مولى معز الدولة وفعل مثل ذلك بجماعة وأصلح بين الديلم والأتراك واستحلف كل فريق منهما لصاحبه فحلفوا جميعاً على موالاة عز الدولة بختيار بن معز الدولة وسبكتكين الحاجب وحلف بختيار لسبكتكين الحاجب وسبكتكين لبختيار بعد وحشة كانت بينهما فزال الظاهر ولم يزل الباطن . ثم غلبت علة الفالج على المطيع لله فثقل لسانه وجانبه الأيمن وذلك في يوم السبت لليلة خلت من صفر سنة
ص: 378
260 ثم تماثل وتماسك وعاش على هذه الحال إلى الوقت الذي سلم فيه الأمر إلى أمير المؤمنين الطائع لله .
وفي هذه السنة ورد حاجب لأبي تغلب بن حمدان وهو عدة الدولة فعقد مصاهرة بين أبي تغلب بإحدى بناته وبين عز الدولة بختيار على صداق مائة ألف دينار وجدد على أبي تغلب عقد أعماله لأربع سنين حساب كل سنة ستة آلاف ألف درهم ومائتا ألف درهم وأنفذت إليه الخلع .
وفي هذه السنة كانت وزارة أبي الفضل العباس بن الحسين الثانية لعز الدولة والقبض على أبي الفرج محمد بن العباس.
ذكر السبب في ذلك
قد كنا ذكرنا فيما تقدم أن عز الدولة كتب إلى آزاذرويه بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وأنه كتب أيضاً إلى أبي قرة بمثل ذلك وأنه قبض على أبي محمد الخازن أخي أبي الفرج في مجلسه وكان يحضره للمنادمة وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وخلع عليه للوزارة وذلك يوم الثلاثاء آخر ليلة بقيت من رجب سنة 360. فلما تمكن من الوزارة لم تكن له همة إلا استصلاح سبكتكين وعول عليه وعلى كاتبه أبي عمرو بن أدمي وصاحبه أبي بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني وتقرب إليه في مظاهرة أبي قرة ومساعدته. وقلد أخاه الحسن بن محمد القنائي خزانة عز الدولة مضافاً إلى ما كان يتولاه من خلافة أخيه أبي قرة على الدواوين وقلد أبا أحمد بن حفص ديواناً كانت تجري فيه نواح اختصها بختيار لنفسه وسماه ديوان الخاص وكتب إلى أبي قرة يستدعيه من الأهواز إلى الحضرة وأمر بإنفاذ أبي الفرج محمد بن العباس إلى البصرة موكلاً به فورد أبو قرة بغداد ومعه أسباب أبي الفرج المقبوض عليهم فبلغ الوزير أبو الفضل في إكرامه كل مبلغ وعظمه وتجددت بينهما معاهدة ومحالفة بأمر عز الدولة وسبكتكين إياهما واتفقت كلمة الجماعة .
ثم نظر الوزير أبو الفضل في أمره وزيادة خرجه على دخله وقلبه ظهراً لبطن فلم يروجها غير إطماع عز الدولة في أموال عمران فحرضه عليه وقرب عليه أمره واتفق ورود أبي قرة وقد تمت العزيمة. فشخص بختيار متقدماً وسار في الجانب الغربي على الظهر والوزير أبو الفضل وأبو قرة انحدرا في الماء واجتمعت الجماعة بواسط وذلك في شوال سنة 360 .
وفي هذه السنة ارتفع أمر ابن بقية مع عز الدولة وعلا شأنه حتى بلغ الوزارة كما سنحكيه بإذن الله .
ص: 379
كان هذا الرجل من القرية المعروفة بأوانا وكان أبوه مزارعاً وجده بقية وإليه كان ينتسب ونشأ في أيام الفتنة وغلبه أهل الرستاق على طريق دجلة العليا ودخل في غمارهم وانتسب إلى بعض عياريهم وكان جرى رسمه بتقلد المآصير. واتفق له إن اتصل بصاحب مطبخ معز الدولة المعروف بممله وكان ضامناً لتكريت وما يجري معها من المآصير العليا وأبواب المال فلما خدم مملة توجه معه وخف على قلبه فتدرج من حال إلى حال حتى استعمله على هذه الأعمال كلها وفوضها إليه وكان فيه سماحة نفس وخفة مع إقدام وتهور استفادهما الحال التي نشأ عليها واتفق على مملة اتفاق سيئ من علل اتصلت به وإعراض من معز الدولة عنه فشرع أبو طاهر بن بقية في ضمان أعماله وعنى به جماعة من الكتاب لأجل ما كان يبذله لهم فعقدت الأعمال عليه إلا أنه لم ينفق على معز الدولة ولا وثق به على مطبخه فقلده غيره ووفى بمال ضمانه وأقبلت حاله تتزايد وصدره يتسع للبذل حتى غلب على الوزير أبي الفضل وقرب منه وتعلق منه بعناية وتوفي معز الدولة فنفق على عز الدولة بختيار وبذل له مرفقاً يوصله إليه مما ينظر فيه فقبل بختيار منه ذلك وردت إليه الوكالة وقلد المطبخ فبلغ بالمرفق الذي بذله لبختيار عشرة آلاف درهم في كل شهر واشترط أن ينصره على الكتاب وأصحاب الدواوين ومنعهم من الاستقصاء عليه ويشد على يده في استيفاء أموال تسبيباته من الوكالة فوفى له وكان يحمل إليه هذا المرفق الذي ذكرته مشاهرة ثم أنس به في خلواته ومجالس لهوه وانبسط إليه بأنواع من المزاح كان يستعملها في مجالسه مع ندمائه فلطف موقعه ودخل معه كل مدخل ثم صار يهاديه بالخيل والبغال والجوارح والألطاف والجواري والعبيد ودخل في جلالة العز فعرض جاهه عنده حتى صار يتوسط بينه وبين كل رافع ظلامة وطالب حاجة فلما أفضت هذه الوزارة الثانية التي نحن في ذكرها إلى أبي الفضل كان ابن بقية قد استولى غاية الاستيلاء وصار في مثل منزلة شيرزاد اختصاصاً ومنزلة وغلبة على أمره واحتاج الوزير أبو الفضل إليه ليحفظ غيبه وانحدرت الجماعة إلى واسط الحرب عمران.
واستدعى الوزير أبو الفضل أبا الفرج محمد بن العباس إلى واسط وكان معتقلاً بالبصرة وأخذ خطه بمال عظيم لا ينهض به وأنفذه إلى بغداد ليصححه هناك وكذلك فعل بأخيه أبي محمد فجرى عليهما ببغداد أمر قبيح يجري مجرى التشفي من غير ضرب ولا مكروه في الجسم بل بضروب من الاستخفاف والإهانة والإسماع فتم لهما الهرب واستترا عند بعض أسباب سبكتكين. فعادت الوحشة بين أبي الفضل وبين سبكتكين واتهم بأنه يسفر له في العود إلى الوزارة والجأته الحال إلى مطالبة عز الدولة بختيار باليمين الغموس
ص: 380
على ألا يستوزره أبداً ولا يستعين به في شيء من الأعمال إن لم يظهر بعد شهر من تاريخ اليمين فحلف له عز الدولة بحضرة القواد والقضاة والشهود ووجوه الحاشية وكان في اليمين كل ما يكون في أيمان البيعة ولقنه بنفسه حرفاً حرفاً وبقي الأمر كذلك وأبو الفرج مستتر إلى أن عاد عز الدولة إلى بغداد بعد سنتين وأخذ له ولأخيه أمان فظهرا بعناية سبكتكين. وضعف أمر الوزير أبي الفضل وضعفت مُنته وتأدى أمره إلى النكبة التي هلك فيها ووفى بختيار باليمن وقلد أبا طاهر بن بقية الوزارة فكف عن أبي الفرج لأنه علم أنه لا يستوزر ولا يشرع في شيء من فساد حاله ونفى أخاه أبا محمد إلى واسط وأجرى عليه رزقاً . ثم إن أبا محمد أصعد إلى بغداد بغير أمره وذلك لإرجاف أرجف عنده بالقبض على ابن بقية فاغتاظ لذلك وقبض عليه ونفاه إلى البطيحة فحصل عند عمران مدة ثم أصعد سراً واستتر ببغداد في عرض الفتن التي كانت تجري ثم تمكن ابن بقية منه ومن أخيه وطالبهما ثم نفاه ونفى أبا الفرج إلى سر من رأى واعتقله بها .
لما أنس أهل واسط بقرب عز الدولة منهم وطال مقامه بينهم تظلموا إليه سراً ولقيه نفر منهم فأعلموه أنه قد أخرب بلادهم وأفقرهم وظلمهم وغشمهم وصادرهم وملك عليهم ضياعهم وأنه استحل منهم ما حرمه الله وصححوا عنده سعة حاله وكثرة ماله وجلالة ضياعه فاستعظم بختيار ذلك وغاظه فعله وتمكنه من النعم الكثيرة حتى أزالها واستبد بها فصرفه عن واسط وتقدم إلى ابن بقية أن ينظر فيها على سبيل الأمانة . فاتهم أبو قرة الوزير أبا الفضل بأنه عن رأيه ومساعدته ولم يكن كما ظن فكتب إلى سبكتكين الحاجب يعرفه ما جرى ويحرضه على أبي الفضل ويعلمه أنه قد حنث في يمينه وعقوده التي بينهما وعاد إلى أسوأ فعله واعتقاده. ثم عطف أبو قرة على أبي طاهر بن بقية فخاطبه بكل ما كره وتوعده وهدده بالنكبة وطالبه بالحسبانات لما يجري على يده دخلا وخرجا فاستطال عليه ابن بقية وانتصف منه ونصره بختيار فانخزل أبو قرة واتصل بسهل بن بشر النصراني كاتب بختكين آزاذرويه وهو بالأهواز ما جرى على ابن قرة وضعف أمره وكانت بينهما عداوة قديمة فكتب إلى بختيار يضمنه بمال عظيم وساعده ابن بقية فقبض على أبي قرة وأسبابه واستبيح ماله وقبضت ضياعه وغلاته فسارع إلى التزام مصادرة ثقيلة عن نفسه وأسبابه وبذل بعد ذلك أموالاً عظيمة يثيرها من محاسبات الضمناء واستمال ابن بقية وعاهده على أن يكون كل واحد منهما ناصراً لصاحبه . ثم إن بختيار مال إلى ما بذله أبو قرة فأمر بأن يخلع عليه ولم يكره الوزير أبو الفضل ذلك لتزول التهمة التي سبقت إلى سبكتكين في أمره.
ص: 381
كانت الخلع أحضرت ليلبسها فكره المنجمون له الوقت وأشاروا عليه بالتوقف ليختار له يوم فورد للوقت غلام لسهل بن بشر على البريد برسالة منه ومن بختكين آزاذرویه صاحبه يسألان تسليم أبي قرة إليه بزيادة بذلها وضمنه بها وصادف ذلك خوف الناس من عوده بعد سعايتهم به وأنه عدو لهم يستأصلهم فسعوا إلى ابن بقية به حتى أشار على عز الدولة بتسليمه إلى سهل بن بشر وعرفه أنه إنما ضمن تلك الأموال حيلة في الخلاص والعود إلى التعزز عليه بسبكتكين فسلمه إلى رسل سهل بن بشر وحمل من ليلته إلى الأهواز وصودر هناك وتشفى منه وتلف في أنواع المكاره التي جرت عليه وقلد ديوانه أبو أحمد بن حفص ثم أفضت الوزارة إلى ابن بقية فضعفت يده وقل نظره لاستيلاء ابن بقية على المملكة فلم يبق من هذا الديوان إلا الاسم.
وفي هذه السنة قتل حمدان أخاه أبا البركات .
كنا ذكرنا ورود حمدان ورجوعه إلى الرحبة وتمام الصلح بينه وبين أخيه أبي تغلب ولم يلبث الأمر بينهما أن عاد إلى فساده فأنفذ أبو تغلب أخاه المكني بأبي البركات إليه حتى دفعه عن الرحبة فسلك طريق البرية يريد دمشق وملك أبو البركات الرحبة فخلف بها طائفة من جيشه مع غلام من غلمانه وعامل من عماله ورحل منصرفاً.
وانتهى حمدان إلى بعض طريق البرية ولحقه وأصحابه عطش ولم يمكنه الإتمام فرجع مخاطراً بنفسه ووصل إلى باب الرحبة ليلاً والقوم الذين فيها غافلون نيام وتهيأ لنفر من غلمانه أن دخلوا البلد من ثلمة في السور غامضة كانوا يهتدون إليها وفتحوا له باب الرحبة فدخلها واستتر وراء السور وضرب بالبوق فبادر القوم إلى الباب منقطعين متفرقين وليس يعلمون بحصول حمدان من داخله فكان يوقع بهم أولاً أولاً وأسر عاملي الخراج والمعونة ووجد في أيديهم غلات قد وردت في السفن فغنمها وغنم سوادهم وآلاتهم وسلاحهم وكراعهم وصادرهم وأصعد على الفرات في الجانب الشامي إلى قرقيسيا. واتصل خبره بأبي البركات وهو سائر إلى الموصل فعطف عليه وحازاه من الجانب الجزري وتخاطبا وتراسلا فلم يتم بينهما صلح ولا اتفاق ولم يمكن أبا البركات المقام لضيق الميرة على عسكره فرجع يريد الخابور. فاتفق أن صار إلى حمدان مائتا فارس من بني نمير مستأمنة وكانت عدته ثلاثمائة غلام فصار في خمسمائة فارس فتتبعت نفسه العبور في أثر أخيه والتصعلك على عسكر وكان فيه جرأة وإقدام فخاطر وعبر في
ص: 382
جريدة خيل وسار حتى أدركه بمنزل يقال له ماكسين وهو راحل مجتاز فنزل منه على فرسخين وبكر في الغلس فزحف إليه فصادفه قد سبق بسواده وبعض جيشه وهو ماض على غير استعداد لأنه لم يقع في ظنه أن حمدان يقدم عليه مع التفاوت بين عدتيهما. فلما قيل له إنه قد وافى عطف إليه في طائفة من الرجال ليتلاحق به الباقون فبث حمدان أولئك العرب في الإغارة على سواده ومنع العسكر أن ينتظم شمله وحقق على أبي البركات في الحملة مع غلمانه فوجده متسرعاً في أول الناس فاجتمعا متصادمين وعرف كل واحد منهما صاحبه فتضاربا بالسيوف ولم تكن على أبي البركات جنّة فضربه حمدان على رأسه فسقط إلى الأرض وأخذه أسيراً وبه رمق واستباح سواده واستأمن إليه جماعة من أصحابه وأسر جماعة وقتل بعض الأسارى واستبقى البعض وانكفأ إلى قرقيسيا ليعالج أخاه من ضربته وظن أنه ينجو فتلف بعد ثلاث فأنفذه في تابوت إلى الموصل واستحكمت العداوة بينه وبين أخيه أبي تغلب .
واختلف باقي الإخوة وتخاذلوا وتنافسوا وكانوا متفرقين في أعمالهم فبلغ أبا تغلب أن محمداً من بينهم المكني أبا الفوارس وكان يتولى نصيبين قد كاتب حمدان وعمل على اللحاق به والاجتماع معه عليه فاحتال عليه واستدعاه وأطمعه في الإحسان والزيادة فاغتر محمد وصار إليه فقبض عليه واعتقله في قلعة أردمشت وضيق عليه هناك وثقله بالحديد حتى أطلقه عضد الدولة لما ملك تلك الديار وكنت مندوباً لنقل ما في تلك القلعة من الذخائر مأموناً على ما فيها فجرى ما سأذكره إذا انتهيت إليه .
واستوحش باقي إخوة أبي تغلب لما جرى على أخيهم محمد وأقبل أبو تغلب يستميلهم فخدعهم واحداً واحداً فصاروا إليه بعد أحوال تتقلب بهم سوى أبي طاهر إبراهيم فإنه لم يسكن إليه ورحل إلى بغداد مستأمناً إلى عز الدولة بختيار على طريق دجلة. وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا وأنفذ منها أخاه أبا القاسم هبة الله سرية في جيش كثيف إلى الرحبة تقديراً أن يكبس أخاه ويأخذه أسيراً فما أحسن به حتى أطل عليه فخرج هارباً واتبعه ابنه وطائفة من غلمانه ولحقه هبة الله فأبقى عليه حتى نجا. ثم وقعت عليه سرية للقرامطة كانت سائرة إلى الشام لقتال صاحب المغرب فأرادوا الإيقاع به فتعرف إليهم وكان متعلقاً بينهم بذمام فكفوا له وبذلوا له من نفوسهم ما أحبه فسألهم أن يسير معه نفر منهم إلى طريق عانة ففعلوا وعدل إلى مدينة السلام فاستقر الإخوان بها في ذي الحجة سنة 36 وكتب بختيار إليهما بالانحدار إليه إلى واسط فانحدرا ووصلا إليه في صفر سنة 361 وتلقاهما وأكرمهما وأمر بحمل إنزال كثيرة إليهما وردّهما إلى بغداد بعد أن حمل إلى كل واحد عند رحيلهما هدايا كثيرة من الثياب والورق والطيب والدواب والبغال والمراكب وسنذكر ما انتهت إليه أحوالهما بعد ذلك إن شاء الله . وأنه
ص: 383
قد قلنا إن أبا الفضل اتهم سبكتكين بأنه ستر أبا الفرج وأبا محمد وحامي عليهما وأنه يريد أن يسعى لأبي الفرج في الوزارة وكان سبكتكين اتهم أبا الفضل بأنه دبر على أبي قرة حتى قتل بعد ذلك بالعذاب الطويل فشرع أبو الفضل في استصلاح سبكتكين بكل وجه وحيلة فلم يجد إلى ذلك سبيلاً فصبر حينئذ على عداوته وأخذ في التدبير عليه . فكان من ذلك أن أشار على بختيار بأن يستدعي آزاذرويه من الأهواز ويزيد في حاله ومحله ويقيمه كالضد لسبكتكين لينجذب الأتراك إلى هذا ويفلهم عن ذلك فقبل بختيار بما أشار به عليه. وورد بختكين واسطاً فعظم أتم تعظيم وفخم أمره أشد تفخيم وعقدت عليه واسط مضافة إلى الأهواز فلم يتم ما قدر من انفضاض الأتراك عن سبكتكين وذاك أنهم تنبهوا على المقصد وعلموا أنه إنما دبر على تفريق شملهم وإيقاع التنافر بينهم وكانوا قد تحالفوا على المعاضدة وألا يتفرقوا. وأشفق بختكين آزاذرويه من أن يعتزلهم وينفرد عنهم فصار واحداً منهم فانعكس تدبير الوزير أبي الفضل واضطر إلى العود إلى بابه والنزول تحت حكمه وطلب سلمه بعد معاتبات ومراسلات. ولما عاد بختيار إلى بغداد زاد في منزلة سبكتكين وأمر بأن يخاطب بالإسفهسلار وتموهت الوحشة واندرجت على غير وثيقة. ولما عزم بختيار والوزير على الإصعاد عن واسط قدما أبا طاهر بن بقية إلى سبكتكين ليصلح ما تشعث بينه وبين الوزير أبي الفضل ويستعيد له جميل رأيه فجرى الأمر أيضاً في ذلك على نفاق ووحشة في السر واندمل الجرح على فساد إلى أن تم على الوزير الصرف والنكبة واتصل بقتله وإبادته .
وفي هذه السنة هلك أبو طاهر الحسين بن الحسن عامل البصرة وكل من اتصل به وعفت آثارهم وزالت نعمهم ولم يبق منهم على وجه الأرض نافخ ضرمة.
كان هذا الرجل فيه شهامة وكفاية وتهور مع ذلك ومخاطرة ولما حصل بختيار بواسط أكثر الناس من حديثه وما وصل إليه من الأموال حتى اتسعت فيه الظنون وكان الوزير أبو الفضل يعلم أن ذلك باطل وليس يجب أن يفسد نظام أمور البصرة بصرفه والطمع في يسير ماله وكانت البصرة معتدلة الحال مستقيمة الأمور. فأغرى بختيار بالمصير إلى البصرة وأقيم في نفسه أنه يصل منها إلى مال كثير ولم يكن وراءها فسار إليها ولم يجد بها ما كان مولعاً به من المتصيدات ولا تمكنت البزاة والجوارح من الصيد لكثرة نخلها وشجرها ولاطفه هذا العامل بالهدايا والتحف ووافقه على مرفق يرفقه به
ص: 384
ومشاهرة يقيمها له وتجاوز ذلك إلى أن ضمن له إثارة مال من البصرة على طريق التأويلات على التجار والمعاملين وأراد بذلك الدفع عن نفسه. ووافى الوزير أبو الفضل البصرة بعد أن رتب عساكره على طفوف البطيحة لأن المد وافى وكثر فلم يمكن طلب عمران بن شاهين واحتيج إلى الانتظار إلى وقت النقصان فأمره بختيار بالخلع على أبي طاهر العامل وتقبل ما بذله له ولم يستطب البصرة لعدم الصيد الذي ذكرته فعاد إلى واسط ووصى الوزير بتقوية يد العامل والزيادة في بسطه والرفع منه فاضطر الوزير إلى امتثال ما رسم له وهو لا يختاره ولا يستصوبه. فبسط أبو طاهر العامل يده في القبض على التجار والعوام وتأول عليهم بالمحال واستخرج منهم أموالاً كثيرة وظن أنه قد تمسك من بختيار بعهد يثق به وإنه ممن يعتمد على قوله وذمامه وحدت نفسه بمنزلة أبي قرة وأن يرتقي منها إلى منزلة الوزارة فساء رأي الوزير أبي الفضل فيه وأخذ في التدبير عليه والسعي على دمه فكتب إلى بختيار يعرفه أنه قد أخرب البصرة وأفسد نيات أهلها وأنهم عرب لا يحملون ما يحمله غيرهم ويزعم أن أموالهم الآن قد حصلت والصواب يقتضي إرضاءهم بالقبض على هذا العامل والاستبدال به ومصادرته على مال ينضاف إلى مصادرتهم ثم دس إلى عز الدولة من يغريه به ويعظم عليه جناياته ويطمعه في ماله إلى أن أمر بالقبض عليه فقبض الوزير عليه وعلى أخيه والمتصلين به حتى زوجته وعياله وأقاربه وأسبابه كلهم وعقد البصرة على علي بن الحسين المعروف بأبي القاسم المشرف وسلمه إليه لعداوة كان يعرفه بينهما وأخذ خطه بأن يستخرج منه ومن أسبابه مالاً عظيماً وأصعد عن البصرة لاستتمام منازلة عمران بن شاهين وكان هذا العامل(أعني أبا طاهر) من أهل الشر فكثر خصماؤه وطلاب الطوائل عنده فعسفه علي بن الحسين وسلمه إلى مستخرج كان قد وتره فنالته منه مكاره عظيمة خاف معها أن يسلم فيكون بواره على يده فأتى على نفسه ثم ألحق به أخاه وأقاربه وزوجته فأتلف الجماعة بأسرها وعفى آثارها . ثم عطف علي بن علي بن الحسين على معامليه ومخاطبيه وقوم تأول عليهم فصادرهم لصحة المال الذي ضمنه فما صح له من جميع الجهات إلا البعض وانكسر الباقي وانمحت آثار أبي طاهر من الأرض فلم يبق له بقية .
كان بختيار لما خرج عن بغداد لمحاربة عمران أظهر أنه يريد الخروج إلى التصيد بناحية النعمانية مغالطة لعمران وظن أنه يرهقه عن التحرز منه والاستعداد له. وقد تفعل الملوك مثل هذا ولكن مع إتمام العزائم والصبر على مطاولة العدو بالمكايد التي تشبه هذا الابتداء لا بأن يكون مبدأ التدبير صواباً يشبه الآراء الوثيقة ثم يتبعه باللعب والاشتغال عنه
ص: 385
بالعبث وبترك الاستظهار وإهمال الجند حتى تخرق الهيبة وتزول الحشمة ويظهر للعدو عصيان الجند وقلة النظر في الحرب والتعويل على الجد دون الجد حتى يطلع على الحيرة والتبلد ومكان العورة والضرورة الداعية إلى مقاربته في طلب الصلح منه والجنوح إلى السلم بعد النزاع إلى الحرب فإن بختيار عمل في المبدأ ذلك العمل الواحد ثم اتبعه بجميع ما ذكرته وذلك أنه استطاب التصيد الذي أظهره مكيدة لعدوّه وأقام بالنعمانية شهراً مع عساكره التي علم معها عمران أن قصده بهم إياه لا غيره ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة وبنى أمره معه على أن يسد أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة ويعدل بها إلى غيره وأن يبني مسناة عظيمة يمكن سلوك الديلم عليها مشياً إلى معقله وهذا ضد ما بنى عليه أمره في الابتداء ولا يشبه الحيلة التي تؤدي إلى إرهاق العدوّ ومنعه من الفكر فإن الهجوم والكبس والبيات يتم بالمعاجلة والركض إلى الغاية دون التمهل والأخذ والتدابير البعيدة والأعمال الطويلة .
فلما طالت المدة في عمل هذه السدود وجرت في إضعافها وقائع لحقت المدود وغلب الماء والسيل علاج السكور فاحتيج إلى الإمساك عنها والانصراف عن إتمامها إلى حفظ ما عمل منها بالرجال حتى لا يفسدها العدو لا سيما وعمران متدرب بذلك قد اعتاد في جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكد رجاله فإذا أحس بالمد ومجيء السيول احتال في تخريب ما يبني له من السكور وإنما يكفيه إيقاع ثلمة يسيرة في أحد نواحي السد ثم يحمل الماء فيتولى كفايته في الهدم والتخريب فربما أفسد في ساعة من الليل أو النهار تعب سنة أو نحوها. وذلك أن هذه السدود تكون من قصب وتراب يُقام في وجوه المياه الجارية عند ضعف جريانها وغاية نقصانها فإذا وردت المياه القوية ومنعت من حدورها كفي منها اليسير من المعونة حتى تنبعث ويدفع بعضها بعضاً وربما كان سبب انبثاق الماء نقب فأرة ثم بوسعه الماء وينتهي فيه إلى حيث لا حيلة في سده ولما عمل بختيار ووزيره ما ذكرته من السدود وأتى المد كان قصاراهما حفظ ما عمل بالرجال حتى لا يتم لعمران حيلة في هدمه فعدل عمران عن هدم سكوره إلى الانتقال إلى معقل آخر من معاقل البطيحة ونقل غلاته وزواريقه وجميع أمتعته إلى هناك فلما انحسر الماء وجاءت أيام الجفاف من السنة الثانية وجد مكان عمران خالياً عمران خالياً منه ولم تكن له آلة يطلبه بها فطلب غلاته فلم يجد فيها شيئاً فانصرف خائباً. وضجر العسكر من المقام على الشقاء ولم يصبروا على أذيَّة البق وحر الهواء وانقطاع المواد التي ألقوها فشغبوا عليه وتناولوا الوزير بألسنتهم وهموا بالإيقاع به وتحالف الديلم والأتراك على التعصب واتفاق الكلمة وأبوا أن يقيموا أكثر مما أقاموا فاضطر بختيار إلى طلب مصالحته على مال يلتمسه منه (وقد كان ها به في أول الأمر فبذل له خمسة آلاف ألف درهم) فلما
ص: 386
طلب هذا المال بعد اضطراب الجند وطول المقام وانقطاع الحيلة امتنع عليه منها وبذل ألفي ألف درهم بوساطة سهل بن بشر کاتب بختکین آزادرویه وكانت بينه وبين عمران صداقة فنجم عليه هذا المبلغ ثم تماسك عمران وامتنع من التوثقة بما وافق عليه واقتصر منه على اليمين أيضاً فاضطر الوسائط إلى أن يقولوا لبختيار إنه قد حلف وما حلف . وانصرف بختيار عنه مع عسكره خائبين عليهم الزلة .
وحدث للعسكر زيادة على المعهود من سوء الخدمة وقلة الطاعة والاستطالة حتى وثبوا على سهل بن بشر مرة لأجل مال كان حمله معه فأحسوا به وطمعوا فيه ونهبوه واجتهد بختيار في ارتجاع شيء منه فما أمكنه ذلك . ثم وثبوا أيضاً على محمد بن أحمد الجرجرائي ( وكان ينظر في أمورهم ويخلف الوزير عليهم )لأشياء كانوا نقموها عليه وأبوا أن يكون متولياً عليهم فأرضاهم الوزير بصرفه عنهم ووجد السبيل إلى مصادرته فاستخرج منه عشرة آلاف دينار كانت سبب حقده حتى صار في جملة من سعى به ودبر في هلاكه .
وقد كان قبل هذه السنة ندب عضد الدولة كوركير بن جستان لمحاربة سليمان بن محمد بن الياس وكان سليمان هذا بخراسان وأطمع صاحبها في كرمان والقفص والبلوص في طاعته فضم إليه صاحب خراسان جيشاً وجاء إلى كرمان فاستغوى هاتين الطائفتين وغيرهم من الأمم المفارقة لطاعة السلطان الأكبر فصارت هذه الطوائف يداً واحدة في شق العصا. فلقيه كوركير بين جيرفت وبَم وجرت بينهما حرب أجلت عن قتل سليمان وبكر والحسين ابني اليسع أخيه وعدد كثير من قواد خراسان والرجال المضمومين إليه وحملت رؤوسهم إلى شيراز وأنفذها عضد الدولة إلى حضرة أبيه ركن الدولة .
و اجتمعت المنوجانية وسائر القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده وغيرهم من الرؤساء على كلمة واحدة في الخلاف وتحالفوا على الثبات والاجتهاد فضم عضد الدولة إلى كوركير عابد بن على فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر فوقعت الوقعة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من صفر سنة 360 وأجلت عن هزيمتهم وقتل خمسة آلاف رجل من أشدائهم ووجوههم وقتل ابنان لأبي سعيد البلوصي وحصل المعروف بأبي الفوارس المنوجاني في الأسر وابن أخيه أبو الليث وجماعة يجرون مجراهم ثم صعد عابد بن علي لقص آثارهم والتولج إلى مكانهم ليبيد غضراء هم فتابع الإيقاع بهم والاثخان فيهم وانتهى إلى هرموز فملكها واستولى على بلاد النيز ومكران وحصل في يده بعد من هلك في الحروب ألفا أسير من رجالهم ونسائهم وذراريهم فلاذوا بطلب الأمان وبذلوا تسليم المعاقل والجبال على أن يدخلوا في السلم وينزعوا شعار الحرب ويقتنعوا بالأقوات التي تحل وتطيب ويتحلوا بسيماء المسلمين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويتمسكوا بسائر شروط الإيمان فعقدوا على
ص: 387
أنفسهم بذلك عقداً وثيقاً. ثم عدل عابد بن علي إلى طوائف أخر من الأمم المخالفة في حال تصاقبهم يعرفون بالخرَّمية والجاشكية يُخيفون السبل في البر والبحر وكانوا ضاموا سلیمان بن محمد بن الياس فأوقع بهم وقتل كثيراً منهم وحصل في يده رئيسهم أبو علي بن كلاب فضرب عنقه وقبض على خلق منهم فأنفذهم إلى شيراز فتوطأت تلك الأعمال وصلحت مدة من الزمان.
ثم لم يلبث البلوص وكانوا أشد هذه الطوائف بأساً وأوعدهم جانباً وأشدهم كفراً أن اشتاقوا إلى عاداتهم من إخافة السبل وسفك الدماء الحرام ونقض ما كانوا تمسكوا به من تلك العهود فلما فعلوا ذلك اعتقد عضد الدولة إلا حيلة في صلاحهم ويئس منهم فرأى ألا يبقي عليهم وعزم على المسير بنفسه إلى كرمان فسار في ذي القعدة سنة 360 فلما انتهى إلى السيرجان وجد البلوص قد تبسطوا في الأعمال وسعوا فيها بالفساد ونصبوا للرئاسة عليهم علي بن محمد البارزي ولقي الناس منهم عنتا شديداً في جميع طرقات كرمان و سجستان و خراسان فجرد عابد بن علي في عسكر كثيف من الديلم والجيل والأتراك والأعراب والأكراد والزط والرجال السيفية وأنفذه إليهم فلما أحسوا بإطلاله عليهم أوغلوا في الهرب وسلكوا طرقاً ضيقة شاقة ظنوا أن العسكر لا يمكنه سلوكها ولا اتباعهم فيها ثم إن عابداً أنفذ أخاه في سرية قوية خلفهم وسار هو في باقي الجيش من طريق آخر إلى بلادهم التي يأوونها إلى جبال البارز ففتحها عنوة واستنزل عنها محمد بن علي البارزي وظفر بصهره أبي دارم وقد كانوا أنفذوا طلائع لهم وعيوناً ليأتيهم بالأخبار فنذر بهم وقبض على جماعتهم فلم يرجع إليهم مخبر منهم فكانوا ساكنين غازين إلى أن أطل الجيش في الموضع الذي ظنوا أنهم آمنون فيه فلم يجدوا مهرباً ولا معدلاً عن المجاهدة فثبتوا سحابة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 361 منذ طلوع الشمس إلى غروبها ثم انجلت الوقعة عن قتل الرجال المقاتلة إلا القليل وعن الإحاطة بحرمهم وذراريهم وأملاكهم ونجا في الوقت رئيسهم المعروف بابن أبي الرجال البلوصي مع جماعة من الوجوه ثم ظفر بهم من بعد فقتلوا جميعاً ودخل نفر يسير ممن بقي تحت الأمان وتشبثوا بالعهد والدمام فنقلوا عن تلك الجبال وأسكن عضد الدولة مكانهم إلا كرة المزارعين والمستورين من أجناس الرعية حتى طبقوا تلك المواضع بالعمارات وطهرت تلك الجبال من معرَّة أولئك المفسدين. ثم عاد عابد بن علي إلى الأمة المعروفة بالجاشكية ومن يجري مجراها من الدعار وكانوا وراء جبال القفص مما يلي التيز ومكران والسواحل إلى حدود عمان ولهم معرَّة شديدة وفساد كثير وجنايات عظيمة على الناس وأنفذ عابد أخاه في عسكر قوي من الديلم والأتراك والعرب وغيرهم وحمل معه الزاد على الجمازات في البر وعلى
ص: 388
الشذاآت والمراكب في البحر من سيراف إلى مكلّي هرموز وسواحل كرمان فقطع عدة مضايق حتى وصل إليهم وهم غافلون لا يظنون أن أحداً يصل إليهم فأوقع بهم وقتل وأسر واصطلم ولم يبق من طبقات الدعار في تلك النواحي أحداً.
