سرشناسه : خرازی ، سیدمحسن ، 1315 -
عنوان قراردادی : المکاسب.شرح
عنوان و نام پديدآور : البحوث الهامه فی المکاسب المحرمه [ مرتضی انصاری ] / تالیف محسن الخرازی .
مشخصات نشر : قم : موسسه در راه حق ، 1423 ق . = 1381 -
مشخصات ظاهری : 7ج.
شابک : ج. 6 978-964-5515-01-5 : ؛ ج. 7 978-600-5515-04-6 :
يادداشت : عربی .
يادداشت : ج.4 (چاپ ؟: 13).
يادداشت : ج. 7 (چاپ اول: 1390) (فیپا).
یادداشت : کتابنامه .
موضوع : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب -- نقدو تفسیر
موضوع : معاملات (فقه)
کسب و کار حرام
شناسه افزوده : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب . شرح
شناسه افزوده : موسسه در راه حق
رده بندی کنگره : BP190/1 /الف 8م 702143 1381
رده بندی دیویی : 297/372
شماره کتابشناسی ملی : م 81-45244
اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا
محرر الرقمي: میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
* العنوان... البحوث الهامّة في المكاسب المحرّمة ج 7
* الموضوع... فقه
* تأليف... آية الله السيّد محسن الخرّازي
* باهتمام... السيّد علىّ رضا الجعفرى
* نشر... مؤسسه در راه حق
* الطبعة... الاُولى
* المطبعة... ولى عصر (عج)
* العدد... 1000
* التاريخ... 1432
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 5
ص: 6
و لاريب فى أنه محرّم لإطلاق قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ ) (1) و المراد من أن تشيع الفاحشة هو أن تنتشر و هو بإطلاقه يشمل إفشاء الفاحشة و لاينافى ذلك شموله لذكر عيب للمؤمن، كما يدلّ عليه صحيحة هشام عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: من قال فى مؤمن مارأته عيناه و سمعت أذناه كان من الذين قال اللّه عزّوجلّ فيهم: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ ) .(2)
و يؤيّده خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث المناهى، قال: من شهد شهادة زور على أحد من الناس علّق بلسانه مع المنافقين فى الدرك الأسفل من النار و من حبس عن أخيه المسلم شيئا من حقّه حرّم اللّه عليه بركة الرزق إلاّ أن يتوب، ألا و من سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذى أتاها.(3)
**********
(1) النور، 19.
(2) كنز الدقائق، ج 9، ص 265.
(3) الوسائل، الباب 9 من أبواب الشهادات، ج 27، ص 325، ح 5.
ص: 7
بل يدلّ عليه موثّقة اسحاق بن عمّار عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، الحديث.(1)
و عليه فلايجوز انتشار تصاوير مبتذلة فى الأفلام أو المجلّات أو الكتب لصدق إفشاء الفاحشة عليه، كما أنّ النظر إليها مظانٌّ للفتنة و الوقوع فى الحرام و التلذّد المحرّم فيجب الاجتناب عنه.
ثم إنّ المأخوذ فى قبال إفشاء الفاحشة و إشاعتها لاإشكال فى حرمته و كونه سحتا فيكون أكله أكل المال بالباطل.
ثم إنّه لاإشكال فى حرمة إجارة الآلات و الأدوات التى انحصرت منافعها فى الحرام، أو اشترط الانتفاع بخصوص المحرّم منها، أو أوقع العقد مبنيا عليه و بطلت الإجارة فى تلك الموارد و كان التصرّف فى الأجرة و نفس الآلات و الأدوات محرّما على ما قرّر فى كتاب الإجارة.
و إذا كانت الأدوات و الآلات بيد الحكومة فإن أمكن لها منع المشترك عن استفادة المحرّم و لو بتعطيل انشعابه وجب، و إلاّ فإن كان المنع المذكور مستلزما للمفاسد الغالبة و لزم وجود الأدوات و الآلات المذكورة من طرف آخر، و إلاّ لاختلّت الأمور أمرت الحكومة المشتركين بعدم استفادة المحرّم و قيّد مورد الاستفادة بالأمور المحلّلة، و عليه فلايجوز للمشتركين مع قطع النظر عن حرمة استفادة المحرّم التصرّف فى غير المحلّل، بل يضمنون أجرة المثل للحكومة فى التصرّف فيها فى غير الأمور المحلّلة المشروطة.
ثم إنّ الظاهر من الآية الكريمة أنّ محبّة الإشاعة و الإذاعة تكون محرّمة و هو
**********
(1) الكافى، ج 2، ص 356 باب التعيير، ح 2.
ص: 8
يؤكّد حرمة نفس الإشاعة و الإذاعة، كقوله تعالى: (وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1)، فإنّ القرب نحو مال اليتيم إذا كان منهيا كان التصرّف فيه أولى بالحرمة. ثمّ إنّ المراد من المحبّة هى المحبّة الفاعلة لامجرّد المحبّة ما لم يظهرها بفعل.
لايقال: إنّ مفاد الآية الكريمة هو حرمة شيوع الفاحشة لاالإخبار و الإفشاء، لأنّا نقول: نعم ولكن بقرينة إدراج الغيبة فى الآية الكريمة فى صحيحة هشام يعلم أنّ المراد ليس خصوص شيوع الفاحشة، بل تشمل الآية الكريمة لموارد الإخبار و الإفشاء؛ هذا مضافا إلى صريح موثّقه سماعة فى أنّ إذاعة الفاحشة كعامل الفاحشة و من المعلوم أنّ الإذاعة هو الإخبار و الإفشاء و يؤيّد ذلك قوله صلى الله عليه وآله و سلم فى خبر الحسين بن زيد: ألا و من سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذى أتاها، و اللّه العالم.
**********
(1) الانعام، 152.
ص: 9
ص: 10
و يقع الكلام فى اُمور:
قال فى مصباح اللغة: فتكت به فتكا من بابى ضرب و قتل. و بعضهم يقول: فتكا - مثلث الفاء - بطشت به أو قتلته على غفلة و افتكت - بالألف - لغة، انتهى.
و مورد البحث فى المقام هو الفتك بمعنى القتل على غفلة الذى يسمى فى زماننا هذا ب - «ترور» و من هذا الباب ما حكاه فى البحار عن ابن أبى الحديد أنّه قال: قال أبو الفرج: حدثنى محمد بن الحسين باسناده ذكره أنّ الأشعث بن قيس - لعنه اللّه - دخل على علىّ عليه السلام فكلّمه فأغلظ علىّ له فَعرّض الأشعث أنّه سيفتك به، فقال له على عليه السلام: أبالموت تخوفّنى أو تهددنى ؟ فواللّه ما أبالى وقعت على الموت أو وقع الموت علىّ .(1)
و منه أيضا ما حكى عن الشيخ المفيد أنّه قال: يقول الشاعر فى أمر قطام و قتل أميرالمؤمنين عليه السلام:
**********
(1) بحار الانوار، ج 42، ص 233.
ص: 11
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة *** كمهر قطام من فصيح و أعجمى(1)
ثلاثة آلاف و عبد و قينة(2) *** و ضرب علىّ بالحسام(3) المسمم(4)
و لامهر أغلى من علىّ و إن غلا *** و لافتك إلاّ دون فتك ابن ملجم(5)
ومنه أيضا ما فى البحار من أنّه كتب جماعة من رؤساء القبائل الى معاوية بالسمع و الطاعة له فى السرّ و استحشوه على المسير نحوهم و ضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام اليه عند دنوّهم من عسكره أو الفتك به، و بلغ الحسن عليه السلام و ورد عليه كتاب قيس ابن سعد و كان قد أنفذه مع عبيداللّه ابن العباس عند مسيره من الكوفة ليلقى معاوية و يرده عن العراق و جعله أميرا على الجماعة و قال: إن أصبت فالأمير قيس بن سعد الى أن قال: فكتب اليه معاوية فى الهدنة و الصلح و أنفذ اليه بكتب اصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به و تسليمه إليه.(6) فتحصل أنّ الفتك المبحوث عنه هو القتل على غفلة و هو يساوى (ترور) فى لغة اليوم.
و لاإشكال فى كون الفتك من مصاديق قتل النفس، فإذا كان قتل النفس المحترمة محرما فالفتك محرم بالأولوية لكونه وقع على أسوء كيفية و هى غفلة المقتول، وعليه يكفى فى حرمة الفتك الى أدلة حرمة قتل النفس المحترمة و لو كان المفتوك فاسقا و
**********
(1) حكى عن المصدر من غنى و معدم ساقه اى ارسله.
(2) القينة: الامة المغنّية. و قيل الامة مغنية كانت او غير مغنية.
(3) الحسام: السيف القاطع.
(4) المسمم، من سممت تسميما اى جعل فيه السمّ .
(5) بحارالانوار، ج 42، ص 232.
(6) بحار الانوار، ج 44، ص 48-47.
ص: 12
فاجرا و كافرا ما لم يهدر دمه الشارع. هذا مضافا الى خصوص أدلة حرمة الفتك.
منها: صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام فى حديث... و قال: و من فتك بمؤمن يريد نفسه و ماله فدمه مباح للمؤمن فى تلك الحال.(1)
و من المعلوم أنّ إباحة دم الفاتك حال إرادة الفتك يدل على شدة حرمة الفتك و إلاّ لما صار دم الفاتك مباحا عند إرادة الفتك و لكنه يختص بفتك المؤمن. نعم لاينافى إطلاق ما دل على حرمة الفتك و قتل النفس المحترمة. ومنها: بناء العقلاء من تقبيح الفاتك و مذمته أزيد من تقبيح القاتل، لأنّه مقرون بالغدر و الخيانة و سلب إمكان الدفاع عن المقتول و لايختصّ ذلك بالمؤمن بل يعم كل نفس محترمة.
ومنها: النبوى المعروف من أنّه قال: إنّ الإيمان قيّد الفتك، اى فلا يفتك مؤمن، و أنّ الإيمان يمنع من الفتك الذى هو القتل بعد الأمان غدراً كما يمنع القيد من التصرف.(2)
و يؤيده المروى أنّه كان أحد مستندى مسلم بن عقيل عليه السلام فى امتناعه عن فتك ابن زياد حين جاء فى دار هانئ لعيادة شريك بن الأعور الهمدانى و المسلم فى خفاء فيها حيث قال شريك له: ما منعك من قتل ابن زياد. قال مسلم: خصلتان: أمّا أحدهما: فكراهية هانئ أن يقتل فى داره. و أمّا الأخرى: فحديث حدثنيه الناس عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ الإيمان قيّد الفتك، اى فلايفتك مؤمن. فقال له هانئ: أمّا و اللّه لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا.(3)
ولكن يخالفه ما فى مثير الاحزان للشيخ الجليل ابن نما الحلى - المتوفى سنة
**********
(1) الوسائل، الباب 1 من أبواب حد المرتد، ح 1.
(2) رواه فى البحار، ج 44، ص 343 عن ابى الفرج فى مقاتل الطالبيين، ص 71 و عن ابى داود فى سننه، ج 2، ص 79.
(3) مقاتل الطالبيين، ص 71؛ بحار الانوار، ج 44، ص 343.
ص: 13
645 ه -. ق - و هو إنّ شريك كان من محبّى أميرالمؤمنين عليه السلام و شيعته عظيم المنزلة جليل القدر فمرض، و سئل عبيداللّه (بن زياد) عنه فأخبر أنّه موعوك فأرسل ابن زياد اليه إنّى رايح اليك فى هذه الليلة لعيادتك. فقال شريك لمسلم بن عقيل: يابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم إنّ ابن زياد يريد عيادتى، فادخل بعض الخزائن فإذا جلس فاخرج و اضرب عنقه و إنّا أكفيك أمر من بالكوفة مع العافيه، و كان مسلم رحمه اللّه شجاعا مقداما جسورا ففعل ما أشار به شريك. فجاء عبيداللّه و سئل شريكا عن حاله و سبب مرضه و شريك عينه الى الخزانة واقمه و طال ذلك فجعل يقول (ما الإنتظار بسلمى لانحييها) يكرر ذلك، فأنكر عبيداللّه القول و التفت الى هانئ بن عروة و قال: ابن عمك يخلط فى علته و هانئ قد ارتعد و تغير وجهه، فقال هانئ إنّ شريكا يهجر منذ وقع فى المرض و يتكلم بما لايعلم. فثار عبيداللّه خارجا نحو قصر الإمارة مذعورا، فخرج مسلم و السيف فى كفّه و قال شريك: يا هذا ما منعك من الأمر، قال مسلم: لما هممت بالخروج تعلقت فىّ امراة، قالت: ناشرتك اللّه إن قتلت ابن زياد فى دارنا و بكت فى جهى (وجهى)، فرميت السيف و جلست. قال هانئ:
يا ويلها قتلتنى و قتلت نفسها *** و الذى فرت منه وقعت فيه(1)
فتأمل.
و كيف كان يؤيد النبوى أيضا بما روى فى المناقب عن ابى الصباح الكنانى قلت: لأبى عبداللّه عليه السلام إنّ لنا جارا من همدان يقال له: الجعد بن عبداللّه يسبّ أميرالمؤمنين عليه السلام أفتأذن لى أن أقتله ؟ قال: إنّ الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فتكفى بغيرك. قال: فانصرفت الى الكوفة فصلّيت الفجر فى المسجد و إذا أنا بقائل يقول:
**********
(1) مثيرالاحزان، ص 21-20.
ص: 14
وجد الجعد بن عبداللّه على فراشه مثل الزّق المنفوخ ميتا، فذهبوا يحملونه إذاً لحمه سقط من عظمه فجمعوه على نطمع (اى الجلد المدبوغ) و إذا تحته أسود، فدفنوه(1).
و هذه الرواية و إن كانت فيها مناقشة من ناحية تطبيقها على مورد السب مع أنّ الساب مهدور الدم فى الشرع كما سيجىء - إن شاء اللّه تعالى - إلاّ أنّ العبرة بعموم قوله عليه السلام إنّ الإسلام قيّد الفتك، و المورد محمول على صورة الخوف و نحوه مما لايجوز فيه القتل و لو فتكا.
و أيضا يؤيد النبوى بما رواه ابن أبى الحديد فى موضع: لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم اشتغل على عليه السلام بغسله و دفنه و بويع ابوبكر خلا الزبير و ابوسفيان و جماعة من المهاجرين بعلّى عليه السلام و العباس لإجالة الرأى و تكلموا بكلام يقتضى الاستنهاض و التهيج فقال العباس رضى الله عنه: قد سمعنا قولكم فلالقلةٍ نستعين بكم و لالظنة(2) نترك آرائكم فامهلونا نراجع الفكر، الى أن قال و اللّه لولا أنّ الإسلام قيد الفتك لتركركت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلىّ .(3)
و الوجه فى التأييد: إنّ النبوى كان عند العباس أمرا مسلما.
و يشهد له السيرة القطعية من الائمة الطاهرة فى مدة 250 سنة على عدم وقوع الفتك منهم بالنسبة الى مخالفيهم، و لايرغبون فى ذلك، و المسلمون فى أمان من هذه الناحية، و إن كانوا فاسقين و فاجرين، و ينقدح من ذلك كله حرمة الفتك بالنسبة الى من له الحرمة مطلقا عدا ما خرج. نعم سيأتى موارد جواز الفتك - إن شاء اللّه تعالى -.
**********
(1) بحارالانوار، ج 47، ص 137.
(2) الظنة اى التهمة.
(3) بحارالانوار، ج 28، ص 328.
ص: 15
الأوّل: إنّ المحصل مما تقدم هو حرمة الفتك بالنسبة الى من له الحرمة بالإسلام و لو كان اعترافه به ظاهريا أو بالذمة أو بالأمان ما لم يهدر دمهم شرعا، و لعله لذلك لم يأذن الائمة عليهم السلام بقتل الخلفاء من بنى اُميه و بنى العباس لكونهم شهدوا بالإسلام و إن كانوا غير معتقدين و غير ناصحين فى دعويهم الخلافة، و يؤيد ذلك عدم نقل فتك بالنسبة الى الخلفاء من الائمة الطاهرين عليهم السلام أو إذنهم او ترغيبهم نحو ذلك، و هذا يؤكد النبوى المذكور و أنّه معمول به، نعم إذا وقع الحرب بين جند الإمام و جند مخالفيهم جاز قتلهم مطلقا سواء كان بنحو العلن أو بنحو الفتك. و يؤيد ذلك ما حكى عن البلاذرى من أنّ عمار بن أبى سلامة دالانى كان بصدد قتل عبيداللّه بن زياد عند حضوره فى جيشه ولكن لم يوفق لذلك.
الثانى: إنّ إرادة الفتك بالإرادة المقارنة للقتل توجب إباحة دم الفاتك فى تلك الحال لكونه دفاعا حينئذ و أمّا إذا أراد ذلك فى الآتى و قام بتهيئة مقدماته لم يكن مشمولا لجواز قتله، لأنّه قصاص قبل الجناية بل يجب على الحرس الحفاظة.
الثالث: إنّ المأخوذ بعنوان الأجرة أو غيرها فى مقابل الفتك يكون محرما، لأنّ العمل الحرام مسلوب المالية و لافرق فى ذلك بين أن يكون المأخوذ فى مقابل العمل الكامل أو بعض مقدماته.
الرابع: إنّه إن ارتكب شخص فتكا فى مورد له الحرمة فعليه القصاص إن كان المفتوك مسلما و إلاّ فعليه الدية على تفصيل فى محله. و إن تكرر ذلك من احد لايبعد كونه محكوما بالافساد و يترتب عليه احكام المفسد فلايكون حينئذ امره بيد اولياء المقتول فقط، بل امره أيضا بيد الحاكم الاسلامى، فلو أخذ اولياء المفتوك الدية فللحاكم الاسلامى أن ياخذه و يجرى عليه احكام المفسد.
ص: 16
منها: هو الفتك بالكفار الذين يكونون فى حال الحرب مع المسلمين و لم يمتنعوا عن الفتك و غيره فى تضعيف المسلمين، و عليه فالفتك بهم فى هذه الحالة هو المعاملة بالمثل و يشمله قوله تعالى: (فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ ) (1).
و هذا مضافا الى الشواهد التاريخية:
منها: رواية ابن اسحاق: ان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما سمع اشعار «عصما» و هى حرّضت الناس على ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم استدعى من اصحابه أن يقدم بعضهم فى هلاكتها بقوله: «ألا أخذ لى من ابنة مروان».(2)
فأقدم على ذلك عمير بن عدى بعد الاستجازة من النبى صلى الله عليه وآله و سلم عند رجوعه صلى الله عليه وآله و سلم من البدر و مدحه حسان بن ثابت فى ضمن اشعار و دعا له ان يرتوى بشربة باردة من اشربة الجنة.(3) ثم بعد قتل «عصما» أظهر عدة من بنى خطمة ايمانهم برسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم ممن خافوا من ذلك قبل قتل «عصما».
ومنها: إنّ كعب بن أشرف قد أذى رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم و ذهب بعد قصة البدر الى مكة و أنشد اشعارا فى مدح القتلى من القريش و حرّض القريش على الحرب مع المسلمين فاستجاز ابونائلة عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى قتله فأجازه و لما أراد الخروج من المدينة شيعه النبى صلى الله عليه وآله و سلم حتى البقيع و ذهب ابونائلة الى كعب و فتك به فإذا علم
**********
(1) البقرة، 194.
(2) السيرة النبوية لابن هشام، ج 3، ص 637 على ما حكى.
(3) السيرة النبوية لابن هشام، ج 4، ص 637؛ امتاع الاسماع، ص 103 و المغازى، ج 1، ص 173 على ما حكى.
ص: 17
المسلمون بذلك رفعوا اصواتهم بالتكبير فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم عن مكانه و استقبله.(1)
ومنها: إنّ قوم الخزرج استجازوا من النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى قتل ابن ابى الحقيق اليهودى فأجاز ففتكوا به و مدحهم حسان فى ضمن اشعاره.(2)
ومنها: إنّ اليهود بعد قتل كعب جاؤوا عند النبى صلى الله عليه وآله و سلم و قالوا إنّ كعب قتل فتكا فذكر النبى صلى الله عليه وآله و سلم سوء أفعال كعب و أمرهم بأن يجدّدوا الميثاق معه (حتى يحفضوا) فجددوا الميثاق.(3)
ومنها: إنّه حكى ابن اسحاق أنّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم لما قال للمسلمين: اقتلوا ائمة اليهود أينما وجدتموهم، قتل محيصة بن مسعود تاجرا من اليهود.(4)
ومنها: إنّ ابن سعد لما سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم أنّ سفيان بن خالد من قبيلة هذيل من طائفة لحيان أراد تجهيز القوى للحرب مع المسلمين أرسل عبداللّه بن انيس حتى يقتله، فذهب عبداللّه اليه و قال له: إنّى سمعت أنّك أردت الحرب مع محمد صلى الله عليه وآله و سلم و أنا أيضا معك و استقبل سفيان من ذلك و لما وجده عبداللّه منفردا قتله و رجع الى المدينة.(5)
ومنها: إنّ سلام بن ابى الحقيق من بنى النضير جمع عدة كثيرة من قبيلة غطفان
**********
(1) المغازى، ج 1، ص 189-187؛ السيرة النبوية لابن هشام، ج 3، ص 57-55 و تاريخ المدينة، ج 2، ص 457 على ما حكى.
(2) السيرة النبوية لابن هشام، ج 3، ص 276.
(3) تاريخ المدينة، ج 2، ص 461؛ سبيل الهدى و الرشاد، ج 6، ص 46 و المصنف لعبد الرزاق، ج 5، ص 204 على ما حكى.
(4) السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 58 على ما حكى.
(5) الطبقات الكبرى، ج 2، ص 51-50 على ما حكى.
ص: 18
للحرب مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فلما سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم ذلك أرسل خمس نفرات تحت لواء عبداللّه بن عتيك الى خيبر لقتل سلام و عبداللّه علم لغة العبرانى و كان امه الرضاعى فى خيبر و لذا أمكن لهم النفوذ فى خيبر و قتلوا سلاما فى جوف داره ثم رجعوا الى المدينة فلما رآهم النبى صلى الله عليه وآله و سلم شكرلهم.
و أنشد حسان اشعاره و منه:(1)
للّه درّ عصابة لاقيتهم *** يابن الحقيق و انت يابن الاشراف(2)
ومنها: إنّ ابن الاثير قال فى الكامل: لما قتل عاصم و اصحابه، بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم عمرو بن امية الضمرى الى مكة مع رجل من الانصار و أمرهما بقتل ابى سفيان، قال عمرو: فخرجت أنا و صاحبى و معى بعيرلى و برجل صاحبى علة فكنت أحمله على بعيرى حتى إذا جئنا ببطن أحج (يأحج) فعقلنا بعيرنا فى الشعب، و قلت لصاحبى: انطلق بنا الى ابى سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئا فالحق بالبعير فاركبه و الحق برسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم و أخبره الخبر و خلّ عنى. فدخلنا مكة و معى خنجر إن عانقنى انسان ضربته به، الى أن قال: فمررنا بمجلس لهم فعرفنى بعضهم فصرخ - بأعلى صوته -: هذا عمرو بن امية، فثار اهل مكة الينا و قالوا: ما جاء إلاّ لشرّ و كان فاتكا متشيطنا فى الجاهلية. فقلت لصاحبى: النجاء هذا الذى كنت أحذر، أمّا ابوسفيان فليس اليه سبيل، فانج بنفسك، فعدنا حتى صعدنا الجبل فدخلنا فى غار، فبينا نحن فيه ليلتنا ننتظر ان يسكن الطلب، قال: فواللّه إنّى لفيه اذ أقبل عثمان بن مالك التيمى بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت اليه فضربته بالخنجر، فصاح صيحة أسمع اهل
**********
(1) السيرة النبوية لابن هشام، ج 3، ص 57 و 276 و 274 على ما حكى.
(2) ما ذكرته من السيرة كان بنقل كتاب سيرة رسول خدا صلى الله عليه وآله و سلم لمؤلفه الشيخ الجعفريان فى صفحات 497 و 499 و 500 و 501 و 532 و 547.
ص: 19
مكة، فاقبلوا اليه و رجعت الى مكانى فوجدوه و به رمق، فقالوا: من ضربك ؟ فقال: عمرو بن امية ثم مات، و لم يقدر الا يخبرهم بمكانى. و شغلهم قتل صاحبهم عن طلبى. الى أن قال: و سرت حتى دخلت غار الضجنان (بضجنان) و معى قوسى و اسهمى، فبينا أنا فيه إذ دخل من بنى أعور طويل يسوق غنما له، فقال: من الرجل، فقلت: من بنى الدئل، فاضطجع معى و رفع عقيرته (صوت المغنى والباكى) يتغنى و يقول:
لست مسلما ما دمت حيا *** و لست ادين دين المسلمينا
ثم نام، فقتلته. ثم سرت، فإذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان امر رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فرميت احدهما بسهم فقتلته، و استاسرت الأخر، فقدمت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم وأخبرته الخبر، فضحك و دعا لى بخير.(1)
فيظهر مما تقدم أنّ الفتك بالكفار الفاتكين كان مورد تائيد النبى صلى الله عليه وآله و سلم مضافا الى أنّه المعاملة بالمثل لاغناء عنها بعد كون العدو فى حال الحرب و الاعتداء على المسلمين بمثل ذلك، و عليه فإطلاق قوله صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ الاسلام قيد الفتك، يقيد بامثال ما ذكر للاطمئنان بوقوعه كما لايخفى.
ومنها: الفتك بالسابّين و الناصبين للعداوة مع الرسول و الائمة الاطهار و فاطمة بنت النبى (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و الاخبار فى ذلك كثيرة.
أحدها: ما رواه فى الكافى بسند صحيح عن على بن جعفر قال: أخبرنى أخى موسى عليه السلام قال: كنت واقفا على رأس أبى حين أتاه رسول زياد ابن عبيداللّه الحارثى عامل المدينة، قال: يقول لك الأمير: انهض إلىّ فاعتل (عليه - يب) بعلة، فعاد اليه
**********
(1) الكامل، ج 2، ص 117-116.
ص: 20
الرسول فقال له: قد أمرت أن يفتح لك باب المقصور فهو أقرب لخطوتك، قال: فنهض ابى و اعتمد علىّ و دخل على الوالى و قد جمع فقهاء (اهل - يب) المدينة كلهم و بين يديه كتاب فيه شهادة على رجل من اهل وادى القرى فذكر النبى صلى الله عليه وآله و سلم فنال منه، فقال له الوالى: يا اباعبداللّه انظر فى (هذا - يب) الكتاب، قال: حتى أنظر ما قالوا، (قال - يب) فالتفت اليهم، فقال: ما قلتم ؟ قالوا: قلنا يؤدب و يضرب و يعزر و يحبس، قال: فقال لهم: أرأيتم لو ذكر رجلا من اصحاب النبى صلى الله عليه وآله و سلم (بمثل ما ذكر به النبى صلى الله عليه وآله و سلم - كا) ما كان الحكم فيه ؟ قالوا: مثل هذا، قال: (سبحان اللّه فقال - كا) فليس بين النبى صلى الله عليه وآله و سلم و بين رجل من اصحابه فرق، قال: فقال الوالى: دع هولاء يا اباعبداللّه، لو أردنا هولاء لم نرسل اليك (قال - يب).
فقال ابوعبداللّه عليه السلام: أخبرنى أبى عليه السلام: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قال: (إنّ - كا) الناس فىّ أسوة سواء من سمع احدا يذكرنى فالواجب عليه أن يقتل من شتمنى و لايرفع الى السلطان و الواجب على السلطان إذا رفع أن يقتل من نال منى. (قال - يب) فقال زياد بن عبيداللّه: أخرجوا (هذا - يب) الرجل فاقتلوه بحكم أبى عبداللّه عليه السلام.(1)
ظاهره وجوب القتل على كل من تمكن منه و لايلزم رفعه الى السلطان.
وثانيها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: إنّ رجلا من هذيل كان يسبّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وآله و سلم فقال: من لهذا؟ فقام رجلان من الانصار، فقالا: نحن يا رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم، فانطلقا حتى أتيا عربةً (ناحية بقرب المدينة) فسألا عنه فإذا هو يتلقى غنمه فلحقاه بين اهله و غنمه، فلم يسلّما عليه، فقال: من انتما؟ و ما اسمكما؟ فقالا له: انت فلان بن فلان، فقال: نعم، فنزلا فضربا عنقه.
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 24 من أبواب القذف، ح 2.
ص: 21
قال محمد بن مسلم: فقلت: لابى جعفر عليه السلام أرايت لو أنّ رجلا الان سبّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم أيقتل ؟ قال: إن لم تخف على نفسك فاقتله(1). صدر الحديث يدل على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم بعث للفتك، و ذيله يدل على أنّ حكم الساب هو القتل من دون استيذان من الحاكم إلاّ أنّه مشروط بعدم الخوف على نفس المؤمن.
لايقال: لعل قوله: فاقتله، اذن لذلك.
لأنّا نقول: إنّ الظاهر أنّه فى مقام بيان الحكم فى فرض فرضه السائل لا الاذن لمن استاذن منه.
وثالثها: صحيحة داود بن فرقد، قال: قلت: لابى عبداللّه عليه السلام ما تقول فى قتل الناصب ؟ قال: حلال الدم، لكنى اتقى عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه فى ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل. قلت: فماترى فى ماله ؟ قال: توّه ما قدرت عليه.(2) توّه اى أهلك و هو كناية على التصرف.
و المراد من النواصب هم الفرقة الملعونة التى تنصب العداوة و تظهر البغضاء لاهل البيت عليهم السلام كمعاوية و يزيد و من تبعهما، و لاشبهة فى كفرهم لانكارهم ضرورى الاسلام و هو حب أهل البيت عليهم السلام و هو مما صرح به الله سبحانه و تعالى فى القرآن و اصر عليه النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى مواطن كثيرة.
و كيف كان تدل هذه الصحيحة على اختصاص جواز الفتك بالناصبين بما إذا كان قادرا عليه و لايلزم منه مفسدة على الفاتك أو غيره من المؤمنين.
ورابعها: صحيحة هشام بن سالم، قال: قلت لابى عبداللّه عليه السلام: ما تقول فى رجل
**********
(1) جامع الاحاديث، الباب 24 من أبواب الفذف، ح 3.
(2) جامع الاحاديث، الباب 24 من أبواب القذف، ح 13.
ص: 22
سبّابة لعلى عليه السلام ؟ قال: فقال لى: حلال الدم و اللّه لو لا أن تعمّ (يغمز - يب) به بريئا.
قال: فقلت: فما تقول فى رجل مؤذ لنا؟ قال: فقال: فيماذا؟ (قال - يب) فقلت: (مؤذينا - كا) فيك بذكرك. قال: فقال (لى - كا) له: فى على عليه السلام نصيب. فقلت (له - يب): إنّه ليقول: ذاك و يظهره. قال: لاتعرض له.(1)
و قدم اظهار الولاية لعلى عليه السلام على ما ذكره بالنسبة الى أبى عبداللّه عليه السلام.
و رواه فى علل الشرايع عن أبيه عن احمد بن ادريس عن احمد بن محمد عن على بن الحكم عن هشام بن سالم، قال: قلت لابى عبداللّه عليه السلام: ماترى فى رجل سبّاب لعلّى عليه السلام ؟ قال: هو و اللّه حلال الدم لولا ان يعمّ به بريئا. قلت: اى شىء يعمّ به بريئا؟ قال: يقتل مؤمن بكافر.(2)
وخامسها: صحيحة هشام بن سالم عن أبى عبداللّه عليه السلام انه سئل عمن شتم رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فقال: يقتله الأدنى فالادنى قبل أن يرفعه الى الامام.(3)
وسادسها: صحيحة محمد بن مرازم عن أبيه، قال: خرجنا مع أبى عبداللّه عليه السلام حيث خرج من عند أبى جعفر المنصور من الحيرة، فخرج ساعة أذن له و انتهى الى السالحين (موضع على اربع فراسخ من بغداد الى المغرب على ما حكى فى المغرب) فى اول الليل، فعرض له عاشر كان يكون فى السالحين فى اول الليل، فقال له: لا أدعك أن تجوز فالحّ عليه و طلب اليه فأبى اباء، و أنا و مصادف معه، فقال مصادف: جعلت فداك، إنّما هذا كلب قد آذاك و أخاف أن يردّك و ما أدرى ما يكون من امر أبى جعفر و أنا و مرازم، أتاذن لنا أن نضرب عنقه ثم نطرحه فى النهر؟ فقال: كفّ
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 24 من أبواب القذف، ح 9.
(2) المصدر، ح 10.
(3) الكافى، ج 7، ص 259.
ص: 23
(كيف - خ) يا مصادف! فلم يزل يطلب اليه حتى ذهب من الليل اكثره، فاذن له، فمضى. فقال: يا مرازم! هذا خير أم الذى قلتماه ؟ قلت: هذا، جعلت فداك. فقال: إنّ الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك فى الذل الكبير(1).
ولعله محمول على أنّه من الناصبين أو السابين و لم يأذن الامام بالقتل لوجود الخوف عليهم و كيف كان فلاتصلح للاستدلال لإجمالها.
وسابعها: ما رواه فى عيون الاخبار بالإسناد المتقدم عن الرضا عليه السلام فى حديث محض الإسلام؛ و لايجوز قتل احد من الكفار و النصاب فى دار التقية الا قاتل اوساع (باغ - خ ل) فى فساد و ذلك إذا لم تخف على نفسك و على اصحابك(2).
و فى بعض النسخ قاتلا، و هو الاصح. و أمّا هذه النسخة فمحمولة على تقدير قتل، اى: إلاّ قتل قاتل او قتل ساع. و كيف كان يدل الخبر المذكور على عدم جواز قتل النصاب فى دار التقية، و معلوم إنّ الوجه فى المنع هو الدار التقية و الاّ فلامانع منه.
فتحصّل: أنّ الساب و الناصب مباح الدم و هما كالكفار الحربيين فى أنّهم يسعون فى هدم الإسلام و الاولياء، و يستحقون القتل و لايشترط جواز قتلهم بإذن خاص او عام من الامام عليه السلام او نائبه، بل جواز القتل حكم شرعى دائمى صادر عن الشارع. نعم، يكون ذلك الحكم مقيدا بعدم عروض الضرر على الفاتك او اصحابه، لحكومة ادلة نفى الضرر عليه.
هذا مضافا الى قوله عليه السلام: «إن لم تخف على نفسك، فاقتله» فى صحيحة محمد بن مسلم، او قوله عليه السلام: «إذا لم تخف على نفسك و على اصحابك» فى خبر عيون
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 24 من أبواب القذف، ح 16.
(2) جامع الأحاديث، الباب 8 من أبواب حد المحارب و المرتد، ح 11.
ص: 24
الاخبار، بدعوى: أنّ المستفاد منه هو اشتراط جواز الفتك و القتل بعدم عروض الخطر و الضرر على النفس و اصحابه.
أورد عليه فى جامع المدارك بأنّه: يمكن أن يقال: يمكن الخدشة فى ادلة نفى الضرر و حمل دليل نفى الضرر على عدم الجواز، نظير نفى الرفث و الفسوق فى الحج فى الاية الشريفة، فلايكون دليل نفى الضرر حاكما على ادلة الاحكام و ثانيا: نقول: إنّ الظاهر أنّه يلاحظ الاهمية مع فرض التقديم و الحكومة، ألا ترى أنّ الحج فى الاعصار السابقة كان ملازما لتحمل الضرر المالى و لم يقل احد بسقوط التكليف من جهة الضرر.
و أمّا الصحيحة المذكورة، فالشرط المذكور فيها عدم الخوف على النفس لاعدم الخوف على العرض و المال الخطير. نعم، صحيحة داود بن فرقد، قال: قلت لابى عبداللّه عليه السلام: ما تقول فى قتل الناصب ؟ فقال: حلال الدم، ولكن اتقى عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا او تغرقه فى ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل، الحديث. يستفاد منها: أنّه مع عدم القدرة على النحو المذكور لايجب المبادرة، لكنّه يكون الحكم مربوطا بالناصب لاالسابّ .(1)
وفيه: أولاً: إنّ ارادة خصوص النهى من النفى من دون قيام قرينة عليه مع إمكان ارادة التعميم (تعميم النفى) بلحاظ مطلق الحكم - تكليفا كان او وضعيا - خلاف الظاهر من ذلك التركيب الذى هو جملة اسمية، هذا بخلاف مثل: "لاجلب فى الاسلام" او "لابنيان كنسية فى الاسلام" فإنّ نفى الحكم فيها بنحو المطلق - تكليفا كان او وضعيا - غير ممكن، لان المفروض فيهما كونهما محكومين بالحكم التكليفى
**********
(1) جامع المدارك، ج 7، ص 112.
ص: 25
المتعلق بالفعل المصدرى و هو النهى عن الزام صاحب الماشية بسوق الماشية نحو الساعى للزكاة فى الأوّل، و النهى عن الإحداث فى الثانى. و من المعلوم أنّ عدم إمكان تعميم النفى يكون قرنية على ارادة خصوص النهى من النفى، كما أنّ ارادة غير الوضع فى مثل قوله: لاشفاء و لاحرج و نحوهما كذلك.
هذا مضافا الى أنّ مدخول «لا» طبيعة الضرر بمعناه الاسم المصدرى، لابمعناه المصدرى الذى هو فعل المكلف، فنفيه لايختص بخصوص فعل المكلف ليكون لازم نفيه حرمته، بل يعمه و الضرر الحاصل من امتثال احكامه تعالى.
وثانياً: إنّ حديث نفى الضرر لايشمل الاحكام التى تكون واردة مورد الضرر كالجهاد و الخمس و الزكاة و الحج، نعم لو كان الحج و نحوه موجبا للضرر الزائد عن الضرر المعمول لايبعد سقوطه بحديث نفى الضرر.
وثالثاً: إنّه لاخصوصية للناصب، و عليه فما ورد فى صحيحة داود بن فرقد يجرى فى الحكم فى الساب أيضا، هذا مضافا الى أنّ الموضوع فى صحيحة محمد بن مسلم هو الساب، على أنّ عموم «لاضرر» يكفى فى نفى الضرر من ناحية العرض و المال المعتد به الخطير.
و لقد أفاد و أجاد السيّد المحقّق الخوئى حيث قال: يجب قتل من سب النبى صلى الله عليه وآله و سلم على سامعه، ما لم يخف الضرر على نفسه او عرضه او ماله الخطير.(1)
ثم إنّ المستفاد من صحيحة هشام بن سالم قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: ما تقول فى رجل سبابة لعلى صلوات اللّه عليه ؟ قال: فقال: حلال الدم و اللّه، لو لا أن تعمّ به بريئا، الحديث، إنّ حكم سب على عليه السلام حكم سب النبى صلى الله عليه وآله و سلم، بل الامر كذلك فى
**********
(1) مبانى تكملة المنهاج، ج 1، ص 264، مسألة 214.
ص: 26
الائمة عليهم السلام و سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، لأنّ كلهم يجرون مجرى واحداً و هذا من المسلمات المتصلة الى زمان المعصوم عليه السلام.
و لذا قال فى جامع المدارك: و كذا الكلام فيمن سب احد الائمة (صلوات اللّه عليهم) إجماعا انتهى.
و يؤيده خبر على بن حديد المروى عن رجال الكشى: سمعت من يسال أبا الحسن الأول عليه السلام فقال: إنّى سمعت محمد بن بشير يقول: إنّك لست موسى بن جعفر الذى هو امامنا و حجتنا بيننا و بين اللّه تعالى (و نال منك - ظ) فقال: لعنه اللّه (ثلاثا) و اذاقه اللّه حرّ الحديد قتله اللّه اخبث ما يكون من قتلة، فقلت: إذا سمعت ذلك منه، او ليس حلالا لى دمه مباحا كما ابيح دم الساب لرسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم و للامام عليه السلام ؟ فقال: نعم، (حل و اللّه) حلّ و اللّه دمه و اباحه لك و لمن سمع ذلك منه. قلت: او ليس ذلك بساب لك ؟ قال: هذا سابّ للّه و ساب لرسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم و ساب لآبائى عليه السلام و ساب لى و اى سبّ ليس يقصر عن هذا و لايفوقه هذا القول، الحديث.(1)
والمستفاد منه: أنّ سابّ الائمة عليهم السلام كساب اللّه و رسوله صلى الله عليه وآله و سلم، قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و أمّا إلحاق سب الائمة و فاطمة الزهراء بالنبى (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، فلاخلاف بين الاصحاب، بل ادعى عليه الإجماع بقسميه، و ذلك لما علم من الخارج بالضرورة أنّ الائمة عليهم السلام والصديقة الطاهرة عليها السلام بمنزلة نفس النبى (صلوات اللّه عليه) و أنّ حكمهم حكمه و كلهم يجرون مجرى واحدا، و تؤكد ذلك عدة روايات.(2)
نعم، إن اظهر الساب الولاية لعلى عليه السلام ففى جواز قتله تامل، و ذاك لصحيحة هشام بن سالم قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: فما تقول فى رجل مؤذ لنا؟ قال: فقال: فى ماذا؟
**********
(1) الوسائل، الباب 27 من أبواب حد القذف، ح 6.
(2) مبانى تكملة المنهاج، ج 1، ص 264.
ص: 27
قلت: مؤذينا فيك بذكرك. قال: فقال لى: له فى على نصيب ؟ قلت: إنّه ليقول ذاك، و يظهره. قال: لاتعرض له.(1)
حيث امر بعدم التعرض عند وجود نصيب من الولاية له مع أنّه نال من الامام أبى عبداللّه الصادق عليه السلام.
أللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّه قضية فى واقعة. و لعل التعرض له يوجب اثارة الفتنة. لايقال: فى قوله: (له فى علّى نصيب) احتمالان: احدهما: أن يكون فى مقام الاستفهام و المراد هو السؤال عنه أنّه يتولى عليا او لا؟ و يقول بامامته او لا؟ و ثانيهما: أن يكون استفهاما انكاريا، يعنى كيف يكون شاتمنا مواليا لعلى عليه السلام، و كيف كان فالرواية مجملة فلايصلح للاستدلال.
لانّا نقول: قوله: «لاتعرض» قرينة على أنّ الاستفهام ليس بانكارى، و إلاّ فلايساعده قوله عليه السلام: «لاتعرض له» كما لايخفى.
و كيف كان فالسب او النصب للعداوة لاهل البيت عليهم السلام يوجبان إباحة الدم، فيجوز حينئذ قتله، و لو بالفتك، كما صرح به فى صحيحة داود ابن فرقد، نعم، يشترط ذلك بعدم عروض خطر و ضرر على الفاتك او اصحابه او غيرهم من المؤمنين او عرضهم او اموالهم الخطيرة، و لاحاجة فى جواز القتل الى الاستيذان من الحاكم.
ثم إنّ قتل الساب و الناصب و إن لم يكن مقيدا بصورة الفتك ولكنه يتحقق به غالبا فى مقام العمل، كما لايخفى، و قد تقدم صحيحة داود بن فرقد التى تدل على جواز تخريب الحائط عليه او غرقه فى الماء عند القدرة، و من المعلوم أنّهما من موارد الفتك كما لايخفى.
**********
(1) الكافى، ج 7، ص 269.
ص: 28
الرواية الاولى: هى ما رواه فى الفقيه بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام، قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام، و قال: من اطلع على مؤمن فى منزله فعيناه مباحتان للمؤمن فى تلك الحال، و من دمر على مؤمن فى منزله بغير اذنه فدمه مباح للمؤمن فى تلك الحال، و من جحد نبيا مرسلا نبوته و كذبه فدمه مباح. قال: قلت: أرايت من جحد الامام منكم، ما حاله ؟ فقال: من جحد اماما برئ من اللّه و برئ منه و من دين اللّه فهو كافر مرتد عن الاسلام لأنّ الامام من الله و دينه دين الله و من بر من دين الله فهو كافر و دمه مباح فى تلك الحال، إلاّ ان يرجع و يتوب الى اللّه عزوجل مما قال: و من فتك بمؤمن يريد ماله و نفسه فدمه مباح للمؤمن فى تلك الحال.(1)
هذه الرواية تدل على إباحة دم من جحد النبى المرسل و كذبه، و هكذا تدل على إباحة دم من جحد الامام عليه السلام لان دينه دين اللّه، و أمّا إنّ إباحة الدم لكل من سمع فلاصراحة فيها. نعم، لعلّ وحدة السياق تدل على كونه كذلك، فتامل. و كيف كان يختص ذلك بجحد النبوة و أمّا جحد الامام فهو محمول على ما إذا قطع بنصب الامام من ناحية اللّه و رسوله او محمول على من لم يقطع بالنصب. ولكن احتمل ذلك و كان مقصرا فى عدم التحقيق الذى يكون ممكنا له، و أمّا الجاهل القاصر فلايكون مرتدا بانكار ما لم يعلم و لم يمكن له التحقيق فيه، و على كل تقدير لم يعامل معهم معاملة الكفار ما لم يتركوا الشهادتين كما عليه السيرة.
الرواية الثانية: هى ما رواه فى الكافى بسند موثق عن عمار الساباطى: قال:
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 2 من أبواب حدّ المحارب و المرتد، ح 1.
ص: 29
سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول: كل مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام و جحد محمدا صلى الله عليه وآله و سلم نبوته و كذّبه فان دمه مباح لكل من سمع ذلك منه، و امرأته بائنة منه يوم ارتد فلاتقربه و يقسم ماله على ورثته و تعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها و على الامام أن يقتله (ان أتى به - فقيه) و لايستتيبه.(1)
ظاهر هذه الرواية إنّ إباحة الدم لكل من سمع، و عليه يحمل قوله: «و على الامام أن يقتله» على صورة الإتيان به الى الامام، كما يشهد له نسخة الفقيه، لا أنّ ذلك مختص بالامام، كما هو ظاهر قوله: «و على الامام أن يقتله» على نسخة غير فقيه، و به يرفع اليد عن ظاهر قوله عليه السلام: «فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه» و لااقل من الإجمال فلايجوز بدون اذن الامام.
الرواية الثالثة: ما رواه فى الكافى بسند صحيح عن محمد بن مسلم: قال: سالت أباجعفر عليه السلام عن المرتد، فقال: من رغب عن الإسلام و كفر بما أنزل اللّه على محمد صلى الله عليه وآله و سلم بعد إسلامه فلاتوبة له، و قد وجب قتله و بانت منه امرأته و يقسم ما ترك على ولده.(2)
هذه الرواية تدل على وجوب القتل، و أمّا جوازه او وجوبه لكل من سمع، فساكتة عنه.
الرواية الرابعة: هى ما رواه فى الكافى بسند صحيح عن على بن جعفر عن أخيه أبى الحسن عليه السلام: قال: سالته عن مسلم تنصّر؟ قال: يقتل و لايستتاب. قلت: فنصرانى أسلم ثم ارتد عن الإسلام ؟ قال يستتاب، فان رجع، و إلاّ قتل.(3)
و هذه الرواية ساكتة بالنسبة الى جواز قتله لكل من سمع ذلك.
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 2 من أبواب حد المحارب و المرتد، ح 2.
(2) جامع الأحاديث، الباب 2 من أبواب حد المحارب و المرتد، ح 3.
(3) جامع الأحاديث، الباب 2 من أبواب حد المحارب و المرتد، ح 6.
ص: 30
الرواية الخامسة: هى ما رواه فى الكافى بسند صحيح عن عبداللّه بن سنان عن أبى عبداللّه عليه السلام: قال: من شك فى اللّه و فى رسوله صلى الله عليه وآله و سلم فهو كافر.(1)
و لعلّه ظاهر فى حدوث الشك فى اللّه و فى رسوله بعد ما اعتقد بهما و الاّ فلايكون مرتبطا بالارتداد.
قال فى جامع المدارك: إنّ الشاك تارة لايظهر شكه و يظهر الإسلام و هو كافر واقعا و يعامل معه معاملة المسلم، و المنافقون كانوا كذلك، و كانوا محقونين من جهة الدم و مع إظهار الإسلام سابقا يكون مرتدا و مع عدم الإسلام كافر غير مرتد يعامل معه معاملة سائر الكفار.(2)
و قد عرفت أنّ الظاهر من قوله: «من شك فى اللّه، الخ» حدوث الشك بعد الإسلام فلايشمل الكافر غير المرتد ثم مع حدوث الشك سواء كان مسبوقا بالإسلام فطرة او ملة، يساوى المرتد فالمرتد سواء كان مليا او فطريا، فهو مشمول لهذه الرواية الدالة على كفره. ثم الفطرى محكوم بالقتل، و لافرق بين أن يتوب او لا، و الملى محكوم بالقتل إن استتيب و لم يتب.
أحدها: إنّ دلالة بعض الاخبار على جواز قتل المرتد لكل من سمع، محل اشكال. و القدر المتيقن منه هو أنّ امر المرتد بيد الحاكم الشرعى، و يؤيد ما ذكر ما حكاه فى الجواهر عن المسالك إنّ قتل المرتد بدون اذن الامام يوجب الاثم.(3)
ثانيها: قال فى الجواهر: أمّا لو قتله (أى المرتد) مسلم فلاقود قطعا لعدم المكافأة و
**********
(1) جامع الأحاديث، باب 7 من أبواب حد المحارب و المرتد، ح 1.
(2) جامع المدارك، ج 7، ص 113.
(3) الجواهر، ج 42، ص 166.
ص: 31
فى الدية تردد و الاقرب عند المصنف و الفاضل و غيرهما: أنّه لادية للاصل و عدم احترام نفسه و إن اثم غير الامام بقتله.
ولكن قد يناقش بأنّ ذلك يقتضى عدم القود فى الاول (اى قتل الذمى مرتدا) فان دعوى اختصاص عدم الاحترام بالنسبة الى المسلمين خاصة لادليل عليها، و من هذا احتمل وجوب الدية لانه محقون الدم بالنسبة الى غير الامام.(1)
ثالثها: إنّ إجراء القتل بيد الحاكم الشرعى، فان راى المصلحة فى إجرائه علنا فهو، و إن لم يَرَ ذلك فله إجراء القتل فتكا إن لم يترتب عليه ضرر عليه او علي المسلمين او على الإسلام.
رابعها: إنّ المأخوذ فى قبال الفتك حلال ان كان مع الاستئذان من الحاكم الشرعى و إلاّ فهو حرام.
خامسها: إنّ الارتداد يتحقق بانكار المعلوم و المقطوع من الدين، سواء كان ضروريا او غيره، فاذا علم بذلك و أنكره اختيارا و عمدا كان مرتدا، و يلحق به الجاهل المقصر مع إمكان تعلم الدين و تقصيره فيه، لإطلاق الخطاب و شموله للعامد، و المفروض ان الجاهل المقصر عامد، نعم الجاهل القاصر لايحكم بارتداده إن أنكر المعلوم و المقطوع من الدين لجهالته و خروجه عن اطلاق الخطاب بالقرينة العقلية و الارتكازية.
و هكذا لو قال احد: إن كان هذا من الدين فأنا لا اقبله، لاعتقاده بأنّه ظلم و نحوه، و كان فى الواقع من الدين و لم يكن ظلما، فهو ليس بارتداد، فإنّه أنكر الظلم فى اعتقاده لاالدين. و إن اعتقد احد بكون شىء من الدين ولكن جادل، و قال: إنّه لم
**********
(1) الجواهر، ج 42، ص 166.
ص: 32
يكن مما قاله اللّه او رسوله، أمكن أن يقال: إنّه لم يكن مرتدا، لانه لم ينكره، و إنّما افترى على اللّه و رسوله بأنّهما لم يقولا ذلك. نعم إن كان صائما بطل صومه، لانه كذب على اللّه و رسوله، ولكن لاوجه لارتداده بذلك كما لايخفى.
سادسها: إنّه إذا شك فى تحقق الارتداد و عدمه، فمقتضى الاستصحاب هو الحكم بكون المسلم باقيا على اسلامه و لا ارتداد.
سابعها: إنّه إن ادعى المرتد أنّه لم يقصد الإنكار، فلايبعد استماع دعواه، لان الحدود تدرء بالشبهات. هذا مضافا الى أنّه أعرف بنيته.
ومنها: ادعاء النبوة، قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: من ادعى النبوة وجب قتله من دون حاجة الى الاذن من الحاكم الشرعى من دون خلاف بين الفقهاء.
وتدل على ذلك معتبرة أبن أبى يعفور،(1) قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: إنّ بزيعا يزعم أنّه نبى، فقال: إن سمعته يقول ذلك فاقتله، الحديث.(2) و معتبرة أبى بصير يحيى بن ابى القاسم(3) عن أبى جعفر عليه السلام فى حديث: قال النبى صلى الله عليه وآله و سلم: أيّها الناس! لابنى بعدى و لاسنة بعد سنتى فمن ادعى ذلك فدعواه و بدعته فى النار فاقتلوه و من تبعه فإنّه فى النار.(4)
قوله عليه السلام: «إن سمعته يقول ذلك فاقتله»، و قوله صلى الله عليه وآله و سلم: «أيّها الناس لابنى بعدى و لاسنة بعد سنتى فمن ادعى ذلك فدعواه و بدعته فى النار فاقتلوه، الحديث» يدلان
**********
(1) روى فى الكافى عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن ابن فضال عن حماد بن عثمان عن ابن ابى يعفور.
(2) الوسائل، الباب 7 من أبواب حد المرتد، ح 2.
(3) روى فى الفقيه باسناده عن على بن الحكم عن ابان الاحمر عن ابى بصير يحيى بن ابى القاسم.
(4) نفس المصدر، ح 3.
ص: 33
على جواز قتل من ادعى النبوة من دون احتياج الى الاستئذان، أللّهمّ إلاّ أن يقال: قتل من ادعى ذلك من الحدود و اقامتها من وظائف الامام عليه السلام، و الامر بالقتل لعله من باب إعمال الولاية لا من باب بيان حكم القتل من دون حاجة الى الاستئذان فتأمل.
ثم إنّ من تدين بما ادعى مدعى النبوة، كان مرتدا، إن كان تدينه به بعد كونه مسلما، و يترتب عليه احكام المرتد و إن شهد بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله و سلم، لان اللازم كما هو المحكى عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس سره هو الشهادة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله و سلم فى حال الشهادة و المتدين بما ادعى مدعى النبوة لم يشهد على ذلك بل هو شهد على أنّ نبينا كان نبينا و النبى حال الشهادة هو المدعى للنبوة و هو ارتداد.
و مما ذكر يظهر حكم الفرق الضالة المضله كالبهائيين فإنّهم لايشهدون بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله و سلم فى حال الشهادة. هذا مضافا الى إنكارهم الخاتمية مع أنّها من الضروريات و إنكارها مع العلم او الجهل التقصيرى يوجب الكفر و الارتداد.
ثم عرفت أنّ امر قتلهم بيد الحاكم الشرعى، فإن لم يكن مانع فهو، و إلاّ فان أمكن الفتك فهو، و إلاّ فسقط التكليف مادام كان الامر كذلك.
تنبيه: فى عدم مشروعية فتك جماعة يكون فيهم من لايستحق لذلك و غير خفى أنّ جواز الفتك فى الموارد الخاصة يختص بمستحقه فلايجوز فتك غيره ممن لايستحق ذلك و إن لم يكن مسلما، و لم أر موردا جوّز الشارع فتك احد بقتل من لايستحق، و عليه فلو قتل احد غير المستحق للفتك فإن كان مسلما فعليه القود و القصاص على ما قرر فى محله، و لا يرفع حكم القصاص و القود باستحقاق فتك من كان مصاحبا معه، نعم لو كانت جماعة مستحقين للفتك و القتل لكونهم من اهل الحرب او غير ذلك من وجوه الاستحقاق فكل واحد منهم مهدور الدم، و لايترتب على قتلهم مطلقا سواء كان بالانفراد او بالاجتماع قود و لاقصاص ولادية.
ص: 34
و بالجملة؛ فلامشروعية لفتك جماعة ممن لايستحقون له بعذر وجود من يستحق لذلك بينهم او بغيره من الاعذار، فلاتغفل.
نعم، إذا توقف قتل المرتد على قتل مسلم او غير مهدور الدم ممن لايجوز قتله دار الأمر بين المحذورين، بل قتل المسلم مشمول لقوله عليه السلام فى خبر هشام بن سالم، قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: ماترى فى رجل سبّاب لعلىّ عليه السلام قال: هو واللّه حلال الدم لولا أن يعمّ به بريّاً قلت: أىّ شى يعمّ بريئا؟ قال: يقتل مؤمن بكافر،(1) فتأمّل.
**********
(1) جامع الأحاديث، الباب 24 من أبواب قذف، ح 10 (ج 30، ص 518، ح 11).
ص: 35
ص: 36
يقع الكلام فى اُمور:
الأمر الأول: فى معانى الفتنة، قال فى مصباح اللغة: فتن المال الناس من باب ضرب فتونا استمالهم و فتن فى دينه و افتتن أيضا بالبناء للمفعول مال عنه و الفتنة المحنة و الابتلاء و الجمع الفتن و أصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب و الفضّة إذا أحرقته بالنار ليبين الجيّد من الردئ.
قال فى تاج العروس: الفتنة إعجابك بالشىء، الضلال، الإثم، الكفر و منه قوله تعالى: (وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ ) ، الفضيحة و منه قوله تعالى: (وَ مَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ فِتْنَتَهُ ) أى فضيحته العذاب، إلى أن قال: قال الأزهرى و غيره: جماع معنى الفتنة الابتلاء و الامتحان و الاختبار و أصلها مأخوذ من الفتن و هو إذابة الذهب و الفضّة بالنار لتميّز الردئ من الجيّد ثم استعمل فى إدخال الإنسان النار و العذاب، إلى أن قال: و الفتنة الإضلال نحو قوله تعالى: (مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفٰاتِنِينَ ) (1) أى بمضلّين إلّا من أضلّه اللّه تعالى، إلى أن قال: و الفتنة المال و الأولاد، إلى أن قال: و الفتنة اختلاف الناس فى الآراء، إلى
**********
(1) الصافات، 162.
ص: 37
أن قال: قال الراغب: وجعلت الفتنة كالبلاء فى أنّهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة و رخاء و هما فى الشدّة أظهر معنى، انتهى موضع الحاجة، و موارد الاستعمال أزيد مما ذكره أهل اللغة كتقليب الأمور و الإخلال و إيجاد الحرب أو البدع.
و كيف كان فأكثر موارد الاستعمال أمكن إدراجها فى جامع الابتلاء و الامتحان و عليه فاللفظ بين هذه الموارد مشترك معنوى ولكن بعض اخر كالإضلال و إيجاد الاختلاف و إظهار البدع و الإخلال فى أمور المسلمين و تقليب الأمور و نحوها خارج عن الجامع المذكور بملاحظة صدورها عن الفاعل و إن أمكن إدراجه فيه بعناية مورد وقوعها، فإنّ هذه الأمور ابتلاء و امتحان لهم و عليه فيكون اللفظ بين المعنى الجامع بين هذه الموارد و بين تلك الموارد مشتركا لفظيا.
و كيف كان، فالمقصود بالبحث هنا هى الطائفة الأخيرة كالإخلال و الإضلال و إظهار البدع ونحوها مما يوجب صرف المؤمنين عن إيمانهم.
الأمر الثانى: فى حرمة الفتنة بالمعنى الأخير و لاإشكال و لاخلاف فى حرمته، بل هى من المسلّمات بين المسلمين و يدلّ عليها من الآيات.
قوله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مٰا زٰادُوكُمْ إِلاّٰ خَبٰالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلاٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ * لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ * وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لاٰ تَفْتِنِّي أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ ) (1) حيث يدلّ على مذمّة المنافقين فى ابتغائهم الفتنة مع توعيدهم بالجهنّم بقوله تعالى: (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ ) .
**********
(1) التوبة، 49-47.
ص: 38
وقوله عزّوجلّ : (هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ ) (1) الآية فابتغاء الفتنة ناش من الزيغ و هو يوجب إزاغة الله بنصّ قوله تعالى: (وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ ) (2) و قوله عزّوجلّ : (وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنٰا نَصِيراً) (3) تدلّ هذه الآيات على أنّ الانحراف عن أحكام اللّه تعالى يوجب العذاب.
وقوله تبارك وتعالى: (وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لاٰ تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ حَتّٰى يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ * فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاٰ عُدْوٰانَ إِلاّٰ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ) .(4)
و لايخفى عليك أنّ المراد من الفتنة فى قوله: (اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ ) هو صرف المؤمنين عن إيمانهم و إضلالهم و أيضا عطف قوله تعالى: (وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ ) فى الآية الكريمة على قوله عزّوجلّ : (حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ ) يدلّ على أنّ المراد من الفتنة هى الأمور الداعية للناس إلى الخروج عن توحيداللّه و إطاعته و قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (5) قال فى تفسير الشبّر لنغرينّك لنأمرنّك بقتالهم و إجلائهم و
**********
(1) آل عمران، 7.
(2) الصف، 5.
(3) الاسراء، 75-73.
(4) البقرة، 193-191.
(5) الأحزاب، 61-60.
ص: 39
الإرجاف أى إشاعة الأكاذيب مصداق من مصاديق الفتنة، و غير ذلك من الآيات.
و يدلّ عليه من الأخبار ما رواه الكشّى فى كتاب الرجال عن الحسين بن الحسن بن بندار عن سعد بن عبداللّه عن محمد بن عيسى بن عبيد، إنّ أباالحسن عليه السلام أهدر مقتل فارس بن حاتم و ضمن لمن يقتله الجنة، فقتله جنيد و كان فارس فتّانا يفتن الناس و يدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبى الحسن عليه السلام: هذا فارس يعمل من قبلى فتّانا داعيا إلى البدعة و دمه هدر لكلّ من قتله فمن هو الذى يريحنى منه و يقتله و أنا ضامن له على اللّه الجنة.(1) ولكنّ الرواية ضعيفة لعدم توثيق الحسين بن الحسن بن بندار ولكنّ حكى عن تعليقة الوحيد البهبهانى أنّه معتمد عليه.
وصحيحة زرارة قال: سألت أباعبداللّه عليه السلام عن الحلال و الحرام، فقال: حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لايكون غيره ولايجيئ غيره و قال: قال على عليه السلام: ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سنة.(2)
والبدعة مخالفة لصريح نصّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم و موجبة لترك ما ورد من النبى صلى الله عليه وآله و سلم من السنّة القطعيّة و هى من الموبقات، و معتبرة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: خطب أميرالمؤمنين عليه السلام الناس، فقال: يا أيها الناس! إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللّه يتولّى فيها رجال رجالا، الحديث.(3)
و فى الطريق معلّى بن محمد و حيث إنّه من مشايخ الاجازة و أخبر بكتبه جماعة كما فى الست لايبعد الوثوق به، هذا مضافا إلى ما حكى عن تعليقة الوحيد البهبهانى من أنّه قال: قال جدّى: لم نطّلع على خبر يدلّ على اضطرابه. و كيف كان هذه الرواية
**********
(1) الوسائل، الباب 6 من أبواب المحارب، ج 28، ص 320-319، ح 1 و 2.
(2) الكافى، ج 1، ص 58، ح 19.
(3) الكافى، ج 1، ص 54، ح 1.
ص: 40
تدلّ على أنّ البدعة ناشئة من الأهواء و مخالفة لكتاب اللّه تعالى و من المعلوم أنّ البدعة المذكورة من الفتن و هى من الموبقات.
