تجارب الأمم وتعاقب الهمم
تأليف : أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب مِسكَوَيه
المتوفى سنة 421 ه-
تحقيق :سيد كسروي حسن
الجزء الثاني
يحتوي على حوادث القصر الأموي من خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى آخر خلافة مروان بن محمد
منشورات محمد علي بيضوي
دارالكتب العلمية.
بيروت - لبنان
محرر الرقمي: هادي ميرزائي
ص: 1
منشورات محمد علي بیضوي
دار الكتب العلمية
جميع الحقوق محفوظة
Copyright
All rights reserved Tous droits réservés
جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة
لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزاً أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطياً
Exclusive rights by
Dar Al - Kotob Al - ilmiyah Beirut - Lebanon No part of this publication may be translated, reproduced, distributed in any form or by any means, or stored in a data base or retrieval system, without the prior written permission of the publisher.
Droits exclusifs à
Dar Al - Kotob Al - ilmiyah Beyrouth - Liban
Il est interdit à toute personne individuelle ou morale d'éditer, de traduire, de photocopier, d'enregistrer sur cassette, disquette, C.D, ordinateur toute production écrite, entière ou partielle, sans l'autorisation signée de l'éditeur.
الطبعة الأولى 2003 م. 1424ه-
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
رمل الظريف - شارع البحتري - بناية ملكارت
الإدارة العامة عرمون - القبة - مبنى دار الكتب العلمية
هاتف وفاكس 13 /12/ 11 /804810 (9615+)
صندوق بريد: 9424 - 11 بيروت - لبنان
Dar Al - Kotob Al - ilmiyah
Beirut - Lebanon
Raml Al - Zarif, Bohtory Str., Melkart Bldg. 1st Floor
Head office
Aramoun - Dar Al - Kotob Al - ilmiyah Bidg. Tel Fax: (+9615) 804810 / 11 / 12 / 13
P.O.Box: 11 - 9424 Beirut - Lebanon
Dar Al - Kutub Al - ilmiyah
Beyrouth - Liban
Raml Al - Zarif, Rue Bohtory, Imm. Melkart, 1er Étage
Administration général
Aramoun - Imm. Dar Al - Kotob Al - ilmiyah
Tel Fax: (+9615) 804810 / 11 / 12 / 13
P.P: 11 - 9424 Beyrouth - Liban
ISBN 2 - 7451 - 3414 - 0
90000
978274513414
http://www.al - ilmiyah.com/
e - mail: sales@al - ilmiyah.com
info@al - ilmiyah.com
baydoun@al - ilmiyah.com
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شُعبة، فقال :
- «استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة، وأباه عمراً على مصر، تكون أنت بين لحيي الأسد».
فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة. وبلغ عمراً ما قاله المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على مُعاوية فقال :
- «أتستعمل المغيرة على خراج الكوفة، فيغتال المال، ويذهب به، فلا تستطيع أن تأخذَهُ منه؟ استعمل على الخراج رجلاً يَهابُك، ويَتَّقِيكَ». فعزل المغيرة عن الخراج واستعمله على الصَّلاةِ. فَلَقِيَ المغيرة عمراً، فبدأ عَمْرُو وقال :
- «أَنتَ المُشير على أمير المؤمنين بما أَشرتَ في عبدِ اللَّهِ؟» قال :
- «نَعَمْ». قال :
«فهذه بِتِلكَ!».
و لمَّا وَلِيّ المغيرة بن شعبة الكوفة، أتاها، وترك التَّشَدُّدَ، وإثارةَ النَّاسِ عن أهوائهم، وأحبَّ السَّلامةَ واختارَ الدَّعةَ، فكان يُرى، فيُقالُ له : فلان بن فلان يَرى رَأيَ الشيعة، وفلانٌ يَرى رأي الخوارج، فكان يقول :
ص: 3
- «قَضَى اللَّهُ أَن لا تَزالُوا مُختلفين، وسيحكم بين عِبادِه».
فَأَمنَهُ النّاس.
أَن لَقِيَتِ الخوارج بعضها بعضاً، ورَأَوا أنَّ في جهاد النَّاسِ الفَضلَ والأَجرَ. ففَزِعُوا إلى رُؤسائهم وتجمَّعُوا وتمت آراؤهم واجتمع أمرهم وبايعوا المستوردَ بنَ عُلفَة، وكان زياد متحصناً بفارس قد عمر قلعة إصطخر. فكان معاوية يُكاتبه، ويُطالبه بالمال، ويستقدمه، فيأبى.
فأَرِقَ مُعاوية ذات ليلة، فلما أصبح، دعا بالمغيرة بن شعبة، فقال له :
- «كيفَ أَنتَ بِسرِّ أَستودعُكَ؟».
فقال :
- «يا أمير المؤمنين، إن تستودِعني، تستودع ناصحاً، شفيقاً، وَرِعاً، وثيقاً».
قال :
- «ذكرتُ زياداً واعتصامهُ بأَرض فارس، وامتناعه بالقلعة، فلم أَنَمْ لَيلَتي».
فأراد المغيرةُ أَن يُطَاطِئ من زياد، فقال:
- «ما زياد هناك، يا أمير المؤمنين».
قال : «بئْسَ الوطاءُ العَجزُ، داهية العرب معه الأموال، مُتحصّن بقلاع فارس يُدبِّرُ، ويُريض الخَيلَ. ما يُؤْمِنُني أن يُبايعَ لِرجُلٍ من أهل هذا البَيتِ، فإذا هو قد أعادَ الحرب جَذَعة».
فقال المغيرة :
- «أتأذن لي يا أمير المؤمنين، في إتيانه؟».
قال :
- «نَعَمْ، وتَلَطَّفْ!».
كان المغيرة يحفظ يداً لزيادٍ عندَهُ، فأتى المغيرة زياداً. فقال زياد لمَّا رَءَاهُ :
- «أَفْلَحَ الزَّائر».
فقال المغيرة :
- «إليك ينتهي الخبر، أنا المُغيرةُ، إِنَّ مُعاوية استخفَّهُ الوَجلُ، حتى بَعَثَني إليك.
ص: 4
ولم يكن يعلمُ أحداً يَمدُّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخُذْ لنفسكَ قبل التّوطين، فيستغني معاوية عنك».
قال :
- «أَشِرْ عَلَيَّ، وارمِ الغرض الأقصى، ودَعْ عنكَ الفُضول، فإنَّ المستشار مُؤتَمنُ».
فقال المغيرة :
- «في محض الرَّأي بشاعة، ولا خَيرَ في التمذيق، أرى أن يصلَ حَبلُكَ بِحبله، وتَشخَصَ إليه».
قال :
- «أرى، ويقضي الله».
وأقام زياد في القلعة، وجعلَ يَرْتَأي ويمكُرُ.
فسنح لزيادٍ من الرَّأيِ أَن دَعا بعضَ ثِقاتِه، وبَذَلَ له، ومَنَّاهُ ووَعَدَهُ، وقال:
- «امضِ، حتّى تَأْتِيَ مُعاوية، فإِنَّهُ سَيدعُوكَ، ويسأَلُكَ عَنِّي، فَقُلْ له : إِنَّكَ قد أمهلتَهُ، وأَضَربتَ عنه، مع ما قد احتجبه من الأموال، وارتكبه من الأمور، حتى قد شاعَ في النَّاسِ : أَنَّكَ إنَّما تُرخِي له الحبل، وتُساهِلُهُ، للنَّسَبِ بينكما. فإذا قال : وما ذاك؟ فقُلْ : يقول النَّاسُ : إنَّه أخوكَ وإنَّكَ قد عرفت ذاك له».
فذهب الرَّجلُ، حتى أتى معاوية، فجرى بينهما ما لقَنَهُ زياد.
فقال معاوية :
- «أوقد تحدَّثَ النَّاسُ بذلك؟» قال :
- «نعم».
فسكت معاوية، وخرج الرّجل من عنده وشاع المجلس، وقال النَّاسُ :
- «زياد بن أبي سفيان».
ثمَّ كاتب زيادٌ مُعاويةَ، وأَجابَهُ، واستقرَّتِ المكاتبةُ بينَهما، إلى أَن وَرَدَ على مُعاويةَ، على أن يرفع إليه حساباً بما صار إليه من الأموال، ويَصدُقَهُ في ما خرج منه إلى أمير المؤمنين، وما بقي عنده.
فخرج إليه زياد، فأخبره بما حمله إلى عليّ بن أبي طالب - عليه السَّلام - وما فرَّقَهُ في الأَرزاقِ، والحمالاتِ، وبقى بقيَّةٌ، وقال :
ص: 5
- «قد أودعتها عند قوم».
فصدقه معاوية، ومكث يُرَدّدُهُ بذلك.
ثم كتب زياد كتباً إلى قوم.
- «قد علمتم ما لي عندكم من الودائع وهي الأمانة التي يقول الله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» [الأحزاب: 72] الآية، فاحتفظوا بما قِبَلَكُم».
وسمّى في الكُتبِ بالذي أقرَّ لِمعاويةَ ودَسَّ الكُتب مع رسولِه، وأمره أن يتعرَّضَ لبعض من يبلغ معاوية، فتعرَّضَ الرَّسُولُ حتى أُخِذَ، فأُتِيَ به معاوية
فقال معاوية لزياد :
- «لَئن لم تكن مكرت بي إنَّ هذه الكُتب لمن حاجتي».
فقرأها، فإذا هي بمثل ما أَقَرَّ بِه لمعاوية.
فقال معاوية :
- «أَخافُ أَن تكون مكرت بي، فصالحني عليها».
فصالَحَهُ على شَيءٍ، مِمَّا ذكر أَنَّهُ عِندَهُ، فحمله.
كان عبد الله بن عامر، والياً على البصرة، من قبل معاوية، فأَنفذ إلى خُراسان قيس بن الهيثم، واستبطَأَهُ في بعض الأحوالِ، وكتب إليه، يَستَحِثُّه حمل المال.
وكان عبد الله بن خازم حاضراً، فقال لابن عامر :
- «إِنَّكَ قد وجهت إلى خراسان رجلاً ضعيفاً، وإنِّي أَخافُ : - إِن لَقِيَ حَرباً - أن ينهزمَ بالنَّاسِ، فتهلكَ خُراسان، وتَفتَضحَ أَخوالُكَ».
قال ابن عامر :
- «فما الرَّأيُ؟» قال :
- «تكتب لي عَهداً - إن هو انصرفَ عن عدُوٌّ - قمتُ مقامَهُ».
فكتب له، وسار عبدُ اللَّهِ بن خازم إلى خُراسان فجاشَتْ جماعة من طخارستان فشاور قيس بن الهيثم النَّاس، فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أَطرافه، فانصرف. فلما سار مرحلة أو مرحلتين، أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر النَّاسِ، ولَقِيَ العَدُوِّ، فهزمهم. وبلغ الخبر المصرين، والشّامَ، فَغَضِبَتِ القيسية وقالوا :
- «خدعَ قيساً وابن عامر».
ص: 6
وأكثروا في ذلك على معاوية، حتى بعث إلى عبد الله بن خازم، فقَدِمَ بِه واعتذر مِمَّا قيل فيه. فقال معاوية :
- «فإذا كان غداً، فقُمْ في النَّاسِ، واعتذر!».
فرجع ابن خازم إلى أصحابه، فقال:
- «قد أُمِرتُ بالخطبة، ولَستُ صاحب كلام فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلمتُ، فصدقوني».
فقام من الغَدِ، فحمد الله، وأثنى عَليهِ، ثم قال :
- «إنَّما يتكلَّفُ الخطبة، إما من لا يجد بدا منها، وإما أَحمق يهمر رأسه، لا يبالي ما خرج منه، ولستُ بواحدٍ منهما، وقد علم مَن عَرفني أَنِّي بَصِيرٌ بالفُرَصِ، وَثَابٌ عليها، وَقَّافُ عند المهالكِ، أَنفذ بالسَّريَّةِ، وأَقسم بالسويةِ. أَنشدكم باللَّهِ، من كان يعرف ذلك مِنّي، لمَّا صدَّقني».
فقال أَصحابه حول المنبر :
- «صَدقت».
فقال :
- «يا أمير المؤمنين، إنَّكَ مِمَّن نَشدتُكَ، قُلْ ما تَعلَمُ!».
فقال :
- «صَدقت».
قدم زياد الكوفة من عند مُعاويةَ، ونزل في دار سلمى بن ربيعة الباهلي ينتظرُ أَمر معاوية، أن يُجيبَهُ إمرتَهُ على الكوفة. فبلغ المُغيرة بن شعبة - وهو أَميرٌ على الكوفة - أَنَّ زياداً يَنتظرُ الإمرة. فدعا قطن بن عبد الله الحارثي، فقال :
- «هَلْ فيك من خير: تكفيني المؤونة حتّى آتيك من عند أمير المؤمنين؟».
قال :
- «ما أنا بصاحب ذا».
فدَعا عُتيبة بن نَهَّاسِ، فعرض عليه ذلك، فقبل.
فخرج المغيرة، فلما قدم على مُعاوية، سأله أَن يَعزِلَه وأَن يُقطعَ له مَنازِلَ
ص: 7
بقرقيسا بينَ ظَهرَي قيس. فلما سمع معاوية ذلك، خافَ بائقتَهُ، وقال :
- «واللهِ، لَتَرجِعَنَّ إلى عَملك يا أبا عبدِ اللَّهِ».
فأبى عليه، فلم يَزِدْهُ ذلك إلا تهمة له، فردَّه إلى عمله، فطَرقَ المغيرة الكوفة ليلاً.
قال معبدُ بنُ خِالدٍ البَجَلي : «فواللهِ إِنِّي لَفَوقَ القصر أحرسه، إذا قَرعَ الباب، فأَنكرناه، فلما خافَ أَن نُدلّي عليه حجراً، تَسَمَّى لنا. فنزلتُ إليه، وسلَّمتُ، فتمثل بقول القائل :
بِمِثْلِي فَاقْرَعِي يَا أُمْ عَمْرِو*** إِذَا مَا هَاجَني السَّفَرُ النَّفُورُ
- «اذهب إلى ابن سُمَيَّةَ، فَرَحِّلْهُ، حتى لا يُصبحَ إلا من وراء الجيش».
فخرجتُ فأَتيناهُ، فَأَدخلناه حتى طَرحناه قبلَ أَن يُصبح من وراء الجيش.
إنَّه بلغ معاويةَ فسادُ أهل البصرة، وكثرةُ العَيثِ، وضعفُ السُّلطانِ بها عن ضَبطِ النَّاسِ، وكان والي البصرةِ عبد الله بن عامر، وكان فيه لين وكَرمٌ. فكان إذا أُشير عليه بقَطعَ السَّارِقِ، عَفا عنه، وإذا أُشير بقتل مَن يَستحق القتل، قال:
- «أَنَا أَتأَلَّفُ النَّاسَ، وأتحبَّبُ إليهم، فكيف أنظرُ فِي وَجهِ مَن قتلتُ أَبَاهُ، أَو أَخاهُ، أَو قَطَعتُهُ».
فكثر الفَسادُ بالبصرة، فعزله معاوية، وكتب إليه يَستَزيرُهُ، ووَلَّى حارث بن عبدِ اللَّهِ الأَزدي، فتركه أربعة أشهر، ثمَّ عَزلهُ بزيادٍ.
وإنَّما أَرادَ معاوية أن يُولّي زياداً، فَوَلّى الحارث كالفَرسِ المُجَلَّلِ، فَقَدِمَ زياد البصرة، فخَطَبَ خُطبَتَهُ البَتراء، ثمَّ قال :
- «أَمَّا بعدُ، فإنَّ الجهالة الجهلاء، والصَّلالة العمياء، والعجز المُوقِدَ لأَهلِه النَّارَ، الباقيَ عليهم سعيرُها ما يأتي سُفَهاؤكم، ويَشتمل عليه حُلماؤكم من الأُمور العظام، يَنبُتُ فيها الصَّغيرُ، ولا يَتَحاشى منها الكبيرُ كَأَنْ لم تسمعُوا بِآي الله، ولم تقرأُوا كتاب اللَّهِ، ولم تَسمعوا ما أعدَّ اللهُ من الثَّواب الكريم لأهل طاعتِهِ، والعذاب الأليم لأهل مَعصِيتِهِ، في الزَّمن السَّرمدِ الَّذي لا يَزُولُ. أَتَكُونُون كَمَن طَرفَتْ عَينَهُ الدُّنيا، وسدَّت مَسامِعَهُ الشَّهَواتُ، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون، أَنَّكم أحدثتُم في الإسلام الحدَثَ الذي لم تُسبَقُوا إليه مِن تَرككُم هذه المواخر المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النَّهار المُبصر، والعدد غير قليل».
ص: 8
- ألم تكن منكم نُهاةٌ تمنع الغُواةَ عن دَلج اللَّيل، وغارةِ النَّهارِ؟ قرَّبْتُمُ القَرابةَ وباعدتُم الدِّينَ، تَعتذِرُون بغير العُذرِ، وتُغَطون على المختلس كلُّ امْرِئٍ منكم يَذُبُ عن سَفِيهِهِ، صُنعَ مَن لا يَخافُ عاقبةً، ولا يرجُو معاداً، فلم يَزَلْ بِهم ما يَرونَ مِن قِيامِكُم دُونَهم، حتَّى انتهكُوا حُرمة الإسلام، ثمَّ أَطرقُوا وَراءَكُم كُنُوساً في مَكانِس الرِّيَبِ. حرامٌ عَليَّ الطَّعامُ والشَّرابُ حتّى أُسويها بالأَرض، هدماً وإحراقاً، فإني رأيتُ آخِرَ هذا الأمر، لا يصلح إلا بما يصلح أَوَّله : لين في غير ضعف وشدَّةٌ في غير جبريَّةٍ وعُنف.
- «وإنّي أُقسم بالله، لأخُذَنَّ الوَليّ بالوَليّ، والمُقيم بالظَّاعِنِ، والمُقبلَ بِالمُدبِرِ، والصَّحيحَ منكم بِالسَّقيم، حتَّى يَلقَى الرَّجلُ منكم أخاهُ فيقول : أَنجُ سَعدٌ، فقد هلك سَعِيدٌ أو تستقيم لي قَناتُكُم إِنَّ كِذبةَ المنبر بَلقاءُ مشهورةٌ، فمن تعلق لي بكذبة، فقد جلَّت له معصيتي. مَن بُيِّتَ منكم فأَنا ضامن لما ذهب لهُ إِيَّايَ ودَلجَ اللَّيلِ! فإنِّي لا أُوتي بِمُدلج إلا سفكتُ دَمَهُ، وقد أجلتكُم في ذلك بقدر ما يأتي الخبرُ الكوفة ويرجعُ إليكم، وإيَّايَ ودَعوى الجاهليَّةِ! فإنّي لا أجد أحداً دَعا بها إلا قطعتُ لِسانَهُ..
- «لقد أحدثتم أحداثاً، وقد أحدثنا لها عُقوبات، فمن غَرَّقَ قوماً غَرَّقْناهُ، ومَن حرَّق على قوم حرَّقناهُ، ومَن نَقَبَ على قوم نقبتُ قلبَهُ، ومَن نبش قبراً دفتنُهُ حَيًّا. فَكُفُّوا أَيديَكُم وأَلسنتَكُم، أَكفُفْ يَدي وأذاي. لا يظهر من أحدٍ منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضَربتُ عُنقَهُ».
- «وقد كانت بيني وبين قوم أَحَنٌ فجعلتُ ذلك دَبَرَ أُذني، وتحتَ قدمي. فمن كان منكم محسناً، فليزِدْ إحساناً، ومَن كان مسيئاً، فلينزع عن إساءَتِه. إِنِّي لو علمتُ أَنَّ أَحدكُم قد قتلَهُ السِّلُّ مَن بُغضي، لم أكشف لهُ قناعاً، ولم أهتك له ستراً حتى يُبدي لي صحيفتَهُ. فإذا فعل، لم أَناظِرْهُ، فاستأنفُوا أُمورَكم، وأعينُوا على أنفسكم، فرُبَّ مُبْتَسٍ بقدومنا سَيُسرُّ، ومسرور بقدومنا سيبتئس».
- «أيُّها النَّاس، إنَّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذاده، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بِفَيْء اللَّهِ الَّذي خوَّلَنا. فَلَنا عليكم السَّمعُ والطَّاعةُ في ما أحببنا، ولكم علينا العدلُ في ما وَلينا، فاستوجبوا عدلنا وفَيْئَنا بمناصحتكم».
- «واعلَمُوا أَنِّي مَهما قصَّرتُ عنهُ، فإنّي لا أقصِّرُ عن ثَلاثَ : لَستُ مُحتجِباً عن طالب حاجةٍ منكم، ولو أتاني طارقاً، ولا حابساً عطاءاً عن إبَّانِهِ ولا مُجمراً لكم بَعثاً فادعُوا اللَّهَ بالصَّلاحِ لأَئِمَّتِكُم، فإنَّهم ساستكم المُؤَدِّبون، وكَهفُكُم الَّذِي إليه تَأْوُون، ومتى تصلحوا، يصلحوا، ولا تُشربُوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حُزنُكم. ولا تُدركوا،حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم، كان شرًا لكم.
- «أَسأَلُ اللهَ أَن يُعينَ كُلاً على كُلِّ، وإذا رأَيتُموني أُنفِذُ فيكم أَمراً، فَأَنْفِذوه على
ص: 9
إذلالِهِ، وأَيمُ اللَّهِ إنَّ لي فيكم لصرعى كثيراً، فليحذَرْ كُلُّ امرئ منكم أن يكونَ من صَرعاي».
وأمهل النَّاسَ حتَّى بلغ الخبرُ الكوفة، وعاد إليه وصول الخبر منها. فكانَ يُؤَخّر العِشاء الآخرة حتّى يكون آخرَ مَن يُصلِّي. ثُمَّ يُمهِلُ بقدر ما يرى أن الإنسان يبلغ أقصى البصرة من أدناها، ثمَّ يأمرُ صاحب شُرطتِه بالخروج، فلا يرى إنساناً إلا قتله.
فأَخذَ ذات ليلة أَعرابيًّا، فأتى به زياداً فقال :
«هل سمعت النداء».
قال :
- «لا والله، إنما قدمتُ بحَلوبة لي، وغَشِيَني الليلُ، فاضطررتها إلى موضع، وأَقمتُ لأصبحَ، ولا علم لي بما كان من الأمير».
قال :
- «أَظُنُّكَ صادقاً واللهِ، ولكن في قتلك صلاح قتلك صلاح الأمة»!
ثمَّ أَمر به فضُربت عُنقه.
وكان زيادٌ أَوَّلَ مَن سدّد أَمرَ السُّلطانِ، وأَكَّد المُلكَ لمعاوية، بعد أن كادتِ البصرة خاصَّةً تخرج عن حد الضبط، وتخرج بخروجها المُلكُ كُلُّه. فتقدّم زياد في العقوبة، وجرَّد السَّيف، وأخذ بالظِّنَّة، وعاقب على الشبهة، وخافهُ النَّاسُ خوفاً شديداً، حتى أمِنَ النَّاسُ بعضهم بعضاً، وحتى كان الشَّيْءُ يسقط من الرَّجل أو المرأةِ، فلا يعرض له أحدٌ، حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه وتبيتُ المرأَةُ لا تُعْلِقُ عليها بابها. وساس النَّاس سياسة لم يُرَ مثلها، وهابَهُ النَّاسُ هيبة لم يهابوها أحداً قبله وأدر العطاء.
وقيل لزياد :
- «إِنَّ السُّبُلَ مَخوفةٌ».
فقال :
- «لا أعاني شيئاً وراء المصر، حتى أغلب على المصر وأُصلحه، فإن غلبني المصر، فغيرُهُ أَشدُّ غلبة».
فلمّا ضبط المِصرَ، تكلَّف ما وراء ذلك، فأحكمه.
وكل يقولُ :
ص: 10
- «لو ضاعَ حَبل بيني وبين خراسان، علمتُ مَن أَخذه».
و كتب خمسمائة رجل من مشيخة أهل البصرة في صحابته، فرزقهم ما بين الثَّلاثمائة إلى الخمسمائة، واستعان بعدة من أصحاب رسول الله، (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وسَلَّم).
و زياد أَوَّلُ من سِيرَ بين يديه بالحربة، ومُشِي بين يديهِ بالعُمُدِ الحديدِ، واتَّخذ الحرس رابطة خمسمائة، فكانوا لا يبرحون المسجد، وجعل خراسان أَرباعاً، فولَّى كُلَّ ربع رجلاً كافياً.
ولما مات المغيرة بن شعبة، كتب معاوية إلى زيادٍ بعهدِهِ على الكوفة، فكان أَوَّلَ من جمعت له البصرة والكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، وكان زياد يُقيمُ ستَّةَ أَشهر بالبصرة، وستة أشهر بالكوفة.
فلما دخل الكوفة صعد المنبر، وقال في خطبته :
- «إنِّي أَردتُ أن أشخص إليكم في ألفين من شُرَط البصرة، ثمَّ ذكرتُ أَنَّكم أهل حق، وأن حقكم طال ما دمغ الباطل، فأتيتُكم في أهل بيتي».
فلما فرغ من خُطبتِه، حُصِبَ على المنبر، فجلس، حتَّى أَمسكُوا. ثمَّ دَعا ثمَّ دَعا قوماً من خاصَّتِه، فأمرهم أن يأخُذوا أبواب المسجد، ثم قال :
- «لِيَأْخُذُ كل امرئ منكم جليسه، ولا يَقُولَنَّ : لا أَدري مَن جليسي».
ثمَّ أَمر بكرسي، فوضع له بباب المسجد، فدعا أربعة أربعة، يحلفون بالله :
- «ما مِنَّا مَن حَصَبَكَ».
فمن حَلفَ خلاه، ومن لم يحلف حَبسه وعزله، حتّى صار إلى ثمانين، فقطع أيديهم على المكان.
قال الشعبي : فوالله ما تعلَّقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيراً أو شرًا إِلا أَنفَذَهُ.
ولما قدم الكوفة، أتاهُ عُمارة بن عُقبة بن أبي معيط، فقال : - «إنّ عمرو بن الحَمِق يجمع من شيعة أَبي تُراب».
فقام إليه عمرو بن الحارث فقال :
- «ما يدعوك إلى رفع ما لا تتيقنه، ولا تدري ما عاقبته».
فقال زیاد :
- «كلاكُما لم يُصِبْ: أَنتَ حيث تكلمني في هذا علانية، وعمرو حين يردُّك عن كِلامِكَ. قوما إلى عمرو بن الحمق، فقولا له: ما هذه الزرافاتُ التي تجتمع إليكَ؟ مَن أرادك، وأَردتَ كلامه، ففي المسجد».
ص: 11
ثمَّ استخلف زياد على الكوفة سَمُرةَ بن الجندب، وهو من أَصحاب رسولِ اللَّهِ (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وسَلَّم) وخرج زياد إلى البصرة، وعاد إلى الكوفة، وقد قتل سمرة ثمانية آلاف من النَّاس، فقال له زياد :
- «هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟».
قال :
«لو قتلتُ إليهم مِثَلهم، ما خشيتُ ذلك»!
وكان زياد قد تشدَّدَ في أمر الحَروريَّة، وأوصى سمرة بذلك، وكان سمرة يخلُفُه على البصرة، إذا خرج إلى الكوفة، وعلى الكوفة، إذا خرج إلى البصرة، فقتل سمرة منهم خلقاً كثيراً.
كان زياد ولى الحكم بن عَمرو ناحية من خراسان، وكتب إليه :
- «إنّ أهلَ خُتّل سلاحهم اللُّبودُ، وأنيَتُهُمُ الذّهبُ».
فغزاهم، حتى إذا تَوسَّطَهُم أخذوا عليه بالشّعابِ والطُّرُقِ، وأحدقُوا به فعيَّ بالأمر، فتولى المهلب الحرب، وولى المغيرة بن أبي صفرة أمر العسكر، ولم يَزل المهلب يحتالُ، حتَّى أَخذَ عظيماً من عظماء الأعاجم فقال له :
- «إختَرْ ِبينَ أَن أَقتلكَ،و بين أن تُخرِجَنا من هذا المضيقِ».
فقال له :
- «أَوقِدِ النَّارَ حِيالَ طريق من هذه الطرق، وَمُرْ بالأثقالِ فَلْتُوجّه نحوَهُ، حَتَّى إذا ظنَّ القومُ أَنَّكم قد دخلتُم الطريقَ لِتَسْلُكُوهُ، فإنَّهم سيجتمعون لكم، ويُعرون ما سواه من الطرق، إلا من لا يبالي به، فبادِرُوهم إلى غيره، فإنَّهم لا يُدركونكم حتى تخرجوا منه».
ففعلوا ذلك، ونَجَوا، وغنموا غنيمة عظيمة، والقومُ كانوا أتراكاً.
كتب له على الرَّسائل عُبيد الله بن أُوسِ الغَسَّاني، ثم تولى له ديوان ما بالعراق من صوافي كسرى وآلِ كسرى، وكتب له على الخراج سرجَون بن منصورِ الرُّومي.
ص: 12
وكان لمعاوية كاتب يقال له : عبد الرحمان بن الدُّرَّاج، كان من مواليه، فقلده خراج العراق لما قلد المغيرة الحرب بها، وطالب أهلَ السَّوادِ بأن يُهدوا إليه في النَّوروز، والمهرجان. ففعلوا ذلك، فبلغ عشرة آلافٍ أَلفِ 10,000,000 درهم في سنةٍ.
ثم دعا بالدهاقين، فسألهم عما كان من صوافي كِسرى، فعُرِّفَ أَنَّ الدِّيوان بحلوان، فبعث، فأحضر، ثمَّ استخرج ما كان فيه، فكان أوَّل ذلك كلواذي للأساورة، والكتَّاب، والحاشية.
وكان كسرى لا يُقطع الكُتَّابَ أكثر من ثلاثين جريباً. فكتب ابن الدرّاج إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية : أن استَصفِها، واستخرج ما فيها. ففعل، فبلغت صوافي معاوية على يَدِهِ خمسينَ أَلْفَ ألفٍ 50,000,000.
وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب له على ديوان الجند.
وكان معاوية أَوَّل من اتخذ ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أَنَّهُ كتب لعمرو بن زبير بمائة ألف 100,000 درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففض عمرو الكتاب، وجعلها مائَتَيْ أَلْفِ 200,000 درهم.
فلما رفع زياد حسابه قال له معاوية :
- «ما كتبتُ له إلا بمائة ألف».
وقال معاوية :
- «المائة الألف ينبغي أن تُؤخذ منه».
فحبسه مروان، فصار عبد الله بن الزبير إلى مروان، وهو على المدينة، فأخبره بقِصَّته، فقال مروان :
- «فإنَّ الخبر كيت وكيت».
فقال عبد الله :
- «أَرأَيتَ - إن أعطيناكها - أَلَكَ عليه سبيل ؟ قال :
- «لا». قال :
- «فابعث، فَخُذْها».
ففَعلَ. واتَّخذ معاوية ديوان الخاتم، وقلده عبد الله بن مُجمّر، وكان قاضياً.
وكان زياد يجلس في كلِّ يوم، إلأ يوماً في الجمعة، فيبدأ برسل عُماله، فينظر في ما قَدِمُوا لَهُ، ويَسأَلُهم عن بلادهم، ويُجيبهم عن كُتُبِهم، ثمّ ينظر في نفقاته، وفي
ص: 13
أعطيات رجاله، ثم في ما دخل من البياعات، وفي الأسعار، ويَسأَل عن الأخبار. وينظر في ما يحتاج إليه من حفر نَهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عَقَبَةٍ، أو نقل طريق إلى غيره، ثمَّ يأخُذ في كُتبِ العُمَّالِ، فيُمليها بنفسه، فكان معاوية يفعل مثل ذلك سواءاً، ولا يخالفه حتى كبر. وكان الضَّحَّاك بن قيس يُملي وهو يسمع.
وخلا زيادٌ يَوماً على كاتبه أسراراً له، وبحضرته عُبيد الله ابنه. فنَعسَ زياد، فقام لينام، وقال لعبيد الله.
- «تَعهَّدْ هذا لا يُغَيّر شيئاً مِمَّا رسمته له».
فعرض لعبيد الله حاجةٌ إلى البول، واشتدَّ به ذلك، وكرِهَ أَن يُنْبِهَ أَباه، وكرِهَ أَن يقوم عن الكاتب ويُخلِّيَهُ، فشدَّ إبهاميه بخيط، وختمهما، وقام لحاجته، فاستيقظ زياد قبلَ عَودِه. فلما نظر إلى الكاتب سأَلَهُ عن خبره، فأخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله.
وأهدى زياد إلى معاوية هدايا كثيرةً، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأُعجب به معاوية. فلما رأى ذلك زياد، قال له :
- «يا أمير المؤمنين، دوَّختُ لك العراق، وجَبيتُ لك بَرَّها وبَحرَها، وغَثَّها وسمينها، وحملتُ لك لُبّها وقشرها».
فقال له يَزيدُ :
- «أينَ فعلت ذلك؟ لقد نقلناك من ولاءِ ثقيف إلى عزّ قُريش، ومن عُبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وبعد، فما أمكنك شَيْءٌ مما اعتددتَ به، إلا بنا».
فقال معاوية :
- «حسبُكَ! وَرِيَتْ بك زنادي».
و قلد معاوية عبد الرحمان بن زياد خراسان بعد مَوتِ أَبيه، وكان سَخيًا، فلم يزل عليها إلى أن وَليَ يزيدُ، وقتل الحسين بن علي - عليهما السّلام - واستخلف على عمله قيس بن الهيثم، وأقبل إلى يَزيدَ، فأنكر قُدومَهُ، ثمَّ رضي عنه، وسأله عما حصل له، فاعترف له بعشرين أَلف ألف 000 200,000 درهم، فسوَّغها إيَّاها، وكان معه من العُروض أكثر منها.
فقال يوماً لكاتبه إصطفانوس :
- «ويحك! كيف يجيئُني النوم وهذا المالُ عندي؟».
فقال له :
ص: 14
- «وكم مبلغه؟»، فقال:
- «قدَّرتُ منه لمائة سنة، في كلّ يوم ألف درهم، لا أحتاج منه إلى شراء رقيق، ولا كراع، ولا عَرَض من الأعراض».
فقال له إصطفانوس :
- «أنام الله عينك أَيُّها الأميرُ، لا تعجب من نَومِك وعندك هذا المالُ، ولكن أعجَب من نَومِكَ إِن ذَهبَ، ثمَّ نمتَ».
قال : والله، لقد ذهب ذلك المالُ كلُّه، أودع بعضه فجُحِدَ، وأَنفَقَ بعضَهُ، وسرق أسبابه بعضَهُ، فَآلَ أَمرُهُ إلى أن باغ فضَّة كانت حِليةَ مصحفه، وكان يركب حماراً صغيراً تنالُ رجله الأَرضَ عليه.
فلقيه مالك بن زياد فقال له :
- «ما فعل المالُ الذي كنتَ تقولُ فيه ما تقولُ؟» فقال :
- «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ، إلا وَجْهَهُ، يا أبا يحيى!».
وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص : أن :
- «اقبض أموالَ مَروان، واهدِمْ دارَهُ».
فأمسك سعيد عن ذلك. ثمَّ كاتبه في ذلك ثانياً، فراجعه سعيد، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، قرابةٌ قريبةٌ».
فكتب إليه ثالثاً بقبض أمواله وهَدم داره، فلم يفعل. فعزل سعيداً، ووَلَّى مَروان، وكتب إليه أَن :
- «إهدم دار سعيد».
فأَرسلَ الفَعَلةَ، وركب ليهدمها، فقال له سعيد:
- «يا أبا عبدِ المَلِكِ، أَتهدمُ داري؟» قال :
- «نعم! كتب إليَّ أمير المؤمنين ولو كتب إليك، لفعلت». قال:
- «ما كنت لأفعل». قال:
- «بَلى والله لو كتب إليكَ لفعلتَ». قال :
- «كلا، يا أبا عبدِ المَلك».
وقال لغلامه :
- «انطلق، وجئني بكتب معاوية».
ص: 15
فجاء بها، فقرأها عليه في ما كتب في هدم داره.
فقال مروان :
- «يا أبا عثمان وردت عليك هذه الكُتب في هدم داري، فلم تفعل، ولم تُعلِمْني!» قال :
- «ما كنتُ لأهدمَ دارَك، ولا أَمُنُّ عليك، وإنّما أَرادَ معاويةُ أَن يُحرِّضَ بَينَنا».
فقال مروان :
- «بأبي أنتَ، والله أكثرُ مِنَّا ريشاً وعقباً».
ورجع ولم يهدِم دار سعيد.
وقدم سعيد على معاوية، فقال:
- «يا أبا عثمان، كيف تركتَ أبا عبد الملك؟» قال :
- «تركتُهُ ضابطاً لأعمالك، منفذاً لأمرك». قال :
- «إِنَّهُ لَصاحب الخُبزةِ كُفيَ نُضجَها، فأَكَلَها». قال:
- «كلا، والله يا أمير المؤمنين، إنه مع قوم لا يجمل بهم السوط، ولا يحلُّ لهم السَّيفُ، يتهادون كوقع النَّبلِ، سَهمٌ لَكَ، وسَهمٌ عَليكَ». قال :
- «ما الذي باعد بينك وبينَهُ؟» قال :
- «خافني على شرفه، وخفته على شرفي». قال :
- «فماذا لَهُ عندك ؟» قال :
- «أَسُرُّهُ غائباً، وأَسوءُه شاهداً». قال :
- «تركتني يا أبا عثمان، في هذه الهَناتِ؟» قال :
- «إِنَّكَ تحملت الثقل، وكُفيت الحرم، وكنت قريباً، فلو دعوت لأجبت، ولو وهيتَ لَرُقِعت».
ومن الكلام الواقع الذي ارتفع به صاحبه كلامُ عُبيد الله بن زيادٍ لِمُعاوية. وذلك، أنَّهُ وفد على معاوية بعد موت أبيه، فقال له معاوية :
- «مَنِ استخلفَ أَخي على عَمَلِه؟».
قال عُبيدُ اللَّهِ :
- «استخلف خالد بن أسيد على الكوفة، وسَمُرةَ بن الجُندب على البصرة».
ص: 16
فقال له معاوية :
- «لو استعملك أبوك، لاستعملتك».
فقال عُبيد الله :
- «أَنشُدُك اللهَ، أَن يقولها لي أحدٌ بعدَكَ : لَو وَلاكَ أبوك، أو عَمّكَ، وَلَّيْتُكَ».
وكان معاوية لا يُولّي أحداً حتّى يمتحنه بولاية الطائف، فإن أحسن الولاية، ولَّاه مَكَّةَ، فإن وفى، ولَّاه معها المدينة، ثمَّ يُرتِّبُهُ كذلك، فلما قال عُبيد الله بن زيادٍ ما قال، استرجَحَهُ، وعَهِدَ إليه، ووَصَّاهُ، وولاه مكانَ أَبيه. فغزا خراسان، وفتح رامين، ونصف، وبيكند، وهي من بُخارى. فقدم بِأَلفَينِ من سَبي بخارى، وكلُّهم جَيِّدُ الرَّمي بالنشاب.
وكان معاوية ولى البصرة عبد اللهِ بن عَمرو بن غيلان، فاحتال له أهل البصرة، حتى عزله عنهم.
خَطبَ عبدُ اللَّهِ بن عَمرو بن غيلان، على منبر البصرةِ، فَحَصَبَهُ رجل من بني ضَبَّة فأَمر به فقُطعت يَدُهُ، فَأَتَتْهُ بَنو ضَبَّة، فقالوا :
- «إِنَّ صاحبنا جنى ما جنى، وقد بلغ الأميرُ في عُقوبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين أَنَّه قُطعَ على فاحشة، ونسألُكَ أن تكتب إلى أمير المؤمنين أَنَّه قُطع على تبرئة، وأمر لم يصح».
فكتب لهم إلى معاوية بما سألوه، فأمسكوا الكتاب عندهم، حتَّى بلغ رأسُ السَّنةِ. ثمَّ وافَوه، فقالوا :
- «يا أمير المؤمنين، إنَّهُ قطع صاحبنا، وهذا كتابه بإقراره على غير ذَنبٍ».
فقرأ الكتاب، وقال:
- «أَمَّا القَودُ من عُمَّالي، فلا سبيل إليه، ولكن إن شئتُم، وَدَينا صاحبكم». قالوا :
- «فَدِه».
فَوَداهُ من بيت المال وعزل عبد اللهِ، ووَلَّى عُبيد الله بن زياد.
كان عُمرُ بن الخَطَاب كثيراً ما يقولُ
ص: 17
- «تَذكُرون كسرى وقيصر ودَهْيَهُما، وسياستهما وعندكم معاوية».
فمِمَّا يَحضُرنا من ذلك : أَنَّ عَمرو بن العاص، كان وَفَدَ إلى مُعاويةَ ومعه أهلُ مصر، فقال لهم عَمرو :
- «انظروا، إذا دخلتُم على ابن هند فلا تُسلِّمُوا عليه بالخلافة، فإنَّه أعظم لكم في عينه، وصَغِّرُوهُ ما استطعتم».
فلمَّا قدِمُوا عليه، قال معاوية لحاجبه :
- «كأَنِّي بابن النابغة، قد صَغَر شَأني عند القوم، فإذا دخل الرَّجلُ، أَو الوَفدُ، فَتَعتِعُوهُم أَشدَّ ما يكون، فلا يبلغني رجلٌ منهم، إلا وقد أَهَمَّتْهُ نفسُهُ».
فكان أَوَّل مَن دخلَ عليه رجل من مصر، يقال له ابن خَيَّاط، فدخل وقد تُعتع، فقال :
- «السَّلامُ عَليكَ، يا رسُولَ اللَّهِ!».
فتتابع القومُ على ذلك، فلما خرجوا من عنده، قال لهم عمرو :
- «لعنكم اللهُ، نَهيتُكُم أن تُسلّموا عليه بالإمارة، فسلّمتُم عليه بالنُّبوَّة وكان معاوية قد لبس ذلك اليوم أبهى لباسه، واكتحل، وكان من أجمل الناس، إذا فعل ذلك.
ومن ذلك أَنَّ عُمر بن الخطّاب، كان خرج إلى الشَّام، فرأى معاوية في موكب يتلقَّاهُ، ثم راح إليه في موكب.
فقال له عُمرُ :
- «يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أَنَّك تتصبح في منزلك، وذَوُو الحاجات ببابك». فقال :
- «يا أمير المؤمنين، العدو بها قريب ولهم عُيونُ وجَواسيس فأردتُ أَن يَرَوا للإسلام عزا».
فقال عُمر :
- «إن هذا لكيدُ رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب».
فقال معاوية :
ص: 18
- «يا أمير المؤمنين مُرْني بِما شئتَ أَصِرْ إليه». قال:
- «وَيَحكَ! ما ناظرتُكَ في أَمرِ أَعتِبُ عليك فيه، إلا تركتني لا أدري آمُرُكَ، أَم أَنهاك!».
ومن ذلك أنّ المغيرة كتب إلى معاوية :
- «أَمَّا بعد، فإنِّي كَبرتُ، ودَفَّ عَظمي، وشَنِفتْ لي قُريش، فإن رأيتَ أَن تعزلَني، فاعز لني».
فكتب إليه معاوية :
- «جاءني كتابك تذكرُ أَنَّه كبرت سنك، فلعمري، ما أَكلَ عُمرَكَ غَيْرُكَ، وتذكر أَنَّ قريشاً شَنِفتْ لك، ولَعَمري، ما أصبت خيراً إلا منهم، وتسألني أن أعزلَكَ، فقد فعلتُ، فإنْ تَكُ صادقاً فقد شفّعتُكَ، وإن تَكُ مخادعاً، فقد خادعتُكَ»
فلما ورد المغيرة بابَ مُعاوية، ذهب كاتبه إلى سعيد بن العاص، وأشار عليه أن يخطب ولاية الكوفة، ودَلَّهُ على وُجوهِ من الرَّغائب. فلما بلغ ذلك المغيرة، شقّ عليه، ودخل على يزيد بن معاوية، وعرَّض له بالبيعةِ، فدخل يَزيدُ على أبيه، فأعلمه ذلك، فدَعا مُعاوية المغيرة، ورفق به، وردَّهُ إلى الكوفة، وسأَله أَن يَأخذ بيعةَ يَزيدَ على الناس.
وقال عَمرُو بن العاص :
- «ما رَأَيتُ مُعاويةَ مُتَّكئاً قطُّ، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، كاسِراً عَينَهُ، يقولُ لِرَجُلٍ: تكلم، إلا رَحِمتُهُ».
حكى الشعبي : أَن وفد الكوفة قدِمُوا على مُعاوية لما أراد البيعة ليزيد، وفيهم هانئ بن عُروة المرادي. فَبَينا أنا جالس إذ قال هانئ بنُ عُروة :
- «العَجَبُ من معاويةَ يُريدُ أَن يَقسِرَنا على بيعة ابنِه يَزيدَ، وحاله حاله، وما ذاك بكائن».
وغلام من قريش قاعد في حلقته، فقام، فدخل على مُعاوية، فأَخبره بقول هاني، فقال له :
- «أَنتَ سمعت هانئاً يقولُهُ؟» قال :
- «نعم». قال :
ص: 19
- «فاخرج من هذا الباب وائتِ حلَقَتَهُ من باب من أبواب المسجد، غير بابك الذي خرجت منه فقل له إذا خَفَّ مَن عِندَهُ».
- «أَيُّها الشَّيخ! قد سمعتُ مقالتك، ولَستَ في زمن أَبي بكرٍ ولا عُمر، ولا أُحبُّ لك أن تتكلَّمَ بهذا الكلام، فإنّهم بنو أمية، وجُرأتهم جُرأتُهم، وإقدامُهم ما قد علمت».
ثمَّ قال له معاوية :
- «إذا فرغتَ من كلامِكَ، فقل له :».
- إنَّهُ لم يَدْعُني إلى هذا إلا النَّصيحة لك.
ثمَّ احفَظْ عَليهِ ما يَقولُ.
فأَقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلمَّا خَفَّ مَن عندَهُ، دَنا منه، فكلَّمَهُ بهذا الكلام.
فقال له :
- «يا بنَ أَخي، والله ما بلغت نصيحتك لي كُلَّ هذا، وإن هذا الكلامَ لَكلامُ مُعاويةَ، أَعرفُه، وأَشْهدُ به».
فقال الفتى:
- «ما أَنا ومعاوية! والله ما يعرفُني، ولا يدري من أَنَا». قال:
- «يا بن أخي، فلا عليك، ولكن إذا لقيتَهُ فقُلْ له : يقول لك هانئ : لا والله، لا إلى ما أَردتَ من سبيل. انهض يا بن أَخي!».
فذهب الفتى، فأعلم معاوية ما قال، فقال:
- «بالله نستعين عليه».
ثمَّ أذن للوفد، وقال لهم :
- «ارفعوا حوائجكم».
ففعلوا، فلمَّا عُرض كتاب هانئ على معاوية، قال :
- «يا هانئ ما صنعت شيئاً، فَزِدْ».
فزاد هانئ ومعاوية يقول :
- «ما صنعت شيئاً، هاتِ حوائجك!».
حتَّى لم يَدَعْ حاجة لمن يهتم به إلا رفعها وقضاها ثم قال :
- «يا هانئ لم تصنع شيئاً». فقال :
- «يا أمير المؤمنين، قد بقيت حاجةٌ». قال
ص: 20
- «وما هي ؟» قال:
- «بيعة يزيد، أتولاها له بالعراق». قال:
- «هي إليك».
فقَدِمَ هانئ، فقام بأمر يزيد، وتولى المغيرة بن شعبة البيعة.
وتشبه بمعاوية عبد الملك، وذلك أَنَّهُ لمَّا أَرادَ البيعة للوليد، وجَّهَ الوليد إلى القين وعامِلَةَ، فأصلح بينهم، وكانت بينهما دِماء، فاحتملها. فكانت القَينُ وعامِلَةُ أَوَّلَ مَن دَعا إلى الوليد.
ثمَّ أَراد الوليد ذلك لعبد العزيز ابنه، فوجهه إلى قيس بن غَسَّانِ، وكانت بينهما دماء، فأصلح بينهم واحتمل دِماءَهُم، فكانت قيسٌ وغَسَّان أَوَّل مَن دعا إلى عبد العزيز.
ثمَّ صنَعَ ذلك سُليمان لما وقع بين قيس وحمير بدِمَشقِ من الدّماء ما وقع. وَجَّهَ ابْنَهُ أَيُّوبَ، فأصلح بينهم واحتمل دماءهم وماتَ أَيُّوب قبلَ أَن تظهَرَ له بيعةٌ.
ثمَّ صنع ذلك يزيد بن عبد الملك. كتب إليه ابن هُبَيرة من الجزيرة، يُشير عليه : أن يوجه الوليد بن يزيد، ليُصلح ما بين قيس وتَغلب. فوجَّهَهُ، فأصلح بينهم، واحتمل دِماءَهم، فكانوا أَوَّلَ مَن تكلَّم في أمر الوليد، وذلك في حياة أبيه، حتّى بايع بعد هشام له.
وقال معاوية :
- «إني لأرفعُ نَفسي، أن يكونَ ذَنْبٌ أَعظَمَ مِن عَفوي، أَو جَهِلْ أَكبَرَ مِن حِلمي، أَو عَورةٌ لا أُواريها بِسِتْري، أو إساءَةً أَكثَرَ مِن إحساني».
ص: 21
كان مُعاويةُ وَطَّأَ لابنه يزيد الأمور، وأخذ على الوفود له البيعة. فلما مرض المرضةَ الَّتي تُوفِّي فيها، دعا به وقال :
- «إنِّي لا أَتَخَوَّفُ عليكَ أَن يُنازِعَكَ هذا الأمر الذي استتب لك، إلا أربعة نفر من قُريش : الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عُمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمان بن أبي بكر».
- «فأَمَّا عبد اللَّهِ بن عُمر، فرجلٌ قد وَقَذَتْه العبادة، وإذا لم يبق أحدٌ غيره، بايعك».
- «وأَمَّا حسينُ بنُ علي، فإنَّ أَهلَ العراق لن يَدَعُوهُ، حتى يُخرجوه، فإن خرج عليك، فظفِرتَ عليه، فاصفح عنه فإنَّ له رَحِماً ماسَّة، وحقا عظيماً»
- «وأَمَّا ابن أبي بكر، فرجل ليست له هِمَّةٌ إلا في النِّساءِ، واللَّهوِ».
- «وأَمَّا الَّذي يجثم عليك جُثومَ الأَسدِ، ويُراوغُكَ رَوغانَ الثَّعلب، فإذا أَمكنته فُرصةٌ، وثب، فذاك ابنُ الزبير، فإن هو فَعَلها بِكَ، فقدَرتَ عليهِ، فقطِّعْهُ آراباً».
فلما مات معاوية امتنع هؤلاء من البيعة، وخرج عبد الله بن الزبير، والحسين، إلى مكَّةَ لمَّا أَخذهُما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذٍ بالمدينة. وأما عبد الله بن عُمر، فلم يتشدذ عليه، وكذلك عبد الرحمان بن أبي بكر.
فلما قدِمَ عبد الله بن الزبير والحسين مكَّةَ اجتمع الناس على الحسين، وابنُ الزبير قد لَزِم جانبَ الكعبة، فهو قائمٌ يُصلِّي عندها عامة نهاره ويَطوفُ، ثمَّ يأتي الحسين في مَن يأتي، ولا يزالُ يُشير عليه بالرأي، وهو أَثقل خَلقِ اللهِ على ابن الزبير، قد عرف أَنَّ أَهل الحجاز لا يُطيعونه ولا يُبايعونه أبداً، ما دام الحسين بالبلد، وأَنَّ الحسين أعظم في نفوسهم، وأَعيُنهِم منه، وأطوعُ في النَّاسِ منه.
ص: 22
وبلغ أهلَ العراقِ امتناعُ الحسين من البيعة ليزيد، وأنّه لَحِقَ بمكة، فأَرجَفُوا بيزيد.
كان عبد الله بن مطيع لقي الحسين، وهو يُريدُ مكة، فقال:
- «جعلني الله فداءك، أين تريد؟».
قال :
- «أما الآن فإنِّي أُريدُ مكة، وأما بعد، فإنِّي أَستخيرُ الله عزّ وجلّ».
قال :
- «خار الله لك، وجعلنا فداءَك، فإذا أَتيتَ مكَّةَ، فإيَّاك أن تقربُ الكوفة، فإنَّها بلدةٌ مَشؤومةٌ قُتل بها أَبوك، وخُذِل فيها أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه. الزَم الحرم، فإنَّكَ سيّد العرب، لا يَعدِلُ بك أَهلُ الحِجاز أحداً، ويتداعَى النَّاس إليك من كُلِّ جانب».
فأَمَّا محمد ابن الحنفية، فإنَّهُ أَتاهُ، فقال :
- «يا أخي، أَنتَ أَعزُّ خلقِ اللهِ عليَّ، ولستُ أدَّخِركَ نصيحتي، تَنحَّ عن الأمصار ما استطعت، ثمَّ ابعث رُسلَكَ إلى الشَّام، فادْعُهم إلى نفسِكَ فإن بايعوك، حمدتَ اللَّهَ عليه، وإن اجتمع على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك، ولا عقلَكَ، ولا يُذهب به مرُوءَتَكَ، ولا فضلَكَ. إِنِّي أَخافُ أَن تأتي مصراً من الأمصار، فيختلفَ النَّاسُ بينهم، فمنهم طائفةٌ معك، والأخرى عليكَ، فيقتتلوا، فتكونَ لأَوَّل الأَسنَةِ، فإذا خَيرُ هذه الأُمَّةِ نَفساً، وأباً، وأمَّا أَضيعُها دَماً، وأَذلُّها أَهلاً».
فقال له الحسين :
- «فأينَ أَذهَبُ يا أَخي؟» قال :
«انزل مكَّةَ، فإنِ اطمأَنَّتْ بك الدار فسبيلُ ذلك، وإن نَبَتْ لكَ، لحقت بالرِّمالِ، وشَعَفِ الجبال، وتَنقَّلتَ من بلد إلى بلدٍ حتَّى يَفرُقَ لك الرَّأي، فتستقبل الأمورَ استقبالاً، وتستدبرها استدباراً».
فقال :
- «يا أخي، قد نصحتَ وأَشفَقتَ».
ص: 23
ثمَّ إِنَّ أَهل الكوفة، من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلامُ اجتمعوا، فكاتبوا الحسين بن علي (علیهما السلام):
- «إِنَّا قد اعتزلنا النَّاسَ، فلسنا نُصلّي بصلاتهم، ولا إمامَ لَنا، فلو أقبلت إلينا رَجَونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان».
ثمَّ اجتمع رُؤساءُ الشّيعة مثل سليمان بن صُرَد، والمسيب بن نَجَبَة وأشباههم، وكتبوا إليه :
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرحيم»
«لحسين بن علي من شيعيه المؤمنين. أمّا بعدُ، فَحَيَّ هَلا، فإِنَّ النَّاسَ ينتظرونَكَ، لا رَأيَ لَهُم في غيرِكَ، فالعَجَلَ، ثمَّ العَجَلَ، والسَّلام».
ثم اجتمعوا ثالثة، فكتبوا إليه :
- «من شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمرو بن الحجاج، ومحمَّد بن عُميرٍ. أمَّا بعد فقد اخضر الجناب، وأَينَعَتِ الثّمارُ، وطَمَّتِ الجمامُ، فإذا شئتَ فاقدَم على جُنودِ مُجنّدة لك، والسلام».
فاجتمعت الرُّسُلُ كُلُّهم عند الحسين، وقرأَ الكُتب، وسأَلَ الرُّسُلَ عن أَمرِ النَّاسِ، ثمَّ كتب أجوبةً كُتبهم، وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبي طالب إليهم، وقال له :
- «اذهب، فاعرف أحوالَ النَّاسِ، وانظر ما كتبوا به، فإن كان صحيحاً قد اجتمع عليه رُؤَسَاؤُهم، وتابعهم مَن يُوثَقُ به، خرجنا إليهم».
فسار مُسلم إلى الكوفة، وبها النعمان بن بشير الأنصاري أميراً من قبل يزيد. فلما تحدَّث النَّاسُ بمقدمِه دَبوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفاً. فقام عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى النُّعمان بن بشير، فقال له :
- «إنَّك ضعيف، أو متضَعِّفٌ، قد فسد البلاد، وليس يُصلح ما ترى إلا الغَشم».
فقال النعمان :
- «لأن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله، أحبُّ إليَّ من أن أكون قويا، وأنا في معصية الله، وما كنتُ لأهتك ستراً ستَرهُ اللَّهُ».
فَكُتبَ بِقولِ النعمان إلى يزيد وقيل له :
- «إن كانت لك حاجة في الكوفة، فابعث إليها رجلا قوياً يُنفّذُ أَمرك، ويعمل مثل
ص: 24
عملك، فإنَّ النعمان بن بشير إمَّا ضعيف، أو مُتضعف».
فدعا يزيدُ كاتبَهُ سَرجُون، وكان يستشيره، فأَخبرهُ الخبرَ.
قال له :
- «أكُنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيا». قال :
- «نعم». قال:
- «فاقبَلْ مِنّي، فإنَّهُ ليس للكوفة إلا عُبيد الله بن زياد، فوَلِّهِ».
وكان يزيدُ ساخطاً عليه، وهم بعزله عن البصرة. فكتب إليه برضاه عنه، وأَنَّهُ قد ولَّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتُلَهُ. فأَقبل عُبيدُ اللَّهِ في وُجوهِ أَهل البصرة، حتَّى قدم الكوفة مُتلثِّماً، فلا يَمُرُّ على مجلس من مجالسهم فيُسلم، إلا قالوا :
- «وعليك السَّلامُ يا بْنَ بنتِ رسول الله».!
وهم يظنُّون أنَّه الحسين بن علي (علیهما السلام)، حتّى نزل القصر، واجماً كئيباً لِما رَأَى.
ثمَّ جمع النَّاسَ فخطبهم، وأعلمهم نيةً يزيد في الإحسان إلى سامِعهم ومُطيعهم، والشِّدَّةِ على مُريبهم وعاصيهم، ووعد، وأوعد، وختم الخطبة بأن قال :
- «ليُبق امْرُؤٌ على نفسه الصّدقُ ينبئ عنك لا الوعيد».
ثمَّ أَخذ العُرفاءُ أَخذاً شديداً، ودعا الناس، فقال:
- «اكتبوا إلى العرفاء، ومَن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، وأَهل الرَّيب، الذين رأيُهم الخلاف والشّقاقُ، فمَن كتبهم لنا، فهو بَريءٌ، ومن لم يكتبْ لَنا أَحداً، فَلْيَضمنْ لَنا ما في عرافته : أَن لا يُخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا فيهم باغ، فمَن لم يفعل ذلك، فبَرِئت مِنه الذَّمَّة وحلال علينا دمُهُ ومالُهُ. وأَيُّما عريف وُجد في عرافتهُ مِن بُغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا، صُلب على باب داره، وأُلقيت تلك العرافة من العطاء».
ثمَّ إِنَّ عبيد الله دَعا مولى له، فَأَعطاه ثلاثةَ آلافِ درهم،وقال له :
- «اذهب، حتّى تسأل عن الرّجل الذي يُبايع أهل الكوفة، فأَعْلِمْهُ : أَنَّكَ رجلٌ من أَهلِ حمص جِئْتَ لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه، ليتقوى به».
ص: 25
فلم يزل يتلطَّف، ويرفق، ويسترشد، حتّى دُلَّ على شيخ من أهل الكوفة يأخذُ البيعة، فلقيه، فأخبره.
فقال الشيخ :
- «لقد سرَّني لقاؤك، وساءَني. أَمَّا ما سرَّني من ذاك، فما هداك الله له، وأَمَّا ما ساءني، فإِنَّ أَمرنا لم يَستحكم بعد».
قال :
فأدخله عليه، وقبض منه المال، وبايعه، ورجع الرَّجلُ إلى عُبيد اللَّهِ، فَأَخبره. وانتقل مُسلم حين وافى عُبيدُ اللهِ، إلى منزلِ هانئ بن عُروةَ المُرادي، وكتب إلى الحسين يُخبره ببيعة بضعة عشر ألفاً من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم عليه.
وقال عبيدُ اللَّهِ لِوُجوه أهل الكوفة :
- «إنِّي أَعلمُ أَنَّه قد سار معي، وأظهر الطَّاعة لي مَن هُو عَدِوٌّ لِلحسين، حين ظَنَّ أن الحسين قد دخل البلد، وغلب عليه، و والله، ما عرفتُ منكم أَحداً».
وقدم شريك بن الأَعورُ من البصرة، وكان من شيعة علي عليه السلام.
فقال لهانئ :
- «مُر مُسلماً يكون عندي، فإنَّ عبيد الله يعودُني».
وقال شريك لمسلم:
- «أَرأَيتكَ، إن أمكنتُكَ من عبيد الله، تضربه بالسيف؟» قال :
- «نعم والله».
وأظهر شريك زيادةً على ما به من الشَّكاة، وهو نازل في دار هانئ وجاء عُبيدُ الله يعود شريكاً في منزل هانئ.
فقال شريك لمسلم:
- «إذا تمكّن عبيد الله، فإنّي مُطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك، واقتله، فليس بينك وبين القصر من تحولُ دونَهُ، وإن شفاني الله كفيتُكَ البصرة».
فقال هانئ :
- «إني لأكَرهُ قتل رجل في منزلي».
وشجعه شريك، وقال:
ص: 26
- «هي فرصة لك، وإيَّاك أن تُصيِّعَها، فانتهزها فيه، فإنَّهُ عَدوُّ اللَّهِ، وعلامتك أَن أقول : اسقوني ماءاً».
وجاءَ عُبيد الله بن زياد فدخل وجلس وسأل شريكاً عن وَجَعِه، وقال :
- «ما الذي تَجدُ، ومتى اشتكيت؟».
فلمَّا طال سُؤاله إيَّاهُ، ورأى أَنَّ أَحداً لا يخرج، خَشِيَ أَن يفوتَهُ، فَأَخذَ يقول :
- «اسقُوني وَيحَكُم ماءاً، ما تنتظرون بنفسي لن تُحيوها، اسقونيه وإن كانت نفسي فيه».
فقال ذلك مرَّتين، أو ثلاثاً.
فقال عُبيد الله :
- «ما شأنُه؟ أو ترونه يهجر؟»
فقال هاني :
- «نعم، أصلحك الله، هذا ديدنه منذ الصبح»
فَفَطنَ مَولى لِعُبيد الله قائم على رأسه، فغَمزَهُ، فقام عبيدُ اللَّهِ.
فقال شريك :
- «انتظرْ، أصلحك الله، فإنِّي أُريدُ أَن أُوصي إليكَ»..
فقال :
- «أَعودُ».
فلما خرج، قال شريك لِمُسلم :
- «ما منعك من قتله ؟» قال :
- «خصلتانِ : أَما إحداهما، فكراهة هانئ أن يُقتل في دارِه رجلٌ. والأُخرى، فحديثٌ سَمعته من علي عن النَّبي (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وسَلَّم) أَنَّ الإيمانَ قيَّدَ الفَتكَ، فلا يفتكُ مُؤمِنٌ».
فلبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثاً ومات.
ودَعا عُبيدُ الله هانئ بنَ عُروةَ، فأبى أَن يُجيبَهُ إلا بأمان، فقال:
- «ما لَهُ وللأمان، هل أحدثَ حدثاً؟».
فجاءَهُ بنو عمه، ورُؤَساء العشائر، فقالوا :
- «لا تجعل على نفسك سبيلاً، وأَنتَ بَريء».
ص: 27
وأُتي به، فقال عُبيد اللَّهِ :
- «إيه يا هانئ، ما هذه الأمورُ الَّتي تَرَبَّصُ في دورك لأمير المؤمنين، وعامة المسلمين؟ قال :
- «وما ذاك، يا أمير المؤمنين!» قال :
- «جِئتَ بمسلم بن عقيل، وأدخلته دارَكَ وجمعت السلاح، والرِّجالَ في دورِ حَولِكَ، وظننتَ أَنَّ ذلك يخفى». فقال :
- «ما فعلتُ وما مُسلم عندي». قال :
- «بلی قد فعلت». قال :
- «لا، ما فعلتُ». قال :
- «بلی».
فلما كثر ذلك، وأبى هانئ إلا مُجاحَدتَهُ، دعا عبيدُ اللَّهِ ذلك الدّسيس الذي دسَّهُ، وحَمَلَ على يَدِه المال، وكان قد أَنسَ بهم، وداخلهم، وجعل ينقُلُ كلّ ما يكون منهم، إليه. فلمَّا رَءَاهُ هانئ، قال له عُبيدُ اللَّهِ :
- «هل تعرفُ هذا؟».
فعلم هانئ أنَّه كان عيناً عليهم، فسُقطَ في خَلَده ساعةً، ثمّ إِنَّ نفسَهُ راجَعَتْهُ، فقال له :
- «اسمع مني، فإنّي، والله الذي لا إله إلا هو أصدقكَ: ما دعوتُهُ، ولكن نزل عليَّ،، فاستحييتُ من ردّهِ، ولَزِمَني ذمامُه، فأدخلتُه، وأَضَفْتُهُ، وآويتُهُ. فإن شِئتَ، أعطيتُكَ موثقاً، وما تطمئن إليه، لا أَبغيك سُوءاً ولا غائلةً، وإن شئتَ أَعطيتُكَ رهينة تكون في يدك حتّى آتيكَ، وأَنطِلقَ إليه، فآمُرَهُ أَن يُخرج من داري إلى حيث شاء من الأَرض، فأخرُجَ من ذمامه وجواره».
فقال :
- «واللهِ لا تُفارقني أبداً، حتّى تأتيني به». قال :
- «والله، لا أَجيئُكَ به أبداً، أَنَا أَجِيئُكَ بِضَيفي تقتله؟».
قال :
- «واللهِ، لَتَأْتِيَني به».
وقام النّاسُ إليه، يُناشدونه في نفسه، ويقولون :
- «إنه سلطان، وليس عليك في دفعه إليه عار، ولا نقيصة». فقال:
- «بلى والله، عليَّ في ذلك الخزي والعارُ : أدفع جاري وضيفي إلى قاتله، وأنا
ص: 28
صحيح، أسمع، وأرى شديدُ السَّاعِدِ، كثيرُ الأعوان!».
فقال عبيدُ اللَّهِ بن زياد :
- «أدنُوهُ مِنِّي!».
فأُدنِيَ منه، وله ضفيرتانِ قد رَجَّلهُما. فأَمرَ بِضَفيرَتَيْهِ، فَأُمسِكَ بهما، واستعرض وجهَهُ بقضيب في يَدِه، فلم يزل يضربُ أَنفَهُ، وجَبْهَتَهُ، وجَبينَهُ، حَتَّى نَثَرَ لَحمَ خدَّيهِ، وهشَمَ أَنفَهُ. وتلوّى هانئ، وضرب بيده إلى قائم سيفِ شُرطيٍّ مِمَّن حَضرَ، فَمَانَعهُ الرّجلُ، ومُنع.
فقال عُبيدُ اللّه :
- «أحروري سائر اليوم؟ حلَّ لَنا قتلك».
فقام أسماء بن خارجة، فقال:
- «أَرُسُلٌ غُدُرٌ نحنُ منذ اليوم؟ أمرتنا أن نجيئكَ بالرَّجل، حتّى إذا جئناك به، فعلتَ به ماتری، وزعمتَ أَنَّك تقتُلُهُ».
فقال عبيد الله :
- «إِنَّكَ هاهنا».
وأُمِرَ، فَلُهِزَ، وتُعتعَ ساعةً، ثمَّ تُرك، فجلس، وسكت النَّاسُ.
وأَمرَ بهانئ، فَجُعل في بيت، ووكل به من يحرسه. وبلغ ذلك مذحجاً، فأقبلت إلى القصر، فقيلَ لِعُبيد الله
- «هذه مذحج، قد اجتمعت بالباب».
فقال لشريح القاضي :
- «أُدخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج، فأعلمهم أَنَّهُ حَيٌّ».
فخرج إليهم شُريحٌ، فأعلمهم أَنَّهُ رَعَاهُ وهو حَيُّ سالم، وإِنَّما عاتبه كما يعاتب الأميرُ رعيَّتَهُ. فانصرفوا.
وبعث مسلم بن عقيل مَن يأتيه بالخبر. فأتوهُ بالخَبرِ على وَجهِه، وأَمرَ أَن يُنادي بشعاره:
- «يا منصورُ أَمِتْ».
وكان قد بايعه ثمانية عشر ألف 18,000 رجل. فاجتمعوا إليه، فعقد لجماعة
ص: 29
على الأرباع، وقدَّم أمامَهُ صاحبَ رُبع كندة، وأقبل نحو القصر، فتحرّز عُبيد الله، وغلق الأبواب وسار مسلم حتَّى أحاط بالقصر، وتداعى النّاسُ، واجتمعوا، حتى امتلأ المسجد والسُّوقُ، وما زالوا يتوثَّبون حتَّى المساء.
فضاق بعبيد اللَّهِ أَمرُه، وكان أكبر همِّهِ أن يتمسك بباب القصر، وليس معه في القصر إلَّا ثلاثون رجلاً من الشُّرَط، وعشرون رجلاً من أشراف النَّاس، وأهل بيته، وجعل من القصر يُشرفون فيشتمهم النَّاس ويفتَرُون على ابن زياد وأبيه، ويتَّقون أن يرموهم بالحجارة. ففتح عُبيدُ اللهِ الباب الذي يلي دارَ الرُّوميين ليدخل إليه من يأتيه، ودعا كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج في مَن أَطَاعَهُ من مذحج، فيُخذِّل النّاسَ عن مسلم بن عقيل ويُخوِّفهم عقوبة السلطان، وغائلة أمرهم، وأمر محمد بن الأشعث بمثل ذلك، في مَن أَطاعَهُ من كندة أن يرفع راية أمانٍ لِمَن جَاءَهُ من النَّاسِ، وقال لمثل هؤلاء من أَهل الشَّرف مثل ذلك.
فخرجُوا، وجاؤوا بعِدَّةِ، فَحُبِسُوا، ورجع إليه الرُّؤساء من ناحية دار الرُّوميين، فدخلوا القصر، فقال لهم عُبيدُ اللهِ :
- «أشرفوا على القصرِ فَمَنُوا أَهلَ الطَّاعةِ، وخَوِّفُوا أَهلَ المعصية».
فتكلَّم القومُ، وقالوا :
- «أَيُّها النَّاس! الحقُوا بِأَهاليكُم، ولا تُعجلوا الشَّرَّ، ولا تتعرَّضُوا لِلقتل، فإِنَّ أَميرَ المؤمنين، قد بعث جُنودَهُ من الشام، وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لَئِن تَمَّمْتُم على حربكم، ولم تنصرفوا من عشيَّتكم، أن يحرم ذرِّيَّتكم العطاء، ويُفرِّقَ مُقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسَّقيم، والشَّاهِدَ بالغائبِ، حتّى لا يبقى له فيكم بقيَّةٌ من أهل المعصية، إلا أذاقها وبالَ أَمرها».
فأَخذ النَّاسُ - كما سمعوا هذا وأَشباهَهُ من رُؤسائهم - يتفرّقون. فكانت المرأة تأتي إلى ابنها، وأخيها، فتقولُ :
- «انصرف، فإنَّ النَّاسَ يكفونكَ».
ويجيء الرَّجلُ إلى ابنه، وأخيه، فيقول:
- «غداً يأتيك جنودُ الشّام، فما تصنع بالحرب؟».
فينصرف به.
فما زال النَّاس يتفرَّقون، حتّى أمسى مسلم بن عقيل، وما معه إلا ثلاثون رجلاً حين صليت المغرب، فصلى بهم مسلم. فلمَّا رَأَى أَنه قد أُمسى وليس معه إلا أُولئك، خرج متوجهاً نحو كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة. ثم خرج من الباب، فإذا
ص: 30
ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يُحس أحداً يدله على الطريق، ولا على منزل، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدُوٌّ. فبقي متلدّداً في أزقّة الكوفة، لا يدري أين يذهب.
فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأَةٍ يُقال لَها طَوعةً كانت أُمَّ ولدٍ لِلأَشعث، فزوجها أَسيداً الحَضرَمي، فولدت له بِلالاً. وكان بلال خرج مع النَّاسِ، وأُمُّه قائمةً تنتظر، فسلَّمَ مسلم عليها، فردت عليه، فقال لها :
- «يا أمةَ اللهِ، اسقيني ماءاً».
فدخلت فسَقته، فجلس، فقالت :
- «يا عبد الله، اذهب إلى أهلك».
فسكت ثم عادت، فسكت، فقالت :
- «سبحان اللهِ قُمْ إلى أهلك، فما يصلح الجلوس على بابي، ولا أُحلُّه لك».
فقال :
- «يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزل، ولا عشيرة، فهل لكِ في أَجرٍ ومعروف، ولعلي أكافتُكِ به بعد اليوم». قالت :
- «وما ذاك؟» قال :
- «أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم، وغَرُّوني». قالت:
- «ادخل!».
ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنُها. فقالت :
- «يا بُنَيَّ، مكرمة وافَتكَ».
وأخذتْ عليه الأيمان، أن لا يُخبر أحداً، فحَلفَ، فَأَخبرتُهُ الخبرَ، فاضطجعَ وسكت.
وأخذ ابن زيادٍ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً، فقال لأصحابه :
- «أشرفوا، فانظروا ما بالهم؟».
فأَشرَفوا، فلم يَرَوا أَحداً. قال:
- «فانظروا، فلعلهم تحتَ الظَّلالِ قد كمنوا لكم».
فجعلوا يخفضون شُعَلَ النَّارِ في أيديهم، وينظرون : هل في الظلال أحدٌ؟ فكانت أحياناً تُضِيءُ لهم، وأحياناً لا تُضيء، كما يُريدون فدَلَّوا أَنصاف الطنان تُشدُّ بالحِبال، ثمَّ تُجعَلُ فيها النيرانُ، ثمَّ تُدلَّى إلى الأَرضِ. ففعلوا ذلك من أقصى الظلالِ وأدناها، فلم يَروا شيئاً. فعلموا أن القوم انصرفوا نادمين.
ص: 31
فأَعلَمُوا ابنَ زيادٍ، فأمر بفتح باب السُّدَّةِ الَّتي في المسجد، ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه، فجلسُوا حَولَهُ قبلَ العُتمة، ونادى :
- «بَرِئَتِ الذّمِّةُ من رجل من الشرطة، أو العُرفاء، أو المناكب والمقاتلة، صلَّى العُتمةَ إِلا في المسجد!».
فلم تكن إلا ساعةً حتّى امتلأَ المسجد.
فقال الحصين بن تميم :
- «إن شئتَ، صلّى غيرُكَ، ودخلت القصر، فإنّي لا آمَنُ أَن يعْتالَكَ بعضُ أعدائك». فقال :
- «مُرْ حَرَسي أن يقوموا ورائي، وزِدْ فيهم، فإنّي لستُ بداخل بعد أن آثرتُ الخروج».
فصلى بالنَّاس، ثم قال :
- «أَمَّا بعدُ، فإنَّ ابنَ عقيل السَّفيهَ الجاهل قد أتى ما رأيتُم من الخلافِ والشّقاق، فَبَرِئَتِ الذِّمَّةُ من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله دِيَتُه».
ثمَّ توعد الناسَ، وحضّهم على الطَّاعة، وخوّفهم الفرقة والفتنة. ونادى حصين بن تميم، فأجابه، وكان على شُرَطِهِ، فقال:
- «ثكلتكَ أُمُّكَ، إن ضاعَ باب سكَّةٍ من سِكَكِ الكوفة، أو خرج هذا الرَّجلُ، ولم تأتني به. فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غداً واستَبْرِئ الدُّورَ، وجُسَّ خلالها حتّى تأتيني بهذا الرَّجل».
ثم نزل ابن زياد، ودخل القصر، وأصبح ابنُ تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عنده، وكان محمد بن الأشعث قد باكر ابن زياد، وهو عنده فأقبل عبد الرَّحمن حتَّى أَتَى أَباه، فدنا منه، وسارَّه.
فقال ابن زیاد :
- «وما يقول ابنكَ؟» فقال :
- «يقول : إنَّ ابن عقيل في دارِ من دُورِنا».
فنخس بالقضيب في جنبه، وقال :
- «قم، وائتني به الساعة».
وبعث إلى خليفته، وهو في المسجد أن:
ص: 32
- «ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلاً من قيس».
وإِنَّما كرهَ قومَهُ لأَنَّه علم أَنَّ قومَهُ يكرهون أن يُصاب فيهم مثل ابن عقيل. ففعل ذلك، وسارَ محمد بن الأشعث، حتَّى أَطافَ بالدَّارِ.
فلما سمع مُسلمٌ وقعَ الحوافر، بادر إلى سيفه، وخرج إليهم، فاقتحموا عليه، فردَّهم، ثمَّ عادُوا فردَّهم، حتّى ضربه رجلٌ منهم بسيفه فقطع شفَتَه، وثناياه، وضربه مسلم بأعلى رأسه، كادت تأتي عليه، ولكن سَلِمَ. فلما رأى النَّاسُ ذلك، أخذوا يرمونه من فوق البيت.
فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال :
- «إنك أثخنت، وعجزت عن القتال، فلِمَ تقتل نفسَكَ، أَقبل إليَّ، ولك الأمان».
فقال: «آمِنٌ أَنَا؟».
قال: «نعم».
وقال القوم : «أنت آمن».
فأَمكن من نفسه، فدَنَوا منه، وحملوه. فقال:
- «يا محمد بن الأشعث، أراك ستعجز عن أماني».
وذلك أنه نزع سيفه من عاتقه فاستوحش.
- «. فهل لك في خير؟ تستطيع أن تبعث رجلاً من عندك على لساني يُبلغ حسيناً - فإني أراه قد خرج، أو هو خارج غداً - فيقول له : إنَّ ابن عقيل بعثني، وهو أسير، لا يَرى أنَّه يُمسي وهو يُقتَلُ، وهو يقول لك : ارجع بأهل بيتِكَ، ولا يَغُرَّك أَهل الكوفة، فإنَّهم أصحاب أبيكَ، الذي كان يتمنَّى فِراقَهم بالموت، أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك، وكذبوني، وليس لكذوب رأي».
فقال ابن الأشعث:
- «والله لأفعلَنَّ، ولأُعلِمَنَّ الأَميرَ عُبيد اللهِ. أَنِّي آمنتُكَ».
وذهب به إلى ابن زياد وأنفذ رجلاً على راحلة إلى الحسين بما قال مُسلم.
فلما دخل به علی ابن زیاد قال :
- «إنِّي آمَنتُه. قال :
- «وما أَنتَ والأمان، كأَنَّما أَرسلناك لِتُؤْمِنَهُ، إِنَّما أَرسلناك لتأتينا به».
فسكت وانتهى بمسلم إليه. فقال :
- «إيه يا ابن عقيل، أتيتَ النَّاسَ، وأَمرُهم جميع، وكلمتهم واحدةٌ، لِتُشنّتَ
ص: 33
34
بينهم، وتحمل بعضهم على بعض. قال :
- «كلَّا! لَستُ لذلك أَتيتُ، لكن أهل المصر زعموا أَنَّ أَباك قتلَ خِيارَهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأَتيناهُم لِنأمُرَ بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب»
وتراجعا الكلامَ إلى أن قال له ابنُ زيادٍ :
- «قتلني الله، إن لم أقتلكَ قتلةً لم يُقتلها أحد في الإسلام». قال:
- «أما إِنَّكَ أَحقُّ من أحدث في الإسلام، ما لم يكن فيه، وإنَّكَ لا تدَعُ سوء القتلة، وقبحَ المُثلة، وخُبثَ السَّريرةِ، ولُوْمَ الغَلبة، لا أحد من النَّاس أَحقُّ بها منك».
وأخذ ابن زياد يشتمه، ويشتم حسيناً وعليا، وأمسك مُسلم لا يُكلِّمه.
ثم قال :
- «اصعدوا به فوق القصرِ، فاضربوا عُنقَهُ، ثمَّ أَتَّبِعُوا جَسَدَهُ رَأْسَهُ».
فصعد وهو يقول :
- «اللهم احكم بيننا وبين قوم غَرُونا، وخَذَلُونا».
وأُشرِف به على موضع الحذائين اليوم، فضُربتْ عُنقه، وأتبعَ جَسده رأسَهُ.
ثم أمر بهانئ بعد قتل مسلم، أن يُخرج إلى السُّوقِ، فتضربَ عُنقه. فأُخرج إلى حيث تُباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول:
- «وامذَحجاه، ولا مذحج لي اليوم».
ولا ينصرهُ أَحدٌ، حتَّى قُتِلَ.
وأَمر بكلِّ مَن عرفه مِمَّن خرج مع مُسلم، فأتي به إلى قومه، فضربت عُنقه فيهم، وبعث برؤوس من قتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصَّة.
ولَحِقَ رِسولُ مسلم الذي أشخصه محمد بن الأشعث، الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغهُ الرِّسالةَ.
فقال له الحسين :
- «كلُّ ما حُمَّ نازل، وعند الله نحتسبُ أَنفسنا، وفَسادَ أُمتنا».
لقيه عُمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له، وقد قدمت عليه كُتب العراق :
ص: 34
- «يا بن عمّ إِنِّي أُتيتُ لحاجةٍ أُريدُ ذِكرَها لك نصيحة، فإن كنت ترى أَنَّك مُستنصحي، قلتُها وأَدَّيتُ ما عليَّ من الحقِّ فيها، وإن ظننتَ أَنَّكَ لا تستنصحني، كفَفْتُ عمَّا أُريدُ أَن أَقول».
قال : فقال :
- «قُلْ، فوالله ما أستغشك، وما أَظنُّك بِشَيْءٍ من الهَوى لقبيح من القول والفعل».
قال : قلت :
- «بلغني أَنَّكَ تُريدُ السَّيرَ إلى العراق، وإنِّي أُشفقُ أَن تأتي بلداً فيه عُمَّالُه وأُمراءه، ومعهم بيوتُ الأموال. وإِنَّما النَّاسُ عَبيد لهذهِ الدَّراهم والدنانير، فلا آمَنُ أَن يُقاتِلَك مَن وعدك بنصره، ومَن أَنتَ أَحبُّ إليه مِمَّن يقاتلكَ معه».
فقال الحسين :
- «جزاك الله خيراً يا بن عمّ، مهما يُقضَ، يَكُنْ، وأَنتَ عندي أَحمدُ مُشير، وأنصح ناصح».
وأَتاهُ عبد الله بن عباس، فقال:
- «يا ابن عم، إنّه قدِ أَرجف النَّاسُ أَنَّك سائر إلى العراق، فَبَيِّن لي ما أَنتَ صانع».
فقال له :
- «إني قد أجمعتُ السّيرَ إلى العراقِ في أَحد يَومَيَّ هذين إن شاء الله».
فقال له ابن عباس :
- «فإنِّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبِرْني - رحمك الله - أتسير إلى قوم قد قتلوا أَميرَهم، وضبطوا بِلادَهم، ونَفَوا عَدُوَّهم؟ فإن كانُوا قد فعلوا ذلك، فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنَّما دعوك إليهم، وأميرُهم عليهم، قاهرٌ لَهُم، وعُمَّالُه يجبون بلادهم، فإنَّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمَن أن يغرُوكَ، ويكذبوك، ويخذلوك، ويُستنفروا إليك، فيكونوا أَشدَّ النَّاسِ عليك»
فقال له الحسين :
- «فإِنِّي أَستخير الله، وأَنظر».
فجاءَهُ من الغدِ ابن عباس، وقال له :
- «ابن عم، إنِّي أَتصبرُ، ولا أصبرُ، إِنِّي أَتخوَّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك. إنَّ
ص: 35
أَهلَ العراقِ قومٌ غُدُرّ، فَأَقِمْ بهذا البلد، فإنَّك سيّدُ أَهل الحجاز. فإن كانَ أَهل العراق يريدونك كما زعمُوا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوهم، ثمَّ اقدم عليهم، فإن أبيت إلا الخروج، فَسِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حُصوناً وشعاباً، وهي أَرضٌ عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنتَ في عُزلةٍ عن النَّاس، فتكتبُ وتَبُثُ دُعاءَكَ، فإنِّي أَرجو أن يأتيكَ ما تُحبُّ في عافية».
فقال له الحسين :
- «يا ابن عم، إني أعلمُ أَنَّك ناصح شفيق، ولكنّي قد أجمعتُ على المسير».
فقال له ابن عباس :
- «فإن كنتَ سائراً، فلا تَسِرْ بنسائكَ، وصِبيَتِكَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي أَخافُ أَن تُقتل كما قتل عثمانُ، ونساؤُهُ ووُلده ينظرون إليه، و والله الذي لا إلهَ إلاّ هُوَ : لو أَعلمُ أَنِّي إذا أخذتُ بِشَعرِكَ وناصيتِكَ، حتّى تجتمع علي وعليك النَّاسُ، أَطعتَني وأَقمتَ ؛ لَفَعلتُ».
فلمَّا أبى عليه، قال له :
- «قد أقررْتَ عين ابن الزبير بتخليتِكَ إيَّاهُ والحجاز، وهو اليومَ لا يُنظَرُ إليهِ معك».
وخرج من عند الحسين ومرَّ بعبد الله بن الزبير، فقال:
- «قرَّتْ عينُكَ يا بن الزبير!».
ثم قال :
يا لك من حُمْرةٍ بِمَعْمَرٍ*** خَلا لَكِ الجَو، فَبِيضي واصفري ***ونَقْري ما شِئتِ أَنْ تُنَقِّري
قال :
- «وما ذاك؟».
قال :
- «هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويُخَليكَ والحجاز».
وخرج الحسينُ في أهل بيته، ونسائه، وصبيته. فلقي الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين :
- «بَيِّن لَنا نَبَأَ النَّاسِ خلفَكَ».
فقال له الفرزدق :
ص: 36
- «الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميَّة، والله يفعل ما يشاءُ».
فقال له الحسين :
- «صدقتَ الأَمرُ للَّهِ، يفعل ما يشاءُ».
ثمَّ حرَّك راحلته، وقال : «السلام عليك».
وافترقا.
وقد كان وصل إلى الحسين كتاب مسلم بن عقيل، قبل أن يُقتل بأيَّام، يقول فيه :
- «أما بعد، فإنَّ الرَّائد لا يكذبُ أَهله، إنَّ جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأُ كتابي، والسلام».
فأقبل الحسين بصبيانه ونسائه لا يلوي على شَيْءٍ، ولا يسمع قول أَحدٍ، حتَّى بلغَ الحاجرَ من بطن الدومةِ، وبعث قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب يعرفُهم فيه أنه شخص إليهم، لما عرفه من اجتمع ملئهم على نصره، والطلب بحقه.
فلما انتهى قيس إلى القادسية، وجد خَيلَ ابنِ زيادٍ منظومة ما بينها وبين الكوفة، فأخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد.
فقال له ابن زیاد :
- «اصعد القصر، فَسُب الكذَّابَ بنَ الكذَّابِ».
فصعد قيس بن مُسهِر القصر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قالَ :
- «أَيُّها النَّاسُ، هذا حسين بن علي خيرُ خلق اللَّهِ، ابن فاطمةَ بنتِ رسول اللَّهِ، وأَنا رسولُه إليكم، وفارقته بالحاجر، فأَجِيبُوهُ!».
ثم لعن زياداً وابنه، واستغفر لعلي بن أبي طالب فأَمر به عُبيدُ اللَّهِ فَرُمِيَ به من فوق القصر، فمات.
وأَقبل الحسينُ، حتَّى نزل شراف، وأمر فتيانَه فاستقوا من الماء، ثمَّ ساروا صَدرَ يومهم. فقال رجلٌ :
- «الله أكبر».
فقال الحسين :
ص: 37
- «الله أكبرُ، مِمَّ كَبَّرتَ؟» قال:
- «رأَيتُ النَّخل».
فقال رجلان أسديَّان كانا معه :
- «إن هذا مكان ما رأينا به نخلاً قط».
قال الحسين :
- «فما تَرَيانِه رَأَى». فقالا :
- «نَراهُ واللهِ رَأيَ هَوادي الخيل». فقال :
- «وأَنا، والله، أرى ذلك».
فقال الحسين :
- «أما لَنا مَلجأً نعدل إليه؟» نجعله في ظهورنا ونستقبل القومَ من وجه واحد؟
قال : فقلنا له :
- «نعم، هذا ذو حُسُم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك».
فأخذ إليه، ومال أَصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتَبيَّناها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطَّريق عدلوا كأَنَّ أَسنَتَهم اليَعاسيب، وكأَنَّ راياتهم أجنحةُ الطَّير، فسبقناهم فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهُم أَلفُ رجل، مع الحُرِّ بن يزيد التميمي.
فأقبل حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه في حَرِّ الظهيرةِ، فأَمر الحسين أن يُسقى القومُ، فقام فتيانهُ يَسقون الخيلَ بالأنوار والطساس حتَّى أَرووها.
فكان سبب تقدم الحُرِّ فِي أَلفِ رجلٍ أَنَّ عُبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شُرَطه، على أن ينزل القادسية، وينظم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدَّمَ الحُرَّ هذا بين يديه في ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يردّ عليه الخبر.
فحضرت الصَّلاةُ، فَأَذَن مُؤذِّنُ الحسين، ثمَّ أَقامَ. فخرج الحسين في إزار ونعلين، وقال :
- «أَيُّها النَّاس، معذرة إلى الله، وإليكم. إنّي لم آتِكم حتَّى أَتَتني كُتُبكم، وقدِمتُ عليَّ رسائلكم أَنِ اقدم علينا، فإنَّهُ ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تُعطوني ما أَطمئن إليه من عُهودكم أقدَمُ مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم».
ص: 38
فسكتوا عنه.
فقال الحسين لِلحُرِّ :
- «أتريد أن تصلي بأصحابك؟» قال:
- «لا، بل تُصلِّي أَنتَ ونُصلِّي بصلاتك».
فصلى بهم الحسين، وانصرف الحُرُّ إلى مكانه، وأخذ كل رجل منهم بِعِنان دابته، وجلس في ظلها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيَّأُوا للرَّحيلِ، ففعلوا. ثمَّ إِنَّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلى بالقوم، ثمَّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريباً من مقالته الأولى.
فقال الحُرُّ :
- «إنَّا، والله لا ندري هذه الكتب، والرُّسل التي تذكر».
فدعا الحسين بخُرجَينِ مَملُويْنِ كُتُباً فنشرها بين أيديهم. فقال له الحُرُّ :
- «لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنّما أُمرنا، إذا نحن لقيناك، أَلا نُفَارقَكَ حتّى نقدمك الكوفةَ على عُبيد الله بن زياد».
فقال له الحسين :
- «الموتُ أدنى إليكَ من ذلك».
ثم قال لأصحابه :
- «انصرفوا بنا».
فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف.
فقال الحسين للحُرّ :
- «ثكلتك أُمِّكَ، ما تُريدُ؟».
قال :
- «أما والله لو غيرك من العرب يقولُها ما تركتُ ذكر أُمه، كائناً من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أُمِّكَ، إلا بأحسن ما نقدر عليه».
فقال له الحسين :
- «فما تُريدُ؟» قال:
- «أن أنطلق بك إلى عُبيد الله بن زياد».
فقال له الحسين :
ص: 39
- «إذاً لا أتبعك».
فقال له الحُرُّ :
- «إذاً لا أَدعُك».
فترادًا القول : فلمّا طال الكلام، قال الحُرُّ :
- «إني لم أُومَرْ بقتالك، إنَّما أمرتُ ألا أفارقَكَ حتّى تقدم الكوفة. فإذا أتيتَ حيطانَها، فخُذ طريقاً لا يُدخلك المدينة، ولا يُؤَدِّيك إليها، ولا يَرُدُّك عنها يكون بيني وبينكَ نَصفاً، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أَردتَ، أو إلى ابن زياد، إن أَردتَ، فلعل الله يأتي بأمرِ يرزقني فيه العافية أن أبتلي بشيء من أمرك».
فتراضيا، وتَياسر الحُرُّ عن طريق القادسية، وسايَرَهُ الحسين. وأخذ الحسين يخطب القومَ ويذكرهم الله، ويدلُّهم على نفسه ومكانه عن النُّبُوَّةِ والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرةِ الفَسقة.
فقال له الحرُّ، وهو يُسايرُهُ :
- «يا حسين! أُذكرك الله في نفسك، فواللهِ، لئن قاتلتَ لَتُقتلَنَّ».
فقال له الحسين :
- «أبالموت تخوفني؟».
وأَنشده أبياتاً، وهي أبيات تمثل بها :
سَأَمضِي، فَمَا بِالمَوتِ عارٌ على الفَتى *** إذا ما نَوى حَقًّا وَجاهَدَ مُسلما
وآسَى الرّجالَ الصَّالحين بنفسِه *** وفارقَ شَرًا أَن يَعيش ويُرغما
فكان يسير الحُرُّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفُرسان، فعدلُوا إلى الحسين فسلَّمُوا عليه، فمنعهم الحُرُّ أن يسيروا معه.
فقال الحسين :
- «ما لَكَ تمنعهم؟».
فقال الحُرُّ :
- «هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أَهلُ الكوفة».
قال الحسين :
- «هم بمنزلة من جاء معي، فإنّهم أنصاري وأعواني، وقد أعطيتني ألا تعرض لي بشَيْءٍ، حتى آتي الكوفة. فإن تممتَ على ما كان بيني وبينك، وإلا ناجزتُك».
قال : وكفَّ عنهم الحُرُّ.
ص: 40
فقال الحسين للقوم :
- «أخبروني خَبرَ النَّاسِ وراءكم».
فقالوا :
- «أَمَّا أشرافُ النَّاس، فقد أُعظمت رشوتهم، ومُلئت غرائرُهم، واستُميلَ وُدُّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألب عليك، وأما سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غَداً مشهورةً عليك».
قال :
- «فخبروني عن رسولي إليكم». فقالوا :
- «مَن هو؟» قال:
- «قيس بن مسهر الصيداوي». فقالوا :
- «نعم، أَخذهُ الحُصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك، ولعن أبيك، فصلى عليك وعلى أبيك، ولَعَنَ ابن زيادٍ وأباه، ودعا النَّاسَ إلى نُصرتك، وأخبرهم بمقدمِكَ فأَمر به ابن زياد، فأُلقي من طمار القصر، فمات».
فتَغَرغَرتْ عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعَهُ، ثمَّ قال :
- «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» [الأحزاب: 23].
فقالوا له بعد ما دَنَوا منه :
- «واللهِ، إِنَّا لَنَنتَظِرُ، فما نَرى معك أَحَداً، ولو لم يُقاتلك إلا هؤلاء الذين نراهم مُلازِميكَ، لَكفى بهم، فكيف وقد رأينا قبلَ خُروجنا من الكوفة ما لم نَرَ قَطُّ مِثلَهم ناساً في صَعِيدٍ واحدٍ عُرِضُوا لِيُسرَّحُوا إليك، فننشدك الله إن قدرت أَلا تَقدَّم شِبرا إلا فعلتَ، فهاهنا بلد منعك الله به، حتّى ترى رأيك، فسر بنا حتّى نُنزلَكَ جَبلَنَا الَّذِي يُدعى أجأً، امتنعنا به والله من ملوكِ غَسَّانٍ، وحِمْير، ومن النعمان، ومن الأسود والأحمر، والله ما دخل علينا ذُلُّ قطُّ، ثم تبعث الرّجال إلى مَن ينزلُ أَجَأً، وسلمى من طَيِّء، فيأتيك الرّجال، وأَنا زعيم لك بعشرين ألف طائيٍّ يضربون بين يديك بالسيوف».
فقال الحسين :
- «جزاك الله وقومَكَ خيراً. إنَّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم من أهل الكوفة قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الأمور في العاقبة».
فودَّعوه وقالوا :
ص: 41
- قد حملنا ميرةً من الكوفة لأهلينا، فنحن نحملها إليهم، ونعود إليك»
وسار الحسين، فجعل يتياسر، فيأتيه الحرُّ بن يزيد، فيردُّه وأصحابه، فجعل إذا ردهم إلى الكوفة ردا شديداً امتنعوا عليه. فلم يزالوا كذلك، حتّى انتهوا إلى المكان الذي نزل به الحسين - عليه السَّلام - فإذا راكب على نجيب له، وعليه السّلاحُ متنكباً قوسَهُ، مُقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه فلما انتهى إليهم، سلَّم على الحُرِّ وأصحابه، ولم يُسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحُرِّ كتاباً من عُبيد الله بن زياد، فإذا فيه :
- «أَمَّا بعد، فجعجع بالحسين وأصحابه حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تُنزِلْهُ إلا بالغراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرتُ رسولي يلزمك حتّى تردَّه بإنفاذ أمري، والسلام».
فلما قرأه الحرُّ، قال :
- «هذا كتاب الأمير عبيد الله يأمرني أن أجعجعَ بكم في المكان الذي يأتيني كتابه، وهذا رسوله وقد أَمرني أَلا يُفارقني حتَّى أَنفذَ أَمرَهُ».
وأخذ الحرُّ يُريدُهم على النزل هناك على غير ماء، ولا في قرية. فقالوا :
- «دَعْنا ننزل فى هذه القرية - يعنون الغاضرية - أو تلك - يعنون نينوى - أو تلك، أو تلك».
فقال :
- «لا والله ما أستطيع هذا أَما تَرونَ الرَّجلَ قد بعثَهُ عيناً عليَّ».
فقال زُهيرُ بن القَينِ وكان مع الحسين :
- «يا ابن بنت رسولِ اللَّهِ إِنَّ قتال هؤلاءِ السَّاعَةَ أَهونُ علينا مِن قِتال مَن يأتينا مِن بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى مَن لا قِبَلَ لَنا به».
فقال الحسين :
لا أبدأُهم بالقتال.
فقال زُهير :
- «فسر بنا إلى هذه القرية القريبة حَتَّى ننزلَها، فإنَّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم اليوم أهون من قِتالِ مَن يجيء بعدهم».
فقال الحسين :
ص: 42
- «وأَيَّةُ قرية هي؟» قال :
- «العقر».
فقال الحسين عليه السلام:
- «أَللَّهُمَّ أَعوذُ بك من العقر!».
ثمَّ نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرَّم سنة إحدى وسِتّين.
وكان عُبيد الله بن زیاد قد ولَّى عُمر بن سعد بن أبي وقاص الرَّيِّ، وكتب عهده عليها، وجهز معه أربعة آلاف، لأنَّ الدَّيلم كانوا غلبوا على دَسْتَبي، فخرج عمر بن سعد، وكان قد عسكر بحمام أعين.
فلما كان من أمر الحسين ما كان، كتب عُبيدُ اللهِ بن زيادٍ إِلى عُمر بن سعدٍ أَن:
- «سر إلى الحسين، فإذا فرغنا مِمَّا بيننا وبينَه سِرتَ إلى عملك».
فكتب إليه عُمرُ بن سعد :
- «إن رأيتَ أَن تُعفيني، فعلت».
فقال عُبيد الله :
- «نعم، على أن تردَّ إلينا عهدنا».
فاستعظم عُمرُ بن سعدٍ أَمرَ الحسين، وكان يستشير نُصَحاءَهُ، فلا يُشير عليه أحدٌ به، ثمَّ حَلا في قلبه الإمارة، فاستجاب وأقبل في أربعة آلافٍ حتى نزل بالحسين في غد يوم نزل فيه الحسين بالمكان الذي ذكرناه.
فبعث عمرُ بن سعدٍ مَن يسأله : ما الذي جاء به. فجاء الرَّسولُ حتَّى سلَّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر.
فقال الحسين :
- «كتب إليَّ أهل مصركم أن اقدم. فأَمَّا إذا كرهتموني، فأنا أنصرف عنهم».
فانصرف إلى عمر بجوابه فقال عمر بن سعد!
- «إِنِّي لأرجو أن يعافيني الله من حَربه».
وكتب إلى عُبيدِ اللهِ بذلك.
واشتدَّ على الحسين وأصحابه العطش، فدعا العبّاس بن علي، فبعثه في ثلاثين
ص: 43
فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم بعشرين قربةً. فَدَنَوا من الماء ليلاً.
فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان قد أرسله عمر بن سعد في خمسمائة على الشَّريعة يمنعون الحسين وأصحابه من الماء بكتاب ورد عليه من عُبيد اللَّهِ :
- «مَن الرَّجلُ، وما جاءَ بك؟» قال :
- «جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلَّأتمونا عنه». فقال :
- «اشرب هناك اللَّهُ». قال :
- «لا واللهِ، ما أَشربُ والحسين ومَن ترى من أصحابه عطاش». فقال :
- «لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنَّما وُضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء».
فلمَّا دَنا أَصحابه قال لِرَجَالته :
- «املؤوا قِرَبَكم».
وشَدَّ على القوم مع أصحابه فملأوا قِرَبَهم، وثار بهم عمرو بن الحجاج، فقاتلهم العباس وأصحابه، حتّى انصرف أصحابُ القِرَب بالقِرَب، فأدخلوها على الحسين وأصحابه.
وبعث الحسينُ إِلى عُمر أَن :
- «إلقني الليلةَ، بين عسكري وعسكرك».
فخرج إليه عمرُ بن سعد في نحو من عشرين فارساً، وأقبل الحسين في مثل ذلك. فلمَّا التقيا، أَمَرَ الحسين أصحابه أن يتنحوا، وأمر عُمر بن سعدٍ أَصحابه بمثل ذلك، فانكشفتا عنهما حيث لا تسمع أصواتهما، فتكلما، فأطالا، حتَّى ذهب هزيع من الليل. ثم انصرف كُلُّ واحدٍ إلى أصحابه، وتحدَّث النَّاسُ بينهم بالظُّنون ولا يدرون حقيقة شَيْءٍ. ثمَّ التقيا بعد ذلك مراراً ثلاثاً وأربعاً.
فكتب عُمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد :
- «أما بعد، فإِنَّ اللَّهَ قد أطفأ النَّائرة، وجَمعَ الكلمة، وأصلح أمرَ الأمة. هذا الحسين قد أعطاني :
أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه.
أو أن نُسيّره إلى أَي ثغر من الثغور شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين : له ما لهم، وعليه ما عليهم.
ص: 44
أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده في يده فيرى فيه رأيه، وفي هذا لكم رضى، وللأمة صلاح».
فلمَّا قرأ عبيد الله الكتاب، قال :
- «هذا كتاب ناصح لأميره، وشفيق على قومه، قد قبلتُ».
فقام إليه شَمِرُ بنُ ذي الجوشن، فقال:
- «تقبل هذا منه، وقد نزل بِأَرضك وإلى جنبك؟ فإِنَّما وافى لِيُزيل سلطانَكَ. واللهِ، لَئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك، ليكونَنَّ أولى بالقُوَّة والعِزِّ، ولتكونَنَّ أولى بالضعف والعجز، فلا تُعطه هذه المنزلة فإنَّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك، فإن عاقبت، فأَنتَ أولى بالعقوبة، وإن عَفَوتَ كان ذلك لكَ. ولقد بلغني الحسينَ وعُمر بن سعدٍ يجلسان، فيحَدَثان عامَّةَ اللَّيل».
فقال عبيد الله بن زیاد :
- «نِعمَ ما رأيتَ، الرَّأي رَأَيكَ».
ثم قال ابن زياد :
- «اخرج أنتَ بجواب كتاب عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا، فليبعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا، فقاتِلُوهم. فإن فعل عمر بن سعد، فاسمع منه وأطعْ، وإن أبى، فأنت الأميرُ على النَّاسِ، وثب عليه، واضرب عنقه، وابعث إليَّ برأسه».
ثم كتب إلى عُمر بن سعد :
- «أَمَّا بعد، إنِّي لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكُفَّ عنه، ولا لِتُمنِّيَهُ السلامةَ والبقاء، ولا لتقعُدَ له شافعاً عندي. انظر : إن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم وإن أبوا، فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثل بهم، فإنَّهم لذلك مستحقون. فإن أَنتَ فعلتَ جزيناك خيراً، لأنَّكَ السَّامِعُ المُطيعُ، وإن أَنتَ أَبيتَ، فاعتزل عَمَلَنا وجُندَنا، وخَلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنَّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام.
فقدم شَمِرٌ بالكتاب، فقرأهُ عُمر، وقال لشمرِ :
ص: 45
- «ما لك ويلك! لا قرَّب الله دارَكَ! وقبح الله ما قدمت به! إِنَّكَ أَنتَ ثَنْيتَهُ عمَّا كتبتُ به إليه، وقد - والله - أفسدت علينا أموراً رجونا معه الصَّلاحَ، واللهِ يا شَمر! لا يستسلم حسين، إِنَّ نفسَه نفسٌ أَبيَّة».
فقال له شمر :
- «أخبرني ما أنت صانع، تمضي لأمر أميرك، وإلا فخَلّ بيني وبين العسكر». قال :
- «لا، ولا كرامة لك! أَنَا أَتَولّى ذلك». قال :
- «فدونك!».
فركب عمر بن سعد في النَّاس، ثمَّ زحف نحوهم، والحسين جالسٌ أَمامَ بيته مُحتَبٍ بسيفه.
فقال له العباس بن علي :
- «يا أخي أتاك القومُ، أما تراهم؟».
وكان الحسين قد خفق برأسه على ركبتيه، فنهض ثم قال :
- «يا عبّاسُ اركب - بنفسي أنتَ يا أخي - حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاءَ بهم».
فأَتاهُم العباسُ، واستقبلهم في نحو عشرين فارساً، فقال لهم :
- «ما جاء بكم؟ وما بدا لكم؟» فقالوا :
- «إنَّ أَمر الأمير قد جاء بكيت وكيت». قال:
- «فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله، فأَعرِضَ عليه ما ذكرتم م.
فانصرف العبّاسُ يركُضُ نحو الحسين، يُخبرُهُ الخبر، وترك أصحابه يخاطبون القومَ. ثمَّ أَقبل العباس يركُضُ، فقال :
- «إِنَّ أَبا عبدِ اللَّهِ يسأَلكم أن تنصرفوا هذه العشيَّة حتّى ننظُرَ في هذا الأمر، فإِنَّ هذا الَّذي جِئْتُم به، لم يَجرِ بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا، فإما رضيناه فاستسلمنا، وإما كرهناه فرددنا».
وكان الحسين قال للعباس :
- «ارجع إليهم، فإن استطعت أن تُؤَخِّرَهم إلى غُدوة وتدفعهم عنا العشيَّة، لَعلَّنا نُصَلِّي لِرَبِّنا ونستغفره، ونوصي إلى أهلنا».
فجاءَهم رسولُ عُمر، فقام بحيث يسمعون الصوت، وقال:
ص: 46
- «قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرَّحناكم إلى أميرنا، وإن أَبيتُم، فلسنا تاركیكُم».
فجمع الحسين أصحابه، وحمد الله وأثنى عليه، ودعا دعاءاً كثيراً، وقال:
- «أما بعد، فإنِّي لا أعرفُ أهل بيت أبر، ولا أَوصَلَ مِن أَهلِ بيتي. فجزاكم الله عنِّي خيراً، وإنِّي لا أَظُنُّ يومنا من هؤلاء إلّا غداً، وإني قد أذنتُ لكم، فانطلِقُوا جميعاً في حِلٍّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ليأخذ كُلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرَّقُوا بسوادكم ومدائنكم، فإنَّ القومَ إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني، لَهَوا عن طلب غيري».
فقال له إخوته :
- «لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أَرانا الله ذلك أبداً، قبح الله العيش بعدك».
وتكلم أهله كلهم مثل ذلك.
ثمَّ قام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال :
- «نحن نُخلي عنك، ولم نُعْذر فيك والله لو لم يكن معي سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت، ويعلم الله أنَّا حفظنا غيبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والله، لو علمتُ أَنِّي أُقتل، ثمّ أحيى، ثم أقتل، ثم أحرقُ، ثمَّ يُذرى بي، يُفعل بي ذلك سبعين مرَّةً، ما فارقتك. فكيف وإنما هي قتلة واحدة، ثمَّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً».
ثمَّ قام زهير بن القين، فقال مثل ذلك، وتكلم جماعة أصحابه بمثل ذلك، وأشبة كلامُ بعضهم كلامَ بعض، وكانوا اثنين وثلاثين رجلاً من الفرسان وأربعين راجلاً.
ثمَّ أَوصى الحسين، وقال لأُختِه :
- «يا أُخيَّةً، أقسم عليك، فَبَرِّي قَسَمي، لا تَشُفّي علي جيباً، ولا تخمشي وجهاً، ولا تَدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت».
فبكت، فارتفعت الأصوات من جهة النِّساءِ، ولهنَّ الرِّقَّةُ والجزعُ.
وقالت أخته :
- «بأَبي وأُمِّي أَبا عبد الله! استقتلت؟».
فردَّد غُصَّتَهُ، ثم قال :
- «لَو تُركَ القَطا لَنامَ». فقالت :
- «يا ويلتي! أفتُغصَبُ نفسُكَ اغتصاباً؟ فذلك أروعُ لقلبي، وأعظم لِبلائي».
ص: 47
ثمَّ لطمت وجهَها مغشيا عليها، فصب الحسين على وجهها الماء، وعزاها بكلام طويل.
وحرسهم بالليل أصحاب عمر بن سعد. فلما أصبحوا - وذلك يوم الجمعة، وقيل : يوم السبت، وكان يوم عاشورا - خرج الحسين، فعبى أصحابه، وأمر بأطناب البيوت، فقُرِنت حتى دخل بعضُها في بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، وكان من ورائهم موضع منخفض كأَنَّها ساقية، فأمر، فحفروه من الليل في ساعة، وجعلوه كالخندق، وطرح ذلك الحطب والقصب فيه، وأُلقي فيه النَّارُ، وقال :
- «لا نُؤتى من ورائنا».
قال الشعبي : ففعلوا ذلك، وكان لهم نافعاً.
وأمر الحسين بمسكِ، فمِيثَ في جفنة عظيمة، واطّلى، وركب دابته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه واقتتل أصحابه بين يديه قتالاً شديداً.
فحرَّك الحُرُّ دابَّتَه حتَّى استأمن إلى الحسين، وقال له :
- «بأَبي أَنتَ وأُمِّي، ما ظننتُ الأمر ينتهي بهؤلاء القوم إلى ما أَرى، وظننتُ أَنَّهم سيقبلون منك إحدى الخصال التي عرضتها عليهم، فقلتُ في نفسي : لا أبالي أَن أُطيعَ القوم في بعض أمورهم، وأَمَّا الآن فإني جئتُ تائباً ومُواسياً لك بنفسي حتَّى أُموتَ بين يديك، أترى لي ذلك توبة؟ قال :
- «نعم. يتوب اللَّهُ عليك ويغفر لك. انزل!» قال :
- «أنا فارساً خيرٌ لك مني راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصيرُ آخر أمري».
ثمَّ بارز، فقتل واحداً بعد آخر.
فلم يزل يُبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدة من أصحاب عمر بن سعد.
فقام عمرو بن الحجاج رافعاً صوته :
- «يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وقوماً مُستميتين. والله لا يبرز لهم منكم أحد إلا قتل، لا تبرزوا لهم! فإنَّهم قليل، وقل ما يبقون، وقد جهدَهم العطشُ».
ص: 48
فقال عمر بن سعد :
- «صدقت».
وأرسل في النَّاس، فعزم عليهم أَن :
- «لا يبارز منكم رجل رجلاً منهم».
فأخذت الخيلُ تحمل، وأصحاب الحسين تَثبتُ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً.
فقال عمر :
- «ليتقدّم الرُّماةُ إلى هذه العدّة اليسيرة فليرشُقوهم بالنَّبل».
فتقدَّموا، فلم يُلبثوهم أن عقروا خيلهم، فصاروا كلُّهم رجالة. وقاتلوا قتالاً لم يُرَ أَعظمُ منه ولا أَشدُّ، إلا أنَّهم كانوا إذا صُرع الواحد منهم أو الاثنان تبيَّن ذلك عليهم، وإذا قتلوا أضعاف عدتهم من أولئك لم يتبيَّن عليهم.
ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يديه كلُّ من استهدف لِلنَّبل، فُرمي يميناً وشمالاً، حتى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلمون على الحسين، ويودعونه، ثمّ يقاتلون حتّى يُقتلوا.
فكان أَوّل مَن قُتل من بني أبي طالب علي الأكبر بن الحسين بن علي، ثم عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثمَّ محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثمَّ جعفر بن عقيل بن أبي طالب.
قال : ثمَّ رأينا غلاماً كان وجهه شقة قمر، في يده سيف، وعليه قميص ونعلان، وقد انقطع شِسعُ أَحدهما. فحمل عليه رجلٌ، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع الغلام لوجهه، وصاح :
- «يا عماه!».
فجلى الحسين كما يُجلِّي الصَّقرُ، ثمَّ شدَّ على الرّجل بسيفه، فاتَّقاهُ فضرب ساعده، فأطنَّها من المرفق وتنحى عن الغلام، وانجلت الغبرة، فرأيتُ الحسين قائماً على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله الأرض، والحسين يقول:
- «بعداً لقوم قتلوك، ومَن خَصمُهم جَدُّك».
ثمَّ قال :
- «عزّ، والله على عمّكَ أَن تدعوه، فلا يُجيبك أو يجيبك، ثمَّ لا ينفعك».
ثم احتمله، فكأني أنظر إلى رِجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره.
ص: 49
قال : فقلتُ في نفسي: ما يصنع به؟ فجاءَ به حتّى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين والقتلى حوله من أهل بيته فسألت عن الغلام فقيل لي : القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب - صلوات الله على جميعهم.
ومكث الحسين طويلاً من النَّهار، وكلَّما انتهى إليه رجل انصرف عنه وكره أن يتولَّى قتله، حتَّى أَتاهُ مالك بن النَّسَير، فضربه على رأسه بالسيف، فقطع برنسَ خَز كان عليه، وأدمى رَأسَه، فأَلقى ذلك البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها واعتمَّ وكان قد أعيى وبلد، ولم يبق له قوَّةٌ وجَهدَهُ العطش فدنا إلى الماء ليشربَهُ، فرماهُ حُصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه يتلقَّى الدَّمَ مِن فيه، فيرمي به إلى السَّماء ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يَدَهُ وقال :
- «أَللَّهمَّ أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر منهم أحداً».
ثمَّ أَقبل إليه شمر بن ذي الجوشن في نحو من عشرة من رجالة أهل الكوفة، وطلب منزل الحسين الذي فيه ثقله. فمشى نحوَهم، فحالوا بينه وبين رحله.
فقال الحسين :
- «ويلكم إن لم يكن لكم دين، فكونوا في دنياكم أحراراً، امنعوا أهلي من طَغامِكم وجُهَّالكم.
قال ابن ذي الجوشن :
- «ذلك لك».
وأقدم عليه بالرجالة.
قال عبد الله بن عماد : فلقد رأيتُه وهو يحمل على من في يمينه فيطردهم، وعلى مَن في شماله فيطردهم وعليه قميصُ خَز وهو مُعتَمٌ فوالله، ما رأيتُ مكثوراً قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربطَ جَأْشاً منه ولا أمضى جناناً، ولا أَجراً مُقدّماً. والله، ما رأيتُ قبله ولا بعده مثله إن كانت الرَّجالةُ لَتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذِّئبُ. فكأَنِّي بزينب أخته وهو على تلك الحال، قد خرجت وأَنا أَنظُرُ إلى قرطها يجول بين أذنها وعاتقها وهي تقول:
- «ليتَ السَّماءُ انطبقت على الأَرض».
وكان قد دَنا عمر بن سعدٍ من الحسين، فقال:
- «يا بن سعدٍ أَيُقتلُ أَبو عبدِ الله وأنت تنظر إليه؟».
وكأَنِّي أَنظر إلى دموع عُمر بن سعد تسيلُ على خديه ولحيته، وصرف وجهه عنها.
ص: 50
فنادى في النَّاس شمر :
- «ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، ثكلتكم أُمهاتكم!».
فحُمل عليه من كل جانب، وضُرب على كتفه وطعن.
فقال شمر لخولي بن يزيد الأصبحي:
- «إنزل فاحتزَّ رأسَه».
فضعف وأُرعد.
فقال له سنان بن أنس وهو الذي طعنه :
- «فت الله عضديك!».
فنزل، فذبحه وأخذ رأسه.
وسلب الحسين حتّى سراويله، وتُرك مجرَّداً، ومال الناس على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءه فإن كانت المرأةُ لَتُنازع ثوبها عن ظهرها حتَّى تُغلب عليه، فیذهب به، حتى جاءَ عمر بن سعد، فقال:
- «لا يدخلن بيت هؤلاءِ النّسوة أَحدٌ، ولا يعرضنَّ لهذا الغلام المريض».
يعني علي بن الحسين وكان مريضاً.
وقتل من أصحاب الحسين عليه السَّلام اثنان وسبعون رجلاً، وسُرِّح برأسه إلى ابن زیاد.
فحدَّث حميد بن مُسلم قال : كنتُ واقفاً عند ابن زياد حين عُرض عليه علي بن الحسين عليهما السلام، فقال:
- «ما اسمك؟» قال :
- «علي بن الحسين». قال:
- «أولم يقتل الله علي بن الحسين؟».
فسكت.
فقال له ابن زیاد :
- «ما لَكَ لا تتكلم؟» قال:
- «قد كان لي أَخٌ يُقالُ له علي بن الحسين أيضاً، فقتله النَّاس». فقال :
ص: 51
- «قد قتله الله».
فسكت..
فقال ابن زیاد :
- «ما لكَ لا تتكلم؟» قال :
- «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» [الزمر: 42]، «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» [آل عمران: 145] قال :
- «أنتَ والله منهم، ويحكم انظروا هذا قد أدرك، والله إني لأحسبُه رجلا».
فكشف عنه بعض أصحاب ابن زياد، فقال:
- «نعم، قد أدرك»، فقال:
- «اقتله».
فقال عليّ :
- «فوكِّل بهؤلاء النسوة مَن يكون محرماً لهنَّ يسير معهنَّ إن كنتَ مُسلماً».
فقال ابن زیاد :
- «دعوه، سِرْ أَنت معهنَّ».
وبعث بهنَّ معه إلى الشام.
فيقال : إنَّ يزيد لما وردت عليه كُتب البشارة، دمعت عينه وقال :
- «كنتُ أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين؛ لعن الله ابن سُميَّة، أَمَّا إِنِّي لو كنتُ صاحبه لعفوتُ عنه».
ولمَّا وُضعت الرُّؤوس بين يَدَي يزيد، قال يزيد :
نُفلّق هاماً من رجال أعزّةِ *** عَلَينا، وهم كانوا أعقّ وأَظلَما
ثمَّ جهَّز النِّساء وعلي بن الحسين، وضم إليهم جيشاً حتّى ردّهم إلى المدينة.
كان ابن الزبير يُظهر أنّه عائد بالبيت ويُبايع النَّاسَ سِرًا. وبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأعطى اللَّهَ عهداً لَيُوثَقنَّ في سلسلة. فبعث بسلسلة من فضة وعمرو بن العاص يومئذ عامل مكَّة وكان شديداً عليه، ولكنّه كان كثير المداراة رفيقاً. فلما ورد البريد بالسلسلة رفق حتَّى ردَّهُ ردّا جميلاً وخطب النَّاسَ وعابَ أَهلَ الكوفة خاصَّةً،
ص: 52
وأَهلَ العراق عامة بقتل الحسين، وبكى وقال :
- «لقد كان لأبي عبد الله - رضي الله عنه - في ما جرى على أبيه وأخيه من هؤلاء القوم ناه، ولكنّه ما حُمَّ نازل».
ثمَّ عظم ما جرى عليه واستفظعه، وقال في كلامه :
- «لقد قتلوه كثيراً صيامه بالنَّهار، طويلاً صلاته بالليل ما كان يُبدل بالقرآن غناءاً، ولا بالصيام شُربَ الخمر، ولا بالمجالس في حَلَق الذكر الرَّكضَ في طلب الصيد».
يُعرض بيزيد فثار إليه أصحابه وقالوا له :
- «أَيُّها الرَّجلُ! أَظْهِرْ بيعتك، فلم يبقَ بعد الحسين أولى بهذا الأمر منك». فقال :
- «لا تعجلوا!».
وعلا أَمرُه بمكة، وكاتبه أهل المدينة وقالوا :
- «أَمَّا إذا هلك الحسين فليس أحدٌ يُنازع ابن الزبير».
وبلغ ابن الزبير أَنَّ مروان تمثل لمَّا اجتاز به البريد ومعه سلسلة من فضة وجامعة يجعل فيها ابن الزبير :
فخُذها، فليست للعزيز بخُطَّةٍ *** وفيها مقال لامرىء متذلل
أَعامِرُ إِنَّ القوم سامُوك خُطَّةً *** وذلك في الجيران غزلاً بمغزل
أَراك إذا قد صرت للقوم ناضحاً *** يُقال له بالغرب: أدبر وأقبل
وأرسل مروان ابنيه وقال :
- «اذهبا فتعرضا لابن الزبير، ثمَّ تَمثَّلا بهذه الأبيات إذا بلغته الرُّسل الرسالة».
ففعلا، فلما تعرَّضا ليُنشداه، بادر ابن الزبير وقال :
- «إي بني مروان، قد سمعت ما قال أبوكما، فاذهبا، فأنشداه» :
إنِّي لَمِن نَبعةٍ صُمّ مَكاسرُها *** إذا تناوَحَتِ القصباءُ والعُشَرُ
فلا ألين لغير الحق أسألُهُ *** حتَّى يَلينَ لِضِرس الماضعِ الحَجَرُ
ثمَّ إِنَّ يزيد اتَّهم عَمرو بن سعيد وظنَّ أَنَّه يقدر على أخذ ابن الزبير وليس يفعل، فعزله، وولى الوليد بن عُقبة. وخرج عمرو حتى قدم على يزيد، فرحب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثمَّ عاتبه في أَشياء كان يأمر بها في ابن الزبير فلا يُنفذها. فقال :
«يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنَّ جُلَّ أَهل مكة قد كانوا مالوا إليه، وأعطوه الرّضا، ودعا بعضهم بعضاً إليه سِرا وجهراً، ولم يكن معي جند
ص: 53
أتقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذر منى ويتحرّز، وكنت أنا أرفق به وأداريه لئلا يستوحش، فإذا استمكنتُ منه وثبتُ عليه، مع أني ضَيَّقتُ عليه، ومنعته من أَشياء لو تمكن منها كانت معونة له، وجعلتُ على مكة وطُرقها وشعابها رجالاً لا يَدعون أحداً يدخلها حتّى يكتبوا لي اسمه، واسم أبيه، وما جاءَ فيه، وما الذي يُريد. فمن كان من أصحابه أو ممَّن أَتّهمه رددته صاغراً، وقد بعثت الوليد وسيأتيك من أثره وعمله ما تعرف به مُبالغتي في أمرك، ومناصحتي لك».
فعذَره يزيد، وتلقاه بجميل، ولبث الوليد مدة بمكة، ثم عزله يزيد، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان. فكان حَدَثاً، فلم يضبط الأمر، ولا كان له رأي.
وظهر في المدينة أن يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصَّلاة، وصحَّ عندهم ذلك، وصحَّ غيرُه مِمَّا يُشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتى خلعوه، وبايعوا عبدالله بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبي سفيان ومن معه من بني أُميّة ومَن يَرى رأيهم، فنفَوهم وكانوا ألف رجل. فخرجوا حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم النَّاس حصاراً ضعيفاً، فتولى تدبيرهم مروانُ، لأَنَّ عثمان بن محمد كان غِرًّا لا يرجع إلى رأيه.
وكتب مروان إلى يزيد كتاباً من جماعة بما جرى عليهم ويطلبون الغوثَ منه. قال الرَّسول : فلما وردت على يزيد قال :
- «أما تكون بنو أُميّة ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟» قلتُ :
- «بَلي». قال:
- «فما استطاعوا أن يُقاتلوهم ساعةً من نَهارِ؟» فقلتُ :
- «اجمع الناس كلهم عليهم، فلم تكن لهم بهم طاقة».
فكتب إلى عبيد الله بن زيادٍ أَن اغزُ ابن الزبير، فقال:
- «والله لا أجمعهما للفاسق أبداً: أقتل ابن رسول الله وأغزو البيت؟».
وندب مسلم بن عُقبة المرّي، وهو شيخ كبير مريض، للمدينة، فخرج ونادى أن :
- «سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كَمَلاً، ومعونة مائة دينار توضع في يد الرَّجل من ساعته».
فانتدب له اثنا عشر ألف رجل. ووصاه يزيد، إذا ظفر، أن ينهب المدينة ثلاثة أيَّام، وذلك في سنة ثلاث وستين.
وكان معاويةُ وصَّى يزيد :
ص: 54
- «إذا أرابك من أهل المدينة ريب، فارمهم بمسلم بن عقبة. ولما بلغ أهلَ المدينة خبر مسلمٍ ومَن معه، أخذوا على بني أمية المحصورين في دار مروان العهود والمواثيق، أَلا يدلُّوا علي عورة لهم، ولا يبغونهم غائلة. وأخرجوهم، فلقوا مسلم بن عُقبة بوادي القُرى مع أثقالهم، فسأل مسلم عمرو بن عثمان بن عَفَّان عن القوم واستشاره، فقال:
- «علي عهدٌ ألا أَدلَّ على عورة».
فانتهره مسلم وقال :
- «والله لولا أَنَّكَ ابن عثمان، لضربتُ عُنقك والله، لا أُقيلها قرشيًا بعدَك».
وبلغ ذلك النَّاسَ، فهابُوهُ.
وقال مروان لابنه عبد الملك :
- «ادخل قبلي إلى مسلم لعله يجتزي بك مني».
فدخل عليه عبد الملك فقال :
- «هاتِ ما عندك، أخبرني خَبرَ النَّاسِ، وكيف ترى؟».
قال :
- «نعم، أرى أن تسير بمن معك، فتركب هذا الطريق إلى المدينة، حتى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت فاستظلَّ النَّاس بظله، وأكلوا من صفوه، حتّى إذا كان الليلُ، أذكيت الحرس الليلَ كُلَّه عُقباً بين أهل عسكرك، حتّى إذا أصبحت وصليت الصبحَ، مضيت بهم، وتركت المدينة ذات اليسار، ثمَّ أدرتَ بالمدينة، حتّى تأتيهم من قبل الحرَّة مُشرِّقاً، ثمَّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتم أشرقت الشمس عليهم، وطلعت من أكتاف أصحابك فلا تُوذيهم، وتقع في وجوههم فتوذيهم، ويرون ما دمتم مُشرقين ايتلاق بيضكم، وحرابكم، وأسنَّةَ رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم، ما لا ترونه أنتم لِشَيء من سلاحهم ما داموا مغربين، ثمَّ قاتِلهم، واستعن الله عليهم».
فقال له مسلم :
- «للَّهِ أَبوك، أَي امرئ ولد إذ وَلدَك، لقد رأى بك خلفاً».
ثمَّ إِنَّ مروانَ لَقيهُ، فقال له :
- «إيه». فقال :
- «أليس قد لقيك عبد الملك؟» قال :
- «بلى، وأي رجل عبد الملك! قلَّ ما كلَّمتُ من رجال قريش شبيهاً به».
ص: 55
ثم ارتحل، وعمل برأي عبد الملك، فكانت وقعة الحرة، وذلك في سنة ثلاث وستين وهي من أعظم الوقائع وأَشدّها. هزم فيها مسلم بن عُقبة مراراً، وأَهلُ المدينة مراراً، وكثر القتلى في الفريقين، ولم يكن في اقتصاص الحديث بأسره فائدة، إلا أَنَّ آخِره كان قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل، وخلق من أهل المدينة وصالحيهم، وانهزم الناس.
فأَباحَ مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون الأموال.
وجيء بيزيد بن وهب بن ربيعة - وهو من وجوه قريش - فقال له :
- «بايع!» فقال :
- «أبايع على سنة أبي بكرٍ وعُمر». قال :
- «اقتلوه!» قال :
- «فإني أُبايع». قال :
- «لا والله! لا أُقيلك عثرتك».
فقام مروان بن الحكم وكلَّمه، لصهر كان بينهما، فأمر بمروان، فوُجِئَتْ عُنقه، ثم قال :
- «بايعوا على أنكم خَوَلٌ ليزيد بن معاوية».
ثم أمر بقتل يزيد بن وهب.
هذا، وبلغ أهل مكة ما جرى على أهل المدينة وما ارتكب منهم. ففتَّ ذلك في أعضادهم، وجاءَهم منه أمرٌ عظيم وعرفوا أَنَّه نازل بهم.
كان بعث أهل المدينة إلى كلِّ ماء بينهم وبين أهل الشّام، فصبوا فيه زِقًا من قطران، وعُوِّر، فأرسل الله عليهم السَّماءَ حتَّى لم يحتاجوا أن يستقوا بدلو، حتى وردوا المدينة.
واستخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع متوجّهاً إلى مكة، يُريد ابن الزبير.
ص: 56
فلما كان ببعض الطريق هلك، وذلك في آخر المحرَّم من سنة أربع وستين.
ولما حضره الموتُ، دعا الحصين بن نمير السلولي، وقال له :
- «يا بردعة الحمار، والله لولا أن أمير المؤمنين عهد إليَّ - إن حدث بي حدث - أن أستخلفك لما وليتك، ولكن انظر وصيتي، وإياك والمخالفة! خُذْ عَنِّي أَربعاً : أُسرع السير، وعجّل الوقائع، وعَمّ الأخبار، ولا تمكن قريشاً من اذنك».
ومات.
وخرج الحصين بن نمير إلى مكة، وقد بايع أهل مكة ابن الزبير، وقدم عليه نجدة بن عامر مع الخوارج يمنعون البيت فحاصرهم الحصين، وأخرج ابن الزبير إليهم أَخاه المنذر بن الزبير. فلما اشتد القتال، دعوه إلى المبارزة، فخرج وقُتل، وقتل معه عِدَّةٌ مِن وُجوه أصحاب ابن الزبير، ولم يزل القتال دائماً بينهم طول صفر، ولما مضت ثلاثة أَيَّام من شهر ربيع الأَوَّل، نصبوا المجانيق على البيت ورموه بالحجارة والنَّار، وأخذوا يرتجزون ويقولون :
خطارةً مِثل الفنيقِ المُزيد *** نرمي بها أعواد هذا المَسجِدِ
واحترقت الكعبة، وتصدع منها ثلاثة أمكنة، واحترق ما كان فيها من خشب، وما عليها من كسوة.
وقد قيل : إنَّما احترقت، لأن أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون حولها، فطارت إليها شَررُه ليلةَ ريح، فاحترقت.
ص: 57
ولم يزل الحصار والقتال واقعاً على ابن الزبير - وهو يُصابر - إلى أَن وَردَ نَعي يزيد بعد أربعة وستين يوماً من الحصار، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين، ويُقال : أَربع وستين وكانت ولايته ثلاث سنين وكسرا،ً وبايع الناس معاوية بن يزيد بن معاوية بالشام، وبايعوا عبد الله بن الزبير بالحجاز.
مكث أهل الشام مع الحصين بن نمير يقاتلون ابن الزبير، وليس عندهم خبرٌ وقد ضيقوا على ابن الزبير فبلغ ابن الزبير موتُ يزيد، فصاح :
«إنَّ طاغيتكم قد هلك، فمن شاءَ منكم أن يدخُلَ في ما دخل فيه الناسُ، فليفعل، و من كره فليلحق بالشام».
فلم يسمع النَّاس منه.
فدعا ابن الزبير الحصين بن نمير وقال :
- «ادن مني!».
فخرج أحدهما إلى الآخر، فطاوله الحديث، إلى أن دُعي الَّذِي أَخبر ابن الزبير بالخبر، وكان دَيْناً فاضلاً، وبينه وبين الحصين صهر، فلما سمع الحصين كلامه، عرف صحة الخبر، فقال لابن الزبير :
- «إن يك هذا الرَّجل هلك، فأنت أحقُّ من أَرى بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، على أن تخرج معي إلى الشَّام، فإنَّ هذا الجند الذي معي هم وجوه الناس، وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتُؤمن النَّاس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أَهل الحَرَّة».
فأبى ابن الزبير أن يخرج إلى الشَّام، وكان ذلك من جد مروان وإقباله، وإدبار ابن الزبير.
وكان من ردّ ابن الزبير على الحصين أن قال :
- «أنا أهدر تلك الدماء، حتَّى أَقتل بكل رجل عشرةً».
ص: 58
فأخذ الحصين يُكلِّمه سرًّا، وهو يُجيبه جهراً.
فقال الحصين بن نمير :
- «قبح الله من يعدك بعد هذا داهياً، أو أريباً. قد كنت أظنُّ أَنَّ لك رأياً، ألا، أراني أُكلمك سرًّا وتكلمني جهراً، وأدعوك إلى الخلافة، وتوعدني بالقتل، وأبذل لك طاعةً في مَن معي وتهدّدهم بالهلاك».
ثم خرج من عنده، وصاح في الناس بالرَّحيل، وخرج إلى المدينة. وقدم ابن الزبير، فأرسل إليه :
- «أما خروجي إلى الشَّام، فلا يمكن، فإني أتبرَّكُ بالبيت، ولكن بايعوا لي هناك، فإِنِّي بعد ذلك أو مِنكُم، وأقدم عليكم».
فردَّ عليه الحصين، وقال:
- «إن أنت لم تقدّم بنفسك، وجدنا مَن نُبايعه هناك».
وأقبل بأصحابه نحو المدينة فاستقبله علي بن الحسين بن علي عليهم السلام فسلَّم عليه، ولم يكد يلتفت إليه أحدٌ، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، وذَلُّوا حتى كان لا ينفرد منهم رجلٌ إلا أخذ بلجام دابته، ونكس عنها. فكانوا يجتمعون في عسكرهم، ولا يتفرقون.
فاجتمعت إليهم بنو أُمية، وقالوا :
- «لا نبرح حتى تحملونا».
ففعلوا. فخرج بنو أُميَّة بنسائهم وعيالاتهم، ومضى ذلك الجيش، حتّى دخل الشام.
ولم يلبث معاوية بن يزيد إلا ثلاثة أشهر، حتّى مات ويقال : بل مكث أربعين يوماً، وكان أَقرَّ عُمَّالَ أَبيه.
وبلغ موت یزید بن معاوية عبيد الله بن زياد بالبصرة، فصعد المنبر وخطب النَّاس، وقال:
- «يا أهل البصرة قد علمتم قيامي بأمركم، وجبايتي الأموال، وتفرقتها، وانسبوني فوالله، تجدوني مهاجراً إليكم ووالدي ومولدي فيكم وداري. ولقد وليتكم، وما أحصي ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألفاً، ولقد أحصي اليوم ثمانين ألفاً، وما كان ديوان عيالكم إلا سبعين ألفاً، وقد أحصي اليوم مائة ألف وأربعين ألفاً، وما تركتُ
ص: 59
لكم ذا ظِنَّةٍ أَخافُه عليكم، إلا وهو في سجنكم. وقد توفي أمير المؤمنين يزيد، واختلف أهل الشام وأنتم اليوم أكثر الناس عدداً، وأوسعهم بلاداً. فاختاروا رجلاً ترضونه وتجتمعون عليه إلى أن يجتمع أهل الشَّام، فإن اختاروا من ترضونه دخلتم في ما دخلوا فيه، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم، فما بكم إلى أحدٍ من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم».