وفي هذه السفرة تنكر عضد الدولة لكوركير فقبض عليه وردّه إلى سيراف واعتقله اعتقالاً جميلاً فيه بقية للصلح .
وفيها تمكن الأستاذ الجليل أبو الفتح بن أبي الفضل بن العميد رحمهما الله من الوزارة بعد أبيه وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه ومكنه من أعنة الخيل فصار وزيراً وصاحب جيش على رسم والده إلا أن والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام آلاته على ما شرحناه فيما تقدم وكان لوفور عقله يداري أمره مع صاحبه ومع عسكره ثم يسوس رعيته والممالك التي يراعيها ويدبر الجميع تدبيراً ملائماً لوقته موافقاً لزمانه فلا يظهر من الزينة وأبهة الوزارة إلا بمقدار ما يقيم به مرتبته ولا يجاوز ذلك إلى ما يحسد عليه وينافس ثم يتواضع تواضعاً لا يخرج به إلى غضاضة تلحقه في جاهه أو تحطه عن المنزلة العالية التي يرقى إليها وكانت سلامته طول مدته على أصناف الناس وطبقاتهم وقيام هيبته وتمام سياسته متصلة تزيد على الأيام ثناء وثباتاً. فأما ابنه أبو الفتح فكان فيه مع رجاحته وفضله وأدب الكتابة وتيقظه وفراسته نزق الحداثة وسكر الشباب وجرأة القدرة فتطلعت نفسه إلى إظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشار في المواكب التي يركب فيها واتخاذ الدعوات لصاحبه وسائر عسكره التي يلتزم فيها الخلع والحملان على الدواب والمراكب والإسراف في الصلات والنفقات تشبهاً بوزراء عز الدولة بختيار الذين لا خبرة لهم بعواقب الأمور ولا نظر لهم في مصالح الملك وإنما همة أحدهم في تناول شهواته والوصول إلى لذاته وإثارة غيظ حسادهم بإظهار الزينة التي فوق طاقته. وليس يعلم أن أول من ينكر ذلك في نفسه وإن لم يبده له صاحبه فهو يحسده على مساواته له وعلى تمكنه مما يتمكن هو منه ثم مزاحمته له في الاستظهار والجمع وتبذير الأموال التي يرى أنه أحق بها منه ثم خوفه من ميل الجند إليه وإجماعهم على جوده وسخائه واعتدادهم بما يصل إليهم له دون صاحبهم وولي نعمهم فكان أبو الفتح بن العميد يسرف في ركوب هذه الأهواء ويحب أن يبلغ غاية ما يقدر عليه منها فجلب عليه ذلك ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام فكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور ورآه شاباً قد استقبل الدنيا استقبالاً فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم مله ويستلذ فيه الانتصاب للأمر والنهي ومخالطة الجند
ص: 389
والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه ثم مشاربتهم ومؤانستهم والإحسان إليهم بالخلع والحملان. فأول من أنكر عليه هذا الفعل عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتابهم ثم سائر مشايخ الدولة ورأوه يركب في موكب عظيم ويغشي الدار والديوان فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الإمارة حتى لا يوجد فيها إلا المستخدمون من الاتباع والحاشية فقط . ثم ترقى أمره في قيادة الجيش والتحقق بها إلى أن ندب للخروج إلى العراق في جيش كثيف من الري والإجماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله . فأقام هناك ونظم أمور بختيار وتلقب بذي الكفايتين من جهة الطائع لله وأخذ الخلع وواطأ بختيار على أمور خالف فيها عضد الدولة وأوحشه وتأدى أمره إلى الهلاك. وإنما ذكرنا هاهنا جملة من سوى تدبيره لنفسه ونحن نشرحها مفصلة في الأمور التي حدثت في سنة 365 ليعتبر بها المعتبرون ويجري مجرى تجارب الأمم التي يتكرر مثلها فيتحرز منها . فأما الآن فإنا نشرع في الأمور التي حدثت في هذا الزمان الذي نحن في ذكره ونستقصي أخبار بختيار وما عمله في عوده من البصرة إلى واسط ليتصل حديثه ولا ينقطع بدخول حديث غيره فيه .
وذاك أن الكتب وردت عليه بأن الروم غزوا نصيبين فملكوها وأحرقوها وقتلوا الرجال وسبوا الذراري ثم ورد خلق من ديار ربيعة وديار بكر مدينة السلام واستنفروا المسلمين في المساجد الجامعة والأسواق وحكوا انفتاح الطريق للروم وأنه لا مانع لهم من تورد ديارهم وهي متصلة بالعراق فلما تجمع معهم خلق من أهل بغداد صاروا إلى دار المطيع لله وحاولوا الهجوم عليها وقلعوا البعض من شبابيكها فأغلقت الأبواب دونهم بعد أن كانوا يصلون إليه ويأتون عليه فأسمعوه ما كره ونسبوه إلى العجز عما أوجب الله على الأئمة وتجاوزوا ذلك إلى ما يقبح ذكره وكان بختيار في هذا الوقت بالكوفة مظهراً زيارة المشهد وغرضه التصيد فخرج إليه وجوه أهل بغداد منكرين عليه اشتغاله عن مصالح المسلمين وانصرافه عن تدبيرهم إلى مجاهدة عمران وهو من أهل القبلة وإمهاله الروم وهم أعداء الملة ثم تشاغله بالصيد واللهو عن جميع مهمات المملكة ووعدهم بالعود إلى واسط ومصالحة عمران والانكفاء إلى الثغور فسكنوا وانصرفوا . فلما عاد كاتب أبا تغلب وهو صاحب الموصل يعلمه فيه أنه عامل على الغزو ويلزمه أن يعد له من الزاد والعلوفة ما يسعه وجنده في الطريق وأنفذ في ذلك بعض خواصه فقضى ابن حمدان حقه ورده بالإنعام والمسارعة إلى ما سأل وهو يعلم أنه
ص: 390
لا يفي بوعد ولا وعيد وأنه يقول ولا يفعل.
ثم أنفذ محمد بن بقية برسالته إلى سبكتكين الحاجب وهو ببغداد يستصلحه لوزيره العباس بن الحسين ويستنهضه للغزو معه ويأمره بأن يستنفر من يرغب في الجهاد فتقبل سبكتكين ذلك تقبل المنافق ثم ركب ببغداد في الجيش واستنفر المسلمين فثار من العامة عدد كثير بأصناف السلاح والسيوف والرماح والقسي حتى استعظم ما شاهده منهم ولم يوفق لتربيتهم وضمهم إلى رئيس يقوم بهم بل جعلهم كالعدة لنفسه فصاروا وبالاً عظيماً وضروا على المحارمات بينهم وأظهروا ضروب العصبية وأثاروا الفتن وأقدم بعضهم على بعض بالقتل واستباحة الأموال والهجوم على الحرم والفروج وتفاقم الأمر بينهم وبلغ كل المبلغ في الشر وعجز السلطان عن إصلاحهم وإطفاء ما أثاره من نائرتهم حتى صار ذلك سبباً لخراب بغداد وسنذكر شرح هذه الأحوال عند دخول سنة ستة بعون الله .
وصالح بختيار عمران كما حكينا أمره فيما تقدم وطمع في مال الصلح واستضعفه ورجع بختيار إلى بغداد وهي خراب بكثرة الفتن واستطالة العامة وحدوث الحروب فيها وإغارة بعضها على بعض وكثرة رؤسائهم الناجمين فيهم حتى حصل في كل محلة عدة رؤساء من العيارين يحامون على محلتهم ويجبونهم الأموال ويحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضاً نهاراً وليلاً ويحرق بعضهم دور بعض ويغير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم . فأما الأتراك فمتسخبون مقترحون ما لا تمكن منه متجاوزون حدود العامة في سفك الدماء والطمع في الأموال والفرج حتى قتلوا صاحب شرطة كان لبختيار يقال خمار لشيء حقير كان حقده على بعض أصاغر الأتراك فلقيهم راكباً في موكبه فحملوا عليه وألجأوه إلى الهرب والدخول إلى دار بختكين المعروف بجعدويه وكان رئيساً معظماً في الأتراك فهجموا عليه وأخرجوه وقتلوه قتلة الكلاب خفقاً بالسيوف واللتوت ثم سلموا جثته إلى العامة ففصلوه آراباً حتى أخذ كبده بعض السفهاء وقلبه آخر وكل جارحة منه وجد في يد سفيه ثم أحرقوا باقي جثته بالنار. وفتحوا السجون وأطلقوا أهل الدعارة منها وقلعوا أبوابها ونقضوا حيطانها وعجز بختيار عن تدبير أمرهم وخاف معرة الأتراك فاستدعى الديلم إلى داره فحضروه بالسلاح وتكلموا في أمر المقتول أعني خمار وأنكروا تبسط الأتراك وتحركت الأحقاد بينهم وعمل الديلم على قصد دار سبكتكين الحاجب ومنازل الأتراك وأحسوا بهم فتحرزوا واستعدوا وتعصبت العامة معهم فسكن بختيار تلك الثورة وأغضى عن قتل صاحبه خمار ثم عول على الحاجب سبكتكين في تسكين العامة لأن هيبته كانت في نفوسهم أكبر وقلد سبكتكين الشرطة ببغداد حاجباً له فسكنت الفتنة مدة أيامه إلا أنه تعصب للطائفة المنتسبة إلى السنة على الشيعة فثار أهل التشيع وعادت الحروب والفتن كأعظم ما كانت فكانت الأموال تنتهب والقتل بين العامة يستمر في كل
ص: 391
يوم حتى صار لا ينكر ولا يمكن حسمه وظهر نقصان الهيبة وعجز السلطان .
وعطف بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين بمطالبة الأموال وإعطاء الرجال وإرضاء طبقات الجند وكان لا ينظر في دخل ولا خرج وإنما يلزم وزيره تمشية الأمور من حيث لا يعنيه ولا ينصره ولا يمنع أحداً من جنده شيئاً يلتمسه ولا يقبض يده ولا لسانه عن كل ما يفسد حاله وشأنه ويحب أن تقضي أوقاته في الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والقباج فإذا وقفت أموره قبض على وزيره واستبدل به فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان فلما بلغ الأمر بوزيره أبي الفضل هذا المبلغ ولم تبق له حيلة في درهم يأخذه من وجهه عدل إلى طلب الأموال من الوجوه المذمومة التي تقبح الأحدوثة بها وتحرم ولا تحل في شيء من الأديان .
فبعث بختيار على مطالبة المطيع لله بمال بمال يوهمه أنه من وراء ثروة ومال وأنه يحتاج إلى إخراجه في طريق الغزو وأن ذلك واجب على الإمام.
أجابه المطيع لله بأن: الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وإلي تدبير الأموال والرجال وأما الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفائي وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف فما يلزمني غزو ولا حج ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه وإنما لكم مني هذا الاسم الذي يخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم فإن أحببتم أن اعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضاً وتركتكم والأمر كله وترددت المخاطبات في ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرف من أطراف الوعيد واضطر إلى التزام أربعمائة ألف درهم باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره. وشاع الخبر ببغداد بين الخاص والعام وعند من ورد من حاج خراسان وغيرهم من الواردين عن الأقطار أن الخليفة صودر وكثرت الشناعات.
وعول أبو الفضل الوزير فيما يحتاج إليه من مال الجند والإقامات التي تلزمه للاتباع والحاشية على مصادرات الرعية والتجار والتأويل عليهم بالمحال وابتدأ بأهل الذمة ثم ترقى إلى أهل الملة فأخذ أموال الشهود ووجوه البلد من أهل الستر وبث السعاة والغمازين وسماهم العمال وأجرى عليهم الأرزاق وكثر الدعاء عليه في المساجد الجامعة وفي الكنائس والبيع وفي المحافل والمجالس وزادت العامة على ما ذكرت من حالها في الإغارة والإقدام على النهب والحرق وأسرفت في ذلك حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش وتعذر على أكثر الناس الوصول إلى ماء دجلة حتى شربوا ماء الآبار وحصلوا في شبه الحصار ورام الوزير أبو الفضل تسكينهم فتعذر عليه حتى أركب
ص: 392
إليهم طائفة من الجيش فواقعوهم وكسروهم ونقصت الهيبة أكثر مما كانت عليه وركب أبو الفضل بنفسه لقتال العيارين وواقعهم فلم يقدر عليهم .
وكان في حجابه رجل يعرف بصافي ذميم الأخلاق دني النفس يتعصب لأهل السنة فضرب محلة الكرخ وهي مجمع الشيعة ومعظم التجار بالنار فعظم الحريق وتلفت البضائع وصارت المضرة على الرعية فيما دبره سلطانها أعظم مما جناه سفهاؤها . وكان بين أبي أحمد الموسوي(وهو الحسين بن موسى ويتولى نقابة الطالبيين) وبين أبي الفضل الوزير مناظرة فيما جرى على الشيعة فأظهر امتعاضاً وخرج في المناظرة إلى المهاترة فصرفه الوزير عن النقابة بأبي النقابة بأبي محمد بن محمد بن الناصر وهو الحسن بن أحمد العلوي وحصل أبو أحمد الموسوي من أعداء أبي الفضل المكاشفين له المتربين عليه وحصل أبو الفضل فريداً لا ناصر له أما سبكتكين فيطلب عنده ثار أبي قرة وفي نفسه عليه ما كان منه في استدعاء بختکین آزاذرويه من الأهواز إلى واسط ليقيم مقامه ويجعله ضداً له وشيء آخر كان عظيماً عنده قبيحاً وهو أن سبكتكين كان يختص غلاماً تركيا من غلمانه فغضب عليه وأمر ببيعه في السوق فنصب الوزير أبو الفضل من اشتراه له بضعف قيمته وتحظاه ونزل عنه منزلة من كان في نفسه منه عشق ثم موله وأعطاه شيئاً كثيراً حتى صار أجل وأيسر من غلمان سبكتكين فلحقت سبكتكين من ذلك غيرة شديدة وفسد عليه غلمانه الذين في داره بما وصل إليه هذا الغلام فهذه أسباب عداوة سبكتكين وقد حكينا عداوة الجرجرائي له وعداوة أبي أحمد الموسوي النقيب له ثم عداوة محمد بن بقية له وكان ابن بقية قد ملك قيادة بختيار وكان سبب عداوته له أن أبا نصر المعروف بابن السراج (واسمه إبراهيم بن يوسف وهو من الأشرار المعروفين بالسعاية) قد جمع بالمكسب الخبيث مالاً عظيماً وأعقد ضياعاً جليلة فشعثها أبو الفضل تشعيئاً يسيراً أخرجه به إلى عداوته والسعي على دمه وكان يجتمع مع المعروف بمحمد بن أحمد الجرجرائي كاتب شرمزن(الذي قدمنا خبره وسبب عداوته لأبي الفضل)ويداخلان محمد بن بقية ويعرضانه للمكاسب الجليلة والفوائد العظيمة ولم يزالا به حتى غيرا رأيه في الوزير أبي الفضل وأوهماه أنه ساع عليه وأنه لن يبعد أن يضمنه من بختيار بمال عظيم ثم تجاوزا ذلك إلى أن أشار عليه بتقلد الوزارة وأن يسبقه إلى القبض عليه والراحة منه .
لم يكن ابن بقية يستقل ولا يكمل لحمل دواة بين يدي وزير ولا يطمع في شيء هذه المراتب ولكنه تقدم عند بختيار وقت خلافته لصاحب المطبخ في توفير وفِّره و خدمة في جملتها تمسخر وكان مستخرجاً عسوفاً شديد القسوة جاهلاً وفيه مع ذلك سماحة وسعة صدر وهو في هذه السيرة متشبه بأهل الشطارة والفتاك والدعار وليس
يسلك طريقة أهل الكرم والرياسة ولما أشار عليه هذان بالدخول في الوزارة والقبض
ص: 393
على أبي الفضل قبل أن يسبقه إلى ذلك دهش وعلم أنه يعجز عما أشارا به عليه .
أنه أجابهما بأن قال : لا صناعة لي ولا توجه فيما تدعواني إليه ولي عند صاحبي منزلة كبيرة تحتاج الوزراء إليَّ معها وأخاف أن أدخل فيما ليس من عملي وأتهجن ويقدح في منزلتي واحط عنها من غير أن أنتفع بالوزارة فشجعاه وجسراه وضمن له محمد بن أحمد الجرجرائي أن يخفه ويكفيه العمل كله ثم صارا إليه سبكتكين الحاجب وذكراه بأفعال الوزير أبي الفضل وحملاه على الشروع في صرف أبي الفضل ونكبته فقال لهما : إني لم أزل معتقداً لذلك وإنما كان توقفي عنه طلباً لمن يقوم مقامه ويسد مسده إذ كان محمد بن العباس قريب العهد بالصرف ولم يكن مرضيّاً في وزارته ولا ناهضاً بها وقد حفظت على الأمير بختيار أيمان البيعة بأن لا يقلده وزارته. فخاطباه في تقليد ابن بقية وضمنا عنه أن ينهض ويغني ويكفي وأنهما يعضدانه ويشدان منه في التدبير والنظر في الأمور فاستروح سبكتكين إلى ذلك وجمع به التشفي من أبي الفضل وفساد أمر بختيار وتجشم احتمال الغضاضة في توفية محمد بن بقية حقوق الوزارة بعد أن لم يكن ممن يجوز أن يعده من أصاغر خدمه ولا يطمع في دخول داره وإنما تجرع ذلك وطابت به نفسه لعظيم ما كان في قلبه من أبي الفضل فراسل بختيار في ذلك وقد كان بختيار ساء رأيه في أبي الفضل جداً فاستجاب إليه .
وقد كان أبو سهل ديزويه العارض مرموقاً بمال عظيم ولم يتمكن منه المصاهرة كانت بينه وبين شيرزاد بن سرخاب فلما نفى شيرزاد احتيج إليه في تسكين الجند مديدة فتدافعت نكبته ثم إن أبا الفضل هم في هذا الوقت بالقبض عليه فأحب ابن بقية أن يتولى أبو الفضل القبض عليه ثم يتسلمه هو ويستخرج أمواله فجرى الأمر على ذلك فقبض أبو الفضل على أبي سهل ديزويه في يوم الخميس وقبض ابن بقية على أبي الفضل يوم الأحد فكان بينهما ثلاثة أيام واستتم القبض على جميع كتابهما ومن يتصل بهما من أسبابهما وكان ذلك في سنة 362.
وفي سنة 361 وقع الصلح بين عضد الدولة وبين أبي صالح منصور بن نوح صاحب خراسان ووقعت المصاهرة فتزوج منصور بن نوح بابنة عضد الدولة ونفذ في ذلك عابد بن علي مع عشرة أنفس مختارين من الأشراف والقضاة والشيوخ المذكورين وتكلف صاحب خراسان مؤونة عظيمة للرسل والشيوخ وحمل هدايا كثيرة لم تحمل مثلها قط إلى عضد الدولة وكتب بينهما كتاب اتفاق بين الجهتين وكتب فيه شهود العراق الحاضرون وشهود خراسان خطوطهم.
وفي سنة 362 خلع المطيع الله على أبي إسحاق إبراهيم بن معز الدولة وكناه
ص: 394
ولقبه عمدة الدولة .
وفي هذه السنة جرت وقعة بين الدمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة بناحية ميافارقين وكانت عدة الدمستق عظيمة كثيفة لكنه اتفق أن لقيه في مضيق لا تجول فيه العساكر وكان الدمستق في أول عسكره على غير أهبة تامة فانهزم الروم وأخذ الدمستق أسيراً وتمكن المسلمون منهم وأعز الله دينه وكثر القتل والأسر حتى أنفذ إلى بغداد الرؤوس والأيدي وكانت كثيرة فشهرت وكانت هذه الوقعة في آخر يوم شهر رمضان سنة 362 وحبس أبو تغلب الدمستق إلى أن جرح به جراح عظيم فبط وتأدت الحال به إلى الموت بعد إن كان أحسن ضيافته واجتهد في علاجه وقدّر إن يبلغ به من ملك الروم ما يريد.
وفي هذه السنة خلع ثاني يوم قبضه على أبي الفضل وهو يوم الاثنين السابع من ذي الحجة سنة 362 على محمد بن بقية وكان إلى هذا اليوم يقدم الطعام إليه ويحمل الغضائر بيده ويتشح بمناديل الغمر ويذوق الألوان عند تقديمه إياها على رسم من يخدم في المطبخ خدمته فلما وزر عاد يريد الخدمة في ذلك فنهاه بختيار وتعجب الناس من وزارته فإنه كان دنياً لا يقع عينه إلا على من كان فوقه ولا يرى نفسه إلا دون كل أحد فازدادت دولة بختیار به سقوطاً وأخلاقاً وتضاحك صغار الناس به قُرباً وبعداً. واستخلف حين وزر محمد بن أحمد الجرجرائي وناط الأمور به وبالمعروف بأبي نصر السراج واستقصى على أبي الفضل في المطالبة بالمال حتى تقرر أمره على مائة ألف دينار فلما صح أكثرها سُلّم إلى أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الكوفي على أن يخرجه إلى الكوفة ويحبسه عنده فتسلمه وعاش عنده مديدة وتلف فلم يشك أحد أنه مات مسموماً .
وقبل ذلك توفيت زينة بنت أبي محمد المهلبي رحمه الله وقد كان أخوها أبو الغنائم تقدمها وأكثر أهلها وانقرضت الجماعة ثم تتبعهم جميع من اشترك في دم أبي الفضل قتلاً من غير إن طال بهم الأعمار وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله .
أنه جد في مطالبة أبي الفضل وأسبابه من خلفائه وحجابه وغلمانه وكل من انتسب إليه وإلى ديزويه العارض حتى استصفى أموالهم واتسع بما وصل إليه مديدة ومشت الأمور بين يديه فتبجح بذلك وادعى حسن الأثر وتوصل إلى أن كناه المطيع ولقبه الناصح فخلع عليه الخلع السلطانية بأمر بختيار وإذنه . وكثر ذمه لأبي الفضل والطعن عليه وادعى العدل والانصاف فلم تمض إلا أيام حتى ارتكب من الظلم والغشم وإثارة الفتن ما صارت أيام أبي الفضل بالقياس إلى أيامه جارية مجرى أيام العمرين وكل ذلك لسوء نظر بختيار وإهماله الأمور وإقباله على الشهوات واستثقاله مباشرة التدبير حتى سقطت الهيبة وانبسطت العامة وأغار بعضها على بعض وظهرت الأهواء المختلفة
ص: 395
والنيات المتعادية وفشا القتل حتى كان لا يعدم في كل يوم عدة قتلى لا يعرف قاتلوهم وإن عرفوا لم يتمكن منهم فانقطعت مواد الأموال وخربت النواحي المتباعدة بخراب دار المملكة وظهر في كل قرية رئيس منها مستول عليها وتباغوا بينهم وحصل السلطان صفر اليد والرعية هالكون والدور خراب والأقوات معدومة والجند متهارجون .
شرع ابن بقية في إصلاح ما بين بختيار وسبكتكين وتوسطه الوجوه والأكابر فترددت المراسلات ووجوه الكتاب والقواد وأخذ لكل واحد منها على صاحبه يمين مؤكدة على التصافي والتآلف فلما تم الاتفاق بينهما ركب سبكتكين إلى بختيار مع جماعة من الأتراك فلقيه وسلم عليه وانصرف ولم يعد إليه ولا اجتمعا إلا في الموكب وعلى سبيلهما الأولى في التحرز ونشأت بينهما ظنون سيئة وبلاغات منكرة ووجد الأعداء والمتسوقون طريقاً سهلاً في الشر فسلكوه فعادا إلى التنافر.
اجتاز ديلمي من سقط الجند سكران في فنادار سبكتكين الحاجب فيما يلي دجلة وهو نائم فرمى الديلمي أحد صوالجة الروشن بزوبين كان معه فأثبته فيه على سبيل العبث فظن سبكتكين أنه مدسوس عليه ليرميه فتقدم بأخذه فأخذ وسئل واستقصى عليه فلم يكن لذلك الظن أصل فأمر بإنفاذه إلى بختيار وتعريفه ما كان منه فلما حصل بحضرته أمر بقتله فقتل وتحرك الديلم وأنكروه واستشنعوا فعله وشغبوا وحملوا السلاح ولزموا موضع الشغب ثلاثة أيام ثم استعطفوا فرجعوا إلى منازلهم والقلوب نافرة .
وفيها خرج بختيار إلى الموصل طمعاً في تناول بعض ما في تلك الأعمال والاتساع به وحرصاً على التصيد في طريقه
قد كان أبو الفضل قبل صرفه عن الوزارة الأخيرة أطمع بختيار في الموصل وقدر أن خروجه إليها يشغله عن نفسه وقصده ويدفعه عن نكبته وليتغلل بما يتناوله من تلك الأعمال غلة وما لا يستعين بها في القضيم والأقوات فلما تقلد محمد بن بقية الوزارة سلك هذا السبل في بعثه على الخروج وحرص ابن بقية على الموصل.
ص: 396
ذكر سبب ذلك
وردت كتب أبي تغلب على ابن بقية مع علي بن عمرو كاتب أبي تغلب ووزيره بمخاطبة دون ما كانت تكاتب به الوزراء قبل ذلك لانحطاط منزلته في نفوس الناس وأبت نفس أبي تغلب أن يوفيه جميع ذلك الحق فاغتاظ ابن بقية من ذلك وذكر علي بن عمرو وصاحبه أبا تغلب بالقبيح وتوعدهما بالمسير فتلافاه بالمكاتبة المستوفاة فلم ينصرف ابن بقية عن عزيمته وأحب بختيار الخروج إلى الموصل للأمور التي ذكرناها وقد كان أبو المظفر حمدان وأبو طاهر إبراهيم ابنا ناصر الدولة حصلا ببغداد وطمع أبو تغلب في استصلاح أخيه إبراهيم ولم يطمع في حمدان لوكيد العداوة بينهما فكاتب إبراهيم وأرغبه ليقطعه عن مضامة حمدان وصادف ذلك تقصيراً من بختيار ونظر إبراهيم فإذا أحوال إخوته الذين أقاموا مع أبي تغلب مستقيمة منتظمة وكاتبه «بأني سائر إليك »واستدعى منه نفراً من الفرسان والأعراب ليصحبوه فأنفذهم إلى قرب بغداد على سمت البرية فهرب إليهم وأخذ معه أخاه المسمى ذا القرنين وكان رهينة في يد معز الدولة ثم في يد بختيار وهرب من محبسه ليلاً وخرج مع أخيه فلما كان الصبح عرف بختيار الخبر فلم يكن له فيه حيلة وجعل ذلك سبباً ظاهراً للخروج إلى الموصل والباطن ما تقدم ذكره وكان حمدان بن ناصر الدولة من أشد الناس بعثاً له على الشخوص إلى تلك البلاد وطمعاً في التشفي من أبي تغلب فاستحلفه بختيار بغموس الأيمان بعد هرب إبراهيم على الثبات معه والنصيحة له وتمت العزيمة فخرج بختيار وسبكتكين الحاجب ومحمد بن بقية الوزير وذلك في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث .
وقع التدبير على أن يخرج سبكتكين في الجانب الشرقي على المقدمة ويتلوه بختيار سائراً على أثره وبينهما مرحلة واحدة فإذا صاروا بإزاء تكريت عبر بختیار وسار في الجانب الغربي واستمر سبكتكين سائراً في الشرقي ففعلا ذلك وسبق بختيار إلى الموصل وقد رحل عنها أبو تغلب إلى سنجار بعسكره كله وأخلاها من كل ميرة وكل كاتب ومتصرف ثم توجه من سنجار إلى مدينة السلام وهو من الجانب الغربي. وتأخر سبكتكين بالحديثة وأظهر التشاغل بعبور السفن فاتصل خبر أبي تغلب وخروجه إلى بغداد ببختيار فكتب إلى سبكتكين يرسم له العبور إلى الجانب الغربي والمسير في أثر أبي تغلب وأنفذ إليه شطر عسكره وحمدان بن ناصر الدولة وجمهور العسكر وأنفذ محمد بن بقية في الطيارات والزبازب راجعاً إلى بغداد بعد أن استخلف بحضرته محمد بن أحمد الجرجرائي . فسبق أبو تغلب وانتهى إلى قرية تعرف بالفارسية على نهر الدجيل بينها وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ فعسكر بها وعامل من اجتاز به من أهل
ص: 397
السواد بالجميل ولم يأخذ منهم شيئاً إلا بالثمن الوافر وأظهر العدل والإنصاف، وصارت طلائعه ترد إلى بغداد وخرج إليه جماعة من عوام الناس وأوباشهم مستقبلين له مظهرين السرور بمقدمه وبرز أبو إسحاق بن معز الدولة وكان يخلف أخاه بختيار إلى باب الشماسية وانتقل المطيع لله ووالدة بختيار وجماعة الحرم والأولاد إلى القصر الذي بناه معز الدولة بباب الشماسية على طريق التحصن وعقد أبو إسحاق جسراً في هذا الموضع على دجلة وعبر بطائفة من الجيش الذي كان معه وأظهر أنه يريد الحرب والمدافعة من غير عزيمة صحيحة وإنما أراد التماسك إلى أن يصل سبكتكين الحاجب. فتعجل وصول محمد بن بقية سابقاً في آلات الماء فشد من أبي إسحاق وافتتن الجانب الغربي وعاد العوام إلى حمل السلاح والحرب وطلب الطوائل واستتر التجار وتعطلت الأسواق وعبر أهل النباهة من الغربي إلى الشرقي ونزل سبكتكين باوانا بإزاء عكبرا. فعدل أبو تغلب من موضعه راجعاً إليه فنزل في قرية بينهما نحو نصف فرسخ وتصاف العسكران ووقع الطراد بين سرعان الخيل وطوائف من الأعراب ثم تكافاً وجنحا إلى الصلح .
كانت الموافقة في السر تجري بين أبي تغلب وسبكتكين على الموادعة وإظهار الخلاف إلى أن يتمكن سبكتكين من القبض على الخليفة ووالدة بختيار وحرمه ومحمد بن بقية وإظهار العصيان عند ذلك ثم يعود إلى بغداد ويعود أبو تغلب إلى الموصل قاصداً بختيار وهو في عدد قليل فيتمكن منه ويقلب دولته سريعاً. ففكر سبكتكين في سوء السمعة ولم يقدم على حرم مولاه وعلى الخليفة وخاف عاقبة ذلك. وبادر محمد بن بقية من بغداد إلى سبكتكين فاجتمع معه وحضرهما رسل أبي تغلب وتقرر الصلح على المبلغ الأول وزيادة ألف كرّ من الحنطة في كل سنة وعلى أن يطلق أبو تغلب لبختيار ثلاثة آلاف كر حنطة عوضاً عن مؤونة سفره : وانكفأ أبو تغلب إلى الموصل قاصداً بختيار وهو في خف من عسكره فأيقن الناس أن أبا تغلب لم يقدم على القرب من سبكتكين إلا على ثقة من أنه لا يحاربه وإن ذاك الطراد الذي وقع بين أوائل العسكرين إنما كان تمويهاً .
ودخل سبكتكين وجميع العسكر بغداد وأسلم بختيار وقامت القيامة على محمد بن بقية من ذلك وطالبت سبكتكين بمعاودة المسير واللحاق بصاحبه بختيار فتثاقل عن ذلك واحتج بأن الرجال لا يستجيبون للعود ثم فكر في العواقب فانكفاً على
ص: 398
مضض ورحل وقد ظهر للناس ما كان هم به إلا أنه ما فعل ولو هم وفعل لكانت فرصة عجيبة وكان لا يمتنع عليه شيء من التدبير الذي ذكرناه ثم جد سبكتكين وابن بقية وسائر الجند في المسير مصعدين وقد كان بختيار حين عرف خبر رجوع أبي تغلب إليه جمع إليه أطرافه وردّ قواده من النواحي التي كان غرقهم فيها وخاف خوفاً شديداً وعبى مصافه في الموضع المعروف بالدير الأعلى على من ظاهر الموصل وقرب أبو تغلب ونزل أسفل الحصبا على حالة الأهبة والتعبية ولم يبق بينهما في المسافة إلا طول قصبة الموصل فقط وأحجم كل واحد عن صاحبه وعن المناجزة إلا أن أبا تغلب كان الأظهر لكثرة عدده وتعصب أهل الموصل له وخاض الناس بينهما في حقن الدماء وتتميم الصلح الذي تقدم ذكره فاشتط أبو تغلب في الحكم والتمس النقصان والحطيطة وطالب بتسليم زوجته بنت بختيار إليه وأن يلقب لقباً سلطانياً فأجابه بختيار إلى ذلك كله تفادياً من اللقاء. وجرى كلام في معنى حمدان وأن يفرج عن ضياعه وأملاكه بغلاتها وعن القلعة المفردة له المسماة وهي قلعة ماردين. وكانت هذه القلعة مسماة لحمدان ومفردة له منذ أيام أبيه وقد رتب أخاه من أمه مع ثقات له فيها فاحتال أبو تغلب على هذا الأخ حتى رغب في مال يتعجله وخان أخاه وسلمها فامتنع أبو تغلب من ذلك كله ولم يدخل في شرائط الصلح شيئاً منه وكان غائباً عن هذا الأمر وحاصلا ببغداد مع سبكتكين الحاجب . فضعف بختيار عن الاستيفاء وكان غرضه المفالتة وأن يفرج له أبو تغلب فخرج إلى موضع يقال له قرن الآئل على خمسة فراسخ من معسكره في عرض الموصل بعد أن حلف كل واحد منهما لصاحبه يميناً أخذها عليهما أبو أحمد الموسوي وجماعة من السفراء وانحدر بختيار إلى الحديثة وأهل الموصل يتبعونه باللعن والدعاء عليه ويتبعون أصحابه ويتوثبون عليهم وذاك أن محمد بن أحمد الجرجرائي خليفة ابن بقية ظلمهم وعسفهم فكان انصراف بختيار عن هزيمة ظاهرة فلما تحرك من موضعه وانحدر دخل أبو تغلب الموصل وظفر بجماعة كانوا مالوا إلى بختيار من أصحابه وأهل الموصل فسمل عيونهم. ووجد رجلاً عقيلياً يعرف بابن العجاج كان استأمن من عسكره إلى بختيار ولم يخرج عن البلد تعويلاً على ما جرى من الصلح فضرب رقبته .