وخبر أبى حمزة الثمالى عن على بن الحسين قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر فى تجاه وجهى ثم قال: يا على بن الحسين! مالى أراك كئيباً حزينا، إلى أن قال (الرجل): ممّ حزنك ؟ قلت: مما نتخوّف من فتنة بن الزبير و ما فيه الناس. قال: فضحك، ثم قال: يا على بن الحسين! هل رأيت أحدا دعى اللّه فلم يجبه ؟ قلت: لا. قال: فهل رأيت أحدا توكّل على اللّه فلم يكفه ؟ قلت: لا. قال: فهل رأيت أحدا سأل اللّه فلم يعطه ؟ قلت: لا. ثم غاب عنى.(1) و من المعلوم أنّ مخالفة ابن زبير من الفتن الموبقة.
وخبر حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام فى وصية النبى صلى الله عليه وآله و سلم لعلى عليه السلام قال: يا على! كفر باللّه العظيم من هذه الاُمة عشرة، القتّات و الساحر و الديّوث و ناكح المرأة حراما فى دبرها و ناكح البهيمة و من نكح ذات محرم و الساعى فى الفتنة و بايع السلاح من أهل الحرب و مانع الزكاة و من وجد سعة و لم يحجّ ، الحديث.(2) القتّات النمام، و دلالة الرواية على حرمة السعى فى الفتنة بالمعنى الذى يكون مورد البحث لاإشكال فيها ولكنّ الرواية ضعيفة من وجوه: أحدها أنّ طريق الصدوق إلى حمّاد بن عمر ليس بصحيح. وثانيها أنّ حمّاد بن عمر غير مذكور و هكذا أنس بن محمد.
وخبر محمد بن عمر بن على عن أبيه عن جدّه أنّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال له يا على! إنّ اللّه تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد فى الفتنة من بعدى كما كتب عليهم الجهاد مع
**********
(1) الكافى، ج 2، ص 64-63.
(2) الوسائل، الباب 7 من أبواب وجوب الحج، ج 11، ص 31، ح 3.
ص: 41
المشركين معى. فقلت: يا رسول اللّه! و ما الفتنة التى كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لاإله إلا اللّه و أنّى رسول اللّه و هم مخالفون لسنتى و طاعنون فى دينى. فقلت: فعلامَ نقاتلهم يا رسول اللّه! و هم يشهدون أن لاإله إلا اللّه و أنّك رسول اللّه ؟ فقال: على إحداثهم فى دينهم و فراقهم لأمرى و استحلال دماء عترتى...، الحديث.(1) و الرواية ضعيفة
و خبر فرات بن إبراهيم فى تفسيره عن على بن محمد بن إسماعيل معنعنا عن زيد - فى حديث - أنّه لما نزل قوله تعالى (إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اَللّٰهِ وَ اَلْفَتْحُ ) السورة، قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ اللّه قضى الجهاد على المؤمنين فى الفتنة بعدى، إلى أن قال: يجاهدون على الأحداث فى الدين إذا عملوا بالرأى فى الدين و لارأى فى الدين، إنّما الدين من الرب أمره و نهيه.(2) و الرواية ضعيفة.
و ما رواه فى معانى الأخبار عن أبيه عن سعد بن عبداللّه عن أحمد بن أبى عبداللّه عن أبيه عن أحمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: أخبرنى جبرئيل أنّ ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام و ما يجدها عاق و لاقاطع رحم و لاشيخ زان و لاجار إزاره خيلاء و لافتّان و لامنّان و لاجعظرى، قلت: و ما الجعظرى قال: الذى لايشبع من الدنيا.(3) و الفتان مبالغة فى الفتنة و الرواية ضعيفة لعدم توثيق عمرو بن شمر.
وما رواه فى نهج البلاغة و ناظر قلب اللبيب به يبصر أمده و يعرف غوره و نجده. داع دعا و راع رعى فاستجيبوا للداعى و اتبعوا الراعى. قد خاضوا بحار الفتن و
**********
(1) الوسائل، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 82، ح 7.
(2) الوسائل، الباب 6 من أبواب صفات القاضى، ج 27، ص 61، ح 50.
(3) الوسائل، الباب 49 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 347، ح 20.
ص: 42
أخذوا بالبدع دون السنن و أرز المؤمنون ونطق الضالّون المكذّبون. نحن الشعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب، و لاتؤتى البيوت إلاّ من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا.(1)
وصحيحة محمد بن مسلم قال: قلت لأبى جعفر عليه السلام: قول اللّه عزّوجلّ : (وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ ) فقال: لم يجىء تأويل هذه الآية بعد، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم خصّ لهم لحاجته و حاجة أصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم ولكن يقتلون حتى يوحّد اللّه و حتى لايكون شرك(2) و مما تدلّ على أنّ الفتنة محكومة بالإفناء بالمقاتلة.
و بالجملة فالمستفاد من الآيات و الروايات المذكورة أنّ ابتغاء الفتنة من الزيغ و من كان كذلك يكون مشمولا لقوله تعالى: (فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ ) .(3) و أيضا يستفاد من قوله «وإن كادوا ليفتنونك» الآية، أنّ الانحراف عن أحكامه تعالى يوجب العذاب. هذا مضافا إلى إنّ جعل عدم وجود الفتنة غاية لوجوب القتال، يدلّ على مبغوضية الفتنة و شدّتها، بل صرّح بذلك بقوله تعالى: (وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ ) و هو يدلّ على أنّ الفتنة و هى الإضلال و الإثم أشدّ من القتل، فإذا كان القتل من الكبائر فإيجاد الفتنة أولى بذلك. هذا مضافا إلى أنّ فتنة المؤمنين مطلقا مشمولة لقوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ فَتَنُوا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ اَلْحَرِيقِ ) .(4) و مضافا إلى دلالة حرمة النميمة على حرمة الفتنة بالمعنى المذكور بالأولوية.
**********
(1) الوسائل، الباب 10 من أبواب صفات القاضى، ج 27، ص 134، ح 30. نهج البلاغه، خطبة 154.
(2) الوسائل، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 127، ح 2.
(3) الصف، 5.
(4) البروج، 10.
ص: 43
فتحصل أنّه لاإشكال فى حرمة الفتنة بالمعنى الأخير، فلاتغفل.
الأمر الثالث: إنّه إذاعرفت حرمة الفتنة، كان المأخوذ فى قبالها محرّما، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه. و لافرق فى ذلك بين كون المأخوذ من بعض المنافقين فى داخل البلد أو من الكفار الذين كانوا فى خارج البلد. و لافرق فى حرمة المأخوذ بين أن يكون عوضا عن الفتنة أو عوضا عن العمليات التى توجب تحقّق الفتنة فى الخارج.
والفتنة بالمعنى المذكور تتحقّق بأنواع مختلف، كإشاعة ما يوجب خوف المسلمين من العدوّ أو إضلالهم أو إذاعة الأكاذيب لتضعيف الحكومة أو الإضلال فى الأمور أو نشر البدع و غير ذلك مما يوجب سوق الناس نحو الاختلاف و الضعف فى القدرة و الاعتقادات و نحوهما.
الأمر الرابع: إنّ الفتنة حيث اختلفت أنواعها فلايكون المواجهة معها سواء. فإذا كانت الفتنة هو الإضلال و الصدّ عن سبيل اللّه و المنع عن نشر الدين و الالتزام به، فاللازم هو منعهم و لو بالقتال. و إذا كانت هى الإشاعة لما يوجب الخوف، فاللازم هو المنع عن ذلك و لو بالقتال و الإجلاء و غير ذلك بما يراه الحاكم الإسلامى مصلحة فى المواجهة لذلك على ما قرّر فى محلّه.
الأمر الخامس: إنّ الفتنة الاقتصادية تكون محرمة، لأنّها توجب الإخلال فى النظام الإسلامى و يعامل مع من أخلّ بما هو قرّره القانون مع انفاذ الحاكم الشرعى الجامع للشرائط.
الأمر السادس: إنّ إيجاد الفتنة فى جماعة الكفار المحاربين المعاندين للدولة الإسلامية جائز بل قد يكون واجبا.
ص: 44
قال فى الجواهر: قد تجوز و تستحبّ أو تجب لإيقاع الفتنة بين المشركين و تقوية المتقين على المبطلين.(1)
الأمر السابع: إنّ تجهيز أهل الفتنة بما يوجب تقويتهم، محرّم بالنصّ و الإجماع. قال اللّه تعالى: (وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ ) .(2) و يؤيّده خبرهند السرّاج، قال: قلت لأبى جعفر عليه السلام: أصلحك اللّه، ما تقول إنّى كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلما عرّفنى اللّه هذا الأمر ضقت بذلك و قلت: لاأحمل إلى أعداء اللّه. فقال لى: احمل إليهم إنّ اللّه يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم يعنى الروم، بعهم فإذا كان الحرب بيننا فمن حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك.(3)
**********
(1) الجواهر، ج 22، ص 73.
(2) المائدة، 2.
(3) الاستبصار، ج 3، القسم الاول، ص 58.
ص: 45
ص: 46
و لا إشكال فى حرمته كالإقدام بتوزيع الموادّ الافيونيّة بين الناس أو نشر الصور المبتذلة القبيحة لسوق الناس نحو الزنا أو اللَّواط و غيرهما من الفحشاء و المنكرات، أو كالقيام بالسِّلاح فى وجه الحكومة الإسلامية أو فى وجه الناس، أو كقتل الذمّى مكرّرا أو كقتل العبيد مكرّرا و غير ذلك من موارد الإفساد؛ و كفى فى حرمته ارتكاز العقلاء بقبح الفساد و استحقاق عامله للعذاب و النّكال حسبما يوجب الفساد.
و يشهد له قوله تعالى حكاية عن فرعون: (وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىٰ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسٰادَ) (1) لأنّ الظاهر منه أنّ إظهار الفساد فى الأرض ممّا يوجب عند كلّ عاقل جواز دفعه ولو بالقتل.
منها: قوله عزّوجلّ : (إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ)
**********
(1) غافر، 26.
ص: 47
(يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ) (1) الآية بناء على أنّ عطف قوله (وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً) عطف العامّ على الخاصّ ، و الحكم المذكور فى الآية حكم المفسد.
ودعوى: أنّ هذا يتمّ لو اقتصر على عنوان السعى فى الأرض فسادا، و أمّا إذا لم يقتصر عليه بل ذكر أوّلاً عنوان المحاربة لله و رسوله، ثمّ عطف عليه السعى فى الفساد فى الأرض بواو العطف الدالّة على الجمع بين المعطوف و المعطوف عليه، كان مفاده أنّ علّة هذه المجازاة و سرّها اجتماع الأمرين: المحاربة لله و رسوله و السعى فى الأرض فسادا، فلا يكفى مجرّد الإفساد فى الأرض فى ترتّب العقوبة المذكورة.
مندفعة بما فى كلمات سديدة من أنّه: إنّما كان إلى ما ذكرت سبيل لو كان بين العنوانين تباين و لو جزئيا، و أمّا إذا كان العنوانان أعمّ و أخصّ مطلقا و كان العطف من باب عطف العامّ على الخاصّ ، فلا محالة ليس المقام من باب الجمع بين أمرين، بل من باب ذكر ما هو السرّ الحقيقى الواضح العامّ بعد ذكره بمصداق منه خاص.
توضيحه: أنّ المخاطب بالآية المباركة و الملقى إليهم هذه الآية حيث كان العقلاء و عامّة الناس فذكر الصلة الأولى، أعنى: محاربة الله و رسوله، و إن كان كافيا فى بيان علّة المجازاة المذكورة، فإنّه أىّ عمل أشنع و أوجب للمجازاة المذكورة و العذاب من محاربة الله تعالى، إلّا أنّ عامّة الناس لايلتفتون إلى عظم هذا الذنب، فإذا عطف عليه السعى فى الأرض فساداً الّذى هو فى مرتكز العقلاء كاف لأنواع المجازاة المذكورة، أذعن الناس بأنّ عمل هؤلاء بلغ مبلغا يستحقّون به المجازاة المذكورة، و عليه فالإفساد فى الأرض تمام موضوع لترتّب أنواع الحدود المزبورة.(2)
**********
(1) المائدة، 33.
(2) كلمات سديدة، ص 409-410.
ص: 48
ومنها: قوله عزّوجلّ : (وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَسٰادَ) .(1) و من المعلوم أنّه إذا لم يكن محبّاً للفساد أبغضه و هو يساوى الحرمة، نعم هو أيضا أخصّ من المدّعى.
ومنها: ما رواه فى العيون عن عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابورى العطار عن على بن محمد بن قتيبة النيسابورى عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام فى كتابه إلى المأمون، فقد جاء فيه: فلا يحلّ (و لايجوز) قتل أحد من النصّاب و الكفّار فى دار التقيّة، إلّا قاتل أو ساع فى فساد، و ذلك إذا لم تخف على نفسك و (على) أصحابك.(2) و الرواية معتبرة، لان الاول و هو عبدالواحد من مشايخ الصدوق، و الثانى و هو على بن محمد بن قتيبة مورد اعتماد الكشّى و لايضرّه كثرة روايته عن الضعفاء. و كيف كان استدل بها بدعوى أنّ تجويز قتل الساعى فى الفساد و خصوصا فى دار التقيّة فيما إذا لم يكن خوف يشهد على كون الفساد من المحرّمات الأكيدة، إذ جعل العقوبة بالقتل لا يمكن بدون كون الفساد من الكبائر.
هذا مضافا إلى حديث «لا ضرر و لاضرار» لما قرّر فى محلّه من أنّه يدلّ على عدم جواز الإضرار بالنفس أو بالغير و الإفساد من المصاديق الواضحة للإضرار.
و يؤيّد حرمة الإفساد ما رواه فى المستدرك عن الأمير صدر الدين محمد بن غياث الدين منصور الدَّشتكى الشيرازى فى رسالة قبايح الخمر على ما نقله السيّد المعاصر فى روضات، قال: روى عن طريق أهل البيت عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قال: سيأتى زمان على اُمتى يأكلون شيئا اسمه البنج، أنا برىء منهم و هم بريئون منّى،
**********
(1) البقرة، 205.
(2) العيون، ج 2، ص 124-121 طبع دار العلم.
ص: 49
و قال صلى الله عليه وآله و سلم: سلّموا على اليهود و النصارى و لاتسلّموا على آكل البنج، و قال صلى الله عليه وآله و سلم: من احتقر ذنب البنج فقد كفر، و قال: من أكل البنج فكأنّما هدم الكعبة سبعين مرّة، و كأنّما قتل سبعين ملكا مقرّبا، و كأنّما قتل سبعين نبيّاً مرسلا، الحديث.(1)
هذا بناء على النهى عن البنج من جهة إضراره و إفساده ولكن المحكىّ عن ابن سينا أنّه من المسكرات.(2) والمحكىّ عن العلّامة أنّه من المفسد للعقل و اتّفق علماء عصرنا و ما قبله على تحريمها؛ و كيف كان، فإن كان من المسكر فهو حرام، و إلّا فحرمته من جهة الإضرار.
و يؤيّد الحرمة أيضا ما رواه فى مسند أحمد بن حنبل عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم: أنّه قال: ألا إنّ كلّ مسكر حرام و كلّ مفتر و كلّ مخدّر حرام.(3)
فتحصّل أنّ كلّ ما يفسد الآحاد أو الاجتماع فهو محرّم.
ثم إنّنا لا نكون هنا فى مقام تعيين الحدّ للمفسد، إذ البحث عنه موكول إلى باب الحدود و يختلف حكمه حسب اختلاف مراتب الفساد، و إنّما نكون بصدد إثبات حرمة الإفساد، و لا إشكال فى ذلك كما تقدّم. فإذا عرفت حرمة الإفساد، بقى الكلام فى أنّ من أخذ شيئا فى مقابل الإفساد أخذ سُحتا و كان أكلاً للمال بالباطل، لأن العمل محرّم و العمل المحرّم لا ماليّة له شرعا و يؤيّده ما فى بعض الأحاديث من «أنّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه».:
وهنا مسائل: الاُولى: أنّه لا يجوز بيع هروئين و نحوه ممّا يوجب الفساد، و لافرق
**********
(1) المستدرك، الباب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة، ج 3، 145 الطبع القديم.
(2) القانون فى الطب، ج 3، ص 230.
(3) مسند، ج 6، ص 309.
ص: 50
فيه بين أن يكون المشترى معتادا و بين أن لايكون(1). و ذلك لإطلاق حرمة الإفساد و الضرر، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المعتاد الذى لايتمكّن من الترك يحتاج إليه فيجوز بيعه منه، ولكن حيث يكون ذلك منشأ للفساد بعذر الاعتياد فاللازم هو رجوع المعتادين المذكورين إلى الحكومة و تحريم البيع منهم من دون وساطة.
الثانية: أنّه لايملك صاحب الموادّ المذكورة ما يأخذه بعنوان الثمن، و التصرّف فيه حرام لنفسه و لغيره أيّاً من كان.(2) وذلك لفرض عدم المنفعة المحلّلة الشايعة لها فى نفسها أو بعد حكم الحاكم الشرعى بمصادرته و إتلافه فإنّه فى حكم مسلوب الماليّة.
الثالثة: أنّه لو فرض للموادّ المذكورة منفعة شايعة كاستعمالها فى بعض الأدوية، فالأحوط هو الاجتناب عن المبادلة مع من يدّعى صرفها فى بعض الأدوية، إلّا إذا كان ذلك تحت نظر الحكومة الإسلامية و تجويزها.
الرابعة: أنّ مصادرة الموادّ المذكورة أو جعل الجريمة عليها لا تجوز إلّا بأمر من له الولاية فى الحدود الذى عيّنه مصلحة للنّظام الإسلامى.
الخامسة: أنّه لا يجوز الاعتياد بالترياك، و يجب على المعتاد تركه لو لم يوجب الضرر.(3) هذا إذا لم يتزاحم الضرر المذكور بضرر الإبقاء، و إلّا فمع رجحان ضرر الإبقاء فلا يكون ذلك مانعا عن لزوم الترك. و أمّا عدم جواز الاعتياد بالترياك فهو للإفساد و الإضرار أيضا.
قال السيّد فى الوسيلة: إذا كان لايضرّ تناول شيئ مرّة أو مرّتين مثلاً ولكن يضرّ إدمانه و زيادة تكريره و التعوّد به يحرم تكريره المضرّ خاصّة. و من ذلك شرب
**********
(1) اسئفتاءات إمام، ج 2، ص 35.
(2) راجع استفتاءات امام، ج 2، ص 35.
(3) استفتاءات امام، ج 2، ص 37.
ص: 51
الأفيون بابتلاعه أو شرب دخانه، فإنّه لا يضرّ مرّة أو مرّتين، لكن تكراره و المداومة عليه و التعوّد به، كما هو المتداول فى بعض البلاد خصوصا ببعض كيفيّاته المعروفة عند أهله مضرّ غايته و فيه فساد و أىّ فساد! بل هو بلاء و أىّ بلاء! داء عظيم و بلاء جسيم و خطر خطير و فساد كبير، أعاذ الله المسلمين منه.
فمن دام شربه لغرض من الأغراض فليلتفت إلى أن لا يكثّره و لا يكون إلى حدّ يتعوّد و يبتلى به و من تعوّد به يجب عليه الاجتهاد فى تركه و كفّ النفس و العلاج بما يزيل عنه هذا الاعتياد(1) و هذا فيما إذا لم يكن خوف تناوله مرّة موجبا للاعتياد، و إلّا فالأحوط هو الاجتناب مطلقا، إلّا فى حال الضرورة و الاضطرار، فستعمل بمقدار رفع الضرورة، بل لعلّه الأقوى لشمول حديث «لا ضرر» لخوفه أيضا، و إلّا لوقع فيه كثيرا ما.
السادسة: أنّه إذا جمع شخص من طريق بيع الموادّ المخدّرة كالهروئين أموالا، ثم تاب من ذلك، فاللازم هو أن يردّ ما جمعه إلى مالكيه إذا عرفهم، و إلّا يتصدّق به من جانبهم للفقراء غير السّادة بإذن حاكم شرعى جامع للشرائط، و الله هو الهادى.
السابعة: أنّه يجب الممانعة عن بيعها و شراءها و لو بالقتال مع من يوزّعها بين الشباب لكونهم من المفسدين، و يعمّهم قوله تعالى: (وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً) ، و قوله عليه السلام: أو ساع فى فساد فى معتبرة فضل بن شاذان، فتأمّل جيّداً.
**********
(1) الوسيلة فى الأطعمة و الأشربة، القول فى غير الحيوان، ص 184.
ص: 52
ويقع الكلام فى مقامات:
المقام الاول: فى حرمته، قال الشيخ الأعظم: القمار حرام إجماعا و يدلّ عليه الكتاب و السنة المتواترة.
قال فى مصباح الفقاهة: لا خلاف بين الفقهاء من الشيعة و السنّة فى حرمة اللعب بالآلات المعدّة للقمار مع المراهنة، إلى أن قال: بل على حرمة القمار ضرورة مذهب الإسلام. و تدلّ عليها الآيات المتظافرة و الروايات المتواترة من طرقنا و من طرق السنّة. و قد أشير إلى حكمة التحريم فى قوله تعالى: (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ،(1) فإنّ أخذ مال الناس بغير تجارة و مشقّة موجب لإلقاء العداوة و البغضاء، و الاشتغال بلعب القمار يصدّ عن ذكر اللّه و عن امتثال الأحكام الإلهية.(2)
**********
(1) المائدة، 91.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 368.
ص: 53
و كيف كان، يدلّ على الحرمة من الآيات قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ،(1) و الميسر هو القمار و هو يدلّ على حرمة الميسر كما يدلّ على حرمة الخمر، فإنّ قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ ) أمر بالاجتناب و هو يدلّ على وجوب الاجتناب خصوصا مع ذكر أنّه رجس من عمل الشيطان و مضافا إلى إردافه مع الخمر و الأنصاب.
قال المحقّق الأردبيلى قدس سره: و فى الآية مبالغة زائدة من وجوه شتّى فى تحريم الخمر و الميسر من جهة المقارنة بالأصنام التى عبادتها كفر و الحصر بأنّه ليس إلّا الرجس، ثمّ كونه من عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب بعد ذلك كلّه، و التصدير ب - «إنّما» و الإشعار بأنّ شاربها لايفلح، ثم التأكيد ببيان ضررها (بعد هذه الآية) بقوله: إنّما يريد الشيطان، الآية.(2) و قوله عزّوجلّ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا) ،(3) قوله: (إِثْمٌ كَبِيرٌ) يدلّ على أنّ الميسر كالخمر فى كونه من الكبائر فإنّ المراد من الإثم هو الذنب.
و قوله تبارك و تعالى: (لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) (4) الآية، بعد تطبيقه على القمار بضميمة صحيحة زياد بن عيسى، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قوله (قول اللّه خ ل) عزّوجلّ : (لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) ، فقال: كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عزّوجلّ عن ذلك،(5) فالقمار منهىّ عنه و لايجوز التصرّف فى المأخوذ به.
**********
(1) المائدة، 9.
(2) زبدة البيان، ص 70.
(3) البقرة، 219.
(4) البقره، 188.
(5) الوسائل، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 164، ح 1.
ص: 54
و قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ) ... (وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاٰمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ،(1) فإنّه يدلّ على حرمة نوع من القمار و هو الاستقسام بالأزلام. قال فى زبدة البيان: وقال فى مجمع البيان: و روى علىّ بن إبراهيم فى تفسيره عن الصادقين عليهما السلام: أنّ الأزلام عشرة، إلى قوله: و كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام و يدفعونها إلى الرجل و ثمن الجزور على من يخرج له التّى لاأنصباء لها و هو القمار فحرّمه الله عزّوجلّ ،(2) و قوله عزّوجلّ : (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) حيث دلّ على حرمة الأزلام.
وقال المحقّق الاردبيلى هناك فى تفسير الأزلام: أى و الأزلام بالاستقسام و هى الأقداح و السهام كانوا يستقسمون بها لحوم الجزور فى الجاهليّه و نهوا عنه و هو مشهور.(4) فقد استدلّ العلاّمة فى التذكرة بالكريمتين الأخيرتين على الحرمة، حيث قال: القمار حرام و تعلّمه و استعماله و التكسّب به، حتى لعب الصبيان بالجوز و الخاتم، قال اللّه تعالى: و أن تستقسموا بالأزلام، و قال تعالى: والأنصاب و الأزلام.(5) قال فى القاموس: الزلم بحركة قدح لاريش عليه و سهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية وجمعه أزلام. قال فى تاج العروس: و الميسر لمجلس اللعب بالقداح و قد يسر ييسر يسرا إذا جاء بقدحه للقمار، أو هو الجزور التى كانوا يتقامرون عليها كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسيئة و نحروه و قسموه ثمانية و عشرين قسما، إلى أن قال:
**********
(1) المائده، 3.
(2) زبدة البيان، ص 787.
(3) المائدة، 90.
(4) زبدة البيان، ص 71-70.
(5) التذكرة، ج 1، ص 582.
ص: 55
فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوزُ من خرج لهم ذوات الأنصباء و غُرْمُ من خرج له الغُفْل، و إنّما سمّى الجزور ميسرا لأنّه يجزء أجزاء فكأنّه التجزئة، إلى أن قال: فجعل الجزور نفسه ميسرا أو الميسر النرد نقله الصاغانى الخ. و كيف كان، فيدلّ الكريمتان على حرمة القمار بالتقسيم بالأزلام.
صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: لاتصلح المقامرة و لا النُّهْبَة،(1) النهبة اسم نهب و هو الغارة و هذه الرواية تدلّ على الحرمة بناء على قوله «لاتصلح» يدلّ على الحرمة.
وموثّقه السكونى عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: كان ينهى عن الجوز يجىء به الصبيان من القمار أن يؤكل و قال: هو سحت.(2) و «كان ينهى» يدلّ على استمرار النهى و هو يفيد الحرمة.
وصحيحة عبدالحميد بن سعيد، قال: بعث أبوالحسن عليه السلام غلاما يشترى له بيضاً فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلمّا أتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال فدعا بطشت فتقيّأه.(3) و فيه أنّه فعل لا يدلّ إلّا على المرجوحيّة فاستفادة الحرمة منها مشكلة.
وصحيحة الوشّاء عن أبى الحسن عليه السلام، قال: سمعته يقول: المَيسِر هو القمار،(4) ظاهرها أنّها فى مقام تفسير الميسر فى قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ)
**********
(1) الكافى، ج 5، ص 123.
(2) الكافى، ج 5، ص 123.
(3) الكافى، ج 5، ص 123.
(4) الكافى، ج 5، ص 124.
ص: 56
(وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(1) و خبر إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون، فقال: لاتأكل منه فإنّه حرام.(2) ظاهره أنّ اللعب المقامرى حرام و يكون التصرّف فيما استفاد منه منهيا عنه.
وصحيحة معمّر بن خلّاد عن أبى الحسن عليه السلام، قال: النّرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر.(3) هذه الصحيحة فى مقام إفادة عمومية الميسر و أنّه لايختصّ بما كان متعارفا عند جماعة من العرب أو العجم، و أيضا تدلّ على أنّ النرد أو الشطرنج أو الأربعة عشر إذا قومر مع الرهان يكون من مصاديق آلات القمار و مشمولا لحكم القمار، و عليه فالقمار لايصدق إلّا بالرهان.
ومعتبرة أبى بصير عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: الشطرنج و النّرد هما الميسر،(4) و هى فى مقام إفادة تعميم الميسر و تفسير الآية الكريمة. و معتبرة عمر بن يزيد عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: إنّ للّه فى كلّ ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار إلّا من أفطر على مسكر أو مُشاحن أو صاحب شاهَيْن، قال: قلت: و أىّ شيء صاحب شاهين ؟ قال: الشطرنج.(5) قوله: أو مشاحن عطف على من أفطر و هو المبتدع الذى يعادى أهل الإسلام، و كيف كان إرداف صاحب شاهين مع الإفطار على مسكر أو المبتدع قرينة على كونه من الكبائر، هذا مضافا إلى أنّ المستفاد منه أنّ صاحب
**********
(1) المائدة، 90.
(2) الكافى، ج 5، ص 124.
(3) الكافى، ج 6، ص 435.
(4) الكافى، ج 6، ص 435.
(5) الكافى، ج 6، ص 436.
ص: 57
شاهين لم يكن معتقا من النار و هو يدلّ على كون المصاحبة لشاهين من الذنب و الإثم الكبير و لايكون المصاحب المذكور من عتقاء النار.
و مرسلة ابن أبى عمير عن بعض أصحابنا عن أبى عبداللّه عليه السلام فى قول اللّه تبارك و تعالى (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) ،(1) قال: الرجس من الأوثان هو الشطرنج و قول الزور الغناء.(2) تدلّ هذه المرسلة على أنّ الشطرنج من الرجس من الأوثان فيدلّ قوله: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ ) على وجوب الاجتناب عن اللعب به.
و معتبرة الفضيل قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن هذه الأشياء التى يلعب بها الناس، النرد و الشطرنج حتى انتهيت إلى السُدَّر (السدّر لعبة يقامر بها عن النهاية) و لعلّه هو الذى يعبّر عنه فى اللغة الفارسية ب - «دوز»، فقال: إذا ميّزاللّه بين الحق و الباطل فى أيّهما يكون ؟ قلت: مع الباطل، قال: فما لك و للباطل ؟(3) تدلّ هذه المعتبرة على أنّ مثل هذه الأمور إذا كانت من الباطل يعمّه ما يدلّ على النهى عن التصرّف فيه بقوله: و لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و مما ذكر يظهر عدم صحّة ما يقال لا ملازمة بين البطلان و الحرمة، هذا فيما إذا كان اللعب بالرهان، و أما إذا لم يكن كذلك فلا يكون الباطل موضوعا لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) ، إذ المفروض أنّه للرهان و لايكون أيضا مطلق الباطل محرّما.
صحيحة حمّاد بن عيسى قال: دخل رجل من البصريّين على أبى الحسن الأول عليه السلام، فقال له: جعلت فداك، إنّى أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج و لست ألعب بها
**********
(1) الحج، 30.
(2) الكافى، ج 6، ص 436.
(3) الكافى، ج 6، ص 436.
ص: 58
ولكن أنظر، فقال: مالك و لمجلس لاينظر اللّه إلى أهله ؟(1) تدلّ هذه الصحيحة على أنّ القوم المذكور متبعّدون عن الرحمة الإلهية و هذا مفاد اللعن فيكونون ملعونين و هو يساوق للحرمة لو لم يكن قرينة على الكراهة.
وموثّقه زرارة عن أبى عبداللّه عليه السلام أنّه سئل عن الشطرنج و عن لعبة شبيب التى يقال لها لعبة الأمير و عن لعبة الثلاث،(2) فقال: أرأيتك إذا ميّزاللّه الحقّ و الباطل مع أيّهما تكون ؟ قال: مع الباطل، قال: فلا خير فيه،(3) بدعوى أنّ قوله: «لاخير فيه» و إن لم يدلّ لوخلّى و نفسه على التحريم، لكن مقتضى إطلاق الشطرنج و غيره شمولها لللعب برهان و لاشبهة فى حرمته فيكون ذلك قرينة على أنّ الباطل كناية عن حرمة الارتكاب و جعله كناية عن معنى اعمّ بعيد جدّا، و لاشبهة فى أنّ ذكر المذكور فيها من قبيل المثال.(4)
وخبر أبى الربيع الشامى عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: سئل عن الشطرنج و النرد، فقال: لاتقربوهما، قلت: فالغناء؟ قال: لاخير فيه لاتقربه، الحديت.(5)
وموثّقه مسعدة بن زياد عن أبى عبداللّه عليه السلام أنّه سئل عن الشطرنج، فقال: دعوا المجوسيّة لأهلها لعنها اللّه،(6) و حيث أنّ الأمر يدلّ على الوجوب يجب الاجتناب عن الشطرنج، هذا مضافا إلى اللّعن فإنّه لو لم يكن قرينة ظاهر فى الحرمة. وصحيحة على
**********
(1) الكافى، ج 6، ص 437.
(2) و لعلّه هو الذى قد يعبّر عنه بالسُدّر و هو معرّب سه در.
(3) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 319، ح 5.
(4) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام، ج 2، ص 10.
(5) الوسائل، ج 17، ص 320، الباب 102، ح 10.
(6) الكافى، ج 6، ص 437.
ص: 59
بن رئاب قال: دخلت على أبى عبداللّه عليه السلام، فقلت: جعلت فداك، ما تقول فى الشطرنج ؟ قال: المقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير، فقلت: ما على من قلّب لحم الخنزير؟ قال يغسل يده.(1) تدلّ هذه الرواية على أنّ التقلب فيه ممنوع كتقلّب لحم الخنزير و ينصرف التقلّب المنهىّ عنه فى هذه الرواية إلى التقلّب على الوجه المتعارف و هو اللعب به و منع الانصراف يبعدّه الاعتراف به فى تقلّب الخمر إلى شربه و تقلّب لحم الخنزير إلى أكله كما لايخفى.
وصحيحة سليمان الجعفرى عن أبى الحسن الرضا عليه السلام، قال: المطّلع فى الشطرنج كالمطّلع فى النار،(2) أى الإشراف على الشطرنج كالإشراف على النار فى الوقوع فى الهلكة. و موثّقه السكونى عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم عن اللعب بالشطرنج و النّرد.(3) و إطلاقه يشمل ما اذا لم يكن اللعب بالرهان. و خبر جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال: لمّا أنزل اللّه على رسوله صلى الله عليه وآله و سلم: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ، قيل: يا رسول اللّه! ما الميسر؟ فقال: كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب ؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام ؟ قال: قداحهم الّتى يستقسمون بها.(4)
وخبر تحف العقول: و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لايكون فيه و لا منه شىء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع
**********
(1) الكافى، ج 6، ص 437.
(2) الكافى، ج 6، ص 437.
(3) الكافى، ج 6، ص 437.
(4) الوسائل، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 165، ح 4.
ص: 60
التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.(1) و فيه كما فى جامع المدارك: أنّ شمولها لما نحن فيه مشكل لأن اللعب بدون الرهن يعدّ لغوا و شمول ما يجىء منه الفساد محضا غير ظاهر إلّا أن يقال: غلبة أحد اللّاعبين توجب عداوة المغلوب منهما و عدّ هذه فسادا منهيّا عنه لاتخلو عن إشكال.(2)
وخبر أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام فى قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) قال: أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب، إلى أن قال: و أمّا الميسر فالنّرد و الشطرنج و كلّ قمار ميسر، إلى أن قال: كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشيء من هذا حرام من اللّه محرّم و هو رجس من عمل الشيطان و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان،(4) بدعوى أنّ المراد من أنّ القمار ليس هنا المعنى المصدرى حتى يقال إنّه منصرف إلى اللعب مع الرهان، بل المراد هى الآلات بقرينة بيعه و شرائه. و قوله عليه السلام: و أمّا الميسر فهو النرد الخ، و فيه كما فى جامع المدارك: أنّ المستفاد منها هى حرمة بيع آلات القمار و لانفهم دلالتها على حرمة اللعب بدون الرهن.
وصحيحة البزنطى عن أبى بصير عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: بيع الشطرنج حرام و أكل ثمنه سحت و اتّخاذها كفر و اللعب بها شرك و السلام على اللاهى بها معصية و كبيرة موبقة و الخائض فيها يده كالخائض يده فى لحم الخنزير، لاصلاة له حتّى يغسل يده كما يغسلها مَن مسّ لحم الخنزير و الناظر إليها كالناظر فى فرج اُمّه و اللّاهى بها
**********
(1) تحف العقول، ص 250 الطبع 1385 بعد الهجرة القمرية.
(2) راجع جامع المدارك، ج 3، ص 28.
(3) المائدة، 90.
(4) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 321، ح 12.
ص: 61
و الناظر إليها فى حال مايلهى بها و السلام على اللّاهى بها فى حالته تلك فى الإثم سواء، و من جلس على اللعب بها فقد تبوء مقعده من النار و كان عيشه ذلك حسرة عليه فى القيامة، و ايّاك و مجالسة اللّاهى و المغرور بلعبها، فإنّها من المجالس التى باء أهلها بسخط من اللّه يتوقّعونه فى كلّ ساعة فيعمّك معهم.(1)
فى تعريف القمار و الميسر، قال فى القاموس: و قامره مقامرة و قمارا فقمره كنصره و تقمّره: راهنه فغلبه و هو التقامر و المراهنة(2) و الرهان المخاطرة و المسابقة على الخيل، و نحوه فى تاج العروس.(3) ظاهرهما هو اعتبار قيد الرهان من دون فرق بين ثلاثى مزيد و غيره، و هو المحكىّ عن النهاية و مجمع البحرين. و راهنه على كذا أى خاطره بسبب اشتراط الرهان.
قال فى المصباح المنير: و قامرته قمارا من باب قاتل فقمرته قمرا من بابي قتل و ضرب غلبته فى القمار.(4) وعن صحاح اللغة: قمرت الرجل أقمره بالكسر قمراً إذا لاعبته فيه فغلبته و قامرته فقمرته أقمره بالضم قمرا إذا فاخرته عليه فغلبته و تقمّر فلان، أى غلب من يقامره(5) قال فى الجواهر: ظاهر الصحاح و المصباح المنير و كذلك التكملة و الذيل أنّه قد يطلق على اللعب بها مطلقا مع الرهن و دونه.(6) و أنت خبير بأنّ
**********
(1) الوسائل، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 323، ح 4.
(2) القاموس المحيط، ج 1، ص 648 «قمر».
(3) ج 7، ص 413.
(4) مصباح المنير، ج 2، ص 515 «قمر».
(5) صحاح اللغه، ج 2، ص 799 «قمر».
(6) الجواهر، ج 23، ص 109.
ص: 62
استعمال القمار فى غير مورد الرهان لعلّه من باب المجاز لعلاقة المشابهة و المشاكلة و لاينافى ظاهر قاموس و غيره من اللغة فى اشتراط الرهان فيه.
و قد صرّح فى أقرب الموارد بأنّ القمار مصدر قامر و كلّ لعب يشترط فيه غالبا أن يأخذ الغالب شيئا من المغلوب سواء كان بالورق أو غيره. و أصل القمار أن يأخذ الواحد من صاحبه شيئاً فشيئا فى اللعب راهنه على كذا خاطره و على الخيل سابقه خيل الرهان التى يراهن على سباقها بمال أو غيره يستحقّه صاحب السابق منها. فالأظهر هو اعتبار الرهان فى صدق القمار لما عرفت من التصريح بذلك و عدم منافاة ما ذكره بعض اللغويين من موارد الاستعمالات التى يحتمل أن يكون من باب علاقة المشابهة و المشاكلة، هذا مضافا إلى أنّه لو قلنا بتعارض كلماتهم فى معنى القمار كان مقتضى القاعدة هو التساقط و الرجوع إلى العرف العام و هم يشترطون الرهان فى صدقه، و إن أبيت عن ذلك فاللازم حينئذ هو الأخذ بالقدر المتيقن و هو مورد اشتراط الرهان و الرجوع إلى البراءة فى غيره.
قال فى جامع المقاصد فى تفسير قول العلّامة فى القواعد: «القمار حرام» أى لعبه و هو اللعب (العمل) بالآلات المعدّة على اختلاف أنواعها من الشطرنج و النرد و غير ذلك. و أصل القمار الرهن على اللعب بشيء من هذه الأشياء و ربّما أطلق على اللعب بها مطلقا،(1) ظاهره هو اشتراط الرهان على اللّعب بالآلات المعدّة له و لاينافى ذلك إطلاق القمار أحياناً على اللعب بها مطلقا كما عرفت ذلك فى كلمات بعض اللغويين.
قال الشيخ الأعظم قدس سره: القمار بكسر القاف كما عن بعض أهل اللغة الرهن على اللعب بشيء من الآلات المعروفة و حكى عن جماعة أنّه قد يطلق على اللعب بهذه
**********
(1) جامع المقاصد، ج 1، ص 204.
ص: 63
الأشياء مطلقا و لو من دون رهن و به صرّح فى جامع المقاصد، و عن بعض أنّ أصل المقامرة المغالبة.(1) و ظاهرعبارة الشيخ كعبارة جامع المقاصد فى اشتراط الرهان على اللعب بالآلات المعدّة له و عدم منافاة استعماله أحيانا فى اللعب بها من دون رهان.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: إنّ المستفاد من كلمات أهل العرف و اللغة أنّ القمار و كذلك الميسر موضوع للعب بأىّ شىء مع الرهان و يعبّر عنه فى لغة الفارس بكلمة «برد و باخت»، و عليه فاللعب بالآلات بدون الرهن خارج عن المطلقات موضوعا و تخصّصا. نعم فى الجواهر عن ظاهرالصحاح و المصباح و التكملة و الذيل: أنّه قد يطلق على اللعب بها مطلقا مع الرهن و دونه، و الظاهر أنّه من باب المجاز لعلاقة المشابهة و المشاكلة و لاأقلّ من الشك فى صدق مفهموم القمار عليه. و من المعلوم أنّه مع الشك فى الصدق لايجوز التمسّك بالمطلقات.(2)
قال المحقّق النراقى أيضا: الظاهر أنّ القمار يكون فى كلّ لعب جعل للغالب أجر مطلقا أو إذا كان بما أعدّ لذلك عند اللاعبين، و قد وقع التصريح ببعض أنواعه فى الروايات المتقدّمة و الآتية، انتهى خلافا لظاهر المسالك، حيث قال: و القمار هو اللعب بالآلات المعدّة له كالنرد و الشطرنج و منه اللعب بالخاتم و الجوز و نحوهما،(3) إذ ظاهر عبارته هو عدم دخالة الرهان، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه فى مقام توسعة القمار من حيث الآلة، لاعدم اشتراط الرهان فى القمار، بل اكتفى فيه بما يفهمه العرف من القمار، و كيف كان فالقدر المتيقّن هو دخالة الرهان و يؤيّده الصحيح الوارد فى ذيل قوله تعالى: (لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) ، فقال: كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم، ص 47.
(2) مصباح الفقاهة، ص 373-372.
(3) المسالك، ج 3، ص 129.
ص: 64
فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك، و من المعلوم أنّ الأهل و المال مورد المقامرة، و ما روى من أنّ الصبيان يلعبون بالجوز و البيض فقال عليه السلام: لا تأكل منه فإنّه حرام. كلّ هذه الأخبار و نظائرها مما يصلح لأن يكون تأييداً لما ذكر من اشتراط الرهان فيه.
قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: و لاينبغى الريب فى عدم صدقهما (القمار و الميسر) على اللعب بغير آلات القمار من دون رهان و إن يظهر من بعضهم إطلاقهما على مطلق المغالبة، لكنّه خلاف المتبادر و المرتكز فى الأذهان من القمار و خلاف كلمات اللغوييّن فيه و فى الميسر الذى هو أخصّ منه أو مساوق له على ما يأتى الإشارة إليه.
و الظاهر عدم صدقهما على اللعب بغير آلات القمار برهان أيضا لأنّ القمار عرفا ليس مطلق المغالبة برهان، فلايقال لمن جعل الرهان بإزاء الغلبة فى حسن الخطّ أو تجويد قراءة القرآن أو سرعة العدو أو الرمى و نحوها إنّه مقامر و لا لفعلها إنه قمار، و العرف أصدق شاهد عليه، و يؤيّد ما ذكرناه بل يشهد عليه ما ورد فى جواز السبق و الرماية مع شرط الجعل عليه مع إباء قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) عن التخصيص، و سيأتى أنّ الميسر هو مطلق القمار، و أمّا عدم صدق الميسر فكذلك بناء على أنّه القمار، إلى أن قال: و لايبعد عدم صدقهما على اللعب بالآلات بلارهن، كما تشهد به كلمات كثير من اللغويين كصاحب القاموس و المجمع و المنجد و منتهى الارب و محكى لسان العرب، فإنها طفحت بقيد الرهان، إلى أن قال: نعم، يظهر من بعض إطلاقه على مطلق المغالبة و هو غير ثابت و على فرض ثبوته أعمّ من الحقيقة و إن كان حقيقة فهو مخالف للعرف العام و هو مقدّم على غيره (تأمل). و أمّا عبارة الصحاح فلم يظهر منها المخالفة لما قلناه و كان ما حكى عن ابن
**********
(1) المائدة، 90.
ص: 65
دريد مجملة و يظهر منه أنّه يطلق على المغالبة فى الفخر و هو على فرض صحّته يأتى فيه ما تقدّم آنفا، فالإنصاف أنّ إثبات صدقه على ما ذكر مشكل و لاأقلّ من الشك فيه، فلايمكن إثبات حرمة الثلاثة(1) بالمطلقات على فرض وجود الإطلاق، إلى أن قال: إلّا أن يقال: إنّ حكم اللعب بالآلات بلارهان يستفاد من قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ) الخ بناء على أنّ المراد بالميسر فيها هو آلات القمار لا القمار الخ.(2) و سيأتى تحقيق ذلك اى قوله: إلّا أن يقال الخ فى المقام الثالث إن شاءاللّه تعالى.
فى أنّ اللعب قد يكون بالآت القمار مع الرهان، و قد يكون بدونه و المغالبة بغيرآلات القمار، قد يكون مع العوض و قد يكون بدونه، فهنا أربعة مسائل. قال الشيخ الأعظم:
المسألة الأولى: اللعب بآلات القمار مع الرهان و لا إشكال فى حرمته و حرمة العوض و الإجماع عليه محقّق و الأخبار به متواترة.
المسألة الثانية: اللعب بآلات القمار من دون رهان و فى صدق القمار عليه نظر لما عرفت و مجرّد الاستعمال لايوجب إجراء أحكام المطلقات و لو مع البناء على أصالة الحقيقة فى الاستعمال لقوّة انصرافها إلى الغالب من وجود الرهان فى اللعب بها، و منه يظهر الخدشة فى الاستدلال على المطلب بإطلاق النهى عن اللعب بتلك الآلات بناء على انصرافه إلى المتعارف من ثبوت الرهان. نعم، قد يبعد دعوى الانصراف فى رواية أبى الربيع الشامى من الشطرنج و النرد، قال: لاتقربوهما، قلت: فالغناء؟ قال: لاخير فيه لاتقربه.
**********
(1) و هى اللعب بغير آلات القمار برهان و بدونه و اللعب بالآلات بلارهان.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد، ج 2، ص 5-3.
ص: 66
والأولى: الاستدلال على ذلك بما تقدّم فى رواية تحف العقول(1) من أنّ ما يجئ منه الفساد محضا لايجوز التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات. و فى تفسير القمى عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام فى قوله: «إنّما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه» قال: أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب، إلى أن قال: و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و كل قمار ميسر، إلى أن قال: و كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشىء من هذا حرام محرّم. و ليس المراد بالقمار هنا المعنى المصدرى حتى يرد ما تقدّم من انصرافه إلى اللعب مع الرهن، بل المراد الآلات بقرينة بيعه و شرائه. و قوله: و أمّا الميسر فهو النرد الخ و يؤيّد الحكم ما عن مجالس المفيد الثانى قدس سره ولد شيخنا الطوسى بسنده عن أميرالمؤمنين عليه السلام فى تفسير الميسر فى أنّ كلّما ألهى عن ذكراللّه فهو الميسر. و رواية الفضيل قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء التى يلعب بها الناس النرد و الشطرنج حتّى انتهيت إلى السُدَّر، فقال: إذا ميّزاللّه بين الحقّ و الباطل فى أيّهما يكون ؟ قلت: مع الباطل، قال: فمالك و الباطل ؟(2) و فى موثّقه زرارة عن أبى عبداللّه عليه السلام أنّه سئل عن الشطرنج و عن لعبة شبيب التى يقال لها لعبة الأمير و عن لعبة الثلاث، فقال: أرأيتك إذا مَيَّزَاللّه الحق من الباطل مع أيِّهما يكون ؟ قلت: مع الباطل، قال: فلا خير فيه.(3) وفى رواية عبد الواحد بن المختار
**********
(1) و فى تحف العقول: و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لايكون فيه و لامنه شىء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها الخ، تحف العقول، ص 250 طبع نجف 1385 بعد الهجرة القمرية.
(2) الكافى، ج 6، ص 436.
(3) الكافى، ج 6، ص 436.
ص: 67
قال سألت اباعبدالله عليه السلام عن اللعب بالشطرنج، قال: إنّ المؤمن لمشغول عن اللعب،(1) فإنّ مقتضى اناطة الحكم بالباطل و اللعب عدم اعتبار الرهن فى حرمة اللعب بهذه الأشياء و لايجرى دعوى الانصراف هنا.(2) و لايخفى عليك أنّ الاستدلال المذكور لايخلو عن المناقشات. أورد عليه أوّلاً بما فى مصباح الفقاهة من أنّ حديث تحف العقول ضعيف، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى ما ذكره مؤلفه فى اول كتابه من انه نقل الأخبار عن الثقات و هم عن السادات هو توثيق رواته حيث قال خطاباً لمعاشر شيعة المؤمنين و تلقوا ما نقله الثقات عن السادات بالسمع و الطاعة و الانتهاء إليه و العمل به ولكن يشكل ذلك باحتمال أن يكون المراد من الثقات خصوص المشايخ فلا تشمل الوسائط فتأمل.
وثانياً: بما فى مصباح الفقاهة من أنّه لاتدلّ إلّا على صدق الكبرى من حرمة التقلّب و التصرّف فى كلّ ما يجيء منه الفساد محضا، و أمّا إحراز الصغرى فلابدّ و أن يثبت من الخارج، و من الواضح أنّ كون الآلات المعدّة للقمار كذلك أوّل الكلام إذ لو كان اللعب بها بدون مراهنة جائزا لم تكن كذلك. فلا يمكن إثبات الحرمة به فإنّه دور ظاهر.(3)
وثالثاً: بما فى بلغة الطالب من أنّه يمكن دعوى انصراف التقلّب المنهىّ عنه فى رواية تحف العقول أيضا إلى ذلك يعنى التقلّب على الوجه المتعارف المشتمل على الرهان، و عليه فلا يشمل المقام الذى يكون اللعب فيه من دون رهان.
ورابعاً: بأنّ ما رواه عن أبى الجارود ضعيف أيضا، هذا مضافا إلى ما فى إرشاد
**********
(1) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 321، ح 11.
(2) المكاسب المحرّمة لشيخنا الأعظم، ص 48-47.
(3) مصباح الفقاهة، ص 369.
ص: 68
الطالب من أنّ الانتفاع بها ينصرف إلى فرده الشايع و هو اللعب مع العوض،(1) كما صرّح الشيخ بالانصراف فى اللعب، و من المعلوم أنّه لا فرق بين اللعب و الانتفاع، و أيضا لما أفاد فى جامع المدارك أنّ المستفاد منها حرمة بيع آلات القمار و لانفهم دلالتها على حرمة اللعب بدون الرهن.(2)
وخامساً: بما فى بلغة الطالب من أنّ الروايات الأربع المذكورات فى المتن فليس فيها دلالة على التحريم كما لايخفى. و سيجيء فى مسألة اللهو عدم الإلتزام بحرمة كلّ لهو و كلّ باطل. ثم بعد تسليم الدلالة على الحرمة فهى مخصّصة بقوله عليه السلام فى المحكى عن تفسير العيّاشي عن ياسر الخادم عن الرضا عليه السلام قال سئلته عن الميسر، قال: الثقل من كل شىء و قال و الثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم و غيره،(3) بل و بما فى مصحّحة معمّر بن خلّاد: كلّما قومر عليه فهو ميسر، و رواية جابر كلّما يقامر به حتى الكعاب و الجوز الظاهرين فى تحديد الميسر باعتبار المقامرة الظاهر فى المغالبة مع المراهنة.(4)
و قد يستدلّ على حرمة اللعب بدون الرهان بالمطلقات الناهية عن اللعب بآلات القمار. و اُجيب عنه بأنّ المطلقات منصرفة إلى الفرد الغالب و هو اللعب بالآلات المذكورة مع الرهان كما أشار إليه الشيخ قدس سره.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة: أوّلاً بأنّ اللعب بآلات القمار من غير رهن كثير فى نفسه لو لم يكن أكثر من اللعب بها مع المراهنة أو مساويا له فى الكثرة، و ثانيا بأنّ
**********
(1) إرشاد الطالب، ج 1، ص 215.
(2) جامع المدارك، ج 3، ص 28.
(3) الوسائل، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 167، ح 12.
(4) بلغة الطالب، ج 1، ص 139.
ص: 69
مجرّد غلبة الوجود فى الخارج لاتوجب الانصراف. نعم، إنّ دعوى الانصراف إنما تصحّ إذا كان لها منشأ صحيح كأن يكون الفرد النادر أو غير الغالب على نحو لايراه العرف فردا للعمومات و المطلقات، كانصراف الحيوان عن الإنسان فى نظر العرف مع أنّه من أكمل أفراده، و لذا قلنا بانصراف الروايات المانعة عن الصلاة فى غير المأكول عن الانسان. و الوجه فى ذلك أنّ العرف يرى الإنسان مبائنا للحيوان حتى أنّه لو خوطب أحد بالحيوان فإنّ العرف يعدّ ذلك من السباب.(1)
ويمكن الجواب عنه بما فى بلغة الطالب من تحديد القمار فى مثل قوله عليه السلام فى مصحّحة معمّر بن خلّاد: كلّما قومر عليه فهو ميسر، أو قوله عليه السلام فى رواية جابر: كلّما يقامر به حتى الكعاب و الجوز بما إذا كان شىء و قومر أو يقامر عليه و حيث أنهما فى مقام التحديد يقدم على إطلاق سائر الروايات (و يحمل الإطلاق على ما إذا كان اللعب بآلات القمار على شيء و هو الرهان). نعم، يمكن القول بحرمة اللعب بآلات القمار بلاعوض أيضا، لامن جهة صدق القمار، بل من جهة إطلاق النهى عنه فى الأخبار، منها معتبرة زيد الشحّام، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) ،(2) قال: الرجس من الأوثان هو الشطرنج و قول الزور الغناء،(3) و لذا قال فى إرشاد الطالب: الظاهر أنّ اللعب بآلات القمار بلا عوض حرام و استدلّ بالروايتين و زاد عليهما بالاستدلال بموثّقة السكونى عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم اللعب بالشطرنج و النرد(4) و قال أيضا:
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 372.
(2) الحج، 30.
(3) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 319-318. ح 1.
(4) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 320، ح 9.
ص: 70
و دعوى انصراف مثلهما إلى ما إذا كان فى اللعب عوض لايمكن المساعدة عليها حيث أنّ اللعب بهما من غير عوض ليس بأمر نادر لتكون ندرته منشأ له؛ نعم، لايمكن الاستدلال على حرمة هذا اللعب بما ورد فى حرمة القمار، لا من جهة الانصراف الذى ذكره المصنف فإنّه قابل للمنع، بل لعدم إحراز صدق القمار على اللعب بها من دون تعيين عوض للغالب.(1)
والحاصل أنّه إذا كان اللعب بالشطرنج و نحوه من آلات القمار مع الرهان فلا إشكال فى كون اللعب المذكور من مصاديق القمار و هو محرّم، كما يدلّ عليه صحيحة معمّر بن خلّاد عن أبى الحسن عليه السلام، قال: النَّرد و الشَّطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر،(2) و أمّا إذا لم يكن مع الرهان فلا يكون قمارا ولكنّه منهى عنه بإطلاق النهى فى الأخبار و لا مانع من أن يكون مورد النهى غير مختصّ بالقمار، فعليه فاللعب بالشطرنج فيما إذا كان آلة للقمار يحرم، أمّا من ناحية صدق القمار كما إذا كان مع المراهنة و أمّا من ناحية النهى عنه فى الأخبار إذا لم يكن مع المراهنة؛ نعم، لو خرج عن كونه آلة للقمار دخل حكمه فى القسم الثالث الآتى حكمه إن شاءاللّه تعالى.
لايقال: إنّ مقتضى كون قوله: و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر بعد ذكر النرد و الشطرنج و الأربعة عشر مع أنّه فى مقام تحديد الحرام أنّ النهى مختصّ بصورة المراهنة فيجوز اللعب بها من دون الرهان.
لأنّا نقول: إنّ التحديد من ناحية القمار لا من ناحية مطلق الحرام و عليه فلا ينافى وجود النهى من ناحية اُخرى، كما هو مقتضى إطلاق الأخبار المذكورة، أللّهمّ إلّا أن
**********
(1) إرشاد الطالب، ج 1، ص 214.
(2) الوسائل، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 323، ح 1.
ص: 71
يقال إنّ الإطلاق غير محرز بالنسبة إلى غير مورد القمار، فإنّه عليه السلام ليس فى مقام التفصيل عند تفسير الآية الكريمة؛ هذا مضافا إلى أنّ الإطلاقات المذكورة معارضة مع مثل موثّقة زرارة(1) الدالّة على أنّه لاخير فى الشطرنج وهى بإطلاقها يشمل ما إذا كان مع الرهان و بدونه فيعارض إطلاق النهى عنه فيحمل الأخبار الناهية على الكراهة فيما إذا لم يكن مع الرهان كما أنّه أخرج عن إطلاق لاخير فيه ما إذا كان مع الرهان بالأخبار الدالّة على الحرمة ولكن لايساعد الكراهة ما ورد فى صحيحة البزنطى، فالأحوط هو ترك اللعب بمثل الشطرنج و النرد مع عدم الرهان أيضا؛ هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره من أنّ حكم اللعب بالآلات بلارهان يستفاد من قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ) الآية بناء على أنّ المراد بالميسر فيها هو آلات القمار لاالقمار بقرينة كون المراد بالثلاثة الأخر المذكورة الذوات و بقرينة حمل الرجس عليها و هو يناسب الذوات لا الأفعال، إلّا بتأول، سواء أريد به النجس المعهود كما ادّعى الإجماع عليه شيخ الطائفة فى محكىّ التهذيب فى مورد الآية و هو واضح؛ أم أريد الخبيث فإنّه أيضا يناسب الذوات و حمله على اللعب و الشرب لايخلو من ركاكة؛ و تشهد له جملة من الروايات كرواية جابر المتقدّمة(2) و رواية محمد بن عيسى قال: كتب إليه إبراهيم بن عنبسة، يعنى إلى على بن محمد عليهما السلام: إن رأى سيدى و مولاى أن يخبرنى عن قول اللّه عزّوجلّ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ) الآية جعلت فداك، فكتب: كلّ ما قومر به فهو الميسر.
**********
(1) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 319، ح 5.
(2) و فيه قيل: يا رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم! ما الميسر؟ فقال: كلّ ما تقومر به حتى الكعاب و الجوز، إلى أن قال: قيل: فما الأزلام ؟ قال: قداحهم التى يستمسون بها. (الوسائل، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 165، ح 4).
ص: 72
و فى عدّة روايات عدّ النرد و الشطرنج من الميسر و الحمل على اللعب بها خلاف الظاهر فحمل الرجس و عمل الشيطان فى الآية المتقدّمة على المذكورات باعتبار ذاتها، إذ كما يصحّ أن يقال إنّ الخمر رجس خبيث يصحّ أن يقال إنّ الشطرنج كذلك، كما تشعر به الأمر و لو ندباً بغسل يد المقلّب له، و كونها من عمل الشيطان باعتبار أنّها مصنوعة بيد الإنسان بإغرائه و وسوسته، فيصحّ أن يقال إنّ ذات الخمر و الآلات الحاصلة بإغرائه من عمله و لو بقرينة الروايات المتقدّمة. و تدلّ عليه رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام فإنّه بعد بيان معنى المذكورات قال: كلّ هذا بيعه و شرائه و الانتفاع بشيء من هذا حرام من اللّه محرّم و هو رجس من عمل الشيطان.
فإنّ الظاهر منها أنّ نفس المذكورات التى لايجوز بيعها رجس من عمل الشيطان، فعليه يكون الأمر بالاجتناب عن الآلات ذواتها مقتض لحرمة الانتفاع بها انتفاعا مقصودا متعارفا، و لاشبهة فى أنّ اللعب بها للتفريح و المغالبة من الانتفاعات المقصودة المتداولة سيما لدى الأمراء و خلفاء الجور و ليس الأمر بالاجتناب مخصوصا باللعب برهان، بل أعمّ منه سيّما مع كيفية تعبير الآية الكريمة بأنّه رجس من عمل الشيطان، إلى أن قال: و الإنصاف أنّ استفادة الحكم من الآية ليست بعيدة(1) و يمكن المناقشه فى بعض ما ذكر، منها أنّ الرجس بمعنى الخبيث قديحمل على الفعل كقوله تعالى: (وَ لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ ) (2) أى تعمل الأعمال الخبيثة، و عليه فلا يكون الحمل المناسب منحصرا فى حمل الرجس على الذوات مع ما عرفت من إمكان حمله على الفعل أيضا و لافرق فى ذلك بين الثلاثة و
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 9-5.
(2) الأنبياء، 74.
ص: 73
الميسر لإمكان إرادة الفعل المناسب فى جميع الموارد، و عليه و فلا قرينة على إرادة الذوات فى الآية الكريمة.
ومنها: أنّ رواية جابر ضعيفة لوقوع عمرو بن شمر فى طريقها، هذا مضافا إلى أنّ غاية ما يستفاد منها و من رواية محمد بن عيسى أنّ كلّ شىء به يحصل القمار فهو ميسر؛ و من المعلوم أنّ القمار هو المغالبة مع الرهان، و عليه فهما أجنبيّان عن المقام الذى ليس فيه رهان، فهاتان الروايتان لا تدلّان على أنّ آلات القمار كالنرد و الشطرنج بنفسها من مصاديق ميسر. و يشهد له صحيحة معمّر بن خلّاد لدلالتها على أنّ الميسر هو الذى قومر عليه و هو الرهان. نعم، إطلاق النواهى يمنع عن جواز اللعب بآلات القمار فلا يترك الاحتياط بالاجتناب عن اللعب بها من دون الرهان.
ثمّ لايخفى عليك أنّ سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره قال: لاتدلّ هذه الروايات على حرمة اللعب بمطلق الآلات لاحتمال خصوصية فى النرد و الشطرنج، كما يظهر من التأكيدات الواردة فيهما سيّما الشطرنج، لكن يمكن الاستدلال على المطلوب بعموم المنزلة فى صحيحة معمّر بن خلّاد عن أبى الحسن عليه السلام، قال: النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر. و الظاهر أنّه بصدد نفى الخصوصية عن آلة خاصة كالنرد و الشطرنج و إلحاق ساير الآلات بهما.(1)
يمكن أن يقال: إنّ التنزيل راجع إلى الثلاثة المذكورة فلايشمل غيرها؛ هذا مضافا إلى أنّ قوله: و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر كما عرفت فى مقام تحديد مورد القمار و تخصيصه بما إذا كان مع الرهان، لافى مقام نفى الخصوصية عن آلة خاصّة كالنرد و الشطرنج و الحكم بحرمة كلّ آلة من آلات القمار و لو من دون الرهان، فتدبر جيّدا.
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد، ج 2، ص 14-13.
ص: 74
و دعوى إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى الشطرنج و النرد و الأربعة عشر مع احتمال الخصوصية لها لاوجه لها، و عليه فلا دليل لحرمة غير المذكورات لاختصاص النواهى بها و ضعف الوجوه الأخرى المذكورة لحرمة اللعب بساير الآلات. نعم، لايترك الاحتياط بالاجتناب عن اللعب بمطلق الآلات المعدّة للقمار من دون رهان.
المسألة الثالثة: المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار كالمراهنة على حمل الحجر الثقيل و على المصارعة و على الطيور و على الطفرة و نحو ذلك مما عدّوها فى باب السبق والرماية من أفراد غير مانصّ على جوازه.