وكان عبيد الله قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور، ومالك بن مسمع وحصين بن المنذر، وفرَّق فيهم مالاً كثيراً. فلما خطبهم هذه الخطبة، قام هؤلاء، وهم رؤساء الناس، فقالوا :
- «ما لنا غيرك، ولا نعرف أحداً هو أقوى على هذا الأمر منك».
وبايعه هؤلاء، وبايعه النَّاس. فجعل الرَّجل إذا خرج من عنده مسح يَدَهُ على الحائط ويقول :
- «أظنَّ ابن مرجانة أَنَّا نُوليه أمرنا في الفُرقة، كما تولاه إلى اليوم؟».
فلم تمض بعبيد الله أَيَّامٌ حتَّى جعل سلطانه يضعف. فكان يأمر بالأمر، فلا يُمتثلُ، ويرتأي الرَّأْيَ فلا يُقبل ويُردُّ عليه، ويأمر بحبس الظَّنين، فيُحال بين أعوانه وبينه. فبينا هو كذلك، إذ ظهر رجلٌ بالبصرة، يدعو إلى ابن الزبير، وكثر الناس معه. فبلغ ذلك عبيد الله، وأراد أخذه، فامتنع عليه، وكثف جمعه، وقعد الناس عن عبيد الله، وقال في خطبته :
- «يا أهل البصرة، قد عرفتم بيعتي في أعناقكم، وحرصي على ضبط أُموركم، وقد تقاعد عني من يُريد فُرقتكم، وأن يضرب بعضكم وجوه بعض آخر بالسيف. و والله يا أهل البصرة، لقد لبسنا الخز واليُمنةَ واللَّيِّن من الثِّياب، حتّى لقد أَجمته جلودُنا، فما تبالي أن نلبس الحديدَ أَيَّاماً».
فما لبث أن رُمي بجماع النَّاس، فقال لهم :
- «أَيُّها الناس، إنَّ هذا المال فيكم، فخذوا أعطياتكم، وأرزاق ذراريكم».
وأَمر الكُتَّابَ بتحصيل النَّاس، وتخريج الأسماء، واستعجلهم حتَّى وكَّل بهم من يحبسهم في ديوان، وأسرج لهم الشموع، فكانوا يأخذون المال، ويتقاعدون عنه، فكفَّ عن إخراج المال، وكان في بيت مال البصرة يومئذٍ ألف ألف درهم، فنقل ما بقي منها إلى مَن أودعها عنده.
ص: 60
ودعا عُبيد الله محاربة السلطان وأرادهم على القتال. فقال له أخوه عبد الله بن زیاد :
- «قد علمتَ أَنَّ الحرب دِوَل، فلعلها تدول عليك، وقد اتَّخذنا أموالاً بين أظهر هؤلاء القوم، فإن ظفروا بك أهلكونا، ثمَّ أهلكوها، فلم تبق لك باقية».
وقال له :
- «والله لئن قاتلت القوم لأعتمدنَّ على ظُبة سيفي حتّى يخرُج من صُلبي».
فلما رأى عبيد الله ذلك، همَّ بالهرب فاحتال بالليل حتَّى فر مستخفياً إلى مسعود بن عمرو، وكان سيّد الأزد، حتى حصل في داره.
وجه عُبيد الله إلى الحارث بن قيس الأزدي، وذكره بيد له عنده، وسألهُ أَن يحمله إلى منزله ويكتم أَمرَه، حتّى يجتمع الناس.
فقال له الحارث :
- «إنَّ مسعود بن عَمرو سيد الأزد، وإن طلبك عندي لم أقدر على الامتناع منه، ولكن سأحتال لك من قبل امرأته، فإنَّها بنت عمه».
فقال له ابن زیاد :
- «فخُذ معك مالاً تطمعها فيه». قال :
- «هات».
فحمل معه مائة ألف درهم، فخرج بها الحارث حتّى أتى بها امرأة مسعود، ومعه عُبيد الله، وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، ودخل.
ثم قال لها الحارث :
- «قد أتيتكِ بأمر تسودين به نِساءَك، وتُظهرين به فضل قومك، وتتعجلين الغنى في دنياك، هذه مائة ألف دينار، خُذيها وضُمِّي عُبيد الله». فقالت :
- «أخاف ألا يرضى مسعود».
فقال الحارث :
- «أَلبسيه ثوباً من ثيابه، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود».
فقبضت المال وفعلت ودخل الحارث على مسعود، وأخذ يحدثه بحديث عُبيد الله، فقال:
ص: 61
- «إنه كان يتعود من طارق الشَّرِّ، وإنَّك من طوارق الشَّرِّ».
وقام حتى دخل على ابنة عمه وأخذ برأسها ليضربها، فخرج عبيد الله، وقال:
- «والله لقد أجارتني ابنة عمك عليك، وهذا ثوبك عليَّ، وطعامك في مذاخري، وقد التف عليَّ بيتك».
وشهد له الحارث، ولم يزالا به حتّى سكن ورضي.
ثم ركب مسعود من ليلته، ومعه الحارث، وجماعة من قومه، فطاف في الأزد ومجالسهم، وقال:
- «إن ابن زياد قد فقد، ولا نأمن اضطراب النَّاس، وأن يلطخوكم به».
فقد كان أبوه زياد استجار بهم ومنعوه، فأصبحوا في السلاح، فلما أصبح النَّاس، وفقدوا ابن زیاد، قالوا :
- «أَينَ توجّه؟».
فقالت عجوز من بني عقيل :
- «أين ترونه توجه؟ اندحس، والله، في أجمة أبيه»
فقال الناس :
- «صدقتِ. ما هو إلا في الأزد».
ثمَّ اجتمع النَّاس على عبد الله بن الحارث بن ن وفل بن الحارث بن عبد المطّلب، وهو الذي يلقب بَبَّة، على أن يقعد لهم، حتّى يجتمع أمر الناس، فتولَّى الأمر.
واضطرب الناس بالبصرة، ووقعت الفتنة بين الأزد وتميم، وتأدى إلى الحرب، فبعث مسعود مع ابن زياد مائة من الأزد حتّى خرجوا به إلى الشام.
قال عبيد الله ذات ليلة :
- «إنَّه قد ثقل عليَّ ركوب الإبل، فوطئُوا لي على ذي حافر».
قال : فأُلقيتُ له قطيفة على حمار فركبه وإنَّ رجليه لتكادان تخُدَّان في الأَرض.
قال بشار بن شريح اليشكري : فإنَّه يسير ويحدثني، إذ سكت سكتة طويلة، فقلتُ : والله ما سكت إلا لشيء في نفسه. فدنوت منه، فقلتُ :
ص: 62
- «أَنائِمٌ أَنتَ؟» قال :
- «لا». قلتُ :
- «فما أَسكتكَ؟» قال:
- «كنتُ أَحدِّث نفسي».
قال، قلتُ :
- «أفلا أحدثك ما كنتَ تحدثُ به نفسَك ؟» قال :
- «هاتِ، فوالله ما أراك تصيب، ولا تكيس». قلتُ :
- «تقول : ليتني لم أكن قتلتُ حسيناً». قال:
- «وماذا؟» قلتُ :
- «تقول : ليتني لم أكن قتلتُ مَن قَتلتُ». قال :
- «وماذا؟» قلتُ :
- «تقول : ليتني لم أكن بنيتُ البيضاء». قال :
- «وماذا؟» قلتُ :
- «تقول : ليتني لم أكن استعملتُ الدهاقين على العرب». قال:
- «وماذا؟» قلتُ :
- «تقول : ليتني كنتُ أَسخى ممَّا كنتُ».
فقال لي:
- «والله ما نطقت بصواب، ولا سكت عن خطأ :».
أَمَّا الحسين، فإنَّه سار إليَّ يُريدُ قتلي، فاخترتُ أن أقتله على أن يقتلني، وأَمَّا البيضاء، فإنّي اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثّقفي، فأرسل يزيد بألف ألف 1,000,000 درهم فأنفقتها عليها، فإن بقيتُ فلأهلي، وإن هلكت لم آسِ على ما لم أغرم عليه.
وأَمَّا استعمال الدهاقين، فإنَّ ابن أبي بكرة وزاذا نفروخ رفعا عليَّ عند معاوية، حتّى ذكرا قشور الأرز، وبلغا خراج العراق مائة ألف ألف 100,000,000 يضمنانها، فخيَّرني معاوية بين الضمان والعزل، فكرهتُ العزل، فكنتُ إذا استعملتُ العرب كسروا الخراج، وإن أقدمتُ على الرّجل منهم أوغرتُ صدور عشيرته، وإن أغرمت قومه أَضررتُ بهم، وإن تركته ضاعَ لي حقُّ وأنا أعرف مكانه، فوجدتُ الدهاقين أعرف
ص: 63
بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون على المطالبة منكم، مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم.
وأَما قولك في السَّخاء، فما كان لي مال أجودُ به عليكم، ولو شئتُ لأخذتُ بعض مالكم، فخصصتُ به بعضكم دونَ بعض، فتقولون: ما أَسخاه! ولكن عممتكم به، وكان عندي أنفع لكم.
ولكنّي سأخبرك بما حدثتُ به نفسي :
قلتُ : ليتني قاتلتُ أَهلَ البصرة، فإنّهم بايعوني طائعين، وأيم الله، إنِّي حرصتُ على ذلك، ولكن إخوتي أتوني، وقالوا إن قاتلتهم، وظهروا عليك، لم يُبقوا منا أحداً، وإن تركتهم تغيَّب الرَّجل مِنا عند أخواله وأصهاره. فرقَّ لهم قلبي. وكنتُ أقول : ليتني أخرجتُ أَهل السِّجن، فضربتُ أعناقهم. وأما إذ فاتتني هاتان الخصلتان، فليتني أقدم الشام ولم يُيرموا أمراً.
ص: 64
وقدم عبيد الله بن زياد الشَّامَ، وكان قدمها الحُصين بن نمير ومن معه، وهمَّ مروان بن الحكم أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه، واجتمع الناس على ذلك. فذهب عبيد الله حتّى لقي مروان، وقال:
«استحييت لك ممَّا تُريد، أنت كبير قريش وسيدها تصنع ما تصنع ؟».
فقال :
- «ما فات شيء بعد».
واجتمع إليه بنو أمية ومواليهم، وتجمع إليه أهل اليمن، وهو يقول:
- «ما فات شيء بعد».
كالمعتذر إليه.
وكان الضَّحَّاك بن قيس بدمشق لما قدم عبيد الله بن زياد، وكان يهوى هوى ابن الزبير، والنُّعمان بن بشير بحمص يُبايع لابن الزبير، وزُفر بن الحارث بقنسرين يبايع لابن الزبير.
وكان حسّان بن مالك بن بحدل الكلبي يرى الأمر لبني أُميَّة، ويَهوى هواهم، لأنه كان خال خالد بن يزيد بن معاوية، فهو يحبُّ أن يبايع له، وكان بالأردن، فجمع النَّاس وخطبهم وقال :
- «أَيُّها الناس، ما شهادتكم على ابن الزبير، وعلى قتلى أَهل الحَرَّةِ؟» قالوا:
- «نشهد أَنَّ ابن الزبير منافق، وأَنَّ قتلى أهل الحرَّة في النَّار». قال :
- «فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟» قالوا :
- «نشهد أَنَّ يزيد مؤمنٌ، وأَنَّ قتلانا في الجنَّة». قال:
- «وأَنَا أَشهدُ - لئن كان دين يزيد بن معاوية حقا يومئذ - إنَّه اليوم وشيعته على حق، وإن كان ابن الزبير يومئذٍ وشيعته على باطل، إنّه اليوم وشيعته على باطل». قالوا :
ص: 65
- «صدقت، نحن نبايعك ونقاتل معك من خالفك على أن تُجنّبنا عبد الله وخالداً ابني يزيد، فإنَّهما غلامان، ونكره أن يأتينا النَّاسُ بشيخ ونأتيهم بصبي».
فكتب حسّان بن مالكِ إلى الضحاك بن قيس:
- «إنَّك تُبايع ابن الزبير، وقد عرفت حقوق بني أُمية عليك».
وعظم عليه الفرقة، ودعاه إلى الجماعة. وكتب جماعة بني أُمية بمثل ذلك. فأبى الضحاك بن قيس، ومَن يَرى رأيَهُ.
واجتمعت بنو أُميَّة ومَن يرى رأيهم، فبايعوا مروان لسنه، وذلك في المحرم سنة خمس وستين.
وكان مروان لا يحدث نفسه بذلك، ولا يحلم به، حتّى قدِمَ عليه عُبيد الله بن زيادٍ من البصرة، فأطمعه، واتَّفق ما حكيناه من أمر حسان، وجواب أَهل الشام له.
وكان الحصين بن نمير لقي مروان، فشرط عليه شروطاً أجابه مروان إليها، فكان يهوى هواه. فلقي مالك بن هبيرة الحصين بن المنذر، وقال له :
- «هلم نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أُختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه وهو غداً يحملنا على رقاب العرب».
يعني خالد بن يزيد.
فقال حصين :
- «لا، لعمري ما تأتينا العرب بشيخ فنأتيهم بصبي».
فقال مالك :
- «هذا، ولما نَرد تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين».
فقال الحصين :
- «مهلاً يا أبا سليمان!».
فقال له مالك :
- «اسمع كلامي، والله لئن استخلفت مروان وآل مروان، ليحسدنك على سوطك، وشراك نعلك، وظل شجرة تستظل بها. إنَّ مروان أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، فإن بايعتموه كنتم عبيداً لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد».
فأبى النّاس إلا شيخاً، فاجتمعوا على مروان وقالوا :
- «مروان خليفتنا، على أن يكون الأمر بعده لخالد بن يزيد».
فلما اجتمع رأي النَّاس رضي حسان بن بَحْدَل أَيضاً، وتم الأمر لمروان، وسار
ص: 66
إلى الضَّحَّاك والتقيا بمرج راهط، فاقتتلا قتالاً عظيماً، وقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة لم يُقتلوا مثلها قط، وقُتل الضَّحَّاك.
وخرج نعمان بن بشير لما بلغه مقتل الضَّحَّاك، هارباً من حمص ليلاً، ومعه امرأَتُه وثقله، فتحيّر ليلته كلها، وطلبه قوم، فظفر به، وحُزّ رأسه، وجيء به إلى مروان.
وأطبق أَهل الشَّام على مروان واستوسقوا له، فجاء إلى مصر، وعليها عبد الرَّحمن بن جحدر القرشي، يدعو إلى ابن الزبير، فقاتله فقتله، وآمن النَّاسَ، وبايعه أهلُها، فرجع إلى دمشق.
كتب ليزيد عبيد الله بن أوس الغَسَّاني كاتب معاوية. وكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور، وهو الذي أشار عليه، لما بلغه مسير الحسين إلى الكوفة بأن يولّي عبيد الله بن زیاد، وقد مرَّ ذكره، وكتب إليه عن يزيد :
- «أما بعد فإنَّ المحبوب مسبوبٌ يوماً ما، والمسبوب محبوب يوماً ما، وقد انتميت إلى منصب كما قال الأَوَّل :
رُفِعْتَ فجاوَزْتَ السَّحابَ وفَوقَهُ *** فَما لَكَ إِلا مَرقَب الشَّمس مرقَبٌ
وقد ابتلي بالحسين زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان. وبُليت به من بين العُمَّال، فإمَّا أَن تُعتَقَ، أو تعود عبداً، والسلام».
وقلد سلمة بن حريد الأزدي من كتاب فلسطين الخراج بمصر، وكان يكتب لعبد الله بن الزبير، ويقوم بجميع أموره، إلى أن قتل. واجتمع النَّاسُ على عبد الملك بن مروان، وفيهم عبد الله بن صفوان بن أُميّة بن خلف.
وأَما عبيد الله بن زياد فكتب له مهران الترجمان، وقام بأمره كله، ولم يزل معه إلى أن مات يزيد فأخرجه أهل البصرة من بلادهم.
وقلّد يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، وكان يكتب له اصطفانوس، فأقام بها، إلى أن ظهر ابن الزبير، وتُوفِّي يزيد فاستخلف سلم على خراسان عبد الله بن حازم، وانصرف في سنة أربع وستين، وتباطاً في مسيره ليعلم على ما تستقر الأمورُ، فورد البصرة في سنة خمس وستين.
فدعا سلم يوماً بإصطفانوس، وسلَّم اثني عشر ألف ألف 12,000,000 دينار، وقال له :
- «احتفظ به، فما فيه قيمة درهم ظُلم فيه مُسلمٌ ولا مُعاهَدٌ».
ص: 67
فقال اصطفانوس بالفارسية :
- «فمن أين هذا كلُّه!».
فقال :
- «من هدايا العُمَّال وأهل الكُوَر والدّهاقين».
وكان أَهلُ خراسان أَحبُّوا سَلماً محبَّةً ما أَحبُّوها والياً قطُّ، وسُمِّي باسمه أَيَّامَ ولايته، أَكثرُ من عشرين ألف مولود، ثمَّ ثاروا به حين بلغهم موتُ يزيد حتَّى استخلف عليهم، وخرج وهلك مروان بن الحكم بعد تسعة أشهر من ولايته، وجعل ولي عهده ابنه عبد الملك، وبعده سليمان، وكان سبب هلاكه أَنَّ النَّاس أَشاروا عليه أن يتزوّج أُمَّ خالد بن يزيد ليغضّ منه، لأَنَّ النَّاس كانوا يتشوفونه، وينتظرون بلوغه.
فتزوّج مروان أُمَّ خالدٍ، فدخل يوماً على مروان وعنده جماعة كثيرة، فمشى بين الصَّفّين، فالتفت مروان إلى من حوله، فقال:
- «إنّه ما علمتُ لأحمق، تعال يا بنَ الرَّطبةِ الإست».
يُقصِّرُ به لِيُسقطَهُ من عين النَّاس.
فرجع إلى أمه، وبكى بين يديها، وقال
- «خاطبني بحضرة النَّاس بكذا».
فقالت له أُمُّه :
- «لا تُعرّفنَّ أَحداً، ولا يَعرِفنَّ هو منك، واسكتْ فإنِّي أَكفيكَهُ».
فدخل عليها مروان، وقال لها :
- «هل قال لك خالد في شيئاً؟».
فأنكرته، وبسطت له وجهَها وقالت :
- «وأَيُّ شيء يقول خالد فيك؟».
ثم مكثت أَيَّاماً حتّى أنس مروان، فنام عندها، فغطته بوسادة وأمسكته عليه حتّى مات.
ص: 68
وكان مروان قبل هلاكه بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد.
فأَمَّا عبيد الله، فسار حتّى نزل الجزيرة، وأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه الشيعة من الكوفة، وهم الذين تسموا بالتَّوَّابين، يطلبون بدم الحسين بن علي، وسنذكر من أخبار التوابين وأخبار أهل المدينة، ما يليق ذكره بهذا الكتاب.
فأَمَّا خبر التَّوابين، فإِنَّه لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام اجتمعت الشيعة بالكوفة، ولام بعضُها بعضاً، ورَأَوا أَنَّهم جَنَوا جناية عظيمة باستدعائهم الحسين إلى الكوفة، ثمَّ تقاعدهم عنه، إلى أن جرى عليه ما جرى، وأنه لا يغسل عنهم هذا العار، ولا يمحو عنهم الإثم، إلا الخروج والتَّوبة إلى الله، والطلب بدمه، إلى أن يقتلُوا قاتليه أو يُقتلوا قبل ذلك.
فاجتمع الكلُّ إلى خمسة من الرُّؤساء، وهم سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التّيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.
ثمَّ اجتمع هؤلاء الخمسة على سليمان بن صرد وكانت له صحبة من النبي (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، فرأسوه، وقالوا :
- «لا بد من رئيس واحدٍ تكون له راية يُحَفُّ بها، ورأي يُصدر عنه».
فرضُوا بسليمان بن صرد، وخطبهم سليمان خطبة طويلة، قال في آخرها :
- «كونوا كتوَّابي بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيهم : إنّكم ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكم باتِّخَادِكُمْ العِجْلَ، فتُوبُوا إلى بارئكم، فاقتُلُوا أنفسكم، ذلِكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عند بارئكم. وإِنِّي أَرى أَنَّ الله قد سخط عليكم ممَّا أَتيتموه في أمر ابن نبيكم، فلا يُرضيه شيءٌ أَو تُبيروا قَتلَة الحسين، فلا تَهابُوا الموت، فوالله ما هابه أحدٌ إِلا ذَلَّ»
وتكلم كلاماً كثيراً يُشبه هذا.
فقال خالد بن سعد :
ص: 69
- «أَمَّا أَنا، فوالله لو أعلم أَنَّ قَتلِي نفسي يُخرجني من ذنبي، ويُرضِي عنِّي ربِّي، لقتلتُها، ولكن هذا الذي ذكرته من قتل الأنفس إنَّما أُمِرَ به قوم، فأشهد الله ومَن حضر، أَنَّ كل مالٍ أَملكُه، سوى سلاحي الذي أقاتل به، صدقة على المسلمين، أُقوِّيهم به على قتال القاسطين».
وقام جماعة، فتكلموا بمثل ذلك.
فقال سليمان :
- «حسبُكم، مَن أَراد من هذا شيئاً، فليأتِ بماله عبد الله بن وال التّيمي، فإذا اجتمع عنده ما يكفي جهزنا به ذوي الخَلَّة من أَشياعكم».
وكتب سليمان بن صرد إلى المدائن وبها جماعة من الشيعة، ورأسُهم سعد بن حذيفة بن اليمان، بما اجتمع عليه رأي القوم من إخوانهم، وذكر بمقتل حُجرٍ وأصحابه، وبما يُقاسيه الشيعة من الذُّلّ، وحضّهم على التوبة، واستقدمهم.
فلما قرأ سعد بن حذيفة الكتاب على الشيعة الذين كانوا بالمدائن، أجابوه بالسَّمع والطَّاعة. فأجاب سليمان بن صرد بما وَجَدَ عند الشيعة من الحرص، وأَنَّهم جادون ينتظرون الدَّاعي، فإذا جاءَ الصريخ أقبلنا ولم نعرّج، إن شاء الله.
وكتب سليمان إلى أهل البصرة، وإلى من يتشيع بها بمثل ذلك، فجاءَهُ الجواب بمثل ما أَجابَهُ أَهل المدائن.
ولم يزل الناس في الاستعداد إلى أن هلك يزيد، وقام بالأمر مروان، ومدة ذلك ثلاث سنين وشهران.
وهلك يزيد، وأميرُ العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث، واجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد وقالوا :
- «قد مات هذا الطاغية، وهم اليوم مضطربون مشغولون، فقُمْ بِنا نَثِبْ على عمرو بن الحريث، ثمَّ نُظهر الطَّلبَ بدم الحسين، ونتتبع قتلته فنقتلهم، وندعو الناس إلى أهل البيت المدفوعين عن حقوقهم».
فلمَّا أَكثرَ النَّاسُ، وأَطالوا عليه، قال لهم سليمان :
- «رويداً لا تعجلوا، إنّي قد نظرتُ في ما تذكرون، فرأيتُ أَنَّ قتلةَ الحسين هم أشراف الكوفة، وفُرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تُريدون علموا أَنَّهم المطلوبون، فكانوا أَشَدَّ شيءٍ عليكم. وقد نظرت في من معي منكم، فعلمت أنهم لو خرجوا لم يُدركوا ثأرهم، ولم يُشفُوا نفوسهم، ولم يَنكَأُوا في
ص: 70
عدوّهم، وكانوا لهم جزراً، ولكن بُثُوا دعائكم، فإني أرجو أن يكون النَّاس أَسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية».
ففعلوا، وخرجت منهم دعاة يدعون النَّاس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك یزید بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. فلما كان بعد ذلك قدم المختار بن أبي عبيد، فزعم أنه من قبل المهدي محمد ابن الحنفية يدعوهم إلى الطلب بدم الحسين، فكانت الشيعة قد انقادت لسليمان بن صرد. فكان المختار، إذا خاطب الشيعة، ودعاهم إلى نفسه، قالوا:
- «هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة».
فيقول المختار :
- «هذا ليس لكم بصاحب، إنَّما يريدُ أن يخرج فيقتل نفسه، ويقتلكم، ليس له بصر بالحرب، ولا علم بها».
فلا يقبلُ منه.
وقدم الكوفة عبد الله بن يزيد أميراً على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله أميراً على خراج الكوفة، فبلغهما أَنَّ الشيعة خارجةً وأنَّهم طائفتان : طائفةٌ كثيرة مع سليمان بن صرد، وطائفة يسيرة مع المختار وأُشير على عبد الله بن يزيد أن يجمع الشرطة والمقاتلة ووجوهَ النَّاس وينهض إليهم، وقيل له :
- «إذا صرت إلى منزله دعوته فإن أجابك حبستَهُ، وإن قاتلك، وقد جمعت له وعبأت وهو مغتر».
وقيل له :
- «إن لم تفعل بذاك، خرج عليك، وقد اشتدَّت شوكته، وتفاقم أمرُه».
فنظر عبد الله بن يزيد، فإذا القوم يطلبون غيره بدم الحسين، فكره أن يستحضّهم. فقال لمن أشار عليه بما حكيناه :
- «حدثوني ما يُريدون» قال :
ص: 71
- «يذكرون أنهم يطلبون بدم الحسين».
فقال :
- «أنا قتلتُ الحسين؟ لعن الله قاتل الحسين».
وقال :
- «الله بيننا وبين هؤلاء القوم، إن تركونا لم نطلبهم».
ثمَّ خطب النَّاسَ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «فقد بلغني أنَّ طائفة من أهل هذا المصر، أرادوا أن يخرجوا علينا فسألتُ عن السَّبب الذي دعاهم إلى ذلك ما هو ؟ فقيل لي : إنَّهم يطلبون بدم الحسين بن علي. فرحم الله هؤلاء القوم، قد - والله - دللت على أماكنهم، وأُمرت بأخذهم، وقيل لي: ابدأ بهم، قبل أن يبدأوك، فأبيت ذلك، وقلت : إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم. وعلامَ يُقاتلونني؟ فوالله ما أنا قتلتُ حسيناً، ولا أنا ممن قاتله. ولقد أُصبتُ بمقتله، رضي الله عنه. هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا، ولينتشروا ظاهرين، ثمَّ ليسيروا إلى قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا ظهير لهم. هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل أخياركم، وأَماثلكم، قد توجّه إليكم عهد العاهدِ به على مسيرة ليلة من منبج، فقتاله والاستعداد له أجزى وأرشد من أن يجعلوا بأسَكم بينكم، فيسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم العدو غداً وقد رققتم، وتلك أُمنية عدوّكم، فإنَّه قد أقبل إليكم، أعدى خلق الله لكم من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يُقلعان عن قتل أهل العفاف والدِّين، ومَن قتل من تبغون دَمَهُ قد جاءَكم، فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم، فإِنِّي لم آلكم نُصحاً.جمع الله كلمتنا، وأصلح له أئمتنا».
فخرج أصحاب سليمان بن صرد ظاهرين، يشترون السلاح، ويتجهزون بما يُصلحهم.
وأَمَّا النَّفَر الذين مع المختار، فإنّهم سكتوا، لأنَّ المختار كان يُريد أَلا يُهيجَ أمراً حتّى ينظر إلى ما يصير أمر سليمان بن صرد ورجا أن تستجمع له الشيعة، فيكونَ أقوى على درك ما يطلب.
واجتمع لسليمان أمرُه في سنة خمس وستين، وكان قد واعد أصحابه، وكاتب أَهل المدائن وغيرهم لِغُرَّةِ شهر ربيع الأوَّل، فخرج في تلك الليلة إلى المعسكر بالنخيلة، ودار في النَّاس ووجوه أصحابه، فلم تُعجبه عدَّةُ النَّاس. فبعث حكيم بن منقذ في خيل، وبعث الوليد بن حصين في خيل، وقال:
ص: 72
- «اذهبا حتّى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم، فنادِيا بذلك».
فخرجا، فكأَنَّ خلق اللَّهِ دَعَوا: يا لَثارات الحسين. وكثر المستجيبون وكثر البكاء النَّحيب. وكان الرَّجل إذا سمع هذا النداء، فارق أهله وولده، وتركهم يبكون، ووثب إلى سلاحه وودعهم، ثم خرج.
قال :
فلم يُصبح حتَّى جَاءَهُ نحو ممن كان في عسكره حين دخله، ثم دعا بديوانه حين أصبح، فوجد مَن جاء أربعة آلاف رجل من جملة ستة عشر ألفاً كانوا بايعوه، فقال :
- «سبحان الله! أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يخافون الله؟ أما يذكرون ما أعطوا من العهود والمواثيق؟
وجعل يبعث ثقاته إلى من تخلف عنه يُذكِّرهم الله. فخرج إليه نحو من أَلف رجل. فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَيُّها النَّاس، إنَّه ما ينفعنا المُكرَهُ، وإنَّما ينفعنا ذو النِّيَّة، فمَن كان يُريد حَرثَ الدنيا، فوالله ما يأتي فيئاً، ولا غنيمة، ما خلا رضوان الله، وما معنا ذهب ولا فضةٌ، ولا خز، ولا حرير، وما هو إلا سيوفنا في عواتقنا، ورِماحُنا في أكفّنا، وزادٌ قدر البلغةِ إلى لقاء عدوّنا، فمن كان ينوي هذا غير هذا، فلا يصحبنا».
فأجابه الناس :
- «إنَّما خرجنا للهِ، ولِلتَّوبة إليه من ذنبنا، والطَّلب بدم ابن بنت رسول الله، وإنَّما تقدم على حد السيوف، وأطراف الرماح».
أَمَّا أَكثر النَّاس، فأشاروا على سليمان أن يقصدوا الكوفة، وقالوا :
- «إنَّا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلةُ الحسين كلهم بالكوفة : عُمر بن سعد بن أبي وقاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأينَ نذهب وندع الأوتاد والله ما نلقىٰ، إن مضينا نحو الشام، وهذه الخيل التي أقبلت إلا عبيد الله وحدَهُ ممَّن نطلبه، ووراءكم الدُّهم بالكوفة، مثل عبيد الله».
فقال سلیمان بن صرد :
- «والله، لقد جئتم برأي، فهلموا أيها الناس بجميع ما عندكم».
فلمًا سمع هذا وأمثاله، قال :
ص: 73
- «لكن أنا لا أرى لكم ذلك».
قال :
- «إنَّ الذي قتل صاحبكم هو الذي عبَّى إليه الجنود فأَلزم الناس المسير إليه كارهين وهددهم». ثم قال :
- «لا أمان له عندي دون أن يستسلم، فأمضي فيه حكمي، هذا الفاسق، ابن الفاسق ابن مرجانة عبيد الله بن زيادٍ. فإن يُظهر الله عليه كان من بعده أهون شوكةً، ورجونا أَن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم فينظرون من شرك في دم الحسين، فيقتلونه، وإن قاتلتم الآن أهل مصركم، ما عدم الرجلُ أن يرى رجلاً غداً وقد قتل أخاه، أَو أَباه، أو حميمه، أو رجلاً لم يكن يريد قتله، فيكثر أعداؤكم. فاستخيروا اللَّهَ وسيروا».
فتهيَّاً النَّاس للخروج.
لما بلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة أَنَّ سليمان خارج بأصحابه نحو عُبيد الله بن زياد، رأيا أن يأتياهم، فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدةً، فإن أبوا إلا الشُّخوص، سألوهم النَّظَر حتّى يجهزوا معهم جيشاً، فيقاتلوا عدوّهم بكَتَفٍ وحَدٍّ.
فراسلا سلیمان بن صرد وقالا :
- «إنَّا نريد أن نجيئك لأمر عسى الله أن يجعل لنا ولك فيه صلاحاً».
فقال سليمان للرَّسول :
- «قُل لهما، فليأتيانا».
وأحسنَ سليمان تعبئة النَّاسَ. وجاء عبد الله بن يزيد، في أشراف أهل الكوفة، وجاء إبراهيم في جماعة من أصحابه وكان عبد الله بن يزيد قال لكل رجل معروف علم أنه شرك في دم الحسين لا تصحبني؛ مخافة أن ينظروا إليه، فيعدوا عليه.
وكان عمر بن سعد طول تلك الأيَّام التي كان سليمان فيها معسكراً بالنخيلة، لا يبيت إلا في قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم وهو غافل، فيُقتل.
ولما دخل عبد الله بن يزيد إلى سليمان حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
ص: 74
- «إِنَّ المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يغشه، وأنتم أهل مصرنا، وأحب النَّاس إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصُوا عددَنا بخُروجكم، وأقيموا معنا حتى نتيسر ونتهياً، فإذا علمتم أن عدونا قد شارف بلادنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم».
وتكلم إبراهيم بنحو من هذا.
فتكلَّم سليمان، وحمد الله، وأثنى عليه، وقال:
- «قد علمتُ أَنكما قد محضتُماني النصيحة، واجتهدتما في المشورة، ونحن فقد خرجنا على نِيَّةٍ ولن ننقضها ونسأل الله العزيمة، والشديد».
فقالا :
- «فأقيموا حتى تُجهز معكم جيشاً كثيفاً، فتلقوا عدوكم بكتف وجمع وحدٍّ.
فقال سليمان
- «تنصرفون ونرى رأينا».
فعرضا عليه الصَّبرَ عليهما، حتى يجعلا له ولأصحابه خراج جوخى دون الناس.
فأبى سليمان وقال :
- ما «خرجنا للدُّنيا».
وإِنَّما فَعَلا ذلك، لما داخلهم من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق.
وأبطأَ على سليمان أصحابه من أهل البصرة والمدائن، فخرج من عسكره بالنُّخيلة، ومرَّ نحو الأقساس، وتخلَّفَ عنه ناس كثيرٌ.
فقال سليمان
- «لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، لأنَّ اللَّهَ كَرِهَ انبعاثهم فثبَّطهم».
ثمَّ خرج حتى صبح قبر الحسين. فلما انتهى النَّاس إليه، صاحوا صيحةً واحدةً، وبكوا فما رُوي يوم كان أكثر باكياً منه، وجعلوا يدعون الله، ويسألونَه أن يتوب عليهم، وأحسن النَّاسُ بالمنطق، وزادهم ذلك بصيرة، وشحذ رأيهم، ووطنوا أنفسهم على الجهاد، وحب الشهادة.
ثمَّ ساروا فلحقهم كتاب من عبد الله بن يزيد وهم بالقيارة، مع المُحل بن خليفة الطائي.
ص: 75
قال المُحلُّ :
فلقيتُه، وأبلغتُه السَّلامَ والكتاب، فاستقدم أصحابه حتى ظنَّ أَن قد سبقهم، وأشار إلى النَّاس، فوقفوا، ثم قرأ الكتاب، فإذا فيه :
- «بسم الله الرَّحمن الرّحيم، من عبدالله بن يزيد إلى سليمان بن صُرد ومَن معه من المسلمين. سلام عليكم، أمَّا بعد فإنَّ كتابي هذا كتاب ناصح، وكم من ناصح مُستغِشُ، ومِن غَاشٍّ مُستنصح، إنه قد بلغني أن قد أقبل من الشَّام، جموع عظيمة، وأنتم تريدون أن تلقوهم بالعدد اليسير، وإنَّه مَن يُرِدْ أن ينقل الجبال عن مراتبها، تَكِلُّ معاوله، وينزع وهو مذموم الفعل والعقل. يا قومنا، لا تُطمعوا عدوّكم في أَهل بلادكم، فأنتم خيارٌ كلُّكم، ومتى يُصبكم عدوكم، أطمعهم ذلك في مَن وراءكم من أهل مصركم يا قومنا إِنَّهم إنْ يَظهرُوا عَلَيكُم يَرْجُمُوكُم، ويُعيدُوكم في مِلَّتِهم، ولَنْ تُفلحوا إذا أبداً، يا قومنا، إنَّ أَيدينا، وأيديكم واحدةً، وعدوّنا وعدوّكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدوّنا، ومتى تختلف تهُنْ شوكتنا يا قومنا، لا تستغشُوا نُصحي، ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين يُقرأ عليكم كتابي، أقبل الله بكم إلى طاعته، والسلام».
فلما قرأ الكتاب، قال ابن صرد للنَّاس :
- «ماذا ترون؟» قالوا :
- «ماذا نرى؟ قد أبينا هذا عليهم ونحن في مصرنا وأهلنا، والآن حين خرجنا، ووطَّأنا أنفسنا على الجهاد، نفتأُ عزيمتنا؟ ما هذا برأي».
ثم نادوه :
- «أخبرنا برأيك!».
قال: «رأيي أن لا ننصرف عمَّا جمعنا الله علينا، لأنَّا وهؤلاء مختلفون، لأنهم لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ونحن لا نرى الجهاد مع ابن الزبير، إلا ضلالاً، وإن ظهرنا رددنا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نيَّتنا، تائبين من ذنوبنا، لأنَّ لنا شكلاً، ولابن الزبير شكلاً».
فانصرف النَّاس معه حتَّى نزلوا هيت.
وكتب سليمان جواب الكتاب ولاطفه وأثنى عليه، واعتذر إليه، بأَنَّهم تائبون خرجوا على نية الجهاد، وتوجهوا لأمر لا ينقضونه.
فلما أتى هذا الكتاب إلى عبد الله بن يزيد قال :
- «استمات القوم. أَوَّل كتاب يَردُ عليكم يكون بقتلهم».
ص: 76
وسار القوم إلى قرقيسيا، وبها زُفَر بن الحارث بن كلاب، قد تحصن بها من القوم، ولم يخرج إليهم. فبعث سليمان إلى المسيب بن نجبه، فقال له :
- «إيتِ ابن عمك هذا، فقل له : فليُخرج لنا سُوقاً، فإنَّا لسنا إيَّاهُ نريد، إنَّما صمدنا لهؤلاء المُحلّين».
فانتهى المسيب إلى الحصن، وانتسب، واستأذن. فقيل:
- «هذا رجلٌ حسن الهيئة يستأذن عليك، ويزعم أنَّه المسيب بن نجبة».
فقال زُفَر بن الحارث :
- «هذا فارس مُضَر وهو بعد رجل ناسك له دين، فأُذِنُوا له».
وجاءَ، فأجلسه إلى جانبه وسائلَهُ، وأَلطفَهُ فى المسألة.
ثم خاطبه المسيب، وقال :
- «مِمَّ تَحصَّنُ، إنه والله، ما إيَّاكم نُريد، وما قصدنا إلا هؤلاء الظَّلمةَ المُحلّين. فأَخرج لنا سوقاً، فإنَّا لا نُقيم بساحتك إلا يوماً أو بعض يوم».
فقال له زُفَر بن الحارث :
- «إنَّا لم نُغلق أبواب المدينة إلا لِنَعلم : إيَّانا اعتريتم، أم غيرنا. وما نعجز عن النَّاس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحبُّ أَنَّا بُلينا بقتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنةٌ جميلة».
ثم دعا ابنه، وأمر أن يضع لهم سوقاً جامعة، وأمر للمسيب فرس، وألف درهم.
فقال المسيب :
- «أما المال، فلا حاجة لي فيه، ولا له خَرَجْنا، وأَمَّا الفرس، فإنِّي أَقبلَهُ، فلعلي أحتاج إليه إن غمز فرسي تحتي».
وخرج حتى أتى أصحابه، وأخرجت لهم السوق، وبعث إلى المسيب بعشرين جزوراً، وإلى سليمان بن صرد مثل ذلك. وكان سأل عن وجوه العسكر، فاخرج إلى كلِّ واحدٍ منهم بعشر جزائر وعلفٍ كثير، وطعام واسع، وأخرج إلى العسكر عيراً عظيمةً وشعيراً كثيراً.
وقال غلمان زُفَر للنَّاس :
- «هذه عير، فاجتزروا منها ما أحببتم وهذا شعير، فاحتملوا ما أردتم، وهذا
ص: 77
دقيق، فتزودوا ما أطقتم».
فأخصب القوم، ولم يحتاجوا إلى كثير شيء من السوق التي أُخرجت لهم. وبعث إليهم زفر بن الحارث :
- «إِنِّي خارج إليكم، ومُشيّعُكم، ومُشير عليكم برأي عندي والله موفقكم».
ثمَّ إِنَّ زُفَر خرج إليهم من الغد، وقد خرجوا على تعبئة، فسايرهم، وقال لسليمان :
- «إنَّه قد بعث بخمسة من الأمراء، وقد فَصلوا من الرقة الحصين بن نمير، وشُرحبيل بن ذي الكُلاع، وأدهم بن مُحرز الباهلي وربيعة بن المُخارق الغنوي، وحملة بن عبد الله الخثعمي، وقد جاؤوكم مثل الشوك والشَّجر، أتاكم والله عددٌ كثير، وحدٌ حديد، وأَيمُ الله، لقلَّ ما رأيتُ رجالاً أَحسن هيئة ولاعُدَّةً، ولا أخلقَ بكل خير من رجال أراهم معكم، ولكنه قد بلغني أَنَّهُ قد أقبلت إليكم عدة لا تُحصى».
قال ابن صرد:
- «على الله توكلنا وعليه فليتوكل المتوكلون».
فقال لهم زُفَرُ :
- «فهل لكم في أمرٍ أَعرضه عليكم؟ لعلَّ الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيراً».
قال سلیمان :
- «وما هو؟»
قال :
- «نفتح لكم مدينتنا، فتدخلونها، فيكون أمرنا واحداً، وأيديكم مع أيدينا».
فقالوا :
- «لا نفعل ذلك».
قال زُفر :
- «فتنزلون على باب مدينتنا ونخرج ونُعسكر إلى جانبكم، فإذا جاءَنا هذا العدو قاتلناه جميعاً».
فقال سليمان لِزُفَر :
ص: 78
- «قد أرادنا أهل مدينتنا على مثل ما ذكرت، ثم كتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم نفعل».
قال زُفر :
- «فلو ضممتُم رأينا إلى رأيهم، وأقمتم معنا، وكاتبتم أهل مصركم، فبادروا إليكم بما عرضوا عليكم لرجونا أن يصل إلينا عدونا ونحن مجتمعون بحد واحد، وشوكة واحدة، فكانت الدّبرة عليهم».
فقالوا :
- «فإنا لا نفعل».
فقال زُفَر :
- «فانظروا الآن ما أُشير به عليكم فاقبلوه وخذوا به، فإنّي عدو القوم، وأُحبُّ أن يجعل الله الدائرة على القوم، وأنا لكم وادٌ، أحب أن يحوطكم الله بالعافية. إن القوم قد فصلوا من الرَّقَّة، فبادرهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم، وما بين مدينتنا وبينكم فأنتم له آمنون. والله، لَو أَنَّ خيولي كرجالي، لأمددتكم، اطوُوا المنازل الساعة إلى عين الوردة، فإنَّ القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خُيول والله لقلَّ ما رأيتُ جماعة خيل أكرم منها. تأهبوا إليها من يومكم هذا، فإني أرجو أن تسبقوهم إليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة، فلا تقاتلوهم في فضاء تُرامونهم، وتطاعنونهم، فإنَّهم أكثر منكم، فلا آمنُ أن يُحيطوا بكم، ولا تقفوا لهم تُرامونهم، وتطاعنونهم، فإنَّه ليس لكم مثل عددهم، وإن استهدفتم لهم لم يُلبثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفُوا لهم حين يلقونكم. فإنّي لا أرى معكم رجالاً، ولا أرى جميعكم إلا فُرساناً، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمي رجالها، والرِّجالُ تحمي فُرسانها، وأنتم لا رجال لكم تحمي فُرسانكم، فالقوم في المقانب والكتائب. ثمَّ بُثُوها في ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كُل كتيبة كتيبةً إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين، ترجّلت الأخرى، فنفّست عنها الخيل والرِّجالُ، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة سفلت، ولو كنتم في صف واحد، فزحفت إليكم الرجال، فدفعتم عن الصَّفُ انتقض، فكانت الهزيمة».
ثمَّ وقف فودَّعهم، فأثنى النَّاس عليه ودعوا له، وقالوا له خيراً.
وقال له سليمان :
- «نعم المنزول به أنتَ أكرمتَ النُّزُلَ، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة».
ص: 79
ثمَّ إِنَّ القومَ جدوا في السَّير، فجعلوا كل مرحلتين مرحلة، حتى انتهوا إلى عين الوردة، وسبقوا القومَ إليها، ونزلوا في غربيها، فأقاموا خمساً، لا يبرحون، فاستراحوا فأَراحوا خيلَهم، ثمَّ خطبهم سليمان، فأطال خطبته، وذكر الدُّنيا، فزهد فيها، والآخرة فرغب فيها، ثم قال :
- «أَمَّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم له في السَّير آناء الليل والنَّهار، تريدون في ما تُظهرون التّوبة النصوح، ولقاء الله مُعذرين. فقد جاؤوكم، بل أنتم جئتموهم في دارهم وحيّزهم، فإذا لقيتموهم، فاصدقوهم، واصبروا، ولا يولينّهم أحدٌ دُبُرَهُ إلا متحرّفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة ولا تقتلوا مدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً إلا أن يكون من قتلة إخواننا بالطَّفِّ، فإنَّ هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة».
ثم قال سليمان :
- «إن قتلتُ، فأمير النَّاس المسيب بن نجبة، فإن أُصيب، فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نُفيل، فإن أُصيب، فأمير النَّاس عبد الله بن وال، فإن أُصيب، فأميرهم رفاعة بن شداد».
ثم بعث المسيب بن نجبة في أربعمائة فارس، وقال له :
- «سِرْ حتّى تلقى أَوَّل عسكر من عساكرهم، فشُنَّ فيهم الغارةَ، فإن رأَيتُ ما تحبُّ، وإلا فانصرف إليَّ، وإيَّاك أن تنزلَ، أَو ينزل أحدٌ من أصحابك».
فمضى المسيب، حتَّى لقي رجلاً أعرابيّاً يسوف أحمرةً. فقال :
- «عليَّ بالرَّجل».
فأُتي به، فقال:
- «كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم؟»
قال :
- «أدنى عسكرهم إليك عسكرُ ابن ذي الكُلاع، وبينه وبين الحصين بن نمير اختلاف، ادَّعى حُصينُ أَنَّه على جماعة النَّاس، وقال ابن ذي الكلاع: ما كنتَ لِتُولَّى عليَّ. وقد تكاتبا في ذلك إلى عبيد الله، فهما ينتظران أمره فهذا عسكر ابن ذي الكلاع على رأس ميل».
قال :
ص: 80
فتركنا الأعرابي، ومضينا مُسرعين، فوالله ما شعروا بشيء حتَّى أَشرفنا عليهم وهم غارون فحملنا إلى جانب عسكرهم، فوالله، ما ثبتوا وانهزموا، وخلوا لنا معسكرهم، فقتلنا منهم، وجرحنا، وأخذنا من المعسكر ما خفَّ علينا، وصاح المسيب فينا :
- «الرّجعة، الرّجعة، إنكم قد نُصرتم وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا».
فانصرفنا إلى سليمان.
وأُتي الخبرُ عبيدالله، فسرّح إلينا الحصين بن نمير مُسرعاً، حتَّى نزل في اثني عشر ألفاً، فخرجنا إليه وقد عبّى سليمان ميمنته وميسرته، ووقف في القلب، فلما دنَوا منا دعونا إلى الجماعة مع عبد الملك بن مروان، وإلى الدخول في طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فنقتله ببعض من قتله من إخواننا وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان وإلى أن نُخرج من بلادنا من آل الزبير، ثمَّ نردَّ الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين هم أولى بالأمر، فأبى القوم، وأبينا.
ثمَّ حملت ميمنتنا على ميسرتهم فهزمتهم، وحملت الميسرة، وحمل سليمان في القلب فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم، فكان الظفر لنا حتّى حجز الليلُ بيننا وبينهم، وقد أحجزناهم في عسكرهم.
فلما كان من الغد، صبحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلافٍ، أَمدَّهم بها عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله أنفذ إليه يشتمه، ويقول:
- «عملت عمل الأعمار، وضيَّعت مسالحك وعسكرك. سِرْ إلى الحصين بن نُمير، حتّى توافيه، فهو أَميرٌ للنَّاس».
فجاءَهُ مدداً، وغاديناهم القتال فاقتتلنا قتالاً لم يَرَ الشَّيب والمُردُ مِثلَه، وكان فينا قُصّاصٌ يقصون، ويحضون، ويقولون:
- «أبشروا عباد الله، فحُقّ لِمَن ليس بينه وبين لقاء الله، والرّاحة من أبرام الدُّنيا، وأذاها، إلا فراق هذه النّفس الأمارة بالسوء؛ أن يكون سخيّاً بفراقها مسروراً بلقاء ربه».
فاقتتلنا اليوم الثَّاني كقتال أمس، ثمَّ اقتتلنا اليوم الثَّالث مثل ذلك، إلى أن كثرنا أَهلُ الشَّام، وانعطفوا علينا من كل جانب.
فلما نظر سليمان إلى ذلك، قال:
- «عباد الله، من أراد البكور إلى ربِّهِ، والتّوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإليَّ».
ص: 81
وكسر جفن سیفه، ففعل معه ناس كثيرٌ مثل ذلك، ومشى النَّاس بالسُّيوف، مُصلتين، فقتلوا من أَهل الشَّام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا.
فلمّا رأى الحصين بن نمير صَبَرنا وبأسَنا، بعث رجالاً ترمي بالنَّبل، واكتنفهم الخيلُ والرِّجالُ. فقُتل سليمان، وأخذ الراية المسيَّبُ بن نجبة، فقاتل وأحسنَ وصَبَرَ صبراً لم يُرَ مثله، وقاتل قتالاً لم يُسمع بمثله، وما ظنَّ أَحدٌ أن رجلاً واحداً يقدر أن يُبلى ما أبلى، إلى أن قتل، وأخذ الراية عبد الله بن سعد.
قال :
فبينا نحن نُقاتل معه إذ جاء فرسان ثلاثة أنفذهم أهل المدائن على خيول مُقلمة تطوي المنازل يبشروننا بخروج أصحابنا من المدائن وخروج المثنى به محربة في أهل البصرة، والجميع نحو من خمسمائة فارس.
فقال عبد الله بن سعدٍ لما قالوا له : أبشر بمجيء إخوانكم :
- «ذلك لو جاؤونا ونحن أحياء».
قال :
فنظروا إلى ما أَساءَ أَعيُنَهم، ولم يلبثوا أَن قُتل عبد الله بن سعدٍ ونادينا عبد الله بن وال، وكان قد استُلحم في عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليهم رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثمَّ أقبل إلى رايته، فأخذها، ونادى الناس:
- «يا عباد الله، من أراد الحياة التي لا وفاة لها، والراحةَ الَّتي لا نصَبَ بعدها، والسرور الذي لا حُزنَ فيه، فإليَّ».
ثمَّ قاتلناهم، وكشفناهم، ثمَّ انعطفوا علينا، وكثرونا من كل جانب حتى ردُّونا إلى مكاننا الذي كُنَّا به ( قال : وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتوا فيه إلا من وجه واحدٍ) وحملت علينا خيل عظيمة فيها أدهم بن مُحرز عند المساء، فقُتل عبد الله بن وال، فنادينا رفاعة، وقُلنا :
- «أَمسك رايتك». فقال :
- «لا أُريدُها». قلنا :
- «إِنَّا لله، ما لَكَ؟» قال :
- «ارجعوا بنا، فلعل الله يجمعنا ليوم شرّ لهم».
فوثب إليه عبد الله بن عوف بن أحمر.
ص: 82
فقال :
- «أهلكتنا والله، لئن انصرفت ليركبُنَّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك من عند آخرنا، فإن نَجا مِنَّا ناج أخذه الأعرابُ وأهل القُرى فتقربوا به إليهم، فيقتل صبراً. ننشدك الله أن تفعل. هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليلُ قد غشينا هلم نقاتلهم على حالنا هذه، فإنَّا الآن مجتمعون ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خُيولَنا أَوَّل اللَّيل، فرمينا بها، فكان ذلك أَوَّل شأن حتّى نُصبحَ، فنسير على مهل، ويحمل الرجلُ منا جريحه، وينتظر صاحبَه، ويسير العشرة والعشرون، معاً، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتبع بعضهم بعضاً. ولو كان ما ذكرت لم تقف أُم على ولد، ولم يعرف رجلٌ وجه صاحبه ولم نُصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور».
فقال له رفاعة :
- «نعم ما رأيت».
وأخذ يُحمل.
فقال ابن أَحمر :
- «قاتل معنا ساعةً واحدةً رحمك الله ولا تُلق بيدك إلى التهلكة».
وما زال يناشده حتّى احتبس عليه، وتحدَّث الناس بما عزم عليه رفاعة من الرُّجوع، وكان لا تزال الجماعة تنادي :
- «عباد الله، روحوا إلى ربِّكم والله ما في شيء من الدنيا خلفٌ من رضا الله. قد بلغنا أَنَّ طائفة منكم يريدون الرجوع إلى ما خرجوا منه، وأن يركنوا إلى الدُّنيا التي قليلاً ما يلبثون فيها». ثم يحملون، فيقاتلون حتَّى يُقتلوا.
فلما أمسى النَّاس ورجع أهل الشام إلى معسكرهم، نظر رفاعة إلى كل رجل قد عُقر به، وإلى كلِّ جريح لا يعين على نفسه. فدفعه إلى قومه. ثم سار بالنَّاس ليلته كلها عبر الخابور، وقطع المعابر كلها وكان لا يمر بمعبر إلا قطعه. وأصبح الحصين، فوجدهم قد ذهبوا، وكان رفاعة قد خلف وراءهم أبا الجويرية في سبعين فارساً يسيرون وراء الناس فإذا سقط رحل حمله، وإذا سقط متاعُ قبضه حتّى يعرفه، فلم يزالوا كذلك حتَّر مرُّوا بقرقيسيا، فبعث إليهم زفرُ من الطَّعام والعلف مثل ما كان بعثه في المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطباء، وقال لهم :
- «أقيموا ما أحببتم فلكم عندنا الكرامة والمواساة».
ص: 83
فأَقاموا ثلاثاً ثم تزوَّدوا ما أَحبُوا، ورحلوا.
فاستقبلهم مددهم من البصرة ومن المدائن فتباكوا وتناعوا إخوانهم، وانصرف أهل البصرة والمدائن إلى بلدانهم، وقدم الناس الكوفة والمختار محبوس.
ووردت البشارة على عبد الملك بن مروان فأظهر سروراً عظيماً، وقال للنَّاس :
- «لم يبق بعد هؤلاء أَحدٌ عنده دفاع ولا امتناع».
لما انصرف النَّاس إلى الكوفة إذِ المختارُ محبوس فكتب من حبسه إلى رفاعة بن شداد :
- «أَمَّا بعد، فمرحباً بالعُصَب الذين عظَّم الله لهم الأجر، ورضي انصرافهم حين قفلوا. إنَّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفَّاهُ اللَّهُ، فجعل روحه مع أرواح الأنبياءِ والصدّيقين والشهداء والصَّالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تُنصرون. إِنِّي أَنَا الأمين المأمون المأمور، أنا أمير الجيش وقاتل الجبارين والمنتقم من الأعداء، والمقيد من الأوتارِ. فَأَعِدُّوا، واستعِدُّوا واستبشروا وأبشروا. أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى الطَّلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين، والسلام عليك».
وتحدث الناس بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فخرجا في النَّاس حتَّى أَتَيَا المختار، فأخذاه.
وفي هذه الأيَّام اشتدَّت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل نافع بن الأزرق.
لما اشتغل أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم، بسب مسعود بن عمرو، وكثرت جموع نافع بن الأزرق، فأقبل حتّى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عُبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة ويرفعه عن أرضها، حتّى بلغ مكاناً من أَرض الأهواز يقال له دولاب. فتهيأ النَّاس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عُبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمي، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عُبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي، ثمَّ التقوا، فاضطربوا، واقتتل النَّاس قتالاً لم يُرَ قطُّ أَشدُّ منه، فقُتل مسلم بن عبيس أمير أهل البصرة، وقُتل نافع بن الأزرق رأسُ الخوارج، وأَمَّر أَهلُ البصرة عليهم الحجاج بن باب، وأمرت الأزارقة عليهم عبد الله بن الماحوز، ثمَّ عادوا، فاقتتلوا أَشدَّ قتال فقُتل الحجَّاجُ بن باب أميرُ أَهل البصرة، وقتل
ص: 84
عبد الله بن الماحوز أميرُ الأزارقة. ثمَّ إِنَّ أهل البصرة أمروا عليهم ربيعة بن الأحرم التّميمي، وأمرت الأزارقة عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتَّى أمسوا وقد كره بعضهم بعضاً وملُّوا القتال. فإنَّهم لمتواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سريَّةٌ لهم جامةٌ لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس، فانهزموا، وقاتل أمير البصرة ربيعة بن الأحرم، فقُتل، وأخذ الراية حارثة بن بدر، فقاتل ساعة وقد ذهب عنه الناس، فقاتل من وراء النَّاس في حُماتِهم وأَهلِ الصَّبرِ منهم. ثمَّ أَقبل بالنَّاس حتّى نزل بهم منزلاً بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم، وراعهم، وامتنع نومهم.
وبعث ابن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي على تلك الحزَّة، فقدم، وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة ليس دونها كبير مانع.
فبينا الناس على حالهم تلك من الخوف والشدة، إذ قدم المهلب بن أبي صفرة من قبل عبد الله بن الزبير معه عهده على خراسان.
فقال الأحنفُ للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والناس عامة:
- «أَيُّها النَّاس، لا والله ما لهذا الأمر إلا المهلب، فاخرجوا بنا إليه نكلمه».
فخرج ومعه أشراف النَّاس، فكلموه في أن يتولى قتال الخوارج، فقال:
- «لا أفعل. هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، ولم أكن لأدع وجهي وأُقاتل دونكم». فدعاه ابن أبي ربيعة، فكلمه في ذلك، فقال له مثل ما قاله القوم للقوم ولم يُجبه.
ثمَّ اجتمع النَّاس، فأداروا بينهم الرَّأي، فاتَّفقوا مع ابن أبي ربيعة، أن يكتبوا على لسان ابن الزبير :
- «بسمِ اللَّهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم»
- «من عبد الله بن الزبير عبدِ الله أمير المؤمنين، إلى المهلب بن أبي صفرة، سلامٌ عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو».
أَمَّا بعد، فإنَّ الحارث بن عبدالله كتب إليَّ يذكر الأزارقة المارقة، وأنهم أصابوا جنداً للمسلمين كان عددهم جمّاً، وأشرافهم جماً، وأشرافهم كثيراً، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنتُ وجهتك إلى خراسان، وكتبتُ لك عليها عهداً، وقد رأيتُ حيثُ ذُكر أَمرُ هذه
ص: 85
المارقة أن تخرج إليهم، وتلي قتالهم، ورجوتُ أن يكون ميموناً طايرك، مباركاً على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فَسِرْ إليهم راشداً، فقاتل عدو الله وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنَّه لن يفوتك من سلطاننا خراسان، ولا غيرُ خراسان، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.».
فأُتي المهلب بذلك الكتاب فقرأه، فلما فهمه، قال:
- «فإني والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتُعطوني من بيت المال ما أَتَقوَّى به، ومن معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشَّرف من أحببتُ».
فقال جميع أهل البصرة :
: «ذلك لَكَ».
قال :
- «فاكتبوا على الأخماس بذلك كتاباً».
ففعلوا، إلا ما كان من مالك بن مسمع، وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها عليهم المهلب. فقال الأحنف وعُبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلب :
- «وما عليك أن لا يكتب لك مالك بن مسمع، ولا من تابعه من أصحابه إذا أَعطاك الذي أردتَ جميعُ أَهل البصرة، وهل يستطيع مالك خلاف جماعة الناس، أو له ذلك؟ انكمش أَيُّها الرَّجل واعزم على أمرك، وسِرْ إلى عدوك».
ففعل ذلك المهلب، وأَمر على الأخماس فأَمر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمر الحريش بن هلال السعدي على خُمس بني تميم.
وجاءت الخوارج حتَّى انتهت إلى الجسر الأصغر عليهم عبيد الله بن الماحوز فخرج إليهم المهلب في أشراف النَّاس وفرسانهم ووجوههم، فحاربهم عن الجسر ودفعهم عنه، فكان أوّل شيء دفعهم عنه البصرة، ولم يكن بقي لهم إلا أن يدخلوها، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثمَّ عبّى لهم، فسار في الخيل والرجال، فلما رأوا أن قد أَظلَّ عليهم وانتهى إليهم ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلةً بعد منزلةٍ، حتَّى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له : سُلّى وسُلبرى، فأقاموا به.
ولما بلغ حارثة بن بدر الغُداني أَنَّ المهلب قد أُمر على قتال الأزارقة، قال لمن اتبعه وبقي معه من الناس :
ص: 86
كرنِبُوا ودَولِبُوا *** وحيثُ شِئتُم فاذهبوا *** قد أُمِّر المُهلَبُ
فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلب. ولما نزل المهلب بالقوم، خندق عليه، ووضع المسالحَ، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافهم والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكَّلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيت المهلب وجدوا أَمراً محكماً وثيقاً شديداً، فرجعوا ولم يُقابلهم إنسان قط كان أشد عليهم منه، ولا أغيظَ لقلوبهم منه.
فمن ذلك أَنَّهم بعثوا عُبيدةَ بن هلال والزبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلاً إلى معسكر المهلب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وعبيدة من جانبه الأيسر، ثُمَّ كَبَّروا وصاحوا بالنَّاس، فوجدوهم على تعبئتهم ومصافهم حَذِرين مُعَدِّين. فلما ذهبوا ليرجعوا، ناداهم عُبيد الله بن زیاد بن ظبيان فقال:
وَجَدتُمونا وُقُراً أَنجاداً *** لا كُشُفاً خوراً ولا أوغادا
فردوا عليه وتشاتموا. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب على تعبئتهم، وأخماسهم، ومواقفهم، وخرجت الخوارج على مثل ذلك من التعبئة، إلا أَنهم أَحسنُ عُدَّةً، وأكرم خيولاً، وأكثر سلاحاً من أهل البصرة، وذلك أَنَّهم مخروا الأرض وجرَّدوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاؤُوا وعليهم مَغافر تُضرب إلى صدورهم، وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زَرد يشدونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، والتقى الناسُ، وقاتلوا كأَشدّ القتال فصبر بعضُهم لبعض عامَّة النَّهار.
ثمَّ إِنَّ الخوارج شدّت على النَّاس أجمعها شدَّةً مُنكرة، فأَجفل النَّاس وانصاعوا منهزمین لا يلوي امرؤ على ولد، حتّى بلغ البصرة هزيمةُ النَّاس، وخافوا السَّبي، وأسرع المهلبُ حتّى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب سَنَنِ المنهزمين، ثمَّ نادى النَّاسَ :
- «إليَّ إليَّ عبادَ الله!».
فتاب إليه جماعة من قومه وثاب إليه سارية بن عمان، حتَّى اجتمع إليه نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلما نظر إلى من اجتمع، رَضِيَ جماعتهم، فحمد الله وأَثْنَى عليه، ثم قال :
- «أَمَّا بعد، فإنّ الله يَكِل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيُهزمون، ويُنزل النَّصرِ على الجمع اليسير فيظهرون ولعمري ما بكم الآن من ِقلَّةٍ، إنّي لجماعتكم لراضِ، وَلأَنتم والله أَهلُ الصَّبر وفرسانُ أَهل المصر، وما أُحبُّ أَنَّ أَحداً ممن انهزم معكم. لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً. عزمت على كل امرئ منكم لما أخذ عشرة أحجار معه، ثمَّ
ص: 87
امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنَّهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو ألا ترجع خيلهم حتّى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم».
فقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به، ثم أقبل بهم زحفاً، فلا والله ما شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم في جانب عسكرهم، ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم السّلاح والدروع كاملاً، فيأخذ الرَّجل من أصحاب المهلب يستعرض وجه الرَّجل بالحجارة فيرميه حتّى يثخنه، ثمَّ يطعنه برمحه، ويُضاربه بسيفه، فلم يُقاتلهم إلا ساعةً حتَّى قُتل عبيد الله بن الماحوز، وضرب الله وُجوهَ أَصحابه، وأخذ المهلب عسكر القوم وما فيه، وقُتل الأزارقة قتلاً ذريعاً، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة منهم راجعاً وقد وضع لهم المهلب خيلاً ورجالاً في الطَّريق تختطفهم وتقتلهم. فانكفأوا راجعين مفلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. وأقام المهلب بالأهواز، وانصرف الخوارج على تلك الحال من الفلول وقلة العدد حتى جاءتهم مادة لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وأصبهان، وأقام المهلب، فلم يزل ذلك مكانه حتّى جاء مصعب إلى البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها، وكتب المهلب بالفتح كتاباً بليغاً.
وفي هذه المدة التي جرى ما حكيناه، كان المختار يحتال من محبسه ويُراسل الشيعة، حتى اجتمعوا له، فراسله وجوههم مثل رفاعة بن شداد، والمثنى بن محرّمة، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شداد، وقالوا له :
- «نحن لك بحيث يسرُّك، فإن شئتَ أن نأتيك حتّى نُخرجك، فعلنا».
فسُرَّ المختارُ باجتماعهم له وقال :
- «لا تُريدُوا هذا، فإني خارج في أَيَّامي هذه».
قال :
وكان المختارُ قد بعث غُلاماً له يُدعى رزيناً، إلى عبد الله بن عُمر يسأَله أَن يشفع له، فكتب له عبد الله بن عُمر كتاباً لطيفاً إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمَّدٍ يقول فيه :
- «قد علمتما ما بيني وبين المختار بن أبي عبيد من الصهر، فأقسمت عليكما بحقِّ ما بيني وبينكم لما خليتما سبيله».
فلَمَّا قَرَءَا كتابه، أرسلا إلى المختار وكفَّلاه من قوم، وحلفاه بالذي لا إله إلا هو
ص: 88
عالم الغيب والشهادة، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فَعلَ فعليه أَلفُ بدنةٍ ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلُّهم ذَكَرُهم وأُنثاهم أَحرارٌ. فحلف لهم بذلك.
فكان المختار بعد ذلك يقول :
- «قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم باليمين التي حلفونيها. أما يميني لهم بالله، فإنَّه ينبغي لي إذا حلفتُ على يمين، فرأيتُ ما هو خيرٌ منها، أَن أَدعَ ما حلفتُ عليه، وآتِيَ الَّذي هو خيرٌ، وأُكفِّرَ عن يميني وأَمَّا هذه البدنةُ فأهون عَليَّ من بَصقةٍ، وما ثمن أَلف بدنةٍ مِمَّا يَهولُني، وأَمَّا عِتقُ مَوالِيَّ،، فوالله، لوددتُ أَنَّه قد استتب لي أمري ثمَّ لم أملك مملوكاً أبداً».
ثمَّ اختلفت الشيعة إلى المختار ولم يزل يُبايعُ له ويَقوى أَمرُه حَتَّى عزل ابنُ الزبير عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة، فقدِمَ عبد الله بن مطيع وطلب المختار، وبعث إليه من يَثِقُ به ليأتيه به، فتمارض المختار، وألقى عليه قطيفة وجعل يتقفقفُ. فأقبل صاحب عبد الله بن مُطيع وأَخبرهُ بعِلَّتِهِ، فصدقه، ولهى عنه. وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم في الدُّور حولَهُ ويُواطِئ أصحابه على الوثوب بالكوفة في المحرَّم ويدعوهم إلى المهدي محمد ابن الحنفية، ويزعم أنه وزيره وخليله والشيعة مجتمعة له.
فتلاقي القوم يوماً، فاجتمع رُؤساؤُهم في منزل سعر بن أبي سعر الحنفي وفيهم عبد الرحمن بن شريح، وكان عظيم الشرف وسعيد بن منقذ، والأسود بن جراد، وقدامه بن مالك الجُشَميُّ، وقالوا :
- «إنَّ المختار يُريد أن يخرج بنا وقد بايعناه ولا ندري : أرسله إلينا محمد ابن الحنفية أم لا ؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية، فَلنُخبره بما قدم علينا وما دعانا إليه، فإن رخص لنا في اتِّباعه اتَّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه».
فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية وإمامُهم عبد الرَّحمن بن شُريح.
قال الأسود بن جراد: فقلنا لابن الحنفية :
- «إنَّ لنا إليك حاجة».
قال :
- «أَفَسِرٌّ هي، أم علانية؟».
فقلنا :
- «لا، بل هي سِرٌّ».
ص: 89
قال :
- «فرويداً إذاً».
فمكث قليلاً، ثم تنحى عن مجلسه، وانفرد، فدعانا، فقُمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَمَّا بعد، فإنَّكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرَّفكم بالنُّبُوَّة، وعظم حقَّكم على هذه الأمة، فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرّأي، منحوس النصيب، وقد أُصِبتم بالحسين - رحمة الله عليه - فخَصَّتكم مصيبته وقد عمت المسلمين. وقدم علينا المختار يزعم أنَّه قد جاءَنا من تلقائكم، ودعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك، ثمَّ رأينا أن نأتيكَ فنذكر لك ما دعانا إليه، فإن أمرتنا باتِّباعه اتَّبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه».
ثمَّ تكلّمنا واحداً واحداً وهو يستمع، حتّى إذا فرغ من الاستماع وفرغنا من الكلام، حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي محمد (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) ثم قال :
- «أَمَّا بعدُ، فإنَّكم ذكرتم ما خصنا الله به من فضله، وإِنَّ اللَّهَ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذو الفضل العظيم، فله الحمد. أما ما ذكرتم من مصيبتنا بالحسين، فإنَّ ذلك كان في الذكر الحكيم، وهي مَلحَمَةٌ كُتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع الله بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وأما ما ذكرتم من دُعاءِ مَن دَعَاكم إلى الطلب بدمائنا، فوالله لودِدْتُ أَنَّ الله انتصر لَنا من عدونا بمن شاءَ من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
قال : فخرجنا من عنده ونحن نقول : قد أذن لنا، ولو كره لقال : لا تفعلوا!.
قال : فجِئْنا وقومٌ من الشيعة، ينتظرون مقدمنا مِمَّن كُنّا أَعلمناهُ مَخرجنا وأطلعناهُ على ذات أنفسنا ممَّن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختارَ مَخرجُنا، فشقّ ذلك عليه، وخَشِيَ أن نأتيه بأمرٍ يخذل الشّيعة عنه، وكان قد أرادهم علي أن ينهض بهم قبل مقدمنا فلم يتهيأ له ذلك، فلم يكن إلا شهراً وزيادة شيء حتى أقبل القوم على رواحلهم، ودخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم :
- «ما وراءكم؟ قد فُتِنتم وارتبتم ؟».
فقالوا له :
- «قد أُمرنا بنصرتك».
فقال :
- «الله أكبر، أنا أبو إسحاق اجمعوا لي الشيعة».
ص: 90
فجُمع له منهم من كان قريباً فقال :
- «يا معشر الشيعة، إنَّ نفراً منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئتُ به، فرحلوا إلى إمام الهدى والنجيب المرتضى، وابن خير من مشى، حاشى النبي المصطفى، فسأَلوهُ عمَّا قدمت له عليكم فنبَّأَهم أني وزيره وظهيره ورسوله وخليله وأمركم باتباعي وطاعتي».
فقام عبد الرحمن بن شريح فقال :
- «يا معشر الشيعة، إنَّا كُنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة، ولجميع إخواننا عامةً، فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا، وعما دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته، فأقبلنا طيّبة أنفسنا، منشرحةً صدورنا، قد أذهب الله منها الشَّك والغِلَّ والرَّيب، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدوّنا، فليبلغ هذا شاهدكم غائبكم، واستعدوا، وتأهبوا».
ثمَّ جلس وقمنا رجلاً رجلاً، فتكلمنا بنحو من كلامه فاستجمعت له الشيعة، وحدبت عليه.
قال عامر الشعبي : كنتُ أَنا وأبي أَوّل من أَجاب المختار، فلما تهيَّأَ أَمره ودَنا خروجه. قال له أحمر بن شميط، ويزيد بن أنس، وعبد الله بن شداد:
- «إن أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، ونحن نضعف عنهم، فلو جاء مع أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله، القُوَّةَ على عدونا، فإنَّه فتى بئيس وابن رجل شريف بعيد الصّوت، وله عشيرة ذات عرٍّ وعدد».
فقال لهم المختار :
- «فالقوه وادعُوه وأَعلِمُوه ما أُمرنا به من الطلب بدم الحسين».
قال الشعبي : فخرجوا إليه وأنا فيهم وأبى وتكلم يزيد بن أنس، فقال له :
- «إِنَّا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيراً لك، وإن تركته فقد أدينا إليك النصيحة، ويجب أن تكون عندك مستوراً».
فقال له إبراهيم بن الأشتر :
- «مثلي لا تُخاف غائلتُهُ وسِعايتُهُ، ولا التَّقرب إلى السلطان باغتياب النَّاس، وإنَّما
ص: 91
أُولئك، الصغار الأخطار الدقاق هِمَماً».
فقالوا له :
- «إنا ندعوك إلى أمر قد أجمع رأي الملأ من الشيعة، كتاب الله، وسنة نبيه، والطَّلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء».
وتكلم أحمر بن شميط، فقال له :
- «إنِّي ناصحٌ ولِحظُكَ مُحب، وإِنَّ أَباك قد هلك وهو سيد الناس، وفيك منه خلف إن رعيتَ حقّ الله وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في النَّاس، وأحييتَ أَمراً قد مات. إنّما يكفي مثلك اليسير حتّى يبلغ الغايةَ التي لا مذهبَ وراءها».
ثمَّ أَقبل عليه القوم يدعونه ويُرَغِّبونَهُ.
فقال لهم إبراهيم :
- «فإنِّي أُجيبكم إلى الطَّلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولُّوني الأمر».
فقالوا :
- «أنت لذلك أَهل ولكن ليس إلى ذلك سبيل. هذا - قد جاءنا من قبل المهدي، وهو الرَّسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته».
فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يُجبهم، وانصرفنا من عنده إلى المختار وأخبرناه، فغبر ثلاثاً.
ثمَّ إنَّ المختار دعا بضعة عشر رجلاً من وُجوه أصحابه - قال الشَّعبي - وأنا وأبي فيهم، فسار بنا، ومضى أمامنا يقدُّ بنا بيوت الكوفة قداً لا ندري أين يُريد، حتَّى وقف بنا على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنا عليه، فأذن لنا وأُلقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها، وجلس المختار معه على فراشه.
فقال المختار بعد أَن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمّدٍ (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) :
- «أَمَّا بعد، فإنَّ هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن علي أمير المؤمنين الرّضا، وهو اليوم خير أهل الأرض، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد الأنبياء، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجَّةٌ عليك، وسيُغني الله المهدي محمداً وأولياءه عنك».
قال الشعبي : وكان المختار قد دفع الكتاب إليَّ حين خرج من منزله، فلما قضى كلامه قال لي :
ص: 92
93
- «دفع الكتاب إليه».
فدفعته إليه، فدعا بالمصباح، وفض خاتمه، ثم قرأ فإذا هو :
- «بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمد المهدي إلى إبراهيم بن الأشتر، سلامٌ عليك، فإنِّي أَحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإني قد بعثتُ إليكم بوزيري وأميني ونجيبي الذي ارتضيتُ لنفسي المختار، وقد أمرتُه لقتالِ عدوِّي والطَّلب بدماءِ أهل بيتي فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومَن أطاعك، فإن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك به فضيلة عندي ولك بذلك أَعِنَّةُ الخيل، وكلُّ جيش غاز، وكلُّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه في ما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، عليَّ بالوفاء به، عهد الله وميثاقه، فإن فعلتَ نِللتَ به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكتَ هلاكاً لا تستقيله. والسَّلام».
فلما قرأ إبراهيم الكتاب، قال:
- «قد كتب إليَّ محمد ابن الحنفية وكتبتُ إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إليَّ إلا باسمه واسم أبيه».
قال له المختار :
- «إن ذلك زمانٌ وهذا زمانٌ».
قال إبراهيم :
- «فمَن يعلم أن هذا كتاب محمد ابن الحنفية إليَّ ؟».
فقال له يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعةٌ.
- «نشهدُ كُلُّنا أَنَّ هذا كتاب محمد ابن الحنفية».
قال الشعبي : فشهدوا كلُّهم إلا أَنا وأبي. قال : فتأخر عند ذلك إبراهيم عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وقال:
- «ابسط يدَكَ أُبايعك».
فبسط المختار يَدَهُ، فبايعه. قال الشَّعبي : ثم دعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا لَنا بشرابِ من عسل، فشربنا، ثمّ نهضنا وخرج معنا ابن الأشتر، فركب المختار، وركب معه حتَّى دخل رحلَهُ.
فلما رجع إبراهيم منصرفاً أخذ بيدي، فقال لي :
- «انصرف بنا يا شعبي».
ص: 93
قال : فانصرفتُ معه، ومضى بي حتى دخل رحله، وقال:
- «يا شعبي، إنّي قد حفظتُ أَنَّك لم تشهد أنت ولا أبوك أفترى هؤلاء شهدوا على غير حق؟».
قال، فقلت :
- «قد شهدوا على ما رأيت، وهم سادةُ القُرَّاءِ، ومشيخة المصر، وفرسان العرب ولا أَرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقاً».
قال :
فوالله لقد قُلْتُ هذه المقالة وأنا لهم مُتَّهم على شهادتهم، غير أَنِّي يُعجبني الخروج وأَنا أَرى رأي القوم، وأُحِبُّ تمام ذلك الأمر، فلم أُطْلِعه على ما في نفسي من ذلك.
فقال لي إبراهيم بن الأشتر :
- «اكتب لي أسماءهم، فإنِّي ليس كلهم أعرفُ».
ودعا بصحيفة ودواة، فكتب فيها :
- «بسم الله الرَّحمنِ الرَّحيم. هذا ما شهد عليه السّائب بن مالك الأشعري، وزيد بن أنس الأسدي، وأحمر بن شميط الأحمسي، ومالك بن عوف النهدي.. (حتَّى أَتى على أسماء القوم، ثمَّ كتب : ) شهدوا أَنَّ محمَّد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المُحِلِّين، والطَّلب بدماء أهل البيتِ، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا بهذه الشَّهادة شراحيل بن عبد الله، وهو أبو عامر الشعبي الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الله محمد النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي».
فقلت :
- «ما تصنع بذلك - رحمك الله - فقال :
- «دَعْهُ يكونُ».
قال : ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه وأقبل يختلف إلى المختار».
قال هشام، قال أبو مخنف :
فكان إبراهيم يروح كلَّ عشيَّة عند المساء إلى المختار، فيمكثُ عنده حتّى تصوبَ النجوم، ثمَّ ينصرف. فمكثوا بذلك يدبرون أمرهم، حتّى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا
ص: 94
ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين، ووَطَّنَ على ذلك شيعتهم ومَن أجابهم.
فلما كان عند غروب الشمس قام إبراهيم بن الأشتر، فأَذَّنَ، ثمَّ استقدم، فصلى بنا المغرب، ثمَّ خرج بنا بعد المغرب حين قلت : أخوك أو الذئب، وهو يريد المختار، فأَقبلنا علينا السِّلاحُ.
وقد كان أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال له :
- «إنَّ المختار خارج إحدى الليلتين».
فخرج إياس في الشرطة، وكان إياس أشار على ابن مطيع، فقال له :
-
قد بعثتُ ابني إلى الكُناسة، فابعث في كلِّ جبانة عظيمة بالكوفة رجلاً من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة ليهابَ المريبُ الخروج عليك».
فبعث ابن مطيع عبدَ الرَّحمن بن سعيد بن قيس إلى جبَّانة السَّبَيع، وقال :
- «اكفني قومَكَ، ولا أُوتَيَنَّ من قِبَلِكَ».
وبعث بجماعة يجرون مجراه إلى الجبابين ووصاهم أَن يكفيه كل رجل قومَهُ، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال:
- «إذا سمعت صوت القوم توجه نحوهم».
فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين، فنزلوا الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار وقد بلغه أن الجبابين قد حُشِيتْ رجالاً وأَنَّ الشُّرَطَ قد أحاطت بالسُّوق والقصر.
فقال حميد بن مسلم - وكان صديقاً لإبراهيم بن الأشتر يصير كل ليلة إلى المختار :
خرجتُ مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثَّلاثاءِ حتّى مررنا بدار عمرو بن حريث ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو مائَةٍ علينا الدروعُ قد كفرنا عليها بالأقبية ونحن متقلدو السُّيوف ليس معنا سلاح غيره، فقلت لإبراهيم:
- «خذ بِنا في الأزقة وتجنَّب السُّوق».
وأَنا أَرى أَنَّه يأخذ على ناحية بجيلة ويخرج إلى دار المختار، فلا يلقانا من نكترث له.
وكان إبراهيم فتى حدثاً شجاعاً فكان لا يكره أن يلقاهم، فقال:
ص: 95
«والله، لأَمُرَّنَّ على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السيوف، فلأُرعِبَنَّ عدونا ولأُرينَّهم هوانهم علينا».
قال : فأخذنا على باب الفيل. ثمَّ على دار عمرو بن حريث حتى إذا جاوزناها لقينا إياس بن مُضارب في الشرطة مُظهرين السلاح، فقال لنا :
- «من أنتم؟» فقال :
- «إبراهيم بن الأشتر».
فقال له ابن مضارب :
- «ما هذا الجمع الذي معك، وما تُريد ؟ والله إنَّ أَمرك لمريب، ولقد بلغني أَنَّك تمرُّ كلَّ عشيَّة،هاهنا، وما أنا بتاركك حتَّى آتي بك الأمير، فيرى فيك رأيه».
فقال إبراهيم :
- «لا أباً لغيرك، خلِّ سبيلنا». قال :
- «كلا والله، لا أفعل».
ومع إياس رجل من هَمْدان يُقال له: أبو قَطَن كان يصحب أُمَراءَ الشَّرطة، فهم يكرمونه ويوثرونه وكان صديقاً لابن الأشتر، فقال ابن الأَشتر :
- «يا أبا قَطَنِ، ادْنُ مني».
ومع أبي قطن رمح طويل، فدنا أبو قطن منه ومعه الرمح وهو يرى أَنَّ ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب، ليُخلي سبيله. فقال إبراهيم، وتناول الرمح من يده :
- «إنَّ رمحك هذا لطويلٌ».
ثمَّ حمل به إبراهيم بن الأشتر على ابن مضارب فطعنه في ثغرة نحره، فصرعه، وقال لرجل من قومه :
«انزل، فاحتزَّ رأسَه».
فنزل إليه، فاحتزَّ رأسه، وتفرَّق أصحابه، ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنَه راشداً مكان أبيه على الشرط، وبعث مكان راشد بن إياس سُويد بن عبد الرَّحمن المنقري تلك الليلة، وأقبل إبراهيم الأشتر إلى المختار ليلة الثلاثاء، فدخل عليه، فقال له إبراهيم :
- «إنَّا اتَّعدنا للخروج ليلة الخميس وقد حدث أمرٌ لا بُدَّ من الخروج الليلةَ».
قال المختار :
- «وما هو ؟» قال :
ص: 96
- عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته وهذا رأسُهُ مع أصحابي على الباب».
فقال المختار :
- «فبشرك الله بخير، فهذا طائرٌ صالح، وهو أَوَّل الفتح، إن شاءَ اللَّهُ».
ثم قال المختار :
- «قم يا سعيد بن منقذ، فأَشعِل النَّارَ في الهرادي، ثمَّ ارفعها للمسلمين، وقُمْ يا عبد الله بن شداد فنادِ یا منصورُ أَمِتْ، وقُمْ أَنت يا قدامة بن مالك، فنادِ : يا لَثاراتِ الحسين».
ثم استدعى المختار درعه وسلاحه، فأُتِيَ به، فليسه
فقال إبراهيم للمختار :
- «إِنَّ هؤلاء الرُّؤوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين، يمنعون إخواننا أن يأتونا ويُضيقون عليهم، فلو أَنِّي خرجتُ بمن معي حتّى آتِيَ قومي فيأتيني كلُّ مَن بايعني منهم، ثمَّ سِرتُ بهم في نواحي الكوفة، ودعوتُ بشعارنا، فخرج إليَّ من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من النَّاسِ، فمَن أَتاك من الناس حبسته عندك إلى من معك، ولم تفرقهم، فإن عُوجلت وأُتيتَ، كان معك من تمتنع به، وأنا لو قد فرغتُ من هذا الأمر عجلتُ إليك في الخيل والرِّجال».
قال له :
- «فاعجل، وإيَّاك أن تسير إلى أميرهم تُقاتله، ولا تُقاتل أحداً وأنت تستطيع ألَّا تقاتل، واحفظ ما وصيتكَ به، إلا أن يبدأك أحدٌ بقتال».
فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها حتَّى أَتى قومه، فاجتمع إليه جُلُّ مَن كان بايعه وأجابه. ثمَّ إنَّه سار بهم في سكك الكوفة طويلاً وهو يتجنّب السكك التي فيها الأمراء حتّى انتهى إلى مسجد السكون. فعجلت إليه خيل لزَحْر بن قيس، فشد عليهم إبراهيم وأصحابه، فكشفوهم حتَّى انتهوا إلى زحْر بن قيس، فانصرف عنهم وركب بعضهم بعضاً كلما لقيهم زقاق دخل فيه منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون، ثمَّ خرج إبراهيم يسير حتّى انتهى إلى جبّانة أثير، فوقف فيها طويلاً ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانَهم في جبانة أثير، فرجا أن يُصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة.
لما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه :
- «يا شرطة الله انزلوا إلى هؤلاءِ الفُسّاق الذين خاضوا في دماء أهل بيت
ص: 97
رسول الله(صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)».
فنزلوا، ثمَّ شدَّ عليهم إبراهيم فضربهم حتى أخرجهم إلى الصَّحراء، و ولوا منهزمين يركب بعضهم بعضاً وهم يتلاومون، فيقول قائل منهم :
- «إنّ هذا لأمرٌ يُراد ما يلقون لنا جماعةً إلَّا هزمونا».
ولم يزل إبراهيم يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة.
وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم:
- «أتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرُّعب، فقد علم الله إلى من تدعو وما تطلب، وإلى ما يدعون وما يطلبون». قال :
- «لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتّى يؤمن الله بنا وحشتَه ويكون من أَمره على علم، ويعرف هو أيضاً ما كان من غنائنا فيزداد هو وأصحابه قوَّةً وبصيرة إلى قواهم وبصائرهم، مع أنِّي لا آمَنُ أَن يكون قد أُتِيَ».
فأَقبل إبراهيم في أصحابه، فلما أتى دار المختار وجد الأصوات عالية والقوم يقتتلون وقد جاء شبث بن ربعي من قِبَل السَّبِخة فعبى له المختار والناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قِبَل القصر، فبلغ حجاراً وأصحابه أنَّ إبراهيم قد جاءَهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم وذهبوا في الأزقة والسكك، وحملت طائفة من أصحاب المختار على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلَّى لهم الطَّريق حتَّى اجتمعوا جميعاً. ثمَّ اضطر شبثٌ إلى أن ترك لهم السِّكة.
وأقبل شبت حتى أتى ابن مطيع، فقال له :
- «ابعث إلى أمراء الجبابين ليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم، وابعث إليهم مَن تَثِقُ به فليكفِكَ قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي وقد ظهر المختار، واجتمع له أمره».
وبلغ ذلك المختار من مشورة شبث على ابن مطيع فخرج في جماعة من أصحابه حتّى نزل في ظهر دير هندٍ ممَّا يلي بُستان زائدة في السَّبخَةِ، وخرج أبو عثمان النهدي، فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم يخافون أن يظهروا في الميدان القرب كعب بن أبي كعب منهم. وكان كعب هذا قد أخذ عليهم بأفواه السكك حين بلغه أَنَّهم يخرجون، وسَدَّ طرقهم. فلما أتاهم أبو عثمان النهدي في عصابة من أصحابه، نادى :
- «يا لثارات الحسين، يا منصورُ أَمِتْ، يا أَيُّها الحيُّ المهتدون، أَلا إِنَّ أمين آل محمد قد خرج، فنزل دير هند، وبعثني دعياً ومبشراً، فاخرجوا إليه، رحمكم الله».
فخرج القوم من الدور يتداعون :
ص: 98
- «يا لثارات الحسين».
ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتَّى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتّى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قُرادِ في جماعة من خثعم نحو المائتين، حتى لحق بالمختار، ونزلوا معه في عسكره وقد كان عرض لهم كعب بن أبي كعب فلما عرفهم ورأى أَنهم قومُه خلّى عنهم ولم يُقاتلهم، وخرجت شبام إليهم فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من جملة اثني عشر ألفاً كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته.
ثمَّ إِنَّ ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب:
- «نادِ في الناس فليأتوا المسجد».
فنادى المنادي :
- «ألا برثَتِ الذِّمَّةُ من رجل لم يحضر المسجد الليلة».
فتوا في النَّاس في المسجد، فلما اجتمعوا، بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلافٍ من الشَّرَط.
فسرَّح المختار إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة مقاتل، ويقال:
في ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نُعيم بن هبيرة أَخا مَصقَلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل نحو شبث، وقال لهما :
- «امضيا حتَّى تلقيا عدوّكما، وإذا لقيتماهم، فانزلا في الرّجال وعجلا القِراعَ، وابدآهم بالإقدام ولا تستهدفا لهم فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إليَّ حتّى تظهرا، أو تُقتَلا».
فتوجه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد وقدَّم - يزيد بن أنس في تسعمائة، أمامه، وتوجّه نُعيم بن هبيرة قِبَل شبث.
فقال سعر بن أبي سعر : لما انتهينا إلى شبث قاتلناه قتالاً شديداً، فجعل نعيم بن هبيرة يُضاربهم حتَّى أشرقت الشمس، وضربناهم حتّى أدخلناهم البيوت، فسمعتُ شبث بن ربعي ينادي أصحابه :
- «يا حماة السُّوءِ، بِئسَ فُرسان الحقائق أنتم، أمن عبيدكم تهربون؟».
قال : فثابت إليه منهم جماعةٌ، فشدَّ علينا وقد تفرّقنا وهُزمنا. فصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر بن أبي سعر فأُسِر، وأُسِرتُ أنا وأُسر خُليدٌ مولى حسّان، وأُسِر أَبو سعيد الصَّيقل.
ص: 99
قال : فسمعتُ أَبا سعيد الصَّيقل هذا يقول : سمعتُ شبث بن ربعي يقول لخليد :
- «مَن أنت؟». قال :
- «خليدٌ مولى حسانٍ».
فقال له شبت :
- «يَابنَ المتكاءِ، تركت بيعَ الصّحناء بالكناسة، وكان جزاء مَن أَعتقك أن تعدو عليهم بسيفك تضرب رقابهم. اضربوا عُنُقَه».
فقتل، ورأى سعراً الحنفي، فعرفه، فقال:
- «أخو بني حنيفة؟»، فقال:
- «نعم». فقال :
- «ويحك! ما أردتَ إلى اتباع هؤلاء السَّبائية، قبح الله رأيك؟ دَعُوا إِذا».
فقلتُ في نفسي: قتل المولى وترك العربي، إن علم أَنَّي مولى قَتَلَني، فلمَّا عُرِضَتُ عَليهِ، قال: «مَن أَنتَ؟» فقُلتُ :
- «من بني تيم الله»، قال:
- «أعربيٌّ أَنتَ أَم مولى»، فقلتُ :
- «لا، بل عربي، أنا من آل زياد بن أبي حفصة»، فقال:
- «ذكرت الشَّرفَ المعروف، الحَقْ بأهلك».
فأقبلتُ حتَّى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي بصيرة في قتال القوم، فجئتُ إلى المختار، وقد وضعتُ في نفسي أن آتي أصحابي حتّى أُقتل معهم أو أظفر بظفرهم.
قال : فأَتيتُه وقد سبقني إليه سعر الحنفي وجاءَهُ قتلُ نُعيم وأقبلت إليه خيل شبث، ذلك فدخل من أصحاب المختار أَمرٌ كبيرٌ.
قال : فدنوت من المختار، فأخبرته بما كان من أمري، فقال لي:
- «اسكت فليس هذا بمكان الحديث».
وجاءَ شبثٌ حتّى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس، وكان ابن مطيع أنفذ ابن رُوَيمِ في ألفين من قبل سكة لحام، فوقفوا في أفواه تلك السكك، وجعل المختار يزيد بن أنس على خيله، وخرج هو في الرجالة.
قال : فحملت علينا خيلُ شبث حملتين فما يزول رجل منا من مكانه، فقال يزيد بن أنس لَنا :
ص: 100
- «يا معشر الشيعة، قد كنتم تُقتلون، وتُقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل عُيونكم، وتُرفعون على جذوع النخل في حُبِّ أهل بيتِ نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوّكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم، إذا والله لا يَدعون منكم عيناً تَطرِفُ، ولَيَقتُلُنَّكم صبراً، ولَتَرُونَّ في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموتُ خيرٌ منه. والله، لا يُنجيكم منهم إلا الصِّدقُ والصَّبرُ والطَّعنُ الصَّائب في أعينهم، والضَّربُ الدِّراك على هامهم، فتيسروا للشدة، وتهيَّأُوا للحملة، فإذا حرَّكتُ رأسي مرتين فاحملوا».
فتهيَّأنا، وجثونا على الرّكب، وانتظرنا أَمرَه.
وكان إبراهيم بن الأشتر حين توجّه إلى راشد، لقيه في مُرادٍ، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه :
- «لا يهولنَّكم كثرة هؤلاء، فوالله لَرُبَّ رجل خير من عشرة، ولَرُبَّ فِئَةٍ قليلةٍ غَلَبَتْ فِئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين».
ثم قال :
- «يا خزيمة بن نصر، سِرْ إليهم في الخيل».
ونزل هو يمشي في الرجال، واقتتل النّاس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه فقتله، ثم نادى :
- «قتلت راشداً وربِّ الكعبة».
وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار، وبعث إليه من يُبشِّره بالفتح عليه. فلما جاءَهم البشير، كبَّروا، واشتدَّت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرَّح ابن مطيع حسان بن قائد بن بكير العبسي في جيش كثيف، فاعترض إبراهيم ليردَّه بالسَّبخة، فقدم إبراهيمُ خزيمة بن نصر إلى حسان بن قائد في الخيل ومشى إبراهيم نحوه في الرّجال فانهزموا وتخلّف حسان بن قائدِ في أُخريات النَّاس يحميهم، وحمل عليه خزيمة، فلما رآه عرفه، فقال له :
- «یا حسان قد عرفتك، فالنَّجا»
فعثر لحسان فرسه، فوقع، فقال:
- «لعاً لك أَبا عبد الله».
وابتدره النَّاس، فأحاطوا به، فضاربهم ساعة بسيفه.
فناداه خزيمة :
- «إنك آمن يا عبد الله، لا تقتل نفسك».
ص: 101
وجاءَ حتّى وقف عليه، ونَهْنَهَ النَّاسَ عنه، ومرَّ به إبراهيم.
فقال خزيمة :
- «هذا ابن عمي، وقد آمنتُه».
فقال إبراهيم :
- «أحسنت».
وأمر خزيمة بفرسه حتّى أُتِيَ به فحمله عليه، وقال:
- «الحق بأَهلك».
وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبت محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلمَّا رَعَاهُ يزيد بن الحارث وهو على أفواه السكك التي تلي السَّبخة، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه. فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال:
- «أغن عنَّا يزيد بن الحارث».
وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي فلمَّا رَءَاه أَصحاب شبتٍ، أخذوا ينكصون وراءهم رويداً رويداً، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه حمل عليهم، فانكشفوا حتَّى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم، فهزمه وازدحم القوم على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة النَّاس إلى يزيد بن الحارث فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك، رَمَتْهُ تلك المرامية بالنبل، فصدُّوهم عن دخول الكوفة، ورجع الناس من السَّبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءَ قتل راشد بن إياس، فسقط في يديه، فقال عَمْرُو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع :
- «أَيُّها الرَّجل لا تُسقط في خلدك ولا تُلق بيديك، اخرج إلى النَّاس فاندبهم إلى عدوك، فإنَّ النَّاس كثير عددهم وكلهم معك إلا هؤلاء الطَّائفة التي خرجت عليك، واللَّهُ مُخزيها وأَنَا أَوَّل منتدب، فاندب معي طائفة ومع غيري طائفة».
فخرج ابن مطيع، فخطب النَّاس وحضهم، وقال في خطبته :
- «أَيُّها النَّاس، قاتلوا عن حرمكم وعن مصركم، وامنعوا مِن فَيْئكم، والله لئن لم تفعلوا لَيُشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه، والله لقد بلغني أنَّ فيهم من مُحرَّريكم خمسمائة رجل عليهم أميرٌ منهم، وإنما ذهابُ عِزّكم وسلطانكم حين يكثرون».
ثم نزل.
وكان يزيد بن الحارث منعهم أن يدخلوا الكوفة، ومضى المختار من السبخة حتّى
ص: 102
ظهر إلى الجبانة، وقال :
- «نعم مكانُ المُقاتل هذا».
فقال له إبراهيم بن الأشتر :
- «قد هزمهم الله وفلَّهم، وأدخل الرُّعب قلوبهم وتنزل هاهنا، سرْبِنا، فوالله ما دون القصر أحد يمنع، لِيَقُمْ هاهنا كلُّ شيخ ضعيف وذي عِلَّةٍ، وضَعُوا ما كان لكم من ثَقَل ومتاع بهذا الموضع حتى نسير إلى عدونا».
ففعلوا. واستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدَّم إبراهيم الأشتر أمامه، وعبّى أصحابه على الحال التي كانوا عليها في السبخة، وبعث عبد الله بن مطيع عَمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فخرج عليهم من السكّة المعروفة بالثّوريين، فبعث المختار إليهم أن :
- «اطوِه، ولا تَقُمْ عليه».
فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، ومضى المختار في أثر إبراهيم وأمره أن يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى وخرج إليه من سكة ابن مُحرِزِ، وأَقبل شَمِرُ بنُ ذي الجوشن في ألفين، فسرَّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهَمْدَاني، فواقعه وبعث إلى إبراهيم أَنْ:
- «إطوه وامض على وجهك».
فمضى حتّى انتهى إلى سكة شبث وإذا نوفل بن مُساحق في نحو خمسة آلاف رجل وقد أمر ابن مطيع، فنودي في الناس أن :
- «الحقوا بابن مُساحق».
واستخلف شبث بن ربعي على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة.
فقال حصيرة بن عبد الله : إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتّى إذا دَنا منهم، قال لهم :
- «انزلوا».
فنزلوا. فقال :
- «اقرنوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثمَّ امشوا إليهم مُصلتين، ولا يهولنَّكم أن يُقال: جاءكم شبث بن ربعي، وآل عُتيبة بن النهاس، وآل الأشعث، وآل فلان، وفلان...».
حتّى سمَّى بيوتاً من بيوتات أهل الكوفة، وقال :
ص: 103
- «إِنَّ هؤلاءِ لو وَجَدَ أَوَّلُهم حرَّ السَّيف لرأيتم قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب».
قال حصيرة: فإنّي لأنظر إليه وإلى أصحابه حتّى قرنوا خيولهم وحتّى أخذ ابن الأشتر أسفل قَبائِه، فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرد وقد شدَّ بها على القباء وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه :
- «شُدُّوا عليهم فدى لكم عمي وخالي».
قال : فوالله ما لبَّثهم أن هزمهم، فركب بعضهم بعضاً على فم السكة، وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مُساحق، فأخذ بلجام دابته ورفع عليه السَّيف، فقال له ابن مساحق :
- «يا ابن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبني بثأر، هل بيني وبينك من جنةٍ؟».
فخلى سبيله وقال :
- «أذكرها».
فكان يذكرها له.
وأقبلوا حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتّى دخلوا المسجد وحصروا ابن مطيع ثلاثاً.
وجاءَ المختار حتّى نزل جانب السُّوق، وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فلما اشتدَّ الحصار على ابن مطيع كلَّمه الأشراف، وكان يفرق فيهم الدقيق من القصر.
فقام إليه شبث بن ربعي فقال له :
- «أصلحك الله، انظر لنفسك ومن معك، فوالله ما عندنا غناء عنك ولا عَن أنفسهم».
قال ابن مطيع:
- «هاتوا، أشيروا علي برأيكم».
قال شبت :
- «الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرَّجل أماناً وتخرج ولا تهلك نفسك ومَن معك» قال ابن مطيع :
- والله إنِّي لأكرهُ أَن آخذ منه أماناً والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبالبصرة».
ص: 104
قال :
- «فتخرج ولا يشعر بك أحدٌ حتّى تنزل منزلاً بالكوفة عند من تثق به، فلا يُعلم بمكانك حتّى تخرج فتلحق بصاحبك».
فقال لأسماء بن خارجة ولغيره من أشراف الناس :
- «ما ترون في ما أَشار به عليَّ شبثّ؟».
فقالوا :
- «ما نرى الرَّأي إلا ما أَشار به عليك».
قال :
- «فرويداً حتَّى أُمسي».
فلما أمسى جمعهم، وحمد الله، وأثنى عليهم وردُّوا عليه مثله، وقال:
- «جزاكم الله خيراً، أخذ امرؤ حيث أحبّ».
ثم خلّى عن القصر، وخرج من نحو درب الرُّوميين حتَّى أَتى دار أَبي موسى، ففتح أصحابه الباب ونادوا :
- «يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟».
قال :
- «أنتم آمنون».
فخرجوا، وبايعوا المختار، وجاء المختار حتى دخل القصر، فبات وأصبح، فخطب النَّاس وحضّ على البيعة، وقال:
- «أَيُّها النّاس، لا والذي جعل السَّماءَ سقفاً محفوظاً، والأرض فجاجاً سُبُلاً، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها».
ثم نزل، فدخل ودخل النّاس وأشرافهم، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول :
- «تبايعون على كتاب الله وسنّة نبيه والطَّلب بدماء أهل البيت، وجهاد المُحلّين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا ومسالمة من سالمنا، والوفاء ببيعتنا،لا تقيلكم ولا نستقيلكم».
فإذا قال الرجل : نعم، بايعه.
وأقبل المختار يمنّي النَّاس، ويستجرُّ مودَّتهم ومودة الأشراف، ويحسن السيرة جَهدَه. وجاء ابن كامل، وكان على شرطته، فقال:
ص: 105
- «إنَّ ابن مطيع في دار أبي موسى، وقد عرفتُ ذلك بالصحة».
فلم يُجْبهُ بشيء، فأعادها عليه، فلم يُجبه، فظنّ ابن كامل أَنَّ ذلك لا يُوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقاً. فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف [100,000] درهم، وقال له :
- «تجهز بهذه واخرج، فإنّي قد شعرتُ بمكانك، وظننتُ أنّه لم يمنعك من الخروج إلا أنه ليس في يدك ما يُقوّيك على الخروج».
وأصاب المختار في بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف [9,000,000] فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر، وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل، خمسَمائَةٍ كلَّ رجل، وأعطى ستّة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، وأَقاموا معه تلك الأيَّام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل النَّاس بخير، ومنَّاهم، وأحسن السيرة وأدنى الأشراف.
ثم ولى الولايات، وعقد الألوية، فأَوَّل رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على آذربيجان، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان معه ألفا فارس ورزقه ألف درهم في كل شهر، وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق، وكتب إلى عُمَّاله على الجبال أن يحملوا أموال كُورَهم إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بحلوان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى الموصل وبها محمد بن الأشعث بن قيس من قبل الزبير، فتنحى له عن الموصل، ثمَّ شخص إلى المختار مع أشراف قومه وغيرهم، فبايع له ودخل في ما دخل فيه أهل بلده.
ثمَّ وثب المختار بمن كان معه بالكوفة من قتلة الحسين عليه السلام والمتابعين على قتله، فقتل من قدر عليه وهرب بعضهم فلم يقدر عليه.
وكان سبب ذلك أنَّ مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث عُبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثاً.
وقد كُنَّا ذكرنا من أمر التَّوَّابين وابن زياد ما كان بعين الوردة.
ثم بعد ذلك مرَّ بأرض الجزيرة وبها قيس عيلان علي طاعة ابن الزبير، فلم يزل عُبيد الله مشتغلاً بهم عن العراق نحواً من سنة، ثمَّ أقبل إلى الموصل، وكتب عبد الرَّحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار :
- «أَمَّا بعد، فإِنِّي أُخبرك أَيُّها الأمير، أَنَّ عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، ووجه قبلي خيله، ورجاله، وأني قد انحزتُ إلى تكريت حتّى يأتيني رأيك
ص: 106
وأمرك، والسلام».
فكتب إليه :
- «قد أصبتَ، فلا تبرحنّ مكانك حتى يأتيك أمري».
ثم بعث المختار إلى يزيد بن أنس، فدعاه وقال:
- «يا يزيد، إنَّ العالم ليس كالجاهل، وإني أخبرك خبر مَن لم يَكذِب ولم يُكذَبْ، أنا صاحبُ الخيل التي تجرُّ جعابها وتضفر أذنابها حتى توردها منابت الزيتون، أخرج إلى الموصل حتّى تنزل أدانيها، فإني مُمدَّك بالرجال».
فقال يزيد بن أنس :
- «سرح معي ثلاثة آلاف من الفرسان أنتخبهم وخلني والفرج الذي توجهني له، فإن احتجت إلى الرّجال فسأكتب إليك».
وقال المختار :
- «فاخرج وانتخب على اسم الله من أحببت».
فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس وخرج معه المختار، وانصرف وقال له :
- «إذا لقيت عدوّك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تُؤَخِّرها، وليكن خبرك عندي كلَّ يوم، وأَنَا مُمِدُّك وإن لم تستمد، لأنَّه أَشدُّ لِعضدك، وأَعزُّ لجندك، وأرعب لعدوّك».
فقال له يزيد بن أنس :
- «لا تمدني إلا بدعائك، فكفى به مدداً».
فقال الناس :
- «صحبك الله، وأَدَّاك وأَيَّدك».
و ودعوه. فقال لهم :
- «سلوا الله لي الشهادة. وأيم الله لئن لقيتُهم ففاتني النَّصر، لا تفوتني الشهادة إن شاء الله».
وكتب المختار إلى عبد الرَّحمن بن سعيد بن قيس:
- «أَمَّا بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسَّلام عليك».
وخرج يزيد بن أنس، فبات بالمدائن، ثمَّ اعترض أَرضَ جوخى، حتَّى خرج بهم في الرَّاذانات، وحتّى قطع بهم إلى الموصل ونواحيها، وبلغ مكانه ومنزله عُبيد الله بن زياد، وسأل عن عِدَّتهم، فَأَخبرتْهُ عيونُه أَنَّه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس.
ص: 107
فقال عبيد الله :
- «فأَنا أَبعث إلى كلِّ أَلف ألفين».
وبعث إليه ربيعة بن المخارق وعبد الله بن حملة كلّ واحد منهما في ثلاثة آلاف، ثم قال :
- «أَيُّكما سبق فهو أميرٌ على صاحبه».
فسبق ربيعة بن المخارق، ونزل بيزيد بن أنس وهو بباتلي، فخرج إليه يزيد بن أَنس وهو مريضٌ مُضْنّى، فطاف في أصحابه على حمارٍ معه الرّجال يُمسكونه، فجعل يطوف على الأرباع، ويقف على ربع ربع، ويقول:
- «يا شُرطة الله، اصبروا، وصابروا عدوّكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً. إن هلكت فأميركم ورقاءُ بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العَدَويّ، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي».
قال : ونحن نرى في وجهه أنَّ الموتَ قد نزل به ثمَّ عبّى ميمنةً وميسرة، وجعل ورقاء بن عازب على الخيل، ونزل هو بين الرّجال على السرير، ثم قال :
- «ابرزوا لهم بالعراء، وقدّموني في الرّجال، ثمَّ إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه».
قال : فأخرجناه وذلك يوم عرفة سنة ست وستين. فأخذنا نُمسك أحياناً ظهره، فيقول : اصنعوا كذا، اصنعوا كذا. فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع، فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، فحملت ميمنتنا على ميسرتهم، وميسرتُنا على ميمنتهم، وحمل ورقاء بن عازب ومعه الخيل من ميسرتنا فهزمهم، فلم يرتفع الضُّحى حتّى هزمناهم وحوينا عسكرهم، وانتهينا إلى ربيعة بن المخارق صاحبهم وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل يُنادي:
- «يا أولياء الحقِّ يا أهل السمع والطاعة، إليَّ إليَّ،، أنا ابن المخارق».
فحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي، وعبد الله بن ضمرة العدوي، فقتلاه.
قال : وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير وهو في السوق، فأَخذ يُومي بيده أن :
- «اضربوا أعناقهم».
فقُتلوا من عند آخرهم، وما أمسى يزيد بن أنس حتى مات، وكان أوصى بأَنَّ الأمير بعده ورقاء بن عازب، فصلى عليه ودفنه.
ص: 108
ثمَّ إِنَّ ورقاء بن عازب دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه، فقال لهم :
- «يا هؤلاء، ماذا ترون في ما أخبرتكم، إنَّما أنا رجلٌ منكم».
وكان أعلمهم أَنْ عُبيد الله أَقبل في ثمانين ألفاً من أهل الشّام.
فقال ورقاء :
- «لستُ بأفضلكم رأياً، فأَشيروا عليّ. هذا الرَّجل قد جاءكم في جده وحده، ولا أرى لنا بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرّقت عنا طائفةٌ مِنًا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا إنَّما ردَّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا هائبين لنا ولقتلنا أميرهم، ولأنَّا إِنَّما نعتلُّ لانصرافنا بموت صاحبنا، فإنَّا إن لقيناهم اليوم لم ينفعنا هزيمتنا إيَّاهم قبل اليوم إذا هزمونا».
فقالوا :
- «فإنَّك والله نعم ما رأيت، انصرف بنا، رحمك الله».
فبلغ منصرفهم المختار وأهل الكوفة، ولم يعلموا كيف كان الأمر.
فأَرجف النَّاسُ أَن يزيد بن أنس هلك، وأَنَّ النَّاس انهزموا وما أشبه ذلك، فقَلِقَ المختارُ، وبعث المختار عيناً له، فعاد إليه بالخبر.
فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر، فعقد عليه على سبعة آلاف رجل وقال له :
- «سِرْ حتَّى إذا لقيت جيش ابن أنس فاردُدُهم معك، ثمَّ سِرْ بهم حتى تلقى عدوّك فتناجزهم».
فخرج إبراهيمُ وعَسكر بحمام أعين.
لما خرج إبراهيم كثر إرجافُ النَّاس بالمختار، وقالوا :
- «تأمر علينا بغير رضى منا ولا ولاية من محمد بن علي، وقد أدنى موالينا، فحملهم على رقابنا وغصبنا عبيدنا، فحَرَبَ بذلك أَيتَامَنا وأراملنا».
ص: 109
واتَّعدوا منزل شبث بن ربعي. وكان شبثٌ إسلامياً جاهليّاً. وقالوا :
- «هو شيخنا».
فأَتَوه، فذاكروه هذا الحديث. ولم يكن في جميع ما عمله المختار شيء أعظم على النَّاس من أن جعلَ للموالي نصيباً من الفَيءِ.
فقال لهم شبت:
- «دعوني حتَّى أَلقاه».
فلقيه، فلم يَدَعْ شيئاً ممَّا أَنكره أصحابه إلا ذاكره به، فكان لا يذكر لهم خصلة إلا قال المختار له :
- «أُرضيهم، وآتي كلّ شيء أحبوا».
حتى ذكر الموالي والمماليك، فقال:
- «عمدت إلى موالينا وهم فَيْء أَفاءَهم الله علينا وهذه البلاد كلها، فأعتقنا رقابهم نَأْمُلُ الأَجر من الله والشكر منهم، فلم ترضَ بذلك، حتى جعلتهم شركاء في فيئنا».
فقال المختار :
- «إنا سنتركهم لمواليهم، فهل تجعلون لي على أنفسهم - إِن أَنا فعلتُ ذلك - عهد الله وميثاقه، وما أَطمئنَّ إليه من الأيمان، أن يُقاتلوا معي بني أمية وابن الزبير ؟».
فقال شبث :
- «ما أدري، حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك».
فخرج ولم يرجع، وأجمع رأي أشراف الكوفة على قتال المختار.
فركب شبثٌ وشمر بن ذي الجوشن ومحمد بن الأشعث وغيرهم حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي، وذكروا ما اجتمع عليه رأيهم من قتال المختار، وقالوا :
- «تأمر علينا بغير رضى منَّا، وزعم أَنَّ ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أنه لم يبعثه، وفَعلَ وصنع وأخذ عبيدنا وموالينا، وأطعمهم فيئنا».
وسألوه أَن يُجيبهم إلى ما سألوه من قتاله معهم. فرحب بهم كعب وأجابهم إلى ما دعوه إليه. ثمَّ دخلوا على عبد الرَّحمن بن مخنف، فدعوه إلى ذلك
فقال لهم :
- «يا هؤلاء، إن أبيتُم إلا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أَطعَتم لم تخرجوا». فقالوا :
ص: 110
- «ولِمَ؟» فقال :
- «لأَنِّي أَخاف أن تتفرّقوا، وتختلفوا، وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم. أليس معه فلان وفلانٌ ؟ ثمَّ معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدةً، وهؤلاء أَشَدُّ حنقاً عليكم من عدوكم، فهو يُقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلاً كفيتموه بقدوم أهل الشّام، أو مجيء أهل البصرة فتكونوا قد كفيتموه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم».
فقالوا :
- «ننشدك الله أن تخالفنا وتُفسد علينا».
قال :
- «فأنا رجل منكم فإذا شئتم فاخرجوا».
فلقي بعضهم بعضاً، وقالوا:
- «ننتظر حتى يذهب عنه ابن الأشتر».
فأمهلوا حتَّى إذا بلغ إبراهيم ساباط خرجوا إلى جبابينهم بجماعة الرُّؤساء، فلما بلغ المختار اجتماعُ النَّاس عليه مثل شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي وحسان بن قائد، وربيعة بن ثروان، وحجّار بن أَبجر ورُؤيم بن الحارث، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وغيرهم ممن ذكرناهم قبل، ومن لم نذكرهم، بعث رسولاً يركض إلى إبراهيم الأشتر وهو بساباط أن :
- «لا تضع كتابي من يدك حتّى تُقبل بمن معك».
وبعث إليهم في ذلك اليوم :
- «أخبروني ما تُريدون فإني صانع كلَّ ما أحببتم».
قالوا :
- «فإنَّا نريد أن تعتزلنا، فإنّك زعمتَ أَنَّ ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك».
فأُرسل إليهم المختار أن:
ابعثوا إليه من قبلكم وفداً، وأبعث من قبلي وفداً، ثم انظروا في ذلك حتّى تتبينوه».
وهو يُريد أن يُريثهم بهذه المقالة. ليقدم عليه إبراهيم الأشتر وقد أمر أصحابه فكفُّوا أَيديهم، وأخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل يجيئُهم إذا غفلوا عنه.
ص: 111
ثمَّ إِنَّ شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن، فقال لهم :
- «ن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد، فأنا صاحبكم، والَّا فلا، والله لا أُقاتل في سكة واحدة ضيقة ونقاتل من غير وجه».
وانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سَلول، ولما بلغ المختار ذلك، جعل يواصل مكاتبة إبراهيم، فلما بلغ إبراهيم بن الأشتر خبره، نادى من يومه في النَّاس، وسار بقية عشيته تلك، ثم نزل سويعة، فتعشى هو وأصحابه، وأراحوا دوابهم شيئاً كلا شيءٍ، ثم سار بقيَّة ليلته كلها وصلَّى الغداة بسورا، ثم سار من يومه وصلى صلاة العصر على باب الجسر من الغد، ثم سار حتّى بات ليلته في المسجد. ولما كان اليوم الثالث من مخرجهم على المختار خرج المختار إلى المنبر فصعده وكان شبث بن ربعي بعث إليه ابنه يقول له :
- «إِنَّما نحن عشيرتك وكفّ يمينك، والله لا نقاتلك أبداً فثق بذلك منَّا، وكان كارها لقتاله، ولما حضرت الصَّلاة واجتمع أهل اليمن كره كل رأس أن يتقدمه صاحبه».
فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف :
- «هذا أَوَّل الخلاف، قدموا الرّضا فيكم، فإنَّ فيكم سيد قرَّاءِ أَهل المصر، فليصل بكم رفاعة بن شداد».
ففعلوا، فلم يزل يُصلِّي بهم حتى كان يوم الوقعة.
ثمَّ إنَّ المختار لما نزل عبّى أَصحابه، فقال إبراهيم بن الأشتر :
- «إلى أي الفريقين أَحبُّ إليك أَن نسير».
فنظر المختار وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه، فلا يبالغ في قتالهم، فقال:
- «سِرْ إلى مُضَر بالكُناسة، وكان عليهم شبث بن ربعي، وأنا أسير إلى أهل اليمن».
ففعلا. ثمَّ إِنَّ القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم، وانكشف من أصحاب المختار أَحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وأصحابهما، فلم يُرع المختار إلا وقد جاءَه الفلُّ قد أقبل فقال :
- «ما وراءكم؟» فقالوا :
- «هزمنا». قال :
- «فما فعل أحمر بن شميط؟» قالوا :
ص: 112
- «تركناه قد نزل عند مسجد القُصَّاص وقد نزل معه ناسُ من أَصحابه».
وقال أصحاب ابن كامل:
- «ما ندري ما فعل».
فصاح بهم أن انصرفوا، ثمَّ أَقبل معهم قطعةٌ، ثمَّ بعث عبد الله بن قُراد الخثعمي، وكان على أربعمائة من أصحابه، فقال:
- «سِرْ في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يكن هلك، فأنت مكانه، وإن تجده حيّاً، فَسِرْ في مائة من أصحابك كلُّهم فارس، وادفع إليهم بقيَّة أصحابك، ومُرهم بالحد معهم والمناصحة، ثمَّ امض في المائة حتّى تأتي جبانة السُّبيع».
فمضى، فوجد عبد الله بن كامل واقفاً عند حمام عمرو بن حريث معه ناس من أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم، فدفع إليه ثلاثمائة من أصحابه، ثم مضى حتّى نزل جبَّانة السبيع، وأخذ في السِّكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه :
- «ما ترونَ؟».
وهم مائة خيار. قالوا :
- «أَمرُنا لأمرك تبع». فقال :
- «والله إني لأحب أن يظهر المختار، ووالله إنِّي لَكارِهٌ أن يهلك أشراف قومي وعشيرتي اليوم، ووالله لأن أموتَ أَحَبُّ إليَّ من أن آتيهم من ورائهم فيهلكون على يدي».
ثم وقف، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي - وكان من أشد الناس بأساً - في مائتي رجل، وبعث عبد الرحمن بن شريك في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت هؤلاء مكانه فانتهوا إليه وقد عَلاهُ القومُ وكثروا عليه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال.
ومضى الأشتر حتّى لقي شبث بن ربعي وخلقاً من مُضَر كانوا معه، فقال لهم إبراهيم :
- «ويحكم انصرفوا فوالله ما أحب أن يُصابَ أَحدٌ من مُضَر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم».
فأَبوا، فقاتلوه، فهزمهم، وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مُضَر، فبعث المختار بالبشرى إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل والناس على أحوالهم كلّ سكّة منهم قد أغنتْ ما يليها، واجتمعت شبام وقد رأسوا عليهم أبا القلوص، وقد
ص: 113
أَجمعوا أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض :
- «أما والله لو جعلتم حدكم هذا على من خالفكم من غيركم، لكان أصوب. فسيروا إلى مُضَر وإلى ربيعة فقاتلوهم».
وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم، فقالوا :
- «ما رأيك؟» فقال :
- «قال الله عزّ وجلَّ : «قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» [التوبة : 123]. قوموا!» فقاموا، فمشى بهم قیس رمحين أو ثلاثة، ثمَّ قال:
- «اجلسوا».
فجلسوا. ثم مشى بهم الثانية أنفس من ذلك شيئاً، ثم الثالثة كذلك، ثم قعد، فقالوا له :
- «يا أبا القلوص، والله إنكَ عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع ؟» قال :
- «إن المجرَّب ليس كمن لم يجرِّب. إني أردتُ أن ترجع إليكم أنفسكم، وكرهتُ أن أحملكم على القتال وأنتم على حال دَهَش». قالوا :
- «أنت أبصر بما صنعت. فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم قوم، فهزموهم وقتلوا رئيسهم ودخلوا الجبانة في آثارهم يتنادون :
- «يا لثارات الحسين».
فأجابهم ابن شميط :
- «يا لثارات الحسين».
وقاتل يومئذٍ رفاعة بن شداد حتّى قتل، وقُتل خلق من الأشراف واستخرج من دور الوادعيين خمسمائة أسير. فأُتِي بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد من رؤساء أصحاب المختار يقال له عبد الله بن شريك لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله. فرفع ذلك إلى المختار، فقال المختار :
- «اعرِضوهم عليَّ، فانظروا كلَّ من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به».
فأخذوا لا يمرُّ عليه رجلٌ شهد قتل الحسين إلا قالوا له :
- «هذا مِمَّن شهد قتله».
فقدَّمه، فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وأربعين قتيلاً، وأخذ أَصحابه كلما رأوا رجلاً قد كانوا تأذّوا به، وكان يُماريهم، أو يضُرُّ بهم، خلّوا به
ص: 114
فقتلوه، حتَّى قُتل ناس كثيرٌ منهم، وما يشعر بهم المختار.
ثمَّ أُخبر به المختار من بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم وأخذ عليهم المواثيق ألا يجامعوا عليه عدوه ولا يبغوه ولا لأصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنَّه أَمر به أن يُساق معه إلى المسجد، ونادى منادي المختار من أغلق عليه بابه فهو آمِنْ إلا رجلاً شرك في دَم آل محمد.
وكان يزيد بن الحارث بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا لهما رسلاً، فقالا لهم :
- «كونوا قريباً من أهل اليمن فإن ظهروا فلتكن علامتكم كذا وإن ظُهِرَ عليكم فلتكن علامتكم كذا.
فلمَّا هُزم أهل اليمن أتتهم رُسُلهم بعلامتهم، فقاما جميعاً فقالا لقومهما :
- «انصرفوا إلى بيوتكم».
فانصرفوا.
فَأَمَّا عمرو بن الحجاج الزبيدي، فإنَّه كان مِمَّن شهد قتل الحسين، فركب راحلته، ثم ذهب عليها فأخذ طريق شراف وواقصةٍ فلم يُرَ حتَّى السَّاعة، ولا يُدرى أَرضٌ لَحستْه أَم سماءٌ حَصبتْهُ!
وأَمَّا شَمِرُ بنُ ذي الجوشن، فإنَّ المختار أنفذ فى طلبه غلاماً يُدعى رزيناً. فحدَّث مسلم بن عبد الله الكِناني. قال : تَبِعَنا رزينُ غلام المختار فلحقنا، وقد خرجنا من الكوفة على خيولنا مضمرة، فأقبل يتقطَّرُ به فَرسُه. فلمَّا دَنا منه قال لنا شَمِرٌ :
- «اركضوا وتباعدوا، فلعل العبد يطمع فيَّ».
قال : فركضنا وأمعنّا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر يستطرد له، حتَّى إذا انقطع عن أصحابه حمل عليه شمرٌ، فدقّ ظَهرَهُ، وأُتِي المختارُ فأُخبر بذلك، فقال :
- «بؤساً لرزين، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة».
ومضى شمرٌ حتَّى نزل ساتيدما، فنزل إلى جانب قريةٍ يُقال لها : الكلبانية على شاطئ نهرٍ إلى جانب تَلٍّ، ثمّ أرسل إلى تلك القرية، فأخذ منها علجاً فضربه، ثم قال :
- «النجا بكتابي إلى مصعب بن الزبير».
وكتب عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن. فمضى العلج حتَّى دخل قريةً فيها بيوت وفيها أبو عمره، وكان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة في ما بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجاً من تلك
ص: 115
القرية، فأقبل يشكو إليه ما لقي من شمر، فسألوا العلج عن مكانه، فأخبرهم به، فإذا ليس بينهم إلا ثلاثة فراسخ فساروا إليه :
قال : وكُنَّا قُلنا لشمر تلك الليلة :
- «لَو أَنَّك ارتحلت بنا من هذا المكان، فإنَّا نتخوف به». فقال:
- «أكل هذا فَرَقاً من الكذاب، والله لا أتحوّل منه ثلاثة أَيَّام، ملأ الله قلوبكم رعباً».
فوالله ما شعرنا إلا وقد أشرفوا علينا من التَّلِّ، فكبروا، ثمَّ أَحاطوا بنا وخرجنا نشتد على أَرْجُلنا وتركنا خَيلَنا، وأعجل شمر عن لبس سلاحه.
قال : فأَمر على شمرٍ وإنَّه لَمُؤْتَزرٌ بَيُردٍ يُقاتلهم، وكان أبرص، فكأني أنظر إلى بياض ما بين كشحيه وهو يُطاعن الأقوام، فما هو إلا أن أمعنت ساعةً إذ سمعتُ التكبير وقائلاً يقول :
- «قتل الله الخبيث».
فأَمَّا سراقة بن مرداس البارقي، فإنّه حلف واجتهد في اليمين أَنَّه رَأَى الملائكة معهم تُقاتل على خُيول بُلْق، وقال لهم:
- «أنتم أسرتموني؟ ما أسرني إلا قوم على دواب لهم بُلْقٍ، عليهم ثياب بيض».
فقال المختار :
- «أُولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم النَّاسَ ذلك».
فصعد واجتهد في اليمين وأخبرهم بذلك. ثم نزل فخلا به المختار وقال:
- «إنِّي علمتُ أَنَّك لم تَرَ الملائكة، وإنّما أَردتَ ما قد عرفتُ : أَلا أَقتلَكَ، فاذهب عنِّي حيث أحببتَ، لا تُفسد عليَّ أَصحابي».
فخلَّى عنه، وذهب حتّى لحق بمصعب بن الزبير، وقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أَنِّي *** رأيتُ الخَيلَ دُهماً مُصمتَات
أُرِي عَيْنَيَّ ما لم تَرأَياهُ *** كلانا عالم بالترهاتِ
وانجلت وقعة السبيع عن سبعمائة وثمانين قتيلاً وكانت يوم الأربعاء لِستِّ ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
وخرج أشراف الناس، فلحقوا بالبصرة، وتجرَّد المختار لقتلى الحسين، وقال:
- «ما من ديننا تَركُ قوم قتلوا الحسين أحياءاً يمشون في الدُّنيا آمنين. ناصرُ آلِ
ص: 116
محمَّدٍ إذا أَنَا في الدُّنيا، أنا إذا الكذاب - كما سموني - ألحمد لله الذي جعلني سيفاً ضربهم به، ورمحاً طعنهم به. وطالب وترهم، والقائم بحقهم سموهم ثمَّ تتبَّعوهم،حتَّى تُفنوهم. إنَّه لا يسوغ لي طعام ولا شراب حتّى أطهر الأرض منهم وأنقي المصر منهم».
ودلَّ عبد الله بن دَبَّاسِ على نفر ممَّن قتل الحسين. منهم : عبد الله بن أسيد بن النزال الجهني، ومالك بن النسير البَدْيُّ وحَمَل بن مالك المحاربي. فبعث إليهم المختار، فأخذوا وأُدخلوا عليه عشاءاً.
فقال لهم المختار :
- «يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! قتلتم من أُمرتُم بالصَّلاة عليه في الصَّلاة». فقالوا :
«رحمك الله، بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا، واستبقنا».
قال المختار :
- «فهلاً مَننتُم على الحسين ابن بنت نبيكم واستبقيتُمُوهُ وسقيتمُوهُ».
ثم قال المختار لِلبَدِّي :
- «أَنتَ صاحب برنسه؟» فقال عبد الله بن كامل :
-نعم، هو هو».
فقال المختارُ :
- «اقطعوا يَدَ هذا ورجليه، ودعُوهُ يضطرب حتَّى يموت».
ففعل به ذلك، وأمر بالآخَرَين فقُتلا.
ثم بعث رجالاً كانوا معه يُقال لهم: الدَّبَّابة، إلى دار في الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبي خُشكارة، وعبد الرحمن بن قيس الخولاني وغيرهما فجئنا بهم حتّى أدخلناهم عليه، فقال لهم:
- «يا قتلة الصالحين، يا قتلة سيّد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقادَ منكم اليوم؟ لقد جاءكم الورسُ بيوم نحس».
وكانوا أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين، أخرجوهم إلى السوق، فضربوا رقابهم، ففعل ذلك بهم وكانوا أربعةً.
وأخذ السائب بن مالك الأشعري - وكان في خيل للمختار - ثلاثة نفر ممن شهد قتل الحسين، فانتهى بهم إلى المختار، فأمر بهم فقُتلوا في السُّوق.
ص: 117
وبعث المختار عبد الله بن كامل إلى عثمان بن خالد، وإلى أبي أسماء بسر بن أَبي سمط، وكانا ممن شهدا قتل الحسين وفي سلبه، فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال :
«علي مثل خطايا بني دهمان منذ خُلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أُوتَ بعثمان بن خالد، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم».
فقلنا له: «أمهلنا حتّى نطلبه».
فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة، فأتي بهما عبد الله بن كامل، فضرب أعناقهم، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره بأن يرجع فيحرقهما بالنَّار، وقال:
- «لا يُدفنا، بل ليُحرقا بالنَّار».
وبعث أبا عمرة صاحب حرسه حتّى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين - عليه السّلام - فاختبی في مخرجه، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها :
- «أين زوجُكِ؟» فقالت :
- «لا أدري، أين هو...».
وأشارت بيدها إلى المخرج. فدخلوا، فوجدوه وقد وضع على رأسه قوصرة، وأخرجوه.
وكان المختار خرج يسير بالكوفة ومعه ابن كامل فأخبروه الخبر، وأقبل حتّى قتله إلى جانب أهله، ثم دعا بنار فحرَّقه.
وكانت امرأته نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين.
وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي، فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة، وقال:
- «خذ لي من هذا الرجل أماناً».
فكتب له :
«بسم الله الرّحمن الرّحيم»
- «هذا أمانٌ من المختار بن أبي عُبيد لعمر بن سعد بن أبي وقاص. إِنَّكَ آمِنٌ بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تُؤَاخِذُ بحَدَثٍ كان منك قديماً ما سمعت وأطعت، ولزمت رحلَك ومِصرَك وأهلك، ولم تُحدث حدثاً. فمن لقي عمر بن سعد مِن شُرطة الله وشيعة آل محمدٍ ومن غيرهم من النَّاس، فلا يعرض له
ص: 118
إلّا بخير. شهد السائب بن مالك، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شداد، وعبد الله بن كامل».
وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينَّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثاً، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيداً».
فكان أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول:
- «أَمَّا أَمان المختار لعمر بن سعد: إلا أن يحدث حدثاً، فإنَّه كان يريد : إذا دخل الخلاء وأحدث».
فقال المختار ذات يوم وهو يحدث جلساءه :
- «لأقتلنّ رجلاً عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسر قتله المؤمنين والملائكة المقرَّبين».
فكان الهيثم بن الأسود النَّخعِي عند المختار، فسمع هذه المقالة، فوقع في نفسه أَنَّ الَّذي يُريده عمر بن سعد بن أبي وقاص. فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان، فقال :
- «الق عمر بن سعدٍ اللَّيلَةَ، فخبِّره بكذا وكذا وقُلْ له : خُذْ حِذرَك».
قال : فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث.
فقال له عمر بن سعد :
- «جزى الله أباك عن الإخاء خيراً، كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق».
ثم خرج من ليلته حتّى أتى حمامه، وأخبر مولى له بما أُريد به، فقال له :
- «وأي حدث أعظم ممَّا صنعت، إنَّك تركت رحلك وأهلك، ارجع إلى رحلك، لا تجعل للرّجل عليك سبيلاً».
فرجع إلى منزله، وأُتي المختار بخبر انطلاقه، فقال:
- «كلَّا، إنَّ لي في عُنقه سلسلةً ستردُّه».
فلما أصبح المختار بعث أبا عمرة وأمره أن يأتيه به. فجاءَ حتى دخل عليه، فقال :
- «أَجِبْ».
فقام عمر، فعثر في جبَّةٍ له ويضربه أبو عمرة بسيفه فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتّى وضعه بين يدي المختار.
ص: 119
فقال المختار لابنه حفص بن عُمر، وهو جالس عنده :
- «أتعرف هذا الرَّأس ؟».
فاسترجع، وقال :
- «نعم، ولا خير في العيش بعده».
قال له المختار :
- «صدقت، فإنَّك لا تعيش بعده. ألحقوا حفصاً بأبي حفص!».
فقتل، فإذا رأسُه مع رأس أبيه.
ثم قال المختار :
- «هذا بالحسين، وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء. والله لو قتلتُ به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامل الحسين».
وبعث المختار برأسيهما إلى محمد ابن الحنفية، وكتب إليه :
«بسم الله الرَّحمن الرّحيم»
«للمهدي محمد بن علي من المختار بن أَبي عُبيد. سلام عليك أيها المهدي، فإنِّي أحمد الله إليك الَّذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنَّ الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين أسير وطريد وقتيل وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم، وقد بعثتُ إليك برأس عمر بن سعد وابنه وقد قتلنا ممن شرك في دم الحسين وأهل بيته - رضي الله عنهم - كلَّ مَن قدرنا عليه ولن يعجز الله من بقي ولستُ بمُنجم عنهم حتَّى لا يبلغني أَنَّ على أديم الأرض منهم أرماً، فاكتب إليَّ أَيُّها المهدي برأيكَ أَتَّبعه وأَكُنْ عليه، والسَّلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته».
وطلب المختار كلَّ من ذكر له من قتلة الحسين وشيعته، وأعدائه، فقتلهم وأحرقهم، ومن هرب ولم يقدر عليه هدم دارَهُ.
ثمَّ إنَّ المختار بلغه أنَّ أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أَنَّه يُبدأ به، فخشي أن يأتيه أهل الشام من المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فأخذ يُداري ابن الزبير ويكايده. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القُرى.
كتب المختار إلى ابن الزبير :
- «أَمَّا بعدُ، فقد بلغني أنَّ عبد الملك بن مروان بعث إليك جيشاً، فإن أحببت أن
ص: 120
أُمدّك بمدد فعلتُ».
فكتب إليه عبد الله بن الزبير :
- «أَمَّا بعد، فإن كنتَ على طاعتي فلستُ أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي النَّاس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقتك في مقالتك، وعجل إليَّ بتسريح الجيش، ومُرْهم أن يسيروا إلي من بوادي القرى من جند ابن مروان، فيقاتلوهم، والسلام».
فدعا المختار شرحبيل بن ورس بن همدان، فسرَّحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة رجل، فقال :
- «سيروا مع شرحبيل وأطيعوه».
وقال لشرحبيل :
- «إذا دخلت المدينة فاكتب إليَّ حتّى يأتيك أمري».
وهو يريد: إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميراً من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتَّى يحاصر ابن الزبير، ويقاتله. فخرج يسير قبل المدينة.
وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنَّما يكيده. فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير :
- «إن رأيت القوم في طاعتي، فاقبل منهم، وإلا فكايدهم حتَّى تُهلكهم».
ففعلوا :
وأقبل عباس بن سهل حتّى لقي ابن ورس وقد عبّى ابن ورس أصحابه ميمنةً و ميسرةً فدعا وسلَّم عليه ونزل هو يمشي في الرَّجالة وميمنته وميسرته على الخيول».