ولما وصل سبكتكين ومحمد بن بقية وحمدان والجيش واجتمعوا مع بختیار اضطرب حمدان من خروجه عن الصلح وأنف محمد بن بقية من الحال التي انصرف عليها بختيار واتفقوا على أن يجعلوا ضرب رقبة هذا العقيلي وسمل العمال ووثوب أهل الموصل على حاشية بختيار واتباعه عذراً في الرجوع وحجة على أبي تغلب في الفسخ فعطفت الجماعة بجميع العسكر إلى الموصل. فهرب أبو تغلب عنها إلى ناحية يقال لها تل اعفر وردّ كاتبه المعروف بأبي الحسن علي بن عمرو بن ميمون برسالته إلى بختيار
ص: 399
يعاتبه فيها على النقض وينسبه إلى الغدر فقبض محمد بن بقية عليه واعتقله وامتهنه واحتج عليه بما ذكرنا فجحد أن يكون ما جرى من القتل والسمل بأمر أبي تغلب وأحال فيه على بعض غلمانه ثم تقرر الأمر بعد خطوب جرت على إتمام الصلح وقومت الغلة وردت إلى الورق ووضع عنه ما استخرجه بختيار من الموصل وأعمالها ونجم الباقي على تعجيل وتأجيل وشرط الإفراج عن ضياع حمدان خاصة دون قلعة ماردين ودون ما أخذ منها ومن ارتفاع الضياع وأن يسلّم القوم الذين قتلوا العقيلي وسملوا العمال لينفذ فيهم بختيار حكمه فأنفذهم أبو تغلب إليه على ثقة بأنه لا يسيء إليهم لعلمهم جميعاً أنهم مأمورون (فعفا عنهم بختيار) وعلى أن يلقب أبو تغلب ويزف إليه زوجته وجددت الإيمان والعهود على الفريقين وانصرف بختيار وتشاغل في طريقه بالتصيد وكان وروده مدينة السلام لعشر خلون من رجب من هذه السنة وورد كاتب أبي تغلب فأنجز له بختيار المواعيد وسأل المطيع لله في تلقيبه فلقب عُدّة الدولة وأنفذ إليه خلع سلطانية ونقلت إليه زوجته ووقع البدار به ليصح المال .
كان ابن بقية لا يبقى على أحد يتهمه أو يسبق إلى قلبه منه شيء بل يعاجله قبل التأمل ويقتله من غير تثبت وكان أهلك قوماً من أهل الكفاية والكتابة بالظن والتهمة وأنهم سيصلحون لمكانه. ولما أفضت إليه الوزارة وكان المتولي للبصرة علي بن الحسين الشيرازي المعروف بأبي القاسم المشرف وكان يعاديه ويعتقد أنه ذو كفاية فأراد القبض عليه واستصفاء ماله وإتلافه فتدافع ذلك إلى أن عاد من الموصل فعمل على أن ينفذ محمد بن أحمد الجرجرائي في ذلك طلباً لإبعاده عن الحضرة ولأن حاله كانت تمهدت عند بختيار لتقدمه على ابن بقية في الكتابة ولأنه عقد بينه وبين قهرمانة بختيار التي يقال لها تحفة فكانت تحامى عليه وتتعصب له وكان مع ذلك يتكلم بالفارسية وابن بقية لا يعرف منها شيئاً فتطاول بهذه الأشياء على ابن بقية واستهان ببعض ما كان يأمره به ثم بلغه أنه مهد لنفسه حالاً عند بختيار أيام تفرده بخدمته بالموصل. فلما اجتمعت عليه هذه الأشياء أراد إبعاده عن الحضرة وإخراجه في القبض على علي بن الحسين والنظر فيما كان ينظر فيه فلما خاطبه في ذلك نفر منه وأحس بتغير نيته له واجتهد في أن يعفيه فلم يفعل فانحدر وقد نبا كل واحد منهما عن صاحبه ولو صبر على أن يكون عامل البصرة لما خرج به ابن بقية إلى ما خرج ولكنه لما رآه يأبى إلا التشبث بالحضرة والتمسك بما كان ناظراً فيه دون ما سواه اتهمه وازداد شكا فيه
ص: 400
وكان ابن بقية قدَّم كتابه إلى صاحب له ينوب عنه بالبصرة يقال له عبد العزيز بن محمد الكُراعي وهو من الأوغاد الأصاغر الذين ارتفعوا بارتفاعه وأمره يعرفه نيته في علي بن الحسين ويأمره بالقبض عليه فانحدر الجرجرائي على أن يصادره وينصب مكانه ضامناً له أو عاملاً غيره ويعود فلما استقر بالبصرة وافق علي بن الحسين على مال التزمه وأضافه إلى أصل ضمان البصرة وجدد إيقاع العهد عليه ورده إلى عمله من غير استئذان لمحمد بن بقية وكتب إليه بأن الصواب أوجب ذلك عنده وأنه مصعد إلى الحضرة فاغتاظ من فعله ورآه بصورة من يستهين به ويؤثر المقام بالحضرة فكتب إلى عبد العزيز بن محمد الكراعي بالقبض عليه وعلى علي بن الحسين ففعل ذلك فأما علي بن الحسين فإنه قرر أمره على بعض المقاربة ورده إلى العمل بعد خطوب جرت فيه وأما الجرجرائي فإنه أخذ خطه بمال ثقيل فصح له بالبصرة شيء يسير واشترط لنفسه أن يحمل إلى بغداد ليصح المال إذ كان وطنه بها وفيها نعمته وإنما كان غرضه بالقهرمانة التي كانت تعزه فسابقه محمد بن بقية إليها فاشتراه بخمسين ألف درهم منها فأسلمته وخلت بينه وبينه وكتب بحمله وتقدم إلى عامله بواسط وهو محمد بن أحمد المكنى أبا غالب الصريفيني بأن يتسلمه حتى يصل إليه ويتولى من أمره ما الله مسائله عنه . فتسلمه أبو غالب ومكث في يده أياماً وأظهر أنه اعتل ومات وحساب الجماعة على الله الحكم العدل .
قد كانت الإضافة في المال والتسحب من الرجال زاد على بختیار حتى نبت به الديار وتعذر عليه الاستقرار فكان وزراؤه وكتابه يحتالون له فلا يجدون طريقاً لمصلحة ولا يتجه لهم وجه الصواب وكلما أملوا أملاً خابوا أو قصدوا عدواً نكبوا ونكصوا لأن الأبنية كانت تُوضع على أصول غير مستقرة وقواعد غير قوية فلا يبعد أن يتقوَّض فيعتاص عليهم المذاهب. فاعتقد بختيار ومحمد بن بقية عند منصرفهم من الموصل بالخيبة أن يخرجا إلى الأهواز فيستقصيا على بختكين آزاذرويه ويصرفاه عن البلد ويعملا له أعمالاً ويطالباه بمال ويمرا عليه النكبة ثم يفرقا الأتراك عن سبكتكين ويخففا عدد من يبقى منهم ببغداد ويحتالا عليه من البعد ليستريحا منه ويُحصلا أمواله وإقطاعه ونعمته ويتسعا بذلك. فانحدرا إلى الأهواز في شعبان سنة 63 فلما صارا بواسط أنفذ إليهما بختكين ثلاثمائة ألف درهم ثم نزلا الأهواز فحمل إليهما ما يحمل إلى الأصحاب وخدمهما وبذل من نفسه الطاعة في المحاسبة والموافقة فلم تمض على ذلك أيام حتى
ص: 401
ثارت فتنة بين الأتراك والديلم في سبب صغير قد كان يجوز أن يستدرك قبل أن يستفحل ويستصعب فاغتنماه وجعلاه ذريعة إلى إتمام ما كانا هما به وأجرياه على تخليط وفساد من غير تحرز ولا احتياط .
إن بختيار خلف ببغداد والدته وإخوته وأولاده وحُرمه وخزائنه وأكثر سلاحه وقطعة من خيله في قبضه سبكتكين عدوه الذي هو في طريق التدبير عليه ومكاشفته بالعداوة ثم أخذ يتطلب عورة الأتراك الذين معه وينتهز الفرصة الضعيفة فيهم ليفسدهم على نفسه وينبه سبكتكين على تدبيره عليه فكان مبدأ هذا الفساد أن غلاماً من الأتراك نزل بسوق الأهواز داراً تجاور بعض الديلم وكان على بابها لَبِنٌ مشرج فأراد أن يبني به معلفاً لدوابه واحتاج ذلك الديلمي أيضاً إلى شيء منه فوجه غلامه ليأخذه فمنعه غلام التركي فلم يمتنع وخرجا إلى التنازع والتهاتر فخرج التركي من داره لينصر صاحبه وبنع صاحب الديلمي وخرج أيضاً الديلمي لنصرة غلامه فأربي على التركي واستطال عليه فركب في الوقت واستنهض الأتراك فثاروا بالديلم وتبادر الديلم وحملوا السلاح واجتمعوا على باب بختيار وبالباب ساحة واسعة قد ضرب فيها وجه من وجوه الأتراك مضاربه وذلك لعزة المنازل فأحاطوا به وهو سكران وسمع الصياح فنهض وركب وعمل على أن يلحق برفقائه فعارضه أحد الديلم وشتمه فثنى عنانه إليه وهو بغير جبة فرماه الديلمي فقتله فاستحكمت حينئذ الفتنة وطالب الأتراك بثأر صاحبهم هذا ورموا الديلم بنشاب كثير حتى قتلوا رجلاً وجرحوا عدة وبرزوا بأسرهم عن البلد إلى الصحراء وتبعهم غلمانهم وأتباعهم وقعد عنهم القواد والأكابر في منازلهم على طريق التوقف عن الفتنة والتمسك بالطاعة. واجتهد بختيار في تسكين الثائرة فلم يمكنه ذلك بعد انتهائها فاستدعى قواد الديلم وشاورهم وقد كانوا يعرفون اعتقاده في سبكتكين الحاجب والأتراك فقالوا: هذا أمر قد انتشر وفي نفسك منه ما فيها والصواب أن تقبض على رؤساء الأتراك المقيمين وتستولي على هذه البلاد التي كانت في يد بختكين وتنهض إلى بغداد لتقلع عنها سبكتكين وتستريح منه ومن الأتراك وكانت عادة بختيار أن يسمع من كل مخاطب ويتحدث مع كل كاذب فتسرع إلى قبول ما رأوه ووجه إلى بختكين آزاذرويه وسهل بن بشر كاتبه وسباشي الخوارزمي وبكتيجور وكان حما لسبكتكين الحاجب
ص: 402
فأحضرهم من منازلهم وقبض عليهم وقيدهم وأدخل يده في إقطاعات سبكتكين بالأهواز وصرف أسبابه عنها وكتب إلى البصرة بالنداء في الأتراك والإيقاع بهم فنودي فيهم ونهبت منازلهم وهربوا عنها.
كان بين بختيار وبين والدته اتفاق على أن تظهر عند بعده عن بغداد إلى الأهواز وخفة الأتراك المقيمين بحضرة سبكتكين أن بختيار قد توفي ليصير سبكتكين إليها معزياً ومشاركاً فى المصيبة ووافق أخاه أيضاً على مثل ذلك فإذا حضر أوقعا به وقبضا عليه فكتب إليهما ساعة قبض على رؤساء الأتراك على الأطيار بالعمل على ذلك الاتفاق. فأشاعا ورود نعيه وظنا أن سبكتكين لا يتأخر عنهما وكان أرزن وأرجح من أن يصیر إليهما ولو صار إليهما لما حضر إلا على نهاية الاستظهار فإن غلمان داره المماليك أربعمائة سوى أتباعهم وسوى الديلم برسمه وسوى حجابه ومن في جملتهم.
وكان هذا الرأي من بختيار بعيداً من الصواب خليقاً بالانتقاض فاقتصر سبكتكين على مراسلتهم بالمسألة عن الخبر ومن أين صح وتوقف عن الركوب إلى أن وردت رسل أصحابه وكتبهم بشرح ما جرى على حقيقته فجمع حينئذ الأتراك المقيمين ببغداد وأعلمهم ما عومل به رفقاؤهم وأن الستر قد انخرق وانهتك وأن دماءهم قد أحلت وأبيحت فدعوه إلى أن يتأمر عليهم ليطيعوه فتوقف عن ذلك وراسل أبا إسحاق ابن معز الدولة يعلمه أن الحال بينه وبين بختيار أخيه منفرجة انفراجاً لا الشام له وأن أكثر الجيش نافر عنه وأنه ليس يستحسن أن يعدل عن طاعة مواليه وأن عقوه وباينوه وأنه يعقد الأمر له ويجمع الأتراك على متابعته وينقل الديلم عن بختيار إليه ويتكفل له بالأمر حتى يستقر عليه .
ذكر انتقاض هذا التدبير بعد استمراره حتى ثارت الفتنة العظمى
لما قبل أبو إسحاق ابن معز الدولة هذا الرأي ودخل تحته علم أن بختيار إما أن جالساً يصير في بيته مزاح العلل فيما يحتاج إليه أو يصير إلى حضرة عمه ركن الدولة فذهب إلى والدته وقص عليها القصة فمنعته من هذه الحال وأشفقت من أن يؤول إلى هلاك أحد ولديها. وصار إليها من كان مقيماً بمدينة السلام من الديلم فأطمعوها في الاستقلال بمحاربة سبكتكين ومن معه من الأتراك فجمعتهم إلى دارها بالسلاح وأصبح سبكتكين وقد نقض عليه إبراهيم ذلك الاتفاق. فركب في يوم الجمعة لثمان خلون من ذي القعدة من سنة ثلاث ثلاث مع جميع الأتراك قاصداً الحرب وناصباً لها فبقي يومين يحاربهم تباعاً فلما كان في الثالث أحرق جوانب الدار بعد أن حاصرها ونفد زاد من كان
ص: 403
فيها واستسلم إبراهيم ووالدته وكذلك أبو طاهر ومن كان معه وسألوه أن يفرج لهم عن الطريق لينحدروا إلى واسط ولا يفضح حرم مولاه وأولاده فاستحيا وتذمم فاجتمعوا جميعاً في حديدي وانحدروا وتفرق الديلم هاربين في مرقعات إلى بختيار وأقامت منهم شرذمة في طاعة سبكتكين .
وكان المطيع لله أعد لنفسه حديدياً استظهر به عند حدوث الفتنة فانحدر مع المنحدرين فأنفذ سبكتكين عدة من الزبازب حتى ردوه إلى داره ووكل به فيها توكيلا جميلاً. واستولى على ما كان لبختيار بمدينة السلام من السلاح والدواب والآلات والمنازل فنزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا حرمهم وودائعهم وسائر أسبابهم. وثارت العامة من أهل السنة ناصرة لسبكتكين فقوَّد من رؤسائهم القواد وعرَّف العرفاء ونقِّب النقباء وخلع عليهم وحملهم على الدواب واستصحبهم وبسطهم وصار له منهم جند .
ص: 404
كان المطيع لله بعقب علة من الفالج يسترها وقد ثقل لسانه وتعذرت الحركة عليه فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى تسليم الأمر إلى ولده الطائع لله ففعل وعهد إليه فبرئ من الخلافة وخلعها وأشهد على نفسه سنة 63 يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة .
لما انبسطت العامة الذين ذكرنا حالهم مع سبكتكين وهم الفرقة المعروفة بالسنة استضاموا الشيعة وناصبوهم الحرب وتحزب الفريقان وكانت عدة الشيعة قليلاً فتحصنوا في أرباض الكرخ من الجانب الغربي واتصلت الحروب حتى سفكت الدماء واستبيحت المحارم وأحرق الكرخ حريقاً ثانياً بعد الحريق الأول في وزارة أبي الفضل فافتقر التجار وغلبهم العيارون على أموالهم وبضائعهم وحرمهم ومنازلهم واحتاجوا أن يتخفروا منهم وأي فريق كانت الخفارة له قصد الفريق الآخر. وانتثر النظام وانخزل السلطان وصارت العصبية بين هذين الصنفين في أمر الدين والدنيا بعد أن كانت في أمر الدين خاصة وذلك أن الشيعة ثاروا بشعار بختيار والديلم وأهل السنة ثاروا بشعار سبكتكين والأتراك .
أدخل يده في إقطاعات جماعة الأتراك وظفر بذخيرة كانت لبختكين آزاذرويه بجنديسابور واجتمع الأتراك المشغبون بسواد الأهواز ثم صار بعضهم إلى سبكتكين وتلافي بختيار بعضهم .
استوحش غلمان دار بختيار منه واضطربوا عليه وقصده الأتراك الذين هربوا من البصرة وعاتبوه على ما ارتكب منهم من غير ذنب وقال له الديلم: إنه لا بد لنا في الحرب من فرسان وأتراك. فاضطرب بختيار في الرأي وترجح فيه ثم قرره على أن أطلق بختيار آزاذرویه وجعله في موضع سبكتكين وسماه حاجب الحجاب وقدَّر أن الأتراك يأنسون به
ص: 405
ويعدلون عن سبكتكين إليه وكتب إلى البصرة بإيقاع النداء بأنهم آمنون وألا يعرض لهم وأن يُرَد ما أخذ منهم وأطلق سباشي الخوارزمي وأقر بكتيجور على حمله الاعتقال لمصاهرته سبكتكين. وبلغه خبر والدته وإخوته وعياله في انحدارهم إلى واسط فسار إليها .
وكتب إلى الحضرتين بفارس والري يشكو ما نزل به ويسأل أن يكشف عنه وتابع المكاتبات وزاد في تأكيدها بحسب تزايد الفتنة وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان فسأله إنجاده بنفسه وعسكره وعمل على أن يعتصم بعمران بن شاهين فأنفذ إليه خلعاً وفرساً بمركب ذهب وتوقيعاً بإسقاط ما بقي عليه من مال الصلح الذي كان صالحه عليه وخطب إليه إحدى بناته وسأله أن ينفذ إليه عسكراً في الماء يستعين به على حرب الأتراك وترسل إليه في ذلك حاجب له يعرف بإبراهيم بن إسماعيل فلما أدى إليه الرسالة قال له : يا هذا قد جئتنا في أمور غير متوجهة عندنا ولا لائقة بأحوالنا .
أما هذا الدين المتروك فالتحمد علينا به مع علمنا بأنه ساقط باطل لا يحسن لكنا نقبل ذلك. وأما الوصلة فأنا رجل لا أداخل أحداً من خلق الله إلا أن يكون الذكر من عندي والأنثى من عنده وقد خطب إليَّ الطالبيون مع أنهم موال فما أجبتُ أحداً منهم إلى ذلك لأن نفسي لا تسمح له وهؤلاء أولاد أخي هم أكفاء بناتي ما واصلت أحداً منهم ولكن إن شاء أن نتصاهر على السبيل الأخرى فعلتُ وأما الخلعة والفرس فلست ممن يلبس لباسكم ولا أركب الخيل لأن دوابي هذه السفن لكن أبا محمد ابني يقبل ذلك ولا يرده وأما عسكري وإنفاذه فليس تسكن رجالي إلى مخالطتكم لكثرة من قتلوا من رجالكم على مر السنين والوقائع . ثم قال للرسول : قل له : ينبغي أن تتوفر وتترزن ولا تستعمل هذه الخفة والنزق فقد قصدتني محارباً لي فرجعت عني منهزماً وقصدت الأهواز فرجعت منهزماً على هذه الحال والصورة من الفتنة وأنا أعلم أن أمرك سيتأذى إلى أن تجيئني وتلوذ بي وتحصل عندي وسأذكرك هذا وتعلم حينئذ أني أعاملك بالجميل وبخلاف ما عاملتني به أنت وأبوك قبلك فتعجب الناس من موافقة كلام عمران هذا المقدور الكائن فإن الحال ببختيار آلت إلى المصير إليه والحصول عنده مستجيراً به ومستذماً على ما سنذكره إن شاء الله .
فأما ركن الدولة فإنه أجاب بجواب صدر عن نية صحيحة وشفقة عليه وهو أن قال : إن الفتق الذي انفتق عليه عظيم يحتاج إلى رجال ومال وسلاح وتدبير وهيبة
ص: 406
وطاعة وأنه قد شاخ وثقلت عليه الحركة وأنه بإزاء أشغال عائقة وأمور قاطعة ولكنه قد عول في هذه الحال على ابنه عضد الدولة إذ كانت تلك الأدوات التي عددتها مجتمعة له وحاصلة عنده وأنه سائر من فارس إليه مع جيش كثيف ويخرج إلى نصرته من عنده الوزير أبو الفتح بن أبي الفضل بن العميد وإنما بنى ركن الدولة هذه الرسالة على ما كان يكاتبه به ابنه عضد الدولة فإنه كان يعرف أخبار العراق يوماً يوماً ويطمع أن يملكها لما يرى من سوء تدبير بختيار لها ولاضطراب الأمور هناك بسوء تأتي الوزراء وسقوط الهيبة وانتشار الحيل وفساد الرعية وكان مع ذلك فاسد الرأي في بختيار مضطغناً أشياء كان تقدم بينهما من مناقشة جرت في وقت ومنافسة في مرتبة ومنع مما كان يلتمسه عضد الدولة منه خاصة من دفاتر عزيزة كان يضن بها بختيار وجوار صوانع محسنات كان لا يسمح بها ومن خيل عراب كان يمنع من شرائها له ويحب أن يستبد بها من البادية وكانت هذه الأشياء مجتمعة في نفس عضد الدولة فهو يحب أن تستحكم الفتن ويستشري البلاء حتى يزول أمر بختيار ثم يقصد بنفسه وخيله وأمواله ويدبر أمر تلك الممالك لنفسه ويضمها إلى ممالكه فراسل أباه ركن الدولة : بأنك قد كبرت عن لقاء الحروب ولا مال عندك وعندي منه كيت وكيت في القلاع والخزائن وعظم عليه ما جمعه ولعمري لقد كانت عظيمة وكانت له مع ذلك هيبة في أصحابه وتدابير مصيبة ولكنه أحب أن يبذلها في خاصة نفسه لا في معاونة ابن عمه الذي يتصوره بصورة التجلف وتضييع الأمور وإهمالها وتفويض الوزارة وتدابير المملكة إلى من لا يُرجع منه إلى روية صادقة ولا تدبير صائب ولا صناعة قوية ولا ذكر بين الناس جميل وهو مع ذلك يظهر له المنافسة ويمنعه من مطالبه وبغض من أقدار أصحابه الواردين عليه في مهماته . وكان يكاتب أباه ركن الدولة بمثل ذلك الظاهر الجميل الذي يجمع الشفقة عليه والمحاماة عنه وتفديته بنفسه ورجاله في نصرة ابن أخيه الذي هو ابن عمه وباطن رأيه أن ذلك الأمر سيضطرب اضطراباً لا تبقى معه بقية إلا باستصلاحه لنفسه دون غيره.
قد كان حبس أباه ركن الدولة عن الحركة بنفسه وأطمعه في النيابة عنه وكفايته هذا الشغل فأجاب بختيار يشير عليه بأن يقف حيث انتهى وألا يزيد الأمر فساداً ولا يبرح من واسط حتى يلحقه ويدبر نواحيه وأقبل يماطله بالمسير وزحف إليه الأتراك ومن انحاز إليهم من سائر أنواع الجند فحوصر وبلغ منه كل جهد. ولعمري لقد صبر لهم وطاولهم ولكن مصابرة من يحتشمه عدوه ويبقى عليه وذلك أنه لما اشتد به الحصار وكان نازلاً بين النخيل لا مجال لخيل الأتراك فيه وأصحابه ديلم ورجاله يستندون إلى الخيل ويراوغون فيه ولا يخلو في خلال ذلك من مواقف يصل إليه فيها التركي المداخل
ص: 407
المصالت فإذا علم أنه قد تمكن منه عدوه يذكره بالله وبالنعمة وأنه صنيعته وصنيعة أبيه ويخاطبه بما يرق له القلب وتستحي منه العين فينصرف عنه التركي بعد التمكن منه ويحب أن يجري قتله على يد غيره فلم تزل هذه حاله من الصبر على الجوع والعري ونفاد السلاح والخوف من إقدام من لا يقيله ولا يحتشمه عليه ويكاتب عمه وابن عمه. وعضد الدولة يتوقف ويعده بالمسير مدافعة المماطل المنتظر به الهلاك وركن الدولة يضج من ذلك ويبعث ابنه ويستبطئه إلى أن لم يجد عضد الدولة من المسير بدا فسار من فارس وسار أبو الفتح بن العميد من الري وكانت عدة أبي الفتح الوزير التي استصحبها يسيرة بالإضافة إلى ما استظهر به عضد الدولة كثرة وقوة ومدداً وذلك أنه بالغ جداً ولم تبق بقية في الاحتشاد ولم تكن صورته في ذلك صورة من ينصر ابن عمه على طريق المعاونة والانجاد ثم الانصراف بل صورة من يجاهد ويدافع ويقيم بعد الظفر . ولم تخف على الناس هذه الحال منه لكثرة ما استصحبه من آلات خيم المقيم التي يريد أن يستقر بها ويتمكن في كل بلد بالآلات المعدة لها من الفرش الكثير والزينة التامة التي لا يستعملها المتوجه إلى معاونة المنصرف بعد الفراغ من نصرة من توجه لنصرته .
فأما جواب أبي تغلب بن حمدان عن رسالته فإنه أجاب بالمسارعة والإنعام وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة إلى تكريت في جمع من جيشه فأقام بها مدة طويلة انتظاراً بما يكون من انحدار الأتراك عن بغداد إلى محاربة بختيار فيردها. ولما تمادى الأمر وانحدر بعد ذلك سبكتكين كما سنحكيه سار أبو تغلب يجمع جيشه إلى مدينة السلام ليوجب على بختيار الحجة فيما بذل له خطه من إبطال ما تقرر بالموصل وعمل ببغداد ما سنصفه إن شاء الله .
ثم إن سبكتكين راسل بختيار بأنك قد جنيت على نفسك جناية عظيمة بما ارتكبته ودبرته وأن كل ما تعمله وتتصرف فيه خطأ وغلط وأن الأمر الآن قد خرج عن اليد فافرج لي عن واسط حتى تكون هي وبغداد في يدي بإزاء أموال الأتراك التي قد حصلت عليّ وتكون البصرة والأهواز ونواحيها في يدك بإزاء أموال الديلم واجعل أمري وأمرك واحداً ولا تدخلن بيننا أحداً ولا تفتح للحرب باباً فلست من رجالها وأنا ناصح لك مشفق عليك حافظ وصية مولاي فيك التي ما حفظت مثلها في فعرض بختيار هذه الرسالة على الديلم فأنكروها وأكبروها واستخفوا بقائلها والتحمل لها وردوه بالخيبة والمنابذة فجد سبكتكين واستعد للحرب وقدم كتاباً من الخليفة إلى بختيار ينذره فيه وأجيب عنه بما ليس هذا موضعه ووصل جواب هذا الكتاب إلى الطائع لله وإلى سبكتكين وقد انحدرا عن بغداد وانتهيا إلى دير العاقول ومع وصوله توفي المطيع لله
ص: 408
وكان انحدر ابنه الطائع لله وحدث بسبكتكين علة الموت فمكث فيها بدبر العاقول أربعة أيام وتوفي فحمل إلى مدينة السلام .
وتماسك الأتراك وثبتوا واجتمعوا على الفتكين مولى معز الدولة وكان يتلو سبكتكين عند معز الدولة وله رياسة في الأتراك وحشمة قديمة ولقاء في الحروب للأعداء فعقدوا له الرياسة عليهم وعمل على إتمام العزيمة في اللقاء وكان عبر بختيار إلى جانب واسط الغربي وأخلى الشرقي وجمع السفن والزواريق إليه ولم يترك من آلات الماء شيئاً في الجانب الشرقي ونقل الثناء وطبقات الناس إليه وضرب مصافه في منازل واسط وعمل على مناجزة الأتراك ولقائهم بالديلم إما مناجزة إن ثبتوا له وإما مصابرة إلى أن يأتيه الغوث من الري وشيراز وكان استبشر بما اتفق على الأتراك من موت زعيمهم وقدر أنهم يضطربون وينتشر أمرهم ثم عرف انتظام أمرهم فتوقف عن الإصعاد واجتمع الأتراك وزحفوا وعقدوا جسراً بسفن كانت معهم من بغداد وكانت معهم أيضاً زبازب كثيرة وجيش للماء وعلى مقدمتهم حمدان بن ناصر الدولة فاستأمن حمدان إلى بختيار بكل من معه وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي فأكرمه بختيار ووصله.
كان حمدان بن ناصر الدولة ببغداد عند حدوث هذه الفتنة فدعاه سبكتكين إلى طاعته فأجابه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالنصيحة والموالاة وإنما سكن إليه للعداوة التي بينه وبين أبي تغلب ولأن أبا تغلب حافظ على مودة بختيار وواصله ونصره وظاهره فأنفذه سبكتكين على مقدمته. فلما توفي سبكتكين كتب إليه الفتكين يعرفه وفاته وانتصابه في موضعه ويستدعيه إليه ليستأنفا إيقاع التدبير ويتفقا على المسير. فاعتقد حمدان حين وقف على هذا الكتاب أن أمر الأتراك قد اختل نظامه بوفاة سبكتكين وعزم على المصير إلى بختيار وكان عرف أيضاً مسير عضد الدولة وخيول ركن الدولة فأنفذ كتاب الفتكين الوارد عليه إلى بختيار وأعلمه أنه سيعود إلى الفتكين ثم ينحدر إليه واشترط شروطاً واقترح اقتراحات فورد ذلك على بختيار وقد عبر إلى الجانب الغربي ولما اجتمع حمدان الفتكين ردّه على مقدمته كما كان في أيام سبكتكين. فوافي بمن معه من غلمانه وأسبابه وعبر مستأمناً إلى بختيار فتلقاه وأكرمه وحمل إليه مالاً كثيراً وثياباً فاخرة وعدة وافرة من الخيل والمراكب والبغال والجمال وضعفت نفوس الأتراك فتوقفوا يوماً ثم زحفوا بأسرهم ونزلوا على دون الفرسخ من واسط وعبروا على جسرهم وتقدموا إلى مصاف بختيار فكانوا يواقعونه بنوائب واتصل ذلك نحو خمسين يوماً. وتجاسر العوام من الجانبين على استعمال المشاتمة الفاحشة والمسابة المقذعة واتفق
ص: 409
على حمدان أنه حمل على الأتراك في بعض هذه الأيام فرموه ووقع بعض سهامهم في صماخ فرسه فرمی به ونهض ليركب غيره وعليه الحديد فلم يتمكن من ذلك وعرفه الأتراك فأكبوا عليه بالدبابيس حتى أثخنوه وكاد يتلف ثم أخذوه أسيراً لا فضل فيه فعولج وبرأ إلا أنه لحقه عرج ظاهر من وركه الأيمن وبقي على ذلك بقية عمره ثم من عليه الفتكين وأطلقه وأخذ منه رهينة وأعاده إلى حاله فشهد معه الحرب يوم ديالي إلى أن انهزم الأتراك وانحاز إلى عضد الدولة .
ولم تزل الحرب بين الديلم والأتراك متصلة بواسط والاستظهار للأتراك وأشرف الديلم على الانكسار والهرب دفعات وقتل من الديلم خلق كثير لنقصان جننهم واستظهار الأتراك عليهم بالأسلحة واشتد على بختيار الحصار وأحدق به وصار في مثل كفة الحابل وأحاط به الأتراك من كل وجه وكانت صورته كما ذكرت فيما تقدم. واتصلت كتبه إلى أبي تغلب يسأله الانحدار وإلى عضد الدولة يسأله اللحاق ويُعلمه أن مملكته قد خرجت من يده وأنه أحق بها ممن غلب عليها حتى أنه كتب إليه في بعض كتبه البيت الذي كتب به عثمان إلى أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه :
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل*** وإلا فأدركني ولما أمزّق
فأما أبو تغلب فسار بجميع عسكره بعد أن كان قدّم أخاه الحسين كما كتبنا خبره فيما تقدم وصار إلى مدينة السلام فألفاها مفتتنة بالعيارين فقمعهم وقتل جماعة منهم وحمل من بغداد إلى الموصل أشياء كثيرة ظفر بها من آلات فاخرة وأنقاض جليلة وذخائر وودائع .
وأما عضد الدولة فإنه سار بعدما ذكرته من التوقف والإبطاء واجتمع مع أبي الفتح بن العميد بالأهواز .
لما سمع الفتكين بخبر عضد الدولة وحصوله بالأهواز نخب قلبه ورأى أن يحصل ببغداد ويجعلها وراء ظهره وتكون حربه على ديالي . قال صاحب هذا الكتاب : كنت في جملة السائرين من الري في صحبة أبي الفتح بن العميد وما كان إشفاقنا ولا حذرنا كله إلا من سبق الأتراك إيانا إلى أسفل واسط إلى الموضع المعروف بباذبين وأن يجعلوا النهر وراءهم مع المدينة والميرة وأن يتركونا حتى نقطع إليهم مفازة بنج وبنج ونلقاهم على إعياء وكلال وليس وراءنا عمارة ولا نجد ما ننزل عليه فإن طاولونا أياماً كان الهلاك وإن ناجزونا حين ورودنا كانوا جامين مستريحين ونحن على حال تعب وضعف وكنا من كثرة
ص: 410
العدد على ما وصفت فيما تقدم. فلم يوفق الأتراك لذلك وانصرفوا إلى بغداد ورأوا من الصواب لهم أن يملكوا بغداد ويجعلوها وراء ظهورهم وتكون حربهم على ديالي فكانت الخيرة لنا فيه ودخلنا واسطاً بغير مانع. وقد كان بختيار وأخواه ومحمد بن بقية تلقوا عضد الدولة لما انصرف الأتراك عنهم وترجلوا له وأعظموه كما يستحق وسار عضد الدولة في الجانب الشرقي وتقدم إلى بختيار أن يسير بإزائه من الغربي ممتدين إلى بغداد.