قال الشيخ الأعظم قدس سره: والظاهر الإلحاق بالقمار فى الحرمة و الفساد، بل صريح بعض أنّه قمار و صرّح العلّامة الطباطبائى رحمه الله فى مصابيحه بعدم الخلاف فى الحرمة و الفساد و هو ظاهر كلّ من نفى الخلاف فى تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض و جعل محلّ الخلاف فيها بدون العوض، فإنّ ظاهر ذلك أنّ محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق هناك، و من المعلوم أنّه ليس هنا إلّا الحرمة التكليفية دون خصوص الفساد.
و يدلّ عليه أيضا قول الصادق عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قد أجرى الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان فى الخفّ و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام.(1)
و فى رواية أبى العلاء بن سيّابة عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الريش و النصل، و المحكى عن تفسير العياشى عن ياسر الخادم عن الرضا عليه السلام قال: سئلته عن الميسر، قال: الثقل من كلّ شيء، قال: و الثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم و غيرها. و فى مصحّحة
**********
(1) الوسائل، الباب 3 من أبواب أحكام السبق و الرماية، ج 19، ص 253، ح 3.
ص: 75
معمّر بن خلّاد: كلّما قومر عليه فهو ميسر. و فى رواية جابر عن أبى جعفر عليه السلام قيل: يا رسول اللّه! ما الميسر؟ قال: كلّ ما يقامر به حتى الكعاب و الجوز، و الظاهر أنّ المقامرة بمعنى المغالبة على الرهن و مع هذه الروايات الظاهرة بل الصريحة فى التحريم المعتضدة بدعوى عدم الخلاف فى الحكم ممن تقدم، فقد استظهر بعض مشايخنا المعاصرين اختصاص الحرمة بما كان بالآلات المعدّة للقمار، و أمّا مطلق الرهان و المغالبة بغيرها فليس فيه إلّا فساد العاقلة و عدم تملّك الراهن فيحرم التصرّف فيه لأنّه أكل مال بالباطل و لامعصية من جهة العمل كما فى القمار، إلى أن قال الشيخ قدس سره: و كيف كان، فلا أظنّ الحكم بحرمة الفعل مضافا إلى الفساد محلّ اشكال، بل و لامحلّ خلاف كما يظهر من كتاب السبق و الرماية و كتاب الشهادات و تقدّم دعواه صريحا عن بعض الأعلام.(1)
ولايخفى عليك أنّ عبارة الشيخ تحتوى الاستدلال على حرمة اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار مع الرهان بوجوه:
منها دعوى الإجماع، و فيه أنّ الإجماع التعبّدى المتّصل إلى زمان المعصوم مع عدم تعرّض المسألة فى كثير من الكلمات و مع احتمال إرادتهم و لو بعضهم الحرمة الوضعية لا التكليفيّة غير ثابت. و منها دعوى صدق القمار عرفا، و توضيح ذلك كما فى إرشاد الطالب أنّ إسناد الآلات إلى القمار كإسناد سائر الآلات إلى سائر الأفعال كآلات القتل و الفتح و القرض إلى غير ذلك، و كما أنّه لم تؤخذ الآلات فى مفاهيم تلك الأفعال كذلك لم تؤخذ الآلة فى مفهوم القمار، و يؤيّد ذلك ملاحظة كلام اللغويّين.(2)
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 48.
(2) إرشاد الطالب، ج 1، ص 218.
ص: 76
و قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: إنّ الظاهر من أهل العرف و اللغة أنّ القمار هو الرهن على اللعب بأىّ شىء كان، و تفسيره باللعب بالآلات المعدّة للقمار دور ظاهر. و يدلّ على ما ذكرناه ترادف كلمة القمار فى لغة الفرس لكلمة «برد و باخت» بأىّ نحو تحقّق، إلى أن قال: و إذا صدق عليه مفهوم القمار شملته المطلقات الدالّة على حرمة القمار و الميسر و الأزلام و حرمة ما أصيب به من الأموال. غاية الأمر أنّ الموارد المنصوصة فى باب السبق و الرماية قد خرجت عن هذه المطلقات.(1)
أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بالجزم بعدم صدقه على التغالب فى الخطّ و القراءة و العدو و نحوها.(2) و يمكن أن يقال: إنّ عدم صدق القمار فى الموارد المذكورة لعلّه من جهة أنّ إعطاء بعض الأشياء فيها يكون من شخص ثالث لاطرفى المغالبة، هذا مضافا إلى أنّه بعنوان الجائزة لا بعنوان «برد و باخت». و أيضا أنّ مورد الجائزة هو أمر مستحسن عقلا و شرعا و ليس بلعب، و عليه فلا وجه للنقض بما ذكر لعدم المشابهة بينها و بين المقام، فلا تغفل. و منها الروايات الواردة فى السبق و الرماية و من جملتها صحيحة العلاء بن سيّابة، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن شهادة من يلعب بالحَمام، قال: لابأس إذا كان لايعرف بفسق، قلت: فإنّ من قبلنا يقولون: قال عمر: هو شيطان، فقال: سبحان اللّه، أما علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قال: إنّ الملائكة لتنفُر عند [عن] الرهان و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل فإنّها تحضره الملائكة و قد سابق رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم أسامة بن زيد و أجرى الخيل.(3) و رواه فى الوسائل فى كتاب السبق و الرماية بسند آخر عن العلاء بن سيّابة عن أبى عبداللّه عليه السلام
**********
(1) مصباح الفقاهة، ص 375.
(2) المكاسب المحّرمة لسيّدنا الامام قدس سره، ج 2، ص 14.
(3) الوسائل، الباب 54 من أبواب الشهادات، ج 27، ص 413، ح 3.
ص: 77
قال: سمعته يقول: لابأس بشهادة الذى يلعب بالحمام و لابأس بشهادة المراهن عليه، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قد أجرى الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان فى الخفّ و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام. قال بعض فضلائنا: الحمام فى عرف أهل مكة و المدينة يطلق على الخيل، فلعلّه المراد من الحديث بدلالة استدلاله عليه السلام بحديث الخيل، فيحصل الشكّ فى تخصيص الحصر السابق بغير الحمام،(1) إلّا أنّها ضعيفة من جهة جهالة محمد بن موسى بخلاف الرواية السابقة، فإنّه و إن نقلها فى الفقيه(2) بقوله روى عن العلاء بن سيّابة و كان ظاهره أنّها مرسلة إلّا أنّ ملاحظة المشيخة تشهد على أنّ الرواية مسندة، حيث قال الصدوق فيها و ما كان فيه عن العلاء بن سيّابة: فقد رويته عن أبى رضى الله عنه عن سعد بن عبداللّه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن على الوشّاء عن أبان بن عثمان عن العلاء بن سيّابة، لايقال إنّ العلاء بن سيّابة لم يوثّق لأنّا نقول: يكفى فى وثاقته أنّه من مشايخ ابن أبى عمير و قد صرّح ابن أبى عمير بأنّه لايروى و لايرسل إلّا عن الثقة.
ودعوى أنّ قول الصدوق و روى عن العلاء بن سيّابة مشعر بكون الرواية مرسلة و الذى صرّح به فى المشيخة من الطريق هو بالنسبته إلى ما رواه الصدوق نفسه عن العلاء بن سيّابة مسندا لا بالنسبة إلى مرسلات الآخرين، مندفعة بأنّ ملاحظة المشيخة مع ترتيب الروايات المنقولة فى نفس الكتاب تشهد بأنّ مراده من كلّ ما رويته فى المشيخة أعمّ ، فيشمل ما عبّر عنه بقوله و روى عن العلاء بن سيّابة أيضا، و عليه فهذه الصحيحة تدلّ على حرمة اللعب مع العوض فى غير موارد الاستثناء فإنّها هى مقتضى
**********
(1) الوسائل، الباب 3 من أبواب أحكام السبق و الرماية، ج 19، ص 253، ح 3.
(2) كتاب الأحكام، الباب 18، ح 42.
ص: 78
لعن الملائكة صاحب الرهان و اللعن و إن استعمل أحيانا مع القرينة فى الكراهة، كما فى قوله: «لعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم آكل زاده وحده و النائم فى بيته وحده و الراكب فى الفلاة وحده» إلّا أنّ ظاهره هو إرادة الحرمة فيما إذا لم تكن قرينة.
ومنها: الروايات الدالّة على أنّ اللعب مع الرهان قمار كصحيحة معمّر بن خلّاد كلّما قومر عليه فهو ميسر،(1) بدعوى أنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ كلّ ما يقع عليه القمار (برد و باخت) فهو ميسر و هى بعمومها تشمل موارد جعل الرهان فى غير الآلات المعدّة للقمار. أورد عليه بأنّ مفادها حرمة العوض فى كلّ رهان لاحرمة نفس الرهان و اللعب تكليفا.(2) و يمكن الجواب عنه بأنّ إطلاق القمار على اللعب بغير الآلات المعدّة فى قوله عليه السلام كلّما قومر عليه فهو ميسر، يكفى شمول أدلّة حرمة القمار تكليفا، إلّا أنّ الاستدلال المذكور بما مرّ من صدق القمار لا استدلال بالرواية فافهم و نحوها صحيحة العيّاشى عن حَمْدِوَيْه عن محمد بن عيسى قال: كتب إبراهيم بن عنبسة يعنى إلى على بن محمد عليهما السلام اذ رأى سيّدى و مولاى أن يخبرنى عن قول اللّه عزّوجلّ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ) الآية (فما الميسر ظ) جعلت فداك، فكتب: كلّ ما قومر به فهو الميسر و كلّ مسكر حرام(3) و فى الذيل أنّ فى المصدر (كتب إليه) و (إن رأى) و (فما المنفعة) ولعلّه مصحف (فما الميسر)، كما استظهره صاحب الوسائل و تقريبها كالتقريب فى السابقة و الإشكال فيه هو الإشكال.
**********
(1) الوسائل، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 323، ح 1.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 18 و إرشاد الطالب، ج 1، ص 216.
(3) الوسائل، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 326، ح 11 و فى هامش الوسائل هكذا: فى تفسير العياشى، ج 1، ص 105. فيه: (كتب اليه) و فيه: (إن رأى) و فيه: (فما المنفعة) و لعلّه مصحّف (فما الميسر) كما استظهره المصنف.
ص: 79
وخبر إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون، فقال: لاتأكل منه فإنّه حرام،(1) لدلالته على حرمة المقامرة بالجوز و البيض و حرمة الأكل بناء على رجوع قوله فإنّه حرام إلى اللعب المذكور، هذا مضافا إلى إطلاق القمار على اللعب المذكور فى السؤال ولكنّ الخبر ضعيف، هذا مضافا إلى احتمال رجوع الضمير إلى المأكول و يؤيّده عدم حرمة اللعب المذكور على الصبيان. و كيف كان، يكفى فى تحريم اللعب مع الرهان فى غير الآلات المعدّة للقمار صدق القمار عرفا و اللعن الوارد فى بعض الروايات و إطلاق القمار عليه فى بعض الأخبار و لو تنزيلا كخبر العلاء بن سيّابة و خبر إسحاق بن عمّار. و لقد أفاد و أجاد فى جامع المدارك، حيث قال: فبعد كون المراهنة بغير آلات القمار قمارا حقيقة أو تنزيلا لامجال للشكّ فى الحرمة التكليفية مضافة إلى الحرمة الوضعية(2). و مما ذكر يظهر ما فى الجواهر، حيث قال: بل لايحرم المراهنة فيما لم يعتدّ المقامرة به أيضا و إن حرم هو لأنّه أكل مال بالباطل دونه لما عرفت ممّا لا معارض له. ودعوى أنّه من اللعب و اللهو المشغول عنهما المؤمن يدفعه منع كونه من اللعب المحرّم، إذ لاعموم، بل و لا إطلاق على وجه يصلح لشمول ذلك و نحوه.(3)
و قد يستدلّ لما ذهب إليه صاحب الجواهر بصحيحة محمد بن قيس عن أبى جعفر عليه السلام قال: قضى أميرالمؤمنين عليه السلام فى رجل آكل و أصحابٌ له شاةً ، فقال: إن أكلتموها فهى لكم و إن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا فقضى فيه أنّ ذلك باطل لاشيء
**********
(1) الكافى، ج 5، ص 124.
(2) جامع المدارك، ج 3، ص 29.
(3) الجواهر، ج 22، ص 109.
ص: 80
فى المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ماكثر و منع عن أمة(1) فيه «عن الغرامة ظ». و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن يوسف بن عقيل نحوه.(2)
قال الميرزا الشيرازى: آكل هو فاعل من المؤاكلة بمعنى المغالبة فى الأكل لأنّ من المعانى المذكورة للمفاعلة المغالبة كما يقال ضاربنى فضربته يعنى غالبنى فى الضرب فغلبته فيه و «أصحاب له» بالرفع معطوف على المرفوع فى آكل و الغالب فى مثله العطف بعد التأكيد بالضمير المنفصل، نحو (اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ ) (3) أو مطلق الفاصل.(4)
و كيف كان تقريب الاستدلال بالصحيحة بأن يقال إنّ ظاهرها من حيث عدم ردع الإمام عن فعل مثل هذا أنّه ليس بحرام إلّا أنّه لايترتّب عليه الأثر و هو ماذهب اليه صاحب الجواهر قدس سره.
أورد عليه الشيخ بقوله: لكنّ هذا وارد على تقدير القول بالبطلان وعدم التحريم لأنّ التصرّف فى هذا المال مع فساد المعاملة حرام أيضا فتأمل. أوضحه الميرزا الشيرازى قدس سره بقوله: يعنى أنّ التصرّف فى الشاة بالأكل مع فساد المعاملة عليه حرام، مع أنّ ظاهر الرواية حلّيّته من حيث تقريره و السكوت عن الحكم بحرمته كما أنّ سكوته عليه السلام عن حرمة أصل المعاملة يقتضى حلّيّة هذا.
ويمكن الجواب بأنّ السكوت ظاهر فى التقرير و الحلّيّة فى الموردين و الخروج عن هذا الظاهر فى الأوّل بالدليل الدالّ على عدم جواز التصرّف فى المقبوض بالعقد الفاسد لايقتضى رفع اليد عنه فيما هو محلّ النزاع من إباحة أصل المعاملة مضافا إلى
**********
(1) أى الدين.
(2) الوسائل، الباب 5 من كتاب الجعالة، ح 1.
(3) البقرة، 35.
(4) التعليقة، ص 124.
ص: 81
إمكان منع التقرير بالنسبة إلى التصرّف إذ لم يذكر فى الرواية أنّ أصحاب الرجل تصرّفوا فى الشاة و أكلوا، بخلاف أصل المراهنة على الأكل، فإنّه مذكور فيها صريحا فتدبّر. و لعلّه قدس سره لما ذكرنا أو بعضه أمر بالتأمل،(1) وعليه فيصحّ الأخذ بالتقرير فى أصل المراهنة على الأكل و الحكم بجوازه كما ذهب اليه صاحب الجواهر. وفيه أنّ حمل مورد الرواية على المقبوض بالعقد الفاسد و عدم جواز التصرّف فيه لايساعد مع الحكم بعدم الضمان فى المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ما كثر، إذ المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فالأولى هو حمل مورد الرواية على الهبة الفاسدة حيث لم يجعل فى مقابل الشاة شيئا و مقتضاه هو عدم الضمان لقاعدة كلّ ما لايضمن بصحيحه لايضمن بفاسده، وعليه فيصحّ قوله عليه السلام لاشىء فى المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ماكثر.
قال فى جامع المدارك: و يمكن أن يقال: إنّ صاحب الشاة ما جعل فى مقابل الشاة شيئا فالشاة بمنزلة العين الموهوبة بالهبة الفاسدة. فبناء على القاعدة المشهورة عند الفقهاء رضوان اللّه عليهم «مالايضمن بصحيحه لايضمن بفاسده» لاضمان و لاحرمة من جهة التصرّف، و لعلّه لذا أمر بالتأمّل؛(2) و عليه فلا مجال لإيراد الشيخ بأنّ الإشكال وارد على تقدير القول بالبطلان و عدم التحريم هذا، إلّا أنّ رفع اليد عن الأخبار السابقة بمثل هذا الخبر محلّ تأمّل و نظر،(3) فإنّ دلالة هذا الخبر على الجواز تكون بالتقرير المتقوّم بالسكوت فى مقام البيان و مع ورود النهى فى سائر الروايات لايتمّ التقرير إذ لا سكوت بحسب مجموع الأخبار كما لايخفى، و لعلّه لذلك قال فى جامع المدارك بعد تتميم دلالة هذا الخبر، لكنّه لامجال لدفع اليد عن الأخبار
**********
(1) تعليقة على المكاسب، ص 124-123.
(2) جامع المدارك، ج 3، ص 29.
(3) كما فى إرشاد الطالب، ج 1، ص 219.
ص: 82
المذكورة بهذا الخبر،(1) هذا مضافا إلى إمكان دعوى أنّ الظاهر أنّ الرواية أجنبيّة عن المقام و إنّما هى مسوّقة لبيان حكم عقد المؤاكلة فى الطعام فإنّ مالك الشاة قد أباحها لأشخاص معيّنين بشرط متأخر و هو قوله: «إن أكلتموها فهى لكم» و اشترط عليهم الضمان إذا تخلّف الشرط المذكور و قال: «وإن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا» و قد حكم الإمام عليه السلام بفساد هذه المعاملة و عدم ترتّب الأثر عليها بقوله: «لاشىء فى المؤاكلة» و أنّها ليست من المعاملات التى أمضاها الشارع كما أمضى المزارعة و المضاربة و المساقاة و غيرها، و على هذا فمفاد الرواية ينحلّ إلى قضيّتين، إحديهما موجبة و هى إباحة الشاة بشرط متأخر إباحة مالكية، و الثانية سالبة و هى عدم تحقّق الإباحة المالكية مع تخلّف الشرط المذكور، و حكم القضية الأولى هو الجواز وضعا و تكليفا من غير غرامة على الآكلين، و حكم القضية الثانية هو عدم الجواز وضعا لاتكليفا، فتثبت عليه غرامة الأكل لكونه مشمولا لعمومات أدلّة الضمان، لا لأنّها معاملة خاصّة توجب الضمان بنفسها، إلى أن قال: و نظير هذه المعاملة كثير الوقوع بين أهل العرف، فيقول أحدهم لصاحبه: إن أكلت كذا مقدارا من الثمرة أو إن سكنت فى هذه الدارسنة واحدة فليس عليك شيء، و إلّا فعليك كذا و كذا.(2)
وفيه أنّ التوجيه المذكور لايساعد مع إطلاق الحكم بعدم الضمان فى الرواية، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نفى الضمان اضافى و هو بالنسبة إلى القضية الموجبة و هى الإباحة بالشرط المتأخر فتأمّل. الإنحلال المذكور، و مضافا إلى إمكان القول كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بأنّ صحيحة محمد بن قيس بصدد بيان قضاء أميرالمؤمنين عليه السلام فى الواقعة لامطلق ما وقع فيها، ولهذا لم يذكر كيفية الدعوى و المدّعى و المدّعى عليه، و
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 29.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 378-377.
ص: 83
لعلّ أميرالمؤمنين عليه السلام نهى عن العمل و لم يكن أبوجعفر عليه السلام بصدد نقله مع أنّ الواقعة كانت قضية خارجية لم تظهر حالها فلا معنى لاستفادة شيء من سكوته.(1) و كيف كان، فلا تكون الصحيحة المذكورة منافية لما مرّ من الأخبار الدالّة على حرمة اللعب مع المراهنة بغير الآلات المعدّة للقمار كصحيحة العلاء بن سيّابة، هذا مضافا إلى صدق القمار فيعمّه إطلاق أدلّة القمار.
المسألة الرابعة: المغالبة بغير عوض فى غير ما نصّ على جواز المسابقة فيه، قال الشيخ الأعظم قدس سره: و الأكثر على ما فى الرياض على التحريم، بل حكى فيها عن جماعة دعوى الإجماع و هو الظاهر من بعض العبارات المحكية عن التذكرة، فعن موضع منها أنّه لاتجوز المسابقة على المصارعة بعوض و لابغير عوض عند علمائنا أجمع لعموم النهى، إلّا فى الثلاثة الخفّ و الحافر و النصل و ظاهر استدلاله أنّ مستند الإجماع هو النهى و هو جار فى غير المصارعة أيضا. و عن موضع آخر لاتجوز المسابقة على رمى الحجارة باليد و المقلاع و المنجنيق سواء كان بعوض أو بغير عوض عند علمائنا، و فيه أيضا. لايجوز المسابقة على المراكب و السفن و الطيارات عند علمائنا و قال ايضا لايجوز المسابقة على مناطحة الغنم و مهارشة الديك بعوض و لابغير عوض. قال: و كذلك لايجوز المسابقة بما لاينتفع به فى الحرب و عدّ فيما مثل به اللعب بالخاتم و الصولَجان و رمى البنادق و الجلاهق و الوقوف على رجل واحد و معرفة ما فى اليد من الزوج و الفرد و ساير الملاعب و كذا اللبث فى الماء، قال: و جوّزه بعض الشافعية و ليس بجيّد، انتهى. ثمّ قال الشيخ الأعظم قدس سره: و ظاهر ذلك الميل إلى الجواز و استجوده فى الكفاية و تبعه بعض من تأخّر عنه للأصل و
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام قدس سره، ج 2، ص 22.
ص: 84
عدم ثبوت الإجماع و عدم النصّ عدا ما تقدّم من التذكرة من عموم النهى الخ.(1) وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة بوجوه كلّها ضعيفة، منها الإجماع؛ و فيه أنّه غير ثابت و قد عرفت فى المسألة السابقة أنّ الشيخ الأعظم قال: و الظاهر إلحاق المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار بالقمار فى الحرمة و الفساد، إلى أن قال: و هو ظاهر كلّ من نفى الخلاف فى تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض وجعل محلّ الخلاف منها بدون العوض، و لايخفى ظهور قوله و جعل محلّ الخلاف فيها بدون العوض فى عدم الإجماع فى صورة المغالبة فيما عدا المنصوص من دون رهان.
ومنها: النصوص الناهية عن اللعب بغير الخفّ و الحافر و النصل و من جملتها موثّقة حفص عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: لاسبق إلّا فى خفّ أو حافر أو نصل يعنى النضال.(2) وخبر عبداللّه بن سنان عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: لاسبق إلّا فى خفّ أو حافر أو نصل يعنى النضال.(3) و خبر العلاء بن سيّابة عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: لابأس بشهادة الذى يلعب بالحمام و لابأس بشهادة المراهن عليه، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قد أجرى الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان فى الخفّ و الحافر و الريش و ماسوى ذلك فهو قمار حرام. قال بعض فضلائنا: الحمام فى عرف أهل مكّة و المدينة يطلق على الخيل، فلعلّه المراد من الحديث بدلالة استدلاله عليه السلام بحديث الخيل، فيحصل الشكّ فى تخصيص الحصر السابق بغير الحمام.(4)
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 49.
(2) الوسائل، الباب 3 من أبواب أحكام السبق و الرماية، ج 19، ص 253-252، ح 1.
(3) الوسائل، المصدر، ج 19، ص 253، ح 2.
(4) الوسائل، الباب 3 من أبواب أحكام السبق و الرماية، ج 19، ص 253، ح 3.
ص: 85
و صحيحة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عليهما السلام. قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم لاسبق إلّا فى حافر أو نصل أو خفّ .(1)
أورد الشيخ على الاستدلال بالأخبار المذكورة بأنّ عموم النهى غير دالّ لأنّ السبق فى الرواية يحتمل التحريك بل فى المسالك أنّه المشهور فى الرواية، و عليه فلا يدلّ إلّا على تحريم المراهنة، بل هى غير ظاهرة فى التحريم أيضا لاحتمال إرادة فسادها، بل هو الأظهر لأنّ نفى العوض (لقوله لاسبق) ظاهر فى نفى استحقاقه و إرادة نفى جواز العقد عليه فى غاية البعد و على تقدير السكون فكما يحتمل نفى الجواز التكليفى فيحتمل نفى الصحّة لوروده مورد الغالب من اشتمال المسابقة على العوض.(2) قال فى جامع المدارك: و الظاهر أنّ مدركهم عموم النهى إلّا فى الثلاثة الخفّ و الحافر و النصل، و لفظ السبق فى الرواية يحتمل أن يكون محرّكا بفتح الباء و أن يكون بالسكون، فعلى الأوّل يرجع إلى عدم تملّك العوض و الحرمة الوضعية، و على الثانى يرجع إلى الحرمة التكليفية بالنسبة إلى نفس الفعل و مع الاحتمال لامجال للحكم بالحرمة، بل مع احتمال السكون يمكن دعوى الانصراف إلى صورة المسابقة مع العوض.(3) و لايخفى عليك أنّ دعوى الانصراف إلى صورة المسابقة مع العوض محلّ تأمّل و نظر لكثرة المسابقة من دون عوض أيضا و العمدة هو ما أشار إليه فى جامع المدارك من أنّ مع احتمال الأمرين من السبق بالفتح و السكون فالرواية مجملة و لامجال للاستدلال بها للحكم بحرمة المسابقة من دون عوض.
ومنها: دعوى صدق مفهوم القمار على مطلق المغالبة و لو بدون العوض، و عليه
**********
(1) الوسائل، الباب 3 من ابواب احكام السبق و الرماية، ج 19، ص 253، ح 4.
(2) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 49.
(3) جامع المدارك، ج 3، ص 30.
ص: 86
فتشمله الإطلاقات الدالّة على حرمة القمار. و أجيب عنه بأنّ الرهان مأخوذ فى مفهوم القمار سواء كان اللعب بالآلات المعدّة له أم لا، و عليه فالمسابقة بغير المراهنة خارجة عن مفهوم القمار موضوعا و إطلاق القمار عليها أحيانا لايدلّ على الحقيقة فإنّه أعمّ من الحقيقة و المجاز و لاأقلّ من الشكّ فيؤخذ بالقدر المتيقّن و هو مع الرهان. ودعوى أنّ اللعب بالشطرنج من دون قيد المراهنة قد يسمّى قمارا فى إطلاق بعض الأخبار، مثل ماورد فى معتبرة أبى بصير عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: الشطرنج و النرد هما الميسر،(1) مندفعة بأنّ الشطرنج و النرد من الآلات المعدّة للقمار بخلاف المقام، و مع احتمال الخصوصية فى الشطرنج و النرد فلا يمكن التعدّى عن مورد التعبّد إلى غيره. نعم، لو كان إطلاق القمار عليه من جهة الصدق العرفى لتمّ الاستدلال ولكنّه كماترى، و لو سلّمنا أنّ إطلاق القمار على المسابقة الخالية عن العوض على سبيل الحقيقة فإنّ السيرة القطعية قائمة على جوازها كالسباحة و المصارعة و المكاتبة و المشاعرة و غيرها، خصوصا إذا كان الفعل أمرا قُرْبيا كبناء المساجد و القناطر و المدارس، فإنّ فى ذلك فليتنافس المتنافسون؛(2) و مما ذكر يظهر ما فى كلام الشيخ الأعظم قدس سره، حيث قال: و قد يستدلّ للتحريم أيضا بأدلّة القمار بناء على أنّه مطلق المغالبة و لو بدون العوض، كما يدلّ عليه ما تقدّم من إطلاق الرواية بكون اللعب بالنرد و الشطرنج بدون العوض قمارا. و دعوى أنّه يشترط فى صدق القمار احدى الأمرين: إمّا كون المغالبة بالآلات المعدّة للقمار و إن لم يكن عوض، و إمّا المغالبة مع العوض و إن لم يكن بالآلات المعدّة للقمار على ما يشهد به إطلاقه فى رواية الرهان فى الخفّ و الحافر فى غاية البعد، بل الأظهر أنّه مطلق
**********
(1) الكافى، ج 6، ص 435.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 381-380.
ص: 87
المغالبة و يشهد له أنّ إطلاق آلة القمار موقوف على عدم دخول الآلة فى مفهوم القمار كما فى ساير الآلات المضافة إلى الأعمال و الآلة غير مأخوذة فى المفهوم، و قد عرفت أنّ العوض أيضا غير مأخوذ فيه، فتأمّل.(1) و ذلك لأنّ كون القمار مطلق المغالبة و لو بدون العوض أوّل الكلام، بل العرف على خلافه. و إطلاق القمار على اللعب بالشطرنج و النرد و نحوهما من آلات القمار فى بعض الأخبار لايشهد على صحّة إطلاق القمار على مطلق المغالبة، بل يقتصر على مورده لأنّ ذلك تعبّد، و الغرض هو بيان حرمة اللعب بهما و لو من دون عوض و ليس ذلك من جهة صدق القمار عرفا على اللعب بهما من دون العوض و لاأقلّ من الشكّ فى كونه من باب التعبّد أو صدق القمار فلا يصلح للاستدلال، فإنّه إن كان الأوّل فلا مجال للتمسّك به للزوم الاقتصار على مورد التعبّد، و إن كان الثانى فهو يصلح للشاهد ولكن مع الترديد بين الأمرين لامجال للتمسّك به فى المقام.(2) و لافرق فى ذلك بين كون آلة القمار داخلة فى مفهوم القمارو بين عدمه، هذا مضافا إلى أنّ عدم دخالة الآلة فى مفهوم القمار لايستلزم عدم أخذ العوض فيه بل العوض مأخوذ فيه، و لعلّه لذلك أمر بالتأمّل. فتحصل أنّ القمار ليس هومطلق المغالبة بل القمار هى المغالبة مع الرهان، و عليه فلابأس باللعب بغير الثلاثة من دون الرهان.
ومنها: دعوى أنّه يمكن الاستدلال على التحريم بما تقدّم من أخبار حرمة الشطرنج و النرد معلّلة بكونها من الباطل و اللعب و أنّ كلّ ماألهى عن ذكراللّه فهو الميسر. و قوله عليه السلام فى بيان حكم اللعب بالأربعة عشر لاتستحبّ شيئا من اللعب غير الرهان و الرمى و المراد رهان الفرس. و لاشكّ فى صدق اللهو و اللعب فيما نحن فيه
**********
(1) المكاسب للشيخ الأعظم قدس سره، ص 49.
(2) راجع إرشاد الطالب، ص 222.
ص: 88
ضرورة أنّ العوض لادخل له فى ذلك. و يؤيّده مادلّ على أنّ كلّ لهو المؤمن باطل خلا ثلاثة و عدّ منها إجراء الخيل و ملاعبة الرجل امرأته.
وفيه: أوّلاً أنّه قد يتعلّق بهذه الأفعال غرض صحيح مورد لتوجّه العقلاء به كحفظ الصحّة و تقوية البدن فى المصارعة؛(1) و ثانيا أنّه لادليل على حرمة مطلق اللهو فإنّ كثيرا من الأمور لهو و هو ليس بحرام كاللعب بالأحجار و الأشجار و السبحة و اللحية و أزار الثوب و نحوها.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و من أوضح أفراد القمار فى هذا الزمان الحظّ و النصيب المعبّر عن ذلك فى الفارسية بلفظ (بليط بخت آزمائى) و إذا صدق عليه مفهوم القمار شملته المطلقات الدالّة على حرمة القمار و الميسر و الأزلام و حرمة ما أصيب به من الأموال، غاية الأمر أنّ الموارد المنصوصة فى باب السبق و الرماية قد خرجت عن هذه المطلقات.(2) و قد يقال: فيه نظر لأنّ اللعب من الأجزاء المقوّمة فى مفهوم القمار و لا لعب فى المورد المذكور و مجرّد شراء تلك الأوراق لايكون محرّما تكليفا لاعتبار اللعب فى صدق القمار قطعا أو احتمالا، و معه لا يمكن الجزم بانطباق عنوان القمار عليه.(3) و يمكن الجواب عنه بأنّ اللعب لايكون مأخوذا فى القمار لعدم اللعب فى الأزلام مع أنّه قمار؛ و لو سلّمنا عدم صدق القمار عليه فحرمة الأزلام مع عدم اللعب فيه يكفى لإثبات حرمة «بليط بخت آزمائى»، لكونهما من باب واحد و
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 30.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 375.
(3) إرشاد الطالب، ج 1، ص 224.
ص: 89
لاخصوصية للأزلام، هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفى. و أمّا الحكم الوضعى فلا إشكال فى فساده و بطلانه بعد كونه كالأزلام.
قال فى إرشاد الطالب: و لاينبغى الريب فى بطلان بيع الأوراق المسمّاة بأوراق اليانصيب و شرائها حيث أنّ الأوراق لاتكون بنفسها أموالاً نظير الأوراق النقدية و الطوابع المالية و البريدية ليكون أخذها من شراء الشيء المحكوم عليه بالحلّيّة تكليفا و وضعا، بل يكون إعطاء المال و بذله باعتبار الرقم الموجود فى كلّ ورقة لاحتمال وقوع الجائزة على ذلك الرقم، و لذا لو تلفت الورقة بأن احترقت عند من يحتجزها و ثبت ذلك عند المؤسّسة فإنّها ربما تعطى الجائزة للشخص المزبور بوقوعها على ذلك الرقم. و الحاصل أنّ المبادلة واقعا بين المال و تلك الجائزة المحتمل وقوعها على الرقم، و الورقة سند لها و هذا لايكون بيعا صحيحا، فإنّ المعتبر فيه وجود المبيع و العلم به فيكون المقام نظير الشبكة المطروحة المحتمل وقوع الصيد فيها، فإنّه لايصحّ تملّك العوض بإزاء الصيد المحتمل، بل هذا أشبه بالقمار و يكون نظير القطعات من الخشب أو غيرها التى يكون فى كلّ منها رقم و يعيّن لبعض تلك الأرقام بعض الأموال و تطرح فى الكيس و يعطى إنسان درهما أو أكثر و يخرج منها قطعة بداعى وقوع المال على الرقم فيها. و الحاصل أنّ شراء الأوراق مندرج فى البيع الفاسد فلا تكون الجائزة به ملكا لمشترى الورقة و لوأخذها وجب المعاملة معها معاملة الأموال المجهول مالكها. نعم، مجرّد شراء تلك الأوراق لايكون محرّما تكليفا لاعتبار اللعب فى صدق القمار قطعا أو احتمالا، و معه لايمكن الجزم بانطباق عنوان القمار عليه.(1)
وفيه: أوّلاً: يمكن أن يقال: إنّ المعاملة لاتقع بين المال و تلك الجائزة المحتمل
**********
(1) إرشاد الطالب، ج 1، ص 224-223.
ص: 90
وقوعها على الرقم حتى يكون الورقة سنداً لها، بل تقع المعاملة بين المال و نفس الأرقام المذكورة فى الورقة باعتبار صيرورتها مالا من جهة بناء المؤسّسة على أن تعطى الجوائز طبقا بوقوع القرعة على تلك الأرقام. و ثانيا أنّ البيع بين المال و تلك الجائزة المحتمل وقوعها على الرقم و إن لم يكن صحيحا للغرر، ولكن يمكن القول بالصحّة باعتبار الصلح بناء على أنّ الصلح على ما لاعلم بوجوده بالفعل و لا فى الآتى صحيح ولكنّ شمول الصلح لمثل ذلك محلّ تأمّل و إشكال، فالأولى هو أن يقال فى وجه المنع: إنّه كالأزلام فى صدق القمار عليه أو فى حرمته فلا يجوز التصرّف فى المأخوذ فى مقابل الأوراق المذكورة فلا تغفل. ثم إنّه لو بدّل عنوان اليانصيب بعنوان الإعانة على إحدى المؤسّسات الخيرية و لم يكن ذلك مجرّد اللفظ بل له حقيقة، فلا إشكال فى إعانة تلك المؤسّسة الخيرية بدفع شىء لها و أخذ بطاقة لأخذ الجائزة، فدفع شىء إحسان لتلك المؤسّسة بداعى إعطاء الجوائز من نفس الإحسانات بإذن المحسنين و رضايتهم.
قال السيّد الإمام المجاهد قدس سره: إذا فرض قيام شركة بنشر بطاقات للإعانة حقيقة على المؤسّسات الخيرية و دفع كلّ من أخذ بطاقة مالا لذلك المشروع و دفع أو صرف الشركة ما أخذه فيها و تعطى من مالها مبلغا لمن أصابته القرعة هبة و مجّانا للتشويق فلاإشكال فى جواز الأمرين؛ و كذا لوأعطى الجائزة من المال المأخوذ من الطالبين برضامنهم.(1)
1 - لافرق فى حرمة شراء الأوراق اليانصيب بين أن يكون بايعها مسلما أو كافرا
**********
(1) تحرير الوسيلة، ج 2، ص 747-746.
ص: 91
لإطلاق أدلّة حرمة القمار و الأزلام و عدم حرمة مال الحربى لايوجب جواز القمار معه كما لايخفى؛ نعم، لوعصى و قامر الحربى جاز له تملّك المأخوذ منه بقصد الاستنقاذ إذا لم يعلم جريان يد مسلم عليه، فتدبّر جيّداً.
2 - لو شرى أحد الأوراق المذكورة و أصيبت القرعة به و أخذ مبلغا وجب عليه دفعه إلى مالكه إن كان معلوما، و إلّا فيترتّب عليه حكم مجهول المالك من لزوم تصدّقه على الفقير غير السيّد عن جانب مالكه الواقعى مع رعاية الاحتياط بالاستيذان من الحاكم الشرعى، هذا إذا كان المأخوذ بعنوان القرعة من أموال الطالبين. و أمّا إذا كان من أموال الدولة فاللّازم ردّه إلى بيت المال إن كان المتصدّى حاكما شرعيا أو مأذونا من الحاكم الشرعى و إلّا فردّ إلى الحاكم الشرعى حتى يصرفه فى مصارف بيت المال.
3 - لو أخذ أحد فى زمان الطاغوت مبلغا بعنوان الجايزة ل - «بليط بخت آزمائى» و صرفه كان ضامنا له و وجب عليه أن يتصدّقه للفقراء من جانب مالكه إن لم يعلمه مع رعاية إعطاء قدرة شرائه على الأحوط، و هكذا وجب عليه أن يعطى عوض المأخوذ إلى مالكه إن كان معلوما مع رعاية إعطاء قدرة شرائه على الأحوط أو إلى الحاكم الشرعى إن كان من بيت المال مع رعاية إعطاء قدرة شرائه على الأحوط. و فى زماننا هذا يكفى تحويله إلى الدولة الإسلامية حتى يجعلوها فى محالّه إن كان المأخوذ من بيت المال.
4 - لوأخذ أحد دارا فى زمان الطاغوت بعنوان الجايزة ل - «بليط بخت آزمائى» و صدر السند باسمه ثمّ باعه فى الجمهورية الإسلامية بمبلغ كان أخذ الدار محرّما و لم يملكها و لاتأثير لصدور السند بعنوانه فى الملكية و كان بيع الدار بيعا فضوليا، فإن كان الدار لشخص معلوم فله الدار و تنفيذ البيع و إن لم يكن كذلك فإن كانت الدار
ص: 92
للدولة فلها فى زماننا هذا تنفيذ البيع و عدمه و إن كانت الدار لشخص غير معلوم فهى مجهول المالك. و على كلّ تقدير ضمن آخذ الدار من أول يوم الأخذ إلى زمان تحويلها أجرة المثل لتلك الدار، و حيث صارت أجرة المثل فى ذمّته فالّلازم على الأحوط هو إعطاء اختلاف قدرة الشراء أيضا، فتدبّر جيّداً.
التنبيه الثانى: أنّه لو كانت المسابقة فيما عدا الموارد المنصوصة ككرة القدم بلا رهان فلا إشكال و لو عيّن الحكومات الشركات جوائز للفائزين فلا وجه للحرمة أيضا إلّا دعوى صدق القمار على مطلق المغالبة مع الرهان. و من المعلوم أنّ اشتراط الجوائز على غير اللّاعبين يوجب صدق هذا العنوان، أللّهمّ إلّا أن يقال إنّ عنوان القمار لاينطبق عليه حيث أنّ المعتبر فيه كون المال من المغلوب و لايعمّ ما إذا كان من شخص ثالث للفائز. قال فى إرشاد الطالب: صرّح بذلك بعض أهل اللغة و يظهر أيضا بمراجعة الاستعمالات العرفية و إن لم يكن هذا جزميا فلاأقلّ من احتماله و هذا يمنع عن الرجوع إلى إطلاق خطاب حرمة القمار أو المراهنة، و إذا جاز اللعب صحّ تملّك الجائزة أخذا بإطلاق دليل الهبة أو الجعالة او غيرهما.(1)
و الأولى بالجواز هو أن لايشترط اللّاعب شيئا لا على اللّاعب الآخر و لا على الشخص الثالث؛ و حينئذ إن لاعب بالنحو المذكور فلا حرمة فى اللعب و لا فى المأخوذ من غير اللاعب و إن علم أنّ الحكومة أو بعض المؤسّسات يعطونه لأنّ المغالبة مع عدم الاشتراط لايصدق عليه أنّها مع الرهان و إن علم باعطاء شيء لأنّ العلم المذكور يكون داعيا و ليس بشرط.
**********
(1) إرشاد الطالب، ج 1، ص 223.
ص: 93
1 - لافرق فى جواز أخذ الجائزة كونها من مال الناظرين أو الحكومة أو بعض المؤسّسات و إنّما المعتبر أن لايكون من اللّاعب الآخر.
2 - لاإشكال فى أخذ مبلغ للورود فى محلّ المغالبة لمشاهدة المسابقة إذا كان المحلّ للآخذين، كما لا إشكال أيضا فى اشتراط اللّاعبين مبلغا على صاحب المحلّ المذكور لإجراء المسابقة فى ذلك المحلّ .
3 - هل يجوز لغير اللّاعبين استيجار اللاعبين للمغالبة أو لايجوز؟ أمكن القول بالثانى بدعوى صدق المغالبة مع الرهان و هو قمار و لكن عرفت اختصاص القمار بما إذا أخذ من المغلوب و هو اللاعب الآخر لاغيره، و عليه فالأظهر هو الأول. و مما ذكر يظهر صحّة الجعالة أيضا فلو جعل أحد شيئا فى مقابل مصارعة زيد مع عمرو فلاإشكال فيه، كما لاإشكال فى المأخوذ لأنّه أخذ من غير اللاعب الآخر و إن كان الأحوط هو الاجتناب.
4 - هل يجوز اشتراط شىء من اللاعب على اللاعب الآخر فى ضمن جماعته الموسوم فى اللغة الفارسية ب - «تيم» أو لايجوز؟ و الأقرب هو الثانى لصدق المغالبة مع الرهان بالنسبة إلى اللاعب الآخر و إن كان سهمه الذى عليه أدائه قليلا. نعم، لواشترط شيئا على جماعته غير اللاعب فالأظهر هو عدم الحرمة لاختصاص القمار بما إذا اشترط اللاعب شيئا على المغلوب و هو اللاعب الآخر و إن كان الأحوط هو الاجتناب.
5 - إذا اشترط بعض الأفراد المعلوم من جماعة اللاعبين على البعض المعلوم من الجماعة المتقابلة شيئا كان اللعب بالنسبة إليهما محرّما، بخلاف غيرهما. و إذا اشترط
ص: 94
بعض معلوم على بعض غير معلوم كواحد لابعينه فاللعب المذكور قمار بالنسبة إلى الشخص المعلوم، و أمّا بالنسبة إلى الجماعة المتقابلة فالأظهر أنّه قمار أيضا لاشتراط شىء على واحد لابعينه و هو كالنكرة يصدق على كلّ واحد من الجماعة المتقابلة على البدل.
6 - ولافرق فى صدق القمار بين اشتراط شيء على اللاعب الآخر لنفسه أو لغيره، سواء كان شخصا أو عنوانا أو جهة من الجهات، كلّ ذلك لصدق المغالبة مع الرهان كما لايخفى.
7 - إذا اشترط اللاعب على طرفه أو اشترط جماعة اللاعبين على الجماعة المتقابلة من اللاعبين أن يطعم الفرد أو الجماعة فى ليلة أو نهار كذا فى صورة غلبة هذا الفرد على ذلك الفرد أو هذه الجماعة على تلك الجماعة فالأظهر أنّه رهان و يوجب صدق المغالبة مع الرهان و هو كما عرفت قمار و يترتّب عليه أحكامه من الحكم التكليفى و الوضعى.
8 - إن كان الرهان بين اللاعب و بعض المربّيين فلا إشكال لأنّ اللعب بين اللاعب و لاعب آخر من دون رهان بينهما و الرهان هنا بينه و بين من لم يلاعب و شمول المغالبة مع الرهان لهذا المورد غير واضح و إن كان الأحوط هو الاجتناب.
9 - إن اجتمع جماعات مختلفة من اللاعبين على عزل مبلغ حتّى يتهيّئوا الجوائز لجماعة أو جماعات فائزة فهل ذلك يوجب الحرمة أو لا؟ يمكن أن يقال: إن كانت الجماعات من اللاعبين فهو حرام لصدق المغالبة مع الرهان، و إن لم يكونوا منهم فليس بحرام لعدم صدق مفهوم القمار إذ لم يشترط على اللاعبين شىء.
10 - كيفية تقسيط الجوائز بين اللاعبين بيد الفرد أو الجماعة الذين تعطون الجوائز إن لم يكن قرار، و إلّا فاللازم أن يراعوا القرار الذى بينهم كالإجاره أو الجعالة أو غير ذلك.
ص: 95
11 - سئل السيّد المحقّق الخوئى قدس سره عمّا رأى سماحتكم فى الكسب عن طريق الكرة فى الجهات التالية علما بأنّها لاتتعارض مع أوقات الصلاة 1. التدريب و هو تعليم اللاعب على اللعب ؟ 2. التحكيم بين اللاعبين، 3. إسعاف و علاج المصابين بالكرّة، 4. العمل كسائق باص لأحد الأندية لخدمة لاعبي الكرّة، و أجاب بأنّه: إذا لم تكن مبنية على الرهان و لامستلزمة لمحرّم شرعى فلا بأس بالتحكيم. و أمّا الأولى و الأخيرتان فهى خدمة لاإشكال فيها و لابأس بها و اللّه العالم.(1)
12 - حكم المأخوذ فيما إذا كانت المغالبة مع الرهان حكم المأخوذ فى الأوراق اليانصيب و لانعيده.
التنبيه الثالث: أنّ حكم العوض فى القمار كما صرّح به الشيخ الأعظم قدس سره حكم ساير المأخوذ بالمعاملات الفاسدة من حيث الفساد و حرمة التصرّف و وجوب ردّ العين على مالكه مع بقائها و وجوب ردّ المثل أو القيمة مع التلف أو الإتلاف، و عليه فما أكل يكون تالفا و معه يجب ردّ المثل أو القيمة لا العين. و أمّا ما ورد فى معتبرة عبد الحميد بن سعيد من أنّه بعث أبو الحسن عليه السلام غلاما يشترى له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلمّا أتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيأ فقاءه،(2) فلا ينافى ما ذكرناه من وجوب ردّ المثل أو القيمة عند التلف أو الإتلاف لأنّ القيء المذكور ليس للردّ، و لذلك قال الشيخ الأعظم قدس سره: و ماورد من قييء الإمام عليه السلام البيض الذى قامر به الغلام فلعلّه للحذر من أن يصير الحرام جزءا من بدنه لا للردّ على المالك؛ هذا مضافا إلى ما فى مصباح الفقاهة من أنّ
**********
(1) صراط النجاة القسم الثانى، ص 288.
(2) الوسائل، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 165، ح 2.
ص: 96
الظاهر من الرواية أنّ البيض قد اشتراه الغلام للإمام عليه السلام ولكنّه قامر به فى الطريق فلاموضوع للضمان.(1)
وفيه: أنّ مقتضى قول المولى له إنّ فيه من القمار، أنّ بعض البيضات من القمار و يكون حراما. ثم هنا إشكال آخر ذكره الشيخ الأعظم قدس سره استطراداً، و هو أنّ ما كان تأثيره كذلك يشكل أكل المعصوم له جلا بناء على عدم إقدامه على المحرّمات الواقعية الغير المتبدّلة بالعلم لاجهلا و لاغفلة، لأنّ مادلّ على عدم جواز الغفلة عليه فى ترك الواجب و فعل الحرام دلّ على عدم جواز الجهل عليه فى ذلك، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مجرد التصرّف من المحرّمات العلمية و التأثير الواقعى الغير المتبدّل بالجهل إنّما هو فى بقائه و صيرورته بدلا عما يتحلّل من بدنه و الفرض اطّلاعه عليه فى أوائل وقت تصرّف المعدة و لم يستمرّ جهله. هذا كلّه تطبيق فعلهم على القواعد، و إلّا فلهم فى حركاتهم من أفعالهم و أقوالهم شؤونا لايعلمها غيرهم.(2) و لايخفى ما فيه لأنّ حرمة التصرّف فى مال الغير من المحرّمات الواقعية و جعل الحكم الظاهرى عند الجهل بالحكم الواقعى لاينافى وجود الحكم الواقعى.(3) نعم، إنّ الاعتراض على الرواية مبني على كون علم الأئمّة بالموضوعات حاضرا عندهم من غير توقّف على الإرادة مع أنّ جملة من الروايات دلّت على التوقّف المذكور، فلا يتوجّه الإشكال على الرواية لإمكان صدور الفعل عنهم جهلا قبل الإرادة.(4)
هذا مضافا إلى ما فى جامع المدارك من أنّه ألاترى ما فى الكتاب العزيز من
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 378.
(2) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 48.
(3) إرشاد الطالب، ج 1، ص 221.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 379.
ص: 97
أعمال الخضر صاحب موسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام فمن الممكن أن يكون البيض حلالا للمعصوم من جهة لانعلمها و قيئه من جهة رفع توهّم الناس فإنّه كثيرا ما يجتنب الإنسان عن الحلال لهذه الجهة.(1)
بقى شىء و هو أنّ الظاهر من الجواهر أنّ اللعب بما إذا لم يعتدّ المقامرة به ليس بحرام و إن حرم الرهان فيه لأنّه أكل مال بالباطل دونه، إلى أن قال: بل لوأخذ الرهن الذى فرض لهذا القسم بعنوان الوفاء بالوعد الذى هو نذر لاكفّارة له و مع طيب النفس من الباذل لابعنوان أنّ المقامرة المزبورة أوجبته و ألزمته و إنّها كغيرها من العقود المشروعة أمكن القول بجوازه نعم، هو مشكل فى القسم الأوّل (و هو ما اعتيد المقامرة به) و إن فرض الحال فيه ايضا بناء على حرمة كلّ ما ترتّب على المحرّم و لوجزاء أو وعدا أو نحوهما.(2) و يمكن أن يقال: إنّ إطلاق صحيحة العلاء بن سيّابة(3) يدلّ على حرمة الصورة الأولى وهى اللعب بما إذا لم يعتدّ المقامرة به مع الرهان، و ذلك لأنّ اللعن لو لم يكن قرينة على الخلاف ظاهر فى الحرمة فيما إذا جعل الرهان و إن أخذ بعنوان الوفاء؛ هذا مضافا إلى إمكان صدق القمار عليه مع الرهان لأنّ القمار هو المغالبة مع الرهان.
التنبيه الرابع: فى معاملات تعرف ب - «گلدكوئيست» أو «پنتاگونا» أو «لارجت» أو «شركة گلدماين» أو غير ذلك من أشباهها مما يسمّى فى المجلس الإسلامى من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالمعاملات الهرمية.
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 30.
(2) الجواهر، ج 22، ص 110-109.
(3) إنّ الملائكة لتنفر عند عن الرهان و تلعن صاحبه ماخلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل الحديث، (الوسائل، الباب 54 من أبواب الشهادات).
ص: 98
قيل أسّست شركة «گلدكوئيست» سنة 1998 بعد الميلاد و ماهيّتها صهيونية و مقرّها فى التجارة العالمية الواقعة فى «هنگ كنگ» و استقبلها مائة و عشرون بلدا من البلاد. و كيفية عمل هذه الشركات و إن يتفاوت فى بعض الخصوصيات ولكنّها متّحدة فى أنّ المشترى للورقة يكون هو البايع فى الآتى و اللازم عليه أن يقنع نفرات من الأفراد للشركة فى هذه المعاملة و يغرّهم بوعدات مختلفة ذكرتها هذه الشركات.
وقبل البحث عن حلّيتها أو حرمتها وجب البحث عن حقيقتها و لو بذكر ماهية بعضها. و هى أن تصل ورقة من المؤسّسة العليا الخارجية إلى شخص من الأفراد الداخلية بتوسّط شخص آخر مذكور فى تلك الورقة فى المرتبة الخامسة و فى تلك الورقة ذكر أسماء خمسة أفراد و الورقة لخامسهم و يبيع الشخص الخامس المذكور فى الورقة تلك الورقة ب - 30 دلار من الشخص الذى تصل الورقة إليه، فالمشترى المذكور يرسل 30 دلار أخرى لمن ذكر اسمه فى أوّل الورقة، ثم يأخذ السندين قبال 60 دلار و يرسلها مع 30 دلار أخرى إلى المؤسّسة الرئيسية العليا من طريق البريد الخاص و بعد إتمام ذلك و وصول الأسناد إلى المؤسسة العليا ترسل تلك المؤسسة أربعة ورقة للمشترى المذكور و تجعل اسم المشترى فى تلك الورقات نفرا خامسا بعد حذف النفر الأوّل من تلك الورقات بمجرّد وصول 30 دلار إليها، ثم المشترى المذكور يبيع الأربعة المذكورة كلّ واحدة منها ب - 30 دلار و يأخذ 120 دلار مكان 90 دلار التى أتاها للشراء فربح بذلك إلى هذه الحالة 30 دلار؛ و حينئذ لوعمل نفرات أربع بمثل ما عمل المشترى المذكور يقع المشترى المذكور فى المنزلة الرابعة بين 16 ورقة و إذا عمل صاحبو 16 ورقة بمثل ذلك يقع المشترى فى المنزلة الثالثة بين 64 ورقة و إذا عمل صاحبو 64 ورقة يقع المشترى المذكور فى المنزلة الثانية بين 256 ورقة و إذا عمل صاحبو 256 ورقة بمثل ذلك يقع المشترى المذكور فى المنزلة
ص: 99
الأولى بين 1024 ورقة، ففى هذه الحالة أرسل إليه كلّ مشترى جديد للورقة التى يكون المشترى المذكور فيها نفرا أوّلا 30 دلار فيصل إليه بتلك المعاملة 30/720 دلار، ثم يخرج اسمه من تلك الورقة و تمّت المعاملة، و إذا عرفت ذلك فقد وقع البحث عن حلّية ذلك و حرمته. و لايخفى أنّه لامجال للقول بأنّ هذه المعاملة من القمار إذ لا مغالبة فيها و القمار من دون المغالبة كماترى. و قد يدّعى حلّية تلك المعاملة حيث أنّ الورقة المذكورة قابلة للبيع بالمبلغ المعلوم و هو 90 دلار بالترتيب المذكور من إعطاء 30 دلار إلى النفر الخامس و 30 دلار إلى النفر الأول و 30 دلار إلى المؤسّسة العليا مع اشتراط إعطاء كلّ مشترى 30 دلار له.
و استشكل عليه بعض الأجلة بأنّه ليس فى البين مبادلة مال بمال و لاإعطاء أو أخذ عوض عن عين أو خدمة و منفعة مالية، بل كلّ هذه الأعمال وسائل للوصول إلى أموال كثيرة للمؤسّسة العالمية و للشخص الذى يرتقى اسمه حتى يقع نفرا أوّلاً فى الأوراق، فالوصول إلى الأموال من أظهر مصاديق أكل المال بالباطل و يشمله قوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) و يكون أخذه حراما و إنفاقه إنفاق مال حرام، و الورقة التى تباع للوصول إلى هذه الأموال أيضا لامنفعة محلّلة لها فبيعها أيضا بيع ما لا ماليّة له فى الشريعة الإسلامية، فيكون بيعها باطلا و يكون ما يأخذه البايع قبالها غير مملوك له و أخذه و التصرّف فيه أكل للمال بالباطل.
ثم من الواضح أنّ إحداث مثل هذه المعاملة و إن أوجب الوصول إلى أموال كثيرة لتلك المؤسسة العالمية و لمن يقع اسمه فى الرتبة الأولى إذا انتهى الأمر إلى بيع جميع الأوراق الكثيرة أو كثير منها، إلّا أنّها توجب ورود خسارات مالية على غيرهما ممن لم يظفروا ببيع أوراقهم التى أرسلت إليهم أو ظفروا ببيع قليلة منها. و إذا كانت
ص: 100
المؤسسة العالمية فى بلدة أجنبية فتوجب تلك المعاملة خروج رأس مال بلدتنا الإسلامية مثلا إلى الخارج و توجب أيضا وقوع تباغض و نفار بين من يبيع و يشترى هذه الأوراق بعضهم بالنسبة لبعض، فإنّه فى الغالب لايوفّق جميعهم للارتقاء إلى الرتبة الأولى أصلا أو بالنسبة إلى كثير من الأوراق المذكورة، فيبغض من صار سببا لعدم وصوله إلى ذلك الهدف، و هكذا توجب هذه المعاملة عدم اشتغال الناس بتجارة أوضعة تفيد للبلدة المباركة الإسلامية و سقوط اقتصادها رأسا و حصول حاجتها إلى البلاد الأجنبية التى بصدد السيطرة على الناس و أخذ ما لهم من المال و الإمكانات العالمية و بصدد جعل الناس كالاُسارى فى أيديهم، بحيث ليس للناس ضعة و لازرع و لا أُىّ شيء إلى غير ذلك من المفاسد، فهذه المفاسد هى نتيجة نهائية لهذه المعاملة الفاسدة و إن لم يتنبّه الناس لفسادها و هجموا إليها بخيال أن يصلوا إلى تلك المنفعة الخيالية فهذه المفاسد المترتّبة أيضا توجب على الناس أن يحترزوا عن المعاملة المذكورة و يتركوها بالمرّة هذا.(1) حاصله أنّ اللازم فى البيع أن يكون المعوّض مالا و الورقة المذكورة لامالية لها، فلا يقع البيع المذكور صحيحا و مع عدم صحّة البيع فالتصرّف فى ذلك المال المأخوذ أكل المال بالباطل. يمكن أن يقال: إنّ الورقة التى يترتّب عليها الآثار المذكورة مما يرغب إليه الناس و عليه فمنع ماليتها محلّ إشكال و نظر، أو يقال: يمكن أن يكون ذلك بصورة الهبة لمن يكون الورقة بيده و للشخص الأول المذكور فى الورقة و للمؤسسة العالمية. و دعوى عدم قصد الجدّ فى ذلك محلّ منع لأنّ مع ترتّب تلك الفوائد الكثيرة يتمشى القصد سيّما إذا كانت الهبة معوّضة و
**********
(1) كلمة حول ما يحصل فى اليد عن طريق صيرورة الإنسان عضوا فى معاملة بنيت على هذا الأساس، تأليف آية اللّه المؤمن مدّظله العالى و هذه الرسالة غير مطبوعة.
ص: 101
جعلت المؤسسة العالمية بإزاء الهبة اسم الواهب مذكوراً فى الورقة حتى يشمله ما يهبه اللاحقون للسابقين، و عليه فالإشكال عليه من ناحية عدم قصد الجدّ كما ترى.
نعم، الإشكال فيه من نواح أخرى وهى التى أشير إليها من المفاسد الأخلاقية و الاجتماعية و الاقتصادية و الإضرار و إيجاد الخسارة على المجتمع الإسلامى بسلب نشاطهم نحو التوليد و الزراعة و المعاملات الحقيقية، و من المعلوم أنّ تلك الأمور مما يوجب حرمة هذه المعاملة و أشباهها بأىّ نحو كان، و لو كان موردها ما له المالية الواقعية كالذهب و نحوه.
نعم، يجوز عكس ذلك لنا بالنسبة إلى دون الكفر و الإلحاد و المحاربة مما لا إحترام لأموالهم و نفوسهم لاستنقاذ أموالهم، فلا تغفل.
التنبيه الخامس: فى لعب «بيليارد» و قد يطلق بيليارد على «اسثوكر» و «ناين بال» و «ايت بال» و كيف كان هو يشبه بلعب كرة القدم، بل بجو كأن أو يكون تركيبا منهما و لايجوز جعل الرهان فيه على اللاعبين و لو بجعل القرعة و أخذ الجوائز. نعم، الالتزام بشىء من شخص ثالث لا إشكال فيه على التفصيل السابق فى كرّة القدم.
هذا كلّه فيما إذا لم يكن من مصاديق القمار، و إلّا فيترتّب عليه أحكام القمار. و لاإشكال فى صدق القمار إذا اشترط كلّ لاعب على لاعب آخر شيئا و لو كان ذلك إعطاء أجرة المحلّ أو أدوات أو غيرهما كالإطعام أو شربة من الأشربة إذا صار مغلوبا فى اللعب، فإنّ القمار هو المغالبة مع الرهان و هذا المعنى يصدق حين إذا اشترط شيئا على المغلوب، وبالجملة لايجوز جعل شيء على المغلوب سواء كان قليلا أو كثيرا.
هذا مع الغمض عن المفاسد التى تترتّب أحيانا على الحضور فى تلك المحالّ أو الذهاب و الإياب إليها التى توجب الاجتناب عنها، و لو كان المعمول نوعا هو اشتراط
ص: 102
شىء على المغلوب فيه كان ذلك آلة للقمار و معه لايجوز اللعب به و لو من دون اشتراط شىء كما لايخفى.
التنبيه السادس: فى تغيير آلات القمار، فإن كان التغيير فى بعض الخصوصيات بحيث لايخرجها عن كونها آلات قمار فلايرتفع عنها أحكام القمار، و إن كان التغيير فيها ماهويّاً بحيث لايطلق عليها آلة القمار فلاإشكال فى ارتفاع أحكام القمار عنها لأنّها تابعة لموضوعها و هو آلة القمار و المفروض أنّها غير باقية.
و إن لم يتغيّر صورتها و هيئتها ولكن لايلعب بها مع رهان فإن كان ذلك بحيث لايطلق عليها آلة القمار فهو كالتغيير الماهوى و لايترتّب عليها أحكام القمار و إن لم يكن كذلك فهى باقية على حكمها، و لو شكّ فى حصول التغيير الماهوى و عدمه فمقتضى الاستصحاب هو بقائها على ماعليها و يترتّب عليها أحكامها، ثم إنّ التغيير الذى يكون ماهويا أو ملحقا به لايلزم أن يكون عالميا، بل يكفى ذلك إذا تحقّق فى بلد اللاعب كالكيل و الموزون فى غير الحنطة و الشعير فإنّه يترتّب عليهما أحكامهما و لو لم يكونوا فى جميع البلاد كذلك، فلو كان شىء مكيلا فى بلدة قم و معدودا فى بلدة الطهران يختلف حكمهما بحسب اختلاف البلاد فتدبر جيدّا، و مما ذكر يظهر حكم الشطرنج و النرد فإنّه مع عدم التغيير الماهوى لايجوز اللعب بها و لو من دون رهان لإطلاق أدلّة حرمة الشطرنج، نحو معتبرة زيد الشحّام قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) (1) قال: الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء،(2) و غير ذلك من الأخبار نعم، لايشمل إطلاق الرواية ما
**********
(1) الحج، 30.
(2) الوسائل، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 318، ح 1.