وجاءَ عباس مع أصحابه وهم متقطعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبّى أصحابه تعبئة القتال، فدنا منه فسلم عليه، ثم قال له :
- «اخل معي».
فخلا به، فقال :
- «رحمك الله، ألستَ في طاعة ابن الزبير؟».
فقال له ابن ورس:
- «بلی». قال:
- «فسر بنا إلى عدو الله وعدوه الذي بوادي القُرى، فإِنَّ ابن الزبير أَنَّه إِنَّما أشخصكم صاحبكم إليه».
قال ابن ورس:
ص: 121
- «ما أُمرت بطاعتكم. إنَّما أُمرتُ أن آتي المدينة، فإذا تركتها كاتبتُ صاحبي».
فقال عباس بن سهل :
- «إن كنتَ في طاعة ابن الزبير، فقد أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا بوادي القُرى».
فقال ابن ورس:
- «ما أُمرتُ بطاعتك وما أنا بمتَّبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي، فيأمرني بأمره».
فلما رأى العبَّاس لَجاجه عرف خلافه، وكره أن يُعلمه أَنَّه فطن له، فقال:
- «فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأَمَّا أَنا فإنِّى سائر إلى وادي القُرى».
ثمَّ جاء عباس بن سهل، فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجُزُرٍ كانت معه، فأَهداها له مع دقيق وغنم مسلَّخةٍ، وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعاً، وبعث عباس إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها واشتغلوا بها، وتركوا تعبئتهم، واختلطوا على الماء.
فلمَّا رَأَى عبَّاس بن سهل أنهم قد شُغلوا، جمع من أصحابه نحواً من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة، ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مُقبلين إليه، نادى في أصحابه، فلم تتوافَ إليه مائة رجل. حتّى انتهى إليه عباس وهو يقول :
- «يا شُرطة الله، إليَّ إليَّ، قاتلوا المُحلّين أولياء الشَّيطان الرجيم، فقد غدروا، وفجروا».
قال : فوالله ما اقتتلنا إلَّا شيئاً ليس بشيء، حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع ابنُ سهل راية الأمان لأصحاب ابن ورس فأتوها إلا نحواً من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حميد الهَمْداني.
فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقُتلوا إلا نحواً من مائة رجل كَرِهَ ناس مِمَّن دُفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق.
وبلغ المختارَ أَمرُهم، فخطب النَّاسَ وقال :
- «أَلا إِنَّ الفُجّار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار».
ثم كتب إلى محمد ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي :
«بسم الله الرّحمنِ الرَّحيم»
- «أَمَّا بعد فإني كنتُ بعثتُ إليك جُنداً لِيُذِلُّوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد،
ص: 122
فساروا حتَّى إذا أَظلُّوا على طيبة، لقيهم جُند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم، فلما اطمأنوا إليهم وثبوا بهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة من قبلي جنداً كثيفاً وتبعث إليهم من قِبلكَ رُسُلاً حتّى يعلم أهل المدينة أنّي في طاعتك، وإنما بعثت الجند عن أمرك، فافعل، فإنَّكَ ستجدهم أعرف بحقكم أهل البيت، وأرأف بكم منهم بآل الزبير والملحدين، والسلام».
فكتب إليه محمد ابن الحنفيَّة :
- «أَمَّا بعد، فإنَّ كتابك لما بلغني قرأتُه وفهمته، وعرفتُ تعظيمك لحقي وما تنوي به من سُرِوري، وإِنَّ أَحبَّ الأمور إليَّ ما أطيع الله فيه، فأطع اللَّهَ ما استطعت في ما أعلنتَ وأَسررت واعلم أني لو أردتُ القتال لوجدتُ النَّاس إليَّ سِراعاً، والأعوان لي كبيراً، ولكنّي أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين».
فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية، فودعه، وسلّم عليه، وهو كان حامل كتاب المختار، فأعطاه جواب الكتاب وقال :
- «قُلْ له : فليتَّقِ الله، وليكفف عن الدماء».
قال : فقلت له :
- «أصلحك الله، أو لم تكتب إليه بهذا؟»
قال ابن الحنفية :
- «قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخيرَ كُلَّه، وتنهى عن الشَّرِّ كُلَّه».
فلما قدم كتابه على المختار أظهر للنَّاس :
- «إني قد أُمرتُ بأمرٍ يجمع البِرِّ واليُسر، ويَضرحُ الكفرَ والغَدَر».
ثمَّ إِنَّ عبد الله بن الزبير حبس محمد ابن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلاً من أهل الكوفة بِزَمْزَم كرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم القتل والإحراق، وأعطى الله عهداً - إن لم يُبايعوا أَن يُنفِذ فيهم ما توعَّدهم به، وضرب لهم في ذلك أَجَلاً.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى مَن كان بالكوفة رسولاً يعلمهم حالهم وحالَ من معهم وما توعَّدهم به ابنُ الزُّبير، فوجه ثلاثة نفر من الكوفة حين نام الحرس على باب زَمْزَم وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة
ص: 123
يُعلمهم حاله وحالَ من معه وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والحرق بالنَّار، ويسألهم ألا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.
فقدموا على المختار، ودفعوا إليه الكتاب. فلما قرأه قال :
- «هذا كتاب مهديكم وصريخ أهل بيت نبيكم! قد حُظر عليهم كما يُحظَرُ على الغنم، ينتظرون القتل والتَّحريق بالنَّار في آناء الليل وتاراتِ النَّهار، ولستُ أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصراً مؤزّراً».
ووجَّهَ أَبا عبد الله الجدليّ في سبعين رجلاً من أهل القوَّة، ووجّه ظبيان بن عثمان التميمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمد بن علي بتوجيه الجنود إليه، فخرج النَّاس بعضهم في أثر بعض.
وجاء أبو عبد الله الجدلي في سبعين راكباً حتّى نزل ذاتَ عِرقٍ ولَحقَهُ عُقبة في أربعين، ويونس في أربعين، فتموا مائة وخمسين فارساً. فسار بهم حتى دخلوا مسجد الحرام ومعهم الكافر كوباتُ وهم ينادون :
- «یا لثارات الحسين».
حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعدَّ ابن الزبير الحطب ليُحرقهم وقد كان بقي من الأجل يومان. فطردوا الحرس، وكسروا أعوادَ زَمزم، ودخلوا على محمد ابن الحنفية، فقالوا له :
- «خلِّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير!».
فقال لهم :
- «إنِّي لا أستحل القتال في حرم الله».
فقال ابن الزبير :
- «أتحسبون أَنِّي مُخَلّ سبيلهم دون أن يبايع وتبايعوا؟».
فقال أبو عبد الله الجدلي :
- «إي وربِّ الرُّكن والمقام، لتُخلّينَّ سبيله أو لنجالدنَّك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون».
فقال ابن الزبير :
- «ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لو أذنتُ لأصحابي لَقُطِفَتْ رُؤُوسُهم في ساعةٍ».
فقال له قيس بن مالك :
ص: 124
- «إن رُمتَ ذلك، رجوتُ أَن يُوصل إليك قبل أن ترى ما تحب».
فكفْ ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة.
ثم قدم أبو المعتمر وبقيَّة النَّاس ومعه المال حتى دخلوا المسجد فكبروا :
- «یا لثارات الحسين».
فلمَّا رآهم ابن الزبير خافهم، وخرج محمد ابن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير، ويستأذنون محمد ابن الحنفية فيه، ويأبى عليهم. واجتمع في الشعب مع محمد بن علي أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
ثمَّ إنَّ المختار بعد أن فرغ من قتال من ذكرناهم في وقعة السبيع، ما ترك إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتّى أشخصه إلى الشام لحرب عبيد الله بن زياد، وأخرج معه وجوه أصحابه مِمَّن شهد الحروب وجرَّبها، وخرج المختار يُشيعه ويوصيه ومعه الكرسي ويليه قومٌ كالسَّدَنةِ. وسنذكر خبر الكرسي إن شاء الله.
وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّامٍ أَعيَن، فلمَّا أَراد أَن ينصرف عنه قال لابن الأشتر :
- «خُذ عنِّي ثلاثاً : خفِ اللَّهَ في سِرِّ أَمرِك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ساعةً تلقاهم، وإن لقيتهم ليلاً فاستطعتَ أَلا تُصبح حتَّى تُناجزهم فافعل وإن لقيتهم نهاراً فلا تنتظر بهم الليل». ثم قال :
- «هل حفظت ما أوصيتُكَ به؟» قال :
- «نعم». قال :
صحبك الله.
ثم انصرف.
كان طفيل بن جعدة بن هُبيرة قد ضاقت يَدُهُ، وكانت أُمه أم هانئ بنت أبي طالب أُخت علي عليه السَّلام لأبيه وأُمِّه، وكان المختار يطالب آل جعدة بكرسي علي بن أبي طالب، فيقولون:
- «لا والله ما هو عندنا».
فيقول المختار :
- «لا تكونوا حَمقى» - ويتوعدهم.
ص: 125
قال طفيل : فاحتَرْتُ يوماً وأَنا على إضاقتي تلك، فرأيتُ كرسيّاً عند جارٍ لي زيَّاتٍ قد ركبه الوسخ. فخطر ببالي أن لو قلتُ للمختار: هذا كرسي علي بن أبي طالب؛ لَقبِلَه. فأرسلتُ إلى الزَّيَّات أَن :
- «ابعث إليَّ بكرسيك».
فأرسل به إليَّ،، فأَتيتُ المختار، فقلت له :
- «إني كنت أكتُمكَ أمر الكرسي الذي كنت تلتمسه، وقد بدا لي أن أظهره، لأَنَّ جعدة بن هبيرة كان يجلس عليه كأَنَّه يرى أَنَّ فيه أَثَرَة من علم». فقال :
- «سبحان الله! فَأَخَرتَ هذا إلى اليوم! ابعث به!».
قال : وقد كنتُ تقدَّمتُ بغسله وقد غسل، فخرج عُودَ نُضار، وقد كان تشرَّبَ الزيت، فخرج أبيض، وقد غُشِّيَ، فأَمرَ لي المختار باثني عشر أَلفاً، ثم دعا :
- «الصَّلاة جامعة».
وخطب فقال :
- «إنَّه لم يكن في الأمم الخالية أمرٌ إلا هو كائنٌ في هذه الأمة مثله، فإنه كان في بني إسرائيل التابوت، فيه بقيَّةٌ ممَّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة وإنَّ هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه».
فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبائيَّة، فكبروا ثلاثاً. فلما خرج المختار مع إبراهيم بن الأشتر لوجه عُبيد الله بن زياد، أخرج الكرسي على بغل يُمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعةً فقُتل أهل الشَّام مقتلة لم يُقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنةً، فارتفعوا فيه حتّى غَلَوا، وكان أَوَّل من سَدَنَهُ موسى بن أبي موسى الأشعري، ثمَّ حوشب البرشمي، فكانوا يرون أَنَّ المختار يتكلم عنه بوحي، وأشباه هذا».
فأَما إبراهيم بن الأشتر، فإنَّه سار من يومه مُسرعاً لا ينثني، يريد أن يلقى عبید الله بن زيادٍ وأهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق، فسبقهم إلى أرض الموصل، وأسرع إليه السَّير حتَّى لقيه بخازر إلى جنب قريةٍ يقال لها : باربيئا بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وأخذ ابن الأشتر لمَّا دَنَا من ابن زيادٍ لا يسير إلا على تعبئة ويسير بهم جميعاً لا يفرقهم إلا أنه يبعث الطُّفيل بن لقيط في الطلائع، وكان شجاعاً بئيساً.
ثمَّ أَرسل عُمير بن الحُباب السلمي إلى ابن الأشتر أني معك وأُريد لقاءك الليلة، فأرسل إليه ابن الأَشتر :أَن القَني إذا شئت.
فأتاه عميرُ ليلاً، فبايعه وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالنَّاس، فقال له ابن الأشتر :
ص: 126
- «فإني أستشيرك في أَمرِ فَأَشِرْ عليَّ». قال :
- «نعم». قال :
- «أترى أَن أُخندق عليَّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟».
قال عُمير بن الحباب :
- «لا تفعل، إنَّا لله، وهل يريد القوم إلا هذه، إن طاولوك وماطلوك هو خير لهم هم كثير أضعافكم، وليس يُطيق القليلُ الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم، فإنهم قد مُلئوا منكم رُعباً وإنَّهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوماً بعد يوم ومرَّة بعد مرَّةٍ، أنسوا بهم واجترأوا عليهم».
قال إبراهيم :
- «الآن علمتُ أَنَّك لي مناصح، صدقت الرأي وما رأَيتَ. أَمَّا إِنَّ صاحبي، بهذا الرَّأي أَمرني».
قال عُمير :
- «فلا تعدُّون رأيَهُ، فإنَّ الشَّيخ قد ضرَّسته الحروب، وقاسى منها ما لم تُقاسِ، ناهِضِ الرَّجلَ إذا أصبحتَ».
وانصرف عُمير، وأذكى ابن الأشتر حرسَهُ تلك الليلةَ، اللَّيلَ كلّه، ولم يدخل عينه غُمضٌ حتَّى إذا كان في السَّحر الأوَّل عبى أصحابه ميمنة وميسرة، وألحقَ أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرّجالة، وضمّ الخيل وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطاً من الناس، ونزل إبراهيم يمشي، وقال للناس:
- «ازحفوا»
فزحف النَّاس معه رويداً رويداً حتّى أشرف على تل عظيم مُشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أُولئك لم يتحرّك منهم أحد بعد فدعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثمَّ مرَّ بأصحاب الرايات، فكلما مرَّ على راية وقف عليها وقال :
- «يا أنصارَ الدِّين وشيعة الحقِّ وشرطةَ اللَّه! هذا عُبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته، وبينَ الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله ومنعه الذهاب في الأرض العريضة، حتّى قتله وقتل أهل بيته، قد جاءكم الله به، وجاءَه بكم. ووالله إني لأرجو أَنَّه ما جمع بينكم في هذا الموطن وبينه، إلا ليشفي صدوركم، ويسفك دمه على أيديكم».
وسار في ما بين الميمنة والميسرة، فرغبهم في الجهاد، وحرَّضهم على القتال.
ص: 127
ثم رجع حتّى نزل تحت رايته وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زیاد علی میمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته، عمير بن الحباب وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل، وهو يمشي في الرجال.
فلما تدانى الصَّفّان حمل الحصين بن النمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة وعليها علي بن مالكِ الجُشَمي، فثبت له هو بنفسه، فقُتل، ثم أخذ رايته قُرَّة بن عليّ، فقُتل أيضاً في رجال أهل الحفاظ، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبدالله بن ورقاء السَّلُولي، فاستقبل المنهزمين وقال :
- «يا شرطة الله، إليَّ إليَّ»
فأقبل جلهم إليه، فقال:
- «هذا أميركم يُقاتل إلى أين؟ سيروا بنا إليه».
فأَقبل حتَّى أَتَاهُ، فإذا هو كاشف عن رأسه يُنادي :
- «إليَّ إليَّ، أنا ابن الأشتر، إِنَّ خير فُرَّارِكم كُرَّارُكم، ليس مُسيئاً من أَعتب».
فثاب إليه أَصحابه وأرسل إلى صاحب الميمنة :
- «احمل على ميسرتهم».
وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير بن الحباب كما زعم.
فحمل عليه سفيان بن يزيد بن المغفّل صاحب الميمنة، فثبت لهم عُمير بن الحباب وقاتله قتالاً شديداً، فلما رأى إبراهيم ذلك، قال لأصحابه :
- «أُمُّوا هذا السواد الأعظم، فوالله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرةً انجفال طيرِ زُعِقَ بها فطارت».
قال ورقاءُ بن عازب فمشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم اطَّعَنَّا بالرماح قليلاً، ثمَّ صرنا إلى السيوف والعُمُد فاضطربنا بها ملياً. فوالله ما سمعت من وقع الحديد على الحديد إلا مَياجِنَ قصَّارى دار الوليد بن عُقبة بن أبي معيط. ثم انهزموا، فسمعتُ إبراهيم بن الأشتر يقول لصاحب رايته :
- «انغمس برايتك فيهم». فيقول له :
- «جعلت فداءَك، إنَّه ليس متقدم». فيقول:
- «بلى، فإنَّ أصحابك يقاتلون، وإن هؤلاء يهربون».
فإذا شد إبراهيم بسيفه، فلا يضرب أحداً إلا صرعه، وكردَ إبراهيم بن الأشتر الرّجال بين يديه كأَنَّهم الحملان، وإذا شد، شدَّ أَصحابه معه شدَّة رجل واحد.
ص: 128
فلمَّا انهزم أهل الشام، قال ابن الأشتر :
- «إني قد ضربت رجلاً فقتلته ووجدتُ منه رائحة المسك، ضربةً شرقتُ يديه وغربت رجليه، تحت راية منفردة على شاطئ جازر وأَظنُّه طاغيتهم، فالتمسوه».
فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زيادٍ قتيلاً، ضربه فقطَّهُ.
وحمل شريك بن جرير على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه ابن زياد، فاعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، ونادى شريك :
- «اقتلوني وابنَ الزَّانية».
فقُتل ابن نُمير.
وكان شريك بن جرير مع علي أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لَحِقَ ببيت المَقدِس، فلما جاءَه قتل الحسين قال :
- «أعاهد الله، لئن وجدتُ من يطلب بدم الحسين أقبل إليه، ولأقتلن ابن مرجانة، أو لأموتنَّ دونه».
فلما بلغه خروج المختار يطلب بدم الحسين، جاءَهُ، فوجهه مع ابن الأَشتر.
وقتل ابن ذي الكلاع، وتبع أصحابُ إبراهيم أهل الشام المنهزمين فكان من غرقَ أكثر ممَّن قُتل. وأصابوا من عسكرهم كلّ شيءٍ من الغنائم.
ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عُمَّالَهُ، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، فغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، وخرج من أَهل الكوفة كلُّ من كان قاتل المختار وهزمهم فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وفيهم شبث بن ربعي. وكان المختار قال لأصحابه :
- «سيأتيكم الفتح من قبل إبراهيم بن الأشتر. قد هزموا أصحاب ابن مرجانة».
وخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السَّائب بن مالك الأشعري، وخرج بالنَّاس فنزل ساباط وقال للنَّاس :
- «أبشروا، فإنَّ شرطة الله قد حسُّوهم بالسيوف يوماً إلى اللَّيل بنصيبين أو قريباً منها».
قال : ودخلنا المدائن واجتمعنا إليه فصعد المنبر، فوالله إنَّه ليخطبنا، ويأمر بالجد والاجتهاد والثبات على الطاعة والطَّلبِ بدماء أهل البيت، إذ جاءته البُشرى تترى، يتبع بعضها بعضاً بقتل عُبيد الله بن زيادٍ وهَزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار :
ص: 129
- «يا شرطة الله ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون؟ قالوا :
- «بلى والله، لقد قلت ذلك».
قال الشعبي : فيقول لي رجل من بعض جيراننا :
- «أَتُؤمن الآن يا شعبي؟».
قال : قلت :
- «بأَيِّ شيءٍ أومن؟ بأَنَّ المختار يعلم الغيب؟ لا أُومن بذلك أبداً». قال:
- «أو لم يقل لنا أَنَّهم انهزموا؟» فقلتُ :
- «بلى ولكن زعم أَنَّهم هُزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أَرض الموصل». فقال :
- «والله لا تُؤمن حتّى ترى العذاب الأليم».
لمَّا قدم شبت على مصعب بن الزبير كان تحته بغلة له قد قطع ذنبها وقطع طرفُ أذنها، وشقَّ قباءه وهو يصيح :
- «يا غوثاه یا غوثاه!».
فعُرّف مُصعبٌ أَنَّ بالباب رجلاً صفته كذا وكذا، فقال لهم :
- «نعم، هذا شبث بن ربعي ولم يكن ليفعل هذا غيره، أدخلوه».
فأُدخل إليه، وجاءَه أشراف الناس من أهل الكوفة، فأخبروه بما أُصيبوا به من وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النَّصرَ لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن القيس، ولم يكن شهد وقعة الكوفة، وإنّما كان يُقَصُّ له. فلما بلغه هزيمةُ النَّاس، تهيَّاً للشخوص، وسأل عنه المختار، فأُخبر بمكانه، فسرَّح وراءه قوماً، فلم يلحقوه، ومضى إلى مُصعب، فأَدناه مُصعبٌ وقرَّبه وأكرمه لشرفه، وهدم المختار دار ابن الأشعث.
ثم قال مُصعب لمحمد بن الأشعث لما أكثر عليه النَّاس :
- «إنِّي لا أسير حتّى يأتيني المهلب بن أبي صفرة».
فكتب مُصعب إلى المهلب وهو عامله على فارس أَن :
- «أقبل إلينا لتشهد أمرنا وتسير معنا إلى الكوفة».
فتباطاً عنه المهلب كراهة للخروج، واعتل بشيء من الخُراج، فأَمر مُصعبٌ
ص: 130
محمد بن الأشعث بن قيس في بعض ما كان محمد يستحثه :
- «إيتني بالمهلب».
فخرج محمَّد بكتاب مُصعب إلى المهلب، فلما قرأه، قال :
- «مثلك يا محمد في شرفك يأتي بريداً؟ أما وجد المُصعب بريداً غيرك؟».
قال محمد :
- «إنّي، والله ما أنا ببريد لأحدٍ، غير أن نساءنا وأبناءنا وحُرَمنَا غَلَبنَا عليهم عبداننا وموالينا».
فخرج المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه في هيئة وعُدَّة وجموع ليس بها أَحدٌ من أهل البصرة. ولما ورد بابَ مُصعب صادفه وقد أذن للنَّاس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده وكسر أنفه. فدخل الحاجب إلى المُصعب وأَنفُه يسيل دماً، فقال له :
- «ما لك؟» قال :
- «ضربني رجلٌ ما أعرفه».
ودخل المهلب، فلما رآه الحاجب، قال :
- «هو ذا».
فقال له مُصعب :
- «عُدْ إلى مكانك».
ثمَّ عسكر مُصعب عند الجسر الأكبر، وقدَّم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عُمر بن عبد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب على ميسرته، وبعث على الأخماس مالك بن مسمع ومالك بن المنذر، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمرو الأزدي، وقيس بن الهيثم.
وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى، وقال:
- «يا أَهلَ الدِّين وأعوان الحقِّ وأنصار الضعيف وشيعة آل الرَّسول إِنَّ فُرّارك الذين بغَوا عليكم فهزمتموهم أَتَوا أَشباههم من الفاسقين، فاستغووهم عليكم ليمصحَ الحقُ ويُنعش الباطل، ويُقتل أولياء الله. والله لو هلكتم ما عُبد الله في الأَرض إلا بالفري على الله واللعن لأهل بيت نبيه (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، انتدبوا مع أحمر بن شميط».
فعسكر بحمام أعين. ودعا المختارُ رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع ابن شميط، لأنَّهم فارقوا ابن الأشتر لما رأوا من تهاونه بأمر المختار، فبعثهم
ص: 131
المختار مع ابن شميط وبعث معه جيشاً كثيفاً.
وسار أحمر بن شميط حتَّى ورد المذار وجاءَ مُصعب حتَّى عسكر قريباً منه، ثمَّ عبّى كلُّ واحدٍ منهم جنده، وجعل أحمرُ بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب بن نضلة، وعلى الخيل رزين بن عبد الله السلولي، وعلى الرَّجّالة كثير بن إسماعيل الكندي، وجعل أبا عمرة على الموالي وكان مولى لِعُرينة.
فجاءَ عبد الله بن وهب وكان على الميسرة إلى ابن شميط وقد أخلاه، فقال له :
- «إنَّ الموالي والعبيد إلى خورٍ عند المصدوقة، وأَنَّ معهم رجالاً كثيراً على الخيل وأَنتَ تمشي، فمُرْهم لينزلوا معك، فإنَّ لهم بك أسوةً، وإِنِّي أَتخوّف إن طُردوا ساعة فطُوعِنوا وضوربوا، أن يطيروا على متونها، ويُسلموك، وإنَّك إن أَرجلتهم لم يجدوا من الصَّبر بُدّاً».
وإِنَّما غش الموالي والعبيد لما كان لَقِيَ منهم بالكوفة، فأحب - إن كانت عليهم الدَّبرة - ألَّا يكونوا فُرساناً بل رجالة، فلا ينجو منهم أحدٌ. ولم يتّهمه ابن شميط، وظن أَنَّه إنّما أَراد بذلك نصيحته ليصبروا ويقاتلوا فقال :
- «يا معشر الموالي، انزلوا معي، فقاتلوا».
فنزلوا معه ثمَّ مشوا بين يديه وبين يدي رايته.
وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد بن الحصين على الخيل، وأقبل عبَّاد حتّى دَنَا من ابن شميط وأصحابه فقال :
- «إنَّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله الله بن الزبير».
فقال الآخرون:
- «إنَّا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنة رسوله(صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن يجعل الأمر شُورى في آل الرَّسول، فمن زعم من النَّاس أَنَّ أَحداً ينبغي أن يتولَّى عليهم برئنا منهم وجاهدناه».
فانصرف عباد إلى مُصعب فأَخبره فقال له :
- «ارجع، فاحمل عليهم».
فحمل على ابن شميط، فلم يَزُلْ منهم أَحدٌ. ثم انصرف إلى موقفه، وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، وانصرف
ص: 132
عنه المهلب، ثمَّ وقف ساعة، وقال لأصحابه :
- «احملوا حملة صادقة، فقد أطمعوكم».
يعني جولتهم التي جالوها. فحمل عليهم حملة منكرة، فولوا، وصبر ابن كامل في رجال همدان، فأخذ المهلب يسمع اتصال القوم :
- «أنا الغلام الشاكري، أنا الغلام الشَّبامي، أنا الغلام الثَّوري».
وحمل عمر بن عبد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف عنه، وحمل النَّاس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتّى قُتل، وتنادى أصحابه :
- «يا معشر بجيلة وخثعم، الصَّبر الصَّبر».
فناداهم المهلب :
- «الفرار الفرار، فهو اليوم أنجى لكم، علامَ تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أَضلَّ الله سعيكم».
ثم نظر إلى أصحابه فقال :
- «والله ما أدري استحرار القتل إلا في أصحابي وقومي».
ومالت الخيل على رجالة ابن شميط فانهزمت وأخذت في الصحراء، فبعث مصعب بن الزبير عباد بن الحصين على الخيل وقال :
- «إيَّما أَسِير أَخذتَه فاضرب عُنقَه».
وسرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال:
- «دونكم ثأركم».
فلم يكن على المنهزمين قومٌ أَشدَّ عليهم منهم، كانوا لا يعفون عن أسير إنَّما هو القتل، فلم يَنجُ من ذلك الجيش إلا طائفةٌ من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم، فأبيدوا.
فتحدث عبد الرحمن بن أَبي عُمير الثقفي، قال : والله إنِّي لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم، فأصغى إليَّ برأسه وقال لي :
- «قتلت والله العبيد قتلة ما سمعتُ بمثلها قط».
ثم قال :
- «وقتل ابن شميط وابن كامل، وفلان وفلان...».
فسمى قوماً من العرب ورجالاً كان الواحد منهم خيراً من أُمَّةٍ من النّاس.
ص: 133
قال : فقلت :
- «إِنَّا للهِ، هذه والله مصيبة».
فقال لي:
- «ما من الموت بد، وما من ميتة أموتُها أَحبّ إليَّ من مثل ميتة ابن شميط، حبَّذا مصارع الكرام».
قال : فعلمتُ أَنَّ الرجل قد حدث نفسه إن لم يُصب حاجتَه، أَن يُقاتل حتَّى يموت.
وأقبل مصعب حتّى قطع من تلقاءِ واسط القصب، ولم تكن واسط هذه بُنيت بعد، وأخذ في كَسكَر، ثم حمل الرّجال وأثقالهم وضعفاءَ النَّاس في السُّفن، فأخذوا في نهرٍ يُقال له : نهر خُرشيذ، ثمَّ خرجوا من ذلك النّهر إلى الفرات، وكان أهل البصرة يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون :
عوَّدنا المُصْعَبُ جَرَّ القَلسِ *** والزنبريَّات الطوال القُعْس
ولما بلغ المختارَ أَنَّهم قد أقبلوا إليه في البر والبحر، سار حتى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار : نهر الحيرة، ونهر السيلحين، ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار فذهب ماءُ الفرات كُله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أَهل البصرة في الطِّين.
فلما رأوا ذلك، خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتَّى أَتَوا ذلك السكر، فكسرُوه.
فكان غلط المختار في ذلك، أنه حيث سكر الماء وقطعه عن القوم، وجب أن يخلِّف على السّكر جيشاً قوياً، فصمد القوم لما كسروا السِّكر صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذلك أقبل إليهم حتَّى نزل حَرُورا، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عُدَّة الحصار، واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد.
وجاءَ مُصعبٌ في جيشه، وخرج إليه المختار، وقد جعل على ميمنته سلیم بن يزيد الكندي وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهَمْداني ثمَّ الثَّوري، وكان على شرطته عبد الله بن قُراد الخثعمي، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرّجال مالك بن عمرو النَّهدي.
وجعل مُصعبٌ على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبدالله بن معمر التّيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطي وعلى الرّجال
ص: 134
مقاتل بن مسمع الكندي، ونزل هو يمشي، وجعل على الكوفة محمد بن الأشعث. فجاء محمد حتَّى نزل بين مُصعب والمختار مقرباً ميامناً، فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كلِّ خُمس من أخماس البصرة رجلاً من أصحابه في خيل، ووقف في بقية أصحابه، وزاحف النَّاس ودَنا بعضُهم من بعض، وحمل سعيد بن منقذ وعبدُ الرَّحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة عليهم عبد الله بن معمر، فقاتلهم ربيعة قتالاً شديداً وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يُقلعان، إذا حمل أحدهما فانصرف، حَمَلَ الآخرُ، وربما حملا جميعاً.
فبعث مصعبٌ إلى المهلب :
- «ما تنتظر أن تحمل من بإزائك؟ ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان اليوم؟ احمل بأصحابك».
فقال المهلب :
- «إنِّي لعمري ما كنتُ لأجزر الأَزدَ وتميماً خشية أهل الكوفة حتّى أرى فرصتي».
وبعث المختارُ إلى عبد الله بن جعدة أن :
- «احملْ على مَن يليك».
فحمل عليهم، فكشفهم حتّى انتهوا إلى مُصعب. فجثا مُصعبٌ على ركبتيه، ولم يكن فراراً، فرمى بأسهمه ونزل النَّاس، فقاتلوا ساعة، ثم تحاجزوا.
فبعث مُصعبٌ إلى المهلب وهو في خُمسين من الأخماس جامين كثيري العددِ والفرسان :
- «لا أبا لك ما تنتظر أن تحمل على القوم؟».
فمكث غير بعيد. ثمَّ إنَّه قال لأصحابه :
- «قد قاتل القوم منذ اليوم وأنتم وُقوف، وقد أحسنوا، وبَقِيَ ما عليكم، احملوا واصبروا واستعينوا بالله».
- «فحملوا حملةً عظيمةً، فحطّموا أصحاب المختار حطمةً مُنكرة فكشفوهم. وقال عبد الله بن عمرو النَّهدي، وكان من أصحاب صفين :
- «أَللَّهُمَّ إنِّي على ما كنتُ عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إنِّي أَبرأُ إليك من فعل هؤلاء المنهزمين».
وجالدَ بسيفه حتَّى قُتل :
وأتي مالك بن عمرو النهدي بفرسه، وكان على الرَّجالة، فركبه وانقصف أصحاب
ص: 135
المختار انقصافة شديدة كأَنَّهم أجمةٌ فيها حريق. فقال مالك حين ركب :
- «ما أصنع بالركوب؟ والله لأن أُقتَل هاهنا أحبُّ إليَّ من أَن أُقتل في بيتي. أينَ أهل البصائر؟».
فثاب إليه نحو من خمسين رجلاً.
وذلك عند المساء، فكرَّ على أصحابه محمَّدُ بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقُتل محمد بن الأشعث هو وعامَّةُ أَصحابه. وانتهى المختار في أصحابه إلى محمد بن الأشعث قتيلاً ومالك بن عَمرو يحسُّهم بالسَّيف فقال :
- «يا معشر الأنصار، كرُّوا على الثّعالب الرَّوَّاغة».
فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مُصعب وطلع القمرُ.
وأمر المختار منادياً فنادى :
- «يا محمد!».
وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مُصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يُقاتلونهم حتّى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحدٌ.
وكان أصحابه قد وغلوا في أصحاب مُصعب، فقال له بعض من كان معه :
- «أَيُّها الأمير، ما تنتظر؟ قد هُزم أصحابك وما بقي معك أحدٌ انصرف إلى القصر».
قال المختار :
- «والله ما نزلتُ وأنا أُريد الرُّكوب، فأَما إذا انصرف أصحابي فقدموا فرسي».
فركب حتّى دخل القصر منهزماً، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوافوقفوا مليّاً، فلم يروا المختار، فقالوا :
- «قد قُتل».
فهرب منهم طائفةٌ ممَّن أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة وتوجه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا في الأصل عشرين أَلفاً فلمَّا أتوا القصر وجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه
وأصبح مُصعب فأقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل
ص: 136
الكوفة، فأخذ بهم نحو السَّبخة، فمرَّ بالمهلب.
فقال له المهلب :
- «يا له فتحاً ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قُتل». قال :
- «صدقت، فرحم الله محمداً».
ثم قال :
- «يا مُهلَّبُ!» قال :
- «لبيك أَيُّها الأمير». قال :
«هل علمتَ أنَّ عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قُتل؟ قال :
- «إِنَّا لله وإنا إليه راجعون»
قال مصعب :
- «أما إنِّي كنتُ أُحبُّ أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أَنفسنا أَحقّ بشيءٍ مما نحن فيه منه. أتدري من قتله؟ إنَّما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنّهم قتلوه وهم يعرفونه».
ثم مضى حتّى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرَّحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالاً ضعيفاً، وكان لا تخرج له خيل إلا رُميتُ بالحجارة من فوق البيوت ويُصبُّ عليهم الماء القذر، فاجترأ النَّاس عليهم. فكان أفضل معايشهم من نسائهم. وذلك أنَّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطَّعام واللطف والماء قد التحفت عليه، فتخرج كأَنَّها تريد المسجد الأعظم للصَّلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دَنتْ من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولَطَفِه، وإِنَّ ذلك ليبلغ مُصعباً.
وكان المهلبُ ذا حُنكة وتجربة، فقال :
- «أَيُّها الأمير، اجعل عليهم دروباً حتّى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه».
وكان القوم إذا اشتدَّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليُغَيّر طعمه، فأُخذ ثلاث نسوة في الشَّباميّين أتين أزواجهنَّ في القصر، فبعث بهنَّ إلى مُصعب
ص: 137
ومعهنَّ الطَّعام والشراب فردَّهنَّ مُصعب ولم يعرض لهنَّ.
فقال المختار يوماً لأصحابه :
- «وَيْحَكُمْ إنَّ الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً، انزلوا بنا، فلنقاتل حتى نُقتَلَ كراماً إن قُتلنا، والله ما بيائس، إن أنتم صدقتموهم أن ينصركم الله».
فضعفوا وعجزوا فقال لهم المختار :
- «أما أنا والله لا أُعطي بيدي، ولا أُحكِّمهم في نفسي».
ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يُريد المختار تدلى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأَ عندهم.
ثمَّ إنَّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أُمّ ثابت بنت سَمُرَة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتَحنَّط، ثمّ وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر نفساً فيهم السائب بن مالك الأشعري، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب :
- «ماذا ترى؟» قال :
- «أَنا أَرى، أم الله؟» قال:
- «بل الله، ويحكَ أَحمقُ أَنت. إِنَّما رجلٌ من العرب لما رأيتُ ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيتُ نجدة انتزى على اليمامة، ورأيتُ مروان انتزى على الشّام، لم أكن دون أحدٍ من رجال العرب فأخذتُ هذه البلاد، وكنتُ كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلتُ من شرك في دمائهم، وبالغتُ في ذلك إلى يومي هذا. فقاتل على حَسَبك إن لم تكن لك نيَّةٌ».
- «قال : إِنَّا لله وإنا إليه راجعون، وما كنتُ أَصنع أن أقاتل على حَسَبي؟».
فتمثَّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفي :
وَلَو يراني أبو غيلان إذ حَسَرتْ *** عَنِّي الهموم بأمر ما له طَبَقُ
لقالَ رُهباً ورُعباً يُجمعان معاً *** غُنمُ الحياة، وهول الموت والشَّفَقُ
إمَّا يُسفّ على مجد ومكرمة *** أو أُسوة لك في مَن يُهلك الوَرِقُ
ثمَّ خرج في تسعة عشر رجلاً، فقال للناس :
- «أتؤمنوني وأخرج إليكم؟» فقالوا :
- «لا إلا على الحكم». فقال:
ص: 138
- «لا أُحكّمكم في نفسي أبداً».
فضارب بسيفه حتَّى قُتلَ.
كان المختار قال لأصحابه حين أتوا أن يبايعوا على الخروج :
- «إذا أَنا خرجتُ فقُتلتُ لم تزدادوا إلا ضعفاً وذلاً، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم. يقول كل رجل منهم لبعضكم : هذا عنده ثأري، فيُقتل وينظر بعضكم إلى بعض فيرى مصرعه ومصرعَ أحبته، فيقولون : يا ليتنا كنا أطعنا المختار وعملنا برأيه، ولو أنكم خرجتم معي، كنتم إن أخطأتم الظَّفْرَ، مُتُم كراماً، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غداً أَذلّ مَن على ظهر الأرض».
فكان الأمر على ما قال.
ولما كان من الغد، قال لهم بجير بن عبد الله :
يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرَّأي لو أطعتموه، يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذُبحتم كما تذبح الغنم اخرجوا بأسيافكم حتّى تموتوا كراماً إن قتلتم».
فقالوا :
- «قد أمرنا بهذا من كان أطوعَ عندنا وأنصح لنا منك فعصيناه، أفنحن نطيعك؟».
فأَمكنوا القوم من أنفسهم ونزلوا على الحكم فبعث إليهم مُصعب عباد بن الحصين، فكان يخرج بهم مكتفين، فأدركتهم الندامة حينئذ، فقتلوا من عند آخرهم.
قال بجير بن عبد الله المسلّي حين أتي به مصعب ومعه ناس كثير منهم :
- «الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بالعفو، وهما منزلتان، في إحديهما رضا الله، وفي الأخرى سخطه، مَن عفا عفا الله عنه وزاده عزّاً، ومن عاقَبَ لم يأمن القصاص، يابن الزبير نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تُركاً ولا ديلماً، خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطأوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتلَ أَهلُ الإسلام بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا، ثم اصطلحوا واجتمعوا. لقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا».
فلم يزل بهذا القول ونحوه حتّى رقّ لهم الناس، ورقَّ مصعب أيضاً، وأراد أن يخلي سبيلهم.
فقال عبد الرَّحمن بن محمد بن الأشعث:
ص: 139
- «تخلى سبيلهم يابن الزبير؟ اخترنا، أو اخترهم!».
ووثب محمد بن عبد الرَّحمن بن سعيد بن قيس، فقال:
- «قُتِل أبي وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة، ثم تخلى سبيلهم ودماؤنا ترقرق في أجوافهم، اخترنا أو اخترهم».
ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أُصيب منهم رجل، فقالوا نحواً من هذا القول. فلما رأى مصعب ذلك، أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم :
- «يا ابن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا على مقدَّمتك إلى أهل الشام غداً، فوالله ما بك ولا بأصحابك عناً غداً غِنى إذا لقيتم عدوّكم، فإن قُتلنا لم تقتل حتَّى نُرِقَّهم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك».
فأبى عليهم وتبع رضا أصحابه.
فقال بُجير المسلّي :
- «إن حاجتي إليك أَلَّا أُقتل مع هؤلاء، إِنِّي أَمرتُهم أَن يخرجوا بأسيافهم فيقاتلوا حتّى يموتوا كراماً، فعصوني».
فقدم ناحية فقُتل.
ثمَّ إنَّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب :
- «يا ابن الزبير، ما تقول للهِ إذا قدمت عليه وقد قتلت أُمَّةً من المسلمين صبراً حكموك في دمائهم وكان الحق في دمائهم ألا تقتل نفساً مسلمة بغير نفس، فإن كنا قتلنا عدة رجالٍ منكم فاقتلوا عدة من قتلنا منكم وخلوا سبيل بقيَّتنا وفينا رجالٌ كثيرٌ لم يشهدوا موطناً من حربنا وحربكم يوماً واحداً كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج ويُؤمنون السُّبُل».
فلم يستمع له. فقال :
- «قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلاً على حرس سِكَّةٍ من هذهِ السِّكَكِ فنطردهم ثم نلحق بعشائرنا، فعصوني حتَّى نموتَ الآن ميتة العبيد، فأَنا أَسأَلُكَ أَلا تخلط دمي بدمائهم».
فقدم ناحية فقُتل. فكان عدد من قُتل صَبراً ستَّة آلاف سوى مَن قُتل في المعركة.
فلقي مصعب بن الزبير يوماً عبد الله بن عُمر، فسلم عليه، فأعرض عنه ابن عمر فقال :
ص: 140
- «أنا ابن أخيك مصعبٌ».
فقال :
- «نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة عِش ما استطعت!».
فقال مصعب :
- «إِنَّهم كانوا كفرةً فَجرةً».
فقال ابن عمر :
- «والله لو قتلت عددهم غنماً من تراث أبيك، لكان ذلك سرفاً».
ثمَّ إنَّ مصعباً أَمر بكفّ المختار فقطعت، ثمَّ سُمِّرَتْ بمسمار حديد، إلى جنب المسجد فلم يزل على ذلك حتّى قدم الحَجَّاج بن يوسف، فنظر إليها، فقال:
- «ما هذه ؟ قالوا :
- «كف المختار».
فأمر بنزعها.
وبعث مصعبٌ عُمَّاله على الجبال والسَّواد. ثم كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له :
- «إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي، فلك الشّام، وأَعِنَّةُ الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب وما دام لآل الزبير سلطان».
وكتب إليه عبد الملك بن مروان من الشَّام يدعوه إلى طاعته ويقول :
- «إن أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق».
فاستشار إبراهيم أصحابه، فاختلفوا عليه، فقال إبراهيم:
- «لو لم أكن أصبتُ عُبيد الله بن زياد ورؤساء الشَّام، لأجبتُ عبد الملك مع أني لا أختار على أهل مصري مصراً، ولا على عشيرتي عشيرة».
فكتب إلى مصعب فأجابه مصعب: أن أقبل فأقبل إليه، وبعث المهلب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلب على الفرات.
ثُمَّ إِنَّ مُصعباً بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها :
ص: 141
- «ما تقولين في المختار؟».
فقالت :
- «رحمه الله، كان عبداً، كان عبداً من عباد الله الصالحين».
فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أَنَّها تزعم أَنَّه نبي. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عَتَمةٍ، وسلمها إلى مَطَرٍ، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت :
- «يا أبتاه، یا أهلاه یا عشیرتاه!».
فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له :
- «يا ابن الزانية، قطعتَ نَفسَها قطع الله يمينك».
ولزمه مطرٌ حتّى رفعه إلى مصعب فقال :
- «إِنَّ أُختي مسلمة».
وادعى شهادةَ بني قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب :
- «خلوا سبيله فإنَّه رأى أَمراً فظيعاً».
فقال عمر بن أبي ربيعة :
إنَّ من أعجب العجائب عِندي *** قتلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطبولِ
قتلت هكذا على غير جُرم *** إنَّ للَّهِ درها من قتيل
كُتب القتلُ والقِتال علينا *** وعلى المحصنات جَرُّ الذيول
وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب مَن قَتلَ مَن قَتلَ منهم ابنه محمداً. وذلك أَنَّ بني تميم تفرقوا بخراسان أَيَّام ابن خازم. فأتى قصراً يُعرف بِفَرْنبا عدة من فرسان بني تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذُؤيب العدوي، وجبهان بن مشجعة الضَّبي، ورقبة بن الحرّ، والحجاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقاً حصيناً لَثلاً يبيِّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوماً على تعبئة من خندقه في ستّة آلاف، وخرج أهل القصر. فقال عثمان بن بشير :
- «لا أظن لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا».
فقال زهير بن ذُؤيب العدوي : امرأته طالق إن يرجع حتى ينقض صفوفهم. وكان
ص: 142
إلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشّتاء، ولم يكن يومئذٍ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتّى حمل عليهم، فحطَّم أَوَّلَهم على آخرهم واستداروا وكرَّ راجعاً واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحدٌ حتّى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه :
- «إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا في رماحكم كلاليب فاعلقوها في أداته ودرعه».
فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن حازم إلى زهير :
- «أَرأَيْتَك إن آمنتُكَ وأعطيتك مائة ألف وجعلتُ لك باشان طعمة تناصحني؟»
فقال زهير للرَّسول :
- «ويحك! كيف أُناصح قوماً قتلوا الأشعث بن ذُؤيب.
فرجع الرَّسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أَطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن:
- «خلنا نخرج فنتفرَّق». فقال :
- «لا، إلا أن تنزلوا على حكمي». قالوا :
- «فإنَّا ننزل على حكمك».
فقال لهم زهير :
- «ثكلتكم أمهاتكم، والله ليقتلنَّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفساً فموتوا كراماً، اخرجوا بنا جميعاً، فإما أن تموتوا جميعاً، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدَّة صادقة لَيُفرجنَّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنتُ أمامكم، وإن شئتم كنتُ خلفكم».
قال : فأبوا عليه، فقال:
- «أَمَّا إِنِّي سأريكم».
ثمَّ خرج هو ورقبة بن الحُرِّ ومع رقبة غلامٌ له تركي، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتّى دخل القصر، فقال لأصحابه :
- «قد رأيتم، فأطيعوني». فقالوا :
ص: 143
- «إنَّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة». قال:
- «أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت».
ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيَّدهم، ثمَّ حُملوا رجلاً رجلاً، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى وقال :
- «والله لئن عَفَوتَ عنهم لأتكتَن على سيفي حتى يخرج من ظهري».
فقال له عبد الله :
- «أما والله إنِّي لأعلم أن الغيَّ في ما يأمرني به».
فقتلهم جميعاً إلا ثلاثة : الحجاج بن ناشب - كلمه فيه رجالٌ من بني تميم كانوا معتزلين من عمرو ؛ وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خَلُّوا عن هذا البغل الديرج ؛ ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يومَ لحقوا ابن خازم انصرفوا عن فارس مُضر.
فَأَمَّا زهير بن ذُؤيب، فأرادوا حمله مقيداً، فأبى وأقبل يحجل في قيده حتّى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:
- «كيف شكرُك إن أطلقتك وجعلتُ لك باشان طعمة؟» قال :
- «لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتُك».
فقام ابنه موسى فقال :
- -تقتل الضبع وتترك الذيخ؟ تقتل اللبوءَةَ وتترك اللَّيتَ؟» قال:
- «ويحك! يُقتل مثل زهير ؟ من لقتال عدو المسلمين، من لنساء العرب؟». قال :
- «والله لو شركت في دم اخي لقتلتك».
فقام رجلٌ من بني سليم إلى ابن خازم، فقال:
- «أُذكرك الله في زهير».
فقال له موسى :
- «اتخذه فحلاً لبناتك!».
فغضب ابن خازم، وأَمر بقتله، قال زهير :
- «فإنَّ لي حاجة: لا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراماً، وأن يخرجوا عليكم مُصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا
ص: 144
بُنيَّك هذا بنفسه عن طلب النَّار بأخيه».
وأَمر به فنُحي ناحية وقُتِلَ.
فما أشبه هذا الرّأي برأي المختار حتى كأَنَّ أَحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلَّ الوقتين كان واحداً، فإن الزمان متقارب.
وفي هذه الأيَّام التي شُغل فيها النّاس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى قرب الكوفة، وذلك في سنة ثمان وستين.
وكان عبد الله بن الزبير ردَّ أَخاه مُصعباً على العراق أميراً بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّةٌ فعزله. فلما ردَّ مُصعباً، بعث مُصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميراً، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس و كرمان ونواحي أصبهان بعدما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما أَشخص المهلب إلى الموصل كان عُمر بن عبيد الله بن معمر على فارس فانحطَّت الأزارقة مع ابن الزبير ابن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، ثم ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مُصعب ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالاً شديداً وقتل ابنه. ثمَّ إنَّه ظفر بهم وقطعوا قنطرة طَمَسْتان. وارتفعوا إلى أصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتّى اجتبروا، وقَوُوا، واستعدوا وكثروا.
ثمَّ إِنَّهم أَقبلوا حتَّى مروا بفارس، وفيها عُمر بن عُبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عُبيد الله أَنَّ الخوارج قد قطعت أرضه موجهة إلى البصرة خشي ألا يحتملها له مصعب، فشمّر في آثارهم مُسرعاً حتّى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا موجهين إلى الأهواز. وبلغ مصعباً إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال:
- «والله، ما أدري ما الذي أغنى عَنِّي أَن وضعتُ عُمر بن عبيد الله بن معمر بفارس، وجعلتُ معه بها جُنداً أُجري عليهم أرزاقهم في كلِّ شهر، وأُوفِّيهم أعطياتهم في كلِّ سنةٍ، وآمُرُ لهم من المعاون كل سنة بمثل الأعطيات، قطعَ أَرضَه الخوارج إليَّ،، وقد أَزحتُ عِلَّته، وقد أمددتُه بالرّجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثم فرَّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارُّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل».
وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتَّى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أن عمر بن عُبيد الله في أثرهم، وأَنَّ مُصعباً قد خرج من البصرة.
ص: 145
فقام الزبير خطيباً وقال بعد حمد الله :
- «أما بعد، فإنَّ من سوء الرأي والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدونا، فلنَلْقَهم من وجه واحدٍ».
فسار بهم حتى قطع بهم الأرض إلى جُوخى، ثمَّ أَخذ على النهراوانات، ثمَّ لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن، فشن بها الغارات وقتل الولدان والنساءَ والرِّجال، وبقر بطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط ففعلوا ذلك، وقتلوا نُباتة بنتَ يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، عشوها بالسيف، قالت:
- «وَيْحَكم هل سمعتُم بأَنَّ الرِّجال كانوا يقتلون النِّساء؟ وَيْحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ وَيْحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يداً ولا يُريد بكم ضراً، ولا يملك لنفسه نفعاً؟ أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟».
فقام رجلٌ منهم :
- «لو تركتموها!» فقال له آخرُ :
- «أعجبك جمالها يا عدو الله! كفرت وافتتنتَ».
وانصرف الآخر عنه وتركهم قال : فظننّا أنه فارقهم. وحملوا عليها فقتلوها.
ثمَّ إِنَّ النَّاس بالكوفة أتوا الحارث بن أبي ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا :
- «اخرج، فإن هذا عدونا قد أَظَلَّ علينا».
فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتَّى نزل النُّخيلة، فأقام بها أَيَّاماً.
فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَمَّا بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيَّةٌ، يُخيف السُّبُلَ ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه».
فأمر بالرحيل، فخرج حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل شبث بن ربعي، فكلمه بنحو ما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكد، فرجز به الناس وكان يلقب بالقباع :
سارَ بِنَا القُباعُ سيراً نُكراً *** یسیر يوماً ويُقيم شهرا
فأَشخصوه من ذلك المكان. فكلما نزل بهم منزلاً أَقام، يصيح به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراةَ إلَّا في بضعة عشر يوماً وقد انتهى إليها طلائع العدو،
ص: 146
وأوائلُ الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل المصر قد أتوهم قطعوا الجسر بينهم وبين الناس.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبي ربيعة :
- «اندب معي النَّاسَ حتَّى أَعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم».
فقال شبث بن ربعي، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عُمير :
- «أصلح الله الأمير، دَعْهم، فليذهبوا لا تبدأ بهم».
وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أَتَتْ أَيَّامٌ اجتمع النَّاس فقالوا :
- «يا أَيُّها الأمير، ما قُعودُنا بهذا الجسر، فليُعَذ، ثمَّ اعْبُرْ بنا إليهم، فإنَّ الله سيُريك ما تُحِبُّ».
فأمر بالجسر، فأُعيد وعبر النّاسُ إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستَّةِ آلافٍ ليُخرجهم من أَرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلَّاهم، فاتبعهم حتى وقعوا في أرض البصرة، ثمَّ وقعوا إلى أصبهان فانصرف عنهم من غير قتال، ومضوا حتّى نزلوا بعتاب بن ورقاء بجي، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب بن الزبير، فبعث عَتَّاباً، فصبر لهم عَتَّابٌ، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور النشاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد.
فدعاهم عتاب بن ورقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «أَمَّا بعدُ، أَيُّهَا النَّاس، فإنَّه قد أصابكم من الجهد ما ترون. فوالله، إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيحيى أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، فاتَّقوا الله، فوالله ما أنتم بالقليل الذي تهون شوكتهم، وإنَّ فيكم لفرسان أهل المصر وإنَّكم لصلحاء من أنتم منه، اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبنا حياة وقوة، قبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأةٍ لو جاءَتْهُ. فقاتَلَ رجلٌ عن نفسه وصبَرَ وصدق، فواللهِ إِنِّي لأرجو، إن صدقتموهم، أَن يُظفركم الله بهم».
فناداه الناس من كل جانب:
- «وُفِّقت وأصبتَ، اخرج بنا إليهم».
ص: 147
فجمع إليه الناس من الليل، وأمر لهم بعشاء كثير، فتعشَى النَّاسُ عنده.
ثُمَّ إنّه خرج بهم حتّى أصبح على راياتهم، فصبّحهم في عسكرهم، وهم آمنون أَن يُؤْتَوا في عسكرهم، فأخلوا لهم حتَّى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فقاتل في عصابة نزلوا معه حتّى قُتل.
وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه، فمشوا إلى قطري مُصلتين للسيوف، فارتحلوا منهزمين، فكان آخر العهد بهم.
يُقال : إنَّ الخوارج دسوا إلى الأحنف من جلس إليه، وذاكره بهم، فقال :
- «إِنَّ هؤلاءِ إن ركبوا بنات سحاج، وقادوا بناتِ صهَّال، ونزلوا اليوم أَرضاً وغداً أُخرى، فبالحري أن يبقوا».
فلما بلغ ذلك قطرياً، ذهب وخلاهم، ومضى نحو كرمان، فأقام بها حتّى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض، واجتبى المال، وقوي، ثمَّ أَقبل حتَّى أخذ في أرض أصبهان، ثم خرج من شعب ناشط إلى إيذج وأرض الأهواز، والحارث بن أبي ربيعة عامل مُصعب على البصرة. فكتب إلى مصعب :
- «قد تحدرت الخوارج إلى الأهواز، وليس لهم إلا المهلب».
فبعث إلى المهلب، وهو على الجزيرة والموصل وأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر. وجاء المهلب حتّى قدم البصرة، وانتخب النَّاسَ وسار بمن أَحبَّ. ثمَّ توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتّى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال يكون.
ثمَّ إنَّه بلغهم أَنْ مُصعباً قد قتل، ونحن نذكر خبره في ما بعد، وذلك قبل أن يبلغ المهلب وأصحابه. فناداهم الخوارج :
- «ألا تُخبروننا ما قولكم في مصعب؟» قالوا:
- «إمام هُدًى». قالوا :
- «هو وليكم في الدنيا والآخرة». قالوا :
- «نعم». قالوا :
- «وأنتم أولياؤه أحياءاً وأمواتاً». قالوا: «نعم». قالوا :
- «فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟» قالوا:
ص: 148
- «ذاك ابن اللعين نحن منه براء إلى الله، هو عندنا أُحِلُّ دماً منكم». قالوا :
- «فأنتم منه براء في الدنيا والآخرة». قالوا :
- «نعم، كبرائنا منكم». قالوا :
- «وأنتم له أعداء أحياءاً وأمواتاً». قالوا :
- «نعم كعداوتنا لكم». قالوا :
- «فإنَّ أمامكم مُصعباً قتله عبد الملك، ونراكم ستجعلون غداً عبد الملك إمامكم، وأنتم اليوم تَبرَّأُون منه وتلعنونه». قالوا: «كذبتم يا أَعداء الله».
فلما كان من الغد تبين لهم قتل مُصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان. فأتتهم الخوارج فقالوا لهم :
- «ما تقولون في مصعب؟» قالوا :
- «يا أعداء الله، لا نُخبركم ما قولُنا فيه». قالوا :
- «فقد أخبرتمونا أمس أنَّه وليكم في الدُّنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياءاً وأَمواتاً، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟». فقالوا :
- «ذاك إمامنا وخليفتنا».
ولم يجدوا - إذ بايعوه - من أن يقولوا هذا القول بداً. فقالت لهم الأزارقة :
- «یا أعداء الله أنتم أمس تبرأون منه في الدُّنيا والآخرة، وتلعنونه، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم. وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولُّونه، فأَيُّهما المُحِقُّ، وأَيُّهما المبطل، وأَيُّهما المهتدي، وأَيُّهما الضَّال!» فقالوا لهم :
- «يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان يلي أمورنا ونرضى بهذا كما كُنَّا رضينا بذاك». قالوا :
- «لا والله، ولكنكم إخوان الشَّياطين وعبيد الدنيا». وتشاتموا.
كان لا يزال عبد الملك يخرج من دمشق ومُصعب من الكوفة. فإذا تدانيا هجم الشتاء، فانصرف كلُّ واحدٍ إلى مكانه حتّى إذا كان سنة تسع وستين - وقد قيل سنة سبعين - خرج عبد الملك من دمشق نحو العراق يُريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق :
- «إنَّك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وَعَدَني هذا الأمر من بعده، وعلى هذا، جاهدتُ معه وقد كان من بلائي معه ما لم يَخْفَ عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك.
ص: 149
فلم يُجِبْهُ إلى شيءٍ من ذلك. فانصرف عمرو إلى دمشق، فغلب عليها. ورجع عبد الملك في أثره وإِنَّ عَمراً اجتمع النَّاسُ إليه، فصعد المنبر فخطبهم، وقال بعد حمد الله والثَّناءِ عليه :
- «أَيُّها النَّاس إِنَّه لم يَقُمْ أَحَدٌ من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أَنَّ له جَنَّةٌ وناراً يُدخل الجنَّة من أَطَاعَه، والنَّارَ منعَصَاهُ. وإنّي أخبركم أنَّ الجنَّة والنار بيد الله، وأَنَّه ليس إليَّ من ذلك شيءٌ. غيرَ أَنَّ لكم عليَّ حُسنَ المواساة والعطيَّة».
ثمَّ إنَّ عبد الملك وعَمراً اقتتلا أَيَّاماً على باب دمشق وتأدَّى الأمر بينهما إلى الموادعة والصلح، وكتبا بينهما كتاباً وآمنه عبد الملك.
فيقال : إنَّ عمرو بن سعيد جاء في خيل متقلّداً قوساً، وأقبل حتى أوطأ فرسه سرادقات عبد الملك فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مُغضَبٌ، فقال لعمرو :
- «يا أبا أُمية، كأَنَّ تَشبَّهُ بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس». فقال :
- «لا، ولكني أتشبه بمن هو خيرٌ منهم: العاص بن أُمية».
ثم قام مُغضباً والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك أيضاً دمشق. فبعث إلى عمرو أن :
- «أعط النَّاس أَرزاقهم».
فأرسل إليه عمرو :
- «إنَّ هذا ليس لك ببلد، فاشخص عنه».
فلما كان بعد أَيَّام، بعث إلى عمرو أن:
- «إيتني أُخاطبك».
فلما أتى رسوله عمراً يدعوه، صادف الرَّسولُ عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمروٍ،فقال عبد الله لعمرو:
- «يا أبا أُمية، لأَنتَ أَحبّ إليَّ من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل بعث إليك أن تأتيَهُ، وأَنا أَرى لك أَلا تفعل». فقال عمرو :
- «ولم؟» قال :
- «لأنه يقال : إنَّ عظيماً من ولد إسماعيل يُغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث إلا أن يُقتل». فقال له عمرو :
ص: 150
- «والله لو كنتُ قائماً ما تخوّفتُ أَن لا يُنَبِّهني ابن الزَّرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني».
وقال عمرو للرَّسول :
- «أبلغه عنّي السَّلام وقُلْ له : أَنا رائحٌ إليك العشيَّة.
فلما كان العشي، لبس عمرو درعاً حصينةً بين قباء قوهي وقميص، وتقلد سيفه. فلما نهض متوجهاً عثر بالبساط، فقال حميد :
- «أما والله لئن أطعتني لم تأته».
وقالت له امرأتُه تلك المقالة، فلم تلتفت ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان، فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أَنه بالباب، أمر أَن يُحبَسَ مَن كان معه، وأذن له. فدخل ولم يزل أصحابه يُحبسون عند كل باب حتَّى دخل عمر قعر الدار وليس معه إلا وصيفٌ له. فرمى عمرو ببصره، فإذا حوله بنو مروان وفيهم حسان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخُزاعي. فلما رأى جماعتهم أحسَّ بالشَّرِّ، فالتفت إلى وصيفه فقال :
- «انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد يعني أخاهُ، فَقُلْ له يأتني».
فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له :
- «لبيك». فقال له :
- «اغرب في حرقِ الله وناره».
وقال عبد الملك لحسان وقبيصة :
- «إذا شئتما، فقوما فالتقيا وعَمراً في الدار».
فقال عبد الملك لهما كالممازح :
- «ليطمئن عمرو! أَيُّكما أطول؟»
فقال حسَّانُ :
- «قبيصة أطول منّي يا أمير المؤمنين بالإمرة».
وكان قبيصة على الخاتم. ثم التفت عمرو إلى وصيفه، فقال:
- «انطلق إلى يحيى فمُرْهُ أَن يأتيني». فقال له :
- «لبيك». ولم يفهم عنه.
ص: 151
فقال له عمرو :
- «اغرب عني».
فلما خرج حسان وقبيصة، أمر بالأبواب فأُغلقت، ودخل عمرو، فرحب به عبد الملك، وقال :
«-هاهنا يا أبا أُميّة رحمك الله».
فأجلسه معه على السرير وجعل يحدثه طويلاً ثم قال :
- «يا غلام خذ السيف عنه».
فقال عمرو :
- «إِنَّا لله، يا أمير المؤمنين».
فقال عبد الملك :
- «أو تطمع أن تجلس معي متقلّداً سيفك!».
فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك :
- «يا أبا أُمية!» فقال :
- «لبيك يا أمير المؤمنين!» فقال :
- «إنَّكَ حيث خلعتني آليتُ بيمين أنّي إن ملأتُ عيني منك وأنا مالكُ لَكَ، أَن أجمعك في جامعة».
فقال له بنو مروان:
- «ثمّ تُطلقه يا أمير المؤمنين؟» قال :
- «ثمَّ أُطلقه وما عسيتُ أَن أَصنع بأبي أُمية».
فقال بنو مروان:
- «أَبِر قَسم أمير المؤمنين».
قال عمرو :
فإِنِّي أُبر قسم أمير المؤمنين».
فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال :
- «يا غلامُ قُمْ فاجمعه فيها».
فقام فجمعه فيها، فقال عمرو :
- «أُذكِّرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس». فقال عبد الملك :
ص: 152
- «أمكراً يا أبا أُمية وأنت في الحديد لاها الله، ما كُنا لنُخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولا نخرجها منك إلا صعداً».
ثم اجتبذه اجتباذَةً أَصابَ فَمُهُ منها السرير فكسر ثنيته. فقال عمرو :
- «أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم منه».
فقال له عبد الملك :
- «والله لو أعلم أنك تبقي عليَّ أو تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة على مثل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبَه».
فلما رأى عمرو ما يُريدُ قال :
- «أغدراً يابن الزرقاء؟».
وأَذَّن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان بقتله. فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو :
- «أُذكِّرك الله والرَّحم، دَعْني يتول قتلي من هو أبعد رحماً منك».
فألقي عبد العزيز السيف، وجلس وصلى عبد الملك صلاةً خفيفةً، ودخل وغُلقت الأبواب. ورأى النَّاس عبد الملك حيث خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في النَّاس حتَّى حلَّ بباب عبد الملك ومعه أَلفُ عبد لعمرو وأُناس من أصحابه كثير، فجعل من معه يصيحون :
- «أسمعنا صوتك يا أبا أُمية!».
وأقبل مع يحيى جماعة فكسروا باب المقصورة، وضربوا النَّاسَ بالسيوف، فضُرب الوليد بن عبد الملك ضربةً على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس. ولما دخل عبد الملك دارَهُ وجد عَمراً حياً بعد. فقال لعبد العزيز :
- «ما منعك من قتله ؟» قال :
- «إنه ناشدني الله والرَّحم، فرققتُ له».
فقال عبد الملك :
- «أخزى الله أُمَّك البوَّالةَ على عقبها، فإنَّك لم تُشبه غيرها».
ولم يكونا من أُم واحدة.
ثم قال عبد الملك :
ص: 153
- «يا غلام ائتني بالحربة».
فأَتاهُ بها فهزّها، ثمَّ طعنه بها فلم تجز، ثمَّ ثنّى فلم يجز. فضرب بيده إلى عضد عَمرو، فوجد مَس الدرع، فضحك، ثم قال :
- «ودارعٌ أَيضاً إن كنتَ لمُعِداً. يا غلام ائتني بالصمصامة».
فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو، فصرع وجلس على صدره، فذبحه وهو يقول:
يا عَمْرُو إِنْ لا تَدَعْ شَتمي ومنقصتي *** أضربك حيث تقول الهامة اسقُوني
وانتفض عبد الملك رعدة فوضع على سريره.
ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان، فخرجوا هم ومَن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه. وقام عبد العزيز، فأخذ المال في البُدور، وجعل يُلقيها إلى النَّاس. فلما نظر النَّاس إلى الأموال ورأوا رأسَ عَمرو، وكان أُلقي إليهم، تفرَّقوا وانتهبوا المال. ثمَّ أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال، فحبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال.
وفقد عبد الملك ابنه الوليد فجعل يقول :
- «ويحكم ابن الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوه ثأرهم».
فأتاه إبراهيم بن عربي، وقال:
- «هذا الوليد عندي ليس به بأس».
ثمَّ أُتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر بقتله، فقام إليه عبد العزيز فقال:
- «جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. أتراك قاتلاً بني أُمية في يوم واحد؟».
فأمر به فحُبس. وأُتِيَ عبد الملك بجماعة منهم فحبسهم، وكان همَّ بقتلهم، فأشير عليه أن يُسيِّرهم إلى عدوه، فإن هم قتلوا، كُفِي أَمرهم، وإن سلموا رأَيتَ رأيك، ولا يكون قد آثرت على نفسك قوماً هم اليوم معك.
فألحقهم بمصعب. فلما قدموا عليه ودخل إليه يحيى بن سعيد، قال له ابن الزبير :
- «أفلتَّ وانحصَّ الذَّنَبُ». فقال :
- «والله إِنَّ الذَّنَبِ لَبِهلْبِهِ».
كان الشَّرُّ بينهما قديماً، لأنَّ ابني سعيد وابني مروان أعني : محمد بن سعيد وعمرو بن سعيد ؛ ومعاوية بن مروان وعبد الملك بن مروان كانوا وهم غلمان
ص: 154
لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يلعبون عندها، فكانت تصنع لهم الطعام، ثم تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحدٍ صحفةٍ على حدة، ثمَّ تُؤرِّش بين معاوية بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد فيقتتلون وربما تصارموا الحين لا يكلم بعضُهم بعضاً. فكان ذلك دأبهما كلما أتوها حتّى ثبتت الشَّحْناء في صدورهم على الصَّبي، ثمّ نشأت تلك العداوة معهما.
فذُكر أَنَّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم :
- «عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرَّتَهُ فقتلتَهُ!».
فقال عبد الملك :
أَدنَيتُهُ مِنِّي ليسكُن ذُعرُهُ *** فأَصُول صولة حازم مستمكن
ثمَّ إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعةُ : أُميّة، وسعيد، وإسماعيل ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:
- «إنَّكم أهل بيت لم تزالوا ترون أَنَّ لكم على جميع قومكم فضلاً لم يجعله الله لكم، وإنَّ الَّذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً، بل كان قديماً في أنفس أَوَّليكم على أَوَّلينا في الجاهلية».
فأُقطع بأميَّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّاً وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلم بشيء. فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال:
- يا أمير المؤمنين، ما تبغي علينا أمراً كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنَّةً، وحذَّر ناراً. فأَمَّا الَّذي بينك وبين عمرو، فإِنَّ عمراً ابن عمك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربه وكفى بالله حسيباً. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطنُ الأَرض خيرٌ لَنا من ظهرها».
فرقّ لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال:
- «إِنَّ أَباكم خيَّرني بين أَن أَقتلَه أَو يقتلني، فاخترتُ قتله على قتلي. فأَمَّا أَنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأَرعاني لحقكم!».
فأَحسن جائزتهم.
ثم سار عبد الملك من الشَّام إلى العراق لحرب مُصعب وذلك في سنة سبعين. وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد :
ص: 155
- «إن وجهتني إلى البصرة مستخفياً في موالي وأتبعتني خيلاً يسيرةً، رجوتُ أن أغلب لك عليها».
فأنفذه عبد الملك. فقدِمَها في مواليه، ونزل على عمرو بن أصمع، ولم يتم له ما أَراد، وعُلِمَ به فهرب بعد أن أثار فتنةً، وقاتل مدَّةً. وبادَرَ مُصعب إلى البصرة، فوجد خالداً قد خرج بمن معه، فأَتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مُرَّةَ بن محكان، فأخذه وقتله.
وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم، وشرط كلُّ واحدٍ ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم: حجَّار بن أبجر، وعتاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.
وسار عبد الملك وعلى مقدَّمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشَّام على عبد الملك أن يُقيم ويقدم الجيوش، فإن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدَّهم بالجيوش خشية على النّاس، وإن أصيب في لقائه مصعباً لم يكن وراءه مَلِكٌ.
فقال عبد الملك :
- «لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث مَن له شجاعةٌ وليس له رأي، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاعٌ بالسَّيف إن الجيتُ إليه، ومُصعبٌ في بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعي مَن ينصح لي».
فسار عبد الملك حتَّى نزل مَسْكِن، وسار مُصعبٌ إِلى باجُمَيرا، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوماً لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مُصعب :
- «ما فيه؟» قال :
- «ما قرأته».
فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب :
- «إنه والله ما كان أحدٌ آيس منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إليَّ. فأطعني فيهم واضرب أعناقهم». قال :
- «إذاً لا يناصحنا عشائرهم». قال:
- «فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكل بهم من إِن غُلبتَ، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم». فقال :
ص: 156
- «يا أبا النعمان، أنا لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أَبا بحرِ، إِن كان لَيُحذِّرني غدرَ أَهل العراق، كأَنَّه كان ينظر إلى ما نحن فيه».
وتمثَّل مُصعبٌ :
وإنَّ الأُولى بالطَّفِّ مِن آل هاشم *** تَأَسّوا، فَسَنُوا للكرامِ التَّأَسِّيا
فعلم النَّاس أَنه قد استقتل.
ولما تدانى العسكران تقدَّم إبراهيم بن الأشتر فحمل على محمد بن مروان فأَزاله عن موضعه، وهرب، فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقُتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهلي، وهرب عتاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مُصعب. فقال مُصعب لقطن بن عبد الله الحارثي :
- «أبا عثمان قدم خيلك». قال :
- «ما أرى ذلك». قال
- «ولم؟» قال :
- «أكره أن تُقتل مذحج في غير شيء».
فقال الحجار بن أسيد :
- «قدِّم رايتك». قال :
- «إلى هذه العذرة؟» قال :
- «ما تتأخر إليه، والله أَنتَنُ وأَلأَم».
وقال لعبد الرَّحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال :
- «ما أرى أحداً فعل ذلك فأَفعله».
فقال مُصعبٌ :
- «يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم».
ولما أخبر ابن حازم وهو بخراسان مَسير مُصعب إلى عبد الملك، قال :
- «أمعه عُمر بن عبيد الله؟» قيل:
- «لا، استعمله على فارس». قال :
- «أمعه، المهلبُ» قيل:
- «استعمله على الموصل». قال :
ص: 157
- «أمعه، عباد بن الحصين؟» قيل:
- «لا استخلفه على البصرة». فقال :
- «وأَنا بخراسان». ثمَّ تمثَّل :
خذيني، فجُرِّيني ضبَاع وأَبشري *** بلَحْم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره
وقال مُصعبٌ لابنه عيسى بن مصعب :
- «يا بُنَيَّ اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة، فإنّي مقتول». وأخبره بما صنع أهل العراق.
فقال ابنُه :
- «والله لا أخبر قريشاً عنك أبداً، ولكن الحَقْ أنت بالبصرة فإنهم على الجماعة، أَو الحَقْ بأمير المؤمنين».
فقال مصعب :
- «لا والله، لا أَفِرُّ، ولكن أُقاتل. فلعمري ما السَّيف بعار وما الفرار لي بعادة».
ثمَّ أَرسل عبد الملك إِلى مُصعب مع أخيه محمد بن مروان:
- «إِنَّ ابن عمك يُعطيك الأمان».
فقال مُصعب :
- «إنَّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً».
فلمَّا أَبي مصعبٌ قبول الأمان، نادی محمد بن مروان عيسى بن مصعب، وقال:
- «يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمانُ».
فقال له مُصعب :
- «قد آمنك عمك، فامض إليه».
قال :
- «لا تحدَّثُ نساء قريش أني أسلمتُك للقتل».
وتقدم بين يدي مصعب، فقاتل حتَّى قُتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدَّ عليه فطعنه وقال :
- «يا لثارات المختار».
فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزَّ رأسه، فأتى به عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:
ص: 158
- «إني لم أقتله على طاعتك. إنّما قتلتُه على وتر صنعه بي».
يعني بذلك أخاه، لأنَّ مُصعباً أُتي بالنَّابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نمير قد قطعا الطريق، فقتل النَّابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.
وحدث ابن عباس عن أبيه قال: إنَّا لوُقوفٌ مع عبد الملك وهو يحارب مصعباً إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال :
- «يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جارَ صدقٍ وقلَّ ما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عنِّي. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه». قال :
- «هو آمن».
فمضى زياد، وكان ضخماً وعلى ضخم حتّى صاح بين الصَّفين :
أين أبو النحتري إسماعيل بن طلحة»؟
فخرج إليه. فقال :
- «إنِّى أُريد أن أذكر لك شيئاً».
فدنا حتَّى اختلفت أعناقُ دَوابِّهما، وكان الناس يتنطَّقون بالحواشي المحشوة. فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفاً، فقال:
- «أنشدك الله يا أبا المغيرة فإنَّ هذا ليس بالوفاء لمصعب». فقال:
- «هذا أحب إليَّ لك من أن أراك غداً مقتولاً».
ولمَّا قُتل مصعب وابنه عيسى، قال عبد الملك :
- «وارُوهُ، فقد كانت الحُرمة بيننا قديمةً ولكن هذا الملك عقيم».
وكان عبد الملك ومصعب يتحدثان إلى حُبَّى، وهما بالمدينة. فلما قيل لها : قُتل مصعب، قالت :
- «تَعِسَ قاتله». قيل:
- «فإنَّما قتله عبد الملك». قالت :
- «بأبي القاتل والمقتول».
وقد روي أن مقتل مُصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان في سنة اثنتين وسبعين.
لما دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تُبايعه، خاطب كلًّا بما بسطه حتّى تقدم إليه عَدَوان، قال معبد بن خالد الجدلي : فقدمنا رجلاً وسيماً جميلاً، وتأخَّرتُ ومعبد كان دميماً.
ص: 159
فقال عبد الملك : «مَنْ»؟
فقال الكاتب : «عَدَوان».
فقال عبد الملك :
غدير الحي من عَدوا *** ن كانوا حيَّة الأرض
بغى بعضُهُمُ بعضاً *** فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا *** تُ والموفون بالقرض
ثم أقبل على الرجل، فقال :
- «إيه». فقال :
- «لا أدري». فقلتُ من خلفه :
ومنهمحكم يقضي *** فلايُنقَضُ ما يقضي
ومنهم مَن يجيز الحَج *** ج بالسُّنَّةِ والفرض
وهم مَن وَلَدُوا أَشبَوا *** بسر الحسب المحض
قال«فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال :
- «مَن يقول هذا ؟» قال :
- «لا أدري». فقلتُ من خلفه :
- «ذو الإصبع».
- «فأقبل على الجميل»، فقال:
- «لم سمي ذا الإصبع ؟» فقال :
- «لا أدري». فقلتُ مِن خلفه :
- «لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب».
- «فقال للجميل :
- «وما اسمه»؟ فقال :
- «لا أدري». فقلتُ من خلفه.
- «حُرثان بن الحارث».
فأقبل على الجميل فقال :
- «من أيكم كان»؟ قال :
- «لا أدري». فقلتُ من خلفه :
ص: 160
- من بني تاج، وهو يقول:
أبعد بني تاج وسعيك بينهم *** فلا تُتبعَنْ عينيك من كان هالكا
إذا قلتُ معروفاً لأصلح بينهم *** يقول وهيب: لا أُصالحُ ذلكا
فأضحى كظهر العير جُبِّ سنامه *** يطيف به الولدان أحدَبَ باركا
ثمَّ أقبل على الجميل فقال :
- «كم عطاؤك»؟ فقال :
- «سبعمائة».
وقال لي :
- «في كم أنتَ؟» قلتُ :
- «في ثلاثمائة».
فأقبل على الكاتبين فقال :
- «حُطّاً من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا».
فرجعتُ وأنا في سبعمائة وهو في ثلاثمائة.
ثمَّ فرَّق عبد الملك عُمَّاله ولم يف لأحدٍ شرط عليه ولاية أصبهان.
وفي هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.
وكان السبب في توجيهه دون غيره أنَّ عبد الملك لما أراد الرُّجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إني رأيتُ في منامي أنّي أخذتُ عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله».
فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلُّ ذلك تُهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيلُ الحجّاج بالظفر.
ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنَّ شوكته قد كلّت وتفرَّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجُند، بالحجّاج وكان بالبصرة والياً عليها. فسار في
ص: 161
خمسة آلاف من أصحابه حتّى لحق بالحجاج وذلك في شعبان سنة اثنتين وسبعين.
فلما دخل ذو القعدة، رحل الحجاج من الطَّائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارقٌ لهلال ذي الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، وكان يلبس السّلاحَ، ولا يقرب النّساء ولا الطّيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.
وحج الحجاج بالنَّاس في هذه السنة، ثمَّ حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمی البيت رعدت السَّماء وعلا صوتُ الرَّعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشّام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجاج برقة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع الحجر فوضعه في المنجنيق، ثم مده وقال لأصحابه :
- «ارموا»!
ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءَت صاعقة تتبعها أُخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً. فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج :
يا قوم لا تُنكروا ذلك، فإني ابن تهامة وهذه صواعقُها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنَّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم».
فصعقت من الغد، فأُصيب من أصحاب ابن الزبير عدة. فقال الحجاج :
- «ألا ترون أنهم قد أُصيبوا وأنتم على الطَّاعة وهم على الخلاف»؟
فتفرَّق عامة منكان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجاج في الأمان حتَّى بلغ عدة المستأمنة عشرة آلاف وكان في من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله بن الزبير : حمزة وخُبيب، بعد أن أخذا أماناً لأنفسهما.
فدخل على أُمه أسماء بنت أبي بكر، فقال:
- «يا أمه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق إلا اليسير، من ليس عنده من الدفع إلأ صبر ساعة. والقوم يُعطونني من الدنيا، فما رأيك؟» فقالت :
- «أَنتَ والله يا بُنَيَّ أعلمُ بنفسك. إن كنتَ تعلم أنَّك على حق فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمانُ أُميّة، وإن كنتَ إنَّما أَردتَ الدُّنيا فبئس العبد أنتَ أهلكت نفسك، ومَن قُتل معك. فإن قلت : إني كنتُ على حقٍّ، فلمَّا وَهَنَ أصحابي، ضعُفتُ. فهذا ليس فعلُ الأحرار ولا أهل الدِّين، وكم
ص: 162
خُلُودك في الدُّنيا. القتل أحسن».
فدنا ابن الزبير، فقبل رأسها، وقال:
- «هذا رأيي، ولكني أحببتُ أن أعلم رأيك، فرديني بصيرة، فانظري يا أُمَّه، إنِّي مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنُك، وسلّمي لأمر الله، فإنَّ ابنك لم يتعمد إتيان مُنكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حُكم، ولم يتعمَّد ظُلمَ مسلم ولا مُعاهَد. اللهم، إنّي لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزّية لأمي لتسلو عنِّي».
فقالت أُمُّه :
- «إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً. اخرُج، حتَّى أنظر إلى ما يصير أمرك». قال :
- «يا أُمَّه، لا تدعي لي الدُّعاء قبل وبعد». قالت :
- «لا أدعه أبداً».
ثم قالت :
- «اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظُّماً في هواجر المدينة ومكة وبره بأبيه وبي. اللهم إنّي قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيتُ بما قضيتَ، فائتِني في عبد الله ثواب الشاكرين الصَّابرين».
ثمَّ دَنا عبد الله فقبلها، فقالت :
- «هذا وداع فلا تبعد».
وكان عليه الدرع. فلما عانقها وجدتْ مَسَّ الدرع، فقالت :
- «ما هذا صنيع مَن يُريد ما تُريد». قال :
- «ما لبسته إلا لأشدَّ منكِ». قالت :
- «فإنَّه لا يشد مني».
فنزعها، ثمَّ أَدرج كميه، وأدخل أسفل قميصه وجبة خَزّ عليه في أسفل المنطقة، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبرُ *** إذ بعضهم يعرفُ ثُمَّ يُنكر
قال بعضهم : والله لقد رأيتُ ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم النَّاس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتى ظننتُ أنَّه لا يُقتَلُ.
وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعاً في ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكل طائفة منهم باب. فمرَّة يحمل عبد الله بن الزبير في هذه الناحية ومرَّةً في هذه
ص: 163
الناحية ولكأَنَّه أسد فى أجمةٍ، ما يُقدم عليه الرّجال فيعدو في أثرهم، ثم يصيح:
- «أبا صفوان ويل أُمَّةٍ فتحاً لو كان له رجالٌ، *** لو كان قرني واحداً كُفيتُه»
فقال أبو صفوان :
- «إي والله وألف».
فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذن المؤذن فصلى بأصحابه، وقرأ نون والقلم حرفاً حرفاً، ثمَّ سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «اكشفوا وجوهكم حتّى أنظر».
وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال :
- «يا آل الزبير، لو طبتم لي نفساً عن أنفسكم كُنَّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تُصبنا ربانية. أما بعد، يا آل الزبير، فلا يُرغكم وقعُ السُّيوف، فإني لم أحضر موطناً قط إلا ارتبثتُ فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدَّ ممَّا أجد من ألم وَقْعِها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم لا أعلم أمراً كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنَّ الرَّجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غُضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ منكم قِرنَه ولا يُلهينكم السُّؤال عني. فلا تقولُنَّ : أين عبد الله بن الزبير؟ ألا مَن كان سائلاً فإني في الرَّعيل الأول. احملوا على بركة الله».
ثمَّ حمل حتّى بلغ الحجون، فرُمي بآجُرَّةٍ، فأصابت في وجهه، فأُرعش لها، ودَمِيَ وجهه. فلما وجد سخونة الدَّم تسيل على وجهه ولحيته، قال:
فلسنا على الأعقاب تَدمى كُلُومُنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدَّمَا
وتمثل أيضاً :
عن أي يومَيَّ من الموتِ أَفِرّ *** أيومَ لم يُقدَرْ، أمْ يومَ قدِر
وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونةٌ :
- «وا أمير المؤمنيناه»!
فأشارت لهم إليه، فقُتل.
وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاءَ هو وطارق حتّى وقفا عليه، فقال طارق :
- «ما ولدتِ النِّساءُ أذكر من هذا».
فقال الحجاج :
- «أتمدحُ من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟» قال:
- «نعم، هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر إنَّا لَمُحاصروه وهو في غير
ص: 164
خندق ولا حصن ولا مَنَعةٍ منذ سبعة أشهر، ينتصف منا بل يفضل علينا في كل ما التقينا».
فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقاً.
ثم دخل الحجّاج مكَّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنُصبت بها، ثمَّ ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.
وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يُقاتل بحير بن ورقاء الصَّريمي يدعوه إلى طاعته ويقول له :
- «إنَّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لي».
وكان عبد الملك بعث برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يُعطي عبد الملك طاعةً أبداً.
فقال ابن خازم للرَّسول :
- «لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقتل، لأمرتُ بضرب رقبتك، ولكن كُلْ كتابَهُ». وأكَلَهُ.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وَساج أحد بني عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهلُ أبْرَشهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتي ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازن، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولي قتله وكيع بن عُميرة القُريعي، اعتَونَ عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجسمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله.
فقال بعض الولاءة لوكيع :
- «كيف قتلت ابن خازم؟» قال :
- «غلبته بفضل القنا. لما صرع قعدتُ على صدره، فحاول القيام، فلم يقدر عليه، وقلتُ: يا لثاراتِ. دُوَيلةَ».
ودويلة أخٌ لوكيع من أمه، قتل في تلك الأيام.
قال : فتنخم في وجهي، وقال:
- «لعنك الله، تقتل كبش مُضَر بأخيك : عِلج لا يُساوي كفّا من نَوى - أو قال قال : -
ص: 165
من تراب؟».
قال : فما رأيتُ أحداً أكثر ريقاً منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأَ وجهي منه. فذكر ابن هبيرة يوماً هذا الحديث، فقال:
- «هذه والله البسالة».
وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلاً من بني غُدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج في أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود وأخذ الرَّأسَ، وقيَّدَ بَحيراً وحبسه. وبعث بكير بالرّأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يُخبره أنَّه هو الذي قتله.
وفي هذه السنة وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة والياً عليها ثم كتب إليه :
- «أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولي الفضل والتَّجربة منهم، فإنَّه أعرفُ فإنَّه أعرفُ بهم، وخَلِّهِ ورَأْيَه في الحرب، فإنّي أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين وابعث من أهل الكوفة بعثاً كثيفاً، وابعث عليهم رجلاً معروفاً حسيباً شريفاً يُعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثمَّ انهض إليهم أهل المصرين، فَليتبعوهم أي وجه ما توجّهوا حتَّى يُبيرَهم الله ويستأصلهم، والسَّلام عليك».
فدعا بشرٌ المهلب، فأقرأه الكتاب وأمره أن ينتخب من شاءَ. فبعث بجُذيع بن قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتي الديوان، فينتخب النَّاس، فشقّ على بشر أنَّ إمرة المهلب جاءَتْ من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره. فأوغرت صدره عليه حتّى كأنَّ له إليه ذنباً. ودعا بشر بن مروان عبدَ الرَّحمن بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان النَّاس ووُجوههم وأُولي الفضل منهم والنجدة.
قال عبد الرَّحمٰن بن مخنف: قال لي بشر :
- «إنك قد عرفت منزلتك مني وأَثَرتك عندي، وقد ولَّيتُك هذا الجيش للذي عرفتُ من جرأتك وغنائك وشرفك وبأسك، فكُنْ عند أحسن ظني بك، انظر هذا الكذَّاب - يعني المهلب وَوَقعَ فيه وسبَعَهُ - (كذا) فاستبدَّ عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأياً».
وتنقصه وقصر به.
قال عبد الرَّحمن فترك أن يوصيني بالجندِ وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام،
ص: 166
وأقبل يغريني بابن عمي حتّى كأني سفيه من السُّفهاء، أو ممَّن يُستصبى ويُستجهل. ما رأيتُ شيخاً في مثل سنّي ومنزلتي طُمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني. شب عمرو عن الطوق.
قال : ولمَّا رَآني لستُ بالنَّشيط إلى جوابه قال :
- «مالك؟» قلتُ :
- «أصلحك الله، وهل يسعني إلا أن أنقاد لأمرك في كل ما أحببت أو كرهت؟» قال :
- «امض راشداً».
فودَّعته وخرجت من عنده.
وخرج المهلب حتّى نزل رامهُرْمُز فلقي الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرَّحمن بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريباً من المهلب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث النَّاس إلَّا عشراً حتّى أتاهم نعي بشر، وتُوفِّي بالبصرة، وارفض النَّاس من أصحاب المهلب وأصحاب عبد الرَّحمن بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة وبقيا في قلةٍ. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله ابن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممَّن انصرف من أهل الكوفة : زحر بن قيس، وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرَّحمن بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمن ابنه جعفراً في آثارهم، فردَّ إسحاق ومحمَّداً، وفاتَهُ زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما ألا يفارقاه. فما لَبِثا إلا يوماً حتّى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى النَّاس كتاباً، وبعث رُسُلاً تضرب وُجوهَ النَّاس و تردُّهم. فقدم مولى له، فقُرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حض على الجهاد وتوبيخ للرُّؤساء، وتهديد لعامَّة النَّاس، ويقول في آخره:
- «أيُّها النَّاس اعلموا على من اجترأتم ومَن عصيتم إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزةً، ولا عنده رُخصةً على من خالفه وعصى أَمرَه، وإِنَّما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً، فإني لم آلكم نصحية. اذهبوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فأقسم بالله لا أَثْقَفُ عاصياً بعد كتابي هذا إلا قتلته والسلام».
فلم يلتفت النَّاس إلى ما في الكتاب وأقبل رؤساء الكوفة حتى نزلوا إلى جانب الكوفة في قرية لآل الأشعث وكتبوا إلى عمرو بن حريث :
ص: 167
- «أَمَّا بعدُ، فإنَّ النَّاس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرَّقوا فلم يبق معنا أحدٌ، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا وأحببنا ألا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه، والسلام».
فكتب إليهم :
- «أَمَّا بعدُ، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمانٌ ولا إذن». فلما أتاهم كتابه انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتّى قدم الحجاج بن يوسف.
وفي هذه الأيَّام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولَّاها أُمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أَنَّ نميماً اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصبون لبحير ويطلبون بكيراً، وصار منهم يعذرون بكيراً ويتعصبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أَنَّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه.
فوجَّهَ عبد الملك أُميّة بن عبد الله، وكان يحبه ويقول :
- «هو لِدَتي».
وكان بحير كما كتبنا في ما تقدَّم من خبره، في حبس بكير لما كان منه في رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوساً عنده حتّى استعمل عبد الملك أُميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلمّا بلغ ذلك بكيراً أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال :
- «ظنَّ بُكيرٌ أنَّ خراسان تبقى له في الجماعة».
فمشى بينهم السفراء، فأَبي بَحيرٌ.
ثم دخل عليه ضرار بن حصن الضَّبي، فقال :
- «إني لا أراك مائقاً، يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسير في يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حَبَقتْ فيه عنز، ما أنت بموفق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك».
فقبل مشورته وصالح بكيراً.
قال : فأرسل إليه بكير بأربعين ألفاً، وأخذ على بحير ألا يغتاله. فلما بلغ بحيراً أَنَّ أُميّة قاربَ أَبرَشهر، قال لرجل من عجم مرو :
ص: 168
- «دلني على طريق قريبٍ لا ألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا».
وأجزل له العطية. وكان عالماً بالطريق. فخرج إلى أَرض سرخس في ليلةٍ، ثمَّ مضى به إلى نيسابور.
فوافي أُمية حتى قدم أبرشهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يُصلح أهلها ويُحسن طاعتهم ويخفُ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالاً قد أصابها، وحذره غدره، وسار معه حتّى قدم مرو. وكان أميَّة سيّداً كريماً. فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شُرطته فأبى بكير، فولاها بحيراً. وقد كان لام بكيراً رجال من قومه وقالوا :
- «أبيت أن تلي حتّى ولاها بحيراً، وقد عرفت ما كان بينكما». قال :
- «كنتُ أمس والي خراسان تُحمل الحراب بين يدي وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة!».
وقال أُمية لبكير :
- «اختَرْ ما شئتَ من عمل خراسان». قال:
- «طخارستان قال :
- «هي لك».
قال : فتجهز بكيرٌ، وأنفق مالاً كثيراً، فقال بحير لأميَّة :
- «إن أتى بكير طخارستان خلعك».
فلم يزل يُحذره حتَّى حَذِرَه، وأمره بالمقام.
ولما توفّي بشر بن مروان كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة وولَّاه العراق. فأقبل في اثني عشر راكباً على النجائب، حتى دخل الكوفة حين انتشر النَّهار. فجاءَه، وكان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمرَه في ما تقدّم. فبدأ الحجَّاجُ بالمسجد، فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خز، فقال:
- «عليّ بالنَّاس».
فحسبوه وأصحابه خارجةً. فهموا به، حتّى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثم قال :
- «أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلَّاعُ الثَّنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني
ص: 169
أما والله، إِنِّي لأحمل الشَّرَّ محمله، وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوساً قد أينعت، وحانَ قِطافُها، وإِنِّي لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى. قد شمرت عن ساقها تشميراً.
هذا أوانُ الشَّد، فاشتَدي زِيَمْ *** قد لفّها الليل بسوَّاقٍ حَطِم
لیس براعي إبل ولا غَنَمْ *** ولا بجرَّارِ على ظهر وَضَمْ
قدلفّها الليلُ بَعَصْلَبِي *** مهاجر ليس بأعرابي
إِنِّي والله، يا أهل العراق ما أغمز تَغمازِ التِّين، ولا يُقعقع لي بالشنان، ولقد فُرِرْتُ عن ذكاء وفُتِّشتُ عن تجربة وجريتُ من الغاية. إن أمير المؤمنين نثل كنانته، ثمّ عجم عيدانها، فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً فرماكم بي. فإنَّكم طال ما أوضعتم في الفتن وسننتم سُنَنَ الغي. والله لألحونكم لَحْو العود، ولأعصبنَّكم عَصَبَ السَّلَمة، ولأضربنكم ضَرْبَ غرائب الإبل إِنِّي والله لا أَعِدُ إِلا وفيتُ، ولا أخلق إلا فريت، فإيَّاي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمن على سبل الحقِّ، أَو لأدعنَّ لكلِّ رجل منكم شغلاً في جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلب سفكتُ دمه وأنهبت مالَه».
ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
ويُقال : إِنَّه لما طال سكوته تناول محمَّد بن عُمير حصى ليحصبه بها، وقال:
- «قاتله الله، ما أعياه وآدامه!».
فلمَّا تكلَّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به.
ثمَّ دعا الحجاج بالعرفاء، وقال:
- «الحقوا بالمهلب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنَّ أبواب الجسر ليلاً ونهاراً، فقد بلغني رفضكم للمهلب وإقبالكم إلى مصركم عُصاة مخالفين. وإِنِّي لأقسم لكم بالله ما أجد أَحداً بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه».
فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال :
- «يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إِنِّي سمعت تكبيراً لا يُراد به الله فى الترغيب ولكنه تكبير يراد به التّرهيب. وقد عرفت أنَّها عَجَاجةُ تحتها قصفٌ.يا بني اللُّكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامي، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعةً تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها».
ص: 170
فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره فقال :
- «أسمعت كلامنا بالأمس؟» قال :
- «نعم»، قال:
- «ألستَ الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟» قال :
- «بلی». قال:
- «فما حملك على ذلك؟» قال :
«حبس أبي وكان شيخاً كبيراً». قال :
- «أو ليس الذي يقول :
هَمَمْتُ ولم أفعل وكدتُ وليتني *** تركتُ على عثمان تبكي حلائله
إِنِّي لأحسب في قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حَرَسي فاضرب عُنقه».
فقام إليه الحرسي، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهبَ مالَه وأَمر منادياً فنادى :
- «ألا إن عميراً أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأَمرنا بقتله. أَلا إِنَّ ذمة الله بريئة ممَّن بات الليلة من جند المهلب».
فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر في تلك الليلة أربعة آلاف مذحج. وخرج العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة.
وقال المهلب لأصحابه :
- «قدم العراق أميرٌ ذَكَر، اليومَ قوتل العدو».
قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعتُ زجراً مضريًّا، فعدلتُ إليه وقلتُ :
- «ما الخبر؟» قالوا :
- «قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب من هذا الحي، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح الجاعرتين، أخفش العينين. فقدَّم سيد الحي عمير بن ضابئ فضرب عنقه».
ولقي ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك في السُّوق:
أقول لإبراهيم لما لقيته *** أرى الأمر أضحى مُنصِباً متشعبا
تجهز وأسرع فالحَقِ الجيش، لا أرى *** سوى الجيش، إلا فى المهالك مذهبا
تَخيَّرْ فإما أن تزور ابن ضابئ *** عُميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا حتف نجاؤك منهما *** ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
ص: 171
فأمسى ولو كانت خراسان دونه *** رآها مكان السوق، أو هى أقربا
ولما قتل الحجاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتّى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إيَّاهم. فأتي برجل من بني يشكر، وقيل له :
- «هذا عاص». فقال :
- «إن لي فتقاً، وقد رَآهُ بشرُ فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال».
فلم يقبل منه، وقدَّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكُوا على العارض برامهرمز فقال المهلب :
- «جاءَ النَّاس أَمرٌ ذَكَرٌ».
خرج الحجاج بالناس حتى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً. فقام في النَّاس، فقال:
- «إِنَّ ابن الزبير زادكم في أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولستُ أجيزها».
فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، فقال:
- «ولكنَّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد أثبتها لنا».
فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج، وبايعه وجوه الناس. فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقُتل عبد الله بن الجارود وجماعةٌ ممَّن ثار معه، وبعث الحجاج برأسه ورؤوس عدة من أصحابه إلى المهلب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأساً من وجوه الناس. فساءَ ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فُرقة واختلاف. وانصرف الحجاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن بن مخنف :
- «أما بعد إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام».
فناهض المهلب وعبد الرحمن الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأَنهم على حامية، حتّى نزلوا بكازرون.
وسار المهلب وعبد الرحمن حتَّى نزلوا بهم، فخندق المهلب ولم يخندق عبد الرَّحمن، فقال المهلب لعبد الرَّحمن:
- «إن رأيت أن تخندق عليك فعلتَ». فقال أصحاب عبد الرحمن:
ص: 172
- «لخندقنا سيوفنا».
فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلب ليبيتوه، فوجدوه قد أَخذ حِذْرَه، فمالوا نحو عبد الرَّحمن، فوجدوه لم يخندق فنهض عبد الرَّحمن وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل في جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتَّى قُتل عبد الرحمن وقتلوا كلهم حوله.
فلما أصبح المهلب جاءَ حتّى دفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرَّحمن وذم أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرَّحمن بن مخنف عتّابَ بن ورقاء، وأَمره إذ ضمتها الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع. فساءَهُ ذلك ولم يجد بدا من طاعة الحجاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاءَ حتَّى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يعني أموره ولا يكاد يستشير المهلب في شيء. فلما رأى المهلب ذلك اصطنع رجالاً من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتاب.
فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلب معه على مجلسه، فسأله عتَّاب سؤالاً فيه تجهم وغِلظة وترادًا الكلام حتى قال له المهلبُ :
- «يابنَ اللّخناء».
وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال :
- «أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت منه ما تكره فاحتمله».
فقبله وقام عتاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه فلما رأى عتابٌ ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبرهُ أَنَّه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجاج إليه في ما لقي من شبيب، وما لقيه أيضاً أَشرافُ الكوفة منه. وسنذكره من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجاج أن :
- «اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب».
فبعث المهلب ابنه حبيباً، وأقام المهلب يقاتلهم سنة.
كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرح، وكان صالح يرى
ص: 173
رأي الصفريَّة وكان ناسكاً مُصفَرَّ الوجه صاحب عبادة، وله أصحاب يُقريهم القرآن ويفقهُهُم ويقص عليهم، ويقدم الكوفة فيقيم بها الشَّهرَ أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصَّلاة على محمد ذكر أَبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثمَّ عليا وتحكيمه الرّجالُ في أمر الله، ويتبرأ من عثمان وعلي، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضَّلال ويقول :
- «تيسرُوا يا إخواني للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدُّنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإنَّ القتل أيسر من الموت، والموتُ نازل بكم عندما تُرجَمُ الظَّنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدَّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنَّة».
وأشباه ذلك من الكلام وكان في من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين. فقال يوماً لأصحابه :
- «ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمة الجور إِلا عُتوا وعُلُوًّا وتباعداً من الحقِّ، وجُرأة على الرَّبِّ. فراسلوا إخوانكم حتّى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأي وقت إن خرجنا نحن خارجون».
فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح :
- «أَمَّا بعدُ، فقد كنتَ دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنَّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منا أحداً، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتني، فإِنَّ الآجال غادية ورائحةٌ، ولا آمَنُ أَن تخترمني المنيَّةُ ولما أجاهد الظالمين. جعلنا اللهُ وَإِيَّاكَ ممَّن يُريد الله بعمله، والسلام عليك».
فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه :
- «إنَّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك، فاقدم علينا ثم اخرج بنا، فإنَّك ممَّن لا تُقصَّى الأمورُ دونَه والسَّلام».
فلمَّا ورد كتابه على شبيب دعا نفراً من أصحابه فجمعهم إليه، منهم : أخوه مصاد بن يزيد والمحلل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل. فبثَّ صالح رُسُلَه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده في تلك الليلة.
ص: 174
فتحدث فروة بن لقيط قال : إِنِّي لمعهم تلك الليلة وكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والفساد في الأرض. فقمتُ إِليه، فقلت :
- «يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظَّلَمة؟ أنقتلهم قبل الدُّعاءِ أَم ندعوهم قبل القتال؟ فإنّي أُخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك؟ فأرى أن نضع فيهم السَّيف». فقال :
- «لا، بل ندعوهم، فلعمري، لا يجيبك إلا من يرى رأيك، وليُقَاتلنَّك من يُزري عليك، والدُّعاءُ أَقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجّة لك عليهم».
قال : فقلت له :
- «فكيف ترى في من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول في دمائهم وأموالهم؟» فقال :
- «إن قاتلنا وغنمنا فَلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسع علينا ولنا».
فأحسنَ لنا القول.
ثم قال صالح لأصحابه ليلته :
- «اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحدٍ من النَّاس إلا أن يكونوا يُريدونكم، فإنَّكم خرجتم غضباً لله حيث انتهكت محارمه، وعُصي في الأرض، وسُفكت الدّماء بغير حقها، وأخذت الأموال غصباً، فلا تعيبوا على قوم أعمالاً ثمّ تعملوا بها. وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرُّستاق، فابدأوا بها، فاحملوا رجلكم وتقووا بها على عدوكم».
ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عُميرة في خمسمائة، وكان صالح في مائة وعشرة، فقال عدي :
- «أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجالٌ سُمُوا لي، وإِنَّ الرَّجل منهم خيرٌ من مائة فارس في خمسمائة». فقال له :
- «فإِنِّي أزيدك خمسمائة، فسر إليهم في ألف فارس».
فسار من حَرَّان في ألف رجل وكأنَّما يُساق إلى الموت. وكان عدي رجلاً يتنسك. فلما نزل ذوغان نزل بالنَّاس وأنفذ إلى صالح بن مسرح رجلاً دسه إليه. فقال له :
ص: 175
- «إنَّ عديًا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوي بلداً آخر وتقاتل أهله فإنَّ عديًا للقائك كاره».
فقال صالح :
- «ارجع إليه، فقُل له : إن كنت ترى رأينا فأَرِنا من ذلك ما نعرف، ثمّ نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السُّوءِ، رأينا رأيَنا. فإما بدأنا بك، وإِمَّا رحلنا إلى غيرك».
فانصرف إليه الرسول، فأبلغه فقال عدي :
- «ارجع إليه فقل له : إني والله لا أرى رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيري».
فقال صالح لأصحابه: اركبوا فركبوا وحبس الرَّجلَ عنده حتى خرجوا ثمّ تركه ومضى بأصحابه حتّى أتى عديا في سوق ذوغان وهو قائم يصلي الضُّحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم. فلمَّا دَنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضُهم يجول في بعض. فأمر شبيباً، فحمل عليهم في كتيبةٍ، ثمَّ أَمر سويداً، فحمل في كتيبة، وكانت هزيمتهم وأتي عدي بدائته فركبها ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه، وذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي، فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال لهما :
- «اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه». فخرجا، وأَغذَّا السَّير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل له :
- «توجَّه نحو آمد».
فاتَّبعاه حتَّى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلاً وخندقاً وهما يتساندان كلُّ واحدٍ منهما على حدته. فوجه صالح شبيباً إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد السُّلَمي، فاقتتلوا أَشدَّ قتال اقتتله قوم، حتّى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض.
فتحدث بعض أصحاب صالح قال : كنا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلما رجعنا وصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال :
- «يا أخلائي ماذا ترون؟».
ص: 176
فقال شبيب :
- «أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم نَنل منهم طائلاً. والرَّأي أن نرحل عنهم». فقال صالح :
- «أنا أرى ذلك».
فخرجوا من تحت ليلتهم حتّى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتى قطعوا الدَّسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جَلُولا وخانقين، واتَّبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يُقال لها: الرّيح وصالح يومئذٍ في تسعين رجلاً. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنةً وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثةً، فهو في كردوس وشبيب في ميمنته في كردوس، وسويد بن سليم في كردوس من ميسرته، وفي كل كردوس منهم ثلاثون رجلاً. فلمَّا شدَّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سُليم وثبت صالح، فقتل. وضارب شبيب حتى صُرع عن فرسه، فوقع في رجاله، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلاً، فنادى:
- «يا معشر المسلمين».
فلاذوا به، وقال لأصحابه :
- «ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتّى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا».
ففعلوا ذلك حتّى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلاً مع شبيب وأحاط بهم الحارث بن عُميرة مُمسياً، وقال لأصحابه :
- «أحرقوا الباب، فإذا صار جمراً فدعوه، فإنَّهم لا يقدرون على خروجهم حتّى تصبحهم فتقتلهم».
ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه :
- «ما تنتظرون يا هؤلاء؟ فوالله لئن صبحوكم إنَّه لَهلاكُكم». فقالوا :
- «مرنا بأمرك» فقال لهم :
- «بايعوني إن شئتم، أو مَن شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنَّهم آمنون منكم، فإني أرجو أن ينصركم الله». قالوا :
- «فابسط يدك».
ص: 177
فبايعوه. فلما جاؤوا إلى الباب وجدوه جمراً، فأتوا باللُّبود، فبلوها بالماء، ثمَّ أَلقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عُميرة إلا وشبيبٌ وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتّى صُرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
فأَمَّا صالح بن مسرح فإنّه أُصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثم ارتفع في أداني أرض الموصل، ثم ارتفع نحو أذربيجان يجبي الخراج.
وكان سفيان بن أبي العالية قد أُمر أن يدخل في خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول فصالح صاحب طبرستان، وأقبل في نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجاج :
- «أَمَّا بعدُ، فأقم بالدسكرة في من معك حتّى يأتيك جيش الحارث بن عُميرة من ذي الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح، ثمّ سِرْ إِلى شبيب حتّى تناجزه».
ففعل سفيان ذلك ونزل الأسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عُميرة بالكوفة والمدائن :
- «برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة».
قال: فخرجوا حتَّى أَتَوه وارتحل سفيان في طلب شبيب، ثمَّ ارتفع عنهم كأنَّه يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصاداً في خمسين رجلاً في هزم من الأَرض. فلما رأوه جمع أصحابه، ثم مضى في سفح من الجبل مشرقاً. فقالوا :
- «هرب عدو الله». واتَّبعوه.
فقال لهم عدي بن عُميرة الشيباني :
- «أَيُّها النَّاس، لا تعجلوا عليهم حتّى نضرب في الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمناً حذرناه، وإلا كان طلبهم بأيدينا، لن يفوتنا».
فلم يسمع منه النَّاس، وأسرعوا في آثارهم فلما رأى شبيبٌ أَنَّهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبي العالية في نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالاً
ص: 178
شديداً حتّى انتصف من شبيب، فقال سويد بن سليم:
- «أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟».
فقال شبيب :
- «أنا من أعرف النَّاس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلاً».
ثم قال :
- «يا قعنب، اخرج في عشرين، ثمَّ ائتهم من ورائهم».
فخرج قعنب في عشرين، فارتفع عليهم فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينقصون ويتسللون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية، فطاعنه، فلم يصنع رُمحاهما شيئاً، ثمَّ اضطربا بسيفيهما، ثمَّ اعتنق كلُّ أَحدٍ منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثمَّ تحاجزا، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلامٌ لسفيان، يُقال له غزوان نَزَل عن برذونه، وقال لسفيان :
- «اركب يا مولاي».
فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتَّى قُتل، وكانت معه رَايَتُه وأَقبل سفيان بن أبي العالية منهزماً حتّى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال : انتظرني فلم يفعل وعجل نحو الخوارج. فلما عرف الحجاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للنَّاس :
- «مَن صنع كما صنع هذا وأَبلى كما أَبلى، فقد أحسنَ».
ثم كتب إليه يعذره ويقول له :
- «إذا خف عليك الوجع، فأقبل مأجوراً إلى أهلك».
وكتب إلى سورة :
- «أَمَّا بعدُ، يابن أُم سورة، فما كنت خليقاً أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلاً ممَّن معك صليباً إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثمَّ ليقدم بهم عليك، ثمَّ سِرْ بهم حتى نلقى هذه المارقة، وأخبرني في أَمرك، وكدْ عدوّكَ، فإِنَّ أَفضل أَمرِ الحرب المكيدة. والسَّلام».
فلمَّا أَتى سَورةَ كتاب الحجّاج، بعث عدي بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثم رحل بهم حتّى قدم على سورة ببابل مهروذ.
ص: 179
فخرج في طلب شبيب وخرج شبيب يجول في جُوخى، وسورة في طلبه. فجاءَ شبيب إلى المدائن وتحصن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى. فدخل المدائن وأَصابَ دواب من دواب الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتي فقيل:
- «هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك».
فخرج في أصحابه حتّى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضَّأَ هو وأصحابه، ثمَّ أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرَّأوا من عليّ وأصحابه، وبكوا فأَطالوا البكاء، ثُمَّ عبروا عبروا جسر النّهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سَورة حتّى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه، فخبرته بمنزل شبيب بالنهروان.
فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم :
- «إِنَّهم قل ما يلقون مُصحرين أو على ظهيرة إلا انتصفوا، وقد حُدِّثْتُ أَنَّهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيتُ أن أنتخبكم وأسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيتهم، فإنَّهم آمنون لبياتكم. فإِنِّي والله أرجو أن يصرعهم الله مصرعَ إخوانهم بالنهروان من قبل» فقالوا :
- «اصنع ما أحببت».
فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه، ثمَّ أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس ثمَّ بَيَّتهم. فلمَّا دَنا أَصحاب سَورةَ منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبَّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سَورةُ وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثمَّ صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتّى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول :
مَنْ يَنكِ العَيْر يَنَك نيَّاكا *** جَنْدَلَتانِ اصْطَكَّتا اصطكاكا
ورجع سورة إلى أصحابه مفلولاً قد هزم فرسانه وأهل القُوَّة من أصحابه. فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتَّى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل النَّاس، وخرج ابن أبي العُصيفِر، وهو أَميرٌ على المدائن، فرماهم النَّاس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثم سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف النَّاسُ بينهم فقالوا :
- «هذا شبيب قد أقبل يُريد أَن يُبيِّتَ أَهلَ المدائن».
فارتحل عامة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإن شبيباً لبتكريت، ولما أتى الحجاج
ص: 180
خبره، قال :
- «قبح الله سورةً، ضيّع العسكر، وخرج يُبيت الخوارج. والله لأَسوءَنّه».
ثمّ دعا الحجَّاجُ الجَزْلَ وهو عثمان بن سعيد، فقال له :
- «تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخَرِق النَّزِق، ولا تُحجم إحجامَ الواني الفرق. هل فهمت ؟ قال :
- «نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت ما قال». قال:
- «فاخرج فعَسكرْ بدير عبد الرحمن حتّى يخرج إليك النَّاس». فقال :
- «أصلح الله الأمير، لا تبعثَنَّ معي أحداً من الجند المفلول المهزوم، فإنَّ الرُّعبَ قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد». قال :
- «ذلك لك ولا أراك إلا وقد أحسنتَ الرَّأْيَ ووُفِّقتَ».
ثمَّ دعا أصحاب الدواوين، فقال:
- «اضربوا على النَّاس بالبعث فأخرجوا أربعة آلاف من النَّاسِ وعَجِّلوا».
فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث وأخرجوا أربعة آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثمّ نودي فيهم بالرَّحيل. ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج أَنْ :
- «برئت الذّمةُ من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفاً».
فمضى الجزل بهم حتّى أتى المدائن فأقام بها ثلاثاً، ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفر بفرس وبرذون وألفي درهم، ووُضع للنَّاس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيَّام، وأصاب النَّاس من ذلك ما شاؤوا.
ثمَّ إِنَّ الجَزْلَ خرج بالنَّاس في أثر شبيب فطلبه في أرض جوخي، فجعل شبيب يُريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج يُريد بذلك أن يفرِّقَ الجزلُ أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في عددٍ یسير على غير تعبئة.
فجعل الجَزْلُ إِلا على تعبئة، ولا ينزل إلا خَنْدَقَ على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوماً أصحابه وهم مائة وستون رجلاً، فجعل على كلِّ أَربعين منهم رجلاً، فهو في أربعين، ومُصادٌ أَخوهُ في أَربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلل بن وائل في أربعين، وقد أَتَتْهُ عيونُه أَنَّ الجَزْل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم :
- «إِنِّي أُريدُ أَن أُبيت الليلة هذا العسكر، فاتتهم أنت يا مُصادُ من قبل حلوان،
ص: 181
وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتِهم أنت يا مجلل من قبل المغرب، وليُلحَّ كلُّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تُقلعوا عنهم حتّى يأتيكم أمري».
قال فروة بن لقيط: وكنت أنا فى الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا :
- «تيسروا، وليسِر كل امرئ منكم أميره، ولينظُرُ ما يأمر به أميرُه فَلْيَتَّبعه».
فلمَّا قَضمتْ دوابنا، وذلك أَوَّل ما هدأت العيون، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة، فإذا للقوم مسلحةٌ عليهم عياض بن أبي لينة فما هو إلا أَن رَآهم مُصَادٌ أَخو شبيب حتّى حمل عليهم في أربعين رجلاً، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتّى يأتيهم من ورائهم كما أمره فلما لقي هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثمَّ إِنَّا دفعنا إليهم جميعاً فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يَزْدَجِرد إلا نحو ميل فقال لنا شبيب :
- «اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتّى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم».
فاتَّبعناهم مُلظِّين بهم، مُلحين عليهم، ما نُرفِّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همَّةٌ إلا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجَزْلُ قد خَندقَ عليه وتحرَّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحةً أُخرى مما يلي حُلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه :
- «سيروا ودعوهم».
فلما سار عنهم أخذ طريق حلوان حتّى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه :
- «انزلوا، فأقضموا دوابكم وقيلوا وتروحوا، وصلوا ركعتين، ثم اركبوا».
ففعلوا. ثمَّ أَقبل بهم راجعاً إلى عسكر أهل الكوفة، وقال:
- «سيروا على تعبئتكم التي عبأتكم عليها أَوَّلَ اللَّيل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم».
فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتَّى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثمَّ صِحْنا بهم من كل ناحيةٍ، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كل جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد :
- «خلِّ لهم سبيل الكوفة».
وكان يقاتلهم من ذلك الوجه، فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا
ص: 182
نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفل منهم أحداً. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجَزْلُ مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الحجاج، فطال ذلك على الحجاج.
فكتب الحجاج إِلى الجَزْلِ كتاباً قُرئ على النّاس، نسخته :
- «أَمَّا بعد، فإنِّي قد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه النَّاس، وأمرتُك باتباع هذه المارقة وأن لا تُقلع عنها حتّى تقتلها أو تفنيها. فوجدتَ التَّعريس في القُرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المُضِي لمناهضتهم ومناجزتهم».
فشق ذلك على الجَزْل.
قال : فأَرجفنا بأميرنا وقلنا: يُعزل. فما لبثنا أن بعث الحجاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أَنَّه، إذا لقي المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه.
وجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميراً. فقام فيهم خطيباً. فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال :
- «يا أهل الكوفة، إنّكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم في طلب هذه الأعاريب العُقف منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون في جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلداً سوى بلدكم. اخرجوا على اسم الله إليهم».
فخرج وأخرج الناس معه وجمع إِليه خيول أهل العسكر، فقال له الجَزْل:
- «ما تُريد أن تصنع ؟» قال :
- «أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل». فقال له الجزل:
- «أقم أَنتَ في جماعة النَّاس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنَّ ذلك شرُّ لهم وخيرٌ لك». فقال له :
- «قِفْ أَنتَ في الصَّفْ». فقال :
- «يا سعيد بن مجالد، ليس في ما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا سمع الله ومن حضر من المسلمين». فقال :
ص: 183
- «هو رأي إن أصبتُ فالله وفقني، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء».
قال : فوقف الجزلُ في صف أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرَّحمن بن عوف أبا حميد الرَّاسبي. ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج النّاسَ معه وقد أخذ شبيب إلى براز الرُّوز، فنزل قطيطا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء.
ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتّى أتاه سعيد بن مجالدٍ في أهل العسكر. فصعد الدهقان ثمَّ نزل قد تغير لونه، فقال:
- «ما لك؟» قال :
- «قد والله جاءك جمع عظيم». فقال :
- «بلغ شواؤك؟» قال :
- «لا». قال :
- «دَعْهُ».
قال : ثم أشرف إشرافةً أُخرى، فقال:
- «قد أحاطوا بالجوسق». قال:
- «هات شواءك».
فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لما فرغ :
- «قوموا إلى الصَّلاة».
وقام وتوضأ وصلى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلد سيفه وأخذ عمود حديد، ثمَّ قال : «أسرجوا لي البغلة». فقال أخوه مصاد :
- «أخي هذا اليوم تُسرج بغلة؟» قال :
- «نعم، أسرجوها».
فركبها، ثم قال :
- «يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة». وقال لمصاد :
- «أنت على القلب».
وأمر الدهقان، ففتح الباب في وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتّى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح:
ص: 184
- «يا معشر هَمْدان، أنا ابن ذي مُرَّان، إِليَّ إِليَّ».
ونزع سرابانةً كانت عليه. فنظر شبيب إلى مُصادٍ فقال له :
- «استعرضهم استعراضاً، فإنَّهم قد تقطعوا. فإنّي حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أُثكل ولده».
ففعل مُصادٌ ما أَمره به وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميِّتاً وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلا قتيل واحدٍ، وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتَّى انتهوا إلى الجَزْلِ، فناداهم الجَزْل:
- «أَيّها النَّاس، إِليَّ إِليَّ».
و ناداهم عياض بن أبي لينة :
- «أيّها النَّاس إن تكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه».
فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزماً. وقاتل الجَزْلُ قتالاً شديداً حتى صُرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبي لينة حتَّى استنقذاهُ وهو مرتثُّ. وأقبل النَّاس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، وأُتي بالجزل حتى دخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف :
- «أَمَّا بعدُ، فإِنِّي أُخبر الأمير، أصلحه الله، أنّي خرجت من الجُندِ الَّذي وجهني فيه إلى عدوه، وقد كنتُ حفظتُ عهد الأمير إليَّ فيهم ورأيه. فكنتُ أَخرج إليهم إذا رأيتُ الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أَزَلْ كذلك وقد أَرادني العدو بكلِّ ريدةٍ، فلم يُصِبْ منّي غِرَّة حَتَّى قدم علي سعيد بن مجالد رحمه الله، فأَمرته بالتُّؤدة، ونهيتُه عن العجلة، وأمرتُه ألا يقاتلهم إلا في جماعة النَّاس عامة فعصاني وتعجَّل إليهم في الخيل وكنتُ أشهدتُ الله عليه وأهل المصرين، وإني بريء من رأيه الذي رأى، وإني لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودُفع النَّاسُ إِليَّ، فنزلتُ ودعوتهم إليَّ،، ورفعتُ لهم رايتي، وقاتلتُ حتَّى صُرعتُ فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أُفَقتُ إِلا وأنا في أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحات قد يموت الإنسان من دونها ويعاني من مثلها فَلْيسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجندهِ وعن مكايدتي عدوَّهُ، وعن موقفي يوم البأس فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له. والسَّلام».
فكتب إليه الحجاج :
- «أَمَّا بعدُ، فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كلَّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر
ص: 185
نفسك وقد صدقتك في نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدَّتك على عدوك وقد رضيتُ عجلة سعيد وتؤدتَك. فأَمَّا عجلته فإنَّها أفضت به إلى الجنَّة وأَمَّا تؤدتك فإنّها ما لم تَدَع الفرصة إذا أمكنتك، وتركُ الفرصة إذا لم تكن حزم، وقد أحسنتَ وأصبتَ وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصتُ إليك حيَّان بن أعسر ليداوِيَك ويعالج جراحتك، وبعثتُ إليك بألفي درهم، فأَنفِقها في حاجثك وما ينوبك. والسلام».
وبعث عبد الله بن أبي عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللَّطَفِ والهديَّة. وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك اليوم يومَ سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من الشوق دواب وثياباً وأشياء ليس لهم منها بد، ثمَّ أَخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمام أعين فبعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فجهزه في ألفي فارس نقاوة وقال له :
- «اخرج إلى شبيب، فالقَهُ واجعل ميمنة وميسرةً ثمَّ انزل إليهم في الرِّجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتَّبعه».
فخرج، فعسكرَ بالنَّاس بالسَّبخة، وبلغه أن شبيباً قد أقبل. فسار نحوه وكأَنَّما يُساقون إلى الموت. وأمر الحجاج عثمان بن قطن فعَسكر بالناس في السبخة، ونادى :
- «أَلا، برئت، الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة».
فبينا سويد بن عبد الرَّحمن يسير في الألفين الذين في الألفين الذين معه وهو يعبِّئُهم ويحرّضهم، إذ قيل له :
- «قد غشيك شبيب».
فنزل، ونزل معه جُلّ أَصحابه، وقدَّم رايته، فأُخبر أنَّ شبيباً لما أُخبر بمكانك، ترككَ، ووجد مخاضةً فعبر الفرات يُريد الكوفة من غير الوجه الذي أنتَ به. ثم قيل لهم :
- «أما تراهم؟».
فنادى في أصحابه، فركبوا في آثارهم وإن شبيباً أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له :
- «إِنَّ أَهل الكوفة بأجمعهم معسكرون».
فلمًا بلغ مكانُ شبيب ماج بعضهم في بعض، وجالوا وهموا بدخول الكوفة حتّى قيل لهم : - «هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل».
ومضى شبيبٌ حتّى أخذ على شاطئ الفرات، ثمَّ أَخذ على الأنبار، ثم دخل
ص: 186
وقوفاً، ثمَّ ارتفع إلى أداني أذربيجان. فتركه الحجاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبة. فما شعر النَّاس بشيءٍ حتَّى جاء كتاب ماد رواسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنَّ تاجراً من تجار أهل بلادي أتاني يذكر أَنَّ شبيباً يُريد أن يدخل الكوفة في أَوَّل هذا الشَّهر المستقبل، وأحببتُ إعلامك لثرى رأيَكَ ثمَّ لم ألبث أن جاءني جائيان من جيراني، فحدثاني أنَّه قد نزل خانيار.
فأَخذ عُروة كتابه، فأدرجه وسرَّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجاج أقبل جادًّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتَّى انتهى إلى قريةٍ يُقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه :
- «يا هؤلاء، إِنَّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا».
فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة.
وكتب عُروة إلى الحجاج :
- «إِنَّ شبيباً أقبل مُسرعاً يُريد الكوفة، فالعجل العجل».
فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة : فنزلها الحجاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثمَّ أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئاً يسيراً، ثم ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتّى انتهى إلى السُّوق. ثمَّ شدَّ حتَّى ضرب باب القصر بعموده.
قال : فحدَّثني جماعةٌ أَنَّهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبَّة وقال :
وكأَنَّ حافِرَها بكل خميلةٍ *** فرق یكیلُ به شحيح مُعدِم
ثمَّ اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلُّون فيه، فقُتل جماعةٌ. ومرَّ بدار حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على بابه وقالوا :
- «إِنَّ الأمير يدعو حوشباً».
- «فأخرج ميمون غلامه برذون حَوشَبٍ فكأنه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له :
- «كما أَنتَ حتّى يخرجَ صاحبك».
فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب ليصرف فعجَّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميموناً وأخذوا برذونه ومضوا. حتّى مرُّوا بالجحاف بن بسيط الشَّيباني من رهط حَوشَب. فقال له سويد :
ص: 187
- «انزل إلينا». فقال :
- «ما تصنع بنزولي؟» قال سويد :
«انزل أقضِكَ ثمن البكرة التي كنتُ ابتعتها منك بالبادية».
فقال له الجحاف :
- «بئس ساعة القضاء هذه السَّاعة، وبئس المكان لقضاءِ الدّين، أما ذكرت أداء أَمانتك إلا واللَّيل مُظلمُ وأَنتَ على متن فرسك! قبَّح الله ديناً لا يصلح ولا يتم إلا بقتل وسفك الدماء أهل القبلة».
ثمَّ مرُّوا بمسجد بني ذُهل، فلقوا ذُهل بن الحارث، وكان يُصلِّي في مسجد قومه فيُطيل الصَّلاة، فصادفوه منصرِفاً إلى منزله فقتلوه. ثمَّ خرجوا متوجهين نحو الرّدمة، وأمر الحجاج فنُودي:
- «يا خيل الله اركبي وأبشري».
وهو فوق القصر وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أوّل من جاءَ من النَّاس عثمان بن قَطَن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال :
«أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرني بأمره».
فناداه ذلك الغلام :
- «قف مكانك حتّى يأتيك أمر الأمير».
وجاءَ النَّاس من كل جانب، وبات عثمان في من اجتمع إليه من النَّاس حتّى أصبح.
وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهدَهُ، وكتب إلى الحجاج :
- «إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهِّز معه ألفي رجل، وعجل سراحه إلى سجستان».
فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبَّس ويتجهز. فقال له نُصحاؤه :
- «تعجل أَيُّها الرَّجل إلى عملك، فإنَّك لا تدري ما يحدث».
فأقام على حاله وحدثَ من أَمر شبيب ما حدثَ.
فقيل للحجاج :
- «إن سار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه ممن تطلب
ص: 188
أحدٌ منعك منه ؟» قال :
- «فما الحيلة؟ قالوا :
تأتيه فتسلم عليه وتذكر نجدته وبأسَه وأَنَّ شبيباً في طريقه وقد أعياك، وأَنك ترجو أن يُريح الله منه على يديه، فيكون له ذكر ذلك وشهرته».
فكتب إليه الحجاج :
- «إنَّك عامل على كل بلد مررت به وهذا شبيب في طريقك تجاهدُ ومَن معه ولك ذكره وصيتُهُ، ثمَّ تمضي إلى عملك». فاستجاب له.
ثمَّ إِنَّ الحجاج بعث بشر بن غالب الأسري في ألفي رجل، وزيادة بن قدامة في أَلفين، وأبا الضُّريس مولى تميم في ألف من الموالي، وأعين صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم واجتمع تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجهَ الذي فيه جماعة أولئك القُوَّاد، وأخذ نحو القادسية فوجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نُقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له :
- «اتَّبع شبيباً حتّى تواقعه حيث ما أدركته ما لم يعطف عليك وينزل فيقيم لك فلا تبرح حتى تواقعه».
فخرج زحرّ حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيباً مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحرٌ على ميمنته عبد الله بن كناز اليهودي، وكان شجاعاً وعلى مسيرته عدي ين عميرة الكندي، وجمع شبيب خيله كلها كبكبةً واحدة، ثمَّ اعترض بها الصَّفَّ يُوجف وجيفاً حتّى انتهى إلى زحر بن قيس. فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه. فظنَّ القوم أَنَّهم قتلوه. فلما كان في السَّحر وأصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية فبات فيها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع عشرة ضربةً، فمكث أَيَّاماً ثمَّ أَتى الحجاج وعلى وجهه القُطنُ، فأجلسه معه على السرير.
وقال أصحاب شبيب لشبيب، وهم يظنُّون أَنَّهم قتلوا زَحْراً :
- «وقد هزمنا لهم جنداً، وقتلنا أميراً من أمرائهم عظيماً. انصرف بنا الآن وافرين». فقال لهم :
- إ«ِنَّ قتلنا هذا الرَّجلَ وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الأمراء، فاقصدوا بنا قصدهم، فوالله لئن نحن قتلناهم، ما دون قتل الحجّاج وأخذ الكوفة شيء». فقالوا :
- «نحن طوع أمرك، فرأيك».
قال : فانقض بهم جواداً جواداً حتّى أتى نجران الكوفة بناحية عين التَّمر، ثمَّ استخبر عن القوم فعُرِّف اجتماعهم بِرُوذآباد في أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من
ص: 189
الكوفة، وبلغ الحجّاج مسيرُ شبيب إليهم، فبعث إليهم يقول لهم :
- «إن جمعكم قتال، فأميرُكم زايدة بن قدامة».
قال عبد الرحمن : فانتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء، على جماعتهم زايدة بن قدامة، وقد عبّى كلُّ أمير أصحابه على حِدةٍ وهو واقف في أصحابه. فأشرف على النَّاس شبيب وهو على فرس له كُميتٍ أَغرَّ، فنظر إلى تعبئتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتَّى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم فيقف في ميمنتنا، وفيها زياد بن عمرو العَتَكيّ، ومضت كتيبة فيها مُصادٌ أَخو شبيب، فوقفت بإزاء مسيرتنا، وفيها بشر بن غالب الأسدي، وجاءَ شبيب في كتيبة حتّى وقف مقابل القلب.
قال : فخرج زايدة بن قدامة يسير في النَّاس بين الميمنة والميسرة يُحرِّض النَّاسَ ويقول :
- «عباد الله، إنكم الطيبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون. اصبروا، جعلتُ لكم الفداء لكرّتين أو ثلاث، ثمَّ هو النَّصر، ليس دونه شيء إلا ترونهم. والله ما يكونون مائتي رجل، إِنَّما هم أكلةُ رأس، وهم السُّرَّاق المُرَّاق، إِنَّما جاؤوكم ليُهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئَكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أقل فُرقةٍ وأنتم أهل جماعةٍ وغُضُّوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنَّة، ولا تحملوا عليهم حتَّى آمركم».
ثم انصرف إلى موقفه.
وحمل سويد بن سُليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في جماعة، ثمَّ ارتفع عنهم سويد قليلاً، ثم كر عليهم ثانية.
قال فروة بن لقيط : اطَّعنَّا ساعة وصبروا لنا حتّى ظننتُ أَنَّهم لن يزولوا. وقاتل زياد بن عمرو قتالاً شديداً. فلقد رأيتُ سويد بن سليم يومئذٍ وإنَّه لأشدُّ العرب قتالاً وأشجعهم وما يعرض لهم. قال : ثم ارتفعنا عنهم، فاذا هم يتقوّضون، فقال لنا أصحابنا :
- «ألا تراهم يتقوَّضون؟ احملوا عليهم».
فراسلنا شبيب :
- «خَلُّوهم حتى يخفُوا».
فتركوهم قليلاً، ثمّ حمل عليهم الثَّالثة فانهزموا فنظرتُ إلى زياد بن عَمرو وإنَّه لَيُضرب بالسيوف، وما من سيف يُضرب به الَّا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين
ص: 190
سيفاً وهو مجفف، فما ضره شيءٌ منها. ثمَّ إِنَّه والله انهزم. ثمَّ انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالاً شديداً وصبَرنَا. ثمَّ إِنَّ مُصاداً حمل على بشر بن غالب في الميسرة، فصبر وأبلى وكرُمَ، ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتَّى قُتلوا. فلما قُتلوا انهزم أصحابه.
قال : وشددنا على أبي الضُّريس فهزمناه حتّى انتهى إلى موقف أعين. ثمَّ شددنا عليه وعلى أعين فهزمناهم حتى انتهوا إلى زايدة بن قدامة فلما انتهوا إليه، نزل ونادى :
- «يا أهل الإسلام، الأرضَ الأَرضَ، إليَّ إليّ. لا يكونوا على كُفرهم أصبرَ منكم على إيمانكم».
فقاتل عامة الليل إلى السحر.
ثمَّ إِنَّ شبيباً شدَّ عليه في جماعة من أصحابه، فقتلهُ ورِبْضةً حوله من أهل الحفاظ.
وقال شبيب لأصحابه :
- «ارفعوا السيف عن النَّاس وادعوهم إلى البيعة»..
فدَعَوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرَّحمن بن جُندَب : فكنتُ ممَّن قُدّم فبايعته وهو اقف على فرس وخيله واقفةٌ دُونَه. فكلُّ مَن جاء ليبايعه نُزع سيفه عن عاتقه وأُخذ سلاحه، ثمَّ يُدنى من شبيب فيُسلّم عليه بأمير المؤمنين، ثم يبايع. فإنَّا لكذلك، إِذْ أَضاءَ الفجر، ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه قد صبروا. وأَمر مؤذِّنَه فَأَذَّن، فلمَّا سمع الأذان قال :
- «ما هذا؟» قالوا :
- «هذا محمد بن موسى بن طلحة، لم يبرح». قال :
- «ظننتُ أَنَّ حُمقه وخُيلاءه سيحمله على هذا. نَحُّوا هؤلاء عنا، وانزلوا بنا فلنصلِّ».
فنزل، وأَذَن هو، ثم استقدم، فصلى بأصحابه، فقرأ: ««وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ»[الهمزة : 1]، «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» [الماعون: 1]. ثمَّ سلّم وركبوا.
فأرسل شبيب إلى محمدٍ :
- «إِنَّك امرؤ مخدوع، قد اتَّقى بك الحجّاج وأنتَ جارٌ لي، ولك حقُّ. فانطلق لِما أُمرت به ولك اللهُ أَلَّا أُريبَك».
فأبى إلا محاربته. فأعاد إليه الرَّسول، فأبى إلا قتاله. فقال له شبيب :
ص: 191
- «كأني بأصحابك لو التقتُ حلَقَتا البطان، لأسلموك، فصُرعتَ مَصرَعَ أَصحابك فأَطِعني وانطلق لشأنك، فإِنِّي أَنفَسُ بك عن القتل».
فأبى ودعا إلى البراز، فبرز له البُطين، ثمَّ قَعنب، ثمَّ سُويد، فأبى إلَّا شبيباً. فقالوا لشبيب :
- «قد رغب عنا إليك». قال :
- «فما ظنكم؟ هم الأشراف».
فبرز له شبيب، وقال :
- «أنشدك الله في دمك، فإنَّ لك جواراً».