فأما الفتكين فإنه لما توسط في مسيره إلى بغداد أنفذ سرية في أربعمائة غلام من الأتراك لكبس أبي تغلب فأرهقوه وشغب مع ذلك جنده عليه فهرب إلى الموصل هرباً قبيحاً وتقطع عسكره. وحصل الفتكين ببغداد في حصار شديد قد أحدقت به الخيول من كل وجه وذاك أن بختيار كاتب ضبة بن محمد الأسدي وهو رجل من أهل عين التمر كثير العشائر وقد جرت عادته بالتبسط بأن يشنّ الغارات على أطراف بغداد ويمنع من جلب الميرة إليها ففعل ووجد الطريق إلى بغيته فنهب السواد وقطع السبل . ثم أنفذ في الجانب الشرقي ابن أخ لمحمد بن بقية وزيره يعرف بأبي الحمراء وهو لقب غلب عليه مع طائفة من بني شيبان ليتطرف بغداد ويحاصرها من ذلك الوجه وكانت خيول عضد الدولة والري وبختيار متوجهين إليه سائرين الحروبه وكان أبو تغلب من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ إليه سراياه ورجاله فاشتد الحصار به وعزّت الميرة وانحسمت موادّها وثارت الرعية فنهبت الموجود في المدينة وامتنع الناس بالفتنة أن يتسوقوا أو يتعيشوا وأعيت الفتكين الحيلة في التماس ما يحتاج إليه وصار يتتبع المواطن التي يظن فيها قوتاً أو بذراً أو عدة يتناول ذلك حتى انتهى به الأمر إلى أن ركب بنفسه إلى منزل بعض الأشراف فكبسه وأخذ ما فيه .
وسار عضد الدولة كما حكينا في الجانب الشرقي وبختيار بإزائه في الغربي فلما صار بدير العاقول عبى عسكره تعبية اللقاء وجعل موكب خاصته في القلب وفي ميمنته أبا الفتح ابن العميد وجيش الري وفي ميسرته أبا إسحاق إبراهيم بن معز الدولة ومحمد بن بقية وطائفة من عسكر بختيار ونزل المدائن على هذه الحالة من الترتيب. وورد خبر الفتكين بأنه برز إلى ديالي ونزل عليه مستعداً للحرب وعقد عليه جسوراً ليعبر عليها واعتقد أن يلقى العساكر في فضاء بين ديالي والمدائن وظن أنه يتمكن بالجولان فيه مما يريده وذلك في (سنة أربع وستين وثلاثمائة) .
وعبر الفتكين تلك الجسور ولم يقع في الظن أنه يعبر ديالي ولا أنه يترك التحصن به والقتال من ورائه فسار عضد الدولة على تعبية وهيئة حتى انتهى إلى قرية هناك وتراءت مواكب الفتكين وقد عباها كراديس واعترض نهر صغير في هذه القرية فوقع التشاغل به إلى أن عبرته العساكر وصاروا مع تلك الكراديس في أرض واحدة .
ص: 411
ذكر عجلة وقعت وحرص ظهر من جيش بختيار الذين كانوا في ميسرة عضد الدولة فكانوا يكسرون العسكر
تقدم الجيش البختياري المرتب في الميسرة مع أبي إسحاق وابن بقية زحفاً بغير أمر وفارق المصاف وخرج عن النظام حرصاً على إظهار فضل وغناء وتشوقاً إلى اللقاء فراسلهم عضد الدولة ونهاهم فلم ينتهوا على ما اعتادوه من الاستبداد حتى لحجوا واستجرّهم الأتراك حتى صاروا بالبعد من العسكر فعطف الأتراك عليهم وقتلوا خلقاً منهم وتابعوا الحملات عليهم وأكثروا النكاية فيهم فحينئذٍ عرفوا الخطأ الذي ركبوه وأنفذ عضد الدولة طائفة من الرجال إليهم فلم يغنوا عنهم وحصلوا في مثل حالهم فلما رأى ذلك زحف على نظامه وهيأته حتى اتصلوا بهم بعد أن أشرفوا على الهلاك فلما قرب من جمرة القوم ومجتمعهم حمل عليهم فلم يثبتوا واستأمن بعضهم وحكم السيف في الباقي فقتل خلق منهم وألجأتهم الهزيمة إلى تلك الجسور التي عقدوها على ديالي فازدحموا عليها وأرهقهم الأمر فهلك منهم ومن العيارين الذين وازروهم بالقتل والغرق خلق كثير وركب عسكر عضد الدولة أكتافهم وعبروا تلك الجسور على آثارهم فاستباحوا عسكرهم وسوادهم وألقوا النار في خيمهم وخركاهاتهم وأدركهم الليل فبات هؤلاء وهرب أولئك لا يلوي أحدهم على صاحبه .
وأنفذ عضد الدولة في ساعة الفتح بشيراً إلى بختيار وذلك الفتح بشيراً إلى بختيار وذلك يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة 364 وأقام على ظاهر المدينة إلى أن عرف خبر الأتراك ثم دخل المدينة في أحسن زيّ وعدة وطواه متجاوزاً إلى باب الشماسية وبختيار يسير بإزائه ويعسكر بحياله وأقام بموضعه إلى أن بعد الأتراك وورد عليه خبرهم من تكريت وأنهم وصلوا إليها على حال قبيحة من التقطع والتمزق واختلاف الكلمة فحينئذ انثنى إلى النزول في داره واشتغل قلبه بالطائع لله وحصوله مع الأتراك وتصرفه على ما يحبون والتنقل معهم فبث إليه رُسله وقد كان راسله قبل ذلك ولم يزل معه بالتلطف والرفق حتى ردّه إلى دار الخلافة وموطن الأئمة.
عليه من انتقاضه وعوده إلى منزلته وحالته
لما تمَّ هذا الفتح لعضد الدولة لم يشك أحد ممن دنا وبعد في أنه يستولي على هذه المملكة ويضيفها إلى مملكته لضعف بختيار عنها واشتغاله بضروب اللهو واللعب
ص: 412
وتجاسر الديلم والأتراك عليه ففكّر في حديث الناس وعلم أن أباه ركن الدولة لا يصبر على ذلك ولا يحتمله له فاتخذ دعوة دعا إليها بختيار وإخوته ومحمد بن بقية وسائر عسكر بغداد وخلع عليهم ضروب الخلع على مقدار مراتبهم وجعل ذلك كالوداع وأظهر الرحيل إلى فارس وأمر بإعداد الميرة في المنازل ووافق في السر رؤساء الجند أن يثوروا ببختيار ويشغبوا عليه ويطالبوه بأن يطلق أموالهم ويغير أحوالهم ويحس مجازاتهم عن صبرهم عليه وثباتهم معه وبذلهم الأنفس في محاربة الأتراك دونه ففعلوا ذلك وبالغوا في الشغب والاقتراحات وبختيار صفرُ اليد لا يملك ذخيرة ولا تصل يده مع خراب النواحي واتصال الفتن إلى درهم واحد فراسله عضد الدولة سراً ووافقه على مقابلتهم بالتشدد والغلظة والصدق عن الحال وأنه لا يعدهم بما لا يقدر عليه وأن يفصح لهم بالاستعفاء عن الرئاسة وأنه قد برىء إليهم منها ووعده أن يتوسط حينئذ بينهم ويقرره على ما يحب. فلم يجد بختيار عدولاً عن ذلك ولا عرف وجه حيلة سوى ما أشار به عليه فبادر إليه واستعفاهم من رياسته وأغلق أبوابه وصرف كتابه وأسبابه وراسله في الظاهر بمقاربة القوم وتدبيرهم فأجابه بأني لست أميراً عليهم ولا معاملة بيني وبينهم فلينظروا لأنفسهم وليعقدوا لمن شاؤوا. واتصلت هذه الرسائل ثلاثة أيام والشغب يزيد إلى أن أعلنوا بالقبيح وكادوا يزحفون إليه ويأتون عليه فاستعاذ بعضد الدولة وطلب منه ما كان وعده به من التوسط فراسلهم عضد الدولة بما سكن منهم وأمرهم بالتفرق ووعدهم بالنظر في أمرهم. ثم استدعى بختيار إلى داره وقد كان خائفاً مرعوباً واستدعى أخويه على طريق الإشفاق عليهم والحذر من أن ينصبوا أحدهما علماً للفتنة فيفتحوا به باباً إلى الفرقة وراسلهما بختيار أيضاً بمثل ذلك حتى حضرا جميعاً. ثم جمع الرجال وجماعة الجند وأعلمهم أن استيفاء بختيار من النظر واعتزاله إياهم وافق محبة منه للنظر في أمورهم وضمهم إلى نفسه وأنه يخلطهم بعسكره ويشملهم بإحسانه وأنه المتولي للأمر وأن بختيار إنما كان خليفة له ولركن الدولة وأنه الآن قد استعفى فأعفي وبرىء فأبرئ فسكنوا وتفرقوا ووثقوا بوفائه وأنه من وراء ذلك. وأمر باستظهار على بختيار وأخويه ووكل بهم ثقاته وذلك يوم الجمعة لأربع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة 364 وجمع بينهم وبين الوالدة .
فأما الخليفة الطائع لله فإنه كان نافراً من بختيار للحروب التي جرت بينه وبينه ولأن انتصابه في الخلافة جرى على يد غيره في غير أيامه وسكن إلى عضد الدولة وذمامه. فلما اتصل به ما اختاره بختیار لنفسه من الخلع سكنت نفسه وهو حينئذ مع الأتراك وعند الفتكين بتكريت فجرت بينه وبينهم مناظرات في الرجوع إلى بغداد فسألوه الامتداد معهم إلى الشام فلم يمكن ذلك لأن القوم منهزمون وعلى حال اضطراب
ص: 413
فوعدهم من نفسه إذا ثبتت أقدامهم وكان له قوة وفيهم منعة أن يحتال لهم ويعود إليهم أو يدبر لهم في الاجتماع معهم فاتفقوا على ذلك. وانكفأ الطائع لله إلى داره ورحل الأتراك إلى الشام .
وتقدم عضد الدولة بعمارة دار الخلافة وتطريتها وتجديد فرشها وآلتها وترتيب أسباب الخدمة فيها والتزم في ذلك مالاً جليلاً وأخرج الجيش إليه متلقين واستقبله بنفسه يوم الخميس لثمان خلون من رجب سنة 64 وكان أول اجتماعهما وانحدر معه في حديدي كان أنفذه إليه ودخلا بغداد وكان طرح لعضد الدولة بين يديه كرسي وقد كان قبل عضد الدولة الأرض له وجلس على الكرسي وأطافت بهما الزبازب والطيارات في الماء وسار الجيش على شاطئ دجلة ودخل الخليفة داره واستقر على سريره. وأنفذ عضد الدولة إلى خزائنه مالاً كثيراً وثياباً وفرشاً جليلاً من جميع الأصناف وعدة من الخيل والمراكب والرقيق والآلات وقرّر يده في ضياع الخدمة المرسومة بالخلفاء وقد كانت متشذبة قد تحيفها أسباب معز الدولة ثم أسباب بختيار فمنهم من تغلب على حدودها ومنهم من استقطع الخليفة بعضها ومنهم من ضمن منها ما لم ينصفه من نفسه فيه ولم يسهل إخراج يده عنه فردّ عضد الدولة ذلك كله إلى حقه . فأمر الطائع لله بإنشاء الكتب عنه إلى النواحي باستقامة أحوال السلطان وتعفى آثار الفتنة وتألف الشمل وكتبت وفرقت في الممالك كلها .
أما المرزبان فإن عضد الدولة سام بختيار أن يكاتبه بالإصعاد وكان متولياً البصرة ليرضى بما رضي به أبوه من خلوّ الذرع من تدبير الجند والرعية فكاتب وأنفذ كتابه على يد ثقة من ثقاته يعرف بعلي بن محمد الجوهري وكان صحبه من شيراز ووصاه بموافقة محمد بن دربند وكان اسفهسلار جيش البصرة وهو قريب للحسين بن إبراهيم وهو متقدم في جيش عضد الدولة. ولم يقع في نفس أحد أن المرزبان يمتنع ويحدث نفسه بالعصيان لصباه وصغر سنه ولأن جيشه من الديلم وهذا المدبر للجيش الذي ذكرناه يهوى هوى عضد الدولة ويرى رأيه. فلقي علي بن محمد الجوهري في طريقه صاحب دواة لعز الدولة بختيار يقال له عيسى بن الفضل الطبري قد كان أصعد عن البصرة فعرّفه الصورة واستعمل في إخراج هذا الحديث إليه غير الحزم والصواب فثنى وجهه عائداً إليه إلى البصرة وسبق إلى المرزبان بالخبر فأشعره الوحشة وأعلمه أن أتاه مكرهة ولقنه العصيان. فلما ورد الجوهري على أثره البصرة بدأ بمحمد بن دربند وأوصل ما كان معه من الكتب إليه فصار به وبها إلى المرزبان وعندهما أنه غافل فوجده مستعداً للخلاف وقبض عليهما جميعاً وأظهر الخلاف وكاتب ركن الدولة بالبكاء والنوح وأعلمه ما جرى
ص: 414
على أبيه بختيار وعمومته وأن جميع ما يكاتب من جهة عضد الدولة ووزيره أبي الفتح بن العميد عن بختيار إنما هو تمويه وأن الحيلة استمرت وتمت لهما على القبض على أبيه وأنه امتنع ثقة بتداركه إياه ومعه وأنفذ قاصدين عدة بكتب متوالية .
وكان لمحمد بن بقية خليفة بالأهواز من جنسه في الانسلاخ من صناعة الكتابة ومن كل فضيلة يقال له محمد بن عبدان الأهوازي فلما بلغه ما جرى احتوى على ما قدر عليه من المال وأثبت عدة من الرجال وصار إلى البصرة داخلاً في سوار أهل العصبية فغلب على المرزبان وشحذ بصيرته في العصيان ودخل في وزارته ووعده الكفاية. وأما محمد بن بقية فقد ذكرنا حاله في البعد من كل فضيلة وكان يتموّه أمره في أيام بختيار فأما في دولة عضد الدولة فما كان أبعده من أن يكون عريفاً من عرفاء الرجالة ببابه فضلاً عن أن يختلط بوزرائه وكتابه ولكن أظهر مساعدة كثيرة لعضد الدولة فيما كان يدبره وخدمة فيما كان يراه وإنما فعل ذلك حذراً على نفسه وخوفاً أن يُرد إلى مرتبته وعلماً بأن بختيار إن عادت يده في التدبير قبض عليه وطمع فيه وعامله بما عامل به وزراءه الكفاة عند حاجته إلى المال وكره عضد الدولة أن يخلطه بوزرائه الكفاة مثل نصر بن هارون وكان معه في هذه الوقعة وهو شيخ الكتاب قد سُلّم له صناعة الحساب خاصة فينسبه الناس إلى قلة المعرفة بالرجال ونقصان الرعاية لأهل السابقة والتقدم في الكفاية وكره أيضاً أن يصرفه صرفاً قاطعاً فيكون قد خيّب ظنه وأكذب تأميله فاستوزره لابنه أبي الحسين بن عضد الدولة وعرض عليه ما يشاء أن يتقلده من الأعمال فاختار واسطاً وتكريت وعكبراً وأواناً وقاطع على هذه الأعمال ووفر على ما كان العمال يدخلون فيه زيادة عظيمة فأمر عضد الدولة أن يعقد عليه جميع ذلك. واقترح ابن بقية إقرار اللقب والتكنية السلطانية ولباس القباء عليه فأجيب إلى ذلك وخلع عليه خلعاً نفيسة وحمل على دواب بمراكب ذهب وأقطع خمسمائة ألف درهم ورسم له حضور مجالس المؤانسة والمنادمة ولم ينقصه من جميع عاداته إلا اسم الوزارة لأنه بالحقيقة لم يكن يتولاها على رسوم الوزراء فيخاطب بها فأظهر سروراً عظيماً وشكراً كثيراً ودعاء متصلاً وكل ذلك على ذحل وغل قد أضمره وانحدر إلى واسط.
وقد كان عمران صاحب البطائح مستوحشاً فأحب أن يتعلق تجدد ملك عضد الدولة بذمام فأنفذ كاتبه يلتمس عهداً ومنشوراً وعقداً وتقريراً فأجيب إلى ذلك. والتمس أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل مثل ذلك وضمن حمل المال الذي كان يحمله قديماً إلى بختيار فأجابه عضد الدولة إلى ما سأل وأعفاه من حمل المال لمكاتبة قديمة كانت بينهما ومودة سالفة وعقدت أعمال الأهواز على سهل بن بشر النصراني وخلع عليه فشخص إليها وكان محبوساً في يد بختيار وقد جازفه وصادره وفرقت أعمال
ص: 415
السواد على العمال ودبر الأمور كلها أبو منصور نصر بن هارون.
ولم يبق في نفس عضد الدولة شيء يتعلق به نفسه إلا انتزاع البصرة من يد المرزبان فلما حصل ابن بقية بواسط خلع الطاعة وأظهر الخلاف وقبض على من ضم إليه من القواد وأظهر أنه امتعض لصاحبه بختيار وكان هو المشير بجميع ما جرى متابعة لرأي عضد الدولة. ثم كاتب عمران بن شاهين يستدعي منه المعاضدة ويحذره تدابير عضد الدولة وأنه ليس ممن يصبر له على محاورته بتلك الحال فأجابه عمران إلى ما سأل . وكاتب المرزبان ابن بختيار يلتمس منه أن يمده بالرجال والمال والسلاح فلم يجد عنده ما يحب لتهمته بالانحراف عنه وعن أبيه وعلم أنه يريد أن يقيم سوقاً لنفسه وأحجم ابن بقية عن المصير إليه لتقلد الأهوازي وزارته فبنى أمره على أنه متى وقع الطلب له هرب إلى عمران وقصد أعمال نهر الفضل فيتغلب عليها وكتب إلى سهل بن بشر ما أغواه حتى استجاب له وسلك سبيل إرادته . وقد كان عضد الدولة عزم على انفاذ عسكر الماء لفتح البصرة فلما عصى ابن بقية جعل همه كله واسطاً فأنفذ إليه عسكراً قوياً فخرج إليه في آلات الماء فيمن أمده بهم عمران من رجاله .
ووردت كتب ركن الدولة على المرزبان بأن يتماسك بالبصرة وشجعه على مقاومة عضد الدولة ووعده بالمصير إلى بغداد بنفسه لازعاجه وتمكين بختيار وكذلك فعل فى مكاتبة ابن بقية وأبي تغلب بن حمدان فاضطربت هذه النواحي على عضد الدولة وضاق به الأمر وتجاسر عليه الأعداء من كل وجه وانقطعت عنه مواد فارس والبحر ولم يبق في يده إلا قصبة بغداد وتجاسرت العامة عليه وأشرف على صورة قبيحة فرأى أن ينفذ أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة متحملاً رسالة عنه يصدقه فيها عما جرى ويُعلمه فيه بعده عن ممالكه وتضييعه الأموال التي أنفقها وأنه قد خاطر مع ذلك بنفسه وجنده كما خاطر هو بوزيره وأكثر جنده وأنه قد هذّب مملكة العراق واستعاد الخلافة إلى ممالكه وأن بختيار ليس ممن تستقر بنظره دولة ولا تعتدل على يده مملكة وأنه إن خرج عن العراق على تلك الصورة لم يبعد أن تضطرب الممالك كلها ثم لا يمكن تلافيها ويسأله المدد والإمساك عن نصرة من تفسد على يده مملكته وممالكنا معاً وقال لأبي الفتح بن العميد انظر فإن تيقظ للأمر ونجع فيه هذا القول وأشباهه فاقتصر عليه وإن رأيته : مقيماً على رأيه فزد في الرسالة وقل له : إني أقاطعك على أعمال العراق وأحمل إليك عنها ثلاثين ألف ألف درهم وأنت فقير لا مال لك ولا عدة عندك لمثل هذه الحال إن عادت إليك وأنا أعجل لك من جملتها عشرة آلاف ألف درهم وأبعث بختيار وإخوته إليك لتجعلهم بالخيار فإن شاؤوا أقاموا في أوساط ممالكك ومكنتهم من أي البلدان اختاروه وإن شاؤوا أن يصيروا إلى فارس فيختاروا من أعمالها أي البلدان أحبوه إلى
ص: 416
ذلك ووسعت عليهم في النفقات وأرغدت عيشهم في أوساط ممالكنا. ولم تتركه في هذه الديار التي استضعفه أهلها وعرف جنده سيرته فيها وأن الخلافة تخرج عن يده وأيدينا وهو يضعف عن سياسة جنده ويعتمد في التدبير على الجبايات والمصادرات وتمكين من يرتفع له في الوقت على يده ما لا يقع موقعاً من حاجته ثم يضطر إلى نكبته و اعتماد غيره على أن هذا الباب أيضاً قد انسد ولم يبق فيه بقية مما عمله قديماً وقد عرف ذلك من نفسه ولذلك استعفى من الأمر. وإن أحببت أن تحضر بنفسك العراق لتلي التدبير وتكون سائس الخلافة وبيت الملك ووليت الأمر وترد بختيار إلى الرّي فانصرف إلى فارس كان ذلك وجهاً من الرأي صحيحاً وقال لابن العميد وينبغي أن تتبسط في هذا المعنى فإنك تجد فيه مقالاً واسعاً فإن لان لك وعرف صواب قولك وإلا فزد في الرسالة فصلاً ثالثاً تجبهه به وهو : إنك أيها الوالد السيد مقبول القول والرأي والحكم ولكن لا سبيل إلى إطلاق القوم بعد مكاشفتهم والقبض عليهم وإظهار العداوة لهم فإنهم لا يصلحون لي أبداً ولا تنقي جيوبهم ولا تصح نياتهم وسيقابلونني بغاية ما يقدرون عليه فيضطرب الحبل وتنتشر كلمة أهل هذا البيت أبداً. وإن أبيت أن تقبل إحدي الخصال التي عددتها لك وخيرتك فيها وحكمت بانصرافي على هذه الجملة فإني سأضرب أعناق هؤلاء الثلاثة الإخوة ( يعني بختيار وأخويه) وأقبض على من اتهمه من حزبه وأخرج وأترك العراق شاغرة ليدبرها من اتفقت له .
فقال له أبو الفتح بن العميد : هذه رسائل صعبة لا يمكنني أن أتلقى ركن الدولة بها وأنا صاحبه ومدبر أمره فإني أعرف نصرته لمن ينصره من الغرباء وتصميمه عليه وبلوغه غاية جهده فيه فكيف ابني أخيه ! ولكن الصواب أن يتقدمني إليه من يفرغ جميع ذلك في إذنه من جهتك ثم أتلوه شافعاً له ومتمماً ومشيراً . فتقرر الأمر على ذلك ونفذ فيه من جهة عضد الدولة ومن جهة أبي الفتح بن العميد أبو العباس بن بندار وكان الأمير ركن الدولة يأنس به قديماً فتوجهت الرسل وشخص ابن العميد على جمازات عددها مائة يتلوهما، فلما بلغ الرسولان الأولان إلى ركن الدولة وشرعا في تأدية الرسالة وعرف الغرض الأخير منهما لم يمكنهما من إتمام الرسالة ووثب إلى الحربة التي تلي مجلسه فتناولها وهزها وهرب الرسولان إحضاراً من بين يديه .
فلما سكن غضبه استعادهما وقال : قولا لفلان (يعني عضد الدولة وسماه بغير اسمه) خرجت إلى نصرة ابن أخي أو الطمع في مملكته ؟ أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيروزان وهو غريب مني مراراً كثيرة أخرج فيها كلها عن ملكي وأخاطر بنفسي وأحارب وشمكير وصاحب خراسان حتى إذا ظفرت وتمكنت من البلاد سلمتها إليه وعدت من غير أن أقبل منه ما قيمته درهم فما فوقه طلباً للذكر الجميل ومحافظة على الفتوّة؟ أتريد أن
ص: 417
تمتنّ أنت عليّ بدرهمين أنفقتهما عليّ وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم وخرج هؤلاء الرسل لا يملكون أرواحهم إشفاقاً مما رأوا منه ومما ظهر من غيظه وغضبه .
وبلغ ابن العميد الري وهو الوزير المقرب والأمين المتمكن وعند نفسه أن صورته كما كانت فحُجب عن دار الإمارة ورُدَّ عنها أقبح رَدّ وروسل : بأنك خرجت من عندنا ناصراً لبختيار ومدبراً عسكرنا وعسكر فناخسره حتى يستقيم أمر أولاد أخي ثم تأتيني الآن في صورة قبح تتحمل رسالة فناخسره فيما يهواه حتى يكون مكان أخي وأولاده ويطمع مني في أن أرخص له في القبض عليهم وإزالة نعمهم ويتهددني بالعصيان أما أنت فقد عرفت أنك اخترته عليّ وسوّلت لك نفسك وزارة العراق ونزهة دجلة ارجع إليه على حالك فوالله لأصلبن أمك وأهلك على باب دارك ولأبيدن عشيرتك ومن يتصل بك عن وجه الأرض ولأتركنك وذلك الفاعل (يعني ابنه) تجتهدان ثم لا أخرج إليكم إلا بنفسي في ثلاثمائة جمازة لا يصحبني إلا من عليها من الرجال ثم اثبتوا لي إن شئتم وحلف ركن الدولة محلوفة : إني إذا بلغت بعض طريقي في قصدي إياكم لا يبقى معكم رجل واحد إلا تلقاني وحصل عندي وأنه لا يتقرب بك وبعضد الدولة إلا أخص أوليائكما وأوثق عبيدكما في أنفسكما وإنما أتركك الآن وأنت في يدي لتعود إلى موضعك وتعيد رسالتي وكلامي وتنتظر صحة وعدي ووعيدي. وأمر من هذا الكلام ما هذا جملته وإن كان أكثر من هذا وأشنع.
وكان ركن الدولة قبل هذه الحال وعند سماع حال أولاد أخيه من القبض عليهم رمی بنفسه عن سريره وأقبل يتمرغ ويزبد ويمتنع من الأكل والشرب أياماً ومرض من ذلك مرضاً لم يستقل منه باقي حياته وكان يقول : أني أرى أخي معز الدولة متمثلاً إزائي يعض عليّ أنامله ويقول : يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في أهلي وولدي! وكان ركن الدولة يعز أخاه عزّاً شديداً فيراه بصورة الولد لأنه رباه ومكنه مما تمكن منه .
وتوسط الناس بينه وبين أبي الفتح بن العميد يشفعون له ويقولون إنه لم يرد فيما ظننته وإنما احتال في الخلاص من عضد الدولة بتحمل رسالته وغرضه أن يجتمع معك لتدبير الأمر بما تراه وهو يضمن ضماناً يدخل في تبعته أنه يقرر الأمر على رضائك بعد أن تسمع كلامه وتمضي له بما يعمل به في هواك. فأذن له حينئذ وجرى بينهما خطاب طويل تقرر على أن يعود ويفرج عن بختيار وإخوته ويقرر الملك في أيديهم وينصرف كل واحد من عسكر الري وعسكر فارس إلى مركزه وموضعه على صورة جميلة وعلى أكثر مما يمكن أن يعمل من الحيلة في مثل هذه الحال فأذن له حينئذٍ ورجع إلى عند عضد الدولة بخلاف ما خرج وخلا به وعرفه حقيقة الأمر وأنه ليس ممن يطمع في إصلاحه من جهة ركن الدولة فلما رأى عضد الدولة انخراق الأمر عليه من كل وجه ونفد ما صحبه من
ص: 418
الأموال ولم يصل إليه شيء من ممالكه اضطر إلى الخروج إلى فارس والإفراج عن بختيار وأخويه ففعل ذلك . وتوسط ابن العميد بينه وبين بختيار وخرج من دار عضد الدولة بعد أن خلع عليه وقبل بساطه وشرط عليه أن يخلفه في تلك الأعمال ويخطب له وخلع على أبي إسحاق بن معز الدولة على أن يلي أمر الجيش وذلك لما كان اعتقده الجند من ضعف بختيار وسوء تدبيره لهم وزوال هيبته مرة بعد أخرى عن قلوبهم فلما خرجوا من داره وأصعدوا إلى منازلهم في طيَّاره خلعوا الطاعة من غير انتظار ساعة. واجتمع إلى بختيار جيشه وعوام البلد والعيارون وأثاروا الفتنة وارتفع عياطهم وصياحهم وقد كان عضد الدولة (حفظ) عليهم خزائنهم وجميع ما وجد لهم من الدواب والأثاث فما شذ منها شيء حتى تسلموها كهيئتها يوم فارقوها. وبرز عضد الدولة يوم الجمعة لخمس ليال خلون من شوال سنة 364 عن مدينة السلام قاصداً أعماله بفارس ووافق ابن العميد على المسير في أثره وألا يقيم ببغداد بعده أكثر من ثلاثة أيام.
لما خرج عضد الدولة إلى فارس طابت بغداد لأبي الفتح بن العميد وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه ووجد خلو ذرع من أشغاله وراحة من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدة وحصلت له زبازب ودور على الشط وستّارات غناء محسنات وتمكن من اللذات وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في بابه وأنه خلصه من مخاليب السبع بعد أن افترسه وأن سعيه بين ركن الدولة وبينه هو الذي رد عليه روحه وملكه فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه وألا يعارضه في شيء يدبره ويراه فلم يجبه إلى ذلك وقال : لي والدة وأهل وولد ونعمة قد رتبت منذ خمسين سنة وهي كلها في يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته ولا يحسن بي أن يتحدث عني بمخالفته ولا يتم أيضاً لك ذلك مع ما عاملك به من الجميل ولكني أعاهدك إذا قضى الله على ركن الدولة ما هو قاض على جميع خلقه أن أصير إليك مع قطعة عظيمة من عسكره فإنهم لا يخالفوني وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أو غد وليس يتأخر أمره. واستقر بينهما ذلك سراً لا يطلع عليه إلا محمد بن عمر العلوي فإنه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحد منهما على صاحبه ولم يظهر ذلك لأحد حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح بن العميد. ولكن الغلط القبيح من أبي الفتح كان أنه أقام مدة طويلة ببغداد وطمع في أملاك اقتناها هناك واقطاعات حصلها وأصول أصلها على العود إليها . ثم التمس لقباً من السلطان وخلعاً وأحوالاً لا تشبه ما فارقه عليه عضد الدولة ثم استخلف ببغداد بعض أولاد التناء بشيراز يعرف بأبي الحسين بن أبي شجاع الأرجاني من غير اختبار له ولا خلطة قديمة
ص: 419
تكشف له أمره فلما خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار والتراجم بينهما تدور كلها على يده ويتوسطها ويهدي إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها . فلما عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح بن العميد له ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه اللقب السلطاني الذي حصله وهو ذو الكفايتين ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية في هذه الخلع عرف مكاشفته إياه بالعداوة وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما سنذكره في موضعه إن شاء الله .
كان محمد بن بقية مستوحشاً من بختيار لما يعرف من سوء معتقده له فتوقف بواسط وترددت بينهما كتب ورسائل على يد أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وأبي نصر بن السراج فاستحلفا كل واحد منهما لصاحبه فأصعد حينئذ وامتن على بختيار بأنه إنما استعصى على عضد الدولة بسببه ومن أجله فقل منه وزاد في إكرامه وتجددت بين ابن بقية وبين أبي الفتح بن العميد مودة ومعاهدة.
وفي هذه السنة لقب أبو الحسن علي بن ركن الدولة فخر الدولة ولقب المرزبان بن بختيار إعزاز الدولة ولقب عمران بن شاهين معين الدولة ولقب محمد بن بقية نصير الدولة مضافاً إلى لقبه الأول ولقب أبو الفتح بن العميد ذا الكفايتين وخلع على من حضر من هؤلاء من جهة أمير المؤمنين وأنفذت الخلع إلى من غاب.
وبنى محمد بن بقية أمره على تمكين الوحشة وتوكيد العداوة بين بختيار وبين ابن عمه عضد الدولة وأكثر من التسوّق والتنفق والبذخ والتبجح وأطلق لسانه اطلاق من لا يترك للصلح موضعاً وثارت الفتن بين العامة وزالت السياسة التي أسسها عضد الدولة من قمع العيارين وظفر بن بقية بالمعروف بابن أبي عقيل صاحب الشرطة الذي كان من قبل سبكتكين وكان من أهل السنة وقد قتل طائفة من أهل الشيعة فأمر بقتله فقتل في وسط الكرخ بين العامة فزادت ضراوة العيارين وعاد الفساد وخاف التجار على أنفسهم وأموالهم. وأخذ ابن بقية في خدمة الطائع لله ومناصحته وعقد مصاهرة بينه وبين بختيار .
وتجددت لبختيار نية في الخروج إلى الكوفة على أن الظاهر فيه زيارة المشهد بالغري والباطن التصيد فشخص إليها وصحبه الحسين بن موسى النقيب ومحمد بن عمر العلوي وأقام محمد بن بقية ببغداد وقد كان تنكر لمحمد بن عمر وقبض عليه لينكبه فلم يطلق ذلك بختيار ولم يتركه في يده إلا ساعة من النهار حتى انتزعه منه فلما دخل الكوفة نزل على محمد بن عمر وفي ضيافته فخدمه ولاطفه وجرت بينهما مؤانسات وخلوات واتصل ذلك بمحمد بن بقية وقيل له :« قد سعى بك ووافق بختيار على نكبتك» فاستوحش ابن بقية واستعد للانحدار إلى واسط على سبيل المقاطعة والمخالفة
ص: 420
وساعده على ذلك بعض الجند فشرعت والدة بختيار في إصلاح الحال وكوتب بختيار بالصورة فثنى وجهه مبادراً إلى بغداد وقدم أمامه كتبه ورسائله مع الحسين بن موسى الموسوي بالتلافي وإنكار كل شيء بلغه عنه وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه يميناً على التصافي والتراضي فخرج حينئذ محمد بن بقية متلقياً له عائداً إلى طاعته.
واتصل بمحمد بن بقية وبختيار أن عضد الدولة يريد العود إلى العراق فخرج ابن بقية إلى واسط لجمع المال وإعداد زاد وعتاد واستعمل ضروباً من القبيح في الكلام والهجر ومنع شذاآت كانت هناك من الاجتياز وواطأ عمران على منع إجازتها وغير ذلك من ضروب الجهل وذلك للحين المتاح له والشقاء المصبوب عليه حتى تأدى أمره إلى أقبح صورة في الهلاك بأنواع العذاب والمثلة كما سنذكره في موضعه إن شاء الله .