ص: 103
إذا خرجت الشطرنج و النرد و غيرهما من آلة القمار عن كونها آلة القمار بحيث يكون اللعب بها يدخل فى اللعب بغير آلات القمار؛ و حينئذ فإن كانت مع الرهان كان اللعب بها حراما و إلّا فلا دليل على حرمته. نعم، الأحوط الأولى هو الاجتناب عما لايكون آلة القمار فى بلد اللاعب دون ساير البلاد، بل لايترك هذا الاحتياط فى مثل الشطرنج و النرد لإمكان القول بشمول إطلاق الوارد فى خصوصهما لهما فى هذه الحالة.
1 - لو لعب الزوج مع زوجته أو أهله بما يكون آلة للقمار من دون رهان فالأظهر أنّه حرام لإطلاق الأخبار الناهية عن اللعب بآلة القمار.
2 - لو لعب البالغ مع غير البالغ أو المجنون فالأظهر هو الحرمة بالنسبة إلى البالغ لصدق القمار لأنّه مغالبة مع الرهان.
3 - لو لعب المميّز مع المميّز أمكن القول بأنّه لاحرمة تكليفية وإن لم يكن ذلك موجبا للنقل و الانتقال، و ذلك لأنّ الحكم التكليفى على البالغين و المميّز لاتكليف له، و أمّا الحكم الوضعى فهو مترتّب على القمار و هو صادق بفعلهما و هل يجب على الولى منعهما عن اللعب أو لايجب، و جهان أحدهما أنّهما لم يفعلا محرّما، و ثانيهما أنّ القمار من عمل الشيطان و اللازم على الولى هو منعهما عن المفاسد و الخطوات الإبليسية.
4 - هل يجوز للاعب أن يشترط على المغلوب أمرا محسّنا كالإحسان للوالدين و نحوها أو لايجوز؟ أمكن القول بالجواز للانصراف أللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ الانصراف لاوجه له مع إطلاق الرهان عليه
5 - إنّ الآلات الممحّضة للقمار لامالية لها و حكمها فى بيعها و كسرها حكم هيا كل العبادة و نحوها مما يمحض لعبادة الأوثان، فإنّ العمومات التى تدلّ على عدم
ص: 104
جواز معاملة ما يجيء منه الفساد محضا تشمل الآلات الممحّضة للقمار أيضا كما أنّ حكم الشارع بإبطال آلات القمار و آلات اللهو يستلزم إسقاط ماليتها و أخذ شيء فى قبالها يوجب أكل المال بالباطل، هذا مضافا إلى أنّها مشمولة للنبوى الشريف «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه»(1) و غير ذلك من الأخبار نعم، إذا كانت الآلات مشتركة بين القمار و غيرها فلها المالية و لايجوز كسرها بل يجوز بيعها و إن كان الأحوط هو الاجتناب و بقية الكلام فى المجلّد الأول من البحوث الهامّة ص 240 فراجع.
**********
(1) عوالي اللئالى، ج 2، ص 110، ح 310.
ص: 105
ص: 106
و هى السعى بين الشخصين لجمعهما على الوطي المحرّم و هى بإطلاقها يشمل الجمع بين الرجال و النساء و بين الرجال و الرجال ولوصبيانا للواط و بين النساء والنساء للسحق. و أمّا حكمها فلا إشكال فى حرمتها بل الحرمة من الضروريّات، و يدلّ عليها مضافا إلى جريان ما سمعت من حرمة التسبيب نحو المحرّمات فى المقام بالأشدّية، و مضافا إلى شمول قوله تعالى لها: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ ) (1) الدالّ على كون إشاعة الفحشاء من الكبائر للوعيد بالعذاب عليها، أللّهمّ إلّا أن يقال إنّ مورد الحرمة فى الآية الكريمة حسب شياع الفاحشة بين المؤمنين و مورد الكلام أعمّ من ذلك، فيشمل العبارة بين الكفّار و المخالفين(2) عدّة من الأخبار، منها معتبرة إبراهيم بن زياد الكرخى المرويّة فى معانى الأخبار عن الحسين بن إبراهيم المكتب عن على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن إبراهيم بن زياد الكرخى قال: سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول: لعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم
**********
(1) النور، 19.
(2) تعليقة الميرزا الشيرازى، ص 124.
ص: 107
الواصلة و المستوصلة، يعنى الزانية و القوّادة.(1) و قد أكثر الصدوق الرواية عن الحسين بن إبراهيم المكتب مترضّيا و هو يوجب الوثوق به كما أنّ رواية ابن أبى عمير فى هذه الرواية وصفوان فى غيرها عن إبراهيم بن زياد الكرخى يوجب الوثوق به و عليه فالرواية معتبرة، و لكن يمكن دعوى معارضتها مع معانى الأخبار بسنده عن على بن غراب عن جعفر بن محمد عن آبائه عليه السلام، قال: لعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم النامصة و المتنمّصة و الواشرة و الموتشره و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة. قال الصدوق: قال على بن غراب:... و الواصلة التى تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها و المستوصلة التى يفعل ذلك بها، الحديث(2)؛ أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الرواية ضعيفة فلاتصلح للمعارضة، هذا مضافا إلى أنّه كلام على بن غراب و لم يحرز أنّه كلام الإمام عليه السلام، ثم إنّ موضوع الرواية هو القيادة فى الزنا كما هو الظاهر. نعم تشمل القيادة للجمع بين النساء و النساء أيضا.
ومنها: مارواه فى الوسائل عن عقاب الأعمال بإسناد تقدّم فى عيادة المريض عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث قال: و من قاد بين امرأة و رجل حراما حرّم اللّه عليه الجنة و مأواه جهنّم و ساءت مصيرا و لم يزل فى سخط اللّه حتى يموت.(3) قوله صلى الله عليه وآله و سلم: «و من قاد» يشمل الرجل الذى جمع بينهما و المرأة كليهما و لكنّ الرواية ضعيفة من جهة اشتمالها على بعض الضعفاء.
ومنها: مارواه فى عيون الأخبار عن على بن عبداللّه الورّاق عن محمد بن أبى عبداللّه عن سهل بن زياد عن عبدالعظيم بن عبداللّه الحسنى عن محمد بن على الرضا
**********
(1) الوسائل، الباب 27 من أبواب النكاح المحرّم، ج 20، ص 351، ح 1.
(2) الوسائل، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 133، ح 7.
(3) الوسائل، الباب 27 من أبواب النكاح المحرّم، ج 20، ص 351، ح 2.
ص: 108
عن آبائه عن علىّ عليه السلام، قال: دخلت أنا و فاطمة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فوجدته يبكى بكاءاً شديدا، فقلت له: فداك أبى و اُمّى يا رسول اللّه! ما الذى أبكاك ؟ فقال: يا على! ليلة اُسرى بى إلى السماء رأيت نساء من اُمّتى فى عذاب شديد فأنكرت شأنهنّ فبكيت لما رأيت من شدّة عذابهنّ ثم ذكر حالهنّ ، إلى أن قال: فقالت فاطمة: حبيبى و قرّة عيني! أخبرنى ما كان عملهنّ؟ فقال: أمّا المعلَّقة بشعرها فإنّها كانت لاتغطّى شعرها من الرجال، و أمّا المعلَّقة بلسانها فإنّها كانت تؤذى زوجها، و أمّا المعلّقة بثديبها فإنّها كانت ترضع أولاد غير زوجها بغير إذنه، و أمّا المعلَّقة برجليها فإنّها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها، و أمّا التى كانت تأكل لحم جسدها فإنّها كانت تزيّن بدنها للناس، إلى أن قال: و أمّا التى كانت تحرق وجهها و بدنها و هى تجرّ أمعاؤها فإنّها كانت قوّادة.(1) و السند معتبر لأنّ على بن عبداللّه الورّاق يروى عنه الصدوق مترجما كما فى تعليقة الوحيد البهبهانى؛ و لأنّ محمد بن أبى عبداللّه هو محمد بن جعفر الأسدى و هو على ما حكى عن التعليقة محمد بن جعفر بن محمد بن عون، «قال فى منتهى المقال: محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدى أبوالحسين الكوفى ساكن الرى يقال له محمد بن أبى عبداللّه كان ثقة صحيح الحديث إلّا أنّه روى عن الضعفاء، و عليه فالرواية معتبرة؛ و لايضرّ بذلك اشتمال الرواية على سهل بن زياد لأنّه ثقة عندى على الأقوى، لأنّه من مشايخ الكلينى و مشايخ الإجازة و نقله عن بعض الضعفاء لايكون شاهدا على عدم صلاحيته للاعتماد، كما أنّ نسبة الغلوّ إليه لايوجب عدم كونه موردا للاعتماد، و عليه فاستثناء ابن الوليد إيّاه معلّلاً بأنّه يروى
**********
(1) الوسائل، الباب 117 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، ج 20، ص 213، ح 7.
ص: 109
عن الضعفاء أو كان غاليا لايوجب ضعفه. ثمّ إنّ الرواية تدلّ على كون القيادة من الكبائر للوعيد بالعذاب كما لايخفى.
ومنها: مقطوعة عمّار الساباطي، قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم لعن الواصلة و الموصولة، قال: فقال: نعم، قلت: التى تمتشط و تجعل فى الشعر القرامل ؟ قال: فقال لى: ليس بهذا بأس. قلت: فما الواصلة و الموصولة ؟ قال: الفاجرة و القوّادة،(1) والرواية ضعيفة.
ومنها: رواية سعد الإسكاف المرويّة فى التهذيب بإسناده عن محمد بن الحسين عن عبدالرحمن بن أبى هاشم عن سالم بن مكرم عن سعد الإسكاف عن أبى جعفر عليه السلام، قال: سئل عن القرامل التى تصنعها النساء فى رؤوسهنّ يصلنه بشعورهنّ ، فقال: لابأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها، قال: فقلت: بلغنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم لعن الواصلة و الموصولة، فقال: ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم الواصلة و الموصولة، التى تزنى فى شبابها فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة.(2) قال فى منتهى المقال: و فى محكىّ التعليقة و الوجيزة و البلغة أنّ محمد بن أبى هاشم كثيرا ماينسب إلى جدّه، انتهى. وعليه فهو عبدالرحمن بن محمد بن أبى هاشم و هو ثقة ثقه و جليل من أصحابنا كما حكى عن الخلاصة و النجاشي. ثمّ إنّ سالم بن مكرم ثقة، و أمّا سعد الإسكاف فله كتاب كما فى الفهرست أخبرنا به جماعة و فى ين ابن طريف الحنظلى الإسكاف مولى بنى حميم الكوفى. و يقال سعد الخفاف روى عن الأصبغ بن نباتة و هو صحيح الحديث. و قال حمدويه: وكان ناووسيا وقف
**********
(1) الوسائل، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه. ج 20، ص 188، ح 4.
(2) الوسائل، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، ج 20، ص 188-187، ح 2.
ص: 110
على أبى عبداللّه عليه السلام. وقال غض: إنّه ضعيف، و قال النجاشى: يعرف و ينكر، انتهى. و لايبعد عدّها موثّقة لاحتمال أنّ منشأ تضعيف الغضائرى هو كونه من الناووسية.
ومنها: مارواه فى المستدرك عن جعفر بن أحمد القمى فى كتاب المانعات عن عطية عن أبى سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: لا يدخل الجنّة عاقٌّ و لامنّان و لاديّوث و لا كاهن، الحديث.(1) الديّوث القوّاد على أهله و الذى لايغارّ على أهله سريانية معرّبة و هو أخصّ من المدّعى.
ومنها: رواية عبداللّه بن سنان المرويّة فى الكافى عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن سليمان عن عبداللّه بن سنان، قال: قلت لأبى عبداللّه عليه السلام: أخبرنى عن القوّاد ماحدّه ؟ قال: لاحدّ على القوّاد أليس إنّما يعطى الأجر على أن يقود، قلت: جعلت فداك، إنّما يجمع بين الذكر و الأنثى حراما. قال: ذاك المؤلّف بين الذكر و الأنثى حراما، فقلت: هو ذاك، قال: يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزانى خمسة وسبعين سوطا و ينفى من المصر الذى هو فيه.(2) والسند ضعيف لاحتمال أن يكون الراوى عن عبداللّه بن سنان هو محمد بن سليمان الديلمى و هو ضعيف. و كيف كان، فتحصل أنّ القيادة من الكبائر و لاريب فى حرمتها و الروايات المتقدّمة غالبا و إن اختصّت بالجمع بين الرجل و المرأة و لكن لاخصوصية له، بل يتعدّى إلى مطلق الجمع بين الشخصين على الوطى المحرّم، و لعلّه لذلك قال الشيخ الأعظم قدس سره: القيادة حرام و هى السعى بين الشخصين لجمعهما على الوطى المحرّم و هى من الكبائر؛(3) هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ مقتضى حرمة التسبيب عدم الفرق بين موارد القيادة كما لافرق فى
**********
(1) المستدرك، الباب 23 من أبواب مايكتسب به، ج 13، ص 112-111، ح 7.
(2) الوسائل، الباب 5 من أبواب حد السُّحق و القيادة، ج 28، ص 171، ح 1.
(3) المكاسب المحرّمة، ص 49.
ص: 111
حرمة القيادة و الوساطة بين أن تكون بالمباشرة و بين أن تكون بأنواع الاتّصالات كالهاتف و غيره من المستحدثات.
ثمّ بعد ما عرفت من حرمتها تكليفا لاخفاء فى حرمتها وضعا، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه و يكون ثمنه أكلا للمال بالباطل و لاتفاوت فى ذلك بين أنواع المعاملات، سواء كانت هى الإجارة أو المصالحة أو الجعالة و نحوها، إذ كلّها باطلة لأنّ العمل و هو القيادة محرّم و لا ماليّة له تعبّدا، بل القوّاد مستحقّ للتعزير بما يراه الحاكم مصلحة لنظام البلاد و مناسبا لتأديبه. و أمّا ثبوت الحدّ الشرعى كما دلّت عليه رواية عبداللّه بن سنان فمحلّ إشكال لضعف الخبر، و بقيّة الكلام فى باب الحدود.
ص: 112
يقع الكلام فى جهات:
الجهة الأولى: فى تعريف القيافة: قال فى مصباح اللغة: قاف الرجل الأثر قوفا من باب قال تبعه و اقتافه كذلك فهو قائف و الجمع قافة مثل كافر و كفرة و مقتف. و قال فى تاج العروس: و القائف من يعرف الآثار الجمع قافة و قاف أثره يقوفه قوفا و قيافة تبعه كقفاه قفواً، كما فى الصحاح، إلى أن قال: و قال ابن الأثير: القائف الذى يتتبّع الآثار و يعرفها و يعرف شبه الرجل بأخيه و أبيه.
و قال الشيخ الأعظم قدس سره: والقائف كما عن الصحاح والقاموس و المصباح، هو الذى يعرف الآثار. وعن النهاية و مجمع البحرين زيادة انه يعرف شبه الرجل بأخيه و أبيه.
الجهة الثانية: أنّ القيافة حرام فى الجملة. قال الشيخ الأعظم نسبة فى الحدائق إلى الأصحاب و فى الكفاية: لا أعرف خلافا، و عن المنتهى الإجماع، إلى أن قال: و قيّد فى الدروس و جامع المقاصد كما فى التنقيح حرمتها بما إذا ترتّب عليها محرّم، و الظاهر أنّه مراد الكلّ ، و إلّا فمجرّد حصول الاعتقاد العلمى أو الظنّي بنسب شخص لادليل على تحريمه.
ص: 113
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و الظاهر أنّه لاشبهة فى جواز تحصيل العلم أو الظنّ بأنساب الأشخاص بعلم القيافة و بقول القافة و لم يرد فى الشريعة المقدّسة ما يدلّ على حرمة ذلك، و ما ورد فى حرمة إتيان العرّاف و القائف لامساس له بهذه الصورة، و إنّما المراد منه حرمة العمل بقول القافة و ترتيب الأثر عليه كما سيأتى و مع الشكّ فى الحرمة و الجواز فى هذه الصورة يرجع إلى الأصول العمليّة.
قال الميرزا الشيرازى قدس سره: وحينئذ يكفى فى حرمة القيافة مادلّ على حرمة الأثر المترتّب عليها، إذ الظاهر أن ليس مرادهم ثبوت حرمة أخرى على نفس القيافة حتى يحتاج إلى دليل آخر غير دليل حرمة نفس ترتيب الأثر و إن كان هو الظاهر ابتداء من قولهم بحرمة القيافة. ويمكن الاستدلال على حرمتها بنفسها بما تقدّم من نسبتها إلى الأصحاب فى الحدائق و عدم معرفة الخلاف فى الكفاية و إجماع المنتهى، حيث أنّ ظاهرها حرمة نفس القيافة لا باعتبار ما يترتّب عليها، لكن يشكل بما تقدّم من تفسير البعض لها بالإلحاق الظاهر فى ترتيب الأثر، فلعلّه هو المراد من القيافة فى العبائر الثلث المتقدّمة؛ نعم قد يحرم التعرّف و التبيّن و النظر فى علامات لحوق شخص بآخر من حيث كونه تجسّسا عن المعصية، لكنّ ذلك إنّما يتحقّق فى معلوم القرائن و لايطرد بالنسبة إلى مجهولها.(1)
فالحاصل أنّ المحرّم هو ترتيب الأثر لاتحصيل العلم أو الظن بالأنساب بعلم القيافة ولكن ذهب فى بلغة الطالب إلى أنّ الإخبار العلمى من القائف حرام لدخوله فى السحر و الكهانة مع أنّ الخبر الآتى يدلّ على حرمة مجرّد إخباره، هذا بالنسبة إلى القائل يعنى القائف. و أمّا غيره فلاإشكال فى حرمة أخذ الخبر منه و الذهاب إليه لأخذ
**********
(1) تعليقة الميرزا الشيرازى، ص 124.
ص: 114
اعتقاداته لقوله: من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله و سلم. وفى جعل الخبر بالشىء الغائب بين الثلاثة دلالة على حرمة إخباره بالنسبة إلى نفسه أيضا.(1)
وفيه: أنّ دخول إخبار القائف و لو بالعلمى فى السحر و الكهانة غير محرز و لادليل على حرمته و لو لم يرتّب عليه الأثر. و لعلّ قوله «يصدّقه» يكفى فى اختصاص حرمته بالتصديق العملى؛ و أمّا تخصيص حرمة أخذ الخبر و الذهاب إلى القائف بما إذا أراد أخذ اعتقاداته من القائف فلاوجه له بعد إطلاق المنع من هذه الجهة، فتدبّر.
منها ما رواه فى الخصال: حدّثنا أبى رضى الله عنه عنه، قال: حدّثنا سعد بن عبداللّه عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبى عمير عن على بن أبى حمزة عن أبى بصير عن أبى عبداللّه عليه السلام، قال: من تكهّن او تُكهِنّ له فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وآله و سلم، قلت: فالقافة ؟ قال: ما اُحبّ أن تأتيهم و قلّ ما يقولون شيئاً إلّا كان قريبا مما يقولون، وقال: القيافة فضلة من النبوّة ذهبت فى الناس.(2) الفضلة البقيّة. وفى ذيل الرواية: وفى بعض النسخ «و قيل ما تقولون» فيحتمل أن يكون لفظ «قيل» من كلام الإمام عليه السلام أو كلام الصدوق، و المعنى: أنتم تقولون أيضا قريبا مما يقولون، مثل أن تقولوا فلان يشبه أباه كما يقولون هذا أيضا،(3) ظاهره هو النهى عن الإتيان إلى القائف و الأخذ بقوله و ترتيب الأثر على قوله فلا دلالة له على حرمة تعلّم ذلك، لالترتّب الأثر، هذا مضافا إلى أنّ
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 142-141.
(2) الخصال، الباب الواحد، ص 20-19، ح 68.
(3) الخصال، ص 20.
ص: 115
عدم الحبّ لايدلّ على الحرمة، و أيضا الخبر ضعيف لاشتماله على علىّ بن أبى حمزة البطائينى، أللّهمّ إلّا أن يقال إنّ نقل ابن أبى عمير يصلح لأن يكون شاهدا على أنّ النقل منه فى حال استقامته.
ومنها: صحيحة محمد بن قيس عن أبى جعفر عليه السلام، قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لانأخذ بقول عرّاف و لاقائف و لا لصّ و لا أقبل شهادة فاسق إلّا على نفسه.(1) و قد عرفت معنى الأخذ و هو الأخذ لترتيب الأثر و النهى عنه يدلّ على عدم جواز اتّخاذه طريقا لإثبات النسب.
ومنها: خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي (صلوات اللّه عليهم و سلامه) فى حديث المناهى، قال: ونهى عن إتيان العرّاف و قال: من أتاه و صدّقه فقد برىء مما أنزل اللّه على محمد صلى الله عليه وآله و سلم.(2) و قد تقدّم المراد من الإتيان، و لعلّ المراد من التصديق المعطوف على الإتيان هو التصديق العملى، و لعلّ النظر فى هذه الروايات إلى القائفين الذين يحكمون بالقرائن الظنّية؛ و من المعلوم أنّ اتباع الظنون منهى عنه بنصّ القرآن و لايصلح الظنّ المطلق لنفى النسب أو إلحاقه به و إلّا أوجب ذلك هدم النسب و أحكام الارث على التولّد الشرعى كما ورد الولد للفراش وللعاهر الحجر، فاللّازم هو الأخذ بالتولّد الشرعى و لايعتنى بالظنّ المطلق و إذا لم تقم أمارة شرعية على التولّد الشرعى فمقتضى الاستصحاب هو نفيه و لايرفع إليه عنه ما لم ترد أمارة معتبرة و ليست القيافة منها.
وفى قبالها ما رواه فى التهذيب عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابه (أصحابنا) عن داود بن فرقد عن أبى عبداللّه عليه السلام،
**********
(1) الوسائل، الباب 14 من أبواب آداب السفر، ج 11، ص 371-370، ح 2.
(2) الوسائل، الباب 14 من أبواب آداب السفر، ج 11، ص 371، ح 3.
ص: 116
قال: أتى رجل رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فقال، يا رسول اللّه! إنّى خرجت و امرأتى حائض فرجعت و هى حبلى، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: من تتّهم ؟ قال: أتّهِم رجلين، قال: إيت بهما فجاء بهما، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم: إن يك ابن هذا فيخرج قططا كذا و كذا؛ فخرج كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم، فجعل معقلته على قوم أمّه و ميراثه لهم و لو أنّ إنسانا قال له يا ابن الزانية يجلّد الحدّ (لجلّد).(1) القطط شعر الزنجى الشديد الجعودة.
ويمكن أن يقال: أوّلاً إنّه ضعيف من جهة جهولية بعض أصحابه أو أصحابنا، وثانياً إنّه محمول على كون الشواهد موجبة للقطع أو الاطمينان، و ثالثاً إنّه معارض بما دلّ على ثبوت النسب بالأمارات الشرعية و لزوم حمل المشابهة على المشابهة بأحد من الأجداد، مثل ما رواه فى الجعفريّات بإسناده عن على عليه السلام قال: أقبل رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم، فقال: يا رسول اللّه! هذه بنت عمّى و أنا فلان بن فلان حتى عدّ عشرة آباء و هى فلانة بنت فلان حتّى عدّ عشرة آباء ليس فى حسبي و لاحسبها حبشي و إنها وضعت هذا الحبشي، فأطرق رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم طويلا ثمّ رفع رأسه فقال: إنّ لك تسعة و تسعين عرقا و لها تسعة و تسعين عرقا فإذا اشتملت اضطربت العروق و سئل اللّه عزّوجلّ كلّ عرق منها أن يذهب الشبه إليه، قم فإنّه ولدك و لم يأتك إلّا من عرق منك أو عرق منها، قال: فقام الرجل و أخذ بيد امرأته و ازداد بها و بولدها عجبا.(2) وعليه فلا تصلح هذه الرواية للمعارضة مع ما ورد من النهى عن الرجوع إلى القافة.
وفى قبالها أيضا ما رواه فى الكافى عن على بن إبراهيم عن أبيه و على بن محمد
**********
(1) جامع الأحاديث، ج 21، الباب 16 من أبواب أحكام الأولاد، ج 26، ص 423، ح 2.
(2) جامع الأحاديث، ج 21، الباب 19 من أبواب أحكام الأولاد، ج 26، ص 426، ح 2.
ص: 117
القاسانى جميعا عن زكريّا بن يحيى بن النعمان المصرى،(1) قال: سمعت على بن جعفر يحدّث الحسن بن الحسين بن على بن الحسين عليهما السلام، فقال: و اللّه لقد نصراللّه أباالحسن الرضا عليه السلام، فقال له الحسن: إى واللّه جعلت فداك لقد بغى عليه إخوته، فقال علىّ بن جعفر: إى و الله و نحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإنّى لم أحضركم ؟ قال: قال له إخوته و نحن أيضا: ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون، فقال لهم الرضا عليه السلام: هو إبني، قالوا: فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قد قضى بالقافة فبيننا و بينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليهم فأمّا أنا فلا، و لاتعلّموهم لما دعوتموهم و لتكونوا فى بيوتكم، فلمّا جاؤوا أقعدونا فى البستان و اصطفّ عمومته و إخوته و أخواته و أخذوا الرضا عليه السلام و ألبسوه جبّة صوف و قلنسوة منها و وضعوا على عنقه مسحاة و قالوا له: ادخل البستان كأنّك تعمل فيه، ثمّ جاؤوا بأبى جعفر عليه السلام فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له هيهنا أب ولكنّ هذا عمّ أبيه و هذا عمّ أبيه و هذا عمّه و هذه عمّته و إن يكن له هيهنا أب فهو صاحب البستان، فإنّ قدميه و قدميه واحدة، فلمّا رجع أبوالحسن عليه السلام قالوا: هذا أبوه، قال علىّ بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبى جعفر عليه السلام ثمّ قلت له: أشهد أنّك إمامى عنداللّه، فبكى الرضا عليه السلام ثم قال: ياعمّ ! ألم تسمع أبى و هو يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم بأبى ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيّبة الفم المنتجبة الرحم، ويلهم لعن اللّه الاُعيبس و ذرّيّته صاحب الفتنة و يقتلهم سنين و شهورا و أيّاما يسومهم خسفا و يسقيهم كأسا مصبّرة و هو الطريد الشريد الموتور بأبيه و جدّه صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك أىّ وادسلك ؟ أفيكون هذا ياعمّ إلّا منّي، فقلت: صدقت جعلت فداك.(2)
**********
(1) و فى نسخة الكافى الصيرفى ولكن فى النسخة المصحّحة المصرى.
(2) الكافى، ج 1، ص 322 باب الإشارة و النصّ على أبى جعفر الثانى عليه السلام، ح 14.
ص: 118
بيان قوله: «إى واللّه جعلت فداك» إى بكسر الهمزة من حروف التصديق و لايستعمل إلّا مع القسم. قوله «بغينا» أى ظلمنا، قوله: حائل اللون و المقصود كما أفاد الفاضل الشعرانى أنّ لونه ليس مثل لونك و لون آبائك الطاهرين، لأنّ لونه عليه السلام كان أسمر. قوله: «قالوا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم قد قضى بالقافة فبيننا و بينك القافة» إشارة إلى مارووا فى ذلك. قال الفاضل الشعرانى: روى مسلم بإسناده عن عائشة أنّها قالت: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم دخل علىّ مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تر أنّ مجزّزا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة و اُسامة بن زيد فقال: إنّ بعض هذه الأقدام عن بعض ؟ و عنها أيضا قالت: دخل علىّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم ذات يوم مسرورا فقال: يا عائشة! ألم تر أنّ مجزّزا المدلجى دخل علىّ فرأى اُسامة و زيدا و عليهما قطيفة قد غطّيا رؤوسهما و بدت أقدامهما فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض ؟ و عنها أيضا قالت: دخل قائف و رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم شاهد و اُسامة بن زيد و زيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض، فسرّ بذلك النبيّ صلى الله عليه وآله و سلم و أعجبه. قال عياض: المجزز بفتح الجيم و كسر الزاى الأول سمّى بذلك لأنّه إذا أخذ أسيرا جزّ ناصيته و قيل: حلق لحيته و كان من بني مدلج و كانت القافة فيهم و فى بنى أسد و هى جمع القائف الذى يعرف الآثار، إلى أن قال: و قال محيي الدين: قيل: إنّ اُسامة كان شديد السواد و كان أبوه زيد أبيض من القطن، فكانت الجاهليّة يطعن فى نسبه لذلك، فلمّا قال القائف ذلك و كانت العرب تصغى لقول القائف سرّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم لأنّه كاف لهم عن الطعن.
قوله: «قال ابعثوا أنتم إليه فأمّا أنا فلا» قال الفاضل الشعرانى: إنّما قال ذلك لعدم اعتقاده بقول القافة لابتناء قولهم على الظنّ و الاستنباط بالعلامات و المشابهات التى يتطرّق إليها الغلط ولكنّ الخصوم لمّا اعتقدوا به ألزمهم بما اعتقدوه، و قد أنكر التمسّك بقول القافة أبوحنيفة و أثبته الشافعى و المشهور عن المالك إثباته فى الإماء
ص: 119
دون الحرائر، و نقل عنه إثباته فى الحرائر أيضا، و احتجّ المثبت بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم من حديث زيد و اُسامة ابنه و بسروره و عدم إنكاره، واعترض عليه ابن الباقلانى بأنّه إنّما لم ينكره لأنّه وافق الحقّ الذى كان معلوماً له صلى الله عليه وآله و سلم و إنّما استسرّ لأنّ المنافقين كانوا يطعنون فى نسب اُسامة لسواده و بياض زيد و كان صلى الله عليه وآله و سلم يتأذّى عن قولهم، فلمّا قال القائف ذلك و هم كانوا يعتقدون حكمه استسرّ لإلزامهم أنّه إبنه و تبيّن كذبهم على ما يعتقدون من صحّة العمل بالقافة.
قوله: «فلمّا جاؤوا أقعدونا فى البستان» قال الفاضل الشعرانى: الظاهر أنّ هذا من كلام الرضا عليه السلام و أنّ «اقعدونا» على صيغة الأمر و أنّ الخطاب للعمومة و الإخوة و إنّما أمرهم به ليظهر للقافة أنّه عليه السلام من عبيدهم و خدمهم ليبعد احتمال إلحاق الولد به و يكمل الحجّة عليهم بعده.
قوله: «ابن خيرة الإماء» قال الفاضل الشعرانى: المراد به صاحب الزمان «عجلّ الله تعالى شريف» لا محمد بن علىّ الجواد لأنّ ضمير «هو» فى قوله: «و هو الطريد» راجع إلى الابن و هو بيان لحال الصاحب قطعا.
قوله: «لعن اللّه الأغيبس و ذرّيّته» قال الفاضل الشعرانى: و المراد به خليفة من خلفاء بنى عباس. قوله: «يقتلهم» قال الفاضل الشعرانى: ضمير المنصوب راجع إلى الأعيبس و ذرّيّته، و ضمير المرفوع المستكن راجع إلى اللّه تعالى لكونه معلوما أو إلى ابن خيرة الإماء لأنّ الصاحب عليه السلام يقتلهم بعد الرجعة جزاء بما كانوا يعملون.
وقوله: «ويسقيهم كأسامصبّرة» الكأس مؤنّثة و المصبّرة على وزن مكحّلة اسم آلة للصبر. و قوله: «وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه و جدّه» قال الفاضل الشعرانى: قال الجوهرى: الشريد الطريد و التكرير للتأكيد و الموتور من قتل حميمه و أفرد لأنّه قتل جدّه و أبوه عليهما السلام و قد بقى هو صغيرا طريدا شريدا موتورا سائرا فى الأرض خائفا
ص: 120
فزعا من الأعداء.(1) و كيف كان، فقد استدلّ بهذه الرواية على جواز الاعتماد على قول القائف لأنّهم نسبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قد قضى بالقافة و لم يردع عنه الإمام عليه السلام بل أجابهم بحكم القائف.
قال فى الجواهر: وسوس فى الحدائق فى أصل الحرمة لخبر زكريّا بن يحيى بن التيهان المصرى أو الصيرفى، إلى أن قال: باعتبار إجابة أبى الحسن عليه السلام إلى حكم القيافة و إقرارهم على ما حكوه من قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم بها، انتهى.(2)
وفيه: أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة باشتمالها على زكريا بن يحيى بن النعمان فإنّه مجهول.
وثانياً: أنّ المستفاد منه هو إنكار مانسبوه إلى النبى صلى الله عليه وآله و سلم كما صرّح به الشيخ قدس سره حيث قال: و قد افترى بعض العامّة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم فى أنّه قضى بقول القافة و قد أنكر ذلك عليهم فى الأخبار كما يشهد به ما عن زكريّا بن يحيى بن النعمان المصرى الخبر.
أورد عليه السيّد المحقّق الخوئى قدس سره بأنّا لم نجد فى الرواية ما يستشهد به لذلك، بل الظاهر منها أن الشيعة أيضا كانوا يعتقدون بقضاء رسول ظاللّه بقول القافة و أنّ الرضا عليه السلام لم ينكر عليهم ذلك. نعم، يرد على الرواية وجوه: الأول: أنّها ضعيفة السند، الثانى: أنّها مخالفة لضرورة المذهب فإنّها اشتملت على عرض أخوات الإمام و عمّاته على القافة و هو حرام لايصدر من الإمام عليه السلام و توهّم أنّ ذلك من جهة الاضطرار وهو يبيح المحظورات توهّم فاسد، إذ لم تتوقّف معرفة بنوّة الجواد للرضا عليهما السلام على إحضار النساء. الثالث: أنّ الجماعة الذين بغوا على الرضا عليه السلام لينفوا بنوّة الجواد عليه السلام
**********
(1) شرح الكافى، ج 6، ص 197-194.
(2) الجواهر، ج 22، ص 93-92.
ص: 121
عنه لو كانوا معتقدين بإمامة الرضا عليه السلام لما احتاجوا إلى القافة بعد إخباره بالبنوّة.(1)
وفيه أنّ الاستظهار من الرواية أنّ الشيعة أيضا كانوا يعتقدون بقضاء رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم و أنّ الرضا عليه السلام لم ينكر عليهم ذلك محلّ تأمّل و نظر. قال فى الجواهر: و فيه مع قصور الخبر عن معارضة ما عرفت من وجوه معارض باحتمال كون قوله عليه السلام: «ابعثوا أنتم إليهم» إلى آخره لعدم المشروعية، لا لدفع التهمة، بل لعلّ ذلك منه لعلمه بصدق القيافة هنا و استظهار بما اقترحوه لإثبات الحجّة به عليهم و إلّا فلا يتخيّل من له أدنى درية بشريعة رسول اللّه صلى الله عليه وآله و سلم عدم جواز الأخذ بها و العمل عليها على وجه تترتّب عليه المواريث و الأنكحة و نحوها وجودا و عدماً، بل مشروعية اللعان أوضح شيء على عدم اعتبار القيافة، بل لايخلو الالتفات إليها و لو مع عدم ترتّب شىء عليها من الكراهة الخ.(2)
فاتّضح من ذلك عدم صلاحيّة هذه الرواية أيضا للمعارضة مع ما دلّ على عدم جواز الرجوع إلى القائف و الأخذ منه و ترتيب الأثر، فتحصل أنّ الرجوع إلى القافة و الأخذ بقوله و ترتيب الأثر محرّم.
الجهة الرابعة: أنّ المأخوذ فى قبال عمل القيافة يكون من السُّحت إذا رجع إليه للأخذ و ترتيب الأثر و إعطاء القائف ما يكون دخيلا فيه و عليه فلا يجوز التصرّف فى المأخوذ، بل هو أكل للمال بالباطل كما لايخفى.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 384.
(2) الجواهر، ج 22، ص 94-93.
ص: 122
يقع الكلام فى جهات:
الجهة الاُولى: أنّ الكتمان على أقسام: منها كتمان ما أنزل الله تعالى، و منها كتمان الشهادة، و منها كتمان عيوب المبيع و نحوه، و منها كتمان ما فى الأرحام، و منها كتمان الأموال و منها كتمان الإعسار و المرض و المصيبة، و منها كتمان السرّ، و منها كتمان الإيمان، و منها كتمان أسرار الأئمة عليهم السلام و منها غير ذلك.
ويختلف أحكام هذه الأقسام باختلاف موضوعاتها و مواردها؛ أمّا كتمان ما أنزل الله تعالى فهو محرّم بنصّ القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي اَلْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّٰعِنُونَ ) (1). و كتمانه إمّا بإخفاء أو بإظهار توجيهات توجب كتمانه، و ذلك واضح فى مثل التوراة و الإنجيل. و قال عزّوجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّٰارَ) (2) الآية.
**********
(1) البقرة، 159.
(2) البقرة، 174.
ص: 123
وأمّا كتمان الشهادة فهو أيضا محرّم بنصّ القرآن الكريم، قال الله عزّوجلّ : (وَ لاٰ تَكْتُمُوا اَلشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (1). و المراد من كتمان الشهادة هو الاجتناب عن ذكر ما كان يشهده، و ظاهر الآية هو حرمة الكتمان و كونه آثما و لعلّ قوله: (وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) تهديد بما يكون جزاء له. هذا هو حكمه التكليفى.
و أمّا حكمه الوضعى، فقد قال فى الجواهر: الظاهر عدم الضمان بكتمان الشهادة و إن أثم، للأصل و غيره، لكن فى القواعد فى التضمين بترك الشهادة مع ضعف المباشرة إشكال، كما لو علما ببيع المورّث عينا من زيد فباع الوارث من عمرو و لم يعلم بذلك البيع و تعذّر الرجوع على المشترى، و لعلّه من تسبيبه للتلف بكتمانها على وجه يقوى على المباشر الجاهل بالحال، ولكن الأقوى ما عرفت.(2)
و أمّا كتمان العيوب فهو من مصاديق التدليس و الغشّ و الخيانة، و هو يتحقّق بالسكوت عن العيب مع العلم به، فضلا عن الإخبار بضدّه من السلامة و بوصف الحرّيّة و نحوها و اشتراط البكارة. قال فى الجواهر: لا إشكال فى تحقّق حكم التدليس بالسكوت عن العيب من العالم به.(3) و كتمان العيوب فى الموارد المذكورة محرّم و موجب لخيار الفسخ، بل موجب لجواز أخذ الأرش فى بعض الموارد على ما فصّل فى محلّه.
و أمّا كتمان ما فى الأرحام فهو حرام؛ قال الله عزّوجلّ : (وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ ) (4) الآية فلايجوز لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت و هى حبلى و الزوج
**********
(1) البقرة، 283.
(2) الجواهر، ج 41، ص 253.
(3) الجواهر، ج 30، ص 363.
(4) البقرة، 228.
ص: 124
لايعلم بالحمل، فلا يحلّ لها أن تكتم حملها و هو أحقّ فى ذلك الحمل.
وأمّا كتمان الأموال، فقد يكون ذلك من جهة البخل فهو مذموم؛ قال الله تبارك و تعالى: (إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ مَنْ كٰانَ مُخْتٰالاً فَخُوراً * اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً) ،(1) و قد يكون لحفاظة فهو مستحبّ لما رواه محمد بن يعقوب عن على بن محمد عن صالح بن أبى حمّاد عن محمد بن سنان عن أبى جعفر الأحول قال: قال لى أبوعبدالله عليه السلام: أىُّ شىء معاشك ؟ قال: قلت: غلامان لى و جملان، قال: فقال: استتر بذلك من إخوانك، فإنّهم إن لم يضرّوك لم ينفعوك.(2)
و أمّا كتمان الإعسار و المرض و البليّة و المصيبة فهو مرغوب فيه. نعم، استحباب دعاء الإخوان لحلّ المشكلات مستحبّ . روى الكلينى فى الكافى عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن العباس بن عامر عن أبى عبدالرحمن المسعودى عن حفص بن عمر قال: شكوت إلى أبى عبدالله عليه السلام حالى و انتشار أمرى علىّ ، فقال لى: إذا قدمت الكوفة فبع وسادة من بيتك بعشرة دراهم و ادع إخوانك و أعدّ لهم طعاما و سلهم يدعون الله لك. قال: ففعلت و ما أمكننى ذلك حتّى بعت وسادة و أعددت طعاما كما أمرنى و سألتهم يدعون الله لى، قال: فوالله ما مكثت إلّا قليلا حتّى أتانى غريم لى فدّق الباب علىّ و صالحنى عن مال كثير كنت أحسبه نحواً من عشرة آلاف، ثمّ أقبلت الأشياء علىّ .(3)
و روى فيه أيضا عن عدّة من أصحابنا عن على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن بعض أصحابه قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: من مرض ثلاثة أيّام فكتمه و لم
**********
(1) النساء، 37-36.
(2) الوسائل، الباب 47 من أبواب آداب التجارة، ج 17، ص 457-456، ح 1.
(3) الوسائل، الباب 14 من أبواب مقدمات التجارة، ج 17، ص 52، ح 2.
ص: 125
يخبر به أحدا أبدل الله له لحماً خيرا من لحمه و دما خيرا من دمه و بشرة خيرا من بشرته و شعرا خيرا من شعره، قال: قلت: جعلت فداك، و كيف يبدله ؟ قال: يبدله لحما و دما و شعرا و بشرا لم يذنب فيها.(1)
و روى فى المحاسن عن محمد بن على عن عبدالرحمن بن محمد الأسدى عن حرث الغزال عن صدقة القتّات عن الحسن البصرى عن أبى جعفر عليه السلام قال: ألا أخبركم بخمس خصال هى من البرّ و البرّ يدعوا إلى الجنّة ؟ قلت: بلى، قال: إخفاء المصيبة و كتمانها، الحديث.(2)
و أمّا كتمان السرّ فهو مندوب لما رواه فى الكافى بسند موثّق عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: من عرض نفسه للتُّهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ ، و من كتم سرّه كانت الخيرة فى يده.(3)
و أمّا كتمان سرّ الأئمّة عليهم السلام، و حرمة إذاعته فهو مأمور به، لما عن بصائر الدرجات عن المعلّى بن خنيس قال: قال لى أبوعبدالله عليه السلام: يا معلّى! اكتم أمرنا و لاتذعه فإنّه من كتم أمرنا و لا يعذيعه أعزّه الله فى الدنيا و جعله نورا بين عينيه يقوده إلى الجنّة، يا معلّى! إنّ التقيّة دينى و دين آبائى و لا دين لمن لا تقيّة له، يا معلّى! إنّ الله يحبّ أن يعبد فى السرّ كما يحبّ أن يعبد فى العلانية و المذيع لأمرنا كالمجاحد له.(4)
و أمّا كتمان الإيمان فقد يكون مستحسنا بل قد يكون لازما؛ قال الله عزّوجلّ : (وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ )
**********
(1) الوسائل، الباب 3 من أبواب الاحتضار، ج 2، ص 406، ح 3.
(2) الوسائل، الباب 3 من أبواب الاحتضار، ج 2، ص 408، ح 10.
(3) الوسائل، الباب 19 من أبواب أحكام العشرة، ج 2، ص 36، ح 1.
(4) الوسائل، الباب 24 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 211-210، ح 24.
ص: 126
(كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ ) .(1)
وفى صحيحة هشام بن سالم عن أبى عبدالله عليه السلام قال: إنّ مثل أبى طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين.(2) و فى قرب الإسناد عن أحمد بن إسحاق عن بكر بن محمد عن أبى عبدالله عليه السلام: أنّ التقيّة ترس المؤمن، و لا إيمان لمن لاتقيّة له، فقلت له: جعلت فداك، قول الله تبارك و تعالى: (إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ ) (3)، قال: و هل التقيّة إلّا هذا؟(4) و غير ذلك من موارد الكتمان.
الجهة الثانية: أنّه إذا عرفت حرمة كتمان ما أنزل الله تعالى و كتمان الشهادة و كتمان العيوب و كتمان ما فى الأرحام، فاعلم أنّه لا يجوز أخذ شيىء فى قبال الكتمان فى هذه الموارد، لأنّ ثمن الحرام سحت فكلّ ما أخذ شيئا فى قبال كتمان ما أنزل الله من الكتب السماوية حرام محرّم؛ قال الله عزّوجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّٰارَ وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ اَللّٰهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ) .(5)
و قد أشار بقوله سبحانه و تعالى: (أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّٰارَ) (6) إلى حرمة الثمن، و عليه فمن صار أجيرا لإخفاء ما أنزل الله أو لكتمان الشهادة أو لكتمان العيوب و نحوها لايملك ما أخذه فى قبال عمله من الإخفاء و الكتمان.
**********
(1) الغافر، 28.
(2) الوسائل، الباب 29 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 225، ح 1.
(3) النحل، 106.
(4) الوسائل، الباب 29 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 227، ح 6.
(5) البقرة، 174.
(6) البقرة، 174.
ص: 127
الجهة الثالثة: أنّ الإظهار فى مثل كتمان أسرار الأئمة عليهم السلام محرّم و الكتمان واجب، بل لايجوز إظهار سرّ كلّ مؤمن، كما صرّح بذلك فى صحيحة عبدالله بن سنان قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال: نعم، قلت: يعنى سفليه ؟ قال: ليس حيث تذهب، إنّما هى إذاعة سرّه.(1)
الجهة الرابعة: أنّ المعصية فى كتمان ما أنزل الله كبيرة لما عرفت من قوله (وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ) فى الآية الكريمة: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّٰارَ وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ اَللّٰهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ) .(2)
وهكذا فى كتمان الشهادة لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَكْتُمُوا اَلشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (3) بناء على أن قوله: (وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) توعيد بالجزاء الأخروى.
هذا مضافا إلى صحيحة جابر بن يزيد الجعفى عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر به دم امرئ مسلم أو ليزوى بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة و لوجهه ظلمة مدّ البصر و فى وجهه كُدُوح تعرفه الخلائق باسمه و نسبه، و من شهد شهادة حقٍّ ليحيى بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة و لوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه و نسبه، ثمّ قال أبوجعفر عليه السلام: ألا ترى أنّ الله عزّوجلّ يقول: (وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ) .(4)
ومعتبرة عبدالله بن سنان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: لاينقضى كلام شاهد الزور من
**********
(1) الكافى، ج 2، ص 358، ح 2.
(2) البقرة، 174.
(3) البقرة، 283.
(4) الوسائل، الباب 2 من أبواب الشهادات، ج 27، ص 312، ح 2.
ص: 128
بين يدى الحاكم حتى يتبوّء مقعده فى النار، و كذلك من كتم الشهادة(1) إذ المستفاد منها هو توعيد العذاب تنظيره الكتمان بشهادة الزور و قد دلّت المعتبرة على أنّ شاهد الزور يوجب أن يتبوّء مقعده فى النار.
الجهة الخامسة: أنّ حفظ أسرار الحكومة الاسلامية واجب و إظهارها للمخالفين و المعاندين و المنافقين و الكافرين محرّم بالأولوية، إذ من المعلوم أنّ إظهار سرّ بعض الآحاد إذا كان محرّما بنصّ صحيحة عبدالله بن سنان كان إظهار سرّ الحكومة الإسلامية محرّما بالأولوية، لكون ذلك موجبا للمفاسد العظيمة و تقوية للكفّار و المخالفين و كل ما أخذ فى قبال الإظهار المذكور بأىّ عنوان كان حرام محرّم و موجب للخذلان و العقاب.
**********
(1) الوسائل، الباب 9 من أبواب الشهادات، ج 27، ص 325، ح 4.
ص: 129
ص: 130
الأمر الأول: فى تعريف الكذب، و لايخفى عليك أنّ الكذب فى القضايا الخبريّة نقيض الصدق و هو واضح واحتمال الصدق و الكذب يجتمعان فى القضايا الخبريّة بمجرّد النظر إلى مفهومها، و أمّا إذا لوحظ محكيها فهى إمّا صدق أو كذب والصدق باعتبار تطابق الحاكى و هو ظاهر المفهوم مع المحكى و الكذب باعتبار عدم تطابقهما، ثمّ المحكى إمّا هو الخارج أو الذهن أو نفس الأمر و عالم الاعتبار، و هذا هو حاصل ما ذهب إليه المشهور.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: المعروف بين أهل اللغة و غيرهم أنّ الكذب نقيض الصدق، فصدق الكلام بالمطابقة و كذبه بعدم المطابقة، و إنّما الكلام فى بيان معنى المطابق (بالكسر) و إنّه عبارة عمّا يظهر من كلام المتكلّم أو عبارة عن مراده منه، و (فى) بيان المطابق (بالفتح) و إنّه عبارة عن الواقع و النسبة الخارجية أو عن اعتقاد المخبر أو عن كليهما.
ص: 131
ذهب المشهور إلى أنّ صدق الخبر مطابقته بظهوره للواقع و كذبه عدم مطابقته للواقع بدعوى أنّ هيئة الجملة الخبرية إنما وضعت لتحقّق النسبة فى الخارج، سواء كانت النسبة ثبوتيّة أو سلبيّة، كما أنّ ألفاظ أجزائها موضوعة للمعان التصوّرية من الموضوع و المحمول و متعلّقاتها، فمطابقة الخبر لتلك النسبة الخارجية الواقعية صدق و عدمها كذب. فإذا قيل: زيد قائم، فإنّ هذا القول يدلّ على تحقّق النسبة الخبرية فى الخارج، أعنى أتّصاف زيد بالقيام، فإن طابقها كان صادقا و إن خالفها كان كاذبا.
ثمّ أورد عليه السيّد المحقّق الخوئى قدس سره أوّلا: بأنّه قد لا تكون للنسبة خارجية أصلاً كقولنا: شريك البارى ممتنع، و اجتماع النقيضين محال، و الدور أو التسلسل باطل، و ما سوى الله ممكن، إذ لا وجود للامتناع و الإمكان و البطلان فى الخارج، إلّا أن يقال: إنّ المراد بالخارج ما هو أعمّ منه و من نفس الأمر.
إلى أن قال. وثانياً: بأنّ الالتزام المذكور لايتّفق مع تعريف القضية بأنّها تحتمل الصدق و الكذب.
وثالثاً: بأنّه لو كانت الجمل الخبرية بهيئاتها موضوعة للنسبة الخارجية لكانت دلالتها عليها قطعية، كما أنّ دلالة الألفاظ المفردة على معانيها التصوّرية قطعية، فإنّ الشكّ لايتطرّق إلى الدلالة بعد العلم بالموضوع له و إرادة اللّافظ، مع أنّه لا يحصل للمخاطب بعد سماع الجمل الخبرية غير احتمال وقوع النسبة فى الخارج، و قد كان هذا الاحتمال حاصلا قبل سماعها، انتهى.(1)
و الإنصاف أنّ الإشكالات المذكورة ليست واردة على المشهور، أمّا الأوّل: فلما أفاده بنفسه من احتمال أن يكون المراد من الخارج ما هو أعم منه و من نفس الأمر.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 396-395.
ص: 132
و أمّا الثانى: فلأنّ المتكلّم فى غير الكلام الإنشائى يريد أوّلا إثبات المحمول لموضوعه و هو قطعىّ الدلالة لوضع الهيئة لذلك كوضع المفردات لمعانيها، و لاينافى قطعيّة ثبوت المحمول لموضوعه ما يقال مع تعريف القضية بأنّها تحتمل الصدق و الكذب، لأنّ التعريف المذكور بملاحظة حكاية مفهوم القضية عن الخارج و هو الأمر الثانى الذى يريده المتكلّم لا باعتبار ثبوته لموضوعه فى الكلام حتّى يتحقّق المنافاة.
و أما الثالث: فلما عرفت من أنّ قطعيّة الدلالة باعتبار إثبات المحمول لموضوعه فى الكلام، و لاينافى ذلك كون وقوع النسبة فى الخارج احتماليا بملاحظة مطابقة الحاكى مع المحكى فى الخارج و عدمها.
فتحصّل: أنّ المطابق بالكسر هو ما يظهر من الكلام، و المطابق بالفتح هو المحكى فى الخارج و احتمال الصدق و الكذب يجتمعان باعتبار مجرّد مفهوم القضية و حكايتها و يفترقان بملاحظة مطابقة الحكاية و الإخبار و عدمها، فإن طابق الحاكى مع المحكى فهو صدق، و إلّا فهو كذب قطعا.
ثمّ إنّ الحكاية و الإخبار من الأمور القصدية و من أركان الصدق و الكذب، إذ الجملة بدون قصد الحكاية ليست بخبر و إذا لم تكن خبرا لا تكون متّصفة بالصدق و الكذب كما لايخفى.
و أمّا ما عن النظام: من أنّ صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر و كذبه عدمها و إن كان الاعتقاد خطأ، و استدلّ له بآية المنافقين بدعوى أنّ الله سجّل عليهم بأنّهم لكاذبون فى قولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ ) (1) لعدم اعتقادهم بالرسالة المحمّدية و إن كان قولهم مطابقا للواقع.
**********
(1) منافقون، 1.
ص: 133
ففيه كما فى مصباح الفقاهة: أن المنافقين لكاذبون فى شهادتهم للرسالة لعدم كونها عن خلوص الاعتقاد؛ هذا مضافا إلى أنّه لو أخبر أحد عن قضية يعتقد بوقوعها فى الخارج و هى واقعة فيه، فإنّه على مسلك النظام خبر كاذب، مع أنّه صادق بالضرورة.(1)
و ممّا ذكر يظهر ما فى المحكى عن الجاحظ أيضاً: من أنّ صدق الخبر مطابقته للواقع و الاعتقاد معاً، و كذبه عدم مطابقته لهما معا، و غير ذلك لاصدق و لا كذب. و استدلّ على رأيه هذا بقوله تعالى: (أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (2) فإنّ الإخبار حال الجنّة غير الكذب، لأنّهم جعلوه قسيما للافتراء و غير الصدق لعدم مطابقته للواقع فى عقيدتهم.
و ذلك كما فى مصباح الفقاهة: انّا نرى بالعيان و نشاهد بالوجدان و بحكم الضرورة انحصار الخبر بالصدق و الكذب و عدم الواسطة بينهما، و أمّا الآية المذكورة فهى غريبة عن مقصود الجاحظ، لأنّ الظاهر منها أنّ المشركين نسبوا اخبار النبى إلى الافتراء الذى هو كذب خاص، أو إلى الإخبار حال الجنّة الذى لا أثر له عند العقلاء، انتهى.(3)
فتحصّل: أنّ اتّصاف الجملة بالصدق أو الكذب منوط بكونها خبرا، و من أركان الخبر قصد الحكاية، إذ مع عدم القصد لاتتّصف الجملة بأنّها خبر و مع عدم صدق الخبر لايتّصف بالصدق أو الكذب.
و إذا عرفت أنّ الكذب هو عدم مطابقة الخبر للواقع ظهر خروج التّورية عن حقيقة الكذب خروجا موضوعيا. وتوضيح ذلك: أنّ المتكلّم فى مواردها لايكون قاصداً
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 397-396.
(2) سباء، 8.
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 397.
ص: 134
لحكاية أمر على خلاف الواقع (حتّى يكون كذبا)، بل يكون قصده إلى ما هو حاصل فى الواقع، إلّا أنّ السامع لاينتقل إليه من كلامه، بل ينتقل إلى ما هو ظاهر الكلام و يتخيّل أنّه بصدد حكاية حصول ذلك الظاهر.
ثمّ إنّ القول بأنّ الكلام بنفسه مع قطع النظر عن صدوره من متكلّم مريد دالّ على المعنى فلو نقشت بواسطة الحوادث الكونيه كلمة «السماء فوقنا» و «السماء تحتنا»، فلا يمكن أن يقال: إنّا لانفهم منهما شيئا أصلا، أو هما لايحكيان عن مدلولهما، أو يقال: إنّ المدلول منهما شىء واحد، أو إنّ مدلولهما ليس موافقا و لا مخالفا للواقع، فعليه تكون الجملة الأولى صادقة و الثانية كاذبة.
و توهّم أنّ ما يحكيان عنه ليس بنحو الدلالة بل بنحو الخطور لأنس الذهن خلاف الوجدان، و هو أصدق شاهد على عدم الفرق فى الدلالة بين الكلام الصادر من متكلّم شاعر و بين الصادر من غيره، فبطل القول بأنّ الألفاظ موضوعة للمعانى المرادة، أو الوضع عبارة عن التعهّد بإرادة المعنى من اللفظ، أو أنّ الدلالة عبارة عن إبراز ما فى الضمير و ما فيه حاك عن الواقع.
مضافا إلى أنّ الكلام الصادر من المتكلّم لا يحكى إلّا عن الواقع و نفس الأمر مستقيما من غير دلالة عن المعانى الذهنية و صورها و هو وجدانى جدّاً(1)، محلّ تأمّل و نظر، لما عرفت من أنّ مع عدم القصد للحكاية لاتتّصف الجملة بأنّها خبر و مع عدم اتّصافها بالخبر لا مجال لاتّصافها بالصدق و الكذب لكونهما من أقسام الخبر.
ودعوى الوجدان على عدم الفرق فى الدلالة بين الكلام الصادر من متكلّم شاعر و بين الصادر من غيره، لا يستلزم على تقدير التسليم و عدم توقّف الدلالة على الإرادة
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 30.
ص: 135
الاستعمالية عدم الفرق فى اتّصاف الجملة بالصدق و الكذب بين كون الكلام صادرا من متكلّم شاعر قاصد للحكاية و بين الصادر من غيره من دون قصد الحكاية.
ثمّ البحث عن كون الألفاظ موضوعة للمعانى المرادة، أو الوضع عبارة عن التعهّد بإرادة المعنى من اللفظ، أو أنّ الدلالة عبارة عن إبراز ما فى الضمير، أو كانت موضوعة لنفس المعانى كما هو الصحيح أجنبى عن كون الصدق و الكذب وصفين للخبر، و الخبر لايتحقّق بدون قصد الحكاية.
ثمّ إنّ الحكاية عن الواقع و نفس الأمر مستقيما من غير دلالة على المعانى الذهنية و صورها ممنوعة، لأنّ الحكاية متقوّمة بالألفاظ الدالّة على معانيها و لايمكن حكاية الألفاظ بدون دلالتها على معانيها، أللّهمّ إلّا أن يكون مراده قدس سره من غير معانيها هى الإرادة و التعهّد المذكورتين.
ثمّ إنّه لاخصوصيّة للألفاظ فى صدق الكذب و الصدق، بل يقوم مقامها الإشارة و الكتابة. قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره الظاهر أنّ الكذب بالمعنى المصدرى عرفا عبارة عن الأخبار المخالف للواقع. و الأخبار لم ينحصر باللفظ و القول الخارج من الفم، بل يشمل الكتابة و الإشارة ونحوهما عرفا، كما يطلق على ما فى الصُّحُف و المجلّات و اليوميّات و فى مثل المجازات و المبالغات و الكنايات يكون المتكلّم مخبرا عن لازم كلامه لا عن مضمونه؛ فالقائل بأنّ زيدا كثير الرِّماد، أخبر عن سخائه، فلو لم يكن زيد سخيًّا و لم يكن فى كلامه تأوّل آخر يكون المخبر كاذبا و الخبر كذبا، و كذا فى النظائر.
و فى مثل جعل النصب دون الفراسخ إذا لم يكتب عليها أنّ هذا رأس الفرسخ، لم يكن مجرّد الوضع إخبارا و كذبا عرفا. و المؤذّن قبل الوقت لم يخبر بالوقت، و الماشى على غير زيّه لم يخبر بشيىء، و لا يقال: إنّه أخبرنى بكذا، و لوازم المخبر عنه
ص: 136
ليست بإخبار، بل الإخبار إنّما هو عن الملزوم و هى لوازم المخبر عنه. و ما ذكرناه هو الموافق لفهم العرف، فعليه ليس الإخبار أو الخبر عبارة عن القول أو اللفظ المحتمل للصدق و الكذب، بل أعمّ منه و مما قام مقامه، لكن لابنحو يشمل مطلق ما له حكاية.
إلى أن قال فأذان المؤذّن قبل الوقت ليس بكذب، لأنّ مقالته أى فصوله بما أنّها حاكية عن معانيها لاتحكى عن دخول الوقت لامطابقة و لا التزاما، بل إيقاع هذا العمل كاشف عن دخول الوقت للتعارف والعادة، ففرق بين الأعمال القائمة مقام الأقوال و غيرها ممّا هى كاشفة عن واقع لزوما.
و أمّا لوازم المخبر به فى المثال المتقدّم أى الإخبار بأنّ هذا يوم السبت، فلا يقال فيها: إنّه أخبر بأمور غير محصورة (بدعوى أنّ لازم كون اليوم سبتا أن يكون قبله جمعة و بعده أحدا و قبل قبله خميسا و بعد بعده الإثنين و هكذا)، لأنّه لم يخبر إلّا عن يوم السبت، و اللوازم المذكورة لوازم المخبر عنه الوحدانى.(1)
و لقد أفاد و أجاد: إلّا أنّ نفى الإخبار عن الملزوم فى الكنايات محلّ تأمّل و نظر، لأنّ الإخبار عن اللازم لا يمكن بدون الإخبار عن الملزوم. نعم، لو كان المقصود أنّ الغرض الأصلى هو الإخبار عن اللازم لا الملزوم، و لذا لا يضرّ بصدق اللوازم عدم وجود كثرة الرماد حقيقة صحّ ذلك.
ثمّ إنّ مفاد الأذان و إن لم يكن خبرا عن حلول الوقت، ولكن لقائل أن يقول: إنّ تركيب فصوله بالنحو المعلوم شرعا لإفادة إعلام الوقت، لا أنّ الوقت يعلم بالتعارف و العادة، خصوصا قوله: «حىَّ على الصلوة» أمر بالسبقة نحو الصلاة المفروضة الموقّتة، و هو لا يخلو عن إعلام و إخبار بحلول وقت الصلاة.
**********
(1) المكاسب المحرّمة للامام قدس سره، ص 35-34.
ص: 137
ثم إنَّه قد يقال: إنّ مقتضى ما عرفت من أنّ الصدق و الكذب يتقوّمان بقصد الحكاية أنّ الهازل إذا كان قاصدا للحكاية و كان غرضه من الحكاية إضحاك الناس صدق عليه الكاذب، لأنّ كلامه كذب حقيقة، و الداعى لادخل له فى حرمته. و أمّا إذا كان تكلّمه بلا قصد الحكاية، بل من ترديد ألفاظ لها صور و معان فى الأذهان و كان غرضه من ترديدها إضحاكهم، فهذا غير داخل فى الكذب، و لايعمّه ما ورد فى كذب الهزل، حيث أنّه لا يكون إخبارا حتى يكون كذبا هزلا أو جدّا.(1)
ويمكن أن يقال، كما فى المكاسب المحرّمة للإمام قدس سره: أنّ الظاهر أنّ الأخبار المطلقة منصرفة عن الكذب فى مقام الهزل و إن فرض الإخبار بالواقع لهذا الغرض، لكن مع قيام قرينة حالية أو مقالية شاهدة على الهزل، كما لو كان المجلس من المجالس التى أعدّت له، بل لايبعد الانصراف عن أخبار غير مفيدة، كما لو أخبر بخلاف واقع واضح لا يؤثر فى المخاطب شيئا، كالإخبار ببرودة النار و حرارة الثَّلج.(2)
بقى شىء و هو أنّ الكذب عند نفسه مع عدم المخاطب هل يكون محرّما أو لا؟ والأظهر هو الثانى، لما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: من انصراف الأدلّة عن مثله، بل الظاهر انصرافها عن التكلّم به عند مخاطب لم يسمع الكلام لصممه، أو لم يفهم معناه لعدم تميّزه أو جهله به، فإنّ المتكلّم بالجملة الكاذبة عند المذكورين ليس بمخبر و إن صدر منه الكذب.(3)
ثمّ يظهر مما تقدم أنّ الكذب وصف للخبر، كما أنّ الصدق كذلك، و عليه يختصّ
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 232.