فأبى. فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثني عشر رطلاً. فهشَمَ بيضة عليه ورأسه، ثم نزل إليه فكفنه ودفنه. وابتاع ما غنموا له من عسكره، فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه. قال :
- «هو جاري بالكوفة، ولي أَن أَهبَ ما غنمتُ لأهل الرِّدّة». فقال له أصحابه :
- «ما دون الكوفة أحدٌ يمنعها».
فنظر، فإذا أصحابه قد جُرحوا. فقال لهم :
- «ما عليكم أكثر مما فعلتم».
وخرج بهم إلى نفر، ثمَّ خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنَّ شبيباً قد أخذ نحو نِفّر، ظنَّ أَنَّه أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومَن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان ابن قطن، وسرَّحه إلى المدائن وولَّاه منبرها والصَّلاة ومعونةَ جُوخى كلّها وخراج الإستان. فخرج مسرعاً حتّى نزل المدائن وعزل الحجَّاجُ ابنَ أَبي عُصيفر، وكان بها الجزل مُقيماً يداوي جراحاته، وكان ابن أبي عُصيفر يعوده ويُكرمه ويُلطِفُه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يُلطِفُه بشيء. فكان الجزل يقول:
- «أَللَّهم زِدْ ابنَ أَبي عُصيفر جوداً، وزِدْ عثمان بن قطن ضيقاً وبخلا».
ثمَّ إِنَّ الحجّاج دعا عبدَ الرَّحمان بن محمد بن الأشعث، فقال له :
- «انتخب النَّاس».
وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس سنّة آلاف، واستحثه الحجاج، فعسكر بدير عبد الرَّحمان. فلمَّا أَراد الحجّاج إِشخاصهم كتب إليهم كتاباً قرِئَ عليهم :
ص: 192
- «أَمَّا بعد، فقد اعتدتُم عادةَ الأَذِلاءِ ووليتم الدُّبُرَ يومَ الزّحف دأب الكافرين. وإِنِّي قد صفحتُ عنكم مرَّةً بعد مرَّةً، وتارةً بعد أخرى. وإِنِّي أقسم لكم بالله قسماً صادقاً، لئن عُدتم لذلك لأُوقِعَنَّ بكم إيقاعاً أكون به أشدَّ عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتستترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلاً، وقد أعذر من أنذر، والسَّلام».
وارتحل عبد الرَّحمان في النَّاس حتَّى مرَّ بالمدائن، فنزل بها يوماً حتّى تشرَّى به أصحابه حوائجهم، ثم نادى في النَّاس بالرَّحيل فارتحلوا. ثم أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل، فسأله عن جراحته. وحدثه ساعةً. فقال له الجزل:
- «يا بن عمّ، إِنَّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل والله لكأَنَّما خُلقوا من ضلوعها، ثمَّ بَنُوا على ظهورها، ثمَّ هم أُسُدُ الأَجَم الفارس منهم أَشدُّ من مائة، إن لم يُبدأ به بَدَأ، وإِن هُجْهجَ أَقدم. وإني قد قاتلتهم وبلوتُهم، فإذا أصحرتُ لهم انتصفوا مني وكان لهم الفضل عليّ وإِذا خندقتُ عليّ أو قاتلتهم في مضيقٍ نِلتُ منهم ما أُحبُّ، وكان لي عليهم، فلا تلقَهم وأنتَ تستطيع، إلا في تعبئة أو خندق».
ثم ودعه. وقال له الجزل:
- «هذه فرسي الفُسيفساءُ، خُذها فإِنَّها لا تُجارى».
- «فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمن في طلبه حتَّى إذا كان على التخوم، أقام، وقال:
- «إِنَّما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا».
فكتب إليه الحجاج :
- «أَمَّا بعد فاطلب شبيباً واسلك فى أثره أين سلَكَ، حتَّى تُدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنَّما السلطان سُلطان أمير المؤمنين، والجُندُ جُنده. والسَّلام».
فخرج عبد الرَّحمن حتَّى قرأ الكتاب في طلب شبيب. فكان شبيبٌ يَدعَهُ حَتَّى إذا دَنا منه يُبيتُهُ فيجده قد خندق، وحذر فيمضي ويَدَعُه، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغه أنَّه قد تحمَّل، وأنه يسير، أَقبلَ في الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيلَ والرَّجالة المرامية، فلا تُصيب له غِرَّةً ولا غفلة، فيمضي ويَدَعُه. ولما رأى شبيبٌ أَنَّه لا يُصيبُ غِرَّتَه، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلَّما دنا منه عبد الرَّحمان حتَّى يَنزل على مسيرة عشرين فرسخاً منه، ثمَّ يُقيم في أرض غليظةٍ خشنة، فيجيء عبد الرحمان في خيله وثَقَله، حتّى إذا دَنا من شبيب ارتحل عنه شبيب فسار خمسة عشر فرسخاً أو عشرين
ص: 193
فرسخاً، فنزل منزلاً غليظاً خشناً. ثم يقيم حتّى يدنو عبد الرحمان. فكان شبيب قد عذَّب ذلك العسكر،. وشقّ عليهم. وأحفى دوابهم، ولقُوا منه كل بلاء. فلم يزل عبد الرَّحمن يتبعه حتى مرَّ به على خانقين، ثمَّ جَلُولاء، ثمّ تامرا، ثمَّ أَقبل إلى البَتِّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حَوْلايا. وجاء عبد الرَّحمن حتَّى نزل شرقيَّ حَوْلايا وهو في راذان الأعلى من أَرض جُوخى، ونزل في عواقير من النهر، ونزلها عبد الرَّحمن حيث نزلها وهي تُعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمن :
- «هذه الأَيَّامُ أَيَّامُ عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيامُ فعلتم».
فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.
فكتب عثمان بن قَطَن إلى الحجاج :
- أما بعد، فإِنِّي أُخبر الأمير، أصلحه الله، أَنَّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها خندقاً واحداً، وخلى شبيباً، وكسر خراجها، فهو يأكُلُ أهلها. والسلام».
وكتب إليه الحجاج :
- «قد فهمت ما ذكرتَ، وقد - لَعَمري - فعل عبد الرَّحمن غير مرضي، فسِرْ إِلى النَّاس، فأنت أميرُهم، وعاجل المارقة حتّى تلقاهم».
وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتّى قدم على عبد الرَّحمن ومن معه وهم معسكرون على نهر حَوْلايا قريباً من البَت وذلك يوم التّروية عشاءاً. فنادى النَّاسَ وهو على بغله :
- «أَيُّها النَّاس، اخرجوا إلى عدوكم».
فوثب إليه الناس فقالوا :
- «انشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال. فَبِتِ الليلة، ثم اخرج على تعبئة».
فجعل يقول :
- «لأنا جزنَّهم، فليكونَنَّ الفرصة لي أو لهم».
فأَتاهُ عبد الرَّحمن، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي :
ص: 194
- «إِنَّ الذي تريد من مناجزتهم السَّاعةَ، أنت فاعله غداً وهو خيرٌ لك وللنَّاس. إِنَّ هذه ساعة ريح وغبرة وقد أمسيتَ، فانزِلْ، ثم ابكر بنا غدوة».
فنزل فسفت عليه الرِّيح، وشقّ عليه الغبار ودعا صاحب الخراج العُلوج، فبنوا له قُبَّةً وبات فيه. ثمَّ أَصبح وخرج بالنَّاس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة. فصاح الناس إليهم وقالوا :
- «ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإنّ الرِّيح علينا».
فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رآهم لم يخرجوا إليه أَقام. فلما كان من الغد خرج عثمان يعبِّئ الناس على أرباعهم، وسألهم :
- «مَن كان على ميمنتكم وميسرتكم؟» قالوا :
كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شداد السلولي كان على ميمنتنا». فقال لهما :
- «قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد وليتُكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرَّا، فوالله لا أزول حتَّى تزول نخيل راذان عن أصولها». فقالا
- «فنحن والله الذي لا إله إلا هو، لا نفرُّ حتّى نظفرَ أَو نُقتل». فقال لهما :
- «جزاكم الله خيراً»..
ثمَّ أَقام حتّى صلى بالنَّاس الغداة، ثم خرج بالخيل، ونزل يمشي في الرجال.
وخرج شبيب وهو يومئذٍ في مائةٍ وأَحدٍ وثمانين رجلاً. فقطع إليهم النهر، وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سُويد بن سليم، وجعل في القلب مُضاداً أخاه، وزحفوا وكان عثمان بن قطن يقول فيكثر :
- «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا»[الأحزاب: 16].
- «ثم قال شبيب لأصحابه :
- «إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتّى يأتيه أمرى».
وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتَّى قُتل، وقُتلوا معه. ودخل شبيب عسكرهم وحمل سويد بن سُليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن، فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي. فنزل خالد فقاتل قتالاً شديداً، وحمل عليه
ص: 195
شبيب من ورائه، فلم يَنْثَنِ حتَّى علاه بالسيف فقتله. ومشي عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء وأشراف النَّاسَ والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستّين رجلاً. فلما دنا منهم عثمان بن قَطَنٍ شدَّ عليهم في الأشراف وأهل الصبر، فضربوهم حتى فرقوا بينهم. وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إِلا والرِّماح في أكتافهم يُكبهم لوجوههم. وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مُصادٌ وأصحابه، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال. ثمَّ إِنَّهم شدوا عليه، فأحاطوا به، وحمل عليه مُصادٌ أَخو شبيب، فضربه ضربةً بالسَّيف استدار لها، وقال:
- «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا» [الأحزاب: 38].
ثمَّ إِنَّهم قتلوه، وقُتل معه العُرفاءُ ووجوه النَّاس، فقُتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلاً، وقتل من سائر النَّاس نحو من ألف، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فعرفه ابن أبي سبرة، فنزل وناوله الرُّمح وقال له : اركب، فركب وارتدف ابن أبي سبرة وقال له عبد الرحمن :
- «نادِ في النَّاس : الحقوا بدير ابن أبي مريم».
فنادى. ثمَّ انطلقا ذاهبين وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن النَّاسِ السَّيف ودعاهم إلى البيعة، فأَتاهُ من بقي من الرّجال، فبايعوه. وبات عبد الرحمن بدير النَّعار، فأَتاهُ فارسان. فخلا أحدهما بعبد الرَّحمن طويلاً يناجيه، وقام الآخر قريباً منهما، ثم مضى مع صاحبه فكان الناس يتحدثون أن ذاك كان شبيباً وأَنَّه كان كاتبه. ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل، فسار حتَّى أتى دير ابن أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم ابن أبي سَبْرةَ صُبَرَ الشَّعيرِ والقَتِّ كأَنَّها القُصُور ونَحَرَ لهم من الجزر ما شاؤوا واجتمع النَّاس إلى عبد الرحمن فقالوا له : إن علم شبيب بمكانك أتاك وكنتَ له غنيمة، قد تَفرَّق عنك النَّاسُ وقُتل خيارهم، فالحق أيّها الرَّجل بالكوفة».
فخرج، وخرج معه الناس، وجاءَ حتّى اختبأَ من الحجاج، إلى أَن أُخذ له الأمان بعد ذلك.
ثمَّ إِنَّ شبيباً اشتدَّ عليه الحر وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان، فتصيف بها ثلاثة أشهر. وأتاه ناس ممَّن كان يطلب الدُّنيا كثير، ولحق به ناس ممَّن كان يطلبهم الحجَّاج بمال وتباعاتٍ. فمنهم رجلٌ يقال له : الحرّ بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل دَرقيط كانا ضيفين عليه، ولحق بشبيب حتَّى شهد معه مواطنه، حتّى قتل شبيب، وله مقام عند الحجاج وكلامٌ سَلِمَ به من القتل يجب أن نُثبتَهُ. وهو أَنَّ الحجّاج، لما آمَنَ بعد قتل شبيب كل من خرج إليه من أصحاب المال، خرج إليه الحُرُّ في من خرج.
ص: 196
فجاءَ أَهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج. فأُتي به.
فقال له الحجاج :
- «يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج؟» فقال له :
- «قد كان - أصلحك الله - مني ما هو أعظم من هذا». قال:
- «وما هو ؟» قال :
- «خروجي من الطَّاعة وفِراقي الجماعة. ثمَّ إِنَّكَ آمنتَ كلَّ مَن خرج إليك وهذا أماني وكتابك لي».
فقال له الحجاج :
- «قد لعمري فعلتُ أولى لك».
وخلى سبيله.
رجعنا إلى حديث شبيب. ثمَّ إِنَّه لما انفسخ الحرُّ عن شبيب خرج من ماء في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة. فجاءَ حتّى نزل قناطر حذيفة بن اليمان. فكتب ماذرواسب، وهو عظيم بابل مهروذ، إلى الحجاج يُخبره خبر شبيب. فقام الحجاج في النَّاس، فحمداً لله وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَيُّها النَّاسِ، لَتُقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثنَّ إلى قوم هم أطوعُ وأسمع وأصبر على البلاء منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم».
فقام إليه النَّاس من كل جانب يقولون :
- «نحن نقاتلهم ونُعتبُ الأمير، فليندبنا إليهم، فإِنَّا حيث سرَّه».
وقام إليه زَهرةُ بن حُويَّة. وهو يومئذ شيخ كبير، لا يستتم قائماً حتَّى يُؤخذ بيده، فقال :
- «أَصلحَ الله الأمير. إِنَّكَ إِنَّما تبعث النَّاس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة، وابعث عليهم رجلاً متيناً شجاعاً، محرباً مجرَّباً ممَّن يرى الفرار هضماً وعاراً، والصَّبرَ مجداً وكرماً».
فقال له الحجاج :
- «فأنت ذاك. فاخرج!» فقال له :
- «أصلح الله الأمير. إِنَّما يُصلح النَّاسَ في هذا رجلٌ يحمل الرُّمح والدّرعَ، ويهز السَّيفَ ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً. قد ضعفتُ وضعف
ص: 197
بصري، ولكن أجري في النَّاس مع أمير، فإنِّي إِنَّما أثبتُ على الرحالة، فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأي».
فقال له الحجاج :
- «جزاك الله عن الإسلام والطَّاعة في أَوَّل الإسلام وآخره خيراً. فقد نصحت وصدقتَ. أَنا مُخرج النَّاس كافَّةً، أَلا، فسيروا أَيُّها النَّاس».
فانصرف النَّاس وجعلوا يتيسرون، ولا يدرون من أميرهم.
وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان:
- «أَمَّا بعدُ، فإِنِّي أُخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أَنَّ شبيباً قد شارف المدائن، وإِنَّما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلّها تقتل أُمراؤهم وتُفل جنودهم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليَّ أَهلَ الشَّام فيقاتلوا عدوهم ويأكُلُوا بِلادَهم، فليفعلْ».
فلما أتى عبد الملك كتابه، بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن بن مذحج في ألفين، فسرَّحهم حين أتاه كتاب الحجاج، وكان بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلب وهم الجيش الذي كان بشر بن مروان بعث عليهم عبد الرَّحمن بن مخنف إلى قطري، وقد أخبرنا في ما مضى بمقتل عبد الرحمن بن مخنف. فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش الذي أُصيب فيهم عبد الرحمن، وكان جرى لعتّاب مع المهلب كلام تأدَّى إلى وحشة.
فلمَّا أَن جاءَ في هذا الوقت كتاب الحجَّاج إلى عتاب بن ورقاء بأن يأتيه، سُرَّ بذلك، ودعا الحجّاج أشراف الكوفة، فيهم، زهرة بن حُويَّة، وقبيصة بن والق، فقال:
- «مَن تَرونَ أَن أَبعث على هذا الجيش؟ فقالوا :»
- «رأيك أَيُّها الأمير أفضل.»
- «فإِنِّي قد بعثتُ إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير في النَّاس».
قال زهرة بن حُويَّة :
- «أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله، ما يرجع إليك حتّى يظفر أو يُقتل».
ص: 198
فقال قبيصة بن والق :
- «إِنِّي أُشير عليك برأي اجتهدته نصيحة لأمير المؤمنين، وللأمير ولعامة المسلمين. إِنَّا قد تحدثنا وتحدَّث النَّاس. إِنَّ جيشاً فَصَل إليك من أَهل الشَّام، وإِنَّ أَهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فقلوبهم كأنما هي في قوم آخرين. فإن رأيتَ أن تبعث إلى جيشك الذي أُمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يلبثوا إلا وهم يرون أَنهم ميتون، فعلت. فإنَّك تُحارب حُوّلاً قُلَّباً، طعاناً رحالاً، وقد جهَّزتَ إليه أهل الكوفة، ولست واثقاً بهم كل الثقة وإِنَّما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بُعثوا إليكَ من الشَّام. إِنَّ شبيباً، بينا هو في أَرضِ، إِذْ هو في أَرضٍ أُخرى، ولا آمَنُ أَن يأتيهم وهم غارون. وإن يهلكوا نهلك وتهلك العراق».
فقال :
- «للهِ أَنتَ ما أحسن ما رأيتَ لي، وما أحسن ما أشرت به عليَّ».
فبعث إلى مَن أَقبل إليه من الشَّام، فأتاهم كتاب الحجاج وقد نزلوا هيت، فقرأوه، فإذا فيه :
- «أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التّمر حتّى تقدموا الكوفة إن شاء الله».
فأقبل القوم سراعاً، وقدم عتّاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنَّه قادم. فأمره الحجاج، فخرج بالناس وعسكر بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى، فقطع منها دجلة. ثمَّ أقبل حتى نزل مدينة بَهُرَسير، وصار بينه وبين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرّفُ الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث رجالاً من وجوه أصحابك.
وأظهر مطرّف أنَّه يريد أن يدارسهم القرآن وينظر في ما يدعو إليه، فإن وجده حقا تبعه. فبعث إليه شبيب رجالاً فيهم قعنب وسويد والمحلّل، ووصاهم شبيبٌ أَلا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرّف، وبعث إلى مطرّف أن :
- «ابعث إليَّ من أصحابك بعدة أصحابي يكونوا رُهُنا في يدي حتّى ترد على أصحابي» فقال مطرف لرسوله:
- «القَهُ وقُلْ له : كيف آمنك على أصحابي إذا بعثت بهم الآن وأنتَ لا تأمنني على
ص: 199
أصحابك». فأبلغه الرسول، فقال شبيب :
- إ«ِنَّك قد علمتَ أنَّا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تستحلونه وتفعلونه».
فبعث إليه مطرفٌ جماعة من وجوه أصحابه. فلما صاروا في يد شبيب، سرّح إليه أصحابه. فأتوا مطرّفاً، فمكثوا أربعة أَيَّام يتناظرون، ثمّ لم يتفقوا على شيء. فلما تبين لشبيب أن مطرّفاً غيرُ تابعه، تعبَّى للمسير، وجمع أصحابه وقال لهم :
- «إِنَّ هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام. وذاك أني هممتُ أن أخرج في جريدة من الخيل حتَّى ألقى هذا الجيش المقبل من الشَّام، رجاءَ أن أصادف غِرَّتَهم قبل أن يحذروا، وكنتُ ألقاهم متقطعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه، ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عُيون أنَّ أوائلهم قد دخلوا عين التّمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة. وجاءتني أيضاً عيوني من نحو عتّاب أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة والبصرة. فما أقرب ما بيننا وبينهم. فتيسروا بنا للمسير إلى عتّاب بن ورقاء».
وكان عتاب يومئذٍ قد أخرج معه جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم وشُبَّانَهم، فوافى معه أَربعون ألفاً من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشَّباب. فكانوا خمسين ألفاً. وهدّدهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعدهم.
وعرض شبيبٌ أَصحابه في المدائن، فكانوا ألف رجل، فخطبهم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «يا معشر المسلمين، إنَّ الله عزّ وجلَّ قد كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان وأنتم اليوم مئون ومئون. أَلا إِنِّي مُصلِّ الظهر ثمَّ سائر بكم إن شاء الله».
فصلّى، ثمّ نودي في النَّاس، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون.
قال فروة بن لُقيط : فلما جاز بنا ساباط، ونزلنا معه قص علينا، وذكرنا بأيَّام الله وزهَّدنا في الدُّنيا، ورغبنا في الآخرة. ثمَّ أَذَن مؤذنه، فصلى بنا العصر، ثمَّ أَقبل حتَّى أشرف بنا على عتاب بن ورقاء. فلمَّا رآهم نزل من ساعته وأمر مؤذِّنَه فأذن، ثم تقدم، فصلی بهم المغرب، وخرج عتّاب بالنَّاس كلهم، فعبّاهم، وكان قد خندق أَوَّل أَيَّام نزل. وكان يُظهر أَنَّه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن. فلما صف عتّابُ النَّاسَ بعث على ميمنته محمد بن عبد الرَّحمن بن سعيد بن قيس، وقال له :
- «يا ابن أخي، إنَّك شريف، فاصبر وصابر». فقال له :
- «أَمَّا أَنا فوالله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان».
وقال لقبيصة بن والق:
- «اكفني الميسرة». فقال :
ص: 200
وغناء.
- «أنا شيخ كبير. غايتي أن أثبت تحت رايتي».
وكان يومئذٍ على ثلث بني تغلب.
- «أما تراني لا أستطيع القيام، إلا أن أقام؟ وأخي نُعيم بن عُليم وهو ذو جَزْء وغَناءٍ».
فبعثه على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث، ابن عم عتَّاب وشيخ أهل بيته على الرّجّالة، وبعث معه ثلاثة صفوف فيه الرَّجّالة معهم السُّيوف، وصف هم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية. ثم سار بين الميمنة والميسرة، ويمر بأهل راية راية، فيحثهم على الصَّبر ويقص عليهم. وقال في ما حفظ من كلامه :
- «إِنَّ أَعظمَ النَّاسِ نصيباً في الجنَّة الشُّهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصَّابرين. ألا ترون أَنَّه يقول : اصبروا، إِنَّ الله مع الصابرين»؟ وليس الله لأحدٍ أَمقتَ منه لأهل البغي. ألا ترون أن عدوّكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون ذلك إلا قربةً لهم عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أَهل النَّار. أين القُصَّاصُ؟
قال ذلك مراراً، فلم يُحبه أحدٌ منا. فلما رأى ذلك، قال:
- «أين من يروي شعر عنترة؟»
قال : فلا والله ما ردَّ عليه أحدٌ كلمة. فقال :
- «إِنَّا لِلَّه، كأَنِّي بكم قد فررتم عن عتّاب، وتركتموهُ تُسفى في إسته الرِّيحُ».
ثمَّ أَقبل حتَّى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال :
- «ما تخلف عنِّي إِلا مَن لا أُحبُّ أَن أَراه فينا».
فبعث سويد بن سُليم في مائتين إلى الميسرة وبعث المجلل بن وائل في مائتين إلى القلب. ومضى هو في مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم :
لمن هذه الرَّايات؟ قالوا :
- «رايات ربيعة».
فقال شبيت :
- «رايات طال ما نصرتِ الحقَّ، وطال ما نصرتِ الباطل، لها في كلِّ نصيبٌ. أَنَا أبو المدلّهِ، اثبتوا إِن شئتم».
ص: 201
ثمَّ حمل عليهم وهم على مسناة أمام الخندق، ففضهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاءَ شبيب حتّى وقف عليه، وقال لأصحابه :
- «مثل هذا ما قال الله عزّ وجلَّ: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ» [الأعراف : 175].
ثمَّ حمل على الميسرة وفيها عتاب بن ورقاء، وحمل سُويد بن سليم على الميمنة، وعليها محمَّد بن عبد الرَّحمن، فقاتل في الميمنة في رجال تميم وهمدان، فأحسن القتال. فما زالوا كذلك حتى أتوا، فقيل لهم :
- «قتل عتاب بن ورقاء».
قال : فانفضُوا ولم يزل عتّاب جالساً على طَنْفَسَةٍ في القلب هو وزهرة بن حوية، إذ غشيهم شبيب، فانفض عنه النَّاس وتركوه. فقال عتاب :
- «يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلَّ فيه الغناء. لهفي على خمسمائة فارس معي من وجوه الناس من نحو رجال تميم. ألا صابر لعدوه! ألا مواسٍ بنفسه؟».
فمضى الناس على وجوههم. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم:
- «أَصلحك الله، إِنَّ عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك وانصفق معه ناس كثير» فقال :
- «قد فرَّ قبل اليوم، وما رأيتُ ذلك الفتى يُبالي ما صنع».
ثمَّ قاتلهم ساعةً وهو يقول :
- «ما رأيتُ كاليوم قط موطناً لم أُبْلَ بمثله أقل ناصراً ولا أكثر هارباً خاذلاً».
فرآه رجلٌ من بني تغلب من أصحاب شبيب، وكان أصاب دماً في قومه، ولحق بشبيب، فقال لشبيب :
- «والله إني لأقتلنّ هذا المتكلم عتَّابَ بن ورقاء».
فحمل عليه وطعنه، فوقع ووطئت الخيل زهرة بن حُويَّة. فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض. فجاءه الفضل بن عامر الشيباني، فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعاً، فعرفه وقال :
- «مَن قَتلَ هذا ؟» فقال الفضل :
- «أنا قتلته» فقال شبيب :
- «هذا زُهرة بن حُويَّة. أما والله لئن كنتَ قتلتَ على ضلالةٍ لَرُبَّ يوم من أَيَّام
ص: 202
المسلمين قد حَسُنَ فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولرُبَّ خيل للمشركين هزمتها وسرية له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثمَّ كان في علم الله أَن تُقتل ناصراً للظَّالمين».
وقتل وُجوه العرب في المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال:
- «ارفعوا عنهم السيف!».
ودعا إلى البيعة. فبايعه النَّاسُ من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول :
- «إلى ساعة يهربون».
فلما كان في الليل هربوا واحتوى شبيب على ما في العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قُرَّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرَّحمن من مذحج في من معها، فشدوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَمَّا بعدُ، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العِزَّ، ولا نَصَرَ من أَراد منكم النصر، اخرجوا عنا، فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلا من كان عاملاً لنا ومَن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء».
ثمَّ إِنَّ شبيباً خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه :
- «أيكم يأتيني برأس عامل سورا؟».
فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مُغذِّين، حتّى انتهوا إلى دار الخوارج والعُمّال في سَمَّرجَه، وكادوا النَّاسَ بأَن قالوا :
- «أجيبوا الأمير!» فقال النَّاس :
- «أَيَّ الأمراء» فقالوا :
- «أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيباً».
فاغتر بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه، فضربوا عُنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال :
- «أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلم الحربة يا غلام!».
فحزّتْ بها البدور، وأَمر أَن تُنخس الدَّوابُ الَّتي كانت عليها. فمرت والمال يتناثر من بُدوره حتّى وردت الصراة، فقال:
- «إن كان بقي شيء فاقذفوه في الماء».
ص: 203
وإِنَّ أَبا سفيان بن الأبرد أتى الحجاج فقال :
- «ابعثني إليه حتّى أستقبله قبل أن يأتيك». فقال :
- «ما أُحبُّ أن نفترق حتَّى ألقاه في جماعتكم الكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا».
وأقبل شبيب حتَّى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي، فوجهه في ناس من الشُّرط لم يكونوا شهدوا يوم عتَّابٍ، ونحو من مائتي رجل من أهل الشَّام، فخرج في ألف رجل فنزل زرارة. وبلغ ذلك شبيباً فتعجل إليه. فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه وجاؤوا حتى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتّى قطع ودَنا من الكوفة، فبعث البطين في عشرة فوارس يَرتادُ له منزلاً على شاطئ الفرات في دار الرّزق. فوجه الحجّاجُ حَوشَب بن يزيد في جمعِ من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البُطين، فلم يَقْوَ عليهم. فبعث إلى شبيیب، فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات فلم يُوجّه إِليه الحجَّاجُ أَحداً. فمضى شبيب حتى نزل السبخة وأقام ثلاثاً لا يوجّه إليه الحجّاج أحداً، فابتنى مسجداً في أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تُصلِّي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران فجاءَ شبيب مع امرأته حتّى وفت بنذرها في المسجد.
وأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجاج لقتيبة بن مسلم :
- «اخرج فإني خارج وارتد لي معسكراً».
فخرج ثم رجع إليه فقال :
- «وجدت المدى سهلاً، فسر على اسم الله والطَّائر الميمون».
فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات فقال :
- «القوا لي ههنا». فقيل له :
- «إِنَّ الموضع قَذِرٌ». فقال :
- «ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيبة والسَّماءُ فوقه طيبةٌ»
وأخرج الحجاج مولى له يقال له : أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مُجفّفةً كثيرةً وغلماناً له وقالوا :
- «هذا الحجَّاجُ!».
ص: 204
فحمل عليه شبيب فقتله، ثمّ قال :
- «إن كان هذا الحجاج، فقد أرحتكم منه».
ثمَّ إِنَّ الحجّاج أخرج إليه طهمان في مثل ذلك من العُدَّة والعَدَد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال:
- «إن كان هذا الحجاج فقد أَرحتكم منه».
ثمَّ إِنَّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء وهو في زُهاءِ أَربعة آلافٍ. فقيل له :
- «أيُّها الأمير، لا تُعرفه موضعَك».
فتنكَّرَ وأَخفى مكانَه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجاج :
- «علي بالبغلة!»
فأُتي ببغلِ محجّلٍ، فقيل له :
- «أصلح الله الأمير، إنَّ الأعاجم تتطيَّر أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل. فقال :
- «ادنوه مني، فإنَّ اليوم يوم أغر محجّلٌ. فركبه ودَنا، ثمَّ طُرحت له عباءة فنزل وجلس ودعا بكرسي له، ثم نادى :
- «يا أهل الشام يا أهل السَّمع والطاعة لا يغلبَنَّ باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غُضُّوا الأبصار، واجثُوا على الرُّكَب، واستقبلوا القوم بأطراف الأَسنَّة».
فجثوا على الرُّكب وكأَنَّهم حَرَّةً سوداء. فأقبل إليه، شبيبٌ حَتَّى إِذا دَنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس : كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل.
فقال لسويد :
- «احمل عليهم في خيلك».
فحمل عليهم فثبتوا له حتَّى إذا غشي أطراف الأَسنَّة وثبوا في وجهه ووُجوه أصحابه، فطعنوهم قدماً، حتّى انصرف، وصاح الحجاج:
- «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدم كرسي يا غلام».
وأَمر شبيب المحلل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد. فناداهم الحجاج :
- «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا قدم كُرسي».
ص: 205
ثمَّ إِنَّ شبيباً حمل عليهم في كتيبته، فثبتوا له حتّى إذا غشي أَطراف الأَسنة وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلاً. ثمَّ إِنْ أَهل الشَّام طاعنوهُ قُدماً، حتّى الحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادی :
- «يا سويد احمل في خيلك على هذه السِّكَّةِ - يعني سكة لحام بن حرير - لعلك تُزيل أهلها، فتأتي الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه».
فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السِّكة، فرُمي من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عُروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام رِدْءاً له ولأصحابه، لئلا يُؤتى من ورائه.
ثم إن شبيباً قال لأصحابه :
يا أهل الإسلام، إِنَّما شرينا للهِ، ومَن شَرى لِلَّهِ لم يكن عليه ما أصابه من أذى وأَلم، الصَّبرَ الصَّبرَ، شَدَّةً كَشَدَّاتكم في مواطنكم الكريمة».
ثم جمع أصحابه وقال :
- «الأَرضَ الأَرضَ، دبوا تحتَ تِراسكم حتّى إذا كانت أسنَّتهم فوقها فأدلفوها صُعُداً، ثمَّ ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله».
فأقبلوا يدبون إليهم.
فقال خالد بن عتاب بن ورقاء للحجاج :
- «ائذن لي في قتالهم، فإِنِّي موتور وأَنَا مِمَّن لا يتهم في نصيحة». قال:
- «فقد أذنتُ لك». قال :
- «فإِنِّي آتيهم من ورائهم حتّى أغير على عسكرهم» فقال له :
- «افعل ما بدا لك».
فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريَّتِهِ حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصاداً أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق في عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجاج وشبيباً والتفتوا فرأوا النار في بيوتهم، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا، وأَمَّا شبيب فوثب هو وكلُّ راجل معه على خيولهم. وقال الحجاج لأصحابه :
- «شُدُّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم».
فشدوا عليهم فهزموهم. وتخلف شبيب في حامية الناس حتى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجاج.
ص: 206
قال : فجعل يخفق برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لما انهزم فقلتُ :
- «يا أمير المؤمنين، التفتْ فانظر من خلفَك».
قال : فالتفتَ غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال : فدنَوا منا فقلتُ :
- «يا أمير المؤمنين، قد دَنَوا منك».
قال : فالتفت - والله - غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجاج إلى خيله أن :
- «دَعوه في حرق الله».
قال : فتركوه ورجعوا.
ومضى شبيبٌ ومَن معه حتّى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديراً هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحواً من فرسخين فأَلقى خالد نفسَه بفرسه، فمرَّ به ولواؤه في يده.
قال شبيب :
- «قاتله الله فارساً وفرسَهُ. هذا أَشدُّ النَّاس، وفرسُهُ أقوى فرس في الأَرض». فقيل له :
- «هذا خالد بن عتّاب». فقال :
- «مُعْرَق له في الشجاعة والله لو علمتُ لأقحمت خلفه ولو دخل النار».
وإن الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال:
- «والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها. ولى هارباً، وترك امرأَتَهُ يُكسَّرُ في استها القصب».
ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجاج :
- «احذر بياته، وحيث ما لقيتُه فنازِله، فإن الله قد فل حده وقصم نابَهُ».
- فخرج حبيب في أَثر شبيب حتّى نزل الأنبار.
وبعث الحجاج إلى العمال أن :
- «دُسُّوا إِلى أَصحاب شبيب : أَنَّ من جاءنا منكم فهو آمِنٌ».
فكان كل من ليست له بصيرة ممَّن هَدَّهُ القتالُ يجيء فيؤمَنُ. وقبل ذلك ما كان الحجاج نادى فيهم يوم هربوا أَنَّ :
ص: 207
- «من جاءَ منكم فهو آمِنٌ».
فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه.
وبلغ شبيباً مُنزَل حبيب بن عبد الرَّحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتَّى دَنا من عسكرهم ونزل، فصلى بهم المغرب.
قال أبو زيد السكسكي : أنا والله في أهل الشام ليلةَ جَاءَ شبيب، فبيتنا، قال: فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعاً وعلى كلِّ رُبع أَميرٌ، وقال لكلِّ ربع منا :
- «ليُجزئ كل ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يُعنْهُم هذا الرُّبعُ الآخر. فإنَّه بلغني أَنَّ الخوارج منا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مُبيتون ومقاتلون».
فما زلنا على تعبئتنا حتّى جاءنا شبيب، فبيتنا، فشدَّ على ربع منا، فضاربَهم طويلاً. فما زالت قَدَمُ إِنسان منهم، ثمَّ تركهم وأقبل إلى الرُّبع الآخر، فقاتلهم طويلاً، فلم يظفر بشيء. قال : ثمّ أطاف بنا يحمل علينا حتّى ذهب ثلاثة أرباع اللَّيل، وأَلزَّ بنا حتَّى قُلنا لا يفارقنا ثمَّ نازلنا راجلاً طويلاً، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي والأرجل، وفُقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحواً من ثلاثين وقتلوا منا نحواً من مائة، ووالله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيتُ الرَّجل ما يضرب الرَّجلَ منهم فما يَضُرُّهُ شيئاً من الإعياء والضَّعف. ولقد رأيتُ الرَّجلَ منَّا يُقاتل جالساً ينفح بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء. فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه.
- «اركبوا!».
وتوجّه منصرفاً عنا.
قال فروة بن لقيط - وكان شهد معه مواطنه كلها - قال لنا ليلتَئذٍ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة:
- «ما أَشدَّ هذا الذي بنا، لو كُنَّا إِنَّما نطلب الدُّنيا، وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه».
فقال أصحابه :
- «صدقت يا أمير المؤمنين».
قال : فما أنسى منه إقباله على سُويد بن سليم، ولا مقالته له :
- «يا سويد! قتلتُ أمس منهم رجلين: أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيَّةَ أَمس طليعةً لكم، فلقيتُ منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها
ص: 208
حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه، وخرجتُ معه»، فقال لي :
- «كأَنَّك لم تشتر علَفاً». فقلتُ :
- «إِنَّ لي رفقاء قد كَفوني ذلك».
فقلت له :
- «أين ترى عدوّنا هذا؟» فقال :
- «بلغني أنه نزل قريباً منا، وأيم الله، لوددتُ أنّي قد لقيتُ شبيبهم هذا» قلتُ :
- «فتُحبُّ ذاك؟» قال :
- «نعم». قلتُ :
- «فخُذ حِذْرَك، فأَنَا والله شبيبٌ»
وانتضيتُ سيفي، فخر والله ميتاً. فقلتُ له :
- «ارتفع ويحك!».
وذهبت أنظُر، فإذا هو قد ماتَ. فانصرفت راجعاً، فاستقبل الآخر راجعاً من القرية، فقال:
- «أَينَ تذهب هذه الساعةَ وإنَّما يرجع الناس إلى عسكرهم».
- فلم أكلمه، ومضيتُ يُقرب بي فرسي، واتَّبعني حتّى لحقني، فعطفتُ عليه، وقلت له :
- «ما لَكَ؟» قال :
- «أنتَ والله من عدوّنا». فقلتُ :
- «أَجل والله» فقال :
- «إذاً لا تبرح والله حتَّى أَقتلك أو قتلتني».
وحملتُ عليه فحمل عليَّ،، فاضطربنا بسيفنا ساعةً، فوالله ما فَضَلتُه في شدَّة نفسٍ ولا إقدام، إِلا أَنَّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته.
بلغ شبيباً أنَّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجراً وحلفوا أَلا يفرون من شبيب حتى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط في أَذنابها تِرَسَهُ في ذنب كلِّ فرس تُرسَين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يُقال له : حيَّان، كان بئيساً شجاعاً، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثمَّ
ص: 209
سار حتّى يأتي ناحية من العسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرساً، ثمَّ يُمسوها الحديد حتى يجد حَرَّه ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال:
- «مَن نَجا منكم فإن موعده هذه التلعة».
وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الَّذي أَمرهم به. ثمَّ وغلَتْ في العسكر، ودخل هو يتلوها محكماً، فضرب النّاسَ بعضهم ببعض وماجوا.
فقام حبيب بن عبد الرحمن فنادى :
- «أَيُّها النَّاس إِنَّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يبين لكم الأمرُ».
ففعلوا، وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمودٍ أوهنه. فلما هدأ النَّاسُ ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتَّى أتى التَّلعة، فإذا هو بحيَّان فقال :
- «أفرغ على رأسي من الماء يا حيان».
فلمَّا مدَّ رأسَهُ ليصب عليه من الماءِ، هَمَّ حيَّان بضرب عنقه وقال لنفسه :
- «لا أجد مكرمة لي ولا ذكراً أرفع من قتل هذا في هذه الخلوة، وهو أماني عندالحجاج».
فأخذتْهُ الرّعدة حيث همَّ بما همَّ به. فلمَّا أَبطأَ بحل الإداوة، قال :
- «ما يُبطئُك بحلها».
وتناول السكين من مُوزَجِه، فخرقها به، ثم ناوله إِيَّاها، فأَفرغ عليه من الماء.
قال حيَّان: منعني والله الجُبْنُ وما أخذني من الرّعدة أن أضرب عُنقَه بعد ما هممت به، وما كنتُ أعهد نفسي جباناً.
ثمَّ خلا شبيب بأصحابه وعسكره.
ثمَّ إِنَّ الحجّاج أخرج النَّاس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالاً عظيمة، وأعطى الجرحى خاصَّةً، وكلَّ ذي جَزْء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرَّحمن، فشقّ عليه، وقال :
- «تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلتُ فُرسانه!».
وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان
ص: 210
بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دُجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرّجال، وبعث مُصاصَ بن صيفي على الخيل، وبعث علی میمنته بشر بن حسان الفهري، وعلى ميسرته عُمر بن هبيرة الفزاري، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس : هو في كتيبة، وسُويدٌ في كتيبةٍ، وقَعنبُ في كتيبةٍ، وخلّف المحلل في عسكره. فلما حمل سويدٌ وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته، على ميمنة سفیان وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليا حتى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه.
قال يزيد السكسكي : والله لقد كرَّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرَّةً كلّ ذلك لا نزول من صفنا.
فقال لنا سفيان :
- «لا تفرقوا، ولكن ليزحف الرِّجالُ إِليهم زحفاً».
ففعلنا وما زلنا نُطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساءِ أَشدَّ قتال يكون لقوم قط. فما هو إلا أَنْ نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئاً ما رأينا مثلَه قطُّ، ولا ظَنَنَّاهُ يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمَنْ ظفرهم، دعا الرُّماةَ فقال :
- «ارشقوهم بالنبل».
وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أَميرٌ. فلما رشقوهم شدوا عليهم. فلما شدوا على رُماتنا شَدَدْنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثمَّ كرُوا على أصحاب النَّبل كرَّةً صَرعوا منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم عطف علينا يطاعننا حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا.
فقال سليمان بن الأبرد لأصحابه :
- «أَيُّها النَّاس، دعوهم، لا تتبعوهم حتَّى نُصبّحهم».
قال : فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أَن ينصرفوا عنا.
قال فروة بن لقيط : فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال:
- «اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أَصبحوا باكرناهم إن شاء الله».
فعبرنا أمامه وتخلف في آخرنا، فأقبل على فرس وكانت بين يديه فرس أُنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانه، وزل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة، فسقط في الماء. فلما سقط قال :
ص: 211
- «ليقضِيَ اللَّهُ أَمراً كان مَفعُولاً».
واغتمس في الماء. ثمَّ ارتفع فقال :
- «ذلك تَقديرُ العَزيزِ العَليم».
فهذا حديث أكثر النّاس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنَّه كان معه رجال كثيرٌ ممَّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلف في أُخريات النَّاس من أصحابه، قال بعضهم لبعض :
- «هل لكم أن نقطع به الجسر فنُدرك ثأرنا الساعةَ؟».
فقطعوا الجسر، فمالت به السُّفُنُ، ففزع الفرس ونفر ووقع في الماء فغرق. والحديث الأَوَّل أَشهر.
فتحدَّث جماعةٌ من أَصحاب سفيان قالوا لما سمعنا صوت القوم: «غرق أمير المؤمنين»، عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافرٌ ولا آثر، فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيراً. فطلبنا شبيباً حتّى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت النَّاس يزعمون أنَّه شُقَّ عن بطنه وأخرج قلبُهُ. فكان مجتمعاً صلباً كأَنه صخرة وأنه كان يُضرب به الأَرضُ فيثب قامة الإنسان.
فيُحكى أَنْ أُمَّ شبيب كانت لا تصدق أحداً نعاه إليها. وكان قيل مراراً: «قُتِلَ» فلا تقبل. فلما قيل : إِنَّه غرق، قبلتْ وبَكتْ. فقيل لها في ذلك، فقالت :
- «إني رأيتُ في المنام حين ولدته أنه خرج من قُبُلي شهاب نارِ، فعلمتُ أَنَّه لا يطفتُه إلا الماء».
كان المهلب مقيماً بسابور يقاتل قطرياً في الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحواً من سنةٍ. ثمَّ إِنَّه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالاً شديداً، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارِسُ في يد المهلب. وكان لا يأتيه من فارس مادَّةٌ، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلب حتّى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلب حتَّى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالاً شديداً حتى حازهم عن فارس كلها. فلمَّا صارت فارس كلها في يد المهلب، بعث الحجّاج عليها عُمَّالَهُ وأَخذها من المهلب.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجاج :
- «أَمَّا بعد، فدع بيد المهلب خراج فارس وحيالها، فإِنَّه لا بُدَّ للجيش من قُوَّةٍ، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودَعْ له كورةَ فَسَّا وداربجرد، وكورة إصطخر».
ص: 212
فتركها للمهلب : فبعث المهلب عليهما عُمَّاله وكانتا قُوَّةً له، وأقام المهلب على قتال الأزارقة.
فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطري عاملاً له على ناحية كرمان يقال له المُقَعطر، فقتل رجلاً كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج إلى قطري فذكروا ذلك له وقالوا له :
- «أمكِنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا». فقال لهم :
- «ما أرى أن أفعل. رجلٌ تأوّل فأخطأ في التَّأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوي الفضل والسابقة فيكم». قالوا :
- «بلی» فقال لهم :
- «لا!».
فوقع الاختلاف بينهم. فولوا عبد ربّ الكبير وخلعوا قطريا، وبقي مع القطري عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى المهلب :
- «أَمَّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أَشدَّ. والسلام».
فكتب إليه :
- «أَمَّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكل ما فيه قد فهمتُ، ولستُ أرى أن أقاتلهم ما دام بعضُهم يقتل بعضاً، وينقص بعضُهم عددَ بعض، فإن تمُّوا على ذلك فهو الَّذي نُريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً، فأناهضهم على بقيَّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكةً إن شاء الله».
فكفَّ عنه الحجاج وتركهم المهلب، فقاتلوه قتالاً شديداً. ثمَّ إِنَّه فلهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلا قليل وسباهم. لأنَّهم كانوا يسبون المسلمين.
كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتتهم بالاختلاف، ولما وهى أمر قطري توجه مريداً طبرستان وبلغ أمره الحجاج، فوجه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأَقبل سفيان حتَّى أتى الرّي، ثمَّ اتَّبعهم. وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن :
ص: 213
- «اسمع وأطع السفيان».
فأقبل إلى سفيان، وسار معه في طلب قطري حتّى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته في أَسفل الشّعب، فتدهدأَ حتّى خر إلى أسفله، وأَتاهُ عِلج من أهل البلد، فقال له قطري :
- «اسقني ماءاً».
وقد اشتدَّ عطشه. فقال العِلج له :
- «أعطني شيئاً حتّى أسقيك». فقال :
- «ويحك! ما معي والله إلا ما ترى من سلاحي، وأَنَا مُؤتِيكَهُ إِذا أَتيتني بماء» قال :
- «لا، بل أعطنيه الآن» قال:
- «لا، ولكن ائتني بماء قبل».
فانطلق العلج حتّى أشرف على قطري، ثمَّ حدّر عليه حجراً عظيماً من فوقه، دَهدَأَه عليه، فأصاب إحدى وَرِكيه فأوهنه، وصاح بالنَّاس، فأقبلوا نحوه، والعِلج حينئذٍ لا يعرف قطريا، غير أنه يظنُّ أَنَّه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفرّ من أهل الكوفة، فقتلوه، وادَّعى قتله جماعةُ.
حقد حقدَهُ عتَّابُ اللقوة، وكان في صحبة بكير. وكُنَّا ذكرنا أَمرَ بُكيرٍ مع أُميَّة، وأَنَّ أُميَّة لما ولي خراسان سامح بكيراً، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملاً، ولكنَّه ولَّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شُرطته فأباها. فتجهز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة. ثمَّ وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميَّة :
- «إِنَّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه».
فراسله أمية :
- «أَقِمْ، لعلِّي أغزو، فتكون معي».
فغضب بكير وقال :
- «كأَنَّه يُريد أن يضارني»
ص: 214
وكان عتاب اللقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلمَّا أَقام بكير أخذهُ غرماؤه فحُبس حتَّى أَدَّى عنه بكير.
ثمَّ إِنَّ أُميَّة أَجمع بعد مدَّةٍ على الغزو ليغزو بخارى، ثمَّ يأتي موسى بن خازم بالترمذ. فتجهز النَّاس معه واستخلف ابنه زياداً على خراسان وسار معه بكيرٌ.
فقال له بحير :
- «إِنِّي لا آمَنُ أَن أَستخلف أحداً، أن يتخلَّفَ عنِّي النَّاس، فقُل لبكير، فليكن في الساقة وليحشر الناس».
فأمره به، فكان على الساقة، حتّى أتى النّهر.
وقال أميَّةُ لبكير :
فقال عتاب اللقوة :
- «اقطع يا بكير».
فقال عتاب اللقوة :
- «أصلح الله الأمير، أعبر أنت، ثمَّ يعبر النَّاس بعدك».
فعبر، ثمَّ عبر النَّاس. فقال أُميّة لبكير :
- «قد خفتُ أَلا يضبط ابني عمله وهو غلامٌ حدثٌ. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولَّيْتُكَها، فزين ابني وقم بأمره».
فانتخب بكير فرساناً من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أُمِّيَّةُ إِلى بخارى. فقال عتّاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أُمية.
- «إِنَّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتّى ضبطنا خراسان ثم طلبنا أميراً من قريش يجمع أمرنا، فجاءَ يلعب بنا، يُحوِّلنا من سجن إلى سجن. قال :
- «فما ترى؟» قال :
- «أحرق هذه السفن وامض إلى مرو، فاخلع أُمية وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما».
فقال بكير :
- «إِنِّي أَخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي». فقال:
- «أَيُخافُ عَدَمُ الرِّجال ؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئتَ، إن هلك هؤلاء الذين معك». قال :
- «يهلك المسلمون». قال :
ص: 215
- «إنما يكفيك مُنادٍ ينادي: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفاً من المسلمين أسمعُ من هؤلاء وأطوعُ منهم». قال :
- «فيهلك أُمية ومن معه». قال :
- «ولم يهلك والناس معه لهم عُدَّةٌ وعَددٌ ونجدة وسلاح كامل ليُقاتلوا عن أنفسهم حتّى يبلغوا الصين».
فلم يزل عتّابٌ بهذا وأشباهه حتَّى حَرقَ بُكيرُ السُّفنَ ورجع إلى مرو، فأخذ ابنَ أُميَّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميَّة، فأجابوه. وبلغ أُميَّة فصالحَ أَهلَ بخارى على شيءٍ يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم :
- «ألا تعجبون من بكير؟ إِنِّي قدمتُ خراسان، فحُذِّرتُه، ورُفع عليه وشكي منه، وذكروا أموالاً أصابها، فأعرضتُ عن ذلك كله ولم أُفتشهُ عَن شيءٍ، ولا أَحداً من عماله، ثمَّ عرضتُ عليه شُرطتي، فأبى، فأعفيتُه، ثمّ ولّيتُهُ، فحذرتُه، وأَمرتُه بالمُقام، وما كان ذلك إلا نظراً له، ثم رددته إلى مرو، وولَّيتُه الأمر، فكفَرَ ذلك، وكافاني بما تَرونَ».
فقال له قوم :
- «تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة».
ثمَّ إِنَّ أُميَّة لما تهيأت له السُّفنُ عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم. فقال شمّاس بن دِثار، وكان غزا مع أميَّة :
- «أَيُّها الأمير، قدمني فإنِّي أَكفيكهُ إِن شاءَ اللَّه».
فقدمه أُمية في ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال :
- «أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك؟»
ولامه. فأرسل إليه شمّاس:
- «أنت ألأم وأسوأ صنيعاً مني، لم تف لأميَّة ولم تشكر صنيعه بك».
قال : فبيَّته بكير، ففرّق جمعه وقال :
- «لا تقتلوا منهم أحداً وخذوا سلاحهم».
فكانوا إذا أخذوا رجلاً سلبوه وخلوا عنه. فتفرقوا. وقدَّم أُميَّة كُشماهَن ورجع إليه شماس بن دثارٍ. ثمَّ أَقبل أُميَّة في الناس، فقاتله بكيرُ مدَّةً، ثُمَّ انحاز بكيرُ يوماً، فدخل الحائط، فنزل السُّوق. ونزل أميَّة باشان، وكانوا يلتقون في ميدان يزيد. فانكشفوا يوماً، فحماهم بكير، ثمَّ التقوا يوماً آخر في الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله،
ص: 216
فجعل يسحبها وهُرَيم يحميه. فقال الرَّجلُ :
- «اللهم أَيدنا بالملائكة».
فقال لهِ هُريمٌ : - «أَيُّها الرَّجل، قاتل عن نفسك، فإِنّ الملائكة في شُغل عنك». فتحامل، ثم أعاد قوله مراراً :
- «اللهم أَيدنا بالملائكة». فقال له هريم:
- «لتكفّنَّ عنِّي، أو لأدعنك والملائكة».
فسكت، وحماه حتى ألحقه بالنَّاس. فكانوا كذلك مدَّة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، في ثياب مصبَّغة، وملاحفَ وأَزُرٍ صُفرٍ وحُمْرٍ، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدَّثون ويُنادي مُنادٍ :
- «من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده».
فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف إن طال الحصار، أن يخذله النَّاس. فطلب الصلح، وأَحبَّ ذلك أصحاب أُميَّةَ ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يُحِبُّ العافية، فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أَصحابه ويوليه أيَّكورة خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمِنْ أَربعين يوماً حتّى يخرج من مرو.
وقال : وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أُميَّة كتاباً، ودخل أُمية المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللقوة فقال :
- «أنت صاحب المشورة؟» قال :
- «نعم، أصلح الله الأمير». قال :
- «ولم؟» قال :
- «خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديتُ على غُرمائي». قال :
- «ويحك! فضرَّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفتَ اللَّهَ». قال :
- «قد كان ذاك وأستغفر الله». قال :
- «كم كان دينك؟» قال :
- «عشرون ألفاً». قال :
- «تكف عني وعن المسلمين غِشَّك وأقضي دينك». قال :
- «نعم، جعلني الله فداءَك».
ص: 217
فضحك أمية وقال :
- «ظني بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي».
فَأَدَّى عنه عشرين ألفاً.
وكان أُميّة سهلاً ليناً سخيا لم يُعطِ أَحدٌ بخراسان ما أَعطاه، وكان مع ذلك ثقيلاً على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول :
- «ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي!».
وعزل أُمية بحيراً عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بَحيراً طلب مرضاته.
وأخذ أُميَّة النَّاس بالخراج واشتد عليهم فيه. فجلس يوماً بكير في المسجد وعنده ناسٌ من بني تميم فذكر شدَّة أميَّة على النَّاس، فذمُّوهُ وقالوا :
- «سلط علينا الدهاقين في الجباية».
وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة في ناحية من المسجد. فنقل بحير ذلك إلى أُمِّيَّة فكذَّبه، فادَّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر. فدعا أُميَّةُ مزاحماً، فسأله، فقال:
- «إنما كان يمزح».
فأَعرض عنه ثمَّ إِنَّ بحيراً أَتَاهُ، فقال :
- «أصلحك الله، إنَّ بكيراً دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلتُ هذا القُرشي وأكلتُ خراسان».
فقال أُميَّةُ :
- «ما أُصدق بهذا وقد فعل وفعلتُ ما فعلتُ».
فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أَنَّ بكيراً قال لهما : لو أطعتماني قتلتُ هذا القرشي المخنث، ودعانا إلى الفتك بك».
فقال أُميَّةُ :
- «أنتم أعلم وما شهدتم، وما أَظنُّ هذا به، وإِنَّ تَرْكَهُ - وقد شهدتم بما شهدتم به - عجز. فقال له :
- «إِنَّ عتّاباً يحمله على ذلك».
ص: 218
فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذٍ عطاء بن أبي السَّائب.
- «إذا دخل بكيرُ وبَدَلٌ وشمردل ابنا أخيه فنهضتُ فخذوهم».
وجلس أُميّة للنّاس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أُمية عن سريره، فدخل وخرج النَّاس، فلما همَّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميَّة ببكير وقال :
- «أنت القائل كذا وكذا؟» فقال :
- «تثبت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة».
فحبسه وأخذ جاريته وكانت تُسمّى : العارمة، فحبسها معه وحبس الأحنف بن عبدالله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيراً، فشهد بحيرٌ وضِرار وعبد العزيز أنَّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال :
- «أصلحك الله، فإِنَّ هؤلاء أَعدائي».
فقال أُميَّةُ لبحير:
- «أتقتله ؟» قال :
- «نعم».
فقام إليه ونهض أُمِّيَّة. فقال بكيرٌ :
- «يا بحير، إِنَّك تفرِّق أمر بني سعدٍ إن قتلتني، فدَعْ هذا القرشيّ يلي منّي ما يُريد».
فقال بحير
- «لا والله يا بن الإصبهانية! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين». فقال :
- «فشأنك يا بن المحلوقة».
وقتل أُميّة ابن أخي بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير.
ثم وجه أُميَّةً رجلاً من خزاعة إلى موسى بن عبدالله بن خازم فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرَّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أُمية.
وعزل عبد الملك بن مروان أُمية عن خراسان وولاها المهلب من قبل الحجاج، وسنذكر سببه
وأخذ الأبناء تحضُّ على قتل بحير في الشعر وفي غير الشعر، فتعاقد جماعةٌ منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان. فنظر إلى بحيرواقفاً، فشدَّ عليه فطعنه فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى النَّاسُ :
ص: 219
- «خارجي».
فراكضهم، فعثر فرسُه وندر عنه فقُتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرَّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية وقد باع غنيمات له واشترى حماراً، ومضى إلى سجستان فحاور قرابةً لبحير هناك ولاطفه وقال :
- «أنا رجلٌ من بني حنيفة من أهل اليمامة».
فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به.
ثمَّ إنه قال لهم :
- «إنَّ لي بخراسان ميراثاً قد غُلبتُ عليه، وبلغني أنَّ بحيراً هو عظيم القدر بخراسان فاكتبوا لي إليه كتاباً يُعينني على طلب حقي».
فكتبوا إليه وخرج حتَّى قدم مرو والمهلب غاز. فلقى قوماً من بني عوف، فأفشى إليهم سِرَّه، فأقبل إليه مولى لبكير، فقبل رأسه، وكان صيقلاً، فقال له صعصعة :
- «اتخذ لي خنجراً».
ففعل، وأحماه وغمسه في لبن أتان مراراً، ثمَّ شخص من مرو وقطع النهر حتّى أتى عسكر المهلب. فلقي بحيراً بالكتاب، وقال له :
- «إني رجل من بني حنيفة، كنتُ من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه وأرجع إلى اليمامة».
فأمر له بنفقة وأنزله معه. وقال له :
- «استعن بي على ما أحببت». قال :
- «أُقيم عندك حتّى يقفل النَّاسُ».
فأقام شهراً أو نحواً من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسَهُ حتَّى عُرف به. وكان بحير مع تحرُّزه وخوفه الفتك قد أنس بصعصعة هذا لأجل الكتاب الذي صحبه من عند أصحابه، وظنه رجلاً من بكر بن وائل، فأمنه فجاء يوماً وبحير جالس في مجلس المهلب عليه قميص ورداء في نعلين. فقعد خلفَه، ثمَّ دَنا منه فأَكبَّ عليه كأَنَّه يُكلِّمه. فوجأَهُ بخنجره في خاصرته فغيَّبه في جوفه وخَضْخَضَهُ. فقال النَّاس :
- «خارجي»!
وقال صعصعة :
- «يا لثارات بكير! أنا ثائر ببكير».
ص: 220
فأخذه صاحب شرطة المهلب في الطريق، فأتي به المهلب، فقال المهلب :
- «بؤساً لك. ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس». فقال:
- «والله قد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدتُ ريح بطنه في يدي».
فحبسه. ودخل عليه السجن قومٌ من الأبناء فقبلوا رأسَهُ. ومات بحيرٌ من غدٍ، فقيل لصعصعة :
- «مات بحير». فقال :
- «اصنعوا ما بدا لكم الآن أليس قد حلت نذور نساء بني عوفٍ وأدركتُ ثأري؟ أما والله لقد أمكنني منه خالياً غير مرَّة، فكرهتُ أن أقتله سرّاً».
فقال المهلب :
- «ما رأيتُ رجلاً أسخى نفساً بالموت صبراً من هذا».
وقَتَلَهُ.
وقال المهلب :
- «إنا لله وإنا إليه راجعون. غزوةٌ أُصيب فيها بحير فغضبت عوف بن كعب والأبناء».
وقال :
- «علامَ قتل صاحبنا؟ وإنَّما طلب بثأره».
فنازعتهم مُقاعس والبطون حتّى خاف النَّاسُ أن يعظم البأس، إلى أن تلطَّف أهل الحجي والرأي وقالوا :
- «احملوا دم صعصعة واجعلوا دمَ بحير بواءاً ببكير».
فودُّوا صعصعة.
ولما فرغ الحجاج من شبيب قدم عليه المهلب وقد فرغ من الأزارقة. فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاء من أصحاب المهلب، فحباهم ووصلهم. وكاتب عبد الملك بن مروان بالفتح، وكتب عبد الملك إلى الحجاج بولاية خراسان وسجستان مع العراق وعزل أميَّةَ عن خراسان، فبعث الحجّاجُ المهلب إلى خراسان من قبله، وبعث عُبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثماني وسبعين، فمكث ابن بكرة بقية سنته، ثمَّ غزا رُتبيل، وقد كان مصالحاً، وكانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجاً، وربما
ص: 221
امتنع. فبعث الحجّاج إلى عُبيد الله بن أبي بكرة أن ناجِزْهُ بمن معك من المسلمين من أهل الكوفة والبصرة، وكان على أهل الكوفة شُريح بن هانئ وكان من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان عُبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة.
فمضى عُبيد الله حتّى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من الأموال والغنم ما شاء، و هدم قلاعاً وحصوناً، وغلب على أرض من أرضيهم كثيرة. وأصحاب رتبيل من الترك فلما أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم وصاروا منها على ثمانية عشر فرسخاً أخذوا على المسلمين بالعقاب والشّعاب فسقط في أيدي المسلمين، وظنُّوا أن قد هلكوا.
فراسل ابن أبي بكرة رُتبيلَ على أن يصالحه على سبعمائة ألف. فلقيه شريح فقال له :
- «إنَّك لا تصالح على شيءٍ إلا حبسه السلطان عنكم واحتسبه في أعطياتكم» فقال الناس :
- «لو منعنا العطاء ما حيينا، كان أهون علينا من هلاكنا».
فقال له شريح:
- «والله لقد بلغتُ سِنا وقد هلكت لداتي، وما يأتي عليَّ ساعة فأظنُّها تمضي حتّى أموتَ، ولئن فاتتني الشَّهادة وأنا أطلبها منذ زمان ما أخالني أدركها. يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم».
فقال له ابن أبي بكرة.
- «إنَّك شيخ وقد خرفت»
فقال له شريح:
- «إنَّما حَسبُك أن يُقال : بُستان أبي بكرة، وحمَّام أبي بكرة. يا أهل الإسلام من أراد الشَّهادةَ فإليَّ».
فاتَّبعه ناسٌ من المتطوعين كثيرٌ وفرسان البأس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتّى أصيبوا. وقتل شريح ونجا ابن بكرة في من نجا من المسلمين.
وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وتأخر وبلغ منه كل مبلغ، فكتب إلى عبد الملك :
- «أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذين كانوا بسجستان أُصيبوا، فلم ينج إلا القليل منهم، وقد اجترأ العدو على الإسلام، وأردتُ أن أوجه إليهم جُنداً كثيفاً من أهل المصرين، وأحببتُ أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى ذلك أمضيتُهُ، وإن لم يُرد ذلك فأمير المؤمنين أعلى بجُنده عيناً، مع أني أتخوّف أنَّه إن لم يأتِ رتبيل ومن معه جند كثيف عاجلاً، أن يستولوا على ذلك الفرج كله».
ص: 222
فكتب إليه عبد الملك :
- «أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه مُصابَ المسلمين بسجستان، وأُولئك قومٌ كُتب عليهم القتل، فبَرزُوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما رأيي في توجيه الجنود، فإني أرى إمضاء عزمك، فرأيك راشداً موفقاً».
فأخذ الحجاج في جهاز عشرين ألفاً من أهل البصرة وعشرين ألفاً من أهل الكوفة، وجدَّ في ذلك وشمَّر وأعطى النَّاس أعطياتهم، وأخذهم بالخيول الروابع والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، فلا يرى رجلاً تذكر فيه شجاعة إلا أحسنَ معونته. ولما استتم له الأمر بعث عليهم عبد الرَّحمن بن محمد بن الأشعث، فقدم ابن الأشعث سجستان بمن معه في سنة ثمانين، وكان عبيد الله بن أبي بكرة قد مات قبل قدوم عبد الرَّحمن.
ويُقال : إنَّ الحجّاج أنفق على ذلك العسكر سوى الأعطيات والأرزاق، ألفي ألف 2,000,000 درهم. وكان يُدعى ذلك الجيش جيش الطواويس، لحسن هيئاتهم.
فندب عبد الرَّحمن النَّاس وعسكر بهم في ظاهر سجستان، ونادى مناديه :
- «أي رجل تخلف فقد أحلَّ بنفسه العقوبة».
فخرج النَّاسُ كلهم إلى معسكرهم ووضعت لهم الأسواق وأخذوا في الجهاد والتهيؤ للحرب.
فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرَّحمن يعتذر إليه مُصابَ المسلمين ويُخبره أنَّه كان لذلك كارهاً وأنّهم ألجؤوه إلى قتالهم ويسأله الصَّفحَ ويعرض عليه الخراج، فلم يُجبه ولم يقبل منه. وسار عبد الرَّحمن في الجنود حتى دخل أوّل بلاده، وأخذ رُتبيل يضم إليه جُندَه ويدعُ له الأرضَ رُستاقاً رُستاقاً وحصناً حِصناً. وكان ابن الأشعث كلّما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وبعث معه أعواناً ووضع البُرُدَ بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوف حتّى إذا حاز من أرضه شيئاً عظيماً وملأ يَدهُ من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رُتبيل، وقال:
نكتفي بما أصبنا العام من بلادهم حتى نجيئها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثمَّ نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثمَّ لا نزال ننتقضهم حتى نقاتلهم آخر ذاك على كنوزهم وذراريهم ومُمتنع حصونهم، ثمَّ لا تُزايل بلادهم حتى يهلكهم الله».
ثمَّ كتب إلى الحجّاج بما فتح من بلاد العدو وبما صنع للمسلمين وبهذا الرَّأي الذي رآه لهم.
ص: 223
وكتب الحجاج جواب كتابه :
- أما بعد فإنَّ كتابك أتاني وفهمته وهو كتاب امرئ يحبُّ الهُدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوا ذليلاً أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغَناؤهم عظيماً، ولَعَمرُك يا بن أُم عبد الرَّحمن، إنَّك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي، لَسَخي النَّفس عمَّن أُصيب من المسلمين، وإني لم أعذر رأيك الذي زعمتَ أنَّك رأيته رأي مكيدة، ولكني رأيتُك أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك والتياث رأيك. فامض لما أمرتُك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم، وقتل مقاتليهم، وسبي ذراريِّهم».
ثمَّ أردفَه كتاباً آخر قال فيه :
- «أما بعد، فأمُرْ مَن قِبلك من المسلمين فليحرثوا وليُقيموا، فإنَّها دارُهم، حتّى يفتح الله عليهم».
ثم أردفه كتاباً آخر فيه :
- «أما بعد، فامض لما أمرتك من الوغول في أرضهم، وإلا فإنَّ إسحاق بن محمد أمير الناس، فخله وما وليتُه». - يعني أخاه.
فلما قرأ كتابه، قال :
- «أنا أحمل ثَقَلَ إسحاق».
ثمَّ دعا الناس وجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال :
- «أيُّها النَّاس، قد عرفتُم نصحي لكم ومحبتي لصلاحكم ولكلِّ ما يعود عليكم نفعه. وقد كان من رأيي لكم في ما بينكم وبين عدوّكم، رأي استشرتُ فيه ذوي أحلامكم وأُولي التَّجربة في الحرب منكم، فرضوه لكم رأياً، ورأوه لكم في العاجل والأجل صلاحاً، فكتبتُ بذلك إلى أميركم الحجّاج وهذا جوابه، يُعجزني ويُضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنَّما أنا رجلٌ منكم، أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم».
فثار إليه النَّاس من كل جانب.
- «لا بل نأبى على عدو الله ولا نستمع له ولا نطيع».
وتكلم وجوه النَّاس، فكان أولهم واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه :
ص: 224
- «إنَّ الحجاج ما يرى لكم إلا ما يقول القائل الأوّل إذ قال لأخيه : احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنَّ الحجّاج والله ما يُبالي أن يُخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللُّصوب، فإن ظفرتم وغنمتم، أَكل البلاد وحاز الأموال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم الأعداءَ البُغضاء الذين لا يبالي عتبهم، ولا يُبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أوَّل خالع له».
فنادى الناس من كل جانب :
- «فَعلْنا فعَلْنا وخلعنا عدو الله».
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي ثانياً، وكان على شرطته، فقال:
- «عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون، فإنَّه بلغني أنَّه أَوَّل من جمر البعوث ولم تعاينوا والله الأحبة في ما أرى، أو يموت أكثركم. فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدو الله فانفُوهُ عن بلادكم».
فوثب النَّاس إلى عبد الرحمن ليبايعوه فقال :
- «أتبايعونني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي والجهاد معي حتى ننفيه من العراق»؟
فبايعه الناس على ذلك ولم يذكر عبد الملك إذ ذاك بشيء. ثمَّ استخلف على بُست عياض بن همدان وعلى زَرَنج عبد الله بن عامر التميمي. وبعث إلى رتبيل، فصالحه على أنَّ ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراده، أَلجأه عنده وآواه.
وخرج عبد الرَّحمن نحو العراق وبعث على مقدَّمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاح إليه الخيل، فجعل لا يلقي خيلاً إلاً هزمها، حتى دخل فارس واجتمع النَّاس بعضهم إلى بعض وقالوا :
- «إِنَّا إِذا خلعنا الحجاج فقد خلعنا عبد الملك».
فاجتمعوا إلى عبد الرَّحمن، وكان أَوَّلُ مَن خلع عبد الملك تيحان بن أبجر قام فقال :
- «أيُّها النَّاس إنِّي قد خلعتُ أبا دِبَّان كخلعي قميصي».
فخلعه النَّاس ووثبوا إلى عبد الرَّحمن فبايعوه وكانت بيعته :
ص: 225
- «تبايعوني على كتاب الله وسنّة نبيه وخلع أئمة الضَّلالة، وجهاد المحلين».
فإذا قالوا نعم بايع.
فلما بلغ الحجّاج ذلك، كتب إلى عبد الملك يُخبره، ويسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. وجاءَ حتّى نزل البصرة، وكان المهلب بخراسان حين بلغه شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه :
- «أما بعد، فإنَّك يا بن محمد قد وضعت رجلك في غرز طويل الغيّ. الله الله، في نفسك لا تهلكها، وفي دماء المسلمين فلا تسفكها والجماعة فلا تفرّقها، والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت إني أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس والسلام».
وكتب المهلب إلى الحجاج :
- «أَمَّا بعد فإنَّ أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السَّيل المنحدر من عَل ليس يرده شيء حتّى ينتهي إلى قراره إنَّ لأهل العراق شِرَّةً في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم. فليس شيء يردُّهم حتى يسقطوا إلى أهليهم ويشموا أولادهم، فافرج لهم، ثمَّ واقعهم فإنَّ الله ناصرك عليهم إن شاء الله».
فلما قرأ كتابه قال :
- «فعل الله به وصنع، لا والله، ما لي نظر، ولكنَّ ابنَ عمّه نَصحَ».
وتجهَّز الحجّاج للقاء عبد الرَّحمن، وترك رأي المهلب. وكان فرسان أهل الشَّام يسقطون إلى الحجاج مائة مائة وخمسين خمسين وعشرةً عشرةً، وأقل على البُرُدِ من قِبل عبد الملك وهو في كل يوم يساقط إلى عبد الملك كتبه ورسُلَهُ يُخبر أنَّ ابن الأشعث أيَّ كورة نزل، ومن أي كورة رحلَ، وأيُّ النَّاس إليه أسرع وكان بكرمان أربعة آلاف من فرسان أهل البصرة وأهل الكوفة فلمَّا مرَّ بهم عبد الرَّحمن انجفلوا معه.
وسار الحجاج بأهل الشَّام حتَّى نزل قريباً من تُستَر، وقدم بين يديه مطهر بن حيَيّ. وكان لعبد الرَّحمٰن مسلحة عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلاثمائة فارس. فلما انتهى إليهم مطهر أقدم عليه فهزمته مسلحة عبدِ الرَّحمن، وأتت الحجاجَ الهزيمةُ وهو يخطب. صعد إليه رجل فأخبره بهزيمة النَّاس، فقال :
- «أيُّها النَّاس، ارتحلوا إلى البصرة، إلى معسكر ومعقل وطعام ومادَّةٍ، فإنَّ هذا المكان الذي نحن فيه لا يحتمل الجند».
ثم انصرف راجعاً وتبعه خيول أهل العراق فكلُّ من أدركوه قتلوه وكلَّ ما أصابوا
ص: 226
من ثَقَلِ حَوَوهُ. ومضى الحجّاج لا يلوي على شيء حتّى نزل الراوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلاء، فأخذه وحمله إليه، وخلَّى البصرة لأهل العراق، وكان عامله عليها الحكم بن أيوب بن الحكم بن عقيل الثَّقفي. وجاءَ أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وكان الحجّاج حين صُدم تلك الصدمة وأقبل راجعاً، دعا بكتاب المهلب وقرأه وقال :
- «لله أبوه، أي صاحب حرب هو! لقد أشار علينا بالرأي وكلنا لم نقبل».
وكان مع الحجاج يوم انهزم من المال مائة وخمسون وخمسون ألف ألف 150,000,000ففرَّقها في قُوَّاده، وضمَّنَّهم إيَّاها. ولما بلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج أراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر فرشاه الحكم بن أيوب مائة ألف درهم، فكفَّ عنه.ودخل الحجاج البصرة فأرسل إلى ابن عامر، فانتزع المائة الألف منه.
ولمَّا دخل البصرة عبد الرَّحمن بن محمد بن الأشعث بايعه أهلها، كلُّهم قُرَّاؤُها وكهولها، على خلع الحجاج، وخلعَ عبد الملك جمیع أهلها من القُرَّاء والشيوخ. وخندق الحجّاج عليه وخندق عبد الرَّحمن على البصرة واقتتلوا في المحرم سنة اثنتين وثمانين. فكانت خيل العراق تهزم أبداً خيل الشَّام حتّى إذا كان في آخر المحرَّم هزم أهلُ العراق على عادتهم أهلَ الشَّام فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوضت صفوفهم. فلما رأى ذلك الحجّاج جثا على ركبتيه وانتضى نحواً من شبر من سيفه وقال :
- «لله در مصعب، ما كان أكرمه حين نُزل به».
قال : فعلمنا أنَّه لا يفر.
قال أبو الزبير الهَمْداني: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فأضربَ الحجاج بسيفي. فغمزني غمزةً شديدة، فسكت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلتُ :
- «أبشر أيها الأمير فإنّ الله قد هزم العدو». فقال لي :
- «قم فانظر».
قال : فقمتُ فنظرتُ فقلت له :
- «قد هزمهم الله». فقال :
- «قم یا زیاد فانظُرْ».
فقام فنظر فقال :
- «الحقُّ - أصلحك الله - يقيناً، قد هزموا».
ص: 227
فخر ساجداً.
قال : فلما رجعت شتمني أبي وقال :
- «أردت أن تُهلكني وأهل بيتي».
قال: فانهزم النَّاس، وأقبل عبد الرَّحمن إلى الكوفة، وتبعه أهل القُوَّة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
ولمَّا مضى عبد الرَّحمن إلى الكوفة وثبت أهل البصرة إلى عبد الرَّحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه فقاتل بهم خمس ليال أشدَّ قتال رَآهُ النَّاس. ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وقُتل الحَريش بن هلال وجماعة من الأشراف والوجوه.
قال أبو الزبير : كنت قد أصابتني جراحة وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه عند قنطرة زبارا. فقال لي :
- «إن رأيتَ أن تعدل عن الطريق فلا يرى النَّاس جراحتك فإني لا أحبُّ أن يستقبلهم الجرحى».
ففعلتُ، ودخلت النَّاس، فلما دخل الكوفة مال إليه النَّاس كلهم ودخلوا إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة وتقوَّضت إليه المسالح والثغور، وجاءَهُ في من جاءَهُ من أهل البصرة عبد الرَّحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب. وكُنَّا ذكرنا أنه قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فقال :
- «قاتل الله عُدَيَّ الرَّحمن، قد فرَّ وقاتل غلامٌ من غلمان قريش بعده ثلاثاً».
وأقبل الحجاج من البصرة، فسار في البرِّ حتى مرَّ بالقادسية والعذيب، وبعث إليه عبد الرَّحمٰن بن الأشعث عبد الرَّحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصرة، فمنعوه من نزول القادسية. ثم سايره حتَّى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايرا حتّى نزل الحجّاج دير قُرَّة، ونزل عبد الرَّحمن دير الجماجم. ثمَّ جاءَ ابن الأشعث فنزل دير الجماجم. فكان الحجاج بعد ذلك يقول :
- «ما كان عبد الرَّحمن يزجر الطَّير، حيث رآني نزلتُ دير قُرَّة ونزل دير الجماجم».
واجتمع القُرَّاءُ من أهل المصرين وأهل الثغور والمسالح وجماعة أهل الكوفة والبصرة على حرب الحجّاج والذي جمعهم على حربه بُغضهم له وإجماعهم على عدوانه وظلمه، وهم إذ ذلك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم مواليهم.
ص: 228
وجاءَت الحجاج أمداده من قبل عبد الملك. فكان الحجاج مخندقاً في عسكره والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يُدني خندقه نحو صاحبه، فإذا رَآهُ الآخر أدنى خندقه أيضًاً من صاحبه واشتد القتال.
لما بلغ أهلَ الشَّام ورؤوس قريش قِبَلَ عبد الملك مخالفة أهل العراق الحجاج اجتمعوا إليه، وقالوا :
- «إن كان إنّما يُرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فإنَّ نزع الحجّاج أهون من حرب أهل العراق فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم وتحقن به دماءنا ودماءهم».
فبعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك وأخاهُ محمد بن مروان في خيل إلى أرض العراق وأمرهما أن يعرضا على أهلها نَزْعَ الحجّاج عنهم وأن يُجري عليهم أعطياتهم كما يُجري على أهل الشام وأن ينزل ابن محمد بن الأشعث أي بلدٍ شاءَ من العراق يكون عليه والياً ما كان حيًّا وكان عبد الملك والياً. فإن هم قبلوا ذلك فاعزل عنهم الحجّاج ومحمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
فلم يأت الحجاج قطُّ أَمرٌ كان أشدَّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر مخافة أن يقبلوا فيُعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك:
- «يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيتَ أهل العراقِ نَزْعي عنهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جُرأةً عليك. أَلم تَرَ وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر علي ابن عفّان؟ فلما سأَلَهم: ما الذي تريدون؟ قالوا: نَزْعَ سعيد بن العاص. فلما نزعَهُ لم تتم لهم السَّنة حتَّى ساروا إليه، فقتلوه. إنَّ الحديد بالحديد يُقرعُ. وخار الله لك في ما ارتأيت والسَّلام».
فأبي عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراقِ طلباً للعافية من الحرب. فلمَّا اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك فنادى أهل العراق وقال :
- «أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا».
وذكر الخصال التي ذكرناها.
وقال محمد بن مروان:
- «أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا».
وذكر هذه الخصال. فقالوا :
ص: 229
- «نرجع العشيَّة وننظر».
فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس ولا فارس إلا أتاهُ.
لما اجتمع هؤلاء كلهم عند ابن الأشعث حمد الله وأثنى عليه، ثم قال :
- «أَمَّا بعدُ، أُعطيتم اليوم أمراً انتهازُكم إيَّاهُ اليوم فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرَّأي غداً حسرةً. وإنَّكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدوا عليكم بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تُستَر فأقبلوا ما عُرض عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء، والقومُ لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جُراء، وعندهم أَعزَّاءُ أبداً، إن قبلتم».
فوثب إليه الناس من كل جانب، فقالوا:
- «إِنَّ اللَّهَ قد أهلكهم، فأصبحوا في الأَزْلِ والضَّنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة. لا والله لا نقبل».
فأعادوا خلعه ثانياً. وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إيَّاه
بفارس. فرجع محمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج، فقالا :
- «شأنك بعسكرك وجندك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع».
فقال الحجاج :
- «قد قلتُ لكما إنَّه لا يُراد بهذا الخلاف غيركما».
ثم قال :
- إ«ِنَّما أُقاتل لكما وسلطاني سلطانكما».
فكانوا إِذا لقياه سلَّما عليه بالإمرة، وكان أيضاً يسلّم عليهما بالإمرة، وخلياهُ والحرب، فتولاها وبرزوا للقتال.
فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمان بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عُمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي وعلى ميسرته الأبرد بن قُرَّة التّميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطَّائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. فكانوا يتزاحفون كلَّ يوم ويقتتلون. فأَمَّا أَهل الكوفة والبصرة فتأتيهم موادهم من السواد فهم في ما شاؤُوا من خصب. وأَمَّا أَهل الشَّام ففي ضيق شديد قد غلب
ص: 230
عليهم الأسعار وقلَّ عندهم الطَّعامُ وفقدوا اللَّحم وكانوا كأَنَّهم في حصارهم وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويُراوحون فيقتتلون أشدَّ القتال. وكان الحجاج يُدني خندقه مرَّةً وهؤلاء أخرى.
فعبى ذات يوم الحجاج أصحابه وزحف فيها. وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض وعبّى الحجّاج لكتيبة القُرَّاء التي فيها جبلة بن زحر ثلاث كتائب وعليهم الجرَّاح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
فتحدث أبو يزيد السَّكسكي قال : أنا والله في الخيل التي عُبئت لجبلة بن زحرٍ كل كتيبة تحمل حملةً، فوالله ما استفضَضْناهم ولا شيئاً منهم.
وقال أبو الزبير الهَمْداني: كنتُ في خيل جبلة بن زحر. فلما حمل علينا أهل الشَّام مرَّةً بعد مرَّةٍ نادانا عبد الرَّحمن بن أبي ليلى الفقيه، فقال:
- «يا معشر القُرَّاءِ، إِنَّ الفرار ليس بأَحدٍ من النَّاس أَقبحَ منه بكم. إِنِّي سمعتُ عليًّا - رفع الله درجته في الصَّالحين والشُّهداء والصِّدِّيقين - يقول يومَ لقينا أَهل الشَّامِ : أَيُّها المؤمنون، إنَّه مَن رأى عُدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سَلِمَ وَبِرئ، ومَن أَنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكر بالسَّيف لتكون كلمة الله العليا وكلمةُ الظَّالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونُوِّر قلبه باليقين. فقاتلوا المحلّين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه».
وتكلم أبو البختري بنحو من هذا الكلام وحصّ على قتالهم، وكذلك الشعبي، وسعيد بن جُبير.
وقال جبلة :
- «إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة لا تردُّوا فيها وجوهكم حتّى تخالطوا صفهم».
قال : فحملنا حملة بجد منا في قتالهم وقوَّة منا عليهم. فضربنا الكتائب الثلاث حتّى تكسرت بعضها في بعض وتفرَّقت. ثمَّ مضينا حتى واقعنا صفهم فضاربناهم حتّى أزلناهم عنه. ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعاً لا ندري كيف قتل.
قال : فهدّنا ذلك وجئنا فوقفنا موقفنا الذي كُنَّا به وإنَّ قُرَّاءَنا لمتوافرون ونحن نتناعي جبلة بن زحر، كأَنَّما فَقَدَ كلّ واحدٍ منَّا أَبَاهُ أَو أَخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقداً فقال لنا أبو البختري :
- «لا يستبينَنَّ عليكم قتل جبلة بن زحر، فإنَّما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، وكلكم ذائق، ما ذاق، ومدعُو فمجيب».
ص: 231
قال : فنظرتُ في وجوه القُرَّاءِ، فإذا الكآبة على وجوههم بيّنةٌ، وإِذا أَلسنتهم منقطعة، وإذا الفشلُ قد ظهر فيهم. فسرَّ أَهلَ الشَّام ما رأوا فينا، ثم نادونا:
- «يا أعداء الله، قد هلكتم والله، وقتل الله طاغيتكم».
وقدم علينا، ونحن على تلك الحال، بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع النَّاس مقدمُه وقالوا :
- «هذا يقوم مقام جَبَلَة».
فسمع هذا الكلام من بعضهم أبو البختري، فقال:
- «قبحتم، إن كان كلما قتل رجل واحدٌ ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن مصقله ألقيتم بأيديكم وقلتم، لم يبق أحد نقاتل معه. ما أخلقكم أن يُخلِف رجاؤنا فيكم».
وكان قدمَ بسطام من الرَّيّ.
قال أبو المخارق : قاتلناهم مائة يوم أَعدُّها عدًا لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً وما كُنَّا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. وذلك أَنَّا قاتلناهم عامَّة يومنا أحسن قتال قاتلناهم قط ونحن آمنون من الهزيمة عالون القوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من ميمنة أصحابه حتَّى دنا من الأبرد بن قرَّة التميمي وعلى ميسرة عبد الرحمن بن محمد. فوالله ما قاتله كبير قتال حتّى انهزم. فأَنكرها النَّاسُ منه، وكان شجاعاً، ولم يكن الفرار له بعادة. فطن النَّاس أَنَّه كان أُومِنَ وصُولحَ على أن ينهزم بالنَّاس فلما فعلوا تقوَّضت الصفوف من نَحوه، وركب النَّاسُ رؤوسهم وأخذوا في كل وجه.
فصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، وأخذ يُنادي النَّاس :
- «إِليَّ إِليَّ، أنا محمد».
فأَتاهُ عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره في خيل له، وجاءَهُ عبد الله بن ذُؤاب السلمي في خيل له، فوقف قريباً منه وثبت حتَّى دَنا منه أهل الشام، فأخذت نبالهم تحوزه. فقال:
- «يابنَ رِزام، احمل على هذه الرَّجالة».
فحمل عليهم حتَّى أَمعنوا. ثمَّ جاءت خيلٌ أُخرى ورجالةٌ، فقال :
- «احمل عليهم يا بن ذؤاب».
فحمل عليهم حتَّى أمعنوا وثبت لا يبرح ودخل أهل الشام العسكر، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفّل الأزدي، فقال:
ص: 232
- «انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسَرَ، ولعلك إن انصرفت اليوم أن تجمع لهم جميعاً في غدٍ يهلكهم الله».
وكانت بنت عبد الله بن يزيد تحت عبد الرحمن بن محمد. فنزل وخلَّى أَهلُ العراق العسكر وانهزموا لا يلوون. ومضى عبد الرحمن مع أناس من أهل بيته.
فقال الحجاج :
- «اتركوهم فليبتدروا ولا تتبعوهم».
ونادى المنادي :
- «من رجع فهو آمِنٌ».
ورجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا العراق والحجاج.
وجاء الحجَّاجُ حتَّى دخل الكوفة وجلس للناس. فكان لا يبايعه أحد من أهل العراق إلا قال :
- «أتشهد أنك قد كفرتَ؟».
فإذا قال: «نعم»، بايعه، وإلا قتله.
فجاءَ رجلٌ من خثعم، وكان معتزلاً للنَّاس جميعاً من وراء الفرات. فسأله عن حاله فقال :
- «ما زلتُ معتزلاً وراء هذه النطفة منتظراً أمرَ النَّاس حتى ظهرت، فأَتيتُ لأبايعك مع النَّاس». فقال :
- «أَمتربِّصُ؟ أتشهد أَنَّكَ كافر؟».
- «بئس الرَّجلُ أَنا إذاً! إن كنتُ عبدتُ الله ثمانين سنة ثمَّ أَشهد على نفسي بالكفر». قال :
- «إذا أقتلك». قال:
- «فإن قتلتني، والله ما بقي من عمري إلا كظمئ حمار، وإنِّي لأنتظر الموت صباح مساء». قال :
- «اضربوا عنقه».
فلما ضربوا عنقه لم يبق أحد حوله من الحرس إلا رحمه ورثى له من القتل.
ص: 233
ودعا بكميل بن زياد النخعي، وكان ركيناً في الحرب حليماً صاحب نجدة و حفاظ من أصحاب عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال:
- «أنتَ المقتص من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنتُ أُحب أن أجد عليك سبيلاً». فقال :
- «والله ما أدري على أَيِّنا أَنتَ أَشدُّ غضباً: عليه حين أقادَ من نفسه، أم علي حين عفوت عنه ؟».
فراجعه الحجاج. فقال :
- «أَيُّها الرَّجل! لا تصرف عليّ أنيابك، ولا تتهدم عليَّ تهدم الكثيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما بقي من عُمري إلا مثل ظمئ الحمار، فإنَّه يشرب غدوة، ويموت عشيَّةً ويشرب عشيَّة ويموت غدوة. اقض ما أَنتَ قاض، فإنَّ الموعد الله، وغداً الحساب».
فقال الحجاج :
- «فإنَّ الحجّة عليك» قال :
- «إن كان القضاء إليك». قال :
- «اقتلُوه!».
فقُتل رحمه الله.
وأتي برجل آخر من بعده طلبه الحجَّاجُ. فقال الحجاج :
- «إني أرى وجه رجل ما أظنُّه يشهد على نفسه بالكفر». قال
- «أَخادعي أَنتَ عن نفسي ؟ بلى أنَا أَكفَرُ أَهل الأرض، وأَكفَرُ من فرعون ذي الأوتاد». فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وتُوُفِّيَ في هذه السِّنة المهلب مُنصرفه من كس يُريد مرو وأصابته الشوصة فدعا حبيباً ومن حضر من ولده فوصاهم.
قال :
عليكم بتقوى الله، وصلة الرَّحِم. اجمعوا أمركم ولا تختلفوا. تباروا لتجتمع أُمورُكم، إِنَّ بني الأُم يختلفون وكيف ببني العلات. وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن
ص: 234
أَفعالكُم أَفضل من أقوالكم، فإنِّي أُحبُّ الرَّجلَ أن يكون لعمله فضل على لسانه. واتَّقوا الجواب وزلَّة اللسان، فإِنَّ الرَّجُلَ تزلُّ قَدَمُهُ فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك. وآثروا الجودَ على البخل وأحبوا العرب، واصطنعوا العُرف. فإِنَّ الرَّجل تعِدُهُ العِدَةَ فيموتُ دونك، فكيف الصنيعة عنده عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنَّها أَنفع من الشَّجاعة، وإذا كان القضاء، ونزل القضاء. فإن أخذ رجل بالحزم وظهر على العدو، قيل : أَتاهُ الأمرُ من وجهه ثمَّ ظفر. وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل : ما فرط ولا ضيع، ولكنَّ القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصَّالحين. وإِيَّاكم والخِفَّةَ وكثرة الكلام في مجالسكم. اعرفوا حقَّ مَن يغشاكم، فكفى بِغُدُوِّ الرَّجل ورواحه إليكم تذكرة له، وقد استخلفتُ عليكم يزيد».
فقال المفضَّلُ :
- «لو لم تقدّم يزيد لَقَدَّمناه».
ومات المهلب وصلى عليه حبيب، ثم سار بالجند إلى مرو. فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة أبيه واستخلافه إيَّاهُ، فأَقرَّهُ الحجّاج. وذلك في سنة اثنتين وثمانين.
لما انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم، وتفرّق أصحابه حصل خلق منهم بالمدائن مع محمد بن أبي وقاص وجماعة مع عُبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي سمرة بن جُندَبِ. وخرج الحجاج في آثارهم، فبدأ بالمدائن. فلما بلغ محمد بن سعد عبوره خرج مع أصحابه حتّى لحق بابن الأشعث وخرج إليه عُبيد الله بن عبد الرحمن أيضاً، واجتمع إليه النَّاس من كلِّ أوب حتَّى عسكروا معه على دجيل بمسكن، وأَتاهُ فَل الكوفة، وتلاوم النَّاسُ على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، و خندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فوجه القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس كانوا معه من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلةً من شعبان أشدَّ قتال حتَّى قُتل زياد بن عُثَيم من أصحاب الحجاج وكان على مسالحه، فهده ذلك وهد أَصحابه. وعبى أصحابه وحضّهم على القتال، وباكرهم بقتال لم يُرَ مثله قط. وجاءَه عبد الملك بن المهلب مجففاً وقد كُشفت خيل سفيان بن الأبرد.
فقال له الحجاج :
- «ضُمَّ إِليك يا عبد الملك هذا النَّشَر لعلي أحمل عليهم».
ففعل، وحمل النَّاسُ من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضاً وقُتل أبو البختري
ص: 235
الطَّائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكانا قالا قبل أن يُقتلا :
- «إن الفرار كلَّ ساعةٍ لقبيح بنا».
فصَبَرا وأُصيبا.
ومشى بسطام بن مصقلة في أربعة آلافٍ ممَّن بايعوه على الموت فهزم أهل الشَّام مراراً وكشفهم حالاً بعد حال، ولم يكن الحجَّاج يعرف إليهم طريقاً إلا الطريق الذي يلتقون فيه. فأتي بشيخ كان راعياً، فدله على طريق من وراء أجمةٍ في الكرخ طوله ستّة فراسخ في ضحضاح من الماء. فبات الحجّاج تلك الليلة وانتخب من جَلَدِ أَهل الشَّام أربعة آلاف، وقال لقائدهم :
- «لِيكُنْ هذا العلجُ أَمامَك وهذه خمسة آلاف درهم، فإن أقامك على عسكرهم فادفع إليه المال، وإن كذبنا فاضرب عنقه. فإن رأيتهم فاحمل عليهم في من معك وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج».
فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه. معه فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج من جهة بسطام بن مصقلة كما حكينا من أمره قبلُ، حَتَّى عبر السِّيبَ ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهبه.
قيل لابن الأشعث:
- «الرأي أن تتبعه ولا تُنفّس عنه». فقال :
- «قد تعبنا ولحقنا نَصَبٌ».
فرجع إلى عسكره، وألقى أصحابه السّلاحَ وباتوا آمنين، في أَنفسهم لهم الظَّفرُ، وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم. فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه، دُجَيل من يساره ودجلة أمامه ولها جُرفٌ مُنكَرٌ. فكان من غَرِقَ أَكثرَ ممَّن قُتل. وسمع الحجّاج الصوت، فعبر السيب، وكان قد قطعه إلى عسكره، ثمَّ وَجّه خيله إلى القوم، فالتقى العسكران على ابن الأشعث، فانهزم في ثلاثمائة. فمضى على شاطئ دجلة حتَّى أتى دجيلاً، فعبره في السُّفن وعقروا دوابهم، وانحدر في السفن إلى البصرة. فدخل الحجّاج عسكره وقتل من وجد، حتَّى قتل أربعةَ آلاف، فيهم بسطام بن مصقلة وجماعة من أهل الشرف والصَّبر.
وخرج ابن الأشعث بمن معه من الفَلِّ منهزمين نحو سجستان فلما دخل كرمان
ص: 236
تلقاه عمرو بن لقيط وكان عامله عليها. فسأله نُزُلاً، ونزل.
فقال له شيخ من عبد القيس يُقال له معقل :
- «والله، لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أَنَّك جبانٌ في مواطنك».
فقال عبد الرحمن :
- «ما جَبُنتُ والله لقد دَلَفَتُ إلى الرّجال بالرِّجال، ولففتُ الخيل بالخيل، ولقد قاتلتُ وقاتلتُ راجلاً، فما انهزمتُ، ولا تركتُ العرصة للقوم في موطن حتّى لا أجد مقاتلاً، ولا أرى معي مقاتلاً، ولكني زاولتُ مُلكاً مؤجّلاً».
ثم مضى ابن الأشعث بمن معه حتّى فوز في مفازة كرمان وخيلُ الشَّام تتبعه، ثمَّ مضى حتَّى خرج إلى زَرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم كان استعمله عبد الرَّحمن عليها يُقال له عبدالله بن عامر من بني مجاشع. فلما قدم عليه ابن الأشعث منهزماً أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها. فأقام عبد الرَّحمن أَيَّاماً رجاءَ افتتاحها ودخولها. فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتَّى أَتى بُستَ، فكان استعمل عليها رجلاً يُقال له عياض بن هميان السدوسي، فاستقبله وقال له :
- «انزل».
فجاءَ ابن الأشعث حتَّى نزل به وانتظر حتّى غفل أصحاب عبد الرَّحمن، وتفرَّقوا عنه وثب عليه، فأوثقه وأراد أن يأمن بها عند الحجّاج ويتَّخذ بها عنده مكاناً، وقد كان رتبيل حين سمع بمقدم عبد الرحمن عليه استقبله في جنوده، وجاء حتَّى أَحاط ببُست، وبعث إلى البكري، والله، لئن آذيته بما يُقذى عينه أو ضررته ببعض المضرَّة، أو رزأته حبلاً من شعر، لا أبرح العرصة حتّى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثمَّ أَسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم، وأقتل من عاند منكم.
فأرسل إليه البكري أن :
- «أعطنا أماناً على أنفسنا وأموالنا ونحن ندفعه إليك سالماً وما كان له من مال موقراً».
فصالحه على ذلك وآمنهم. ففتحوا لابن الأشعث وخلوا سبيله، فأتى رُتبيل فقال له بعدما أنس وتساءلا :
- «هذا الرَّجل كان عاملي على هذه المدينة، وركب منّي ما رأيتَ، فأْذَنْ لي في قتله ؟» قال :
ص: 237
- «آمنتُه وأكره الغدر به». فقال :
- «فأذن لي في لهزه ودفعه والتصغير به». فقال :
- «أما هذا فنعم».
ففعل به عبد الرَّحمن، ثم مضى مع رتبيل حتى دخل بلاده، فأنزله رتبيل وأكرمه وعظمه وكان معه ناسٌ من الفَلِّ كثيرٌ.
كان جماعة من أصحاب عبد الرَّحمن وعظم فُلولِه ممن لم يقبلوا أمان الحجاج وناصبوه في مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطروا إلى الخروج في إثر عبد الرحمن، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتَّى اجتمع منهم وممَّن اتَّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفاً.. فنزلوا على عبدالله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرَّحمن يُخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يُصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكتبوا إليه أن :
- «أقبل، لعلنا نسير إلى خراسان، فإنَّ بها منَّا جُنداً عظيماً، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون».
فخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتَّى استنزلوه، فأَمر به عبد الرَّحمن فضُرب وعُذَّب وحُبس. ثمَّ إِنه توجه إليهم خيلُ الشَّام، عليهم عمارة بن تميم اللحمي.
أشار أصحاب عبد الرَّحمن عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له:
- «هَلُمَّ بنا، نأتي خراسان وندع لهم سجستان».
فقال عبد الرَّحمن:
- «على خراسان يزيد بن المهلب وهو شاب شجاع صارمٌ وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعاً إليكم، ولن يَدَعَ أَهلُ الشَّام اتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأَخاف ألا تنالوا ما تظنُّون».
فقالوا :
- «إِنَّما أَهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتبعنا منهم أكثر
ص: 238
ممَّن يُقاتلنا، وهي أَرض طويلة عريضة نتنحَّى فيها حيث شئنا ونمكث حتَّى يُهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أو نَرى رأينا».
فقال لهم عبد الرحمن :
- «سيروا على اسم الله».
فساروا حتى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيءٍ حتّى خرج من عسكره عُبيد الله بن عبد الرحمن بن سَمُرة بن جُندب القرشي في ألفين، ففارقه وأخذ طريقاً سوى طريقهم.
فلما أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال :
- «أَمَّا بعدُ، فإِنِّي قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه نفسي حتّى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنتُ لمَّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أَتيتُ ملجأ ومأمناً فكنتُ فيه. فجاءتني كُتبكم بأن : أقبل إلينا فإِنَّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا. فأَتيتكم، فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم أنكم مجتمعون لي، وأَنَّكم لن تتفرَّقوا عنِّي، فحسبي منكم يومي هذا. قد صنع عُبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضاً ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومَن كرهَ ذلك فليذهب حيث أُحبَّ في كنف الله».
فتفرقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عُظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمن بن عبّاس الهاشمي لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثم مضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتَّى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرُّقاد بن عُبيد العتكيّ، فقتلوه وخرج إليهم يزيد بن المهلب، وأرسل إليهم وإلى الهاشمي :
قد كان لك في البلاد منَّسعٌ ومَن هو أكل مني حدا وأَهون شوكة، فارتحل إلى بلدٍ ليس لي فيه سلطان، فإنّي أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدَّك بمال لسفرك أعنتُك عليه».
فأرسل إليه :
- «ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنَّا أردنا أن نُريح ثمَّ نشخص إِن شاءَ الله، وليست بنا حاجةٌ إلى ما عرضتَ».
فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية وبلغ يزيد، فقال:
- «من أَراد أَن يُريح ثمَّ يجتاز لم يَجْبِ الخراج».
فقدَّمَ المفضَّلَ في خمسة آلاف ثم أتبعه في أربعة آلاف.
ووَزَنَ يزيدُ نفسَه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال:
ص: 239
- «ما أراني إلا قد ثقُلتُ عن الحرب. أي فرس يحملني!».
ثم دعا بفرسه الكامل، فركبه حتّى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشمي:
- «قد أَرحتَ وأسمنت وجبيتَ فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك. فاخرج، فوالله ما أُريد أَن أُقاتلك».
فأبى إلا القتال، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يُمنّيهم ويَعِدُهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال :
- «جلَّ الأمرُ عن العتاب. أتغدَّى بهذا قبل أن يتعشَّى بي».
فسار إليه حتّى تدانى العسكران وتأهبوا للقتال، وأُلقي ليزيد كرسي، فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضّل، وقال له :
- «قدم خيلك».
فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتّى تفرَّق الناس عن عبد الرحمن الهاشمي، وصبر وصبرت معه طائفةٌ من أهل الحفاظ، فكثَرَهم النَّاسُ، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد ابن أبي وقاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن مَعْمَر، وعيَّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نُعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبدالرَّحمٰن بن طلحة بن عبيدالله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسِّنْدِ وابن سَمُرَة قَصَد مرو. ثم انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع ابن عم له، وخلّى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة.
وسعی قوم عبيد الله بن عبد الرَّحمن بن سَمرة، فأخذه يزيد وحبسه. فأما محمّد ابن سعد بن أبي وقاص، فيقال : إنَّه قال ليزيد :
- «أسألك بدعوة أبي لأبيك».
ولقوله هذا حديث فيه طول.
لما قدم الأسرى على الحجاج، قُدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال:
- «أنتَ صاحب عُدَيّ الرَّحمن». فقال :
- «أصلح الله الأمير، كانت فتنةً شملت البَرَّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك وإن عاقبت، عاقبت ظلمة مذنبين».
فقال الحجاج :
ص: 240
- «أما قولك: شملت البَرَّ والفاجر فكذبت، ولكنَّها شملت الفُجَّارَ وعُوفي منها الأبرار، وأمَّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك».
فعُزل، ورَجا له النَّاس العافية. حتّى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج :
- «أخبرني عنك، ما رجوتَ من اتِّباع عبد الرَّحمن بن محمد، أرجوتَ أن يكون خليفة؟» قال :
- «نعم، رجوتُ ذلك وطمعتُ أن يُنزلني منزلتك من عبد الملك».
فغضب الحجاج، وقال :
- «اضربوا عنقه»!
ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نُحي عنه، فقال :
- «اضربوا عنقه»!
وقتل، وقُتل بقيَّتُهم.
كان الحجاج لمَّا هزم النَّاس نادى مناديه :
- «من لحق بقتيبة بن مسلم بالرَّي فهو أمانه».
فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبي. فذكره الحجاج يوماً وقال :
- «أين هو وما فعل»؟
قال له يزيد بن أبي مسلم، وهو كاتب الحجاج :
- «بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة».
فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشَّعبي حين ينظر في كتابه فسرَّحه إليه.
قال الشعبي : كنتُ لابن أبي مسلم صديقاً. فلما قدم بي على الحجاج لقيتُه وقلتُ له :
- «أَشِرْ عليّ». قال :
- «ما أدري ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عُذرٍ».
فلما دخلتُ سلّمتُ بالإمرة ثمَّ قلتُ :
- «أيُّها الأمير إنَّ النَّاس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنَّه الحق. وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقًّا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلَّ الجهد فما ألونا فما كنا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرَّت إلينا أيدينا، وإن عفوتَ عَنَّا
ص: 241
فبحلمك. وبعد فالحجة لك علينا».
فقال له الحجاج :
- «أنتَ والله أحبُّ إليَّ ممَّن يدخل عليَّ يَقطر سيفه من دمائنا ثم يقول : ما فعلتُ وما شهدتُ. قد أمنتَ عندنا يا شعبي».
قال فانصرفت فلما مشيتُ قليلاً، قال :
- «هلمَّ يا شعبي!».
قال : فوجلَ لذلك قلبي، ثمَّ ذكرتُ قوله : «قد أَمِنتَ». فاطمأنت نفسي. قال :
- «كيف وجدتَ النَّاس بعدنا يا شعبي»؟
وكان لي مكرماً. فقلتُ :
- «أصلح الله الأمير اكتحلتُ والله بعدك الشهر، واستوعرتُ الجناب و استحلستُ الخوف وفقدتُ صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً». قال :
- «انصرف يا شعبي».
فانصرفتُ.
وقيل : إن الحجاج لما أُتي بالأسرى من عند يزيد بن المهلب، قال لحاجبه :
- «إذا دعوتُ بسيدهم فأتِني بفيروز فأبرزوا سريرَه».
وهو حينئذ بواسط القصب، قبل أن تُبنى مدينة واسط. ثم قال لحاجبه :
- «جئني بسيدهم».
فقال لفيروز :
- «قُم».!
فقال له الحجاج :
- «أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء فوالله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم».
فقال :
- «فتنةٌ عمَّت النَّاسَ فكنا فيها». فقال :
- «اكتب لي أموالك. قال :
- «ثم ماذا»؟ قال :
ص: 242
- «اكتبها أَوَّلُ». قال :
- «ثمَّ أَنَا آمِنٌ على دمي»؟ قال :
- «اكتبها، ثمَّ انظُر». قال :
- «أُكتب يا غلام! ألف ألف 1,000,000، ألفي ألفٍ 2,000,000».
حتّى ذكر مالاً عظيماً. فقال الحجاج :
- «أين هي، وعند من هذه الأموال»؟ قال :
- «عندي». قال :
- «فأدِّها». قال :
- «وأنا آمِنٌ على دمي»؟ قال :
- «والله لَتُؤَدِّينها، ثم لأقتتلنَّك». قال :
- «لا والله، لا جمعت مالي ودمي».
فقال الحجاج للحاجب :
- «نَحّه»!
فنحّاهُ ثُمَّ أمر به فعُذب. وكان في ما عُذِّب به أن كان يُشدُّ عليه القصبُ الفارسي المشقَّقُ، ثمَّ يُجَرُّ حتَّى تَحزّزَ جسده، ثمَّ يُنضَح عليه الخَلُّ والملح. فلما أحس بالموت، قال لصاحب العذاب :
- «إنَّ النّاس لا يشكُون أنّي قُتلتُ. ولي ودائع أموالٍ عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً فأظهروني للنَّاس ليعلموا أني حي فيُؤَدُّوا المال».
- فأعلم الحجَّاجُ فقال :
- «أظهروه».
فأُخرج، فصاح في الناس :
- «من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز الحصين. إنَّ لي عند أقوام مالاً. فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو في حِل فلا يؤدِّينَّ أحدٌ منه درهماً لِيُبلغ الشَّاهدُ الغائب».
فأمر به الحجاج فقُتل.
كان الحجاح أمر منادياً فنادى عند الهزيمة يوم الزاوية :
ص: 243
- «ألا لا أمان لفلان ولا لفلان».
سمَّى رجالاً من الأشراف ولم يقل : النَّاسُ آمنون. فقال النَّاس :
- «قد آمن من الناس كلهم إلا هؤلاء النفر».
فأَقبلوا إلى حجرته. فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال :
- «لآمُرَنَّ بكم اليوم رجلاً ليس بينه وبينكم قرابة».
فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي، ففرقهم وقتلهم.
فروى النضر بن شميل عن هشام بن حسان أنّه قال يوماً : قتل الحجّاج صبراً مائَة ألف وعشرين ألفاً، أو مائة ألف وثلاثين ألفاً، منهم يومَ الزَّاوية أحد عشر ألفاً، ما استبقى منهم إلا رجلاً واحداً كان ابنه في الكُتاب مع ابن الحجاج، فدعا الصَّبيَّ وقال :
- «أهبه لك»، قال :
- «نعم».
فخلى سبيله.
كان مع عبد الرَّحمن بن الأشعث لما انصرف من هراة راجعاً إلى رتبيل، رجلٌ من أودٍ يُقال له : علقمة بن عمرو.فقال له :
- «إنِّي ما أُريد أن أدخل معك».
قال له عبد الرحمن :
- «ولم»؟ قال :
- «لأني أتخوف عليك وعلى من معك». قال:
- «وكيف؟ قال :
- «والله لكأني بكتاب من الحجاج قد جاءَ فوقع إلى رتبيل يُرغبه ويُرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلك ومن معك. ولكن هاهنا خمسمائة رجل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصَّن فيها ونقاتل حتَّى نُعطَى أماناً، أو نموت كراماً».
فقال عبد الرحمن :
- «كلَّا، فادخل معي، فإنّي أُواسيك وأُكرمك».
فأبى عليه ودخل عبد الرحمن إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة. فبعثوا عليهم
ص: 244
مودوداً البصري. فأقاموا حتّى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي، فحاصرهم، فقاتلوه، و امتنعوا منه حتّى آمنهم. فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كُتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرَّحمن أن :
- «ابعث به إليَّ، فوالله لأوطين أرضك ألف ألف مقاتل».
وكان عمارة قد انتهى إلى سجستان في ثلاثين ألفاً، وكان عند رُتبيل رجلٌ من تميم من بني يربوع يُقال له : عُبيد بن أبي سُبيع، وكان مع ابن الأشعث، فخص برتبيل، وكان قديماً رسول ابن الأشعث فخفَّ عليه. فلما رأى رُتبيل لا يُسلم ابن الأشعث خلا به وخوَّفه الحجاج، وقال :
- «أنا آخذ لك من الحجاج عقداً ليكفّنَّ الحجاج عن أرضك عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث». فقال رتبيل :
- «فإنّي أفعل».
فكاتب الحجّاج وأعلمه أن رُتبيل لا يعصيه وأنه يتوصل له إلى أخذ ابن الأشعث، وأخذ من الحجاج مالاً، وخرج إلى عمارة بن تميم، فاستعجل منه ألف ألف 1,000,000 درهم، وأخذ من رتبيل أيضاً مالاً، واشترط لرتبيل ألا يُغزي بلاده عشر سنين، وأن يؤدّي بعد العشر سنين في كلِّ سنة تسعمائة ألف درهم فأعطى هو وابن أبي سبيع، وأرسل رُتبيل إلى ابن الأشعث، فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعدَّ لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعةً، وفي عنق أخيه القاسم بن محمد بن الأشعث جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسلحةِ عُمارَةَ منه. وقال لجماعة مَن كان مع ابن الأشعث:
- «تفرَّقوا إلى حيث شئتم. ولما قرب ابن الأشعث من عمارة، ألقى نفسه من فوق قصر، فمات واحتُزَّ رأسه، فأُتي به وبالأسرى عُمارة فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرؤوس أهله إلى الحجاج، فأرسل به الحجّاج إلى عبد الملك فأرسل به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.
فحكى ابن عائشة : أنَّه لما أُتي عبد الملك برأس ابن الأشعث، أرسل به مع خصِي له إلى امرأة من بنات عمر بن الأشعث كانت تحت رجل من قريش. فلما وضع بين يديها نهضت إليها وقالت :
- «مرحباً برأس لا يتكلم، ملك من الملوك، طلب ما هو أهله، فأبت المقادير».
فذهب الخصي ليأخذ الرَّأْسَ واجتذبته من يده وقالت :
- «لا والله حتّى أبلغ حاجتي منه».
ص: 245
ثمَّ دعتْ بخطمي فغسلته وغلفته، ثم قالت :
- «شأنك به الآن».
فأخذه. ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها قال له :
. - «إن استطعت أن تُصيب منها سحلة».
كان الحجاج يهاب ناحية يزيد بن المهلب بعد فراغه من عبد الرَّحمن بن محمد ويعرف منزلته من عبد الملك فيخشاه على موضعه وقد كان أذلَّ أهل العراق كلّهم، إلا آلَ المهلب. فأكثر على عبد الملك في شأن يزيد بن المهلب، وخوفه غدرَه وعيّره، فإنَّه وأهل بيته زبيريون.
فكتب إليه عبد الملك :
- «قد أكثرت في معنى يزيد، وإنَّ الذي دعا آل المهلب إلى الوفاء لابن الزبير هو الذي يدعوهم إلى الوفاء لي».
وبلغ يزيد بن المهلب ما يريد الحجاج فكان يُكثر الغزوات ويعتل على الحجاج إذا استقدمه أنه بإزاء عدو وحروب. إلى أن أذن عبد الملك في عزل يزيد وتقليد قتيبة ابن مسلم خراسان.
فكتب الحجاج إلى يزيد بن المهلب أن :
- «استخلف أخاك المفضل».
وكتب إلى المفضّل بولاية خراسان فجعل المفضل يستحثُ يزيد. فقال له يوماً يزيد :
- «يا أخي، إنَّ الحجاج لا يُقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتَنعَ عليه». قال :
- «بل حسدتني».
قال يزيد :
- «أنا أحسدُك يا بن بَهلَة؟ ستعلم».
وقد كان يزيد قال لنُصحائه :
- «من ترون الحجاج يولّي خراسان»؟ قالوا :
- «رجلاً من ثقيف». قال :
ص: 246
- «كلَّا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده. فإذا قدمتُ عليه عَزَله، فولى رجلاً من قيس، وأَخْلِقْ بقتيبةَ».
قال : فلما قال له أخوه ما قال وولَّاه الحجّاج بعد يزيد تيقن يزيد ما كان يظنه قبل ذلك. فاستشار الحصين بن المنذر فقال له :
- «أقم واعتل، فإنَّ أمير المؤمنين حسن الرّأي فيك، وإنَّما أُتيتَ من قبل الحجاج، فإن أقمتَ رجوت أن يكتب إليه بإقرارك».
قال يزيد :
- «إنَّا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف».
فقال الحصين بن المنذر :
أمرتُك أمراً حازماً فعصيتني *** فأصبحت مسلوب الإمارة نادِما
فما أنا بالباكي عليك صبابة *** وما أنا بالداعي لترجع سالما
فلما قدم قتيبة خراسان، قال لحصين :
- «كيف قُلتَ ليزيد»؟
قال : قلتُ له :
أمرتُك أمراً حازماً فعصيتني *** فنفسَك وَلّ اللَّومَ إن كنتَ لائما
فإن يبلغ الحَجَّاجَ أن قد عصَيتَهُ *** فإنَّك تلقى أمرَهُ متفاقما
قال :
- «فماذا أمرته فعصاك»؟ قال :
- «أمرتُه ألَّا يَدعَ صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير».
فقال رجل لعباط بن الحصين :
- «أما أبوك فوجدهُ قُتيبة حين فرَّه قارحاً بقوله : أمرته ألَّا يَدَعَ صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير».
فكان عزل يزيد عن خراسان وخروج قتيبة إليها في سنة خمس وثمانين، وذلك أنه لما حصل يزيد عند الحجاج عزل المفضَّل وولَّى قُتيبةَ.
كُنَّا ذكرنا ما كان الله من عبدالله بن خازم من قبلُ مع بني تميم. فتفرق عنه عُظم من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بني تميم على ثَقَلِه بمرو، فقال لابنه :موسى
ص: 247
- «حول ثَقَلي من مرو، واقطع نهر بلخ حتّى تلجأ إلى حصن تثق به فتقيم فيه».
فشخص موسى في مائتين وعشرين فارساً من الصعاليك، فصار في أربعمائة وانضم إليه رجال من بني سليم، فقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن تلجأ إليه فأبى وخافه وقال :
- «رجل فاتكٌ وأصحابه مثله طالبو حرب وشر، ولا آمنهم».
فبعث إليهم بصلة من عين ودواب وكسوة، فنزل على عظيم من عظماء بخاری في نوقان فقال له الرّجل :
- «إنَّه لا خير لك في المُقام وهم لا يأمنونك».
فخرج يلتمس ملكاً يلجأ إليه أو حصناً. فلم يأتِ بلداً إلا كرهوا مُقامَهُ فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم حتى أتى سمرقند وصاحبها طَرخون. فأنزله وأكرمه فجرى بينهما ما استوحش منه طرخون، فقال له :
- «لولا أني أعطيتكم الأمان لقتلتكم، فاخرجوا عن بلدي».
ووصله وأخرجه. فخرج موسى وأتى كِسّ. فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره. فأتاه فخرج إليه موسى في سبعمائة، فقاتلهم حتَّى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرٌ. فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رؤوسهم كما تصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أقبيتهم كما تصنع العجم إذا استماتوا، ودسَّ إلى طرخون زرعة بن علقمة فقال :
- «إنَّ القوم مستقبلون، فما حاجتك إلى أن تقتل من لا تصل إليه حتَّى يُقتل من أصحابك عدَّتُهم، ولو قتلته وإيَّاهم جميعاً ما نِلتَ حظًّا، لأنَّ له قدراً في العرب، فلا يلي أحدٌ خراسان إلا طالبك بِدَمِه، فإن سلمت من واحد لا تسلم من آخر». قال :
- «ليس إلى ترك كسّ عليه سبيل». قال :
- «فكُفَّ عنه حتّى يرتحل».
فكفَّ عنه. وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر. فنزل موسى على بعض الدَّهاقين خارجاً من الحصن، والدهقان مُجانبٌ لِترمذ شاه. فقال لموسى :
- إ«ِنَّ صاحب التّرمِذ متكرّم شديد الحياء، فإن ألطفته وهاديته أدخلك حصنه».
فأهدى له وألطفه موسى حتّى لطف الذي بينهما. وخرج فتصيد معه وكثر ألطاف موسى له. فصنع يوماً صاحب الترمذ طعاماً، وأرسل إليه :
- «إنِّي أحب أن أكرمك، فتَغَدَّ عندي، وائتني في مائة من أصحابك».
ص: 248
فانتخب موسى مائة من أصحابه، فدخلوا على خيولهم، فقيل لهم :
- «انزلوا».
فنزلوا، وأُدخلوا بيتاً خمسين في خمسين، وغَدَّوهُم. فلما فرغوا من الغَداءِ اضطجع موسى، فقالوا له :
- «اخرج». قال :
- «لا أُصيب منزلاً مثل هذا فلستُ بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري».
وقاتلوهم في المدينة. فقُتل خَلقٌ من أهلها وهرب الآخرون. فدخلوا منازلهم وغلب موسى على المدينة وقال لترمذشاه.
- «اخرج فإني لستُ أعرض لك ولا لأحدٍ من أصحابك».
فخرج الملك وأهل المدينة، فأمُّوا التَّركَ يستنصرونهم. فقالوا :
- «دخل عليكم مائة رجل فأخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بِكسّ، فعرفناهم، فنحن لا نقاتل هؤلاء».
وأقام ابن خازم بالتّرمِذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة. فلما قُتل أبوه انضم إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوي، فكان يخرج ويُغير على من حوله. فراسله الترك بقوم ليعلموا ما الذي يريد، ويتقرر أمورهم على صلح، ويكفوا عن الغارة.
فلما قدموا قال موسی لأصحابه :
- «إِنَّ هؤلاء يُسمونكم جنا وأريد أن أكيدهم بمكيدة، وذلك في أشد ما يكون من زمان الحر».
ثم أمر موسى بنار، فأُججت، وألبس أصحابه ثياب الشتاءِ، ولبسوا فوقها لبوداً، ومدُّوا أيديهم إلى النار كأنَّهم يصطلون، وأَذّن موسى للترك، فدخلوا فلما رأوهم على تلك الحال فزعوا وقالوا :
- «ما هذا ولم صنعتم ما نَرى»؟ قالوا :
- «إنَّا نجد البرد في هذا الوقت ونجد الحرَّ في الشّتاءِ».
فلما رجعوا أخبروا أصحابهم، فقالوا :
- «هذا صنيع الجنّ، ولا خير في قتال هؤلاء، والرَّأي مقاربتهم».
ولما ولي بكير بن وساج خراسان لم يعرض له ولم يوجّه إليه أحداً.
ص: 249
ثمَّ قدم أُميَّة، فسار بنفسه يُريده فخالفه بُكيرٌ وخلع ورجع إلى مَرْوَ، كما حكينا في ما تقدَّم. فلما صالح أُميَّةُ بكيراً وحالَ الحَولُ، وجّه إلى موسى رجلاً من خزاعة في جمع كثير. فعاد أهل التّرمِذ إلى التُرك، فاستنصرهم، وقالوا :
- «نجتمع عليهم مع من غزاهم منهم فنظر بهم».
فسارت الترك مع أهل التّرمذ في جمع أهل التّرمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى التُركُ والخزاعي. فكان يقاتل الخزاعي أوّل النَّهار والترك آخِرَهُ. فقاتلهم ثلاثة أشهر على ذلك.
ثم قال موسى لعمرو بن خالد بن حصن الكلبي، وكان فارساً :
قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعتُ أن أُبيت عسكر الخزاعي، فإنَّهم للبيات آمنون فما ترى؟» قال:
- «البياتُ نعِمَّا هو، فليكن ذلك بالعجم، فإنَّ العرب أشد حذراً وأسرع فزعاً وأجرأُ على الليل من العجم».
فعمل موسى على بيات الترك. فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد :
- «اخرجوا بعدنا وكونوا قريباً، فإذا سمعتم التكبير فكبروا».
وأخذ على شاطئ النهر حتَّى ارتفع فوق العسكر. ثمَّ أَخذ من ناحية كفنان. فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعاً. ثم قال :
- «أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا».
وأقبل وقدَّم حُمُراً بين يديه ومشوا خلفه. فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا :
- «مَنْ أَنتم؟» قالوا :
- «عابرو سبيل».
فقال لهم صاحب الرَّصَد :
- «جوزوا».
فلمَّا جازوا الرَّصد تفرَّقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر التركُ إلا بوقع السيوف. فثاروا، وأقبل بعضهم يقتل بعضاً. ثمَّ ولوا وحَوَوا عسكرهم وأصابوا سلاحاً ومالاً، وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك وخافوا مثلها من البيات، فتحرزوا.
فقال عمرو بن خالد لموسى :
- «إنَّك لا تظفر إلا بمكيدة وأرى لهم أمداداً فهم يكثرون. فتناولني بضرب
ص: 250
فلعلي أُصيب من صاحبهم فرصةً فأقتله ويتفرق عنك هؤلاء الجمع».
فقال له :
- «تتعجّل الضرب ثم تتعرض للقتل». قال :
- «أَمَّا القتل فأنا متعرّض له في كل يوم، وأَمَّا الضَّرب فما أَيسرَهُ في جنب ما أُريد».
فتناوله بالضرب، ضربه خمسين سوطاً، فخرج من عسكره موسى، فأتى عسكر الخزاعي مستأمناً، وقال :
- «أنا رجل من أهل اليمن، كنتُ مع عبد الله بن خازم. فلمَّا قُتل أَتيتُ ابنَه، فلم أزل معه. فلما قدمتُ اتَّهمني وتنكَّرَ لي، ثم تغضّب عليَّ وقال : : أَنتَ عين له، فضربني ولم آمَن القتل وقلتُ : ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه».
فآمنه الخزاعي، وأقام معه إلى أن دخل يوماً وهو خال، ولم ير عنده سلاحاً، فقال له كأَنَّه يتنصح له :
- «إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح». فقال :
- «إِنَّ معي سلاحاً».
ورفع صدر فراشه، وإذا سيفٌ منتضى. فتناوله عمرو فضربه به حتى قتله. وخرج فركب فرسه ونذر به النَّاسُ وقد أمعن. فطلبوه، ففاتهم ورجع إلى موسى، وتفرق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمناً، فآمنه.
ولم يوجه إليه أُمية أحداً إلى أن قدم المهلب، فلم يعرض له ووصى بنيه، فقال :
- «إِيَّاكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة هذا الثّغر ما أقام هذا الرَّجل بمكانه، فإن قتل كان أَوَّل طالع عليكم أميراً على خراسان رجلٌ من قيس».
فمات المهلب، وولى يزيد فلم يعرض له.
وكان المهلب ضرب حُريث بن قطبَةَ الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى فلمَّا وَليَ يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحُرمهما، وقتل أخاً لأمهما يُقال له الحارث بن مُنقذ. فبلغهما صنيع يزيد وكان ثابت محبباً في العجم بعيدَ الصَّوت فيهم يُعظمونه ويثقون به، حتَّى إنهم كانوا يحلفون بحياته فلا يكذبون. فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صُنع به فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسِّيل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله وقد سقط إلى موسى فلُّ عبد الرحمن بن عبّاس القرشي من هراة وفل ابن الأشعث من العراق وغيرهم.
ص: 251
فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن. فقال له ثابت:
- «سر حتّى تقطع النهر، فتخرج يزيد بن المهلب من خراسان ونُوليك، فإنَّ طرخون ونيزك والسِّيل وأهل بخارى معنا»..
فهَمَّ أَن يفعل، فقال له نصحاؤه :
- «إِنَّ ثابتاً وأخاه خائفان من يزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان تولّيا الأمرَ وغلباك على خراسان، فأقم بمكانك».
فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت :
- «إِن أَخرجنا يزيدَ َقدِمَ عامل عبد الملك ولكنَّا نُخرج عُمَّال يزيد من وراء النهر ما يلينا، ونُحصل لنا ما وراء النهر فنأكلها».
ورضي ثابت، وأخرج عُمّال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، فقوي أمرهم.
وانصرف طرخون ونيزك والسيل وأهل بخاري إلى بلادهم وتدبير الأمر كله لثابت وحريثٍ، والأمير موسى ليس له غير الاسم. فألحَّ أصحاب موسى عليه في الفتك بثابت وحريث، فأبى وقال :
- «ما كنتُ لأغدر بهم».
فبينا هم على ذلك إذ أخرجت عليهم الهياطلة والتبتُ والترك في سبعين ألفاً لا يعدون الحاسِرَ ولا صاحبَ بَيضةٍ جماء إلا أن تكون البيضة ذات قونَس. فخرج موسى لقتالهم إلى ربض المدينة، ووقف ملك التُّرك على تل في مائة ألف.
فقال موسى لأصحابه :
- «إن أزلتم هؤلاء، فليس الباقون بشيء».
فقصد لهم حريث، وألح عليهم حتَّى أَزالهم عن التَّلِّ، ورُمي حريثٌ في جبهته بنُشَّابةٍ. ثمَّ بيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتَّى وصل إلى شمعة ملكهم، فقتله وقتل العجم قتلاً ذريعاً، ونجا من نجا منهم بشر. ومات حريث بعد يومين وحملوا الرُّؤوس إلى التّرمذ، فبنوا من تلك الرؤوس جوسقين.
فقال أصحاب موسى:
- «قد كُفيتَ أَمر حريث، فأرحنا من أمر ثابت».
فأتى وبلغ ثابتاً بعض ما يخوضون فيه، فدسَّ غلاماً كان في خدمة موسی وأَعطاهُ مالاً وقال له :
ص: 252
- «إِيَّاك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك : من أنت؟ فقل : من سَبى باميان».
فكان الغلام ينقل إلى ثابت خبرهم إلى أن واقفوا يوماً موسى على الفتك بثابت. فقال موسى :
- «قد أكثرتم، وفيه هلاككم، فعلى أي وجه تفتكون به وأنا لا أغدر به؟».
فقال نوح بن عبد الله بن خازم :
- «إذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك». فقال :
- «أَما والله، إِنَّه لَهَلاككم».
فخرج الغلام، فأعلمه، فخرج من تحت ليلته، وأصبحوا وقد ذهب وفقد الغُلام. فعلموا أنَّه كان عيناً له عليهم، وخرج إلى ثابت قوم، فقصد خشوان. فقال موسى:
- «قد فتحتم على أنفسكم باباً فسُدُّوهُ».
وسار إليه موسى، وراسل ثابت طرخونَ، فأقبل معيناً له، وبلغ موسى مجيءُ طرخونَ، فرجع إلى التّرمذ، وصار ثابت في ثمانين ألفاً، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادَّة حتَّى جُهدوا. فلما اشتدَّ عليهم الحصار، قال يزيد بن هذيل :
- «إِنَّما مقام هؤلاء مع ثابت والله أفتكنَّ بثابت، أو لأموتنَّ، فالقتل أحسن من الموت جوعاً».
فخرج إلى ثابت مستأمناً، فقال ظهير لثابت :
- «أنا أعرف بهذا منك والله ما أتاك رغبةً فيك، ولا جزعاً منك، ولقد جاءك بغدرة، فخلني وإياه». فقال:
- «ما كنتُ لأقدم على رجل أتاني لا أدري أكذلك هو أم لا»، قال:
- «فدعني أرتهن منه رهنا». قال :
- «أَمَّا هذا فنعم».
فقال ثابت ليزيد بن هذيل :
- «أَمَّا أَنا فواثق بك وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يقول لك».
فقال يزيد لظهير :
- «أبيتَ يابا سعيد إلا حسداً. ما يكفيك ما ترى من الذُّلِّ، تشرَّدتُ عن العراق عن أهلي، وصرتُ بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرَّحم؟».
فقال له ظهير :
ص: 253
- «أما والله لو تُركتُ ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا ابنيك قدامة والضَّحَّاك».
فدفعهما، فكانا في يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، فلا يجدها حتّى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلاً إلى زيادٍ ليُعَزِّيَهُ ومعه ظهيرٌ وطائفةٌ من أصحابه وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدم ظهير في أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه في نهر الصُّغانيان، فنجا سباحةً، وحمل ثابت إلى منزله.
فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير :
- «ائتني بابني يزيد».
فأتاه بهما فقتلهما، وكان يزيد بن هذيل سخيًا شجاعاً شاعراً، وعاش ثابت سبعة أيَّام، ثمَّ مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياماً ضعيفاً وانتشر أمرُهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاءَ رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال :
- «موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلةَ أحد العسكر».
فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثلاثمائة، وأخوه في ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل في ثلاثمائة، ورقبة بن الحُرِّ في ثلاثمائة، وقال لهم :
- «تفرَّقوا أرباعاً حتّى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرُّ أحد منكم بشيء إلا ضربه».
فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرون بدابَّةٍ ولا رجل ولا خباء، ولا جُوالق إلا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن خازم على سرادق طرخون. فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح في خاصرته فشب ودلّى بنوح حتّى سقط في نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسی:
- «كُفَّ أَصحابك، فإنَّا نرتحل إذا أصبحنا».
فرجع موسى إلى عسكره وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كل قوم بلادهم.
فكان أهل خراسان يقولون :
- «ما رأينا قط مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان، حتَّى أتى مَلِكاً، فغلبه على مدينته، ثم سار إليه الجنود من العرب والعجم والتُّرك».
ص: 254
فكان يقاتل العرب في أَوَّل النَّهار والعجم آخر النَّهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يُعازُّهُ فيه أَحدٌ.
فلما ولي المفضَّل خراسانَ أَخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال:
- «إنِّي أُريد أن أُوجِّهك إلى موسى بن عبد الله». قال:
- «والله لقد وترني، وإنّي لثائرٌ بابن عمي ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني، وشرَّدتم بني عمي، واصطفيتم أموالهم».
فقال له المفضّل :
- «دَع عنك هذا، وسرْ، فأدرك بثأرك».
فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له :
- «مُر منادياً فَلْينادِ : مَن لحق بنا فَلَهُ ديوان».
فنادى بذلك في السوق، فتسارع النَّاس، وكتب المفضّل إلى أخيه مُدرك وهو ببلخ أن يسير معه فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يُعرف اليوم بجزيرة عثمان، في خمسة عشر ألفاً، وكتب إلى السِّيل وطرخون، فقدموا عليه وحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرَّةٍ، فقال يوماً لأصحابه :
- «حتَّى مَتى؟ اخرجوا بنا، فاجعلوه يومَكم، إمَّا ظفرتم وإِمَّا قُتلتُم».
وقال لهم :
اقصدوا لِلصُّغد والتُرك».
وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة وقال له :
- «إن قُتلتُ فلا تُسلمَنَّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مُدرك بن المهلب».
وخرج وصير بإزاء عثمان قوماً من أصحابه وقال :
- «لا تُهايجوه حتَّى يُقاتلكم».
وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والتركُ، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرَّت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم فعُقر به، فسقط، فنادى مولى له :
- «احملني ويحك».
فقال :
- «الموت كريهٌ، ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا معاً، وإن هلكنا هلكنا معاً». فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب فقال :
ص: 255
- «وثبة موسى ورب الكعبة».
فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابَّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة في يد النضر، فدفعها إلى مُدرك وآمنه، وكتب المفضَّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك في سنة خمس وثمانين.
كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذُؤيب الخزاعي، ويكنى أبا إسحاق، وكان خاصا به، وكان يتولى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محله منه أَنَّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثم يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها.
وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز بعد عبد الملك، فهمَّ عبد الملك، لما تمكن واستقام أمره، بخلعه والعقدِ لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال :
- «انتظرُ، فلعل الموت يأتي عليه فيكفيكه».
وكان قلده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثم دخل على عبد الملك فعزّاهُ بأخيه، وعقد لأبنيه الوليد وسليمان العهد بعده وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه.
وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيُحكى أنه حضر زفر بن الحارث يوماً عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث :
- «كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟»
فقال زُفَرُ :
- «الحمد لله الذي نصرك على كُرْهِ مَن كَرِهَ».
فقال أبو الزعيزعة :
ص: 256
- «ما كره ذلك إلا كافر».
فقال له زُفَر :
- «كذبت! قال الله عزّ وجلَّ لنبيه :«كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ» [الأنفال : 5] أَمؤمنين سماهم أَم كُفَّاراً؟».
فغضب عبد الملك، فقال زُفَرُ :
- «يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قُلتُ : الحمد لله الذي نصرك، فقد كنتَ مسروراً بذلك، أما كنتَ تمقتني ويمقتني الله وأنا أُقاتلك تسع سنين؟» فقال له :
- «صدقت».
وكان يكتب له روح بن زنباع وروحٌ هذا هو الذي همَّ به معاوية، فقال له :
- «يا أمير المؤمنين، لا تُشتمنَّ بي عدوّا أَنتَ وَقَمتَهُ، ولا تسوءنَّ فيَّ صديقاً أنت سررته، ولا تهدمَنَّ رُكناً أَنتَ بنيته. هلَّا أَتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي!».
فأمسك عنه.
وكان يكتب له ربيعة الغار الحرشي. وكان استشاره عبد الملك في تقليد الوليد ابنه العهد، فقال :
- «أمهلني سنة».
فأمهله. فلما انقضت عاوَدَهُ وقال :
- «إِنِّي عزمتُ أَن أُولِّيه شيئاً من النواحي، فإذا مضت له مدة قلدته العهد». فقال :
- «يا أمير المؤمنين، إنّك بعثت الوليد يقسم الأموال بين النَّاس ما رضوا عنه، فكيف تبعثه جابياً؟ إن احتاط ذُمَّ، وإن رفق عجز، وأنت تريد أَن تُجيبه، فولِّه المعاونَ والصوائف، فيكون ذلك شرفاً وذكراً».
وكتب له صالح بن عبد الرَّحمن مولى بني مُرَّة بن عُبيد بن تميم من سبي سجستان، ويُكنّى صالح أبا الوليد، وهو الذي نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية. وكان ذلك أَنَّ الدَّواوين كانت تجري فيها وجوه الأموال بالفارسية.