وتجددت بينه وبين بختيار وحشة أخرى بعد عوده إلى بغداد واقتضت الحال القبض على سهل بن بشر النصراني ضامن الأهواز ونكبته التي تأدت إلى القتل.
ذكر السبب في ذلك
كان ابن بقية لا يثق ببختيار على تصرف كل حال ولا يدع التحرز منه ونصب العيون عليه وأشد ما يكون نفوراً منه إذا حلف ووثق له فاتهمك في استمالة الجند ومتابعة الخلع عليهم والصلات لهم ونصب الموائد وعمل الدعوات وأمر أن يحمل المال إلى خزائنه . ووافق بختيار على شيء يُقيمه له وصار كالحاجر عليه فمتى طالبه بزيادة على ذلك بعث الجند على مطالبته وأحالهم عليه فضاق ذرع بختیار به وخاطب جماعة من حاشيته وشيوخ قواده في تدبير يوقعه عليه حتى يتمكن من نكبته ويستكتب سهل بن بشر وسهل يومئذ في عمله بالأهواز فأخرج إليه جماعة من كبار قواده فيهم الحسن بن أحمد بن بختيار والحسن بن فيلسار وتكيدار الجيلي وجماعة مثلهم وراسله على أيديهم بإيقاع الحيلة عليه. فلما وصل إليه هؤلاء القواد برسائل بختيار وعلاماته تقرر الرأي على أن يفل الجيش عنه الذين ببغداد ويظهر سهل ومن معه بالأهواز الشعب عليه وترك الرضاء به وورد الخبر بذلك إلى بغداد وقد ضعف بختيار عن إمضاء تلك العزيمة وقد استصلح ابن بقية الجند وملك الأمر فأظهر حينئذ ما في نفسه وعاتب بختيار ووبخه وذكره الأيمان التي لا زال يحلفها ثم يعود ناقضاً لها وتغاضب عليه وتثاقل عنه فرق بختيار في يده وأنكر أن يكون ما أجرى إليه الأهوازيون بأمره وعلمه فقال : فأطلق يدي فيهم . فأجابه إلى ذلك وأمضى حكمه عليهم فألزمه أن يقبض على سهل بن بشر ويسلمه إليه وأن ينفي القواد الذين أظهروا ما أظهروه ففعله وأنفذ إبراهيم بن إسماعيل الحاجب إلى الأهواز وأمره أن يحتال على سهل بن بشر حتى يقبض عليه ويبادر به إلى الحضرة فمضى مسرعاً ووصل إلى الأهواز واحتال حتى حضر سهل بن بشر في منزل
ص: 421
أحد القواد فقبض عليه وعرفه فساد جميع الأمر الذي كان خائضاً فيه وحمله للوقت فسلمه إلى ابن بقية. وقد كان الحسن بن فيلسار سبق إلى مدينة السلام فتلافي محمد بن بقية واستصلح نيته وأما الحسن بن أحمد بن بختيار وتكيدار فإنه استدعاهما فلما قربا من بغداد طردا وبقيا عن العسكر فعاد الحسن إلى بلده ولحق تكيدار بعضد الدولة. وجد محمد بن بقية في مطالبة سهل بن بشر بالأموال وبسط عليه المكاره واستخرج منه كل ما أمكنه ثم قتله بالعذاب مع جماعة من الناس سنذكرهم .
وفي أثر القبض على سهل بن بشر قلد بختيار أخاه أبا إسحاق أعمال الأهواز وأنفذه إليها مع طائفة من الجيش وذلك بسفارة محمد بن بقية لأنه كان استعان بأبي إسحاق ووالدته على بختيار فأعاناه وبلغاه ما أحب فقضى حقهما بهذا التقليد.
وقبض ابن بقية على صاحبه أبي نصر السرَّاج وعذبه حتى قتله .
ذكر السبب في ذلك
هجمت على ابن بقية علة من حرارة فقصد منها في اليوم الثاني فما أمسى إلا ذاهب العقل مسجى يخور خوار الثور ولا يسيغ طعاماً ولا شراباً ولايسمع كلاماً ولا يحير جواباً وظهرت في فمه رغوة واختلج وجهه وعلا نفسه ولحقه الفواق الشديد واجتمعت فيه أعراض الموت التي لا رجاء معها. وقد كانت لأبي نصر السراج نعمة فاتسعت في أيامه وعظمت بالدخول في الأمور المنكرة وضروب الشر والسعايات وأعداؤه كثيرون. وكان ابن بقية اصطنع رجلاً يقال له الحسن بن بشر الراعي وكان الأصل نصرانياً من رأس عين فصحب بني حمدان بالموصل فدخل في الإسلام لشيء ظهر منه وخاف فأسلم ثم خاف خوفاً ثانياً فهرب إلى بغداد واتصل بمحمد بن بقية وحظي عنده فقرب منه ورفعه من حال إلى حال حتى قلده واسطاً ثم استدعاه إلى بغداد فقلده خلافته. وتولدت بينه وبين أبي نصر السراج منافسة ومضاغنة فلما وقع اليأس من محمد بن بقية استتر ابن الراعي وبادر أبو نصر بن السراج إلى بختيار فضمن له من جهة أسباب بن بقية أموالاً عظيمة وكتب أسماء أقاربه وأصحابه وكتابه وسائر أسبابه فركب بختيار إلى ابن بقية حتى شاهده في علته .
إن بختيار أدركته رقّة شديدة له مع اجتهاده كان في هلاكه وتبرمه به لاستبداده بالأموال والعساكر فأشار عليه ابن السرَّاج بالقبض على الجماعة قبل أن يستتروا فتوقف ذلك وألح عليه إلحاحاً شديداً فلم ينفعه عن ذلك وأحس عيال ابن بقية وأسبابه بما فعله
ص: 422
ابن السراج فحذروا منه ثم تماسك محمد بن بقية في اليوم الرابع من علته بعد أن تردد إليه بختيار دفعتين في كل يوم في مدة الحذر عليه وسكنت أطرافه ورجى رجاء ضعيفاً وتزايد ذلك الرجاء إلى أن أفاق وهو ساكت ومضت أيام يسيرة فنهض وتراجع إلى عاداته . وظهر ابن الراعي صاحبه واجتمع أسبابه المتحققون به فصدقوه عن فعل ابن السراج وضمنه ابن الراعي منه بمائة ألف دينار فقبض عليه فصح من أمواله وودائعه وأثمان غلاته والمأخوذ من أسبابه أكثر مما ضمنه ابن الراعي ثم بسطت عليه المكاره وأصناف العذاب وحبس في صندوق ومنع الطعام حتى مات أقبح ميتة .
وفي هذه السنة اضطربت كرمان على عضد الدولة.
ذكر السبب في ذلك
كان في أعمال كرمان خلق من الرجالة الجرومية لهم بأس شديد وهم متمسكون بالطاعة وأحد وجوههم رجل يقال له طاهر بن الصمة وكان واسع الحال والمعاملة فدخل في ضمانات ضمنها وثمار ابتاعها فحصلت عليه أموال طمع فيها وشره إلى كسرها. وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق للإيقاع بالأتراك وخرج وزيره أبو القاسم المطهر بن عبد الله إلى عمان فلم يبق بفارس من العساكر إلا شيء يسير فخلع طاهر بن الصمة الطاعة وجمع إلى نفسه هؤلاء الرجالة بالأسلحة التامة واستكثر من عددهم. واتفق إن كان في نواحي خراسان أمير وجيه من أمراء الأتراك السامانية يقال له يوزتمّر عظيم المنظر جبار البنية معروف بالبأس والشدة وقد استوحش من محمد بن إبراهيم بن سمجور صاحب جيش خراسان ونفر منه فكاتبه طاهر بن الصمة وأطمعه في أعمال كرمان فسار إليه وصارا يداً واحدة في الاستيلاء إلا أن الإمارة ليوزتمر. فبعد مدة شعب الرجال الجرومية فاتهم طاهر أنه بعثهم على الهيج ففسدت الحال بينهما وزاد الفساد حتى اقتتلا قتالاً شديداً فظفر به يوزتمر وأخذه أسيراً وقتل خلقاً من رجاله .
واتصل ذلك ببعض أولاد الياس وهو الحسين بن محمد بن إلياس وهو في بعض أعمال خراسان وطمع في الاستيلاء على كرمان وجمع جمعاً وصار إليها وانضم هؤلاء الرجال الجرومية إليه وأمثالهم من كل ضرب من الدعار. وقد كان المطهر الرجال الجرومية إليهو أمثالهم من كل ضرب من الدعار. وقد كان المطهر بلغ من إصلاح عمان ما أراد وفتح جبالها وأوقع بالشراة وانكفاً راجعاً إلى أرجان عاملاً على المسير إلى حضرة عضد الدولة بالعراق فورد عليه الأمر بالمسير إلى كرمان ليتلافى تلك الحادثة فعاد إلى شيراز وبرز عنها لتسع ليال بقين من رجب سنة 64 وسار لطيَّته مسير السرايا لا يلوي ولا ينثني فأوقع بكل من وجد في طريقه من أهل التهمة وقتل وصلب وسمل العيون ومثل بكلّ مثلة وبالغ في القسوة إقامة للهيبة وأسرع المسير حتى انقض على يوزتمر فلم يعرف
ص: 423
خبره إلا مع وصوله فبرز إليه وواقعه فانهزم إلى البلدة وهو بيتم وتحصن في قلعة وسطها حصينة فحاصره فيها مطهر إلى أن أعطى بيده واستأمن وأحضر معه طاهر بن الصمة أسيراً فتسلمه المطهر ثم أمر به فشهر ونودي عليه ثم ضرب عنقه وأعناق جماعة يجرون مجراه وأنفذ يوزتمر إلى بعض القلاع فاعتقله بها وكان آخر العهد به .
ثم خرج المطهر في طلب الحسين بن محمد بن إلياس وكان قد جمع عشرة آلاف رجل في أسلحة تامة مستعدين للقتال فلما أشرف عليهم استكثر عدتهم وهاله أمرهم ولم يجد من الحرب بداً فناصبهم الحرب على باب جيرفت فحملوا عليه حملة ثبت لها ثم حملت ميمنته فأثرت فيهم وألجأتهم إلى سور المدينة واختل نظامهم فأكب العسكر عليهم بالنشاب ولم يجدوا مهرباً فقتلوا بأسرهم وهرب الحسين وطُلب فجيء به أسيراً ولم يعرف خبره بعد ذلك وتطهرت كرمان منه .
قد ذكرنا مرض ركن الدولة وسبب ذلك وحكينا انصراف عضد الدولة من بغداد على الحال التي وصفناها واستيحاشه من أبيه لما كان منه في مكاشفته ونصرة بني أخيه ورأى تجاسر الأعداء عليه واختلال هيبته في صدور أوليائه ولم يأمن أن يموت ركن الدولة على تلك الحال فينتشر ملكه ولا يجتمع له ما يحب فراسل أبا الفتح بن العميد وكان قطع مكاتبة أبيه استيحاشاً منه وتجنياً عليه وسأله أن يتوسط بينه وبين أبيه حتى يعود له كما كان وتلطف مع ذلك في أن يجتمعا ويعهد إليه ويشهر ذلك في ممالكه وبين وجوه الديلم والجند. وكان أبو الفتح بن العميد متمكناً من ركن الدولة ومن الجند أيضاً فكان يحب أن يتلافى قلب عضد الدولة لما كان منه إليه وهو مع ذلك لا يأمنه ويخشى بادرته ومكايده فخاطب ركن الدولة وأعلمه ما يخشى من اضطراب الحبل وفساد ما بين أهل بيته باستيحاش عضد الدولة وحذره من ترك هذه الصورة حتى تستمر وتتمكن من النيات والقلوب ولم يزل به حتى رق ولان وعرف صلاح حال أولاده وممالكه وممالك بني أخيه فيما دعاه إليه ثم أشار عليه بأن يأذن له في الورود عليه حتى يجتمع معه ويراه فقد كان فارقه صبياً ويشاهده الجند بحضرته ويزول ما خامر قلبه وقلوب الناس من اعتراض الوحشة ويجعله ولي عهده إذ كان أكبر أولاده وأنجبهم وأوسعهم مملكة وأكثرهم مالاً وعدة ورجالاً . فأجابه ركن الدولة بأن هذا رأي صواب ولكن ليس في خزائنه ما يتسع العضد الدولة ومن يرد معه من الخيل والقواد والغلمان وإن لم يلاطف الجماعة بإقامة الأنزال واتخاذ الدعوات وإفاضة الخلع والحملانات والهدايا على الجماعة افتضح وتهجن فقال له أبو الفتح : فتسير أنت إليه لتجدد النظر في تلك الممالك التي طال عهدك بها وتشاهد أولئك العسكر الذين رتبتهم قديماً وحديثاً فيها ويلتزم عضد الدولة لك ولجندك
ص: 424
وجميع حاشيتك ما أشفقت من التزامه لهم وتقيم السياسة التي لا بد لك من إقامتها بين أولادك وممالكك فقال له: هذا يقبح في الأحدوثة وعند ملوك الأطراف وفيمن يأتي بعدنا من الأمم أن يتحدث الناس أن فلاناً أوحش ابنه في أمر رأى إيحاشه به وتأديبه فيه ثم قصده يترضاه. فكوتب عضد الدولة بجميع هذه الفصول فكتب : إن ههنا خلة أخرى يسلم فيها من جميع هذه الأشياء التي ينكرها وهو أن يقصد أصبهان فإنها من أعماله وأنهض أنا من فارس فأقصده لخدمته وعيادته من مرضه ويلزمني حينئذ تفقد أسبابه وحاشيته ولا يلزمه لي ولا لأحد ممن يصحبني شيء ولا يتحدث بأنه قصدني أو زارني.
فتقرر الرأي على ذلك وتشمر أبو الفتح بن العميد له حتى تمت العزيمة ونهض ركن الدولة مع ضعفه ومرضه وحضر أصبهان واستدعى الأمير فخر الدولة وهو ابنه عليّ وكان مؤيد الدولة في ولايته مقيماً بأصبهان وهو ابنه بويه وحضر عضد الدولة وخرج ركن الدولة في تلقبه فلما قرب من البلد وقف على نشز من الأرض حتى ترجل له عضد الدولة ابنه وقبل الأرض مرات ثم تقدم إليه فقبل يده ثم تتابع القواد والأمراء وكبار الحاشية بتقبيل الأرض والخضوع له . فرأى لنفسه منظراً يسر مثله الآباء في أولادهم ثم سار حتى نزل ونزل كل واحد حيث رسم له ونزل عضد الدولة له ونزل عضد الدولة معه في دار الإمارة في الأبنية التي كان استحدثها مؤيد الدولة. ثم دعا أبو الفتح بن العميد دعوة جمع فيها ركن الدولة وجميع أولاده ووجوه الأمراء والقواد والحاشية وخاطبهم ركن الدولة بأن عضد الدولة وليّ عهده وخليفته على ممالكه وأن مؤيد الدولة وفخر الدولة خلفاؤه في الأعمال التي رتبهم فيها . ولزمت أبا الفتح مؤونة عظيمة وحمل إلى كل واحد من ركن الدولة والأمراء من أولاده وقواده وحاشيته ما يليق به وكان في جملة ما خلع على الخواص من الديلم ومن يجري مجراهم ألف قباء وألف كساء .
وانصرف القوم وقد تقررت الرئاسة من بين أولاد ركن الدولة على عضد الدولة واعترف له مؤيد الدولة وفخر الدولة به وخدماه بالريحان على الرسم المعروف لهم وخدمه بعدهما كل أمير وقائد ممن حضر وكتب بذلك عهد قرئ وكتب فيه القوم خطوطهم.
وكان بختيار سيئ الظن شديد الحذر مما تقدم له ولجنده من مكاشفة عضد الدولة فهو يحب أن يصلح أمره معه فتتابع كتبه إلى ركن الدولة ويسأله أن يعصمه من الحال التي خافها وأنفذ إليه عيسى بن الفضل صاحب دواته ووافق ذلك هذا الوقت الذي كنا في ذكره من اجتماع الجماعة بأصبهان فتكلم ركن الدولة في ذلك وأظهر عضد الدولة في الحال الإغضاء عنه وشرط عليه أن يقلع عما يوحشه من بعد ولا يعاود شيئاً مما ذمه منه فعلاً وقولاً وكان بختيار سكن قليلاً إلى ذلك إلا أن محمد بن بقية مقيم على خوفه وحذره ويحمل بختيار على مكاتبه سهلان بن مسافر وكان وجه عسكر فخر الدولة
ص: 425
وحسنويه بن الحسين اليرزيكاني وكان مجاوراً لأعماله ومصاهراً له وبحمله أيضاً على استمالة فخر الدولة حتى يدخل في منابذة أخيه عضد الدولة فترددت الرسل بينهم فتأكدت العهود بينهم واستعدوا جميعاً للمعاونة واتفقوا على التعاضد والتوازر إن نابت أحداً منهم نائبة . وحضر كتاب لهم وجرت موافقة في أمور مشهورة ظهر منها تقليد كل واحد من فخر الدولة وسهلان بن مسافر ما في أيديهما من الأعمال رئاسة من قبل السلطان وكتب لهما العهد ولقب سهلان عصمة الدولة وكنّى وأنفذت الخلع إلى الجهتين ووعد حسنويه بمثل ذلك إذا سار فلما وردت عليهم هذه الخلع أحجموا عن لبسها وتوقفوا عن إظهار المنابذة لعضد الدولة فمكثت الخلع مع الرسل مطرحاً لا يلبس ولايتلقب سهلان ولا يتكنى وجرى الأمر على غاية الأخلوقة والفضيحة .
وواصل بختيار وابن بقية عدة الدولة أبا تغلب بن حمدان ومعين الدولة عمران بن شاهين وقطعت الخطبة ببغداد وجميع منابر العراق عن اسم عضد الدولة وزعم بختيار أن الرئاسة له بعد ركن الدولة وشرع ابن بقية في تلقيب ثان مضاف إلى لقبه الأول وأن ينشأ كتاب عن الخليفة بالزيادة في المقاطعة والمكاشفة وأشيع ذلك على المنابر وأطلق للناس الكلام القبيح وعظم بختيار وأنزل منزل ركن الدولة بالعراق والممالك المجاورة له وزعم أنه يلتمس تلك المنزلة من عضد الدولة ومن دونه وتلاه ابن بقية في هذه المراتب ووجد من جهال الجند مساعدة له ورغبة في حطام يتناولونه منه ويأكلون عده وإسراراً للبراءة منه وإسلامه. وكان يظن أنه إن بلغ ما يحب بالتدبير الذي دبره فقد فاز وإن انعكس عليه كان بختيار الهالك وهو الناجي فيظن ظناً خطأ لأن من سلك مسلكه لم ينج ولم يخل من ورطة يقع فيها تكون سبب هلاكه .
وفي هذه السنة تحرك عضد الدولة نحو العراق ورحل من فارس فجد محمد بن بقية وبختيار في مكاتبة الجماعة المذكورة. وكان حسنويه بن الحسين الكردي خاصة يغرّ بختيار من نفسه ويطمعه في أنه سائر إليه لمعاونته بنفسه وأهل بيته ومن يطيعه من الأكراد وكان يحب أن يشتت الألفة ويفرق الكلمة لأن نظام أمره كان في انتشار أمر هؤلاء الملوك .
وكان بروز بختيار وابن بقية يوم الاثنين لليلة بقيت من جمادى الأولى يريدان الزيارة والتصيد ثم الانقلاب إلى واسط قاصدين الأهواز على نية المحاربة فانتهيا إلى واسط في انسلاخ جمادى الآخرة ووقعت بينهما وبين عمران بن شاهين مصاهرات وتزوج بختيار بابنة عمران بن شاهين وتزوج الحسن بن عمران بابنة بختيار .
وفي هذا الوقت أهلك ابن الراعي بأمر ابن بقية خلقاً خلقاً ممن كان يتهمهم فيهم
ص: 426
المعروف بابن عروة وهو ابن أخت أبي قرة وكان من وجوه العمال وفيهم علي بن محمد الزطّي وكان إليه شرطة بغداد ومنهم المعروف بابن العروقي وكان أيضاً إليه الشرطة بواسط وجماعة يجرون مجراهم وهم بقتل صاعد بن ثابت وكان قبض عليه ونكبه ولكنه سلم من القتل .
وراسل بختيار من واسط الطائع لله وراسله ابن بقية يسألانه الانحدار إليهما والمسير معهما فامتنع من ذلك وترددت المكاتبات في ذلك إلى أن قرر عنده أنه إنما يسأل تجشم العناء للصلح والإلفة فحينئذ انحدر إلى واسط وسارت الجماعة عنها إلى الأهواز . والمكاتبات تتردد في خلال ذلك بين القوم وبين حسنويه بن الحسين وهو يعد بالمسير . فبينما هم كذلك إذ ورد خبر عضد الدولة في نزوله أرجان في جميع عساكره فاضطربت القلوب وكتب عن الخليفة كتاب في معنى الدعاء إلى السلم والكف عن الحرب وأنفذ الكتاب مع خادم من خدم بختيار على أنه من خدم الخليفة وكان الطمع في الصلح في هذا الوقت محالاً، فاستقرَّ الرأي بعد مناظرات بين بختيار وأصحابه على أن تكون الوقعة بالأهواز والتحصن بالنهر المعروف بسوراب والقتال من ورائه فبرزوا وضربوا مضاربهم على شاطئ سوراب ونفذ أبو إسحاق بن معز الدولة في طائفة من الجيش إلى عسكر مكرم لضبطها وحفظت المعابر على المسرقان وجردت العساكر من الأعراب والأكراد وغيرهم إلى رامهرمز وذلك أن المقيم كان بها والضامن لها وهو الحسن بن يوسف استأمن إلى عضد الدولة. ولما رأى الطائع لله أن الحال أفضت إلى الحرب امتنع من المقام وبرز متوجهاً إلى بغداد فاجتهد بختيار وابن بقية الجهد كله في أن يقيم فأبى ذلك وسار إلى دجلة البصرة وأصعد فيها إلى مدينة السلام مجتازاً في أعمال البطيحة .
ثم ورد خبر نزول عضد الدولة رامهرمز وهزيمة ذلك العسكر الذي نفذ إليها فزاد قلوب القوم ضعفاً وانتقض عليهم رأيهم في لزوم شاطئ نهر سوراب فرجعوا منهزمين إلى أفنية سوق الأهواز وقطعوا قنطرة اربق وكوتب إبراهيم بن معز الدولة بالعود من عسكر مكرم فعاد واجتمع جيشهم واتصل ببختيار أن سلار بن باعبد الله سُرخ هو مع جماعة من وجوه قواده وجماعة أخرى عاملون على أن يستأمنوا ويفضوا عسكره وأشير عليه بالقبض عليهم وتقييدهم وحملهم إلى واسط فضعفت نفسه عن ذلك وخشي اضطراب باقي عسكره وضعف عن المحاربة بالأهواز وعمل على أن يرجع إلى واسط موفوراً فيجعل الحرب فيها فمنعه ابن بقية وجميع القواد عليه وألزموه المقام. وطالبه العسكر بالمال فظهرت خلته وفاقته وابتدأ ابن بقية بمصادرة أهل البلد وكسر بختيار أواني الذهب والفضة من الحلي والمراكب وضربت عيناً وورقاً فضعفت آمال جنده. وعقد على دجيل جسراً ضيقاً ضعيفاً في أسفل البلد وعلى طريق لا يصلح للعساكر عدة للهرب .
ص: 427
ووردت أخبار عضد الدولة باستظهار شديد ومال كثير وكراع وسلاح وجمال موفرة بالأزواد والآلات وعدة فيول مقاتلة وكان على ثقة من استئمان جماعة من البختيارية إليه منهم سلار سرخ الذي ذكرناه وذلك أن كتبه وصلاته كانت متصلة إليهم. وقدم عضد الدولة إقامة أبا الوفاء طاهر بن محمد بن إبراهيم وضم إليه جماعة فيهم المعروف بالكاروي الأهوازي مع جيش من رجاله القفص وغيرهم فوردوا الباسيان وجمعوا السفن وصاروا بها إلى الناحية المعروفة ... فعقدوا جسراً وورد عضد الدولة فعبر عليه وجميع عساكره والأخبار ترد مع ذلك على بختيار وابن بقية فلا يكون فيهما فضل للممانعة عن العبور ويثبتان ثبات التحيين وذلك أن من عجز عن رد بعض العساكر عن العبور والزحف في المواضع التي يمكن فيها الممانعة كيف يثبت لجميع العساكر في الفضاء !
وتمسك عضد الدولة بالماء فنزل على شاطئ النهر لأن الوقت كان مدخل تموز فنزل من القوم على نحو الفرسخ وبكر يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة 366 على تعبية ونظام وعدة واستظهار واحتياط وصافه بختيار مصافة مضطربة وجعل الفرسان أمام الرجالة (وهذا شيء ما فعله أحد قط ولا تجهله عوام الناس حتى لعاب الشطرنج) فاستأمن سلار سرخ والحسن بن خرامذ ونيباك بن شبرك وهو من أشد الديلم وشجعانهم وعدد كثير من الخواص وكان دبيس بن عفيف رئيس بادية بني أسد في ميسرة بختيار فاستأمن وانهزم جيش بختيار وتبعتهم الأعراب والأكراد بالنهب والسلب والقتل والأسر واستأمن تحت السيف خلق وانهزم الفلّ يطلبون الجسر الذي وصفناه فغرق أكثرهم بالمضايقة والمزاحمة. وأفلت بختيار وأخوه أبو إسحاق ووزيره ابن بقية وعبروا دجيلاً واختلفت بهم المذاهب فلم يعرف بعضهم خبر بعض حتى التقوا بمطارا وكان بختيار ألقى سلاحه عن نفسه وتلثم وفيه عدة طعنات بالزوبينات فأما أخوه وابن بقية وجماعة من كبار قواده فإنهم وردوا الحويزة نصف الليل في نحو خمسمائة رجل وباتوا فلحق بهم تمام الألف على صورة قبيحة من الاختلال ولما أمسوا ساروا نحو نهر الأمير ومن هناك إلى مطارا واجتمعوا مع بختيار. وقد كان ابن بقية عبر بصاحبه ابن الراعي مع خزانته وخزانة بختيار وعُدة كانت معه إلى المأمونية التي بإزاء سوق الأهواز وعول في حفظه على بعض بني أسد فنهب جميعه .
فأنفذ عمران بن شاهين ابنه الحسن وكاتبه وقواده في عدة زواريق وآلات إلى بختيار وحمل إليه وإلى ابن بقية مالاً وثياباً وحمل المرزبان بن بختيار إلى أبيه من الأبلة وقد كان برز إليها مالاً وثياباً وصارت الجماعة إلى الأبلة في الماء بعد أن تأثثوا وتزودوا إلى واسط وصادف بختيار وابن بقية البصرة مفتتنة بالحروب بين ربيعة ومضر فإن مضر كانت داخلة في طاعة عضد الدولة بتدبيرات دبرها وأصول قدمها وأما ربيعة فأقامت على
ص: 428
طاعة بختيار ولا لرغبة فيها ولكن مضاغنة لخصومهم من مضر فاتصلت الفتن ودامت الثورة وأحرقت المحال وانتهبت البضائع ودخل ابن بقية إلى البصرة لتسكين هذه الفتنة فزادها اشتعالاً وفساداً وأحرق بعض خطط المضريين وانصرف والشر باق. وأشفقت الجماعة من أن يسير عضد الدولة إلى واسط فيحصل بها فيفوتهم الهرب إن أرادوا فأصعدوا في الماء واخترقوا البطائح فتلقاهم عمران بن شاهين في عسكره وآلاته وقبل يد بختيار وتطاول بختيار له وعطف به إلى دار ابنه الأكبر وهو أبو محمد الحسن فأنزله فيها للوصلة بينهما ولأنها كانت أحسن دار بالبطيحة وأنزل محمد بن بقية عليه فأقاموا أضيافاً ثلاثة أيام فعجب الناس من موافقة ذلك ما كان عمران سبق إليه بالحكم كما حكيناه فيما تقدم. ثم رحلوا ورحل الحسن بن عمران معهم إلى واسط .
وفي هذه الحال هرب المرزبان بن بختيار من البصرة إلى واسط لاحقاً بأبيه في الشذاءات والزبازب والسفن بكليته وحرمه وأسبابه .
ذكر السبب في ذلك
ظهرت مضر على ربيعة وضعفت نفوس ربيعة بهزيمة بختيار وانخزل المرزبان وخاف أن يؤخذ فبادر إلى واسط موفوراً وحينئذ كتب وجوه البصريين إلى عضد الدولة بإنفاذ من يتسلم البصرة فأنفذ أبا الوفاء طاهر بن محمد فدخلها.
ولما حصل بختیار بواسط تنكر لابن بقية وذم مشورته وندم على قبوله منه وقال : قد كنت عملت على الانصراف عن الأهواز قبل الحرب بجيش كثيف وأمر مستقيم وعسكر وآلة وسلاح فإن تمكنت من المقام بواسط أو ببغداد ولحقتني المعونات التي انتظرها من سائر الجهات وإلا كان أقل ما في يدي أن أنصرف عن هذه البلاد بعسكر لم يثلم ولم ينكب فلم يتعذر على أن أغلب على غيرها فأبيت إلا إخراجي من جميع نعمتي ومملكتي وإفساد ما بيني وبين أجل أهلي. فثبت ابن بقية وقال : قد ينال الملوك مثل ما نالك وأعظم منه فيتماسكون وعليّ أن أصلح أمورك وأبذر نفسي دونك ومساعدة الجند على ذلك. وتراجع إلى بختيار كثير من الديلم والأتراك واستدعى كراعاً كان له ببغداد واستجد سلاحاً وخيماً وخركاهات وصار إليه من كان بالبصرة وبغداد من الجند وأحوالهم جامة فصار في عسكر قوي. وورد عليه كتب حسنويه بن الحسين الكردي يغره غروراً ثانياً ويعتذر إليه في التأخر عنه ويعده بأن ينفذ إليه أولاده واحداً بعد آخر ثم يصير إليه بنفسه في جميع رجاله وعادت المكاتبة بينه وبين فخر الدولة علي بن ركن الدولة وأبي تغلب بن حمدان ورجع ابن بقية إلى ذخيرة كانت له بواسط فتأثث منها وجرى على عادته في استمالة الجند وبذل الخلع حتى مالوا إليه وآثروا على بختيار .
ص: 429
من عجائب ما اتفق على بختيار في تلك الحال أنه كان أسر له في الوقعة بالأهواز غلام تركي يعرف ببايتكين لم يكن من قبل يميل إليه ولا تظهر منه محبة له فجن عليه جنوناً وتسلّى عن كل شيء خرج عن يده إلا عنه وحدث له من الحزن عليه ما لم يسمع بمثله فامتنع من الطعام والشراب والقرار والسكون وانقطع إلى النحيب والشهيق والعويل واحتجب عن الناس إخلاداً إلى البكاء وتضجر بالجيش وتبرّم بحضورهم واطرح التدبير وزعم أن فجيعته بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والانسلاخ منها ومن النعمة ثم إذا كان وصل إليه وزيره وكتابه وقواده وخواصه في المهم قطعهم عن ذلك بالشكوى بما حل به والبوح بما في نفسه ونقصت أوقاته ومجالسه بهذا الخطب الجليل عنده دون ما سواه وامتنع من الجلوس في الدست ومن استعمال التمهد بالمخاد وما أشبه ذلك فخف ميزانه عند الناس وسقط من عيونهم فلم يبال بذلك. وصار القواد يجتمعون إلى ابن بقية ويقولون : دبر أنت أمورنا فإنّا معك ومطيعوك فاستهان به ابن بقية واستعجزه وجاهر بذلك بعد أن كان يستره وعدل إلى الأخذ بالحزم لنفسه وأما بختيار فإنه أسقط التجمل في أمر هذا الغلام عند كل أحد حتى كتب إلى عضد الدولة والحرب قائمة بينهما وهو يطلب ملكه ونفسه يسأله رد هذا الغلام عليه وكتب إلى جماعة خواصه المطيفين به وبخدمته يسألهم معاونته فيما رغب فيه إليه فاستزاد بذلك فضيحةً في العساكر والأمصار وعاتبه الأقارب والأباعد . فما ارعوى بل تمادى وأنفذ أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي رسولاً إليه في هذا الباب وبذل له على يده في فدية الغلام جاريتين عوادتين محسنتين كانتا عنده ولم يكن لهما نظير في الحذق والبراعة وقد كان أبو تغلب بن حمدان بذل بإحديهما مائة ألف درهم فأبى أن يبيعها وقال له : إن وقف عليه الأمر في هذا الفداء فزد أبداً ولا تفكر في شيء مما بيني وبينه فقد رضيت أن آخذه وأمضي إلى أقصى الأرض وأسلم إليه ما في يدي. فشخص وأدى الرسالة وقد وجد ذلك الغلام قد اختلط مع غيره من رفقائه المأسورين يوم الوقعة ولم ير له فضل ولا ميز من بينهم وأنفذوا إلى شيرزاد هدية للأمير أبي الفوارس بن عضد الدولة. فلما أديت الرسالة وعرف الملك ما عند بختيار من الفجيعة به عجب كل العجب وأمر برد الغلام إلى حضرته فرُدَّ ثم أعاد أبا أحمد الموسوي بجواب الرسالة وضم إليه أبا سعد بهرام بن أردشير الكاتب رسولاً وأعلمه أنه مجيب له إلى ما سأل وأرشده مع ذلك إلى بعثه على الطاعة وحمله رسائل أخر أمرهما أن يؤديها إلى بختيار سراً عن ابن بقية وعلى غير مشهد منه ولا من أحد . فلما وردا امتثلا الأمر وطويا عنه ما حضرا فيه وأدياه إلى بختيار
ص: 430
وحده على انفراد به فاستوحش ابن بقية استيحاشاً شديداً واتهم أنه التمس القبض عليه وتسليمه إليه عوضاً عن الغلام وأن بختيار يفعل ذلك لشغفه به فهم بالقبض على الرسولين جميعاً ومكاشفة بختيار وأن يظهر العصيان. وكان نازلاً من واسط في الجانب الغربي ومعه المال والسلاح والثياب والآمال متعلقة به وبختيار في الجانب الشرقي خال من ذلك كله وإنما كان ابن بقية يجري عليه قوته ويعوله كما يعال من لا أمر له وعمل على أن يراسله باعتزال التدبير وأن يصعد إلى بغداد ويخلي بينه وبين الحرب فإن فعل وإلا جاهره وطرده وكان ذلك ممكناً منه لو أمضاه فعدل بختيار إلى تلافيه والرفق به وأظهره على الرسالة المطوية عنه وسكنت نفسه وطيب قلبه وأراه أنه راجع إلى رأيه ومتدبر بتدبيره وغير خارج عن إرادته إلى أن تم له القبض عليه .