(2) المكاسب المحرّمة للإمام قدس سره، ص 50.
(3) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ص 39.
ص: 138
الصدق و الكذب بالجملة الخبرية و لا يعمّ الجمل الإنشائية.
ثمّ لا يخفى أنّ الوعد خارج عن موضوع الكذب و الصدق، لأنّه ليس بإخبار فى نفسه، بل هو إنشاء كالنذر و العهد. نعم، لو أخبر عن التزامه أو عن الوفاء الخارجى فى وقت كذا كان خبرا و يحتمل فيه الصدق و الكذب، بل الإخبار عن التزامه أو عن الوفاء الخارجى من لوازم الوعد الإنشائى ما لم يقم قرينة على الخلاف.
و لذا قال الشيخ الأعظم قدس سره: الظاهر عدم كونه (أى الوعد مع إضمار عدم الوفاء) كذبا حقيقيا و أنّ إطلاق الكذب عليه فى الرواية لكونه فى حكمه من حيث الحرمة، أو لأنّ الوعد مستلزم للإخبار بوقوع الفعل، كما أنّ سائر الإنشاءات كذلك، و لذا ذكر بعض الأساطين أنّ الكذب و إن كان من صفات الخبر إلّا أنّ حكمه يجرى فى الإنشاء المنبىء عنه، كمدح المذموم و ذمّ الممدوح و تمنّى المكاره و ترجّى غير المتوقّع و إيجاب غير الموجب و ندب غير النادب و وعد غير العازم.
و كيف كان، فالظاهر عدم دخول خلف الوعد فى الكذب لعدم كونه من مقولة الكلام. نعم، هو كذب للوعد بمعنى جعله مخالفا للواقع، كما أنّ إنجاز الوعد صدق له بمعنى جعله مطابقا للواقع، فيقال: صادق الوعد و وعد غير مكذوب.(1)
فالمستفاد من كلام الشيخ قدس سره: أنّ الوعد من الإنشاءات لا من الإخبار، و عليه فما يظهر من مصباح الفقاهة من تعميم الوعد للإخبار عن العزم على فعل كذا أو الإخبار عن الوفاء محلّ تأمّل و نظر.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: أقول: لا بأس بتوضيح حقيقة الوعد و بيان حكم
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 50.
ص: 139
الخلف فيه. أمّا حقيقة الوعد فإنّه يتحقّق بأحد أمور ثلاثة: أوّلها: أن يخبر المتكلّم عن عزمه على الوفاء بشيئ، كأن يقول لواحد: إنّى عازم على أن أعطيك درهما، أو إنّى ملتزم بالمجيئ إلى ضيافتك، أو على إعظامك و إكرامك، و لاشبهة فى كون هذا من أفراد الخبر.
غاية الأمر أنّ المخبر به من الأفعال النفسانيّة، أعنى العزم على الفعل الخارجى. فإن كان عازما فهو صادق، و إلّا فهو كاذب و يكون خارجا عن المقام. أى الوعد المبحوث عنه لأنّه إنشائى لا إخبارى.
وثانيها: أن ينشئ المتكلّم ما التزمه بنفس الجملة التى تكلّم بها بأن يقول: لك علىّ كذا درهما أو دينارا أو ثوبا، و نظيره صيغ النذر و العهد. و لا ريب أنّ مثل هذه الجمل إنشائية محضة، فلا تتّصف بالصدق و لابالكذب بالمعنى المتعارف، بل الصدق و الكذب فى ذلك بمعنى الوفاء بهذا الالتزام و عدم الوفاء به (و هو خارج عن الوعد الإنشائى).
وثالثها: أن يخبر المتكلّم عن الوفاء بأمر مستقبل، كقوله: أجيئك غدا أو أعطيك درهما بعد ساعة أو أدعوك إلى ضيافتى بعد شهر. و هذه جمل خبريّة بالحمل الشايع، و لاشبهة فى اتّصاف هذا القسم من الوعد بالصدق و الكذب، فإنّها عبارة عن موافقة الخبر للواقع و عدم موافقته له، انتهى موضع الحاجة(1) و سيأتى بقية الكلام إن شاء الله تعالى فى حكم خلف الوعد.
الأمر الثانى: فى حرمة الكذب و كونه من الكبائر و لو لم يترتّب عليه المفاسد. قال الشيخ الأعظم: الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان و يدلّ عليه الأدلّة الأربعة.(2)
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 390.
(2) المكاسب الشيخ، ص 49.
ص: 140
قال فى الجواهر أيضا: حرمة الكذب من الضروريات و يزداد إثما إذا كان على المؤمنين، ثمّ على أئمّتهم عليهما السلام، ثمّ على الله تعالى شأنه.(1)
قال فى مصباح الفقاهة: لاشبهة فى حرمة الكذب، فإنّه من قبائح الذنوب و فواحش العيوب، بل هو مفتاح الشرور و رأس الفجور و من أشدّ الجرائم و أكبر الكبائر. و حرمته من ضروريات مذهب الإسلام، بل جميع الأديان. و قد استدلّ عليها المصنّف بالأدلّة الأربعة: أمّا الكتاب و السنّة الواردة لدى الخاصّة و العامّة فى ذلك، فذكرهما مما لايحصى.
و أمّا الاجماع، فمن المحتمل القريب بل المقطوع به أنّه مستند إلى الكتاب و السنّة، فلا يكون هنا إجماع تعبّدى كما هو واضح.
و أمّا العقل، فإنّه لايحكم بحرمة الكذب بعنوانه الأولى مع قطع النظر عن ترتّب المفسدة و المضرّة عليه. و كيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التى لا تترتّب عليها مفسدة دنيوية أو أخروية.(2)
و لا يخفى عليك أنّ الإشكال على الاستدلال بالإجماع بأنّه ليس بإجماع تعبّدى لاستناد المجمعين إلى الكتاب و السنّة منظور فيه، لما قرّر فى الأصول من إمكان الاستدلال بالإجماعات المستندة إلى الأدلّة من الكتاب و السنّة، أيضا اذا كانت الإجماعات متّصلة بزمان المعصوم عليه السلام، لأنّها تكشف عن تقرير المعصوم عليه السلام، إذ لا يمكن أن اجتمع المجمعون على خطأ بمحضر المعصوم عليه السلام و لم يرشدهم.
و عليه فالاستدلال بالإجماع الكاشف عن تقرير المعصوم عليه السلام خال عن الإشكال.
**********
(1) الجواهر، ج 22، ص 72.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 385.
ص: 141
و دعوى وجود هذا الإجماع فى مثل المقام ليست بمجازفة ؟ نعم، لا ثمرة لذلك لو تمّ الاستدلال بالكتاب و السنّة على حرمة الكذب.
نعم، الاستدلال بالعقل بحيث يستلزم الحكم الشرعى من جهة أنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع لا يخلو من إشكال، لدعوى أنّ حكم العقل بقبح الكذب ليس من ناحية عنوان الكذب بذاته و لو لم يترتّب عليه المفسدة و المضرّة، حتّى يكون كاشفا عن الحكم الشرعى به أيضا.
أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العقل يدرك قبح الكذب و حزازته فى نفسه فيرى الكذب حتّى الذى لا يترتّب عليه مفسدة و مصلحة قبيحا له حزازة بلا شبهة.
والشاهد على كون الكذب قبيحا ذاتا أنّ الكذب فى المورد الذى يتوقّف إنجاء النبى صلى الله عليه وآله و سلم أو المؤمن على الكذب يرى العقل أنّه لو كان إنجائه متوقّفا على الصدق كان أحسن، فلا يسوّى بين الكذب و الصدق التقديرى فى هذا المورد، و هو يدلّ على أنّ العقل يدرك قبحه فعلا، فالكذب مع تجرّده عن كافّة المتعلّقات و النظر إلى ذاته بذاته له قبح ما عقلا لا ينفكّ عنه، و الجهات الخارجية لا تأثير لها فى رفعه و لهذا يتمنّى العاقل أن يكون الصدق مكان الكذب منجيا للنبى صلى الله عليه وآله و سلم، و ليس ذلك إلّا لعدم رفع حزازته و قبحه و إن لزم ارتكابه، و له نظائر تظهر بالتأمّل.(1)
و كيف كان، فقد استدلّ بالكتاب و السنة على حرمة الكذب.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) (2)، و تقريب الاستدلال بالآية الكريمة كما فى إرشاد الطالب: أنّ ظهور الزور فى البطلان و اتّصاف
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 75.
(2) الحج، 30.
ص: 142
القول بالبطلان يكون باعتبار بطلان معناه و عدم تطابقه مع الخارج كما هو المراد بالكذب، و ظاهر الأمر بالاجتناب عن فعل حرمته كما فى الأمر بالاجتناب عن الخمر و الميسر و عبادة الأوثان إلى غير ذلك.(1)
لقد أفاد و أجاد قدس سره: ولكن لاينحصر بطلان القول بما إذا لم يطابق المعنى مع الخارج، و الشاهد عليه تفسير قول الزور فى موثّقة ابن أبى عمير بالغناء(2)، مع أنّه ليس بكذب.
فالأولى هو أن يقال: إنّ قول الزور هو قول الباطل و هذا بإطلاقه يشمل الكذب كما يشمل الغناء، فلاتغفل.
ثمّ إذا عرفت أنّ الكذب منهىٌّ عنه بإطلاق قوله عزّوجلّ : (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) يدلّ صحيحة عبدالعظيم الحسنى عليه السلام على كون الكذب من الكبائر، لأنّ الإمام عليه السلام استشهد فيها لكون شرب الخمر من المعاصى الكبيرة بأنّ الله نهى عن الخمر كما نهى عن عبادة الأوثان، إذ مقتضى الاستدلال و الاستشهاد المذكور فيها أن يكون الكذب أيضا من الكبائر، لأنّ الله نهى عنه كما نهى عن عبادة الأوثان بقوله عزّوجلّ : (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(3)
و تفصيل ذلك أنّ عمرو بن عبيد دخل على أبى عبدالله عليه السلام، فلمّا سلّم و جلس، تلاهذه الآية: (وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ ) (4) ثمّ أمسك، فقال له أبوعبدالله عليه السلام: ما أسكتك ؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزّوجلّ ، فقال: نعم يا عمرو! أكبر
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 228.
(2) الكافى، ج 6، ص 436، ح 7.
(3) راجع: إرشاد الطالب، ص 228؛ الحج، 30.
(4) الشورى، 37.
ص: 143
الكبائر الإشراك بالله، إلى أن قال: و شرب الخمر لأنّ الله عزّوجلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان.(1)
و هذه ضابطة غير ما ورد من أنّ كلّ معصية أوعد النار عليها فهى كبيرة، فتدبّر جيّدا.
وقوله تعالى: (إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ ) .(2) بدعوى أنّ جعل الكاذب غير مؤمن بآيات الله كافرا بها يقتضى كون الكذب كبيرة، كما فى كلام الشيخ الأعظم قدس سره أورد عليه السيّد المحقّق الخوئى قدس سره تبعا السابقين بقوله: إنّ الآية و إن كانت ظاهرة الدلالة على كون الكذب المذكور فيها من الكبائر، ولكن الظاهر من ملاحظة الآية و ما قبلها أنّ المراد بالكاذبين فى الآية الشريفة هم الذين يفترون على الله و على رسوله فى آيات الله كاليهود و المشركين لزعمهم أنّ ما جاء به النبى كلّه من تلقاء نفسه و مفتريات شخصه، و قد ردّ الله كلامهم عليهم بقوله عزّ من قائل: (إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ ) (3)، و على هذا فالكاذبون المذكورون فى الآية لم يؤمنوا بالله و برسوله و بالمعاد من الأول، لا أنّ الكذب أوجب خروجهم عن الإيمان لكى تدلّ الآية على مقصد المصنّف.(4)
وأجيب عنه: بأنّه لاوجه لدعوى اختصاص الآية بالافتراء فى أصول الدين، فإنّ مورد النزول لايكون مخصّصا أو مقيّدا لعموم الحكم أو إطلاق الآية؛ نعم، إنّ الافتراء أخصّ من الكذب.(5)
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 320-318، ح 2.
(2) النحل، 105.
(3) النحل، 105.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 387.
(5) إرشاد الطالب، ص 228.
ص: 144
ويمكن أن يقال: إنّ عدم تخصيص المورد لعموم الحكم صحيح ما لم يقم قرينة على الاختصاص. و السيّد المحقّق الخوئى استدلّ بسياق الآيات و اتّصالها على اختصاص الآية بالافتراء فى أصول الدين، و لعلّه كذلك. و يعتضد ذلك بما فى بلغة الطالب، حيث أورد على الاستدلال بالآية بأنّها بظاهرها تكفير للكاذب بجعله ممن لايؤمن بآيات الله تعالى.
فيعلم من ذلك أنّ المراد: أنّ من لايؤمن بآيات الله هم الكاذبون فى إنكارهم آيات الله. و يؤيّده سياق الآية، فإنّ قبلها قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ لاٰ يَهْدِيهِمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ ) (1)، فإنّ الظاهر فى الكلام قصر قلب بالنسبة إلى ما ادّعوا من كذب النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى الآيات السابقة على الآيتين و قوله (وَ إِذٰا بَدَّلْنٰا آيَةً مَكٰانَ آيَةٍ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُنَزِّلُ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ ) (2)، فالمراد و الله العالم أنّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم ليس بمفتر بل الكذّاب المفترى من لا يؤمن بآيات الله و يكذّب النبى صلى الله عليه وآله و سلم فيما يخبر عن الله تعالى، انتهى؛ و عليه فالآية الكريمة أجنبيّة عن المقام.
و إليه يؤوّل ما فى تعليقة الميرزا الشيرازى قدس سره أيضا: من أنّ الظاهر أنّ الكلام قصر قلب بالنسبة إلى ما ادّعوا من كذب النبى صلى الله عليه وآله و سلم فيما يدّعيه من كون ما يأتى من الآيات من قِبَل الله تعالى، فالمقصود أنّهم مفترون و كاذبون فى إنكارهم كون ما يأتى به النبى صلى الله عليه وآله و سلم من الآيات التى يأتى به روح القدس من عند ربّ الأرباب تعالى شأنه نازلاً من عنده و قولهم: إنّه انّما يعلّمه بشر لا النبى صلى الله عليه وآله و سلم فيما يدّعيه، فيكون القصر إضافيا لا حقيقيا إدعائيا. إلى أن قال: و لا يضرّ الفصل بين الإثنين بالآيات الثلاثة،
**********
(1) النحل، 105-104.
(2) النحل، 101.
ص: 145
فإنّها من المرتبطات بالآية الأولى و توابعها، حيث ردّ الله تعالى عليهم فى دعواهم افتراء النبى صلى الله عليه وآله و سلم فيما يدّعيه من آيات الله تعالى، انتهى موضع الحاجة.(1)
و أمّا السنّة، فصحيحة عبدالله بن العباس المروى عن كتاب الغيبة للفضل بن شاذان قال: حدّثنا عبدالرحمن بن أبى نجران رضى الله عنه، قال: حدّثنا عاصم بن حميد، قال: حدّثنا أبوحمزة الثمالى عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن العباس قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حجّة الوداع، فأخذ بحلقة باب الكعبة و أقبل بوجهه علينا فقال: معاشر الناس! ألا أخبركم بأشراط الساعة ؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: من أشراط الساعة إضاعة الصلوات، إلى أن قال: و يكون الكذب عندهم ظرافة فلعنة الله على الكاذب و إن كان مازحا.(2) فى طريقها سعيد بن جبير و هو الذى قتله الحجّاج و له شأن كبير.
و نقل أبو المغيرة: حدّثنى الفضل عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عن أبى عبدالله عليه السلام: أنّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعلىّ بن الحسين و كان علىّ بن الحسين عليهما السلام يثنى عليه و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا هذا الأمر و كان مستقيما، انتهى. و أبو المغيرة ممن روى عنه حمّاد و فيه تأمّل، لعدم معلوميّة أبى المغيرة.
نعم، نقل الكشّى عن الفضل بن شاذان: أنّه لم يكن فى زمن السجّاد عليه السلام فى أوّل أمره إلّا خمسة فعدّه و سعيد بن المسيّب منهم؛ هذا مضافا إلى أنّه وثّقه فى محكىّ المناقب. و كيف كان، يكفى فى علوّ شأنه أنّه من المجاهدين فى طريق الولاية.
ثمّ إنّ الظاهر من اللعنة هى الحرمة و إن استعملت أحياناً فى بعض المكروهات، و لعلّ إثبات اللّعنة ملازم للعذاب، و عليه تدلّ الرواية على كون الكذب من الكبائر.
ومعتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام المرويّة فى عيون الأخبار بأسانيده فى
**********
(1) تعليقة الميرزا الشيرازى على المكاسب، ص 127-128.
(2) المستدرك، الباب 49 من أبواب جهاد النفس، ج 11، ص 372، ح 11.
ص: 146
كتابه إلى المأمون قال: الإيمان هو أداء الأمانة و اجتناب جميع الكبائر و هو معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان، إلى أن قال: و اجتناب الكبائر و هى قتل النفس التّى حرّم الله تعالى و الزنا و السَّرقة و شرب الخمر و عقوق الوالدين و الفرار من الزَّحف و أكل مال اليتيم ظلما و أكل الميتة و الدَّم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير الله به من غير ضرورة و أكل الربا بعد البيّنة و السُّحت و الميسر و هو القمار و البخس فى المكيال و الميزان و قذف المحصنات و الزنا و اللواط و اليأس من روح الله و الأمن من مكر الله و القنوط من رحمة الله و معونة الظالمين و الركون إليهم و اليمين الغَموس و حبس الحقوق من غير عسر و الكذب و الكبر و الإسراف و التبذير و الخيانة و الاستخفاف بالحجّ و المحاربة لأولياء الله و الاشتغال بالملاهى و الإصرار على الذنوب.(1)
و استشكل فى سند الرواية بأنّ طرق الصدوق إلى الفضل بن شاذان فى عيون الأخبار ثلاثة، كما نصّ عليها فى خاتمة الوسائل.
الطريقة الأولى: هى عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابورى عن على بن محمد بن قتيبة النيسابورى عن الفضل بن شاذان النيسابورى.
الطريقة الثانية: هى الحاكم أبى محمد جعفر بن نعيم بن شاذان عن عمّه محمد بن شاذان عن الفضل بن شاذان.
الطريقة الثالثة: هى حمزة بن محمد العلوى عن قنبر بن على بن شاذان عن أبيه عن الفضل بن شاذان.(2)
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 330-329، ح 33.
(2) الوسائل، ج 19، خاتمة الكتاب، ص 446.
ص: 147
و الطريق الأول مجهول لجهالة عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابورى و على بن قتيبة النيسابورى و الطريق الثانى مجهول لجهالة الحاكم أبى محمد جعفر بن نعيم و الطريق الثالث أيضا مجهول لجهالة حمزة بن محمد العلوى.
وأجيب عنه فى السند الأول بأنّ ترضية الصدوق كثيراما لعبد الواحد تدلّ على توثيقه، هذا مضافا إلى أنّ إكثار الرواية عنه دليل على أنّه من مشايخه. و يؤيّد ذلك ذكره الفاضل فى خاتمة قسم الثقات و قد عقدها لمن لم ينصّ على توثيقه على أنه فى طريق الرواية المتضمّنة لإيجاب ثلاث كفّارات على من أفطر على محرّم و قد وصفها علامة فى التحرير بالصحّة.
وقال فى محكىّ المسالك فى المسألة المذكورة: عبدالواحد بن عبدوس و إن لم يوثّق صريحاً لكنّه من مشايخ الصدوق المعتبر بين الذين أخذ عنهم الحديث.
وأيضا المحكى عن المقدّس التقى أنّه قال: ذكر الصدوق حديثا من طريقه فى العيون، ثم ذكر ذلك الخبر من طريق آخر، ثم ذكر أنّ حديث عبدالواحد عندى أصحّ ، فهو توثيق له. و يظهر من كلام آخر له فيه أنّه كلّما ينقله فى كتبه سيّما فيه فهو صحيح فى آخر الجلد الأول من العيون و يذكر أنّه كلّما لم يصحّحه شيخه محمد بن الحسن فهو لايذكره فى مصنّفاته، انتهى. و استشكل عليه فى منتهى المقال: بأنّ قوله قدس سره هو توثيق فيه ما فيه، بل لا يظهر من قوله أصحّ مدح له مطلقا فتأمّل. و لعلّ ذلك من جهة أنّ الصدوق لا ينحصر مشايخه بالثقات و العدول، و الدعاء له لادلالة له على التوثيق.
ولقاتل أن يقول: إنّ إكثار الرواية عنه مع كثرة الترضية و كونه من مشايخ الصدوق يوجب حصول الاعتماد عليه و لم يصدر كثرة الترضية بالنسبة إلى غير الشيعة، كما لايخفى. و أمّا على بن محمد بن قتيبة فلاعتماد أبى عمر الكشّى عليه و كونه من
ص: 148
مشايخ الكشّى و قد أكثر النقل عنه؛ هذا مضافا إلى تصحيح العلّامة رحمه الله طريقين فى ترجمة يونس بن عبدالرحمن هو فيهما.
و ممّا ذكر يظهر ما فى المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام قدس سره، حيث قال: إنّ قول الصدوق (و هو حديث عبدالواحد عندى أصحّ ) راجع إلى متن الرواية، فإنّها بطريقها الآخر مشتملة على بعض الزيادات المخالف للمذهب كمعصية الأنبياء و غير ذلك، مع أنّ تصحيح السند بهذا الاصطلاح لعلّه غير معهود عند الصدوق و أمثاله.
و تصحيح العلّامة لعلّه لقرائن دالّة على صحّة المتن، و لهذا حكى عن مختلفه تارة بأنّه: لايحضرنى حال عبدالواحد بن عبدوس، و أخرى: إن ثبت وثاقته صار الخبر صحيحا، و معه لايمكن الاعتماد على تصحيحه، و تكرّر نقل الصدوق و ترضيه لايفيدان شيئا يمكن الاتّكال عليه، انتهى.(1) و ذلك لما عرفت من كفاية كونه من مشايخه مع إكثار الرواية و ترضيته عنه فى حصول الوثوق به عرفا، هذا تمام الكلام فى الإشكال فى الرواية من جهة السند.
و هنا إشكال آخر من جهة الدلالة، و هو كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: أنّ الرواية بصدد بيان عدّ الكبائر لابيان حال كلّ كبيرة.
وبعبارة أخرى: أنها بصدد بيان العدّ لا المعدود حتى يؤخذ بإطلاقها، و هو نظير أن يقال: إنّ فى الشريعة واجبات: الصلوة و الصوم و الحجّ الخ، و فيها محرّمات: الربا و الكذب و السرقة الخ، حيث لا يمكن الأخذ بإطلاقه بالنسبة إلى كل واحد منها، فيدفع به الشكّ فى شرطيّة شيئ أو مانعيّته بالنسبة الى الصلوة و غيرها، أو بالنسبة إلى بعض المصاديق المشكوك فيه.
**********
(1) المكاسب المحرّمة للإمام قدس سره، ج 2، ص 55.
ص: 149
أللّهمّ إلّا أن يقال: يكشف الإطلاق فيها من ذكر تقييدات فيهما كتقييد قتل النفس بالتى حرّم الله تعالى، و أكل مال اليتيم بقوله ظلما، و ما أهلّ لغير الله بغير ضرورة، و أكل الربوا ببعد البيّنة، و حبس الحقوق بغير عسر. فلولا كونها فى مقام البيان لاوجه لذكر القيود. فإن البيان على نحو العدّ، و الإهمال لايناسبه.
ويمكن أن يقال: إنّ ذكر تلك القيود انّما هو بتبع ورودها فى الكتاب الكريم، حيث قال: (وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ) (1)، و قال: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً) (2) و قال: (إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ ) إلى أن قال: (فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَلاٰ إِثْمَ ) .(3)
وقال بعد آية الربا: (فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ ) (4) الخ، و قال فى حق الغريم: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ ) (5)، و الشاهد عليه أنّ هذه القيود فى الموارد الخمسة وردت فى الرواية، فيكون ذكرها بتبع الكتاب لالكونه فى مقام البيان من جميع الجهات، إلّا أنّ يدّعى أنّ الإشارة إلى القيود المذكورة فى الكتاب أيضا دليل على كونه فى مقام البيان و فيه تأمل.
و الإنصاف أنّ الإتّكال عليها لإثبات كون الكذب فى الجملة كبيرة مشكل، فضلاً عن إثبات كونه كذلك بجميع مصاديقه.(6)
لقائل أن يقول: إنّ الإطلاق اللفظى و إن كان غير محرز فى أمثال هذه الرواية
**********
(1) اسراء، 33.
(2) النساء، 11.
(3) البقرة، 173.
(4) البقرة، 275.
(5) البقرة، 280.
(6) المكاسب المحرمّة للإمام قدس سره، ج 2، ص 56-55.
ص: 150
ولكن يمكن الأخذ بالإطلاق المقامى، فإنّه بعد ملاحظة عدم ورود شيئ آخر فى الأدلّة الشرعية لتقييد الأمور المذكورة و من جملتها الكذب يستكشف أنها بإطلاقها موضوعة للأحكام، و هو المطلوب. هذا مضافاً إلى أنّ منع دلالتها على كون الكذب فى الجملة من الكبائر بعد تفسير الكبائر بأمور منها الكذب لا يخلو من غرابة.
و خبر الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام فى حديث شرايع الدين قال: و الكبائر محرّمة و هى: الشرك بالله و قتل النفس التى حرّم الله و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و أكل مال اليتيم ظلما و أكل الربا بعد البيّنة و قذف المحصنات، و بعد ذلك الزنا و اللَّواط و السَّرقة و أكل الميتة و الدَّم و لحم الخنزير و ما أهلَّ لغير الله به من غير ضرورة و أكل السُّحت و البخس فى الميزان و المكيال و الميسر و شهادة الزور و اليأس من روح الله و الأمن من مكر الله و القنوط من رحمة الله و ترك معاونة المظلومين و الركون إلى الظالمين و اليمين الغَموس و حبس الحقوق من غير عسر و استعمال التكبّر و التجبّر و الكذب و الإسراف و التبذير و الخيانة و الاستخفاف بالحجّ و المحاربة لأولياء الله و الملاهى الذى تصدّ عن ذكر الله، الحديث.(1)
والتقريب فيه كالتقريب المذكور فى الرواية المتقدّمة، أورد عليه بضعف السند لاشتمال سند الصدوق إليه على المجاهيل؛ هذا مضافا إلى ما أفاده الميرزا الشيرازى من معارضتها و هكذا الرواية السابقة لصحيحة عبدالعظيم بن عبدالله الحسنى، حيث لم يعدّ من الكبائر الكذب (مع أنه فى مقام بيان ذلك). و يمكن الجمع بأنّ المراد من الروايتين (أعنى خبر الأعمش و معتبرة الفضل بن شاذان) بيان ما يكون كبيرة فى الجملة و لو بالنسبة إلى بعض مصاديقه و من الصحيحة ما يكون كبيرة بجميع
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النَّفس، ج 15، ص 331، ح 36. الخصال، ج 2، ص 610-603.
ص: 151
مصاديقه، و حينئذٍ فلايبقى فى الروايتين دلالة على كون الكذب كبيرة، إلى أن قال: و يؤيّد ما ذكرنا أيضا عدّ خصوص اليمين و شهادة الزور فى تلك الرواية من الكبائر إذ مع كون مطلق الكذب من الكبائر لا وقع لعدّ خصوص هذين الفردين منه فى الكبائر.(1)
و أجاب عنه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، حيث قال: و فيه مضافا إلى أنّ الجمع المذكور ليس جمعا عقلائيا رافعا للتعارض، و إلّا لصحّ الجمع بين قوله: أكرم العلماء و لاتكرم العلماء، بحمل الأول على القرشى و الثانى على غيره، فلاوجه و لا شاهد لحمل الكبائر فى مورد على قسم منها و فى مورد آخر على قسم آخر مع وحدة اللفظ و المقام إنّ ما ذكره غير تامّ لأنّ الصحيحة مشتملة على ما لايكون بجميع مصاديقه محرّمة فضلا عن كونه كبيرة كالربا، فإن كثيرا من مصاديقه جائز (تأمّل)، و غير مشتملة على ما يكون كبيرة بجميع مصاديقه كالقمار و اللواط و السرقة و التعرُّب بعد الهجرة و القنوط من رحمة الله و الاستخفاف بالحجّ و غيرها، فلايتمّ ما ذكره من الجمع مع أنّ الظاهر من سؤال عمرو إرادة معرفة الكبائر من كتاب الله فتصدّى أبوعبدالله عليه السلام لذكر ما تكون كذلك فى كتاب الله حتّى يوافق جوابه لمسئوله و ما لايكون كتاب الله دالّاً على كونها كذلك لامجال لذكرها لعدم إمكان معرفتها منه، و لعلّ ذكر ترك الصلاة و الفرائض لأهمّيّتها و إن لم يدلّ الكتاب على كونها كبيرة.
و الظاهر أنّ المراد بالفرائض غير مطلق الواجبات، بل من قبيل الحجّ و الزكاة و الصَّوم و نحوها من الأصول.
نعم، يبقى سؤال و هو: ما وجه عدم ذكر بعض الكبائر التى دلّ الكتاب على كونه كبيرة ؟ كالميسر الذى فيه إثم كبيرٌ، و اللواط الذى سمّاه فاحشة و عذّب قوما به، و
**********
(1) تعليقة الميرزا الشيرازى، ص 125-124.
ص: 152
النقص فى المكيال و الميزان؛ قال (الله): (وَ لاٰ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيٰالَ وَ اَلْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (1)، و الافتراء على الله تعالى، إلى غير ذلك.
و يمكن أن يقال: إنّ عمرو بن عبيد اختنقه البكاء و لم يتمالك نفسه، فخرج صارخا من بكائه قبل أن يتمّ أبوعبدالله عليه السلام عدَّ الكبائر؛ و لعلَّ فيها إشعارا بذلك، حيث قال فيما قال: و قطيعة الرحم لأن الله عزّوجلّ يقول: (لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ) (2). قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه(3). و ليس فيه ما يدلّ على سكوت أبى عبدالله عليه السلام و إتمام كلامه، فلايمكن استفادة الحصر بالمذكورات فيها مع الاحتمال المذكور الذى لايبعد إشعار الرواية به.
وأمّا ما جعله مؤيداً لمرامه من عدّ خصوص اليمين و شهادة الزور فيها، ففيه مضافا إلى أنّ اليمين ليس من الإخبار بل إنشاء و حرمته بعنوانه غير حرمة الكذب، و إنّما يقال: الإيمان الكاذبة باعتبار متعلّقها، فلا وجه لجعله مؤيّدا إنّ اختصاص ذكره و ذكر شهادة الزور التى هى من كتمان الشهادة أيضا لأجل استفادة حكمهما من كتاب الله و قد أراد السائل معرفة الكبائر منه.
نعم، لو قلنا باستفادة كون مطلق الكذب كبيرة من الكتاب يتوجّه السؤال عن وجه اختصاصهما بالذكر. و يمكن أن يكون لأجل اختصاصهما به فى الكتاب. و أمّا عدم ذكر الكذب المطلق فيها كعدم ذكر كثير من الكبائر و قدمرّ ما يمكن أن يكون وجهاً له.(4)
و لقد أفاد و أجاد فتحصّل أنّه لا معارض لما يدلّ على حرمة الكذب و كونه
**********
(1) هود، 84.
(2) الرعد، 25.
(3) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ح 2.
(4) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 59-57.
ص: 153
معصية كبيرة، و قد عرفت دلالة معتبرة الفضل بن شاذان و خبر الأعمش على أنّ الكذب من المعاصى الكبيرة فى الجملة خصوصا مع ضميمة الإطلاق المقامى، فإنّ مقتضاه هو حرمة الكذب مطلقا، و يؤيّده ذكر المسوّغات كما سيأتى بيانها إن شاء الله تعالى، فإنّه يناسب كون الكذب محرّما مطلقا و يكون المسوّغات واردة موارد الاستثناء.
و موثّقة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ جعل للشرّ أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شرّ من الشراب.(1) بدعوى أنّ مقتضى كون الكذب شرّاً من الشراب حرمته و كونه من الكبائر، و إلّا لم يكن شرّاً منه، و حيث أنّ الشراب معصية كبيرة يكون الكذب كذلك.
أورد عليه: بأنّ من المعلوم عدم أشدّيّة مطلق الكذب من الشراب. أترى أنّه لو دار الأمر بين الكذب و الشرب أيحتمل أحد تقديم الشرب على الكذب. و منه ظهر ضعف الاستدلال بما جعله مقابلا لسبعين زنية أهونها من زنى بأمّه، فإنّ من المعلوم عند المتشرّعة أنّ الكذب أهون من أىّ زنية فرضت، بل و من أىّ جماع محرّم نظير الجماع حال الحيض.
وكذا يمكن بذلك الاستشكال فى الاستدلال بما جعله من أكبر الكبائر فى رديف عقوق الوالدين و الشرك بالله تعالى، حيث أنّ من الواضح عند المتشرّعة بحيث يمكن دعوى إجماعهم عليه عدم بلوغ حرمة الكذب إلى هذه المرتبة، فيعلم من ذلك أنّ المراد ليس مطلق الكذب، بل بعض افراده المنضمّ إلى ما يوجب شدّته، و إنّما أطلق حرصا على الترهيب و المنع عن ارتكابه، فإنّه لكونه محلّاً للابتلاء الغالبى محتاج إلى
**********
(1) الوسائل، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 244، ح 3.
ص: 154
زيادة تأكيد مؤثّر فى المنع و الاجتناب(1). و عليه فلايستفاد منه حرمة جميع أفراد الكذب فضلا عن كونه كبيرة كما لايخفى.
و يحتمل أن يكون معنى قوله: و الكذب شرّ من الشراب أنّ الكذب شرّ ناش من الشراب و تكون «من» نشوية، و عليه فالحديث يدلّ على كون الكذب شرّاً باعتبار كونه حاصلا من الشراب. ولكنّه بعيد عن المتفاهم العرفى لظهور «من» فى أمثال هذا التركيب فى التفضيل؛ هذا مضافا إلى أنّ الحاصل من الشراب ليس شرّاً منه، بل هو محكوم بحكمه.
و يحتمل أن يكون المراد من «أنّ الكذب شرّ من الشراب»، أو «أنّ الغيبة أشدّ من الزنا» و نحوهما بيان مفسدة الكذب أو الغيبة فى نفسهما لولا مزاحمة شيئ آخر، و إلّا فمع المزاحمة يختار الكذب على شرب الخمر أو الغيبة على الزنية لأشدّية شرب الخمر أو الزنية و أقلّية مفسدة الكذب بالارتكاز.
وفيه: إنّ لازم هذا أن يقال: إنّ الكذب فى نفسه يكون شرّاً ولكن بملاحظة الشراب لايكون كذلك، و هكذا الغيبة فى نفسها تكون أشدّ ولكن بملاحظة الزنا ليست كذلك. و هو خلاف ظاهر موثّقة محمد بن مسلم و نحوها، فإنّها تدلّ على شرّية الكذب عند مقايسته مع شرب الخمر، و هكذا يدلّ قوله: إنّ الغيبة أشدّ من الزنا على شرّية الغيبة عند مقايستها مع الزنا، و الاحتمال المذكور خلاف الظاهر و يفيد العكس.
ويحتمل أن يكون معنى «أنّ الكذب شرّ من الشراب» من جهة أنّ المفاسد المترتّبة على الكذب لا يقاس بالمفاسد المترتّبة على الخمر، لا بمعنى أنّ كلّ كذب كذلك، بل
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 143-142.
ص: 155
بمعنى ملاحظة الطبيعتين فى الجامعة البشرية فمقنّن القوانين لجميع عائلة البشر إذا نظر إلى الكذب و مفاسده بنحو الوجود السارى و إلى الخمر و مفاسدها كذلك يرى أنّ مفاسد الكذب أكثر و أعظم، لأنّ جميع الأديان الباطلة انما حدثت و انتشرت بالكذب، و الكذب الواحد قد ينتهى إلى خراب البلدان و قتل النفوس الزكيّة و انتهاك حرمات عظيمة.
أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بعد ذكر هذا الاحتمال بقوله: لكن على هذا الاحتمال لايمكن إثبات حرمة الخمر بهذه الرواية، فضلا عن كونها كبيرة، فضلا عن إثبات حرمة الكذب أو كونه كبيرة فى الجملة، فضلا عن جميع مصاديقه؛ و ذلك لأنّ تلك المفاسد لو كانت مترتّبة على الخمر أو على الكذب و لو بنحو المسبّبيّة و المعلوليّة لما توجب حرمتهما لما قرّر فى محلّه من عدم حرمة مقدّمة الحرام و إن كانت علّة تامة، فضلا عما إذا لم تكن كذلك كما فى المقام، فإنّ الخمر ليست علّة تامة لما ذكر، بل تكون رافعة للموانع (أى القوّة العاقلة و الحياء و الشرف و الخوف من الله و عزّ النفس و عظمتها و طلب الكمال)، و كذا الكذب و إن كان بعض مصاديقه داعيا إلى إتيان المحرّم لكن لا يكون علّة تامة له.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ المقصود بالرواية أنّ الخمر صارت محرّمة لأجل تلك المفاسد، لالكون سبب المحرّم محرّما، بل كونها مفتاحاً لأقفال الشرور صار نكتة لجعل التحريم القانونى على جميع مصاديقها و للتوعيد عليها بالعذاب فصارت كبيرة، و لمّا كان الكذب شّراً منها تكون شرّيته نكتة لجعل الحرمة على جميع مصاديقه و لكونه كبيرة.
إلّا أن يناقش فيه بأنّ تلك المفاسد لو كانت علّة للحرمة و كونها كبيرة لكان لما ذكر وجه، لأنّ المعلول تبع لعلّته فى التحقّق و الشدّة و الضعف و الكمال و النقص، لكنّه احتمال فاسد لعدم دوران الحرمة مدارها، بل عدم دوران كون الخمر كبيرة مدارها كما لا يخفى.
ص: 156
وأمّا إذا كانت المفاسد نكتة الجعل فلابدّ فى إثبات مقداره و كيفيتّه من دليل، أمّا فى الخمر فيظهر من جملة من الروايات أنّ جميع مصاديقها كبيرة قليلها و كثيرها، و أنّ نكتة ذلك هى ما تترتّب عليها من المفاسد كصيرورة العبد بحال لايعرف ربّه و صيرورته مشركا و غيرذلك.
و لادليل على أنّ الكذب إذا كان ببعض مصاديقه شرّا من الشراب بالمعنى المتقدّم صار ذلك علّة لجعل الحكم على جميع مصاديقه على نحو القانونيّة، بل لعلّ شرّيته صارت موجبة لجعله على خصوص ما يترتّب عليه ذلك لا مطلقا، إلى أن قال: فلايستفاد حرمة جميع مصاديقه أو كونه كبيرة من الرواية على هذا الاحتمال.(1)
وفيه أولاً: أنّه يمكن القول بسببيّة الكذب للمفسدة بناء على المقدّمة الموصلة، و عليه تكون حرمة المقدّمة الموصلة حرمة شرعية؛ وثانياً: أنّ المفاسد المترتّبة على طبيعة الكذب إذا كانت نكتة الحكم فلا مانع من أن يحكم بحرمة جميع مصاديق الكذب لا بعض مصاديقه؛ وثالثاً: أنّ كون الكذب شرّاً من شرب الخمر مع أنّ الخمر بجميع مصاديقها محرّمة يكون ظاهرا فى أنّ الكذب يكون كالخمر فى ذلك.
ورابعاً: أنّ الظاهر من صحيحة عبدالله بن العبّاس، حيث قال صلى الله عليه وآله و سلم: فلعنة الله على الكاذب و إن كان مازحاً(2) و غيرها أنّ الكذب بجميع مصاديقه يكون محرّما و كبيرة. هذا كلّه بالنسبة إلى دلالة الحديث، و قد عرفت تماميّة دلالته على حرمة الكذب و كونها كبيرة.
و أما السند، فقد يقال: إنّه ضعيف من جهة عثمان بن عيسى لعدم توثيقه، ولكنّه محلّ نظر، لأنّ صفوان نقل عنه، هذا مضافا إلى عدّ جماعة إيّاه من أصحاب الإجماع.
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 62-59.
(2) المستدرك، الباب 49 من أبواب جهاد النفس، ج 11، ص 372، ح 11.
ص: 157
فيتحصّل مما تقدّم: أنّ الكذب مطلقا معصية كبيرة بالكتاب و الإجماع و الضرورة و الأخبار. نعم، يختلف درجات الكبيرة باختلاف موارد الكذب، و لعلّه لذلك كلّه كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره أطلق جماعة كالفاضلين و الشهيد الثانى فى ظاهر كلماتهم كونه من الكبائر من غير فرق بين أن يترتّب على الخبر الكاذب مفسدة و أن لايترتّب عليه شيئ أصلاً.
ومما ذكر يظهر ما فى مصباح الفقاهة من أنّ الإطلاقات المتقدّمة لا تنهض لإثبات المطلوب، إمّا لضعف السند فيها أو لضعف الدلالة. و التحقيق أنّه لا دليل على جعل الكذب مطلقاً من الكبائر.(1)
و كيف كان، ففى قبال الأدلة المتقدّمة أخبار أخر يستدلّ بها على عدم كون الكذب على الإطلاق من الكبائر.
منها: معتبرة أبى خديجة عن أبى عبدالله عليه السلام قال: الكذب على الله و رسوله من الكبائر(2)، بدعوى أنّه ظاهر فى اختصاص الكبيرة بهذا الكذب الخاص لأنّه فى مقام التحديد فيقيّد به المطلقات الدالّة على كون الكذب بمطلقه من الكبائر.
وفيه كما أفاد سيّدنا الإمام قدس سره: أنّه لا دلالة له على عدم غيره من الكبائر، لأنّ نكتة اختصاصها بالذكر بعد أهميّة الموضوع لعلّها كثرة القالة على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم. و توهّم أنّه فى مقام التحديد كما ترى(3). و قال الشيخ الأعظم قدس سره أيضا: يمكن حملها على كون هذا الكذب الخاص من الكبائر الشديدة العظيمة، و لعلّ هذا أولى من تقييد
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 387.
(2) الوسائل، الباب 139 من أبواب العشرة، ج 12، ص 248، ح 3.
(3) المكاسب المحرّمة للإمام قدس سره، ج 2، ص 74.
ص: 158
المطلقات المتقدّمة.(1) و لعلّ وجه الأولوية هو عدم دليل على كونه فى مقام التحديد.
ومنها: صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: الكذّاب هو الذى يكذب فى الشيئ ؟ قال: لا، ما من أحد إلّا يكون ذاك منه ولكن المطبوع على الكذب.(2) و كيف كان، فهذه الرواية تدلّ بقوله: ما من أحد إلخ على أنّ كلّ أحد و إن كان مؤمنا يبتلى بالكذب، ولكن الكذّاب هو المطبوع و المجبون عليه، أو الذى صار الكذب ملكة له، فالكذب من اللمم الذى يصدر من كلّ أحد لا من الكبائر، فيخالف هذه الرواية ما دلّ على أنّ مطلق الكذب من الكبائر، أللّهمّ إلّا أن يقال كما فى إرشاد الطالب: لم يظهر منها كون مجرّد الكذب لمماً أو صغيرة حتى يوجب التقييد فى إطلاق ما دلّ على كونه من الكبائر.
بل ظاهرها: أنّ مجرّد الكذب أمر يبتلى به عامّة الناس، فلايجرى على الإنسان بمجرّده ما ذكر فى حقّ الكذّاب فى مثل قوله سبحانه: (إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ ) (3)، حيث أنّ إعراض الله عن إنسان و اضلاله مجازاة لايترتّب على مجرّد الكذب، بل على من يكون مطبوعا عليه، بحيث لو أراد أن يخبر فيكذب و هذا لا ينافى كون الكذب مطلقا من الكبائر.(4)
ومنها: مرسلة سيف بن عميرة عمّن حدّثه عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان على بن الحسين عليهما السلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير فى كلّ جدّ و هزل، فإنّ الرجل إذا كذب فى الصغير اجترأ على الكبير، أما علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: ما
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 50.
(2) الوسائل، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 245، ح 9.
(3) غافر، 28.
(4) إرشاد الطالب، ص 230.
ص: 159
يزال العبد يصدق حتّى يكتبه الله صدّيقا، و ما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه الله كذّابا.(1)
قال سيّدنا الامام المجاهد قدس سره: لا دلالة لها على المطلوب، بل و لا إشعار فيها به، لأنّ الاجتراء على المعصية الكبيرة بارتكاب الصغيرة طبيعىٌّ للنفس فأشار فى الرواية إليه. و التعليل صحيح موجّه بعد كون المحرّمات ذات مراتب؛ نعم، لولا كونها كذلك لكان لما ذكر وجه.(2)
و لايخفى عليك أنّ المقصود من الصغير و الكبير فى الرواية هو الصغير و الكبير من الأمور، لا أنّ ذنب الكذب ينقسم بالصغير و الكبير. و من المعلوم أنّ الاجتراء على الكذب فى الكبير من الأمور يحصل بارتكاب الكذب فى الصغير من الأمور، و هذا أمر واضح. و كيف كان، لايدلّ ذلك على عدم حرمة الكذب أو عدم كونه كبيرة حتّى يعارض ما سبق من الأدلّة الدالّة على حرمة الكذب و كونه كبيرة، هذا مضافا إلى ضعف الرواية سندا.
ومنها: صحيحة عبدالعظيم الحسنى عليه السلام المسوقه لبيان تعداد الكبائر الساكتة عن الكذب، فإنّ المستفاد منها أنّ الكذب بما هو كذب ليس من الكبائر ما لم ينضمّ إليه أمر آخر؛ و منها ما يترتّب على متعلّقه من المفاسد.(3)
و قد عرفت أنّ الصحيحة المذكورة لم يستقص جميع الكبائر كما يدلّ عليه عدم ذكر ترك الحجّ و عدم ذكر اللواط و غيرهما. و لعلّ الوجه فى عدم ذكر جميع الكبائر فيها بعد قول السائل: أحب ّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله هو خروج السائل و هو عمرو بن عبيد عن المجلس قبل تمام كلام الإمام عليه السلام و له صراخ من بكائه و هو
**********
(1) الوسائل، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 250، ح 1.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ص 79-78.
(3) بلغة الطالب، ج 1، ص 144.
ص: 160
يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم فى الفضل و العلم.
و من المعلوم أنّ المجلس الذى لم يتمّ لايدلّ على حصر الكبائر فى المذكور فيها، بل مع احتمال كون خروجه قبل تمامية المجلس لايدلّ على حصر الكبائر فضلا عن ظهور الرواية فى ذلك.
وينقدح مما تقدّم أنّ الكذب فى نفسه معصية كبيرة شرعا بإطلاق الأخبار المذكورة و لو لم يترتّب على متعلّقة المفاسد؛ هذا مضافا إلى إمكان تأييدها بأخبار كثيرة و لو لم تكن صحيحة.
قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: ثمّ إنّ الظاهر وجود الإطلاق و العموم فى أخبار كثيرة ربّما توجب كثرتها الاطمينان و الوثوق بصدور بعضها إجمالا، فلاينظر إلى ضعف أسانيدها، كرواية وصيّة النبى صلى الله عليه وآله و سلم لأبى ذرّ رضى الله عنه و فيها: و لا يخرجن ّ من فيك كذبة أبدا، قلت: يا رسول الله! فما توبة الرجل الذى يكذب متعمّدا؟ قال: الاستغفار و صلوات الخمس تغسل ذلك؛ إلى أن قال: و رواية عيسى بن حسّان قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: كلّ كذب مسؤول عنه إلّا كذبا فى الثلاثة. و نحوها رواية الطبرسى عنه عليه السلام و لعلّهما واحدة.
وعن جعفر بن أحمد القمّى عن أحمد بن الحسين بإسناده عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث: و الكذب كلّه إثم إلّا ما نفعت به مؤمنا إلخ.
و عن الطبرسى نحوه. و عن جامع الأخبار عن الصادق عليه السلام: الكذب مذموم، و فى دلالتها إشكال. و فى رواية أبى إسحاق الخراسانى قال: كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: إيّاكم و الكذب الخ. و فى رواية الحسن الصيقل عن أبى عبدالله عليه السلام: إنّ الله أحبّ ، إلى أن قال: و أبغض الكذب فى غير الصلاح.
و فى رواية أنس المتقدّمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: المؤمن إذا كذب لعنه سبعون ألف
ص: 161
ملك الخ. و عن فقه الرضا: و إيّاكم و الكذب فإنّه لايصلح إلّا لأهله. و عن علىّ عليه السلام: الكذب أقبح علّة. و عنه عليه السلام: لاسوءة أسوء من الكذب. وعنه عليه السلام أوصانى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حين زوّجنى فاطمة، فقال: إيّاك و الكذب فإنه يسوّد الوجه. و عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال: و اجتنبوا الكذب و إن رأيتم فيه النجاة، فإنّ فيه الهلكة. و عنه صلى الله عليه وآله و سلم: إيّاكم و الكذب فإنّه من الفجور و إنّهما فى النار.
و قد مرّ فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: و لعنة الله على الكاذب و إن كان مازحا، إلى غير ذلك. فلاينبغى الإشكال فى حرمته مطلقا إلّا ما استثنى.(1)
فتحصّل: أنّ الكذب عند الشرع معصية كبيرة و إن لم يترتّب عليه مفسدة و ذلك لإطلاق الأدلّة الشرعية.
الأمر الثالث: فى حرمة خلف الوعد، و قد عرفت فى الأمر الأول حقيقة الوعد و أنّه من باب الإنشاء نظير النذر و العهد فقولك. علىّ أن أفعل كذا كقولك: لله علىّ أن أفعل كذا. و من المعلوم أنّ الجمل الإنشائية لاتتّصف بالصدق و لا بالكذب بالمعنى المتعارف لأنهما من أقسام الخبر، و عليه فخلف الوعد ليس بحرام من جهة حرمة الكذب بمعناه المتعارف.
قال الشيخ الأعظم قدس سره فى ذيل قوله عليه السلام: «لايعدنَّ أحدكم صبيّه ثمّ لايفى به»: إنّ المراد به النهى عن الوعد مع إضمار عدم الوفاء و هو المراد ظاهرا بقوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) (2)، بل الظاهر عدم كونه كذبا حقيقيا و أنّ إطلاق الكذب عليه فى الرواية لكونه فى حكمه من حيث الحرمة، أو لأنّ الوعد مستلزم للإخبار
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 80-79.
(2) الصف، 3.
ص: 162
بوقوع الفعل، كما أن سائر الإنشاءات كذلك. و لذا ذكر بعض الأساطين أنّ الكذب و إن كان من صفات الخبر إلّا أنّ حكمه يجرى فى الإنشاء المنبئ عنه كمدح المذموم.
إلى أن قال: و كيف كان، فالظاهر عدم دخول خلف الوعد فى الكذب لعدم كونه (خلف الوعد) من مقولة الكلام؛ نعم، هو كذب بمعنى جعله (أى الوعد) مخالفا للواقع، كما أنّ إنجاز الوعد صدق له بمعنى جعله مطابقا للواقع، فيقال: صادق الوعد و وعد غير مكذوب. و الكذب بهذا المعنى ليس محرّما على المشهور و إن كان غير واحد من الأخبار ظاهرا فى حرمته (أى خلف الوعد) و فى بعضها الاستشهاد بالآية المتقدّمة.(1)
أحدها: أنّ المنهىَّ هو الوعد مع إضمار عدم الوفاء فى السنّة بقوله عليه السلام: لايعدنَّ أحدكم صبيّه ثمّ لايفى به. و فى الكتاب بقوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) (2). والظاهر منهما هو حرمة القول بلا عزم على العمل لا وجوب العمل بالقول، فلايجوز الوعد لمن لايفى بوعده، لا أنّه بعد الوعد يجب الوفاء به.
وثانيها: أنّ حرمة الوعد مع إضمار عدم الوفاء ليست من جهة كون الوعد كذبا حقيقيّاً، لأنّ الوعد من مقولة الإنشاء و لامجال للصدق و الكذب فى نفس الإنشاء.
وثالثها: أنّ حرمة الوعد المذكور إمّا من ناحية إلحاق الوعد المذكور فى الكتاب و السنّة بالكذب حكما فيكون كالكذب فى الحرمة، أو من ناحية استلزام الوعد المذكور للكذب من جهة أنّ مقتضى الوعد المذكور هو الإخبار بأنّى أعزم على كذا أو أفعل كذا، فإذا ضمّ إليه إضمار عدم الوفاء كان الإخبار الذى يكون لازما للوعد كذبا.
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 50.
(2) الصف، 3.
ص: 163
ورابعها: أنّ خلف الوعد أيضا ليس بكذب لعدم كون الخلف من مقولة الكلام، و الكذب و الصدق من أصناف الخبر و هو من الكلام. نعم، هو كذب بمعنى جعل الوعد مخالفا للواقع، كما أنّ إنجاز الوعد صدق بمعنى جعله مطابقاً للواقع. والكذب بهذا المعنى ليس بمحرّم على المشهور، و إن كان غير واحد من الأخبار ظاهرا فى حرمته (لقيام السيرة القطعيّة على خلافها، و سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى).
فتحصّل أنّ نفس الوعد إنشاء و خلفه ليس من مقولة الكلام، و المحرّم هو الإخبار الملازم بوجود العزم على كذا و كذا، أو الإخبار الملازم بوقوع كذا و كذا مع العزم على عدمه أو مع العلم بعدم وقوعه، و الإخبار على أىّ تقدير ليس بوعد، بل هو ملازم معه لأنّ الوعد إنشاء لا إخبار كما لايخفى.
و عليه فاللازم هو التفكيك بين نفس الوعد و ما يستلزمه من الإخبار فنفس الوعد ليس بمحرّم، بخلاف ما يستلزمه من الإخبار، فإنّه كذب فيما إذا عزم على العدم أو علم بعدم وقوعه. نعم، لو عزم على الفعل و اعتقد بوقوعه و وعد و أخبر بوقوعه، ثمّ انصرف لم يفعل محرّما و لايجب عليه جعل خبره صادقا بفعله فى المستقبل لعدم كونه مشمولا لدليل حرمة الكذب و لو اتّصف خبره السابق بالكذب بعد ترك الفعل.
قال فى إرشاد الطالب: و الدليل على ذلك أنّ ظاهر الدليل هو حرمة جعل الكذب و إيجاده بمفاد كان التامة لاجعل الخبر الصادر سابقا كاذبا.(1)
و مما ذكر يظهر ما فى مصباح الفقاهه، حيث جعل الأخبار المستلزمة من أقسام الوعد و قال: القسم الثالث: أنّه هو إخبار المتكلّم عن الوفاء بأمر مستقبل كقوله: أجيئك غدا أو أعطيك درهما بعد ساعة أو أدعوك إلى ضيافتى بعد شهر، و هذه
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 231.
ص: 164
جمل خبريّة بالحمل الشايع، ولكنّها مخبرة عن أمور مستقبلة كسائر الجمل الخبريّة الحاكية عن الحوادث الآتية. و لا شبهة فى اتّصاف هذا القسم من الوعد بالصدق و الكذب، فإنّها عبارة عن موافقة الخبر للواقع و عدم موافقته له من غير فرق بين أنواع الخبر، و هو واضح.(1)
مع وضوح أنّ الوعد من الإنشاءات و الأخبار المذكورة من لوازم الوعد و ليست بنفسها من الوعد، و إطلاق الوعد عليها باعتبار ملزومها مجاز كما لايخفى، و تلك الأخبار تكون كذبا و لو لم تكن مسبوقة بالوعد إذا كانت مخالفة للواقع، فلاتغفل.
و قد انقدح مما تقدّم أنّه لا دليل على حرمة خلف الوعد الإنشائى من ناحية الكذب لاختصاص الكذب بالخبر و خلف الوعد الإنشائى ليس من مقولة الكلام و الخبر، كما أنّ جعل الوعد مخالفا للواقع لادليل على حرمته؛ نعم، هنا روايات أخرى تدلّ على وجوب الوفاء بالوعد و حرمة مخالفته و هى كثيرة.
منها: صحيحة شعيب العقرقوفىّ عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليف إذا وعد.(2)
ومنها: صحيحة هشام بن سالم قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: عدة المؤمن اخاه نذر لاكفّارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ و لمقته تعرّض و ذلك قوله: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) .(3) صدر الرواية يدلّ على وجوب الوفاء و حرمة الخلف لتنزيله منزلة النذر. و ذيله يدلّ على حرمة الوعد لمن لا يريد
**********
(1) راجع مصباح الفقاهة، ج 1، ص 390.
(2) الوسائل، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 165، ح 2.
(3) الصف، 3-2. الوسائل، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 165، ح 3.
ص: 165
الوفاء بوعده، لأنّه بعد الوعد يجب عليه الوفاء، و عليه يحمل الخلف على ما إذا لم يرد الوفاء من أوّل الأمر أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ لقوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) مصداقين: أحدهما: هو أن يعد و لم يعزم على الوفاء. و ثانيهما: هو أن يعد و عزم ولكن يخالف بعد ذلك، فالنهى فى الصورة الثانية عن عدم الوفاء، لانفس الوعد.
ومنها: ما عن نهج البلاغة فى عهد أميرالمؤمنين عليه السلام إلى الأشتر: و إيّاك و المنّ على رعيّتك باحسانك أو التزيّد فيما كان من فعلك، و أن تعدهم فتتّبع موعودك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحقّ ، و الخلف يوجب المقت عند الله و عند الناس؛ قال الله سبحانه: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) (1). و التقريب فيه كالتقريب المذكور فى صحيحة هشام بن سالم.
ومنها: الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه على بن الحسين عن أبيه عن على بن أبى طالب أنّه قال: ما اُبالى أخلفت موعدا أو زرت زائرا بغير حاجة. (و فى الحاشية هكذا كان الأصل، و الظاهر أنّه مصحّف أو رددت كما لايخفى)(2).
ومنها: ما عن نزهة الناظر عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قال: اكفلوا لى ستّاً أكفل لكم بالجنّة: إذا تحدّث أحدكم فلايكذب و إذا وعد فلايُخلف.(3) و لعلّه أنسب بالحكم الأخلاقى إذ تكفّل الجنّة لايلازم الوجوب، كما ورد: «من زار فاطمة بقم فله الجنّة»، و من المعلوم أن زيارة فاطمة عليها السلام بقم ليست بواجبة.
ومنها: معتبرة سماعة بن مهران عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال: من عامل الناس فلم
**********
(1) المستدرك، الباب 92 من أبواب العشرة، ج 8، ص 459، 460، ح 6.
(2) المستدرك، الباب 92 من أبواب العشرة، ج 8، ص 459، ح 5.
(3) المستدرك، الباب 92 من أبواب العشرة، ج 8، ص 460، ح 9.
ص: 166
يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم كان ممّن حرمت غيبته و كملت مروّته و ظهر عدله و وجبت أخوّته.(1)
قال العلّامة المجلسى، يدلّ على أنّ من أخلف الوعد تجوز غيبته و معلومٌ أنّه ليس تجويز الغيبة هنا إلّا من جهة الفسق. فإن قيل: المترتّب على هذه الصفات أربعة أمور مفهومه أنّ مع عدم كلّ من تلك الخصال لاتجتمع تلك الأربعة، فلعلّ ذلك بانتفاء أمر آخر سوى حرمة الغيبة.
قلت: الظاهر من العطف استقلال كلّ فى الحكم، كما إذا قلت: جاء زيد و عمرو، كان بمنزلة قولك: جاء زيد و جاء عمرو، و كون الواو بمعنى «مع» نادر. ثمّ اعلم أنّه لابدّ من تقييد الخبر بما إذا لم يرتكب ساير الكبائر، بل المقصود فى الخبر إفادة المفهوم لاالمنطوق، فافهم.(2)
ومنها: خبر يزيد الصايغ، قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: رجل على هذا الأمر ان حدّث كذب و إن وعد أخلف و إن ائتمن خان، ما منزلته ؟ قال: هى أدنى المنازل من الكفر و ليس بكافر،(3) بناءً على أنّ الظاهر من العطف استقلال كلّ شرط و جزاء فى السببيّة للجواب الذى أفاده الإمام عليه السلام، و إلّا فالمجموع سبب، لا كلّ واحد من الشرط و الجزاء، و معه لامجال لاستفادة حرمة خلف الوعد بوحدته لاحتمال دخالة مجموع الجمل الشرطية فى ذلك.
ومنها: خبر عبدالله بن سنان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: ثلاثٌ
**********
(1) الوسائل، الباب 152 من أبواب العشرة، ج 12، ص 279، ح 2.
(2) مرآة العقول، ج 11، ص 26-25.
(3) اصول الكافى، ج 2، ص 290، ح 5.
ص: 167
من كنّ فيه كان منافقا و إن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف. إنّ الله عزّوجلّ قال فى كتابه: (إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ ) (1) و قال: (أَنَّ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ ) (2)، و فى قوله عزّوجلّ : (وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (3). و فى دلالته تأمّل، إذ تعريف إسماعيل (على نبينا و آله و عليه السلام) لايدلّ على وجوب الاتّصاف بهذا الوصف الممدوح؛ هذا مضافا إلى اختصاص قوله عزّوجلّ : (أَنَّ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ ) باللعان، فلايعمّ غير هذا المورد.
هذا مضافا إلى الأدلّة الدالّة على وجوب الوفاء بالعهد و الشرط. قال العلّامة المجلسى قدس سره: و يستفاد من عموم كثير من الآيات أيضا ذلك (أى حرمة خلف الوعد)، نحو قوله سبحانه: (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً) (4). و يشمل بعمومه أو إطلاقه عهود الخلق أيضا، و العهد و الوعد متقاربان. و قوله: (وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا) (5)، انتهى.
وفيه: أنّ الأمر بالعهد مع عدم كون المراد عهدا خاصّاً يدلّ بإطلاقه على وجوب الوفاء بالوعد، و أما التعريف بمثل قوله (اَلْمُوفُونَ ) الآية، فلا يدلّ على الوجوب و اللزوم.
قال العلّامة المجلسى: و روى الصدوق فى الخصال بإسناده عن عنبسة بن مصعب قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: ثلاثة لم يجعل الله تعالى لأحد فيه رخصة: برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين، و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر، و أداء الأمانة للبرّ و الفاجر.
**********
(1) الأنفال، 58.
(2) النور، 7.
(3) مريم، 54. اصول الكافى، ج 2، ص 291، ح 8.
(4) الإسراء، 34.
(5) البقرة، 177.
ص: 168
و يؤيّدها أيضا أخبار كثيرة، كما روى الكلينى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: إذا قال الرجل للرجل هلمّ أحسن بيعك يحرم عليه الربح.
و قد ورد فى أخبار صحيحة و غير صحيحة: المسلمون عند شروطهم إلّا ما خالف كتاب الله، و ليس فيها التقييد بكونها ضمن العقد.
و كذا ما روى الشيخ فى التهذيب بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبى جعفر عن أبيه عليهما السلام أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف به، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، انتهى.(1)
لايقال: إنّ الشرط ظاهر فى غير الوعد فالتمسّك بقوله صلى الله عليه وآله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم» أجنبى عن المقام.
لأنّا نقول: إنّ الشرط بمعنى الالتزام، و الوعد أيضا هو الالتزام، فلاوجه لمنع شمول الشرط للوعد و عدم إطلاق الشرط على الوعد فى زماننا هذا لايضرّ مع صدقه فى السابق من الزمن.