ص: 257
وكان بالبصرة والكوفة ديوان بالعربيَّة لإحصاء النَّاس وأرزاقهم وأعطياتهم، وهو الذي كان عُمرُ رسمه. وكان بالشَّام أيضاً ديوانان: أحدهما بالرومية، والآخر بالعربيَّة، فجرى الأَمرُ عليه إِلى أَيّام عبد الملك، وكان إذ ذاك يتقلد ديوان الفارسية زادانفرُّوخ، فخلفه عليه صالح بن عبد الرَّحمن، فخفَّ على قلب الحجاج وحضَّ به. فقال لزادانفرُّوخ :
- «إِنِّي قد خففتُ على قلب الحجاج، ولستُ آمَن أَن أُزيلك عن محلك لتقدیمه إِيَّاي، وأنت ربيبي».
فقال له زادانفرُّوحُ :
- «لا تفعل، فإنَّه إليَّ أحوج مني إليه». فقال له :
- «وكيف ذلك؟» قال :
- «لا يجد من يكفيه الحساب».
فقال له صالح :
- «لو شئتُ حوّلته إلى العربية». فقال له :
- «فحوِّلُ منه سطراً».
فحوَّلَ منه شيئاً كثيراً.
فقال زادانفروخ لأصحابه :
- «التمسوا كسباً غير هذا».
فلما بلغ الحجاج ذلك أمر صالحاً بنقل الدواوين، فنقلها إلى العربية في سنة ثمانٍ وسبعين. وكان عامَّةُ كُتّاب العراق تلامذه صالح.
ولمَّا هم صالح بنقل الدواوين، قال له بعض كُتّاب الفُرس :
- «كيف تصنع بواذ». قال :
- «أكتب وأيضاً». فقال :
- «كيف تصنع بدهیازده؟» قال :
- «أكتب عُشراً». فقال :
- «كيف تصنع بدهبوذه، وبنجيوذه؟» قال:
- «أكتب عشيراً ونصف عشير». قال له :
- «قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت الفارسية».
ص: 258
وقال الحجاج يوماً لصالح، وكان متهماً برأي الخوارج :
- «إني فكرت فيك فوجدتُ مالك ودمك حلالين لي وأنني غير آثم إن تناولتهما».
فقال صالح:
- «إِنَّ أغلظ ما في الأمر - أعزّ الله الأمير - أنَّ هذا القول بعد الفكر».
فضحك منه ولم يقل له شيئاً.
ومن كُتاب الحجّاج عُبيد بن المخارق قلده الحجاج الفوجتين، فوردها وقال:
- «هل ههنا دهقان يعاش برأيه؟» فقيل له :
- «هذا جميل بن بصبَهرى».
فأحضره وشاوره، فقال له جميل :
- «خبرني أقدمت لرضى ربِّك، أم رضى نفسك، أم رضى من قلدك ؟» فقال :
- «ما استشرتك إلا برضى الجميع». قال:
- «فاحفظ عنِّي خِلالاً لا يختلف حُكمُك على الرَّعيَّة، ليكنْ حُكمك على الشريف والوضيع سواءاً، ولا تتَّخذن حاجباً ليردَّ عنك الواردَ من أَهل عملك، وليكُنْ على ثقة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيّبك عُمَّالك، ولا تقبل هديَّةً، فإِنَّ صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفاً لها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم».
قال : فعملتُ بوصيّته فجبيتُها خمسة عشر ألف ألف درهم.
وكان يزيد بن أبي مسلم - واسم أبي مسلم دينار من موالي ثقيف - كاتباً للحجاج، وكان أخاه من الرَّضاعة. فتقلد له ديوان الرَّسائل، وكُنيته أبو العلاء. وكان الحجاج يُجري له في كلِّ شهر ثلاثمائة درهم، فكان يُعطي امرأته خمسين درهماً، ويُنفق في ثمن اللحم وما يتصل به خمسة وأربعين درهماً، ويُنفق باقيها في ثمن الدقيق وسائر عوارض نفقته، وإن فضل منها شيء ابتاع به ماءاً وسقاه المساكين، وربّما ابتاع قُطفاً وفرَّقها فيهم وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجاج.
وحُكي أَنَّ الحجّاج عاده من علةٍ اعتلَّها، فوجد بين يديه كانوناً من طين ومنارة خشب، فقال:
- «يا أبا العلاء، ما أرى أرزاقك تكفيك». فقال :
ص: 259
- «إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني، فثلاثون ألفاً لا تكفيني»
ويزيد بن أبي مسلم هو الذي نبَّه الحسن البصري على الاستتار حتى سلم من الحجاج، وذلك أنه لقيه خارجاً من عنده فقال له :
- «توارَ يا أبا سعيد، فإنى لست آمن أن تتبعك نفسُه».
فتوارى عنه وسلم منه. وقيل : إِنَّه استتر تسع سنين.
وبلغ عبد الملك أَنَّ بعض كتابه قبل هدية، فقال له :
- «أقبلت هديَّةً منذ وليتك؟» فقال :
- «أُمورك، يا أمير المؤمنين مستقيمة والأموال دارَّة، والعُمَّال محمودون، و خراجك موفّر». فقال :
- «أَخبرني عما سأَلتُك». قال :
- «نعم، قد قبلت». قال :
- «فوالله لئن كنت قبلت هديَّة لا تنوي مكافأة للمُهدى لها، إِنَّكَ لَدَني ولئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفي رجلاً لم تكن لتستكفيه لولاها، إنَّك لخائن، ولئن كنتَ نويتَ تعويض المُهدى عن هديته ولا تخون له أمانة ولا تثلم له ديناً، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك ساير مجاوريك، وسَلْبَكَ هيبة السلطان، وما في مَن أتى أمراً لم يخلُ فيه، من لؤمٍ أو دناءة أو خيانة أو جهل مصنع».
وخلعه عن عمله.
ص: 260
وبويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة. فخطب الناس لما انصرف من دفن أبيه، وقال في آخر خطبته :
- «أيُّها النَّاس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنَّ الشيطان مع الفرد. أيُّها النَّاس، من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه».
ثم نزل وحاز أدوات الخلافة وأثاثها، وكان جبَّاراً عنيداً.
وفي هذه السنة وهي سنة ست وثمانين، ورد قتيبة بن مسلم إلى خراسان فقدمها والمفضّل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو الموضع الذي يُقال له : أخرون وشُومان. فخطب الناس قتيبة، وحنّهم على الجهاد، وسار، فلما كان بالطَّالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم، فساروا معه. فلما قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب. فدعاه إلى بلاده. فمضى مع تيش إلى الصغانيان، فسلَّم إليه بلاده. وسار قتيبة إلى أخرون وشومان وهما من طخارستان فجاءَه صاحبها، فصالحه على فدية أداها، فقبلها قتيبة ورضي، وانصرف إلى مرو، واستخلف أخاه صالحاً، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسان انبجغر، وكان معه نصر بن سيار، فأبلى يومئذ، فوهب له قريةً تدعى سحابه. ثمَّ قدم صالح على قتيبة بعد ذلك فاستعمله على الترمذ، وغزا قتيبة بعد ذلك بَيكَند، وهي أدنى مدائن بخاری، فلما نزل بعقوتهم استنصروا السُغد، واستمدّوا مَن حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطَّرُق، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر نحو شهرين وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق على الجند، وأمر الناس بالدُّعاء لهم في المساجد وهم يقتتلون في كل يوم. وكان لقتيبة عين يُقال له تُندَر من العجم، فأعطاه أهل بخارى مالاً على أن يفتأ عنهم قتيبة.
أقبل تُندَرُ إلى قتيبة، فقال :
- «أخلِني»!
فنهض النَّاس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضّبي، فقال تُندَرُ :
- «هذا عامل يقدم عليك وقد عُزل الحجّاج، فلو انصرفت بالنَّاس إلى مرو».
ص: 261
فدعا قتيبة مولاه سيا، فقال له :
- «اضرب عُنقَ تُندَر»!
فقتله.
ثم قال لضرار :
- «لم يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أُعطي الله عهداً، إن ظهر هذا الحديث من أحد حتّى تنقضي حربنا، لألحقنك بتندر، فاملك لسانك، فإنَّ انتشار هذا الحديث يفتُ في أعضاد الناس».
ثمَّ أَذن للنَّاس، فدخلوا فراعهم قتلُ تُندر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة :
- «ما يردعكم من قتل عبد أحانه الله». قالوا :
- «كُنَّا نظنه ناصحاً للمسلمين». قال :
- «بل كان غاشا، قد مضى لسبيله بذنبه فاغدوا على قتال عدوكم وألقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به».
فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحض أهل الرايات. فكانت بين النَّاس مشاولةٌ. ثمَّ إنَّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتّى زالت الشمس، ثمَّ منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرَّقوا وركبهم المسلمون قتلاً وأسراً، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصَّلحَ فصالحهم، واستعمل عليهم رجلاً من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلما سار مرحلتين نقضوا وكفروا وقتلوا العامل وأصحابه وجدَعوا أنفهم وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة رجع إليهم وقد تحصنوا فقاتلهم شهراً، ثمَّ وضع الفعلة في أصل المدينة، فعلَّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلقونه، فقتل أربعين رجلاً من الفعلة، فطلبوا الصلح فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوةً، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان في من أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش التُّركَ على المسلمين. فقال لقتيبة :
- «أنا أفدي نفسي».
فقال له سليم الناصح :
- «ما تبدل»؟ قال :
- «خمسة آلاف حريرة صينية قيمتها ألف ألف 1,000,000».
ص: 262
قال قتيبة :
- «ما ترون»؟ قالوا :
- «نری أنَّ فداءَه زيادة في غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا»؟
قال :
- «لا والله، لا يروّع بك مسلم أبداً».
وأمر به فقُتل وأصاب فى بَيْكَند من آنية الذهب والفضة ما لا يُحصى. فولَّى الغنائم والقسم عبد الله بن وأْلان وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خَبَثَ ما أَذابا، فوهبه لهما، فأُعطيا به أربعين ألفاً، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا في بيكند شيئاً كثيراً، فصار في أيدي المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.
كان السبب الذي سَمَّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنَّ مسلماً الباهلي قال لو ألان.
- «إِنَّ عندي مالاً أحب أن استودعكه». فقال :
- «أتريد أن يكون مكتوماً أو لا»؟
فكره أن يعلمه الناس. قال :
- «لا، بل أُحبُّ أن تكتمه». قال :
- «ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا». وأمره إذا رأى رجلاً جالساً في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال :
- «نعم».
فجعل المسلم المال في خُرج وحمله على بغل وقال لمولى له:
- «انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلاً جالساً، فخَلَّ عن البغل وانصرف». فانطلق الرَّجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له فانصرف، وجاء رجلٌ من بني تغلب، فجلس في ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرَّجلَ جالساً، فخلَّى عن البغل ورجع. فقام التَّغلبي، فلما رأى البغل والمال ولم يَرَ
ص: 263
معه أحداً قاد البغلَ إلى منزله وقبض المال إليه.
وكان ظنَّ مسلمٌ أنَّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه وقال :
- «مالي». قال :
- «ما قبضتُ شيئاً ولا لك عندي مال».
فكان مسلم يشكوه ويتنقصه. فأتى يوماً مجلس بني ضُبيعة فشكاه، والتَّغلبيُّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال فأخبره فانطلق به إلى منزله وأخرج الخرج إليه، وقال:
- «أتعرفه»؟ قال :
- «نعم»، قال :
- «والخاتم»؟ قال :
- «نعم». قال :
- «فاقبض مالك».
وأخبره الخبر فكان مسلم بعد ذلك يأتي القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخونه فيعذره ويخبرهم الخبر.
غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجاج :
- «صورها لي والطُّرق إليها».
فبعث إليه بصورتها فكتب إليه الحجاج أن :
- «ارجع إلى مراغتك فتُب إلى الله عزّ وجلَّ ممَّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا».
فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك في سنة تسعين، من حيث أشار به الحجاج، فأرسل وردان خذاه إلى السُّغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلما جاءَتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد:
- «اجعلونا على حدة وخلوا بيننا وبين قتالهم».
ص: 264
فقال لهم قتيبة :
- «شأنكم، تقدموا».
فتقدَّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداءً أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعاً، ثمَّ جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة وجازوهُ حتَّى ضرب النساءُ وُجوهَ الخيل وبكين، وقاتلوهم حتَّى ردّوهم. فوقف الترك على نَشَرِ، فقال قتيبة :
- «مَن يُزيلهم لنا عن هذا الموقف»؟
فلم يُقدم عليهم أحدٌ والأحياء كلهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بني تميم فقال :
- «يا بني تميم، أنتم بمنزلة الحُطَمة، فيوماً كأيامكم، وفداؤكم أبي».
فأخذ اللواء وكيع بيده وقال :
- «يا بني تميم، أتُسلموني اليوم»؟ فقالوا :
- «لا يا أبا المُطرف».
وهُريم بن طحفة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسُهم. فأحجموا جميعاً، فقال وكيع :
- «یا هريم، قدم»!
ودفع إليه الرَّايةَ، وقال :
- «قدم خيلك».
فتقدَّم هُريم ودبَّ وكيعٌ في الرِّجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو، فوقف وقال له وكيع :
- «أُقحِمْ يا هريم».
فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول وقال :
- «أنا أورد وأُقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنَّك لأحمق». قال :
- «يا بن اللخناء لا أراك تردُّ أمري».
وحدفه بعمود كان معه. فضرب هُريم فرسَه فأقحمه وقال :
- «ما بعد هذا أشدَّ من هذا».
وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر
ص: 265
وقال لأصحابه :
- «من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومَن لا فَلْيثبت مكانه».
فما عبر معه إلأ ثمانمائة رجل، فدبَّ حتّى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتَّى إذا دَنوا من العدوّ جعل الخيل مُجنَّبتين، وقال لهريم :
- «إني مطاعن القوم فاشغلهم عنا بالخيل وقل للنَّاس : شُدُّوا».
فحملوا، فوالله ما انثنوا حتَّى خالطوهم، وحمل هريم في خيله عليهم، فطاعنوهم بالرماح، فما كفُّوا عنهم حتّى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة :
- «من جاءَ برأس فله مائة».
فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلاً من بني قريع كل رجل يجيء برأس، فيقال:
- «ممن أنت»؟ فيقول :
- «قريعي».
فجاءَ رجل من الأزد برأس، فقالوا له :
- «مَن أنتَ»؟ فقال:
- «قريعي».
قال : وجهمُ بن زَحْرٍ قاعد، فقال:
- «كذب والله أصلح الله الأمير، والله لابنَ عمي».
فقال له قتيبة :
- «ويحك! ما الذي دعاك إلى هذ»ا؟ قال :
- «رأيتُ كلَّ من جاءَ برأس قال : قريعي. فظننتُ أنَّه ينبغي لكلِّ من جاءَ برأس أن يقول ذلك».
فضحك قتيبة حتى استغرب.
وفتح الله على يديه بخارى، وفض أولئك الجمع. فلما تمَّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتّى وقف قريباً من عسكر قتيبة وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلاً يكلمه، فأمر قتيبة رجلاً، فدنا منه فسأل الصَّلحَ على فديةٍ يُؤَدِّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه وأخذ منه رهناً حتّى يبعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك.
ص: 266
أما طرخون فقد ذكرنا أنَّه هاب قتيبة فصالحه، وأما نيزك فإنَّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنه لما فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصته :
- «إني قد هبتُ هذا العربي لما يتم على يده من الفتوح وأنا معه ولستُ آمَنُه، وذلك أنَّ العربي بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص، وإن أنا غزوتُه ثمَّ أرضيتُه شيئاً نَسِيَ ما صنعتُ به، وقد قاتله طرخون مراراً فلما أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعتُ، كان الرأي». قالوا :
- «فافعل».
فاستأذنه في الرجوع إلى طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه :
- «أحِدُّوا السَّيرَ».
فساروا سيراً شديداً حتّى أتوا النَّوبهار، فنزل يصلي فيه ويتبرك به، وقال لأصحابه :
- «إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنَّه لا يبلغ البروقان حتَّى يبلغ طخارستان».
فبعث المغيرة رجلاً فلا يدركنا حتَّى نبلغ شعب خلم، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلما مرَّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذٍ خراب - ركب نيزك في أصحابه فمضَوا، وقدم الرَّسول على المغيرة وهو بالبروقان في طلبه فوجده قد دخل في شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم الرَّبيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابلشاه يستظهر به وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطر إليه، أن يأتيه ويؤمنه في بلاده فأجابه إلى ذلك، وضمَّ ثَقَلهُ. وكان جبغويه ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلا أنَّه كان ضعيفاً واسمه الشَّدُّ، فأخذه نيزك وقيَّده بقيد من ذهب مخافة أن يشعب عليه ويمنعه. فلما استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم النَّاصح، وكان محبَّباً مُصدَّقاً عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك في قبل الشتاء، وقد
ص: 267
تفرق عنه الجند، فلم يبق معه إلا أهل مرو، فبعث أخاه عبدَ الرَّحمن إلى بلخ في اثني عشر ألفاً إلى البروقان وقال :
- «أقم ولا تُحدث شيئاً، فإذا حسر الشتاء فعَسكِر وسر نحو طخارستان واعلم أنِّي قريب منك»..
فسار عبد الرَّحمن، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتّى إذا كان في آخر الشّتاءِ كتب إلى أهل أبرشهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأن ملكها طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وطلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحدٍ، وبلغ مرزبان مرو الرُّوذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الرُّوذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحداً، واستعمل عليها رجلاً، وخرج صاحب الجوزجان هارباً، فترك أرضه ولحق بالجبال، ثم مضى يتبع أخاه عبد الرَّحمن وكان خلف نيزك على فم الشِّعب مقاتلة، وترك أيضاً في قلعة من وراء الشعب مقاتلةً، فأقام قتيبة أَيَّاماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يُقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يُفضى إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو في ذاك متحيّرُ إذ قدم عليه الرُّؤب خان ملك الرُّؤب، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالاً ليلاً، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلوهم وهرب من كان في الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه،الشَّعبَ، وسار إلى نيزك، وقدَّم أخاه عبد الرحمن، وبلغ خبره نيزك، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثَقَله وأمواله إلى كابلشاه ومضى حتّى نزل الكُرَّزَ وعبد الرَّحمٰن بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرَّز، فتحرَّز نيزك في الكُرَّز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وذلك الوجه صعبٌ لا تُطيفه الدَّوابُ. فحصره قتيبة شهرين حتَّى قلَّ ما في يد نيزك من الطَّعام، وأصابهم الجُدري وجُدِّر جبغويه، وخاف قتيبة الشّتاء، فدعا سليماً النَّاصحَ فقال له :
- «انطلق إلى نيزك فاحتل أن تأتيني به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمِنْه واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك».
قال :
- «فإن كنتَ فاعلاً فاكتب إلى عبد الرَّحمن لا يخالفني». وكان بينهما فرسخان. قال :
- «نعم».
ص: 268
فكتب له.
فلمَّا قدم على عبد الرَّحمن، قال له :
- «ابعث رجالاً، فليكونوا على فم الشّعب، فإذا خرجتُ أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فليحولوا بيننا وبين الشعب».
قال : فبعث عبد الرَّحمن خيلاً، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة التي تبقى أياماً أوقاراً حتّى أتى نيزك، فقال له نيزك :
- «خذلتني يا سليم»! قال :
- «ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأتَ إلى نفسك، خلعت وغدرت». قال :
- «دعني من العتاب، ما الرَّأي»؟ قال :
- «الرأي أن تأتيه، فقد أمحكته وليس ببارح موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتُوَ بمكانه، هلك أو سلم». قال:
- «يا سلیم آتیه من غير أمان». قال :
- «ما أظنُّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضباً، ولكني أرى ألا يعلم بك حتّى تضعَ يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذلك أن يستحي منك ويعفو عنك». قال:
- «أترى ذاك»؟ قال :
- «نعم». قال :
- «إنَّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رَءاني قتلني».
قال سليم :
- «ما أتيتك إلأ لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوتُ أن تسلم وتعود حالك عندهإلى ما كانت. فأما إذا أبيت فأنا منصرف». قال :
- «فتغدَّ الآن». قال:
- «لأظنُّكم في شغل عن تهيئة الطّعام ومعنا طعام كثير».
ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغم ذلك نيزك وتبيَّن ذاك في وجهه. فقال له سليم:
- «يا أبا الهياج إنِّي لك من الناصحين، إني أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معي حتّى تأتي قتيبة». قال :
- «ما كنتُ لآتيه على غير أمان وإن ظنّي به أنَّه قاتلي وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر لي وأرجى أن يؤمنني». قال :
ص: 269
- «فقد آمنك، أفتتهمني»؟ قال :
- «لا». قال :
- «فانطلق معي».
فقال له أصحابه :
- «اقبلْ قولَ سُليم، فلم يكن ليقول إلا حقا».
فدعا بدوابه وخرج مع سليم فلما انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال :
- «يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإنّي أعلم متى أموت. أموتُ ساعة أعاين قتيبة». قال :
- «كلا»!
فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجُدري. فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم :
- «هذا أوّل الشَّرِّ». قال :
- «لا تفعل، تخلَّفُ هؤلاء عنك خيرٌ لك».
وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم. فأرسل رسولاً إلى قتيبة يُعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرَّحمن أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسام الليثي وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك فجعل ابن بسام نيزك في قبته وحفر حول القُبَّة خندقاً، فوضع عليه حرساً، ووجه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكُرّز من المتاع ومَن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوماً يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له :
- «هل لك عندي عقد أو عند عبد الرَّحمن أو عند سليم»؟ قال:
- «لي عند سليم». قال:
- «كذبت».
وقام ودخل وردَّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيام ولا يظهر للنَّاس. وتكلَّم النَّاس في أمر نيزك، فقال بعضهم :
- «لا يحل قتله».
ص: 270
وقال بعضهم :
- «لا يحل له تركُه».
وخرج قتيبة في اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال:
- «ما ترون في قتل نيزك ؟».
فاختلفوا : فقال قائل :
- «اقتله». وقال قائل :
- «قد أعطيته عهداً، فلا تقتله». وقال قائل :
- «لا تأمنه على المسلمين».
فدخل ضرار بن الحصين الضَّبي. فقال :
- «ما تقول يا ضرار؟» قال :
- «أقول : إني سمعتك تقول : أعطيتُ الله لئن مكنني منه لأقتلنه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه».
فأَطرق قتيبه طويلاً ثمّ قال :
- «والله لئن لم يبقَ من أجلي إلا ثلاث كلمات لقلتُ : اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه».
وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقُتلوا وهم سبعمائة.
وفي رواية أخرى : إِنَّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة :
- «هل بك قوَّةٌ؟» قال :
- ««نعم، وأزيد».
وكانت في بكر أَعرابيَّةٌ، قال :
- «دونك هؤلاء الدهاقين».
فقتل يومئذ اثني عشر ألفاً، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تُدعى: وخْش خاشان.
ثمّ أذن قتيبة للسِّيل والشَّذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
وكان الحجاج يقول :
- «بعثت قتيبة فتى غرا. فما زدته ذراعاً إلا زادني كراعاً».
ص: 271
ثمَّ غزا قتيبة شُومانَ وكِسَّ ونَسَف ففتحها عنوةً، وسرَّح أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السُّغد، فسار حتَّى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رُهناً كانوا معه وانصرف عبد الرَّحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السُّغد لطرخون :
- «إِنَّك قد رضيت بالذُّلِّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ!» فقال :
- «إن عدونا قوي، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع الشملنا». فقالوا :
- «لا حاجة لنا فيك ». قال :
- «قولُوا من أحبيبتم».
فولوا غورك وحبسوا طرخون فقال طرخون :
- «ليس بعد سلب المُلك والحبس إلا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبُّ إليَّ من أَن يليه مني غيري».
واتَّكأَ على سيفه حتى خرج من ظهره.
وغزا قتيبةُ خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السُّغد، وذلك في سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفاً، فغلبه أخوه خُرَّزاذ على أَمره، وكان خُرَّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أَنَّ عند أحدٍ ممَّن هو منقطع إلى الملك، جاريةً أو دابَّةً أو متاعاً فاخراً، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أَنَّ عند أحدٍ منهم بنتاً أو أختاً جميلة أرسل فغصبه إيَّاها، فإذا شكي إلى الملك. قال:
- «لا أقوى عليه».
وقد ملأه مع هذا غيظاً. فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلَّ من كان يُضادُّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث في ذلك رسلاً ولم يُطلع أحداً من مزاربته على ما كتب به. فقدم رُسله على قتيبة في آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيَّأَ للغزو، فأَظهر قتيبةُ أَنَّه یرید السُّغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أَحبَّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم :
- «إن قتيبة يريد السُّغد وليس بغازيكم، فهلمُّوا نتنعَّم في ربيعنا».
فأَقبلوا على الشرب والتنعم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هَزار دَشت، فقال خوارزم شاه لأصحابه :
ص: 272
- «ما ترون؟» فقالوا
- «نرى أن نقاتله». قال :
- «لكنّي لا أرى ذلك، لأنَّه عجز عنه من هو أقوى منَّا وأَشدُّ شوكة، ولكنَّا نُؤدِّي إليه شيئاً نصرفه به عامنا ونرى رأينا». قالوا :
- «فرأينا رأيك».
فأَقبل خوارزم شاه حتّى نزل في مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهنَّ، وقتيبة في هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يُعينه على ملك خام جرد وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يُعادي خوارزم شاه فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلما جاء بهم عبدُ الرَّحمن أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه.
فحكى المهلب بن إياس أَنَّه أُخذت سيوف الأَشراف يُضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يُضرب به شيءٌ إلا أبانه. فحسدني بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلاً، فوقع في ضرس المقتول فثلمه.
قال : فرأيتُ السَّيف وكان أبو الذَّيَّال يقول : هو عندي بعينه
ولما أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المُجشِّر بن مزاحم السلمي فقال :
- «إِنَّ لي حاجةً فأخلني».
فأخلاه، فقال :
- «إن أَردتَ السُّغدِ يوماً من الدهر فالآن. فإنَّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإِنَّما بينك وبينهم عشرة أيام».
فقال له قتيبة :
- «أشار عليك أحدٌ بهذا؟» قال :
- «لا». قال :
- «فأعلمته أحداً؟» قال :
- «لا». قال :
ص: 273
- «فوالله لئن تكلم به أحدٌ لأضربن عُنقك»
فأَقام يومه ذلك. فلما أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال :
- «سر في الفرسان والمرامية وقدم الأثقال إلى مرو».
فوُجهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأَثقال يريد مرو يومه كله. فلما أمسى كتب إليه :
- «إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو، وسِرْ في الفرسان والمرامية نحو السُّغد واكتم الأخبار فإِنِّي بالأثر».
فلمَّا أَتى عبد الرَّحمن الخبرُ أَمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال :
- «إِنَّ الله عزّ وجلَّ، قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن وهذه السُّغد شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصُّلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم وقال الله عزّ وجلَّ: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» [الفتح: 10]. فسيروا على بركة الله فإِنِّي أَرجو أن تكون خوارزم والسُّغد كالنّضير و قريظة».
فأتى السُّغد وقد سبقه عبد الرَّحمن بن مسلم في عشرين أَلفاً، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال:
- «إِنَّا إِذا نزلنا بساحة قوم فساءَ صَباحُ المنذرين».
فحصرهم شهراً، فقاتلوه في حصارهم من وجه واحدٍ، وخاف أَهل السُّغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وأخشيذ فرغانة :
- «إنَّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أَتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم».
فأَرسلوا إليهم أَن :
- «أرسلوا إليهم من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم».
وانتخبوا فرساناً من أبناء المرازبة والأساورة والأَشدّاء الأبطال، فوجهوهم وأمروهم أَن يُبيتوا عسكرهم وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب قتيبة ثلاثمائة أو ستّمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
وكان ملك الشَّاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمَّا أَتاهم كتاب غورك قالوا :
- «إن صاحب السُّغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كُنَّا أَضعف وأَذلَّ، فَإِنَّا
ص: 274
والله ما نُؤتى إلا من سفلتنا وإنَّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيون بهذا الأمر».
فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم :
- «اخرجوا حتّى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنَّه مشغول بحصار السُّغد».
وولوا عليهم ابناً لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكينا من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم : شعبة بن ظهير، وزُهير بن حيان، وعدة من أمثالهم، فقال لهم :
- «إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيَّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غِرَّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضَّلكم الله بدينه، فأبلوا الله بلاءاً حسناً تستوجبون به الثواب مع الذَّبِّ عن أحسابكم».
ووضع قتيبة عيوناً على العدو، حتَّى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم. فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم.
وفرَّق صالح خيله، وأكمن كميناً عن يساره ويمينه، حتّى إذا مضى نصف الليل أو ثُلثاهُ جاءَ العدو باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله. فلما رأوه شدوا عليه حتّى إذا اختلفت الرماح شدَّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم يُرَ قوم كانوا أشد منهم.
فتحدَّث شعبة قال : إِنَّا لنختلف عليهم بالضرب والطَّعن إذ تبينتُ قتيبة، فضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت :
- «كيف ترى بأبي أَنتَ وأُمِّي؟» فقال :
- «اسكت دقّ اللَّهُ فاك».
فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلابَ، ونحتزُّ الرُّؤوس حتَّى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر. فلم أرَ قط جماعة جاؤوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلقاً رأساً معروفاً باسمه، وسلبا من جيّد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فُره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال:
- «جزاكم الله خيراً عن الدين والأحساب».
ثمَّ أكرمني من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيَّانَ العدوي وحُليساً الشَّيباني. فظننتُ أَنَّه رأى منهما مثل الذي رأى منّي. وكسر ذلك أَهل
ص: 275
السُّغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبي قتيبة وقال :
- «انا ثائر بدم طرخون - يعني صاحبَهم - كان مولاي وفي ذمتي».
ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو في ذلك لا يُقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم.
فأرسل إليهم غورك :
- «إِنَّكَ إِنَّما تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من العجم فأخرج إلى العرب».
فغضب قتيبة ودعا الجَدَليَّ وقال :
- «اعرض الناس وميز أهل البأس».
فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العُرفاء، فجعل يدعو برجل رجل فيقول :
- «ما عندك؟» فيقول العريف:
- «شجاع». ويقول:
- «ما هذا؟» فيقول :
- «محتضر». ويقول:
- «ما هذا؟» فيقول :
- «جبان».
فسمَّى قتيبةُ الجُبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيّد سلاحهم فأعطاه الشُّجعاء والمحتضرين، فترك لهم رثَّ السلاح، ثمَّ زحف بهم فقاتل بهم فرساناً ورجالاً، ورمى المدينة بالمجانيق فثلم فيها ثلمة فسدوها بغرائر الدخن، وجاء رجلٌ حتّى قام على الثَّلمة، فشتم قتيبة شتماً قبيحاً فضيحاً بالعربية. وكان مع قتيبة قوم رُماةٌ، فقال لهم :
- «اختاروا منكم رجلين».
فاختاروا. فقال :
- «أَيُّكما يرى هذا الرَّجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعتُ يده».
فتلكّأَ أحدهما وتقدم الآخر، فلم يُخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف.
فتحدث يحيى بن خالد بن ثابت مولی مسلم بن عمرو قال : كنتُ في رُماة قتيبة، فلما فتحنا المدينة صعدتُ السُّور، فأَتيتُ مقام ذلك الرَّجل الذي كان فيه، فوجدتُه ميتاً على الحائط ما أخطأت النُّشَّابةُ عينه حتى خرجت من قفاه.
ص: 276
ثمَّ أصبحوا من غدٍ فرموا المدينة حتّى ثلموا فيها. وقال قتيبة :
- «ألحّوا عليها حتّى تعبروا الثّلمة».
فقاتلوهم، ورماهم السُّغد بالنشاب، فوضعوا تِرَسَتهم على أعينهم، ثمَّ حملوا حتى صاروا على الثّلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة :
- «لا والله ما تصالحكم إلا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم».
فصالحهم من غدٍ على ألفي أَلف ومائتي ألف في كل عام، على أن يعطوه تلك السَّنة ثلاثين ألف رأس ليس فيه صبي ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أَن يُخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّي، ويوضع له فيها منبر، ويتغدى ويخرج.
فلما تمَّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلِّ خُمس برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة :
- «الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم في أيديكم».
ثمَّ أَخلوا المدينة وبنوا مسجداً ووضعوا منبراً، فدخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم. فلما دخلها أتى المسجد فصلى وخطب، ثمَّ تغدى. وأرسل إلى أهل السُّغد :
- «مَن أَراد منكم أن يأخذ متاعَه فليأخُذ، فإني لستُ خارجاً منها، وإنما صنعت هذا لكم ولستُ آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنَّ الجند يُقيمون فيها».
والباهليون يقولون : صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ما صالحهم عليه، وأتي بالأصنام فسُلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جُمعت، فأمر بتحريقها.
فقالت الأعاجم :
- «إِنَّ فيها أصناماً من حرقها هلك».
فقال قتيبة :
- «أَنا أُحرقها بيدي».
فجاءَ غورَك فجثا بين يديه وقال :
- «إِنَّ شكرك عليَّ واجب، لا تَعرَّض لهذه الأصنام».
فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبر، ثمَّ أَشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.
ص: 277
ومن مُلح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أن قتيبة أصاب بالسُّغد جاريةً رابعة من ولد يزدجرد فقال :
- «أترون ابن هذه يكون هجيناً؟» فقالوا :
- «نعم، يكون هجيناً من قبل أبيه».
فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجَّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
ولما فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلف عنده جنداً كثيفاً وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال:.
- «لا تدعَنَّ مشركاً يدخل باباً من أبواب سمرقند الا مختوم اليد، فإِن جَفَّت الطينةُ قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكيناً فما سواه فاقتله، وإن أغلقت البابَ ليلاً فوجدت فيها منهم فاقتله».
وقال قتيبة لما جمع بين فتح خوارزم و سمرقند :
- «هذا العِداء لا عِداء العيرين».
لأنه افتتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أَنَّ الفارس إِذا صَرَعَ في طَلْقٍ واحدٍ عَيرين، قيل : عادى بين عَيرين.
وفي هذه المدة التي ذكرنا فيها أُمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرَّحمن بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الرُّوم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطين، وغزالة، وحصن سورية، وعمورية وهِرَقْلة، وقمولية. وغزا أيضاً مسلمة بن عبد الملك في هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان.
وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدة مدن، وقتل ملكها، وكان رجلاً من أهل أصبهان، وكان ملوك الأندلس. يلقبون كما تُلقب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها الأذرينوق، فقتله موسى بعد قتال
ص: 278
شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أَرضَ الرُّوم.
وغزوات لمروان بن الوليد الرُّوم، فتحوا لهم مدناً وحصوناً.
ولم يذكر في جميع ذلك ما يُستفاد منه تجربة.
وقتل الحجّاج سعيد بن جبير في سنة خمس وسبعين.
قال: لمَّا أُتي الحجَّاجُ بسعيد بن جبير، قال :
- «لعن الله ابن النصرانية».
يعني خالداً القسري وهو الذي كان أرسل به من مكة.
- «.. أَتُراني ما كنتُ أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة».
ثمَّ أَقبل على سعيد، فقال :
- «يا سعيد، ما أخرجك عليَّ مع عدوّ الرَّحمن؟» قال:
- «أصلح الله الأمير، إِنَّما أنا رجل من المسلمين يُخطئ مرَّةً ويُصيب مرَّةً ».
قال : فطابت نفس الحجّاج وتطلق حتى رجونا أن يتخلص منه ثم عاوده في شيء، فقال:
- «إنما كانت له بيعةٌ في عنقي».
قال : فغضب الحجّاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال:
- «يا سعيد، ألم أقدم مكَّة فقتلتُ ابن الزبير، ثمَّ أَخذتُ بيعةَ أهلها وأخذتُ بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك ؟» قال :
- «بلی». قال:
- «ثم قدمتُ الكوفة والياً على العراق، فجدّدتُ لأمير المؤمنين البيعة فأخذتُ بيعتك له ثانية؟» قال :
- «بلی» قال :
- «فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسي اضرب عنقه.
ثم قام ليركب فوضع رجله في الركاب، وقال:
- «لا والله لا أركب حتّى تبوأ مقعدك من النار».
فضُربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول :
ص: 279
- «قُيودَنا قُيودَنا!».
فظُنَّ أَنه يريد القيود التي في رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أَنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يَراهُ في منامه كأَنَّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:
- «ما لي ولابن جُبير؟».
وفي هذه السنة مات الحجاج بن يوسف، وكان استخلف في مرضه على حرب العراقين والصَّلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مُسلم، فأَقرَّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعُمَّال الحجّاج، أَقرَّهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
وفيها مات الوليد بن عبد الملك في النّصف من جمادى الآخرة منها، وكان عند أهل الشام أفضل خلائفهم، وذلك أَنَّه بنی مساجدَ منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذمين وأفردهم، وقال:
- «لا تسألوا النَّاس».
وأَعطى كلَّ مُقعَدِ خادماً وكلَّ ضريرٍ قائداً.
وفتحت في ولايته فتوح عظام. أما موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أول مدائن الصين وفتح محمد بن القاسم الهند.
وكان الوليد صاحب بناء واتَّخاذ المصانع والضياع فكان النَّاسِ في أَيَّامه إذا التقوا فإِنَّما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والضياع.
ثم ولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري.
فلما ولي عمر بن العزيز، كانوا يلتقون فيقولون :
- «ما وِردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم ؟ وكم تصوم من الشهر».
وكان الوليد وسليمان وليي عهد عبد الملك. فلما أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يُبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان فأراده علي أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضاً، فعرض عليه أموالاً كثيرةً، فأبى. فكتب إلى عُمَّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا النَّاس إلى ذلك فلم يُجِبْه أَحدٌ إِلا الحجّاج وقتيبة.
فقال عبّاد بن زیاد
ص: 280
- «يا أمير المؤمنين، إنَّ النَّاس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فلْيَقدَم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنَّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبي كان الناس عليه».
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأَ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير.
وكان قتيبة قد غزا في هذه السَّنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصِّين. فلما بلغ فرغانة أَتاه موتُ الوليد، فوغل قتيبة حتّى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن :
- «ابعث إليَّ رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم».
فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً من أفناء القبائل لهم جمال وأجسام والسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبَّ، فكلمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولاً وجمالاً، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخز والوشي واللَّيِّن من الثّياب والرَّقيق والبغال والعِطر، وحملهم على خيول مطهَّمة تقاد معهم، ودواب يركبونها، وقال لهم :
- «سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّي قد حلفتُ أن لا أنصرف حتّى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم».
فساروا وعليهم هبيرة بن المُشَمرَج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمام، ثمَّ خرجوا، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، ثمَّ مسوا الغالية، وتدخنوا، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحدٌ من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره:
- «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا:
- «رأينا قوماً هم نساء، ما بقي منا أحدٌ حين رآهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده».
قال : فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه. فلما دخلوا إليه قيل لهم :
- «ارجعوا!».
ثم قال لأصحابه :
- «كيف رأيتم؟» قالوا:
ص: 281
- «هذه الهيئة أشبه بهيئة الرّجال من تلك الهيئة الأولى وهم أولئك».
فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدُّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السُّيوف، وأخذوا الرماح، وتنكَّبوا القِسيَّ وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مُقبلة. فلمَّا دَنَوا ركَّزوا رماحَهم، ثمَّ أَقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا :
- «ارجعوا!».
فانصرفوا. فلما ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثمَّ رفعوا خيولهم كأَنَّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه :
«كيف ترونهم؟» قالوا:
- «ما رأينا مثل هؤلاء قط».
فلما أمسى أَرسل إليهم أن ابعثوا إليَّ زعيمكم وأفضلكم رجلاً.
فبعثوا إليه هُبيرة، فقال له حين دخل عليه :
- «قد رأيتم عظيم مُلكي وأنه ليس أحدٌ يمنعكم مني وأنتم في بلادي بمنزلة الخاتم في كفّي، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم». قال :
- «سَلْ». قال :
- «لِمَ صنعتم ما صنعتم من الزّي في اليوم الأول والثاني والثالث؟» قال :
- «أَمَّا زيُّنا في اليوم الأوَّل فلباسنا في أهالينا، وأما يومنا الثاني، فإذا أَتينا أُمراءنا، وأَمَّا يومنا الثالث فزينا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كُنَّا هكذا». قال :
- «ما أحسن ما دبَّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت إليه مَن يُهلكه ويهلككم معه».
فأجابه هبيرة وقال :
- «كيف يكون قليل الأصحاب مَن أَوَّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا وراءه قادراً عليها وغزاك؟ وأَمَّا تخويفك إيَّانا بالقتل فإنَّ لنا آجالاً إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها».
فقال بعد أن أطرق:
- «فما الذي يُرضي صاحبَك؟» قال :
ص: 282
- «إنَّه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأَ أَرضَكم ويختم ملوككم ويُعطى الجزية».
قال :
- «فإنَّا نُخرجه جه من يمينه : نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها».
قال : فدعا بصحافٍ من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أَبناء ملوكهم. ثمَّ أَجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به.
فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال في ذلك سوادة بن عبد الله السلولي :
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم *** للصين لو سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على العِدَى خوف الرَّدى *** حاشا الكريم هبيرة بن مُشَمْرَج
لم يرضَ غير الختم في أعناقهم *** ورهائن دُفعت لحمل سَمَرَّج
أَدَّى رِسالتك التي استرعيتَهُ *** وأَتاكَ مِّن حِنْثِ اليمينِ بِمَخْرَج
قال : فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس.
وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشق شقتين، فيعطيهم شقة ويحتبس شقَّةً ويأمرهم أن يدفنوها في موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثمَّ يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.
ص: 283
وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدَّى أَمرُه إلى أن قتل.
كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان.
فلما مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان لمودة كانت بين يزيد بن المهلب وبين سليمان.
فكتب قتيبة كتاباً إلى سليمان يُهنئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويُعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنَّه على مثل ذلك له من الطَّاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان. ثمَّ كتب كتاباً آخر يُعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه.
ثمَّ كتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه.
وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال :
- «ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأَهُ ثُمَّ أَلقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأَهُ وأَلقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأَ الأَوَّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتيس الكتابين الآخرين».
فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع الكتاب الأَوَّل، فقرأه، ثمَّ أَلقاه إلى يزيد، ثمَّ دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثمَّ رمى به إلى يزيد، ثمَّ أعطاه الكتاب الثالث فتمعر لونه ثم دعا بطين فختمه. ثمَّ أَمسكه بيده. ثمَّ أَمر رسول قتيبة أن ينزل. فحُوِّلَ إلى دار الضّيافة. فلما أمسى دعا به سليمان، فأَعطاه صُرَّةً فيها دنانير فقال :
- «هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسِرْ، وهذا رسولي معك بعهده».
خرج الباهلي ومعه رسول سليمان. فلما كانا بحلوان تلقاهما الناس بخلع قتيبة
ص: 284
واضطراب الأمر. فدفع الرَّسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو.
فأَمَّا قتيبة فإنَّه لما همَّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمن:
- «اقطع بعثاً، فوجه فيه كلَّ مَن تخافه، ووجه قوماً إلى مرو وسِرْ حتَّى تنزل سمرقند، ثمَّ قُلْ لمن معك : من أَحبَّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنَّه لا يُقيم معك إلا ناصح».
وقال أخوه عبد الله :
- «اخلعه مكانك، وادعُ النَّاسَ إلى خلعه فليس يختلف عليك رجلان».
فأخذ برأي عبد الله فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب :
- «أَيُّها النَّاسِ، إني قد جمعتكم من عين التّمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمتُ بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاةَ قبلي، أتاكم أميَّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أَنَّ خراج خراسان لا يُقيم مطبخي، ثمَّ جاءكم أبو سعيد، فدوّم ثلاث سنين ولا تدرون : أَفي طاعة أنتم أم في معصية، لم يُجب فيئاً، ولا نَكا عدوا. ثمَّ جاءَكم بنوه بعده. فحلٌ تنازى إليه النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هَبنَّقةُ القيسي، فلم يُجبْهُ أَحدٌ.».
فغضب وقال :
- «. لا أَعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة، - ولا أقول العالية - يا أوباشِ الصَّدقة، جمعتكم كما تُجمع إبل الصَّدقة من كلِّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأي يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم ؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم - ولا أقول : تميم - يا أهل الخَوَر والقصف والغدر كنتم تُسمون الغَدر في الجاهليّة كَيْساً، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم من أبر النخل أعنّة الخيل يا معشر الأزد تبدلتم من قلوس السُّفن أعنّة الحُصُن. الأَعراب، وما الأعراب! يا كُناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحُمُر في جزيرة بني كاوان، حتّى إذا جمعتكم كما يُجمع قزع الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأَعصِبنَّكم عَصبَ السَّلمة. يا أهل خراسان هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأني بأمير قد جاءَكم، من جاءَ وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنَّ هاهنا ناراً ارمُوها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشَّام أَبٌ مبرور، والعراق أَب مكفور، حتّى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل
ص: 285
خراسان! انسبوني تجدوني عراقي الأب، عراقي الأم، عراقي المولد، عراقي الهوى والرَّأي والدِّين، وقد أصبحتم اليوم في ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سُبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد».
ثم نزل.
فأتاه أهل بيته، فقالوا :
- «ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودِثارك، حتّى تناولت بكراً وهم أعضادك وأنصارك، ثمَّ لم ترض بذلك حتّى تناولت تميماً وهم إخوتك، ثمَّ لم ترضَ حتّى تناولت الأزد وهم يَدُك».
فقال :
- «ويحكم! إني لما تكلَّمتُ فلم يُجيبوا غضبتُ، فلم أدر ما قلتُ. أَمَّا أَهل العالية فَكَإبلِ الصَّدقة وقد جمعت من كلِّ أوب، وأما بكر فإِنَّهَا أُمةً لا تمنعُ يَدَ لِامسٍ، وَأَمَّا تميمٌ فجمل أجرب، وأَمَّا عبد القيس فما تضرب العَيرَ بذَنَبه، وأَمَّا الأزد فَأَعلاج أشرار لو وسمتهم لما أَثمتُ».
فغضب النَّاس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضاً خلع سليمان. فكان أَوَّل من تكلم في ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أَن يُولُّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا :
- «قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نُوليك أمرنا وربيعةُ لا تُخالفك». قال :
- «لا ناقة لي في هذا ولا جمل». قالوا
- «فما ترى؟» قال:
- «إن جعلتم هذه الرئاسة في تميم تمَّ أمركم ». قالوا :
- «فمَن ترى من تميم؟» قال:
- «ما أرى أحداً غير وكيع».
فقال حيان النبطي وكان حاضراً :
- «إنَّ أَحداً لا يتقلد هذا الأمر ثمَّ يصلي بحرّه ويبذل دمه ويتعرّض للقتل، فإن قدم أَميرٌ أخذه بما جنى وكان المهنأَ لغيره إلا هذا الأعرابي - يعني وكيعاً - فإنه مقدام لا يبالي ما ركب ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برئاسته التي صرفها عنه وصيَّرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس الضَّبي».
ص: 286
فمشى النَّاس بعضهم إلى بعض سِرًّا، وقيل لقتيبة :
- «ليس يُفسر أمر النَّاس إلا حيَّان».
فأراد أن يغتاله وكان حيَّان كثير الملاطفة لحشم الولاة، فلا يُخفون عنه شيئاً. فدعا قتيبة رجلاً وأمره بقتل حيَّان وسمعه بعض الخدم. فأتى حيَّانَ فَأَخبره. فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض. وأتى الناس وكيعاً فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال:
- «نعم». وتمثل :
سأجني ما جَنيتُ وإِنَّ أَمري *** لَمُعتمد على نَضَدِ ركين
وبخراسان يومئذ من المقاتلة من جميع القبائل نحو من خمسين ألفاً ومن الموالي سبعة آلافٍ، وكان الذي يلي أمر الموالي حيَّان. ويُقال: إنه ديلمي، وقيل: بل هو من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنتِه.
فأرسل حيَّان إلى وكيع :
- «أَرأَيتَ إن كففتُ عنك وأعنتُكَ، أتجعل لي جانب نهر بلخ خراجه ما دمت والياً؟» قال :
- «نعم». فقال للعجم :
- «هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضاً». قالوا :
- «نعم».
فبايعوا وكيعاً سِرًّا. فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال له :
- «إن الناس يختلفون إلى وكيع ويُبايعونه».
فكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير أخي قتيبة فيشرب عنده، فقال عبد الله:
- «هذا يحسر وكيعاً والحديث باطل، وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه وهذا يزعم أنهم يبايعونه».
وجاءَ وكيع إلى قتيبة،فقال :
- «احذر ضراراً، فإنّي لا آمَنُه عليك».
فأنزل قتيبة ذاك على الحسد الذي بينهما. وتمارض وكيع، فدسَّ قتيبة ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع، فبايعه سرا، فتبين لقتيبة أمرُه، فدعا ضراراً وقال له :
- «كنتُ صدقتني». قال :
- «لم أخبرك إلا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد». قال:
ص: 287
- «صدقت».
فأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده الرَّسول قد طلى على رجليه مَغْرةً وعلّق عليها خرزاً وعنده من يرقيه. فقال له :
- «أجب الأمير». قال :
- «قد ترى ما برجلي».
فرجع الرَّسول إلى قتيبة، فأعاده إليه وقال :
- «إيتني به محمولاً على سرير». قال
- «لا أستطيع».
فقال قتيبة لشريك بن الصامت، وكان على شرطته، ولرجل آخر من غني :
- «انطلقا إلى وكيع فأتيا به، فإن أبى فاضربا عُنقه».
ووجه معهما خيلاً فقال هريم بن طخفة :
- «أنا آتيك به أصلحك الله». قال :
- «فانطلق».
قال هريمٌ: فركبتُ برذوني وركضتُ مخافة أن يردني، فأتيتُ وكيعاً وقد سبق إليه الخبر والخيل تأتيه.
فخرج وخرج معه هريم وهو على يمينه. ونادى وكيع في النَّاس، فأقبلوا أَرسالاً من كلِّ وجه، وأقبل في الناس وهو يقول :
قرمٌ إذا حُمِّل مكروهةً *** شدَّ الشَّراسيف لها والحزيم
وأمر قتيبة رجلاً فقال :
- «نادِ في النَّاس : أين بنو عامر؟» فنادى :
- «أين بنو عامر ؟» فقال له مجفر بن جزء الكلابي :
- «وقد كان جفاؤهم حيث وضعتهم». قال :
- «ناد : أذكِّركم الله والرحم».
قال مُجفَر :
- «أَنتَ قطعتها». قال :
- «نادِ لكم العتبى».
فناداه مُجفَر وغيره :
ص: 288
- «لا أقالنا الله إذاً».
فدعا قتيبة ببرذون له مدرّب كان يلجأ إليه في الزحوف، فقُرِّب إليه، فجعل يقمص حتَّى أعياه. فلما رأى ذلك عاد إلى سريره وقال :
- «دعوه، هذا أمر يُراد».
وجاءَ حيَّان النّبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله مسلم، وقال لحيَّانَ :
- «احمل على أحد هذين الطرفين». قال :
- «لم يأن لي ذلك».
فغضب عبد الله وقال :
- «ناولني قوسي». فقال:
- «ليس هذا يومَ قوس».
وأرسل وكيع إلى حيان :
- «أين ما وعدتني؟».
فقال حيان لابنه :
- «إذا رأيتني قد حوّلتُ قلنسوتي ومضيتُ، فمِل بمن معك من العجم إليَّ».
ففعل، ومالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه. وبعث قتيبة أخاه صالحاً إلى النَّاس، فرمى بسهم فأصاب هامته فحمل إلى قتيبة مائل الرّأس، وتهايج النَّاس، وأقبل عبد الرَّحمن بن مسلم،نحوهم فرماه أهل السُّوق والغوغاء فقتلوه، ودنوا من قتيبة، فدعا بدابَّة فأتي به، فلم يقر ليركبه، فقال:
- «إنَّ له لشأناً».
ورجع فجلس، وجاءَ النَّاس حتّى بلغوا فسطاطة، فخرج عنه من كان حوله فقُتل وقُتل معه من بني مسلم أحد عشر رجلاً سبعة منهم لصلب، وأربعة من بني أبنائهم، فصلبهم وكيع، وهم: قتيبة، وعبد الرحمن وعبيد الله، وعبد الله الفقير وصالح، ويسار، ومحمد بنو مسلم، وكثير بن قتيبة، ومفلس بن عبد الرحمن، ورجلان آخران، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو، وكان عامل الجوزجان، وضرارِ أخوه استنقذ أخواله، وكانت أمه الغراء بنت ضِرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. وسقطت على قتيبة يوم قتل جاريةٌ له خوارزمية، فوضعت بعد ليزيد بن المهلب، فأخذها، فهي أم خليدة.
ص: 289
ولما قتل قتيبة صعد وكيع المنابر، فعلم منه أَنَّه يأتي بآبدةٍ وهَوَجةٍ.
فصعد معه عمارة بن خئيَّه، فتكلم فأَكثر، فقال وكيع :
- «دعنا من هَذَرك وقذرك».
وتكلم وكيع فقال :
مثلي ومثل قتيبة، ما قال الأَوَّل:
مَن يَنكِ العيرَ *** يَنِك نيَّاكا
من أي يوميك من الموت تفرُّ *** أَيومَ لم يُقدَرْ، أَم يومَ قُدر
- «أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتَّال والله لأقتلن ثمَّ لأقتلن، ثمَّ لأَصلبن. إِنِّي لوالغُ دِماءاً، إلا أَنَّ مِرزبانكم هذا ابن الزَّانية قد أغلى أسعاركم، والله ليصيرنَّ القفيزُ في السُّوق غداً بأربعة، أو لأصلبنَّهُ. صلوا على نبيكم (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)».
ثم نزل.
وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له :
- «إنَّ الأَزد أخذته».
فخرج وكيع وهو يقول :
- «دُهدُرَّين سَعدُ القَين! والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتَّى أُوتي بالرَّأس، أو يُذهب برأسي معه».
ودعا بخشب، فقال :
- «إنَّ هذه الخيل لا بُدَّ لها من فرسان يتهدد بالصَّلب».
فقال له حصين :
- «يا أبا مطرّف، تؤتى به فاسكُن».
وذهب حصين إلى الأزد، وهو سيدهم، فقال:
- «أحمقى أنتم؟ بايعناه وأعطيناه المقادة وعرَّض نفسه، ثمَّ تأخذون الرَّأْس! أَخرجوه، لعنه الله من رأس!».
فجاؤوه به، فوهب لمن جاءَ به ثلاثة آلاف درهم. وبعث بالرأس مع رجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بني تميم أحداً.
ووفَّى لحيَّان النَّبطي بما كان وعده به.
فقال رجل من عجم خراسان :
ص: 290
- «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة، والله لو كان منا ثم مات فينا لجعلناه شهيداً وحفظنا تابوته إلى الحشر نستفتح به إذا غزونا».
وقال الإصبهذ يوماً لرجل :
- «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب». قال :
- «نعم، فأيهما كان أهيب في صدوركم وأعظم قدراً عندكم؟».
فقال له الإصبهذ :
- «لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جُحرٍ به مكبلاً بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد».
ورثى الشعراء قتيبة، فأكثروا.
وولى سليمان يزيد بن المهلب العراق مكان الحجّاج حربها وخراجَها وصلاتها.
فكر يزيد في نفسه فقال:
- «إنَّ العراق قد أخربها الحجّاج وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذتُ النَّاس بالخراج وعذَّبتهم عليه صرتُ مثل الحجاج وأُعيد عليهم مثل تلك السُّجون التي قد عافاهم الله منه أو متى لم آتِ سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني».
فأَتى يزيد سليمان وقال له :
- «أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إيَّاه فتكون أنت الذي تأخذه به؟» قال :
- «نعم».
قال صالح بن عبد الرَّحمان : قال :
- «قد قبلنا رأيك».
وولاه. فأقبل يزيد إلى العراق وتقدَّم صالح فنزل واسطاً. فلما قدم يزيد خرج النَّاس يتلقونه. وقيل لصالح :
- «هذا يزيد وقد خرج الناس يتلقونه».
فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح عليه دُرّاعةٌ وبين يديه أربعمائة من أهل الشّام، فلقي يزيد فسايره، فلما دخل المدينة، قال له صالح :
- «قد فرَّغتُ لك هذه الدَّار».
ص: 291
وأشار إلى دار. فنزلها يزيد واحتمل ذلك، ثم ضيق صالح على يزيد فلم يُملكه شيئاً.
واتَّخذ يزيد أَلفَ خِوانٍ يُطعم النَّاس عليها، فأخذها صالح. فقال له يزيد :
- «اكتب عليَّ ثمنها».
واشترى متاعاً كثيراً وصَكَّ صِكاكاً إلى صالح لباعتها فلم ينفذ. فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال :
- «هذا عملي بنفسي».
فلم يلبث أن جاءَ صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد:
- «ما هذه الصكاك التي لا يقوم لها الخراج. قد أنفذت لك منذ أَيَّام صكاً بمائة ألف درهم وعجلتُ لك أرزاقك، ثمَّ سألت مالاً للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيءٌ ولا يرضى به أمير المؤمنين وتؤخذ به».
فقال له يزيد :
- «يا أبا الوليد أجز هذه الصكاك هذه المرة». قال :
- «فإِنِّي أُجيزها، فلا تكثرنّ عليَّ ». قال :
- «لا»
وضجر يزيد بصالح، فكان لا يصل معه إلى شيء. فدعا عبدالله بن الأهتم، فقال له :
- «إِنِّي أُريدك لأمر قد أهمني فأحب أن تكفينيه ولك مائة ألف». قال :
- «مرني بما شئت ». قال :
- «أنا في ما ترى من الضيق، قد أضجرني ذلك، وبلغني أن أمير المؤمنين ذكر خراسان لعبد الملك أخي، فاخرج واحتل حتّى يسميها لي». قال:
- «أفعل، سرِّحني إلى أمير المؤمنين في بعض الأمور فإِنِّي أَرجو أن آتيك بعهدك عليها».
فكتب معه يزيد كتابين إلى سليمان وذكر في أحدهما أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وعلمه بها. ثمَّ وجهه على البريد وأعطاه ثلاثين ألفاً، فسار سبعاً. ثم قدم على سلیمان فباسطه سلیمان وحادثه وقال له :
- «إِنَّ يزيد بن المهلب كتب إليَّ يذكِّر علمك بالعراق وبخراسان، فكيف علمك
ص: 292
بها؟» قال:
- «يا أمير المؤمنين، بها ولدتُ وبها نشأتُ، فلي بها خبر وعلم». قال:
- «ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك، فأخبرني عن خراسان». قال :
- «أمير المؤمنين أعلم بمن يريد أن يولي، فإن ذكر أحداً أخبرته برأيي فيه : هل يصلح أم لا». فسمى سليمان رجلاً من قريش. فقال :
- «يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان». قال :
- «فعبد الملك بن المهلب». قال :
- «ولا هو».
حتَّى عدَّد رجالاً كان في آخرهم وكيع بن أبي سود. فقال:
- «يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكراً ولا أعظم عندي يداً من وكيع. لقد أدرك بثأري وشفاني من عدوّي، ولكن أمير المؤمنين أعظم حقا عليَّ وإنَّ النصيحة تلزمني له. إنَّ وكيعاً لم يجتمع له قط ثلاثمائة عِنان إلا حدَّث نفسه بغدرةٍ. خامل في الجماعة نابة في الفتنة». قال:
- «صدقت. ويحك فمَن لها ؟» قال :
- «رجل أعلمه لم يُسمه أمير المؤمنين». قال :
- «فمن هو؟» قال:
- «لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك عليَّ وأن يجيرني منه إن عَلِمَ» قال :
- «نعم، سمه لي من هو ؟» قال :
- «يزيد بن المهلب». قال :
- «ويحك! ذاك بالعراق والمُقام بها أحب إليه من المُقام بخراسان». قال:
- «قد علمتُ يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرتُ بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو». قال :
- «أصبت».
فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلداً، فقدَّمه إلى خراسان، فسار من يومه ثم سار يزيد، واستخلف على واسط الجرَّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبدِ الله بن هلال الكوفي، وصير مروان بن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى
ص: 293
الكوفة بشير بن حسان النهدي. ولما قرب مخلدٌ من مرو تلقاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع :
- «انطلق إلى أميرك فتلقّهُ ولا تكن أعرابيا أحمق جافياً».
وأَخرجه على كُره. فلما بلغ النَّاسِ إِلى مَخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعباد بن لقيط. فجاءَهم قوم، فأنزلوهم.
ولما قدم مخلدٌ مرو حبس وكيعاً، فعذبه وأصحابه قبل قدوم أبيه.
فتحدث إدريس بن حنظلة قال : لما قدم مَخلَدٌ مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لي:
- «أتريد أن تنجو؟» قلتُ :
- «نعم». قال :
- «أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المُرِّي إلى قتيبة في خلع سليمان». فقلتُ له :
- «يا بن الأهتم إِيَّاي تخدع عن ديني؟».
قال : فدعا بطومار وقال :
- «إِنَّكَ أَحمق».
وكتب كتباً عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة :
- «إِنَّ الوليد قد مات وإن سليمان باعث هذا المَزُوني على خراسان، فاخلعه». فقلتُ :
- «يا بن الأهتم تُهلك والله نفسَك. لئن دخلت عليه لأعلمنَّه أَنَّكَ كتبتها».
فلم يحفل وقال :
- «قد قلتُ: إِنَّكَ أَحمق».
كان سليمان وجَّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يُقيم عليها حتّى يفتحها أو يأتيه أمر. فشتا بها وصاف، وذلك أَنَّه لما دَنى من قسطنطينية أمر كلَّ فارس أن يحمل على عَجُز فرسه مُدَّين من طعام حتى يأتي به قسطنطينية. فأمر بالطَّعام فأُلقي ناحية مثل الجبال. ثم قال للمسلمين :
ص: 294
- «لا تأكلوا منه شيئاً».
فغَبَروا في أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتاً من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطَّعام في الصحراء لا يُكنه شيءٌ طول الصيف، والنَّاسُ يأكلون ممَّا أَصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع.
فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهراً لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موتُ ملك الرُّوم، فراسلوا إليُونَ صاحب إرمينية، فشخص اليُون من إرمينية ومكر في طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون :
- «إن صرَّفتَ عنا مسلمة ملكناك».
ووثقوا له. فلمَّا أَتى إليُونُ مسلمةَ، قال له :
- «إِنَّكِ لا تصدقهم القتال ولا تزال تُطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أَحسُّوا بذلك، فلو أحرقتَ الطَّعامَ أَعطوا بأَيديهم».
فأحرقه، ووجَّه مسلمة معه من شيعة حتَّى نزل بقسطنطينية، وملكه الرُّومُ.
فكتب إلى مسلمة يُخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتَّى يُدخل من الطعام من النواحي، وما يعيش به القوم ويُصدقونه بأنَّ أمره وأَمرَ مَسلمة واحدٌ وأَنَّهم أمان من في السّباءِ والخروج من بلادهم وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام وقد هيَّأَ إِليُونُ السُّفنَ والرِّجال. فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلا ما لا يُذكر، حمل في ليلة واحدة، وأصبح إليون محارباً وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها. فلقي الجند ما لم يلقَ جند قطُّ، حتى إن كان الرَّجل لَيَخافُ أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدَّوابّ والجُلود وأُصول الشَّجر والعروق والورق، وكلّ شيءٍ حتّى الرّوث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشّتاء، فلم يقدر على أن يُمدَّهم حتى هلك سليمان.
فأَمَّا يزيد بن المهلب فإنَّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلما افتتح قتيبة فتحاً قال ليزيد بن المهلب :
- «أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة ؟».
فيقول له يزيد بن المهلب:
- «ما فعلت جرجان التي حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبرشهر». ويقول:
- «هذه الفتوح ليست بشيء في جُرجان».
ص: 295
وكذلك كانت حال جُرجان، لأَنَّ سعيد بن العاص كان صالح أهل جرجان. ثمَّ إِنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يُسلك طريق خراسان من ناحيته إلا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأَوَّل من صيَّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثمَّ غزا مصقلة خراسان في أَيَّام معاوية في عشرة آلاف، فأُصيب هو وجُنده بالرُّويان، فهلكوا في وادٍ من أوديتها، أخذ العدوُّ عليهم بمضائقه، فقُتلوا جميعاً، فهو يُسمَّى : وادي مصقلة، وكان يُضرب به المثل : «حتّى يرجع مصقلة من خراسان».
فلما ولي يزيد بن المهلب لم تكن له همَّةٌ غير جرجان. فخرج إلى دهستان، وبها صول التركي مع الأتراك، وهناك جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممَّا يلي خوارزم. فكان صول يُغير على فیروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخاً، فيصيب من أطرافهم، ثمَّ يرجع إلى البحيرة ودهستان.
فوقع بين فيروز وبين ابن عم له يقال له : المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان، فخاف فيروز أن يُغير عليه التّركُ، فخرج إلى يزيد بن المهلب وأخذ صول جرجان. فلما قدم على يزيد بن المهلب قال له :
- «ما أقدمك؟» قال :
- «خفتُ صولاً فهربت منه».
فقال له يزيد :
- «هل من حيلة لقتاله؟» قال :
- «نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده ». قال :
- «ما هُوَ؟» قال :
- «أن يخرج من جرجان حتَّى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرتُ به، فاكتبْ إلى الإصبهبذ كتاباً تسأله فيه أن يحتال لصول حتَّى يُقيم بجرجان، واجعل على ذلك جُعلاً ومَنِّه، فإنَّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه، لأنه يعظمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة».
فكتب يزيد بن المهلب إلى صاحب طبرستان :
- «إِنِّي أُريد أن أغزو صولاً وهو بجرجان، فخفتُ، إن بلغه أَنِّي أُريد ذلك أَن
ص: 296
يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يُقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأتِ البحيرة، حملتُ إليك خمسين مثقال، فاحتَلْ له بكل حيلة حتّى تحبسه بجرجان، فإن أَقام ظفرتُ به.»
فلما أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلما أَتى صولاً الكتابُ أَمر النَّاسَ بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصَّن بها. فخرج إلى جرجان في ثلاثين ألفاً ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكِسّ ونسَف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب.
وأقبل حتَّى أتى جرجان ولم تكن يومئذٍ مدينة، إنَّما هي جبال محيطة بها أبواب و مخارم يقوم عليها الرَّجل فلا يقدم عليه أحدٌ. فدخلها يزيد لم يعازّهُ أَحدٌ، وأَصابَ أموالاً، وهرب المرزبان عم فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صولٍ، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه في الأيام فيقاتله ثمَّ يرجع إلى حصنه، حتَّى عجزوا وانقطعت عنهم المواد.
فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد :
- «لا إلا على حكمي».
فأبى. فأرسل إليه :
- «إنِّي أُصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصتي على أن تؤمننا فننزل البحيرة».
فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممن أحب، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبراً ومَنَّ على آخرين، وقال الجند ليزيد :
- «أَعطنا أرزاقنا».
فدعا إدريس بن حنظلة العَمِّي، فقال له :
- «يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتّى نُعطي الجند».
فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها. فقال ليزيد :
- «فيها ما لا يُستطاع إحصاؤُه في هذه السرعة. وهناك ظروف. فتُحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثمَّ تقول للجند: ادخلوا فخُذوها. فمن أخذ شيئاً عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه». قال:
ص: 297
- «نِعمَ ما رأيت».
ففعلوا ذلك، وقال للجند :
- «خُذوا».
فكان الرَّجل يخرج وقد أخذ ثياباً أو طعاماً، أو حمل من شيء فيُكتب على كلِّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئاً كثيراً.
ولما فرغ يزيد من صول طمع في طبرستان أن يفتتحها، وهم بالمسير إليها. فاستعمل عبد الله المُعمر اليشكري على دهستان البياسان وضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل أندرشان أسد بن عمرو، ويقال : بل ابناً لعبد الله بن المُعمَّر وضمَّ إِليه أَربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغلها. فأبى يزيد ورجا أَن يفتتحها. فوجه أخاه أبا عُيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال :
- «إذا اجتمعتم فأبو عيينة على النَّاس».
فسار أبو عُيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة، ووصى يزيد أبا عيينة بأن يُشاور هريماً وقال :
- «هو ناصح وذو رأي».
وأقام يزيد معسكراً واستجاش الإصبهبذُ بأهل جيلان والديلم، فأَتَوهُ والتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون، واتَّبعهم المسلمون حتَّى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتَّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنُشَّاب، فانهزم أبو عُيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضاً يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفَّ العدو عن اتِّباعهم.
وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان :
- «إِنَّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل أنت من في البياسان من العرب».
فخرج إلى البياسان والمسلمون غارون في منازلهم فقُتلوا جميعاً في ليلةٍ.
وأصبح عبد الله بن المعمر مقتولاً في أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أَحدٌ وقُتل من بني عم يزيد خمسون رجلاً، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ :
ص: 298
- «إِنِّي قد قتلتُ من عندي من العرب، فخُذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك».
وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم. ففرغ يزيد إلى حيان النبطي وقال :
- «لا يمنعنّك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين». وكان يزيد قد غرَّم حيَّان مائتي ألف درهم - وسنذكر ذلك - وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثمَّ بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له :
- «اعمل في الصلح». قال:
- «أفعل»
فأَتى حيَّانُ الإصبهبذ وقال له :
- «أنا رجلٌ منكم وإن كان الدّين فرَّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنَّك أَحبُّ إليَّ على كل حال من يزيد، وقد بعث يستمد وأمداده منه قريبةً، وإِنَّما أصابوا منه طرفاً، ولستُ آمَن أَن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسَك منه وصالِحْهُ، فَإِنَّكَ إِن صالحته صُيّر حده على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا».
فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف ويُروى خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كُلِّ رجل جام فضَّةٍ وسَرَقة حرير وكسوة. ثم رجع إلى يزيد وقال :
- «ابعث مَن يحمل صُلحهم الذي صالحتهم عليه ». قال :
- «من عندهم، أو من عندنا؟» قال:
- «من عندهم».
وكان يزيد قد طابت نفسه أن يُعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من يحمل ما صالحهم عليه حيَّان، وانصرف إلى جرجان.
فأَمَّا سبب تغريم يزيد حيَّانَ مائتي ألف درهم وخوفه أَنَّه لا يناصحه، فهو أَنَّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيَّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه :
- «من حيَّان مولى مصقلة إلى مَخلد بن يزيد».
فقال له ابنه مقاتل بن حيان :
- «يا أَبَه تكتب إلى مَخلَدٍ وتبدأُ بنفسك». فقال :
ص: 299
- «نعم يا بُنَي. فإن لم يرضَ لقي ما لقي قتيبة».
وتمَّم كتابه وأنفذه إلى مخلد فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم.
ثمَّ إِنَّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهداً لَئن ظفر بهم أَلا يُقلع عنهم ولا يرفع السيف حتّى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.
فلما بلغ المرزبانَ أَنَّه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أَصحابه وأتى وجاة وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عُدَّةٍ من طعام وشراب، وأقبل حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يُعرف لها إلا طريق واحدٍ فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتي إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه في الأيَّام ويُقاتلونه ثمَّ يرجعون إلى حصنهم.
فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلب إلى الصيد ومعه شاكريَّةٌ له، فأبصر وَعِلاً في الطريق يرقى في الجبل فاتَّبعه وقال لمن معه :
- «قفوا مكانكم».
ووقل في الجبل يتبع الوَعِلَ، فما شعر بشيءٍ حتّى اطلع على عسكر العدو، فرجع يُريد أصحابه وخاف ألا يهتدي إن عاد فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علاماتٍ حتّى ظفر بأصحابه ينتظرون. ثم رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.
فلما رآه يزيد قال :
- «ما عندك؟» فقال :
- «أتريد أن تدخل وَجاةَ بغير قتال؟» قال :
- «نعم». قال :
- «جُعالتي؟» قال :
- «احتكمْ». قال :
- «أَربعة آلاف». قال :
- «بل أضعافها ». قال :.
- «عجلوا إلى أربعة آلاف، ثمَّ أَنتم بعدُ من وراء الأحساب».
فأمر له بأربعة آلاف وندب النَّاس فانتدب أَلف وأربعمائة، فقال :
ص: 300
- «الطريق لا يحتمل هذه الجماعة لالتفات الغياض».
فاختار منهم ثلاثمائة رجل واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضم إليه جهم بن زحر، وقال لابنه :
- «إن غلبت على الحياة، فلا تُغلَبَنَّ على الموت، وإيَّاك أن أراك عندي منهزماً».
وقال للناس :
- «إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتَّى إذا كان في السحر فكبروا، ثم توجهوا نحو باب المدينة فإنَّكم تجدوني قد نهضتُ بجميع الناس إلى بابها».
فلما أشرف ابنِ زَحْرٍ على المدينة أمهل حتَّى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحداً إلا قتله. وكبَّر ففزع أهل المدينة فزعاً لم يدخلهم مثله قط، لم يَرُعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون. فدُهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون. غير أَنَّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعةً فدُقَّت يَدُ جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوهم إلا قليلاً حتّى قتلوهم.
وسمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في النّاس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجُذوع فرسخين عن الطريق عن يمين الطَّريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين أَلفاً إلى اندرهرز وادي جُرجان وقال :
- «من طلبهم بثأر فليقتل».
فكان الرَّجل من المسلمين يقتل الجماعة في الوادي، وأُجري الماء على الدَّم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتَبر يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذٍ مدينةً.
وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظم ذلك قال :
- «إِنَّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسری بن هرمز، وأعيا الفاروق عُمر بن الخطاب، وعثمان بن عَفَّان، ومن بعدهما من خلفاء الله».
وكتب في الكتاب أَنْ :
ص: 301
- «قد صار عندي من خُمس ما أَفاءَ الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلِّ ذي حق حقه من الفيء والغنيمة ستَّة آلاف ألف وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله».
فقال له كاتبه المغيرة بن أَبي قُرَّة :
- «لا تكتب بتسمية مال، فإنَّك من ذلك بين أمرين : إما استكثره فأمرك بحمله، وإِمَّا سخَتْ نفسُه بذلك به فسوّغَكه فتتكلف له الهديَّة ولا يأتيه من قِبلكَ شيء إلا استقله، ويُحصل الكُتَّابُ ما سميته في دواوينهم فيبقى مخلداً عليك، فإن ولي وال بعده أخذك به، وإن وَلِي مَن يتحامل عليك لم يرضَ منك بأضعافه، فلا تُمض كتابك، ولكن اكتُبْ بالفتح وسَلْهُ القُدومَ علي، ثمَّ تُشافهه بما أحببت وتُقصِّر في الكتاب. فإنَّك إن تُقصِّر عمَّا أصبتَ أحرى من أَن تُكثر».
فأبى يزيد وأمضى الكتاب.
وفيها تُوفِّي سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر. فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبركون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنَّه ذهب عنهم الحجاج، فأطلق الأسرى وخُلِّيَ أَهل السجون وأحسن إلى الناس.
ص: 302
واستخلف سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو انه لما مرض مرضته التي مات فيها، عَهِدَ في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.
قال رجاء بن حيوة: فقلتُ :
- «ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنَّه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرَّجل الصالح».
فقال سليمان :
- «أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه».
قال : فمكث يوماً أو يومين ثم خرقه ودعاني، فقال:
- «ما ترى في داود بن سليمان؟».
يعني ابنه. قلت :
- «هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أَحيُّ هو أم ميت». فقال لي :
- «فمن ترى؟» قلتُ :
- «رأيك يا أمير المؤمنين».
- «وأنا أريد أن أنظر من يذكر». قال :
كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟» فقلت :
- «أعلمه والله خيراً فاضلاً مسلماً». فقال :
- «هو والله على ذلك».
ثم قال :
- «والله لئن ولَّيتُه، لم أَوَلِّ أَحداً سواه لَتَكوننَّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبداً عليهم إِلا أَن يجعل أحدهم بعده».
- «ويزيد بن عبد الملك يومئذٍ غائب على الموسم ». قال :
- «فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنَّ ذلك ممَّا يُسكِّنهم ويرضون به». قلتُ :
- «رأيك».
ص: 303
فكتب :
- «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إِنِّي وليتُك الخلافة من بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك. فليسمع المؤمنين له وليُطيعوا، وليتقوا الله ولا يختلفوا، فيُطمع فيهم».
وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن حب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولما اجتمعوا قال سليمان لرجاء :
- «اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أَنَّه كتابي، ومُرْهم فليبايعوا من وليتُ فيه».
ففعل رجاءٌ. فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا :
- «ندخل ونسلم على أمير المؤمنين». قال :
- «نعم».
فدخلوا فقال لهم سليمان :
- «في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حيوة - عهدي فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب».
فبايعوه رجلاً رجلاً.
قال : ثم خرج بالكتاب مختوماً.
قال رجاءُ : فلمَّا تفرَّقوا جاءَني عُمر بن عبد العزيز فقال :
- «إني أخشى أن يكون هذا قد أسند إليَّ شيئاً من الأمر. فأنشدك الله وحُرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتَّى استعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه السَّاعة».
قال رجاء :
- «لا والله، ما أَنا بمُخبرك حرفاً».
فذهب عُمر غضبان.
قال رجاءٌ : ولقيني هشام بن عبد الملك فقال :
- «يا رجاء، إنَّ لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني فإن كان إليَّ علمتُ، وإن كان إلى غيري تكلّمتُ، فليس مثلي قصِّر به ذلك، ولك الله علَيَّ ألا أذكرمن ذلك شيئاً أبداً».
قال رجاء : فأَبيتُ وقُلتُ :
- «لا والله، لا أخبرك حرفاً واحداً ممَّا أُسِرَّ إِليَّ».
ص: 304
قال : فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول :
- «فإلى مَن إذا نُحيث عنِّي! أَتخرج من بني عبد الملك؟».
قال رجاء : ودخلتُ على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقنتُه الشَّهادة، وحرَّفتُه إلى القبلة وسجَّيتُه، وأجلستُ على الباب من أثق به ووصَّيتُه أَلا يبرح حتَّى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحدٌ. ثم خرجتُ وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتَّى جمع أهل بيت أمير المؤمنين في مسجد دابق، وتوسطتهم إلى المنبر، وقلت :
- «بايعوا!» فقالوا :
- «قد بايعنا مرَّةً ونبايع أخرى». قلتُ :
- «هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمَّى في هذا الكتاب المختوم».
فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً. فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيتُ أَنِّي قد أحكمت الأمر. قلتُ :
- «قوموا إلى صاحبكم فقد مات». قالوا :
- «إِنَّا لله وإنا إليه راجعون».
وقرأَتُ الكتاب عليهم. فلمَّا انتهيتُ إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك :
- «لا نبايعه أَبداً». قلتُ :
- «أَضربُ واللَّه عنقك. قُم فبايع من قد بايعته مرتين».
فقام يجرُّ رِجلَيه.
قال رجاء : وأَخذت بضبَعَيْ عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه.
ولما كفن سليمان وصلّى عليه عُمر ودفنه وأتي بمراكب الخلافة من البراذين والخيل والبغال، ولكل دابَّة سائس مفرد، فقال:
- «ما هذا؟» قالوا :
- «مراكب الخلافة». قال :
- «دابتي أوفق لي».
وركب دابَّته وصُرفت تلك الدواب. ثم أقبل سائراً. فقيل له :
- «منزلُ الخلافة». فقال :
ص: 305
- «فيه عيال أبي أيوب - يعني سليمان - وفي فسطاطي كفاية حتَّى يتحوّلوا».
فأقام في منزله حتّى فرَّغوه من بعد.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العُمَّال بكلِّ بلدٍ بما صار إليه، فأوجز وأحسن.
ثمّ وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عِتاقٍ وأموال عظيمة
وعزل يزيد بن المهلب عن العراق، ووجّه على البصرة عدي بن أرطأة الفزاري، وبعث على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من بني عدي بن كعب، فضم إليه أبا الزّياد، فكان أبو الزياد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن. وبعث عدي في إثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
فكتب عمرُ إلى عبد الحميد بن عبد الرَّحمن بن زيد بن الخطاب عامله على العراق، يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه، صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم، ففعل. ولما أعذر في دعائهم، بعث إليهم عبد الحميد جيشاً فهزمتهم الحرورية، فبلغ عُمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أَهل الشَّام جهَّزهم من الرَّقَّة.
وكتب إلى عبد الحميد :
- «قد بلغني ما فعل جيشك جيش السَّوءِ، وقد بعثتُ مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم». فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشَبْ أَن أَظهرهُ اللَّهُ عليهم.
وكان هذا الخارجي بسطام من بني يشكر ويُلقب شوذب، وكان خروجه في ثمانين فارساً أكثرهم من ربيعة. وكان عمر كتب إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه ويقول في كتابه :
- «بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه ،صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم، ولست بأولى بذلك منِّي. فهلُمَّ أُناظرك، فإن كان الحقُّ بأيدينا دخلت في ما دخل فيه النَّاسُ، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك».
فأمسك بسطام عن الحرب ولم يُحرّك ساكناً، وكتب إلى عُمر:
- «قد أنصفت. وقد بعثتُ إليك رجلين يُدارسانك ويُناظرانك».
فلما وصل الرَّجلان إلى عمر، أطالا معه حتّى قالا له :
- «أخبرنا عن يزيد، لِمَ تُقره خليفة بعدك». قال :
- «صيَّره غيري». قالا :
ص: 306
- «أفرأيتَ لو وليت مالاً لغيرك، ثمَّ وكلته إلى غير مأمون عليه، أتُراك كنتَ أَدَّيتَ الأمانة إلى من ائتمنك عليها؟» فقال:
- «أَنظرني ثلاثاً».
فخرجا من عنده. وبلغ ذلك مروان، فخافوا أن يُخرج ما في أيديهم من الأموال وأَن يَخلَعَ يزيد فدسُوا إِليه مَن سقاه سماً. فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثاً حتّى مات.
ثمَّ عُدنا إلى حديث يزيد بن المهلب. لما أقبل يزيد بن المهلب فنزل واسطاً، ركب منها السُّفْنَ يُريد البصرة. فبعث عدي من منعه وأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز وكان عمر يُبغض يزيد وأهل بيته ويقول :
- «هم جبابرة، ولا أُحبُّ أَمثالهم».
وكان يزيد يُبغض عُمَر ويقول :
- «إني لأظنّه مرائياً».
فلما ولي عمر عرف يزيدُ أَنَّ عُمر كان من الرِّئَاءِ بعيداً.
ولما وصل يزيد إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان. فقال :
- «كنتُ من سليمان بالمكان الذي قد علمتَ، وإِنَّما كتبتُ إلى سليمان لأسمع النَّاسَ به، وكنتُ علمتُ أنَّ سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعتُ به، ولا بأمر أكرهه». فقال له :
- «لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتَّق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يَسَعُني تركها».
وردَّه إلى محبسه.
وبعث الجرَّاح بن عبد الله الحكمي، فسرَّحه إلى خراسان.
وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يُعطي النَّاس، لا يَمُرَّ بكورةٍ إلا أعطاهم فيها أموالاً عظاماً، حتَّى قدم على عمر بن عبد العزيز فدخل عليه، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال :
- «إنّ الله، يا أمير المؤمنين، صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نَكُنْ أَشقى النَّاس بولايتك، علامَ تحبس هذا الشَّيخ؟» أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إيَّاه تسأل».
ص: 307
فقال عُمر:
- «لا، إلا أن تحمل جميع ما إيَّاه نسأل». فقال
- «يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينةٌ فخذه بها، وإن لم تكن بينةٌ فصدق مقالة يزيد وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه».
فقال عُمر:
- «ما أَجدُ إِلا أَخذه بجميع المال».
فلما خرج مخلد من عند عمر، قال:
- «هذا خيرٌ عندي من أبيه».
ولمَّا أَبى يزيد أن يؤدّي إلى عمر شيئاً، أَلبسه جُبَّة صوف وحمله على جمل وقال :
- «سيروا به إلى الدهلك».
فلمَّا أُخرج، فمُرَّ به على النَّاس أخذ يقول :
- «أما لي عشيرة؟» ما لي يُذهب بي إلى دَهْلَك! وإِنَّما يُذهب إلى دَهْلَك بالفاسق المريب الحارب. سبحان الله! أما لى عشيرة».
فدخل على عمر سلامة بن نُعيم الحولاني، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، اردُدْ يزيد إلى محبسه، فإنِّي أخاف إن أمضيته أَن ينتزعه قومُه. فإنّي قد رأيتُ قومه غضبوا له».
فردَّه إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتّى بلغه مرض عُمر. فأخذ يعمل في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنه قد كان عذَّبَ أَصهاره، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله : لئن أمكنه الله من يزيد ليقطعنَّ منه طابقاً. فكان يخشى ذلك. فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه فأَعدُّوا له إبلاً، وخرج حتّى حاز مراصد عمر وكتب إلى عمر بن عبد العزيز :
- «إني والله لو علمتُ أَنَّك تبقى ما خرجتُ من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك».
وقد قيل : إنَّ يزيد بن المهلب إنَّما هرب من سجن عُمر بعد موت عُمر.
وكانت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر. ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة.
كان الجراح بن عبد الله لما ولي خراسان استخرج الجزية من كلِّ من اتّهم
ص: 308
إسلامه. فكتب عُمر إليه :
- «انظر من صلى إلى القبلة قِبلك، فضع عنه الجزية».
فسارع النّاس إلى الإسلام. فقيل للجرَّاح :
- «إِنَّ النَّاس قد سارعوا إلى الإسلام. وإنَّما ذلك تعوذٌ من الجزية، فامتحنهم بالختان». فكتب الجرَّاح بذلك إلى عمر. فكتب عُمرُ إليه :
- «إن الله بعث محمد صلى الله عليه وسلم داعياً ولم يبعثه خاتنا».
وقال عُمر:
- «أبغوني رجلاً صدوقاً أسأله عن خراسان».
فقيل له :
- «قد أصبته، عليك بأَبي مُجلِز».
وكان الجرّاح لما قدم خراسان، كتب إلى عمر : «إِنِّي قدمتُ خراسان، فوجدتُ قوماً قد أبطرتهم الفتنة، فهم ينزون فيها نزواً. أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حقَّ الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك».
فكتب إليه عُمر :
- «يا بن أُمّ الجرَّاح! أنتَ أحرص على الفتنة منهم، لا تضربنَّ مؤمناً ولا مُعاهداً سوطاً إلا في حقٍّ، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»[غافر: 19]، وتقرأ كتاباً «لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» [الكهف : 49].
وكتب إليه أن :
- «احمل معك أبا مجلز، وخلّف على خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، وعلى جزيتها عبد الله بن حبيب».
ولما قدم أبو مجلز لاحق بن حميد على عمر، وكان رجلاً لا تأخذه العين، دخل على عمر في غمار النَّاس فلم يثبته عُمر، وخرج مع الناس. فقيل لعمر وقد سأل عنه بأنَّه :
- «دخل مع النَّاس، ثمَّ خرج».
فدعا به عمر فقال :
- «يا أبا مجلز، إِنِّي لم أعرفك». قال :
- «فهلا - يا أمير المؤمنين - أنكرتني إذ لم تعرفني». قال :
- «أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله». قال :
ص: 309
- «يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاءُ، ويُقدم، إِن وَجَدَ مَن يُساعده». قال :
- «فعبد الرحمن بن نُعيم؟» قال :
- «ضعيفٌ لين يُحبُّ العافية، وتأتَّى له». قال:
- «الذي يُحبُّ العافية وتأَنَّى له أَحبُّ إليَّ».
فولاهُ الحَربَ والصَّلاة، وولي عبد الرحمن القشيري الخراج.
وكتب إلى أهل خراسان :
- «إني استعملت على حربكم عبد الرحمن بن نُعيم، وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم من غير معرفة مني بهما ولا اختيار إلا ما أخبرتُ عنهما، فإن كانا على ما تُحبُّون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وفي هذه السنة، وهي سنة مائة، وجّه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس من أَرضِ السّراة ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السَّرَّاج وحيَّان العطّار رجال إبراهيم بن سلمة إلى خراسان دعاةً، وعلى خراسان يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي، فدعوا إليه وكتبوا بأَسماءِ مَن استجاب، وبعثوا بالكتاب إلى ميسرة، وبعث به ميسرة إلى محمد بن علي. فكان ذلك ابتداء دعوة بني هاشم.
فاختار أبو محمد الصادق وهو أبو عكرمة السَّرَّاج لمحمد بن علي، اثني عشر نقيباً منهم :
سليمان بن كثير الخُزاعي، ولاهز بن قريط التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم، والقاسم بن مجاشع، وعمران بن إسماعيل، ومالك بن هيثم الخُزاعي، وطلحة بن زُريق، وأبو حمزة عمرو بن أبي أَعيَن، وشِبل بن طهمان وهو أبو علي الهروي، وعيسى بن أعين.
ثم اختار سبعين رجلاً كتب إليهم محمّد بن علي كتاباً كالسيرة والمثال يسيرون بها.
ص: 310
وفيها ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمد.
وفيها قُتل شَوذَب الخارجي.
قد كنا ذكرنا خروج من خرج من قبل شوذب لمناظرة عمر. فلما مات عمر أَحبَّ عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يتحظّى عند يزيد بن عبد الملك. فبعث بمحمد بن جرير في ألفين إلى محاربة شَوذَب، ولم يرجع رسولا شَوذَب، ولم يعلم بموت عُمر. فلما طلع عليهم محمد بن جرير مستعدا للحرب، قالوا :
- «ما أعجلكم قبل انقضاء المدة بيننا وبينكم أليس قد توادعنا إلى أن يرجع الرَّسولان؟» فأرسل إليه محمد :
- «إنه لا يسعنا ترككم».
فقالت الخوارج :
- «ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح».
فبرز لهم شَوذَب، فأكثروا القتل في أهل الكوفة ووَلَّوا منهزمين والخوارج في أكنافهم تقتل حتّى بلغوا أخصاص الكوفة وجُرح محمد بن جرير في إسته.
ورجع شوذب إلى موضعه ينتظر صاحبيه. فجاءا فأخبراه بما جرى وبموت عُمر. فأَقرَّ يزيد بن عبد الملك عبد الحميد على الكوفة، ووجه من قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يُقارُهم على ما فارقهم عليه عُمر. فلعنوه، ولعنوا يزيد. ثمّ حاربوه وقتلوه وهزموا أصحابه. فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد. ووجّه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في خلق كثير، فقتلوه وهزموا أصحابه. ووجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين من أهل البأس والنجدة، فقتلوه وقتل منهم نفراً منهم هدبة اليشكري ابنُ عمّ شَوذَب وكان عابداً، وفيهم أبو شبيل مقاتل بن شيبان، وكان فاضلاً فيهم سيّداً.
ص: 311
فلما دخل مسلمة الكوفة في ما روى هشام شكا إليه أهلها مكان شَوذَب وخوَّفهم منه، وما قد قتل منهم. فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحَرَشي وكان فارساً شجاعاً، فعقد له على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شَوذَب لأصحابه :
- «من كان يريد الله فقد جاءته الشَّهادة، ومن كان إنَّما خرج للدنيا فقد ذهبت الدُّنيا، وإنّما البقاء في الدَّار الآخرة».
فكسروا أَعْمادَ سيوفهم وحملوا، فكشفوا سعيداً وأصحابه مراراً حتّى خاف الفضيحة، فذمر أصحابه وقال :
- «أمن هذه الشرذمة - لا أباً لكم - تفرُّون؟» يا أهل الشام يوماً كأَيامكم!».
فحملوا عليهم، فطحنوهم طحناً ولم يُبقوا منهم أحداً وقتلوا شوذباً - وهو بسطام - وفرسانَه، والرَّيَّان بن عبد الله اليشكري فرثاهم الشُّعراء وأكثروا، إلا أَنَّا لا نكتب في هذا الكتاب ما يجري هذا المجرى، وقد ذكرنا كثيراً منه في اختيارنا من أشعار العرب.
وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها وقد كُنَّا حكينا هرَبَهُ من محبس عُمر.
ولما مات عمر وبويع ليزيد بن عبد الملك بلغه هرب يزيد بن المهلب. فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرَّحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله. وكتب إلى عدي بن أرطأة يُعلمه هَربَهُ ويأمره أن يطلبه ويستقبله.
فأَمَّا عدي بن أرطأة فإنَّه أخذ من أولاد المهلب وعشيرته من وجدهم، فحبسهم. وفيهم: المفضّل، وحبيب ومروان بنو المهلب، وأفلت محمد بن المهلب فلم يُقدر عليه.
وأقبل يزيد حتَّى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام بن مساحق القُرشيّ في ناس من أهل الكوفة ذوي بأس، ووجوه الناس وأهل القُوَّة. فقال :
- «انطلق حتَّى نستقبله فإنَّه اليوم يمر بجانب العُذيب».
فمشى هشام قليلاً، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال:
- «أجيئك به أسيراً، أم آتيك برأسه؟» فقال :
ص: 312
- «أَي ذلك شئت».
فكان من سمع ذلك منه تعجب له.
فلما خرج هشام مضى إلى العُذيب حتَّى نزله. ومرَّ به يزيد بن المهلب غير بعيد، فلم يتجاسر أحد منهما على الإقدام عليه حتّى عبروا. ومضى نحو البصرة، وانصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد
فجمع عدي بن أرطأة أهل البصرة، وخندق عليها.
فقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطأة :
- «خذ ابني رهينة، واحبسه مكاني وأنا أضمن لك أَن أَردَّ يزيد أَخي عن البصرة حتّى يأتي فارس وكرمان ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك».
فأبى عليه.
وجاء يزيد مع أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمد بن المهلب - ولم يكن ممَّن حبس - رجالاً من قومه وأهل بيته وناس من مواليه. فخرج حتّى استقبله في كتيبة تهول من رءاها، وكان عدي قد بعث على كلِّ خُمس من أخماس البصرة رجلاً مرضيا، وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيولهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحَّوا له عن السبيل تهيباً وإعظاماً. حتّى انتهى إلى المغيرة بن عبد الله الثّقفي وهو على الخيلِ فاستقبله ليردَّه. فحمل عليه محمد بن المهلب، فأفرج له عن الطَّريق هو وأصحابه وأقبل يزيد حتّى نزل داره واختلف الناس إليه. وأخذ يبعث إلى عدي بن أرطأة أن :
- «ادفع إليَّ إخوتي وأنا أُصالحك على البصرة وأُخليك وإيَّاها حتَّى آخذ لنفسي ما أُحبُّ من يزيد بن عبد الملك».
فلم يُجبه إلى ذلك.
وكان خرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب يُصلح أمر عمه يزيد. فبعث معه فبعث معه يزيدُ بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته. وأخذ يزيد بن المهلب، قبل أن يوافيه حُميد، يُعطى كلَّ مَن أَتاه العطايا العظيمة ويقطع لهم قطع الذهب والفضة. فمال النَّاس إليه، ولحق به عمران بن مسمع ساخطاً على عدي. وذلك أنه نزع منه راية بكر بن وائل وأعطاها ابن عمه. ومالت إلى يزيد ربيعة كلها وبقية تميم وقيس، وناس بعد ناس فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع وناس من أهل الشام.
وكان عدي لا يُعطى إلا درهمین درهمین ویقول :
ص: 313
- «لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهماً إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتّى يأتي الأمر في ذلك». وله يقول الفرزدق :
أَظنُّ رجال الدرهمين يقودهم *** إلى الموت آجال لهم ومصارعُ
فأحزمهم من كان في قعر بيته *** وأيقن أَنَّ الأمر لا بُدَّ واقع
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد. فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس. فحمل عليهم فهزمتهم. فقال الفرزدق :
تفرَّقتِ الجَعراءُ أن صاح دارس *** ولم يصبروا تحتَ السيوف الصوارم
جزى الله قيساً عن عدي ملامة *** ألا صبروا حتّى تكون تلاحم
وخرج يزيد بن المهلب حتّى اجتمع له النَّاسِ، حتّى نزل جُبَّانة بني يشكر وهو المَنصَف في ما بينه وبين القصر. وجاءته تميم وأهل الشَّام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحَبَطي بالشيوف، فقطع أنف البيضة، وأَسرع السَّيفُ في وجهه، وحمل على هريم بن أبي طحمة، فأخذ بمنطقته فجذبه عن فرسه وتماسك في السّرج حتّى انقطعت المنطقة، وقال:
- «هيهات! عمك أَرزن من هذا».
فانهزم القوم وأقبل يزيد في أثر القوم يتلوهم حتَّى دَنا من القصر. وخرج إليه عدي بنفسه في أصحابه، فقاتلوا ساعةً وقُتل من أصحابه خلق فيهم: الحارث بن مصرّف الأودي، وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج، وقتل موسى بن الوجيه الحميري وقُتل جماعة أمثالهم.
ثمَّ انهزم أصحاب عديّ، وسمع أخوه يزيد - وهم في محبس عدي - الأصوات تدنو والنشاب تقعُ في القصر والصَّحن، فقال لهم عبد الملك:
- «إنِّي لا أرى يزيد إلا قد ظَهَر، ولستُ آمَن مَن مع عدي مِن مُضَر ومِن أَهل الشَّام أن يأتوا فيقتلونا قبل أن يصل يزيد إلى الدار، فأغلقوا البابَ ثمَّ أَسندوه بالثِّياب والرّحل».
ففعلوا، فلم يلبثوا ساعةً حتّى جاءَهم عبد الله بن دينار مولى بني عامر وكان على حرس بني عدي. فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحاب له وقد صنع بنو المهلب ما قال لهم عبد الملك، ووضعوا متاعاً كثيراً على الباب، ثمَّ اتَّكأُوا عليه. وأخذ القوم يعالجون الباب فلا يستطيعون الدخول، وأعجلهم النَّاس فخلُّوا عنهم، وجاء يزيد بن المهلب حتّى نزل دار سليم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأُتي بالسَّلاليم، فلم يلبث سفيان أن فتح القصر، وأتي بعديّ بن أرطأة، فجيء به، وخاطبه بما يجري مجرى التَّبكيت. ثم أمر بحبسه وقال له :
ص: 314
- «أَما إِنَّ حبسي إيَّاك ليس إلا لحبسك بني المهلب وتضييقك علينا في ما كُنَّا نسألك التسهيل عليهم».
خرج الحواري بن زياد بن عَمرو العَتكي يُريد يزيد بن عبد الملك هاربين من يزيد بن المهلب فلقي في طريقه خالد بن عبد الله القسري وعُمر بن يزيد الحكمي ومعهما حُميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد المهلب وكلَّ شيءٍ أَراده. فاستقبلهما فسأَلاه عن الخبر. فلما رأى حميد بن عبد الملك معهما خلا بهما وقال :
- «أين تُريدان؟» قالا :
- «نريد يزيد بن المهلب قد جئناه بكلِّ شيء يريد ويقترح». فقال :
- «هيهات، قد تجاوز الأمر ذلك وما تقدرانِ أن تصنعا بيزيد أو يصنع هو بكما. قد ظهر على عدوه عدي بن أرطأة وقد قتل سَراة النَّاس ووجوه الفرسان، وحبس عديًّا، فارجعا ولا تُهديا نفوسكما إلى يزيد».
فعادی مع الحواري بن زياد وأقبلا بحميد معهما إلى يزيد بن عبد الملك.
فقال لهما حميد:
- «أنشدكم الله أن تخالفا في أمر يزيد وما بعثتما به، فإنَّ يزيد قابل منكما وإنَّ هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء. فناشدتكما الله أن تسمعا مقالة هذا فينا».
فلم يقبلا قولَه وأَقبلا به حتّى دفعاه إلى عبد الرحمن بن مسلم الكلبي، وكان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملاً عليها. فلما بلغه خلع يزيد بن المهلب، كتب إلى يزيد بن عبد الملك :
- «إِنَّ جهادَ مَن خالفك أَحبُّ إليَّ من ولايتي خراسان، فلا حاجة لي فيها، واجعلني ممَّن توجّه إلى يزيد بن المهلب».
وبعث بحُميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرَّحمن بن زید بن الخطّاب على خالد بن يزيد بن المهلب وهو بالكوفة، وعلى حمّال بن زحر وليسا ممَّن ينطف بشيء، إلا أنَّه أوثقهما لما عرف بين حمّال وبين بني المهلب، وسرح بهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعاً ولم يفارقا السجن حتّى هلكا فيه.
وبعث يزيد بن عبد الملك رجالاً من أهل الشام إلى الكوفة يُسكنونهم ويُثنون عليهم بطاعتهم ويُمنونهم الزيادات.
ص: 315
ثمَّ إِنَّ يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف فارس جريدة خيل حتى وافوا الحيرة يُبادر إليها يزيد بن المهلب. ثمَّ أَقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك في جنود أهل الشَّام، فأخذ على الجزيرة على شاطئ الفرات، واستوسق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عُمَّاله إلى الأهواز وفارس وبعث عبد الرحمن إلى بني تميم :
- «إنَّ هذا مدرك بن المهلب يريد أن يُلقى بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية في طاعة وعلى جماعة».
فخرجوا ليلاً يستقبلونه ويكيدونه. وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو ألفي فارس حتّى لحقوهم قبل أَن ينتهوا إلى رأس المفازة فقالوا لهم :
- «ما جاءَ بكم وما أخرجكم إلى هذا المكان؟».
فاعتلوا عليهم بأشياء ولم يُقروا أنهم خرجوا ليكيدوا مدرك بن المهلب.
فقال لهم الأزد :
- «بل قد علمنا أنكم لم تخرجوا إلا لِتَلَقّي صاحبنا وها هو ذا منكم قريب، فما شئتم.
ثمَّ أَسرعت الأزد حتَّى لقُوا مدركاً على رأس المفازة، فنصحوا له وأعلموه أنه يقع في بلاء لا يدرون ما عاقبته ويشيرون عليه بالانصراف إلى أن يتم أمر يزيد.
فقبل ورجع من مكانه.
ثمَّ إِنَّ يزيد بن المهلب لما استجمع له أهل البصرة، صعد المنبر وخطبهم وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ويحثُ على الجهاد ويزعم أَنَّ جهاد أهل الشَّام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم.
فكان الحسن البصري حاضراً. فرفع صوته وقال :
- «والله لقد رأيناك والياً ومُولّياً عليك، فما ينبغي لك».
فوتب عليه من كان بجنبه، فأخذوا بيده وفَمِه وأجلسوه. وما شكّ النَّاس أَنَّه سمعه ولكنَّه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته.
ثمَّ إِنَّ الحسن خرج يُخذِّل الناس عنه ويقول :
- «كان بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون يُسرّح بها إلى بني مروان، يُريد بهلاك هؤلاء رضاهم».
فلمَّا غضب نصب قصباً ووضع عليه خرقاً وقال :
ص: 316
قد خالفت هؤلاء، فخالفوهم.
وقال :
- «إني أدعوكم إلى سنّة العُمرين، ألا إن سُنَّةَ العُمرين أن يوضع قيد في رجليه، ثمَّ يُردّ إلى محبس عُمر الذي حبسه فيه».
فقال ناس من أصحابه ممَّن سمعوا قوله :
- «والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام». فقال :
- «أنا راض عن أهل الشام؟ قبحهم الله ونَزَحهم! أليسوا الَّذِينَ أَحلُوا حُرمَ رسول الله ،صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم ، يقتلون أهله ثلاثة أَيَّام وثلاث ليال وقد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر وذوات الدين لا يتناهون عن انتهاك حرمة، ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار».
ثمَّ إِنَّ يزيد خرج من البصرة، واستخلف عليها مروان بن المهلب، وقدم بين يديه عبد الملك بن المهلب وخرج معه بالسلاح وبيت المال وأقبل حتّى نزل واسطاً. وكان قبل أن يبلغها استشار أصحابه وقال لهم :
- «إن أَهل الشَّام قد نهضوا إليكم».
فقال له حبيب وغيره :
نرى أن تخرج حتّى تنزل فارس وتأخذ بالشعاب والعقاب وتدنو من خراسان وتطاول القوم، فإنَّ أهل الجبال ينقضون إليك وفي يدك القلاع والحصون» فقال:
- «ليس هذا برأي وليس يوافقني. إنّما تريدون أن تجعلوني طائراً على رأس جبل». فقال له حبيب :
- «فإنَّ الرَّأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات. كنتُ أَمرتك حين ظهرت على البصرة أن توجه خيلاً عليها بعض أهل بيتك حتى يرد الكوفة، فإنَّما هو عبد الحميد، مررت به في سبعين رجلاً. فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العُدَّة، وتسبق إليها أَهلَ الشَّام وعُظمُ أَهلِها يرى رأيك ويحب أن لا يلي عليهم أهل الشّام، فلم تطعنى. وأنا اليوم أُشیر عليك برأي : سَرِّح مع بعض أهل بيتك خيلاً عظيمة، فتأتي الجزيرة وتبادر إليها حتّى تنزل حصناً من حصونها، وتسير في إثرهم. فإذا أقبل أهل الشَّام يُريدونك لم يَدَعوا جُنداً من جندك بالجزيرة ويُقبلوا إليك. فيقيمون عليهم، فكانوا حابسيهم عنك حتّى تأتيهم ويأتيك من بالموصل من قومك وتبذل المال، ويأتيك أهل الجزيرة، وينقض إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم في أرضِ رفيعة السعر، وقد
ص: 317
جعلت العراق كله وراء ظهرك». فقال :
- «إنِّي أُقطع جندي».
فلما نزل واسطاً أقام بها أياماً يسيرة.
قد حكينا ما كان من توجيه يزيد بن عبد الملك، العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب لمحاربته واستعد يزيد للقائهما واستخلف على واسط ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتَّى مرَّ بفم النيل، ثم سار حتَّى نزل العقر. وأَقبل مَسلمةُ يسير على شاطئ الفرات حتّى نزل الأنبار. ثمَّ عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قريةٍ يُقال لها : فارط. ثمَّ أَقبل حتَّى نزل على يزيد بن المهلب وقد قدم يزيد عبد الملك نحو الكوفة فاستقبله العباس بن الوليد بسُورا، فاصطفوا. ثمَّ اقتتل القوم فشدَّ عليهم أهل البصرة شدَّةً كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناسٌ من بني تميم وقيس ممَّن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنةً مع العباس بن الوليد فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي. فلما انكشف أهل الشَّام تلك الانكشافة نادى هريم بن أبي طحمة :
- «يا أهل الشام الله الله! إلى أين؟ أتسلموننا وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر؟».
فأخذوا ينادونه :
- لا بأس عليك، إنَّ لأهل الشام جولة في أَوَّل القتال أتاك الغوثُ.
ثمَّ إِنَّ أَهل الشَّام كرُّوا عليهم، فكُشِف أصحاب عبد الملك وهزموا. وجاءَهم عبد الملك حتّى انتهى إلى أخيه بالعقر وسقط إلى يزيد ناس كثيرٌ من أَهل الكوفة ومن أهل الجبال فبعث على الأرباع رؤساءهم عبد الله بن المفضَّل الأزدي، والنعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث، وحنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي. وجمعهم جميعاً مع المفضّل بن المهلب.
فتحدث علاء بن زهير قال : والله إنَّا لَجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال :
- «أترون أَنَّ فى العسكر أَلفَ سيف يُضرب به؟».
قال : فيقول له : حنظلة بن العتّاب :
- «إنّهم والله ما ضربوا بألف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألف. والله، لودِدتُ أن مكانهم أَنَّ الساعةَ معي من بخراسان من قومي».
ص: 318
ثمَّ إنَّه خطب النَّاس وحرّضهم، وقال في كلامه :
- «إنَّه ذُكر لي أنَّ هذه الجرادةَ الصَّفراء ( يعني مسلمة بن عبد الملك ) وعاقر ناقة ثمود ( يعني العباس بن الوليد وكان العباس أزرق أحمر، كانت أُمُّه روميَّةً) والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلَّمتُه فيه فأقره على نسبه؛ فبلغني أَنَّه ليس يُهمهما إلا التماسي في الأرض. والله، لو جاؤوا بأهل الأرض جميعاً، وليس إلا أَنَا، ما برحتُ العرصة حتى تكون لي أو لهم».
قالوا :
- «إِنَّا نخاف أن تُعنينا كما عنانا عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث». قال:
- «إنَّ عبد الرحمن فضح الذُّمار وفضح حَسَبَهُ، وهل كان يَعدُو أَجلَه؟» ثم نزل.
قال : ودخل عامر العَميثل، وهو من الأزد وقد جمع جُموعاً، فأتاه فبايعه. وكانت بيعة يزيد :
- «تبايعوني على كتاب الله وسنّة نبيه وعلى ألا يطأ الجنودُ بلادنا ولا بيضتنا، ولا تُعاد علينا سيرة الفاسق الحجّاج. ومَن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومَن أَبی جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه».
ثم يقول :
- «تبايعون؟».
فإذا قالوا : «نَعمْ». بايَعَهم.
دعا يزيد بن المهلب رؤساء أصحابه، فقال لهم :
- «إني قد رأيتُ اين أَجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثَهم مع محمد بن عبد الملك، حتّى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذعَ والأكُفَ والزُّبُلَ من الخندق الذي حفروه، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقيَّة ليلته. وأُمِدَّهُ بالرّجال حتى أُصبحَ، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالنَّاس فناجزتُهم. فإنِّي أَرجو عند ذلك أن ينصرنا الله عليهم».
فقال السَّميدَع (وكان كِنديًا يرى رأي الخوارج، قد اعتزل مع طائفة من القُرّاء أَيَّام قتال يزيد مع عدي بن أرطأة إلى أن قالت طائفة من أصحاب يزيد و وطائفةٌ من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السَّميدَع. ثم دعاه يزيد إلى نفسه وشرط له العمل بالكتاب والسنة، فأجابه، واستعمله على الأبلَّة في تلك الأيَّام ) :
ص: 319
- «إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، وقد زعموا أَنَّهم قابلون منا هذا، فليس لنا أن نمكُرَ ولا أَن نَغدِرَ ولا أَن نُريدهم بسوء حتّى يردُّوا علينا ما زعموا أَنَّهم قابلوه منا».
فقال جماعة من أهل الديانة :
- «هكذا ينبغي».
قال يزيد :
- «ويحكم! أتصدقون بني أمية أن يعملوا بالكتاب والسُّنَّة وقد ضيعوا ذلك مُذْ كانوا! إنّهم لم يقولوا لكم إنا نقبل منكم، وهم يريدون ألا يعملوا في سلطانهم إنَّما تأمرونهم وتدعونهم إليه، ولكنّهم أرادوا أن يكفُوكم عنهم حتّى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، ابدؤوهم بها! إنّي لقيتُ بني مروان، فوالله ما لقيتُ منهم رجلاً هو أَشدُّ تمرّداً ولا أبعد غوراً من هذه الجرادة الصَّفراء». يعني : مسلمة. قالوا :
- «لا نرى أن نفعل ذلك حتّى يردُّوا علينا ما زعموا أَنَّهم قابلوه منا وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحثُ الناس على حرب أَهل الشَّام ويُسرِّح النَّاسَ إلى يزيد».
وكان الحسن البصري يُثبِّط الناس عن يزيد بن المهلب ويخطب أصحابه بما يُقعِدُهم. فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب، قام خطيباً كما كان يقوم، فأمر الناس بالجد والاجتهاد والاحتشاد، وقال :
- «لقد بلغني أنَّ هذا الشَّيخ الضَّالَّ المُرائي - ولم يُسمِّه - يُثبط عنَّا النَّاس. والله، لو أَنَّ جارَهُ نزع من خُص داره قصبة لظل يرعف أنفه، ويُنكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقنا وأن نُنكر مظلمتنا! أما والله، لَيكُفَّنَّ عن ذكرنا، أو عن جمعه سُقَاطَ الأبلة وعُلوج فرات البصرة، أو لأنحينَ عليه مبرداً خشناً».
فلما بلغ ذلك الحسن قال :
- «والله ما أكره أن يُكرمني الله بهوانه».
فقال ناس من أصحابه :
- «والله لو أَرادك ثمَّ شئتَ لمنعناك».
فقال لهم :
- «قد خالفتكم إذاً إلى ما نهيتكم عنه، آمركم أن لا يقتل بعضُكم بعضاً مع غيري وأدعوكم أن يقتل بعضُكم بعضاً دوني!».
ص: 320
فبلغ ذلك مروان، فاشتد عليهم وأخافهم، وطلبوا حتى تفرَّقوا، ولم يَدَعِ الحسنُ كلامه ذلك، وكفَّ عنه مروان بن المهلب.
وكانت مدة إقامة يزيد بن المهلب منذ اجتمع هو ومسلمة ثمانية أَيَّام. حتّى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية في السفن حتّى يُحرق السُّفُن الَّتي في الجسر، ففعل.
وخرج مسلمة فعبَّى جنود أهل الشَّام ميمنة وميسرة، وازدلف بهم نحو يزيد، وخرج إليه يزيد في مثل تعبئته.
فحدَّث العلاء بن منهال، أنَّ رجلاً من أهل الشّام خرج، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد. فبرز إليه محمد بن عبد الملك، فحمل عليه، فائقاه الرجل بيده وعلى كفه كفَّ وساعد من حديد. فضربه محمد، فقطع كفَّ الحديد وأسرع السيف في كفّه، واعتنق فرسَه وأَقبل محمد يضربه ويقول:
- «المنجل أعود عليك من مبارزة الفرسان. عليك بالمنجل!».
قال : وذُكر أَنَّه كان حيان النبطي. قال : ولما أحرق الوضَّاحُ الجسر وسطع دُخانُه وقد نشبت الحرب ولم يشتد القتالُ نظر الناسُ إلى الدخان وقيل لهم :
- «احرق الجسر».
فانهزموا وقيل ليزيد:
- «قد انهزم النَّاس». قال :
- «ومِمَّ انهزموا ؟ وهل كان قتال يُنهزم من مثله؟».
فقيل له :
- «احرق الجسرُ فلم يثبت أحدٌ». قال :
- «قبحهم الله».
قال :
- «بقُ دُخِّن عليه فطار».
فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه. فقال رجل من أَهل بيته :
- «ينهزمون وهم كالجبال». فقال :
- «اضربوا وجوه المنهزمين».
ففعلوا ذلك حتّى كثروا عليهم، واستقبلهم منهم مثل الجبال. فقال :
- «دَعُوهم، فوالله إني لأرجو أن لا يجمعني الله وإيَّاهم في مكان واحدٍ أبداً،
ص: 321
دعوهم يرحمهم الله. غَنَم عدا في نواحيها الذِّئبُ».
وكان يزيد لا يُحدِّث نفسه بالفرار.
ولمَّا انهزم النَّاس قال يزيد لِلسَّميدَع :
- «يا سميدَع أَصح أمر رأيك، ألم أعلمك ما يُريد القومُ؟» قال :
- «بلى، والرَّأي والله كان رأيك وأنا ذا معك لا أُزايلك فمُرْني بأمرك». قال :
- «إمَّا لا فانزل».
فنزل في أصحابه. وجاء يزيد جاءٍ وقال :
- «إنَّ حبيباً قد قتل». فقال :
- «لا خير في العيش بعده امضوا بنا قُدُماً».
فعلمنا أنه مستقتل، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسللون، وبقيت مع يزيد بقيَّةٌ : جماعة حسنةٌ وهو يزدلف بهم. فكلما مر بخيلٍ أو جماعةٍ من أهل الشّام كشفها وعدلوا عَن سننه وسَنَنِ أَصحابه وأتاهُ آتٍ وقال له :
- «ذهب النَّاس».
وهو يُسرُّ إليه وأَنا أَسمعه. وقال له :
- «هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنَّها حصن حتّى تأتيك الأمداد من البصرة وعُمان والبحرين في السُّفن وتضرب خندقاً». فقال :
- «قبح الله رأيك إلا تقول ذا؟ ألموتُ أَيسر عليَّ من ذلك». فقال :
- «ألا ترى مَن حولك من جبال الحديد؟».
وهو يُسرُّ إليه. قال :
- «أَمَّا أَنا فما أُباليها، جبال حديد كانت أم جبال نارِ. اذهب عنا إن كنت لا تريد القتال معنا». وتمثل :
أ بالموت خَشَّتني عُبادُ وإِنَّما *** رأَيتُ مَنايا النَّاسِ يسعى دليلها
فما ميتةٌ إن متّها غير عاجز *** بعار، إذا ما غالتِ النَّفْسَ غُولُها
وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب. فأقبل نحو مسلمة لا يُريد غيره حتّى إذا دَنا منه، دعا مسلمة بفرسه ليركب. فعطفت عليه خُيول الشَّام فقُتل يزيد بن المهلب والسميدع، وقُتل أخوه محمد بن المهلب.
فحكي: أَن رجلاً من كلب يُقال له : الفحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال :
ص: 322
- «يا أهل الشام، هذا يزيد والله لأقتلنه، أو يقتلني. إنَّ معه ناساً، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتّى أصل إليه؟».
فقال ناس من أصحابه :
- «نحن نحمل معك».
ففعلوا، وحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعةً وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً وعن الفحل بن عياش بآخر رمق. فأومأَ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم:
- «أنا قتلته».
ويُومي إلى نفسه أَنَّه :
- «هو قتلني»!
وكان مسلمة لا تصدق أنه هو قتله. فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أَبي معيط.
وأبلى يومئذٍ المفضَّل بن المهلب بعد قتل يزيد وإخوته حتَّى ظُنَّ أَنَّه يتلافى الأمرَ وحده مع نفرِ معه يذمر بهم ويقول لهم :
- «غضوا أبصاركم ولا تلتفتوا، فداؤكم أبي وأُمّي».
ويحمل الحملات الصادقة حتّى تفرّقت عنه تلك العصابة وبقي وحده. فأخذ الطريق إلى واسط. فقال الناس :
- «ما رأينا من العرب رجلاً في مثل منزلته كان أغشى للبأس بنفسه ولا أضرب بسيفه ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه».
وأسر أهل الشّام خلقاً من أصحاب يزيد فسرَّح بهم إلى محمد بن عمرو بن الوليد، فحبسهم إلى أن جاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو أن :
- «اضرب أعناق الأسرى».
فقال للعريان بن الهيثم وكان على شرطته :
- «أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين.
فقام قوم من بني تميم وهم لا يدرون ماذا يُراد بهم، فقالوا
فقال لهم العريان :
ص: 323
- «اخرجوا على اسم الله!».
فأخرجهم إلى المصطبة، ثمَّ أَرسل إلى محمد بن عمرو، ويُخبره بإخراجهم وبمقالتهم. فبعث إليه أن :
- «اضرب أعناقهم».
فتحدث نجيح مولى زهير قال : والله إني أنظر إليهم وهم يُقتلون وإنَّهم ليقولون:
- «إنَّا للَّه انهزمنا بالنَّاس وهذا جزاؤنا».
فما هو إلا أن فُرغ مهم جاءَ رسولُ مَسلمة بكتابه فيه النهي عن قتل الأسرى وإطلاقهم. وكان مسلمة ضمن لهم ضمانات وواطأهم إذا رأوا دخان الحريق من الجسر أن ينهزموا بالنَّاس. ففعلوا، ثمَّ قُتلوا.
ولمَّا جاءَ فل يزيد إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيراً كانوا في يديه، فضرب أعناقهم. منهم: عدي بن أرطأة، وابنه محمد بن عدي ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم من الأشراف. وكانوا قالوا له :
- «ويحك! إنَّا لا نُراك تقتلنا إلا أَنَّ أَباك قد قتل، وأَنَّ قتلْنَا ليس بنافعك في الدُّنيا وهو والله ضارك في الآخرة».
فقتلهم كلهم إلا ربيع بن زياد بن ربيع بن أنس. فقال له قوم :
- «نسيتَهُ». فقال :
- «ما نسيته ولكن لم أكن لأقتله وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف، ولستُ أَتّهمه في وُدّ، ولا أَخاف بَغْيَه».
ورثى الشُّعراء يزيد وإخوته المقتولين فأكثروا.
وأقبل معاوية بن يزيد حتَّى أتى البصرة معه المال والخزائن. وجاءَ المفضّل، فاجتمع إليه جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا أعدُّوا السُّفن البحريَّة وتجهزوا بكلِّ الجهاز، لأنهم كانوا يتخوفون ما كان، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأزدي على قندابيل أميراً، فقال له :
- «إني قد اخترتك من بين قومي لأهل بيتي، فكُن عند حسن ظني بك».
وأخذ عليه أيماناً غلاظاً، وقال:
- «إِنِّي سائر إلى هذا العدو ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى يكون لي، أو لَهُم، وإن ظفرتُ أكرمتك، وإن تكن الأخرى ولجأ إليك أهل بيتي كنت في حصن معهم وآويتهم حتى يأخذوا لأنفسهم أماناً.
ص: 324
ولما اجتمعوا بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثمَّ لججوا في البحر حتّى مُرُّوا بمُهزّم بن الفزر، وكان يزيد استعمله على البحرين. فقال لهم :
- «أُشير عليكم أن لا تفارقوا سُفنكم فإنَّ ذلك بقاؤكم، وإن خرجتم منها يخطفكم النَّاس وتقرَّبوا بكم إلى بني مروان».
فخالفوه ومضوا حتَّى إذا كانوا بجبال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالهم وأَموالهم على الدواب. وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة بالخزائن والأموال أراد أن يتأمر عليهم. فاجتمع آل المهلب، فأمروا عليهم المفضل بن المهلب، وقالوا :
- «المفضّل أكبرنا وسيدنا وإنما أنت غلام حدث السِّن كبعض فتيان أهلك».
فلم يزل المفضَّل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان وبكرمان فلول كثيرة. فاجتمعوا إلى المفضّل.
وبعث مسلمة بن عبد الملك مُدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي أَثر الفل. فأدرك مدرك المفضَّل بن المهلب وقد اجتمعت إليه الفُلول بفارس فاتَّبعهم فأدركهم في عَقَبَةٍ، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتدَّ قتالهم. فقُتل ممن كان مع المفضل : النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمد بن إسحاق بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك دهستان أسيراً، وجُرح عثمان بن إسحاق، ومحمد بن الأشعث جراحة شديدة وهرب حتى بلغ حلوان. فدُلّ عليه هناك فقُتل وحمل رأسه إلى مسلمة.
ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب فطلبوا الأمان، فأُومِنوا، منهم: مالك بن إبراهيم بن الأشتر والزرد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد عبد الرَّحمن بن محمد مواطنه كلَّها.
ومضى آل المهلب ومن سقط إليهم إلى قندابيل، وكان مسلمةً ردَّ مُدركاً الضَّبي وسرَّح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي من بني مازن بن عمرو بن تميم، فلحقهم بقندابيل. فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد، وكاتب هلال بن أحوز ولم يُباين آل المهلب فيحذروه. فلما التقوا للحرب وصفوا كان وداع بن حميد على الميمنة وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدي. فرفع لهم هلال بن أحوز المازني راية الأمان، فمال إليها وداع بن حميد وغدر بآل المهلب، وتبعه عبد الملك بن هلال، وارفضَّ عنهم النَّاس فخلوهم.
فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يريد الانصراف إلى النِّساء، فقال له المفضّل :
ص: 325
- «أَين تريدُ؟» قال :
- «أدخل إلى النِّساء من أهلي فأقتلهنَّ لِئلا يصل إليهنَّ هؤلاء الفُسَّاق». فقال :
- «ويحك! أتقتل أخواتك وبنات أخواتك ونساء أهلك؟ إِنَّا والله ما نخاف عليهنَّ منهم». فردَّه عن ذلك.
ثمَّ مَشَوا بالسُّيوف وقاتلوا حتَّى قُتلوا من عند آخرهم إلأ عيينة بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب، فإنّهما نَجَوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبُعث برؤوسهم ونسائهم وأولادهم إلى مسلمة بن عبد الملك.
وقال مسلمة :
- «والله لأبيعنَّ ذرِّيَّتهم».
وكانوا في دار الرّزق. فقال الجراح بن عبد الله :
- «فإِنِّي أشتريهم منك لأبر قسمك».
فاشتراهم منه بمائة ألف درهم. قال :
- «إذا شئت فخذها».
ثم تركها عليه ولم يُطالبه بها، وخلى سبيلهم إلَّا تسعة فتية منهم أحداثاً بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب أعناقهم ورثاهم الشعراء.
ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة.
وفي هذه السَّنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى خراسان، وهو الذي يُلقَّب بسعيد خُدينة، وإنَّما استعمله مسلمة لأنه كان ختنه على ابنته، وقدم سعيد خُدَينة قبل شخوصه سورة بن أبجر من بني دارم،، فقدمها قبله بشهر أو نحوه واستعمل شعبة بن ظهير النَّهشلي على سمرقند، فخرج إليها في خمسة وعشرين رجلاً من أهل بيته. فأخذ على آمل أموية، وأتى بخاری، فصبحه وصحبه منها مائتا رجل، فقدِمَ السُّغد وقد كان أهلها ارتدوا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح.
فخطب شعبة أهل السغد ووبخ سُكانها من العرب وغيرهم بالجبن، وقال:
ص: 326
- «ما أرى فيكم جريحاً ولا أسمع فيكم أَنَّةً.
فاعتذروا بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي وكان على الحرب. ثم قدم سعيد. فأَخذ عُمَّال عبد الرَّحمن بن عبد الله الذين وَلُوا أَيَّام عمر بن عبد العزيز فحبسهم.فكلمه فيهم قوم فضمنهم وأطلق عنهم، ثمَّ رُفع إليه على عُمَّال يزيد بن المهلب وهم ثمانيةٌ. فأرسل إليهم وحبسهم في القُهَنْدِزُ بمرو، فقيل له :
- «إِنَّ هؤلاء لا يودون إلا أن يبسط عليهم».
وكان فيهم جهم بن زهر فأرسل إليه ثمَّ ضربه في ما بعد. وعزل شعبة بن ظهير عن سمرقند، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف وكان الناس يُضعفون سعيداً ولقبوه خُدَينة. فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك ووجههم إلى السُّغد وكان عليهم كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا بقصر الباهلي.
وقيل : إِنَّ سبب طمع الترك أنَّ بعض عظماء الدّهاقين رأى في ذلك القصر امرأة من باهلة فهويها، فأرسل إليها فخطبها، فأَبَتْ فاستجاش ورجا أَن يُسبّوا فيأخُذَ المرأَةَ قهراً. فأقبل كورصول في من معه من الترك حتّى حضر بالقصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا من الترك، وأشفقوا أَن يُبطئ عنهم المَدَدُ. فصالحوا التُّرك على أربعين ألفاً وأعطوهم من الرّجال سبعة عشر نفساً هينة، وندب عثمان بن عبد الله بن مطرف الشَّخّير النَّاس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير :
- «لو كان ههنا خيول خراسان بأميرهم ما وصلوا إلى إغاثتهم».
وكان في مَن انتدب شعبة بن ظهير وجماعة من الرُّؤساء، فقال لهم المسيب بن بشر لما عسكروا :
«إِنَّكم تقدمون على حلبة التُرك وهي حلبة خاقان، والعوض إن صبرتم الجنَّة، والعقاب إن فررتم النّار، فمن أراد الصبر فليُقدم».
فانصرف عنه أَلف وثلاثمائة، وسار في الباقين. فلما سار قليلاً أقبل على الناس وقال مثل مقالته الأولى، فاعتزل أَلفٌ. ثمّ قال بعد ما سار فرسخاً مثل ذلك فاعتزل ألفٌ آخر، وسار في سبعمائة، حتّى إذا كان على فرسخين من القوم نزل.
فأَتاهم من ترك خاقان ملك قي، فقال:
- «إنَّه لم يبق ههنا دهقان إلا وقد تابع التركَ غيري وأنا في ثلاثمائة مقاتل، فهم معك. وعندي الخبر أنَّ القوم قد كانوا صالحوا على أربعين ألفاً وأعطوهم سبعة عشر
ص: 327
رجلاً يكونون في أيديهم رهناً. فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل التُرك من كان أَيديهم من الرهائن».
قال : وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا، والأشهب بن عبد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غداً أو يفتحوا القصر.
فبعث المسيب رجلين من العرب ورجلاً من العجم من ساعته - وكان ليلاً - على خيولهم، وقال:
- «إذا قربتم فشُدُّوا دوابكم بالشَّجر واعلموا علم القوم».
فأَقبلوا في ليلة مظلمة وقد أجرتِ التُّرك الماء في نواحي القصر. فليس يصل إليه أحدٌ ودنوا من القصر فصاح بهم الربيئة، فقال :
- «لا تصح وادع لنا عبد الملك بن دثار».
فدعوه فقالا له :
- «أرسلنا المسيب وقد أتاكم الغوث». قال :
- «أَين هو ؟» قالا:
- «على فرسخين، فهل عندكم امتناع إلى أن يلحق؟» قال :
قد أجمعنا على تسليح نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا حتى نموتَ جميعاً غداً.
فرجعا إلى المسيب، فأخبراه. فقال المسيب للذين معه :
- «إني سائر إلى هذا العدو. فمن بايعني على الموت، وإلا فليذهب».
فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت. فلما أصبح سار وقد زاد الماء الذي أجروه إلى المدينة تحصيناً. فلما كان بينه وبينهم نصف فرسخ رأى أن ينزل ويبيتهم. فلما أمسى أَمرَ النَّاس، فشدوا على خيولهم وركب فحثَّهم على الصبر ورغبهم في ما يصير إليه أهل الجهاد والاحتساب والصبر وما لهم في الدُّنيا من الغنيمة والشرف إن ظفروا، وما لهم في الآخرة من الثواب والنعيم الأبدي إن قتلوا.
ثم قال لهم :
- «اكعموا دوائكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوا وشُدُّوا شَدَّةً صادقةً وكبروا. وليكن شعاركم : «يا محمد» ولا تتبعوا مولياً فتتفرَّقوا، وعليكم بالدَّوابُ فاعقروها، فإنَّ دواب القوم إذا عُقرت أشد عليهم منكم. واعلموا أن القليل الصابر خيرٌ من الكثير الفَشِل، وليست لكم قلةٌ. إنَّ سبعمائة سيف لا تُضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كَثُرَ أَهلُه».
ص: 328
وعبأهم ميمنة وميسرة، وساروا حتى إذا كانوا على غلوتين كبروا، وذلك في السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون وانهزموا، فعقر المسلمون الدواب. ثم عاد التُرك وصابروا، فحال المسلمون وانهزموا، حتَّى إذا صاروا إلى المسيَّب وتبعهم الترك فضربوا عَجُزَ دابَّة المسيب. فترجل قوم من المسلمين منهم البختري، ومحمد بن قيس الغنوي وزياد الأصبهاني، ومعاوية بن الحجاج وثابت قطنة، وكان على ميسرة المسيب. فأَمَّا البختري فقاتل حتّى قُطعت يمينه فأخذ السَّيفَ بشماله فقطعت، فجعل يذب ببدنه حتّى استشهد. واستُشهد أيضاً محمد بن قيس، وشلَّت يَدُ الحجاج الطَّائي : ثمَّ لم يصبر الترك وانهزموا. وضرب ثابت قطنة عظيماً من عظمائهم، فقتله ونادى منادي المسيب :
- «لا تتبعوهم، فإنَّهم لا يدرون من الرُّعب أتبعتموهم أم لا، واقصدوا القصر ولا تحملوا للقوم شيئاً من المتاع إلا المال، واقصدوا من ضعف عن المشي فاحملوه ولا تحملوا من أطاق على المشي».
وقال المسيب :
- «من حمل امرأَة أو صبيا أو ضعيفاً حِسبةً فأَجرُه على الله. ومَن أَبی فله أربعون درهماً. وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه».
قال : فقصدوا جميعاً القصر، فحملوا من كان فيه. وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة، فقالت :
- «أَغثني أَغاثك الله».
فوقف وقال :
- «دونكِ عجز الفرس!».
فوثبت فإذا هي على عجز الفرس، وإذا هي أفرسُ من رجل يعجب لها من رآها وتناول الفُقيمي بيد ابنها غلاماً صغيراً، فوضعه بين يديه وأَتوا ملك قِيّ تُرك خاقان، فأنزلهم قصره، وأتاهم بطعام وقال :
- «الحقوا بسمرقند».
ثم قال :
- «هل بقي أَحدٌ؟» قالوا:
- «نعم، هلال الجديدي». فقال :
- «لا أسلمه».
فأتاه به، وبه يضع وثمانون ضربة. فاحتمله فبرأَ، إلى أَن أُصيب يوم الشعب مع
ص: 329
الجند؛ ورجع الترك من الغد، فلم يَرَوا في القصر أحداً ورأوا قتلاهم. فقالوا :
- «لم يكن الذين جاؤوا بالأمس من الإنس».
فقال بعض من شهد ليلة قصر الباهلي : كُنا في القصر. فلما التقوا ظَنَنَّا أَنَّ القيامة قامت لهول ما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد.
وفي هذه السنة قطع سعيد خدينة نهر بلخ، وغزا الترك، وكانوا قد نقضوا العهد وأَعانوا الترك. وذلك بعد ما كلَّم الناس سعيداً مراراً وقالوا له :
- «تركتَ الغزو فقد كثرَ التُرك، وكفر أَهلُ السُّغد».
فلما عبر سعيد وقصد السغدَ لقيه الترك وطائفة من السغد. فهزمهم المسلمون. وقال سعيد :
- «لا تتبعوهم، فإنَّ السغد بستان أمير المؤمنين».
فلما كان الغد خرجت مسلحة المسلمين - والمسلحة يومئذ من تميم - فما شعروا إلا بالتُّرك معهم خرجوا عليهم من غيضة، وعلى خيل بني تميم شعبة بن ظهير، فقُتل شعبة. وذاك أنه أعجل عن الركوب، فقاتلهم راجلاً إلى أن قتل، وقُتل نحو من خمسين رجلاً، وانهزم المسلحة وأتى النَّاسَ الصَّريخ.
فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي : كنتُ أَوَّل مَن أَتاهم لمَّا أَتانا الخبر وتحتي فرس جَوادٌ، فإذا عبد الله بن زُهير إلى جنب شجرةٍ زُهير إلى جنب شجرةٍ كأَنه قُنفَذ من النشاب وقد قتل. ثمَّ لحق الناس وحملوا على العدو حتى كفوهم. وجاء الأمير والجماعة، فانهزم العدو.
كان سعيد عبر النهر مرَّتين، فلم يجاوز سمرقند وكُنَّا حكينا أنّه لما هزم المسلمون الترك وأَهلَ السُّغد أَلحُوا في طلبهم. فنادى منادي سعيد:
- «لا تطلبوهم، فإنَّ السُّغد بستان أمير المؤمنين».
وقال سعيد :
- «قد هزمتموهم. أفتريدون بوارَهم وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرَّة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع».
وكان سعيد إذا بعث سريَّةً فأصابوا وغنموا وسَبَوا ردَّ السَّبي ووبخ السَّريَّة. فقال له يوماً حيَّان النبطي وهو بإزاء العدو من أهل السُّغد :
- «أَيُّها الأمير، ناجز العدو». فقال:
ص: 330
- «لا، هذه بلاد أمير المؤمنين».