كان إبراهيم بن إسماعيل صاحب بختيار تمكن منه ووثق به صاحبه وكان نقيباً خاملاً فتقدم عنده إلى أن استحجبه وذلك بعد رحيل عضد الدولة إلى فارس. ولما اطلع على الحال التي عليها ابن بقية من التنكر أعلم بختيار أنه على خطر من وثبة يثبها عليه إشفاقاً على نفسه وانتهازاً لفرصته مع تمكنه من الجند والمال فقال له بختيار : إني أخاف شغب الجند وأن يستنقذوه من يدي ويطالبوني بالأموال فتضمن له ألا يجري شيء من ذلك وإن جرى كان عليه أن يسكنهم ويرضيهم بما يوجد من أموال ابن بقية وأسبابه وأطمعه في كثرتها وفي أن تسفر الحال في القبض عليه فيما بينه وبين عضد الدولة ويصير ذاك طريقاً إلى انعطافه وصلاح رأيه وأشار عليه ألا يستوزر وزيراً بعده وأن يقر الكتاب على أعمالهم ودواوينهم ويخرج أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني من محبسه فيرد إليه استخراج الأموال والاستيفاء على العمال من غير وزارة. فقبل بختيار مشورته واطلع بختکین آزاذرويه عليها فاستصوبها وكان في ضنك شديد حتى أنه احتاج إلى الثلج فالتمس من ابن بقية ثلجاً فحمل إليه ثلاثين رطلاً ووجد في خزانة شرابه يوم القبض عليه ستة آلاف رطل كان أعدها لسماط يتخذه للجند.
فلما كان وقت العصر من ذي الحجة سنة 366 عبر ابن بقية في زبزبه إلى بختيار فوجه في الوقت جماعة قبضوا على الحسن بن بشر المعروف بابن الراعي صاحبه فحين حصل في أيديهم أمر بالقبض على ابن بقية من غير أن يصل إليه وقبض على جميع ما وجد له من مال وكراع واستخلص أبا العلاء صاعد بن ثابت من محبسه وكان أمر ابن الراعي بقتله في الليلة المقبلة فكفاه الأجل والمقدار . ووُجد في حبس ابن بقية صاحبه المعروف بالكراعي وكان صادره ولم يبق فيه بقية فأطلقه بختيار وسلم إليه ابن الراعي ليطالبه ثم أخذه من يده فاستوحش الكراعي وهرب إلى البطيحة . فتحرك الجند بعد أيام
ص: 431
يسيرة من القبض على ابن بقية وطالبوا بأموالهم وعرَّضوا بذكره والتأسف عليه فهم بختيار بقتله في الوقت فلما تفرق الجند عنه أنفذه في الليل مقيداً إلى بغداد موكلاً به وأخرج معه أبا العلاء صاعد بن ثابت ليطالبه ولم يكن الاحتياط وقع على أقاربه لأن بختيار عاجله كما حكيت ثم كتب على الأطيار إلى مدينة السلام بتحصيلهم فسبق أحد الأطيار وحمله صاحب البرج إلى أسباب ابن بقية على الرسم في خدمة الناس لهم فوقفوا عليه وأنذر بعضهم بعضاً فهرب من هرب واستتر من استتر فالتجأ أخوه وابن أخيه المعروف بأبي الحمراء مع جماعة منهم إلى بني شيبان ثم إلى بني عقيل وأقاموا في البادية .
كان قبضه على ابن بقية قبل ردّه أبا أحمد النقيب وبهرام بن أردشير الرسولين إلى عضد الدولة فشهدا ذلك عياناً ثم أنفذهما وأنفذ الجاريتين ليفتدي بهما غلامه بايتكين ووافق أبا أحمد العلوي على أن يبذل جميع ملكه إن دعته إلى ذلك حاجة. فجرت خطوب استقرت على أن تسلم الجاريتان ويسلم الغلام وتواترت البشائر بحصول الغلام بالبصرة فأظهر بختيار السرور العظيم بذلك وأنه جرى عنده مجرى الظفر بجميع خيرات الدنيا والآخرة واستشعر أن نعمته قد عادت إليه وهم بالعود إلى بغداد على ما شرط عليه عضد الدولة. وجاء إبراهيم بن إسماعيل حاجبه وأشرف عليه في اللوم والتقريع وأشار عليه أن يقيم بواسط للمقارعة والمدافعة وجاءه عبد الرزاق بن حسنويه ثم أخوه أبو النجم بدر بن حسنويه في نحو ألف فارس ووردت كتب حسنويه بأنه سائر على أثرهما فأظهر المقام بواسط على مباينة عضد الدولة. فاتصل ذلك به وأنه نقض الشرط فبادر سله إلى أبي أحمد النقيب العلوي يرسم له أن يتوقف بالبصرة مع الغلام إلى أن يرحل بختيار عن واسط ويتمسك بالشرائط التي شرطت عليه فوردت كتب العلوي بذلك فاضطرب واجتهد وكاتب وراسل فلما لم ينفعه شيء من ذلك أمر بتقديم سواده وعمل على الإصعاد ليلاً وأعلم عبد الرزاق وأبا النجم أنه قد رأى أن تكون الحرب ببغداد لأن أبا تغلب بن حمدان صائر إليه لمعاونته وسألهما الإصعاد معه ففعلا ذلك على استضعاف الرأي فيه وقد كانا اطلعا على حديث هذا الغلام فكتبا إلى أبيهما حسنويه يصدقانه عن الصورة فلما حصل عبد الرزاق بجرجرايا رحل منصرفاً وتوقف أبو النجم بدر على سبيل التذمّم والحياء وتلوَّم بختيار في طريقه حتى لحقه أبو أحمد العلوي وبهرام بن أردشير ومعهما بايتكين فسلماه إليه فتمم المسير إلى بغداد.
وقد كان ابن بقية والمعروف بابن الراعي أظهرا التبلح في المطالبة بعد مكاره عظيمة لحقتهما والتمس ابن بقية كتب الأمانات لأهله الهاربين فكتبت وحضروا وتجدد لابن بقية طمع في أن يخطب الوزارة ويبذل لبختيار ثلاثمائة ألف دينار يصححها من
ص: 432
جهات كتابه وأسبابه وذويه ومن البقايا في النواحي وأن يردّ إلى مرتبته ليقوم بأمر الحرب ويدبر العسكر فبلغ ذلك أصحاب بختيار والقواد الذين أشاروا بالقبض عليه فاضطربوا واجتمعوا إلى بختيار وأعلموه أنه إنما يحتال بما يبذله للخلاص وأن يتمكن من الانسلال ثم يثير الفتن التي لا تتلافى .
وفي هذه السنة قبض على أبي الفتح بن العميد بالري.
كان بهرام رسول عضد الدولة يخاطب بختيار في تسليم ابن بقية إليه ليحمله إلى عضد الدولة ويعوضه عنه مالاً من خزانته واتصل ذلك بهؤلاء القوم أعني القواد فحضروا عند بختيار وأقاموا في نفسه أنه إن سلمه إليه صحيحاً لم يؤمن أن يصطنعه ويبقى عليه فيكون قد حصل له بحضرته عدو من قبله وكثر المشيرون بقتله والراحة منه فتقرر الرأي على سمله وتسليمه مسمولاً . فسمل ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة 67 وجد أبو إسحاق بن معز الدولة في إلحاق صاحبه المعروف بابن الراعي به لشيء كان في نفسه عليه ولم يكن له شافع لما كان ارتكبه من مكاره الناس فسمل أيضاً .
وترجح الرأي ببختيار بين الدخول في طاعة عضد الدولة وبين المقام على معصيته ومحاربته وكان الرسولان مع جماعة من نصحائه يشيرون عليه بطريق السلامة ويعرفونه عجزه عن مقاومته وقلة عدته من المال والرجال وكان جماعة أخرى من قواده وخواصه فيهم الحسن بن فيلسار يشيرون عليه بالثبات والمقارعة ثم تقرر الأمر واختار السلامة والطاعة من طريق الضرورة فدخل في الطاعة وحلف عليها وأعطى صفقة يمينه بها ولبس خلع عضد الدولة وعبر إلى الجانب الغربي على أن يسير إلى الشام ويثبت على أعلامه وراياته اسم عضد الدولة ويقيم الخطبة له في أي بلد دخله ولما فعل ذلك انصرف عنه بدر بن حسنويه آيساً منه ولحق بأبيه . وبذل له عضد الدولة مالاً جليلاً على أن يقيم في كنفه ويلقاه ثم يسير إلى حيث يختار فلم يفعل ذلك ولم يسكن إليه فاشترط عليه شروطاً كثيرة كان فيها ألا ينابذ أبا تغلب ولا يعرض له إلا بقدر الاجتياز في أعماله فقط لمراسلة كانت بينه وبين عضد الدولة ولمقامه على العهد القديم وأطلق لبختيار مالا وقاد إليه جمالاً ودواب معونة له على نهضته ووقع النداء بمدينة السلام برجوعه إلى طاعة عضد الدولة وأنه سلم غير محارب وخرج نحو الموصل.
فأول ما نقض من شروط عضد الدولة إن اعترض على أبي تغلب بن حمدان وعمل على لقائه ومحاربته ودفعه عن الديار .
ص: 433
ذكر السبب في ذلك
كان حمدان بن ناصر الدولة خرج معه وسار بمسيره فلما صار إلى عكبرا ذكره أمر نفسه ووعده بأموال ابني ناصر الدولة وما جمعه في القلاع وما خلفه لهم ناصر الدولة وكان بالحقيقة كثيراً جداً وزعم أنه لا يلابس مملكة هي أسهل شوكة من مملكة أبي تغلب وأنه يتولى حربه ويثق بمصير خلق من رجاله إليه وكذلك من إخوته وأسبابه فعاهد حمدان على أنه يمنعه من جميع ما يمنع نفسه ذباً وحماية وحلف له بأيمان البيعة وجرت بينهما شروط التزماها ودخلا فيها فلما صار بتكريت صار إليه علي بن عمرو كاتب أبي تغلب بهدايا يسيرة وإنزال من قضيم وطعام وسار معه إلى الحديثة وخلا به ودعاه إلى القبض على حمدان وتسليمه إلى أبي تغلب على أن يجتمع معه وينفق أمواله ويبذل سلاحه وآلاته وذخائره وعسكره ورجاله ويعود معه إلى بغداد ويستخلص له ملكه من يد عضد الدولة. فالتوى بختيار واضطرب وذكر أنه لا يستجيز ذلك مع ما حصل لحمدان في عنقه من اليمين الغموس ومع ما عليه من عهد عضد الدولة فلم يزل يعاوده ويستعين عليه بوالدته وأخيه أبي إسحاق وحاجبه إبراهيم بن إسماعيل وبجماعة من استولى عليه من أسبابه واستولى كاتب أبي تغلب هذا أعني أبا الحسن علي بن عمرو على بختيار وتسمى بالوزارة وجمع لنفسه كتابة بختيار مع كتابة أبي تغلب واستخلف عليه ابنه واجتهد في أمر حمدان وإسلامه وذلك أن أبا تغلب وأخته المسماة جميلة كانا
. طالبين عنده بثأر أخيهما أبي البركات .
وأقام بختيار على الامتناع إلى أن صار أبو إسحاق إلى الموصل واجتمع مع أبي تغلب وتقرر الأمر بينهما على القبض على حمدان من حيث لا يدخل بختيار في ذلك لئلا يحنث في يمينه فرجع إلى الحديثة. وعسف بختيار في المخاطبة وأعلمه أنه متى لم يفعل ذلك قصده أبو تغلب وحاربه ولم يقاومه وأنه إن ساعده صافاه وواخاه وأعاده إلى بغداد وأنفق أمواله وذخائره واستدعى الرجال إلى ذلك من كل وجه مع ما عنده من الاستقلال بعسكره ورجاله فضعف بختيار في يده على رسمه في ضعف العزيمة ولين العريكة فقُبض على حمدان وأسلم إلى خصومه وحبس في قلعة وهرب ابنه المكنى أبا السرايا إلى عضد الدولة. وجمع أبو تغلب الرجال وفتح قلاعه واجتهد وبالغ واجتمع مع بختيار على ظهور الدواب فتحالفا وتعاهدا فلما فرغا من الاستعداد انحدرا من الموصل وكانت عدة أصناف الرجال معهما خمسة وعشرين ألف رجل . وبلغ عضد الدولة أخبار الجماعة ولم يكن ممن تخفى عليه أمور أعدائه وأوليائه يوماً بيوم فبرز عن مدينة السلام في جيوشه المنصورة وقدَّم مقدَّمته مع أبي القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى تكريت . وكان أولئك أنفذوا إليها جيشاً مع إبراهيم بن إسماعيل حاجب بختيار فأوقع به أبو القاسم وقتل كثيراً
ص: 434
من رجاله وكاد إبراهيم يؤخذ أسيراً إلا أنه نجا إلى تكريت واستتر عند بعض أهلها ثم هرب منها ولحق بأصحابه. وفي هذا الوقت قتل ابن بقية وصلب ببغداد.
ذكر الحال في ذلك
كان حمل مسمولاً على ما ذكرناه إلى عضد الدولة عند نزوله بالزعفرانية فتقدم بأن يشهر في العسكر على جمل ثم طولب بالمال فلم يذعن بشيء منه فطرح بحضرة العسكر بباب حرب إلى الفيلة وأضريت عليه فقتلته شر قتلة وصلب لوقته على شاطئ دجلة في رأس الجسر بالجانب الشرقي وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة 367 ثم نقل إلى الجانب الغربي فصلب بإزاء ذلك الموضع من الشرقي وبقي فيه .
اتصل بعضد الدولة أن القوم أجمعوا على أن يتفرقوا بعد عبور النهر المعروف بالإسحاقي ويأخذوا في عدة وجوه إلى بغداد فسار بجميع عساكره إلى قصر الجص حتى نزل فوق الغاية التي عزموا على أن يتفرقوا منها وذلك بعد أن استخلف وزيره أبا القاسم المطهر بن عبد الله في جيش كثيف ببغداد والتقى القوم غداة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال واشتدت الحرب وثبت القوم بعضهم لبعض وتصابر الفريقان من الديلم فحمل عضد الدولة حملة صادقة فانهزموا وتبعهم الجند يقتلون ويأسرون وقد كان بختيار عمل على الهزيمة فمنعه أصحابه وخاف من الحصول في الأسر أو القتل فلما تحققت الهزيمة ظفر به بعض الأكراد من العسكر فأخذ سلبه وهو لا يعرفه ثم عرفه غلام تركي يقال له أرسلان كورموش فضربه بلت وأراد أن يثني عليه فتعرَّف إليه باسمه واستأسر له وقال احملني إلى حضرة ابن عمي وخذ جائزتك ولحقه في الحال تركي آخر فحملاه إلى القرب واستأذناه فتوقف وكان أبو الوفاء طاهر بن إبراهيم حاضراً فأشار بالفراغ منه فلم تطب نفس عضد الدولة به ولحقته دهشة وأراد استبقاءه فألح عليه أبو الوفاء وقال : ما تنتظر به أن يعود ثالثاً وإلى متى يثير علينا هذه الفتن التي لعلنا نكون من صرعاه في بعضها أفرغ منه وعلا صوته وأظهر من النصيحة في هذا الباب والمراجعة الشديدة ما لو قصر فيه لجاز. فرفع عضد الدولة يده إلى عينه يمسحها من الدموع :وقال : أنتم أعلم. وكان هناك أبو القاسم سعد الحاجب حاضراً فبادر إليه مع صاحب له واحتز رأسه وكان قد جهده العطش حتى كاد يأتي عليه الموت لو ترك لحظة .
وقتل في هذه الوقعة خلق كثير من القواد والأمراء ومن واساه بنفسه وفيهم إبراهيم بن إسماعيل صاحبه وحاجبه وأسر خلق كثير سوى من قتل. ولحقت أبا تغلب
ص: 435
ضربة في منهزمه ولم يكن باشر الحرب بل طلب تلعة بالقرب فوقف عليها وكان دبَّر عسكره بأن يقفو كراديس فكلما حمل منها كردوس وأبلى وتعب عاد وحمل كردوس آخر وغرَّه كثرة القوم وكان بختيار عبى خيله تعبية الديلم ليلقى بنفسه ويباشر الحرب وتلحقه المعونة من كل وجه فجرى الأمر على ما ذكرت .
ومن عجيب ما جرى قبل ذلك أن أحد الأمراء من عسكر بختيار يعرف بالحسن بن فيلسار أشار عليه وهو ببغداد ألا يخرج عنها ولا يسلمها إلا بحرب وإبلاء كثير فأبى عليه بختيار فاعتزله وشخص إلى جسر النهروان طائفة كانوا يرون رأيه فلما اجتمعوا هناك عقدوا له الرئاسة على أنفسهم وحدَّث نفسه بالمسير إلى جهة شعباناً أو طرف من الأطراف فبلغ عضد الدولة خبره فلما بلغ إلى القرب من بغداد جرَّد خلفه خيلاً فلحقوه ووقف للحرب فانجلت عنه أسيراً وبه ضربات فلبث يسيراً ومات وأسر كثير من أصحابه وانفض ذلك الجمع .
فأما عضد الدولة فإنه لما فرغ من وقعة قصر الجص تمم المسير إلى الموصل فملكها وسائر ما يتصل بها من الأعمال والديار وظن أبو تغلب أنه يلبث فيها يسيراً ثم يضطر إلى العود إلى بغداد على سيرة من كان قبله. وذلك أن رسم الحمدانية إذا ضعفوا عن مقاومة من يقصدهم ، ينقلوا الغلات والميرة وسائر الأموال والذخائر إلى قلاعهم وينقلون الكتاب والدواوين أيضاً إليها ويخرجون في أصحابهم إلى حول الموصل متفرقين في أعمالها فإذا حصل بالموصل عدوّهم المتغلب عليهم لم يجد بها شيئاً غير ما عند الرعية فيضطرون إلى العلوفات والمير ويخرج من يخرج في طلبهم وينقضون عليهم من أمكنة غريبة وطرق لا يعرفها الغرباء من العساكر فيأخذون بغالهم وجمالهم ويقتلون ويأسرون من يمانعهم فإذا صبروا على ذلك أياماً يسيرة وجهدوا ولم يجدوا حيلة ولا معيناً من كاتب بلدي ولا غيره طلبوا الصلح وقاربوهم للضرورة التي ذكرتها وانصرفوا عنه فيعودون إلى ممالكهم. ولم يكن عضد الدولة ممن يسلك هذه السبيل بل احتاط ونقل من الميرة والعلوفة والأزواد ما تمكن منه وحمل من رجال الموصل وكتابها الموجودين ببغداد وبتكريت وسائر الأطراف من يرشد ويخدم وكذلك كتاب بغداد كان فيهم من أقام بالموصل وعرف وجوه الأعمال فصبر وأقام إلى أن صار أبو تغلب إلى الشام بعد نوائب نابتة وقتل هناك كما سنشرح أمره إن شاء الله .
وفي هذه السنة خرج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب بينه وبين أولئك الذين قدَّمنا ذكرهم أعني بختيار وأبا تغلب وكان بروز عضد الدولة إلى معسكره بباب حرب من أعلى الجانب الغربي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شوال سنة 67 وبرز الطائع لله يوم الخميس لخمس خلون منه فلما انهزم بختيار وأبو تغلب من الوقعة بحضرة قصر
ص: 436
الجص عاد الطائع لله إلى منزله ببغداد وسار عضد الدولة كما ذكرنا فيما قبل إلى الموصل فنزل بظاهرها يوم الأربعاء العاشر من ذي القعدة ودخل الدار يوم الجمعة الثاني عشر.
وترددت الرسل من أبي تغلب إلى عضد الدولة في التماس الصلح وحمل مال فامتنع عضد الدولة وقال : إنا إذا ملكنا ناحية بالسيف وبعد الحرب والمقارعة لم نصالح عليها. وتشدد في ذلك حتى صرح لرسله بأن الموصل وديار ربيعة أحب إليه من العراق وأنه ليس يبيعها أبداً. وكانت الموصل وأكثر أعمالها ملكاً لأبي محمد ناصر الدولة وكان رسمه أن يضايق أصحاب المعاملات من الثناء وأصحاب العقار من أهل البلد ويخاشنهم ويتأول عليهم حتى يلجئهم إلى البيع ويشتري أملاكهم بأوكس الأثمان وطالت حياته وامتدت أيامه حتى استولى على الناحية ملكاً ومُلكاً فلما صار جميع ذلك في قبض عضد الدولة لم يفرج عنها وطلب أبو تغلب وأسريت إليه السرايا فلم يمكنه المطاولة ولا أن يسير بسيرته التي حكيناها فيما تقدم فسار إلى نصيبين وسير عضد الدولة خلفه أبا الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار. وكان في جملة من انهزم معه المرزبان بن بختيار ووالدة بختيار وابناها أخوا بختيار ومن أفلت من وقعة قصر الجص فلما لحقهم أبو الوفاء نهضوا منهزمين إلى ميافارقين ثم افترقوا فأما والدة بختيار وأخواه وابنه ومن نهض معهم من أسبابهم وبقية الديلم والأتراك المرسومين بهم فإنهم ساروا إلى دمشق لائذين بالفتكين المعزي وهو الذي حارب عضد الدولة بديالي وانهزم من بين يديه فلما بلغه مسیر أولاد مولاه وحرمه وأسبابه إليه تلقاهم وقضى حقوقهم. وظن أنه يتكثر بهم ويزيد في عدته بمكانهم ويتقوى بهم فجرى الأمر بالضد وذاك أنه لما انهزم من العراق إلى دمشق وتغلب عليها تماسك فيها نحو أربع سنين ودفع جيش المغرب عنها وثبت لعساكر صاحب مصر التي جهزها إليه واستولى استيلاء قوياً وهابه العرب وطار اسمه هناك. فلما صار إليه هؤلاء المنهزمون قصدته عساكر مصر على الرسم متضاعفة على العدة التي تقدمت فسار إليها إلى الرملة ومعه الجماعة للحرب والمقارعة فحين توافت الفرقتان استأمن المرزبان بن بختیار فظهرت المغاربة على الفتكين وكثروه بعددهم فانهزم وقتل أبو طاهر ابن معز الدولة واستأمن أبو إسحاق بن معز الدولة في آخر الأمر. ووقع الطلب على الفتكين فلحقه المفرج بن دغفل بن الجراح الطائي وجاء به أسيراً: وكان صاحب مصر قد عرف منه ومن الأتراك الذين معه على طول الممارسة بأساً وشدة فأبقى عليهم وعليه وأحسن إليه وإليهم واتخذهم عدة وصاحبه ثم اشترى منه ولاءه وصار كالعبد له وحصل أصحابه محصل الجند وأحسن إليهم.
وأما أبو تغلب فإنه أقام بميافارقين ومعه أخته جميلة وكانت وحدها شريكة له في الأمر والنهي وسائر أخواته الباقيات وحرمه وعياله معه فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه قدم
ص: 437
الحرم والعيال والأموال والسواد إلى حصن بدليس وتوجه بنفسه لاحقاً بأسبابه ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين وهي مغلقة دونه ولها سور وثيق من حجارة سود لا يعمل فيها الحديد وهي من حصون الروم وأبنيتهم القديمة فطواها أبو الوفاء طالباً أبا تغلب وانتهى أبو تغلب إلى أرزن ونزل على نهر يعرف بخويبور ثم عدل من هناك إلى ناحية الحسنية ووصل إلى قلاعه واستنزل منها مالاً على سبيل المخالسة فعاد الشيخ أبو الوفاء إلى ميافارقين لمنازلتها وافتتاحها واتصل بعضد الدولة مخالفة أبي تغلب إلى قلاعه وأخذه ما أخذ منها فنهض من الموصل بنفسه وهرب أبو تغلب من بين يديه وفارقه جمهور عسكره وأعيان رجاله مستأمنين إلى عضد الدولة منهم بختكين آزاذرويه وبقايا الغلمان
المعزية والغلمان السيفية فعاد إلى الموصل وقد ترك أبا تغلب مسلوب القوة والعدة.
وسلك أبو تغلب في هزيمته هذه طريق الجزيرة فجرد عضد الدولة في أثره أبا حرب طغان الحاجب وأمره باتباعه ومناجزته فتنكب أبو تغلب الطريق وتعسف الرجوع إلى بدليس وظن أنه لا يتتبع فكوتب طغان باتباعه وجرّد أبو سعد بهرام بن أردشير في عسكر مدداً له فسار خلفه فهرب من بدليس ودخل بلاد الروم قاصداً ملك الروم المعروف بورد الرومي وهذا رجل تملك على الروم ثم اختلف الجيش عليه بقسطنطينية ونصبوا أخوين من أولاد ملوكهم وافترقت كلمة الروم وطالت الحرب والمنازعات بين الفريقين وكان وزد هذا قد صاهر أبا تغلب وواصله واعتضد به علی خصومه فانعكست الحال بأن صار أبو تغلب هو اللاجئ إليه .
واتفق لأبي تغلب إن كان مسيره في مضايق بين جبال ولحقه عسكر عضد الدولة هناك.
كان عسكر عضد الدولة على نهاية الحرص على الظفر بسواد أبي تغلب واشتد طمعهم فيه لعلمهم بما معه من المال الصامت الذي أخرجه من القلعة وأنه لم يترك ذخيرة هناك من جوهر نفيس أو در ثمين أو متاع أو عين يخف محمله إلا وهو معه ورأوا الصناديق بعينها التي وصفت لهم أنها محمولة من القلعة فحمل الأتراك وفرسان العسكر ومن يوثق بفرسه وسلاحه متسرعين إلى غنيمة تلك الأموال. فناداهم أبو سعد بهرام : يا فتيان العسكر احفظوا تلك الصناديق فإنها لمولانا . وكرر ذلك وتابعه فانكسر القوم ففتروا في الطلب ونظر إليهم أعداؤهم منخزلين وهم لا يعرفون السبب فحمل
ص: 438
عليهم أبو تغلب في عسكره فانهزموا ووقع بعضهم على بعض فقتل منهم خلق كثير . وضرب طغان ضربات تعطّل منها كثير من أعضائه وأفلت مع أبي سعد وقد أشرفوا على الهلاك بعد أن أشرفوا على الغنيمة والظفر .
ثم إن أبا تغلب بعد كسره طغان وأبا سعد أمن وصار إلى حصن زياد وأقام. وكانت جيوش قسطنطينية قد سارت إلى ورد فشغل عنه بنفسه وأنفذ إليه ميرة كثيرة وأشار عليه بأن يلحق به ليجتمعا على حرب خصومه فإذا انهزموا واستظهر عليهم عاد .فنصره. ولم تسكن نفس أبي تغلب إلى أن تلقاه فأنفذ إليه طائفة من عسكره على سبيل النجدة والمعونة وأقام بحصن زياد ينتظر فالتقى الجيشان من الروم وانهزم ورد واتصل ذلك بأبي تغلب فيئس منه وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد شهرين إلى أن فتحت ميافارقين.
قد كنا ذكرنا تجاوز أبي الوفاء ميافارقين طالباً لأبي تغلب فلما هرب إلى بلاد الروم وتفرد أبو حرب طغان الحاجب بطلبه والمسير في أثره عاد إليها فبرز إليه هزار مرد على أن يواقعه فلم تكن له به طاقة فعاد إلى التحصن في المدينة فاقتضى الرأي عند أبي الوفاء أن كر إلى أرزن فحاصرها ثلاثة أيام وضعف من فيها عن المقاومة ففتحوها له ودخلوا في أمانه وطاعته ولم يزل بسائر الحصون المقاربة لها حتى استغرقها وانكفأ حينئذ إلى ميافارقين وناصبه من فيها الحرب ثلاثة أشهر وكسراً وهجم البرد عليه وسقطت الثلوج فاحتمله وصبر . ونُصب عليه وعلى عسكره من داخل السور منجنيقات فثبت لها وقابلها بمنجنيقات مثلها ورماهم بالنار والحجارة وهو في خلال ذلك يفتح الحصون المقاربة لها ويستأمن أهلها ومن فيها من غلمان أبي تغلب المرتبين حتى قضى الله وفاة هزار مرد فكوتب أبو تغلب بذلك فكتب بأن ينصب مكانه غلام من الحمدانية كان مضموماً إليه يقال له مونس وكان بالبلد قاض جاهل متهور ليس فيه من أدوات القضاء شيء يقال له أبو الحسين المبارك بن ميمون ويعرف بابن أبي إدريس فاستولى على تدبير أمر مونس هذا وجمع كلمة أهل البلد ومن كان فيه من المطوّعة وحملة السلاح على الثبات والمدافعة فكاتبه أبو الوفاء ودعاه إلى الطاعة وبذل له الرغائب فأبى إلا العناد. وكان يصعد إلى برج من أبراج السور فينادي العسكر ويسمي القواد وصاحب العسكر ومن يلي أمرهم ويشتمهم ويبالغ في ذكرهم بالقبيح ويتجاوز ذلك إلى ما لا يحسن ذكره فعدل أبو الوفاء عنه إلى مكاتبة شيخ من ميافارقين كان وجيهاً ومطاعاً فيها يقال له أبو الحسين أحمد بن عبيد الله .
ص: 439
وجد أبو الوفاء لأبي الحسين أحمد الله بن عبيد خارج البلد غلاماً كان مقيماً في ضيعة له فراسله به ورفق بالغلام ووصله ثم جعله وليجة إلى صاحبه ولم يزل به حتى استجاب للطاعة فأخذ العهد والميثاق على أهل البلد سراً فنمىي خبره إلى القاضي الذي ذكرناه فسعى في الفتك به وكاد يتم له ذلك لولا أن أهل البلد حاموا عليه ومنعوا منه ولم يزل أمره يقوى وأهل البلد يجتمعون إليه وقد ملوا الحصار والضيق حتى استظهر بهم .
فلما كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة 368 ثاروا مشغبين على أصحاب أبي تغلب فالتجأ مونس ومن معه إلى منازلهم وقبض أحمد بن عبيد الله على القاضي ابن أبي إدريس وعلى جميع من كان في حصن ميافارقين من أصحاب بختيار وحاشيته وفيهم غلام أهوج معروف بالتهور والجهل كان قد داخل بختيار على طريق المنادمة التي تليق بمثله يعرف بابن الطبري فساعد القاضي على سيرته وجهله في ذكر الملوك وبسط اللسان فيهم ووجه إلى مونس الحمداني يلتمس مفاتيح الباب منه ويتهدده متى أخرها وساعدته الجماعة على ذلك فأنفذها والتمس الأمان فكتب أحمد بن عبيدالله إلى أبي الوفاء يعرفه ما عمله ويلتمس الأمان لمونس ومن معه من الحمدانية فآمنه واستثنى بهذا القاضي وبالمعروف بابن الطبري وأنفذ أبا الفتح المظفر بن محمد الحاجب في قطعة من الجيش فدخل إلى البلد وملكه وأحسن أبو الوفاء إلى أهله وفرق فيهم أموالاً وتصدق على ضعفائهم بأمر عضد الدولة إياه. وحمل إلى حضرته القاضي وابن الطبري فأمر بضرب رقابهما وصلبهما من السور على البرج الذي كان يظهر منه ويسيء أدبه فيه.
كان أبو الوفاء أنفذ إليها في أول الأمر أبا علي التميمي الحاجب لافتتاحها فتعذرت عليه لحصانتها ووثاقة سورها الذي هو أشد من سور ميافارقين فرجع عنها ثم عاد إليها أبو تغلب من بلاد الروم على ما ذكرنا وظن أنه يقيم فيها ويمتنع بها فلما فتحت ميافارقين علم أن الجيش سائر إليه وأنه لا يثبت مع الحصار ومع ما استمر عليه من الجوائح فأنفذ أخواته سوى جميلة مستأمنات إلى أبي الوفاء وتبين أصحابه ضعفه فالتاثوا عليه فهرب إلى الرحبة ومعه أخته جميلة ومن يمسه أمره من حرمه وقعد عنه المعروف بانجوتكين وهو من نجباء الأتراك المعروفين بالشدة والثبات في المعارك وله قوة على حمل لت له ثقيل يعجز عنه غيره وإذا حمل به لم يثبت له أحد وقعد معه جماعة من الأتراك وقصدوا حضرة عضد الدولة مستأمنين إليه ثم تتابع الناس الذين كانوا مع أبي تغلب من الغلمان والجند والكتاب والولاة والاتباع وسلك حينئذ أهل آمد بعد
ص: 440
انصراف أبي تغلب عنها سبيل أهل ميافارقين ففتحوها سلماً وطوعاً.
واشتمل أبو الوفاء على ديار بكر بأسرها وعاد إلى الموصل ومعه الأسارى بعد أن رتب في الحصون من يحفظها من ثقات عضد الدولة ورتب في البلدان عمال الخراج والمعاون .
لما انصرف من آمد وقصد الرحبة أنفذ من طريقه أبا الله عبد الحصين بن ناصر الدولة وسلامة البرقعيدي وهو من كبار الحمدانية إلى عضد الدولة برسالة تتضمن الاستعطاف ويسأله الصلح والاصطناع ووصل إلى الرحبة وأقام بها على انتظار الجواب. فورد أبو عبد الله وسلامة البرقعيدي الموصل وأدَّى أبو عبد الله ما تحمله فتلقاه عضد الدولة بالجميل وقبل منه تنصله وبذل له اقطاعاً وفضلاً على أن يطأ بساطه ويدخل في ذمامه وتبين أبو عبد الله حزم عضد الدولة وذاك أنه مع إحسانه إليه وتوسعته عليه منع أحداً من الوصول إليه فلم يشاهد بعينه إلا الموكلين به فقط وعرف من أخيه أنه لا يستجيب لما دعاه إليه عضد الدولة فأخذ بالحزم لنفسه وتعلق بعصمة باطنة اختص بها واعتقد أن يفارق أخاه ويعود إلى حضرة عضد الدولة فمضى إليه فأعاد الجواب عليه . فكان الأمر على ما ظنه من مخالفة أخيه لمرسوم عضد الدولة فتوجه إلى الشام لاجئاً إلى صاحب المغرب وسار معه أخوه الحسين إلى بعض الطريق ثم فارقه قبيل تذمر على غير استئذان فأنفذ خلفه من يتتبعه فشعث سواده ولم يلحقه في نفسه فنجا وحصل بحضرة عضد الدولة على حال جليلة .