إن قيل: إنّ مقتضى ما فى القاموس من أنّ الشرط إلزام الشيئ و التزامه فى البيع و نحوه عدم شمول الإلزام و الالتزام الابتدائى، قلنا: قال بعض الأكابر: إنّ البيع ليس قيداً لقوله إلزام الشيئ و التزامه، بل المراد منه بيان موارد الإلزام و الالتزام، و يؤيّده أنّه لم يذكر القيد المذكور فى ساير اللغات المعتبرة.
و لذا قال فى مصباح اللغة: من دون قيد شيئ آخر شرط الحاجم شرطا من بابى ضرب و قتل إلخ. و قد ورد: أنّ شرط الله قبل شرطكم، مع أنّ شرطه تعالى لم يكن
**********
(1) مرآة العقول، ج 11، ص 27-26.
ص: 169
فى ضمن شيئ كالبيع و نحوه؛ نعم، لو قيل: شرط فيه كان الظاهر منه أنّ الالتزام كان فى ضمن شيئ آخر و ليس التزاما ابتدائيا.
ثمّ إنّ العهد بإطلاقه يشمل الوعد أيضا لأنّ الالتزام بشيئ للغير يصدق عليه العهد، فلاوجه لدعوى عدم شموله. و الظاهر تماميّة الأدلّة المذكورة لإثبات وجوب الوفاء بالوعد و حرمة خلفه وكيف كان، ففى قبال الأدلّة المتقدّمة الظاهرة فى وجوب الوفاء و حرمة خلفه تكون أدلّة أخرى تدلّ على عدم وجوب الوفاء و عدم حرمة خلفه.
قال العلّامة المجلسى قدس سره: و قد يستدلّ على أنّ محض المواعدة لايوجب الوفاء حتّى من الجانبين بأخبار العينة.(1)
منها: ما رواه الكلينى بإسناده عن الحسين بن المنذر قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: يجيئنى الرجل فيطلب العينة فأشترى له المتاع مرابحة، ثمّ أبيعه إيّاه، ثمّ اشتريه منه مكانى، قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع و إن شاء لم يبع و كنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت و إن شئت لم تشتر، فلابأس.
و بإسناده عن خالد بن الحجّاج قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: الرجل يجيئ فيقول: اشتر هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، قال: أليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لابأس به إنّما يحلّ الكلام و يحرّم الكلام.
و بإسناده أيضا عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: يجيئنى الرجل فيطلب منّى بيع الحرير و ليس عندى منه شيئ فيقاولنى عليه و أقاوله فى الربح والاجل حتّى نجتمع على شيئ، ثمّ أذهب فأشترى له الحرير فأدعوه إليه، فقال: أرأيت
**********
(1) بيع العينة أن يأتى الرجل رجلا ليستقرضه، فلايرغب المقرض فى الإقراض طمعا فى الفضل الذى لاينال بالقرضة. فيقول: أبيعك هذا الثوب بإثنى عشر درهما إلى أجل و قيمته عشرة. فيستفيد درهمين بمقابلة الأجل. و يسمّى عينه، لأنّ المقرض أعرض من القرض إلى بيع العين.
ص: 170
إن وجد بيعا هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه و يدعك أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه و تدعه ؟ قلت: نعم، قال: لابأس. و روى مثله بأسانيد كثيرة، انتهى.
و وجه الاستدلال بها أنّها تدلّ على أنّ المواعدة بينهما على البيع و الشراء و لو كانت حتميّة لايوجب لزوم الوفاء من الجانبين ما لم يكن وكالة فى البين، و لا يكاد أن يكون مطالبة العينة بيعا و شراء، و إلّا لزم أن يكون البيع من دون ملك، مع أنّ الملكيّة من المقوّمات للبيع، كما دلّ عليه قوله عليه السلام: لا بيع إلّا فى ملك، فإذا لم يكن بيعا وكالة أو إصالة فمطالبة العينة مواعدة و لاتوجب الوفاء و لو كانت حتميّة و هو المطلوب.
قال العلّامة المجلسى قدس سره: يحتمل أن يكون المعنى أنّها ليست مواعدة حتميّة، بل يقول: اشتر لنفسك إن شئت اشتريته منك و إلّا فلا، لكنّه بعيد، انتهى. و من المعلوم أنّ مع كون المواعدة غير الحتميّة بعيدة، انحصر الأمر فى المواعدة الحتميّة؛ و عليه فقوله: أليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ فى المواعدة الحتمية يدلّ على عدم لزوم الوفاء بالمواعدة الحتمية، و إلّا فلامجال للاستفهام المذكور بعد حتميّة المواعدة.
ثمّ زاد العلّامة المجلسى قدس سره فى الاستدلال لعدم لزوم الوفاء بالمواعدة بقوله: و أقول: يمكن أن يستدلّ بما ورد فى الأيمان و النذور من أنه مع عدم التلفّظ بالصيغة بشرائطها لايلزمه الوفاء بها، و ظاهره شمولها لما إذا وقعت المواعدة بينهما.(1)
وفيه: أنّ النظر فى باب الأيمان و النذور ليس إلى المواعدة، فلاوجه للتمسك بإطلاق كلامهم فى باب النذور و الإيمان و الحكم بعدم لزوم الوفاء بالمواعدة.
**********
(1) مرآة العقول، ج 11، ص 27.
ص: 171
و كيف كان، فمقتضى الجمع بين هذه الأخبار بناء على تمامية مدلولها و بين الأخبار الدالّة على وجوب الوفاء هو حمل الأخبار الدالّة على وجوب الوفاء على الاستحباب المؤكّد أو الأخبار الدالّة على حرمة المخالفة على الكراهة. و إن أبيت عن جميع ذلك فالسيرة القطعية تكفى فى جواز خلف الوعد.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: إنّ السيرة القطعية بين المتشرّعة قائمة على جواز خلف الوعد و على عدم معاملة من أخلف بوعده معاملة الفسّاق. و لم نعهد من أعاظم الأصحاب أن ينكروا على مخالفة الوعد كإنكارهم على مخالفة الواجب و ارتكاب الحرام، فهذه السيرة القطعيّة تكون قرينة على حمل الأخبار المذكورة على استحباب الوفاء بالعهد و كراهة مخالفته، إلى أن قال: و مع ذلك كلّه فرفع اليد عن ظهور الروايات و حملها على الاستحباب يحتاج إلى الجرأة، و الأوفق بالاحتياط هو الوفاء بالعهد.(1)
و قد تقدّم أنّ مقتضى الجمع بين الأدلة هو رفع اليد عن ظهور الروايات و حملها على الاستحباب، و معه لاحجّة على الحرمة أو وجوب الوفاء، فتدبّر جيّداً. و لعلّه لذا ذهب المشهور إلى عدم وجوب الوفاء بالوعد.
قال العلّامة المجلسى قدس سره: وظاهر أكثر أصحابنا استحباب الوفاء به إن لم يكن فى ضمن عقد لازم.(2)
و قال فى موضع آخر: ظاهر المحقّقين من أصحابنا و المخالفين أنّ الوعد من نوع الخبر و هو محتمل الصدق و الكذب و كذا الوعيد، مع أنّ ظاهر أكثر أصحابنا أنّ
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 393.
(2) مرآة العقول، ج 11، ص 25.
ص: 172
الوفاء بالوعد مستحبّ ، كما قالوا فى كثير من الشروط: إذا لم يكن فى ضمن العقد اللازم هو وعد يستحبّ الوفاء به و لنذكر، إلى أن قال: و أقول: كلام كثير من أصحابنا جار هذا المجرى، و سلّموا كون الوعد أو الوعيد خبراً، فعلى هذا يشكل القول بجواز مخالفة الوعد من غير عذر و مصلحة.(1)
ظاهره أنّهم مع ذهابهم إلى أنّ الوعد من أنواع الخبر كيف قالوا باستحباب الوفاء و عدم حرمة خلف الوعدة، مع أنّ مقتضى كونه من الخبر هو القول بوجوب الوفاء و حرمة خلف الوعد، لأنّ عدم الوفاء يوجب الكذب، أللّهمّ إلّا أن يقال: إن جعل الخبر كذبا غير احداث الكذب، و الثانى ممنوع بخلاف الأوّل. و لذا قال العلّامة المجلسى قدس سره: و لو كان قبح خلف الوعد من جهة الكذب لزم إذا قال رجل: أركب غداً، مخبراً بذلك من غير أن يعد أحداً ثمّ بدا له و لم يركب أن يكون عاصيا، و لعلّه مما لم يقل به أحد، فالأولى جعلهما (الوعد و الوعيد) من قبيل الإنشاء لاالخبر، فلايوصفان بالصدق و الكذب، و إطلاقهما عليهما على التوسّع والمجاز.(2)
ولقد أفاد و أجاد قدس سره حيث قال: إنّ الوعد و الوعيد من قبيل الإنشاء لاالخبر، فلايوصفان بالصدق و الكذب، و لعلّ منشأ توصيفهما بالكذب و الصدق هو الإخبار الالتزامى الذى يكون مقارنا لإنشاء الوعد فيختلف أحكامهما مع اتّصاف الإخبار الالتزامى بالصدق و الكذب لايستلزم اتّصاف نفس الوعد بهما، إلّا من باب التوسعة و المجاز. هذا كلّه بالنسبة إلى الوعد.
و أمّا الوعيد فهو أيضا إنشاء لا إخبار، و يجرى فيه ما يجرى فى الوعد و لادليل
**********
(1) مرآة العقول، ج 11، ص 37-31.
(2) مرآة العقول، ج 11، ص 37-31.
ص: 173
على وجوب الوفاء بالوعيد، بل قد يحرم فى بعض الموارد، كما إذا لم يكن من أوعد عليه مستحقّاً للوعيد. نعم، من استحقّ الوعيد كان العفو عنه حسنا غالبا، لأنّ العفو من الصفات الحسنة، فهل يكون العفو موجبا للكذب أو لا؟ و الظاهر هو الثانى خلافا للعلّامة المجلسى قدس سره، حيث قال: و أما الوعيد فتكون مخالفته من قبيل الكذب المجوّز للمصلحة، إذ لا خلاف فى أنّ خلف الوعيد ليس بحرام بل هو حسن، فيكون جوازه مشروطا بمصلحة مجوّزة للكذب.(1)
وفيه: أنّ الوعيد كالوعد إنشاء التزام، و حيث أنّه ليس بخبر فمخالفته ليست من قبيل الكذب حتى يحتاج جواز الكذب إلى المصلحة، بل المخالفة هى العفو و هو من الصفات الحسنة. و أمّا الإخبار الالتزامى فهو لم يصدر كذبا و لاملزم على جعله صدقا، كما لا دليل على حرمة خلفه كما مرّ فى الوعد. و الله العالم.
الأمر الرابع: فى حرمة الهزل من الكذب، لاإشكال فى الحرمة لصدق الكذب عليه إذا قصد الحكاية فيعمّه عمومات حرمة الكذب. قال شيخنا الأعظم قدس سره: ظاهر خبر سيف بن عميرة عمّن حدّثه عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان على بن الحسين عليهما السلام يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه و الكبير فى كلّ جدّ و هزل، فإنّ الرجل إذا كذب فى الصغير اجترأ على الكبير، الحديث.(2)
و خبر الحارث الأعور عن على عليه السلام قال: لايصلح من الكذب جدّ و لا هزل، و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثمّ لايفى له، إنّ الكذب يهدى إلى الفجور والفجور يهدى إلى النار، و ما يزال أحدكم يكذب حتّى يقال: كذب و فجر، و ما يزال أحدكم يكذب حتّى
**********
(1) مرآة العقول، ج 11، ص 37-31.
(2) الوسائل، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 250، ح 1.
ص: 174
لايبقى موضع إبرة صدق فيسمّى عندالله كذّابا.(1)
ثمّ قال: و يمكن أن يراد به الكذب فى مقام الهزل، و أمّا نفس الهزل و هو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقّق مدلوله، فلايبعد أنّه غير محرّم مع نصب القرينة على إرادة الهزل، كما صرّح به بعض، و لعلّه لانصراف الكذب إلى الخبر المقصود و للسيرة. و يمكن حمل الخبرين على مطلق المرجوحية. و يحتمل غير بعيد حرمته لعموم ما تقدّم خصوصا الخبرين الأخيرين و النبوى فى وصية النبى صلى الله عليه وآله و سلم لأبى ذرٍّ: ويل للّذى يحدّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له، ويل له(2). لأنّ الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهزل.
و عن الخصال بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: أنا زعيم بيت فى أعلى الجنة و بيت فى وسط الجنة و بيت فى رياض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقّاً و لمن ترك الكذب و إن كان هازلا و لمن حسن خلقه(3). وقال أميرالمؤمنين (فى معتبرة الأصبغ بن نباتة): لايجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجدّه(4).
والظاهر أنّ قوله: و يحتمل غير بعيد حرمته الخ راجع إلى ما إذا أراد به الكذب فى مقام الهزل، لا ما إذا أراد نفس الهزل، إذ الأول يمكن أن يكون مشمولا لعموم أدلّة حرمة الكذب بخلاف الثانى، فإنّه ليس بكذب مع عدم القصد و الحكاية كما لايخفى.
و لقد أفاد و أجاد السيّد المحقّق الخوئى قدس سره فى توضيح كلام الشيخ الأعظم قدس سره،
**********
(1) الوسائل، الباب 140 من أحكام العشرة، ج 12، ص 251-250، ح 3.
(2) الوسائل، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 251، ح 2.
(3) الوسائل، الباب 135، من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ح 8 و 7.
(4) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 50.
ص: 175
حيث قال: إنّ الكذب المسوق للهزل على قسمين: فإنّه قد يكون الهازل بكذبه مخبرا عن الواقع ولكن بداع المزاح و الهزل من دون أن يكون إخباره مطابقا للواقع كأن يخبر أحدا بقدوم مسافر له أو حدوث حادث أو وصول حاجة ليغترّ المخاطب بقوله، فيترتّب عليه الأثر فيضحك منه الناس. و هذا لاشبهة فى كونه من الكذب، فإنّه عبارة عن الخبر غير الموافق للواقع، و اختلاف الدواعى لايخرجه عن واقعه و حقيقته. و إذن فيكون مشمولا لما دلّ على حرمة الكذب.
و قد يكون الكلام بنفسه مصداقا للهزل، بحيث يقصد المتكلّم إنشاء بعض المعانى بداعى الهزل المحض من غير أن يقصد الحكاية عن الواقع ليكون إخبارا و لايستند إلى داع آخر من دواعى الانشاء.
و مثاله أن ينشئ المتكلّم وصفا لأحد من حضّار مجلسه بداعى الهزل، كإطلاق البطل على الجبان، و الزكّى على الأبله، و العالم على الجاهل؛ و هذا لادليل على حرمته مع نصب القرينة عليه كما استقربه المصنّف.
و الوجه فى ذلك هو أنّ الصدق و الكذب إنّما يتّصف بهما الخبر الذى يحكى عن المخبر به، و قد عرفت أنّ الصادر عن الهازل فى المقام ليس إلّا الإنشاء المحض، فيخرج عن حدود الخبر موضوعا.(1)
أحدهما: هو أن يقصد به الحكاية بداعى الهزل، و لا اشكال فى حرمته لكونه مشمولا لعمومات حرمة الكذب، و الأخبار المذكورة فى باب الهزل محمولة على هذا القسم بناء على تماميتها سندا و دلالة، و إلّا فيكفى العمومات.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 389.
ص: 176
وثانيهما: هو أن لايقصد به الحكاية، و من المعلوم أنّ الهزل فى هذا القسم ليس بخبر حتى يتّصف بالكذب حقيقة.
قال فى بلغة الطالب: إنّه مع عدم القصد لايتّصف بأنه خبر، فكيف يكون كذبا؟ و من أىّ جهة يحتاج إلى قرينة ؟ و لو فرضنا حرمته فهو فى غير جهة الكذب بل بعنوان آخر، و عليه فلايحتاج إلى دعوى السيرة و الانصراف. و قوله (أى قول الشيخ فى المكاسب): و يحتمل غير بعيد حرمته لايمكن أن يريد منه هذا الذى فرض خلوّه عن القصد، فيجب حمله على ما إذا قصد من الكلام الإخبار، لكن لابداعى الإخبار بل بداعى الهزل، إذ هذا هو الذى يمكن دعوى شمول الإطلاق له(1).
فتحصّل: أن الكذب الهزلى الذى قصد به الإخبار بداعى الهزل يكون محرّما، و الدليل عليه هو عمومات حرمة الكذب، فلايضرّ ضعف سند الأخبار الخاصّة كالنبوى صلى الله عليه وآله و سلم و مرسلة سيف بن عميرة و خبر الحارث الأعور، أو ضعف دلالتها كخبر الخصال و معتبرة الأصبغ بن نباتة، فلاتغفل.
الأمر الخامس: فى المبالغة فى الإدّعاء، قال الشيخ الأعظم قدس سره: لاينبغى الإشكال فى أنّ المبالغة فى الإدعاء و إن بلغت ما بلغت ليست من الكذب. و ربّما يدخل فيه إذا كانت فى غير محلّها، كما لو مدح إنسان قبيح المنظر و شبّه وجهه بالقمر، إلّا إذا بنى على كونه كذلك فى نظر المادح، فإنّ الأنظار تختلف فى التحسين و التقبيح كالذوائق فى المطعومات.(2)
قال الميرزا الشيرازى قدس سره فى ذيل قوله و ربّما يدخل فيه الخ: يعنى موضوعا إذا
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 145-144.
(2) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 50.
ص: 177
أريد بقوله: فلانٌ وجهه كالبدر الإخبار بحسن وجهه مع كمال قبح منظره، و حكماً أو التزاماً إذا أريد إنشاء مدحه على وجه المبالغة.(1)
أمّا ان المبالغة فى الادعاء ليست بكذب و لو بلغت ما بلغت، فلأنّها ليست إلّا إنشاء مدح أو ذمّ على نحو المبالغة و الكذب من أقسام الخبر و لاربط له بباب الإنشاء، و عليه فلا تدخل المبالغة فى الكذب موضوعا إذا لم يقصد بها الإخبار كإرادة الهزل التى عرفت أنها لاتدخل فى الكذب إذا لم يقصد به الحكاية، بل هو إنشاء و لاربط له بالخبر.
نعم، حيث أنّ إنشاء المدح أو الذمّ مستلزم للإخبار بمقدار من الحسن أو الذم حتى يقبل المبالغة فيه، فإذا كان هذا المقدار موجودا فإنشاء المدح أو الذمّ يكون صادقا باعتبار الإخبار المذكور، و إذا لم يكن له حسن أو ذم رأسا يكون الإنشاء المذكور كذبا باعتبار مدلوله الالتزامى لا باعتبار نفسه، فالمبالغة فى الإدعاء تخرج عن الكذب موضوعا و إن كانت ملحقة بالكذب فى الحرمة باعتبار لازمه فيما إذا كان كذبا، كما إذا لم يكن فيه مقدار من الحسن أو الذم حتى يقبل المبالغة.
قال سيّدنا الإمام المجاهد: و فى المبالغات و الكنايات و المجازات لم تستعمل الألفاظ فى المعانى التى يراد الإخبار بها جدّا و ليست من قبيل استعمال اللفظ فى غير ما وضع له حتى المجازات على ما هو التحقيق من أنها من قبيل الحقائق الإدعائية، لا كما ذكره السَّكاكى فى الاستعارة، بل باستعمال اللفظ فى معناه الموضوع له. و تطبيق المعنى على المراد الجدّى إدعاء.
ففى مثل: «زيد أسد»، استعمل لفظ الأسد فى معناه و ادّعى أن زيدا مصداق
**********
(1) التعليقة، ص 128.
ص: 178
لماهيّة الأسد، فعليه لايكون قوله ذلك مع عدم شجاعة زيد كذبا. أمّا بالنسبة إلى المفاد الاستعمالى فلعدم تعلّق الارادة الجدية به و سيأتى اعتباره فى الصدق و الكذب لاالجدّ مقابل الهزل بل مقابل الاستعمال. و أمّا بالنسبة إلى المعنى المراد أى الإخبار بالشجاعة فلعدم التلفّظ به، و أوضح منها الحال فى الكنايات و المبالغات.(1)
ولايخفى عليك أنّ عدم كون الإخبار بالشجاعة ملفوظا به لايمنع عن صدق الكذب بالنسبة إليه لو لم يكن كذلك واقعا لأنّه كالملفوظ. نعم، لايوجب ذلك كون نفس إنشاء المدح كذبا كما عرفت. فتحصّل أنّه لاوجه لإدراج المبالغة المذكورة فى الكذب موضوعا، كما يظهر من الشيخ و الميرزا الشيرازى قدس سره. و إن كانت مثل الكذب فى كونه محرّما من جهة استلزامها للإخبار بوجود حسن أو ذمّ بمقدار حتى يقبل المبالغة، مع أنّه ليس كذلك.
الأمر السادس: فى حرمة التورية و عدمها، قال شيخنا الأعظم قدس سره: و أمّا التورية و هو أن يريد بلفظ معنى مطابقا للواقع و قصد من إلقائه أن يفهم المخاطب منه خلاف ذلك مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب أو المخاطب الخاص، كما لو قلت فى مقام إنكار ما قلته فى حقّ أحد: علم الله ما قلته، وأردت بكلمة ما الموصولة و فهم المخاطب النافية، و كما لو استأذن رجل بالباب فقال الخادم: ما هو هيهنا و أشار إلى موضع خال فى البيت، و كما لو قلت: اليوم ما أكلت الخبز، تعنى بذلك حالة النوم أو حالة الصلاة، إلى غير ذلك.
و بالجملة، فلا ينبغى الإشكال فى عدم كونها من الكذب. و الوجه فيه كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره: أنّ الخبر باعتبار معناه و هو المستعمل فيه كلامه ليس مخالفا
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 34-33.
ص: 179
للواقع؛ و إنّما فهم المخاطب من كلامه أمرا مخالفا للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ. نعم، لوترتّب عليها مفسدة حرمت من تلك الجهة لا من ناحية الكذب.
ذهب الميرزا القمى قدس سره فى محكىّ كلامه إلى أنّ المعتبر فى اتّصاف الخبر بالصدق و الكذب ما يفهم من ظاهر الكلام لا ما هو المراد منه، فلو قال: رأيت حمارا و أراد منه البليد من دون نصب قرينة فهو متّصف بالكذب و إن لم يكن المراد مخالفا للواقع.
أجاب عنه الشيخ الأعظم بقوله: بأنه إن أراد اتّصاف الخبر فى الواقع فقد تقدّم أنّه دائر مدار موافقة مراد المخبر و مخالفته للواقع، لأنه معنى الخبر و المقصود منه دون ظاهره الذى لم يقصد و إن أراد اتصافه عند الواصف (أى المخاطب)، فهو حق مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر، لكنَّ توصيفه حينئذ باعتقاد أنّ هذا هو مراد المخبر و مقصوده فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم و إن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب.
ثمّ استدلّ الشيخ قدس سره بآيات و روايات لسلب الكذب عن التورية. منها: ما روى فى الاحتجاج من أنه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل فى قصة إبراهيم (على نبينا وآله و عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) ، قال: ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم، قيل: و كيف ذلك ؟ فقال: إنّما قال إبراهيم: إن كانوا ينطقون، أى إن نطقوا فكبيرهم فعل و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم فما نطقوا و ما كذب إبراهيم.
قال بعض الأكابر: قوله عزّوجلّ : (إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) ، يكون شرطا لصدور الفعل و هو الكسر و معناه أنّ المعبودات إن كانوا أهل تمييز و عقل و شعور أقدم بعضهم على كسر البعض، فصدر ذلك أى كسر الجميع من الكبير و كان الكسر فعله لكونه أقدر من غيره و إن لم يكونوا كذلك و ليس لهم عقل و شعور و تمييز لم يقدموا على ذلك و لم يصدر من كبيرهم ذلك أى الكسر، فالملازمة بين كونهم أهل تمييز و عقل و شعور
ص: 180
و صدور الكسر من كبيرهم موجودة و صحّت القضية الشرطية، و لعلّ قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) يكون مكان «كان فعله» لإمكان جوازه فى الأدبية.
و أمّا قوله: (فَسْئَلُوهُمْ ) فهو أيضا مشروط بقوله: (إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) و لا يضرّ أن يكون (إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) شرطا للأمرين: أحدهما (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) وثانيهما: قوله (فَسْئَلُوهُمْ ) ، بل القدر المتيقّن أن يكون شرطا لقوله: (فَسْئَلُوهُمْ ) ، ولكن الرواية الواردة تدلّ على كونه شرطا أيضا لقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ، كما لايخفى.
لايقال: إنّ هذا الفعل الجزئى و هو الكسر الواقع من إبراهيم عليه السلام غير صادر عن الأصنام، سواء فرض كونهم ناطقين أو لا، فكيف يصحّ دعوى الملازمة بين قوله (إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) و بين قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ، مع أنّ اللازم فى القضية الشرطية هو ثبوت الملازمة بين الشرط و الجزاء، لأنّا نقول: لامنافاة بين التنجيز و التعليق، فإنّ صدور الفعل و هو الكسر من إبراهيم عليه السلام تنجيز و صدور هذا الفعل من الأصنام معلّق على كونها من أهل القوة و القدرة، و الملازمة بين كونهم ناطقين و الكسر على تقدير كونهم من أهل القوة و القدرة ثابتة.
هذا مضافا إلى ما أجابه الميرزا الشيرازى من أنّ المقصود هو عدم النطق الذى هو كناية عن عدم القوة و القدرة على شيئ و هو مستلزم لعدم صدور الأفعال الاختيارية عنها، و لعلّه لذلك لم يكتف عليه السلام (فى الرواية) بذكر الشرطية الأولى الدالّة على الملازمة بين الفعلين، بل أضاف إلى ذلك قوله عليه السلام: و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا.(1)
ثمّ إن جعل الشرط فى القضية قيدا للحكاية لالاستناد الكسر إلى كبيرهم، بحيث
**********
(1) تعليقة الميرزا الشيرازى على مكاسب الشيخ الأعظم قدس سره، ص 129-128.
ص: 181
يكون المعنى: إنّ حكايتى عن استناد الكسر إلى كبيرهم معلّقة على تكلم الأوثان خلاف الظاهر، لأنّ مفاد القضية الشرطية ترتّب مضمون الجزاء على مضمون الشرط لاحكاية وجود مضمون الجزاء على مضمون الشرط.
و قد يقال فى الجواب عن الإشكال: إنّ الظاهر أنّه على تقدير صحّة رواية الاحتجاج و صدورها عن المعصوم عليه السلام يراد من الشرطية الشرطية الاتفاقية لا الحقيقية، و يكون الغرض من تلك الاتفاقية مجرد نفى المقدم لانتفاء التالى، و لهذه القضية الشرطية نظائر فى العرف فلاحظها؛ مثلاً يقول أحد الفاسقين للآخر فى مقام تذكية نفسه: إنّى انسان خير لامورد فىّ للقدح، ويقول ذلك الآخر: إن كنت عادلا فأنا معصوم، فإنه ليس غرضه إثبات العصمة لنفسه حتى على تقدير كون المادح عادلا، بل غرضه نفى عدّالله بنفى عصمة نفسه.(1) و لايخفى عليك أنّ حمل الشرطية على الاتفاقية لاالحقيقية خلاف الظاهر.
و أجاب السيّد المحقّق الخوئى قدس سره عن الإشكال: بأنّ تقدير الآية (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ ) ، فقد علّقت الدعوى على نطق كبيرهم، و لمّا استحال نطقه انتفت الدعوى فلاتكون كاذبة. و نظير ذلك قولك: فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء، و كقولك أيضا: لاأعتقد إلاهاً إن كان له شريك، و لا أعتقد خليفة للرسول صلى الله عليه وآله و سلم إن لم يكن منصوبا من الله، هذا فاغتنم.(2)
ونحوه ما أجاب به سيّدنا الامام المجاهد قدس سره: من أنّ كلام إبراهيم عليه السلام من قبيل التعليق على أمر محال لإثبات أنّ المعلّق عليه محال، لا لإثبات الملازمة. فالكلام
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 235-234.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 402-401.
ص: 182
سيق لنفى العمل (الفعل) لكونه معلّقا على محال لالتحقّقه بتحقّق المعلّق عليه، نظير قوله تعالى: (وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ) (1)، فإنه ليس بصدد الإخبار بالملازمة بين دخول الجنة و ولوج الجمل فى سمّ الخياط، ضرورة عدم التلازم بينهما، بل بصدد استحالة دخولهم الجنّة بالتعليق على محال عادى. و بالجملة نظائر هذا الكلام كناية عن عدم التحقّق أو استحالته لاإخبار بالملازمة، كما هو واضح.(2)
و لايخفى عليك أنّ الرواية المذكورة حينئذ لا ارتباط لها بالتورية و لاتدلّ على نفى الكذب عن التورية، و إن صحّ الاستدلال بالآية بالتقريب المذكور من السيّد المحقّق الخوئى و سيّدنا الإمام المجاهد قدس سرهما على نفى الفعل لكونه معلّقا على أمر محال، فتأمّل.
و الأولى لنفى الكذب عن التورية هو الاستدلال بمعتبرة الحسن الصيقل، و فيها: (قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ) ، فقال: والله ما فعلوا وما كذب، إلى أن قال: إنّ إبراهيم إنّما قال: (قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) إرادة الإصلاح و دلالة على أنّهم لايفعلون، الحديث.(3) و الوجه فى أنّه ليس بكذب أنّه نحو استدلال و لايعدّ ذلك كذباً، فتأمّل.
ومنها: ما روى أنّه سئل عن قوله تعالى: (أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ ) قال: إنّهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنّهم قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك. وعليه فقولهم (لَسٰارِقُونَ ) مع إرادة سرقة يوسف من أبيه تورية و لم يذمّوا على ذلك، فتدلّ الآية على جواز التورية عند يوسف و أعوانه، ولكن لاتدلّ الآية الكريمة على سلب الكذب عن التورية.
**********
(1) الأعراف، 40.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ص 50-49.
(3) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 253، ح 4.
ص: 183
نعم، يمكن الاستدلال لذلك ببعض الروايات، كمعتبرة الحسن الصيقل قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: إنّا قد روينا عن أبى جعفر عليه السلام فى قول يوسف «أيتها العير إنّكم لسارقون»، فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، إلى أن قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: و قال يوسف عليه السلام إرادة الإصلاح.(1) و ذلك لنفى الكذب بقوله ما كذب، مع أنّ المخاطبة مع الغير بأنّكم لسارقون تكون تورية.
ومنها: ما روى أيضا أنّه سئل عن قول الله عزّوجلّ حكاية عن إبراهيم: (إِنِّي سَقِيمٌ ) ،(2) قال: ما كان إبراهيم سقيما و ما كذب، إنّما عنى سقيماً فى دينه أى مرتاداً (أى طالباً و مراوداً لدينه من المراودة)، حيث أنّ المرتاد خلاف الظاهر، فإرادته تورية و مع ذلك نفى الكذب عن ذلك.
ومنها: ما فى مستطرفات السرائر من كتاب ابن بكير قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولى: ليس هو هيهنا، قال: لابأس ليس بكذب.(3) فإن سلب الكذب مبنى على أنّ المشار إليه بقوله «هيهنا» موضع خال من الدار إذ لاوجه له سوى ذلك، و عليه فالسائل سئل عن جواز التورية فأجاب بجوازها و نفى الكذب عنها.
ومنها: ما روى فى باب الحيل من كتاب الطلاق للمبسوط أنّ واحدا من الصحابة صحب واحداً آخر فاعترضهما فى الطريق أعداء المصحوب فأنكر الصاحب أنّه هو فاحلقوه فحلف لهم أنّه أخوه، فلمّا أتى النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال له: صدقت المسلم أخو
**********
(1) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 253، ح 4.
(2) الصافّات، 89.
(3) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 254، ح 8.
ص: 184
المسلم، إلى غير ذلك مما يظهر منه سلب الكذب عن التورية،(1) لدلالة قوله صلى الله عليه وآله و سلم «صدقت» على أنّك لم تكذب بإرادة خلاف الظاهر من قوله «إنّه أخوه».
فتحصّل إلى حدّ الآن أنّ التورية ليست بكذب و معه لادليل على حرمته، ولكن ذهب سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس سره إلى حرمتها، حيث قال: لافرق بين الكذب و التورية فى أنّ كلّ واحد منهما يوجب إلقاء المخاطب فى خلاف الواقع و سلب اطمينان الناس عن المتكلم.
و مجرّد إرادة المعنى التأويلى فى الثانى دون الأول لا يكون فارقا ما لم يؤثر فى الآثار و المفاسد المترتّبة على كّل منهما و بعبارة أخرى ما يترتّب على الكذب نوعا الذى صار حكمة لتحريمه على النحو الكلى مترتّب على التورية أيضا، و عليه فلايصحّ قول الشيخ فى المكاسب المحرّمة: إنّ التورية واجبة للفرار عن الكذب.(2)
و ذلك لأن التورية لاتكون فرارا من مفسدة الكذب بوجود المفسدة بعينها فيه.
ولقائل أن يقول: إنّ الفارق بين الكذب و التورية هو وجود الحكاية عما يكون الكلام ظاهرا فيه فى الكذب و عدمها فى التورية. هذا مضافا إلى عدم إحراز ترتّب مقدار المفاسد المترتّبة على الكذب على التورية، و مضافا إلى صريح صحيحة ابن بكير بالجواز و عدم كونها كذبا و لو كانت التورية حراما لما جوّزوها و لما قالوا بوجوبها عند الفرار عن الكذب، فلاتغفل.
و أمّا مسألة وجوب التورية للفرار عن الكذب و عدمه فسيأتى حكمها فى المسوّغات إن شاء الله تعالى.
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 51.
(2) المحاضرات لسيّدنا الاُستاذ، ج 3، ص 354.
ص: 185
و هى موارد:
أحدها: فى مقام دفع الضرورة كالضرر النفسى أو المالى من ظالم و متعدّ لنفسه أو لغيره من موارد الإكراه أو كالضرر النفسى أو المالى الناشى من الاضطرار من دون ظلم ظالم و متعدّ.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ ) (1) بدعوى أنّ الآية الشريفة تدلّ بالمطابقة على جواز التكلم بكلمة الكفر و الارتداد عن الإسلام عند الإكراه بشرط أن يكون المتكلم معتقدا بالله و مطمئنّاً بالإيمان، و عليه فإذا دلّت الآية الكريمة على جواز الكذب فى الإيمان عند الإكراه دلّت على جواز الكذب فى غير ذلك للمكره بطريق أولى، كما فى مصباح الفقاهة.
نعم، هو أخص من المدّعى لاختصاص الآية بصورة الإكراه، فلاتشمل سائر موارد الضرورة و الاضطرار.
و قوله تعالى: (لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ) (2). بدعوى أنّه يدلّ على عدم جواز اتخاذ الكافر وليا إلّا تقيّة.
و فيه أنه لاإرتباط للآية الكريمة بالكذب عند الضرورة؛ أللّهمّ إلّا أن يستفاد ذلك بالأولويه أو تنقيح المناط.
**********
(1) النحل، 106.
(2) آل عمران، 28.
ص: 186
قال الميرزا الشيرازى قدس سره: لايخفى أنّ مدلول الآية غير منطبق على ما نحن بصدد الاستدلال عليه من تجويز الكذب للاضطرار إليه إلّا أن يستفاد منها بتنقيح المناط أو الأولوية لتجويز الكذب أيضا فى حال التقيّة.(1)
منها: حديث الرفع، روى أحمد بن محمد بن عيسى فى نوادره عن إسماعيل الجعفى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: وضع عن هذه الأمّة ستّ خصال: الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه و ما لايعلمون و ما لايطيقون و ما اضطرّوا إليه(2) و إلى غير ذلك من الأخبار المتعدّدة.
قال الشيخ الأعظم قدس سره: و قد اشتهر أنّ الضرورات تبيح المحظورات و الأخبار فى ذلك أكثر من أن تحصى و قد استفاضت أو تواترت بجواز الحلف كاذبا لدفع الضرر البدنى أو المالى عن نفسه أو أخيه، انتهى.(3)
و أمّا الإجماع، فقد قال الشيخ: و هو أظهر من أن يدّعى أو يحكى. أورد عليه فى مصباح الفقاهة: بأنّ الإجماع و إن كان محقّقا ولكنّه ليس إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأى المعصوم عليه السلام. فإنّ الظاهر أنّ المجمعين قد استندوا فى فتياهم بالجواز إلى الكتاب و السنّة، فلاوجه لجعله دليلاً مستقّلاً فى المسألة.(4)
وفيه: ما مرّ من أنّ الإجماع المستند إذا كان متصلاً إلى زمان المعصوم عليه السلام يكشف عن تقرير المعصوم و إن لم يتمّ استنادهم إلى الأدلّة، فلاتغفل؛ أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ
**********
(1) التعليقة، ص 129.
(2) الوسائل، الباب 16 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 237، ح 3.
(3) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 51.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 403.
ص: 187
ذلك صحيح فى المسائل الأصلية، و أمّا فى المسائل الفرعية فلايحرز اتصال الإجماع بزمان المعصوم عليه السلام.
و أمّا العقل فقد قال الشيخ رحمه الله: و العقل مستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين مع بقائه على قبحه، أو انتفاء قبحه لغلبة الآخر عليه على القولين فى كون القبح العقلى مطلقا، أو فى خصوص الكذب لأجل الذات أو بالوجوه و الاعتبارات.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة: بأنّ العقل و إن كان حاكما بجواز الكذب لدفع الضرورات فى الجملة كحفظ النفس المحترمة و نحوه، إلّا أنّه لايحكم بذلك فى جميع الموارد، فلو توقّف على الكذب حفظ مال يسير لايضرّ ذهابه بالمالك فإنّ العقل لايحكم بجواز الكذب حينئذ.(1)
ولقائل أن يقول: لامنافاة بين حكم العقل فى جلّ الموارد و عدمه فى بعض الموارد؛ هذا مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّ الضرر الذى محلّ الكلام هو الذى يكون معتدّا به بحيث يحكم العقل أيضا به فيوافق العقل مع ساير الأدلّة.
ثمّ يقع الكلام فى أنّ الاضطرار و الضرورة إلى الكذب هل يعتبر فى تحقّقه عدم التمكّن من التورية أو لايعتبر؟ و قد يقال: إنّ الاضطرار إلى الجامع بين الكذب و التورية من قبيل الاضطرار إلى شرب أحد مايعين، أحدهما متنجّس و الآخر طاهر، فكما أنّ الاضطرار إلى أحد المايعين اضطرار إلى الجامع و يمكن إيجاده فى ضمن فرده الحلال فلايكون اضطراراً إلى الحرام، فكذلك فى المقام الاضطرار إلى الجامع بين الكذب و التورية لايكون اضطراراً إلى الحرام، فلايجوز الكذب مع إمكان التورية و دفع الإكراه أو الاضطرار بها، و لعلّه لذا حكى عن المشهور وجوب التورية لمن يقدر عليها.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 403.
ص: 188
و قال الشيخ الأعظم قدس سره بعد نقل عبائر الأصحاب فى مسألة جواز الحلف لدفع الظالم عن الوديعة و غيرها: وجه ما ذكروه أنّ الكذب حرام و لم يحصل الاضطرار إليه مع القدرة على التورية فيدخل تحت العمومات، مع أنّ قبح الكذب عقلى فلايسوّغ إلّا مع تحقّق عنوان حسن فى ضمنه يغلب حسنه على قبحه. و يتوقّف تحقّقه (أى جواز الكذب) على تحقّقه (أى تحقق عنوان حسن) و لايكون التوقف إلّا مع العجز عن التورية. و هذا الحكم جيّد إلّا أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الترخيص فى الحلف كاذبا لدفع الضرر البدنى أو المالى عن نفسه أو أخيه عدم اعتبار ذلك.
منها: (موثّقه) رواية السكونى عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علىّ عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: احلف بالله كاذبا و نجِّ أخاك من القتل).(1)
ومنها: صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعرى عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سئلته عن رجل يخاف على ماله من السلطان، فيحلفه لينجو به منه، قال: لاجناح عليه و سئلته: هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله ؟ قال: نعم.(2)
ومنها: ما فى الفقيه من أنّه قال: قال الصادق عليه السلام: اليمين على وجهين، إلى أن قال: فأما الذى يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة، فهو أن يحلف الرجل فى خلاص امرء مسلم أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لصٍّ أو غيره، الحديث.(3)
ومنها: موثّقة زرارة بابن بكير إنّا نمرّ على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا و
**********
(1) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 225، ح 4.
(2) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 224، ح 1.
(3) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 226، ح 9.
ص: 189
قد أدّينا زكوتها، فقال: يا زرارة! إذا خفت فاحلف لهم بما شاؤوا، قلت: جعلت فداك، بالطلاق و العتاق ؟ قال: بما شاؤوا.(1)
ومنها: رواية سماعة عن أبى عبدالله عليه السلام: إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا هو أكره و اضطرّ إليه، و قال: ليس شيئ مما حرّم الله إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.(2) و رواه فى نوادر أحمد بن عيسى أو حسين بن سعيد عن سماعة هكذا قال: قال عليه السلام: إذا حلف الرجل بالله تقيّة لم يضرّه، و بالطلاق و العتاق أيضا لايضرّه إذا هو أكره و اضطرّ إليه.(3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة فى هذا الباب. و فيما يأتى من جواز الكذب فى الإصلاح التى يصعب على الفقيه التزام تقييدها بصورة عدم القدرة على التورية. فلايعتبر فى جواز الكذب فى مثل المقام العجز عن التورية.
و أمّا حكم العقل بقبح الكذب فى غير مقام توقّف المصلحة الراجحة عليه، فهو و إن كان مسلّما، إلّا أنّه يمكن القول بالعفو عنه شرعاً للأخبار المذكورة، كما عفى الكذب فى الإصلاح و عن السبّ و التبرّى مع الإكراه، مع أنّه قبيح عقلاً أيضاً، مع أنّ ايجاب التورية على القادر لايخلو عن التزام بالعسر (ما يعسر)، كما لايخفى.
فلو قيل بتوسعة الشارع على العباد بعدم ترتيب الآثار على الكذب فيما نحن فيه و إن قدر على التَّورية كان حسنا إلّا أنّ الاحتياط فى خلافه، بل هو المطابق للقواعد لولا استبعاد التقييد فى هذه المطلقات لأنّ النسبة بين هذه المطلقات و بين ما دلّ
**********
(1) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ح 228، ح 14.
(2) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 228، ح 18.
(3) نوادر أحمد بن عيسى، ص 75.
ص: 190
كالرواية الأخيرة و غيرها على اختصاص الجواز بصورة الاضطرار المستلزم للمنع مع عدمه مطلقا عموم من وجه فيرجع إلى عمومات حرمة الكذب، فتأمّل.(1)
هذا مع إمكان منع الاستبعاد المذكور لأن مورد الأخبار عدم الالتفات إلى التورية فى مقام الضرورة إلى الكذب، إذ مع الالتفات فالغالب اختيارها إذ لا داعى إلى العدول عنها إلى الكذب.(2)
منها: أنّ الرواية الأخيرة إن كانت صحيحة دلّت بمنطوقها على تخصيص جواز الحلف الكاذب بمورد الاضطرار و كان مفهومها عدم جواز الكذب مع عدم الاضطرار أو الإكراه، سواء كان فى البين دفع ضرر أو لا؛ و عليه تقع المعارضة بين مفهومها و بين الروايات المجوّزة للكذب لدفع الضرر، و النسبة بينهما هى العموم من وجه. فإن الرواية الأخيرة ظاهرة فى اختصاص جواز الحلف كاذبا بصورة الاضطرار، فتدلّ بمفهومها على حرمة الحلف كاذبا فى غير موارد الاضطرار، سواء كان فى البين دفع ضرر أو لا.
و الروايات المجوّزة تدلّ على جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر مطلقا، سواء بلغ حدّ الاضطرار أم لا. فمورد الافتراق فى طرف الرواية الأخيرة هو ما إذا لم يكن
**********
(1) و لعلّه إشارة إلى أنّ مع ضعف الرواية الأخيرة نسبة ما دلّ على جواز الحلف كاذبا مع أدلّة حرمة الكذب هى العموم و الخصوص فيقدّم ما يدلّ على جواز الحلف كاذبا مطلقا، سواء تمكّن من التورية أو لم يتمكّن على أدلّة حرمة الكذب. و لاإشكال إلّا من جهة عدم صدق الضرورة على صورة التمكّن من التورية، و إن صدق ذلك العنوان على صورة العجز عنها و صورة الإكراه و الاضطرار بناءً على عدم صدقهما إلّا عند العجز عن التورية.
(2) المكاسب المحرّمة، ص 52-51.
ص: 191
الكذب لدفع الضرر، فإن الرواية الأخيرة تشمله بمفهومها و تدلّ على عدم الجواز و لاتشمله الروايات المطلقة الدالّة على جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر، كما لايخفى.
و مورد الافتراق فى الروايات المجوّزة للكذب هو ما إذا كان دفع الضرر منحصرا بالكذب كما فى فرض الغفلة عن التورية، فيشمله الروايات المجوزّة و لايشمله مفهوم الرواية الأخيرة لاضطراره بالانحصار. و مورد اجتماعهما ما إذا لم ينحصر دفع الضرر بالكذب كما فى فرض التمكّن من التورية، فإنّ مقتضى المفهوم عدم جوازه لعدم الاضطرار إليه و مقتضى إطلاق تلك الروايات جوازه فيتعارضان و يتساقطان ويرجع إلى عموم أدلّة حرمة الكذب.
وفيه أوّلاً: لسان الأخيرة لسان الحكومة و هى مقدّمة على المطلقات المجوّزة، و لو كانت النسبة هى العموم من وجه.
وثانياً: أنّ ما ذكر مبنىٌّ على صحّة الرواية الأخيرة.
و أمّا بناءً على عدمها كما هو الصحيح فليس فى المقام إلّا أدلّة حرمة الكذب و أخبار تدلّ على جواز الحلف كاذبا. و من المعلوم أنّ الثانية أخص فيقدّم على أدلّة حرمة الكذب، و لعلّ هذا هو وجه التأمّل فى كلام الشيخ قدس سره.
ومنها: أنّ حرمة الكذب ذاتية لاستقلال العقل بقبحه فليست قابلة للتخصيص، و أمّا ارتكابه فى موارد الضرورة فلأنّ العقل يستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين.
ويمكن الجواب عنه: بأنّه بعد تسليم استقلال العقل بقبح الكذب فى ذاته مع قطع النظر عن العناوين المترتّبة عليه كان حكمه كذلك معلّقا على عدم طرد العناوين الحسنة عليه، و إلّا فلايستقلّ العقل بقبحه و الترخيص الشرعى بالنسبة إلى الحكم العقلى لايتصوّر، إلّا إذا كان حكم العقل مقتضيا للقبح، فيجوز الترخيص الشرعى حينئذ كما قرّر فى جواز الترخيص الشرعى فى أطراف المعلوم بالإجمال و عدمه.
ص: 192
ومنها: أنّ الأخبار بصدد بيان حكم آخر، و هو جواز الحلف لاجواز الكذب بغير حلف. و توضيحه: أنّ الحلف عبارة عن جملة إنشائية تأتى بها لتأكيد الجملة الإخبارية أو الإنشائية فى بعض الأحيان. و هى غير الجملة الإخبارية المؤكدة بها و لاتتّصف بالصدق و الكذب و إطلاقهما أحيانا عليها إنّما هو بنحو من التأويل و التسامح، فيقال: اليمين الكاذبة أو الصادقة باعتبار متعلّقهما، و لمّا ورد فى الكتاب العزيز النهى عن جعل الله تعالى عرضة للأيمان فقال تعالى: (وَ لاٰ تَجْعَلُوا اَللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ ) .(1) و ورد فى الروايات النهى عنها كاذبا أو صادقا.
يمكن أن يكون ذاك و ذلك منشأ للشبهة فى أنّ اليمين غير جائزة حتى لإنجاء المال و التخلّص من العشار و غيره، فسألوا عن حكم اليمين من حيث هى، فلاإطلاق فيها يشمل اليمين المقارنة للجملة الكاذبة لأنّ جواز نفس اليمين غير مربوط و لاملازم لجواز الكذب، بل لامعنى للإطلاق بالنسبة إلى المقارن و المتعلّق.
فإنّ معنى الإطلاق هو كون نفس طبيعة موضوع حكم من غير دخالة شيئ آخر فيه، فتكون الطبيعة فى أى مورد وجدت محكومة به و اليمين من حيث هى إنشاء لاكذب فيها. و إسراء حكم الكذب عليه من متعلّقه لامعنى له فتكون الروايات أجنبيّة عما نحن بصدده.
ويمكن الجواب عنه: بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: من أنّ مقتضى القرائن الموجودة فى نفس الأخبار أنّ محطّ السؤال و الجواب فيها هو الحلف كاذبا. أمّا صحيحة إسماعيل بن سعد فإن السؤال عن حلف السلطان بالطلاق منشأه احتمال وقوعه مع عدم موافقة مقدمه للواقع، فإنّه مع صدقه لايحتمل وقوعه.
**********
(1) البقرة، 224.
ص: 193
فقوله: إن كان هذا مال زيد فامرأتى طالق و إن كان إنشاءاً، لكنّ وقوع الطلاق عند العامة إنّما هو فيما إذا كان مال زيد و كان القائل فى مقام إنكاره، فعليه كان محطّ الحلف بالطلاق و العتاق فى مورد كان المسؤل بالحلف يحلف فى مقام إنكار ما كان واقعا أو إثبات ما لم يكن كذلك.
فيكون قوله: و عن رجل يخاف على ماله من السلطان إلخ مورد الحلف كذبا أيضاً إلى أن قال: لاأقول: فى مورد الحلف بهما حتى يقال إنّه إنشاء، بل أقول: إنّ مورد الحلف بهما هو الكذب لولا الإنشاء، فيستكشف منه أنّ مورد الأسئلة فى غيره هو الحلف كذبا، فقوله: فيستحلفونى أى يستحلفونى كذبا بالقرينة المذكورة.(1)
فتحصّل: أن مقتضى إطلاق أدلّة الترخيص فى الحلف كاذبا عدم اعتبار التورية فى جواز الكذب. قال فى بلغة الطالب: و الحاصل أنّه ليس عندنا إلّا أدلة حرمة الكذب و ما دلّ على جواز الحلف كاذبا، و الثانى أخصّ فيقدّم فأين ما يسقط به هذه المطلقات فيرجع إلى أدلّة حرمة الكذب و لعلّه إلى ذلك أشار بامره بالتأمّل.(2)
ثمّ إن المسوّغ الأول يشمل الإكراه و الاضطرار مع عدم القدرة على التورية، لأنهما حينئذ من مصاديق الضرورة و لافرق بين الإكراه و الاضطرار فى كونهما متقوّمين بالعجز عن التورية.
تبصرة: و هى أنّ الشيخ الأعظم اعترض على المشهور بقوله: إنّ أكثر الأصحاب مع تقييدهم جواز الكذب (فى الحلف و الخبر عند الاضطرار) بعدم القدرة على التورية أطلقوا القول بلغوية ما أكره عليه من العقود و الإيقاعات و الأقوال المحرّمة كالسبّ و
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 83.
(2) بلغة الطالب، ج 1، ص 147.
ص: 194
التبرّى من دون تقييد بصورة عدم التمكّن من التورية، بل صرّح بعض هؤلاء كالشهيد فى الروضة و المسالك فى باب الطلاق بعدم اعتبار العجز عنها، بل فى كلام بعض ما يشعر بالاتفاق عليه.
مع أنه يمكن أن يقال: إنّ المكره على البيع إنّما أكره على التلفظ بالصيغة و أمّا إرادة المعنى فمما لاتقبل الإكراه، فإذا أراده مع القدرة على عدم إرادته (بالتورية) فقد اختاره، فالإكراه على البيع الواقعى يختصّ بغير القادر على التورية لعدم المعرفة بها أو عدم الالتفات إليها، كما أنّ الاضطرار إلى الكذب يختصّ بغير القادر عليها. هذا تمام كلامه فى الاعتراض على المشهور.
ومقتضى ما أفاده الشيخ هو عدم الفرق بين الاضطرار و الإكراه فى اختصاصهما بغير القادر على التورية أو غير الملتفت إليها، فكما أنّ الاضطرار إلى الكذب يختصّ بغير القادر على التورية، فكذلك الإكراه على المعاملات و المحرّمات يختصّ بغير القادر على التورية أو غير الملتفت إليها، و إلّا فلا إكراه بالنسبة إلى الواقع مع إمكان التفصّى بالتورية.
ثمّ دافع الشيخ عنهم بقوله: و يمكن الفرق بين المقامين بأنّ الإكراه إنّما يتعلّق بالبيع الحقيقى أو الطلاق الحقيقى. غاية الأمر قدرة المكره على التفصّى عنه بإيقاع الصورة من دون إرادة المعنى، لكنّه غير المكره عليه. و حيث أنّ الأخبار خالية عن اعتبار العجز عن التفصّى بهذا الوجه لم يعتبر ذلك فى حكم الإكراه. و هذا بخلاف الكذب، فإنه لم يسوّغ إلّا عند الاضطرار إليه و لااضطرار مع القدرة، (فالفرق بين الإكراه و الاضطرار كما عن المشهور صحيح).
نعم، لو كان الإكراه من أفراد الاضطرار بأن كان المعتبر فى تحقّق موضوعه عرفا أو لغة العجز عن عن التفصّى كما ادّعاه بعض أو قلنا باختصاص رفع حكمه بصورة
ص: 195
الاضطرار بأن كان عدم ترتّب الأثر على المكره عليه من حيث أنّه مضطرّ إليه لدفع الضرر المتوعَّد عليه به عن النفس و المال كان ينبغى فيه اعتبار العجز من التورية لعدم الاضطرار مع القدرة عليها، (فلاوجه حينئذ للفرق بينهما).
والحاصل أنّ المكره إذا قصد المعنى مع التمكّن من التورية صدق على ما أوقع أنّه مكره عليه، فيدخل فى عموم رفع ما أكرهوا عليه.
و أما المضطرّ فإذا كذب مع القدرة على التورية لم يصدق أنّه مضطرّ إليه، فلايدخل فى عموم رفع ما اضطرّوا إليه. هذا كلّه على مذاق المشهور من انحصار جواز الكذب بصورة الاضطرار إليه حتى من جهة العجز عن التورية.
و أمّا على ما استظهرنا من الأخبار كما اعترف به جماعة من جوازه (أى الكذب) مع الاضطرار إليه من غير جهة العجز عن التورية، فلا فرق بينه (الاضطرار) و بين الإكراه (فى عدم اعتبار العجز عن التورية)، كما أنّ الظاهر أنّ أدلّة نفى الإكراه راجعة إلى الاضطرار، لكن من غير جهة التورية، فالشارع رخّص فى ترك التورية فى كلّ كلام مضطرّ إليه أو دفع الضرر به هذا ولكن الأحوط التورية فى البابين.(1)
فلافرق بين الاضطرار و الإكراه فى عدم اعتبار العجز عن التورية و إن كان الأحوط مراعاة عدم التمكّن من التورية فى الإكراه و الاضطرار كليهما.
أورد عليه السيّد المحقّق الخوئى قدس سره أوّلاً: بأنّه لافارق بين الإكراه و الاضطرار (فى اعتبار عدم التمكّن من التورية أو غيرها من التفصّى)، لأنّ الإكراه فى اللغة حمل المكره على أمر و إجباره عليه من غير رضىً منه، و لاشبهة فى أنّ هذا المعنى لايتحقّق إذا أمكن التفصّى، كما هو الحال فى الاضطرار. (فما ذهب إليه الشيخ من
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 52.
ص: 196
الفرق بين الإكراه و الاضطرار توجيها لكلام المشهور محلّ منع، كما أنّ منع اعتبار عدم التمكّن فيهما بحسب مختاره كما ترى).
وثانيا: أنّا لو لم نعتبر فى مفهوم الإكراه أن لايتمكّن المكره من التفصّى (كما ذهب إليه الشيخ قدس سره فإنّ لازم ذلك جواز ارتكاب المحرّمات إذا أكره عليها و إن كان قادرا على التخلّص، كما إذا أكرهه أحد على شرب الخمر و كان متمكّنا من هراقتها على جيبه، و كما إذا أكرهه جائر على أخذ أموال الناس بالظلم و العدوان و كان متمكّنا من أن يدفع مال الظالم إليه و يوهمه أنّه إنّما يعطيه من مال غيره و لاشبهة فى حرمة الارتكاب فى أمثال هذه الصور.(1)
و الحاصل أنّه لافرق بحسب اللغة بين الإكراه و الاضطرار من جهة اعتبار عدم التمكّن من التفصّى. وعليه فالفرق بينهما لايكون إلّا من جهة الأخبار الخاصة كالأخبار الواردة فى جواز الكذب فى الحلف دفعا للضرر الناشى من المتعدّى و الظالم أو غيرهما، فإنّها تدلّ على الجواز ولو مع إمكان التفصّى بالتورية.
فالصحيح كما أفاد فى إرشاد الطالب: عدم الفرق بين الاضطرار و الإكراه فى عدم تحقّق عنوانهما مع إمكان التفصّى بالتورية أو بسائر المحلّلات بلافرق بين المعاملات و غيرها، و أنّه لايرتفع بمجرد الإكراه الرضا المعتبر فى المعاملات كما لايرتفع ذلك الرضا فى موارد الاضطرار.
و أنّ الوجه فى صحّة المعاملة مع الاضطرار إليها و الحكم ببطلانها مع الإكراه عليها هو أنّ الحكم بفسادها فى مورد الاضطرار خلاف الامتنان، فلايشملها حديث الرفع بخلاف مورد الإكراه، فإنّ الرفع فيه موافق له فيعمّها حديث الرفع و إذا أمره الجائر
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 409.
ص: 197
بالمعاملة و أمكن التفصّى عنها بالتورية أو بغيرها و معذلك أنشأ المعاملة بقصدها حكم بصحّتها أخذاً بإطلاق دليل نفوذها، و لايكون فى البين حكومة لحديث الرفع (للتمكّن من التفصّى و معه لايصدق الإكراه).
و هذا بخلاف الحلف أو الإخبار كذبا، فإنّه جايز فى مورد دفع الضرر حتى مع إمكان التورية أو إمكان التفصّى بغيرها، كما تقدّم من دلالة الروايات الخاصة على هذا الجواز.(1)
تذييل: ولايخفى أنّ الشيخ الأعظم قدس سره قال: ثمّ إنّ الضرر المسوّغ للكذب هو المسوّغ لساير المحرّمات؛ نعم يستحبّ تحمّل الضرر المالى الذى لايجحف، و عليه يحمل قول أميرالمؤمنين عليه السلام فى نهج البلاغة: علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك.(2)
وفيه: أنّ الرواية أعم فيقدم عليها الروايات الرخصة فى دفع ضرر بالكذب، لأنّها أخص مطلق بالإضافة إلى تلك الرواية؛ هذا مضافا إلى ما فى مصباح الفقاهة من أنّه: لا دليل على ثبوت هذا الاستحباب، فإنّ الضرر المالى إن بلغ إلى مرتبة يعدّ فى العرف ضررا جاز الكذب لدفعه، و إلّا فهو حرام لانصراف الأدلة المجوّزة عن ذلك، فلا دليل على وجود الواسطة بينهما لكى تكون مستحبّة.
و أمّا قوله عليه السلام فى نهج البلاغة فأجنبىٌّ عن الكذب الجائز الذى هو مورد كلامنا، بل هو راجع إلى الكذب المحرّم و إن يتّخذه الإنسان وسيلة لانتفاعه. و من الواضح جدّاً أنّ ترك ذلك من علائم الإيمان؛ إلى أن قال: و عليه فشأن الحديث شأن ما ورد
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 242-241.
(2) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 52.
ص: 198
من أنّه: لايزنى الزانى حين يزنى و هو مؤمن، و لايسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن.
نعم، يمكن الاستدلال على الاستحباب بناء على التسامح فى أدلة السنن بقوله عليه السلام: اجتنبوا الكذب و إن رأيتم فيه النجاة، فإنّ فيه الهلكة. ولكن مفاد الحديث أعم مما ذكره المصنّف،(1) فلاوجه لتخصيص الاستحباب بالضرر الذى لايجحف بل الأمر كذلك فى المجحف أيضاً.
و قد يستدلّ على استحباب تحمّل الضرر المالى بما ورد فى الحلف بالله صادقا من استحباب تحمّل الضرر و الإغماض عن الحلف و إذا كان تحمّله و ترك الحلف الصادق مستحبّاً يكون تحمّله و الإغماض عن الحلف الكاذب كذلك بالأولوية.
ولكن أورد عليه فى إرشاد الطالب بأنّ التعدّى إلى مطلق الأخبار كذبا مشكل، لما يظهر من بعض الروايات من كون ملاك الاستحباب إجلال الله سبحانه بترك الحلف باسمه صادقا أو كاذبا. و فى رواية السَّكونى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: من أجلّ الله أن يحلف به أعطاه خيرا مما ذهب منه و نحوها غيرها.(2)
ثمّ يقع الكلام فى أنّ المجوّز فى الحلف الكذبى هو مطلق الضرر أو الضرر الخاص. قال فى إرشاد الطالب: لايخفى أنّ جواز الكذب لدفع الضرر مختصّ بما إذا كان الضرر من الظلم و التعدّى عليه، و لايجوز لمطلق دفعه كالضرر فى المعاملة. فإذا توقّف بيع ماله بلاخسارة على كذبه فى رأس المال فلايجوز الكذب، لأنّ جوازه إمّا لرفع الاضطرار أو الإكراه؛ و المفروض انتفاؤهما، حيث أنّ الاضطرار يتوقّف على
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 411.
(2) إرشاد الطالب، ص 243.
ص: 199
وجوب دفع الضرر المزبور و الضرر المالى يجوز تحمّله. و حديث «لاضرر» لوروده مورد الامتنان لايعمّ المقام، بل يختصّ بما إذا كان فى رفع التكليف الضررى امتنانا؛ و لا امتنان فى تجويز الكذب لمؤمن الموجب لإغراء المؤمن الآخر، بل لايجوز التورية فى مثل إخباره برأس المال باعتبار كونه غشّاً كما مرّ.(1)
و يعتضد اختصاص المجوّز بما إذا كان الضرر من الظلم و التعدّى عليه باختصاص الأدلة المجوّزة بذلك؛ هذا مضافا إلى التصريح بذلك فيما روى فى الفقيه، حيث قال: فهو أن يحلف الرجل فى خلاص امرءٍ مسلم أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لصٍّ أو غيره،(2) و غير ذلك من الأخبار.
يمكن أن يقال: يكفى فى جواز الكذب أيضا اضطراره إليه من جهة نجاته عن الهلاكة أو معالجة النفس و نحوهما، لأنّ الاضطرار فى هذه الصورة ناش من وجوب دفع الضرر أى الهلكة أو دفع المرض أو النقص عن نفسه بناء على إطلاق حديث لاضرر.
و عليه فلاوجه لتخصيص الضرر المجوّز بما إذا كان الضرر من الظلم و التعدّى عليه، كما أنّ المسوّغ فى ساير المحرّمات لايختصّ بصورة الإكراه، بل يشمل ما إذا اضطرّ إليها و لو لم يكن الضرر الواجب الدفع من ناحية الظلم أو التعدّى. و بالجملة يشمل المسوّغ الأول الضرر الحاصل من الإكراه أو الاضطرار، و لاوجه لتخصيصه.