فلما انهزم أهل السُّغد تبعهم حيَّان، فقال له سورة بن أبجر :
- «انصرف كما أمر الأمير». فقال :
- «أَدَعُ عقيرةَ الله وأَنصرِفُ!» فقال له :
- «يا نبطي!» قال :
- «أنبط الله وجهك».
وكان حيَّان يُكنّى في الحرب: أبا الهياج، وإيَّاهُ عَلَى الشَّاعرُ :
إِنَّ أَبا الهياج أَريَحيُّ *** للرّيح في أثوابه دَوِيُّ
فحقد عليه سورة وقال :
- «أنبط الله وجهك».
ثمَّ خلا بسعيد فقال :
- «إن هذا العبد أعدى الناس للعرب. قد عصى أَمرَك، وهو الذي أَفسد الَّذي أَفسد خراسان على قتيبة وهو واثب بل مفسد عليك خراسان، ثمَّ يتحصَّن في بعض هذه القلاع». قال :
- «يا سورة! لا تسمعن».
ثم مكث أَيَّاماً وقد ثقل سعيد على النَّاس وضعَّفوه، فلم يأمن حيان. فأَمر سعيد بذهب فَسُحِلَ وأُلقِيَ في طعام وناوله حيَّان. فلما علم أنه قد حصل في جوفه ركب وركب معه النَّاس وفيهم حيَّان. فركض أربعة فراسخ فنزل حيان وعاش أربعة أيام ومات في الرابع.
وفي هذه السنة عُزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام.
كان سبب ذلك أَنَّ مسلمة لما ولي أَرضَ العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئاً، وكان يزيد بن عبد الملك يُريد عزله فيستحييه، فيكتب بتشوقه. فشاور مسلمة عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشُّخوص إلى يزيد ليزوره فقال له :
- «أمن تشوقٍ بك إليه؟ إِنَّك لطروب». قال :
ص: 331
- «إِنَّه لا بُدَّ من ذاك». قال :
- «إذاً لا تخرج من عملك حتّى تلقى الوالي عليه».
فشخص.فلما بلغ دورين لقيه عُمر بن هبيرة الفزاري على خمس من دوات البريد. فدخل عليه ابن هبيرة مسلّماً، فقال:
- «إلى أين يا بن هبيرة؟» قال :
- «وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب».
فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز، فجاءه. فقال:
- «هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى». قال :
- «قد كنتُ أنبأتُك». قال :
- «فإنَّه إنَّما وُجه لحيازة أموال بني المهلب» قال :
- «هذا أعجب من الأَوَّل: يُصرف عن الجزيرة ويُوجّه في حيازة أموال بني المهلب».
قال : فلم يلبث أن جاءَهُ عزلُ ابن هبيرة عُمَّالَه والغلظة عليهم. فقال الفرزدق :
راحت بمسلمة الرّكابُ مودَّعاً *** فارعي فزارة لا هَناك المرتعُ
ولقد علمتُ لئن فزارة أُمرت *** أن سوف تطمع في الإمارة أشجعُ
وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الرُّوم. فسبى سبعمائة أسير وفيها أَيضاً وجه مسيرة رُسلَهُ من العراق إلى خراسان، فظهر أمر الدُّعاة فيها.
وكان سعيد خدينة يومئذ بخراسان، فأتاه آتٍ فقال :
- «إنَّ ههنا قوماً يدعون إلى إمام لهم وقد ظهر منهم كلام قبيح». فبعث سعيد إليهم فقال :
- «من أنتم؟» قالوا :
- «ناس من التَّجار». قال :
- «فما الذي يُحكى عنكم؟» قالوا :
- «لا ندري. قال:
- «جئتم دعاة؟» فقالوا :
- «إن لنا في أَنفسنا شغلاً عن هذا».
ص: 332
فقال :
- «مَن يعرف هؤلاء؟».
فجاء قوم من خراسان جلُّهم من ربيعة واليمن. فقالوا :
- «نحن نعرفهم وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه».
فخلى سبيلهم.
وفيها عزَلَ عمرُ بن هبيرة سعيد خدينة عن خراسان، وذاك أَنَّ النَّاس شكوا سعيد خدينة. فكتب عمر بن هبيرة بذلك إلى يزيد وكتب بأَسماءِ مَن أَبلى يوم العقر، ولم يذكر سعيد بن عمرو الحَرشي. فكتب إليه يزيد بن عبد الملك:
- «لِمَ لَمْ تذكر الحَرشي؟ وَلِّه خراسان!».
فولاه، وخرج سعيد الحرشي وقدِمَ خراسان في سنة ثلاث ومائة والناس بإزاء العدو، وقد كانوا نُكبوا. فخطبهم وحثّهم على الجهاد وقال :
- «إِنَّكم لا تُقاتلون عدوّ الإسلام بكثرة ولا بِعُدَّة ولكن بنصر الله وعز الإسلام».
وكان شاعراً، فقال:
فلستُ لِعامرٍ إن لم تَرَوني *** أَمامَ الخيل أطعنُ بالعوالي
وأضرب هامةَ الجبار منهم *** بعضب الحدّ حُودِثَ بالسِّقالِ
فما أنا في الحروب بمستكين *** ولا أخشى مصاولةَ الرّجالِ
أبى لي والدي من كل ذمّ *** وخالي في الحوادث غير خالِ
إذا خطَرَتْ أمامي حيٌّ كعبٍ *** وزافت كالجبال بنو هلال
وكانت السُّغد قد أعانت التُّرك أَيَّام خدَينة. فلما وليهم الحرشي خافوا على أنفسهم. فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم :
- «لا تفعلوا، أقيموا واحملوا إليه خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضكم، والغزو معه، إن أَراد ذلك، واعتذروا إليه ممَّا كان منكم، وأعطوه رهائن تكون في يديه». قالوا :
- «لا نفعل، فإنَّه لا يرضى ولا يقبل ذلك منا. ولكنا نأتى خُجندة فنستجير بملكها ونُرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منه ونوثق له ألَّا يرى منا أمراً يكرهه». فقال :
- «أنا رجل منكم، وما أشرتُ به فهو خسر لكم».
ص: 333
فأبوا وخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج، وكشر، وشاركث وثابت بأهل اشتيخَن. وأرسلوا إلى ملك فرغانة، وهو الطَّار، يسألونه أن يمنعهم ويُنزلهم مدينته فأرسل إليهم :
- «سَموا لي رُستاقاً أفرغه لكم، وأَجِّلُوني عشرين يوماً، وإن شئتم فرغتُ لكم شِعبَ عصام بن عبد الله الباهلي».
وكان قتيبة خلفه فيه، فقيل : شعب عصام. فأرسلوا إليه :
- «فرغه لنا» قال :
- «نعم، وليس لكم علي عقد ولا جوارٌ حتّى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعهم».
فرضُوا، ففرّغ لهم الشعب. وقد كان هذا الشعب من رستاق أسفرة، وأسفرة يومئذ إلى ولي عهد ملك فرغانة وهو بلاذا، وكان قال لهم كارزنج :
- «أُخيِّركم ثلاث خصال إن تركتموها هلكتم. إنَّ سعيداً فارس العرب، وقد وجه على مقدَّمته عبد الرحمن بن عبد الله القشيري في كماة أصحابه، فبيتوه واقتلُوهُ. فإنَّ الحرشي إن أَتاهُ خبره لم يغزُكم».
فأبوا عليه. قال :
- «فاقطعوا إليه نهر الشَّاس، وسلُوهُ ما تريدون؟ فإن أجابكم، وإلا مضيتم إلى سرباب». قالوا
- «لا». قال :
- «فأعطوهم الخراج».
فأبوا. ولحق كارزنج وأهل السُّغد بخُجندة.
حرب شاغرة برجلها (1)، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل.
قال : وكيف لي؟
قال : تأمر بالنزول، فقبل، ونزل.
وخرج ابن عم لملك فرغانة يقال له : السلار إلى الحرشي فقال له : إن أهل السغد بخجندة، وأخبره خبرهم، وقال : عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشعب، فليس علينا لهم جوار حتى يمضي الأجل.
فوجه الحرشي مع السلار عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم بعد [أن] (2) فصلوا، وقال: جاءني علج لا أدري صدقني أم كذبني فغررت بجند من المسلمين.
وارتحل في أثرهم حتى نزل بأشرُوسَنة (3)، فصالحهم على شيء يسير، وسار جاراً معدّاً حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار حتى انتهى إلى خجندة، فاستشار الفضل بن بستام، وقال له ما ترى؟
قال : أرى (4) المعاجلة.
قال : ولكني لا أرى ذلك، إن خرج رجل فإلى من يرجع؟
أو قتل قتيل إلى من يحمل؟
ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل، ورفع الأبنية، وأخذ في التأهب.
فلم يخرج أحد من الغد فجبن الناس يومئذ الحرشي.
وقالوا : كان هذا يذكر بأسه ورأيه بالعراق، فلما سار إلى خراسان ماق.
فحمل رجل من العرب بعمود باب خجندة حتى فتح الباب.
ص: 335
وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقاً، وغطوه بقصب وعلوه بالتراب مكيدة وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق وأشكل على المسلمين.
فسقطوا في الخندق دهشاً.
فأخرجوا من الخندق أربعين رجلاً على الرجل درعان وحصرهم الحرشي، ووضع عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى مالك فرغانة : غدرت بنا، وسألوه النصرة، فقال: أغدر ولا أنصركم، فانظروا لأنفسكم فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل ولستم في جواري. فلما يئسوا من نصره [16 /أ] طلبوا الصلح، وسألوا الأمان، وأن يردهم إلى السغد.
فاشترط عليهم :
*أن يردوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريهم.
*وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج.
* ولا يغتالوا أحداً.
*ولا يتخلف منهم بخجندة أحداً.
فإن أحدثوا حدثاً حلت دماءهم.
فخرج إليه كارزنج، فقال له : إن لي إليك حاجة، أُحب أن تشفعني فيها؟
*قال : وما هي؟
قال : أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح أن لا تأخذني بما جنى.
فقال الحرشي : ولي حاجة فأقضها.
قال : وما هي؟
قال : لا تلحقن في شرطي ما أكره.
ثم أخرج التجار، والملوك من الجانب (1) الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم (2) أهلها.
فقال كارزنج للحرشي : ما تصنع ؟
فقال : أخاف عليك مغرّة (3) الجند، وكان عظيماً وهم مع الحرشي في العسكر، ونزلوا على معارفهم من الجند ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان.
ص: 336
وبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساءكن في أيديهم.
فقال لهم: بلغني ثابتاً صاحب اسحيح (1) قتل امرأة ودفنها تحت حائط،، فجحدوا، فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا، فإذا المرأة مقتولة فدعا الحرشي ثابت، وأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالخبر.
وسأل الحرشي ثابتاً وغيره عن المرأة، وكان الحرشي تيقن أنه قتلها من جهات، فقتله.
فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل بعض على لحيته ويقرضها بأسنانه.
وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي فقال لأيوب بن أبي حسان: إني قد ضفتك، وصديقك، ولا يحمد بك أن تقتل ضيفك في سراويل خُلِق (2) وربما بدا منه عورته.
قال: فخذ سراويلي.
قال : وهذا أيضاً لا يجمل أقتل (3) في سراويلاتكم؟! ولكن سَرّح غلامي إلى ابن أخي يجيئني بسراويل جديدة (4) - وكان قال لابن أخيه : إذا أرسلت إليك أطلب سراويلاً فاعلم أنه القتل - فلما بعث بالسراويل، أخرج فرندة (5) خضراء فقطعها عصائب وعصبها برؤوس شاكرتيه، ثم خرج هو وشاكرتيه فاعترض الناس، فقتل خلقاً، وضعضع العسكر، ولقي الناس منه شراً حتى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود في(6) طريق ضيق فقتله ثابت.
وكان في أيدي السغد أسرى من المسلمين، فقتلوا خمسين ومائة، وأفلت منهم غلام، فأخبر الحرشي.
فأرسل من علم علمهم، فوجد أن الخبر حقاً، فأمر بقتل من عنده، وعزل التجار عنهم.
وكان التجار أربعمائة معهم مال عظيم قدموا به من الصين.
فامتنع أهل السغد ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم وكان عدد الحرانيين خاصة سبعة آلاف.
ثم أرسل من يحصي أموال التجار، وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل، فاصطفى
ص: 337
أموال السغد وذراريهم، فأخذ منه كل ما أعجبه.
ثم دعا مسلم بن بديل العدوي فقال : قد وليتك المقسم.
فقال : بعد ما عمل فيه عمالك ليلة ولِّها غيري.
فوَلّى عبيد الله بن زهير بن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسم الأموال (1).
وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، وكان هذا مما وجد عليه فيه عمر بن هبيرة.
فمن عجب ما حكى في تلك الحال :
أن رجلاً اشترى جونة (2) بدرهمين من أصحاب الأقباض، فانصرف بها، فلما حلها وجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على وجهه، فكأنه رَمِدَ، فرد الجونة، وأخذ الدرهمين ثم طلب فلم [ يُعْرَف ] (3).
وسرّح الحرشي سليمان بن أبي السري وهو مولى لبني عوافة إلى قلعة ليفتحها، وكان يمر بوادي السغد من جهة، وأخذ وأنفذ معه خوارزمشاه و شوكر بن ختل، وعوذم صاحب أخرون، فوجد سليمان بن السري على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي.
فتلقاه أصحاب القلعة على فرسخ فقاتلهم (4) فهزمهم المسيب حتى ردهم إلى القلعة، فحصرهم سليمان و دهقانها يقال له ديوشتي.
فكتب الحرشي إلى سليمان يعرض عليه المحدد، فأرسل إليه : مُلْتَقَانا ضيف، فسر أنت إلى كَشِّ (5)، فأنا في كفاية إن شاء الله.
ص: 338
فلما طال الحصار على ديوشتي طلب النزول بأمان.
فقال سليمان: لا إلا على حكم سعيد الحرشي.
فرضي بذلك.
[16 / ب] فنزل على أن يوجهه مع المسيب بن بشر، فولى له سليمان ووجهه إلى الحرشي. فألطفه وأكرمه مكيدة، وطلب أهل القلعة الصلح بعد مسيره على أن لا يعرض لما به أهل بيت منهم ونساءهم وأبناءهم، ويسلمون إليه القلعة فكتب سليمان إلى الحرشي : أن يبعث الأمناء ليقبض ما في القلعة.
فبعث ثقاته، فباعوا ما في القلعة مزايدة (1) فأخذ الخمس وقسم الباقي فيهم، وجمع الحرشي إلى كَسٍّ فصالحوه على عشرة آلاف رأس، وصالح دهقانها على أن يوفيه ذلك في أربعين يوماً على أن لا يأتيه.
فلما فرغ من كَسٍّ خرج إلى ربيخن (2)، فقتل ديوشتي (3) وصلبه على ناوس وكتب على أهل ربيخن (4)كتاباً بمائة رأس إن فقد من موضعه.
وَوَلَّى نصر بن سيار وبعث برأس ديوشتي إلى العراق.
وكانت خزائن منيعة لا يُطمع فيها، فأشير على سليمان : أن يوجه المسربل بن الحارث الناجي (5)، وكان المسربل صَدِيقاً لملكها وكان محباً إليهم، فَوُجِّه.
فلما وصل إلى القوم خبر ملكها بما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه.
قال : فما ترى لي؟
قال : أن تنزل بأمان.
قال : فما أصنع إن لحق بي من عوام الناس؟
قال : تصيرهم معك في أمانك.
فصالحهم، وأمنوه وبلاده.
ص: 339
ورجع الحرشي إلى مروان ومعه هذا الملك واسمه: سبغري.
فلما نزل إسباد (1) قتل سبغري ومعه أمانة.
ويقال : إن دهقان بن ماخر قدم على ابن هبيرة فأخذ أماناً لأهل السغد فحبسه الحرشي بمرو، فلما قدم دعا به فقتله وصلبه في الميدان، فقال راجزهم :
إذا سعيد راح في الأخماس *** في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الشرك أمر الكاس *** وطارت الترك على الأحلاس *** ولّوا فراراً عُطَّل القياس
وفي هذه السنة: رحل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خراسان إلى محمد بن عبد الله بن العباس، وقد ولد له أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة (2)، فأخرجه إليهم في خرقة وقال لهم : والله ليتمن هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
وفي هذه السنة : عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
كان عمر (3) بن هبيرة [أخذ ] (4) على الحرشي في أشياء أحدها أنّه قد كان [أمن] (5) عليه ديوشتي فقتله.
وكتب أماناً لدهقان بن ماجر فصلبه. وكان يستخف بأمر ابن هبيرة، فإذا ورد عليه رسول قال له : كيف يقول أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه : اكتب إلى أبي المثنى، ولا تقول الأمير.
فبلغ ذلك ابن هبيرة، فدعا جميل بن حمران، وقال له : قد بلغني أشياء عن الحرشي، فاخرج إلى خراسان وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه.
فقدم جميل فقيل للحرشي : إن جميلاً ما قدم للنظر في أمر الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فدس إليه طعاماً مسموماً، فأكله (6)، ومرض وتساقط شعره، وبادر بالخروج إلى ابن هبيرة، فعولج واستبل وصح.
ص: 340
فقال لابن هبيرة : الأمر أعظم (1) مما بلغك، ما يرى سعيد إلا أنك بعض عماله.
فغضب وعزله وعذبه حتى نفح في بطنه النمل، وكان سعيد يقول حين عزله عمر: لو سألني ابن هبيرة درهماً يضعه على عينيه ما أعطيته.
فلما عُذب أدى شيئاً كثيراً، فقيل له : ألم تزعم أنك لا تعطيه درهماً؟
فقال : ما كنت ذقت العذاب (2).
لما قتل سعيد بن أسلم، ضم الحجاج ابنه مسلماً مع ولده، وهو مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة بن عمرو بن الصعق، واسم الصَّعق خويلد. فتأدب ونبل فلما قدم عدي بن أرطأة أراد أن يوليه لما رأى من أدبه ونبله، فشاور كاتبه.
فقال : وَله ولاية خفيفة ثم أرفعه.
فولاه ولاية فقام وضبطها وأحسن، فلما وقعت فتنة يزيد بن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بن هبيرة أجمع على أن يوليه ولاية فدعاه، ولم يكن شاب بعد، ثم نظر، فرأى شيبة في لحيته، فكَبَّر.
قال : ثم سمر ذات ليلة، ومسلم في سمره، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة [17/أ] سفرجلة (3) فألقاها إليه تحته، قال له أبشرك أن أوليك خراسان.
قال : نعم.
قال : اغد إليَّ إن شاء الله.
فلما أصبح جلس، ودخل الناس، ودعا مسلماً وعقد له [على] (4) خراسان، كتب عهده، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد. فسار مسلم فقدم إلى خراسان نصف النهار، ووافى دار الإمارة، فوجد بابها مغلقاً (5)، فأتى المسجد، فوجد
ص: 341
باب المقصورة مغلقاً، فصلى، وخرج وصيف من باب المقصورة، فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي بمكانه.
فأرسل إليه : أقدمت أميراً، أو وزيراً، أو زائراً؟
فأرسل إليه : مثلي لا يقدم خراسان زائراً ولا وزيراً.
فأتاه الحرشي، فشتمه، وأمر بحبسه.
فقيل له : إن أخرجته نهاراً قتل فحبسه حتى أمسى.
وبعث مسلم على كوره رجلاً من قبله على حربها وكان ابن هبيرة أخذ قهرماناً (1) ليزيد بن المهلب له علم بأهل خراسان وبأشرافهم وأمره (2) أن يكتب له كل من عنده مال وعليه طريق للسلطان.
فلم يدع شريفاً إلا قربه، فكتب ابن هبيرة إلى مسلم مع أبي عبيدة العنبري يأمره بجباية الأموال، فأراد مسلم أخذ الناس بتلك الأموال التي فرقت عليهم.
فقال له نصحاؤه : إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى يُوضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان لأن هؤلاء أعيان الناس فرفعوا بالباطل، إنما كان على مهزم بن جابر ثلاثمائة ألف فزادوا مائة ألف فصار أربع آلاف، وعامة من سمى لك ممن كثر عليه هو بمنزلته. فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة وأوفد وفداً فيهم مهزم بن جابر.
فلما وصلوا قال مهزم بن جابر: أيها الأمير، إن الذي رفع إليك رفع الباطل
ص: 342
والظلم، ما علينا من هذا كله إلا القليل الذي لو أخذنا به أدينا.
فقال ابن هبيرة : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» [النساء : 58].
قال : فليقرأ الأمير ما بعدها : «أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» [النساء : 58].
فقال ابن هبيرة لا بد من هذا المال.
قال : أما والله إن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوك، وليضرن ذلك بأهل خراسان في عدتهم وكراعهم وحلقهم، ونحن في ثغر نكابد فيه الأعداء لا ينقضي حربهم وإن أخذنا لنلبسن الحديد حتى يلتبس صداه بجلده، وحتى أن الخادمة التي تخدمه لينصرف وجهها عن مولاها أو عمن تخدمه لسهولة (1) الحديد وأنتم في الزقاق وفي المعصفرات.
والذين فرقوا في هذه (2) الأحوال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي، وقبلنا قوم قدموا علينا، فجاؤوا على الجرات فولوا الولايات (3) واقتطعوا الأموال فهي عندهم موفرة جمة.
فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بأن تستخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم، وكما ذكروا. فلما أتى مسلماً كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، فأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذبهم ففعل حتى استوفى منهم ما اقترفوا(4) به.
والرأي أن تبعث إلى كل رجل من أصحابه رجلاً من قومه يكلمه ويرده ففعل.
فقال لهم أهلوهم: إنا نخاف أن نؤخذ بكم، وآمنوا وبقي عقفان وحده.
فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده.
فلما ولى هشام بن عبد الملك ولاه أمر العصاة.
فقدم ابنه من خراسان عاصياً فشده وثاقاً وبعث به إلى هشام فأطلقه لأبيه وقال : لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه.
واستعمل عقفان على الصدقة فبقي عليها إلى أن توفي هشام(1).
وخرج مسعود بن أبي زينب العبدي بالبحرين على الأشعث بن عبد الله بن الجارود ففارق الأشعث البحرين وسار مسعود إلى اليمامة وعليها شعبان بن عمرو العقيلي ولاه إياها عمر بن هبيرة.
فخرج إليه شعيان فاقتتلوا بالخِضْرِمَة (2) قتالاً شديداً.
فقتل مسعود، وأقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج، فقاتلهم يومه كله، فقتل ناس من الخوارج وقتلت زينب أخت مسعود.
فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه، وبقي في نفر يسير، فدخل قصراً فتحصن به فنصبوا عليه السلالم وصعدوا إليه فقتلوه واستأمن أصحابه، فأمنهم، وقال الفرزدق في هذا اليوم :
لعمري لقد سلت حنيفة سلة *** سيوفاً أبت يوم الوغى أن تغيرا
تركن لمسعود وزينب أخته *** رواء وسروالاً من الموت أحمرا
أرين الحروريين يوم لقائهم *** ببرقان يوماً يجعل الموت أشقرا
وقيل : إن مسعوداً غلب على البحرين واليمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفیان بن عمرو العقيلي.
ص: 344
كان مصعب من رؤساء الخوارج وطلبه عمر بن هبيرة وطلب معه مالك بن الصعب، وجابر بن سعد.
فخرجوا واجتمعوا بالخَوَرْنَق (1)، وأمروا عليهم مصعباً ومعه أخته آمنة وساروا عنه.
فلما ولى هشام بن عبد الملك استعمل على العراق خالداً القسري، سير إليهم جيشاً، وكانوا قد صاروا بحَزَّة (2) من أعمال الموصل، فالتقوا، واقتتلوا فقتل الخوارج.
وقيل : كان قتلهم آخر أيام يزيد بن عبد الملك.
فقال فيهم بعض الشعراء:
فتية تعرف التخشع فيهم *** كلهم أحكم القرآن إماما
قد يرى لحمه التهجد حتى *** عاد جلداً مضفَراً وعِظَاما
غادروهم بقاع حزة صرعى *** فسقى الغيث أرضهم يا إماما] (3)
وفي هذه السنة : مات يزيد بن عبد الملك، وكان بالبلقاء من أرض دمشق وله ثمان وثلاثون سنة.
وكان خلافته في قول هشام بن محمد وأبي معشر: أربع سنين وشهراً.
ويكنى أبا خالد.
وكان صاحب لهو وطرب، وكانت عنده حبابة، وهي التي تسمى الغالية، وسَلَّامة (4). وهو الذي طرب يوماً فقال : أطير والله.
فقالت له حبابة : فعلى من تدع الأمة؟
ص: 345
ص: 346
أتت هشاماً الخلافة وهو [بالزيتونة ] (1) في دويرة صغيرة كانت له.
فجاءته الخلافة على البريد، وسَلَّم إليه العصا والخاتم، وسُلّم عليه بالخلافة.
فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق.
وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان (2) من السغد (3) [22/ب] وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن ترجماناً له.
فلما عُزل الجنيد قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب.
فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالماً الأعين.
وأما يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر دعوة هاشم، فقيل له ذلك فرضيه، وأنفق عليهم ما معه، ودخل إلى محمد بن علي.
ومات ميسرة فوجه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى العراق فرحل مكان ميسرة فأقامه مقامه.
وفي هذه السنة : عَزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق وما كان إليه من عمل المشرق.
وولي ذلك كله خالد بن عبد الله القسري.
ص: 347
وفيها ولد عبد الصمد بن علي.
وفيها كانت الوقعة بين المضرية واليمانية والربيعية بالبروقان من أرض بلخ.
أن مسلم بن سعيد غزا فقطع النهر، وتباطأ عنه الناس.
وكان ممن تباطأ عنه البختري بن درهم، فلما أتى [23/ أ] النهر رد نصر بن سيار، وسليمان بن موسى بن عبد الله بن حازم، وبلعاء بن مجاهد بن عبد الله العنبري وجماعة أمثالهم إلى بلخ، وعليهم جميعاً نصر بن سيار.
وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه، فأحرق نصر باب البختري، وزياد بن طريف الباهلي فمنعهم عمرو بن مسلم بن عمرو [أخو قتيبة ] (1) ومن دخول بلخ، وكان والياً عليها.
فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل الصغانيان وأتاه مسلمة العقعاني من بني تميم، وحسان بن خالد الأسدي، كل واحد في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي، وزرعة بن علقمة، وسلمة بن أوس والحجاج بن هارون النميري في أهل بيته.
وتجمعت بكر(2)، والأزد بالبروقان رأسهم (3) البختري، وعسكر أيضاً بالبروقان (4)على نصف فرسخ منهم.
فأرسل نصر إلى أهل بلخ :
قد أخذتم أعطياتكم فالحقوا بأميركم فقد قطع النهر.
فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة، والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو. ثم تكلم الناس المكرهين، فقال قوم من ربيعة: إن مسلم بن سعيد يريد أن يخلع، فهو يُكرهنا على الخروج.
واجتمع قوم من تغلب إلى عمرو بن مسلم حين غزاه التغلبي إلى بني تغلب [فقال] (5) :
ص: 348
أما القرابة، فما أعرفها، وأما المنع: فسأمنعكم.
فسفر (1) الضحاك بن مزاحم، ويزيد بن المفضل الحداني، وكلما نصرا في الانصراف، وناشداه الله تعالى، فانصرف.
فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري [على نصر] (2) ونادوا بالتكبير، فكر عليهم نصر، فكان أول قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن مسلم، وقتل بعده ثمانية عشر رجلاً سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر، وأرسل إلى نصر : ابعث إلى بلعاء بن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال: خذ لي منه أماناً، فآمنه نصر، وقال : لولا أن أشمت بكر بن وائل لقتلتك.
وقيل بل أصابوا عمرو بن مسلم في طاحونة.
وأُخذ البختري في غيضة (3) دخلها.
وأخذ زياد بن طريف الباهلي.
فضربهم نصر مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وألبسهم المسوح.
ثم إن مسلم غزا في هذه السنة وكان خطب الناس في ميدان يزيد، فقال ما أخلف بعدي شيئاً أهم عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلقي الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين اللهم افعل بهم وافعل.
وقد أمر نصراً ألا يأخذ متخلفاً إلا قتله، وما أرى لهم من عذاب ينزله الله تعالى بهم يعني عمرو بن مسلم وأصحابه.
فلما صار ببخارا أتاه الخبر بولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق.
ثم أتاه كتاب [22/ ب] خالد :
أتمم غزاتك.
فسار إلى فرغانة وأتاه الخبر أن خاقان قد أقبل إليه.
ص: 349
ثمّ أتاه أن خاقان معسكر في موضع كذا.
فأمر بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار في ثلاث مراحل في يوم، ثم سار من غدٍ حتى قطع وبوادي السبوح، وأقبل إليهم خاقان وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بن أبي عبيد الله قوماً من العُرفاء والموالي، فأغار الترك على ذلك الموضع، وعلى الذين أنزلهم عبد الله، فقتلوهم، وأصابوا دواب لمسلم، وقتل المسيب بن بشر الرياحي، وقتل البراء، وكان من فرسان المهلب، وقتل أخو غوزك.
وثار الناس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن ماعز الحماني، ورحل هو بالناس فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم، فلما كان الليلة التاسعة أراد النزول فشاور الناس، فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا : إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد، وإنك إن نزلت بالمرج (1) تفرق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك.
فقال لسورة بن الحر ما ترى يا أبا العلاء؟
فقال : أرى ما يرى الناس.
ونزلوا، ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية (2) والأمتعة، فحرقوا قيمة ألف ألف.
وأصبح الناس فساروا، ووردوا الماء، فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بن سعيد : أعزم على كل رجل إلا أخرط سيفه (3)، ففعلوا، فصارت الدنيا كلها سيوفاً.
فنزلوا الماء وبحروا (4)، فأقام يوماً، ثم قطع من غد، واتبعهم ابن لخاقان.
قال: فأرسل حميد بن عبد الرحمن وهو على الساقة (5) إلى مسلم : قف لي ساعة، فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم، وهو منفذ (6) جراحه.
فوقف الناس، وعطف على الترك، فأسر السغد وقائدهم، وقائد الترك في سبعة وانصرف البقية.
ورمي حميد بنشابة في ركبته فمات.
وعطش الناس بعد قطع النهر، وكان عبد الرحمن بن نعيم العامري حمل عشرين
ص: 350
قربة على إبله، فلما جهد الناس أخرجها فشربوا جرعاً.
واستسقى (1) يوم العطش مسلم بن سعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر وحارثة بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه.
فقال مسلم : دعوه فما نازعني شربتي إلا من حَرِّ دخله (2).
فأتوا خجندة وقد أصابتهم شدة ومجاعة، فانتشر الناس، وورد الخبر بولاية أسد بن عبد الله خراسان ولاه خالد [24/أ] القسري، وعزل مسلم بن سعيد.
فبينا الناس كذلك بخجندة إذ فارسان يركضان، ويسألان عن عبد الرحمن بن نعيم فأتياه بعهد من أسد بن عبد الله فأقرأه عبد الرحمن مُسْلِماً، فقال سمعاً وطاعة.
وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
وقيل : إن أعظم الناس غناء يوم العطش إسحاق بن محمد الغداني.
وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولي خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك.
وحُث صاحب شرطتك على الأمانة.
قال : وعليك بعمال العُذر.
قال : وما عمال العُذر؟
قال : من أهل كل بلد أن يختار لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلاً فوَلِّه، فإن كان خيراً كان لك، وإن كان شراً كان لهم دونك وكنت معذوراً (3).
وكان مسلم بن سعيد وجه إلى ابن هبيرة ليستدعي منه توبة بن أبي أسيد مولى بني العنبر.
فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: احمل إلي توبة بن أبي أسيد فحمله، ففزع، وكان جميلاً وسيماً جهيراً، له سمت.
ص: 351
فلما دخل على ابن هبيرة، فقال مثل هذا فليول، ووجه به إلى مسلم، فلما ورد عليه قال مسلم : هذا خاتمي، فاعمل برأيك، فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد أقم معي، فأنا أحوج إليك من مسلم،
فأقام معه.
فأحسن إلى الناس وألأن جانبه وأجمل مع الجند، وأعطاهم أرزاقهم.
فقال له أسد يوماً : احلفهم بالطلاق إن تخلف أحد عن مغزاه ولا يدخل بديلاً سواه. فأبى ذلك توبة ولم يره صواباً (1)، واحلفهم بأيمان أخر، فلما قدم عاصم بن عبد الله أراد أن يحلف الناس بالطلاق، فأبوا وقالوا: نحلف بأيمان توبة، فهم يعرفون ذلك له.
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن عبد الملك فمما استحسن له ما تحدث به ابن أبي الزناد عن أبيه قال :
كتب إلي هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة : أن أكتب لي سنن الحج، فكتبتها له.
قال أبو الزناد (2) فلقيته، وإني لفي موكبه أسير خلفه إذ لقيه سعيد بن عبيد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فنزل له وسلم عليه ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام أبو الزناد، فتقدمت فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيداً يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين ومضر خليفته المظلوم ولم يزالوا يلعنون أبا تُراب (3) في هذه المواطن الصالحة، فأمير المؤمنين ينبغي أن يلعنه في هذه المواطن الفاضلة.
قال : فشق على هشام وثقل عليه كلامه.
ص: 352
ثم قال : [24 / ب] إنا ما قدمنا لشتم أحد أو لعنه إنما قدمنا حجاجاً.
ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال : يا عبد الله بن ذكوان فرغت مما كتبت إليك؟
قلت : نعم.
قال أبو الزناد وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام (1) فرأيته منكسراً كلما أتاني.
وفي هذه السنة أيضاً: كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك، و هشام قد صلى في الحجر فقال : أسألك بالله وبحرمة هذا البيت، والبلد الذي خرجت تعظيماً له ولحقه لما رددت عليّ ظُلامتي.
قال : أي ظلامة؟
قال : داري.
قال : فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟
قال : ظلمني.
قال : فعن عمر بن عبد العزيز؟
فقال : رحمة الله عليه، لقد ردّها.
قال: فعن يزيد بن عبد الملك؟
قال: هو قبضها مني وظلمني بعد قبض لها، وهي اليوم في يدك.
قال هشام: والله لو كان فيك ضرب لضربتك (2).
قال إبراهيم : في والله ضرب السيف، وبالسَّوْطِ فانصرف هشام والأبرش خلفه، فقال : يا أبا مجاشع، كيف سمعت هذا الإنسان؟
ما أجود لسانه!!
قال : هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا (3).
وكنا حكينا قدوم خالد بن عبد الله العراق أميراً، وأنه وَلَّى أخاه أسد بن عبد الله خراسان، فقدمها ومسلم غاز بفرغانة.
ص: 353
فذكر عن أسد أنه لما انتهى إلى النهر ليقطعه (1) منعه الأشهب بن عبد الله بن تميم (2) أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل أمويه.
فقال أسد : اقطعني.
قال : لا سبيل إلى اقطاعك لأني نهيت عن ذلك.
فقال : لاطفوه واطعموه، فأبى.
فقال له أسد: اعرفوا هذا حتى شركه (3) في أمانتنا.
فقطع النهر، فأتى السغد، فنزل مرج السغد، وعلى خراج سمرقند هانئ بن أبي هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسداً فلقوه بالمرج، وهو جالس على حجر.
فنظر الناس وقالوا : أسد على حجر، ما عند هذا خير (4).
فقال له هانئ: أقدمت أميراً؟
قال: نعم، وما معي إلا ثلاثة عشر درهماً هن في كمي، وإنما أنا رجل منكم.
ودخل سمرقند وبعث رجلين معهما عبد الرحمن بن نعيم على الجند، وكان عبد الرحمن يومئذٍ على الساقة فدفعا إليه العهد والكتاب بالقفول والإذن لهم، فقرأ الكتاب وأتى به مسلم بن سعيد وبعهده.
فقال مسلم : سمعاً وطاعة.
فقام عمرو بن هلال السدوسي فقنعه (5) سوطين لما كان منه إلى بكر بن وائل بالبروقان، وشتمه حسنة بن عثمان بن بشر بن المحتفر، فغضب عبد الرحمن بن نعيم، وزجرهما، وأغلظ لهما ثم أمر بهما فضربا [25 /أ] ورفعا، وقفل بالناس، فأشخص معه مسلم، فلما قدموا على أسد وهو بسمرقند، شخص أسد إلى مرو، وعزل
ص: 354
هانئاً، واستعمل على سمرقند الحسن بن [أبي] (1) العمرطة [الكندي] (2) من ولد أكل المرار، فقدمت على الحسن امرأته، وهي الجنوب بنت أبي القعقاع بن الأعلم سيد الأزد، ويعقوب بن القعقاع قاضي خراسان، فخرج يتلقاهما.
وغزاهم الترك، فقيل له : هؤلاء التُرك قد أتوك، وكانوا سبعة آلاف.
فقال : ما أتونا ولكننا أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وأيم الله مع هذا لأدنين بعضكم من بعض ولأقربن نواصي خيلكم بنواص خيلهم، ثم خرج فتباطأ حتى أغار الترك وانصرفوا.
فقال الناس : خرج إلى امرأته فتلقاها مسرعاً، وخرج إلى العدو متباطئاً (3).
فبلغه ذلك، فلم يحتملها، وخرج إليهم وخطبهم وقال : يقولون ويعتبون : اللهم اقطع آثارهم وعجل أقدارهم وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء.
فشتم الناس جهراً وشتموه سِرّاً.
وكان استخلف حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، وكان خطيباً شاعراً، فلما خطب الناس حُصِر فقال : من يطع الله ورسوله فقد ضل وارتج عليه، فلم ينطق بكلمة (4)، فلما نزل عن المنبر قال :
إن لم أكن (5) فيكم خطيباً فإنني *** بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له : لو قلت هذا على المنبر كنت خطيباً.
فهجاه حاجب الفيل [ اليشكري] (6) وكان صاحبه :
أبا العلاء لقد لاقيت معضلة *** يوم العروبة (7) من كرب وتخنيق
لما رمتك عيون الناس صامتة *** أنشأت تَجْرَضَ (8) لما قمت بالريق
تلوى اللسان إذا رمت الكلام به *** كما هوى زَلَق من شاهق النّيقِ (9)
ص: 355
[أما القرآن فلا تهدى لمحكمه *** من القرآن ولا تُهدى لتوفيق ] (1)
وقال :
يقضي الأمور... (2) غیر شاهره *** بين المخاليق والسكان مشغول
ما يعرف الناس منه غير قطنته *** وما.... (3) من الآياء مجهول
وفيها: وجه بكير بن ماهان أبا عكرمة، وأبا محمد الصادق، ومحمد الصادق، ومحمد بن خنيس، وعماراً العبادي في عدة [25/ب] من شيعتهم معهم زياد خال الوليد الأزرق.
دعاة (4) إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله فوشی بهم إليه.
فأتي [بأبي] (5) عكرمة، ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار.
فقطع أسد أيدي من ظفر به وأرجلهم واصلبهم.
وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب إلى محمد بن علي بذلك، فأجابه:
الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، أما إنه قد بقيت منكم قتلى ستقتل.
وفي هذه السنة: غزا أسد جبال تمرون ملك العرشستان مما يلي جبال الطالقان، فصالحه تمرون، وأسلم على يديه فهم اليوم يتولون اليمن.
وفيها : غزا أسد الغور (6) وهي جبال هراه، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق.
فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه فقال ثابت قطنة :
أرى أسد تضمن مقطعات *** تهيبها الملوك ذوو الحجاب
ص: 356
سما بالخيل من أكناف مرو *** بوقر بین بین هلا وهاب
إلى غورين حيث حوى ارب (1) *** وصامح بالسيوف وبالحراب
هذي ضُلالها قتلى تراها *** مصلبة بأفواه الشعاب
وكان إذا أناخ بدار قوم *** أراها المخزيات من العذاب
وفيها : غزا أسد بن عبد الله الختل، فذكر علي بن محمد بإسناده: أن خاقان أتى أسد وقد انصرف إلى القواديان (2) وقطع النهر، فلم يكن بينهم قتال، ومضى إلى الغوران فقاتلوهم يوماً وصبروا لهم. وبرز لهم رجل من المشركين فوقف أمام أصحابه وركز رمحه وقد أعلم بعصابة خضراء، وسلم (3) بن أحوز واقف مع نصر بن سيار.
فقال مسلم لنصر : قد علمت سوء رأي أسد وأنا حامل على هذا العلج (4) فلعلي أقتله، فرضي وقال : شأنك.
فحمل عليه فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه، فإذا هو بين يدي فرسه يفحص برجليه (5)، ورجع سلم جريحاً.
فوقف فقال نصر لسلم : قف لي حتى أحمل عليهم.
فحمل عليهم حتى [26/أ] خالط العدو فصرع رجلين ورجع جريحاً، ووقف فقال : أترى ما صنعنا؟ يرضيه لا رضي الله عنه
قال : لا والله فيما أظن.
قال: وأتاهما رسول أسد، فقال : يقول لكما الأمير قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين لعنكما الله فقال : آمين، إن عدنا لمثل هذا (6).
وتحاجزوا يومئذ ثم عادوا من الغد، فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا، وسبوا، وغنموا.
ص: 357
وفي هذه السنة: عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن خراسان، وصرف أخاه أسداً عنها.
كان السبب في ذلك أن أسداً أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، وخطب في يوم جمعة، فقال في خطبته :
قبح الله هذه الوجوه، وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد، اللهم فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني.
ثم : قال من يروم ما قبلي أو ترمرم (1) وأمير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان (2).
ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس وأخذوا مجالسهم أخرج كتاباً من تحت فراشه، فقرأه على الناس فيه ذكر نصر بن سيار، وعبد الرحمن بن نعيم، وسورة بن الحر، والبختري بن أبي درهم من بني الحارث بن عباد، فدعاهم، وأنبهم فأرمّ القوم وتكلم سورة بن الحر، فذكر خالد وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدو مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من فَرَّقَهُم بالباطل.
فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا.
فضرب عبد الرحمن نعيم وكان رجلاً بطيناً ارتج، فلما ضُرب التوى وجعل سرواله ينزل عن موضعه.
فقام بعض أهل بيته فأخذ رداءاً له هروياً وقام ماداً ثوبه بيده وهو ينظر إلى أسد يريد أن يأذن له فيؤزره، فأومأ إليه أن أفعل، فدنا منه فأزره، وقال : اصبر أبا زهير، فإن الأمير والٍ مؤدب (3).
ص: 358
ثم ضرب الجميع وحلقهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبدويه بن أبي صالح مولى بني سليم، وكان من الحرس وعسير بن بريق، ثم وجههم إلى خالد، وكتب إليه : أنهم أرادوا الوثوب [26/ب] عليه.
وكان ابن بريق كلما نبت شعر أحدهم حلقه.
وكان أبو البختري بن أبي درهم يقول: وددت أنه ضربني هذا شهراً - يعني نصر بن سيار - لما كان بينهم بالبروقان
فأرسل بنو تميم إلى نصر، إن شئتم انتزعناكم من أيديهم فكفهم نصر بن سيار.
فلما قدم بهم على خالد لأم أسد وعنفه، وقال: ألا ابعث (1) برؤوسهم؟!
فقال عرفجة التميمي :
كيف وأنصار الخليفة كلهم *** عُتاة وأعداء الخليفة يطلق
بكيت ولم أملك دموعي وحق لي *** ونصر شهاب الحرب في الغل موثق
وقال نصر :
بعثت في العتاب في غير ذنب *** في كتاب تلوم أم تميم
إن أكن موثقاً أسيراً لديهم *** في هموم وكربة وسهوم
رهن قسر (2) فما وجدت بلاء *** كأسار الكريم عند اللئيم
أبلغ المدعين قسراً وقسر *** أهل عود القناة ذات الوُصُوم
هل فُطِمْتُم عن الخيانة والنكث (3)؟ *** أم أنتم كالحاكر (4) المستديم
وقال الفرزدق :
أخالد لولا الله لم تعط طاعة *** ولولا بنوا مروان لم يوثقوا نصرا
إذاً للقيتم دون (5) شدّ وَثَاقِهِ *** بني الحرب لا كشف اللقاء ولا غمرا (6)
وكان قدم خراسان أبو محمد مولی همدان داعياً بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له ادع الناس وأنزل في اليمن وألطف مضر، وزهاه عن
ص: 359
رجل يقال له : غالب بن أرشهر، لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة.
فلما قدم زياد أبو محمد ودعا بني العباس وذكر سيرة بني مروان (1) وظلمهم، وجعل يطعم الناس؟
فوافى إليه خلق، فقدم عليه غالب بن أرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضل آل أبي طالب، وزياد يفضل بني العباس..... (2) أسد بن عبد الله، فدعا بزياد وكان معه رجل يكنى أبا موسى، فلما نظر إليه أسد قال له : أعرفك، رأيتك في حانوت بدمشق.
قال : نعم.
قال أسد لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟
قال : رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة لي وقد فرقت مالي على الناس ولو قد صار إليّ خرجت.
[1/27] قال له أسد: أخرج عن بلادي.
فأصرف عنه، وعاد إلى أمره.
وكان الحسن بن شيخ وافى على خراج مرو وبلغه خبره، فدخل على أسد. وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه قال : ألم أنهك عن المقام بخراسان؟
فقال له زياد: ليس عليك أيها الأمير من بأس، فأحفظه (3)، فأمر بقتلهم، وكانوا عشرة.
فقال له أبو موسى: اقض ما أنت قاض.
فازداد غضبه، وقال : أنزلتني منزلة فرعون؟
فقال : ما أنزلتكها، ولكن الله تعالى أنزلك، فقتلوا وكانوا عشرة من أهل الكوفة لم ينج منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما.
وطلب الباقون فأتى من الغد أحدهما وسأله أن يلحقه بأصحابه فأشرف به على السوق وهو يقول : رضيت بالله رباً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياً.
فدعا أسد بسيف فأخذه وضرب عنقه بيده، ثم قدم بعدهم رجل من الكوفة يقال له كثير، فكان يأتيه الذين أتوا زياداً فيدعوهم.
وكان ذلك سنة أو سنتين، فكان كثير أمياً، فقدم عليه خداش (4) وهو في قرية
ص: 360
يقال لها فرعم، فغلب كثيراً على أمره.
ولما تعصب أسد، وأفسد الناس بالعصبية بلغ ذلك هشاماً، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك.
فعزله واستأذن في الحج، ففعل، وقفل أسد إلى العراق، واستخلف الحكم بن عوانة الكلبي.
فأقام الحكم ضيعة (1) ولم يغزو واستعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالداً.
وكان أشرس فاضلاً خيراً، كانوا يسمونه الكامل لفضله عندهم.
قال : فلما قدم خراسان فرح به أهلها، فاستعمل على شرطته عيرة أبا أمية اليشكري ثم غزله وولي السمط.
واستقضی محمد بن زید.
وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان، فاستعمل على الرابطة عبد الملك بن دثار الباهلي.
وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه وكان يحج بالناس في هذه السنين إبراهيم بن هشام.
فيقال إنه خطب الناس بمنى في غد يوم النحر وقال :
سلوني فأنا ابن الوهية لا تسألون أحداً أعلم مني.
فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية أواجبة هي أم لا؟
فما درى أي شيء يقول، فنزل.
ص: 361
وفي هذه السنة: هم أشرس بأن يدعو أهل الذمة مما وراء النهر إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية.
وذكر أن أشرس قال في عمله بخراسان: أبغوني رجلاً له ورع وفضل، أوجه إلى ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام.
وأشاروا عليه بأبي الصيداء أصلح بن طريف (1) مولى بني ضبة، فقال: لست بالماهر بالفارسية.
فضموا إليه : الربيع بن عمران التيمي.
فقال أبو الصيداء، فإني أخرج على شريطة أن من أسلم لم تؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال.
قال أشرس : أجل ذلك لك.
قال أبو الصيداء لأصحابه، فإني أخرج فإن لم يف العمال اعنتموني عليهم؟
قالوا: نعم.
فشخص إلى سمرقند وعليها الحسن بن عمرطة الكندي [على] (2) حربها وخراجها.
فدعا يومئذ أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس.
فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر (3).
وكتب أشرس إلى ابن(4) العمرطة في ذلك.
فقال ابن العمرطة (5) لأبي الصيداء : لست من الخراج في شيء فدونك هانئاً والأخشيذ.
ص: 362
فقال أبو الصيداء : تمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم.
فكتب هانئ إلى أشرس فقال ممن نأخذ الخراج وقد أسلم الناس وبنوا المساجد؟
فكتب أشرس إلى هانئ والعمال: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل السغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام تعوذاً من الجزية، فانظر من اختتن (1) وأقام الفرائض، وحسن إسلامه وقرأ من القرآن شيئاً، فأرفع عنه خراجه وإلا فاستوفه منه.
فأعاد العمال الجزية على من أسلم، فامتنعوا واعتزل من أهل السغد سبعة آلاف فنزلوا على ستة فراسخ من سمرقند.
وأخرج إليهم أبو الصيداء، والربيع بن عمران التيمي، والقاسم (2) الشيباني، وأبو فاطمة الأزدي، وجماعة من العرب منصرفهم. ولم يخرج ابن العمرطة (3) إلى حربهم.
فعزل أشرس ابن العمرطة (4) عن الحرب واستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السلمي وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء، وثابت قطنة، وكان خرج معه يسألهما أن يقدما عليه في أصحابهما.
فقدم أبو الصيداء، وثابت قطنة بجيشيهما، فقال أبو الصيداء : أغدرتم ورجعتم عما قلتم ؟
فقال له هانئ ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء.
[28/أ] وحمل أبا الصيداء إلى أشرس وحبس ثابت قطنة عنده.
فلما حمل أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئاً.
فقال لهم : كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه.
فكتبوا إلى أشرس فكتب أشرس : ضعوا عليهم الجزية (5).
ص: 363
فرجع أصحاب أبي الصيداء، منكسرين، وضعف أمرهم، ولم يقدموا على محاربة السلطان، وتتبع العمال البؤساء منهم وحملوا إلى مرو وبقي ثابت قطنة محبوساً.
وألح هانئ والعمال في الخراج وجباية الأموال والجزية حتى استفتحوا بعظماء العجم وسلطوا عليهم من أقلقهم، وخرق ثيابهم وألقى مناطقهم (1) في أعناقهم، وأخذ الجزية من الضعفاء وكفرت السغد، وبخارا، واستجاشوا الترك فلم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار والياً على المجشر فحمل ثابتاً إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي فحبسه، وكان نصر بن سيار ألطفه وأحسن إليه فمدحه ثابت وهو محبوس عند أشرس فقال :
ما هاج شوقك من نؤى وأحجار *** ومن رسوم عفاها صوب أمطار
لم يبق منها ومن أعلام عرصتها *** إلا صبيح وإلا موقد النار
وما في ديار الحي بعدهم مثل الريبة *** في إهدامه العسارى
دیار لیلی قفار لا أنيس بها *** دون الحجون وأين الحجن من داري
بدلت منها وقد شط المزار بها *** وأدنى المخافة لا يشرى به الشاري (2)
بين السماوة (3) في حزم مشرقة *** ومعنق (4) دوننا آذيه جاري
تقارع الترك ما تنفك نائحة *** منا ومنهم على ذي نجدة متساري
إن كان ظني بنصر صادقاً أبداً *** فيما أدبر من نقضي وإمراري
يصرف الجند حتى يستضيء بهم *** نصباً عظيماً وتوقي ملك جبار
حتى يروهم ودون السرح بارقة *** فيها لواء خطل الأجدك الضاري
لا يمنع الضيم إلا ذو محافظة *** من الحصان سباق بأوتاري
إني وإن كنت من جذم الذي نشرت *** منها الفروع وزندي الثاقب الواري
[ 28 / ب ] لذا كرمتك أمراً قد سبقت به *** من كان قبلك يا نصر بن سيار
ناضلت عني نضال الحُر إذ قصرت *** عني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديق كنت آمله *** ألباً عليّ وَرَثَّ الحبل من جاري (5)
ص: 364
وما تلبست بالأمر الذي وقعوا *** به عَلَيَّ ولا دنست أطماري
ولا عصيت إماماً كان طاعته *** حقًّا عَلَيَّ ولا قارفت من عار
ولما ارتد أهل السغد وأهل بخارا لأجل الجزية (1) واستجاشوا الترك، خرج إليهم الأشرس فنزل آمل، وأقام ثلاثة أشهر، وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف.
وأقبل الترك مع أهل بخارا والسغد فحصروا قطن بن قتيبة في خندقه، وبعل خاقان ينتجب كل يوم فارساً فيعبر وقطعت قطعة من الترك النهر.
فقال قوم: أقحموا دوابهم عُرْباً فعبروا وأغاروا على مسرح الناس فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام في خيل، فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم.
ثم قطع النهر الترك راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بن قتيبة، ووجه أشرس رجلاً يقال له : مسعود أحد بني حيان في سرية فلقيهم العدو فقاتلهم، فهزم مسعود، وأصيب رجال من المسلمين، وأقبل العدو، فلما صاروا بقرب لقيهم المسلمون وصبروا، فانهزم المشركون.
ومضى أشرس بالناس حتى نزل بيكند فقطع عنهم العدو الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومين وليلتهم، فأصبحوا وقد نفذ ماؤهم فاحتفروا فلم ينبطوا (2) وعطشوا، فارتحلوا إلى المدينة التي منها قطعوا الماء عنهم، وعلى مقدمة المسلمين قطن بن قتيبة فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، وكاد قوم يؤسرون (3) من الجهد.
فحض الحارث بن شريح الناس، فقال :
أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا، وأعظم أجراً عند الله من الموت عطشاً.
وتقدم الحارث بن شريح، وقطن بن قتيبة وجماعة من بني تميم، وقيس فقاتلوا حتى أزالوا الترك عن الماء، وابتدره الناس فاستقوا، ورووا.
[29 /أ] فمر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال : يا عبد الملك، هل
ص: 365
لك في الجهاد ؟ فقال : انظرني ريثما اغتسل واتحنط، فوقف له حتى خرج ومضى.
فقال ثابت لأصحابه : أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحصنهم فحملوا له على العدو، واشتد القتال، فقتل ثابت، وعبد الملك في عدة من المسلمين.
فضم قطن بن قتيبة، وإسحاق بن محمد بن حسان خيلاً من بني تميم، وقيس تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدو، فقاتلوهم حتى كشفوهم، وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل، وتفرق العدو، فأتى أشرس بخارا فحاصر أهلها.
وتحدث قوم شهدوا قتال الترك لما التقوا على الماء وقاتلوا عليه قالوا سمعنا ثابتاً يقول: اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلي بني أمية مشدوداً في الحديد.
فحمل وحمل أصحابه، فكذب أصحابه وثبت هو، فَرُمِيَ برذونه فشب (1)، وضربه فأقدم وضرب فارتث، فقال وهو صريع :
اللهم إني أصبحت ضيفاً لابن بسطام، وقد أمسيت ضيفاً لك، فاجعل قرائي من ثوابك الجنة.
ولحق غوزك في تلك الوقعة بالترك، فيقال : إنه وقع وسط خيل فلم يجد بُدّاً من اللحاق بهم.
ويقال : إن أشرس كان أرسل إلى غوزك يطلب منه طاساً (2) كان عنده، فقال لرسول أشرس : إنه لم يبق معي شيء أتدهقن به غير هذا الطَّاس فأصفح عنه.
فأرسل إليه أشرس في قرعة وابعث إليَّ بالطاس، فكان فراقه ذلك.
فيقال إن أشرس نزل قريباً من مدينة بخارا، ثم تحول منه إلى كمرجة (3)، وكانت كمرجة من أشراف أيام خراسان وأعظمها.
فمر بهم سيابة وهو مولى قيس وقال : إني قصدتكم للنصيحة إن خاقان مارٌ بكم فأرى لكم أن تظهروا عدتكم ليرى جداً واحتشاداً فينقطع طمعه منكم.
فقال لهم رجل : استوثقوا منه، فإنه حالكم ليفت في أعضادكم.
قالوا: لا نفعل هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة.
ص: 366
فلم يقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به المولى وصبحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع في طريق بخارا كأنه يريدها، فانحدر جنوده من وراء تل بينه وبينهم فنزلوا وتأهبوا، وهم لا يشعرون بهم، فما فاجأهم [إلّا] (1) أن طلعوا على التل فإذا جبل حديد فيهم أهل [29/ب] فرغانة الطارَبَند وأفشينة (2)، ونَسَف (3)، وطوائف من أهل بخارا فسقط في أيدي الناس.
فقال لهم كليب بن فئان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم، فسرجوا دوابكم المخففة في طريق النهر كأنكم تريدون أن تسقوها فإذا حرزتموها، فخذوا طريق الباب، وتسربوا الأول، فالأول.
فلما رآهم الترك يتسربون، شدّوا عليهم في مضيق، وكانوا أعلم بالطريق من الترك فسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده وقتلوا رجلاً من العرب كان على حاميتهم يقال له المهلب وقاتلوهم فغالبوهم على الباب الخارج من الخندق، ودخلوه، فاقتتلوا وجاء رجل بحزمة قصب قد أشعلها، فرمي بها في وجوههم فنحوا، واجلوا عن قتلى وجراحات، وأمسى القوم فأحرق الترك، وأحرق العرب القنطرة.
وجاءهم ابن خسرو بن يزدجرد في ثلاثين رجلاً فقال : يا معشر العرب لِمَ تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد عَلَيَّ مملكة آبائي، وأنا آخذ لكم الأمان؟
فشتموه، فانصرف وجاءهم بازغري في مائتين - وكان ذا هيبة من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه - ومعه رجلان من قرابة خاقان، فآمنوه، فدنا من المدينة فأشرفوا عليه ومعه أسرى من العرب، فقال بازغري : يا معشر العرب، أحدروا (4) إلي رجلاً منكم أكلمه برسالة خاقان. فحدروا حبيباً مولى مهرة - من أهل دريس - فكلموه،
ص: 367
فلم يفهم.
فقال : أحدروا إليّ رجلاً يعقل عني.
فحدروا يزيد بن سعيد الباهلي - وكان يشدو شيئاً من التركية (1)- فقال له : هذه خبطل الرابطة ووجوه العرب معه أسرى، وقال لهم إن خاقان أرسلني إليكم وهو يقول لكم : إني أجعل من كان عطاءه منكم ثلثمائة ستمائة، ومن كان عطاءه ستمائة أجعله ألفاً، وهو يجمع بعد هذا على الإحسان إليكم.
فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شياه؟
لا يكون بيننا وبينهم صلح.
فغضب بازغري، فقال التركيان اللذان معه : ألا تضرب عنقه؟
فقال : لأنزل إلينا بأمان.
وفهم (2) يزيد ما قالا له، فخاف، فقال يا بازغري، إلا أن تجعلوا نصفين، فيكون نصفنا في أثقالنا ويسر النصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن سغد (3).
فرض بازغري [30/أ] والتركيان (4) بما قال.
فقال له نعرض على القوم ما تراضينا به.
وأقبل، فأخذ بطرف الحبل فجذبوه (5) حتى صار على سور المدينة فنادى : يا أهل كمرجة اجتمعوا فقد جاءكم قوم يدعوانكم إلى الكفر بعد الإيمان؟
قالوا: لا نجيب ولا نرضى.
قال : يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين؟
قالوا: نموت جميعاً قبل ذلك.
فأعلموهم ذلك.
قال : فأشرفوا عليهم.
فقال : يا بازغري أتبيع الأسرى الذين في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه
ص: 368
فإنا لا نجيبكم إليه.
فقال لهم : أفلا تشرون أنفسكم منا ؟
فما أنتم عندنا إلا بمنزلة من في أيدينا منكم، وكان في أيديهم : الحجاج بن حميد النضري.
فقال يا حجاج، ألا تتكلم؟
قال : عَلَيَّ رُقباء.
ثم أمر خاقان فقطع الشجر (1).
فكان خاقان يقطع الخشب الرطب ويلقيه في الخندق، وجعل أهل كمرجة يلقون معه الحطب اليابس حتى سوى الخندق ليقطعوا إليهم، فأشعلوا النيران، فهاجت ريح شديدة - صُنعاً من الله تعالى - فأشعلت النار في الحطب، فأحرق ما عملوا في ستَّة (2) أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغناهم بالجراحات.
فأصاب بازغري نشابه في سرته فاحتقن بوله فمات من ليلته فقطع أتراكه أذانهم فأصبحوا بِشَرِ منكبين رؤوسهم ببكونه، ودخل عليهم أمر عظيم.
فلما امتد النهار جاؤوا بالأسرى وهم مائة فيهم أبو العوجاء العتكي وأصحابه فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجاج بن حميد النضري وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين فكانوا رهائن في أيديهم فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال، وأقاموا على باب الخندق وصار منهم على السور خمسة (3) أعلام.
فقال كليب من لي بهؤلاء؟
فقال ظهير بن مقاتل الطفاوي : أنا لك بهم فذهب يسعى، وقال لفتيان امشوا خلفي، وهو جريح، فقتل يومئذ من أصحاب الأعلام اثنان ونجا ثلاثة. فقال لهم خاقان: عليكم بهذه الغنم وقسمه في أصحابه، ثم قال لهم كلوا لحومها، واسلخوا
جلودها، واملؤوها تراباً، ثم اكبسوا خندقهم بها، ففعلوا.
وبعث الله تعالى سحابة فمطرت وسال الخندق، فاحتمل المطر ما ألقوا فيه [8/
ص: 369
ب] فألقاه (1) في النهر الأعظم.
فيقال : إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وعيَّر أهل السغد، وفرغانة، والشاش، والدهاقين، وقال لهم :
زعمتم أن في هذه خمسين حماراً، وإنا نفتتحها في خمسة أيام، وقد صارت الخمسة الأيام شهرين، وشتمهم، وأمرهم بالارتحال.
فقالوا: ما ندع جهداً، ولكن أحضرنا غداً فانظر، [ما نصنع] (2)؟
فلما كان الغد جاء خاقان فوقف إليه ملك الطاربندة، فاستأذنه في القتال، والدخول عليهم.
قال : لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع، وكان خاقان يعظمه.
فقال له : اجعل لي جاريتين من جواري العرب وأنا أدخل عليهم.
فأذن له فقاتل حتى قتل ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة، وكان إلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل مريض من بني تميم فرماه بكلوب (3) فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه حتى سقط لوجهه، ورماه رجل بحجر، فأصاب أصل أذنه فصرع.
وجاء شاب أمرد (4) من الترك فأخذ سيفه وغلبناهم على جسده، وكانوا قد اتخذوا أبنية من خشب فألصقوها بحائط الخندق، ونصبوا قبالة ما اتخذوا أبواباً وأقعدوا وراءها الرماة.
وجاء رجلان فاطلع أحدهما في الخندق، فرماه واحد منا فلم تضره الرمية لكثرة سلاحه، وكان عليه كاسحودة (5) تثنية، فرماه رجل شيباني وليس يرى منه غير عينيه، ورماه غالب بن المهاجر، فدخلت نشابة في عينه، وتنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه.
فأرسل إلى المسلمين : أنه ليس من رأينا أن نرتحل من مدينة ننزل عليها دون افتتاحها أو نُرَحلهم عنا.
ص: 370
فقال لهم كليب بن قنان: وليس من ديننا أن نعطي ما بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم.
فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فقالوا نعطيهم الأمان على أن ترحلوا بأموالكم وأهاليكم إلى سمرقند والدبوسية. ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدة، فبعثوا إلى أهل سمرقند يشاورونهم، فأشاروا عليهم بالدبوسية وقالوا: هي أقرب فرجع إلى أصحابه فأخذوا من الترك رهائن لئلا يعرضوا لهم، وأخذ الترك من العرب رهائن.
وارتحل خاقان، وأظهر أنه بما فعل ذلك من أجل غوزك أنه مع العرب، وأن ابنه المختار طلب إليه في ذلك مخافة على أبيه، فأجابه إلى ذلك.
وقال المسلمون:
[9/ أ] رجلاً (1) كبيراً يكون معنا.
فقال لهم الترك : اختاروا من شئتم.
فاختاروا كورصول، فكان معهم.
فلما ارتحل خاقان قال كورصول للعرب: ارتحلوا، نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، فلا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فنحمي العرب فنصير إلى مثل ما كُنَّا فيه من الحرب.
قال : فكف عنهم حتى مضى خاقان والترك فلما صلوا الظهر أمرهم كورصول بالرحلة، وقال : إنما الشدة والخوف أن تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة، فارتحلوا.
وكان في أيدي الترك من العرب خمسة رهائن، وفي أيدي العرب من الترك خمسة رهائن فارتدف خلف كل رجل من الترك رجل من العرب معه خنجر، وليس على التركي غير قباء (2) فساروا.
ثم قال العجم لكورصول : إن الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل، فلاناً من أن يخرجوا علينا.
فقال لهم العرب : إن قاتلوكم قاتلناهم معكم، فساروا فلما صار بينهم وبين
ص: 371
الدبوسية قدر فرسخ وأقل، نظر أهلها إلى فرسان ورجالة وجمع فظنوا أن كمرجة قد فتحت، وأن خاقان قصدهم، فتهيؤوا للحرب.
توجه كليب بن قنان رجلاً من بني ناجية يقال له الضحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بن ودان السغدي، فأتاهم الضحاك وهم صفوف فرسان ورجالة، فأخبرهم الخبر.
فأقبل أهل الدبوسية يركضون فحملوا كل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحاً (1).
ثم إن كليباً أرسل محمد بن كرار ليعلم سباع بن النعمان، وسعيد بن عطية، وسائر الرهائن في أيدي التُرك أنهم قد بلغوا مأمنهم.
ثم خلوا عن الرهن فجعلت العرب ترسل رجلاً من الرهن الذين في أيديهم من الترك، ويرسل الترك رجلاً من الترك في أيدي العرب وجعل كل فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع : خلوا رهينة الترك، فخلوه وبقي سباع في أيديهم، فلما التقى مع كورصول قال له : لم فعلت هذا؟
قال : إني وثقت برأيك، وقلت ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا (2).
فوصله وسلَّحَهُ، وحمله على برذون، ورده إلى أصحابه.
وكان حصار كمرجة خمسة وثلاثين يوماً، فزعموا أنهم لم يسقط إبلهم خمسة عشر يوماً.
وفي هذه السنة :
جعل خالد بن عبد الله القسري بالبصرة الصلاة مع الشرط والأحداث والقضاء إلى بلال بن أبي بردة فجمع ذلك كله.
وفيها : عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان.
ص: 372
أن شداد بن خالد بن عبد الله الباهلي (1) شخص إلى هشام فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان سنة إحدى عشرة ومائة.
وكان السبب في استعماله إياه أنه كان أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشاماً فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان وحمله على ثمانية من البريد.
فسأله أكثر من تلك الدواب، فلم يفعل.
فقدم خراسان في خمسمائة، وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارا والسغد.
فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النهر فدل على الخطاب بن محرز السلمي (2) خليفة أشرس.
فسار معه فلما قدم آمل أمويه أشار عليه الخطاب أن يقيم ويكتب إلى من يزم ومن قوله فيقدموا عليه، فأبى وقطع النهر وأرسل إلى أشرس : أن أمدني بخيل وخاف أن يقتطع قبل أن يصل إليه.
فوجه أشرس عامر بن مالك الحماني، فلما كان ببعض الطريق عرض له الترك والسغد ليقتطعوه قبل أن يصل إلى الجنيد.
فدخل عامر حائطاً حصيناً وقاتلهم على ثلمة الحائط ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم (3)، فرماه رجل من العدو بنشابة فأصاب عرض منخريه، فأنفذ المنخرين.
فقال له عامر بن مالك يا أبا الزاهرية كأنك دجاجة مقف.
ص: 373
وكان خاقان على تل خليفة أجمة عظيمة فخرج من عسكر أشرس عاصم بن عمير السمرقندي وواصل بن عمرو القيسي في شاكرية، فاستدارا حتى صارا من وراء الأجمة والماء، فضموا (1) خشباً وقصباً، وما قدروا عليه حتى اتخذوا طريقاً فعبروا عليه.
فلم يشعر خاقان إلا بالتكبير من ورائه، وحمل واصل والشاكرية على العدو، فقاتلوهم فقتل تحت واصل برذونان، وهزم خاقان وأصحابه.
وخرج عامر بن مالك من الحائط، فمضى إلى الجنيد، وهو في سبعة آلاف.
فتلقى الجنيد، فأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بن خزيم(2).
فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند (3) [10/ أ] تلقته خيول الترك فقاتلهم فكاد الجنيد ومن معه يهلك.
ثم أظهره الله تعالى فسار حتى قدم العسكر وقد ظفر بأولئك الأتراك.
فزحف إليه خاقان، فالتقوا دون رزمان من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد، وواصل في أهل بخارا وكان ينزلها قاسم ملك الشاش.
وأسَرَ الجنيد : ابن أخي خاقان في هذه الغزاة فبعث به إلى هشام.
وأوفد لما أصاب في وجهه ذلك عمار بن معاوية العدوي، ومحمد بن الجراح العبدي، وعبد ربه بن أبي صالح السلمي إلى هشام.
ثم أتى الجنيد مرو غانماً ظافراً، فقال خاقان: هذا غلام مترف هرب مني العام وأنا مملكه في قابل.
واستعمل الجنيد عماله، فلم يستعمل إلا مضرياً وكان بينه وبين الباهليين متباعد لما كان متباعد لما كان بينهم بالبروقان.
ص: 374
ودخلت سنة اثنتي عشرة (1) ومائة
وفي هذه السنة: استشهد الجراح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام بمرج أردبيل وافتتحت الترك أَرْدَبِيل((2).
ولما بلغ هشاماً أن الترك قتلت الجراح بن عبد الله، وافتتحت أردبيل، دعا سعيد بن عمرو الحرشي، فقال له :
إنه بلغني أن الجراح بن عبد الله قد انحاز عن المشركين.
فقال : كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدو، ولكنه قتل.
قال : فما الرأي؟
قال : تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إليَّ كل يوم أربعين دابة عليها أربعون رجلاً، ثم تكتب إلى أمراء الأجناد، ففعل ذلك هشام.
فأصاب سعيد بن عمرو الترك ثلاث جموع وفوداً إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذمة، فاستنقذ الحرش ما أصابوا، وأكثر القتل فيهم.
ثم أنفذ هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك أثر الترك، فسار في شتاء شديد البرد ومطر وثلوج يطلبهم حتى جاز الباب، وخلف الحارث بن عمر الطائي بالباب.
وفي هذه السنة: كانت وقفة الجنيد مع الترك ورئيسهم خاقان بالشعب.
وفيها : قتل سورة بن أبجر (3)، والأشرف، وقد قيل إن هذه الوقعة كانت في سنة ثلاث عشرة.
ص: 375
أن الجنيد بن عبد الرحمن خرج غازياً في هذه السنة يريد طخارستان في ثمانية عشر ألفاً وإبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر.
[ 10 / ب] وجاشت الترك، فأتوا سمرقند وعليها سورة بن أبجر أحد بني دارم وكتب سورة إلى الجنيد أن يتحرك خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم، وما قدرت أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث.
فأمر الناس الجنيد بالعبور، فقام إليه المجشر بن مزاحم السلمي وفي أخرى (1): السلولي - وابن بسطام، والأزدي وابن صبح الخرقي، فقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم، لا يلقونكم صفاً ولا زحفاً، وقد فرقت جندك :
فمسلم بن عبد الرحمن بالدواب (2) والبختري (3) بهراة، ولم يحضرك أهل الطالقان، وعمارة بن خزيم غائب.
وقال له المجشر : إن صاحب خراسان لا تعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً، فاكتب إلى عمارة فليأتك وامهل ولا تعجل.
قال : فكيف بسورة ومن معه من المسلمين؟
لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من أهل الشام لعبرت (4)، وقال :
أليس أحق الناس أن يشهد الوغى *** و أن يقتل الأبطال ضخم على ضخم (5)
وعبر وترك كش، وبعث الأشهب بن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم.
فرجع إليه فقال : قد أتوك فتأهب. فبلغ الترك مسيرة، فغوروا طريق كش وما فيه من الركايا.
فقال الجنيد : أي الطريق إلى سمرقند أمثل؟
قالوا : طريق المحترقة.
ص: 376
فقال المحشر بن مزاحم السلمي : القتل بالسيف أمثل من القتل بالنار، إن طريق المحترقة فيه الشجر والحشيش، ولم يزرع منذ سنين فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان، أحَرَقَ ذلك كله، فقتلنا بالنار والدخان (1)، ولكن خذ طريق العقبة فهو بيننا وبينهم سواء.
فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته وقال : إنه كان يقال : إن رجلاً من قيس مترفاً يهلك على يد جند من جنود خراسان، وقد خفنا أن تكونه.
قال : أفرخ روعتك (2).
فقال المجشر : أما إذا كان بيننا مثلك فلا تفرخ، فبات في أصل العقبة، ثم ارتحل حين أصبح.
فصار الجنيد مرتحل ومقيم، فتلقاه فارس فقال له : ما اسمك؟
قال : حرب.
قال ابن من؟ قال : ابن محارب.
قال : ممن؟
قال : من بني حنظلة.
قال : سلط الله عليك الحرب والجرب والكلب.
ومضى بالناس حتى دخل الشعب، وبينه وبين سمرقند أربعة فراسخ فصبحه خاقان في جمع عظيم، وزحف إليه أهل السغد، والشاش، وفرغانة.
فحمل خاقان على المقدمة وعليها عثمان بن عبد الله فرجعوا إلى العسكر، والترك تتبعهم، وجاؤوهم [11/أ] من كل وجه، وقد كان (... ) (3).
قال الجنيد : رد الناس إلى العسكر فقد جاءك جمع كثير، فطلع أوائل الخيل من العدو والناس يتغدون، فرآهم عبد الله بن زهير بن حيان.
ص: 377
وقال : العدو.
فركب الناس إلى الجنيد فصيرهم تميماً والأزد في الميمنة، وربيعة في الميسرة مما يلي الجبل.
وعلى مجففة خيل بني تميم عبد الله بن زهير بن حيان، وعلى المجردة عمر بن جرفاس (1) المنقري. وعلى جماعة بني تميم عامر بن مالك الحماني. وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود وعلى خيلهم المجففة والمجردة فضيل بن هناد وعبد الله بن حوذان أحدهما على المجففة والآخر المجردة.
فالتقوا وربيعة مما يلي الجبل في مكان ضيق، فلم يقدم عليهم أحد، وقصد العدو الميمنة وفيها تميم والأزد في موضع واسع فيه مجال للخيل.
فترجل حيان بن عبد الله بن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك.
فقال له أبوه حيان انطلق إلى أخيك فإنه حدث وأخاف عليه، فأبى. فقال : يا بني إنك إن قتلت على حالك هذه قتلت عاصياً.
فرجع إلى الموضع الذي خلف فيه أخاه والبرذون، فإذا أخاه قد لحق بالعسكر، وقد شد البرذون فقطع حيان مقوده (2) وركبه فإذا العدو قد أحاطوا بالموضع الذي خلف فيه أباه وأصحابه.
فأمدهم الجند بنصر بن سيار وسبعة فيهم جميل بن غزوان.
فدخل عبد الله بن زهير معهم وشدوا على العدو فكشفوهم، ثم كثروا عليهم فقتلوهم جميعاً فلم يفلت أحد ممن كان في ذلك الموضع، قتل عبد الله بن زهير، وابن حوذان، وابن جرفاس، والفضل بن هناد.
وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب، فأقبل إلى الميمنة فوقف تحت راية الأزد وقد كان جفاهم.
فقال له صاحب راية الأزد: ما جئتنا لتحبونا ولا أن تكرمنا ولكنك قد علمت أنه
ص: 378
لا يوصل إليك ومنا رجل حيّ، فإن ظفرنا كان لك وإن هلكنا لم تبك علينا، ولئن ظفرنا وبقيت لا أكلمك كلمة أبداً، وتقدم فقتل.
وأخذ الراية ابن مجاعة، فقتل، فتداول الراية ثمانية عشر رجلاً من الأزد. :قال وصبر الناس يقاتلون حتى ثمل (1) الفريقان، فكانت المعانقة [11/ب] فتحاجزوا، فقتل من الأزد خلق فيهم الفضيل الحارثي صاحب الخيل، وقتل يزيد بن الفضل الحداني (2) وكان حمل يوم الشعب على مائة سويقاً للمسلمين فجعل يسأل عن الناس فلا يسأل عن أحد إلا قيل قتل، فاستقدم وهو يقول: لا إله إلا الله فقاتل حتى قتل. وقاتل يومئذ محمد بن عبد الله وهو على فرس أشقر عليه تجفاف مذهب فحمل سبع مرات يقتل في كل مرة رجلاً، ثم يرجع إلى موضعه، فهابه كل من كان في ناحيته فناداه الترجمان: من قتل خاقان يقول لك الملك : لا تستقبل وتحول إلينا فرفض صنمنا (3) الذي تعبده ونعبدك (4).
فقال محمد : إنما أقاتلكم لتتركوا عبادة كل شيء وتعبدوا الله وحده، وقاتل حتى استشهد.
وقتل جشم بن قريط الهلالي - وفي أخرى (5): الكلابي -.
وقتل النضر بن راشد العبدي، وكان دخل على امرأته والناس يقتتلون، فقال لها : كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرجاً بالدماء؟ فشقت جيبها، ودعت بالويل. فقال لها حسبك، لو اعولت على كل أنثى اليوم لعصيتها شوقاً إلى الجنة، وقاتل حتى استشهد(6).
وبينا الناس كذلك إذ قيل : رهج وطلعت فرسان، فنادى منادي الجنيد: الأرض الأرض، فترجل وترجل معه الناس.
ثم نادى منادي الجنيد ليخندق كل قائد على حياله.
فخندق الناس وتحاجزوا، وأصبح يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النهار، فلم ير موقفاً للقتال فيه أيسر من موضع بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحارث، فقصدوهم. فقالت بكر لزياد: إن القوم قد كثروا فحملنا (7) نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا. فقال
ص: 379
لهم : قد كان سبت منذ سبعين سنة إنكم إن حملتم عليهم فصعدتم انهزمتم، ولكن دعوهم حتى يقربوا ففعلوا. فلما دنوا منهم حملوا عليهم، فأفرجوا لهم فسجد الجنيد.
وقال خاقان يومئذٍ : إن العرب إذا أخرجوا استقتلوا، فخلوهم حتى يخرجوا ولا تعرضوا لهم.
وخرج جوار للجنيد يولولن، فانتدب رجال من أهل الشام.
فقالوا : الله الله يا أهل خراسان إلى أين؟
وقال الجنيد : ليلة كليلة الجراح ويوم كيوم الجراح.
فقيل له : لم ير منك الله (1).
قال : إن الجراح سير إليه بالرجال فقتل أهل الحجى والحفاة، فلما جَنَّ عليه الليل انسل الناس تحت الظلمة إلى مدائن لهم بأذربيجان فأصبح الجراح في قتاله فقتل.
وفي هذه الغزوة قتل سورة بن أبجر (2) [12/أ] التميمي.
أن عبد الله (3) بن حبيب قال للجنيد: اختر بين أن تهلك أنت أو سورة؟
فقال : بل هلاك سورة أهون علي.
قال : فاكتب إليه فليأتك من أهل سمرقند فإن الترك بلغهم أن سورة قد توجه إليك انصرفوا إليه فقاتلوه.
فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم عليه وقيل : كتب إليه : أغثني.
فقال عبادة بن السليل لسورة: انظر أبرد بيت بسمرقند فنم فيه فإنك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير أم رضي. وقال حنيش بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين جنيد فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك
فكتب إلى الجنيد إني لا أقدر على الخروج فكتب إليه : يا ابن اللخناء (4) لتقدمن
ص: 380
أو لأوجهن إليك شداد بن خالد (1) الباهلي.
- وكان له عدواً فأقدم وضع فلاناً بفرحشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء فلا تفارقه.
فأجمع على المسير، فقال له الوجف بن خالد العبدي: إنك لمهلك نفسك، والعرب ومن معك بمسيرك.
قال : لا بد.
فقال له عبادة، وحليس (2) : أما إذا أبيت فخذ على النهر.
فقال : أنا لا أصل إليه على النهر في يومين وبين وبين هذا الوجه ليلة فأصبحه، فإذا سكنت الرجل سرت فصبحته.
فكان خطؤه في هذا الرأي أن أظهره وكان ينبغي أن يعرض بغير الطريق الذي يسلكه. فلما قال ما قاله، جاءت عيون الأتراك إلى خاقان فأخبروه بما عزم عليه.
وأمر سورة بالرحيل واستخلف على سمرقند موسى بن أسود، وخرج في اثنتي عشرة ألفاً، فأصبح على رأس جبل دله عليه علج فتلقاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ وبينه وبين الجنيد فرسخ.
فقال بعض الرواة - وهو أبو الزيال - قاتلهم في أرض حواره فصبر وصبروا حتى اشتد الحر.
فقال له غوزك : يومك يوم حار، فلا تقاتلهم حتى تحمى عليهم الشمس، وعليهم السلاح يثقلهم.
فأخذ خاقان برأيه، وأشعل النيران في الحشيش ووافقهم، وحال وبينهم وبين (3) الماء.
فقال سورة لعبادة : ماذا ترى يا أبا السليل (4)؟
قال : تركت الرأي فما ترى الآن؟
قال : الرأي أن تشرع الرياح وتزحف، فإنما هو فرسخ حتى تصل إلى العسكر.
ص: 381
قال : لا أقوى على هذا، ولا يقوى فلان وفلان، وعدَّد رجالاً، ولكني أرى أن اجتمع الخيل ومن أرى أنه يقاتل فأصكهم (1)به سلمت أو عطبت.
فجمع الناس وحملوا، فانكشف الترك، وثار الغبار [12/ب] فلم يبصروا، وكان وراء الترك لهب فسقطوا فيه، العدو والمسلمون، وسقط سورة فاندقت (2) فخذه.
فتفرق الناس فانجلت الغبرة والناس متفرقون.
فعطف الترك فقتلوهم، فلم ينج منهم إلا ألف رجل (3).
فانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة إلى رستاق يعرف بالمرغاب، فأصيب بالمرغاب (4) المهلب لأن القوم تبعوهم وقاتلوهم وقاتلهم أهل قصر من قصور المرغاب، فلما أصيب المهلب ولو أمرهم الوجف بن خالد.
فقال لهم غوزك وكان فيمن تبعهم مع الترك : يا وجف لكم الأمان.
فقال قريش بن عبد الله : لا تثقوا بهم ولكن إذا حثّنا (5) الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند فإنَّا إن أصبحنا قتلونا.
فعصوه وأقاموا، فساقوهم إلى خاقان فقال : لا أجير أمان غوزك.
فقال غوزك للوجف : أنا عبد الخاقان من شاكريته.
قال : فلِمَ غررتنا؟
فقاتلهم الوجف وأصحابه فقتلوا غير سبعة عشر رجلاً، دخلوا حائطاً فأمسوا فقطع المشركون شجره فألقوها على ثلمة الحائط، فجاء قريش بن عبد الله العبدي إلى
ص: 382
الشجرة، فرمى بها، وخرج في ثلاثة فأتوا ناووساً (1) فكمنوا فيه، وجبن الآخرون فقتلوا حين أصبحوا وقتل سورة. وكان الجنيد خرج من الشعب لما اشتغل الترك بسورة، وبادر بالسير. وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب يقول له : سِرْ سِرْ، ومحشر بن مزاحم السلمي يقول :
أذكرك الله، أقم.
والجنيد يتقدم.
فلما رأى ذلك المجشر، نزل، فأخذ بلجام دابة الجنيد، فقال: والله لا تسير ولتنزلن طائعاً أو كارهاً، ولا ندعك تهلكنا. يقول هذا البختري انزل فنزل ونزل الناس.
فلم يتتام نزولهم حتى طلع الترك. فقال المجشر : لو لقونا ونحن نسير ألم يستأصلونا ؟!!
فلما أصبحوا تناهضوا فانكشفت طائفة وجال الناس.
فقال الجنيد : أيها الناس، إنها النار فتراجعوا.
وأمر الجنيد رجلاً فنادى : أي عبد قاتل فهو حُرٌّ.
فقاتل العبيد قتالاً عجيباً عجب الناس منه، وجعل أحدهم يأخذ اللبد فيحيق به ويجعله في عنقه يتوقى به فسُرَّ الناس بما رأوا من صبرهم، وحمل العدو، وصبر الناس حتى انهزم العدو.
فقال موسى بن الثغر (2) للناس : أتفرحون بما رأيتم من العبيد، والله إن لكم منه ليوماً أرونان (3).
ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو.
وكان المجشر صاحب رأي في الحرب يرجع إليه.
فأما عبيد الله بن حبيب فكان له تعبئة في القتال وعلم به.
وكان عبد الرحمن بن صبح الخرقي إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن
ص: 383
لأحد مثل رأيه [13 /أ] ولما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد بنهار بن توسعة مع عمّ له إلى هشام بن عبد الملك يخبره أن سورة عصاني أمرته بلزوم الماء وفي أخرى (1) : الناس - فلم يفعل وتفرق أصحابه، وأصيب سورة في جماعة من أصحابه.
فدعا هشام نهار بن توسعة، فاستخبره الخبر.
فشهد بجميع ما شهد، وكان الجنيد أوفد خالد إلى هشام ليحسن أمره في قتل سورة، فقال هشام: إنَّا لله وإنا إليه راجعون يُصاب سورة بخراسان والجراح بالباب، وكان أبلى نصر بن سيار بعد الشعب فانقطع سيفه وانقطع سير ركابه فأخذ سيوف (2) ركابه فضرب بها من كان يقابله حتى أثخنه.
وسقط في اللهب مع سورة جماعة يومئذ، فلم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه فقال نصر :
إن تحسدوني على حُسْنِ البلاء لكم *** يوماً فمثل بلائي جَرَّ لي الحسدا (3)
يأبى الإله الذي أعلى بقدرته *** كعيى عليهم وأعطى قومكم عضدا
وضربى الترك عنكم يوم فرقكم *** بالسيف في الشعب حتى جاوروا السندا (4)
ولما أقام الجنيد بسمرقند وانصرف خاقان إلى بخارى، وكان عليها قطن بن قتيبة، فخاف الناس على قطن من الترك، فشاورهم الجنيد، فقال قوم من الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدك بالجنود.
فاشترط عليه ألا يخالفه فيما يشير به من ارتحال أو نزول أو قتال.
قال : نعم.
قال : فإني أطلب إليك خصالاً.
قال : ما هي؟
قال: تخندق حيثما نزلت ولا يفوتك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر، وأن تطيعني في نزولك وارتحالك، فأعطاه ما أراد.
فقال : أما ما أشاروا به عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث، فالغياث يبطئ عليك، وإن سرت فأخذت بالناس غير الطريق فتت في أعضادهم وانكسروا عن عدوهم واجترأ عليك خاقان، وهو اليوم قد استفتح بخاری، فلم تفتح له، فإن أخذت بهم في غير الطريق تفرقوا [13 / ب] عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ بخارى فيسلمون لعدوهم.
وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدو.
والرأي أن تعمد إلى عيالات من شهد (1) الشعب، وأصحاب سورة، فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك فإني أرجو أن ينصرك الله وتعطي كل رجل بسمرقند ألف درهم وفرساً.
فأخذ برأيه وخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في ثمانمائة رجل فرساناً ورجاله، وأعطاهم سلاحاً، وشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله وقالوا:عرضنا للهلاك.
وأمر الجنيد بحمل العيال، وخرج معه ناس، وعلى طلائعة الوليد بن القعقاع وسرح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من طلائع الجند. وقال له : كلما مضيت مرحلة فسرح إليَّ رجلاً تُعلمني الخبر.
وسار الجنيد، فلما صار بقصر الريح أخذ عطاء الدبوسي بلجام الجنيد وكبحه، فقرع رأسه هارون الشاشي وقال له : ما لك يا دبوسي؟
قال : انظر أضعف شيخ في عسكرك فسلمه سلاحاً تاماً، وقلده سيفاً وجعبة وترساً، وأعطه رمحاً، ثم سربنا على قدر مشيته، فإنا لا نقدر على السوق والقتال، وسرعة السير، ونحن رجالة. ففعل ذلك الجنيد، فلم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة (2)، ودنا من الطواويس (3).
ص: 385
فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان معه فعرضوا لهم بكَرْمِينِيَّة (1) أول يوم من رمضان فلما ارتحل الجنيد من كرمينية قدم محمد بن اليزيدي في الأساورة آخر الليل، فلما كان في طرف مفازة كرمينية رأى العدو ضيقاً، فرجع إلى الجنيد فأخبره ونادى منادي الجنيد : ألا يخرج المكذبون إلى عدوهم.
فخرج الناس وشبت الحرب، وجاء عبد الله بن أبي عبد الله إلى الجنيد، فضحك. فقال له الجنيد : ما هذا بيوم ضحك. قال : بلى، والحمد لله، إذا لم يلقك هؤلاء إلا في حال معطشة على ظهر وأنت مخندق آخر النهار بل أتوك كالين وأنت مستريح معك الزاد، فما قاتل الترك إلا قليلاً ثم رجعوا. وكان عبد الله بن أبي عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون : ارتحل.
فقال الجنيد : وهل من حيلة.
قال: نعم تمضي برايتك قدر ثلاث علوات، فإن خاقان يَوَدُّ أنك قد أقمت فينطوي عليك إذا شاء. فأمر بالرحيل وعبد الله بن أبي عبد الله على الساقية.
ثم أرسل إليه. أن انزل.
قال: انزل على غير ماء؟
فأرسل إليه : إن لم تنزل ذَهَبت خراسان عن يدك.
فنزل، وأمر الناس أن يستقوا، فذهب الناس الرَّجالة والماشية وهما صفان، فاستقوا، وباتوا فلما أصبحوا [1/14] ارتحلوا.
فقال عبد الله بن أبي عبد الله إنكم معشر العرب أربعة حوانيت (2)، فليس يعيب بعضكم بعضاً، كل الأربعة لا يقدر أن يزول عن مكانه مقدمة وهم القلب والمجنبتان والساقة، فإن جمع خاقان خيله ورجاله ثم هدم جانباً منكم وهم الساقة بواركم (3) وبالحري أن يفعل، وأنا أتوقع ذلك في يومي فشدّوا الساقة بخيل بني تميم والمجففة.
وجاء الترك فمالت على الساقة، وقد دنا المسلمون من الطواويس فاقتتلوا، واشتد الأمر بينهم فحمل مسلم بن أحوز على عظيم من عظماء الترك فقتله، فنظر الترك وانصرفوا من الطواويس.
ص: 386
ومضى المسلمون فأتوا بخارى يوم المهرجان فتلقاهم أهل بخارى بالدراهم البخارية، ففرق بينهم عشرة عشرة.
وكان الجنيد يذكر خالد بن عبدالله، ويقع فيه ويقول: ربذة (1) من الربذ، صنبور (2) من الصنبور قل من قل، هيفة (3)من الهيف (4).
وقدمت الجنود على الجنيد مع عمرو بن مسلم الباهلي في أهل البصرة.
ومع عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وهو بالصغانيان، وابتدأ الشعراء يمدحون نصر بن سيار، ويذكرون بلاءه ويذمون الجنيد فتركنا ذكرها.
وفي هذه السنة : هلك عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال (5) بأرض الروم، وغزا معه في هذه السنة فانهزم الناس عن البطال، فانكشفوا فجعل عبد الوهاب يُكر (6) فرسه ويقول : ما رأيت فرساً أجبن منه، سفك الله دمي إن لم أسفك دمك.
ثم ألقى البيضة (7) عن رأسه، وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت، إلى أين أيها الناس؟! أمن الجنة تفرون؟!
ثم تقدم في نحور العدو فمر برجل وهو يقول : واعطشاه.
فقال : تقدم فالري (8) أمامك.
قال : فخالط القوم، فقتل وقتل فرسه.
وفي هذه السنة : صار من دعاة ولد العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد رجلا منهم فقتله، ثم قال: من أصيب منهم فدمه هدر (9).
ص: 387
ودخلت سنة أربع عشرة ومائة (1)
[وفي هذه السنة : استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان - وهو ابن عمه - على الجزيرة، وأذربيجان.
أنه كان في عسكر مسلمة بأرمينية حين غزا الخزر، فلما عاد مسلمة سار مروان إلى هشام، فلم يشعر به حتى دخل عليه، فسأله عن سبب قدومه.
فقال : ضقت ذرعاً بما أذكره، ولم أر من يحمله غيري.
قال : وما هو ؟
قال مروان: قد كان من دخول الخزر إلى بلاد الإسلام، وقتل الجراح وغيره من المسلمين ما دخل به الوهن على المسلمين، ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم، فوالله ما وطئ بلادهم إلا أدناها، ثم إنه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك، فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب. وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر، فاستعد القوم وحشدوا، فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية، وكان قصاراه السلامة.
وقد أردت أن تأذن لي في غزوة، أذهب بها عنا العار، وأنتقم من العدو.
قال : قد أذنت لك.
قال : وتمدني بمائة وعشرين ألف مقاتل.
قال : قد فعلت.
قال : وتكتم هذا الأمر عن كل واحد.
قال : قد فعلت وقد استعملتك على أرمينية.
فودعه وسار إلى أرمينية والياً عليها. وسير هشام الجنود من الشام، والعراق، والجزيرة، فاجتمع عنده من الجنود، والمتطوعة مائة وعشرون ألفاً.
فأظهر أنه يريد غزو اللان، وقصد بلادهم وأرسل إلى ملك الخزر يطلب منه المهادنة، فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه يقرر الصلح فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه وما يريد، ثم أغلظ له القول، وأذنهم بالحرب وسير الرسول إلى صاحبه بذلك.
ص: 388
ووكل به من يسيره على طريق فيه بعد، وسار هو في أقرب الطرق، فما وصل الرسول إلى صاحبه إلا ومروان قد وافاهم، فأعلم صاحبه الخبر، وأخبره بما قد جمع له مروان وحشد واستعد.
فاستشار ملك الخزر أصحابه، فقالوا : إن هذا اغترك، ودخل بلادك، فإن أقمت إلى أن يجتمع لم يجتمع عندك إلى مدة فيبلغ منك ما يريد وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك.
والرأي أن تتأخر إلى أقصى بلادك، وتدعه وما يريد.
فقبل رأيهم وسار حيث أمروه.
ودخل مروان البلاد، وأوغل فيها وأخربها، وغنم وسبى وانتهى إلى آخرها، وأقام فيها عدة أيام حتى أذلهم وانتقم منهم. ودخل بلاد ملك السرير، فأوقع بأهله، وفتح قلاعاً، ودان له الملك، وصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام، وخمسمائة جارية سود الشعور، ومائة ألف مدبر تحمل إلى الباب.
وصالح مروان أهل تومان على مائة رأس نصفين، وعشرين ألف مدبر.
ثم دخل أرض زريكران فصالحه ملكها. ثم أتى أرض حمزين، فأبى حمزين أن يصالحه، فحصرهم، فافتتح حصنهم ثم أتى سغدان ففتحها صلحاً، ووظف على طیر شانشاه عشرة آلاف مدبر كل سنة تحمل إلى الباب.
ثم نزل على قلعة صاحب اللكز وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج ملك اللكز يريد ملك الخزر، فقتله راع بسهم وهو لا يعرفه فصالح أهل اللكز مروان، واستعمل عليهم عاملاً.
وسار إلى قلعة شروان وهي على البحر فأذعن أهلها بالطاعة.
وسار إلى الدودانية، فأوقع بهم، ثم عاد.
وفي هذه السنة : غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسري، فأصاب ربض أقرن، وإن عبد الله البطال التقي هو وقسطنطين في جمع فهزمهم البطال، وأسر قسطنطين.
وفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى، فبلغ قيسارية.
وفي هذه السنة : عزل هشام بن عبد الملك، إبراهيم بن هشام المخزومي عن المدينة واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم في ربيع الأول.
وكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثماني سنين.
وعزل أيضاً إبراهيم عن مكة والطائف، واستعمل عليها محمد بن هشام المخزومي.
قيل : بل ولي محمداً سنة ثلاث عشرة، فلما عزل إبراهيم أقر محمد عليها.
ص: 389
وفيها: وقع الطاعون بواسط.
وفيها: أقبل مسلمة بن عبد الملك بعدما هزم خاقان، وأحكم ما هناك وبنى الباب، وحج بالناس خالد بن عبد الملك بن الحارث وقيل محمد بن هشام، وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها، غير أن المدينة كان عاملها خالد بن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية، وأذربيجان مروان بن محمد.
وفيها : غزا معاوية بن هشام أرض الروم.
وفيها: وقع الطاعون بالشام.
وفيها: وقع بخراسان قحط شدید، فكتب الجنيد إلى الكور بحمل الطعام إلى مرو، فأعطى الجنيد رجلاً درهماً فاشتری به رغيفاً.
فقال لهم : أتشكون الجوع ورغيف بدرهم؟ لقد رأيتني بالهند وإن الحفنة من الحبوب تباع عدداً بدرهم.
قال : وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي.
وكان الأمير بخراسان الجنيد.
وقيل : بل قد كان مات الجنيد واستخلف عمارة بن حريم المري.
وقيل: بل كان موت الجنيد سنة ست عشرة ومائة.
وفيها: غزا عبد الملك بن قطن عامل الأندلس أرض البشكنس، وعاد سالماً ] (1).
ودخلت سنة ست (2) عشرة ومائة
وفيها : ولي عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي خراسان.
وتوفي الجنيد قبل أن يصل إليها.
ص: 390
إن الجنيد تَزَوَّج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام على الجنيد، وكان بين عاصم وبينه [14/ب] عداوة شديدة فولاه خراسان وقال : إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه.
وإنما قال ذلك لأن الجنيد كان قد استسقى بطنه فمات الجنيد قبل وصول عاصم، فقال أبو الجويرية :
هلك الجود والجنيد جميعاً *** فعلى الجود والجنيد السلام
أصبحا ثاويين في بطن مرو *** ما تغنى على الغصون الحمام
كنتما بهرة الكرام فلما *** مت مات الندى ومات الكرام
وفي هذه السنة: خلع الحارث بن شريح وكانت الحرب بينه وبين عاصم بن عبد الله. وذلك أن عاصماً لما قدم خراسان، أقبل الحارث بن شريح حتى قدم بلخ وعليهما: نصر بن سيار والبختي بن ضبيعة المري وولاهما الجنيد.
فلما انتهى إلى قنطرة عطاء، وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، تلقاه نصر بن سيار في عشرة آلاف والحارث بن شريح في أربعة آلاف، فدعاهما الحارث إلى الكتاب والسنة والبيعة للرضا.
فقال قطن بن عبد الرحمن بن حر الباهلي: يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسنة، والله لو أن جبريل عن يمينك، وميكائيل عن يسارك ما أجبتك.
وقاتلهم، وأصابته (ر..ية) (1) في عينه فكان أول قتيل.
وانهزم إلى المدينة أهل بلخ، واتبعهم الحارث حتى دخلها، وخرج نصر من باب آخر.
فأمر الحارث بالكف عنهم وخرج إلى الجوزجان (2)، واستعمل على بلخ رجلاً من ولد عبد الله بن خازم.
ثم استشار أصحابه في قصد مرو:
فقال له أبو فاطمة : مرو بيضة خراسان، وفرسانهم كثير، لو لم يلقوك إلا بعبيدهم
ص: 391
لانتصفوا منك، فأقم، فإن أتوك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم بعصاة... (1)وسار.
فقال أهل الدين من مرو : إن مضى إلى إيرشهر ولم يأتنا فرق جماعتنا وإن أتانا نكب.
وبلغ عاصماً أن أهل مرو يكاتبون الحارث، فأجمع على الخروج، وقال: يا أهل خراسان قد بايعتم الحارث بن شريح، وأنه قصد بلخ والجوزجان والفارِيَاب (2)، والطالقان، ومرو الروز ففتحها وليس يقصد مدينة إلا خليتموها له، أنا لاحق بأرض قومي إيرشهر، ومكاتب أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرين ألفاً من أهل الشام.
فقال له محشر بن مزاحم : إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق، فأقم، وإن أبوا فسر حتى تنزل أير شهر، وتكاتب أمير المؤمنين.
فقال خالد بن هزيم وهلال بن غنيم: لا والله لا نخليك والذهاب [15/أ] فتلزمنا ديتك عند أمير المؤمنين ونحن معك حتى نموت إن بذلت الأموال.
قال : فإني أفعل.
قال زيد بن مروان الرياحي: إن لم أقاتل معك ما قاتلت، فبثت الأبرد بن مرة الرياحي طالق ثلاثاً، وكانت عنده.
فقال عاصم : كلكم على هذا؟
وكان سلمة ندب أبي عبد الله صاحب حرسه يحلفهم بالطلاق (3).
وأقبل الحارث بن شريح إلى مرو في جمع كثير يقال ستون ألفاً ومعه فرسان الأزد، وتميم وعدة من الدهاقين. وخرج عاصم في أهل مرو وغيرهم فعسكر عند البيعة.
قال : فأعطى الناس ديناراً ديناراً فخف عنه الناس، فأعطاهم ثلاثة دنانير، ثلاثة دنانير، فلما قرب بعضهم من بعض، أمر بالقناطر فكسرت.
ص: 392
وجاء أصحاب الحارث فقالوا : تحضروننا بالبرية، دعونا نقطع إليكم فنناظركم فيما خرجنا له؟ فأبوا عليهم.
وذهبت رجالتهم يصلحون القناطر، وأتاهم رجالة مرو يقاتلونهم، ويمنعونهم. فمال محمد بن المثنى برايته إلى عاصم، فلما فعل ذلك بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى الناس، فقتل قوم، وانهزم أصحاب الحارث فغرق بَشَرٌ كثير من أصحاب الحارث. فغضب الدهاقين إلى بلادهم، فأرسل عاصم جماعة إلى الحارث يسأله ما يريد؟
فبعث الحارث محمد بن مسلم وحده، فرجع معهم، وقال لهم: إن الحارث وإخوته يقرئون عليهم السلام، ويقولون قد عطشنا، فدعونا ننزل الليلة ونتناظر غداً، فإن اتفقنا وإلا كنتم من وراء أميركم.
فأبوا عليه.
فقال مقاتل بن حيان: يا أهل خراسان كنا بمنزلة أهل بيت واحد ثغرنا (1) واحد ويدنا على عدونا واحدة وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم وجه إليه أميرنا بجماعة الفقهاء وأصحابه من القراء، ووجه رجلاً واحداً فقال محمد : أنا أتيتكم مبلغاً، وسيأتيكم غداً الذي تطلبون إن شاء الله وانصرف محمد بن مسلم إلى الحارث، وسار الحارث، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وقطع الحارث وادي مرو، وضرب رواقاً فكف عنه عاصم، ولو ألح عليه في طلبه لأهلكه.
وكان الحارث قال لأصحابه : إنه لا ترد لي راية.
فلما هزم هذه الهزيمة، أجمع أصحابه على مفارقته، وكان عاصم لما رأى الحارث يستفحل أمره، والناس يميلون إليه وهو يفتح كل يوم مدينة هابه وانهزم. واتهم أصحابه وخشي أن يبطئ عنه المدد من جهة الخليفة فيهلك.
[15/ب] وفيها: عزل هشام بن عبد الملك، عاصم بن عبد الله عن خراسان وضمها إلى خالد بن عبد الله، فولاها خالد أخاه أسد بن عبد الله.
كان عاصم كتب إلى هشام بن عبد الملك:
أما بعد يا أمير المؤمنين :
ص: 393
فإن الرائد لا يكذب أهله (1). وقد كان من أمير المؤمنين إلي ما يحق به عليَّ النصيحة له وأن خراسان لا تصلح إلا أن تُضم إلى صاحب العراق فتكون موادها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب لتباعد أمير المؤمنين عنها، وتباطؤ غياثه عمن يكون بها.
فلما أمضى كتابه، أخرج حديثه إلى أصحابه مثل المجشر بن مزاحم ويحيى بن حصين وأشباههم.
فقال المحشر له بعدما مضى الكتاب : كأنك بأسد قد طلع عليك. فقدم أسد بعد كتاب عاصم بشهرين ثم عاد الحارث، واستعد وأراد مناجزة عاصم.
فلما بلغ عاصماً أن أسد بن عبد الله قد أقبل صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتاباً على أن يترك الحارث كور خراسان شاء، وعلى أن يكتبوا جميعاً إلى هشام يسألانه كتاب الله وسنة نبيه (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، فإن أبى أجمعوا أمرهم جميعاً عليه (2). فختم الكتاب جماعة من الرؤساء ممن رضي به.
وأبى يحيى بن حصين وقال : هذا خلع لأمير المؤمنين.
وكان في بعث الشام رجل من اليمانية يعدل بألف رجل، اختارته اليمانية يكنى أبا داود، وكان في خمسمائة فكان لا يمر بقرية من قرى خراسان إلا قال لأهلها انتظروني فكأنكم بي قد مررت بكم راجعاً حاملاً رأس الحارث بن شريح.
فلما التقوا خرج ودعاه إلى البراز (3) فبرز له الحارث بن شريح، فضربه فوق منكبه (4) الأيسر فصرعه وحامى عليه أصحابه فحملوه، فخولط فكان يقول : يا أبو شهرياه، يا أصحاب العموداه، الحارث بن شريحاه.
ورمى الحارث بن شريح رجل من أهل الشام بنشابة، فأصابت لبان (5) فرسه
ص: 394
فاستحضره وألح عليه بالضرب حتى عرقه وشغله عن ألم الجراحة، وحمل على الشامي، فحمل الشامي عليه برمحه حتى إذا ظن الرمح قد خالطه مال الحارث عن فرسه، ثم لحق الشامي فقال له : الشامي : بحرمة الإسلام إلا كففت عن دمي.
قال: انزل عن فرسك، فنزل وركبه الحارث.
وعظم أهل الشام يحيى بن الحصين لما كان منه في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم. وكان هشام لما بلغه أمر الحارث بن شريح وكتاب عاصم كتب إلى خالد بن عبد الله :
ابعث [16/أ] أخاك ليصلح ما أفسد فإن كانت وجبة (1) فلتكن به.
فوجه أخاه أسد إلى خراسان وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو ناحية إيرشهر، والحارث بن شريح بمرو الروذ، وخالد بن عبد الله الهجري بآمل من قبل الحارث، فأقام أسد أياماً ما يدري أيقصد الحارث بمرو الروز أم خالداً بآمل حتى أجمع على توجيه عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة إلى الحارث.
وسار أسد إلى آمل فلقيه خيل لأهل آمل عظيمة عليها زياد القرشي فهزمهم وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم.
ونزل عليهم أسد وهزمهم، ونصب المجانيق عليهم.
وهناك خالد بن عبيد الله الهجري من قبل الحارث بن شريح، فلما ضاق عليهم الحصار طلبوا الأمان، فخرج إليهم بعض أصحاب أسد، وقال يقولون لكم الأمير ما تطلبون؟
قالوا : كتاب الله وسنة نبيه.
قال : فلكم ذلك.
قالوا: على أن لا يأخذ أهل المدن بجنايتنا. فأعطاهم ذلك.
وسار أسد إلى بلخ في طريق زم، وكان أهل بلخ قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم.
فقدم بلخ ثم اتخذ سفناً وسار منها إلى الترمذ، فوجد الحارث محاصراً لها، وكان
ص: 395
مع الحارث وجوه الناس، ومعه السيل (1) فنزل أسد دون النهر، ولم يطق العبور إليهم ولا أن يمد أهل الترمذ إلا أن أهل الترمذ قد قويت نفوسهم فهم يخرجون، ويقاتلون أشد قتال، فكان أصحاب الحارث من القراء يأتون أبواب الترمذ يشكون عندهم ويشكون خوز بني أمية ويسألونهم أن يمالونهم على حرب بني مروان حتى تكون أيديهم واحدة فيأتون عليهم.
فقال السيل يوماً للحارث وهو معه يا حارث الترمذ بنيت بالطبول والمزامير ولا تفتح بالبكاء، إنما تفتح بالسيف، فقاتل إن كان بك قتال.
فتركه السيل وأتى بلاده وارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث، فقاتلوه، وثبتوا حتى هزموه وقتلوا أبا فاطمة، وعكرمة، وخلقاً من أهل البصائر، وسار أسد إلى سمرقند على طريق زم وكان بزم القاسم فحصن هناك، فلما مَرَّ به أسد لم يعرض له، ولما عاد في هذا الوقت مجتازاً به بعث إلى الهيثم الشيباني وهو بزم أيضاً في طاعة الحارث، فقال له :
إنكم أنكرتم على قومكم (...) (2) سيرتهم ولم يبلغ ذلك السبي ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند وأنا أريد سمرقند، ولك عهد الله وميثاقه أن لا ينالك (3) من شر، ولك المواساة واللطف والكرامة والأمانة [30/ ب] لمن (4) معك وإن أنت غمطت (5) ما دعوتك إليه، فعلى عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمة خالد إن أنت رميت بسهم ألَّا أؤمنك أبداً ولا أفي لك بأمان إن جعلته لك.
فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فأمنه وسار معه إلى سمرقند.
وفي هذه السنة: أسر جماعة من دعاة بني العباس بخراسان فقتل بعضهم ومثل بعضهم، فكان فيهم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وعدة منهم.
فأتى موسى بن كعب فأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم أمر فوجئ لحياه (6) فندر ضرسه.
ص: 396
وضرب لاهز بن قريظ بالسوط، وأمر بصلبه.
وتكلم فيه الحسن بن زيد وقال : هو لي جار، وهو بريء مما قرف به.
فوهبه له.
فقال : فالآخرون أعرفهم بالبراءة، فخلى سبيلهم وضمنهم إياه.
وفيها: وجه بكير بن ماهان خداش على خراسان يدعو إلى محمد بن علي، فصار والياً على شيعة بني العباس، ويقال : إن اسمه عمار بن يزيد - وفي أخرى : يزيد فغير اسمه -.
فلما دعا الناس تسارعوا إليه وقبلوا ما جاءهم به وسمعوا وأطاعوا حتى غَيَّر ما دعاهم إليه وتكذب وأظهر دين الخرمية (1) ودعا إليه ورخص لبعضهم في نساء بعض فأخبرهم أن ذلك دين محمد بن علي. فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فوضع عليه العيون حتى ظفروا به، فأتي به فسأله عن حاله فلم يلطف له، وجعل يغلظ في بعض كلامه.
فأمر به أسد، فقطعت يداه وقلع لسانه وسمل [عينيه] (2) وصلب بأمل.
ثم إن أسداً لما انصرف من سمرقند سرح جديعاً الكرماني إلى القلعة التي فيها الحارث من طخرستان العليا، فحاصرهم وقتل مقاتليهم، وكان فيها أصهار الحارث ورهطه فسبى عامة أهلها من العرب والموالي وغيرهم من الذراري، وباعهم فيمن يريد بسوق بلخ.
أنه كان قد نقم على الحارث نحو من خمسمائة رجل من أصحابه أشياء ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي وهموا (3) [31/ أ] بمفارقته.
ص: 397
فقال لهم الحارث: إن كنتم لا بد مفارقي وطلبتم الأمان فاطلبوه وأنا شاهد، فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم تعطوا الأمان.
فقالوا: ارتحل أنت عنا وخلنا، ثم بعثوا من يطلب لهم الأمان، فوصل أسد الرسول، وأحسن إليه.
فقال الرسول : إن القوم في القلعة ليس لهم طعام ولا ماء فغرر بهم وسرج أسد جديعاً الكرماني في ستة آلاف فلما كان بينه وبين القلعة فرسخ أو دونه نزل حتى وافاه قوم فيهم المهاجر بن ميمون في جماعة مستأمنة فتركهم حتى اجتمعوا ثم خطبهم.
فقال بعد حمد الله والثناء عليه : يا أهل بلخ لا أجد لكم مثلاً غير الزانية من أتاها أمكنته من رجلها، أتاكم الحارث في ألف من العجم فأمكنتموهم من مدينتكم، فقتل أشرافكم وطرد أميركم، ثم سرتم معه مكاتفيه إلى مرو فخذلتموه ثم إليكم منهزماً فأمكنتموه من المدينة.
والذي نفسي بيده لا يبلغني عن رجل منكم كتب كتاباً إليهم في سهم إلا قطعت يديه ورجليه.
فأما من كان من أهل مرو فيهم خاصتي ولست أخاف غدرهم ثم نهز إلى القلعة وحصرها.
وكان القوم مجهودين قد جاعوا وعطشوا فنادى مناديه : أن قد نبذنا إليكم بالعهد وقاتلوهم، فسألوهم أن ينزلوا على الحكم ويتركوا نساءهم وأولادهم.
فنزلوا على حكم أسد على يد المهلب بن عبد العزيز العتكي بكتاب يقول فيه : احمل إلي خمسين رجلاً منهم، وليكن فيهم المهاجر بن ميمون وأمثاله من وجوههم. ففعل، فقتلهم أسد.
وكتب إلى الكرماني أن يصير الذين بقوا عنده أثلاثاً، فثلثاً نصلبهم، وثلثاً تقطع أيديهم وأرجلهم، وثلثاً تقطع أيديهم.
ففعل ذلك الكرماني، وباع أثقالهم وذراريهم كما حكيناه.
وفي هذه السنة : مات علي بن عبد الله بن العباس وله ثمان وسبعون سنة، وكان ولد في الليلة التي ضرب فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) فسماه عبد الله بن العباس - أبوه - علياً، وكناه أبا الحسن وقال : سميته باسم أحب الناس إلي.
ص: 398
وفيها : لقي أسد صاحب الترك خاقان فقتله وغنم كل ما معه، وقتل خلقاً وسَلِمَ أسد والمسلمون.
لما دخل أسد الختل كتب ابن السايجي إلى خاقان يعلمه دخول أسد الختل، وتفرق جنوده، وأنه بحال مضيعة.
وكان السايجي هذا استخلفه السبل عند موته وسجى خبره... (1).
فلما أتاه كتابه تجهز، وكالخاقان مرج وجبل حِمَى لا يقربهما أحد فصاد ما في المرج ثلاثة أيام وما في الجبل ثلاثة أيام فتجهزوا ودبغوا جلود الصيد واتخذوا أوعية، واتخذوا القسي والنشاب.
ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقها في معاليق سرجه وأخذ شيئاً من ملح فصيّره في كيس وجعله في منطقته وأمر كل تركي أن يفعل مثل ذلك.
وقال : هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل.
فلما أحسّ ابن السايجي بخاقان قد أقبل، بعث إليه أسد اخرج (2) على (3) الخيل فإن خاقان قد أظلك.
فشتم أسد رسوله، ولم يصدقه.
فبعث صاحب الختل :
إني لم أكذبك، وأنا الذي أعلمته دخولك، وتفرق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، وأني نظرت، فرأيت أنك قد أقفرت البلاد وأصبت الغنائم، فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك، وعادتني العرب أبداً [ما] (4) بقيت (5)، واستطال عَلَيّ خاقان، واشتدت (6) مؤنثة، وامتن عَلَيّ ويقول : أخرجت العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك.
ص: 399
فعرف أسد أنه صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدم وَوَلّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي - وهو الذي ولى سجستان بعد - وأخرج معه المشيخة، فسارت الأثقال.
وكتب أسد إلى داود بن شعيب، والأصبغ بن دوالة الكلبي - وقد كان وجههما (1) في وجه خاقان - قد أقبل فانضما إلى الأثقال مع إبراهيم بن عاصم.
ووقع إلى داود [و] (2) الأصبغ رجل دبوس فأشاع : أن خاقان قد هزم المسلمين وقتل أسد.
فقال الأصبغ : إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإن... (3) هشام ينحاز إليه، فإن الله تعالى حي قيوم وجنود المسلمين كثيرون.
فقال داود: أفلا تنتظر ما فعل أسد فنخرج على علم ؟
قال : بلى.
فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم، فإذا هما بالنيران.
فقال داود: هذه نيران المسلمين لأنها مقاربة ونيران الأتراك متفرقة.
فقال الأصبغ : هم في مضيق.
ثم دنوا فسمعوا نهيق الحمير.
فقال داود : أما علمت أن الترك ليس لهم حمير؟
فقال الأصبغ : أصابوها بالأمس [32/أ] ولم (4) يستطيعوا أكلها في يومين.
فقال :داود نسرح فارسين فيكبران.
فبعثا، فلما دنوا من العسكر كبّرا، فأجابهما أهل العسكر بالتكبير.
فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصغانيان، وصاغان خذاه (5)، فضامًا إبراهيم بن عاصم.
وأقبل أسد [ من الختل نحو جبل الملح] (6) يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد كان إبراهيم قطعه بالسبي وجميع ما أصاب. فلما أشرف أسد على النهر، وقد أتاه أن خاقان
ص: 400
قد سار من البيوتات سبع عشرة ليلة قام إليه أسد بمثله من بحر، وعبد الرحمن بن صفر الأزديان فقالا: أصلح الله الأمير إن الله تعالى قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة، فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراءك.
فأمر بهما (1) فوجئت (2) رقابهما، وأُخرجا من العسكر، وأقام يومه.
فلما كان من الغد ارتحل، وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعاً تخوضه الناس، وموضع فيه مجتمع ما يبلغ دفتي السرج فخاضه الناس وأمر أن يحمل كل رجل شاة، وحمل هو نفسه شاة.
فقال له غسان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير أيها الأمير إن الذي أنت فيه من حمل الشياه (3) ليس له خطر، وقد فرقت الناس وشغلتهم، وأظلك عدوك، فدع هذه الشياه لعنة الله عليها ومر الناس بالاستعداد.
فقال أسد والله، والله لا يفر رجل إلا ومداده معه شاة حتى تفنى هذه الغنم، الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه.
وخاطر الناس، فلما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع مخائض يقع فيها الرجل.
فأمر أسد الناس بالشاء أن تذرف فيها ويخوضوا.
فما استتم الناس العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدهم فقتلوا من لم يقطع النهر، وجعل الناس يقتحمون.
وركب أسد إلى النهر وأمر بالإبل أن يقطع بها النهر حتى يُحمل عليها الأثقال، وأقبل رمح من ناحية الخيل، فإذا خاقان، فلما توافى معه صدر من صده وحمل على الأزد وبني تميم وكانوا على مسلحة خلّفهم أسد على الضعفاء من الناس، فلما حمل عليهم خاقان انكشفوا.
وركض أسد حتى انصرف إلى عسكر، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان قد سرحهم أمامه أن انزلوا وخندقوا مكانكم إلى النهر.
وأمر الإسكندر - وهو يومئذ اصفهيد - أن يسير في الصف، وسأل أهل البصر في الحرب : هل يطاق قطع النهر والحملة على أسد؟
فكلهم يقول : لا يطاق حتى انتهى إلى الاستجن فقال : بلى يطاق لأنا خمسون ألف
ص: 401
فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة [32/ ب] رَدّ بعضنا على بعض الماء فذهبت جريته.
قال : فضربوا بكوساتهم.
فظن أسد ومن معه أنه منهم وعيد، وأقحموا دوابهم فجعلت تنخر أشد النخير.
فلما رأى المسلمون اقتحام (1) الترك، ولوا إلى العسكر، وعبرت الترك.
فسطع ريح شديد لا يبصر الرجل دابته ولا يعرف بعضهم بعضاً. ودخل المسلمون عسكرهم، وحوى الترك ما كان خارجاً، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك فأدبروا.
وبات أسد، وعبّأ [ أصحابه ] (2)من الليل تخوفاً من غزو خاقان.
فلما أصبح لم ير شيئاً، فدعا وجوه الناس، فاستشارهم.
فقالوا : أقبلت العافية.
قال: ما هذه عافية بل هذه بلية لقينا خاقان أمس فظفر وأصاب من الجند والسلاح (3)، فما منعه اليوم منا إلا أنه قد وقع في يديه أسرى فأخبروه بموضع الأثقال - وكان هذا رأياً جيداً وحدساً صواباً من أسد -.
وقد علم العدو أن الثقل أمامنا فترك لقاءنا طمعاً فيها.
ثم ارتحل أسد، وبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الأتراك وأعلاماً من أعلام إسكندر.
فشاور منقله فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل بالعافية.
فقال : وأين العافية فأقبلها ؟ إنما هي بلية، ذهاب الأموال والأنفس.
فلما صار إلى منزل وأمسى استشار الناس.
فقال : أتنزلون أم تسيرون؟
فقالوا: اقبل بالعافية، وما عسى أن يكون ذهاب الأموال بعافيتنا وعافية أهل خراسان.
ونصر بن سيار مطرق.
فقال أسد: ما لك يا سيار لا تتكلم؟
فقال : أصلح الله الأمير، خلتان كلتاهما لك.
ص: 402
أن تسر تغث [ وتنجد من مع ] (1) الأثقال وتخليصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا، فقد قطعت محجة (2) لا بد من قطعها.
فقبل رأيه وسار بقية يومه كله.
ودعا أسد قبل أن يسير سعداً الصغير (3) وكان عالماً (4) بطريق الختل فارساً (5)، فكتب معه كتاباً إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد، ويعلمه أن خاقان طواه، وتوجه إلى ما قبلك.
ثم قال له : سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأنت (6) بريء من الإسلام إن لم يقتلك وإن أنت لحقت بالحارث هرباً مني، فعلى مثل الذي حلفت أن أبيع امرأتك الدلال في سوق بلخ وجميع (7) أهل بيتك.
قال سعيد : فادفع إليّ فرسك الذنوب (8).
قال: لعمري لئن جُدّت بدمك (9) وبخلت عليك بالفرس إني للئيم (10).
فدفعه إليه، وسار على دابة من جنائبه وغلامه على [33/ أ] فرس معه فرس أسد بجنبه.
فلما حاذى غرة طلائع الترك تحول إلى فرس أسد، فطلبته الطلائع، فركض، ولم يلحقوه وأتى إبراهيم بالكتاب وتبعته بعض الطلائع حتى وافى عسكر إبراهيم والأثقال.
فرجعوا إلى خاقان، فأخبروه.
فغدا خاقان في اليوم الثاني على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقاً، والناس قيام عليه.
فأمر خاقان أهل الصغد بقتالهم، فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم وقتلوا منهم رجلاً.
فقال خاقان اركبوا وصعد تلاً مشرفاً، وجعل ينظر العورة ووجه المقاتل (11)- وكذا
ص: 403
كان يفعلف ينفرد في رجلين أو ثلاثة فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة -.
فلما صعد خاقان التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواد الترك فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه، ثم تحدّروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من ورائهم، وأمرهم أن يبدؤوا بالأعاجم، وأهل الصغانيان وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم : إن أقام القوم في خندقهم وأقبلوا إليكم، دخلنا نحن خندقهم، وإن بيتوا لنا فادخلوا من دبره عليهم.
ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه [وعامة أصحابه وأخذوا أموالهم ] (1) ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه وترك المسلمون التعبئة، واجتمعوا في موضع وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء، وإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي فيه خاقان وإبراهيم يتعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وبعد إصابتهم الغنيمة، وهو لا يطمع في أسد وكان أسد قد أغذ المسير، وأقبل أسد حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان.
وتنحى خاقان إلى ناحية الختل، وخرج إلى أسد من كان بقي من أصحاب إبراهيم، وقد قتل منهم بشر كثير ومشيخة من خزاعة.
وخرجت امرأة صاغان خذاه إلى أسد فبكت زوجها، وبكى أسد معها حتى علا صوته.
و انصرف [33/ ب] خاقان على طريق طخارستان وهناك الحارث بن سريج.
فانضم الحارث إلى خاقان، وسار معه في أصحابه.
ومضى أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء.
وكان الحارث يقول لخاقان إنه لا نهوض بأسد، وقد تفرّق عنه الجند.
فبث خاقان جنده في الغارات على النواحي، وأقبل خاقان حتى نزل فأمر بالنيران فرفعت على أهل المدينة فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ.
فأصبح أسد، وصلى، وخطب الناس وقال : إن عدو الله الحارث بن سريج
ص: 404
استجلب طاغية الترك ليطفىء نور الله ويبدل دينه [ والله مُذِلّهُ إن شاء الله ] (1) وإن عدوكم قد أصاب من إخوانكم ما أصاب فإن يرد الله نصركم لم تضرركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله تعالى [وإن أقرب ما يكون العبد من رَبِّهِ إذا وضع جبهته له، وإني نازل وواضع جهتي على الأرض ] (2) ثم وضع جبهته لله ودعا فأمنوا عليه ثم رفعوا رؤوسهم لا يشكون في الفتح، ثم نزل عن المنبر، وضحى، فإنه كان يوم الأضحى، وشاور الناس في المسير إلى خاقان.
فقالوا : أنت شاب لا تتخوّف من غارة على دابة ولا شاة إلا ما لا خطر فيه لخروجك.
فقال : والله لأخرجن فإما ظفر، وإما شهادة (3).
ثم أخذ من جبلة بن أبي رواد مائة وعشرين ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من جنود خراسان وأهل الشام سبعة آلاف رجل.
فاستخلف على بلخ الكرماني [بن علي] (4) وأمره أن لا يدع أحداً يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة.
فقال له نصر بن سيار الليثي والقاسم بن بخيت، وجماعة أمثالهم، وسعيد الصغير: أصلح الله الأمير ائذن لنا في الخروج، ولا تهجن طاعتنا.
فأذن لهم، وخرج فنزل باباً من أبواب بلخ، وصلّى بالناس ركعتين طولهما، ونادى في الناس : ادعوا الله وأطال الدعاء بالنصر، وأمن الناس على دعائه.
ثم انفتل من دعائه، فقال : نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله ثلاث مرات.
ثم نادي مناديه : برئت الذمة ممن حمل امرأة وسار.
فلما كان عند قنطرة عطاء قال لمسعود بن عمرو : ابغني خمسين رجلاً وراية، اخلفهم على هذه القنطرة، فلا يدعون أحداً ممن جازها أن يرجع.
وكان مسعود هذا يخلف الكرماني بخفرته.
فقال مسعود: ومن أين أجد خمسين رجلاً؟
فأمر به فصرع عن دابته وضرب، ثم أمر بضرب عنقه
ص: 405
فتكلم فيه قوم فكف عنه.
وسار منزلاً، وأقام حتى أصبح، فقال له بعضهم ليتم الأمر على المقام يومه حتى يتلاحق الناس.
فأمر بالرحيل وقال : لا حاجة لنا في المتخلفين.
ثم جعل (1) [34/أ] على مقدمته سالم بن منصور... (2) [البجلي] (3) فلقي ثلاثمائة من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم، وهرب بقيتهم، فأتى به أسد فبكى التركي.
فقال أسد : ما يبكيك؟
فقال : لست أبكي لنفسي، وإنما أبكي لهلاك خاقان.
قال : وكيف؟
قال : لأنه فرّق خيله فيما بينه وبين مرو.
وسار أسد حتى إذا شارف العين الحارة استقبله بشر بن رزین، فقال : ما وراءك ؟
قال : إن لم تلحقنا غُلبنا على مدينتنا.
فقال : قل للمقدام بن عبد الرحمن : يطاول نز رمحي.
وسار فنزل مدينة الجوزجان [ فنزل عليها على فرسخين من خاقان وكان ] (4) قد استباحها خاقان.
فأتاه المقدام بن عبد الرحمن في مقابلته وأهل الجوزجان.
وانصرفت (5) طلائع لخاقان إليه، فأخبرته أن ريحاً ساطعاً طلع من ناحية بلخ.
فدعا خاقان الحارث فقال : ألم تزعم أن أسداً ليس به نهوض، وهذا ريح من ناحية بلخ(6)؟
فقال : هذا هو اللّص (7) الذي كنت أخبرتك أنه من أصحابي.
ص: 406
فبعث خاقان طليعته وقال : انظروا هل ترون على الإبل سريراً وكرسي؟
فجاءته الطلائع، فأخبرته أنهم عاينوها.
فقال خاقان : اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسي، هذا أسد قد أتاك.
فسار أسد [قدر] (1) غلوة، فلقيه سالم بن منصور (2)، فقال : أبشر أيها الأمير، حرزتهم فلا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون قد عقره الله (3).
وسار أسد على تعيينه عنه مسيره وقلب وعبيء خاقان مثل ذلك، وجعل على ميمنته الحارث بن شريح وأصحابه.
ومال الصغد، وصاحب الشاش، وصاحب الخيل والترك كلهم معه.
فلما التقوا حمل الحارث ومن معه على الميسرة وفيها ربيعة، وأهل الشام فما ثبت له أحد وانهزموا، فلم يردهم شيء دون روّاق أسد.
ثم شدّت عليهم ميمنة أسد، وهم الأزد، وبنو تميم والجوزجان، فانهزم الحارث، والأتراك.
فحمل الناس جميعاً فقال اللهم إنهم عصوني فانصرهم.
وذهب الترك عباديد لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم الناس [مقدار ثلاث فراسخ] (4) يقتلون من لحق منهم حتى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمسين ألف ومائة ألف شاة، ودواب كثيرة.
وأخذ خاقان غير طريق الحارة في الجبل، والحارث [بن] (5) سريج يحميه.
وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله تعالى.
فقال الجوزجاني (6) لعثمان بن عبد الله بن الشخير: إني أعلم ببلادي وطرقها، فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان، ولك فيه ذكر ما بقيت؟
فقال : وما هذا؟
قال : تتبعني؟
ص: 407
قال : نعم.
[34 / ب] فأخذ به طريقاً يسمى ورادك، فأشرفوا على طوقان خاقان، وهم آمنون.
فأمر خاقان الكوسات، فضربت ضرب الانصراف، وقد شبّت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصراف.
ثم ضربت الثانية، فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجاني على الطوقان وولى خاقان مُدبراً.
فحوى المسلمون عسكرهم، وتركوا قدورهم تغلي، ونساءهم مع [بعض] (1) نساء العرب كن معهم.
ووحل بخاقان فرسه (2)، فحماه الحارث بن سريج.
وأراد خصي لخاقان أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر، فلحقوها وهي تتحرك، فأخذوا أختها، وهي من لبد مضرب.
ووجد عسكر الترك مشحوناً من كل شيء من آنية الفضة وصناجاتهم، وأمتعتهم، وبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، فاستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين.
وانصرف أسد إلى بلخ اليوم التاسع من خروجه.
فقال ابن السجف المجاشعي :
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا *** تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيراً مرة ونقضا *** من الأمير أسد وأمضا
أفضى إلينا الخير حين أفضا *** وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا *** قد فض من جموعه ما فضا
یا ابن سريج قد لقيت حمضا *** حمضاً به يشفى صداع المرضى
وأصاب أسد أربعة آلاف درع.
وكان أسد يوجه الناس في السرايا فكانوا لا يزالون يصيبون جماعة من الترك.
ومضى خاقان إلى بلاده (3) فلما ورد أشروسنة (4) تلقاه خرابغرة [أبو خانا جزه ] (5)
ص: 408
جد كاوس أبي الأفشين باللعانين وأعد له هدايا عظيمة ودواب له ولجنده.
وكان الذي بينهما متباعداً ولكنه لما رجع منكوباً أحبّ أن يتخذ عنده يداً، فأتاه بكل ما يقدر عليه.
فلما رجع خاقان إلى بلاده أخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند وحمل الحارث بن شريح وأصحابه على [خمسة] (1) آلاف برذون وفرق في أصحابه مثلها.
ثم إنه لاعب خاقان يوماً كورصول على تذرجة مدرجة بالنرد فقهر كورصول الترقشي، فطلب منه التذرجة.
فقال أحدهما : أُنثى.
فقال الآخر : ذكر
وأدى النزاع إلى أن رفع (2) يده [35/أ] فضرب يد خاقان فأوهنها (3)، فحلف خاقان ليكسرن يد كورصول من بين يديه.
فتنحى كورصول من بين يديه وجمع جمعاً ثم بيت خاقان فقتله وتفرق عنه الترك وتركوه مجرَّداً حتى أتاه عظماء الترك ودفنوه، وصنع به ما يصنع بمثله.
وتفرقت الترك في الغارات بعضها على بعض وأتى بعضهم إلى الشاش فعند ذلك طمع أهل الصغد في رجعة الأولى إليها فلم يسلم من خيل الترك التي تفرقت في الحاضرة إلا حديراً الليثي فإنه سلم في جيش سار إلى طخارستان.
كان أسد بعث من مدينة بلخ رجلاً يُعرف بسيف بن وصاف إلى هشام يخبره بما أظله من الخطب العظيم ويستمده.
فلما وصل إليه أخبره فلم يصدقه هشام (4)، وقال لحاجبه : ويحك إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامة الكبرى إن كان صادقاً ولا أظنه صادقاً، اذهب به فعِدهُ، ثم سَلْهُ، وانبئني بما يقول.
ففعل، ثم سأله، فأخبره بما أخبر به هشام.
فدخل عليه أمر عظيم وصرفه ثم دعاه بعد أيام يسيرة وقال له : من القاسم بن
ص: 409
بخيت فيكم؟
قال : ذاك صاحب العسكر.
قال : فإنه قد أقبل.
قال : فإن كان قد أقبل فقد فتح الله تعالى على أمير المؤمنين.
وكان أسد قد وجّه حين فتح الله عليه القاسم بن بخيت، فكبر على الباب ثم دخل يكبر، وهشام يكبر معه، حتى انتهى إليه، فقال : الفتح يا أمير المؤمنين.
فأخبره الخبر فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر وهي واجبة عندهم.
فحسدت القيسية أسداً وخالداً وقالوا لهشام أكتب إلى خالد فليأمر أخاه أن يوجه مقاتل بن حيان.
فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بن حيان على رؤوس الناس وقال له : سر إلى أمير المؤمنين، فأخبره بما عاينت وقل الحق، وأنت لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك.
فقال الناس: إنه لا يأخذ شيئاً، أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وجهزه.
فسار حتى قدم على هشام وهو والأبرش جالسان.
فسأله فقال كان من أمرنا كيت وكيت إلى أن قال : قصدنا خاقان، فساق من الذي رأى، وأهل البلدان بعد أن قاتلنا كذا يوماً، ثم أوقعناه وهو لا ينتظرنا فحملوا على مسيرتنا فكشفوهم ثم حملت ميمنتنا فهزمناهم، ثم تبعناهم حتى استبحنا عسكرهم خاقان بما فيه من النساء والذراري والآلات.
وكان هشام متكئاً [35/ ب] فاستوى جالساً عند ذكر خاقان وقال ثلاثاً: أنتم استبحتم عسكر خاقان؟
قال : بلی.
قال : حاجتك؟
قال : إن يزيد بن المهلب أخذ من ابني حيان (1) من غير حق مائة ألف [درهم فاستحلف على ذلك] (2).
ص: 410
فقال هشام : لا أكلفك شاهداً، أحلف بالله إنه لكما قُلْتَ.
فحلف فردها عليه من بيت مال خراسان.
وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها، فكتب إليه، فأعطاه مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيان على فرائض الله (1).
وفي هذه السنة : خرج على خالد بن عبد الله، المغيرة بن سعيد، وسار في نفر، فأخذ منهم وقتلهم.