كان الوالي عليها سلامة البرقعيدي فأنفذ إليه سعد الدولة وهو ابن سيف الدولة جيشاً لينزله عنها فجرت بين الفريقين حرب.وكان سعد الدولة هذا قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه وتعلق منه بعصمة فأنفذ عضد الدولة أبا أحمد الموسوي النقيب إليها فسلمها بعد حرب ودخل أهلها في الطاعة . ولما استولى عليها سلطان عضد الدولة استصفى منها الرقة وأعمالها خاصة وفوض باقيها إلى سعد الدولة وجرت مجرى سائر ما في يده من أطراف الشام.
ثم فتح الرحبة فتفرغ لفتح قلاع أبي تغلب وهذه القلاع هي في جانب دجلة الشرقي وهي عدة كثيرة فمنها أردمشت ومنها الشعباني وقلعة أهرور وقلعة مليصي وقلعة برقي وكانت أردمشت خاصة مملوءة بالأمتعة الفاخرة من أصناف الثياب والفرش والجواهر والصياغات والحلي وسائر أصناف العدد وكان أبو تغلب رتب فيها رجلاً من الأكراد بينه
ص: 441
وبينه قربي من جهة والدته فاطمة بنت أحمد الكردية يعرف بابن بادويه وضم إليه مملوكاً له كان من غلمان أبيه يثق به يقال له طاشتم فأنفذ إليه عضد الدولة أبا العلاء عبيد الله بن الفضل بن نصر النصراني لمنازلة القلعة والاحتيال في فتحها وأنفذ أبو القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى الشعباني وأنفذ صاحباً لأبي نصر خرشيد يزديار الخازن إلى أهرور فعرف أبو العلاء حال أقارب لابن بادويه الكردي خارج القلعة فدعاهم إلى خدمة عضد الدولة ورغبهم فيها وعرفهم اضمحلال أمر أبي تغلب ووقوع اليأس منه وكاتبهم عضد الدولة بمشورة أبي العلاء فرغبوا في الخدمة وصاروا على ثقة مما وعدوا به ثم حملوا على مكاتبة صاحب القلعة وأشاروا عليه بالقبض على طاشتم وتسليم القلعة وذلك أن طاشتم كان شديد الطمع في عود صاحبه ويحب أن تظهر أمانته عنده ففعل ابن بادويه ذلك وبذل للحراس وسائر من يحفظ القلعة البذل الكثير وحكموا فتم القبض على طاشتم والتقييد وحصلت القلعة بما فيها وظهرت نجابة أبي العلاء واجتهاده وحسن تلطفه وكان قيمة ما في القلعة على ما حررناه (وكنت فيمن أخرج إليها لنقل ما فيها مما يصلح الخزانة) ومع ما يباع وتبقية ما يبقى في القلعة نحو عشرين ألف ألف درهم.
قال صاحب هذا الكتاب كان عضد الدولة أمرني أن أصير مع خواشاذه إلى هذه القلعة وأحضر إحصاء ما فيها ثم تسلّم طاشتم مقيداً وأحمله على بغل بإكاف مجرداً لا وطاء عليه ومعه أصحابه الذين قيدوه وسلموا القلعة بالخلع والدواب والمراكب التي حملوا عليها وبين أيديهم البدر والثياب التي حبوا بها ثم أطوف به تحت القلاع الممتنعة التي لم تفتح بعد لينظر من فيها إلى حال طاشتم فيحذروا مثلها ويروا أحوال الباقين فيطمعوا في مثلها ففعلت ذلك وتحملت رسائل إلى أصحاب تلك القلاع. وجرت أحوال يطول شرحها إلا أن جملتها أن القوم لما نظروا إلى هيئة طاشتم وأصحابه دخلهم الرعب من جانب وتجددت لهم الرغبة من جانب وكانوا قبل ذلك لا يصدقون الرسل بأن هذه القلعة التي كان فيها طاشتم فتحت فلما رأوه عياناً وخاطبوه عرفوا وهاء أمر أبي تغلب وقوة عضد الدولة وسلموا القلاع بعد مدة .
ورأيت أنا من طاشتم هذا في طريقي حصافة وإقبالاً على الصلوات ودعاء كثيراً (وقد كان أو من على روحه فقط) فسألني في الطريق المعونة وحسن المحضر عند عضد الدولة فلما عدنا إلى الموصل وفرغنا من استقراء القلاع على ما وصفت نُبتُ عن طاشتم هذا بحضرة عضد الدولة وعرّفته سداده وأنه يصلح لخدمته فقال : هو كما تقول ولكن السياسة لا توجب اصطناعه .فقلتُ : وكيف؟ قال : لأنه مانعنا ثم تقرب به إلينا غيره فإن وقع إحسان إليه سوينا بينه وبين من خدمنا بالقبض عليه فخبثت نيَّات من يخدمنا في أعدائنا وظنوا أنا لا نميز في الإحسان بين الولي والعدو وبين المجيب والممتنع ومع ذلك
ص: 442
فإن بين أيدينا قلاعاً ما فتحت بعد وإن بلغ أصحابها الممتنعين فيها إحساننا إلى هذا زالت الرهبة عن قلوبهم وطمعوا في مثل عاقبة هذا بعد حصولهم في أيدينا إن حصلوا وسلامتهم في مواضعهم إن سلموا . ثم قال : ولأن لي فيه رأياً قال : ولأن لي فيه رأياً وهو أن أنفذه إلى صاحبه أبي تغلب فإنه سيموه على صاحب مصر به وبقلعته ويدعي أنها في يده وفيها ذخائره وثقاته وأن ماله في هذه القلاع يفي بمؤونته أن أمدَّ بالرجال ولا تزال مخاريقه مشتبهة وجائزة هناك إلى أن يطلع عليه هذا وتتقدمه الأخبار بما جرى عليه فحينئذ تبطل تمويهاته وتظهر فاقته وأنه طريد سيوفنا وإنما أفلت بحشاشته وليس وراءه عُدة ولا ذخيرة ولا قلعة. فلما سمعت هذا الجواب علمت أنه صواب في سياسة الوقت وأن معارضته فيه خطأ فأمسكت . وبلغ طاشتم ما عزم عليه من تسبيره إلى صاحبه مقيداً بحالته تلك فقلق جداً وراسلني يسألني المصير إلى محبسه فصرت إليه تذمماً فوجدته كثير البكاء لا يستقر على الأرض قلقاً فقلتُ : ما شأنك؟ فقال : إن الملك كان آمنني على نفسي وأراهُ الآن قد بذلني لمن لا يبقى عليّ. وأطال هذا المعنى وسألني معاودة عضد الدولة ومخاطبته في الأمان الذي معه فحملت نفسي على معاودته فلم يرجع عن رأيه الأول وقال : إنما آمنته على نفسه مني وألا أصيبه بمكروه وأنا له على ذلك ولستُ أضمن ألا يصيبه صاحبه بمكروه. وتبرأ مما يجري عليه من صاحبه وتقدم بالإسراع به فلما بلغ أبا تغلب خبره من موضع يقرب منه تلقاه بمن قتله والله أعلم بصحة ذلك إلا أن موته شاع بعد زمان قليل .
خلف أبا الوفاء بالموصل لتهذيب المعاملات وترتيب العمال في الأعمال وتقنين القوانين وتدوين الدواوين وعاد إلى مدينة السلام يوم السبت انسلاخ ذي القعدة سنة 368. وخرج الطائع لله في تلقيه مع جماعة الجيش والمقيمين وسائر الخواص والعوام ودخل يوم الأحد لليلة خلت من ذي الحجة واجتاز في الجانب الغربي على تعبية من الجيش وبعد أن ضُربت له القباب متصلة منتظمة بين عسكره من باب حرب وبين الموضع الذي ينزله من آخر البلد وهو البستان المعروف بالنجمي وعبر في يوم الاثنين له إلى داره فاستقرَّ فيها .
خرج أمر الطائع لله إلى خلفائه على الصلاة في جوامع مدينة السلام بأن يقيموا لعضد الدولة الدعوة تالية لإقامتها له على منابرها ونفذت به الكتب إليهم ورسم أن يضرب على بابه بالدبادب في أوقات الصلوات وهذان الأمران من الأمور التي بلغها عضد الدولة واختص بها دون من مضى من الملوك على قديم الأيام وحديثها .
ص: 443
وفي هذه السنة ورد الحضرة أخ لسقلاروس الرومي المعروف بورد وقد ذكرنا خبر هزيمته عن جيوش قسطنطينية وكان صار إلى ديار بكر وأنفذ أخاه هذا إلى عضد الدولة مستنصراً ومستنجداً وباذلاً من نفسه الطاعة والمعاهدة ولما كان الملكان الأخوان اللذان بقسطنطينية عرفا ما فعله أنفذا رسولاً وجيهاً إلى عضد الدولة لنقض ما شرع فيه ورد واجتمع هذان الرسولان على بساطه خاضعين يتنافسان فيه ويتزايدان في التقرب إليه ويستبقان إلى التماس الذمام منه ولم ينصرفا إلى أن انسلخت سنة تسع وذلك ما لم يكن مثله قط وهو من مآثر عضد الدولة .
وفيها توفي عمران بن شاهين صاحب البطيحة فجأة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم وكان ركب في غداة هذا اليوم للتنزه على عادة كانت له فلما عاد إلى داره تشكى دون ساعة وفاظت نفسه بعد أن نصبت له الأرصاد أربعين سنة وأنفقت على حروبه الحرائب وبعد أن أذل الجبابرة وأرباب الدول وطواهم أولاً أولاً وقدمهم أمامه على غصص يتجرعونها وذحول يتحملونها وهو ممنوع الحريم محصّن الساحة محمي من غوائلهم ومكايدهم فلما أطرَقهُ الله لم يكن له مستقدم ولا مستأخر.
وفيها جرّد عضد الدولة جيشاً مع صاحبه وثقته أبي القاسم علي بن جعفر الواذاري وضم إليه أبا العلاء النصراني لطلب بني شيبان .
ذكر السبب في ذلك
كانت هذه القبيلة أعني بني شيبان مستعصين قد تعودوا النهب والغارة والتلصص وأعيت الحيلة في طلبهم وذاك أن لهم خيولاً جياداً يعولون عليها في الهرب إذا طلبوا فكانت سراياهم تبلغ في الليلة الواحدة ثلاثين فرسخاً وربما زادوا على ذلك فيمسون بموضع ويصبحون على هذه المسافة البعيدة وكذلك يصبحون في مكان ويمسون منه على مثل ذلك ولا يصح للسلطان خبرهم ولا يتأتى له طلبهم وكان لهم رئيس يعرف وكانوا مع ذلك قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور المتغلبين عليها مصاهرات وأذمة وشهرزور هذه لم تزل ممتنعة على السلطان لا يذعن أهلها لحصانة المدينة ولأنهم في أنفسهم عتاة ذوو باس وجلد . فأراد عضد الدولة أن يبدأ بشهرزور ليقطع بين أعراب بني شيبان وأكرادها فاتفق شخوص أبي القاسم الواذاري وهو عقيب علة طالت عليه ولحقته نكسة في طريقه فمات وورد خبره على عضد الدولة وكاتب أبا العلاء وأقامه مقامه وأمره باستكمال الخدمة فيما توخاه ففعل ووفى وظهرت نجابته المعروفة منه ونهض نهوضاً کفى المهم به وشفى الصدور ولما وصل إلى شهرزور وعسكر على ظاهرها فتحت له
ص: 444
فدخلها في عدة يسيرة على موادعة لأهلها وقبول الطاعة منهم ولم يكن القصد الأول إليهم ولا المراد بلدهم فهرب بنو شیبان في البر مصعدين إلى نواحي الزوابي على رسمهم في الأجفال إذا طلبوا .
سار أبو العلاء إلى دقوقا وأقام بها أربعة أشهر وكسراً يعمل ضروباً من الحيل والمكايد والمكاتبات المتصلة بضروب من الاستمالة والرفق والاطماع حتى سكنوا إليه وأنسوا به ولم يعجل مع ذلك حتى قربوا بإحيائهم منه فأسرى حينئذ إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة أتت على نفوسهم وأموالهم وذراريهم وأعزتهم وغنم غنيمة عظيمة وقتل من مقاتلتهم خلقاً كثيراً وانصرف بمائتي رأس من رؤوس القتلى وثمانمائة رجل من الأسرى فيهم جماعة من وجوههم ورؤسائهم. فدخل بغداد يوم الخميس لثمان خلون من رجب وشهر هؤلاء الأسارى على الجمال بالبرانس الطوال والثياب الملونة لأربع عشرة ليلة خلت منه وأودعوا الحبوس والمطابق وتفرق أولئك الذين نجوا منهم في الأطراف البعيدة وطفئت جمرتهم وزالت عن أعمال بغداد والسواد مضرتهم .
وفيها قبض على أبي أحمد الموسوي نقيب الطالبيين وعلى أخيه أبي عبد الله وعلى قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله أحمد بن معروف وأنفذوا إلى فارس وقلد قضاء القضاة أبو سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير مقيم بفارس واستخلف له ببغداد أربع خلفاء على أرباع بغداد وهم أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن صبر وكان خليفته على الجانب الشرقي من حد المخرّم وإلى الطرف الأعلى منه وأبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخرزي وصير خليفته على ما بقي من الجانب الشرقي من حد المخرم إلى الطرف الأسفل وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الأكفاني خليفته على مدينة أبي جعفر المنصور وما يتصل بها من الجانب الغربي إلى طرفه الأعلى وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني خليفته على المدينة التي تعرف بالشرقية وهي على غربي دجلة إلى طرفه الأسفل وقسمت نواحي السواد على هذه الحصص بينهم .
كنا قد ذكرنا خبره في توجهه من الرحبة إلى دمشق وكان بلغه أن عضد الدولة كاتب سعد الدولة بن سيف الدولة وجميع البوادي هناك من بني كلاب وغيرهم بمعارضته في مسيره وأخذه وحمله إلى حضرته فاستوحش وعدل عن نهج الطريق وأوغل في البرية فنالته مشقة عظيمة ووصل إلى دمشق من ورائها فوجد فيها من أهمها رجلاً يقال له قسام قد تحصن بها وغلب عليها وخالف صاحب المغرب فلم يتمكن من دخولها فنزل في ظاهرها
ص: 445
وأنفذ كاتبه علي بن عمرو إلى مصر يستدعي من صاحب المغرب النجدة. ووقعت بين أصحابه وبين أصحاب قسام هذا ثورة فرحل إلى موضع يقال له نُوى وفارقه من ههنا ابن عمه أبو الغطريف مستأمناً إلى عضد الدولة وعيّد عيد الفطر بنوی وورد عليه كتاب من كاتبه من مصر بأن صاحب المغرب تقبله ووعده بكل ما أحبه وأنه التمس منه أن يسير إليه زائراً فامتنع أبو تغلب من ذلك وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما. فرحل عن نوى إلى منزل يقال له كفر عاقب على بحيرة طبرية وفارقه من هناك أخوه أبو طاهر بن ناصر الدولة على اتفاق واستئذان مستأمناً إلى عضد الدولة. وكان صاحب المغرب أنفذ وجهاً من وجوه غلمانه يقال له الفضل إلى دمشق ليحتال على قسام ويفتتح البلاد فصار إلى طبرية وقرب من أبي تغلب وتراسلا في الاجتماع فسار الفضل إليه وتلقاه أبو تغلب وتفاوضا في الموكب ووعده عن صاحب المغرب بكل ما أحب وبذل له أبو تغلب المسير معه إلى دمشق لفتحها . فكره ذلك للنفرة التي كانت جرت بينه وبين قسام لئلا يوحشه وكان يسلك في أمره اللطف والحيلة لا طريق الخوف والمقارعة فافترقا وعاد كل واحد منهما إلى موضعه ثم رحل الفضل إلى دمشق فلم يتم له ما قدره فيها . وكان بالرملة دغفل بن المفرّج بن الجرَّاح الطائي وهو رجل بدوي استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة صاحب المغرب من غير أن يتصرف على أحكامها واستفحل أمره وكثرت البوادي معه فسار إلى إحياء عُقيل المقيمة بالشام ليواقعها ويخرجها عن تلك البلاد فلجأت إلى أبي تغلب وسألته نصرتها ومئت إليه بالرحم النزارية وكتب ابن الجراح إليه يسأله ألا يفعل ذلك ومتَّ إليه بالحلف الذي وقع قديماً في الجاهلية بين ربيعة واليمن فتوسط بين الجهتين على التكاف إلى أن يرجع إلى صاحب المغرب ويمتثل ما يرد منه في الأمر الذي شجر بينهما . ورحل فنزل في جوار عقيل على أنه مانع لها المسير والابتداء بالشر فأوحش ذلك ابن الجراح والفضل صاحب صاحب المغرب وخافاه وظناً أن اجتماعه مع بني عقيل لتدبير على أعمالهم فسار الفضل عن باب دمشق على طريق الساحل إلى الرملة وضجر أبو تغلب من طول مقيل واتصال كُتب كاتبه إليه بالتسويف والتعليل فسار إلى الرملة مع إحياء عقلتي وذلك في المحرم سنة 369 فهرب ابن الجراح والفضل من بين يديه...(1)بعد وكتب الفضل يستنجد ويجمع إلى نفسه جيوش السواحل وولاته وجمع أيضاً ابن الجراح الرجال واحتشد فتوافت إليهما طوائف كثيرة واستأمن إلى أبي تغلب ممن كان معهما اسختكين التركي المغربي وغيره من الأتراك وقطعة من الرجال الإخشيدية والمغاربة وعطف إليه الفضل وابن الجراح فيمن جمعا فوقعت الوقعة على باب الرملة يوم الاثنين لليلة خلت من صفر سنة 369 فلما عاينت عقيل كثرة الناس انهرمت فضعف أمر أبي تغلب وفارقه
ص: 446
اسختكين المغربي طالباً العراق ومستأمناً إلى عضد الدولة وعاد باقي المستأمنة من المصريين إلى الفضل وإلى ابن الجرّاح ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل وهم غلمانه الحمدانية فانهزم وانهزموا ولحقهم الطلب فثنوا وجوههم يحامون عن نفوسهم بالمكافحة والمجالدة فضرب بعض الصعاليك أبا تغلب على رأسه وعرقب آخر فرسه فسقط إلى الأرض وبادر إليه ابن عم لابن الجراح يقال له مشيَّع الطائي وقتل بعض غلمانه وأسر أكثر أصحابه وحصل أبو تغلب في عشية تلك الليلة في يد ابن الجراح فبكر مرتحلاً بإحيائه وعسكره وسيره بين يديه على ناقة وقد شدَّ رجليه بسلسلة إلى بطنها واعتقد أن يأتي عليه ولا يبقى فبلغ ذلك الفضل فبكر ليأخذه من يد ابن الجراح فألفاه قد سار فاتبعه فلما قرب خاف ابن الجراح أن يتسلمه منه ويصير به إلى مصر فيجري معه مجرى الفتكين في اصطناع صاحب المغرب له واستصحابه إياه وقد وتره بالحرب والأسر وأناخ الناقة وضربه بیده ضربتين بالسيف فسقط قتيلاً وأخذ رأسه وقطع بعض الشيوخ من العرب يديه ورجليه لأنه كان ضرب يد ابن له عند ممانعته عن نفسه فأطنّها . ولحق الفضل وقد قضي الأمر فأخذ رأسه وأنفذه إلى مصر ثم صلب جثته ثم أحرقت وقد كان خلف أخته جميلة وزوجته وهي بنت سيف الدولة في إحياء بني عقيل فلما قتل حملوها مع سائر عياله إلى حلب فأخذ سعد الدولة أخته إليه وأنفذ جميلة إلى الرقة وحدرها منها إلى عانة وعدل بها من عانة إلى الموصل وسلمت إلى أبي الوفاء فكانت في يده إلى أن انحدر إلى بغداد فحدرها معه وحصلت معتقلة في الدار في بعض حجرها مع جواري عضد الدولة ونسائه .
ذكر تلافي بغداد بالعمارة بعد الخراب
وفي هذه السنة أمر عضد الدولة بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلة قد أحرق بعضها وخُرِب البعض فهي تل وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت أيضاً في نهاية الخراب فأنفق عليها مالاً عظيماً وهدم ما كان مستهدماً من بنيانها وأعادها على أحكام وشيدها وأعلاها وفرشها وكساها وتقدم بإدرار أرزاق قوامها ومؤذنيها والأئمة والقراء فيها وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء وكان ذلك كله مهملاً لا يُفكر فيه .
ثم أمر بعمارة ما خرب من مساجد الأرباض المختلة وأعاد وقوفها وعوّل في هذه المصالح على عمال ثقات أشرف عليها نقيب العلويين ثم الزم أرباب العقارات التي احترقت ودثرت في أيام الفتنة أن يعيدوها إلى أفضل أحوالها في العمارة وفي الحسن والزينة فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت ماله ليُرتجع منه عند الميسرة ومن لم يوثق منه بذلك أو كان غائباً أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه فعمرت بغداد وعادت كأحسن ما كانت .
ثم وقع التتبع على الدور والمساكن التي على جانبي دجلة فبنيت مسناتها وجددت
ص: 447
رواشنها بعد أن كان الخراب شاملاً لها وتقدم إلى من سميت له دار على الشط من كبار الأولياء والحاشية أن يجتهد في عمارتها وتحسينها. وكان السبب في خراب هذه الدور والقصور على الشط أن بختيار كان نقض دار أبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي التي كانت على الصراة ودجلة حين قبضها عنه ولم يكن لها نظير ببغداد في الاتساع والحسن وكان اتخذ فيها بستاناً نحو سبعة أجربة مملوءاً بالنخل والأشجار والرياحين والأنوار وطرائف الغروس الغريبة وأنشأ فيها المجالس البهية والمساكن الفسيحة فارتفع له من أثمان النقض جملة استكثرها واستطاب بعد ذلك بيع الأنقاض فهدم المنازل الجليلة التي لا يمكن أو يصعب إعادتها . فأمر عضد الدولة برفع سنة الإخراب وبيع الأنقاض وإعادة عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسين وكذلك عمارة البستان بالزاهر المتوسط الشرقي من بغداد ففعل ذلك فامتلأت هذه الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
وكان ببغداد أنهار كثيرة مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزازين ونهر الدجاج ونهر القلايين ونهر طابق وميزابها إلى دجلة والصراة ونهر عيسى ونهر بناحية الحربية يأخذ من الدجيل وكان منها مرافق للناس لسقي البساتين ولشرب الشفة في الأطراف البعيدة من دجلة فاندفنت مجاريها وعفت رسومها ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها واضطر الضعفاء إلى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة في المسافة الطويلة فأمر بحفر عمدانها ورواضعها وقد كانت على عمدائها الكبار المعروفة بنهر عيسى والصراة والخندق قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها وقل الفكر فيها فربما انقطعت بها السبل أصلاً وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم وعلى حسب الاقتصاد والترجية فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون فبنيت كلها جديدة وثيقة وعملت عملاً محكماً. وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد فإنه كان لا يجتاز عليه إلا المخاطر بنفسه لا سيما الراكب لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه فاختيرت له السفن الكبار المتقنة وعرض حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصن بالدرابزينات ووكل به الحفظة والحراس.
فأما مصالح السواد فإنها قلدت الأمناء ووقع الابتداء بذلك في السنة المتقدمة لهذه التي نحن في ذكرها فغلبت الزيادات وجمعت العدد من القصب والتراب وأصناف الآلات وأعيد كثير من قناطر أفواه الأنهار والمغايض والآجرّ والنورة والجص وطولب الرعية بالعمارة مطالبة رفيقة واحتيط عليهم بالتتبع والإشراف وبلغ في الحماية إلى أقصى
حد ونهاية .
وأخر افتتاح الخراج إلى النيروز المعتضدي وكان يؤخذ سلفاً قبل إدراك الغلات
ص: 448
وأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت عنها الزيادات والتأويلات ووقف على مظالم المتظلمين وحملوا على التعديل ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج وزال ما كان يجري عليهم من القبائح وضروب العسف وأقيمت لهم السواني في مناهل الطريق وأحفرت الآبار واستفيضت الينابع وحملت إلى الكعبة الكسوة المستعملة الكثيرة وأطلقت الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرت لهم الأقوات من البر والبحر وكذلك فعل بالمشهدين بالغري والحائر على ساكنهما السلام وبمقابر قريش فاشترك الناس في الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشأ بينهم إلى أن يتلاعنوا وتواثقوا وخرست الألسن التي كانت تجر الجرائر وتشب النوائر بما أظلها من السلطان القامع والتدبير الجامع وبسطت رسوم للفقراء والفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والحساب والمهندسين وأفرد في دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه وهو الحجرة التي يختص بها الحجاب فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتصل بهم فعاشت هذه العلوم وكانت مواتاً وتراجع أهلها وكانوا أشتاتاً ورغب الأحداث في التأدب والشيوخ في التأديب وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة وأخرج من بيت المال أموال عظيمة صرفت في هذه الأبواب وفي غيرها من الصدقات على ذوي الحاجات من أهل الملة وتجاوزهم إلى أهل الذمة وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم .
وكنا بعرض الزيادة من هذه البركات إلى أن أتى أمر الله الذي لا يدفع وإنما شرحناها لينظر فيها من يأتي بعدنا ويقرؤها الملوك أو تقرأ بين أيديهم فيعملون بمثل ذلك ويسيرون بها لينتشر ذكرهم بالجميل ويطلع الله عزّ وجلّ على نياتهم فيمكن لهم ويحسن معونتهم فلولا خلال كانت في عضد الدولة يسيرة لا استحسن ذكرها مع كثرة فضائله لبلغ من الدنيا مناه ورجوت له من الآخرة رضاه والله ينفعه بما قدمه من العمل الصالح ويغفر له ما وراء ذلك .
وفي هذه السنة شخص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام إلى أسافل واسط لطلب الحسن بن عمران فأقام على منازلته والتاث عليه أمره فقتل نفسه .
لما توفي عمران بن شاهين وفرغ عضد الدولة من الأعداء الكبار وقتل بختيار وأبو تغلب وملك ديارهم ورجالهم وحصل بمدينة السلام وكانت نفسه تنازع إلى مصر خاصة وإلى ديار الكفر بعد ذلك من الروم وما والاها كره أن يجاوره النبط مستعصية
ص: 449
ويطاوله صغار أصحاب الأطراف ومن يلوذ بالقصب والغياض والأجام ولا يستأصله فعرَّض في مجلسه بذكر الحسن بن عمران والبطيحة وطلب من يكفيه هذا الخطب فانتدب له أبو الوفاء والمطهر وأظهر كل واحد منهما كفاية فيه. وتقرر الرأي على انفاذ المطهر فجرد معه عسكراً فيه أصناف من الرجال وأزاح علته في السلاح والأموال والعدد والآلات وضم إليه أبا الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان في هذا الوقت بها فانقلب منها إلى واسط حتى اجتمع معه بها فخلع على المطهر وأكرم وسار يوم السبت للنصف من صفر واستخلف له عضد الدولة على الوزارة وتدبير الأعمال وجمع الأموال أبا الريان حمد بن محمد الأصبهاني وذلك لدربته لا لصناعته ولأنه عرف بطول الممارسة موارد الأمور ومصادرها وكان واسطة بين عضد الدولة ووزرائه وكان كالشريك لهم فيما ينفذونه ويمضونه من أوامره فلما استقر المطهر بالبريوني من أعمال الجامدة شاور الناس ومحض الرأي فتقرر الأمر على تدبير فاسد قد كان جربه من درج قبله مراراً فلم ينتفع به وهو إيقاع السدود على أفواه الأنهار لتنشف البطيحة التي يلجأ إليها عسكر النبط وأنشأ مسناة يسلك عليها بالإقدام إلى نفس معاقلهم فأطلقت في ذلك أموال ضاعت وانقطعت المسالك في دجلة وبطل ارتفاع الكار ولزمت مؤن الحصار وإثبات الرجال وجاءت المدود فحملت على السدود وتوصل الحسن بن عمران إلى بعض تلك السدود فبثقها فامتلأت البطائح بالمياه وكان المطهر إذا سد جانباً انثلمت عليه جوانب وإذا حفظ وجهاً أتاه الخلل من وجوه واتفق مع ذلك إن جرت بينه وبين الحسن بن عمران وقعة في الماء فلم يتم له ما قدره من اصطلامه. وكان المطهر قد ألف فيما كان باشره من الحروب المناجزة واعتاد المفاصلة ولم يدفع إلى مصابرة قط ولا مطاولة فشق ذلك عليه وبلغ منه وكان يتهم أبا الحسن محمد بن عمر العلوي بمراسلة تجري بينه وبين صاحب البطيحة وهدايا وملاطفات في السر منه وأنه يطلعه على أسرار التدبير عليه ويهديه إلى مصالحه.
وكانت أخلاق المطهر معروفة بالشراسة والخشنة وكانت أفكاره سيئة فأوجس في نفسه خيفة واستشعر وحشة وتوهم أن استصعاب ما استصعب عليه من هذا الأمر عائد عليه بانخفاض منزلة وانحطاط عن رتبة الوزارة وأن أبا الوفاء يجد مساغاً للطعن عليه وإظهار معايبه لما كان بينهما من العداوة والمنافسة في المرتبة واختار الموت على تسلط الأعداء عليه وتمكنهم منه. فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان جلس في مجلسه من عسكره ودخل إليه الكتاب والقواد وطبقات الناس مسلمين عليه فتقدم إليهم بالتخفيف والانصراف ونهض إلى خيمة كان يخلو فيها واستدعى طبيبه وأمره بأن يفصده وظن أنه إذا انصرف الطبيب حل شداد الفصد واستنزف دمه إلى أن يتلف وكان قريب العهد بإخراج الدم وشرب الأدوية المسهلة من
ص: 450
أجل علة نالته قبل حركته من الحضرة فأعلمه الطبيب أنه غير محتاج إلى الفصد فزجره وطرده ثم صرف من كان واقفاً بين يديه من غلمانه حتى خلا بنفسه وأخذ سكين دواته فقطع بها شرايين ذراعيه جميعاً وأدخلها إلى باطن ثيابه فخرج نفسه في مقاتله ودخل إليه فراش كان يختص به فرأس دستَهُ الذي كان جالساً فيه مملواً دماً فصاح وتوافى إليه الناس فأدركوه وبه رمق وظنوا أن إنساناً أوقع عليه ثم تكلم بما بان لهم أنه تولى ذلك من نفسه وحفظت عليه ألفاظ يسيرة منها أن محمد بن عمر العلوي حمله على ما ارتكبه من نفسه وكلمات يسيرة في هذا المعنى وغيره ومات من ساعته وحمل إلى بلده بكارزين من أعمال فارس فدفن هناك. وكانت هذه الحادثة من عجائب الزمان إذ فتك هذا الرجل بنفسه خوفاً من تغير صاحبه له ونسأل الله التوفيق والعصمة والستر الجميل برحمته .
وأنفذ عضد الدولة عبيد الله بن الفضل إلى معسكر المطهر لحفظ أسبابه وتقرير أمر صاحب البطيحة على أمر في العاجل من حمل مال وموادعة له إلى أن ينظر في أمره وكان ذلك عقيب عوده من الإيقاع ببني شيبان فانحدر ووفى بما أمر وحمل مالاً من قبل الحسن بن عمران وتسلم منه رهينة وانكفأ بجميع ذلك ودخل الحضرة يوم الأربعاء للنصف من ذي القعدة.
وفيها انفرد نصر بن هارون بالوزارة لأن أصل الوزارة كانت له ثم شورك بينه وبين المطهر فلما مضى المطهر لسبيله وتفرد نصر بن هارون بوزارته وكان مقيماً بفارس يدبر أعمالها استخلف له عضد الدولة أبا الريان حمد بن محمد.
وفيها ورد رسول لصاحب المغرب برسائل أذاها وكان دخوله في شعبان وانصرافه في ذي القعدة ورد معه القاضي أبو محمد العماني لتأدية الجواب .
وفيها توفي حسنويه بن الحسين في قلعته المعروفة بسرماج .
وفيها قبض على محمد بن عمر العلوي بالبطيحة وأنفذ إلى فارس وكان السبب فيه ما حفظ من كلام المطهر قبل وفاته فيه وأنفذ أبو الوفاء طاهر بن محمد إلى الكوفة لقبض أمواله وأملاكه فوصل إلى شيء عظيم يستكثر من المال والسلاح وضروب الذخائر التي لا يظن بمثلة أنه يجمعها ودخلت اليد في ضياعه وكانت كثيرة تشتمل على جل سقي الفرات بل قد تجاوزت ذلك إلى غيره من أعمال السواد واصطنع أخوه أبو الفتح أحمد بن عمر وقلد الحج بالناس وأقطع إقطاعاً سنياً .
وفي هذه السنة أخذ عبد العزيز بن محمد المعروف بالكراعي أسيراً وشهر بالبصرة وبمدينة السلام ثم قتل وصلب إلى جانب صاحبه .