و لايخفى عليك أنّ المسوّغ الأول يحتوى المسوّغات من الكذب فى الحلف دفعا للضرر بواسطة الأخبار الخاصة، سواء تمكّن من التورية أو لم يتمكّن و الكذب
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 243.
(2) الوسائل، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، ج 23، ص 226، ح 9.
ص: 200
الإكراهى مع العجز عن التورية و الكذب الاضطرارى مع العجز عن التورية.
تنبيه: و لايخفى عليك أنّ الشيخ الأعظم قدس سره قال: إنّ الأقوال الصادرة عن أئمتنا عليهم السلام فى مقام التقيّة فى بيان الأحكام، مثل قولهم: لابأس بالصلاة فى ثوب أصابه خمر، و نحو ذلك. و إن أمكن حمله على الكذب لمصلحة، بناء على ما استظهرنا جوازه من الأخبار، إلّا أنّ الأليق بشأنهم عليهم السلام هو الحمل على إرادة خلاف ظواهرها من دون نصب قرينة بأن يريد من جواز الصلاة فى الثوب المذكور جوازها عند تعذّر الغسل و الاضطرار إلى اللبس و قد صرّحوا بإرادة المحامل البعيدة فى بعض الموارد، مثل أنّه ذكر عليه السلام: أنّ النافلة فريضة ففزع المخاطب، ثمّ قال عليه السلام: إنّما أردت صلاة الوتر على النبى صلى الله عليه وآله و سلم.
ومن هنا يعلم أنّه إذا دار الأمر فى بعض المواضع بين الحمل على التقيّة و الحمل على الاستحباب، كما فى الأمر بالوضوء عقيب بعض ما قال العامة بكونه حدثا تعيّن الثانى لأنّ التقيّة تتأدّى بإرادة المجاز و إخفاء القرينة،(1) و لعلّ وجه التعيّن هو تنزيه الأئمة عليهم السلام عن نسبة الكذب إليهم، و إن كان الكذب جايزا لقبح الكذب فى نفسه.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: لله دَرُّ المصنّف، حيث أشار بكلامه هذا إلى قاعدة كلّية و ضابطة شريفة تتفرّع عنها فروع كثيرة، و من شأنها أن يبحث عنها فى علم الأصول من فصول أبحاث الأوامر.
وتحقيق الكلام: أنّ ما يدور أمره بين الحمل على التقيّة و بين الحمل على الاستحباب على ثلاثة اقسام:
الأوّل: أن يكون ظهوره فى بيان الحكم الوضعى المحض، كما إذا ورد عنهم أنّ
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 52.
ص: 201
الرعاف أو الحجامة مثلاً من النواقض للوضوء، فإنّه لاريب فى حمل هذا القسم على التقيّة بأن يكون المراد أنّها ناقضة حقيقة للوضوء، ولكن صدور هذا الحكم بداعى التقيّة لابداعى الإرادة الجدّية.
الثانى: أن يدلّ بظهوره على الحكم التكليفى المولوى المحض، كما إذا فرضنا أنّ قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة عند العامة و مستحبّة عندنا، و وردت رواية عن أئمتنا عليهم السلام ظاهرة فى الوجوب، فالأمر حينئذ يدور بين حمل هذه الرواية على الوجوب بداعى التقيّة و بين حملها على الاستحباب بداعى الجدّ.
غاية الأمر أنّ الإمام عليه السلام لم ينصب قرينة على مراده الجدّى، و على هذا فبناء على مسلك المصنّف من كون الأمر حقيقة فى الوجوب و مجازا فى غيره يدور الأمر بين حمله على التقيّة فى بيان الحكم و رفع اليد عن المراد الجدّى أعنى الاستحباب أو حمله على الوجوب الخاص أعنى الوجوب حال التقيّة و رفع اليد عن ظهور الأمر فى الوجوب المطلق بأن يكون المراد أنّ قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة حال التقيّة، أو حمله على الاستحباب و رفع اليد عن ظهور الكلام فى الوجوب من دون قرينة، و حيث لامرجّح لأحد الأمور الثلاثة بعينه فيكون الكلام مجملا.
و أمّا بناءً على ما حقّقناه فى محلّه من أنّ الأمر موضوع لواقع الطلب أعنى إظهار الاعتبار النفسانى على ذمّة المكلّف فما لم يثبت الترخيص من الخارج، فإنّ العقل يحكم بالوجوب، و إذا ثبت الترخيص فيه من القرائن الخارجية حمل على الاستحباب.
وعليه فلامانع من حمل الأمر بقراءة الدعاء عند رؤية الهلال على الاستحباب للقطع الخارجى بعدم وجوبها عند رؤية الهلال فيتعيّن الاستحباب، إذ ليس هنا احتمال آخر غيره كى يلزم الإجمال.
الثالث: أن يكون الكلام الصادر عن الإمام عليه السلام ظاهرا فى بيان الحكم التكليفى، إلّا
ص: 202
أنّه فى الواقع بيان للحكم الوضعى الصرف، كما إذا ورد الأمر بالوضوء عقيب المذى و الودى و مسّ الفرج و غيرها من الأمور التى يراها العامة أحداثا ناقضة للوضوء، فالأمر فى هذه الموارد إرشاد إلى ناقضية الأمور المذكورة، فيدور الأمر حينئذ بين حمله على ظاهره من الناقضيّة بداعى التقيّة لاالجدّ، و بين حمله على الاستحباب، فالظاهر هو الأول. فإنّ حمله على الثانى يستلزم مخالفة الظاهر من جهتين: الأولى حمل ما هو ظاهر فى الإرشاد إلى الناقضيّة على خلاف ظاهره من إرادة الحكم التكليفى. الثانية: حمل ما هو ظاهر فى الوجوب على الاستحباب.
و أمّا لو حملناه على التقيّة فلايلزم منه إلّا مخالفة الظاهر من جهة واحدة و هى حمل الكلام على غير ظاهره من المراد الجدّى.(1)
فتحصّل أنّ القاعدة المذكورة لامصداق لها، فإنّ الصورة الثانية مجملة، و الصورة الثالثة كان الأمر بالعكس، كما أنّ الصورة الأولى خارجة عنها.
يمكن أن يقال أوّلاً: إنّ القسم الأول خارج عن المقسم، إذ لايدور الأمر فيه بين الحمل على التقيّة و بين الحمل على الاستحباب ليتمحّض المورد فى الحكم الوضعى، فلاوجه لجعله من الأقسام.
وثانياً: أنّ القسم الثانى يدور أمره بين الحمل على الوجوب و التقيّة و بين الحمل على الاستحباب حتى على مبنى الشيخ قدس سره. و إجماله يرتفع بالقطع الخارجى بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فيتعيّن الاستحباب كما يصلح ذلك القطع لتعيّن الاستحباب على مبنى السيّد المحقّق الخوئى قدس سره، و كفى به مصداقا للقاعدة المذكورة.
وثالثاً: أنّ القطع الخارجى بعدم وجوب الوضوء عقيب الأمور التى يراها العامّة من
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 414-413.
ص: 203
الأحداث يكفى لرفع اليد عن ظهور الأمر فى الإرشاد إلى الناقضية و لرفع اليد عن ظهور الأمر فى الوجوب، فيتعيّن الاستحباب.
ثمّ إنّ ما أفاده الشيخ من أنّ الأنسب بشأن الأئمة عليهم السلام فيما إذا دار الأمر بين الكذب تقيّة و الحمل على إرادة خلاف الظاهر من دون نصب قرينة هو الثانى لايخلو من قوّة فى الجملة، لأنّ الكذب و إن كان معفوّا شرعا إلّا أنّه لايخلو عن قبح فى ذاته فلايليق نسبته إلى الائمة عليهم السلام.
قال الميرزا الشيرازى قدس سره: بل اللايق بناء على ما مرّ منه قدس سره من أنّ الرخصة فى الكذب مع إمكان التورية إنّما هو عفو من الشارع مع ثبوت القبح العقلى فعلا فى موردها لوضوح عدم لياقة الإتيان بالقبح العقلى بهم عليهم السلام و إن فرض العفو عن حكمه شرعا.(1)
ثانيها: إرادة الإصلاح؛ قال الشيخ الأعظم: و قد استفاضت الأخبار بجواز الكذب عند إرادة الإصلاح، ففى صحيحة معاوية بن عمّار عن أبى عبدالله عليه السلام قال: المصلح ليس بكذّاب.(2)
و نحوها رواية معاوية بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن أبى عبدالله عليه السلام.(3) و فى رواية عيسى بن حسّان عن الصادق عليه السلام: كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلّا كذبا فى ثلاثة: رجل كائدٌ فى حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتمّ لهم.(4) وبمضمون هذه الرواية فى استثناء هذه الثلاثة روايات.
**********
(1) التعليقة، ص 132-131.
(2) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 253، ح 3.
(3) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 255، ح 9.
(4) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 253، ح 5.
ص: 204
وفى مرسلة الواسطى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس، قال: قيل له جعلت فداك، و ما الإصلاح بين الناس ؟ قال: تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه.(1)
و عن الصدوق فى كتاب مصادقة الإخوان بسنده مرسلا عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: إنّ الرجل ليصدق على أخيه، فيصيبه عنت من صدقه، فيكون كذّابا عندالله. و إنّ الرجل ليكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عندالله صادقا.(2)
ثمّ إنّ ظاهر الأخبار المذكورة عدم وجوب التورية و لم أر من اعتبر العجز عنها فى جواز الكذب فى هذا المقام، و تقييد الأخبار المذكورة بصورة العجز فى غاية البعد، و إن كان مراعاته مقتضى الاحتياط.(3) و لايخفى عليك أنّ الرواية الأخيرة يصحّ الاستدلال بها للمقام بالأولوية، فإنّ الكذب للنفع إذا كان جايزاً كان كذلك لدفع الضرر بالأولوية؛ هذا مضافا إلى إمكان إرادة الإصلاح من النفع ولكنّها مرسلة.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأخبار المذكورة عدم الفرق بين التمكّن من التورية و عدمه، فهذه الأخبار تكون مخصّصة بالنسبة إلى أدلّة حرمة الكذب، كما أنّ أخبار جواز الكذب فى الحلف لدفع الضرورة تكون مخصّصة لأدلة حرمة الكذب، سواء تمكّن من التورية أو لا يتمكّن، فيجوز الكذب لإصلاح ذات البين و إن أمكن التورية.
و استدلّ السيّد المحقّق الخوئى قدس سره على جواز الكذب للإصلاح بقوله تعالى: (إِنَّمَا)
**********
(1) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 254، ح 6.
(2) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 255، ح 10.
(3) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 52.
ص: 205
(اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ،(1) أى أصلحوا بين المؤمنين إذا تخاصموا و تقاتلوا، (وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ ) فى ترك العدل و الإصلاح، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ، بدعوى أنّ إطلاق الآية يشمل الإصلاح بالكذب أيضا، و حينئذ فتكون الآية معارضة لعموم ما دلّ على حرمة الكذب بالعموم من وجه، و بعد تساقطهما فى مادّة الاجتماع، أعنى الكذب للإصلاح يرجع إلى البراءة، أو إلى عموم «المصلح ليس بكذّاب»، فإنّه ينفى الكذب عن المصلح على سبيل الحكومة.(2)
و لا يخفى عليك أنّ إطلاق الآية الكريمة لايشمل الإصلاح بالمعاصى و الكذب منها، أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الكذب فى مقام الإصلاح بين المؤمنين لاقبح فيه عرفا، فيشمله الإطلاق، بخلاف سائر المعاصى، فإنّ القبح فيها يمنع عن شمول الإطلاق لها.
ثمّ إنّه قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: لافرق فى جواز الكذب للإصلاح بين أن يكون المصلح أحد المتخاصمين أو غيرهما. و يدلّ على تأكّد الحكم فى الأول بعض الأحاديث الواردة فى حرمة هجران المؤمن فوق ثلاثة أيام، كقوله عليه السلام فى رواية حمران: ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلّا و برأت منهما فى الثالثة، قيل: هذا حال الظالم، فما بالُ المظلوم ؟ فقال عليه السلام: مابالُ المظلوم لايصير إلى الظالم، فيقول: أنا الظالم حتّى يصلحا.(3)
و من الواضح جّداً أنّ قول المظلوم أنا الظالم كذب و قد ذمّه الإمام عليه السلام على تركه فيكون مستحبّاً مؤكّداً.(4)
ثالثها: هو جواز الكذب لمجرّد إرادة جلب النفع للإخوان، و هو الأعم من المسوغ
**********
(1) الحجرات، 10.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 415.
(3) الوسائل، الباب 144 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 263، ح 10.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 415.
ص: 206
السابق؛ و كيف كان، يمكن الاستدلال له بما رواه الصدوق قدس سره مرسلا فى كتاب مصادقة الإخوان عن مولانا أبى الحسن الرضا «عليه و على آبائه الطاهرين و أولاده المعصومين أفضل الصلاة و الثناء»، قال: إنّ الرجل ليصدق على أخيه، فيصيبه عنت من صدقه فيكون كذّابا عندالله و إنّ الرجل ليكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عندالله صادقا.(1)
و بما رواه فى الاختصاص عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن صالح بن سهل الهمدانى قال: قال الصادق عليه السلام: أيّما مسلم سئل عن مسلم فصدق، فأدخل على ذلك المسلم مضرّة كتب من الكاذبين، و من سئل عن مسلم فكذب فأدخل على ذلك المسلم منفعة كتب عندالله من الصادقين.(2) و الخبر ضعيف لعدم توثيق صالح بن سهل الهمدانى؛ هذا مضافا إلى ما فى نسبة الاختصاص إلى المفيد.
و بخبر جعفر بن أحمد القمى فى كتاب الأعمال المانعة من الجنة عن أحمد بن الحسين بإسناده عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث: و الكذب كلّه إثم إلّا ما نفعت به مؤمنا أو دفعت به عن دين، الخبر.(3)
إذ ظاهرها كما أفاد الميرزا الشيرازى قدس سره: جواز الكذب لمجرّد إرادة النفع و إن لم يكن فى الإصلاح، فيكون هذا مجوّزاً ثالثا أو تعميما فى المجوّز الثانى، لكن لايحضرنى الآن فتوى بجواز ذلك مضافا إلى معارضتها بالأخبار المتقدّمة الحاصرة للكذب السائغ فى ثلاثة أحدها الكذب فى الإصلاح بالعموم المطلق فتخصّص بها (أى بالأخبار الحاصرة، فلايجوز فى غير موارد الحصر) و لو فرض كون النسبة عموما من
**********
(1) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 255، ح 10.
(2) المستدرك، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، ج 9، ص 95، ح 5.
(3) المستدرك، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، ج 9، ص 95، ح 8.
ص: 207
وجه لشمول تلك الكذب للإصلاح بين نفسه و غيره فحوىً أو مناطا أو منطوقا، كما فى صحيحة معاوية بن عمّار: المصلح ليس بكذّاب، حيث لايبعد دعوى شمول إطلاقه اللفظى للكذب للإصلاح بين نفسه و بين غيره إن لم نقل بتقييدها (صحيحة معاوية) أيضا بتلك الأخبار (أى أخبار الحاصرة)، وكان المرجع بعد التساقط إطلاقات حرمة الكذب.(1)
فلايجوز الكذب لمجرد جلب النفع للإخوان بعد تقييد أخبار النفع بالأخبار الحاصرة، أو بعد تساقط كليهما و الرجوع إلى إطلاقات حرمة الكذب.
و أمّا دعوى أنّ التعارض المترائى بين مفهوم الحصر فى رواية عيسى بن حسّان و رواية الطبرسى عن أبى عبدالله عليه السلام و كذا مفهوم العدد فى مقام التحديد فى مرسلة الواسطى و رواية وصية النبى صلى الله عليه وآله و سلم و غيرهما و بين ساير الروايات يمكن دفعه بأنّ القرينة العقليّة قائمة بعدم إرادة الحصر الحقيقى من الاستثناء فى المقام ضرروة أنّ العقل حاكم بأنّ الكذب للفرار من مفسدة أعظم من مفسدته غير مسؤول عنه؛ مضافا إلى ما تقدّمت من الروايات المتقدّمة المجوّزة للكذب لإنجاء ماله أو نفسه أو مال غيره أو نفسه.
فلابدّ من التصرّف فى الحصر بنحو لايخاف ما تقدّم، فيصير مفادها بعد رفع التعارض جواز الكذب لكلّ مصلحة و نفع كائنا ما كان. و يمكن إرجاع الروايات الواردة فى جوازه لتخلّص النفس و المال إليها، فيكون الجواز فيها أيضا للمصلحة و النفع.
فهى مندفعة بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره من: أنّ سند هذه الروايات عدى صحيحة معاوية بن عمّار (الدالّة على أنّ المصلح ليس بكذّاب)، و الروايات المتقدّمة
**********
(1) التعليقة، ص 133؛ والظاهر أنّ كلمة «الواو» فى قوله: و كان المرجع الخ زائدة.
ص: 208
التى لها عنوان آخر ضعيفة. و استفاضتها و كثرتها و إن توجب الوثوق بصدور بعضها إجمالا لكن لابدّ معه من أخذ ما هو أخص مضمونا و هو الإصلاح بين الناس، فيقال بجوازه فيه المتطابق عليه الروايات دون غيره، مع أنّ الالتزام بجوازه فى مطلق الصلاح و النفع غير ممكن، بل لعلّه موجب لإخراج الأكثر البشيع، و أمّا الصحيحة فيمكن دعوى انصرافها إلى الإصلاح بين الناس كما تقدّم.(1)
هذا مضافا إلى عدم الفتوى به كما أشار إليه الميرزا الشيرازى قدس سره.
فتحصّل أنّه لادليل لجواز الكذب بمجرد جلب النفع للإخوان؛ نعم، الإشكال فى جواز الكذب للإصلاح بين الإخوان كما مرّ فى المسوّغ الثانى.
رابعها: عدة الرجل أهله و زوجته كذبا، و استدلّ له بخبر عيسى بن حسّان قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلّا كذبا فى ثلاثة: رجل كائدٌ فى حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا و هو لايريد أن يتمّ لهم.(2) و الخبر ضعيف لعدم توثيق عيسى بن حسّان. هذا مضافا إلى احتمال أنّ المراد هو الوعد الانشائى مع عدم إرادة الوفاء به لاالوعد الإخبارى، فتأمّل.
و بخبر حمّاد بن عمرو و أنس بن محمد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام فى وصيّة النبى صلى الله عليه وآله و سلم لعلىٍّ عليه السلام قال: يا على! إنّ الله أحبّ الكذب فى الصلاح و أبغض الصدق فى الفساد، إلى أن قال: يا على! ثلاث يحسن فيهنَّ الكذب:
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 92.
(2) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 253، ح 5.
ص: 209
المكيدة فى الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس.(1) و الرواية ضعيفة لجهالة غير واحد ممن وقع فى السند، و أمّا الدلالة فهى كالخبر السابق.
و بخبر محمد بن سعيد عن المحاربى عن جعفر بن محمد عن آبائه عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال: ثلاثة يحسن فيهنَّ الكذب: المكيدة فى الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس، و ثلاثة يقبح فيهنَّ الصدق: النميمة و إخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه، و تكذيبك الرجل عن الخبر، الحديث.(2) و السند ضعيف لجهالة أبى الحسين بن الحضرمى الواقع فى طريقه.
و بخبر الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه على بن الحسين عن أبيه عن على بن أبيطالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: لايصلح الكذب إلّا فى ثلاثة مواطن: كذب الرجل لامرأته، و كذب الرجل يمشى بين الرجلين ليصلح بينهما، و كذب الإمام عدوَّه فإنّما الحرب خدعة.(3)
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و أمّا الأشعثيّات المعبّر عنها بالجعفريات أيضا فهى أيضا لم تثبت.
بيان ذلك: أنّ كتاب محمد بن محمد الأشعث الذى وثّقه النجاشى و قال: له كتاب الحج ذكر فيه ما روته العامة عن جعفر بن محمد عليهما السلام فى الحج و إن كان معتبرا إلّا أنّه لم يصل إلينا و لم يذكره الشيخ فى الفهرست و هو لاينطبق على ما هو موجود عندنا جزما، فإنّ الكتاب الموجود بأيدينا مشتمل على أكثر أبواب الفقه، و ذلك
**********
(1) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 252، ح 1.
(2) الوسائل، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 252، ح 2.
(3) المستدرك، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، ج 9، ص 94، ح 2.
ص: 210
الكتاب فى الحج خاصة و فى خصوص ما روته العامة عن جعفر بن محمد عليهما السلام.(1)
و بخبر الطبرسى فى المشكاة عن أبى عبدالله عليه السلام قال: كلُّ كذب مسؤول عنه يوما إلّا كذب فى ثلاثة: رجل كائدٌ فى حربه فهو موضوع عنه، و رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد الإصلاح ما بينهما، و رجل وعد أهله شيئا و لايريد ان يتمّ لهم يريد بذلك دفعها.(2)
قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: ثمّ إنّ القول بجواز الكذب فى الوعد مع الأهل كما ورد فى الروايات مشكل لضعفها و إجمال المراد منها، فإنّ الظاهر من استثناء عدة الأهل من الكذب أنّ المراد بها الإخبار عن خلاف الواقع، و الظاهر من عنوان العدة أنّها إنشاء. فيمكن أن تجعل العدة قرينة على تصرّف فى الكذب فيراد به الأعم منه و مما هو شبيه به، كالوعد الذى لايراد إنجازه. و يمكن أن يجعل الكذب قرينة على أنّ المراد بالوعد الإخبار بالإعطاء مع عدم إرادة الإتيان به، و كيف كان، الأحوط لو لم يكن الأقوى عدم جوازه إلّا مع إكراه أو اضطرار كما قد يتّفق، و يمكن حمل الروايات على مورد الاضطرار (تأمّل).(3)
و دعوى ظهور الرواية فى الوعد الاخبارى لا الوعد الإنشائى بقرينة عدّ الوعد للأهل فى الرواية من أفراد الكذب،(4) مندفعة بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره من أنّ العدة قرينة على التصرّف فى الكذب و إرادة الأعم منه و مما هو شبيه به، كالوعد الذى لايراد إنجازه و الشباهة تكفى فى عدّه فى أفراد الكذب، فتأمّل.
**********
(1) مبانى تكملة المنهاج، ج 1، ص 226.
(2) المستدرك، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، ج 9، ص 94، ح 4.
(3) المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 93-92.
(4) إرشاد الطالب، ص 245.
ص: 211
لايقال: إنّ جواز الخلف فى الوعد الإنشائى الابتدائى لايختصّ بالوعد للزوجة أو الأهل.(1)لأنا نقول: لعلّ الوجه فى ذكره هو شدّة الحاجة إليه، فالرواية فى مقام رفع المشكل بحيث لايبتلى المكلّف بالكذب، فمدلول الرواية هو ترك الوفاء بوعدة الإنشائى يعنى التعهّد للعيال أو الزوجة بالفعل. و هذا لايتّصف بالصدق أو الكذب ليكون حراماً. و لابأس بالتعهّد و ترك الوفاء به ما لم يكن التعهّد فى ضمن المعاملة، خصوصا إذا طرء مانع عنه.
ثمّ على تقدير جواز الكذب للأهل و الزوجة يخصّص ذلك بغير الولد لخبر الحارث الأعور عن على عليه السلام قال: لايصلح من الكذب جدّ و لاهزل و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثمّ لايفى به، إنّ الكذب يهدى إلى الفجور و الفجور يهدى إلى النار و ما يزال أحدكم يكذب حتّى يقال: كذب و فجر، و ما يزال أحدكم يكذب حتّى لايبقى موضع إبرة صدق فيسمّى عندالله كذّابا.(2) ولكن هذا مبنىٌّ على كون خبر الحارث صحيحاً، و هو غير ثابت.
تتمة: و هى أنه لايجوز الإخبار بدون العلم بالواقع على صورة الجزم، سواء كان ظانّاً به أم بعدمه أم شاكّاً، و ذلك لكونه قبيحا عند العقلاء و لم يردع عنه؛ هذا مضافا إلى أنّه لو كان الاخبار خبرا عن الله تعالى لشمله قوله تعالى: (أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ ) ،(3) و هو يدلّ على الحرمة و إن لم يعلم أنّه كذب و كان من الشبهات الموضوعية.
ثمّ يقع الكلام فى أنّه هل يكون إسناد شيئ مشكوك إلى الشارع مبطلاً للصوم أم
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 245.
(2) الوسائل، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 251-250، ح 3.
(3) الأعراف، 28.
ص: 212
لا؟ ربّما يقال: بعدم البطلان نظراً إلى الشكّ فى مخالفته للواقع الموجب للشكّ فى حصول الإفطار به، فيرجع إلى أصالة البراءة، بل لاحاجة إلى التمسك بالأصل للعلم بعدم المفطريّة واقعاً لأنه إن كان مطابقا للواقع فلا كذب أصلاً؛ و إن كان مخالفا فلا تعمّد إليه، فإنّ المفطر خصوص التعمّد إليه المنتفى فى المقام بعد فرض الشكّ فى المطابقة.
أورد عليه السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: بأنّ الظاهر هو البطلان لصدق العمد بعد تنجّز الاحتمال لأجل كونه من أطراف العلم الإجمالى الذى لامجال معه للرجوع إلى أصالة البراءة، حيث أنّه يعلم إجمالاً بكذب أحد الأمرين، إمّا ذاك الخبر المفروض أو نقيضه، و أنّ أحد الإسنادين إلى الإمام عليه السلام مخالف للواقع جزما.
فمثلاً لو فرض أنّ الخبر المشكوك مطابقته للواقع هو أنَّ الصادق عليه السلام قال: إنّ الشيئ الفلانى حرام، فيعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع، إمّا هذا الخبر أو خلافه و هو أنّه قال الصادق عليه السلام: الشيئ الفلانى بعينه حلال، و إن أحدهما كذب قطعا. فبالعلم الإجمالى يتنجّز الواقع لامحالة و لامجال معه للرجوع إلى أصالة البراءة.(1)
و يمكن دفع ذلك بأنّ العلم الإجمالى يمنع عن البراءة إذا لم يكن المعلوم بالإجمال بعيدا عن الأذهان العرفية، و إلّا فلايمنع عنها؛ هذا مضافا إلى ما اخترناه فى محلّه من أنّ أدلة البراءة تجرى فى أطراف المعلوم بالإجمال عدا فى الموارد التى ورد الأمر بالاحتياط فيها شرعا، و المورد المذكور ليس من تلك الموارد.
و أيضا لو كان العلم الإجمالى المذكور مانعا عن جريان البراءة لوجب الاحتياط فى جميع موارد الشبهات الموضوعية، لإمكان أن يقرب فيها العلم الإجمالى بمثل المذكور. و يقال: إنّ
**********
(1) مستند العروة، ج 1، ص 141.
ص: 213
الشيئ الفلانى المشكوك كونه نجسا يرجع إلى أنّ الإمام قال: إنّ الشيئ الفلانى نجس لأنّه دم، أو قال: إنّ الشيئ الفلانى ليس بنجس لأنّه ماء، فيعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع، إمّا هذا الخبر أو خلافه؛ أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الاحتياط المذكور هو من جهة عدم إسناد كلّ طرف إلى الشارع لا من ناحية الارتكاب، فلاتغفل.
خامسها: المكيدة فى الحرب بالكذب كما دلّ عليه بعض النصوص و اقتضته الضرورة احيانا و على فرض قيام الضرورة يكون الكذب لذلك مندرجا فى المسوغ الأول الذى يجوز الكذب فيه للضرورة او الإكراه او الاضطرار.
ص: 214
يقع الكلام فى جهات:
فى المراد من الكهانة، فالمحكى عن النهاية: أنّ الكاهن من يتعاطى الخبر عن الكائنات فى مستقبل الزمان. و قد كان فى العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم أنّ له تابعاً من الجنّ يلقى إليه الأخبار، و منهم من كان يزعم أنّه يعرف الأمور بمقدّمات و أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من سأله أو فعله أو حاله و هذا يخصّونه باسم العرّاف.
قال شيخنا الأعظم بعد نقل المحكى عن النهاية و المحكى عن الأكثر فى تعريف الكاهن ما فى القواعد: من أنّه من كان له رأى من الجنّ يأتيه الأخبار. و عن التنقيح: أنّه المشهور و نسبه فى السرائر إلى القيل و رأى على فعيل من رآى، يقال: فلان رإىّ القوم أى صاحب رأيهم. قيل: و قد يكسر رائه اتباعا. و عن القاموس: رأىّ كغنىّ جنىّ يرى فيخبر. و عن النهاية: يقال للتابع من الجن رإىّ بوزن كمىّ ، انتهى.
ص: 215
و قد حكى عن المغرب أنّ الكهانة فى العرب كان قبل المبعث (يروى) أنّ الشياطين كانت تسترق السمع فتلقيه إلى الكهنة.
والظاهر أنّ اللغويين اتفقوا فى أنّ الكاهن يخبر عن المغيبات بسبب ارتباطهم مع الجنّ أو الشياطين أو غير ذلك بالنسبة إلى الأمور المستقبلة، و اختلفوا بالنسبة إلى الأمور الماضية، فصريح النهاية: هو اختصاص الأخبار بالمستقبلة خلافا لصريح المحكى عن المصباح، حيث قال: الكاهن يخبر عن الماضى و المستقبل.
ثمّ إنّه قال فى أقرب الموارد: الكاهن عند النصارى و اليهود و عبدة الأوثان: الذى يقدم الذبائح و القرابين و ربّما كان مأخوذا فى الأصل من معنى القضاء بالغيب كما كانت تفعل كهنة الوثنيين و اليهود.
و فى التعريفات: الكاهن هو الذى يخبر عن الكوائن فى مستقبل الزمان و يدّعى معرفة الأسرار و مطالعة علم الغيب.
قال فى فرهنگ عميد: كاهن (بكسرها) غيب گو، انتهى. و لعلّ هذه التعريفات تدلّ على أنّ الكاهن يدّعى معرفة الأسرار و علم الغيب و يحكم به و يقرب بالذبائح و القرابين و كانوا مقيمين مقام الأصفياء من دون أن يكون لهم شأن ذلك.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: الكهانة على قسمين:
الأول: أن يخبر الكاهن عن الحوادث المستقبلة لاتصاله بالشياطين القاعدين مقاعد استراق السمع، فيطّلعون على أسرارها، ثمّ يرجعون إلى أولياءهم لكى يؤدّوها إليهم.
الثانى: أن يخبر الكاهن عن الكائنات الأرضية و الحوادث السفلية لاتصاله بطائفة من الجنّ و الشياطين التى تلقى إليه الأخبار الراجعة إلى الحوادث الأرضية فقط، لأنّ
ص: 216
الشياطين قد منعت عن الاطّلاع إلى السماء و أخبارها بعد بعثة النبى صلى الله عليه وآله و سلم.(1)
و يوضّح ذلك مرسلة الطبرسى فى الاحتجاج فى جملة الأسئلة التى سئل الزنديق عنها أباعبدالله عليه السلام، قال الزنديق: فمن أين أصل الكهانة ؟ من أين يخبر الناس بما يحدث ؟ قال عليه السلام: إنّ الكهانة كانت فى الجاهلية فى كلّ حين فترة من الرسل كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم، فيخبرهم عن أشياء تحدث و ذلك من وجوه شتّى: فراسة العين و ذكاء القلب و وسوسة النفس و فتنة الروح(2) مع قذف فى قلبه لأنّ ما يحدث فى الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان و يؤديّه إلى الكاهن و يخبره بما يحدث فى المنازل و الأطراف.
و أمّا أخبار السماء، فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع، إذ ذاك و هى لاتحجب و لاترجم بالنجوم، و إنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع فى الأرض سبب يشاكل الوحى من خبر السماء، و يلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجّة و نفى الشبهة و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث الله فى خلقه فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن.
فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحقّ بالباطل فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به هو ما أدّاه إليه شيطانه لمّا سمعه و ما أخطأ فيه فهو من باطل مازاد فيه. فمنذمنعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة و اليوم أنّما تؤدّى الشياطين إلى كهّانها أخبارا للناس بما يتحدّثون به و ما يحدّثونه، و الشياطين تؤدّى إلى الشياطين ما يحدث فى البعد من الحوادث من سارق سرق و من قاتل قتل و من
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 417.
(2) و فى بعض النسخ فطنة مكان فتنة.
ص: 217
غائب غاب و هم بمنزلة الناس أيضا صدوق و كذوب، الخبر.(1)
قال الشيخ الأعظم قدس سره: ففى قوله «انقطعت الكهانة» دلالة على ما عن المغرب من أنّ الكهانة فى العرب كانت قبل البعث قبل منع الشياطين عن استراق السمع، إلى أن قال الشيخ قدس سره: فيكون المراد من الكهانة المنقطعة الكهانة الكاملة التى يكون الكاهن بها حاكما فى جميع ما يتحاكمون إليه من المشتبهات كما ذكر فى أول الرواية.(2)
و كيف كان، فلاتشمل الكهانة بالمعنى المذكور الأخبارات التى يخبر بها بعض المتّقين من جهة تهذيب أنفسهم لعدم دخالة الأجنّة و الشياطين فى ذلك؛ هذا مضافا إلى أنّ الكاهن أراد أن يجلس مجلس النبىّ أو الوصىّ فى حلّ الشبهات و الحكم فيما يحتكمون إليهم و المتّقون لايكونون فى هذا المقام، بل يصلون إلى مقامات نوّرهم الله بنوره و لم يخطئوا عن طريقة الأنبياء و الأولياء كسلمان و غيره ممن علّموا علم المنايا و أخبروا به أحيانا لجهة من الجهات، بل يمكن منع شمول الكهانة لمطلق تسخير الأجنّة لأخذ بعض الأمور المستورة كالسرقة إذا لم يكن ذلك مضرّاً.
و بالجملة، فمقتضى القاعدة أنّه إذا شكّ فى شمول الكهانة لمورد يؤخذ بالقدر المتيقّن من المفهوم و يجرى البراءة فى غيره، و الله العالم.
منها: صحيحة أبى بصير المرويّة فى الخصال عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبى عمير عن على بن أبى حمزة عن أبى بصير عن أبى عبدالله عليه السلام قال: من تكهّن أو تُكُهِّنَ له فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وآله و سلم.(3) تكهّن له أى
**********
(1) الاحتجاج، ج 2، ص 81.
(2) المكاسب المحرّمة، ص 53.
(3) الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 149، ح 2.
ص: 218
قال ما يشبه قول الكهنة، و الفرق بين تكهّن و تكهّن له أنّ الأول ليس لغيره.
لايقال: إنها ضعيفة لوقوع على بن أبى حمزة البطائنى فى طريقها، لأنا نقول: نقل ابن أبى عمير يشهد على أنّ الرواية مأخوذة منه فى حال استقامته. وهذه الرواية تدلّ على حرمة الكهانة، سواء كانت لنفسه أو لغيره. وذلك لأنّ التشبّه بالكاهن إذا كان حراما فنفس الكهانة أوضح حرمة.
ومنها: موثّقة السَّكونى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: السُّحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغى و الرشوة فى الحكم و أجر الكاهن.(1) و من المعلوم أنّ أجر الكاهن لايكون سحتا إلّا إذا كان عمل الكهانة محرّما.
وتضعيف الرواية من ناحية النوفلى الواقع فى طريقها غير مقبول بعد دعوى الشيخ: أنّ الأصحاب قبلوا أخبار السَّكونى مع أنّ رواياته لم تنقل إلّا بواسطة النوفلى.
ومنها: معتبرة نصر بن قابوس قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: المنجّم ملعون و الكاهن ملعون و الساحر ملعون و المغنّية ملعونة و من آواها ملعون و آكل كسبها ملعون.(2) بناء على ظهور اللَّعن فى الحرمة ما لم يقترن بما يصرفه عن ذلك.
و يشكل فى الرواية بالضعف من ناحية الحسن بن على الكوفى و إسحاق بن إبراهيم لعدم توثيقهما. و يمكن دفعه بأنّ الصدوق قال فى حقّ الحسن بن على الكوفى: إنّه معروف،(3) ثمّ إنّ إسحاق بن إبراهيم هو الحضينى بقرينة نقل الحسن بن على الكوفى عنه. و هو الذى جرت الخدمة للرضا عليه السلام على يده. و لذا قال الوحيد فى التعليقة: الأقرب قبول قوله لكونه وكيلا و هو يقتضى الوثاقة. و قال العلّامة فى محكى
**********
(1) الوسائل، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 93، ح 5.
(2) الوسائل، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 143، ح 7.
(3) عن لا يحضره الفقيه، ص 68.
ص: 219
كلامه: الأقرب قبول قوله و نصر بن قابوس ثقة، و عليه فلايبعد القول باعتبار الرواية.
ثمّ إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الأمور المذكورة فيها و إن اشتركت فى المحمول و هو الملعونية و المحرومية عن الرحمة ولكنّها مفترقة من ناحية الموضوع، إذ كلّ واحد منها يجعل موضوعا مستقّلاً و لايختلط بعضها مع البعض، كما تقدّم تعريف كلّ واحد فى محلّه.
ومنها: ما رواه محمد بن إدريس فى آخر السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيئ يُسرق أو شبهُ ذلك فنسأله ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب.(1) و الهيثم قريب الأمر له كتاب و روى عنه بعض الأجلّاء و صحّح العلّامة طريقا فيه الهيثم، ثمّ إنّ قوله «يصدّقه» يكشف عن كون الخبر جزميا.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: و ظاهر هذه الصحيحة أنّ الإخبار عن الغائبات على سبيل الجزم محرّم مطلقا، سواء كان بالكهانة أو بغيرها، لأنّه عليه السلام جعل المخبر بالشيئ الغائب بين الساحر و الكاهن و الكذّاب و جعل الكلّ حراما.(2) و عليه فالإخبار بالغيب محرّم سواء كان بواسطة الأمور المذكورة أو بغيرها.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة أولاً: بانّ الرواية بقرينة السؤال ظاهرة فى الإخبار عن الأمور الماضية من السرقة و الضالّة و نحوها. و لاإشكال فى جواز الإخبار عن الأمور الماضية إذا كان المخبر جازما بوقوعها. إنّما الكلام فى الإخبار على سبيل
**********
(1) الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 150، ح 3.
(2) المكاسب المحرّمة، ص 53.
ص: 220
الجزم عن الحوادث الآتية، فمورد الرواية أجنبى عن محلّ الكلام.(1)
وفيه: أنّ الجواب أعم و العبرة به. و ثانيا: بأنّه لادلالة فى الرواية على انحصار المخبر عن الأمور المغيبة بالكاهن و الساحر و الكذّاب، بل الظاهر منها أنّ الإخبار المحرّم منحصر بإخبار هذه الطوائف الثلاث.
فالإمام عليه السلام بيّن ضابطة حرمة الاخبار عن الغائبات. و نظيره ما إذا سئل أحد عن حرمة شرب العصير التمرى، فأجاب بأنّ : الحرام من المشروبات إنما هو الخمر و النبيذ و العصير العنبى إذا غلى، فإنّ هذا الجواب لايدلّ على حصر جميع المشروبات بالمحرّم وإنّما يدلّ على حصر المشروبات المحرّمة بالأمور المذكورة، و إذن فلا دلالة فى الرواية على حرمة مطلق الإخبار عن الأمور المستقبلة و لو من غير الكاهن و الساحر و الكذّاب.(2)
وفيه: أنّه نعم، ولكن يكفى دلالتها على حرمة إخبار الكاهن فى الأمور المستقبلة.
وثالثا: أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية أنّ تصديق المخبر فى إخباره حرام لأنه غير حجّة. و أمّا حرمة إخبار المخبر، فلاتدلّ الرواية على حرمته كما هو الحال فى إخبار الفاسق و غيره فيما لايكون قوله حجة.(3)
وفيه: أنّ وحدة السياق تشهد بأنّ الكهانة كالسحر و الكذب فى الحرمة؛ هذا مضافا إلى كفاية دلالة صحيحة أبى بصير على حرمة إخبار الكاهن بقوله «تكهّن».
ورابعا: بما فى إرشاد الطالب من أنّ الرواية ضعيفة لاصحيحة، فإنّ رواة كتاب
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 419.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 419.
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 419.
ص: 221
الحسن بن محبوب لابن إدريس مجهولون لنا.(1) و فيه: أنّ كتاب الحسن بن محبوب من أشهر الكتب، فلايحتاج إلى السند.
وخامسا: بما فى تعليقة الميرزا الشيرازى قدس سره من أنّ الكهانة نظير ما مرّ فى القيافة من أنّه محرّم إذا ترتّب عليه أثر محرّم. و ليس فى الجمع بينه و بين الساحر و الكذّاب دلالة على حرمته الذاتية مثلهما بإحدى الدلالات الثلاث، كما هو ظاهر.(2)
و قد عرفت: أنّ وحدة السياق تكفى للدلالة على أنّ الكهانة كالسحر و الكذب فى الحرمة؛ هذا مضافا إلى صحيحة أبى بصير، فإنّها تدل على حرمة التكهّن لنفسه بقوله «من تكهّن» و لغيره بقوله «أو تكهّن له». و بالجملة، صحيحة الهيثم تدلّ على حرمة المشى نحو الكاهن. و لازم هذا هو حرمة التعليم و حرمة التعلّم و أخذ شيئ منه و إرجاع المرافعة إليه و حرمة إخباره أو حكمه بين المترافعين و كلّ ما يشاكله بأخذ الوحى.
ومنها: خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام فى حديث المناهى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم نهى عن إتيان العرّاف و قال: من أتاه و صدّقه فقد برئ مما أنزل الله عزّوجلّ على محمد صلى الله عليه وآله و سلم. قال صاحب الوسائل: أقول: فسّر بعض أهل اللغة العرّاف بالكاهن و بعضهم بالمنجِّم.(3)
وفيه: أنّه ضعيف لجهالة شعيب بن واقد الذى يكون فى طريقه؛ هذا مضافا إلى أنّ العرّاف مردّد بين المنجّم و الكاهن، فلايصلح للاستدلال على حرمة إخبار الكاهن و
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 247.
(2) التعليقة، ص 134-133.
(3) الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 149، ح 1.
ص: 222
إن وجب الاجتناب عنها للعلم الإجمالى. نعم، يستفاد منه أنّ ممنوعيّة اتيان العرّاف من جهة كونه فى مقابل ما أنزل الله عزّوجلّ . و من المعلوم أنّ هذا لايختصّ بمورده، بل كلّ مورد يكون كذلك يشمله قوله صلى الله عليه وآله و سلم: من أتاه و صدّقه فقد برئ مما أنزل الله عزّوجلّ على محمّد صلى الله عليه وآله و سلم.
قال الشيخ الأعظم: و تبيّن من ذلك أنّ الإخبار عن الغائبات بمجرّد السؤال عنها من غير نظر فى بعض ما صحّ اعتباره كبعض الجفر و الرَّمل محرّم، و لعلَّه لذا عدّ صاحب المفاتيح من المحرّمات المنصوصة الإخبار عن الغائبات على سبيل الجزم لغير نبىٍّ أو وصىٍّ ، سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافه أو غير ذلك، ولكنّه محلّ تأمّل و نظر، لعدم الدليل على حرمة كلّ إخبار عن الغائبات.
ومنها: خبر الخصال، قال: وقال عليه السلام: المنجّم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر فى النار.(1)
و الخبر ضعيف، ولكن يدلّ على اشتراك الكهانة مع الأمور المذكورة فى الحرمة و فى كونها موجبة للنار كما لايخفى.
هى أن يخبر جزما عن الأمور المستقبلة بواسطة الأجنّة و الشياطين و تقديم الذبائح و القرابين إليهم و يحكم بين الناس بما أخذه منهم من الإخبار لمن يترافع إليه من الناس و يقوم بينهم مقام النبى أو الوصى عليهما الصلوات السلام.
و يخبر بالأخبار السماوية و نحوها مما يشاكل أخذ الوحى و الإخبار به. و لا
**********
(1) الوسائل، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 143، ح 8.
ص: 223
إشكال فى حرمة الكهانة بهذا المعنى، بل هى القدر المتيقّن منها بحسب اللغة و الرواية، فلايجوز اتخاذها حرفة و شغلا و يحرم عليه إخباره بما سمع من الأجنة و الشياطين كما يحرم حكمه بين الناس بما سمع منهم.
و يكفى لإثبات حرمة الكهانة بالمعنى المذكور معتبرة نصر بن قاموس، حيث قال عليه السلام: و الكاهن ملعون، و صحيحة أبى بصير، حيث قال «من تكهّن»، فإنّه يدلّ على حرمة التشبّه بالكاهن فضلا عن الكهانة و غيرهما من الأخبار.
الثانية: هى أن يأتى الناس الكاهن و يأخذون منه الأخبار و يترافعون إليه فى المنازعات و يصدّقونه و يترتّبون على إخباراته الآثار و يعملون به و يتعلّمون منه. و لا إشكال فى حرمة هذه الأمور بإطلاق صحيحة الهيثم: من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب.(1) هذا مضافا إلى صحيحة أبى بصير، فإنّ إطلاق قوله «أو تكهّن له» يشمل المقام لأنّ من يأتيه يكون ممن تكهّن له كما لايخفى.
و إليه يؤوّل ما فى جامع المدارك، حيث قال: و فى غير السحر تحتاج حرمة التعلّم من دون قصد إلى العمل إلى الدليل إلّا أن يكون إجماع كما فى كلمات بعض الأكابر، و إلّا فمقدّمة الحرام ما لم توجب سلب القدرة عنه و لم يقصد بها الوصول إلى الحرام من جهتها لادليل على حرمتها.
نعم روى فى مستطرفات السرائر عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيئ يسرق أو شبه ذلك فنسئله ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: من مشى إلى ساحر
**********
(1) الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 150، ح 3.
ص: 224
أو كاهن أو كذّاب فصدّقه فيما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب، الخبر.
و لازم هذا حرمة التعليم و حرمة التعلّم لظهور الخبر فى أنّ الرجل المخبر كاهن و الكاهن كالساحر.(1)
الثالثة: هى أن يخبر المخبر عن الأمور الماضية من دون وساطة الأجنّة و الشياطين، و لادليل لحرمة هذه الصورة لعدم إحراز إطلاق الكهانة لمثل هذه الصورة، و إن كان مقتضى ما فى مصباح اللغة هو أنّه من الكهانة. وذلك للتقييد بكون الإخبار بواسطة الأجنّة و الشياطين مع التقرّب إليهم بمثل الذبايح و القرابين فى كلمات غيره من اللغويين.
هذا مضافا إلى شيوع الإخبار بذلك و عدم الرَّدع عنه بالخصوص. نعم، لايجوز التصديق العملى و ترتيب الأثر عليه إذا لم يحصل بإخباره العلم و الاطمئنان بالأمور.
لايقال: إنّ مقتضى إطلاق المنع عن الرجوع إلى الكاهن هو حرمة مطلق الرجوع إليه، لأنا نقول: لايحرز صدق الكاهن مع احتمال دخالة وساطة الأجنّة و الشياطين و التقريب إليهم بمثل الذبائح و القرابين.
الرابعة: هى أن يخبر المخبر عن الأمور المستقبلة من دون وساطة الأجنّة و الشياطين. و الكلام فى هذه الصورة كالكلام فى الصورة السابقة، فلادليل على حرمتها. ربّما يقال: إنّ الإخبار عن الغائبات و الكائنات فى مستقبل الزمان من الأمور يشاكل الوحى و من المقطوع به أنّه مبغوض للشارع.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة: بأنّ الممنوع فى الرواية هو الإخبار عن السماء بواسطة الشياطين، فإنّهم كانوا يقعدون مقاعد استراق السمع من السماء و يطلعون على
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 26.
ص: 225
مستقبل الأمور و يحملونها إلى الكهنة و يبثّونها فيهم و قد منعوا عن ذلك بالشهاب الثاقب لئلّا يقع فى الأرض ما يشاكل الوحى. و أمّا مجرد الإخبار عن الأمور الآتية بأىّ سبب كان فلايرتبط بالكهانة.(1)
ثمّ إنّ الظاهر من عبارة الشيخ الأعظم قدس سره هو اعتبار بعض أقسام الرمل و الجفر و غيرهما من موجبات الاطمئنان. و قد تعجّب منه بعض الأعلام من ناحية أنّه لم يقم دليل على اعتبارها فى الشريعة المقدّسة، غاية الأمر أنّهما يفيدان الظنَّ و هو لا يغنى من الحقّ شيئا.(2)
و لقائل أن يقول: إنّ إخبار الغيب من دون ارتباط بالأجنّة و الشياطين كان واقعا حتى من أصحاب الأئمة عليهم السلام و لم يكن ذلك عجيبا أو منكرا. و عليه فالنهى عن إخبار الغيب محمول على غير هذه الصورة التى وقعت الإخبار بإمداد الله تعالى و عنايته و إيحاء الملائكة و إلهاماتهم.
و مما ذكر يظهر ما فى جامع المدارك، حيث استشكل على إخراج العلم الحاصل من الجفر و غيره خصوصا مع ترك الاستفصال فى الخبر.(3)
و ذلك لأنّ الأخذ بالإطلاق و ترك الاستفصال فرع صدق الكهانة و مع عدم صدق ذلك كيف يستدلّ بالإطلاق و ترك الاستفصال.
الخامسة: أنّ اتخاذ الكهانة شغلا و حرفة حرام و لايجوز أخذ الأجرة عليها و يكفى لذلك موثّقة السَّكونى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: السُّحت ثمن الميتة و ثمن
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 420-419.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 420.
(3) جامع المدارك، ج 3، ص 26.
ص: 226
الكلب و ثمن الخمر و مهر البغى و الرشوة فى الحكم و أجر الكاهن.(1)
هذا مضافا إلى أنّ حرمة الشيئ تمنع عن جواز المعاملة عليه لأنّه بالحرمة يكون مسلوب المالية، فيكون أكل الثمن فى مقابله أكلاً للمال بالباطل، و يشمله قوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) .(2)
السادسة: أنّ الارتباط مع الأجنّة و الشياطين و الإخبار بالأمور الأرضية جزما سواء كانت من الماضية أو المستقبلة، هل يكون من الكهانة أو لا؟ يمكن القول بالأول لأنّ الإخبار جزمى و الارتباط مع الأجنّة و الشياطين محقّق، فإذا أخبروا جزما و صدّقهم بعض الناس كان كهانة.
و يمكن منع ذلك بأنّ الممنوع هو الكهانة بمعنى الإخبار عن أخبار السماء و التقرّب بالشياطين بالذبائح و القرابين، و هذا ليس بموجود فى هذه الصورة و مقتضاه هو عدم الحرمة و لاأقلّ من الشكّ ، فيحكم بالبراءة لأنّ الشبهة مفهومية. نعم، إن كان الارتباط موجبا لوقوع الضرر بالنسبة إلى أجنّة مؤمنة أو غيرهم من المؤمنين، فلايجوز من هذه الناحية، و إلّا فلاوجه لحرمته، فتدبّر جيّداً.
**********
(1) الوسائل، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 93، ح 5.
(2) البقرة، 188.
ص: 227
ص: 228
قال الشيخ الأعظم قدس سره: ظاهر بعض ترادفه مع اللهو، ولكن مقتضى تعاطفهما فى غير موضع من الكتاب العزيز تغايرهما، و لعلّهما من قبيل الفقير و المسكين إذا اجتمعا افترقا و إذا افترقا اجتمعا.
ولعلّ اللعب يشمل مثل حركات الأطفال الغير المنبعثة عن القوى الشهويّة و اللهو ما تلتذّ به النفس و ينبعث عن القوى الشهويّة. و قد ذكر غير واحد أنّ قوله سبحانه و تعالى: (أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ) (1) الآية، بيان ملاذ الدنيا على ترتيب تدرّجه فى العمر. و قد جعلوا لكلّ واحد منها ثمان سنين. و كيف كان، فلم أجد من أفتى بحرمة اللعب عدا الحلّى ما عرفت من كلامه،(2) و لعلّه يريد اللهو و إلّا فالأقوى الكراهة، انتهى.
و لايخفى عليك أنّ ظاهر قوله: و لعلّ اللعب يشمل مثل حركات الأطفال الغير
**********
(1) الحديد، 20.
(2) حيث صرّح فى مسألة اللعب بالحمام بغير رهان بحرمته و قال: إنّ اللعب بجميع الأشياء قبيح.
ص: 229
المنبعثة عن القوى الشهويّة إلخ، أنّ اللعب أعمّ من اللّهو لاختصاص اللهو بالمنبعثة عن القوى الشهويّة، ولكن الأمر ليس كذلك لإطلاق اللهو أيضا على غير المنبعثة عن القوى الشهويّة كالسفر اللهوى للصيد، و عليه فالنسبة بين اللعب و اللهو هى العموم من وجه فلاعموم و لاخصوص و لاترادف.
و كيف كان، فاللعب فيما إذا لم يكن مصداقا لللَّهو لايكون حراما، و إن أمكن القول بالكراهة.
ص: 230
قال الشيخ الأعظم قدس سره: فإن جعل اللغو مرادفا لللَّهو كما يظهر من بعض الأخبار كان فى حكمه و استدلّ على ذلك بالروايات:
منها: رواية محمد بن ابى عبّاد المتقدّمة عن أبى الحسن الرضا عليه السلام: أنّ السماع فى خير اللهو و الباطل، أما سمعت قول الله تعالى: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً) .(1)
ومنها: موثقة ابى ايوب الخرّاز قال: نزلنا بالمدينة فأتينا أباعبدالله عليه السلام فقال لنا: أين نزلتم ؟ فقلنا: على فلان صاحب القيان، فقال: «كونوا كراما»، فوالله ما علمنا ما أراد به و ظننّا أنّه يقول تفضّلوا عليه، فعدنا إليه فقلنا: لاندرى ما أدرت بقولك «كونوا كراما» فقال: أما سمعتم الله عزّوجلّ يقول: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً) .(2) والمراد من صاحب القين صاحب الأمة المغنّية.
و الوجه فى الاستدلال بالروايتين هو تطبيق الآية الكريمة على مورد اللهو و هو
**********
(1) الفرقان، 72.
(2) الوسائل، الباب 101 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 316، ح 2.
ص: 231
السماع و الغناء، ولكنّه لايخلو عن الإشكال، و هو كما أفاده السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: ان الروايات المذكورة ناظرة إلى اتحاد قسم خاص من اللغو مع قسم خاص من اللهو و هو القسم الحرّم، فلادلالة فيها على اتحاد مفهومهما مطلقا.
ثمّ قال الشيخ الأعظم قدس سره: و إن أريد به (أى اللغو) مطلق الحركات اللّاغية فالأقوى فيها الكراهة. ثمّ استدلّ بروايتين: أحدهما: رواية أبى خالد الكابلى عن سيّد الساجدين: تفسير الذنوب التى تهتك العصم بشرب الخمر و اللعب بالقمار و تعاطى ما يضحك الناس من اللغو و المزاح و ذكر عيوب الناس و مجالسة أهل الريب، الحديث.(1)
وثانيهما: وصيّة النبى صلى الله عليه وآله و سلم لأبى ذرٍّ رضى الله عنه: إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة فى المجلس ليضحكهم بها فيهوى فى جهنّم ما بين السماء و الأرض.(2)
ولايخفى عليك أنّ الظاهر من عبارة الشيخ أنّ المقصود من ذكر الروايتين هو الاستدلال بهما للكراهة، مع أنّ المستفاد منهما هو الحرمة لتفسير الذنوب باللغو فى الرواية الأولى و لقوله «فيهوى فى جهنم» بناء على أنّ المراد من الكلمة التى يتكلّم بها فى المجلس هى الكلمة اللّاغية، و لعلّ المقصود من ذكرهما هو الاستدلال للحرمة، فيكون قوله «و إن أريد به (أى اللغو) مطلق الحركات اللاغية فالأقوى فيها الكراهة» جملة معترضة. و قوله «و فى رواية أبى خالد إلخ» مرتبط بما قبله من الاستدلال بالروايات على الحرمة.
و كيف ما كان فقد أورد الميرزا الشيرازى قدس سره على الرواية الأولى: بأنّ الظاهر أنّها ليست بصدد بيان الموضوع إطلاقاً و تقييداً حتى يستفاد الإطلاق من عدم ذكر قيد لها
**********
(1) الوسائل، الباب 41 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 282، ح 8.
(2) الوسائل، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 251، ح 4.
ص: 232
فى اللفظ، فهو نظير ما دلّ على ثبوت الفضيلة الكذائية لصلاة الجماعة و نحوها من الطاعات، فإنّه لايستفاد من إطلاق الجماعة و عدم تقييدها بخصوصية فيها مشروعية الجماعة و استحبابها على الإطلاق بالنسبة إلى جميع أفراد الصلاة و أحوالها، و أولى بعدم جواز التمسّك بالإطلاق الرواية الثابتة فى الوصية، فإنّ سوقها مساق الإهمال كما هو ظاهر.(1)
هذا مضافا إلى أنّ غاية ما تدلّ عليه الروايتان على تقدير تمامية الاستدلال أنّ قسم خاص من اللغو هو القسم المحرّم و الذنب، و لاتدلّ على أنّ جميع أقسامه يكون كذلك. و بالجملة أنّ اللغو لايكون حراما ما لم يندرج فى أحد العناوين المحرّمة كالغناء و شرب الخمر و نحوهما، بل إدخال السرور من المستحبّات فى الجملة.
هذا مضافا إلى ضعف الروايتين من جهة جهالة رواته. فتحصّل أنّ اللعب و اللغو لادليل على حرمتهما على الإطلاق، إلّا إذا انطبق عليهما العناوين المحرّمة. و عليه فالأشياء المختصّة باللعب و اللغو لادليل على حرمة معاملتها ما لم تكن من آلات الملاهى، و إلّا فيحرم المعاملة عليها و أخذ الأجرة على الاشتغال بها، فلاتغفل.
**********
(1) التعليقة، ص 136.
ص: 233
ص: 234
و استدلّ لحرمته بأمور:
منها: كلمات الأصحاب؛ قال الشيخ الأعظم قدس سره: اللَّهو حرام على ما يظهر من المبسوط و السرائر و المعتبر و القواعد و الذكرى و الجعفرية و غيرها، حيث علَّلوا لزوم الإتمام فى سفر الصيد بكونه محرّما من حيث اللَّهو.
قال فى المبسوط: الرابع: سفر المعصية وعدّ من أمثلتها من طلب الصيد لللَّهو و البطر. و قال فى المعتبر: قال علمائنا: اللّاهى بسفره كالمتنزّه بصيده بطراً لايترخّص لنا أنّ اللَّهو حرام، فالسفر له معصية. و قال فى القواعد: الخامس: من شروط القصر إباحة السفر فلايرخّص العاصى بسفره كتابع الجائر و المتصيّد لهواً، انتهى.
وقال فى المختلف فى كتاب المتاجر: حرّم الحلبى الرَّمى من قوس الجُلاهِق. قال: و هذا الإطلاق ليس بجيّد، بل ينبغى تقييده باللَّهو و البطر. و قد صرّح الحلّىُّ فى مسألة اللَّعب بالحمام بغير رهان بحرمته، و قال: إنّ اللعب بجميع الأشياء قبيح، و ردّه بمنع حرمة مطلق اللعب. و انتصر فى الرياض للحلّى بأنّ ما دلّ على قبح اللعب و ورد
ص: 235
بذمّه من الآيات و الروايات أظهر من أن يخفى، فإذا ثبت القبح و الذمّ ثبت النهى. ثمّ قال (صاحب الرياض): و لولا شذوذه بحيث كاد أن يكون مخالفا للإجماع لكان المصير إلى قوله ليس بذلك البعيد، انتهى.
ثمّ قال الشيخ الأعظم قدس سره: ولايبعد أن يكون القول بجواز خصوص هذا اللعب و شذوذ القول بحرمته مع دعوى كثرة الروايات بل الآيات على حرمة مطلق اللّهو لأجل النصّ على الجواز فيه فى قوله عليه السلام: لابأس بشهادة من يلعب بالحمام. و استدلّ فى الرياض أيضا تبعا للمهذَّب على حرمة المسابقة بغير النصوص على جوازه بغير عوض بما دلّ على تحريم اللهو و اللعب، قال: لكونها منه بلا تأمّل، انتهى.
و بالجملة يستفاد من كلماتهم رحمهم الله حرمة طلب الصيد و السفر لهواً و بطراً، و نسبه المحقّق إلى علماء الإمامية و حرمة الرَّمى من قوس الجُلاهق لهواً و بطراً و حرمة اللعب بالحمام بغير رهان عن بعض و حرمة اللعب بجميع الأشياء و حرمة المسابقة لهوا و لعبا، بل يدلّ بعض الكلمات على حرمة اللهو، كما عن المعتبر و على عموم حرمة اللعب كالحلّى و صاحب الرياض.
و كيف كان، فقد أورد عليه الميرزا الشيرازى قدس سره عند قول الشيخ، قال الشيخ الطوسى فى المبسوط: الرابع: سفر المعصية وعدّ من أمثلتها من طلب الصيد لللَّهو و البطر بقوله: لايخفى عدم دلالة عبارته على حرمة اللَّهو من حيث هو، فإنّ قوله قدس سره لللَّهو و البطر الظاهر أنّه متعلّق بطلب الصيد، فلادلالة فيه إلّا على حرمة طلب الصيد المقيّد بكونه على وجه اللهو.
و من الظاهر أنّه لايقتضى حرمة اللهو المفارق للسفر، كما لايقتضى حرمة السفر المفارق لللَّهو كما هو ظاهر. نعم، لو جعل قوله «لللَّهو» تعليلاً للحكم بكون السفر
ص: 236
للصيد معصية صحّ الاستفادة المزبورة، لكنَّه غير مراد جزما، إذ لا معنى لكون مطلق السفر معصية لللَّهويّة، و تعلّقه بكلّ من الأمرين على سبيل تنازع العاملين فى معمول واحد مما لاشاهد له و لادليل عليه فى العبارة.(1)
و لايخفى عليك أنّ المحكىَّ عن الشيخ الطوسى و إن لم يدلّ على حرمة اللَّهو بما هو اللَّهو ولكن يكفى المحكىُّ عن المعتبر، حيث قال: إنّ اللَّهو حرام. و مما ذكر يظهر ما فى بلغة الطالب، حيث أنكر دلالة كلمات هذه الجماعة على حرمة مطلق اللَّهو.
قال فى بلغة الطالب: لايخفى أنّ ما تطابقت عليه كلمة هذه الجماعة من الإتمام لكون السفر للتصيّد اللَّهوى أو أن طلب التصيّد للهو و البطر حرام و أمثالهما لاتدلّ على حرمة مطلق اللهو و لو لم يكن بالصيد. فإنّ قولهم «للهو» متعلّق بالطلب، فيفيد أنّ طلب الصيد للهو حرام، لا أنّ طلب الصيد حرام للهو، بل لامعنى محصّل للأخير إلّا بالتعسّف.
و لامانع من أن يقال: التصيّد الناشى من اللهو الذى لايتعلّق به غرض بأصل الصيد، بل قد يصيد و لايذبح و لايلتفت إلى ما صاده حرام، بل لابعد فى أن يدّعى أنّ التصيد لا لغرض عقلائى حرام، لأنَّ المقدار المرخَّص فيه فى تأذّى الحيوانات هو خصوص التعرّض لها للانتفاع بها، لا لمجرّد العبث و اللهو، فلاتدلّ هذه الكلمات على حرمة اللهو بوجه. و الحاصل أنّه فرق بين حرمة التصيّد اللهوى و حرمة اللهو، فإنّ الأول لايستلزم الثانى.(2)
و الأضعف من هذا الاستدلال هو الاستشهاد على حرمة اللهو مطلقا بإيجاب التمام
**********
(1) التعليقة، ص 134.