أما المغيرة بن سعيد (2) فكان يتشيّع، ثم نُسبت إليه أمور شنيعة فيها تزيد وإسراف فأحدها ما حكاه صاحب التاريخ على ما أخبرناه القاضي عن محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا ابن حميد قال لنا جرير عن الأعمش قال : سمعت المغيرة بن سعيد يقول :
ص: 411
لو أراد أن يُحيّي عاداً، أو ثموداً، أو قروناً بين ذلك كثيراً لأحياهم.
قال الأعمش : وكان المغيرة بن سعيد يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى مثل الجراد (1) على القبور.
ونحو هذا من الكلام وحكايات عنه حكايات عظيمة.
فلما أُخذ المغيرة وأصحابه (2)، أتي بهم، وهم سبعة، وأمر بسريرة فأخرج إلى المسجد الجامع (3).
وأمر بأطنان (4) قصب ونفط فأحضر، ثم أمر المغيرة أن يتناول طناً، فكع وتأبى، فصبّت السياط على رأسه فتناول طناً، فاحتصنه، فشُدَّ عليه، ثم صُبّ عليه، وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار، فأحرقا ثم فعل في الرهط بمثل ذلك، ثم أمر بياناً آخرهم فتقدم إلى الطن مبادراً فاحتضنه.
فقال خالد : ويلكم في كل أمركم تجهلون هلا رأيتم هذا إلا المغيرة، ثم أحرقه وكان هؤلاء يسمون الوصفاء.
وكان ظهورهم وخروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر فقال : أطعموني ماء.
وقيل فيه (5) :
أخالد لا جزاك الله خيراً ***............................... (6)
[ وكنت لدى المغيرة عبد سوء *** تبول من المخافة للزئير ] (7)
وقلت لما أصابك أطعموني *** شراباً، ثم بلت على السرير
لا علاج ثمانية وشيخ *** كبير السني ليس بذي نصير
ولما قتل خالد المغيرة أرسل إلى مالك بن أعين الجهني، فسأله فصدقه عن نفسه، فأطلقه (8).
ص: 412
فلما خلا مالك بمَن يثق وكان فيهم أبو مسلم صاحب الدعوة، قال لهم :
[36 أ] ضربت له بين الطريقين لا حيا *** وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
والبينة في شبهة حين سألني *** كما اشتبها في الخط سين وشينها
فكان يقول أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
وفي هذه السنة : حُكم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل.
كان بهول نبالة وكان به أنق، وهو مشهور بالبأس، والحدة عند هشام بن عبد الملك.
فخرج يريد الحج، فلما كان بسواد الكوفة أمر غلامه أن يبتاع له خلاً بدرهم، فجاء إليه غلامه بخمر، فردّه وقال : استرجع الدرهم.
فلما رجع الغلام يجبه البائع إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية (1)، وكلّمه.
فقال العامل : الخمر خير منك ومن قومك (2).
ص: 413
فمضى بهلول في حجه حتى فرغ منه.
ثم عزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فأقعدوا (1) قرية من قرى الموصل.
واجتمع إليه أربعون رجلاً، وأمروا عليهم البهلول، وأجمعوا على أن لا يمروا بأحد إلا أخبروا أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه بذلك، وأخذوا منه دواب البريد.
فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع الغلام فيها الخل، فأُعطي الخمر، قال [بهلول : نبدأ بهذا العامل فنقتله فقال له ] (2) أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره (3)، ولعل خالداً يفلت، وهو الذي يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولي المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، [ فاذهب بنا إليه لعلنا نقتله فيريح الله منه ] (4).
قال : لا، والله، إن تركت هذا وأتيت خالداً لعلي لا أظفر بما أُريد ويفوتني هذا، والله يقول: «قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» قالوا : أنت ورأيك.
فأتاه فقتله، فنذر (5) بهم الناس، وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرباً.
وخرجت البُرد إلى خالد، فأعلموه أن خارجة خرجت وهم لا يدرون من رئيسهم فخرج خالد من واسط حتى أتى الجزيرة في خلق كثير.
وكان قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشام في بني القين، قد وجهوا مدداً لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحرة.
فقصدها خالد، ودعا رئيسهم، وقال له : قاتل هؤلاء المارقة، فإنِّي أُعطي مَن قَتَل منهم واحداً عطاء سوى ما قبض بالشام، وأعفيه من الخروج إلى أرض الهند - وكان الخروج إلى أرض الهند شاقًا عليهم -.
فتسارعوا إلى ذلك، وقالوا: نقتل هؤلاء النفر الثني (6) ونرجع إلى بلادنا.
ص: 414
فتوجه القيني إليهم في ستمائة وَضَمَّ [36/ ب] إليهم خالد مائتين من شرطة الكوفة وقال القائد لا تكونوا معنا وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم، فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد (1).
وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم حمل عليه فطعنه في فرج درعه فأنفذه.
فقال : قتلتني قتلك الله.
فقال بهلول : إلى النار، وأبعدك الله.
وولى أهل الشام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا الكوفة، وبهلول وأصحابه يقاتلونهم.
فأما الشاميون من كان منهم على خيول جياد فأتوه.
وأما الشرط فإنه لحقهم فقالوا : اتق الله فينا، فإنا مكرهون قهورون.
فجعل يقرع رؤوسهم برمحه، ويقول : النجاء النجاء.
وأصاب بهلول مع القيني بَدْرَة [فأخذها ] (2).
وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي بهلول فخرجوا يريدونه، فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه فقال : مَن قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا وهذا يقول أنا حتى عرفهم - وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم ثواب ما فعلوا -.
فقال بهلول لأهل القرية : أصدق هؤلاء هم قتلوا هؤلاء النفر ؟
قالوا: نعم.
وكان خشي بهلول أن يكونوا ادعوا ذلك طمعاً في المال، فقال لأهل القرية : انصرفوا أنتم.
وأمر بؤلائك فقتلوا.
وبلغ هزيمة القوم خالداً، فأنفذ إليه جيشاً مع قائد من بني شيبان فلقيهم بين
ص: 415
الموصل والكوفة.
فشدّ عليه البهلول، فقال : نشدتك الرحم فإني جامح مستجير.
فكفّ عنه وانهزم أصحابه، فأتى خالداً وهو بالحيرة فلم يرعه إلا الفل قد هجم عليه (1).
وارتحل بهلول من يومه يريد الموصل.
فكتب عامل الموصل إلى هشام: أن خارجة خرجت، وأنه يخافهم، ويسأله جنداً يقاتلهم بهم.
فكتب إليه هشام وجه إليه كثارة بن بشير (2).
- وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه -.
فكتب إليه العامل : أن الخارج هو كثارة.
وكان البهلول قال لأصحابه ما نصنع بابن النصرانية - يعني خالداً - وإنما خرجت لله تعالى فلما لا نطلب الرأس الذي يسلط خالداً وأشباهه؟
فتوجه إلى الشام يريد هشاماً.
فخاف عمال هشام [من هشام ] (3) إن تركوه يجوز بلادهم إليه فجند له خالد جنداً من [العراق. وسير عامل الجزيرة جنداً من الجزيرة ووجّه هشام جنداً من ] (4) الشام فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل (5).
وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم، فنزل على أهل الدير فقالوا له : تزحزح عن الدير حتى نخرج إليك.
فتنحّی، فخرجوا إليه، فلما رأى كثرتهم [37/أ] وهو في سبعين، جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل على أعدائه، فقال: أكلكم يرجو أن نقتلهم ونسلم (6) فيأتي أهله سالماً؟
قالوا: نعم إنا نرجو ذلك إن شاء الله.
فشدّ على رجل عظيم من عظمائهم فقتله، فقال : أما هذا فلا يأتي أهله أبداً.
ص: 416
ولم يزل هذا ديدنه حتى قتل ستة فانهزموا ودخلوا الدير، وحاصرهم حتى جاءتهم الأمداد، فكانوا عشرين ألفاً.
فقال له أصحابه : ألا نعقر دوابنا، ثم نشد عليهم شدة واحدة؟
فقال : لا حتى نبلى عدداً ما استمسكنا على دوابنا.
فقاتلوهم عامة نهارهم حتى فشى فيهم القتل والجراح.
ثم إن بهلولاً نزل هو وأصحابه فعقروا دوابهم، وترجّلوا لهم، وأصلتوا السيوف وقتل عامة أصحاب البهلول، وهو يقاتل ويذود عن أصحابه إلى أن حمل عليه رجل يكنى أبا الموت، فصرعه فأتاه من بقي من أصحابه، وقالوا له: ولِّ أمرنا من بعدك من يقوم به.
فقال : إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني (1).
ومات البهلول في ليلته، وهرب دعامة (2).
وفيها: هلك أسد بن عبد الله من دبيلة كانت في جوفه.
فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر.
ص: 417
وجاء عهد نصر بن سيار في رجب سنة في إحدى وعشرين (1).
ص: 418
وفي هذه السنة: واجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
كانت من محمد بن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم كانت لخداش الذي ذكرنا خبرة وقبولهم من الكذب الذي رواه لهم عنه.
فلما أبطأ كتابه اجتمعوا فذكروا ذلك منهم، فأجمعوا على الرضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم ويخبره عنهم ويرجع إليهم بما يَرُدّ عليهم.
فقدم سليمان بن كثير على محمد بن علي وهو متنكر، فأخبره عنهم بطاعة وخير، فعنّفهم وقال : لعن الله خداشاً ومَن كان على رأيه ومَن سمع مقالته فأجابه إليها.
ثم صرف سليمان إلى أهل خراسان، فسأله أن يكتب إليهم معه كتاباً، فكتب كتاباً وختمه.
فلما قدم عليهم سليمان فضُوا خاتم الكتاب، فلم يجدوا فيه إلا «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)».
فأغلظ (1) ذلك عليهم [37/ ب] وعلموا أن ما كان أتاهم به خداش مخالف لأمره.
ص: 419
ثم أنفذ محمد بن علي، بكير بن ماهان (1) إلى شيعته بخراسان، وبعث معه بعصى مُضَبّیَة بعضها بالحديد، وبعضها بالشبة (2). فقدم بها بكير بن ماهان، وجمع النقباء، والشيعة، ودفع إلى كل رجل منهم عصاً. فعلموا أنهم عُصاة (3)، فرجعوا وتابوا، واعتذروا إلى بكير.
وفي هذه السنة : عزل هشام خالد بن عبد الله عن أعماله كلها.
كان السبب في ذلك سَكْرَةٌ عرضت لخالد من طول الولاية، وعز الإمرة، وكثرة ما اجتمع عليه من الأموال.
فمن ذلك أن كاتباً كان لابنه خلا به يوماً فقال له : كم غلة أبي ؟
فقال : قد زاد على عشرة ألف ألف درهم.
فقال : إنني مظلوم ما تحت قدمي من شيء إلا وهو له.
يعني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل لبجيلة رفع السواد (4).
وكان خالد قد اتخذ بالعراق أموالاً وحفر أنهاراً (5)، حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف درهم.
وكان كثيراً ما يقول في خلوته عند من يأنس به: هذا ابن الحمقاء - يعني هشام بن عبد الملك - وكانت أم هشام مستحمقة..
فتكلم فيه أولاً هشام وحسدوه، وسبعوه هم وأهل بيت مروان فكان أحد الأسباب الذي غاظ هشاماً: أنه دخل على خالد رجل من قريش من أولاد سعيد بن العاص أو عمرو بن العاص فتبسط عنده، فاستخف به خالد، وعضهه بلسانه.
فكتب إلى هشام يشكوه فكتب هشام إلى خالد
أما بعد : فإن أمير المؤمنين، وإن كان أطلق يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه للذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن نذيرك، لم يفرشك غيرة
ص: 420
أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تُحِدّ إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت عليه لسانك تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره، وزعمت بالنصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ له في اللفظ تحضر العامة غير متخلخل له حين رأيته مقبلاً من صدر مهادك الذي مهدك الله تعالى فيه وفي قومك مَن يعلوك بحسبه وبغمرك ما وليته، فنلت مهادك بما رفع به إليه عمرو من ضعتك خاصة، مساور من بك فروع عرر القبائل وقزومها قبل أمير المؤمنين حتى طلت هضبة... (1) عليهم هذا إذا لم تدهده بك قلة شكرك متحطماً وقيذاً، فهلا يا ابن محرشة قومه أعظمت رجلهم عليك داخلاً وخارجاً، ووسعت [38/ أ] مجلسه، فإذا رأيته مقبلاً إليك وتجافيت له عن صدر فراشك مكرماً، ثم فاوضته مقبلاً عليه ببشرك إكراماً لأمير المؤمنين، فإذا اطمأن به مجلسه نازعته نجى السرار معظماً لقرابته عارفاً لحقه، فهو سر البيتين ونائبهم، وابن شيخ آل أبي العاص، فبالله يقسم أمير المؤمنين لولا ما تقدّم من حرمتك، وما تكره من شماتة عدوك فيك لوضع ما رفع قدرك حتى تفقد بها أهل الحوائج بعراقك وتزاحم المواكب ببابك، وما أقربني من أن أجعلك تابعاً لمن كان لك تبعاً، فانهض على أي حال لقاك به رسول أمير المؤمنين وكتابه من ليل أو نهار ماشياً على قدميك بمن معك من حولك حتى تقف بباب ابن عمرو صاغراً، مستأذناً عليه متنصلاً إليه أذن لك أو منعك، فإن حركته عواطف رحمة احتمائك، وإن احتمته حميته وأنفته من دخولك عليه، فقف ببابه حولاً غير متخلخل ولا زائل ثم أمرك إليه بُعْدَ عزل أو ولاية انتصر أو عفا، فلعنك الله من متكل عليه بالثقة، ما أكثر هفواتك واقذع لأهل الشرف ألفاظك التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على مَن هو أولى مما كنت فيه من ولاية مصري العراق وأقدم وأقوم.
وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمه بما كتب به إليك من إنكاره عليك ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه مفوضاً ذلك إليه مبسوطة فيه يده محموداً عند أمير المؤمنين على أيها أتى إليك موفقاً إن شاء الله.
وكتابه إلى ابن عمرو، وفي أخرى ابن عمر: أما بعد: فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامة، محتقراً لقدرك مستصغراً لقرابتك بأمير المؤمنين وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه تعظيماً لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكاً بوثائق عصم طاعته على مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه وإكبابه عليك عند إطراقك عنه مروى فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه، ورفع من ضعته ونوّه من خموله وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الزمان في وطايشه أحلامها صُمت غير ما تحام بأحلام تحف بالجبال، وقد
ص: 421
حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه وتوقيرك سلطانه وشكره، وقد جعلت أمر خالد إليك في عزله وإقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إياه، وإن أقررته فتلك مِنَّة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها، وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد له عنه سنه الهاجع عند وصوله يأمره بإتيانك راجلاً [38/ ب] على حاله صادفه كتاب أمير المؤمنين وألفاه رسوله الموجّه إليك من ليله أو نهاره حتى يقف ببابك أذنت له أو حجبته أقررته أو عزلته، وتقدّم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك عشرين سوطاً على رأسه إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته فأيهما رأيت أمضاه، كان لأمير المؤمنين في بره لك وتعظيمه حُرمتك وقرابتك وصلت رحمك موفقاً وإليه حبيباً فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد فكاتب أمير المؤمنين فيما تريد مبتدياً ومجيباً، ومحادثاً وطالباً مما عسى أن ينزل بك أهلك من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه وقلة إمكان الخروج لأمر الهابة غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من كرارها عليه على قدر قرابتهم وإدمانهم وأسنانهم مستميحاً ومسترفداً وطالباً (1) مستزيداً تجد أمير المؤمنين سريعاً بالبر لما بحلول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي وإليه يرغب في العون على قضاء حقوق قرابته، وعليه يتوكل وبه يثق، والله وليه ومولاه والسلام.
ومما جناه خالد على نفسه : أن رجلاً يقال له فروخ كان قد يقبل من ضياع هشام بن عبد الملك بموضع يقال له نهر الرمان، فكان يدعى لذلك فروخ الرماني.
فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي (2) : ويحك اخرج إلى أمير المؤمنين وزد على فروخ.
فخرج حسان فزاد عليه ألف ألف.
فبعث هشام معه رجلين من صلحاء أهل الشام فحازا الضياع.
فصار حسان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يضربه ويؤذيه.
فيقول حسان: لا تعتدي وأنا صنيعتك، فأبى إلا الإضرار به حتى بثق عليه البثوق.
فخرج حسان إلى هشام فقال: إن خالداً بثق البثوق على ضياعك.
فوجه هشام رجلاً فنظر إليها ثم رجع، فأخبره
وأقام حسان يفسد أمر خالد حتى قال يوماً لخادم من خدم هشام: إن تكلمت
ص: 422
بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك عندي ألف دينار.
قال : فعَجّل لي الألف وأقولها ما شئت فعجلها له، وقال له : تُبكىء صبياً [39/أ] من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له : اسكت والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف درهم.
ففعل، فلما سمعها هشام دارت في نفسه فلما دخل عليه حسان قال : ادن مني.
فدنا منه، فقال : كم غلة خالد؟
قال : عشرون ألف ألف.
قال : فكم غلة ابنه ؟
قال : ثلاثة عشر ألف ألف.
قال : فكيف لم تخبرني بهذا ؟
قال : وهل سألتني؟
فوقرت في نفس هشام حتى عزله.
وما كتب به هشام إلى خالد: قد بلغني يا ابن أم خالد أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف، فيابن اللخناء كيف [ لا تكون إمرة العراق لك شرفاً فأين ] (1) أنت من بجيلة القليلة الذليلة أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صقر (2) من قريش يشد يديك إلى عنقك.
وكان من أسباب مؤاخذته أيضاً : أن رجلاً قدم عليه، فقال: إني سمعت خالداً ذكر أمير المؤمنين بما لا تلتقي به الشفتان.
قال : قال الأحول؟
قال : لا بل أشد من ذلك.
قال : فما هو ؟
قال : لا أقوله أبداً.
ولما صح عزم هشام على عزل خالد: أحب أن يكتم ذلك حتى يتممه، فاختار لمكانه يوسف بن عمر وكان يومئذ والي اليمن.
فكاتبه فقدم عليه جندب مولى يوسف بكتاب له، فقرأه ثم قال: لكاتبه (3) أجبه على لسانك.
ص: 423
وكتب هو بخطه كتاباً صغيراً، ثم قال: ائتني بكتاب سالم - وكان سالم على الديوان - فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغير، ثم قال: اختمه، ففعلت.
ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعد طوره، ويسأل فوق قدره، قال لي مزق ثيابه.
ثم أمر بضربه، فضرب أسواطاً، وقال أخرجه عني، وادفع إليه كتابه.
فدفعت إليه الكتاب وقلت له : ويلك، النجاء فارتاب بشير بن أبي طلحة بذلك - وكان خليفة سالم - وقال : هذه حيلة، والله وقد ولى يوسف العراق.
فكتب إلى عياض، وهو صاحب طارق بن أبي زياد - وطارق هذا خليفة خالد على العراق - وكان كتابه إلى عياض :
إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني فإذا أتاك فالبسه واحمد الله واعلم ذلك طارقاً.
فبعث عياض إلى طارق بالكتاب وندم بشير على كتابه فكتب إلى عياض :
إن أهلك قد بدا لهم في إمساك الثوب فلا تكل عليه.
فجاء عياض بالكتاب الأخير إلى طارق.
فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الكتاب فكتب بهذا.
ثم ركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط فسار يوماً وليلة، فصبّحهم.
فرآه داود البريدي، وكان على حجابة خالد وحرسه وديوان الرسائل، فأعلم خالداً قدومه.
فغضب [39/ ب] وقال : قدم بغير إذن له.
فلما رآه قال : ما أقدمك ؟
قال : أمر كنت أخطأت فيه.
قال : وما هو ؟
قال : وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزيه فيه، وكان ينبغي أن آتيه ماشياً.
فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك.
فقال : أردت أن أذكر للأمير أمراً أسره إليه.
قال : ما دون داود سِرّ.
قال: أمر من أمري.
ص: 424
فغضب داود، وخرج، فأخبر طارق خالداً.
قال : فما الرأي؟
قال : تركب إلى أمير المؤمنين، فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك.
قال :خالد لا أركب إليه من غير إذنه
قال : فشيء آخر.
قال : وما هو؟
قال: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشام فأستأذنه لك فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه.
قال : فلا هذا.
قال: فاذهب فاضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده مستقبلاً.
قال : وما مبلغ ذلك؟
قال : مائة ألف ألف.
قال: ومن أين أجد هذا؟ والله ما أجد عشرة آلاف ألف درهم.
قال : أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزينبي، وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف درهم، وتفرق الباقي في العمال.
قال : إني إذاً للئيم إن كنت أعطيتهم شيئاً ثم أرجع فيه.
فقال طارق : إنا نقيك ونقى أنفسنا بأموالنا [ وتستأنف الدنيا وتبقى النعمة عليك، وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال ] (1) وهي عند تجار أهل الكوفة فيتقاعسون، ويتربصون بنا، فنقتل نحن، ويأكلون تلك الأموال.
فأبي خالد، فودعه طارق، وبكي، وقال هذا آخر ما نلتقي في الدنيا.
وتحدث ابن عياش : أن بلالاً بن أبي كردة كتب إلى خالد - وهو عامله على البصرة - حين بلغه تعتُّب هشام عليه :
إنه حدث أمر لا أجد بدا من مشافهتك به، فإن رأيت أن تأذن لي، فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفاً.
ص: 425
فكتب إليه : أقبل إذا شئت.
فركب هو وموليان له الحمازات، فسار يوماً وليلة، ثم صلّى المغرب بالكوفة - وهي ثمانون فرسخاً - فأُخبر خالد بمكانه فأتاه وقد تعصب، فقال : يا أبا عمرو أتعبت نفسك.
فقال : أجل.
قال : متى عهدك بالبصرة؟
قال : أمس.
قال : أحق ما تقول؟
قال : هو والله ما قلت.
قال : فما أنصبك؟
قال : ما بلغني من تعتُّب أمير المؤمنين، وقوله وما نعاك به ولده وأهل بيته، فإن رأيت أن نعرض [40/أ] عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحب فأنفسنا به طيبة، ثم اعرض عليه مالك، فما أخذ لطلبنا العوض منه.
قال : ما اتهمك حتى أنظر.
قال : إني أخاف أن تعاجل.
قال : كلا.
قال : إن قريشاً من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك.
قال : يا بلال والله ما أعطي شيئاً قسراً أبداً.
قال : أيها الأمير أتكلم؟
قال : نعم.
قال : إن هشاماً أعذر منك، يقول : استعملتك وليس لك شيء، فلم ترَ من الحق عليك أن تعرض على بعض ما صار إليك.
وأخاف أن يزين له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة.
قال : أنا ناظر في ذلك، فانصرف راشداً.
وانصرف بلال، وقد يئس منه.
وكان رسول يوسف من عمر لما قدم عليه قال : قال له : ما وراءك؟
قال : الشر، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني، ولم يكتب جواب كتابك، وهذا
ص: 426
كتاب سالم صاحب الديوان.
ففضّ الكتاب وقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه :
أن سر إلى العراق، فقد وليتكه، وإياك أن يعلم بذلك أحد، وخذ ابن النصرانية وعماله فاشفني منهم.
فاستخلف يوسف ابنه، واختار دليلاً عالماً بالطريق، وسار، فسأله ابنه : أين تريد؟ فقال له : يا ابن اللخناء أيخفى عليك إذا استقر بي منزل، ثم سار فكان إذا أتى طريقين سأل فإذا قيل هذا إلى العراق قال : أعرق حتى آتي الكوفة (1).
فقال لغلامه كيسان انطلق، فأتني بطارق فإن كان قد أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يكن أقبل فأتي به سحباً.
قال: فأتيت الحيرة دار عبد المسيح وهو سيد أهل الحيرة، فقلت له : إن يوسف قد قدم على العراق وهو يأمرك أن تشد طارقاً، وتأتيه به.
فخرج هو وولده وغلمانه حتى أتوا منزل طارق وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعان لهم سلاح وعدة.
فقال لطارق : إن أنت أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم ثم طرت على وجهك حيث شئت.
فقال : لا، وأذن لكيسان.
فلما دخل قال : أخبرني عن الأمير ما الذي يريد؟
قال : المال.
قال : فأنا أعطيه ما سأل.
ثم أقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضرباً مبرحاً يقال (2) : خمسمائة [ سوط ] (3).
فدخل المدينة - يعني الكوفة - فخطب بها، وتوعد أهل العراق.
وقال : والله لأقتلن منافقيكم بالسيف.... (4) بالعذاب، وفساقكم بالسياط.
ثم نزل ومضى إلى واسط وأُتي بخالد وهو بها فحبسه، فتوسط بينهما الناس حتى
ص: 427
صالحه أبان بن الوليد عنه على تسعة آلاف ألف درهم، فقبل يوسف (1).
وقيل [40 / ب] له لو لم تفعل لأخذت منهم مائة ألف ألف.
قال : ما كنت لأرجع، وقد رهنت لساني بشيء.
وأخبر [أصحاب (2) خالد ] (3) خالداً فقال : أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم فارجعوا إليه.
فجاؤوه، فقالوا : إن خالداً ليس يرضى بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه.
فقال : أنتم أعلم وصاحبكم أما أنا فلا أرجع عليكم، فإن رجعتم لم أمنعكم.
قالوا : فإنا قد رجعنا.
قال : أوَقد فعلتم ؟
قالوا: نعم.
قال : فمنكم أتى النقض فوالله لا أرضى بتسعة آلاف ألف ولا أضعافها، فآخذ مائة ألف ألف (4).
ثم كتب يوسف بن عمر إلى جديع بن علي الكرماني بولاية خراسان، فأتاه الكتاب بمرو.
ص: 428
فخرج إلى الناس فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وذكر أسداً وما صنع الله تعالى للناس على يديه بعدما كانوا فيه من الشدة والجهد ثم ذكر أخاه خالداً بالجميل، فأثنى عليه.
وذكر قدوم يوسف العراق وحث الناس على الطاعة ولزوم الجماعة فقال : غفر الله للميت - يعني أسد - وعافى المعزول، وبارك للقادم ثم نزل.
وفي هذه السنة : عزل جديع الكرماني عن خراسان، وولى نصر بن سيار.
لما انتهت وفاة أسد إلى هشام استشار أصحابه فيمن يصلح لخراسان؟
فأشير عليه بقوم، فقال : اكتبوا أسماءهم فكان ممن كتب له عثمان بن عبد الله بن الشخير، ويحيى بن الحصين بن المنذر، ونصر بن سيار والمحشر بن مزاحم السلمي وغيرهم.
فسأل عن عثمان بن الشخير.
فقيل : هو صاحب شراب.
وسأل عن المجشر فقيل : شيخ يهم.
وسأل عن ابن حصين، فقيل : فيه تيه وعظمة.
وسأل عن قطن بن قتيبة، قيل : موتور فاختار نصر بن سیار.
فقيل : ليست له بها عشيرة.
فقال هشام: أنا عشيرته.
فولاه وبعث بعهده، وكان هشام سأل عبد الكريم - وكان أتاه من خراسان من أخبره بموت أسد - بلغني أن لك بها وبأهلها علماً.
فقال : يا أمير المؤمنين، أما رجل خراسان حزماً ونجدة فالكرماني.
فأعرض بوجهه وتطير من اسمه جديع، وقال: سمِّ لي غيره.
قال : قلت : اللسن المجرب - يعني يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني -.
قال : ربيعة لا يسد بها الثغور.
قال : عبد الكريم : قلت في نفسي : قد كره ربيعة [41/ أ] واليمن، فارميه بمضر، فقلت : عقيل بن معقل الليثي إن اغتفرت هنته.
قال : ما هي؟
قلت : ليس بالعفيف.
ص: 429
قال : لا حاجة لي به.
قال : قلت : المجشر بن مزاحم عاقل شجاع له رأي.
قال فيه كذب، ولا خير في الكذب.
قال عبد الكريم: وأخرت نصراً وهو رجلهم وأعرفهم بالسياسة.
ثم قلب نصر بن سيار الليثي فقال : نصر بن سيار هو لها.
قلت : فإن عشيرته بها قليلة.
قال : لا أبا لك، أكثر من أنا عشيرته؟! فولى نصراً، وأمر بمكاتبة يوسف بن عمر وكان يوسف قد سمى بخراسان جماعة وأوفد في ذلك وفداً، فأبى عليه هشام فيهم.
وكان خرج بعهد نصر إلى خراسان عبد الكريم الحنفي، أنفذه هشام مع كاتبه أبي المهند فوصل عبد الكريم بعشرة آلاف درهم واستعمل نصر خلفاءه على كور خراسان (1) وعمر خراسان عمارة لم تعمر قط مثلها، ووضع الخراج وأحسن الولاية
ص: 430
والجباية ومدحه الشعراء وكان نصر شاعراً خطيباً فخطب الناس، وقال في خطبته : استمسكوا لأصحابنا بحديتكم، فقد عرفنا خيركم من شركم.
وفيها: غزا مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، ففتح قلاعه وخرّب أرضه، فأذعن بالجزية له في كل سنة ألف رأس، وأخذ رهائنه، وملكه على أرضه (1).
وفيها : قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، في قول الواقدي.
وفي قول هشام بن محمد: قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة.
كان بين أولاد الحسن والحسين عليهما السلام خصومة في صدقة رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) وكانوا يتنازعون إلى والي المدينة، وكان واليها يومئذ إبراهيم بن هشام وانتهت الخصومة إلى زيد بن علي من لزيد.
قال حسن بن حسن: أنا.
قال : إنا نخاف لسانك ويدك ولكني.
قال : إذاً لا تبلغ حاجتك.
ص: 431
قال : ولكني أبلغ حجتي. فتنازعا يوماً، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال : يا ابن العندكية.
فتضاحك زيد وقال : فعلتها يا أبا محمد.
ثم ذكر أمه بشيء (1).
وكانت ولاية المدينة يومئذ قد صارت إلى خالد بن عبد الملك وهذه الخصومة كانت عنده، فقال خالد: اغدوا علينا غداً، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما.
فباتت المدينة [41/ب] تغلي المرجل، يقول قائل : قال زيد كذا، ويقول قائل : قال عبد الله كذا
فلما كان الغد، جلس خالد في المسجد، واجتمع الناس فمن شامت، ومن مهموم.
فدعا بهما - خالد - وهو يحب أن يتشاتما، فتبين ذلك لهما، وذهب عبد الله يتكلم.
فقال زيد : لا تعجل يا أبا محمد أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً.
ثم قال : يا خالد لقد جمعت ذرية رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر.
فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد ؟
فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال : يا ابن أبي تراب، وابن الحسين السفيه، أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟
فقال زيد : اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك.
فقال : ولِمَ ترغب عني، فوالله إني لخير منك وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك.
ص: 432
فتضاحك زيد وقال يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، ذهبت الأحساب، فوالله إنه ليذهب (1) دين القوم وما تذهب أحسابهم.
فتكلم عبيد الله (2) بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: كذبت والله يا قحطاني، فوالله لهو خير منك نفساً، وأباً، وأما ومحتداً، وتناوله بكلام كثير.
فقال القحطاني : دعنا منك يا ابن واقد.
فأخذ ابن واقد كفا من حصباء المسجد، فضرب بها في الأرض، ثم قال: أُفٍّ والله ما لنا على هذا صبر، وقام.
وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك.
فجعل هشام لا يأذن له.
فرفع إليه القصص، فكلما قرأ قصة له، كتب هشام في أسفلها : ارجع إلى أميرك (3).
فيقول زيد: والله ما أرجع إلى خالد أبداً، وما أسأل مالاً، وإنما أنا رجل مخاصم.
ثم إن هشاماً أذن له يوماً بعد طول حبس، وجلس في علية له رفيعة (4)، وأمر خادماً أن يتبعه ويتسع عليه.
وقال له : انظر لا يرنينك [وتسمع ما يقول] (5).
قال : فأتعبته الدرجة، وكان بادناً، فوقف في بعضها وقال : والله ما أحب الدنيا أحد إلا ذلّ (6).
فلما أعيد ذلك على هشام، علم أنه خارج عليه.
فيقال : إن هشاماً قال له يوماً : لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة، وتتمناها، ولست هناك، فإنك ابن أمة.
ص: 433
قال زيد : إن لك يا أمير المؤمنين جواباً.
قال : فتكلم به.
قال : إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع عنده منزلة من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمداً (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، وكان ابن أمة، وأخوه ابن صريحة فاختاره الله تعالى عليه وأخرج منه خير البشر، وما على أحد [من ذلك إذ كان ] (1) جده رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) [ وأبوه علي بن أبي طالب ] (2) [42/ أ] ما كانت أمه أمة.
فقال له هشام: اخرج عني.
قال : إن خرجت لا تراني إلا حيث تكره.
فقال له سالم : لا يظهرن منك هذا (3).
ثم إن خالد بن عبد الله القسري ادعى مالاً له قبل زيد بن علي، ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن الزهري، وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي.
فقدمت كتب يوسف بن عمر على هشام بذلك فبعث إليهم يخبرهم بما ادعى عليهم خالد، فأنكروا.
فقال له هشام: فاخرجوا إليه بجمع بينكم وبينه.
فقال له زيد بن علي : أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف بن عمر.
قال : وما الذي تخاف منه؟
قال : أخاف أن يعتدي عَلَي.
قال هشام: ليس له ذلك ودعا كاتبه وقال له : اكتب إلى يوسف بن عمر:
أما بعد: فإذا قدم عليك فلان وفلان فاجمع بينهم وبين خالد القسري، وابنه
ص: 434
يزيد، فإن أقروا بما ادعى عليهم فسرّح بهم إليّ،، وإن هم أنكروا، فسله بينة، فإن لم يقم بينة، فاستحلفهم بالله الذي لا إله إلا هو ما استودعكم خالد، ولا ابنه يزيد وديعة، ولا لهما قبلكم شيء، ثم خل سبيلهم.
فقالوا لهشام : إنا نخاف تعديه لكتابك.
قال : كلا إني قد صدقتكم، ولكن لا بد من أن تكذبوا خالداً في وجهه، وأنا باعث معكم رجل من الحرس يأخذ بذلك ليعجل الفراغ منه، ويردكم إلي.
قالوا : جزاك الله خيراً.
فوصلهم هشام وسَرّح بهم إلى يوسف، فلما قدموا على يوسف، أجلس زيد بن علي قريباً منه، وألطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال فأنكروا جميعاً.
فأخرج يوسف خالداً إليهم في عباءة، وجمع بينه وبينهم.
وقال هذا زيد بن علي وهذا داود بن علي وهذا فلان وهذا فلان الذين(1) ادعيت عليهم ما ادعيت، وقد أمر أمير المؤمنين بكيت وكيت، وهذا الكتاب فهل عندك بينة بما ادعيت؟
فلم تكن له بينة.
فقال يوسف لهم : أتحلفون أن خالداً ما أودعكم مالاً، ولا له قبلكم حق؟
فقال زيد : أنا يودعني مالاً وهو يشتم آبائي على منبره.
وسكت القوم، ثم التفتوا بأجمعهم إلى خالد وقالوا: ما دعاك إلى ما صنعت؟
قال : إنه غلظ عليَّ في العذاب، فادعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم.
فأطلقهم، فمضوا.
وتخلّف بالكوفة : زيد بن علي، وداود.
وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد ويوسف يأمره بالخروج، وهو يعتل عليه.
وبلغ ذلك هشاماً، فكتب إلى يوسف : أنه بلغني أن زيداً يعتل ويحتج عليك في مقامه لخصومة بينه وبين آل طلحة [42 / ب] في مال بينه وبينهم بالمدينة فليقم خير ما يقوم مقامه، وأزعجه.
وقد كان بايعه سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصاري وناس من وجوه أهل الكوفة.
ص: 435
فلما رأى ذلك داود بن علي قال له : يا ابن عم لا يغرنك هؤلاء من نفسك، في أهل بيتك لك عبرة، وذَكَرَهُ بأيام علي، وأيام الحسن والحسين، ولم يزل به حتى جه معه، فشخصا حتى بلغا القادسية.
أخرجه فاتبعه شيعة حتى بلغوا الثعلبية، وقالوا له : نحن أربعون ألفاً، وإن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد.
فجعل يقول : أخاف أن تخذلوني، وتسلموني كما فعلتم بأبي وجدي، فيحلفون له، ويعطونه المواثيق والأيمان المغلظة.
فيقول له داود: يا ابن عم، هكذا قالوا لأبيك وجدك، ثم لم يقوا.
فقالوا لزيد : إن هذا لا يحب أن تظهر أنت، وزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، ولم يزالوا عليه بهذا الكلام ونحوه حتى انصرف معهم إلى الكوفة.
فأتاه سلمة بن كهيل فاستأذن عليه فأذن له فذكر قرابته من رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) وحقه، فأحسن إليه.
ثم تكلم زيد فأحسن.
فقال سلمة : اجعل لي الأمان حتى أقول.
قال : سبحان الله، ومثلك يسأل مثلي الأمان.
إنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه.
فقال : نشدتك الله كم بايعك؟
قال : أربعون ألفاً.
قال : فكم بايع جدك؟
قال : ثمانون ألفاً.
قال : فكم حصل [معه] (1)؟
قال : ثلاثمائة.
قال : نشدتك الله، أنت خير أم جدك؟
قال : بل جدي.
قال : أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيه جدك؟
ص: 436
قال : بل القرن الذي خرج فيه جدي.
قال : أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدك؟!
قال : إنهم بايعوني، ووثقوا لي؟
قال : فتأذن لي أن أخرج من البلد؟
قال : لِمَ؟
قال : لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي.
قال : أذنت لك.
فخرج إلى اليمامة.
وكتب عبد الله بن الحسن بن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى زيد رضي الله عنهم : يا ابن عم نفخ [في] (1) العلانية، خور السريرة، [هرج في الرخاء جزع في اللقاء ] (2) تقدمهم ألسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم، ولقد تواترت إلي كتبهم فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأساً منهم، واطراحاً لهم، وما لهم مثل إلّا ما قال علي بن أبي طالب.
وذكره بأشياء قالها علي في أهل العراق (3).
واستخفى زيد بالكوفة وبث دُعَاتَه، وأخذ يتنقل من موضع إلى موضع ويبايع من استجاب [43/أ] له.
وكانت بيعته :
«إني أدعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ المظالم، ونصر أهل البيت على من ينصب لنا.
ص: 437
أتبايعون على ذلك؟
فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول:
«عليك عهد الله وميثاقه وذمته، وذمة رسوله لتفين ببيعتي، ولتقاتلن معي عدوي، ولتنصحن لي في السر والعلانية».
فإذا قال: نعم، مسح يده يده، ثم قال : «اللهم اشهد» (1).
فمكث بذلك بضعة عشر شهراً وبلغ هشاماً خبر رجوعه إلى الكوفة.
فكتب هشام بن عبد الملك إلى يوسف بن عمر في أمر زيد كتاباً نسخته :
أما بعد: فقد علمت حال الكوفة في حبهم أهل هذا البيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم، لأنهم افترضوا طاعتهم على أنفسهم، وضيقوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن حتى حملوهم على تفريق الجماعة على حال استخلفوهم فيها إلى الخروج وقد كان قدم زيد بن علي على أمير المؤمنين في خصومة له، فرأى رجلاً جدلاً لسِناً خليقاً بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه في حججه وما يدلي به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادة لنيل الفلج، فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تحله والمقام قبلك، فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) جدهم ميلاً إليه، وبعض التحامل عليه في أذى له مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إلي من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع سبلهم والجماعة حبل الله المتين ودين الله القويم، وعروته الوثقى، فادع إليك أشراف أهل المصر فأوعدهم العقوبة في الأبشار واستصفاء الأموال، فإن من له عقداً وعهداً استبطىء عنه، ولا يخف معه إلا الرعاع، وأهل السواد، ومن تنهضه الحاجة استلذاذاً للفتنة فبادهم بالوعد واعضضهم بسوطك وجرِّد فيهم سيفك واخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة، واعلم أنك قائم على باب الله وداع إلى طاعة، وماض على جماعة، ومشمر لدين الله، فلا تستوحش لكثرتهم واجعل معقلك الذي تأوي إليه، وصفوك الذي تخرج به الثقة بربك والغضب لدينك، والمحاماة على الجماعة ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله تعالى بالدخول فيه، فإن أمير [المؤمنين ] (2) [43 / ب] قد أعذر إليه، وقضى ذمامه، فليس لامرىء إلى ادعاء حق هو
ص: 438
ظلمه من نصيبه في فيء أو صلة لدى قربى إلا ما خاف أمير المؤمنين من حمل مدده وفي أخرى مدرة السؤلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وبه أضل ولهم أمر ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذبّ عنه، فإنه لا يحب أن يرى [ في] (1) أمته حالاً متفاوتاً نكالاً لهم معيباً، فهو يستديم النظر، وينادي الرشاد، ويجنبهم المخاوف ويستخرجهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن (2) المهالك فعل الوالد المشفق على ولده والداعي الحذر على رعيته واعلم أن من حجتك عليهم واستحقاق نصر الله تعالى لك عند معاندتهم توقيتك أطماعهم، وأعطية ذراريهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله، فإنه ليس ذنباً أسرع بتعجيل عقوبة ممن بغى وقد أوقفهم الشيطان ودلاهم فيه وَدَلّهم عليه والعصمة بتارك الغي أولى، فأمير المؤمنين يستعين بالله عليهم وعلى غيرهم من رعيته ويسأل إلاهه ومولاه ووليه أن يصلح منهم ما كان فاسداً، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز إنه سمع قريب (3)...
فطلب يوسف زيداً، فأرشد إلى مَن يعرف خبره، وجاءه سليمان بن سُراقة البارقي، فأخبره أنه يختلف إلى ابن أخت له، فطلبه يوسف هناك فلم يوجد عنده، وجاء بالرجل، فلما كلّمه استبان له أمر زيد وأصحابه.
وتخوّف زيد أن يؤخذ، فأخذ في التعجل، فلما رأى أصحاب زيد أن يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يستبحث عن أمره اجتمعت إليه جماعة من رؤساء مَن بايعه، فقالوا له : رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟
قال زيد رحمهما الله وغفر لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيراً.
قالوا : فلِمَ تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت إلا أن هذين وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟
فقال زيد : إن أشر ما أقول فيما ذكرتم أنا كُنّا أحق بسلطان رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) من الناس أجمعين، وأن القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ بهم عندنا كفراً، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب واتبعوا السُّنَّة.
قالوا له : فلم يظلمك إذاً هؤلاء، فَلِمع تدعونا إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟
ص: 439
قال : إنهم ليسوا كأولائك، لأن هؤلاء ظالمين لأنفسهم، وإنما ندعوهم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تُطْفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل.
ففارقوه، ونثكوا بيعتهم، وقالوا : سبق الإمام.
وقد كان هلك محمد بن علي بن الحسين [44/ أ] يومئذ.
وكان ابنه جعفر حيًّا، فقالوا : جعفر إمامنا وهو أحق بالأمر بعد أبيه، وليس زيد بإمام.
فسماهم زيد الرافضة.
وهم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة، وذلك أنهم فارقوه بالكوفة وتركوه حتى قُتل (1).
قد حكينا أمره.
واستتب لزيد الخروج، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء، وهي أول ليلة من صفر يقال : سنة اثنتين وعشرين ويقال : سنة إحدى وعشرين.
وبلغ يوسف بن عمر أن زيداً قد أزمع الخروج. فبعث الحكم بن الصلت، وأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ثم يحصرهم فيه.
فبعث الحكم إلى العرفاء، وإلى الشرطة والمناكب والمقاتلة، فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه :
«إن الأمير يقول : من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمة ادخلوا المسجد الأعظم».
ص: 440
فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء، قبل خروج زيد بيوم.
فطلبوا زيداً في المواضع التي كان يتنقل فيها.
فخرج ليلة الأربعاء، وكانت ليلة شديدة البرد من دار معاوية بن إسحاق [بن زيد بن حارثة الأنصاري ] (1) وكانوا قد طلبوه فيها.
فرفعوا هرادى النيران من القصب ونادوا بأشعارهم: «يا منصور أمت».
فكلما أكلت النار هردياً رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر.
فلما أصبحوا [بعث ] (2) زيد القاسم التبعي - وفي أخرى التتعي [ثم الحضر مي] (3). ورجلاً آخر من أصحابه يناديان بشعارهم [فلما كانا بصحراء عبد القيس] (4) لقيهما جعفر بن العباس الكندي في أصحابه، فشدوا عليهما فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التبعي، وارتث القاسم، فأتي به الحكم بن أبي الصلت فكلمه فلم يرد عليه شيئاً، فضربت عنقه على باب القصر، فكان أول من قتل من أصحاب زيد.
وأمر الحكم بن أبي الصلت بدروب السوق فغلقت وغلقت أبواب المسجد الأعظم على أهل الكوفة.
وأمر أصحاب الأرباع بالكوفة أن يصيروا إليه.
وبعث إلى يوسف بن عمر [بالحيرة] (5)، فأخبره الخبر.
فبعث يوسف جعفر بن العباس الكندي، فركب في خمسين فارساً، ثم قال له : اذهب فأتني بخبرهم.
[فسار حتى بلغ جنانة سالم ] (6) فلما استقبل الرجلين، وكان ما كان من أمرهما رجع إلى يوسف فأخبره.
فلما أصبح خرج [يوسف] (7) إلى تل قريب من الحيرة فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس، وعلى شرطته العباس بن سعيد المزني.
فبعث الريان (8) بن سلمة [الأراني] (9) في ألفين وثلاثمائة من الرجالة [القيقانية] (10).معهم (11) النشاب.
ص: 441
وأصبح زيد فكان جميع (1) مَن وافاه تلك الليلة [44/ب] مائتي رجل وثمانية عشر رجلاً.
فقال :زید سبحان الله، أين الناس؟
فقيل : إنهم في المسجد الأعظم محصورون.
فقال : لا والله ما هذا بعذر لمن بايعنا.
وسمع نصر بن خزيمة النداء، فأقبل إليه، فلقي عمرو بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بن أبي الصلت في أصحابه [ من جهينة ] (2) فقال نصر بن خزيمة: يا منصور أمت، فلم يرد عليه شيئاً.
فشد عليه نصر وأصحابه فقتل [عمرو بن ] (3) عبد الرحمن وانهزم من كان معه.
وأقبل زيد على (4) جبانة [سالم حتى انتهى] (5) إلى جبانة الصائدين، وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد فيمن معه، فهزمهم.
وكان تحت زيد برذون أدهم بهيم، فسار حتى إلى دار رجل من الأزد يقال له : أنس بن عمرو وكان فيمن بايعه فنودي وهو في دار فلم (6) يجب.
فناداه زيد : يا أنس أخرج، فقد «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» فلم يخرج إليه.
فقال زيد [ما أخلقكم] (7) قد فعلتموها، الله حسيبكم.
ثم مضى زيد إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشام، فهزمهم.
ثم خرج حتى ظهر إلى الجبَّانة، ويوسف بن عمر على التل ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه نحو من مائتي رجل، وناس من الأشراف لا يبلغ عددهم عشرة فلو أقبل على يوسف لقتله وتمم أمره.
[والريان يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشام ] (8).
ثم إن زيداً أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بن عبد الله حتى دخل الكوفة.
ص: 442
[وسار بعض أصحابه نحو جبانة مخنف بن سليم فلقوا أهل الشام فقتلوهم، فأسر أهل الشام منهم رجلاً، فأمر به يوسف بن عمر فقتل، فلما رأى زيد خذلان الناس إياه ] (1) أقبل على نصر بن خزيمة، وقال : أما ترى خذلان الناس إيانا، قد جعلوها حسينية.
فقال له : جعلني الله فداك أما أنا فوالله لأضربن معك بسيفي حتى أموت.
ثم إن نصراً (2) قال لزيد جعلني الله فداك وإن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فاذهب بنا نحوهم.
فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة.
وبلغ عبيد الله بن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشام.
وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بن سعد بن أبي وقاص.
وكع صاحب لواء عبيد الله، فقال له : احمل يا ابن الخبيثة.
فحمل حتى خضب لواءه بالدم، ثم إن عبيد الله برز فخرج إليه واصل الحناط، فاضطربا بسيفيهما، فقال واصل : خذها مني وأنا الغلام الحناط.
فقال له : قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبداً ثم ضربه فلم يصنع شيئاً.
وانهزم عبيد الله بن العباس وأصحابه، وبلغ زيداً وأصحابه باب المسجد، وجعلوا يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون يا أهل المسجد أخرجوا.
وجعل نصر بن [45/أ] خزيمة يناديهم ويقول يا أهل الكوفة اخرجوا من الذُّل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا.
فأشرف عليهم أهل الشام فجعلوا يرمونهم بالحجارة [من فوق المسجد ] (3).
وانصرف عنهم زيد بن علي، فنزل دار الرزق، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة.
فأتاه الريان بن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالاً شديداً.
فخرج أهل الشام وقتل منهم وانهزموا، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق حتى انتهوا إلى المسجد فرجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظناً.
فلما كان من الغد يوم الخميس دعا يوسف الريان ابن سلمة، فأتاه وليس عليه سلاحه، فأفّفَ به وقال : أُفٍّ لك من صاحب خيل اجلس.
ودعا العباس بن سعد المزني صاحب شرطته فبعثه في أهل الشام.
ص: 443
فسار حتى انتهى إلى زيد في دار الرزق.
وخرج زيد في أصحابه، وعلى مجنبته نصر بن خزيمة والعبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصاري.
فلما رآهم العباس - ولم يكن معه رجاله - نادى يا أهل الشام، الأرض الأرض.
فنزل معه ناس كثيرون، فاقتتلوا قتالاً شديداً في المعركة.
فقتل نصر بن خزيمة، ثم اشتد القتال فهزمهم زيد، وقتل من أهل الشام نحو من سبعين رجلاً، فانصرفوا وهم بشر حال.
فلما كان العشي عبأهم يوسف بن عمر، ثم وجههم فأقبلوا حتى التقوا مع زيد وأصحابه فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى [السبخة، ثم حمل عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى] (1) بني سليم، ثم تبعهم حتى أخذوا على المسناه.
ثم ظهر لهم زيد فيما بين بارق ورواس، فقاتلهم هناك قتالاً شديداً، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ولا رجالهم كرجاله.
فبعث العباس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له : ابعث إلي النشابة.
فبعث إليه القيقانية والنجارية وهم ناشبة فرموا زيداً وأصحابه.
وحرص زيد على أن يصرف أصحابه فأبوا عليه فقاتل إسحاق بن معاوية بن إسحاق الأنصاري بين يديه قتالاً شديداً حتى قتل بين يدي زيد، وثبت زيد ومن معه حتى جنح الليل، فرمى حينئذ بسهم [ فأصاب جانب ] (2) جبهته اليسرى، فثبت في الدماغ، فرجع، ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
فحمل زيد حتى أدخل دور أرحب أو شاكر، وجاؤوه بطبيب يقال له شقير، فانتزع السهم وجعل يضج، ولم يلبث أن قضى نحبه، رحمة الله عليه.
فتشاور أصحابه أين يوارى؟
فقال بعضهم : نحز رأسه ونطرحه [45/ب] بين القتلى فهو أجدر أن لا يعرف ويدفن رأسه حيث.
فقال ابنه : لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب.
فقال بعضهم : فننطلق به إلى الحفرة التي يؤمنها الطين فانطلقوا، فحفروا له
ص: 444
ودفنوه، ثم أجروا عليه الماء، وتصدع عنه الناس وخرج ابنه نحو النهرين - يعني نهر كربلاء (1) -.
ثم بعث يوسف بن عمر لما علم بقتل زيد، فأمر أن يطلبوه في الجرحى في دور أهل الكوفة فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار ويدخلون جوف البيوت يلتمسون الجرحى، حتى دلّهم غلام سندي كان لزيد وحضر دفنه وقيل : بل أبصرهم، وكان هناك فدل عليه فاستخرج.
فأمر يوسف بحز رأسه وبعث به إلى هشام وصلب جثته الكناسة مع نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، وزياد النهدي.
فبقي زماناً طويلاً يُحرس بالكناسة لئلا ينزل.
وأما رأسه، فإن هشاماً أمر بنصبه على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ولم يزل بدنه منصوباً حتى مات هشام وأمر به الوليد فأنزل وأحرق (2).
ولما قتل زيد بن علي أقبل يوسف بن عمر حتى دخل الكوفة، وجاء إلى المسجد، فصعد المنبر، وقال يا أهل الكوفة يا أهل المدرة الخبيثة إني والله ما تقرن بين الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، ولا أخشى بالريب، هيهات حست بالساعد الأشد، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق لأخرين بلادكم ولأجبينكم أموالكم، أما والله ما أطلب منبري إلا لأسمعكم عليه ما تكرهون فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا مَن حارب الله عزّ وجل ورسوله ولقد سألت أمير المؤمنين ولو أذن لي لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
وفي هذه السنة : قتل البطال بن الحسين، واسمه: عبد الله، في جماعة من المسلمين بأرض الروم وقد حكينا ما جرى في سنة اثنتي وعشرين ومائة إلا ما كان من
ص: 445
غزوات نصر بن سيار فإنني كرهت أن أقطع حديث زيد بحديثه (1).
وكان من حديث نصر : أنه غزا غزوة من ما وراء النهر، ثم قفل فخطب الناس وقال : ألا إن فلاناً كان ماتح اليهود، وفلاناً ماتح اليهود، وفلاناً ماتح النصارى، يحملون أثقال المشركين على المسلمين، ألا إني ماتح المسلمين أحمل أثقالهم على المشركين، إلا أنه لا يقبل مني إلا توفر الخراج على ما كتب ورفع، وقد استعملت عليكم [46 / أ] منصور بن عُمر بن أبي الخرقاء (2)، وأمرته بالعدل عليكم، فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه أو ثقل عليه في خراجه وخفف مثل ذلك على المشركين فليرفع ذلك إلى منصور بن عمر (3) يحوله عن المسلمين إلى المشركين.
قال : فما كانت الجمعة الثانية حتى أتاه ثلاثون ألفاً من المسلمين كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم، وثلاثون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحوّل ذلك عليهم، فألقاه عن المسلمين.
ثم غزا من مرو الشاش، فحال بينه وبين قطوع نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفاً، استأجر كل رجل منهم كل شهر شقة حرير - الشقة يومئذ بخمسة
ص: 446
وعشرين درهماً -.
فكانت بينهم مراماة، فمنع نصراً من القطوع إلى الشاش.
وكان الحارث بن شريح يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم، فكان بإزاء نصر، فرمى نصراً وهو على سريره على شاطىء النهر بسهم (1) فوقع السهم في شدق وصيف (2) لنصر فقتله فتحوّل نصر عن سريره، ورمى فرس لرجل من أهل الشام فنفق.
وعبر كورصول في أربعين رجلاً فبيّت أهل العسكر، وسبا أهل بخارا وكانوا في الساقة وأطاف في العسكر في ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند، وكش، وسروشنة، وهم عشرون ألفاً.
ونادى نصر في الأخماس : لا يخرجن أحد من بناية، واثبتوا على مواضعكم.
فخرج عاصم بن عمير وهو على جند أهل سمرقند حتى مرت خيل كورصول، فحمل على آخرهم فأسر رجلاً، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فجاؤوا به إلى نصر.
فإذا هو شيخ يسحب درعه شيراً وعليه رانا ديباج فيهما خلق وقباء فريد مكفف بالديباج.
فقال له نصر : من أنت؟
[قال : كورصول.
فقال نصر : الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله ] (3).
قال كورصول : فما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوي بها جندك، وخل سبيلي.
فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان ما تقولون؟
قالوا: خل سبيله.
فسأله عن سِنّهِ، فقال: لا أدري.
قال : كم غزوت؟
قال : اثنتي وسبعون غزوة.
قال : أشهدت يوم العطش ؟
قال : نعم.
ص: 447
قال : لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما انفلت من يدي بعدما ذكرت من مشاهدك.
وقال لعاصم بن عمير السعدي : قم إلى سلبه فخذه.
فلما أيقن بالقتل قال : من أسرني؟
فقال نصر وهو يضحك : يزيد بن قزان الحنظلي وأشار إليه.
قال : هذا لا يقدر أن يغسل إسته (1)[46/ب] فكيف يأسرني؟
فأخبرني من أسرني؟ فإني أهل أن أقتل سبع قتلات.
قال له : عاصم بن عمير.
قال : الآن لست أجد مس القتل إذا كان أسرني فارس من فرسان العرب.
فقتله وصلبه على شاطىء النهر.
وعاصم بن عمير هذا هو هزار مرد الذي قتل بنهاوند أيام قحطبة.
ولما قتل كورصول تجرّدت الترك، وجاؤوا بأبنية له فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وخدشوا وجوههم [وقطعوا شعورهم، وأذناب خيلهم] (2) وقعدوا يبكون عليه.
فلما أمسى نصر، وأراد الرحلة بعث إلى قارورة نفط فصبّها عليه، ثم أشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه فكان ذلك أشد عليهم من قتله.
فارتفع نصر إلى فرغانة فسبى منها ثلاثين ألف رأس.
ثم إن يوسف بن عمر كتب إلى نصر :
«سر إلى هذا الغادر دينه بالشاش - يعني الحارث بن سريج - فإن أظفرك الله تعالى به، وبأهل الشاش، فخرّب بلادهم واسبي ذراريهم، وإياك وورطة المسلمين».
فدعا نصر الناس فقرأ عليهم الكتاب وقال : ما ترون؟
فقال يحيى بن حصين : امض لأمر الأمير.
فقال :نصر يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة، فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت أقول مثلها.
سِرّ يا يحيى فقد وليتك مقدمتي، فأقبل الناس على يحيى يلومونه.
فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بن شريح فنصب [عليهم] (3) عزادتين تلقاء بني تميم.
ص: 448
فقيل له : هؤلاء بني تميم، فنقلها ونصبها على الأزد، وأغار عليهم الأخرم - وهو فارس الترك - فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه.
فأمر نصر برأس الأخرم فرمى به إلى عسكرهم في منجنيق.
فلما رأوه ضجُوا ضجة، ثم ارتحلوا منهزمين.
ورجع نصر، وأراد أن يغز فحيل بينه وبين ذلك.
فأقبل نصر حتى نزل سمرقند، ثم سار إلى الشاش، فلما وافاها [تلقاه] (1) ملكها بالصلح والفدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلدانه.
فأخرجه إلى فاراب.
واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص (2).
وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما - يعني مع ملك الشاش -.
قال سليمان فقدمت عليه فقال لي : من أنت؟
[47 / أ] فقلت : شاكري خليفة كانت للأمير.
فقال : أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا.
قال : فأُدخلت خزائنه، فقلت في نفسي : يا سليمان شمت بك حسادك ليس هذا إلا الكراهية للصلح، سأنصرف بخفي حنين.
قال : فرجعت إليه فقال لي : كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟
قلت: سهلاً كثير الماء، والرعي.
قال : ما أعلمك (3)؟
قلت غزوت غرشتان، والختل، و طبرستان، فكيف لا أعلم.
[قال : كيف رأيت ما أعددنا ؟ قال : عدة حسنة ولكن ما علمت ] (4) أن صاح
ص: 449
الحصار لا يسلم من خصال
قال : وما هن؟
قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه، وأحبهم له، وأوثقهم في نفسه إن يثب عليه ويتقرب به، أو يفنى ما جمع بطول المدة فتسلم رمته، أو تصيبه الأدواء التي لا يجد أدويتها ومعالجتها فيموت.
فقطب وقال لي : انصرف إلى منزلك (1).
فانصرفت وأنا لا أشك في تركه الصلح، فدعاني بعد يومين، فحملت كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له إن أتاك رسولي فطلب فقل : إني خلفته في منزلي.
فدخلت إليه فسألني عن الكتاب.
فقلت : خلفته في منزلي.
فبعثت إلى الغلام أن اذهب فجيء بالكتاب، وقبل الصلح وأحسن جائزتي، وسرح مع أُمَّهُ - وكانت صاحبة أمره ومديرته -، فلما قدمت على نصر قال : مثلك ما قال الأول :
«أرسل حكيماً ولا توصه» (2).
ص: 450
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة (1)
وفيها: قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بعثه في أهل الشام إلى إفريقية حيث وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها: وجه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، فاستقضى محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى.
وحجّ بالناس هذه السنة : محمد بن هشام المخزومي.
وكان عمال الأمصار كما تقدّم ذكرهم.
قيل : وكان على الموصل : أبو قحافة ابن أخي الوليد بن تليد العبسي.
وفيها: مات إياس بن معاوية بن قرة قاضي البصرة، وهو الموصوف بالذكاء.
وزيد بن الحارث اليامي، ومحمد بن المنكدر بن عبد الله أبو بكر التيمي تيم قريش.
وقيل : مات سنة ثلاثين.
وقيل : إحدى وثلاثين.
وكنيته أبو بكر.
ويزيد بن عبد الله بن قسط، ويعقوب بن عبد الله بن الأشج] (2).
ص: 451
وفي هذه السنة : سعى يوسف بن عمر للحكم بن الصلت في ضم خراسان إلى عمله وعزل نصر بن سيار وذلك أن أيام نصر طالت بخراسان ودانت له.
فحسده يوسف فكتب إلى هشام يسأله أن يضمها إلى العراق ليعمرها ويستغزر دخلها.
وأنفذ إليه الحكم بن الصلت، وقال: هو لبيب وله نصيحة ومودة لأمير المؤمنين.
وقد كان مع الجنيد.
وولي حسام أعمالها، وقد سرحته إلى باب أمير المؤمنين ليراه وقرأ كتاب يوسف، فبعث إلى دار الضيافة فوجد فيها مقاتل بن علي الصغدي فأتوه به
فقال : أمن خراسان أنت؟
قال: نعم، وأنا صاحب الترك.
وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك [47 / ب] فقال : هل تعف الحكم بن أبي الصلت؟
قال : نعم.
قال: فما ولي بخراسان؟
قال : ولي قرية يقال لها : الفارياب، خراجها سبعون ألفاً، وأسره الحارث بن سريج.
قال : ويحك وكيف أفلت من يده؟
قال : عرك أذنه وخلى سبيله. [وقال أنت أهون من أن أقتلك فلم يعزل هشام نصر بن سيار عن خراسان] (1) فلما قدم الحكم عليه وشاهده رأي جمالاً وبياناً وكتب إلى يوسف : أن الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك سعة.
فحل الكناني وعمله، ثم أوفد نصر بن سيار معن (2) بن أحمر، - وفي أخرى أحمد - إلى العراق لما غزا فرغانة غزوته الثانية (3).
فقال له يوسف بن عمر : يا معن (4) أيغلبكم ابن الأقطع على سلطانكم معشر قيس.
ص: 452
فقال : قد كان ذلك أصلح الله الأمير.
قال : فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه.
فلما قدموا على هشام وسألهم عن أمر خراسان، تكلم معن (1) فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بن بحر.
فقال : ويحك أخبرني عن خراسان.
قال : يا أمير المؤمنين ليس لك جند أعدّ، ولا أجد منهم من سراق في السماء وحراسة مثل الفيل وعدة وعدد في قوم ليس لهم قائد.
قال : ويحك فما فعل الكناني؟!
قال : لا يعرف ولده من الكبر.
فردّ هشام عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة فأتى بشبل بن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام أخبرني عن نصر.
فقال : ليس بالشيخ يخشى خرفه ولا الشاب يخشى سفهه [بل هو ] (2)المجرب قد ولي عامة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته (3).
فكتب إلى يوسف بذلك.
فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد.
وقد بلغ نصراً قول شبيل، وكان إبراهيم بن يسكر في الوفد، فكرمه يوسف ونعى إليه نصراً، وأخبره أنه ولى الحكم بن الصلت خراسان ففسر له أمر خراسان كله حتى قدم إبراهيم بن زیاد رسول نصر، فعرف أن يوسف قد تكرمه، وقال : أهلكني يوسف أهلكه الله.
ص: 453
وكان بعد ذلك إذا ذكر أبان نصراً بين يدي هشام قال : معلم، وهذا من جهة يوسف.
ويقال أن معن (1) كلف يوسف الوقيعة في نصر، قال له : معن (2) : كيف أعيب نصراً مع بلائه، وآثاره الجميلة عندي وعند قومي؟
فلم يزل به حتى قال : فبأي شيء أعيبه ما أعيب تجربته؟ أم طاعته؟ أم يمن نقيبته (3)؟ [48 / أ] أم حسن سياسته؟ قال : لا يؤخذ من هذه عبه بالكبر.
فلما قدم معن (4)، وكان ما كان منه قال ليوسف : قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام.
فأمره بالمقام، وكتب إلى نصر :
إني قد حولت اسمه فاشخص إليّ من كان قبلك من أهله (5).
ص: 454
ص: 456
ص: 457
وفيها : كانت وفاة هشام بن عبد الملك، فكانت خلافته تسع عشرة سنة، وثمانية أشهر. وسنّه خمس وخمسون سنة (1).
فتحدّث سالم قال: خرج علينا هشام بن عبد الملك يوماً وهو كئيب يعرف ذلك فيه مسترخية ثيابه، قد أرخى عنان دابته.
فلما سار انتبه فجمع ثيابه، وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع : ادع الأبرش.
فسار بيني وبين الأبرش فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك اليوم ما غمّني.
قال : ما هو؟
فوصف حاله، وقال: وكيف لا أكون كذلك، وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاث وثلاثين يوماً؟
قال سالم : فلما عدت إلى منزلي كتبت في قرطاس: زعم أمير المؤمنين يوم كذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوماً.
فمات في اليوم الثالث والثلاثين.
قال : فأغلق الخزان الأبواب لما سنذكره، فطلبوا قمقماً يُسَخّن فيه ماء لغسله فما وجد حتى استعاروه من بعض الجيران.
فقال الحاضرون : إن في هذا لمعتبراً لمن اعتبر.
وكانت وفاته بالذبحة.
حكى عقال بن شيبة قال : دخلت على هشام حين وجهني إلى خراسان، وعليه قباء
ص: 458
أخضر عليه فَنَك (1) فجعل يوصيني، وأنا أنظر إلى القباء وأتأمله، ففطن وقال : ما لك؟
قلت : إني رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فأنا أتأمله هل هو ذاك؟
قال: هو والله الذي لا إله غيره، وما ترون من جمعي هذا المال وصونه إلا لكم.
وكان عقال يقول : دخلت على هشام فرأيت رجلاً محشواً [48/ب] عقلاً.
ولم يكن يسير أيام هشام في موكب إلا مسلمة بن عبد الملك.
ورأى هشام سالماً يوماً في مركب فزجره، وقال : لا أعلمن متى سرت في مركب.
فكان بعد ذلك إذا قدم الرجل فسار مع سالم وقف له سالم ويقول : حاجتك، ويمنعه أن يسير معه.
هذا وسالم يرى كأنه هوام هشام.
ولم يكن أحد يأخذ العطاء إلا ألزمه الغزو، فمنهم من يغزو ومنهم يخرج بديلاً.
وَوَلّى هشام بعض مواليه ضيعة فعمرها، فجاءت بغلة كثيرة، ثم عمرها أيضاً فأضعفت الغلة، وبعث بها مع لينه فجزاه جزءاً ووجد ابن هذا المولى منه انبساطاً.
فقال : يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة.
قال : ما هي ؟
قال : زيادة عشرة دنانير في العطاء.
فقال : ما يخيل إلى أحدكم عشرة دنانير في العطاء إلا قدر الجود، لا لعمري لا أفعل.
وقال غسان بن عبد الحميد: لم يكن من بني مروان أشد نظراً ولا أشد مبالغة في الغض عن أمور أصحابه ودواوينه من هشام.
وكان أقطع هشام قبل الخلافة أرضاً يقال لها دورين، فلما أرسل في قبضها وجدها خراباً، فقال لكاتب كان لهشام يقال له : دويد، ويحك كيف الحيلة؟
قال : ما تجعل لي.
قال : ما يجعل لي.
قال : خمسمائة دينار.
فكتب دوید ودين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، وأخذ شيئاً كثيراً.
فلما ولى هشام دخل عليه دوید فقال: ما دوید و دين وقراها لا والله لا يلي لي
ص: 459
ولاية أبداً، فأخرجه من الشام.
وقال له بعض آل مروان يوماً : أتطمع في الخلافة، وأنت بخيل جبان؟!
قال : ولِمَ لا أطمع، وأنا حليم، عفيف، سائس.
وأتى هشاماً محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال : ما لك عندي شيء، ثم قال : إياك أن يغرك أحد، فيقول : لم يعرفك أمير المؤمنين، أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فلا تقيمن وتنفق ما معك فليس لك عندي صلة، فبادر، وألحق بأهلك.
وحجّ هشام فأخذ الأبرش مجنبتين معهم برابط.
فقال هشام: احبسوهم، وبيعوا متاعهم هذا وما أدري ما هو وصيروا ثمنه في بيت المال فإذا صلحوا فردوا الثمن عليهم.
وكان هشام ينزل بالرصافة، وكان سبب ذلك :
أن الحلفاء وأبناؤهم كانوا يهربون من الطاعون، فنزلوا البرية.
فعزم هشام على نزول الرصافة (1)، فقيل له : لا تخرج، فإن الخلفاء لا يُطعنون (2)، لم يُر خليفة طعن.
قال : أفتريدون أن تُجَرِّبوا فيَّ (3)؟!
فخرج إلى الرصافة وهي برية فابتنى بها قصرين.
والرصافة كانت مدينة (4) [49/ أ] رومية بنتها الروم في القديم، ثم خربت.
وبعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفانا من كف القابض، وجبة... (5) أعظم ما يكون الجب على يد كاتبه مخدم، قال: فدخلت عليه، ودنوت منه فلم أرَ وجهه من طول السدر، وكثرة الفرش، فتناول الحجر والجبة، فقال : اكتب معك وزنهما.
قلت : يا أمير المؤمنين هما أجلّ من أن يكتب بوزنهما، ومن أن يوجد مثلهما.
قال : صدقت.
وكانت الياقوتة لجارية خالد بن عبد الله القسري ويقال لها رائقة اشتراها بثلاثة
ص: 460
وسبعين ألف دينار(1).
ص: 461
وفي هذه السنة : ولي الخلافة بعد موت هشام الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
وكان يزيد بن عبد الملك عقد له الخلافة بعد أخيه هشام، وذلك أن ابنه هذا كان صغيراً يوم عهد لهشام، ثم لم يمت يزيد حتى بلغ ابنه خمس عشرة سنة، فقدم على استخلافه هشاماً، وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد يقول : الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك.
وولى هشام وبقي (1) الوليد مكرم، معظم، مقرب، لم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب حمله على ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى - وكان مؤدبه -.
واتخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه، فولاه الحج سنة ست عشرة ومائة.
فحمل معه كلاباً في صناديق، فسقط صندوق منها، فأحالوا على الكرى السياط، وأوجعوه ضرباً.
وكان حمل معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها فوق الكعبة، وحمل معه خمراً وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها للشراب.
فخوّفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليكم وعلينا، فلم يحركها.
وظهر للناس منه تهاون في الدين واستخفاف به.
وبلغ ذلك هشاماً فطمع في خلعه والبيعة لابنه (2)، فأجابه جماعة فيهم خالاه محمد وإبراهيم وتمادى الوليد في شرب الشراب، وطلب اللذات.
فقال له هشام يوماً : ويحك يا وليد والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا؟ لا تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به.
ص: 462
فكتب إليه الوليد :
يا أيها السائل عن ديننا *** حن على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجة *** بالسخنِ أحياناً وبالفاتر
[49/ب] يعني بأبي شاكر مسلمة بن هشام، وكان يكنى أبا شاكر.
فغضب هشام على ابنه وقال: يعيرني بك الوليد، وأنا أرشحك للخلافة، فالزم الأدب واحضر الجماعة.
وولاه الموسم سنة تسع عشرة، فأظهر النسك والوقار، واللبن، والجود، وقسم بالمدينة ومكة أموالاً فقال الشاعر :
يا أيها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجود بأرسالها *** لیس بزنديق ولا كافر
يعرض بالوليد.
وأخذ هشام يعيب الوليد (1) وينتقصه، وزاد حتى قصد أصحابه.
فخرج الوليد رأى ذلك مع خاصته حتى نزل بالأزرق على ماء يقال له الأغدق، وخلف كاتبه عیاض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرصافة ووصاه أن يكاتبه بكل ما يحدث، وأخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى.
فقطع هشام عن الوليد ما كان يجري عليه، وكتب إليه : بلغني أنك اتخذت عبد الصمد خِدْناً ونديماً، وقد حقق ذلك عندي أشياء بلغتني عنك ولم أبرئك من سوء فاخرج عبد الصمد مذموماً مدحوراً.
فأخرجه إليه، وكتب إليه : إني قد أخرجت إليك عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه.
وبلغ هشاماً أن عياض بن مسلم يكاتب الوليد بالأخبار، فأخذه، وضربه ضرباً مبرحاً، وألبسه المسوح.
فبلغ الوليد فقال : مَن يثق بالناس ومَن يصطنع المعروف؟ هذا الأحول المشؤوم، قدمه أبي على أهل بيته ثم ميّزه (2) ولي عهده، ويصنع بي ما ترون؟ اللهم اجزني منه، وقال :
أنا النذير لمسدي نعمة أبداً *** إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
ص: 463
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطراً *** وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتسمحون ومنا رأس نعمتكم *** ستعلمون إذا صارت لنا دولا
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل له *** سوى الكلب فاضربه له مثلا
بينا يسمنه الصيد صاحبه *** حتى إذا ما نوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم يصرره غدوته *** ولو أطاق له أكلاً لقد أكلا
[50 /أ] وكتب إلى هشام: قد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عني ومحو من محى من أصحابي وحرمتي وأهلي ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك ولا إياي منه، فإن يكن مني ذنب فبحسب القراف يكون على قدر الذنب، وإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين علي فقد سبب الله لي من العهد وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد على قطع شيء منه دون مدته ولا صرف شيء عن مواقعه، فأمر الله يجري بمقادير، فيما أحب الناس أو كرهوا، فالناس بين ذلك يفترقون، الأيام على أنفسهم من الله تعالى أو يستوجبون الأجور عليه، وأمير المؤمنين أحق أمته بالنصر لذلك والتحفظ به والله الموفق لأمير المؤمنين.
فكتب هشام في الجواب إلى الوليد: قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به في قطع ما قطع عنك وغير ذلك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من أجرائه ما كان يجري عليك، أمير المؤمنين أخوف على نفسه في إقراف الماء ثم جيت أخرى عليك مما أخذته في قطع ما قطع ومحو ما محى من أصحابك لأميرين :
أحدهما : إيثار أمير المؤمنين إياك، مما كان يصل إليك، وهو لا يعلم وضعك له في غير موضعه.
والآخر : إثبات أصحابك وإدرار أرزاقهم، وهم لا ينالهم ما ينال المسلم في كل عام من مكروه الغزو وهم معك تجول بهم في سفهك. ولأمير المؤمنين أحرى بالتقصير في الغير عليك منه في الاعتداء عليك. أن الله تعالى قد قضى لأمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما نرجو أنه يكفر ما يتخوّف من الذي سلف فيه منه.
وأما ما ذكرت مما سبب الله عزّ وجل لك فإن الله عزّ وجل ابتدأ أمير المؤمنين واصطفاه له، والله بالغ أمره، فقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من ربه أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامة ضرا ولا نفعاً، وأن الله تعالى ولي ذلك منه، وأنه لا بد من مزايلته والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضى له منهم، وأن أمير المؤمنين من حُسن ظنه بربه تعالى أحسن الرجاء أن يوليه من هو أهله، فإن بلاء الله
ص: 464
عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يؤديه شكره إلا بعون منه له.
ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحقك، فاربع على نفسك من غلوإيها، وأرق طلعك فإن لله تعالى سطوات يصيب بها مَن يشاء، ويأذن فيها لمن يشاء، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق.
فكتب الوليد إلى هشام :
[50/ب] رأيتك تبني جاهداً (1) في قطيعتي *** ولو كنت ذا أرب (2) لهدمت ما تبني
تثير على الباقين تجني (3) ضغينة *** فويل لهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم والليثُ أفضل قولهم *** ألا ليتنا كُنّا إذا الليثُ لا تغني (4)
[كفرت يداً من منعم لو شكرتها *** جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن] (5)
ولم يزل الوليد مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام فلما كان صبحية اليوم الذي جاءته فيه الخلافة دعا أبا الزبير المنذر بن أبي عمرو فقال له :
ما بت (6) على ليلة منذ عقلت [عقلي ] (7) أطول من هذه الليلة، عرضت لي هموم، وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل الذي قد أولع بمكروهي - يعني هشاماً - فاركب بنا نتنفس.
فركبا وسارا، ميلين (8) فبينا هو يشكو أخاً له إذ برهج (9)، فقال :.... (10) الأمور، هؤلاء رسل هشام.
فلما دنا القوم نزل موليان يعدوان حتى دنوا فسلّما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرران عليه ذلك.
فقال : ويحكما، أمات هشام؟
قالا : نعم.
ص: 465
قال: فممن كتابكما؟
قالا: من مولاك سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل.
ثم سأل عن كاتبه عياض بن مسلم.
فقال : يا أمير المؤمنين، لم يزل محبوساً حتى نزل بهشام أمر الله، فلما صار في حد لا يرجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزنة: أن احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد منه إلى شيء فمنعوه بعض ما التمسه.
فقال : أرى أنّا كُنَّا خُزّاناً للوليد، فمات من ساعته.
فخرج عياض من السجن وختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام، فأنزل عن فرشه فما وجد قمقماً يسخن فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفناً من الخزائن فكفنه غالب مولی هشام (1).
ص: 466
واستعمل الوليد العمال، وجاءته بيعته من الآفاق وكتب إليه العمال، وجاءته الوفود.
وجاءه كتاب من مروان بن محمد، وكان إليه أرمينية، وأذربيجان بليغ يثني عليه، ويذكر أنه قد تابع له من قبله، ويستأذنه في المصير إليه لمشاهدته.
وأجرى الوليد على المرضى والعميان، وأمر لكل إنسان منهم بخادم.
وأخرج لعيالات الناس الطبيب والكسوة، وزاد الناس جميعاً في العطاء عشرات.
ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة.
وأضعف جوائز أهل بيته، ولم يقل قط في شيء سأله : لا.
وفي هذه السنة : عقد الوليد لابنيه الحكم، وعثمان بعده وجعلهما وليي (1) عهده أحدهما بعد الآخر [51/أ] وكتب بذلك إلى الأمصار:
إلى يوسف بن عمر بالعراق.
وإلى نصر بن سيار بخراسان.
ونسخة البيعة : «نبايع لعبد الله بن الوليد والحكم ابن أمير المؤمنين إن كان بعده، وعثمان ابن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم، على السمع والطاعة، فإن حدث بواحد منهما حدث، فأمير المؤمنين أملك في ولد ورعيته، يقدم من أحب، ويؤخر من أحب».
وفي هذه السنة : ولى الوليد بن يزيد، نصر بن سيار خراسان كلها، وأفرده بها (2).
وفيها : كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يأمره بالقدوم، ويحمل (3) ما قدر عليه من الهدايا والأموال و [ أن يقدم] بعياله أجمعين.
فلما أتى نصراً كتابه، قسم على أهل خراسان الهدايا، وعلى عماله، ولم يدع
ص: 467
بخراسان جارية ولا عبد ولا برذوناً فارهاً إلا أعده.
فاشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل.
وأعدّ خمسمائة وصيفة، وأمر بصناعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الظباء ورؤوس السباع والأيايل، وغير ذلك.
فلما فرغ من جمين ذلك كتب الوليد يستحثه، فسرح أوائلها حتى بلغ ذلك بيهق.
وكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه برابط وطنابير، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان، وكل بازي (1) هناك، ثم يسير بذلك كله بنفسه مع ما أعده، وبوجوه أهل خراسان. وكان المنجمون يخبرون نصراً بفتنة تكون. فبعث نصراً، وصدقة بن وثاب، وكان منجماً... (2) ببلخ، فأحضره، فكان مقيماً عنده وألحت عليه الكتب، فلم يزل يتباطأ حتى وجه إليه يوسف رسولاً، وأمر بلزومه، واستحثا به فإن أبطأ أشاع في الناس أنه خلع.
فلما جاءه الرسول أجازه، وأرضاه، وتحول إلى قصري بماجان.
واستخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خراسان، وولى كل كورة بعد وأمرائهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستجلبوا (3)الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر لينصرف بعد خروجه يعتل بذلك.
فبينا هو يسير يوماً إلى العراق طرقه ليلاً مولى لبني ليث وناجاه [ وأعلمه بقتل الوليد ] (4).
فلما أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسل الوليد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : قد كان من مسيري ما رأيتم، وبعثي بالهدايا ما علمتم، وطرقني فلان ليلاً، وأخبرني : أن الوليد قد قتل ووقعت الفتنة بالشام.
وقدم منصور بن جمهور إلى العراق وقد هرب يوسف بن عمر منه، ونحن في بلاد قد علمتم حالها، وكثرة عددها.
ثم دعا بالقادم فأحلفه أن ما جاء به حق فحلف.
فقال سلم (5) بن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقاً [51/ ب] إنه بعض مكايد قريش أرادوا تهجين طاعتك، فَسِرْ ولا تهجنا.
ص: 468
فقال : يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب لك مع ذلك حسن إطاعة لبني أمية فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هتماء.
ثم قال لمَن حضر: إني لم أشهد بعد ابن حازم أمراً مفظعاً إلا كنت المفزع في الرأي. فقال الناس قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك.
وفي هذه السنة : وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي والياً على المدينة ومكة ودفع إليهما: إبراهيم، ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين فقدم بهما المدينة، وأقامهما للناس.
ثم بعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو يومئذ عامله على العراق، فعذبهما حتى قتلهما وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالاً كثيراً (1).
وفي هذه السنة قدم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قريط، وقحطبة بن شبيب مكة على محمد بن علي، وأخبروه بقصة أبي مسلم، وما رأوا منه.
فقال لهم : أحُرٌّ هو أم عَبْدٌ؟
قالوا : أما عيسى فزعم أنه عبد، وأما هو فزعم أنه حر.
قال : فاشتروه وأعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسي بثلاثين ألف درهم.
فقال لهم: ما أظنكم تلقونني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمد فإنه مأمون، وأنا أثق به لكم وأوصيكم به خيراً، وقد أوصيته بكم فصدروا من عنده.
وفي هذه السنة : قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان.
أقام يحيى بن زيد ببلخ عند الحريش بن عمر بن داود حتى هلك هشام، وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
وكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار: بمسير يحيى بن زيد ومرا ببلخ حتى قال : إنه عند الحريش وقال له ابعث إليه فخذه أشد الأخذ.
ص: 469
فبعث نصر إلى عقيل بن معقل يأمره أن يأخذ الحريش فلا يفارقه حتى يزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد فبعث إليه عقيل.
فبعث إليه عقيل فسأله عنه، فقال : لا علم لي به فجلده ستمائة سوط.
فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه.
فلما رأى ذلك قريش بن الحريش، أتى عقيلاً فقال له : لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه.
فأرسل معه، فدلّه عليه، وهو في بيت فيأخذه.
فأتى به نصر بن سیار فحبسه.
وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك، فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد فكتب الوليد إلى نصر بن [52/أ] سيار يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه. وكان معه نفر خرجوا معه من الكوفة فظفر بهم.
فدعاه نصر بن سيار وأمره بتقوى الله تعالى وحذره الفتنة وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد، وأمر له بالفيء درهم، ونعلين.
فخرج هو وأصحابه إلى سرخس، وأقام بها.
فكتب نصر إلى عامله بسرخس (1) : أن أشخصه منها.
وكتب إلى عامله بطوس : انظر يحيى بن زيد إذا مر بك فلا تدعه يقيم بطوس.
وأمرهما إذا هو مَرَّ بهما ألا يفارقان حتى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة (2) باير شهر.
ففعل به ذلك، ووكل به سرحان بن فروخ بن مجاهد بن بلغاء العنبري.
قال سرحان: فدخلت يوماً عليه فذكر نصر بن سيار وما أعطاه، وإذا هو يستقله.
وذكر الوليد فأثنى عليه ثم اعتذر من محنة بأصحابه وأنه لم يأتِ بهم إلا مخافة أن يُسم أو يُغَمّ.
ثم عرض بيوسف وذكر أنه يتخوفه، وهَمّ بالوقوع فيه، ثم أمسك.
فتبسطته، وقلت : قل ما أحببت يرحمك الله فليس مني عين، ثم اعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ حتى تلقانا عمرو بن زرارة فدفعناه إليه. فأشخصه إلى بيهق، وهي أقصى خراسان وأدناه من قومس.
فأقبل في سبعين رجلاً، وكان يخاف اغتيال يوسف إياه.
ص: 470
ومَرَّ به قوم تجار، فأخذ دوابهم وقال : علينا أثمانها.
فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر بن سيار: أن يحيى قد أقبل وفعل كيت وكيت.
فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس، وإلى الحسين بن زيد: أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة، فهو عليهما، ثم يقاتلوا يحيى بن زيد حتى يقتلوه أو يأخذوه أسيراً.
فانتهوا إلى عمرو بن زرارة، فكانوا عشرة آلاف وأتاهم يحيى ولم يكن معه إلا سبعون رجلاً فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة وأصاب دواب ومتاعاً كثيراً.
وأقبل يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة وعليها مغلس بن زياد، فلم يعر له، ولا عرض له مغلس، وقطع هراة.
فسرّح نصر بن سيار سلم بن أحوز في طلب يحيى فتبعه حتى لحقه بالجوزجان بقرية فيها، وقد لحق يحيى بنفر من الشيعة، فصافه سلم بن أحوز.
وأمر سلم جماعة بتعبئة الناس فتباطؤوا عليه حتى عبأهم سورة بن محمد بن عزيز الكندي، واقتتلوا.
فقتل أصحاب يحيى من عند آخرهم.
ومَرّ سورة بيحيى صريعاً، فأخذ رأسه، وبعث به إلى يوسف بن عمر فنصبه.
فكتب الوليد بن يزيد إليه أن أحرقه، ثم انسفه في اليم نسفاً.
فأمر يوسف بإنزاله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضه وجعله في قوصرة، وأمر بأن يُذرى في الفرات (1).
ص: 471
وفيها : قتل الوليد بن يزيد قتله يزيد بن الوليد.
ص: 472
كان سبب اضطراب أمره وفساد نيات الناس له انشغاله بالمجون والخلاعة وتهاونه بأمر الدين واستخفافه به.
وقد حكى عنه ما لا يلفظ به، ولا فائدة في ذكره.
وكان من أعظم ما جنى على نفسه إفساده بني عميه ولد هشام، وولد الوليد بن عبد الملك بن مروان.
وأفسد أيضاً على نفسه الثمانية وهم عظم أهل الشام.
وكان قد اشتد على الجند، وعلى بني هاشم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان.
وكان يتعرض لجواري أبيه وأولادهم (1).
وأراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه، فأبى.
فقال له أهله: أبيت على أمير المؤمنين؟!
قال : ويحكم كيف أبايع من لا أُصلي خلفه ولا أقبل شهادته وهم صبيان؟!
قالوا : فالوليد تقبل شهادته مع فسقه ؟
قال : أمير المؤمنين مغيب عني ولا أعلمه يقيناً، إنما هي أخبر الناس، فغضب الوليد على خالد وحبسه.
ص: 473
ثم رأى الناس الوليد على فاحشة فاتهموه بالزندقة وكان أشد الناس عليه يزيد بن الوليد الذي لقب فيما بعد بالناقص.
وكان الناس يميلون إليه لأنه كان يظهر النسك ويتواضع.
فكان يحمل الناس على الفتك به، وأجمع قوم من اليمانية وقضاعة من دمشق خاصة على قتل الوليد.
فاجتمع رؤساؤهم إلى خالد بن عبد الله فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم.
قال : لا أسمي أحداً منكم.
وأراد الوليد الحج، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال : يا أمير المؤمنين أخر الحج العام.
قال : ولِمَ؟
فلم يخبره.
فأمر بحبسه، وأن يستأدي ما عليه من بقايا أموال العراق.
وهم الوليد بعزل يوسف عن العراق.
فكتب إليه : إنك كتبت إلى أمير المؤمنين بتخريب ابن النصرانية البلاد، وقد كنت يحمل إلى هشام ما تحمل، وقد يكون ينبغي أن تكون عمرت البلاد، ووفرت الدخل فأشخص إلى أمير المؤمنين وصدق ظنه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، ليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، فإنك خاله وأحق الناس بالتوقير، وقد علمت ما أقرّ به أمير لأهل الشام وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم حتى أضر ذلك ببيوت الأموال.
فخرج يوسف عمه يوسف بن محمد وحمل من الأموال والأمتعة والآنية [53/أ] ما لا يحمل من العراق مثله.
فقدم يوسف، وخالد بن عبد الله محبوس، فلقيه حسان النبطي ليلاً، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف، وقال له: لا بد لك من إصلاح وزرائه.
فقال : ليس عندي فضل درهم.
قال : فعندي خمسمائة ألف درهم إن شئت فهي لك، فارددها إذا تيسرت [فقال](1)
ص: 474
أنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة ومني، ففرها على قدر علمك فيهم، ففعل.
فقدم يوسف والقوم يعظمونه.
فقال له حسان: لا تفد على أمير المؤمنين ولكن رح إليه رواحاً واكتب على لسان خليفتك [بالعراق ] (1) كتاباً إليك : إني كتبت ولا أملك إلا القصر.
ثم ادخل على الوليد والكتاب معك مُتحازناً فأقرئه الكتاب، وأمر أبان بن عبد الرحمن أن يشتري منه خالداً بأربعين ألف ألف، ففعل يوسف.
فقال له الوليد : ارجع إلى عملك.
فقال أبان ادفع إليّ خالداً وأحمل إليك أربعين ألف ألف.
قال : ومَن يضمن عنك؟
قال : يوسف.
فقال : أتضمن عنه ؟
قال : بل ادفعه إليّ،، فأنا أستاديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه.
فحمله في غير وطاء في محمل مكشوف وقدم به الكوفة فقتله بالعذاب.
وكانت اليمانية أتت يزيد بن الوليد بن يزيد، فأرادوه على البيعة، فشاور [ عمر بن يزيد الحكمي ] (2) فقيل له : لا يبايعك الناس فشاور أخاك العباس بن الوليد فإنه سيد بني مروان، وإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبي كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك، فأظهر أن العباس قد بايعك وكانت الشام وبئة تخرج الملوك منها إلى البوادي.
وكان يزيد بن عبد الملك مبتدياً، وكذلك العباس بن الوليد وبينهما أميال یسیرة (3)، فأتى يزيد أخاه العباس فشاوره وعاب الوليد.
فقال له العباس: مهلاً يا يزيد فإن في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا.
فرجع يزيد إلى منزله ودبّ في الناس فبايعوه سراً، وبثّ ثقاته يدعون إليه، ويلعنون الوليد.
وبلغ العباس أخاه فقال : لئن عاودت لما يبلغني لأشدنك وثاقاً، ولأحملنك إلى أمير المؤمنين.
فلم ينته يزيد.
ص: 475
وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس فأتى الوليد، فقال يا أمير المؤمنين إنك تبسط لساني بلا شريك وأكفه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع، وأخاف أن أكتم (1) عليك ما أرى أفأتكلم ناصحاً، أم أسكت مطيعاً؟
قال : قل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه ولو علم بنو مروان أن ما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا ويعود فأسمع منك.
وبلغ مروان [53/ب] بن محمد بأرمينية أن يزيد يؤلب الناس ويدعو إلى خلع الوليد فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يأمره أن ينهى الناس ويكفهم، وكان سعيد يناله. فقال : إن الله سبحانه جعل لكل أهل بيت أركاناً يعتمدون عليها ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربك ركن من أركان أهل بيتك.
وقد بلغني أن قوماً من سفهاء أهل بيتك قد أسسوا أمراً إن تمت لهم رؤيتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم استفتحوا باباً لن يغلقه الله عنهم حتى يسفك دماء كثير منهم، وأنا مشغول بأعظم الثغور فرجاً، ولو جمعتني وإياهم لذممت فساد أمرهم بيدي ولساني ولخفت الله في ترك ذلك لعلمي بما في عواقب الفرقة، وأنه لن ينتقل سلطان قوم إلا بتشتيت كلمتهم، وأن كلمتهم إن تشتتت طمع فيهم عدوهم، وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك بإظهار المتابعة لهم، فإذا صرت إلى علم ذلك، فتهددهم بإظهار أسرارهم وخذهم بك وخوفهم العواقب لعل الله تعالى أن يرد عليهم ما قد غرب من أخلاقهم فإن فيما سعوا فيه تغيير النعم، وذهاب الدولة، فعاجل الأمر، وحبل الألفة مشدود، والناس سكون والثغور محفوظة، وقد أمل القوم في الفتنة أملاً لعل أنفسهم تهلك دون ما أملوا ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله بهم النعمة، فأعاذك الله من ذلك، وحفظ عليك دينك.
فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه إلى العباس فأعاد العباس موعظة يزيد، وتهديده، وقال : يا أخي أخاف أن يكون بعض من يحسدنا على هذه النعمة أراد أن يفرق بيننا.
وحلف له أنه لم تفعل فصدقه، فلما اجتمع ليزيد أمره وهو مبتد أقبل إلى دمشق وبينه وبينهما أربع ليال متنكراً في سبعة [نفر](2) على حمير.
وكان أهل دمشق أكثرهم قد بايعوا ليزيد سِرًّا إلا معاوية بن مصاد، وكان سيد أهل المِزّة، وبين المزة وبين دمشق ميل (3)فمضى يزيد ليلته ماشياً في
ص: 476
نفر من أصحابه إلى مزة فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية وضربوا بابه ففتح لهم، فلما رأى يزيد قال : إلى الفراش أصلحك الله إن في رجلي وأكره أن أفسد بساطك.
قال : إن الذي يريدنا عليه أفسد.
وكلمه يزيد فبايعه، رجع يزيد إلى دمشق نزل دار سليمان بن سعيد الجشمي، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف، فخاف الوباء، وخرج [54/ أ] واستخلف ابنه.
وكان على شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي.
فأجمع يزيد على الظهور، وقيل للعامل : إن يزيد خارج، فلم يصدق.
فأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة فكمنوا عند باب الفراديس حتى سمعوا أذان العتمة، فدخلوا المسجد، وصلوا، وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل.
فلما صلّى الناس صاح الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد فجعلوا يخرجون من باب ويدخلون من باب حتى لم يبق إلا الحرس.
فلما كان عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم فمضوا إلى المسجد فدخلوه فضربوا باب المقصورة وقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم خادم الباب، فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران وأخذوا خزائن بيت المال، وصاحب البريد وأرسل إلى كل من يحذره فأخذوا رسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبد الملك بن الحجاج بن يوسف فأخذه وقال : استدعوا أصحابنا من النواحي، وقال للبوابين : لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا.
فتركوا الأبواب بالسلاسل، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وغيرهم، فما انتصف النهار حتى تتابع الناس، وكان في المسجد شعير كثير قدم به سلیمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الجيران قبضوه، فأصابوا سلاحاً كثيراً عتيداً.
وتتابع الناس من كل جانب وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وأمره أن يقف بباب الجابية وقال : مَن كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومَن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة.
وقال لبني الوليد بن عبد الملك، وكان معه منهم ثلاثة عشر نفر تفرقوا في الناس يروكم حضورهم.
ص: 477
ونادى مناديه : مَن ينتدب إلى الفاسق فله ألف درهم.
فانتدب إليه [ألف ] (1) رجل، ثم نادى مناديه : من ينتدب فله ألف وخمسمائة، فانتدب نحو من ألفين.
فعقد لجماعة وجعل عليهم جميعاً عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
فخرج عبد العزيز حتى عسكر بالحرة.
وبلغ الخبر الوليد فأنفذ أبا محمد بن عبيد الله بن يزيد بن معاوية، وأجازه وجهزه ووجه إلى دمشق، فخرج أبو محمد. فلما انتهى إلى دينة أقام فوجه إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن معاد فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد، وأتى الوليد الخبر وهو بالأعرف.
فقال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية : يا أمير المؤمنين سر حتى تنزل حمص فإنها حَصِينة، وَوَجِّه الجنود إلى يزيد، فإنه يُقتل أو يؤسر.
فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره.
فقال يزيد بن خالد وماذا نخاف على حرمه وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك - وهو ابن عمّهنَّ - فأخذ بقول ابن عنبسة.
فقال له الأبرش : يا أمير المؤمنين تدمر حصينة وبها قومي يمنعونك.
فقال : أهلها بنو عامر، وهم الذين خرجوا علي، ولكن دلني على منزل حصين.
قال : انزل القرية.
قال : أكرهها.
قال : فهذا الهزيم.
قال : أكره اسمه.
قال : فهذا البخراء قصر النعمان بن بشير.
قال : ويحك ما أقبح أسماء مياهكم.
وأقبل في طريق السماوة، فقال له بيهس بن رميل : أما إذا أبيت أن تمضي إلى حمص، وتدمر، فهذا الحصن الحرا وهو حصين، وهو من بناء العجم، فأنزله منزله،
ص: 478
وندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد ونادى مناديه : «مَن سار فله ألفان».
فانتدب ألفا رجل فأعطاهم ألفين ألفين، وقال موعدكم بدينة، فسار فوافاه بدينة ألف ومائتان ثم سار فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه ونزلوا قريباً من الوليد.
وأرسل العباس إلى الوليد إني آتيك فاختر بين آتيك أو آتي يزيد فاكفه فاتهمه.
قال : بل ائتني.
فبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، وأرسل له منصور بن جمهور في خيل. وقال : إنكم ستلقون العباس في الشعب ومعه بنوه فخذوه وحوى بهم، فخرج منصور في خيل.
فلما جاؤوا في الشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه.
فقالوا له : اعدل إلى [عبد ] (1) العزيز.
فشتمهم فقال له منصور : والله ؛ لئن تقدمت لأنقذن خصيتك.
ويقال : بل الذي لقيه يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم.
وقال له : والله لئن أتيت لأضربن ما فيه عيناك.
ولم يكن مع العباس أصحابه لأنه قد تقدمهم وكان معه بنوه.
فقال : إنا لله.
وأتوا به عبد العزيز فقال : بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع.
وكان عبد العزيز قد أخرج أصحابه وعبأهم مقابل أصحاب الوليد، وقد قتل من أصحابه جماعة وحملت رؤوسهم إلى الوليد، والوليد على باب البخراء [55/أ] جالس ينتظر العباس.
فلما بايع الناس العباس على سبيل الكره وعلى سبيل المكرمة قال : إنا لله خدعة من خدع السلطان، هلك بنو مروان.
ونصب عبد العزيز راية وقال: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد.
فتفرق الناس عن الوليد، ودخلوا في الأمان إلى عبد العزيز، والعباس.
وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرس السندي والراية، فقاتلهم.
فناداهم رجل اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.
ص: 479
فلما سمع ذلك دخل القصر، وتبعه الناس يطلبونه.
فدنا الوليد من الباب فقال : أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟
فقال له يزيد بن عنبسة السكسكي : كلمني.
قال : مَن أنت؟
قال : يزيد بن عنبسة.
قال : يا أخا السكسك ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم زمناكم؟
فأجابه وقال ما ننقم عليك في أنفسنا ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بالدين.
قال : حسبك يا أخا السكسك فلعمري لقد أكثرت ما عرفت وأن فيما أحلّ الله لسعة عما ذكرت، ووالله لا اجتمعت كلمتكم بعدي.
ورجع إلى القصر، وأخذ مصحفاً فنشره، وجعل يقرأ.
وقال : يوم كيوم عثمان.
وكان أول من علا الحائط يزيد بن عنبسة.
فتحدّث المثنى بن معاوية قال: دخلت القصر فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشي ومعه سيف في عمد والناس يشتمونه.
ثم كثر الناس عليه وتعاوروه بأسيافهم فقتل.
وكان جعل يزيد بن الوليد في رأس الوليد مائة ألف وانتهب الناس عسكر الوليد، وخزائنه.
وأمر يزيد بنصب الرأس على رمح وطيف به مدينة دمشق.
ثم قال : ادفعوه إلى أخيه سليمان وكان سليمان أخو الوليد بمن سعى على أخيه فعسل الرأس ووضع في سفط وأتى به سليمان، فنظر إليه، ثم قال : بعداً له وسحقاً أشهد إنه كان شروباً للخمر، فاسقاً ماجناً، ولقد أرادني الفاسق على نفسي.
فخرج كامل الرأس وهو ابن فروة من الدار، فتلقفته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك ما أشد... (1) زعم أنه أراده على نفسه.
ص: 480
قال : كذب الخبيث، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل، وما كان ليقدر على الامتناع منه.
وكان مع الوليد مالك [55/ب] بن أبي السمح المغني المغني (1)، وعمر الوداني
ص: 481
[المغني أيضاً] (1).
فلما تفرق عن الوليد أصحابه وحصر، قال مالك لعمرو اذهب بنا.
فقال عمرو : ليس هذا من الوفاء، ونحن لا يتعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل.
فقال مالك : ويلك والله لئن ظفروا بنا لا يقتل وقبلي أحد، فبوضع رأسه بين رأسينا، ويقال للناس : انظر من كان معه هذه الحال فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا فهربا.
فهربا وكان معهما أبو كامل الغزيل المغني وكان سبقهما إلى الهرب.
وكان قتل الوليد يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة.
وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر.
وكان له من السنين نيف وأربعون سنة.
وقد اختلف في النيف.
وكان شديد البطش طويل أصابع الرجلين.
وكان يوتد له سكة حديد فيها خيط قوي شديد، فيشد الخيط في رجله ثم يثب على الدابة فينتزع السكة ويركب ما يمس الدابة بيده.
وكان شاعراً، شروباً للخمر، أحصي عليه في ليلة سبعون قدحاً.
وكان صاحب صيد.
ولما أفضت إليه الخلافة انهمك وأولع بالصيد وكره الجلوس للناس، وحجبهم، وفعل تلك الأمور التي زادته بغضاً إلى الناس حتى قتل ولم يتمتع بملكه (2).
ص: 482
وفي هذه السنة : قتل خالد بن عبد الله القسري.
وقد ذكرنا عزل هشام له، وأنه استعمل يوسف بن عمر فطالبه واستخرج منه مالاً وعذَّبَهُ.
ولكن كان مع ذلك هشام يحابي عليه ويوصي به، ولم يزل يوسف يكثر عليه ويعتل بانكسار الخراج، وذهاب المال حتى أذن له وبعث حرساً يشهد أمره، وحلف لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنه. فكان يوسف يطالبه، ويبقى عليه بعض الأنفال إلى أن بسط عليه يوماً بحضرته فلم يكلمه أحد حتى شتمه يوسف، وقال: يا ابن
ص: 483
الكاهن - يعني سق بن صعب الكاهن -.
فقال له خالد: إنك لأحمق تعيرني شرفي ولكنك ابن سبأ إنما كان أبوك يبيع الخمر، فرده إلى محبسه.
فكتب إليه بتخلية سبيله.
فخرج حتى ورد دمشق، فكان يقصده بها، ونودي من جهة أعداء كانوا... (1) بهم يوسف عليه حتى قال يوماً : والله ليكفن عني هشام أو لأدعون إلى: عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل - يعني محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاماً. فلما بلغه ما قال : حزن أبو الهيثم.
وأقام خالد بدمشق [56/أ] حتى هلك هشام وقام الوليد، وقدم عليه يوسف ابن عمر بمال العراق.
وتكلم أبان بن عبد الله النميري في خالد، فقال يوسف : أنا أشتريه بخمسين ألف ألف فقالوا لخالد : إن كنت تضمنها وإلا دفعتك يا خالد إليه.
فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتني أن أضمن هذا، ورفع عوداً من الأرض ما ضمنته، فَرَ رأيك.
فدفعه إلى يوسف.
فنزع ثيابه ودرعه عباءة ولحقه أخرى، وحمله في محمل بغير وطاء.
ثم دعا به وذكر أمّه فقال : ما ذكر الأمهات لعنك الله والله لا أكلمك كلمة أبداً فبسط عليه وعذبه عذاباً شديداً لا يكلمه كلمة.
ومكث خالد يوماً في العذاب، فحدث أبو نعيم قال :
شهدت خالداً حين أتى به يوسف، فدعا بعود يعرف بالمضرسة فوضعه على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كُسِرَ قدماه، فوالله ما تكلم، ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه، ثم على صدره حتى مات فوالله ما تكلم ولا عبس، فوالله ما نصره طول أيام حبسه أحد من عشيرته ولا من صنائعه بيد، ولا لسان، وإلا رَجُل من بني عبس فإنه قال :
ألا إن بحر الجود أصبح ثاوياً *** أسير ثقيف عندهم في السلاسل
فإن يسجنوا القسرى لا يسجنوا اسمه *** ولا يسجنوا معروفه في القبائل (2).
ص: 484
ص: 485
وفي هذه السنة: بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له : الناقص، لنقصه الناس الزيادة التي زادها الوليد بن يزيد في أعطياتهم وذلك عشرة عشرة (1).
ص: 486
وفي هذه السنة : اضطرب حبل بني مروان، وهاجت الفتنة.
كان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعمان وكان محبوساً بها، فأخذ ما كان بعمان من الأموال، وأقبل إلى دمشق يلعن الوليد ويعيبه، ويرميه بالكفر.
ووثوب أهل حمص بأسباب العباس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد.
وأما أهل حمص فكان واليهم مروان بن عبد الله من قبل الوليد، وكان نبيلاً فاضلاً كريماً له جمال وروعة.
فلما قتل الوليد أغلق أهل حمص [56/ب] أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله.
فقال بعض من حضر الأمر: ما زلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم حتى جاء العباس بن الوليد فمال إلى عبد العزيز بن الحجاج بن الوليد.
فوثب أهل حمص إلى دار العباس فانتهبوها وسلبوا حرمه وأخذوا بنيه فحبسوهم، وطلبوه فخرج إلى يزيد بن الوليد.
وبلغ ذلك مروان بن عبد الله بن عبد الملك فوافقه ذلك، وتابعهم.
وكتب أهل حمص بينهم كتاباً، وتواثقوا فيه على أن لا يدخلوا في طاعة يزيد، وكاتبوا رؤساء الأحياء، ودعوا إلى ولي العهد (1).
.... (2)بعد، فلما بلغ يزيد بن الوليد خروجهم (3) وجه إليهم رسلاً فيهم يعقوب بن ماني، وكتب معهم : أنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكن يدعو إلى الشورى.
فقال عمرو بن قيس السكوني : قد رضينا بولي عهدنا - يعني الوليد -.
فأخذ يعقوب بلحيته، فقال : أيها العته إنك قد خرفت، وذهب عقلك، إن الذي تعني لو كان يتيماً في حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمة.
فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم.
ثم أقبل أهل حمص فنزلوا قرية كانت لخالد بن يزيد بن معاوية، وأمرهم إلى رجل يعرف بأبي محمد السفياني.
ص: 487
فتكلم مروان بن محمد بشيء اتهموه فيه، فوثبوا عليه، وقتلوه.
ولما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجاج فوجهه في ألف وخمسمائة ووعده أن يمده.
وكان سليمان بن هشام قد بادرهم فنزلوا بالسليمانية، وكان أهل حمص قد نزلوها قبلهم، وأراحوا دوابهم، وجعلوا الزيتون عن أيمانهم والجبل عن شمائلهم، والحيات خلفهم، وليس لهم مأتى إلا من وجه واحد.
قال مَن حضر: ودفعنا إليهم ونحن معيون قد كلّت دوابنا، وثقل علينا الحديد، فحاربناهم، فهزموا ميمنتنا وميسرتنا أكثر من علوتين.
وسليمان كان في القلب فثبت، وحمل عليهم حتى ردهم إلى مواضعهم.
فبينا نحن مع سليمان ويحملون علينا إذ طلع عبد العزيز من الثنية فشدّ عليهم حتى دخل عسكرهم وقتل ثم يعد إلينا، فلما تشبثوا واستحرّ فيهم القتل، نادوا يزيد بن خالد بن عبد الله القسري : الله الله في قومك.
فكف الناس عنهم على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد (1).
فلما خرجوا إلى دمشق أعطاهم يزيد، وأجاز الأشراف.
ووثب في هذه السنة أهل فلسطين والأردن [57/أ] على عاملهم فطردوه.
كان السبب في ذلك أن سعيد بن عبد الملك كان عاملاً للوليد على فلسطين وكان حسن السيرة، وكان يزيد بن سليمان سيد ولد أبيه.
وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين وكان أهل فلسطين يحبونهم لجوارهم.
فلما ورد قتل (2) الوليد ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع، فكتب إلى زيد بن سليمان :
إن الخليفة قد قتل فاقدم علينا نُوَلِّكَ أمرنا.
ص: 488
فقدم، فجمع له سعيد قومه، وكبت إلى سعيد بن عبد الملك - وهو نازل بالسلع - : ارتحل عنا فإن الأمر قد اضطرب، وقد ولينا أمرنا رجلاً قد رضيناه، فخرج إلى زيد بن الوليد.
ودعا يزيد بن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد، وبلغ أهل الأردن أمرهم، فولوا عليهم محمد بن عبد الملك، وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح، وضبعان بن روح.
وبلغ يزيد بن الوليد أمرهم فوجه إليهم سليمان بن هشام في أهل دمشق.
فقال لهم محمد بن راشد: كان سليمان بن هشام يرسلني إلى سعيد، وضبعان بن روح، وإلى الحكم، وهاشم ابني جرو من بلقيس، فأعدهم، وأمنهم على الدخول في طاعة يزيد بن الوليد.
وقال عثمان بن داود الخولاني : أنفذني يزيد بن الوليد ومعي حذيفة بن سعيد إلى محمد بن عبد الملك، ويزيد بن سليمان يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنيهما، فبدأنا بأهل الأردن، ومحمد بن عبد الملك. فاجتمع إليه جماعة وقال بعضهم: أصلح الله الأمير اقتل هذا القدري الخبيث، وكفهم عني الحكم بن جرو العتبي.
فأقيمت الصلاة، فخلوت به وقلت : إني رسول ليزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلا على رأس رجل من قومك ولا درهماً يخرج من بيت المال إلا في يد رجل منهم وهو يجعل لك كذا وكذا.
فقال : انت بذاك.
فقلت: نعم، ثم خرجت، فأتيت ضبعان بن روح فقلت له مثل ذلك، وقلت : إنه يوليك فلسطين ما بقي، فأجابني، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين، فلما أتيت يزيد فقال : أخبرني كيف قلت لضبعان بن روح؟
فأخبرته.
قال فما صنع؟
قلت: ارتحل.
قال : فلسنا بأحق بالوفاء مني، ارجع فأمره ألَّا ينصرف حتى ينزل الرملة فيبايع [57 / ب] أهلها.
وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردن وضبعان بن روح على فلسطين.
ص: 489
و مسرور (1) بن الوليد على قنسرين.
وابن الحصين على حمص (2).
خطب يزيد بن الوليد الناس بعد قتل الوليد فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه :
أيها الناس إني والله ما خرجت أشراً، ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء لنفسي إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضباً لله عزّ وجل، ورسوله، ودينه، وداعياً إلى الله عزّ وجل وكتابه وسنّة نبيه لما هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة مع أنه والله ما كان يُصدّق بالكتاب ولا يؤمن بيوم الحساب، وأنه لابن عمي في النسب، وكفىء في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته أن لا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس: إن لكم عليّ أن لا أضع حجراً على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهراً ولا أكثر مالاً، ولا أعطيه زوجة ولا ولداً، ولا أنقل مالاً من بلد حتى ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه ولا أجمركم على ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم بقطع سبلهم وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسمع والطاعة، وحسن المؤازرة وإن أنا لم أف لكم فلكم إن تخلعوني إلا أن تستتيبوني فإن تبت قبلتم مني.
وإن علمتم أحداً ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أولى من يبايعه ويدخل في طاعته.
ص: 490
أيها الناس : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا وفاء له بنقض (1) [58/أ] عهد، إنما الطاعة طاعة الله فمَن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى ويقتل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم دعا إلى تجديد البيعة له.
فكان أول من بايعه الأفقم بن يزيد بن هشام وبايعه قيس بن هانئ فقال يا أمير المؤمنين اتق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك وإن قالوا عمر بن عبد العزيز، فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن غم أخذتها بحبل سوء.
فلما بلغ قوله مروان بن محمد قال: ما له قاتله الله ذمنا جميعاً وذم عمر وحقدها.
فلما ولي بعث رجلاً وقال له : إذا دخلت مسجد دمشق، فانظر قيس بن هانىء فإنه طالما صلّى فيه فاقتله.
فانطلق الرجل، فدخل المسجد، فرأى قيساً يصلي فقتله.
وفي هذه السنة: عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور بن جمهور. فسار وهو سابع سبعة فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب، وقدم منصور بن جمهور الحيرة في رجب.
وكان منصور أعرابياً جافياً غيلاني الرأي وإنما صار مع يزيد لرأيه في العبدانية، وحميه لقتل يوسف خالد (2).
فلما ولاه يزيد وصاه، وقال له : اتق الله، وسر وأنت تستشعر التقوى، واعلم أني
ص: 491
إنما قتلت الوليد لفسقه، ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.
فلما صار بالحيرة كتب إلى سليمان بن سليم بن كیسان :
أما بعد: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له، وأن الوليد بدل نعمة الله كفراً، فاسفك دمه وعجله إلى النار، وولى خلافته مَن هو خير منه وأحسن هدياً، وقد بايعه الناس وولى على العراق الحارث بن عباس بن الوليد، ووجهني العباس لأخذ يوسف وعماله فلا يفوتنك منهم أحد، فاحبسهم قبلك، وإياك أن تخالف فيحل بك وبأهل بيتك ما لا قِبَلَ لك ولهم به، فاختر لنفسك أو دع.
فلما ورد الكتاب على سليمان بن سليم مع كتب كتبها إلى جماعة من قواد الشام أوصلت الكتب كلها إلى سليمان بن سليم وسئل أن يفرقها في الجند.
فدخل سليمان على يوسف بن عمر وأقرأه كتاب منصور إليه فعَل به وقال : ما الرأي؟
فقال : ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام الحارث بن [58/ب] العباس معك، ولا آمن منصور إن قدر عليك لما في نفسه من أجل خالد.
وما الرأي إلا أن تلحق بشامك (1).
قال : هو رأي فكيف الحيلة؟
قال: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك، وإذا قرب منصور وجهت معك من أثق به، ففعل.
فلما نزل منصور بحيث يُصَبِّح البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان، فأقام أياماً، ثم وجه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
وكان يوسف وجّه رَجُلاً من بني كلاب في خمسمائة، وقال لهم : إن مَرّ بكم يزيد بن الوليد فوجه قائداً في خمسين رجلاً، فقال له : ائتني نفسه فلا تدعنه يجوز.
فأتاهم منصور بن جمهور في سبعة فلم يهيجوه فانتزع سلاحهم منه وأدخلهم الكوفة.
ولما بلغ يوسف البلقاء، رُفع خبره إلى يزيد بن الوليد، فوجه قائداً في خمسين رجلاً فقال له : ائتني بيوسف.
فأتى البلقاء وطلبه في منزله فلم يجده، ورأى ابناً، فَرَهَّبَهُ، فقال: أنا أدلك عليه، وذهب به إلى مزرعة له، فوجدوه في ثياب النساء جالساً مع نسوة فألقين عليه
ص: 492
قطيفة خز، وجلسن على حواشيها حاسرات فجرُّوا رجله، وأقبلوا به إلى يزيد (1).
فلقيه عامل ليزيد على نوبة من نوب الحرس فأخذ بلحيته فهزّها، ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية، وأصغرهم قامة -.
فلما دخل على يزيد قبض على لحيته، وكانت حينئذ تجوز سُرَّته، وجعل يقول : نتفت والله يا أمير المؤمنين لحيتي فما بقي فيها شعرة.
فأمر يزيد بحبسه في الخضراء.
فدخل عليه محمد بن راشد فقال له : أما تخاف أن يطلع عليك من قد وترت فيلقي عليك حجراً فيقتلك؟
قال : لا والله ما فطنت لهذا فنشدتك الله إلا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى غير هذا من المحابس وإن كان أضيق منه.
فأخبر يزيد فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأرده إلى العراق، فيقام للناس وتؤخذ المظالم من ماله ودمه (2).
ص: 493
وأما منصور بن جمهور فإنه فتح الخزائن وفرق في الناس استحقاقاتهم، وأحسن إلى جميعهم.
وفي هذه السنة : امتنع نصر بن سيار من تسليم عمله بخراسان لعامل منصور بن جمهور.
وقد كان يزيد بن الوليد قد ولاها منصور مع العراق.
كنا ذكرنا ما أعده نصر من الهدايا، وشخوصه متوجهاً إلى يوسف بن عمر بالعراق، وتباطؤه في سفره، حتى ورد الخبر عليه بقتل الوليد.
فحكى بشر - وفي أخرى - بشير بن نافع وكان على سكسك العراق قال : لما أقبل منصور بن جمهور أميراً على العراق هرب يوسف بن عمر، فوجه منصور أخاه منظور بن جمهور على الري، فأقبلت مع منظور إلى الري، وقلت : أقدم على نصر فأخبره.
فلما وردت على نصر وأخبرته كان الخبر عنده فأمر حميداً مولاه أن يحملني إلى عنده، وأكرمني وأمر لي بجائزة.
ثم دخل إلى نصر قوم فيهم يونس بن عبد الله، وعبد الله بن هشام، وسلم بن أحوز.
فأرسل إليّ وقال : أخبرهم.
فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هذا.
فلما مضت ثلاث وكل بي ثمانين رجلاً من الحرس، فأبطأنا الخبر الليلة التاسعة، ثم جاءهم الخبر ليلة النيروز على ما وصفت، فصرف عامة تلك الهدايا إلى أربابها، وأعتق الرقيق وقسم روق الجواري في ولده، وخاصته، وقسم تلك الأواني في الناس، ووجه العمال وأمرهم بحسن السيرة وأرجفت الأزد بخراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان.
فخطب نصر بن سيار وقال في خطبته :
إن جاء أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه، ثم راح به يعدو، قال عدو الله المبتور المخذول.
وولی نصر بن ربيعة اليمن.
وولى كل من ظنّ عنده خيراً، وأمرهم بحسن السيرة، ودعا الناس إلى البيعة.
وكان نصر ولى عبد الملك بن عبد الله السلمي خوارزم فخطبهم وقال في خطبته :
ص: 494
والله ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا القروي المستنبط ولقد كرمتني الأمور وكرمتها، أما والله لأضعن السيف موضعه، والسوط مضربه، والسجن مدخله، ثم لتجدنني غشمشماً أعتى - وفي أخرى أعشى - السحر ولتستقيمن لي على الطريقة بعض المكاره في السير - وفي أخرى رفض المكاره في السنن - الأعظم أو لأصكنكم صك القطا في القطا العارب.
وفي هذه السنة : وقع الاختلاف بخراسان بين اليمانية، والمزارية (1).
ص: 495
ص: 496
وأظهر فيها الكرماني الخلاف لنصر بن سيار واجتمع مع كل واحد منهما جماعة لنصرته.
وفيها : [59/ب] أظهر مروان بن محمد الخلاف وكتب إلى الغمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد كتاباً بليغاً يأمره بالطلب بدم أخيه الوليد (1).
ص: 497
وفيها: عزل يزيد منصور بن جمهور عن العراق وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
وكان عبد الله بن عمر هذا متألهاً، فدعاه يزيد بن الوليد وقال له : إن أهل العراق يميلون إليك وإلى أبيك فسِر إليها فقد وليتكها.
فلما شخص قدم بين يديه رسلاً، وكتب إلى قواد الشام الذين بالعراق، وخاف أن لا يسلم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له الكل، وسلم منصور بن جمهور وانصرف إلى الشام.
وفرّق عبد الله بن عمر عماله، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم (1).
وكتب إلى نصر بعهده على خراسان.
وكان المنجمون ذكروا لنصر أن خراسان ستكون بها فتنة.
فأمر نصر برفع حاصل بيت المال وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها الوليد بن يزيد.
وكان أول من تكلم رجل من كندة أفوه طوال فقال : العطاء العطاء.
فلما كانت الجمعة أمر نصر رجالاً من الحرس فلبسوا السلاح وفرقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم.
فقام الكندي فقال : العطاء العطاء.
وقام مولى للأزد يلقب أبا الشياطين فتكلم.
وقال آخرون : العطاء، العطاء.
فقال نصر : اتقوا الله عليكم بالطاعة والجماعة، فاسمعوا ما توعظون به.
فصعد سلم بن أحوز وهو على المنبر فكلمه فقالوا: ما يغني كلامك هذا شيئاً.
ص: 498
ووثب أهل السوق إلى أسواقهم.
فغضب نصر، وقال : إياكم (1) والعصبية، وحمية الجاهلية، فإنهما يورثان النفاق، ويعقبان الشقاء، ولا تظالموا فتمقتوا ولا تنازعوا فتفشلوا، وما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا.
ثم قال : كأني بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمّه فلطم وجهه في جمل يهدى له، وثوب يُكساه، ويقول مولاي وطري، فأذلوا هذه السفلة.
فكأني بهم قد نبع الشر من تحت أرجلهم، وكأني بهم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة.
إنه لم تطل ولاية رجل قط إلا ملوه، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحر العدو، فإياكم وأن يختلف فيكم سفيان.
فقال الكرماني : أنتم في فتنة فانظروا لأموركم رجلاً.
[60/أ] وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان واسمه جديع بن علي بن شبيب المُغني.
وقالوا ليت لنا فاجتمعت المضرية إلى نصر، وقالوا له : إن الكرماني يفسد الناس عليك، فأرسل إليه فاقتله أو فاحبسه.
فقال : لا ولكن لي ولداً ذكوراً وإناثاً وله ولد، فأزوج بني بناته، وبنيه بناتي.
قالوا : ليس ينفع ذلك شيئاً.
قال : فأبعث إليه بمائة ألف فإنه بخيل فلا يعطي أصحابه شيئاً، فيعلمون بها، ويتفرقون عنه.
قالوا: هذه تصير قوة له.
قال : فدعوه على حاله يتقينا ونتقيه.
قالوا : لا.
وبلغ نصراً أن الكرماني يقول : كانت عابتي في طاعة بني مروان أن يتقلد ولدي السيوف فاطلب بثأر بني المهلب مع ما لقينا من نصر وجفائه طول حرمانه، ومكافأته إيانا بما كان من صنع أسد إليه.
فقال لنصر عصمة بن عبد الله الأسدي إنها بدىء فتنة فتجيء عليه واحبسه، وأظهر أنه مخالف، ثم اضرب عنقه عنق سباع بن النعمان والفرافصة بن طهر الكندي،
ص: 499
فإنه لم يزل غضبان على الله بتفضيله لمضر على ربيعة.
وكثر على نصر الكلام في أمر الكرماني حتى قال له أحرم بن قبيصة: لو أن جديعاً لم يقدر على السلطان والملوك إلا بالنصرانية أو اليهودية لتنصر أو لتهوّد.
وكان نصر والكرماني متصافيين.
وكان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله.
فلما ولي نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيّرها لحارث بن عامر الواشحي.
ثم مات حارث، فأعاد الكرماني عليها، ولم يلبث إلا قليلاً حتى عزله وصيّرها لجميل بن النعمان فتباعد ما بين نصر والكرماني، فحبس نصر الكرماني في القهندز مقاتل بن علي المري. ولما هم نصر بحبس الكرماني تكلم قوم، فخاف نصر الفتنة لأن الأزد تعصبت له.
فقال نصر : أحلف بالله إني أحبسه، ثم لا يناله مني مكروه، فإن خشيتم عليه، فاختاروا رجلاً يكون (1) معه.
فاختاروا يزيد النحوي، فكان معه في القهندز.
وصيّر حرسه بين ناحية، فبينا هم كذلك إذ جاءهم رجل من أهل نسف فقال لغلام الكرماني - يقال له : جعفر - ما تجعلون لي إن أنا أخرجته؟
قالوا : لك ما سألت.
فأتى مجرى الماء في القهندز فدخله ووسعه وأتى ولد الكرماني وقال لهم : اكتبوا إلى أبيكم يستعد للخروج الليلة، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب مع الطعام.
فدعا الكرماني يزيد النحوي، وحصين بن حكيم، فتعشيا معه، وخرجا، ودخل الكرماني [60/ب] السرب وأخذوا بضبعيه (2) فيقال : إنه انطوت على بطنه حَيّة فلم تضره وانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه، وجنبه، ثم خرج.
وكان الكرماني أرسل إلى محمد بن المثنى، وعبد الملك بن حرملة : إني خارج الليلة فاجتمعوا بعلطان فتوافوا على باب الريان بن سنان اليحمدي بنوس في المرج، وكان مصلاهم في العيد.
وخرج إليهم الناس من قراهم، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت
ص: 500
الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف.
فسار وأتاهم أهل السقادم، فأتوا حرمان، وكان الأزد اجتمعوا إلى عبد الملك بن حرملة فبايعوه على الكتاب والسنة قبل خروج الكرماني بليلة.
فلما اجتمعوا في مرجع نوس أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني في التقدم ساعة ثم قدمه عبد الملك، وصيّر الأمر له فصلّى بهم الكرماني.
ولما انتهى نصراً هرب الكرماني، واستحلف عصمة بن عبد الله الأسدي، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروز وخطب الناس فنال من الكرماني وذكره بالقبح، ثم ذكر الأزد، فقال : إن يُستوثقوا فأذل قوم وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت *** فدلّت عليها صوتها حية البحر
ثم ندم على ما فرط منه، فقال:
اذكروا الله فإن ذكر الله شفاء، ذكر الله تعالى خير لا شر فيه، ذكر الله براءة من النفاق. واجتمع إلى نصر بشر كثير.
فوجه سلم بن أحوز إلى الكرماني في المجففة وهم خلق كثير.
فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصراً أن يأمنه، ولا يحبسه، وضمن قومه أن لا يخالفوا.
وأتاه القاسم بن تجيب فكلمه فيه فأمنه، وقال له : إن شئت خرج لك عن خراسان وإن شئت أقام في داره.
وكان رأى نصر إخراجه، فقال له سلم : إن أخرجته نوهت باسمه، وقال الناس:
أخرجه أنه هابه.
فقال نصر : إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه إذا قام، والرجل إذا نفي عن بلد صغر أمره.
فأبوا عليه فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة.
وأتى الكرماني نصراً، فدخل سرادقه، فأمنه.
ولحق عبد العزيز بن عبد ربه بالحارث بن سريج، وهو بالترك.
وأتى نصر عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فخطب الناس وقال : كنتم تغدرون ببعض المنع منكم لبعض [61/أ] الجور عليكم، وقد وليكم من يقول ويفعل ويفعل ويقول ورددتم له برأكم تهزمون إن استعصيتم عليه برأكم بسيفه، ثم رجا في الآخر من الآخر ما أمل في الأول من الدحر من البيعة مبالغة،
ص: 501
فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا، فأينا غدر فلا (1) ذمة له عند صاحبه والله ما نطقت به ألسنتنا حتى عقدت عليه قلوبنا، وما طلبناها منكم حتى بذلنا لكم بأخرى نناحر ومن سيرك من حذر، فنادوهم سمعاً فناداهم عدلاً.
وذكر ابن جمهور بسوء وقال : قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب.
فغضب الكرماني لابن جمهور فعاد في جمع الرجال، واتخاذ السلاح.
وكان نصر يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارجاً من المقصورة، ثم يدخل على نصر فيسلّم عليه ولا يجلس.
ثم ترك إتيان نصر، وأظهر الخلاف فأرسل إليه نصر بسلم بن أحوز، إني والله ما أردت بك في حبسك سوءاً، ولكني خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني.
فقال الكرماني لسلم : لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك لأحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فاعلمه ما شئت من خير وشر.
فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه.
فقال: لا، وما بي هيبة له، ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره.
فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي؛ إني أخاف عليك خصالاً، فانطلق إلى أمرك يعرضها عليك وما يريد بذلك إلا الإعذار إليك.
فقال الكرماني : إني أعلم أن نصراً لم يقل هذا لك ولكنك أردت أن تبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتى ترجع إلى أميرك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة.
فقال : ما رأيت علجاً أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه ولكني أعجب من يحيى بن حصين وأصحابه لعنهم الله، والله إنهم أشد تعظيماً له من أصحابه.
فقال سلم بن أحوز لنصر : إني أخاف فساد هذا الثغر والناس.
فأرسل إليه قديداً، فقال نصر لقديد بن منيع : انطلق إليه.
فأتاه فقال : يا أبا علي لقد لححت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعاً، وتشمت بنا هذه الأعاجم.
قال: يا قديد، إني أتهمك وقد جاء ما لا أثق معه بنصر، وقد قال رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) : «البكري أخوك ولا تثق به» (2).
ص: 502
قال : أما وقد وقع هذا في نفسك فأعطه رهناً.
قال : أعطيه عليا، وعثمان، فمَن يعطيني ولا خير فيه؟
قال : يا أبا علي نشدتك الله أن يكون خراب هذه [61/ب] البلدة على يديك.
ورجع إلى نصر فقال نصر لعقيل (1) الليثي : ما أخوفني أن يقع بهذا الثغر بلاء فكلم ابن عمك.
فقال عقيل لنصر : أيها الأمير أنشدك الله إن بشام عشيرتك، إن مروان بالشام يقاتله الخوارج والناس في فتنة والأزد أخفاء سفهاء، وهم جيرانك.
قال : فما أصنع إن علمت أمراً يصلح الناس فدونك وقد زعم أنه لا يثق بي.
قال : فأتى عقيل الكرماني فقال : يا أبا علي، قد سننت للسفهاء سنة تطلب بعندك من الأمراء، إني أرى أمراً أخاف أن تذهب فيه العقول.
قال الكرماني : إن نصراً يريد أن آتيه ولا آمنه وأريد أن تعتزل ويعتزل، ونختار رجلا من بكر بن وائل نرضاه جميعاً فيلي أمرنا حتى يأتي أمر الخليفة وهو يأبى هذا.
قال: يا أبا علي إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر فأتِ أميرك وقل ما شئت تجب إليه ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه.
فقال الكرماني : إني لا أتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثق بنصر، فلتحمل من المال ما يشاء وليشخص.
قال : فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما؟
تتزوج إليه ويتزوج إليك؟
قال : لا آمنه على حال.
قال : أمَا بَعْدَ هذا خير؟ وإني لخائف أن تهلك عدواً لمضيعة.
قال : لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال له عقيل : أعود إليك؟
قال : لا، ولكن أبلغه عني وقل له : لا آمن له أن يحملك قوم من أمري على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء.
ص: 503
وتهيأ ليخرج إلى جرجان.
وفي هذه السنة : أمن يزيد بن الوليد بن الحارث بن سريج، وكتب إليه بذلك الكتاب وكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره برد ما كان أخذ منه من ماله وولده.
أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر، والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك فيلون أمره أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه.
فأرسل إليه مقاتل بن حيان النبطي، وثعلبة بن صفوان البناني وجماعة ليردوه من بلاد الترك.
وقيل : إن قوماً خرجوا إلى يزيد بن الوليد فطلبوا منه أماناً للحارث بن سريج، فكتب له أماناً ولمن معه وأمر نصراً برد ما كان أخذ له ولأصحابه [62/أ] ثم يفد القوم إلى الحارث، فلقوا مقاتل بن حيان وأصحابه الذين وجههم نصر إلى الحارث، وأقبل الحارث يريد مرو.
وكان مقامه بأرض الترك اثنتي عشرة سنة.
فقال : إن نصراً كان كتب إلى الحارث من غير إذن الخليفة، فكتب إليه : ابن عم إنك أمنت الحارث بغير إذني، ولا إذن الخليفة.
فسقط في يديه، فبعث يزيد بن الأحمر، وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة (1).
وفي هذه السنة: وجّه إبراهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكر بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية.
ص: 504
فقدم مرو وجمع النقباء ومن بها من الدعاة فنعى إليهم الإمام محمد بن علي، ودعاهم إلى إبراهيم.
فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة.
[فقدم بها بكير على إبراهيم ] (1).
وفيها: أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج من بعد إبراهيم بن الوليد
كان سبب ذلك أن يزيد مرض (2) فاجتمع عليه القدرية، وكان يرى رأيهم، وأشاروا عليه بذلك، وقالوا : لا يحل لك أن تهمل أمر الأمة، فبايع لأخيك حتى بايع لإبراهيم وعبد العزيز من بعده.
وفي هذه السنة : أظهر مروان بن محمد بن مروان الخلاف على يزيد بن الوليد، وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة مظهراً أنه طالب بدم يزيد بن الوليد، فلما صار بحران بايع ليزيد.
ص: 505
لما بلغ مروان مقتل الوليد أقبل يريد الجزيرة وكان ابنه عبد الملك بن مروان قد وثب على حرّان، ومدائن الجزيرة فضبطها، وكتب إلى أبيه في أرمينية (1) يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم.
فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد وكره أن يدع الثغر معطلاً.
فوجه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي وهو رأس قيس، وثابت بن نعيم الجذامي وهو رأس اليمن.
وكان سبب صحبته ثابت إياه: أن مروان كان خلصه من جيش (2)هشام وأحسن إليه وحباه.
فلما كتب مروان إلى أهل الباب على أيديهما وحمل معهما إليهم أعطياتهم، ورغبهم في الجهاد... (3).
ثم بلغه أن ثابتاً كان يدس إلى قواده بالانصراف إلى ثغرهم واللحاق [62/ب] بأجنادهم.
فلما انصرفا إليه تهيأ مروان للمسير، وعرض جنده فَدَسَّ ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم.
فانخزلوا عن عسكر مروان ليلاً، وعسكروا على حدة، فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح، ثم خرج إليهم بمن معه، ومن مع ثابت يضعفون من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم.
ص: 506
فأمر مروان مناديين فبرزا بين الصفين فنادياهم :
يا أهل الشام ما دعاكم إلى اعتزال؟ وما الذي نقمتم عليّ؟ ألم آتكم بما تحبون؟ وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم؟ ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم؟
وأجابوه : بأنا إنما كُنا نطيعكم بطاعة خليفتنا، فقد قتل خليفتنا.
وبايع أهل الشام يزيد بن الوليد فرضينا بولاية ثابت ورأسناه ليسير بنا على... (1)حتى نرد أجنادنا.
فأمر مناديه فنادى :
أن قد كذبتم وليس تريدون الذي قلتم وإنما أردتم أن تركبوا رؤوسكم فتغصبوا مَن مررتم من أهل الذمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم، وما بيني وبينهم إلا السيف حتى ينقادوا إلي فأسير بكم حتى أوردكم الفُرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده حتى تلحقوا بأجنادكم.
فلما رأوا الجد منه انقادوا له ومالوا إليه وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده وهم أربعة رجال.
فأمر بهم فأنزلوا على خيولهم وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل ووكل بهم عدة من حرسه يحتفظون بهم.
و شخص بجماعة الجند من أهل الشام والجزيرة وضمهم إلى عسكره وضبطهم فلم يقدر أحد منهم على أن يشد ولا أن يظلم أحد من أهل القرى ولا يرزوا شيئاً إلا بثمن حتى ورد حَرّان.
ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم وحبس ثابتاً معه ودعا أهل الجزيرة إلى العرض، فعرض لست وعشرين ألفاً من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد.
فكاتبه يُريد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمد بن هارون من الجزيرة وأرمينية والموصل، وأذربيجان.
فبايع له بحران ووجه إليه بنفر من وجوه الجزيرة.
وفي هذه السنة : مات يزيد بن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائة.
فكانت خلافته ستة أشهر واختلف في مبلغ سنّه، فقيل : نيف وثلاثون، وقيل:
ص: 507
نيف وأربعون (1).
وكان أسمر طويلاً صغير الرأس جميلاً.
وإنما سمي الناقص في قول أكثر [63/أ] الناس : لأنه نقصهم أعطياتهم التي كان الوليد زادها للناس.
وقال بعضهم: إنما سمي الناقص لأن مروان بن محمد سَبه فقال : الناقص بن الوليد، فسمي الناقص.
ثم كان إبراهيم ولم يتم له أمر، وسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالأمير، وجمعة لا بالخلافة ولا بالأمرة، فكان على ذلك حتى قدم مروان بن محمد، فخلعه (2)، وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
ص: 508
ص: 509
ص: 510
ص: 511
ص: 512
ص: 513
فلما انتهى إلى قنسرين وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له : بشر - كان ولاه قنسرين - فخرج إليه وصافه وتناى الناس، ودعاهم مروان إلى بيعته.
فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية وأسلموا بشراً وأخاً له يقال له : مسروراً، فأخذهما (1) مروان وحبسهما، وسار متوجهاً إلى حمص.
وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات يزيد أن يبايعوا إبراهيم، فوجه إليهم إبراهيم (2) عبد العزيز بن الحجاج جند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم.
وأسرع (3) مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا بأجمعهم معه.
ووجه إبراهيم بن الوليد الجيوش مع سلیمان بن هشام فسار بهم حتى نزل عين الجر في مائة وعشرين ألف.
وأتاه مروان في نحو من ثمانين ألفاً فدعاهم مروان إلى الكف عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد الحكم وعثمان - وكانا في سجن دمشق - وضمن لهم عنهما، أن لا يؤاخذهم بقتلهم أباهما، ولا يطلبا أحداً ممن ولى قبله، فأبوا عليه، وجدّوا في قتاله.
فاقتتلوا ما بين ضحوة النهار إلى العصر، واستحر القتل وكثر في الفريقين، وكان [ مروان] (4) مجرباً مكايداً، فدعا ثلاثة نفر من قواده أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم فأمرهم بالمسير خلف صفة في خيلهم، وهم ثلاثة آلاف، ووجه معهم فعلة بالفؤوس، وقد ملأ الصفان من أصحابه وأصحاب سليمان ما بين الجبلين بالمحيطين بالمرج وبين العسكرين نهر جرار، وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر فيعقدوا جسوراً فيجيزوا إلى عسكر سليمان، ويغزوا فيه.
فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون [63/ب] بالقتال إلا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم فلما رأوا ذلك انكسروا فكانت هزيمتهم.
ووضع أهل حمص السلاح فيهم فقتلوا منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً.
وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم وأتوا مروان من إسرائهم لمثل عدة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم.
فأخذ مروان عليهم العهد للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم
ص: 515
بدينار دينار وألحقهم بأهاليهم (1).
ومضى سليمان ومن معه من الفل (2) حتى صبحوا دمشق واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج رؤوس معهم.
فقال بعضهم لبعض : إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان فيخرجهما من الحبس، ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحداً من قتله أبيهما، والرأي أن تقتلهما، فولوا ذلك يزيد بن خالد.
ومعهما في الحبس أبو محمد السفياني، ويوسف بن عمر.
فأرسل يزيد مولى لخالد يكنى أبا الأسد في عدة من أصحابه، فدخل السجن يشدخ الغلامين بالعمد.
وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه.
وأرادوا أبا محمد ليقتلوه فدخل بيتاً من بيوت السجن فأغلقه، وألقى خلفه المتاع واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه.
ودعوا بنار ليخرجوه فلم يؤتوا بها حتى قتل.
فدخلت خيل مروان المدينة وهرب إبراهيم بن الوليد وتغيب.
ونهب سليمان ما كان في بيت المال من المال، وقسمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة.
وفي هذه السنة: دعا إلى نفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، فهزمه عبد الله بن عمر فلحق بالجبال، وتغلب عليها.
كان سبب خروجه أنه قدم الكوفة زائراً لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز يلتمس صلته، ولا يطمع في غيرها.
فلما وقعت العصبية قال له أهل الكوفة : ادع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، لا سيما وقد اختلفوا.
ص: 516
فدعا سراً بالكوفة، وابن عمر بالحيرة وبايعه قوم، وكان فيهم [64/أ] ضمرة الخزاعي فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه إذا نحن التقينا انهزمت بالناس.
وبلغ ابن معاوية.
فلما التقى الناس قال ابن معاوية : إن ابن ضمرة قد غدر، ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس فلا يهولنكم انهزامه عن غدر ما يفعل.
فلما اقتتلوا انهزم ابن ضمرة وانهزم الناس، فلم يبقَ مع ابن معاوية أحد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة، ثم خرج ومعه نفر، فغلب على حلوان، ثم أتى على همذان والري، وأصبهان (1).
ص: 517
وفي هذه السنة : بويع لمروان بن محمد بدمشق بالخلافة.
قد ذكرنا ما كان من هرب إبراهيم، وأن سليمان انتهب ما كان في بيت المال وفرّقه في جنده.
ودخل مروان دمشق، وأتي بالغلامين مقتولين، ويوسف بن عمر، فأمر بهم فدفنوا
ص: 518
وأتى بأبي محمد في كبولة (1) فسلم عليه بالخلافة، ومروان يسلّم عليه يومئذ بالإمرة.
فقال له : مه.
فقال أبو محمد : أنهما جعلاها لك بعدهما وكانا قد بلغا.
أما الحكم، وهو أكبرهما : فكان قد وُلِدَ له.
وأما الآخر : فقد احتلم قبل ذلك بسنين وأنشده شعراً قاله الحكم :
ألا من مبلغ مروان عني *** وعمى الغمر من كيدي (2) حنينا
بأني قد ظلت وصار قومي *** على قتل الوليد مبايعينا
أيذهب كلهم بدمي ومالي *** فلا غنا أصيبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزار *** كليث الغاب مفترشاً (3) عرينا
ألم يحزنك قتل فتی قریش *** وشقهم العصا للمسلمينا
ألا فاقرأ السلام على قريش *** وقيس بالجزيرة أجمعينا
وسار الناقص القدري فينا *** وألقى الحرب بين بني أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم *** وكعب لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بني تميم *** لما بغا تراث بني أبينا
انتكث بيعتي من أجل أمي *** فقد بايعتم بعدي (4) هجينا
[64 / ب] فليت خؤلتي في غير كلب *** وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي *** فمروان أمير المؤمنينا (5)
ثم قال له : ابسط يدك أبايعك.
وسمعه من تبع مروان من أهل الشام، فكان أول من نهض معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وتبعه الناس، فبايعوه.
فلما استوت لمروان بن محمد الشام انصرف إلى منزله من حران.
وطلب منه الأمان إبراهيم بن الوليد، وسليمان بن هشام، فأمنهما، فقدم عليه سليمان فكان يتذمر في إخوته وأهل بيته ومواليه فبايعوا مروان.
وفي هذه السنة : انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام.
ص: 519
كان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن النعمان كان يراسلهم ويكاتبهم.
ومروان بجهة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلاً.
فأتاه خبرهم صبيحة الفطر فجد في السير (1)، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام - وكان أمنهما - فكان يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه.
فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين وقد ردم القوم أبوابها من داخل، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب منها، فأشرفت عليه جماعة من الحائط فناداهم مناديه :
ما دعاكم إلى النكث؟
قالوا : فإنا على طاعتك لم ننكث.
فقال لهم : إن كنتم على ما تذكرون فافتحوا.
ففتحوا له الباب، فاقتحم عمر بن الوضاح في الوضاحية، وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم داخل المدينة.
ثم كثرتهم خيل مروان فخرجوا من باب من أبواب المدينة، فقاتلهم من كان عليهم، فقتل عامتهم، وأسر منهم قوم، فأتي بهم مروان فقتلهم.
ثم أمر بجميع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستمائة فصلبوا حول المدينة.
وهدم من حائط مدينتها نحو غلوة (2).
وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق (3) :
فحاصروا أميرهم زامل (4) بن عمرو، وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت
ص: 520
زامل مع أهل المدينة.
ووجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر [65/أ] بن زفر بن الحارث وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف.
فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج من في المدينة، فحملوا عليهم فهزموهم، واستباحوا عساكرهم.
ولجأ يزيد بن خالد، وأبو علاثة إلى رجل من لخم من أهل (1) مزة (2)، فدلّ عليهما زامل، فأرسل إليهما فقتلا، وبعث برأسيهما إلى مروان بحمص (3).
[وفيها] (4) : وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين حتى أتى طبرية، فحاصر أهلها فقاتلهم أياماً.
وكتب مروان إلى أبي الورد أن يشخص إليهم، ورحل من حمص إلى دمشق بعد أيام فلما بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه فاستباحوا عسكرهم.
وانصرف ثابت منهزماً إلى فلسطين، فجمع قومه وجنده، ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرّق مَن معه و وأسر ثلاثة من ولده وهم: نعيم، وبكير، وعمران.
فبعث بهم إلى مروان إلى مروان فقُدِم بهم عليه وهو بدير أيوب جرحى فأمر بمداواتهم.
وتغيب ثابت، وأفلت من ولده : رفاعة بن ثابت وكان أخبتهم، فلحق بمنصور ابن جمهور بالسند، فأكرمه وولاه، وخلفه أخ له يقال له : منظور (5) بن جمهور، فوثب عليه فقتله فبلغ منصوراً وهو متوجه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصور.
فرجع إليه وظفر به فبنى له أسطوانة من آجر مجوفة وأدخله فيها، ثم سمره إليها وبنى عليه.
وكتب مروان إلي واليه على فلسطين وهو الرماجس في طلب ثابت والتلطف له، فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتى به مروان بعد شهرين فأمره وسلبه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم، ثم حملوا إلى دمشق، وأقيموا على باب
ص: 521
مسجدها لأنهم كانوا يُرجفون بثابت ويقولون : أتى مُضر فغلب وقتل عامل مروان بها. وأقام مروان بدير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله، وعبد الله، واستقامت له الشام كلها ما خلا تدمر.
وأمر بثابت وبنيه الذين قطعوا فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق.
وسار حتى نزل القسطل من أرض حمص مما يلي تدمر، وبينهما مسيرة ثلاثة أيام.
وبلغه أنهم غوّروا ما بينه وبينهم من الآبار وطووها بالصخر.
فهيأ المزاد، والقرب، والعلف، والإبل له ولمن معه.
فكلّمه الأبرش بن الوليد وسليمان بن هشام، وغيرهما، وسألوه أن يعذر (1) إليهم، فأجابهم.
ووجه الأبرش إليهم أخاه، وكتب إليهم يحذرهم، ويعلمهم أنه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه فطردوه، ولم يجيبوه.
فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجه إليهم /[65/ب] ويؤجله أياماً، ففعل.
وأتاهم فكلمهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه.
فأجابه عامتهم، وهرب من لم يثق به منهم.
فكتب الأبرش إلى مروان (2) : أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن تابعك.
ففعل، وقدم عليه بالرصافة، ثم شخص إلى الرقة، ومضى حتى نزل نحو واسط على شاطىء الفرات، فأقام ثلاثاً، ثم مضى إلى قرقيسيا، وابن هبيرة بها ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الحروري، وكان خرج محكماً.
وأقبل جماعة نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم حتى حلوا بالرصافة.
فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
[فأجابهم] (3).
وفي هذه السنة : دخل الضحاك بن قيس الشيباني الكوفة.
ص: 522
يقال أن سبب خروج الضحاك : أنه كان خرج بالجزيرة حروري يقال له: سعيد بن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحاك.
وقتل (1) الوليد في تلك الأيام، فاغتنم ذلك وانشغال مروان (2) بالشام، فخرج في أرض بكفرتوثا.
وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة.
فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري - وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان - في نحو من مائة وخمسين فارساً ليبيته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كل رجل منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلل به دابته ليعرف بعضهم بعضاً.
فكبروا في عسكره، وقتلوا بسطاماً، وجميع من معه إلا أربعة عشر رجلاً.
ثم مضوا فلحقوا بمروان فكانوا معه وأثبتهم وولّى عليهم رجلاً منهم يكنى أبا النبيل.
ومضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بينهما، واختلاف أهل الشام وقتال بعضهم بعضاً مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضرية مع ابن الحرشي بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية.
فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه، واستخلف الضحاك بن قيس من بعده (3).
ص: 523
فاجتمع مع الضحاك نحو من ثلاثة آلاف [66/أ] ثم توجه إلى الكوفة، ومَرّ بأرض الموصل، فاتبعه منها ومن السواد نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضرية.
وكان سبب قتال عبد الله عبد الله بن عمر للنضر بن سعيد الحرشي :
أن مروان ولى النضر العراق، وعزل عبد الله بن عمر فأبى عبد الله أن يسلم، وقاتل النضر، ووجد أعواناً من اليمانية للعصبية التي بينهم وبين المضرية، وبالحيرية عبد الله بن عمر في اليمانية فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة.
فلما دنا الضحاك فيمن معه من الكوفة (1)، اصطلح ابن عمر، والحرشي، وصار أمرهما واحداً، ويداً على قتال الضحاك وخندقاً، ومعهما يومئذ من أهل الشام نحو من ثلاثين ألفاً لهم قوة وعدة، ومعهم قائد من أهل قنسرين يقال له عباد بن الغزيل في ألف فارس قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي فبرزوا لهم فقاتلوهم.
فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز، وجعفر بن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط.
وتوجه ابن الحرشي وجماعة المضرية، وإسماعيل بن عبد الله القسري إلى مروان. فاستولى الضحاك والحرورية على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد.
ثم استخلف الضحاك رجلاً من أصحابه يقال له ملحان على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في أصحابه إلى عبد الله بن عمر بواسط فحاصره بها.
وكان عبد الله بن عمر يأمل أن يقتل مروان بحديث سمعه، وهو: «أن عين بن عين بن عين يقتل منهم بتيم» (2).
فكان يروى له الحديث ويظنه هو حتى تبين بعد ذلك.
فقتله عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
ص: 524
فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا لحقوا بواسط، قالوا لابن عمر علام تقيم وقد هرب الناس؟
قال : أتلوم وأنظر، فأقام يوماً ويومين فلم ير إلا هارباً قد امتلأت قلوبهم رُعباً من الخوارج.
فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط.
وجمع خالد بن الغزيل أصحابه فلحق بمروان، وهو بالجزيرة مقيم.
ونظر عبيد الله الكندي إلى ما لقي الناس فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبایعه وكان في عسكره.
فقال أبو عطاء السندي يعيره باتباعه الضحاك وقد قتل أخاه :
قل لعبيد الله لو كان جعفر *** هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتيع المراق الثار فيهم *** وفي كفه عَضْبُ الذباب صقيل
[66 / ب] إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا *** أباك فماذا بعد ذاك تقول؟
فلما بلغ عبيد الله بن العباس هذا البيت قال : أقول عضك الله ب-... (1) أمك.
وأقام عبد الله بن عمر يقاتل الضحاك أياماً فاقتتلوا في بعض الأيام، واشتد قتالهم فشد منصور بن جمهور على قائد من قواد الأتراك عظيم القدر في الشراة يقال له : عكرمة من بني شيبان، فضربه، فقطعه باثنين فقتله.
ثم إن منصوراً قال بعد ذلك وقد لقي جهداً لابن عمر : ما رأيت في الناس مثل هذا قط - يعني الشراة - فلِمَ تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟
أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان فإنك إن أعطيتهم الرضا خلوا عنك، ومضوا إلى مروان، فكان جدهم وبأسهم به وأقمت أنت مستريحاً بموضعك هذا، فإن ظفروا به كان ما أردت وكنت عندهم آمناً، وإن ظفر بهم، وأردت خلافه وقتاله فقاتله جاما مستريحاً، مع أن أمره معهم سيطول.
فقال ابن عمر : لا تعجل حتى تتلوم وتنظر.
فقال : أي شيء تنتظر؟ فوالله ما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقر، فإن خرجنا إليهم لم نقم لهم فواقاً، فما الذي ننتظر ومروان في راحة قد كفيناه جدهم، وشغلناهم
ص: 525
عنه، وهو يتربص بنا وبهم؟!
أما أنا فخارج إليهم ولاحق بهم ومعطيهم الرضا.
قال : فخرج، فوقف حيال صفهم وناداهم : إني خارج أريد أن أسلم وأسمع كلام الله.
قال : وهي محنتهم (1).
فلحق بهم، وبايعهم.
وقال له : قد أسلمت.
فدعوا له بغداء فتغدّى معهم وتحرّم بهم.
ثم خرج إليهم عبد الله بن عمر أيضاً في شوال فبايعهم (2).
وفي هذه السنة : خلع سليمان (3) بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان ونصب له الحرب.
لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني، استأذنه سليمان بن هشام في المقام أياماً لإجمام ظهره، وإصلاح أمره، فأذن له، ومضى مروان.
فجاء إلى سليمان نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث لغزو العراق مع قوادهم حتى حلوا بالرصافة ودعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته وقالوا : أنت أرضى (4) عند أهل الشام منه وأولى [67/أ] بالخلافة.
فاستذله الهوى، فأجابهم وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم، وسار بجميعهم إلى قنسيرين وكان أهل الشام انقضوا إليه من كل وجه.
فغادر مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفاً إليه.
وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في عسكره.
واجتمع مَن كان بالهنى من موالي سليمان وولد هشام فدخلوا حصن الكامل بذراريهم، وأغلقوا الأبواب دونه.
ص: 526
فأرسل إليهم :
لم خلعتم طاعتي، ونقضتم بيعتي بعدما أعطيتموني من العهود والمواثيق؟
فردُّوا على رُسُله : إنا مع سليمان كنا ومع سلیمان نحن.
فردّ إليهم : إني أنذركم أن تعرضوا لأحد ممن يتبعني من جندي أو يناله منكم أذى فاحذروا وإلا تحلوا بأنفسكم فلا أمان لكم حينئذ عندي.
فأرسلوا إليه : إنا سنكف.
ومضى مروان بن محمد فجعلوا يخرجون من حصنهم فيغيرون على من اتبعه من أُخريات الناس وشذان الجند فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم.
وبلغه ذلك فتحرق عليهم غيظاً.
واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفاً (1)، فلما دنا منه مروان قدم إليه السكسكي في سبعة آلاف.
ووجّه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدتهم فالتقوا فيما بين العسكرين، واقتتلوا قتالاً شديداً.
ثم التقى السكسكي وعيسى وكل واحد منهما فاطعنا حتى تقصفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي عيسى على مقدم فرسه فسقط لجامه، وجال به فرسه، واعترضه السكسكي فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه، فأسره.
وبارزه غيره، فأسره، وانهزمت مقدمة مروان.
وبلغه الخبر وهو في مسيره فمضى وطوى تعبئته، ولم ينزل حتى انتهى إلى سليمان وقد تعبّاً له وتهيّأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه.
فانهزم سليمان ومن معه واتبعتهم خيوله [تقتلهم] وتأسرهم حتى انتهوا إلى عسكرهم، فاستباحوه.
ووقف مروان موقفاً وأمر ابنيه حتى وقفا موقفين آخرين.
وأمر كوثراً صاحب شرطته، فوقف في موضع آخر.
ثم أمرهم أن لا يؤتوا بأسير إلا قتلوه إلا أن يكون عبداً مملوكاً.
فأحصى قتلاهم يومئذ فزاد على ثلاثين ألفاً.
ص: 527
وقتل ابن لسليمان يقال له : إبراهيم وهو أكبر ولده (1).
وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له : خالد، وكان بادناً كثير اللحم، فأدنى إليه، وهو كال مُتعب.
فقال : أي فاسق [67/ب] أما لك في حمر المدينة ونياقها ما يكفيك عن الخروج لتقاتلني ؟!
قال: يا أمير المؤمنين أكرهني فأنشدك الله والرحم.
قال : وتكذب أيضاً كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والرقان والبرابط معك في عسكره؟!
ثم أمر به فقُتل.
وادعى كثير من الأسراء أنهم رقيق، فكفّ عن قتلهم وأمر ببيعهم مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم.
ومضى سليمان مغلولاً حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت، فعسكر بها.
وبنى ما كان أمر مروان (2) بهدمه من سورها.
ووجّه مروان يوم هدمه خيلاً إلى [حصن ] (3) الكامل جريدة ووصاهم أن يستبقوا كل حُر حتى يحدقوا به.
ثم أقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، ثم راسلهم بأن انزلوا على حكمي فقالوا : لا حتى تؤمننا بأجمعنا.
فنصب عليهم المجانيق.
فلما تتابعت عليهم نزلوا على حكمه، فمثل بهم (4)، وكانت عدتهم نحو ثلاثمائة.
ثم عاد إلى ناحية سليمان بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا إلى سليمان، وقال بعضهم لبعض : حتى متى ننهزم من مروان؟ هلموا فلنبايع على الموت، ولا نفترق بعدما نبيته حتى نقتله أو نموت جميعاً، فوطن على الموت نفسه قوم.
وولى سليمان السكسكي على شطرهم وعلى الشطر الباقي نبيتاً البهراني.
فتوجهوا إليه مجتمعين على أن يبيتوه إن أصابوا منهم غرة، فوجدوه متحرزاً في
ص: 528
الخنادق يسير على تعبئته فتهيؤوا - وفي أخرى فتصيبوا - وكمنوا في زيتون (1)، على طريقه، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبية فوضعوا السلاح فيمن معه وانتبذ، ثم نادى في خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنبتين والساقة، فقاتلوهم (2).
والتقى السكسكي وفارس من فرسانه من بني سليم فصرعه السلمي عن فرسه وأسره، وأتى به إلى مروان.
فقال الحمد لرب أمكن منك، وطال ما بلغت منا.
قال : استبقني فإني فارس العرب.
قال : كذبت الذي جاء بك أفرس منك فأمر به فأوثق، وقتل فيمن صير معه نحو من سبعة آلاف.
وأفلت نبيت ومَن انهزم معه.
فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد بن هشام في مدينة حمص وعلم أنه لا طاقة له به.
ومضى هو إلى تدمر.
وترك مروان بحمص عشرة أشهر ونصب عليها نيفاً وثمانين منجنيقاً تخطر عليهما حجارتها ليلاً ونهاراً، وهم في ذلك يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه [68/أ] وربما بيتوا نواحي عسكره.
ولما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه الأمان على أن يمكنوه من سعيد أخي سليمان، وابنيه عثمان ومروان، ومن قوم كانوا يغيرون على عسكره ويشتمونه من السور، فآمنهم (3).
واستوثق من سعيد وابنيه، ومثل بالباقين ثم أقبل متوجهاً إلى الضحاك.
وقد روي أيضاً :
أن سليمان لما انهزم من مروان أقبل إلى ابن عمر، ثم خرج معه الضحاك وبايعه.
وفي ذلك يقول شاعرهم :
ألم تر أن الله أظهر دينه *** وصلت قريش خلف بكر بن وائل
ص: 529
ولما استقام لمروان الشام، وبقي عليها من كان يخالفه، وقتل بها تلك المقتلة العظيمة، وأقبل حتى نزل نهر سعيد بن عبد الملك.
وبلغ ذلك ابن عمر فأعلم ذلك الضحاك فارتحل الضحاك، وأقام ابن عمر بواسط.
وبلغ خبر مروان ملحان الشيباني - وكان عامل الضحاك على الكوفة - فخرج إليه يقاتله، وهو في قلة من الشراة.
فلقي النضر، وكان النضر قد توجه إليه وبلغ القادسية، وصبر في المعركة حتى قتله النضر (1).
وبلغ الضحاك، فأخذ على الموصل لأن أهل الموصل كاتبوه، ودعوه ليمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده حتى انتهى إليها - وعليها يومئذ عامل لمروان من بني شيبان يقال له : القطران بن أكمه - ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك، وقاتلهم القطران في قومه، وجماعة يسيرة من أهل بيته، وثبتوا حتى قتلوا -.
واستولى الضحاك على الموصل، وبلغ خبره مروان.
فكتب إلى ابنه عبد الله، وهو خليفته بالجزيرة ويأمره أن يسير فيمن معه ومَن قدر على جمعه إلى نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط البلاد.
فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطة وهم نحو سبعة أو ثمانية آلاف.
وسار الضحاك من الموصل إلى عدانة بنصيبين، فقاتله، فلم يطقه لكثرة من مع الضحاك، وذاك أن عدتهم بلغت عشرين ومائة ألف يرزق الفارس مائة وخمسين والراجل والبغال مائة ودونها إلى التسعين درهماً في كل شهر.
وأقام الضحاك بنصيبين محاصراً لها.
ص: 530
ووجه بخيل له إلى الرقة، وكان بها خيل لمروان.
ولما بلغ مروان دخولهم الرقة، وجه خيلاً إليها، فلما دنوا منها، انقشع أصحاب الضحاك منصرفين إليها، واتبعتهم [68/ب] خيل مروان، فاستسقطوا من ساقتهم نيفاً وثلاثين رجلاً.
فقطع مروان أيديهم ومضى صامداً إلى الضحاك في جموعه حتى التقيا بموضع يقال له: الغد من أرض كفرتوثا (1)، فقاتله عامة نهاره.
فلما كان عند العشاء نزل الضحاك، وترجّل معه من ذوي النيات نحو من ستة آلاف وأهل عسكره لكثرتهم لا يعلمون بما كان منه.
فأحدقت بهم خيل مروان، وألحوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وقتل فيهم الضحاك.
وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك حتى فقدوه في منتصف الليل، وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بمقتله. فبكوه وناحوا عليه.
وخرج عبد الملك، وهو القائد الذي وجهه إلى الرقة من عسكرهم حتى دخل عسكر مروان حتى تقرّب إليه بقتل الضحاك.
فأرسل معه رُسُلاً من حرسه معهم النيران والشموع إلى موضع فقلبوا القتلى حتى استخرجوه، وأتوا به مروان، وفي وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة. فكبر أهل عسكر مروان فعرف أهل عسكر الضحاك، أنهم قد علموا بذلك.
وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة يطاف به فيها.
ولما قتل الضحاك بايع أهل عسكره الخيبري.
وعاودوا مروان القتال من الغد، وصافهم.
و سليمان بن هشام يومئذ وأهل بيته ومواليه مع الخيبري قد كان قدم على الضحاك في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، وتزوج إليهم أخت شيبان الحروري، وهو الذي بايعوه بعد الخيبري.
فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج من العسكر منهزماً.
ودخل الخيبري فيمن معه عسكره وجعلوا ينادون بشعارهم يا خيبري ويقتلون
ص: 531
من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان فقطعوا أطنابها وجلس الخيبري على فرشه.
وميمنة مروان على حالها وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضاً ثابتة عليها مسلم بن عقيل.
فلما رأى أهل العسكر مروان قلة من مع الخيبري وأصحابه جميعاً في حجرة مروان وحولها.
وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بنحو ستة أميال منهزماً، فانصرف إلى عسكره، وردّ خيوله عن مواقفها وبات تلك الليلة في عسكره.
وانصرف أيضاً عسكر [69/أ] الخيبري، فولوا عليهم شيبان، وبايعوه.
فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس فأبطل تعبئة الصف منه يومئذ.
وفي هذه السنة : وجه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج وكان بالخراج عمال الضحاك، وفيهم عبد الله بن عمر كما حكينا من أمره.
ومضى ابن هبيرة فأخذ على الموصل، وانحط على عرة من عين التمر.
وبلغ ذلك المثنى بن عمر أن عامل الضحاك على الكوفة.
فسار إليه فيمن كان معه من الشراة ومعه منصور بن جمهور قد كان صار إليه حين بايع الضحاك فالتقوا بغرة واقتتلوا اقتتالاً شديداً أياماً متوالية.
فقتل المثنى مع عدة من رؤساء أصحاب الضحاك وهرب منصور بن جهور لا يلوي حتى دخل الكوفة فجمع بها جمعاً من اليمانية والصفرية، ومَن كان تفرّق منهم يوم قتل ملجان ومن تخلف منهم عن الضحاك.
فجمعهم منصور جميعاً، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم بها، فقاتلهم أياماً، ثم هزمهم، وقتل خلق من أصحاب الضحاك.
وهرب منصور بن جمهور، وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى الخوارج عنها.
وفي هذه السنة : وافى الحارث بن شريح مرو من بلاد الترك بأمان الخليفة، فصار إلى نصر، ثم خالفه، وتابعه خلق.
إن الحارث سار إلى مرو مخرجه من بلاد الترك فقدمها يوم الأحد (1) سنة سبع
ص: 532
وعشرين ومائة ويقال : ثمان وعشرين.
فتلقاه سلم بن أحوز، والناس بكشميهن.
فقال له محمد بن عطية العبسي : الحمد لله الذي أقرّ عيوننا بقدومك، وردّك إلى قبة الإسلام، وإلى الجماعة.
قال : يا بني أما علمت أن الكثير إذا كانوا على معصية الله تعالى لم يكونوا جماعة، وأن القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا جماعة، وما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله تعالى.
فلما دخل مرو قال: اللهم إني لم أنو قط في شيء بيني وبينهم إلا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم.
وتلقاه نصر، وأجرى عليه نزلاً خمسين درهماً في كل يوم.
فكان يقتصر على لون واحد.
وأطلق له نصر من كان عنده من أهله، فلما أتاه ابنه محمد قال : اللهم اجعله برًّا تقياً.
وكان قدم الوضاح بن حبيب بن بديل على نصر بن [69 /ب] عبد الله بن عمر، فأتى الحارث وعنده جماعة من أصحابه فقال : إن بالعراق بشهر عظيم عمود له ثقله، وإني أحب أن أراه.
قال : ما هو إلا كبعض ما ترى، وأشار إلى عمده مع قوم وقوف على رأسه.
ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتي.
وكان في عموده ثمانية عشر رطلاً.
وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف، فلم يقبل.
فقال : إني لست من أهل اللذات ومن ترويح عقائل العرب في شيء، أنا أسأل الله كتاب الله والعمل بالسنة، واستعمال أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوك.
ثم قال لنصر : خرجت من هذه البلاد منذ ثلاثة عشرة سنة، إنكاراً للجور، وأنت تريدني عليه.
وأرسل الحارث إلى الكرماني : إن أعطاني نصراً العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته، وقمت بأمر الله تعالى، وإن لم يفعل استعنت بك عليه (1) وتضمن لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه.
ص: 533
فبايعه قوم من رؤسائهم، وانضم إلى الحارث ثلاثة آلاف (1).
ص: 534
وفيها : قتل الحارث بن سريج.
لما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده فبايع لمروان.
وقال الحارث : إنما أمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد فلا آمنه.
فلما دعا الحارث قوماً إلى مبايعته، أتاه مسلم بن أحوز (1)، وخالد بن هزيم،
ص: 535
وقطن بن محمد وأمثالهم، فكلموه وقالوا : ألَمْ يصير نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟
ألم يخرجك من أرض الترك، ومن حكم خاقان؟ وعددوا عليه ما اصطنعه إليه. أتخالفه فتفرق أمر عشيرتك وتطمع فيهم عدوهم؟
فنذكرك الله أن تفرّق جماعتنا.
فقال الحارث : إني لا أرى في عشيرتي شيئاً في ولم يجبهم بما أرادوا (1).
وخرج فعسكر، وأرسل إلى نصر يسأله أن يجعل الأمر شورى، فأبى نصر
وخرج الحارث فأتى منازل آل يعقوب بن داود، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود. فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم وإنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أثر بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس من الدواب، ومائتي بعير، وأحمل إليك من الأموال ما شئت، ومن آلة الحرب، وسر، فلعمري لئن كنت إماماً صاحب الأمر إني لفي يدك، وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك.
فقال الحارث : قد علمت أن هذا حق ولكن لا يتابعني عليه من صُحْبَتي [أحد ] (2).
فقال نصر : قد استبان لك أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم فساق ورعاع، فاذكر الله في عشرين ألفاً من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم.
و عرض نصر على الحارث أن يُوَلِّيه ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل.
فقال له :نصر: إن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك، وإن شئت فخل بيني وبينه فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك فإذا حزت الري فإني في طاعتك فخالفه الحارث وأبى إلا [أن] (3) يجعل الأمر شورى. فأخذ نصر في في التأهب وصير مسلماً المدينة وضم إليه الرابطة (4) مع فرسان ضمهم إلى هدبة بن
ص: 536
عامر، وحول السلاح والدواوين إلى القهندر. وجلس للناس، وكان اتهم قوماً من أصحابه، أنهم كاتبوا الحارث بن شريح، فأجلس عن يساره من اتهم منهم، وأجلس الذين اصطنعهم عن يمينه.
ثم تكلم وذكر بني [18/ أ] مروان ومن خرج عليهم كيف أظهر الله به.
ثم قال لمن عن يمينه :
إني أحمد الله وأذم من عن يساري وليت خراسان فَفَعَلْتُ وصنعت، وذكر حسن بلائه، وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم لما أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقل، فرددناها عليكم ثم فعلت وفعلت، وكان جزائي مالأتم الحارث عليّ، فهلا نظرتم إلى هؤلاء الأحرار، وأومأ إلى من عن يمينه الذين لزموني مواسين لي على غير بلاء.
فاعتذر إليه الناس، فقبل عذرهم وصرفهم ولما انتشر في كور خراسان أمر الفتنة قدم على نصر جماعة من رؤساء الناس ووجوههم.
وكتب الحارث بن شريح سيرته وكانت تقرأ في طرق وفي المساجد، فأجابه قوم كثير.
وأمر نصر فنادى في المدينة : إن الحارث عدو الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأرسل نصر من ليلته إلى جماعة من أصحابه : تهيؤوا للقتال.
فقال له أصحابه: ما نجعل شعارنا؟
فقال مقاتل بن سليمان: شعارنا شعار رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) «حم لا ينصرون» (1) وعلامتهم (2) على الرماح الصوف.
وكان الذي هاج القتال أن غلاماً للنضر بن محمد الفقيه يقال له : عطية، صار إلى
ص: 537
أصحاب مسلم، وانتهوا إلى الحارث وهو يصلي الغداة، فلما قضى الصلاة دنا منهم فرجعوا، ثم دنا من الحارث فاتبعه حماد بن عامر، ومحمد بن زرعة وهو في سكة أبي عصمة، فكسر رمحيهما بعموده، وحمل على مرزوق مولی مسلم فلما دنا منه رمى بنفسه عن فرسه، ودخل حانوتاً وضرب برذونه على مؤخرته فنفق. وركب مسلم حين أصبح وأمر بالخندق فخندقوا وأمر منادياً فنادى : من جاء برأس الحارث فله ثلاثمائة (1).
فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، ومضى مسلم حتى انتهى إلى عسكر الحارث ووجد فيه قوماً فقتلهم، وفيهم كاتب الحارث واسمه: يزيد بن داود، فقتل، ومضى مسلم إلى باب ففتحه وقتل رجلاً كان دل الحارث على نقب (2) في الحائط دخل منه. وأرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على عهد جرى بينهما على يدي القاضي محمد بن ثابت، وحضر القاضي، ومقدام بن نعيم (3)، وسلم بن أحوز (4)، ودعا نصر إلى الجماعة.
فقال الكرماني : أنت أسعد الناس بذلك.
فوقع بين سلم بن أحوز (5) وبين المقدام كلام، فأغلظ له سلم (6)، فأعانه أخوه، وغضب لهم عبد الرحمن الحربي السعدي.
فقال له سلم (7) : لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف.
فقال السعدي: لو مسست السيف لم ترجع إليك يدك.
فخاف الكرماني أن يكون مكراً من نصر، فقام فتعلقوا به، فلم يجلس، ومضى إلى باب المقصورة.
قال : فتعلقوا (8) بفرسه، فركب إلى (9)المسجد، وقال : أراد نصر (10)الغدر بي.
فأرسل الحارث إلى نصر : إِنَّا لا نرضى بك إماماً.
فأرسل إليه : كيف يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك، وغزوت
ص: 538
المسلمين بالمشركين أتراني أتضرع إليك أكثر مما تضرعت.
وأسر يومئذٍ جهم بن صفوان (1) صاحب الجهمية، فقال : أسلم إن لي عقداً من أبيك حارث.
قال : ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أشك ولو ملأت لي هذه الملاءة كواكب، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، لا والله لا تقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت.
وأمر عبد ربه بن سينين، فقتله.
ولما هزم نصر الحارث أتى الحارث فازة الكرماني حتى دخلها، ومع الكرماني داود بن شعيب الحداني، ومحمد بن المثنى، فأقيمت الصلاة فصلى بهم الكرماني فلما كان من الغد سار الكرماني إلى ناحية باب ميدان يزيد (2)، فقاتل أصحاب نصر، فقتل جماعة، وأخذوا عَلَم عثمان بن الكرماني وتقاتلوا يوم الأربعاء، وتحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به وحمل حصین بن تمیم فرموه بالنشاب وحمل عليه حبيس مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الحصين النشاب بیده الیسری فشب به فرسه وطعن [18/ب] حيساً فأرداه عن برزونه وقتله رجّالة الكرماني بالعصي.
فانهزم أصحاب نصر، وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين أخذ أحدهما السعدى، والآخر الحصين، ولحق الحصين سلم بن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمود فضربه وصرعه، فحمل عليه رجلان من تمیم فهرب، فرمی سلم بنفسه تحت القناطر
ص: 539
وبه بضعة عشر ضربة على بيضته فسقط فحمله رجل إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليل خرج نصر عن مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدي، وكان يحمي نصر.
ولما هزمت اليمانية المضرية أرسل الحارث إلى نصر أن اليمانية يعيرونني بانهزامكم، وأنا كاف (1) فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني فبعث إليه نصر يزيد النحوي أو خالد يتوثق منه أن يفي بما بذله من الكف.
وإنما كف الحارث عن قتال نصر لأن عمر بن الفضل الأزدي وأهل بيته، وعبد الجبار بن العدوي، وخالد بن عبيد الله، وعامة أصحابه كانوا نقموا على الكرماني ما فعله أهل سوسكان (2). وذلك أن أسداً كان وجه إليهم فنزلوا إليه على حكم أسد.
فبقر بطون جماعة وألقاهم في نهر بلخ.
وقطع أيدي ثلاثمائة منهم و وأرجلهم.
وقتل ثلاثاً
وصلب ثلاثاً.
وباع أثقالهم فيمن يريد.
فنقموا على الحارث معاونته الكرماني وقتاله نصراً، فأقام نصر بمرو [ثلاثة] (3) أو أربعة أيام ثم خرج إلى نيسابور ومعه سلم بن أحوز، ومسلم بن عبد الرحمن، وقال لنصر : إن الحارث سيخلفني فيكم ويحميكم (4). فلما قرب من نيسابور أرسل إليه أهلها : ما أقدمك وقد أظهرت القصبة، وكان أمراً قد أطفأه الله ؟ - وكان عامل نصر على نيسابور ضرار بن عيسى العامري - فأرسل إليهم نصر بن سيار سناناً الأعرابي، ومسلم بن عبد الرحمن، وسلم بن أحوز، فكلموهم حتى خرجوا وتلقوا نصراً بالمراكب والهدايا والجواري، وقدم من مكة على نصر عبد (5) الحكم بن سعيد، وأبو
ص: 540
جعفر عيسى فقال نصر لعبد الحكم أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟
فقال عبد الحكم: بل سفهاء قومك، طالت ولايتك، وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن حلماً وسفهاً، فغلب سفهاؤهم حلماؤُهم. فقال عباد سيقتل الأمير حسبك من الولاية، فإنه قد أظل أمر عظيم سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة لا محالة ستكون فيغلب على الأمير (1) وأنتم تنظرون وتضطربون.
فقال نصر: ما أشبه أن يكون ما يقول لقلة الوفاء وسوء ذات البين وجهت إلى الحارث وهو بأرض الترك فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى إلا الشغب بمظاهر عليّ..
فقال : أبو جعفر عيسى بن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد.
ولما خرج نصر من مرو وغلب الكرماني عليها، قال الحارث : أنا أريد كتاب الله.
فقال مقاتل بن حيان في كتاب الله هدر الدور، وانهاب المال.
فبلغ الكرماني فحبسه (2) في خيمة في العسكر، فكلمه معمر بن مقاتل بن حيان أخوه، فخلاه.
وأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث وخطب الكرماني الناس، وأمنهم، وعسكر الكرماني في مصلى أسد.
ومضى الحارث إلى باب دَرْوَازَق سرخس (3) فبعث إلى الحارث، فأتاه فأنكر الحارث هدم الدور والانهاب فهم به الكرماني، ثم كفّ عنه.
وخرج بشر بن جرموز الضبي بحرقان فدعا إلى كتاب الله والسنة.
وقال الحارث : إنما قاتلت معك العدل، فأما إذا كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال غلب الحارث وهذه عصبة ولست مقاتل معك واعتزل في
ص: 541
خمسة آلاف، وقال نحن الفئة العادلة ندعو إلى الحق، ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه أن يكون الأمر شوري، فأبى الكرماني وكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني وأصحابه يوصيهم بتقوى الله وطاعته وتحريم ما حرم الله عزّ وجلّ من دمائهم أما بعد :
فإن اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله [19/أ] ونصيحة الله في عباده، فعرَّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف وصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله، ونحن وأنتم [إخوة ] (1) في الدين، وأنصار على العدو، فاتقوا الله وارجعوا إلى الحق، فإنَّا لا نريد سفك الدماء بغير حقها.
وأقاموا أياماً، فأتى الحارث بن شريح ثلمة في الحائط فوسعها (2) عند دور آل هشام بن أبي الهيثم، فتفرق عن أهل البصائر وقال : غدرت وأقام معه نفر (3).
ودخل الكرماني من باب سرخس فحاذى بالحارث ومَرَّ به المنخل الأزدي فقتله السميدع ونادى: يا لثارات لقيط واقتتلوا، الكرماني ميمنة وميسرة، واشتد الأمر بينهما فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، وكان الحارث على بغل، فنزل عنه وركب فرساً فحارب وانهزم أصحابه، فبقي في مائة، فقتل، وقتل أخوه سوادة وجماعة معه نحو مائة (4).
فكف الكرماني، وكان قد قتل من أصحاب الكرماني أيضاً مائة.
وصلب الحارث عند باب مدينة مرو بغير رأس.
كان قتله بعد خروج نصر من مرو بثلاثين یوماً، قتل يوم الأحد لست بقين من رجب. وأصاب الكرماني (5) صفائح ذهب الحارث، فأخذها، وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير.
فقال إبراهيم : بأي شيء تشتمل ماله؟
فقال صالح بن آل الوضاح : اسقني دمه.
فحال بينه وبين مقاتل بن سليمان وأتى منزله وكان الحارث قبل مكاشفة الكرماني ندم على اتباعه إياه.
ص: 542
فلما هَمَّ الكرماني بقتال بشر بن جرموز، وكان عسكر خارجاً عن المدينة قال له الحارث : لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردهم إليك.
فخرج من العسكر في عشرة فوارس حتى أتى عسكر بشر، وهو في خمسة آلاف فأقام معهم وقال ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية.
وجعل المضريون يتسللون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني مضري إلا سلمة بن أبي عبد الله مولى بني سليم فإنه قال : لا أتبع الحارث أبداً، فإني لم أره إلا غادراً، والمهلب بن إياس وقال : لا أتبعه فإني لم أره قط إلا في خيل تطرد.
فقاتلهم الكرماني مراراً يقتتلون ثم يزحفون إلى خنادقهم، فمرة يكون لهؤلاء ومرة لهؤلاء (1)، فالتقوا يوماً وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون للحارث فطعن فصرع، وحماه فوارس تميم حتى تخلص، وعاد البرذون، فلما رجعوا لامه الحارث، وقال : كدت تقتل نفسك.
فقال للحارث : إنما تقول هذا المكان برذونك امرأته طالق إن لم آتك بأفره برذون في عسكرهم فالتقوا من غد فقال مرثد: أي برذون في عسكرهم أفره؟
قال : برذون عبد الله بن دليم الغنوي، وأشاروا له إلى موقفه.
فقاتل حتى وصل إليه فلما غشيه رمى ابن دليم بنفسه عن برذونه وعلق مرثد عنان البرذون في رمحه وقاده حتى أتى به الحارث وقال : هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثداً فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن مرثد تحتك، فنزل عنه وقال: خذه، وقال : أردت أن تفضحني أخذته منا في الحرب، وآخذه منك في السلم.
ص: 543
ويقال : إن الحارث لما أتى حائط مرو ليلاً فنقب فيه باباً ودخله وأصبح الكرماني في أثره داخلاً من الباب، قالت المضرية للحارث : قد تركنا الخنادق، فهو يومنا، وقد فررت غير مرة فترجّل.
فقال : أنا فارساً خير لكم مني راجلا (1).
قالوا: لا نرضى إلا أن ترجل.
فترجل فقتل هو وأخوه بشر بن جرموذ وعدة من فرسان تميم وانهزم الباقون، وصلب الحارث، وصفت مرو لليمن فهدموا دور المضرية. فقالت أم كثير الضبية :
لا بارك في أنثى وعذَّبها *** تزوجت مضريا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة *** أحللتموها بدار الذل والفقر
إن أنتم لم تكرّوا بعد جولتكم *** حتى تعيدوا (2) رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم في بذل طاعتكم *** هذا المروزي (3) يحكم على قهري
وفي هذه السنة : وجه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان [19/ب] وكتب إلى أصحابه :
إني قد أمرت بأمري فاسمعوا منه واقبلوا قوله فإني قد أمرته على خراسان، وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله ولا كتابه، حتى خرجوا من قابل فالتقوا بمكة عند إبراهيم فأعلمه أبو مسلم أنهم لن ينفذوا كتابه ولا أمره.
فقال إبراهيم : إني عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، فأجمعت رأيي على هذا وأشار إليه، وأمرهم بالسمع والطاعة له.
وكان إبراهيم عرض ذلك على سليمان بن كثير، فقال: لا آلى أمر اثنين أبداً (4).
ص: 544
ثم عرض على إبراهيم بن مسلمة فأبى، ثم قال إبراهيم لأبي مسلم : يا أبا عبد الرحمن إنك رجل منا أهل البيت، فاحفظ وصيتي :
انظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت في أمره، ومن كان في أمره شبهة، ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت أن لا تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل وأيما غلام خمسة أشبار بتهمة فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه وإذا أشكل عليك أمر (1) فاكتف به.
وفي هذه السنة: لقي أبو حمزة الخارجي عبد الله بن يحيى طالب الحق، فدعاه إلى مذهبه.
وكان أبو حمزة، واسمه المختار بن عوف الأزدي من أهل البصرة، يوافي الموسم كل سنة، يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وآل مروان حتى وافی عبد الله بن يحيى في آخر سنة، فقال لعبد الله بن يحيى : يا رجل إني أسمع كلاماً حسناً، وأراك تدعو إلى حق، انطلق معي فإني رجل مطاع في قومي.
فخرج به حتی ورد به حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إليه.
وكان أبو حمزة مَرَّ بعدن سليم وكثير بن عبد الرحمن عامل على المعدن فسمع بعض كلامه فأمر به فَجُلِدَ أربعين سوطاً، ثم مضى إلى مكة، فلما قدم أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.
أن الخوارج لما قتل الضحاك بن قيس الشيباني رئيسهم، ثم الخيبري بعده، وَلَّوْا أمرهم شيبان وبايعوه.
وكان مروان مقابلهم، فقال سليمان بن هشام [بن] (1) عبد الملك (... ) (2) الخوارج وهو يومئذ معهم في عسكرهم: إن الذي يفعلون ليس برأيي وإلا انصرف عنكم قالوا: وما الرأي؟
قال : إنَّ (3) أحدكم يظفر، ثم يستغفل فيقتل (4)، فأرى أن ينصرف على حامتنا حتى ينزل الموصل ويخندق فقُبل منه.
وارتحل واتبعه مروان، فكان إذا رحل عن منزل نزل موضعه حتى أتى الموصل، فنزل شيبان بشرقي دجلة من الموصل، وخندق، ونزل مروان بإزائه من غربها وخندق، فأقام سنة يقاتلهم بكرة وعشية. فبرز يوماً ابن أخي سليمان بن هشام وكان مع عمه سليمان في عسكر شیبان فبارزه رجل من فرسان مروان فأسره الرجل وأتى به مروان فقال :
أنشدك الله والرحم يا عم.
فقال : بيني وبينكم اليوم رحم؟!
فأمر به وعمه سليمان وإخوته ينظرون فقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه (5).
فكتب مروان إلى يزيد بن هبيرة يأمره بالمسير من قَرْقِيسياء(6) بجميع من معه إلى
ص: 546
عبيدة بن سوار خليفة خليفة الضحاك من العراق.
فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم، فهزمهم، وغلبهم يومئذ المثنى بن عمران، ثم تجمعوا له بالنخيلة من الكوفة فهزمهم، ثم تجمعوا له بالصراة ومعهم عبيدة، فقتل عبيدة وهزم أصحابه، واستباح عسكرهم فلم يكن لهم بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها.
وكان منصور بن جمهور معهم فمضى حتى غلب على الماهين والخيل وسار سليمان بن هشام حتى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس وبقي ابن عمر بواسط حتى سار إليه ابن هبيرة لما صَفَت له العراق [ فكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق ] (1):
أن أمدني بعامر بن ضبارة في أهل الشام. فأمده به. فسار إلى أهل الشام حتى انتهى إلى السن فلقيه بها الحارث بن كلاب الخارجي فهزم ابن ضبارة حتى أدخله السن فتحصن وجعل مروان يمده بالجنود من طريق البر حتى ينتهوا إلى السن (2) ثم يقطعوا [20/أ] دجلة إلى ابن ضبارة مصعداً حتى كثروا فنهض إلى الجون فقتله وسار ابن ضبارة مصعداً إلى الموصل، فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر انخزل. وكان شيبان لما بلغه مسیر ابن ضبارة خاف أن يأتيه من ورائه، فأرسل إلى الجون مع عدة وافرة لشغله فحصره حتى كان من أمره ما كان، ولحق أصحاب الجون بشيبان وابن ضبارة في أثاره، وكان شيبان والخوارج يقاتلون من وجهين.
نزل ابن ضبارة من ورائهم مما يلي العراق، ومروان أمامهم مما يلي الشام فقطع عنهم المادة، والميرة، وغلت أسعارهم حتى بلغ الرغيف درهماً، ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغال ولا رخيص، فانتقل إلى شهرزور من أرض الموصل، فعاب عليه
ذلك أصحابه، واختلفت (3) كلمتهم.
وارتحل شيبان ومن معه وأخذوا على حلوان الأهواز وفارس.
ووجه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة من قواده في ثلاثة آلاف من رابطته أحدهم مغضب
ص: 547
والآخر شفيق وعطيف، وكتب إليهم يأمرهم باتباعهم، وأن لا يقلع عنهم حتى يدبروهم ويستأصلوهم فلم يزالوا يتبعونهم حتى وردوا فارس، وهم في ذلك يستسقطون من لحق من أخرياتهم حتى تفرقوا وأخذ شيبان في فرقة إلى البحرين فقتل بها. وأقبل عامر بن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية وناهضه القتال فانهزم ابن معاوية ولحق بهراء. وسار سليمان إلى حرفه، فركب السفن فيمن معه من مواليه وأهل بيته إلى السند.
فانصرف مروان إلى منزله من حرَّان (1) وأقام بها إلى أن شخص منها إلى التراب.
وفي السنة : أمر إبراهيم بن محمد أبا مسلم، وكان شَخَصَ من خراسان يريده حتى بلغ قومس [...] (2) بالانصراف إلى شيعته بخراسان وأمره بإظهار الدعوة إليهم والتسويد.
لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خراسان حتى وقعت العصبية.
فلما اضطرب الخيل كتب سليمان بن كثير إلى أبي سلمة الخلال يسأله أن يكتب إلى الإمام حتى يُوجه رجلاً من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبو مسلم - وقد كتبنا خبره فيما تقدم -. ثم كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه يسأله عن أخبار الناس فخرج في النصف من جمادى الآخر مع سبعين نفراً من النقباء بابدار ريعان من أرض خراسان، فعرض له كامل أو ابن كامل، فقال : أين تريدون؟
قالوا : الحج.
ثم خلا به أبو مسلم فدعاه، فأجابه، وكف عنه ومضى أبو مسلم إلى سرود فأقام بها ثم سار إلى نَسَا (3) وعليها سليمان بن قيس السلمي غلاماً لنصر بن سيار، وكان قد
ص: 548
تعرض قبل ورود أبي مسلم لقوم من الشيعة، فأخذهم فبلغ أبا مسلم فتنكب الطريق وأخذ في أسفل القرى حتى أتى قومس وعليها بيهس بن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال : أين تريدون؟
قالوا : نريد الحج.
قال: معكم فضل برذون يتبعونه.
قال أبو مسلم : أما بيعاً فلا ولكن خذ أي دواب شئت.
قال : اعرضوها عليّ فعرضوها عليه فأعجبه برذون منها سمند.
فقال أبو مسلم هو لك، فأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام، وكتاب إلى سليمان بن كثير، وكان في كتاب أبي مسلم:
إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث لقيك كتابي ووجه إلي قحطبة بما معك توافيني به بالموسم.
فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجه قحطبة إلى الإمام.
فلما كان بنسا عرض لهم صاحب مسلحة في قرية من قُرى نسا، فقال لهم : من أنتم؟
قالوا: أردنا الحج، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه. فرفعهم إلى عاصم بن قيس الشامي، فسألهم عن خبرهم فأخبروه.
فقال : ارحلوا على مهل ولا تعجلوا، وأقام عندهم حتى ارتحلوا.
فقدم أبو مسلم بالمفضل فأجابه وقال ارتحلوا وأمر المفضل - وكان على شرطته - أن [] (1) يزعجهم.
فخلا أبو مسلم بالمفضل، فأجابه وقال : ارتحلوا على مهل ولا تعجلوا [20/ب] وأقام عندهم حتى رحلوا.
ص: 549
فقدم أبو مسلم في (1) أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه :
أن أظهر دعوتك ولا تربص.
فنصبوا أبا مسلم، وقالوا رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم ومن بعد ممن أجابهم، فأمروهم بإظهار أمرهم والدعاء [ إليه ].
فنزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سكبدمع (2)، وشيبان، وأبي الكرماني يقاتلان نصر بن سيار فبث أبو مسلم دعاته في الناس وظهر أمره.
وقال الناس : قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كل وجه ظهر يوم الفطر في قرية خالد بن إبراهيم، فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المروي.
ثم ارتحل فنزل باللين (3) وهي قرية لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية.
فأقام اثنين وأربعين يوماً فكان أول فتح أتى أبا مسلم من قبل موسى بن كعب في نيروذ، وتشاغل بقتل عاصم بن قيس ثم جاء من قبيل مرود الروذ، وكان أبو مسلم وجه أبا الجهم بن عطية إلى العلاء بن حريث بخوارزم بالجهار بالدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت، فعرضوا لهم بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجردوها من أغمادها وتجاهدوا أعداء الله وإن شغلهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا (4) بعد الوقت.
فلما كان ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة عقد اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى : «الظل» على رمح طوله ثلاثة عشر وهو يتلو :
«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» [الحج : 39].
ولبس السواد هو وسليمان بن كثير، وأخوه سليم، ومواليه، ومن كان أجاب
ص: 550
الدعوة من أهل اسفندرنج.
وأوقد النار ليلته للشيعة، وكانت العلامة (1)، فتجمعوا له حين أصبحوا.
وتأويل هذين الاسمين : الظل والسحاب تطبق الأرض.
فكذلك دعوة بني العباس تطبق الأرض، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبداً، وكذلك لا تخلو الأرض من خليفة عباس أبد الدهر.
و قدمت على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة فكان أول من قدم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان.
وقدم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم في ألف وثلاثمائة راجل، وستة عشر فارساً.
فجعل أهل التقادم يكبرون من ناحيتهم، وأهل التقادم يجيبونهم بالتكبير، فلا يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفندرنج، وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين. وأمر أبو مسلم أن يزم حصن سفندرنج ويحصن ويدرب سفندرنج بالدروب.
فلما حضر العيد من يوم الفطر بسفندرنج، أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، وأن ينصب له منبراً بالعسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة (2).
وكان يومئذ يبدأ بالخطبة بأذان، ثم الصلاة بإقامة على رسم صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوساً في الجمع والأعياد (3).
وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير في الركعة الأولى أن يكبر ست تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع ويفتتح الخطبة بالتكبير، ثم يختمها بالقرآن.
وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد وفي الثانية ثلاث تكبيرات.
ص: 551
فلما قضى سليمان بن كثير الخطبة والصلاة، انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم وهو في الخندق [فأكلوا مستبشرين، وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا ] (1) كتب إلى نصر بن سيار يكتب للأمير نصر، فلما قوي بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه (2) فكتب إلى نصر : أما بعد :
فإن الله تباركت أسماؤه وتعالى عَيَّر قوماً فقال: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [21/أ] فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» [فاطر: 42، 43].
فتعاظم نصر الكتاب، وأنه بدأ من نفسه (3) وكسر إحدى عينيه (4)، وأطال الفكر ثم قال : هذا كتاب له أخوات.
ولما استقر بأبي مسلم تعسكره بالماخوان أمر محرز بن إبراهيم أن يخندق خندقاً بجيرنج (5) ويجمع إليه أصحابه، ومن نزع إليه من الشيعة فتقطع مادة نصر بن سيار من مرو الروذ من بلخ ومن كور طخارستان.
ففعل ذلك محرزاً، واجتمع إليه في خندقه نحو من ألف رجل.
فأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يوجه رجلاً إلى فندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصاءهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم. فوجه كامل حميد الأزرق الكاتب فأحصى في خندق محرز ثمانمائة رجل... (6) أربعة رجال وأسماءهم وقراهم، فوجه مع من أهل الكوفة فكان يجلب لهم الغنم من هراة إلى مرو، ومن ريع
ص: 552
حرقان، ومن ربع السقادم فلم يزل محرز مقيماً في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو وعطل الخندق بماخوان (1) وإلى أن عسكر بباب مرخى يريد نيسابور، فضم إليه محرزاً وأصحابه. ثم إن نصر بن سيار وَجَّهَ مولى له يقال له : يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ثمانية عشر شهراً من ظهوره.
فوجه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي، ومعه مصعب بن قيس فالتقوا بقرية تدعى: ألين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، فاستكبروا عن ذلك.
فصافهم مالك وهو في نحو من مائتين من أول النهار إلى وقت العصر.
وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي، وإبراهيم بن يزيد، وزياد بن عيسى، فوجههم إلى مالك بن الهيثم فقدموا عليه مع العصر، فقوي بهم.
فقال يزيد مولى نصر بن سيار لأصحابه : إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم، ففعلوا، وترجل أبو نصر، وحرّض أصحابه واجتلدوا جلاداً صادقاً به.
وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان نفراً وأُسر جماعة.
وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر وهو عميد القوم، فأسره، وانهزم أصحابه..
فوجه أبو نصر بالأسير مع عبد الله الطائي وعدة من أصحابه ومعهم الأسرى والرؤوس.
وأقام أبو نصر في معسكره، فقدم الوفد على أبي مسلم في معسكره بسفيدح، فأمر أبو مسلم بالرؤوس فنصبت على باب الحائط الذي في عسكره ودفع يزيد الأسرى إلى أبي إسحاق خالد بن عثمان وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن بعهده.
وكتب إلى أبي نصر مالك بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر [من] (2) جراحاته التي كانت به دعاه أبو مسلم، فقال : إن شئت أن تقيم معنا ويدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالماً وأعطنا عهدك بالله أن لا تحاربنا أبداً، ولا تكذب علينا وأن تقول فينا [خيراً] (3).
ص: 553
فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق (1).
وقال أبو مسلم لأصحابه : إن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح، فإنَّا عندهم على غير الإسلام، وكذلك كانوا عندهم يرجفون بعبادة الأوثان واستحلال الدماء والأموال والفروج.
فلما قدم يزيد على نصر قال : لا مرحباً بك، والله ما استبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا.
قال يزيد : فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم، وأشهد لقد رأيتهم يصلون الصلوات الخمس لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون القرآن، ويذكرون الله كثيراً، ويدعون إلى ولاية آل الرسول (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو ويظهر.
فهذه أولى حرب كانت بين الشيعة العباسية وشيعة بني مروان.
وقد روي مبدأ خبر أبي مسلم رواية أخرى وهي: أن أبا مسلم لما قدم خراسان كان حديث السن فلم يقبله سليمان بن كثير، وتخوّف أن لا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه ورده، وكان أبو داود وخالد بن إبراهيم غائباً وراء النهر الذي يبلغ.
فلما انصرف وقدم مروان وأقرؤوه كتاب الإمام فسأل عن الرجل الذي وجهه وأخبروه أن سليمان [21 / ب] بن كثير ردّه.
فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بن إسماعيل، فقال لهم أبو داود :
أتاكم كتاب الإمام إبراهيم فمن وجهه إليكم فرددتموه فما حجتكم (2) في رده؟
فقال سليمان بن كثير لحداثة سنه وتخوفنا أن لا يقدر على القيام بهذا الأمر أشفقنا على من دعوتنا إليه (3)، وعلى أنفسنا.
ص: 554
فقال أبو داود: هل فيكم من يشك أن الله عزّ وجلّ اختار محمداً (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) وانتخبه واجتباه وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟
قالوا : لا.
قال : فتشكون أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه كتابه فأتاه به الروح الأمين أحل فيه حلاله وحرّم فيه حرامه وشرع شرائعه وسن فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان من قبله وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا : لا
قال : فتشكون أن الله قبضه إليه بعدما أدَّى ما عليه من رسالة ربه؟
قالوا : لا.
قال : فتظنون ذلك العلم الذي أنزله عليه ليقومنا به رفع معه أو خلفه؟
قالوا : بل خلفه.
قال : أفتظنون خلفه عند غير عترته وأهل بيته الأقرب فالأقرب (1)؟
قالوا : لا.
قال : فهل فيكم من إذا رأى من هذا الأمر إقبالاً ورأى الناس مجتمعين إليه بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟
قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك.
قال : لست أقول إنكم فعلتم، ولكن الشيطان ربما نزغ النزغة فيما لا يكون وفيما يكون، [ثم ] (2) قال : فهل فيكم أحد بدا له أن ينصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبي (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)؟
قالوا : لا.
ص: 555
قال : أفتشكون في أنهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم).
قالوا : اللهم لا.
قال : فأراكم قد شككتم في أمركم ورددتم علمهم ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم لم يبعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم وردوه من قومس (1) بقول أبي داود، وولوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوه.
فلم تزل تلك في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود، وأطاعه الشيعة من النقباء وغيرهم.
وأمر أبي مسلم فبث الدعاة (2) في أقطار خراسان ودخل الناس أفواجاً، وكتب إليه إبراهيم في إظهار دعوته، وأن يوجه إليهم قحطبة بن شبيب ويحمل إليه ما اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بها متاع التجار من القوهى (3) والروب والحرير والفريد، وجعلها في سبائك من الذهب والفضة في الأقبية المحشوة، وأشباهها فبعث جميع ذلك مع قحطبة حين اجتمعت القوافل على ما أنفذه.
وفي هذه السنة: تحالفت عامة من كانت بخراسان قبائل العرب على قتال أبي مسلم، وذلك حين كثر أتباع أبي مسلم، وقوي أمره.
لما ظهر أبي مسلم سارع إليه الناس وجعل أهل مرو يأتونه لا يعرض لهم أحد. وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان، وأبو مسلم في خباء ليس له حرس ولا حجاب، فعظم أمره عند الناس وقالوا: ظهر رجل من
بني هاشم له حلم ووقار، وعليه سكينة.
فانطلق عند ذلك فتية من أهل مرو نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في
ص: 556
عسكره فسألوه عن نسبه (1)
فقال : خيري لكم من نسبي.
وسألوه عن أشياء من الفقه.
فقال : إن أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن في شغل، فاعفونا ليتوفى ما أنتم أحوج ونحن إليه.
فقالوا : والله ما نعرف لك نسباً، ولا نظنك تبقى قليلاً حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ لك أحد هذين الأمرين.
قال أبو مسلم : بل أنا أقتلهم إن شاء الله (2).
ورجع الفتية، فأتوا نصراً، فحدثوه.
فقال : جزاكم الله خيراً مثلكم تفقه هذا وعرفه، وأتوا شيبان، فأعلموه.
فقال : نحن قد استحى بعضنا بعضاً، فأرسل إليه نصر : إن شئت فكف عني حتى أقاتله وإن شئت فجيء معي على حربه حتى أقتله أو أنفيه، ثم نعود لأمرنا.
فهمَّ شيبان أن يفعل ذلك، وظهر في [22/أ] العسكر.
وأتت عيون أبي مسلم أبا مسلم فأخبروه، فقال سليمان لأبي مسلم : ما هذا الذي بلغهم تكلمت عند أحد بشيء؟
فأخبره خبر الفتية.
فقال : هذا إذاً لذلك، فكتبوا إلى علي بن الكرماني إنك موتور، قتل أبوك، ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان، وإنما تقاتل لثأرك، فامنع شيبان من صلح نصر.
ص: 557
فدخل على شيبان فكلمه وثناه عن رأيه.
فأرسل نصر إلى شيبان أنك مغرور، وأيم الله إني أرى هذا الأمر يتفاقم حتى تصغرني في جنبه (1).
فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة، وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي، فطرده من هراة.
فقدم عيسى بن عقیل علی نصر منهزماً، وغلب النضر على هراة وغلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عامل نصر بن سيار، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن حازم، فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني : اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر، أو تهلك مضر قبلكم؟
قالوا : كيف ذلك؟
قال : إن هذا الرجل إنما ظهر منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم.
قالوا: فما الرأي؟
قال : صالحوا نصر فإنكم إن صالحتموه قاتلوا (2) نصراً وتركوكم لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصراً صالحوه وقاتلوكم.
ثم عادوا عليه :قالوا فما الرأي؟
قال : قدموهم قبلكم ولو بساعة فتقر أعينكم بقتلهم.
فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة، فأجابه، وأرسل إليه سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتاباً وأتى به شيبان وعن يمينه ابن الكرماني وعن يساره يحيى بن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن هلاك مضر يكون على يديه؟
ثم توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتاباً.
ص: 558
فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك شهراً، فتوادعوا ثلاثة أشهر.
فقال ابن الكرماني : فإني والله ما صالحت نصراً، وإنما صالحه شيبان وأنا لذلك كاره، وأنا موتور ولا أدع قتاله..
فعاوده القتال وأبي (1) شيبان أن يعينه وقال : لا يحل الغرر.
فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيار فأقبل أبو مسلم حتى نزل الماخوان (2)، فأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان يعرفه أني قد أقبلت، وأنا معكم على نصر.
فقال ابن الكرماني لشبل : إني أحب أن يلقاني، أبو مسلم.
فأبلغه ذلك شبل، وأقام أبو مسلم أربعة عشر يوماً، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان (3).
فتلقاه عثمان الكرماني في خيل وسار معه حتى دخل العسكر، وأتى حجرة علي، فوقف حتى أذن له فدخل، وسلم عَلَى عَلِيّ بالإمرة، وقد اتخذ علي له منزلاً في قصر لمخلد بن الحسن الأزدي، وأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان (4) وكان احتفر بها خندقاً، وجعل له بابين، ووكل بكل باب ثقات، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل بن المظفر، ويكنى أبا صالح، وعلى الرسائل (5) أسلم بن صبيح، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب، وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم في الخندق الصلوات، ويقص القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية، وبني مروان.
ولم يزل أبو مسلم كرجل من الشيعة في الهيبة حتى أتاه عبد الله بن بسام بالأروقة (6) والفساطيط (7)، وبآلة المطابخ والمطابخ، والمعالف للدواب، وحياض الأدم للماء.
فاستعمل أبو مسلم داود بن كراز على العبيد وأفردهم عن عسكره، واحتفر لهم خندقاً، ثم أمر أبو مسلم كامل بن مظفر، أن يعرض الجند في الخندق بأسمائهم وأسماء
ص: 559
آبائهم وحلاهم وأن ينسبهم إلى القرى، ويجعل ذلك في دفتر ففعل، وبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل فأعطى كل رجل ثلاثة دراهم، ثم أعطاهم بعد ذلك أربعة، وأربعة على يد أبي صالح كامل.
ثم إن القبائل [22/ ب] من مضر وربيعة، وقحطان تواعدوا على وضع الحروب، وعلى أن تجمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم، وعلى ما يجتمعون عليه (1)، وكتبوا على أنفسهم كتاباً بذلك وثيقاً، وبلغ أبا مسلم الخبر فأقطعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء (2)، فتخوف أن يقطع نصر بن سيار عنه الماء فتحول إلى ألين قرية أبي منصور طلحة زريق النقيب، وخندق بألين خندقاً وجعل شربه وشرب آل ألين من نهر يدعى الحرفان لا يمكن قطعه عنهم.
وخرج نصر بن سيار إليه فعسكر على نهر عياض وفرق قواده حول أبي مسلم ليواقعه، وكان أحد قواده أبو الذيال، فأنزل جنده بطوسان، وكان عامة أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم، وذبحوا بقرهم ودجاجهم وحمامهم، وكلفوهم الطعام والعلف.
فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم فوجه معهم خيلاً، فلقوا أبا الذيال فهزموه وأصحابه، وأسروا منهم جماعة.
فكساهم أبو مسلم وداوى جراحهم، وخلى سبيلهم (3).
ص: 560
وفي هذه السنة : قتل خديج بن علي الكرماني وصلب.
قد ذكرنا مقتل الحارث بن شريح، وأن الكرماني هو الذي قتله، ولما قتله خلصت له مرو، وتنحى نصر بن سيار عنها إلى إيرشهر، وقوي أمر الكرماني، فوجه إليه نصر سلم بن أحوز، فسار في رائطة نصر وفرسانه حتى لقي الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم واقفاً في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزدي وجماعة أخر (1) في ألف من فتيانهم، والسغدي في ألف من أبناء اليمن. فلما توافقوا قال سلم بن أحوز لمحمد بن المثنى : يا محمد، مُرْ هذا الملاح بالخروج إلينا.
فقال محمد لسلم : يا ابن الفاعلة لأبي علي تقول هذا؟!
ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف فانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحاب خلق وقدم أصحابه نصر عليه فلولاً.
وقال له عقيل : يا نصر شامت (2) العرب فأما إذا صنعت ما صنعت فشمر عن ساق وجد.
فوجه عصمة بن عبد الله، فوقف سلم بن أحوز فنادى: يا محمد، لتعلمن أن السمك لا يغلب اللخم (3).
فقال محمد : لتعلمن. فَوَقف لنا إذا وأمَّ (4) محمد السغدي، فخرج إليه في أهل
ص: 561
اليمن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم عصمة حتى أتى نصر وقد قتل من أصحابه أربعمائة، ثم أرسل نصر مالك بن عمير التميمي، فأقبل في أصحابه، فنادى : يا ابن المثنى ابرز لي إن كنت رجلاً، فبرز له فضربه التميمي على حبل عاتقه، فلم يصنع شيئاً، وضربه محمد بن المثنى بعمود فشدخ رأسه والتحم القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل وقد قتل من أصحاب الكرماني ثلاثمائة رجل.
فلم يزل الشر بينهم حتى خرجوا جميعاً إلى الخندقين فاقتتلوا قتالاً شديداً.
ولما علم أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتاب إلى شيبان، ثم يقول للرسول : انطلق فاجعل طريقك على المضرية. فإنهم سيعرضون لك ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها، فيجدون فيها : إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم، ولا خير فيهم، ولا تثقن بهم، ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن یزید الله في اليمانية ما تحب ولئن بقيت لا أدع لهم شعراً ولا ظفراً.
ويرسل رسولاً آخر في طريق آخر فيه ذكر المضرية بمثل ذلك حتى سار هوى الفريقين جميعاً معه (1) وجعل يكتب إلى نصر بن سيار، وإلى الكرماني بمثل ذلك إن الإمام قد وصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم.
وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أول من سود أسيد بن عبد الله الخزاعي بنسا ونادی: یا محمد یا منصور، وسود معه مقاتل بن الحكم وغيره وسود أهل أبيورد (2)، وأهل مرو الروذ، وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق ابن سيار، وخندق خديج [23/أ] الكرماني وهابه الفريقان، وكثر أصحابه وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه حال أبي مسلم وكثرة من معه، وإظهاره أمره، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر :
أرى خلل الرماد وبيض جم *** يوشك أن يكون له مرام
فإن النار من عودين تذكى *** وأن الحرب أوّله الكلام
ص: 562
فقلت من التعجب ليت شعري أ *** أيقاظ أمية أم نيام
فإن يك قومنا أمنوا رقوداً *** فقيل هُبوا فقد حان القيام
وكتب إليه مروان :
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب *** فاحسم البالول (1) قبلك
فقال نصر : أما صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده، وكتب إليه :
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه *** وقد تَثَبَّت (2) أن لا خير في الكذب
إن خراسان أرض قد أصبت بها *** بيضاً لو أفرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت *** لما يطرن فقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَبِ (3)
وإن يطرن لم يختل لهن بها *** يلهبن نيران حرب أيما لهب
فقال : يُريد ولا عليه ألا يكبر، فليس عندي رجل، ولما كتب نصر إلى مروان يخبره خبر (4) أبي مسلم وظهوره وقوته، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، ألفى (5) ورود كتاب نصر على مروان، وقدوم رسول لأبي مسلم كان أرسله إلى إبراهيم بن محمد ومعه جواب إبراهيم عن كتاب لأبي مسلم إليه يلومه أن لا يكون واثب نصراً والكرماني إذا مكناه، ويأمر أن لا يدع بخراسان متكلماً بالعربية إلا قتله.
فدفع الرسول الكتاب إلى مروان.
فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق أن يكتب إلى عامل البلقاء (6) أن يسير إلى كراد والحميمة فليأخذ إبراهيم بن (7) محمد فيشده وثاقاً
فالله أعلم.
ص: 563
ويبعث به في خيل.
فوجه الوليد إلى عامل البلقاء، فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد فحمله الوليد إلى مروان فحبسه في السجن.
رجع الحديث إلى قصة نصر والكرماني وما كان من قتل نصر، الكرماني وصلبه إياه :
وأظهر أبو مسلم لما تفاقم الأمر بين الكرماني وبين نصر أنه مع الكرماني [فقال] (1): ويلك لا تغتر، فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلم إلى الموادعة فندخل مرو، ونكتب بيننا كتاباً للصلح.
وهو يريد أن يُفرق بينه وبين أبي مسلم.
فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في العسكر وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس عليه قرطق (2) (......) (3)، ثم أرسل إلى نصر :
اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب.
فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه ابن الحارث بن شريح في نحو ثلاثمائة فارس، فالتقوا في الرحبة فاقتتلوا فيها طويلاً.
ثم إن الكرماني طعن في خاصرته، فخر عن دابته وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، وصلب معه سمكة.
فأقبل ابنه علي وقد كان صار إلى أبي مسلم فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو.
فأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، وأتاه علي بن جديع فسلم عليه بالإمارة، وأعلمه أنه معه على ما يريد من مساعدته.
وقال : مُرني بأمرك.
قال : قم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري.
ص: 564
وفي هذه السنة: غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على فارس (1).
لما كان سنة تسع وعشرين ومائة لم يكن عند الناس خير تعرفه حتى طلعت أعلام وعمائم سود في روح الرماح وهم سبعمائة، ففزع الناس منهم وقالوا لهم: ما حالكم؟
فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبري منهم.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ على مكة والمدينة في الهدنة.
قالوا: نحن أضن بحجتنا (2) وصالحهم على أنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض حتى تنفر الناس النفر الآخر، ويصبحوا من الغد.
فوقفوا على حده بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد، فلما كانوا بمنی، قدموا عبد الواحد وقالوا له : أخطأت لو حملت بالحجاج [23 / ب ] عليهم ما كانوا إلا أكلة رأس.
ولما كان في النفر الأول نفر عبد الواحد، وخلى مكة لأبي حمزة فدخلها بغير قتال، وهجا الشعراء عبد الواحد (3).
ومضى إلى المدينة، فضرب على الناس البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة.
وفيها: دخل أبو مسلم حائط مرو، وترك دار الإمارة.
ص: 565
إن سليمان بن كثير كان يقول لعلي بن الكرماني : يقول لك أبو مسلم أما تأنف من مصالحة (1) نصر بن سيار، وقد قتل أباك بالأمس وصلبه، وما كنت أحسبك تصلي مع نصر في مسجد واحد فأدرك عليّاً الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب.
فبعث نصر بن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع نصر وبعث ربيعة وقحطان إليه بمثل ذلك.
فتراسلوا أياماً، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يجتاز أحدهما، ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة وقحطان (2) فإن السلطان في مضر، في مصر وهم عمال مروان، وهم قتلة (3) يحيى بن زيد، فقدم الوفدان، وكان في وفد مضر عقيل بن مصقل، وعبد الله بن عبد ربه في رجال منهم.
وكان في وفد قحطان عثمان بن الكرماني ومحمد بن المثنى في رجال منهم، فلما دخلوا على أبي مسلم كان معه سبعون رجلاً من الشيعة ليختاروا أحد الفرقين.
فلما فرغ من قراءة الكتاب قام سليمان بن كثير فتكلم، وكان سليمان خطيباً مفوّهاً، فاختار علي بن الكرماني وأصحابه، ثم قام رجل (4)بعد رجل من وجوه الشيعة فتكلموا بنحو كلام سليمان. ثم قام مرثد بن شفيق (5) فقال : مضر قتلة آل النبي (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) وأعوان بني أمية وشيعة مروان [ الجعدي وعماله ] (6) ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في
ص: 566
أيديهم، ونصر بن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ (1) أموره ويدعو له على منبره ويسميه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك براء، وقد اخترنا علي بن الكرماني، وأصحابه من كرمان وأصحابه من قحطان وربيعة، فضح من كان في البيت بأن القول ما قال مرثد (2) بن شفيق فنهض وفد مضر عليهم الكآبة والذلة.
ووجه معهم أبو مسلم القاسم بن مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم.
ورجع وفد علي بن الكرماني مسرورين ومنصورين (3) وقال أبو مسلم للشيعة استعدوا للشتاء. فقد أعفاكم الله من اجتماع كلمة العرب وصيرهم إلى افتراق، وكان ذلك من الله قدراً مقدوراً.
وكان حائط مرو في يد نصر لأنه عامل خراسان فأرسل علي بن الكرماني إلى أبي مسلم : أن أدخل مع عشيرتي ممن قبلي فتغلب على الحائط (4).
فأرسل إليه أبو مسلم إني لست آمن أن تجمع يدك ويد نصر بن سيار [على محاربتي، ولكن ادخل أنت ] (5).
فدخل علي بن الكرماني، فأنشب الحرب وبعث أبو مسلم أبا علي شبل بن طهمان النقيب في خيل، فدخلوا الحائط ونزل شبل [بقصر بخارى فأخذه ] (6) وبعثوا إلى أبي مسلم: أن ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان وعلى مقدمته أسد (7) بن عبد الله، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم [الخزاعي] (8)، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع [التميمي] (9) حتى دخل الحائط (10) والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ» [القصص : 15].
ص: 567
ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة الذي ينزله عمال خراسان.
و هرب نصر بن سيار وصفت مرو لأبي مسلم، فأمر أبا منصور هذا أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين استجابوا له سنة ثلاث ومائة، وكان مفوّهاً نبيلاً فصيحاً عالماً بحجج الهاشمية [ ومعايب (1) الأموية]. وكان أبوه حَيّاً يكنى أبا دب، وكان شهد حرب عبد الرحمن بن الأشعث وصحب محمد بن أبي صفرة، وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور، ويدعوه بالكنية يا أبا طلحة، ما تقول؟ وما رأيك؟
وكانت بيعته أبايعكم على كتاب الله وسنة نبيه (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) عليكم بذلك عهد الله وميثاقه [24/أ] والطلاق والعتاق والمشي إلى بیت الله عز وجل، وعلى أن لا تلوا (2) رزقاً ولا طمعاً (3) حتى تبدأكم به ولاتكم، وإن كان عدوكم أحدكم تحت قدميه ألأ تهيجوه إلا بأمر ولاتكم.
فلما جلس أبو مسلم، [و] (4) سلم بن (5) أحوز، ويونس بن عبد الله، وعقيل بن معقل وأصحابه شاوروا أبا طلحة، فقال له اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر.
فأقدم عليهم أبو مسلم فقتلهم وكانت عدتهم أربعة وعشرين رجلاً صناديد.
ويقال : إن أبا مسلم لما دخل دار الإمارة بمرو أرسل إلى نصر مع لاهز بن قريظ و قریش بن شقيق وعبد الله بن البختري يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرضا من آل محمد فلما رأى نصر ما جاءه من اليمانية، وربيعة، والعجم وأنه لا طاقة له بهم أظهر قبول ما بعث به إليه على أن يأتيه فيبايعه فجعل يرشيهم (6) لما هم به من الغدو (7)
ص: 568
والهرب إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلهم، فلم يتيسر لهم الخروج في تلك الليلة، ولكن القابلة، فلما كان صبح تلك الليلة عبأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل في تعبئتها إلى بعد الظهر وأرسل إلى نصر لاهز بن قريظ وقريش بن شفيق وعبد الله بن البحتري، وعدة من أعاجم الشيعة فدخلوا على نصر، فقال لهم : ما أسرع ما عدتم؟
فقال له لاهز بن قريظ : لا بد من ذلك. فقال نصر : أمَّا إذا كان لا بد منه، فإني أتوضأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبي مسلم فإن كان هذا رأيه [وأمره] (1) أتيته ونعمى عين وكرامة وأنا أتهيأ (2) إلى أن يجيء رسولي فقام نصر كأنه يتوضأ.
فلما قام قرأ لاهز بهذه الآية: «يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» [القصص : 20].
فدخل نصر حجرته ومعه تميم ابنه، والحكم بن نميلة، وحاجبه، فخرج من خلف حجرته عند دخول وقت الصلاة حين أظلم الوقت هارباً ولما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا من منزله فوجدوه قد هرب (3). فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر، فأخذ ثقات أصحابه وصناديد مضر الذين كانوا في عسكر نصر فكتفهم، وكان فيمن أخذ سلم بن أحوز وغيره واستوثق منهم بالحديد ووكل بهم حتى قتلهم، كما حكينا قبل (4).
ومضى نصر حتى نزل سرخس فيمن اتبعه، وكانوا ثلاثة آلاف ومضى أبو مسلم، وعلي بن جديع في طلبه، فركضا ليلتهما حتى أصبحا في قرية تدعى: نصرانية فوجدا نصراً قد خلف امرأته المرزبانية فيها ونجا بنفسه.
فرجع أبو مسلم، وعلي بن جديع إلى مرو، وقال أبو مسلم للقوم الذين وجههم إلى نصر : ما الذي أرياب به منكم؟
قالوا: لا ندري.
قال : فهل تكلم أحد منكم؟
ص: 569
قالوا: لا ندري؟
قال بعضهم : تلا لاهز :
«إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» [القصص : 20].
قال : هذا الذي دعاه للهرب، ثم قال : يا لاهز تدغل (1) في الدين؟ ثم قدمه فضرب عنقه.
وفي هذه السنة : قتل شيبان الحروري.
كان علي بن جديع وشيبان مجتمعين على قتال نصر بن سيار لمخالفة شيبان نصراً لأن شيبان خارجي، وعلي بن خديع يخالف نصراً لأنه يماني ونصر مضري، ولأن نصراً قتل أباه وصلبه فلما صالح علي بن الكرماني أبا مسلم وصالح شيبان، تنحى شيبان عن مرو، لأنه علم أن لا طاقة له بأبي مسلم وعلي بن خديع مع تألفهما واجتماعهما على خلافه.
وقد هرب نصر من مرو، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه إلى بيعته.
فأرسل إليه شيبان: بل أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل إليه أبو مسلم إن [لم] (2)تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك [الذي أنت فيه ] (3).
فأرسل إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى.
فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إليه جمع من بكر بن وائل.
فبعث إليه أبو مسلم تسعة من الأزد فيهم المنتجع بن الزبير يدعوه [إلى] (4) المسالمة.
فأرسل شيبان إلى رسل أبي مسلم فحبسهم. فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث بأبيورد (5) يأمره أن يسير إلى شيبان يقاتله.
ففعل فهزمه بسام واتبعه [24/ب] حتى دخل المدينة فقتل شيبان وعدة من بكر بن وائل.
فقيل لأبي مسلم، فقدم واستخلف على عسكره (6). ولما قتل شيبان رجل من بكر بن
ص: 570
وائل يقال له : خفاف، أرسل أبي مسلم الذين كان حبسهم شيبان فأخرجهم وقتلهم (1).
وفي هذه السنة: قتل أبو مسلم عليّاً وعثمان ابني جديع الكرماني.
كان السبب في ذلك أن أبا مسلم وجه أبا داود إلى بلخ (2)، وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري. فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ وغيرها من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ بمن معه. فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه لمكانه يحيى بن نعيم.
فخرج أبو داود وكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم بما دهم العرب من أبي مسلم وسأله أن تصير أيديهم واحدة.
فأجابه، فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيري ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وأهل بلخ، والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر ودونه، نزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ.
وخرج إليه يحيى بن نعيم ومن معه حتى اجتمعوا حتى صارت كلمتهم واحدة مصريهم، ويمانيهم، وربيعهم، ومن معهم من العجم على قتال المسودة ويعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيان النبطي، كراهة أن تكون لواحد من الفرق الثلاثة. وكتب أبو مسلم إلى أبي داود يأمره بالانصراف فانصرف أبو داود بمن كان معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان (3).
وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشي مسلمة فيما بين القود وبين قرية يقال لها : يا مديان (4) لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم.
ص: 571
لما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما واصطفوا للقتال أمر أبو سعيد القرشي أن يأتي زياد وأصحابه من خلف فرجع.
وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سوداً، فلما خرج عليهم من سكك القود من ورائهم نظروا إلى الرايات السود فظنوها كميناً لأبي داود وكان القتال قد نشب بين الفريقين.
فانهزم زياد وأصحابه واتبعهم أبو داود فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان (1) وقتل عامة رجالهم المتخلفين.
ونزل أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل بلخ، واستصفى أموال من قتل بالسرجنان (2)، ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود.
ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه نضر بن صبيح المري على بلخ.
وقدم أبو داود فاجتمع رأي أبي داود ورأي أبي مسلم على أن يفرق بين علي وعثمان ابني الكرماني.
فبعث أبو مسلم عثمان عاملاً على بلخ، فلما توجه إليها استخلف الفرافصة بن ظهير على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من الترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا مع أصحاب ابن جديع، وهزموا أصحاب عثمان، وغلب على بلخ المضرية، وأخرجوا الفرافصة (3). وبلغ الخبر عثمان بن جديع والنضر بن صبيح وهما
ص: 572
بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، وأقبل أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهزموا من تحت ليلتهم، فقصر النضر في طلبهم رجاء أن يفوتوا.
وجد أصحاب عثمان حتى لقوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم أصحاب عثمان وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضرية إلى أصحابهم.
ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ وسار أبو مسلم ومعه علي بن جديع إلى نيسابور، واتفق رأي أبي مسلم ورأي أي داود على أن يقتل أبو مسلم عليّاً، ويقتل أبو داود عثماناً في يوم واحد. فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان إلى الجبل فيمن معه من أهل مرو ويمانية أهل بلخ وربيعتهم. [25/أ] فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحقه على شاطئ نهر بوحس من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه فحبسهم، ثم ضرب أعناقهم جميعاً. وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن جديع، وقد كان أمره أبو مسلم أن يسمي له خاصته ليوليهم ويأمرهم بجوائز، فسماهم له، فقتلوهم جميعاً.
وفي هذه السنة : قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفاً من عند إبراهيم بن محمد، ومعه لواء عقده له إبراهيم، فوجهه أبو مسلم على مقدمته وضم إليه الجيوش، وجعل إليه العدل والولاية وكتب إلى الجنود بالسمع له والطاعة.
فوجه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر - وكان أصحاب شيبان الحروري بعد قتله لحقوا بنصر وهو بنيسابور - وتوجه قحطبة في قواده، فأخذ جمهور بن مراد، وهو أحد القواد على ناحية بيورد.
وأخذ القاسم بن مجاشع وهو أحد القواد على ناحية سرخس.
وتوجه قحطبة ناحية طوس. ومعه وجوه القواد، كأبي عون، وخالد بن برمك،
ص: 573
وحازم بن خزيمة وعثمان بن نهيك، وأمثالهم، فلقي من بطوس وانهزم، ودفعوا إلى مضيق، وكان من مات منهم [من] الزحام أكثر ممن قتل وبلغ عدة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفاً.
وتوجه قحطبة إلى السودان، وهو معسكر تميم ابن نصر والنابئ.
وكان قحطبة قد وجه على مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل فسار إليه، وبقي تميم والثاني لقتاله.
فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله، وأنه لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله وأعلمه أنهما في ثلاثين ألفاً من صناديد أهل خراسان وفرسانهم.
فوجه قحطبة مقاتل بن حكيم العسكر في ألف، فقدما عليه وقوي بهما أسيد.
وبلغ تميماً والنابئ فكسرهما، ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه وعبأ ميمنته وميسرته، ثم زحف إليهم ودعاهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى الرضا من آل رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) فلم يجيبوه فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل منهم مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم، وانهزم النابئ فتحصن في المدينة وأحاطت به الجنود فنقبوا المدينة، ودخلوها، فقتلوا النابئ ومن كان معه وهرب عاصم بن عمر وسالم بن راوية إلى نصر بن سيار بنيسابور فأخبراه بقتل تميم والنابئ ومن والنابي ومن كان معهما.
فصير قحطبة قبض ما في العسكر المهزوم إلى خالد بن برمك.
وارتحل نصر هارباً في أهل أيرشهر حتى نزل قومس، وتفرق عنه أصحابه.
فسار إلى جُرْجَان (1) وفيها نباتة بن حنظلة من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة.
ص: 574
كان يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر حنظلة الكلابي إلى نصر مدداً له في خيل عدة وعتاداً فسار إلى أصبهان، ثم سار إلى الري، ومضى إلى جرجان ولم ينضم إلى نصر. وخندق نباتة، وكان إذا وقع خندق في دار قوم وسوه ناجزه حتى صار خندقه نحواً من فرسخ، وأرسل قحطبة إلى جرجان في سنة ثلاثين ومائة، وذلك في ذي القعدة منها، وقد تعبأ وجعل على مقدمته (1) الحسن بن قحطبة.
وقال قحطبة : يا أهل خراسان استبصروا، فإنكم تسيرون إلى بقية قوم حرقوا بيت الله. وأقبل الحسن بن قحطبة حتى نزل على تخوم خراسان، وأنفذ قوماً إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له : ذؤيب، فبيتوهم، وقتلوا ذؤيباً وسبعين من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن. وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة وكان أهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها.
فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك، وبلغ ذلك قحطبة، فقام فيهم خطيباً، وخطبة قحطبة قوّت قلوب أصحابه قام فقال: يا أهل خراسان، إن هذه البلاد كانت لآبائكم [25/ب] الأولين وكانوا ينصرون على أعدائهم لعدلهم وحسن سيرتهم، فلما بدلوا وظلموا سخط الله عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط الله عليهم أذل أُمَّة كانت في الأرض عندهم فغلبوهم على بلادهم واستنكحوا نساءهم وأسروا (2) أولادهم، وقتلوا آباءهم، وكانوا على ذلك يحكمون بالعدل، ويوفون بالعهد، وينصرون المظلوم ثم بدلوا، وغيروا، وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البرّ، والذين هم من عترة (3)رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم) فسلطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم، ليكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثّأر، وقد عهد إلي الإمام عليه السلام، أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة، فينصركم الله عليهم فتهزمونهم، وتقتلونهم.
ص: 575
وكان قرأ على قحطبة كتاب من أبي مسلم.
أما بعد فناهض (1) عدوك بجد فإن الله ناصرك، فإذا ظهرت عليهم، فأثخن في القتل.
فالتقوا في مستهل ذي الحجة واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض فقتل نباتة، وانهزم أهل الشام، فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف.
وبعث إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حية. وكان من عظيم ما شوهد في تلك الحرب سالم بن راوية التميمي، وكان ممن هرب من أبي مسلم وخرج مع نصر، ثم سار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان في هذه الوقعة فلما انهزم الناس بقي فثبت وقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائي وهو من الفرسان فضربه سالم بن راوية على وجهه، فاندر عينه، ثم قاتلهم حتى اضطر إلى مسجد فدخله ودخلوا عليه، وكان لا يشد في ناحية إلا كشفها، فعطش فنادى شربة، فوالله لا يقعن بهم شراً يومي هذا، فلم يقدروا عليه أحد حتى حرقوا عليه سقف المسجد، ورموه بالحجارة حتى قتلوه وجاؤوا برأسه إلى قحطبة، وليس في وجهه ولا رأسه مصح (2).
فقال قحطبة والناس : ما رأينا مثل هذا قط.
وفي هذه السنة : كانت الوقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة.
كنا حكينا أن عبد الواحد بن سليمان رجع إلى المدينة، وضرب على البعوث، واستعمل عبد العزيز بن عمر بن عثمان على الناس فخرجوا حتى نزلوا قديداً (3)، وكانت الحياض هناك، وهم قوم مغترون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يَرُعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم فقتلوهم وكانت المقتلة على قريش، وكانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة.
ص: 576
ودخل أبو حمزة مدينة رسول الله (صلَّیٰ اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وسَلَّم)، وهرب عبد الواحد إلى الشام فأحسن السيرة، وخطب الناس فذكر جور بني مروان، وآل أمية، وأشهر الناس حتى سمعوه يقول في خطبته : يا أهل المدينة من رَبَى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر.
ثم إن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف واستعمل عليهم ابن عطية، وأمره بالجند في المسير، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار وفرساً عربياً وبغلاً لثقله، وأمره أن يقاتلهم، فإذا ظفر مضى حتى بلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى ومن تبعه فخرج حتى نزل بالمعلى (1)، ثم سار إلى وادي القرى فلقيهم حمزة [فأمرهم أن] (2) لا يقاتلونهم حتى يختبروهم.
قال : فصاحوا بهم ما تقولون في القرآن وعمل به؟ فصاح ابن عطية : وما عليك یا فاجر؟
قال: نحن مسلمون ولا نقاتلكم إلا ببيان، فأخبرونا عن القرآن وفرائضه.
فصاحوا نضعه في بيوتنا ثم نقاتلكم.
ثم سألوهم عن أشياء [أخرى] أجابوهم عنها بقبائح، إلى أن قالوا: فما تقولون في مال اليتيم؟ فصاح صائح : نأكل ماله ونفجر بأمه.
فحينئذ قاتلوهم حتى أمسوا، ثم صاحوا: ويحك يا ابن عطية، إن الله جعل الليل سكناً فاسكن نسكن.
فأبى وقال لأصحابه : هذا وهن منهم، فجدوا، ففعل حتى قلتهم، وانهزم (3) من انهزم منهم.
فلما رجعوا إلى المدينة منهزمين تلقاهم أهلها فقتلوهم، ومضى ابن عطية إلى مكة، واستخلف على المدينة عروة بن الوليد بن عطية (4)، ثم مضى من مكة إلى اليمن، واستخلف على مكة ابن ماعز، رجل من أهل الشام.
ص: 577
وبلغ عبد الله بن يحيى [طالب الحق] (1) وهو بصنعاء مسیره، فأقبل إليه بمن معه وقاتله، فقتل عبد الله بن معاوية وتفرق [26/ أ] أصحابه.
ودخل ابن عطية صنعاء، وبعث برأس عبد الله بن معاوية إلى مروان.
وفي هذه السنة : قتل قحطبة من أهل جرجان زهاء ثلاثين ألف رجل، وذلك أن أهل جرجان كان أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة، فبلغه ذلك، فاستصغرهم (2)،فقتل منهم من ذكرت.
ولما بلغ نصر بن سيار قتل نباتة، ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس ارتحل حتى نزل خُوار (3) الري.
وكتب أبو مسلم إلى زياد بن زرارة القشيري بعهده إلى نيسابور.
وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتبع نصراً فوجه قحطبة العكي على مقدمته، وسار حتى نزل بنيسابور فأقام بها شهر رمضان وشوالاً.
ونصر نزل بقرية من قومس، فكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمده ويعظم الأمر عليه.
فجلس ابن هبيرة بوجوه خراسان ليعلموه شدة الأمر عندنا وسألته المدد، فاحتبس رسلي، ولم يمدني أحد وإنما أنا بمنزلة من أخرج من حجرته إلى داره، ثم أخرج من داره إلى فناء داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره، وإن أخرج إلى الطريق فلا بقية له.
فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمد نصراً، وأجاب نصراً بعلمه ذلك.
فكتب نصر إلى ابن هبيرة يسأله أن يعجل إليه الجند، فإني قد كذبت أهل خراسان حتى ما يصدق أحد منهم لي قولاً، فأمدني بعشرة آلاف قبل أن تمدني بمائة ألف، ثم لا تغني شيئاً.
ص: 578
[وفيها] (1) : وارتحل نصر من قومس حتى نزل الخوار، وأميرها أبو بكر العقيلي، وكان قحطبة وجه ابنه الحسن إلى قومس، ثم وجه قحطبة أبا كامل، وأبا القاسم محرز بن إبراهيم، وأبا العباس المروزي إلى الحسن في سبعمائة فلما كانوا قريباً منه انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصر فصار معه، وأعلمه مكان الجند الذين خلفهم.
فوجه نصر إليهم جنداً، فأتوهم وهم في حائط، فحصروهم فنقب عليهم، فهرب القوم وخلفوا متاعهم، فأخذه أصحاب نصر فبعث به نصر (2) إلى ابن هبيرة.
وكان ابن هبيرة (3) قد أمَدَّ نصراً بغطيف (4) في ثلاثة آلاف، وقد بلغ الري فعرض غطيف لمّا أنفذ نصر فأخذ الكتاب من رسول نصر، والمتاع وبعث به مع صاحبه إلى ابن هبيرة.
فغضب نصر وقال : يُتْلِف ابن هبيرة الشعب عَلَيَّ تصنعاً بسر بئس أما والله لأدعنه فليعرفن أنه ليس بشيء ولا ابنه (5) الذي تَرَبَّص له الأشياء. وسار نصر نحو الري، وعلى الري حبيب بن يزيد (6) النهشلي.
فلما بلغ غطيفاً قرب نصر من الري فخرج متوجهاً إلى همذان وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي فلما..... (7) غطيف مالكاً في همدان عدل منها إلى أصفهان إلى عامر بن ضبارة، ولم يلتق نصر مع غطيف.
ثم مرض نصر فحمل حملاً وتوجه إلى همذان، فمات في الطريق.
فبلغ الحسن موت نصر، فبعث خزيمة بن حازم إلى سِمْنَان (8) وأقبل قحطبة من
ص: 579
جرجان، وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان ندم على اتباع أبي مسلم، فانخزل عن قحطبة، وأخذ طريق أصبهان يريد عامر بن ضبارة.
فوجه قحطبة خلف المسيب بن زهير فلحقه من عند العصر فقاتله، وانهزم زیاد، وقتل عامة من صحبه، ورجع المسيب إلى قحطبة. ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن.
وقدم خزيمة بن حازم من الوجه الذي كان وجهه فيه الحسن، وَقَدَّم قحطبة ابنه إلى الري.
وبلغ حبيب بن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشام سير الحسن، فخرجوا عن الري، فقدمها الحسن، وأقام حتى قدم أبوه وكتب قحطبة إلى أبي مسلم بنزوله الري.
وفي هذه السنة : تحول أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، وذلك لما ورد عليه كتاب قحطبة بنزوله الري. ووجه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث إلى همدان.
فلما توجه إليها خرج منها مالك بن أدهم فنزل قوم من أصحاب مالك دواوينهم بعد أن بدلها لهم، وسار مالك إلى نهاوند (1) فيمن تبعه.
وسار الحسن فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، فأمد أبو قحطبة بأبي [26/ب] الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة ووصاه أن يحاصر المدينة، فذهب حتى حاصرها.
وفي هذه السنة: قتل [عامر بن] (2) ضبارة واستبيح عسكره.
كان السبب في ذلك أن ابن ضبارة لما هزم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن
ص: 580
جعفر بن أبي طالب تبعه إلى كرمان ليلحقه.
وورد عليه يزيد بن عمر بن هبيرة بقتل نباتة بن حنظلة بجرجان، فكتب إلى عامر بن ضبارة، وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسير إلى قحطبة، وكان بكرمان.
فسار في خمسين ألفاً حتى نزل أصبهان بمدينة حيّ.
وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر، فبعث قحطبة مقاتلاً، وأبا حفص المهلبي، وموسى بن عقيل، ومالك بن طريف في جماعة أمثالهم وعليهم جميعاً العكي (1) فسار حتى نزل قُم (2).
وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن على أهل نهاوند فأراد أن يأتيهم مغيثاً لهم، وبلغ الخبر العكي فبعث إلى قحطبة يعلمه، ووجه زهير بن محمد إلى قاشان (3) وخرج العكي من قم، وخلف بها طريف بن عجلان، وكتب إليه يأمره أن يلبث بقم مقاوماً حتى يقبل عليه.
وأقبل قحطبة من الري وبلغه تلاقي طلائع العسكرين فلما لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكي ضمه مع عسكره إلى عسكره وسار عامر بن ضبارة إليهم وعسكر قحطبة فرسخ، ثم نهد إليه فالتقوا، وكان قحطبة في عشرين ألفاً، وابن ضبارة في مائة وخمسين ألفاً.
ص: 581
فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح، ثم نادى يا أهل الشام ندعوكم إلى ما في هذا المصحف فشتموه، وأفحشوا له في القول.
فقال قحطبة : احملوا على اسم الله، فحمل عليهم العكي، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئاً لا يدري ما عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبَعث بالفتح إلى ابنه الحسن (1).
وكان السبب في هزيمة ابن ضبارة أنه كان في خيل لا رجالة معه، وكان قحطبة معه خيل ورجال، فلما رمى الرجالة الخيل بالنشاب، انهزم أصحاب ابن ضبارة، فنزل ابن ضبارة في العسكر، ونادى إليَّ إليَّ،، فمضى أصحابه ووطؤوه، فحطبة في أثرهم حتى انتهوا إلى ابن ضبارة فقتله. وكان داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة فيمن انهزم، فسأل عامر عنه، فقيل : انهزم...
فقال : لعن الله شرنا منقلباً، فقاتل حتى قتل.
وفي هذه السنة : كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن لجأ إليها من جنود مروان بن محمد.
لما قتل ابن ضبارة ورد خبره إلى الحسن بن قحطبة كبر وكَبَّر جنده.
فقال عاصم بن عمر: ما صاح هؤلاء إلا بقتل ضبارة، فأفرجوا عن الحسن بن قحطبة قبل أن يأتيه أبوه أو مدد من قبله، فلا تقومون له.
فقال للرجالة : تخرجون وأنتم فرسان على خيول، فتذهبون وتخلفوننا.
فقال لهم ابن أدهم (2) الباهلي: كتب إليَّ ابن هبيرة، ولا أبرح حتى يقدم علي.
فأقاموا وأقام قحطبة بأصبهان (3) عشرين يوماً، ثم سار حتى قدم على الحسن
ص: 582
بنهاوند، فحصرهم ودعاهم إلى الأمان فأبوا فوضع عليهم المجانيق. فلما اشتد عليهم الأمر، طلب مالك الأمان فوفَّى لهم قحطبة ولم يقتل منهم أحداً، وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان إلا الحكم بن ثابت بن أبي مسعر.
وقتل من أهل خراسان أبا كامل، وحاتم بن الحارث بن شريح وابن نصر بن سيار وعاصم بن عمير، وعلي بن عقيل، وبيهس بن بديل، ورجل من ولد عمر بن الخطاب يقال له البحتري. ويقال: ابن قحطبة كان أرسل إلى أهل خراسان بنهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، وأعطاهم الأمان، فأبوا ذلك.
ثم أرسل إلى أهل الشام في مثل ذلك فقبلوا الأمان، وبعثوا لقحطبة : أن اشغل أهل المدينة [27/أ]، حتى نفتح الباب وهم لا يشعرون.
ففعلوا ذلك وشغل قحطبة أهل المدينة بالقتال ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه. فلما رأى أهل خراسان الذي في المدينة، وخروج أهل الشام، سألوهم عن سبب خروجهم، وقالوا : خذوا الأمان لنا ولكم.
فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قواد أهل خراسان، ثم أمر مناديه أن ينادي (1) : من كان في يده أسير ممن خرج إلينا من المدينة فليضرب عنقه، وليأتنا برأسه.
ففعلوا، فلم يبق من الذين كانوا معه وهربوا من أبي مسلم وصاروا في ذلك الحصن إلا قتل ما خلا أهل الشام، فإنه خُلي سبيلهم وحلفَهُم أن لا يماكثوا عليه عدواً.
ووجه قحطبة الحسن ابنه إلى مرج القلعة، فَقَدَّم الحسن حازم بن خزيمة إلى حلوان (2)، وعليها عبد الله بن العلي الكندي، فهرب من حلوان وتلاها.
ووجه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني، ومالك بن طواف الخراساني في أربعة آلاف إلى شَهْرَزُور(3) وبها عثمان بن سفيان على مقدمته
ص: 583
عبد الله بن مروان.
فقدم ابن عون، وقاتل عثمان قتالاً شديداً، ثم هرب عثمان واستباح ابن عون عسكره، ولما بلغ مروان خبر ابن عون وهو بحران ارتحل ومعه جنود أهل الشام، والجزيرة، والموصل، ونشرت معه بنو أمية أبناءهم، وسار مقبلاً حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق، حتى نزل الزاب الأكبر، وأقام ابن عون بشهرزور، وفرض بها لخمسة آلاف رجل.
وفي هذه السنة : سار ابن قحطبة نحو ابن هبيرة ولما قدم على ابن هبيرة ابنه مهزماً من حلوان خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى قتال قحطبة في عدد كثير لا يحصى.
وكان مروان أمد ابن هبيرة بحوثرة بن سهيل الباهلي فسار ابن هبيرة حتى نزل جلولاء الوقيعة، فارتفع إلى عُكْبَرَا وأجاز قحطبة دجلة ومضى حتى نزل ما دون الأنبار.
وارتحل ابن هبيرة في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة.
وقطع قحطبة الفرات من دمما (1) حتى صار في غربيه.
ثمّ سار يزيد إلى الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة، [وخرجت السنة] (2)
وفيها : هلك قحطبة بن شبيب.
ص: 584
وكان سبب ذلك ]
وكان سبب ذلك ] (1)
فيقال : إن حوثرة بن سهل أشار على ابن هبيرة وقال له : إن قحطبة قد مضى إلى الكوفة، فاقصد أنت لخراسان، ودعه ومروان، فإنك تكسره وبالحري أن يتبعك.
فأبى وقال ما كنت لأدعه والكوفة بل أبادره إليها، وقال قحطبة لأصحابه : هل تعلمون طريقاً يخرجنا إلى الكوفة لا يمر بابن هبيرة ؟
فقال بعضهم: نعم نعبر بامرا من رومنقي (2) ونلزم الجادة إلى بُزرج سابور (3) وعُكْبَرا (4)، ثم نعبر دجلة إلى أوانا.
ويقال إنه لما بلغ الفرات (5) سأل، هل هناك مخاضه؟
فدلوه عليها، فنزل قحطبة الخازنة وقال : صدقني الإمام، أخبرني أن النضر بهذا المكان وأعطى الجند أرزاقهم.
فرد عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم من فضل المال الدرهم والدرهمين، وأقل أكثر.
فقال : لا تزالون بخير ما كنتم على هذا ووافته مقدمة خيول ابن هبيرة فلما انتهى ابن هبيرة إلى المخاضة اقتحم في عدّة، فحملوا على أصحاب ابن هبيرة حتى انهزموا ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة.
وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم فألقوا بأيديهم، وعلى الناس الحسن بن
ص: 585
قحطبة فزعم بعضهم أنه غرق وادعى قتله غير واحد ممن كان وتره زعم كل واحد أنه أصاب فرصة منه في الماء فقتله.
فقال أصحابه (1) : أيها الناس من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به.
فقال مقاتل بن مالك [27/ ب] العكي:
سمعت قحطبة يقول : لئن حدث بي حدث فالحسن أمير الناس.
فبايع الناس حميد بن قحطبة للحسن أخيه، وأرسلوا إلى الحسن فلحقه الرسول دون قرية شاها (2)، فرجع الحسن، فأعطاه أبو الجهم خاتم أبيه وبايعه الناس.
فقال الحسن : إن كان قحطبة قد مات، فأنا ابن قحطبة.
وكان أحد من ادعى قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين.
وقال قوم: وجد قحطبة قتيلاً في جدول وحرب بن مسلم احوز إلى جنبه، فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه.
وحكي عن قحطبة أنه قال : إذا قدمتم الكوفة، فوزير الإمام أبو سلمة، فسلموا الأمر إليه. ورجع ابن هبيرة إلى واسط بعد أن انهزم من حوثرة.
وأمر الحسن بن قحطبة بإحصاء ما وجد في عسكر ابن هبيرة، ولم يحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة.
وخرج محمد بن خالد بن يزيد القشيري بالكوفة وسود (3)قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وضبطها.
ظهر محمد بن خالد بالكوفة، وساد وسار إلى القصر وعلى الكوفة يومئذ زياد بن صالح الحارثي، فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام وخلوا القصر، فدخله
ص: 586
محمد بن خالد.
فلما أصبح يوم الجمعة من غد يوم دخوله وهو اليوم الثاني من مهلك قحطبة بلغه، نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ إليه للمسير.
فتفرق عن محمد عامة من معه من حيث بلغهم ذلك إلا فرساناً من أهل الشام من اليمن كانوا هربوا من مروان ومواليه.
وراسله أبو سلمة الخلال من غير أن يظهر له يأمره بالخروج من القصر، واللحاق بأسفل العراق، وأنه يخاف عليه لقلة من معه بكثرة حوثرة، ولم يبلغ واحد منهما هلاك قحطبة.
فأبى محمد بن خالد أن يفعل، وتعالى النهار (1)، فتهيأ حوثرة للمسير إلى محمد بن خالد، حيث بلغه قلة من معه وخذلان العامة إياه.
فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، وقال خيل قد جاءت من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من أهل الشام مواليه فأقاموا بباب دار عمر بن سعد إذ طلعت رايات أهل الشام، فتهيأ لقتالهم.
فنادى أهل الشام : نحن بجيلة وفينا بلخ بن خلف البُجَيْلي (2)، جئنا لندخل في طاعة الأمير محمد.
فتركوهم ودخلوا ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها (3) جهم بن الأصفح الكلبي (4)، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بجدل.
فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه.
وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة وهو لا يعلم بهلاكه يعلمه أن [قد] (5) ظفرنا بالكوفة، وعَجّل به مع فارس فقدم على الحسن بن قحطبة، فقرأه على الناس، ثم ارتحل إلى الكوفة، وأقام محمد بالكوفة : الجمعة، والسبت، والأحد، وصبحة الحسن يوم الاثنين.
فأتوا أبا سلمة وهو في بني مسلم، فاستخرجوه فعسكر بالنخيلة (6) يومين، ثم
ص: 587
ارتحل إلى حَمَّام أعْيَن (1)، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة.
وكان أبو سلمة يعرف بورس آل محمد حتى اتهم، ولما وجه الحسن بن قحطبة لقتال ابن هبيرة ستة عشر قائداً منهم: حازم بن خزيمة، ومقاتل العكي، وخفاف بن منصور، وأشباههم من الوجوه.
ووجه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد وبعث خالد بن برمك إلى دير قُنّى (2).
وبعث شراحيل إلى عين التمر.
ووجه بسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة.
وبعث محمد مع حفص بن سبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة.
وتقدم إليهم بإظهار دعوة بني العباس ويدعو إلى الإمام القائم منهم فأما بسام فإنه لما أتى الأهواز خرج منها عبد الواحد إلى البصرة.
وأما سفيان فإنه لما قدم عليه الكتاب والعهد قاتله سلم بن قتيبة ولم يسلم له، وكان مبدأ قتاله إياه أن سفيان كتب [28/أ] إليه يأمره بالتحول عن دار الإمارة ويخبره بما آتيه من رأي أبي مسلم.
فامتنع سلم، وحشد ابنه سفيان، اليمانية وحلفاؤهم من ربيعة وغيرها.
و جنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة كان بعثه مدداً لسالم، في ألف رجل، فأجمع السير إلى مسلم بن قتيبة، فاستعد سلم له وحشد من قدر عليه من قيس، ومضر، وموالي بني أمية، وأشياءهم وسارت بنو أمية الذين بالبصرة إلى نصره.
فقدم سفيان في صفر فأتى المربد مسلم فوقف منه في سوق الإبل ووجه الخيول
ص: 588
في شكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان.
ونادى من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم.
ومضى ابن سفيان واسمه معاوية في ربيعة خاصة فلقيه خيل من بني تميم في سكة فطعن رجل فرس معاوية فشب به وصرعه ونزل إليه آخر فقتله وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة، فأعطاه عشرة آلاف درهم.
فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتوا القصر الأبيض فنزلوا، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر (1).
وتغلب على البصرة سلم وأتاه كتاب ابن هبيرة أن يصير إلى الأهواز.
وتغلب بالبصرة جماعة بقوا فيها أياماً يسيرة وقام أبو العباس السفاح فولاها سفيان بن معاوية.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث
وأوله : ابتداء دولة بني العباس
ص: 589
ص: 590
تجارب العصر الأموي...3
أَيَّام مُعاوية بن أبي سفيان...3
ذكر مُماحَكةٍ جرت بينَ المُغيرة بنِ شُعبةَ وبين عمرو بن العاص...3
المغيرة بن شعبة يَختارُ الدَّعةَ...3
فكان عاقبة هذا الفعل منه...4
رأي لِمُعاوية وتدبيرٌ صَحيحٌ...4
ذكر حيلة لزيادٍ على معاويةَ...5
ذِكرُ حيلةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ حَازِمٍ...6
ذكر تدبیر نفذ للمغيرة بن شعبة على زيادٍ...7
ذِكرُ سياسةِ زيادٍ العِراق حتَّى صَلحَ بعد الفساد...8
الخُطبَةُ البَتْراءُ...8
ذكرُ قَتله البريء...10
ضبطُهُ البصرة بشدَّةٍ وتأكيده المُلكَ لِمُعاوية...10
قطع أيدي الحاصبين في الكوفة...11
استخلاف زیاد سمُرةَ على الكوفة وتشدده فى أمر الحرورية...12
ذِكرُ حيلةٍ لِلمُهلبِ بِخُراسان...12
أَسماء كُتابِ مُعاوية...12
من سيرة زياد...13
كلامٌ واقع ارتَفعَ به صاحبُهُ...16
ص: 591
ذكرُ حيلتهم هذه...17
ذكر بعض سيرة مُعاوية، وآرائه، ودَهائه ما قاله عُمر فيه...17
بين معاوية وعمرو بن العاص...18
بينه وبين عُمر بن الخطاب...18
ما كان بينه وبين المغيرة...19
بين معاوية وهانئ...19
من تشبه بمعاوية في ذلك...21
كلامٌ لِمُعاويةَ...21
أَيَّامٍ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ وما جرى فيها من الأحداث التي يَليقُ ذِكرُها بهذا الكتاب... 22
وصايا معاوية ليزيد...22
ذكر رَأي أُشيرَ بِهِ عَلَى الحُسينِ بنِ عَليٍّ عَلَيهما السلام...23
ذِكرُ رَأيِ آخَر أُشير به عليه...23
ما كتبه إليه أهل الكوفة...24
ذكر رأي أشار به هذا الكاتب على يزيد...25
ذِكرُ تَلافي عُبيد اللَّهِ مُلكَ يَزيدَ بعد أن أشرف على الذهاب، وما كان من حيله ومكائده...25
ذِكرُ مَكيدة بليغة لِشَريكِ ما تمَّتْ لهُ...26
هانی يُطلب إلى القصر...27
مُسلمٌ يُقبِلُ نحوَ القَصرِ بالمُبايعين...29
الحسين وآراء المشيرين عليه ذكر رأي أشير به على الحسين عليه السَّلام...34
رأي أَشار به عبد الله بن عباس على الحسين...35
خرُوجُ الحُسين إلى العراق «لقاء بين الحُسين والفرزدق»...36
ما كان من أمر رسوله قيس بن مُسْهِر...37
ص: 592
خَيلُ الحُرِّ بنِ يَزِيد...37
ما قاله الطرماح بن عدي للحسين...41
نزول الحسين بنينوى وقدومَ راكب بكتاب من ابن زياد...42
عمر بن سعد والخيار الصعب...43
اشتداد العطش على الحسين وأصحابه...43
التقاء بين الحسين وعُمر بن سعدٍ...44
كتاب ابن سعدٍ إلى ابن زياد في ما دار بينه وبين الحسين...44
ما أشار به شمرٌ علی ابن زیاد...45
جواب ابن زيادٍ لكتاب ابن سعد...45
قدومُ شَمِر بالكتاب...45
جاء الحُرُّ تائباً...48
سَلبُ الحسين وانتهابُ نسائه...51
عند ابن زیاد...51
ما قاله يزيد بعد تسلّم كُتُب البشارة...52
ذكر حيل ابن الزبير...52
عزل عَمرو بن سعيد...53
ذكر رأي عبد الملك وما ظهر من حزمه...55
وقعة الحرَّة وإباحة المدينة ثلاثاً...56
بايع أهل المدينة ليزيد بن معاوية على أَنَّهم خَوَلٌ له...56
ذكر اتفاق حسن اتفق لمسلم بن عُقبة في مسيره إلى أهل المدينة وحيلة لأهل المدينة ما تمت...56
موت مسلم بن عقبة ورمي الكعبة وإحراقها وابن الزبير مُحاصَرٌ فيها...56
خلافة معاوية بن يزيد...58
ص: 593
ذكر سوء رأي ابن الزبير وضعف تدبيره ومخالفته من أَشار عليه بالصواب حتى فاتته الخلافة...58
خطبة ابن زياد بالبصرة بعد انتهاء موت يزيد بن معاوية إليها...59
ذكر طمع عُبيد الله في الخلافة وما احتال فيه...60
ذكر حيلته في ذلك...61
ذكر ما حفظ على ابن زياد في طريقه من الآراء...62
خلافة مروان بن الحكم...65
كان لا يُريد الخلافة ولكن ابن زياد أطمعه فيها...65
المروانيون والزبيريون واحتجاجاتهم...65
أَسماءُ كتّاب يزيد ووزرائه...67
ذكر حيلة مروان بن الحكم التي عادت بهلاكه...68
أَيَّامٍ عبد الملك بن مروان...69
خبر التوابين...69
ذكر رأي سليمان بن صرد في ذلك...70
قدوم المختار وما زعم...71
قدوم عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد من قبل ابن الزبير...71
ذكر رأي عبد الله بن يزيد...71
اجتماع الأمر لسليمان بن صرد...72
ذكر آراء أُشير على سليمان ورأي رَعَاهُ وحدَه...73
ذكر الرَّأي الذي رآه سليمان...74
ذكر رأي آخر رآه أمير الكوفة عبد الله بن يزيد...74
كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد وما كان من جوابه...75
بين سليمان بن صرد وزُفر بن الحارث في قرقيسيا...77
ص: 594
ذكر رأي أَشار به زفَرُ بن الحارث على سليمان بن صرد وأصحابه...78
موقعة عين الوردة...80
عُبيد الله بن زياد يُسرِّح الحصين بن نمير لدفع سليمان...81
مقتل سليمان بن صرد...82
ذكر رأي رَآهُ ابن أحمر...83
ذكر ما كان من المختار بعد التّوابين...84
ذكر السبب في اشتداد شوكة الخوارج وما كان من أمرهم...84
ذكر اتفاق جيّدٍ اتَّفق لأهل البصرة وهم في تلك الحال...85
ذكر رأي صحيح وحيلة تمت لأهل البصرة حتّى حارب عنهم المهلب...85
احتيال المختار وهو في المحبس...88
ذكر رأي سديد أُشير به على المختار وما كان من تأتي المختار له حتى تم له كما أَحبَّ...91
المختار يُرسل إلى ابن الأشتر ويدعوه...91
إبراهيم بن الأشتر يبايع المختار...93
خروج المختار...94
ما كان من قبل عبد الله بن مطيع...95
ذكر رأي رَآهُ ورقاءُ بن عازب...109
فكان رأي ورقاء الأول صواباً وتركه إنفاذ الكتب بالبشارة وتعريفه صاحبه الصورة خطأً...109
ذكر اضطراب الناس على المختار وطمعهم فيه بعد خروج إبراهيم الأشتر...109
ذكر رأي صحيح لعبد الرحمن...110
مقتل شمر بن ذي الجوشن...115
سراقةُ حَلَفَ أَنَّه رأى الملائكة...116
ص: 595
ذكر مكيدة للمختار على ابن الزبير لم يتم له...120
ذكر مكيدة عباس بن سهل بأصحاب المختار...122
ذكر رأي رَآهُ ابن الزبير بعد حبسه محمد ابن الحنفية ومن معه بزمزم...123
ذكر ما كان من المختار بعد وقعة السُّبيع بالكوفة...125
خبر الكرسي...125
ذكر مسير مُصعَب إلى المختار وحربه...130
مكيدة لعبد الله بن وهب على الموالي...132
غلط المختار في ذلك...134
ذكر ظفر بعد هزيمة...136
ذكر اتفاق سَيِّىءٍ بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبت...136
ذكر قتل عُبيد الله بن علي بن أبي طالب...137
مُصعبٌ يُحاصِرُ قصر المختار وهو فيه...137
مقتل المختار وما قاله في أمره...138
ذكر رأي المختار في تلك الحال وكان صواباً...139
ذكر كلام لهؤلاء المسلمين واستعطاف حين أحسوا بالقتل...139
كلام آخر بنحو آخر من الاستعطاف...140
توبيخ من عبد الله بن عمر لمصعب على فعله هذا...140
كفُّ المختار سُمِّرت إلى جنب المسجد...141
كتب مُصعب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته...141
ما جرى على عَمرةَ امرأةِ المختار...141
حصار عبد الله بن خازم رجال بني تميم بخراسان...142
رجوع الأزارقة...145
إقبال الخوارج وعليهم الزبير...145
ص: 596
خروج الحارث بن أبي ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر...146
ذكر رأي لعتاب بن ورقاء صحيح...147
ذكر رأي رَآهُ الأحنف للخوارج وهو يُعَدُّ من سقطاته...148
ذكر توبيخ للخوارج المهلب على طريق المكيدة...148
ذكر مسير عبد الملك إلى مصعب...149
ذكر استهانة بعدو عادت بهلكة...150
رواح عمرو إلى عبد الملك وما جرى عليه...151
ذكر سبب العداوة والشَّحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد...154
ذكر كلام نَفعَ عند سلطان حقودٍ...155
مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب...155
مقتل إبراهيم الأشتر...157
مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب...158
ومن المقامات المشهورة مقام تقدَّم فيه رجل بالأدب...159
توجيه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير...161
حصر ابن الزبير ومقتله...162
ما قالته لابن الزبير أُمُّه أسماء بنت أبي بكر...162
مقتل ابن خازم في مرو...165
ولاية المهلب حَرْبَ الأزارقة من قبل عبد الملك...166
سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان...168
ذكر رأي صواب أُشير به على بحير فقيله...168
ذكر تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق وسيرة الحجاج...169
ذكر وثوب النَّاس بالحجاج...172
ذكر توانٍ لعبد الرحمن حتَّى قُتل وقُتل معه خلق...172
ص: 597
ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقي الحجَّاجُ وأَشرافُ الكوفة منه...173
ذكر مكيدة صالح على عدي...176
ذكر رأي رأه عدي بن عُميرة في تلك الحال فلم يُقبل حتى هلك الجيش...178
ذكر سوء رأي سورةَ في الإقدام حتَّى هُزم وفل...180
ذكر عجلة للحجاج وسوء رأي له حتى أهلك ذلك العسكر...183
حيلة الحجاج على محمد بن موسى حتّى حارب الخوارج وقتل...188
كلام للحُرِّ، لمَّا أُتِيَ به ليُقتل، سَلِمَ به...197
ذكر رأي سديد للحجاج...198
ذكر رأي جيد رآه قبيصة بن والقِ...199
مكيدة للمطرّف بن المغيرة كاد بها شبيباً حتى حبسه عن وجهه...199
ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية...204
رأي جيِّدُ رَآهُ خالد بن عتاب...206
ذكر مكيدة لشبيب...209
ذكر هلاك شبيب في هذه السنة باتفاق سَيِّئ...210
ذكر ما كان من المهلب والأزارقة...212
ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم...213
ذكر سبب هلاكهم...213
وفي هذه المدة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أُمية ابن عبد الله بكير بن وساج بخراسان ذكر السبب في ذلك...214
عاقبة أمر بكير...218
ذكر حيلة صعصعة على بحير حتى اغتاله وقتله...220
ذكر خروج عبد الرَّحمٰن بن الأشعث على الحجاج وسبب خلعه لعبد الملك واجتماع الناس عليه...221
ص: 598
ذكر رأي خطإ للحجاج أفسد به أُولئك الجند وعبد الرحمن حتى ألجأهم إلى مخالفته وخلعه...224
خروج عبد الرحمن نحو العراق...225
رأي سديد رآه المهلب للحجاج فعصاه...226
ذكر وقعة دير الجماجم...229
ذكر رأي رآه عبد الرحمن عند هذه الحال...230
دخول الحجاج الكوفة وجلوسه للنَّاس...233
قتله كُميل بن زياد النَّخعي وما دار بينهما من كلام...234
وصيَّةُ المهلب إلى ولده حين حضرته الوفاة...234
ذكر وقعة الحجّاج وابن الأشعث بمسكن...235
ذكر تكاسل كان من ابن الأشعث عاد بوبال عليه واتفاق محمود للحجاج...236
ذكر طمع عياض في ابن الأشعث...237
ذكر ما اغتر به عبد الرحمن حتّى فارق رتبيل ثمَّ اضطر إلى معاودته 238
ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأي رَآهُ وحده سديد لو ساعدوه عليه... 238
ذكر ما تقدم به الأسرى عند الحجاج...240
كلام للشعبي لما حمل إلى الحجاج...241
فيروز يمنع الحجَّاجَ أن ينال مالَهُ...242
ذكر خديعة للحجاج ظنَّ النَّاسُ بها أنه آمنهم حتّى قتلهم...243
ذكر هلاك عبد الرحمن بن الأشعث ورأي لبعض أصحابه صحيح...244
ذكر سبب عزل يزيد بن المهلب عن خراسان...246
وفي هذه السنة قُتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ ذكر السبب في ذلك... 247
ذكر مكيدة ضعيفة تمت على قوم أغتامٍ...249
ذكر مكيدة لعمرو بن خالد...250
ص: 599
ثمَّ دخلت سنة ست وثمانين...256
أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب قبيصة بن ذُؤيب...256
أبو الزعيزعة...526
روح بن زنباع...257
ربيعة الغار الحرشي...257
صالح بن عبد الرحمن وهو الذي نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية...257
عُبيد بن المخارق...259
يزيد بن أبي مسلم...259
عبد الملك وكاتب له قبل هدية...260
خلافة الوليد بن عبد الملك...261
ذكر حيلة لِتُنْدَر ما نفذت له وقتل لأجلها...261
ذكر اتفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين...263
ذكر رأي للحجاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتّى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن...264
ذكر غَدر نَيْزَك ونقضه عهد قتيبة، وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إيَّاهُ...267
فتح شومان وكِسٌ ونَسَف...272
فتح خوارزم...272
فتح السُّغد...273
جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة...278
ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم...278
فتوح أُخرى تمَّت في هذه المدَّة...278
ص: 600
ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله...279
موت الحجاج بن يوسف...280
ودخلت سنة ست وتسعين من سيرة الوليد بن عبد الملك...280
ذكر رأي لعباد بن زياد...280
فتح كاشغر وما دار بين مبعوثي قتيبة وملك الصين...281
ذكر كلام لهبيرة في جواب الملك صار سبباً لحمله الخراج وتهيبه الحرب...282
من سيرة قتيبة...283
خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان...284
ذكر السبب في ذلك...284
ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبَّره من أمره...285
ذكر رأي رآه يزيد لنفسه عاد مكروهاً عليه...291
ما احتال به الأهتم حتَّى قُلّد يزيدُ خراسان...292
ذكر جيلةٍ تمت على مسلمة بن عبد الملك في هذه السنة بأرض الرُّوم حتى كاد يهلك هو والمسلمون...294
سليمان يُحرِّض يزيد بذكر فتوح قتيبة...295
اهتمام يزيد بن المهلب بجرجان...296
ذكر هذه الحيل التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتى ظفر به...296
دخول يزيد بن المهلب جرجان...297
طمع يزيد بن المهلب في طبرستان...298
يزيد بن المهلب يفتح جرجان الفتح الآخر...300
يزيد بن المهلب يدخل باب جرجان ويُبر يمينه في أهلها...301
ذكر رأي أشير به على يزيد بن المهلب فلم يقبله فعاد وبالاً عليه...302
ودخلت سنة تسع وتسعين...302
ص: 601
خلافة عُمر بن عبد العزيز...303
ودخلت سنة مائة...306
وفيها خرجت الخارجة على عمر بن عبد العزيز بالعراق...306
عُمر بن عبد العزيز يحبس يزيد بن المهلب...307
ذكر بعض سيرة عمر بن عبد العزيز...308
ابتداء دعوة بني هاشم...310
خلافة يزيد بن عبد الملك...311
ودخلت سنة إحدى ومائة...311
ذكر ذلك...311
دخول مسلمة الكوفة ومقتل شوذب الخارجي...312
دخول يزيد بن المهلب البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك...312
ذكر اتفاق سييء اتفق على يزيد بن المهلب...315
ذكر آراء أُشير بها على يزيد بن المهلب فما عمل بها»...317
ودخلت سنة اثنتين ومائة...318
ذكر رأي صواب رَآهُ يزيد فخالفه فيه أصحابه...319
يزيد بن المهلب والفحل بن عياش كل قتل صاحبه!...323
منع الجرّاح من بيع ذرّيَّة آل المهلب...326
يزيد بن عبد الملك يولّي مسلمة على الكوفة والبصرة وخراسان بعد قتل يزيد ابن المهلب...326
سبب طمع الترك في سعيد خدينة...327
غزو سعيد الترك...330
ذكر كلمة صارت سبب حتف...330
سعيد يقتل حيّان بإطعامه ذهباً...331
ص: 602
ذكر سبب عزل مسلمة عن العراق وخراسان...331
ظهور أمر الدعاة في خراسان...332
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة...333
سبب عزل سعيد خدينة عن خراسان...333
خلافة يزيد بن عبد الملك...333
ودخلت سنة أربع ومائة...334
ودخلت سنة خمس ومائة...343
ذكر خروج مسعود العبدي...344
ذكر مصعب بن محمد الوالبي...345
خلافة هشام بن عبد الملك...347
واستخلف هشام بن عبد الملك...347
ودخلت سنة ست ومائة...348
ثم دخلت سنة سبع ومائة...356
ودخلت سنة ثمان ومائة...357
ثم دخلت سنة تسع ومائة...358
ودخلت سنة عشر ومائة...362
ذكر سوء رأي أشرس وفساد تدبيره وحرصه على المال حتى نصب له الناس الحرب...362
ذكر حيلة تمت مع اتفاق حسن...369
ودخلت سنة إحدى عشر ومائة...372
ودخلت سنة اثنتي عشرة ومائة...375
ذكر إفشاء سره في ذلك حتى هلك هو ومن معه...381
ذكر آراء أشير بها عليه فأخذ بأصوبها...384
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة...387
ص: 603
ودخلت سنة أربع عشرة ومائة...388
ودخلت سنة خمس عشرة ومائة...390
ودخلت سنة ست عشرة ومائة...390
وكان سبب ولاية عاصم...391
ودخلت سنة سبع عشرة ومائة...393
ودخلت سنة ثمان عشرة ومائة...397
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة...399
ذكر الخبر عن هذه الوقعة...399
ذكر ظفر خاقان، ثم انهزامه باتفاق حسن مع تدبير جيد وجد في المسير من أسد حتى رجع كيد العدو عليهم وسلم المسلمون وأثقالهم...404
ذكر اتفاق وحسن اتفاق لمقاتل بن حيان من غير قصد منه...409
ذكر الخبر عن خروجه ومقتله...413
ثم دخلت سنة عشرين ومائة...417
ذكر السبب في عزل خالد بن عبد الله القسري ونكبته...420
ذكر آراء أشير بها على خالد فلم يقبلها...425
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة...431
ذكر السبب في مقتله وسبب خروجه...431
ذكر رأي أشار به سلمة على زيد فلم يقبله...436
دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة...451
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة...452
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة...455
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة...458
ذكر بعض سيرة هشام...458
ص: 604
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك...462
ذكر مقتل يحيى بن زيد والسبب فيه...469
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة...472
خلافة يزيد بن الوليد...473
ذكر السبب في قتل الوليد وخلافة يزيد الناقص...473
ذكر آراء أشير بها على الوليد فساقه الحين إلى أحدهما...478
ذكر الفتن وأسبابها...487
خطبة خطبها يزيد استمال بها الناس...490
خلافة مروان بن محمد... 506
ذكر السبب في خلاف مروان ثم دخوله في الطاعة ومبايعته...506
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة...514
ذكر سبب خروج عبد الله بن معاوية وطمعه في الخلافة...516
ذكر السبب في خروج الضحاك وقومه حتى دخل الكوفة...523
ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بن سيار...532
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائة...535
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك...535
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة...545
ذكر الخبر عن ذلك وعن مبدأ أمرهم...548
ذكر مقتل جديع بن علي الكرماني وصلبه...561
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة...565
ذكر السبب في ذلك ومصيره إلى ابن جديع الكرماني، ومصير علي معه...566
ذكر السبب في دخول حائط مرو...567
ذكر الخبر عن مقتله وسببه...570
ص: 605
ذكر السبب في قتله إياهما...571
ذكر اتفاق عجيب وقع على أصحاب زياد حتى انهزموا وقتلهم أبو داود...572
ذكر قتل نباتة بن حنظلة...575
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة...579
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة...584
ذكر الخبر عما كان من أمره وضبطه الكوفة إلى أن وصل الحسن...586
ص: 606