ص: 451
كان هذا الرجل وضيعاً ساقطاً طبقته عن كل رتبة واستخدم في وقت في تفرقة قضيم الكراع ولذلك عرف بالكراعي ثم وصل بمحمد بن بقية وجمعتهما عاهة النقص ومناسبة السقوط فارتفع معه حتى قلده خلافته بالبصرة وجعله مستوفياً على العمال فأثرى وتموّل وكان منه في أيام عصيان ابن بقية بواسط سوء أدب كثير وذكر الملوك بما لا يليق بالملوك بعضهم في بعض. ثم تنكر له ابن بقية فقبض عليه ونكبه فلما قبض بختيار على ابن بقية استخدمه ولما عزم بختيار على الهرب منهزماً هرب منه وصار إلى البطائح وكان هناك يجري على سوء عادته في سوء الأدب. فدبر عضد الدولة تدبيراً ثم شطره عليه ولو قبل جميعه لتم أيضاً على صاحب البطيحة ما يُستغنى معه عن محاربة ومكافحة وذلك أنه ووقف جماعة من أهل البصرة ووجوهها أن يخدموا عضد الدولة في مكاتبة يُوقعونها إلى هذا الكراعي ويوهمونه أنهم يوالونه ويضافرونهُ فإذا قربوا منه أثاروا الفتنة بمواطأة من سلطان البصرة ثم سلموا إليه البصرة حتى إذا اغترّ استدعى الحسن بن عمران لیتقوی به فإذا صار في دجلة حيل بينه وبين الرجوع إلى البطيحة وحاشته الكمناء من أعلى وأسفل. وأخذ فبلغ به الجهل أن صدق بهذا الوعد وعجل فخرج وأخرج معه الحسن بن عمران وسائر عسكره وقال لي بالبصرة أولياء وإخوان قد كاتبوني والبصرة في أيدينا فاغتر به الحسن بن عمران وخرج مع عسكره فلما صاروا بمطارا ثار بهم من كان فيها من الرجال وقاتلوهم وأخطأوا لأن تمام التدبير كان في أن يتركوهم حتى يوغلوا إلى البصرة فأقام القوم يقاتلونهم ثم ظفر بالكراعي وانهزم الحسن بن عمران بعد أن مُلكت عليه قطعة وافرة من سفنه ورجاله. وحمل الكراعى إلى البصرة فشهر وعوقب وطولب بالمال ثم أنفذ إلى بغداد فشهر منصوباً على نقنق في سفينة وعلى رأسه برنس وذلك يوم الخميس لعشر ليال بقين من شعبان فلما كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة طُرح إلى الفيلة فخبطته وصلب إلى جانب ابن بقية .
وفي هذه السنة نفذ عسكر إلى عين التمر في طلب ضبة بن محمد الأسدي (وقد مرَّ ذكره وأنه ممن يسلك سبيل الدعار ويسفك الدماء ويُخيف السبل وينهب القرى ويبيح الأموال والفروج) وانتهك حرمة المشهد بالحائر فلما أظل عليه العسكر المجرَّد هرب بحشاشته إلى البادية وأسلم أهله وحرمه فحصل أكثرهم في الأسر ومُلكت عين التمر .
وفيها دبَّر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى ففعل ذلك وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار وبنى الأمر فيه على أن يرزق ولداً ذكراً منها فيولي العهد وتصير الخلافة في بيت
ص: 452
بني بويه ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية .
وفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى الجبل وأعمالها ودوّخ همذان والدينور ونهاوند لافتتاح قلاع حسنويه بن الحسين الكردي وتدبير فخر الدولة في قصده ومقابلته على ما كان منه فى مكاشفته والاجتهاد في تشتيت شمل الدولة وتفريق الكلمة ومعاضدة بختیار وابن بقية وقد كان أظهر مباينة مؤيد الدولة وكاتب قابوس بن وشمكير .
ولما هلك حسنويه بن الحسين أمل عضد الدولة أن يكون الشيطان الذي نزغ بينه وبين إخوته قد زال وأنفذ أبا نصر خرشيد بزديار الخازن برسائل إلى مؤيد الدولة وإلى فخر الدولة وإلى قابوس بن وشمكير أما إلى مؤيد الدولة فبإحماده على طاعته التي ما غيرها ولا كدرها وأما إلى فخر الدولة فبالمعاتبة والمداراة والزيادة في الأخذ بالحجة وأما إلى قابوس بن وشمكير فبالمشورة عليه بحفظ الذمة التي تعلق بها وحفظ نعمته وترك التعرُّض لما يُورطه ويُهلكه. فأما مؤيد الدولة فإنه أجاب جواباً سديداً وأنه واقف على حدود طاعته وتابع له في رضاه وغضبه. وأما فخر الدولة فأجابه جواب النظير الذي لا يرى لرتبة الملك مزيّة ولا لكبر السن وعهد الأب فضيلة ولا في المعاودة إلى جميل الطاعة نيَّة . وأما قابوس فأجاب جواب المتهيب المحجم المراقب.
وافترق أولاد حسنويه فرقاً واختلفت بهم المذاهب وهم أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك فطائفة منهم انحازت إلى فخر الدولة مُظهرة لمشاقة عضد الدولة وطائفة وردت حضرته فأما بختيار من بينهم فإنه نافر إخوته وكان مقيماً في قلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فابتدأ بمكاتبة عضد الدولة وبذل تسليم ذلك إليه وذكر رغبته في الاعتصام به والدخول في كنفه ثم تلوّن ولم يف، فتشوف عضد الدولة للمسير إلى الجبل وتهذيب أعمالها فابتدأ فقدم عساكره يتلو بعضها بعضاً فجرد أبا الفتح المظفّر بن محمد الحاجب وأبا نصر خواشاذه وأبا الوفاء طاهر بن محمد وبرز عن داره إلى المعسكر بالمصلى من الجانب الشرقي بعد أن أقر أبا الريان بالحضرة على جملته من خلافة الوزارة ولكن زاد في منزلته وناط به جميع أمور المملكة وطال مقامه بالمعسكر الذي برز إليه إلى أن أوغلت تلك الجيوش السائرة على مقدمته .
وقد كان أبو نصر خواشاذه وطأ الأمور عند خروجه لتأدية الرسائل فواقف القواد والوجوه أن يخدموا عضد الدولة بنياتهم فإذا سار استأمنوا إليه وضمن لهم الإقطاعات السنية وحمل إلى بعضهم الهدايا والألطاف في السر فلما سار تلقته في طريقه البشائر بدخول جيشه همذان واستئمان العدد الكثير من قوّاد فخر الدولة ورجال حسنويه وتلقيهم رايته منحازين إليها وتلقاه أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير حاشيته وبقية قواده وغلمانه فانحل أمر فخر الدولة واحتاج إلى مفارقة
ص: 453
موضعه واللحاق ببلد الديلم فمضى ونزل داراً كان بناها معز الدولة بهوسم ولجأ إلى الداعي العلوي المستولي على ذلك الصقع وعرّج عضد الدولة إلى نهاوند وافتتح قلعة سرماج واحتوى على ما فيها وملك غيرها من قلاع تلك البلاد وألقت إليه الحصون مقاليدها وأخرجت الأرض أثقالها .
ولحقته في هذه السفرة علة عاودته مراراً وكانت شبيهاً بالصرع وتبعه مرض في الدماغ يعرف بليترغس وهو النسيان إلا أنه أخفى ذلك .
ويقال إن مبدأ ذلك به كان بالموصل إلا أنه لم يظهر أمره لأحد.
والحمد لله وصلواته على محمد النبي وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل .
فرغ من انتساخه محمد بن علي بن محمد أبو طاهر البلخي في منتصف شهر ربیع الأولسنة ست وخمسمائة .
نقله وقابله علي بن حنظلة سنة عشرين وخمسمائة .
فرغ من نقله الحسن بن منصور في مستهل المحرم سنة ثمان وثلاثين حامداً لله ومصلياً على نبيه .
فرغ ابنه محمد بن الحسن في ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة .
تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس وهو ذيل تجارب الأمم للوزير أبي شجاع
ص: 454
خلافة المقتدر بالله...3
ذكر ما جرى في ذلك ...3
ودخلت سنة ست وتسعين ومائتين ...4
ذكر الخبر عن الظفر بعبد الله بن المعتز ... 6
ذكر ما عمله القُنّاي في أمر محمد بن داود ...7
وفيها قبض على محمد بن عبدون وسوسن الحاجب وقتلا وذكر السبب في ذلك ...8
ذكر التدبير الصواب في ذلك...9
ذكر ما جرى في أمر القاضي أبي عمر ...10
ذكر خيانة واتفاق سيىء اتفق فيها ...10
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين ...11
ذكر عجلة واتفاق سيىء...11
ذكر تدبير فاسد وما آل إليه ...12
ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين...12
ذكر ما جرى على سبكري من الأسر ...12
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين...13
ذكر ما دبّره ابن أبي البغل وانعكاسه عليه...14
ذكر فساد تدبير الخاقاني لأمر الوزارة ...15
و دخلت سنة ثلاثمائة...16
ودخلت سنة إحدى وثلاثمائة ...17
ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة ...22
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة...22
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة...22
ص: 455
وزارة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات الثانية ...25
ذكر ما جرى من ابن أبي الساج عند تداول الوزارة الأيدي الكثيرة ...27
ذكر ما دبّره ابن أبي الساج واحتال به ...27
و دخلت سنة خمس وثلاثمائة...30
ودخلت سنة ست وثلاثمائة ...32
ذكر ما عامل به حامد بن العباس علي بن محمد بن الفرات وأسبابه ...34
ودخلت سنة سبع وثلاثمائة ...39
ذكر ما اضطرب لأجله أمر حامد بن العباس حتى فسخ ضمانه...41
ودخلت سنة ثمان وثلاثمائة ...43
ودخلت سنة تسع وثلاثمائة ... 43
ذكر خبر الحسين بن منصور الحلاج وما آل إليه أمره من القتل والمثلة ...43
ودخلت سنة عشر وثلاثمائة ...47
ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة ...48
ذکر صرف حامد وعلي بن عيسى وردّ الوزارة إلى ابن الفرات ...48
ذكر الخبر عن وزارة أبي الحسن بن الفرات الثالثة ...51
ذكر الخبر عن قبض الوزير ابن الفرات على حامد بن العباس ...53
ذكر ما عومل به حامد وما عمله هو ...55
ما جرى في أمر علي بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات ...58
ذكر مناظرة ابن الفرات علي بن عيسى ...59
ذكر ما دبّره ابن الفرات في أمر مونس حتى أبعده ...64
ما دبّره ابن الفرات بعد مونس في أمر الحاشية...65
ودخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة ...66
ذكر السبب في ضعف أمر ابن الفرات بعد تناهيه في القوة والاستقامة ...67
ما عامل به المحسن المنكوبين لما اضطرب أمره وأمر أبيه...69
ذكر القبض على أبي الحسن بن الفرات وهرب ابنه المحسن ...69
ذكر توصل أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله الخاقاني إلى الوزارة ...71
ذكر ما جرى عليه أمر ابن الفرات وأسبابه بعد تقلد أبي القاسم الخاقاني الوزارة ...71
ص: 456
ذكر اتّفاق سيئ اتّفق على المحسن حتى ظفر به وصودر وقتل ...73
ذكر مقتل أبي الحسن بن الفرات وابنه المحسن ...77
ذكر الأسباب التي اتفقت على الخاقاني حتى صرف عن الوزارة...79
ذكر سبب وزارة أبي العباس الخصيبي ...80
ذكر الخبر عن دخول القرمطي الكوفة...81
ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة...82
ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة ...82
ذكر تدبير سيئ دبره الخصيبي أخرج به أكثر المماليك عن يده ولم يمكن تلافيه... 83
ذكر الخبر عن القبض على الخصيبي وتقليد علي بن عيسى الوزارة...84
ذكر خلافة أبي القاسم الكلوذاني لعلي بن عيسى وتمشيته للأمور...84
ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة ...85
ذكر ما دبَّره علي بن عيسى في وزارته هذه وما جرى في أيامه... 85
شرح ما جرى بين الوزير أبي الحسن علي بن عيسى وبين أبي العباس أحمد بن عبيدالله من المناظرة ...86
ذكر ما دبّره علي بن عيسى من الأمور في وزارته هذه ...89
وفيها ظهرت وحشة مونس المظفر وذكر السبب في ذلك... 90
ظهور الديلم ...91
وفيها ارتفع ذكر أبي جعفر بن شيرزاد وعنى به علي بن عيسى ذكر السبب في ذلك ... 93
ذكر وقعة ابن أبي الساج مع القرمطي وما استعمله من ترك الحزم واستهانته بالعدوّ حتى أسر وما اتفق عليه بعد الأسر حتى قُتل... 98
ودخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة ...104
ذكر الحال التي أدت إلى صرف علي بن عيسى وتقليد أبي علي بن مقلة ...104
ذكر القبض على علي بن عيسى وتقليد ابن مقلة ...105
وفي هذه السنة وقعت حرب بين نازوك وهارون بن غريب الخال وذكر السبب في ذلك... 107
ظهور الوحشة بين مونس والمقتدر...107
ودخلت سنة سبع عشر وثلاثمائة...108
ص: 457
ذكر فتنة نازوك وأبي الهيجاء التي أدت إلى خلع المقتدر وذكر قتلهما ورجوع المقتدر بالله إلى الخلافة ...108
ذكر الخبر عن خلع المقتدر بالله وتقليد القاهر بالله الخلافة... 110
ذكر حَزم استعمل وانتفع به ...111
ذكر السبب في ردّ المقتدر إلى الخلافة... 111
ذكر الخبر عن إيقاع القرمطي بالحاج وتخريبه مكة ...115
ودخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة...115
وفي هذه السنة كان هلاك الرجالة المصافية وذكر السبب في هلاكهم...115
وفيها قبض على الوزير أبي علي بن مقلة وذكر السبب في القبض عليه...116
ذكر ما جرى في أمر الوزارة بعد أبي علي وتقلد سليمان بن الحسن لها...116
وفيها قُبض على البريديين وصودروا وذكر الخبر عن ذلك...117
ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة...119
ذكر السبب في استيحاش مونس وخروجه ...119
ذكر اتفاق حسنِ لأحمد بن كيغلغ بعد هزيمته ودخول أصحاب لشكري أصبهان ...122
ذكر السبب في تقلّد الحسين بن القاسم الوزارة وما تمّ له من الحيلة فيها ...122
وزارة أبي الفتح الفضل بن جعفر...130
ودخلت سنة عشرين وثلاثمائة ...132
فيها انحدر مونس من الموصل إلى بغداد وقتل المقتدر بالله وذكر السبب في ذلك ...132
خلافة القاهر بالله أبي منصور محمد بن المعتضد سنة عشرين وثلاثمائة ...138
ودخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة...132
ذكر ما جرى في أمر الذين هربوا من قوَّاد المقتدر وما آل أمرهم إليه ...145
ذکر انعكاس هذا التدبير ...149
وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم ...151
ذكر مقتل مونس ويلبق وعلي ابنه ...153
ذكر السبب في تقليد أبي العباس الخصيبي الوزارة ...154
ذكر السبب في ظهور علي بن بويه والاتفاقات التي اتفقت له حتى ملك ما ملك ...157
ص: 458
ذكر سبب تم به لعلي بن بويه ولايته وصرف الباقون بأجمعهم قبل وصولهم إلى أعمالهم ...158
ذكر حيلة مرداويج التي لم تتم له ...159
دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ...161
ذكر اتفاق جيد اتفق لعلي بن بويه ورديء جداً على ياقوت مع تدبير سيئ وتسرع من ياقوت غير صواب...161
ذكر تدبير دبره ياقوت في حال الهزيمة فلم ينفذ له واحترز منها علي بن بويه فظفر... 161
ذكر السبب في القبض على القاهر ...163
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر في سنة322... 166
ذكر ابتداء أمر أبي الحسن علي بن بويه الديلمي ...168
وقتل أبو الحسن علي بن بويه أبا سعد إسرائيل كاتبه ذكر السبب في ذلك ...173
وفي هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال وذكر السبب في قتله ...174
ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ...176
ذكر السبب في قتل مرداويج ...176
اتفاق عجيب اتفق له في هربه ...179
وفيها قبض على المظفّر ومحمد ابني ياقوت بتدبير أبي علي بن مقلة وذكر السبب في ذلك ...181
وفيها قتل الحسن بن عبد الله بن حمدان عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان وخرج لذلك أبو علي بن مقلة إلى الموصل وذكر السبب في ذلك ...184
ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ...188
ذكر هذه الحيلة على أبي علي بن مقلة ...189
وزارة عبد الرحمن بن عيسى... 190
ذكر وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي ...191
ذكر مقتل ياقوت ...191
ذكر الخديعة التي نفذت على ياقوت ...192
وزارة سليمان بن الحسن...198
ذكر استيلاء ابن رائق على الخلافة وسائر الممالك ...198
ص: 459
ذكر ما كان من عاقبة هذا الغدر والنكث ...200
ذكر ما اتفق له من الخروج إلى بلدان العراق حتى ملكها ...201
ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ...201
ذكر حيلة أبي بكر بن مقاتل على الحسين بن علي النوبختي حتى عزله عن كتابة ابن رائق ...203
ذكر الخبر عما احتالوا به واتفق أيضاً لهم ...205
ذکر اتفاق سيئ اتفق على ابن رائق حتى انهزم إلى الأهواز وأحرق سواده ...211
ذكر حكاية عن بحكم تدل على حصافة وبعد غور وكبر همة...211
شرح حال أبي الحسين أحمد بن بويه وأبي عبد الله البريدي في قصدهم الأهواز لمحاربة بحكم وذلك في سنة 326
... 213
ودخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة...213
ذكر السبب في هرب البريدي... 214
وفي هذه السنة قطعت يد أبي علي بن مقلة ثم لسانه وذكر السبب في ذلك ...217
حكاية عن بحكم تدل على دهاء ونكر...220
ذكر إضاعة حزم من اللشكري بعد هذه الحال حتى هرب وقتل أكثر أصحابه ...221
ذكر حيلة تمت لهذا الأرمني على اللشكري حتى قتله ومعظم أصحابه ...223
ذكر اتفاق حسن اتفق لفتح هذا الغلام (حتى سلم وحده من القتل) ...223
ذكر حيلة تمت عليهم ثانية حتى قتلوا بأجمعهم إلا نفر يسير جداً وذلك لقلة احتراسهم من المضائق وجهلهم المسالك واغترارهم بالشدة ...224
وفيها قصد الراضي بالله بالله وبحكم معه ديار ربيعة والموصل وذكر السبب في ذلك... 224
ودخلت سنة سبع وعشرين وثلثمائة ...225
ذكر سرعة تلافي بحكم أمر بالبا قبل أن يستفحل ...227
ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ...227
ذكر السبب في ذلك ...227
ذكر السبب في خروج بجكم إلى الجبال ورجوعه عنها وسبب فساد الحال بينه وبين البريدي بعد الوصلة والصلاح...228
ذكر اتفاق ظریف غریب ...229
ص: 460
ودخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ...230
خلافة المتقي لله أبي إسحاق إبراهيم ابن المقتدر بالله ...233
ذكر حيلة في الحرب تفرّق بها الجيش المجتمعون ودخل بينهم الغدر فأزال تعبئتهم وهزمهم ...235
ذكر غلطة وقعت من ابن محتاج في استنامته إلى جيش غريب حتى قتل خلق من أصحابه وانتهب سواده ونجا بنفسه ...236
ذكر الخبر عن إصعادهم وما آلت إليه أمورهم ...238
ذكر إمارة كورنكيج ...241
ذكر السبب في وزارة القراريطي ...242
ذكر الخبر عن مسير ابن رائق من الشام ودخوله بغداد وما آل إليه أمره ...242
ذكر الخبر عن هزيمة كورنكيج واستتاره باتفاق وحرب ...243
ذكر الخبر عن قتل الديلم وإمارة ابن رائق...244
ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة ...244
ذكر وزارة أبي عبد الله البريدي ...245
ذكر أبي الحسين البريدي في إصعاده إلى بغداد ...245
ذكر الخبر عن مقتل ابن رائق ...247
ذكر إمارة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان ...247
خبر محاربة البريدي مع ابن حمدان... 248
ذكر حيلة ابن مقاتل على ناصر الدولة ... 249
ذكر ما آل إليه أمر ديسم بعد حصوله بأردبيل ...251
ذكر حيلة النعيمي على ديسم حتى فارق الحصار وخرج إلى المرزبان ...252
ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ...253
ذكر ما آل إليه أمر سيف الدولة بواسط مع الأتراك وما اتصل بذلك من خبر ناصر الدولة ببغداد ...253
ذكر ما جرى من أمر توزون بواسط مع الأتراك بعد هزيمة سيف الدولة حتى تمت له الإمارة ...255
ذكر سبب قبض توزون على خجخج وسمله إياه ...255
ص: 461
ذكر الخبر عن مصير سيف الدولة إلى بغداد بعد هزيمته وما انتهت إليه حالته ...256
ذكر الخبر عن تقليد توزون إمرة الأمراء... 257
ذكر سبب مفارقة ابن شيرزاد البريدي والاتفاق الغريب له في ذلك ...257
ذكر حيلة تمت على يوسف بن وجيه... 258
ذكر السبب في الوحشة بين توزون والمتقي وما آل إليه الأمر فيه... 258
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ...259
ذكر حيلة تمت على معزّ الدولة حتى انهزم بعد استظهار منه...260
ذكر السبب في قتل البريدي أخاه وما جرى بعد قتله إياه وعاقبة أمره... 261
ذكر الخبر عن الأصبهاني الذي احتال لقتل القرامطة بأيديهم حتى كاد يفنيهم ...263
شرح أخبار الروسية وما آل إليه أمرهم ...265
ذكر تدبير صواب أشار به بعضهم فلم يقبلوا منه حتى قتلوا بأجمعهم واستبيحت أموالهم وذراريهم ...266
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ...268
ذكر السبب في القبض على المتقي وخلافة المستكفي بالله ...270
ذكر مصير الأمير أبي الحسين إلى ديالي... 271
ذكر السبب في انصرافه مع استظهاره وبعدما هزم توزون ...271
شرح قصة أبي الحسين البريدي ومصيره إلى بغداد مستأمناً إلى توزون وما آل إليه أمره من القتل... 272
ذكر الخبر عن قتل أبي الحسين البريدي... 272
ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ...274
ذكر الخبر عن مسير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى بغداد...275
ذكر كتابة ابن شيرزاد لمعز الدولة أبي الحسين...276
ذكر الخبر عن قبض معز الدولة على المستكفي بالله ...276
ذكر خلافة المطيع لله وما جرى عليه من الأمور ...277
ذكر الحيلة التي تم بها عبورهم ...279
حيلة غريبة ينبغي أن يحترز من مثلها ...280
ص: 462
ذكر ما انتهى إليه هذا التدبير من سوء العاقبة وخراب البلاد وفساد العساكر وسوء النظام...382
ذكر ما تم من الحيلة لعماد الدولة في تلك الحال ...285
ذكر ما انتهى إليه أمر إبراهيم وابن محتاج مع نوح بن نصر وما اتفق من الأسبابالتي أعادت نوحاً إلى سريره ومقرّ عزه بخراسان... 285
ذكر الحيل التي تمت لنوح على عمه حتى تمكن منه ومن عسكره ...286
ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ...286
ذكر السبب في هزيمة تكين والظفر به بعد استعلائه... 287
ودخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ...288
ودخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة...289
ودخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ...292
ذكر استعمال حزم واستظهار من عماد الدولة قبل موته ...294
ودخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ...294
ذكر السبب في اختيار معز الدولة أبا محمد المهلبي وإيثاره إياه على وجوه الكتاب من الحضرة وغيرهم مع وفور عدد الكفاة يومئذ...295
ذكر الآثار الجميلة التي أثرها الوزير أبو محمد المهلبي حتى عمرت الخراب وتوفّر دخلها واتصل الحمل منها بعد انقطاعه ...296
ذكر السبب في ذلك وفي هزيمة المهلبي بعد الاستظهار على عمران ...297
ذكر الأسباب التي بعثت السلار المرزبان على قصد الري وما انعكس عليه من تدابيره حتى أسر وحبس في القلعة
بسميرم ... 298
ذكر تدبير تم على المرزبان حتى حصل بأصبهان بعد أن كان واطأ الديلم الذين أخرجوا معه على الفتك بأبي الفضل بن العميد والهرب به ...299
ذكر ما جرى في أمر عسكر المرزبان في آذربيجان بعد حصوله في الأسر ...300
ذكر خطأ ديسم في إيحاش وزيره حتى فارقه وثلمه فهزمه عدوه... 301
ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة... 301
ذكر السبب في ورود ابن قراتكين الري ...302
ذكر تدبیر صواب تمكن به سبكتكين من أول عدوّ لقيه بقرميسين ...302
ص: 463
ذكر خبر عجيب و اتفاق غريب... 304
ودخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ...305
ذكر السبب في طمع ابن وجيه في البصرة ثم انهزامه منها ...306
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة... 308
ذكر السبب في خروج ديسم عن آذربيجان بعد تمكنه منها وانهزامه من بين يدي المرزبان ...308
ذكر حيلة المرزبان على صاحب قلعة سميرم وما تم عليه حتى أفلت من موضعه وعاد إلى مملكته بآذربيجان...310
ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة... 313
ذكر السبب في يأس ديسم من نصرة معز الدولة إياه ...313
ذكر الرأي الخطأ من الأبزاعجي حتى استمرت عليه النكبة وعظمت بعد أن كانت خفيفة ...314
ودخلت سنة أربع وأربعين وثلثمائة ...314
ودخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ...316
شرح صورة هذه الحرب على سياقة من شاهدها ...317
ودخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة ...319
ودخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ...320
ذكر هذه التوبيخات ...320
الجواب عن هذه الرسالة ...321
ذكر عجلة وإضاعة حزم ...321
ذكر السبب في هذه النكبة وضعف معز الدولة بعد الاستعلاء...321
ذکر اتفاق صعب غير محتسب ...322
ذكر تدبير سيىء ورأي ظاهر الفساد رآه معز الدولة بعد فراغه من روزبهان أدى إلى تخريب المملكة وسوء عاقبة الأولاد والرعية ...323
ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ...323
ذكر انحدار معز الدولة والسبب فيه بعد تمكنه من ديار ربيعة ومضر...324
وفي هذه السنة انقطعت الحمول من واسط إلى البصرة والأهواز ذكر السبب في ذلك...324
ص: 464
ودخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة...325
ودخلت سنة خمسين وثلاثمائة ...328
ودخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ...332
ودخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ...337
ودخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة... 335
ودخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ...340
ودخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ...343
ذكر ما جرى في عمان ...343
ذكر السبب في هزيمة إبراهيم من آذربيجان على تلك الصورة القبيحة ووروده إلى حضرة ركن الدولة ...345
وفيها ورد جيش من خراسان عظيم ...346
ذكر خبر الغزاة الواردين من خراسان وما دبروه بالري على الديلم وما انعكس عليهم من الأمر بعد استعلائهم ...346
ذكر مكيدة لركن الدولة في الوقت نفذت له ...348
ذكر تدبير جيد ورأى صواب رآه الأستاذ الرئيس ابن العميد ولم يقبل وعاقبة ذلك ...350
ودخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة...351
ذکر اتفاق حسن ...351
ذكر هذا الاتفاق العجيب... 352
ذكر سوء تدبير بختيار لمملكته ولنفسه حتى فسد جنده وطمعوا فيه ثم طمع أعداؤه أيضاً فيه وأفضى أمره إلى الهلاك
... 353
ذكر رأي صواب لبني حمدان راه ناصر الدولة فخولف...355
ودخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ...356
ذكر ما دبر كل واحد من الكاتبين في خطبة الوزارة وسعي كل واحد منهما على صاحبه ...356
ذكر السبب في عصيان الحبشي وتمكن أبي الفضل منه وحصول أمواله وذخائره وأسبابه له... 357
ذكر السبب في اضمحلال أمره حتى ظفر به وبأسبابه ودعاته وجميع من دخل معه في بيعته... 360
ذكر اضطراب أمر اليسع مع أبيه حتى استبدل به وما آل إليه أمره حتى أخرج أباه إلى خراسان مكرهاً... 362
ص: 465
ودخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة...363
وفيها نفي شيرزاد بن سرخاب كاتب الفارسية عن مدينة السلام وذكر السبب في ذلك... 364
ودخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ...366
شرح الحال في ذلك وسبب تمكن أبي الفضل بعد نكبه حتى أعيد إلى الوزارة ومكن من أبي الفرج...368
ذكر فساد الحال بين الوزير وبين أبي قرة وما تم له من عزله وتولية أبي الفضل... 368
ذكر ما احتال به في هذه الحال وما عرض له من سوء الاتفاق...370
ذكر جملة من فضائل أبي الفضل بن العميد وسيرته ...374
ودخلت سنة ستين وثلاثمائة ...378
ذكر ارتفاع ابن بقية ...380
ذكر ما انتهى إليه أمر أبي قرة بعد حصوله بواسط وقوة أمره وعناية سبكتكين وأصحابه به ...381
ذكر السبب في انتقاض أمر أبي قرة بعد تماسكه وبعد إشرافه على الخلاص من النكبة ...382
ذكر السبب في ذلك والاتفاق الحادث عن قصد وغير قصد ...382
ذكر تدبير دبره الوزير أبو الفضل على سبكتكين لما استوحش منه فانعكس عليه ...384
ذكر السبب في اجتياح الزمان له ولهم ...384
ذكر سوء تدبير بختيار لأمر عمران منذ انحدر من بغداد إلى أن خرج عائداً إليها وما تم لعمران من الطمع فيه والاستظهار عليه ...385
ودخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة... 389
ذكر السبب في تجاسر العامة على السلطان والفتن الثائرة بهم حتى خربت بغداد ...390
ذكر الرسائل والجوابات التي دارت بين المطيع وبين بختيار وما آل إليه أمر أبي الفضل من الهلاك ...392
ذكر السبب في تقلد ابن بقية الوزارة ...393
ذكر كلام سديد لابن بقية في تلك الحال ...394
ذكر ما دبّر به ابن بقيَّة أمره حتى تماسك مديدة...395
ذكر تدبير دبره الترك وأكابر الحاشية والجند حتى سكن أمرهم مديدة ثم عادت الحال كأسوأ ما كانت ...396
ذكر سبب قوي في عودهما إلى الحال الأولى من العداوة...396
ص: 466
ودخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة...396
شرح هذه الأسباب وذكرها على التفصيل ...396
ذكر الحال في هذه الخرجة وما آل إليه الأمر...397
ذكر مكيدة جرت في هذه الحرب واجتماع من سبكتكين وأبي تغلب على بختيار وحيلة بينهما لم يتممها سبكتكين وضيع فرصته فيها ...398
وفي هذه السنة هلك محمد بن أحمد الجرجرائي وتلف في المصادرة وذكر السبب في ذلك... 400
وفي هذه السنة بدأت فتنة الأتراك بالأهواز ثم عمت جميع العراق...401
ذكر السبب في هذه الفتنة كيف نشأت ...401
ذكر الخطأ الفاحش والتخليط الذي استعمل في التدبير حتى انعكس وعاد وبالا ...402
ذكر حيلة احتالها بختيار فلم تتم له... 403
ذكر انتقاض هذا التدبير بعد استمراره حتى ثارت الفتنة العظمى ...403
خلافة الطائع لله ...405
ذكر خلع المطيع وتسليم الأمر إلى ولده ...405
ذكر أسباب الفتن الهائجة بين العامة حتى أدت إلى بوار بغداد ...405
شرح الحال فيما تأدى إليه أمر بختيار بالأهواز وما دبر به أمره...405
ذكر السبب في ضرورة بختيار إلى استصلاح الأتراك بعد استفسادهم ...405
جواب عمران بن شاهين عن رسالته واتباعه إياه بكلام وافق قدراً فجرى كما قال وقدَّر... 406
جواب ركن الدولة عن رسالته إليه ...406
جواب عضد الدولة عن رسالته إليه ...407
ذكر الرسائل التي ترددت بين سبكتكين و بختيار ...408
ذكر السبب في تسييرهم حمدان مقدمة والسبب في استثمانه إلى بختيار... 409
ذكر السبب في رجوع الفتكين إلى بغداد وهرب أبي تغلب عنها إلى الموصل ...410
ذكر عجلة وقعت وحرص ظهر من جيش بختيار الذين كانوا في ميسرة عضد الدولة فكانوا يكسرون العسكر... 412
ذكر ما جرى بين بختيار وبين جيشه وما كان من اعتزاله إياهم وما كان من إنكار ركن الدولة لذلك وما تمَّ من الحيلة عليه من انتقاضه وعوده إلى منزلته وحالته ...412
خبر عصيان المرزبان بن بختيار بالبصرة وعصيان ابن بقية بواسط ...414
ص: 467
ذكر ما جناه أبو الفتح بن العميد على نفسه وميله إلى الهوى واللعب حتى تأدى أمره إلى الهلاك ...419
ذكر ما جرى عليه أمر ابن بقية...420
ذكر اتفاق ظريف في سلامة ابن بقية من علته ثم من قبض بختيار عليه ...422
ودخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة ...424
ودخلت سنة ست وستين وثلاثمائة ...426
ذكر بلوى بلي بها بختيار في تلك الحال حتى أسلم بقية ملكه ...430
ذكر السبب في قبض بختيار على ابن بقية ...431
تمام خبر بختيار وما عمله بواسط إلى أن صاعد إلى بغداد ...432
ودخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة ...433
ذكر السبب في المثلة بابن بقية وابن الراعي وسمل عيونهما ...433
وعاد الحديث إلى تمام خبر الوقعة بين بختيار ومن جمع وبين عضد الدولة بقصر الجص... 435
ذكر غلط اتفق بجناية جناها أبو سعد بهرام على العسكر حتى كسر وهزم بعد التمكن من أسر أبي تغلب والظفر به وبمن معه ...438
وذلك عند دخول سنة ثمان وستين وثلثمائة...439
شرح الحال في ميافارقين وفتحها ...439
ذكر الحيلة التي تمت لأبي الوفاء في فتح ميافارقين...440
فتح آمد ...440
ذكر ما عمله أبو تغلب بعد مسيره من آمد ... 440
فتح دیار مضر...441
ذكر ما دبره عضد الدولة من أمر هذه الممالك وعوده إلى بغداد ...443
ذكر ما أكرم به عضد الدولة من جهة الطائع لله ...443
ودخلت سنة تسع وستين وثلثمائة ...444
ذكر ما دبره أبو العلاء من أمرهم حتى ظفر بهم ...445
ذكر شرح الحال في قتله وحرقه ...442
ذكر تلافي بغداد بالعمارة بعد الخراب ...447
ذكر شرح الحال في قتل المطهر نفسه ...449
ص: 468
شرح الحال في الحيلة التي تمت عليه حتى أسر وقُتل ... ...452
و هذا آخر ما عمله الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد ابن يعقوب مسكويه رضي الله عنه... 454
ص: 469