(2) بلغة الطالب، ج 1، ص 149-148.
ص: 237
على من يكون سفره للصيد تنزّهاً، و ذلك لأنّ هذا الوجه غير تامّ لعدم الملازمة بين وجوب التمام و حرمة السفر، فضلاً عن حرمة مطلق اللهو؛ و لذا صرّح فى جامع المدارك بأنّ السفر للصيد و إن كان لايوجب القصر لكن حرمته مشكلة.(1)
و الإنصاف أنّ الظاهر من كلمات بعض الأصحاب: أنّ اللَّهو حرام على وجه الإطلاق و لاكلام فيه، و إنّما الكلام فى الدليل عليه كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
و قد تقدّم قول المحقّق فى المعتبر فى بيان حرمة السفر اللهوى و التصيّد اللهوى: «لنا ان اللهو حرام»، و قول الحلّى: «إنَّ اللعب بجميع الأشياء قبيح»، و أيَّده فى الرياض «بأنَّ ما دلّ على قبح اللعب و ورد بذمّه من الآيات و الروايات أظهر من أن يخفى، فإذا ثبت القبح و الذمّ ثبت النهى». و استدلال صاحب الرياض تبعا للمهذَّب لحرمة المسابقة التى لم يرد نصٌّ على جوازها لما دلّ على تحريم اللهو و اللعب قائلا بكونها منه بلاتأمّل، فإنّه ظاهر فى حرمة اللهو على الإطلاق.
فما ذهب إليه الشيخ من أنّ ظاهر الكلمات أنَّ اللهو حرام ليس بمجازفة، بل قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: أقول: لاخلاف بين المسلمين قاطبة فى حرمة اللهو فى الجملة، بل هى من ضروريات الإسلام. و إنّما الكلام فى حرمته على وجه الإطلاق، فظاهر جملة من الأصحاب بل صريح بعضهم و ظاهر بعض العامة أنَّ اللهو حرام مطلقا.(2)
وعليه فلامجال لإنكار دلالة بعض العبائر و كلمات الأصحاب على حرمة اللهو على وجه الإطلاق. هذا كلّه من جهة كلمات الأصحاب حول حرمة اللهو على الإطلاق.
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 18.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 420.
ص: 238
ومنها: الروايات، و لايخفى أنَّ الأخبار على طوائف:
الطائفة الأولى: هى الروايات الدالّة على وجوب الإتمام على المسافر إذا كان سفره للصيد اللهوى بدعوى: أنّا لانعرف وجها لإتمام الصلاة هنا إلّا كون السفر معصية للصيد اللهوى.
أورد عليه: بأنّ هذا الاستدلال ضعيف إذ غاية ما يستفاد من هذه الأخبار أنّ السفر للصيد اللهوى لايوجب القصر، فلا دلالة فيها على كون السفر معصية، إذ لا ملازمة بين وجوب الإتمام فى السفر و بين كونه معصية، بل هو أعمّ من ذلك.(1)
الطائفة الثانية: هى الروايات الدالّة على أنّ اللهو من الكبائر.
منها: حديث شرايع الدين عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام: أنّه عدّ الكبائر حتى قال: و الملاهى التى تصدّ عن ذكر الله عزّوجلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار.(2) بدعوى: أنّ الملاهى جمع المَلهى مصدراً أو الملهى وصفاً لاالملهاة آلة، لأنّه يناسب التمثيل بالغناء.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة أولاً: بأنّ هذه الرواية ضعيفة السند.(3) و ثانياً: لادلالة فيها على حرمة اللهو المطلق، بل الظاهر منها أنّ الحرام هو اللهو الذى يصدّ عن ذكر الله كالغناء و ضرب الأوتار و نحوهما.
و ثالثاً: أنّ الظاهر من اللغة أنّ الملاهى اسم الآلات، فالأمر يدور بين رفع اليد عن ظهوره و حملها على الفعل و بين رفع اليد عن ظهور الغناء و حمله على الغناء فى آلة
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 421.
(2) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 331، ح 36.
(3) و ذلك لاشتماله على مجاهيل كأبى العباس أحمد بن يحيى بن زكريا القطّان و بكر بن عبدالله بن حبيب و تميم بن بهلول.
ص: 239
اللهو. و لاوجه لترجيح أحدهما على الآخر، فتكون الرواية مجملة. بل ربّما يرجّح رفع اليد عن ظهور الغناء، كما يدلّ عليه عطف ضرب الأوتار على الغناء.(1)
وعليه فلايدلّ حديث شرايع الدين على حرمة مطلق اللهو؛ هذا مضافا إلى ما فى بلغة الطالب: من أنه لم يبيّن فيها مرتبة الصدّ عن ذكر الله فيها، مجملة و الأخذ بالاطلاق شاذّ القائل؛ هذا مضافا إلى تمثيله بالغناء و ضرب الأوتار الناصّ فى عدم إرادة الإطلاق.(2)
ومنها: رواية العيون، حيث عدّ فيها من الكبائر الاشتغال بالملاهى.(3)
أورد عليه فى التعليقة بقوله: لكن ليس فيها التمثيل بالغناء و ضرب الأوتار فيحتمل الملاهى فيها الحمل على جمع الملهاة آلية، انتهى.(4) بل يمكن القول بأنّ ظاهر الملاهى بلا قرينة هو الجمع من اسم الآلة.
وعليه فلايدلّ رواية العيون على حرمة مطلق اللهو؛ هذا مضافا إلى تضعيف سند الرواية عن بعض، ولكنّه محلّ تأمّل و نظر، لأنّ السند هكذا: حدّثنا عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابورى رضى الله عنه بنيسابور فى شعبان سنة اثنين و خمسين و ثلثمأة، قال: حدّثنا على بن محمد بن قتيبة النيسابورى عن الفضل بن شاذان.
وهذا السند لايبعد اعتباره، فإنّ عبدالواحد من مشايخ الصدوق و فى محكىِّ خاتمة المستدرك أنّه من مشايخه المعروفين و قد اعتمد عليه كثيرا مترضّيا، و قد صحّح العلّامة فى التحرير حديثا هو فى سنده.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 422-421.
(2) بلغة الطالب، ج 1، ص 149.
(3) الوسائل، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 330، ح 33.
(4) التعليقة، ص 134.
ص: 240
و أمّا على بن محمد بن قتيبة النيسابورى ففى محكىِّ رجال النَّجاشى ما لفظه: عليه اعتمد أبوعمرو الكشّى فى كتاب الرجال أبوالحسن صاحب الفضل ابن شاذان و رواية كتبه و هو كاف فى كونه موثَّقا؛ و عليه فالرواية صحيحة ولكن لاتدلّ إلّا على حرمة الاشتغال بآلات اللهو. و المراد من الاشتغال بها هو عبارة عن اللَّهو بها. و لاشبهة فى حرمة استعمال تلك الآلات، و إنّما الكلام فى حرمة مطلق اللَّهو.(1)
الطائفة الثالثة: هى التى تقدّمت فى روايات القمار؛ منها: قوله عليه السلام: كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر،(2) بدعوى ظهورها بدواً فى حرمة اللَّهو مطلقا.
وفيه: أنَّ المعلوم جواز اللَّهو فى الجملة كاللَّعب بالسَّبحة أو اللّحية أو الحبل أو الأحجار و نحوها، فلايمكن العمل بإطلاق هذه الروايات على تقدير صحّتها. و لذا قال فى مصباح الفقاهة: لابدّ من حملها على قسم خاص من اللَّهو أعنى الغناء و نحوه كما هو الظاهر، أو حملها على وصول الاشتغال بالأمور اللّاغية إلى مرتبة يصدّ فاعله عن ذكر الله، فإنّه حينئذ يكون من المحرّمات الإلهية.(3)
الطائفة الرابعة: هى التى تدلّ على بطلان اللهو، كمرفوعة عبدالله بن المغيرة رفعه قال صلى الله عليه وآله و سلم: كلُّ لهو المؤمن باطل إلّا فى ثلاث: فى تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته، فإنّهن حق.(4)
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 249.
(2) رواه الحسن بن محمد الطوسى فى مجالسه عن أبيه عن ابن الصَّلت عن ابن عقدة عن على بن محمد بن على الحلبى عن جعفر بن محمد بن عيسى عن عبدالله بن على عن على بن موسى عن آبائه عن على عليه السلام. (الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 19، ص 251، ح 15).
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 422.
(4) الوسائل، الباب 1 من أبواب أحكام السبق، ج 15، ص 251، ح 5.
ص: 241
وفيه: أنّ الحكم ببطلان مطلق اللهو لايستلزم الحكم بحرمته؛ هذا مضافا إلى ضعف السند.
الطائفة الخامسة: هى رواية تحف العقول: و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لايكون منه و لافيه شيئ من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه،(1) بدعوى أنّ قوله «و ما يكون الخ» يشمل المقام.
و أورد عليه فى بلغة الطالب: بمنع دلالة هذه الرواية على حرمة اللهو على الإطلاق، حيث قال: لا دلالة عليها فى رواية تحف العقول من وجه، إذ قوله: «و ما يجئ منه و فيه الفساد محضا» غير شامل للهو، سواء أريد من الفساد المفاسد الظاهرة كالسموم القاتلة و الحيوانات المضرّة و الحركات الموذية، أو المفاسد الواقعيّة المستكشفة بالحرمة الشرعية. أمّا على الأوّل فواضح؛ و أمّا على الثانى فلعدم الكاشف إلّا على الوجه الدائر؛(2) هذا مضافا إلى ضعف السند.
الطائفة السادسة: هى التى نهت فيها عن آلات اللهو:
منها: ما رواه عن كتاب على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن اللعب بأربعة عشر و شبهها، قال: لايستحبّ شيئاً من اللعب غير الرهان و الرمى.(3) بناء على وحدة اللعب و اللهو، و فيه: أنّه لايستفاد منه حرمة غير الرهان و الرمى لعدم ملازمة عدم الاختيار مع الحرمة.
ومنها: ما رواه عن الخصال عن أبيه عن سعد عن أيّوب بن نوح عن الربيع بن
**********
(1) الوسائل، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 85، ح 1.
(2) بلغة الطالب، ج 1، ص 149.
(3) الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 315، ح 14.
ص: 242
محمد المسلى عن عبد الأعلى عن نوف عن أميرالمؤمنين عليه السلام فى حديث قال: يانوف! إيّاك أن تكون عشارا أو شاعرا أو شرطيا أو عريفا أو صاحب عرطبة و هى الطنبور أو صاحب كوبة و هو الطبل، فإنّ نبىَّ الله خرج ذات ليلة فنظر إلى السماء، فقال: أما إنّها الساعة التى لاتردّ فيها دعوة إلّا دعوة عريف أو دعوة شاعر او دعوة عاشر أو شرطى أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة.(1) بدعوى: أنّ التحذير عن هذه الأمور لكونها من المحرّمات.
و أمّا السند، فالربيع كما أفاد الوحيد البهبهانى رواية جماعة كتابه تشير إلى الاعتماد سيّما و أن يكونوا كابن الوليد و على بن الحسن و العباس بن عامر. قال فى منتهى المقال: و ظاهر الفهرست و النجاشى تشيّعه هذا. و أمّا نوف هو نوف بن فضالة صاحب علىٍّ عليه السلام، كذا حكى عن شرح النهج، و عن الوحيد البهبهانى: يظهر من الأخبار أنّه من خواصّ على عليه السلام.
ومنها: ما رواه عن عيون الأخبار عن محمد بن عمر البصرى عن محمد بن عبدالله الواعظ عن عبدالله بن أحمد بن عامر الطائى عن أبيه عن الرضا عليه السلام فى حديث الشامى: أنّه سأل أميرالمؤمنين عليه السلام عن معنى هدير الحمام الراعبية «الراعبية»، قال: تدعو على أهل المعازف و المزامير و العيدان.(2)
المعازف جمع مِعزَف الملاهى كالعود و الطنبور، المزامير جمع المزمار الآلة التى يزمّر فيها أى يغنّى فيها بالنفخ فى القصب.
ومنها: موثّقة السَّكونى عن أبى عبدالله عليه السلام: أنها كم عن الزفن و المزمار و عن
**********
(1) الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 315، ح 12.
(2) الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 314، ح 10.
ص: 243
الكوبات و الكبرات.(1) زفن زفنا أى رقص و أصله الدفع الشديد و الضرب بالرِجل كما يفعل الراقص.
ومنها: معتبرة سماعة، و هى ما رواه عن الكافى عن سهل عن سليمان بن سماعة عن عبدالله بن القاسم عن سماعة قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: لمّا مات آدم شمت به إبليس و قابيل، فاجتمعا فى الأرض، فجعل إبليس و قابيل المعازف و الملاهى شماتة بآدم، فكلّ ما كان فى الأرض من هذا الضرب الذى يتلذّذ به الناس، فإنّما هو من ذلك.(2) شمت بعدوّه شماتة أى فرح ببليّته.
قال الشيخ الأعظم قدس سره: إنّ فيه اشارة إلى أنّ المناط هو مطلق التلهّى و التلذّذ. أورد عليه الميرزا الشيرازى قدس سره: بأنّه يمكن أن يقال: إنّه على تقدير التسليم، لادلالة فى الرواية على حرمة التلذّذ من حيث هو، بل غايته الدلالة على الحرمة من حيث وقوع الشماتة بل شماتة مثل آدم (على نبينا و آله و عليه السلام).(3)
وفيه: أنّ المستفاد من الذيل أنّ المعيار هو الضرب الذى يتلذّذ به الناس على الإطلاق، فإنّه ملحق بالصدر.
ومنها: موثّقة عبدالأعلى وهى ما رواه عن الكافى عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضّال عن يونس بن يعقوب عن عبدالأعلى قال: سألت أباعبدالله عليه السلام عن الغناء و قلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم رخّص فى أن يقال: جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيكم، فقال: كذبوا، إن الله عزّوجلّ يقول: (وَ مٰا خَلَقْنَا)
**********
(1) الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 314، ح 6.
(2) الوسائل، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 313، ح 5.
(3) التعليقة، ص 135.
ص: 244
(اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ ) (1) ثمّ قال: «ويل لفلان مما يصف»، رجل لم يحضر المجلس.(2)
و المراد من عبد الأعلى هو ابن أعين الذى يظهر من عبارة المفيد أنّه من فقهاء أصحاب الأئمة و خاصّتهم و الرؤساء و الأعلام؛ و الدليل على أنّه ابن أعين هو رواية يونس به يعقوب عنه.
وفيه: أنّ قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) الآية، لاتدلّ على حرمة اللهو علينا، إذ مجرّد أنّه لايناسب ساحته عزّوجلّ كيف يدلّ على مبغوضيّة منّا؟ إذ ليس كلّما لايناسبه لايناسبنا، مع أنّ ظاهر آخر الآية كون اللهو بمعنى اللعب. و من المعلوم أنّه بهذا المعنى غير محرّم. و لاينافى ما ذكرنا قبول دلالة الرواية على حرمة قول «جئناكم جئناكم»، غاية الأمر يكون الاستدلال بالآية من قبيل ذكر المناسبات.(3)
ومنها: خبر على بن إبراهيم عن أبيه عن سليمان بن مسلم الخشاب عن عبدالله بن جريح المكّى عن عطاء بن أبى رياح عن عبدالله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث قال: إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصَّلوات، إلى أن قال: و يستحسنون الكوبة و المعازف، إلى أن قال: فأولئك يدعون فى ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس.(4)
ومنها: خبر محمد بن أبى عباد و كان مستهترا بالسماع و يشرب النبيذ، قال: سألت الرضا عليه السلام عن السماع، فقال: لأهل الحجاز (العراق خ ن) فيه رأى و هو فى
**********
(1) الانبياء، 18-16.
(2) الوسائل، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 307، ح 15.
(3) بلغة الطالب، ج 1، ص 149.
(4) الوسائل، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 27.
ص: 245
حيّز الباطل و اللهو، أما سمعت الله عزّوجلّ يقول: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً) (1)
و ربّما يستفاد من مجموع الأخبار و الأدلة حرمة اللهو على الإطلاق. و يؤيّده ما ذكره الشيخ الأعظم: من أنّ حرمة اللعب بآلات اللهو الظاهر أنّه من حيث اللهو، لا من حيث خصوص الآلة، إلى أن قال: و يؤيّده ما تقدّم من أنّ المشهور حرمة المسابقة على ما عدا المنصوص بغير عوض. فإنّ الظاهر أنّه لاوجه له عدا كونه لهوا، و إن لم يصرّحوا بذلك عدا القليل منهم. نعم، صرّح العلّامة فى التذكرة بحرمة المسابقة على جميع الملاعب كما تقدّم نقل كلامه فى مسألة القمار هذا.
و فيه كما فى بلغة الطالب: لو سلّمنا ذلك فلاتدلّ إلّا على حرمة مرتبة خاصّة منه الحاصلة من الآلات المزبورة، و أين ذلك من مطلق التلهّى.(2) و عليه فاستفادة حرمة التلهّى عن الإطلاق من الأدلّة لاتخلو عن تأمّل و نظر.
ثمّ إنّ الشيخ بعد ما استفاد حرمة مطلق التلهّى من الأدلّة و الكلمات، قال: ولكن يشكل الأمر فى معنى اللَّهو، فإنّه إن أريد به مطلق اللَّهو كما يظهر من الصّحاح و القاموس، فالظاهر أنّ القول بحرمته شاذٌّ مخالف للمشهور و السيرة، فإنَّ اللعب هى الحركة لالغرض عقلائى، و لاخلاف ظاهرا فى عدم حرمته على الإطلاق.
نعم، لو خصّ اللهو بما يكون عن بطر و فسّر بشدّة الفرح كان الأقوال تحريمه و يدخل فى ذلك الرقص و التصفيق و الضرب بالطشت بدل الدّف و كلّما يفيد فائدة آلات اللهو و لو جعل مطلق الحركات التى لايتعلّق بها غرض عقلائى مع انبعاثها عن القوى الشهوية ففى حرمته تردّد.(3)
**********
(1) الوسائل، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 308، ح 19. الفرقان، 72.
(2) بلغة الطالب، ج 1، ص 150.
(3) المكاسب المحرّمة، ص 54.
ص: 246
وفيه: أنَّ الفرح الشديد على الإطلاق لايكون حراما أيضا، و لذا قال السيّد المحقّق الخوئى: إنّا لا نعرف وجها صحيحاً لما ذكره المصنّف من تقوية حرمة الفرح الشديد.(1)
و قال فى جامع المدارك أيضا: ويقع الإشكال فى هذا التفسير و حرمته عليه على الإطلاق، فإنّه عدّ السفر للصيد من اللهو مع عدم صدق التفسير المذكور عليه. و قد تلتذّ النفس بالنحو المذكور (أى شدة الفرح) من سماع صوت حسن ليس بغناء أو من مشاهدة بعض المناظر و لايلتزم بالحرمة.(2) و لاأقلّ من الشكّ ، فلايجوز التمسّك بأدلة حرمة اللهو فى الموارد المشكوكة.
وقال الميرزا الشيرازى قدس سره: و أدلّة حرمة مطلق اللهو على تقدير تماميتها دلالة و سندا لاتقتضى المنع لإجمال اللهو فيها المانع عن التمسّك بها فى مورد الإجمال.(3) وعليه، فلادليل على حرمة مطلق اللهو.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ اللهو المناسب لمجالس الفسق و الفجور كاللعب بالمعازف و المزمار و الكوبات و الكَبَرات (أى الطبول) و الزَفن و الطنبور و نحوها حرام قطعا، لأنّها القدر المتيقّن من اللّهو و الملاهى المذكورين فى الأخبار و الكلمات.
و أمّا حرمة غير ذلك من موارد مطلق اللهو فمحلّ تأمّل، لايقال: إنّ مطلق الاشتغال بآلات الملاهى محرّم و لو لم يكن مناسبا لمجالس أهل الفسق و الفجور لما فى الأخبار من عدّ الاشتغال بها من الكبائر كما فى مصحّحة الفضل بن شاذان، لأنّا نقول: لا إطلاق للأخبار المذكورة لأنّها فى مقام بيان تعديد الكبائر لامقام بيان خصوصيات كلّ كبيرة.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 423.
(2) جامع المدارك، ج 3، ص 18.
(3) التعليقة، ص 136.
ص: 247
هذا مضافا إلى تقييد الملاهى فى بعضها بالتى تصدّ عن ذكر الله عزّوجلّ و إن كان لايخلو ذلك البعض عن ضعف السند؛ ومضافا إلى المنهى بمناسبة الحكم و الموضوع هو الاشتغال بالأدوات بنحو اللهو بالمعنى المذكور.
والحاصل: أنّه لادليل على حرمة اللهو على الإطلاق و لا على حرمة مطلق الاشتغال بآلات الملاهى، و لو لم يكن للتلذّد الشهوانى أو و لو لم يكن مناسبا لمجالس أهل الفسق و الفجور.
ولكن الإنصاف أنّ موثّقة السَّكونى تكفى للدلالة على النهى عن الزفن أى الرقص و المزمار و الكوبات و الكَبَرات و نحوها على الإطلاق، و هكذا تكفى معتبرة سماعة للدلالة على أنّ مطلق الضرب الذى يتلذّذ به الناس بالقوة الشهويّة ممنوع، حيث قال عليه السلام فيها: ما كان فى الأرض من هذا الضرب الذى يتلّذذ به الناس، فإنّما هو من ذلك أى من عمل الشيطان و الأخذ بالمعازف و الملاهى شماتة بآدم بعد رحلة آدم (على نبينا و آله و عليه السلام)، فالاشتغال بالأمور و الأدوات المذكورة و نحوها محرّم على الإطلاق و إن لم يقم دليل على حرمة اللهو على الإطلاق.
ودعوى: أنّ الاشتغال بالأمور المذكورة يحمل على ما إذا اشتغل بها بنحو يناسب مجالس أهل الفسق و الفجور، كما تقدّم فى الغناء أنّه محمول على ذلك، مندفعة: بأنّ ذلك صحيح لو لم يكن إطلاق، و أمّا مع وجود الإطلاق فى المقام كرواية السَّكونى فلاوجه لحمل الإطلاق على ذلك.
أللّهمّ إلّا أن يمنع الإطلاق أو يمنع كونه بنحو القضية الحقيقيّة، أو يقال: إنّ الممنوع هو الاشتغال بها لهوا و إلّا فلا. و كيف كان، يؤخذ فى الموارد المشكوكة بمقتضى الأصل الجارى فيه و الاحتياط طريق النجاة، و الله هو العالم.
ص: 248
ثم إنّ بيع الأدوات المختصّة باللهو الحرام و شرائها حرام، كما أنّ أخذ الأجرة فى قبال اللهو الحرام محرّم شرعا و يكون أكلاً للباطل.
ثمّ لايخفى عليك أنّه لافرق فى حرمة الاشتغال باللهو المحرّم بين كونه أصلاً فى إيجاد اللهو أو تبعا، و ذلك لإطلاق أدلّة حرمة الاشتغال بأدوات اللهو. نعم، لو لم يكن دخيلا فى إيجاد اللهو، فهل يكون الشركة فى المجلس المذكور محرّما أو لا؟ فإن كان النهى عن المحرّم متحقّقا بالخروج عن المجلس يجب ذلك، و هكذا يجب لو كان سببا للمعصية أو كانت الشركة ترويجا للحرام و نحوه، بل إن لم يترتّب عليه عنوان محرّم، فالأحوط هو الافتراق عن العصاة، كما لعلّه يدلّ عليه قوله عليه السلام فى صحيحة أبى حمزة: إيّاكم و صحبة العاصين.(1)
**********
(1) الوسائل، الباب 38 من أبواب الأمر و النهى و ما يناسبهما، ج 16، ص 260، ح 3.
ص: 249
ص: 250
قال الشيخ الأعظم قدس سره: ذكره العلّامة فى المكاسب المحرّمة. و الوجه فيه واضح من جهة قبحه عقلاً. ويدلّ عليه من الشرع قوله تعالى: (وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لاٰ تُنْصَرُونَ ) (1)
وعن النبى صلى الله عليه وآله و سلم فيما رواه الصدوق (بسند موثّق): و من عظّم صاحب دنيا و أحبّه لطمع دنياه سخط الله عليه و كان فى درجته مع قارون فى التابوت الأسفل من النار.(2)
و فى النبوى الآخر الوارد فى حديث المناهى: من مدح سلطانا جائراً و تخفّف و تضعضع له طمعا فيه كان قرينه فى النار.(3) و مقتضى هذه الأدلّة حرمة المدح طمعا فى الممدوح، و أمّا لدفع شرّه فهو واجب. و قد ورد فى عدّة أخبار: أنّ شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرّهم.(4)
**********
(1) هود، 113.
(2) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 181، ح 14.
(3) الوسائل، الباب 43 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 183، ح 1.
(4) المكاسب المحرّمة، ص 54.
ص: 251
ولايخفى عليك أولاً: أنّ المدح المذكور ما لم يندرج فى عنوان محرّم ليس بعنوانه الأولى مورد حكم العقل بالقبح. نعم، لو انطبق عليه عنوان تقوية الظالم أو ترويج الباطل أو عنوان الكذب يترتّب عليه أحكام العناوين المذكورة مطلقا، سواء كانت عقلية أو شرعية.
وثانياً: أنّ الآية الكريمة تدلّ على حرمة الركون إلى الظالم و الميل و السكون إليه و ليس مجرّد المدح ركونا إليه، و لاأقلّ من الشكّ ، فلامجال للاستدلال بالآية فى المقام.
وثالثاً: أنّ النبوى الأول فهو محمول عى النبوى الآخر الوارد فى حديث المناهى، فيدلّ على حرمة مدح السلطان الجائر، ولاكلام فيه إلّا أنّه أخصّ من المدّعى، و إنّما حملناه على النبوى الآخر لأنّ مدح أرباب الدنيا الغير الظالمين لأحد طمعا فى دنياهم برجاء أن يصيبه شيئ مما فى أيديهم لايكون محرّما، كما قال فى بلغة الطالب: لادليل على حرمته لو لم تكن السيرة الجارية تقريرا و عملا على جوازه.(1)
ورابعاً: أنّ حديث المناهى مضافا إلى ضعف سنده لإرساله يكون أخصّ من المدّعى، لأنه يدلّ على حرمة مدح السلطان الجائر طمعا فى ماله. و المدّعى هو حرمة مدح من لايستحقّ المدح أو مدح من يستحقّ الذمّ .
فتحصّل: أنّ المدح المزبور ما لم ينطبق عليه العناوين المحرّمة ليس بحرام و إن كان مرجوحا، بل لايبعد القول بكراهته بناء على التسامح فى أدلة السنن و التعدّى منها إلى المكروهات.
وفى خبر الحسين بن زيد عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 151.
ص: 252
رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث المناهى: أنّه نهى عن المدح و قال: احثوا فى وجوه المدّاحين التراب.(1) و عليه فلاوجه لجعل العنوان المذكور فى نفسه من المكاسب المحرّمة.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: لايخفى أنّ حرمة مدح من لايستحقّ المدح على وجه الإطلاق أو فيما انطبق عليه عنوان محرّم إنما هى فيما إذا لم يلتجيئ إلى المدح لدفع خوفٍ أو ضرر بدنى أو مالى أو عرضى، و إلّا فلاشبهة فى الجواز. و يدلّ عليه قولهم عليهم السلام فى عدّة روايات إنّ شرّ الناس عندالله يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرّهم، و كذلك تدلّ عليه أخبار التقيّة، فإنها تدلّ على جوازها فى كلّ ضرورة و خوف.(2)
**********
(1) الوسائل، الباب 43 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 183، ح 1.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 426.
ص: 253
ص: 254
و هى على قسمين: أحدهما: معونتهم فى ظلمهم؛ قال الشيخ الأعظم: هى حرام بالأدلة الأربعة و هو من الكبائر، انتهى.
و لاإشكال فى حكم العقل بقبح الظلم و المعونة عليه و يستكشف منه حرمته شرعا بقاعدة الملازمة كما لايخفى، بل يدلّ قوله تعالى: (وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ) (1) على حرمة إعانتهم بالأولوية إن كان المراد من الركون هو الميل إليهم، أو بالمطابقة إن كان المراد من الركون المحرّم هو الشركة و الدخول معهم فى ظلمهم و إعانتهم.
و أمّا الروايات الدالّة على حرمة معونة الظالمين فهى مستفيضة، بل متواترة:
منها: صحيحة أبى حمزة عن على بن الحسين عليهما السلام فى حديث طويل قال: إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين و مجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم و تباعدوا من ساحتهم.(2) و المراد من أبى حمزة هو أبوحمزة الثمالى.
**********
(1) هود، 113.
(2) الوسائل، الباب 38 من أبواب الأمر و النهى و ما يناسبهما، ج 16، ص 260، ح 3.
ص: 255
ومنها: موثّقة طلحة بن زيد عن أبى عبدالله عليه السلام: العامل بالظلم و المعين له و الراضى به شركاء ثلاثتهم.(1) والوجه فى التعبير عنها بالموثّقة من جهة كون طلحة بن زيد عاميا.
ومنها: صحيحة أبى بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن أعمالهم ؟ فقال لى: يا ابامحمد! لا ولامدّة قلم إن أحدهم (كم يب) لايصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله أو حتّى يصيبوا من دينه مثله؛ الوهم من ابن أبى عمير.(2) و القدر المتيقّن من أعمالهم هو معونتهم فى ظلمهم أو صيرورتهم أعواناً لهم.
ومنها: صحيحة ابن أبى يعفور قال: كنت عند أبى عبدالله عليه السلام، إلى أن قال: قال إنّ أعوان الظَّلمة يوم القيامة فى سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد.(3)
ومنها: موثّقة السَّكونى عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيساً أو مدّ لهم مدّة قلم ؟ فاحشروهم معهم.(4)
ومنها: صحيحة عبدالله بن سنان قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: من أعان ظالما على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطا حتّى ينزع عن معونته.(5) و إلى غير ذلك من الروايات الناهية عن معاونة الظالمين فى ظلمهم، أو عن دخول الإنسان فى زمرة أعوانهم.
**********
(1) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 178، ح 2.
(2) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 5.
(3) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 6.
(4) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 181، ح 11.
(5) الوسائل، الباب 80 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 57، ح 5.
ص: 256
وثانيها: معونتهم فى غير المحرّمات من بناء المساجد و القنطرة و نحوهما. و لايخفى أنّ ظاهر بعض الأخبار حرمتها أيضا.
منها: صحيحة يونس بن يعقوب قال: قال لى أبوعبدالله عليه السلام: لاتعنهم على بناء مسجد.(1) و فيه: أنّه قد يقال: المنع عن إعانتهم على بناء المسجد لهم لعلّه من جهه أنّه نحو من تعظيم شوكتهم فيكون كمسجد الضرار الذى ذكره الله فى الكتاب و تبعد الرواية عما نحن بصدده، ولكنّه كما ترى يخالفه الإطلاق.
ومنها: ما رواه الكشّى بسند موثّق عن حمدويه عن محمد بن إسماعيل الرازى (و هو البرمكى الثقة على ما فى محكىّ التعليقة) عن الحسن بن على بن فضّال عن صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت على أبى الحسن الأول عليه السلام، فقال لى: يا صفوان! كلّ شيئ منك حسن جميل ماخلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك أى شيئ ؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعنى هارون -، قلت: والله ما أكريته أشراً و لابطراً و لاللصيد و لاللهو، ولكنّى أكريته لهذا الطريق - يعنى طريق مكة - و لاأتولّاه بنفسى لكنّى أبعث معه غلمانى، فقال لى: يا صفوان: أيقع كراؤك عليهم ؟ قلت: نعم، جعلت فداك، قال: فقال لى: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك ؟ قلت: نعم، قال: من أحبّ بقاءهم فهو منهم و من كان منهم كان ورد النار.
قال صفوان: فذهبت فبعت جمالى عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون، فدعانى فقال لى: يا صفوان! بلغنى أنّك بعت جمالك ؟ قلت: نعم، قال: و لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير و إنّ الغلمان لايفون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات، إنّى لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر عليهما السلام، قلت: ما لى و لموسى بن جعفر عليهما السلام ؟ فقال:
**********
(1) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 180، ح 8.
ص: 257
دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك.(1)
وفى مصباح الفقاهة: أنّ الرواية أدلّ على الجواز، فإنّ الإمام عليه السلام انما ردعه عن محبّة بقائهم، انتهى.
و أوضحه فى إرشاد الطالب، حيث قال: ولكن ظاهر هذه الرواية جواز المعاملة و إعانتهم على الفعل المباح، و ذلك فإنّه لو كانت معاملة الجائر حراما لم يكن وجه لقوله «أيقع كراؤك الخ»، بل كان المتعيّن أن يقول: إن الإكراء منهم حرام حتى فيما إذا لم يكن لللَّهو و البطر.
و عدوله عن ذلك إلى ما فى الرواية قرينة واضحة على أنّ وجه النهى عن المعاملة هو حبّ الشخص بقاءهم. و من الظاهر أنّ هذا النحو من الحبّ الذى هو فى الحقيقة حبٌّ لاستيفاد حقه لايكون محرّما، خصوصا فيما إذا علم أنه على تقدير ذهاب هذا الظالم يخلفه ظالم آخر مثله أو أخبث منه. و كيف كان، فالمستفاد من الرواية كون التجنّب عن الجائر أولى.(2) أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الحرمة التكليفية لاتنافى السؤال المذكور «أيقع كراؤك الخ»، و معه لايدلّ على الجواز، فضلاً عن كونه أو دلّ فتأمَّل.
ومنها: صحيحة محمد بن عذافر عن أبيه قال: قال ابوعبدالله عليه السلام: يا عذافر! نبّئت أنّك تعامل أباأيوب و الربيع، فما حالك إذا نودى بك فى أعوان الظَّلمة ؟ قال: فوجم أبى، فقال له أبو عبدالله عليه السلام لمّا رأى ما أصابه: أى عذافر! إنّى إنّما خوّفتك بما خوّفنى الله عزّوجلّ به، قال محمد: فقدم أبى فما زال مغموما مكروبا حتّى مات.(3)
**********
(1) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 183-182، ح 17.
(2) إرشاد الطالب، ج 1، ص 253.
(3) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 178، ح 3.
ص: 258
ودعوى ضعفها من جهة وقوع سهل فى طريقها مندفعة: بأنّ الأمر فى السهل سهل، ثمّ إنّ قوله «فوجم أبى إلخ» ظاهر فى أنّ محمد بن عذافر كان حاضرا فى المجلس، ولكن يخالفه ما فى الذيل، قال محمد: فقدم أبى إلخ؛ و ما فى الصدر، قال قال إلخ، و كيف كان، إنّ قوله عليه السلام: «نبّئت أنك تعامل إلخ» يدلّ على أنّ عذافر كان يعامل مع الظَّلمة، بحيث يصدق أعوان الظلمة عليه، فلايكون مربوطاً بالمقام. هذا مضافا إلى جهالة عذافر و أبوأيوب و الربيع، كانا من عوامل منصور كما قيل.
ومنها: صحيحة ابن أبى يعفور قال: كنت عند أبى عبدالله عليه السلام إذ دخل (فدخل خ ل) عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك، (أصلحك الله خ ل) إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها، فما تقول فى ذلك ؟ فقال أبوعبدالله عليه السلام: ما أحبّ أنّى عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و إنّ لى ما بين لابتيها لا و لامدّة بقلم، إنّ أعوان الظَّلمة يوم القيامة فى سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد.(1) و الوكاء ما يشدّ به رأس القربة ما بين لابتى هى المدينة و اللابتين تثنية اللابة و هى أرض ذات أحجار سود. و كان المراد بهما كما فى إرشاد الطالب الجبلان فى ناحيتى المدينة.
وفيه: أنّ قوله «ما أحبّ إلخ» ظاهر فى الكراهة، و لعلّ وجه الكراهة أنه قد ينتهى إلى العون للظالم. و المقصود من ذكر «أنّ أعوان الظَّلمة إلخ» هو ذلك لا أنّه من مصاديقه.
و دعوى ضعف السند من جهة جهالة بشير الواقع فى السند، مندفعة: بأنّ نقل ابن أبى عمير عنه يكفى فى التوثيق، و المفروض أنه نقل عن البشير فى نفس هذه الرواية.
**********
(1) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 6.
ص: 259
وكيف كان، فهذه الروايات و إن كان بعضها ظاهرا فى حرمة معونتهم فى غير المحرّمات، ولكن تحمل على الكراهة جمعا بين الأخبار، لأنّ ظهور «ما أحبّ » فى الكراهة أقوى من ظهور النهى فى الحرمة.
قال الشيخ الأعظم: و الأقوى التحريم مع عدّ الشخص من الأعوان، فإن مجرد إعانتهم على بناء المسجد ليست محرّمة، إلّا أنه إذا عدّ الشخص معمارا للظالم أو بنّاءً له و لو فى خصوص المساجد، بحيث صار هذا العمل منصبا له فى باب السلطان كان محرّما.
إلى أن قال: و أمّا العمل له فى المباحات لأجرة أو تبرّعا من غير أن يعدّ معينا له فى ذلك فضلا من أن يعدّ من أعوانه، فالأولى عدم الحرمة للأصل و عدم الدليل عدا ظاهر بعض الأخبار، مثل رواية ابن أبى يعفور و رواية محمد بن عذافر و رواية صفوان؛ إلى أن قال: و غير ذلك مما ظاهره وجوب التجنّب عنهم. إلى أن قال: لكنّ الإنصاف أنّ شيئا مما ذكر لاينهض دليلا لتحريم العمل لهم على غير جهة المعونة.
أمّا الرواية الأولى (أى صحيحة ابن أبى يعفور)، فلأنّ التعبير فيها فى الجواب بقوله «ما أحبّ إلخ» ظاهر فى الكراهة، و أمّا قوله عليه السلام «إنّ أعوان الظَّلمة الخ» فهو من باب التنبيه على أنّ القرب إلى الظَّلمة و المخالطة معهم مرجوح، و إلّا فليس من يعمل لهم الأعمال المذكورة فى السؤال، خصوصا مرّة أو مرّتين، خصوصا مع الاضطرار معدوداً من أعوانهم. و كذلك يقال فى رواية عذافر مع احتمال أن يكون معاملة عذافر مع أبى أيوب و أبى الربيع على وجه يكون معدودا من أعوانهم و عمّالهم.
و أمّا رواية صفوان فالظاهر منها: أنّ نفس المعاملة معهم ليست محرّمة، بل من حيث محبّة بقائهم، و إن لم تكن معهم معاملة. و لايخفى على الفطن العارف بأساليب الكلام أنَّ قوله عليه السلام: من أحبّ بقائهم كان منهم، لايراد به «من أحبّهم» مثل محبّة
ص: 260
صفوان بقائهم حتى يخرج كرائه، بل هذا من باب المبالغة فى الاجتناب عن مخالطتهم حتى لايفضى ذلك إلى صيرورتهم من أعوانهم و إن يشرب القلب حبّهم، لأنّ القلوب مجبولة على حسب من أحسن إليها. و قد تبيّن مما ذكرنا أنّ المحرّم من العمل للظَّلمة قسمان: أحدهما الإعانة لهم على الظلم.
و الثانى: ما يعدّ معهم من أعوانهم و المنسوبين إليهم بأن يقال: هذا خيّاط السلطان و هذا معماره، و أمّا ما عدا ذلك فلادليل معتبر على تحريمه.(1)
و هو أنّ السيّد المحقّق الخوئى قدس سره قال: إنّ المراد من الظالم المبحوث عن حكم إعانته ليس هو مطلق العاصى الظالم لنفسه، بل المراد به هو الظالم للغير، كما هو ظاهر جملة من الروايات التى تقدّم بعضها، بل هو صريح جملة أخرى منها، و عليه فمورد الحرمة يختصّ بالثانى.(2)
ثمّ إنّ الظالم لايختصّ بالظالم العامىّ أو الظالم من الكفّار، بل يشمل مطلق الظالم، سواء كان كافرا أو عاميّا أو شيعيّا فيما إذا صدق عليه عنوان الظالم بقول مطلق.
و مجرّد كون مورد الأخبار هو الظالم العامّى لايوجب الاختصاص به، فإن العبرة بعموم الوارد لابخصوصية المورد.
ثمّ إنّ اللازم هو صدق عنوان الظالم عليه بقول مطلق من دون قيام قرينة عليه، فيختصّ بمن صدر عنه الظلم متواليا و يكون ذلك سجيّته و شأنه. و أمّا من صدر عنه أحيانا فلايحرم صيرورة أحد من أعوانه فيما إذا اجتنب عن المعاونة فى ظلمه
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 55-54.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 430-429.
ص: 261
و فى الختام لايذهب عليك أنّ حرمة صيرورة كونه من الأعوان إذا تزاحمت مع العناوين الملزمة كحفظ الدين و المؤمنين و النظام جاز ذلك، بل قد يجب أحيانا لقاعدة الأهمّ و المهمّ كما لايخفى.
و سيأتى إن شاء الله تعالى بقيّة الكلام فى مسألة التولّى عن الجائر.
ص: 262
و هو بالنون المفتوحة و الجيم الساكنة أو المفتوحة كما عن تاج العروس أن تواطئ رجلا إذا أراد بيعا أن تمدحه، أو هو أن يريد الإنسان أن يبع بياعة (السَّلعة) فتساومه فيها بثمن كثير لينظر إليك ناظر فيقع فيها، و الأكثر ذكروا المعنى الثانى.
و فى محكىّ الجوهرى: النَّجش أن تزايد فى المبيع ليقع غيرك و ليس من حاجتك. و عن المصباح: نجش الرجل إذا زاد فى سلعة أكثر من ثمنها و ليس قصده أن يشتريها، بل ليغرّ غيره فيوقعه فيه. قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و ظاهر الوجهين هو تحقّق النجش بهما، سواء كان ذلك عن مواطاة مع البايع أم لا.
والنَّجش حرام لأنه من مصاديق الغشّ إن وقعت المعاملة فى الخارج، و غشّ المؤمن حرام، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة. و أمّا لو لم تقع المعاملة فى الخارج فحرمته تكون من باب التجرّى. و ربّما استدلّ على حرمة النجش بحديث نفى الضرر.
و ردّه فى مصباح الفقاهة: بأنّ المشترى إنّما أقدم على الضرر بإرادته و اختياره، و إن كان الدافع له على الإقدام هو الناجش.
هذا مضافا إلى أنّ الدليل أخصّ من المدّعى، فإنّ الناجش إنّما يوقع المشترى فى
ص: 263
الضرر إذا كان الشراء بأزيد من القيمة السوقيّة. و أمّا إذا وقعت المعاملة على السلعة بأقّل من القيمة السوقية، أو بما يساويها، فإن النجش لايوجب إضراراً للمشترى، إلّا أن يمنع من صدق مفهوم النجش على ذلك.(1)
ولقائل أن يقول: إنّ مع غفلة المشترى عن قيمة المبيع يصدق الغرور و يوجب ضمانه بناءً على صحّة قاعدة الغرور، ولكنّه أخصّ من المدّعى لأنّ النجش لايختصّ بصورة الغفلة عن قيمة المبيع.
و ربّما استدلّ على الحرمة بأدلّة حرمة الكذب، فإنّ قول الناجش: بأنّى أشترى السلعة بأزيد مما عيّنه المشترى مع أنّه لايريد ذلك كذب.
هذا مضافا إلى صحيحة عبدالله بن سنان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: الواشمة و المؤتشمة و الناجش و المنجوش معلونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله و سلم.(2) و حمل اللَّعنة فى الواشمة و المؤتشمة على الكراهة بقرينة الروايات الأخرى لايوجب ذلك بالنسبة إلى الناجش و المنجوش له لوحدة السياق، لإمكان بقائه على ظاهره بعد اختصاص القرينة بالواشمة و المؤشمة كما قرّر فى محلّه و هو باب الأوامر. هذا مع الغمض عن دلالة العقل على قبحه، لأنّه غشٌّ و تلبيس و كذب، كما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره.
ثمّ لايخفى عليك أنّ حرمة ا لنَّجش إن كانت من ناحية الكذب فلايتوقّف حرمته على وقوع المعاملة فى الخارج أولاوقوعها، لأنّ الكذب محقّق بمجرّد إخباره عن إرادة الشراء بالأزيد مع عدم إرادته لذلك، بل الظاهر من صحيحة عبدالله بن سنان هو
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 431.
(2) الوسائل، الباب 137 من أبواب مقدّمات النكاح، ج 20، ص 239، ح 1.
ص: 264
ذلك أيضا، لأنّ لعنه صلى الله عليه وآله و سلم لم يعلَّق على شيئ. هذا بخلاف حرمة الغشّ و التعزير، فإنّها متوقّفة على وقوع المعاملة فى الخارج كما لايخفى.
و كيف كان، فحرمة النَّجش حتى فى صورة المواطاة لاتوجب بطلان المعاملة، لأنّ المنهىَّ عنوان النجش و هو غير عنوان المعاملة.
نعم، للمشترى خيار إن كانت المعاملة مشروطة بالارتكاز بالمساواة العادلة بحسب القيمة كما لايخفى.
ثمّ بعد ما عرفت من حرمة النجش لايجوز إجارة أشخاص لتحقّق النجش و تكون الاجارة باطلة، لأنّ عمل النجش مسلوب المالية شرعا و معه لايكون الإجارة صحيحة، فلاتغفل.
ص: 265
ص: 266
قال الشيخ الأعظم قدس سره: و هى نقل قول الغير إلى المقول فيه، كأن يقول: تكلّم فلان فيك بكذا و كذا، قيل: هى من نمّ نَمّى الحديث من باب قتل و ضرب، أى سعى به لإيقاع فتنة أو وحشة، و هى من الكبائر. و الظاهر من كلام الشيخ هو صدق النميمة و لو لم يكن لإيقاع فتنة فإنّه عبّر عن المقيّد بقوله «قيل».
ويدلّ على الحرمة صحيحة عبدالله بن سنان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: ألا أنبّئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب.(1)
و صحيحة على بن جعفر عن أبى الحسن موسى عليه السلام قال: حرمت الجنّة على ثلاثة: النمّام و مدمن الخمر و الديّوث و هو الفاجر.(2)
وصحيحة محمد بن قيس عن أبى جعفر عليه السلام قال: الجنّة محرّمة على القتّاتين المشّائين بالنميمة.(3) و غير ذلك من الأخبار الكثيرة المستفيضة.
**********
(1) الوسائل، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 306، ح 1.
(2) الوسائل، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 309، ح 9.
(3) الوسائل، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 306، ح 2.
ص: 267
و استدلّ الشيخ الأعظم قدس سره على حرمة النميمة بالآية الكريمة: (وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ) (1) و النمّام قاطع لما أمر الله بصلته و مفسد.(2)
أورد عليه: بأنّ الظاهر من الآية و لو بمناسبة الحكم و الموضوع هو توجّه الذمّ إلى الذين أمروا بالصلة و التوادد فأعرضوا عن ذلك. و من هنا قيل: إنّ معنى الآية أنهم أمروا بصلة النبى صلى الله عليه وآله و سلم و المؤمنين فقطعوهم. و قيل: أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها. و قيل: أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء و الكتب ففرّقوا و قطعوا ذلك. و قيل: أمروا أن يصلوا القول بالعمل ففرّقوا بينهما.
و قيل: معنى الآية أنّهم أمروا بوصل كلّ من أمر الله بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه و هو الأقوى، لأنه أعم و يدخل فيه جميع المعانى. و على كلّ حال فالنمّام لم يؤمر بإلقاء الصلة و التوادد بين الناس لكى يحرم له قطع ذلك، فالآية غريبة عنه.(3)
يمكن أن يقال: إنّ النمّام من المسلمين، و مقتضاه أنّه كغيره مأمور بالصلة و التوادد بين المسلمين، ولكن يخالفه ظهور الأمر فى قوله (مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) فى الوجوب لوضوح عدم وجوب الصلة و التوادد (بين الناس)، فلادلالة للآية على حرمة النميمة فى غير مورد الصلة الواجبة،(4) وعليه فيكون أخصّ من المدّعى.
**********
(1) الرعد، 25.
(2) المكاسب المحرّمة، ص 55.
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 433-432.
(4) كما أفاد فى إرشاد الطالب، ص 255.
ص: 268
و استدلّ له أيضا بقوله: (وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ ) بدعوى أنّ النمّام يوجب الفساد و الفتنة.
أورد عليه فى إرشاد الطالب تبعا لما فى مصباح الفقاهة: بأنّ مجرّد النّميمة لاتكون فسادا فى الأرض، كما إذا وقع الخلاف بين المتحابّين من غير أن يترتّب على التفرقة بينهما فساد آخر، فإنّ هذا الإيقاع نميمة ولكن لايصدق عليه أنّه فساد فى الأرض.(1) و فيه: أنّ الأولى هو أن يقال: إنّ هذه الآية أخصّ من المدّعى، و إلّا فتشمل الآية النميمة التى توجب الفساد فى الأرض. و استدلّ له أيضا بقوله تعالى: (وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ ) (2) بدعوى: أنّ النميمة تكون منشأً للفتنة و سببا لها فتكون محكومة بحكمها.
أورد عليه فى مصباح الفقاهة: بأن النميمة قد تجرّ إلى قتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض و نهب الأموال، ولكنَّها ليست كذلك فى جميع الأحوال،(3) و عليه يكون أخصّ من المدّعى، بل المراد من الفتنة هو الشرك كما ذكره الطبرسى. و إنّما سمّى الشرك فتنة لأنه يؤدّى إلى الهلاك، كما أنّ الفتنة تؤدى إلى الهلاك،(4) و عليه فتكون الاستدلال بالآية أجنبيا عن المقام.
هذا مضافا إلى أنّ التعبير بأنّ الفتنة أكبر من القتل قرينة واضحة على أنّ المراد بها الفتنة الخاصّة، و هى إيقاع الخلاف و التشتّت فى صفوف المسلمين بداعى تضعيفهم فى مقابل الكفار،(5) فلايصلح الاستدلال المذكور لحرمة كل فتنة و مايساويها.
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 255.
(2) البقرة، 217.
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 433.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 433.
(5) إرشاد الطالب، ص 256.
ص: 269
و استدلّ له أيضا بقوله سبحانه و تعالى: (وَ لاٰ تُطِعْ كُلَّ حَلاّٰفٍ مَهِينٍ * هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كٰانَ ذٰا مٰالٍ وَ بَنِينَ ) .(1)
وردّ ذلك: بأنّ مدلولها حرمة المبالغة فى النميمة و لاتدلّ على حرمة أصلها؛ هذا مضافا الى إمكان أن يقال: لادلالة لها على حرمتها أصلاً لامع المبالغة و لابدونها، بل هى واردة فى بيان حكم آخر و هو عدم جواز الاتباع و الطاعة للحلّاف الهمّاز المشّاء بنميم منّاع للخير.(2)
و كيف كان، ففى بعض ما ذكر كفاية لإثبات حرمة النميمة، ثمّ إنّ النسبة بين النميمة و الغيبة كما أفاد فى مصباح الفقاهة هى العموم من وجه و يشتدّ العقاب فى مورد الاجتماع.
و قد تزاحم حرمة النميمة عنوان آخر مهمٌّ فى نظر الشارع فتجرى فيها قواعد التزاحم المعروفة، فقد تصبح جائزة إذا كان المزاحم أهمَّ منها، و قد يكون واجبة اذا كانت أهميّته شديدة.(3)
ثمّ إنّ النميمة المحرّمة تختصّ بالنميمة بين المسلمين. و أمّا النميمة بين المشركين و الحربيين فلاحرمة لها. نعم، النميمة بين غير الحربيين لعلّها مشمولة لأدلّة الحرمة لإطلاقها، فتأمّل.
و أمّا أخذ الأجرة على النميمة، فهو حرام إذا كانت النميمة حراما؛ بخلاف ما إذا كانت جائزة أو واجبة، فإن أخذ الأجرة حينئذ على النميمة حلال و لاإشكال فيه كما لايخفى.
**********
(1) القلم، 14-10.
(2) إرشاد الطالب، ص 256.
(3) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 433.
ص: 270
قال الشيخ الأعظم قدس سره: ذكر الشيخان و سلّار و الحلّى و المحقّق و من تأخّر عنه النوح بالباطل.
فى المكاسب المحرّمة: و الظاهر حرمته من حيث الباطل يعنى الكذب، و إلّا فهو فى نفسه ليس بمحرّم، و على هذا التفصيل دلّ غير واحد من الأخبار و ظاهر المبسوط و ابن حمزة التحريم مطلقا كبعض الأخبار، و كلاهما محمولان على المقيّد جمعا.
و التحقيق: أنّ الأخبار على طوائف:
الطائفة الأولى: ما يدلّ على المنع من النياحة مطلقا، سواء كانت بالباطل أم بالحق. منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم فى حديث المناهى: أنّه نهى عن الرّنة عند المصيبة و نهى عن النياحة و الاستماع إليها و نهى عن تصفيق الوجه.(1)
**********
(1) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 128، ح 11.
ص: 271
و هذه الرواية و إن أطلقت فى النهى عن النياحة و هو يفيد الحرمة مطلقا، ولكنّها ضعيفة لجهالة شعيب بن واقد.
ومنها: ما رواه فى الخصال بسند ضعيف عن عبدالله بن الحسين بن زيد بن على عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: أربعة لاتزال فى أمّتى إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب،(1) و الطغن فى الأنساب، و الاستسقاء بالنجوم، و النياحة، و إنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب (جرب فى بعض النسخ).(2)
دلالة الخبر على حرمة مطلق النياحة واضحة، ولكنّه ضعيف لجهالة بعض من وقع فى طريق الصدوق إلى عبدالله بن الحسين بن زيد بن على. و سيأتى الاستدلال بما ورد من أنّ الإمام كره النياحة، ولكن يرد عليه أنّه أعمّ من الحرمة.
منها: ما رواه الكلينى بسند صحيح عن يونس بن يعقوب عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال لى أبى: يا جعفر! أوقف لى من مالى كذا و كذا لنوادب تندبنى عشر سنين بمنى أيّام منى.(3)
هذا الخبر الصحيح يدلّ على جواز الندبة و أخذ الأجرة عليها، ولكن لايستفاد منه الإطلاق؛ نعم، يدلّ على الجواز فى الجملة. قال العلّامة المجلسى قدس سره: و الظاهر اختصاصه بهم عليهم السلام، لما فيه من تشييد حبّهم و بغض ظالميهم، و هما العمدة فى الإيمان.(4)
**********
(1) الحسب ما تعدّه من مفاخر الآباء.
(2) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 129-128، ح 12.
(3) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 125، ح 1.
(4) مرآة العقول، ج 19، ص 76.
ص: 272
ومنها: ما رواه محمد بن يعقوب بسند صحيح عن أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: مات الوليد بن المغيرة،(1) فقالت أمّ سلمة للنبىّ صلى الله عليه وآله و سلم: المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم ؟ فأذن لها فلبست ثيابها و تهيّأت و كانت من حسنها كأنّها جانّ ، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها جلّل جسدها.(2)
و عقدت بطرفيه خلخالها،(3) فندبت ابن عمّها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم، فقالت:
أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد فتى العشيرة
حامى الحقيقة ماجد(4) *** يسمّو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثا فى السنين *** و جعفراً غدِقاً و ميرة
فما عاب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ذلك و لاقال شيئا.(5) الجعفر أى الماء. الغدق أى الكثير. الميرة أى الطعام يمتاره الإنسان بدعوى أنه لاخصوصيّة للمورد، فيدلّ على جواز النوحة.
قال العلّامة المجلسى قدس سره: قيّد المشهور بما إذا كانت بحقٍّ أى لاتصف الميّت بما
**********
(1) قال الشعرانى فى حاشية الوافى: و الصحيح الوليد بن الوليد ابن المغيرة، فإنه الذى أسلم و هاجر إلى المدينة و كان ابن عمّ أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وآله و سلم: و أمّا الوليد بن المغيرة فكان عمّها و لم يؤمن. (الوافى، ج 17، ص 198).
(2) أى غطاه.
(3) أى عقدت طرف شعرها بخلخالها، يدلّ على طول شعرها، بحيث كان يصل إلى كعبى الرجلين. و لعلّ إرخاء الشَّعر كان شعار المصاب. (حاشية الوافى، ج 17، ص 198).
(4) نقله فى الوافى ماجداً مكان ماجد. قال فى الوافى: و يسمّوا أى يعلو و الوتيره كأنها من الوتر بمعنى الخباية التى يجنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبى تعنى أنه كان يغلب على إدراك دم قتيله و ما يجنى به على عشيرته. (الوافى، ج 17، ص 198).
(5) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 126-125، ح 2.
ص: 273
ليس فيه و بأن لاتسمع صوتها الأجانب.(1)
ومنها: صحيحة أبى بصير قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: لابأس بأجر النائحة التى تنوح على الميّت.(2) هذا مطلق و يدلّ بإطلاقه على جواز النياحة و أخذ الأجرة عليها.
ومنها: خبر عذافر قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام و قد سئل عن كسب النائحة، فقال: تستحلّة بضرب إحدى يديها على الأخرى.(3)
قال العلّامة المجلسى قدس سره: قوله «تستحلّه» لعلّ المراد بها تعمل أعمالا شاقّة فيها تستحقّ الأجرة، أو هو إشارة إلى أنه لاينبغى أن تأخذ الأجرة على النياحة، بل على ما يضمّ إليها من الأعمال. و قيل: هو كناية عن عدم اشتراط الأجرة و لايخفى ما فيه.(4)
قال فى إرشاد الطالب: و ظاهرها عدم جواز أخذ الأجرة على نفس النياحة، بل تكون الأجرة بإزاء عملها أى ضرب إحدى يديها بالأخرى عند نياحتها.
ومنها: ما رواه فى الكافى عن على بن إبراهيم عن أبيه و محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن إسماعيل جميعاً عن حنان بن سدير قال: كانت امرأة معنا فى الحىّ و لها جارية نائحة، فجاءت إلى أبى، فقالت: يا عمّ ! أنت تعلم أنّ معيشتى من الله عزّوجلّ ، ثمّ من هذه الجارية النائحة، و قد أحببت أن تسأل أباعبدالله عليه السلام عن ذلك، فإن كان حلالا و إلّا بعتها و أكلت من ثمنها حتى يأتى الله بالفرج، فقال لها أبى: و الله إنّى لأعظّم أباعبدالله عليه السلام أن أسأله عن هذه المسألة، قال: فلمّا قدمنا عليه أخبرته أنا
**********
(1) مرآة العقول، ج 19، ص 76.
(2) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 127، ح 7.
(3) مرآة العقول، ج 19، ص 77.
(4) مرآة العقول، ج 19، ص 77.
ص: 274
بذلك، فقال أبوعبدالله عليه السلام أتشارط؟ قلت: و الله ما أدرى تشارط أم لا، فقال: قل لها: لاتشارط و تقبّل ما اُعطيت.(1)
و المرآة عن على بن إبراهيم عن أبيه و محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن إسماعيل جميعا عن حنان بن سدير. و فى هذا السند تصحيف و الصحيح عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل جميعا عن حنان بن سدير.
و كيف ما كان، فقد قال العلّامة المجلسى: الحديث موثّق و يدل على كراهة الاشتراط، انتهى.(2)
و لعلّ وجه الحمل على الكراهة مع أنّ ظاهر النهى هو الحرمة، هو الجمع بين ما يدلّ على الجواز بالصراحة، كصحيحة أبى بصير و بين ظاهر النهى بحمل الظاهر على الصريح و يحكم بالكراهة عند الاشتراط.
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال عليه السلام: لابأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا،(3) ولكنّها مقيّدة بصورة الصدق. و مقتضى مفهومها هو تقييد المطلقات إلّا أنّ ضعفها بالإرسال يمنع عن ذلك.
ومنها: ما رواه العلّامة فى المنتهى: من أنّ ا لجمهور رووا عن فاطمة عليها السلام قالت: يا أبتاه! من ربّى ما أدناه، يا أبتاه! إلى جبرئيل أنعاه، يا أبتاه! فأجاب ربّا دعاه. و عن على عليه السلام: أخذت قبضة من تراب قبر النبى صلى الله عليه وآله و سلم فوضعتها على عينيها، ثم قالت:
**********
(1) مرآة العقول، ج 19، ص 77-76 و رواه فى الكافى، ج 5، ص 118-117.
(2) مرآة العقول، ج 19، ص 76.
(3) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 128، ح 9.
ص: 275
ماذا على من شمّ تربة أحمد *** أن لايشمّ مدى الزمان غواليا
صبّت علىّ مصائب لوأنّها *** صبّت على الأيام صرن لياليا(1)
منها: صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن النوح على الميّت، أيصلح ؟ قال: يكره.(2)
ومنها: ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن عثمان بن عيسى (سعيد خ ل) عن سماعة قال: سألته عن كسب المغنّية و النائحة، فكرهه.(3) طريق الشيخ إلى عثمان بن عيسى صحيح و لم أجد طريقه إلى عثمان بن سعيد.
ومنها: خبر قرب الإسناد عن عبدالله بن الحسن عن جدّه على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن النوح، فكرهه.(4)
ربّما يقال و كثيرا ما يراد بالكراهة فى الأخبار التحريم، و مقتضى ذلك هو إدراج هذه الأخبار فى الطائفة الأولى.
وفيه: أنّ الكراهة أعمّ من الحرمة و مع عدم إحراز الحرمة لاوجه لإدراج تلك الطائفة فى الطائفة الأولى.
و كيف كان، فمقتضى الجمع بين الروايات هو حمل ظاهر النهى و الكراهة لو سلّمنا ظهورها فى الحرمة على ما يدلّ بالصراحة على الجواز، كصحيح أبى حمزة و صحيحة أبى بصير. و بعد ذلك يقيّد إطلاق الجواز بما إذا لم تكن النياحة كذبا لوضوح أنه
**********
(1) المنتهى، ج 1، ص 466 كتاب الصلاة فيما ورد بعد الدفن، الفرع الثانى.
(2) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 129، ح 13.
(3) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 128، ح 8.
(4) الوسائل، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 129، ح 14.
ص: 276
لايحتمل تجويز الكذب و أخذ الأجرة عليه، كما يؤيده مرسلة الصدوق: لابأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا.
و عليه فيجوز النياحة إلّا إذا كانت كذبا فلايجوز النياحة، كما لايجوز أخذ الأجرة عليها. و الأولى هو الاجتناب عن الاشتراط.
قال فى مصباح الفقاهة: إنّ قوله عليه السلام (فى مرسلة الصدوق): «لابأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا» و ما فى معناه (مما يدلّ على جواز كسب النائحة) يدلّ بالالتزام على جواز نفس النوح بالحقّ ، فيقيّد به إطلاق الروايات المانعة. و بعد تقييدها تنقلب نسبتها إلى الروايات الدالّة بإطلاقها على الجواز، فتكون مخصّصة لها، فيكون النوح بالباطل حراما و النوح بالحقّ جائزا على الكراهة المحتملة.(1)
ويمكن أن يقال: أوّلاً: لم يصل إلينا أخبار صحاح فى المنع عن النياحة حتى يحكم بتقييدها؛ أللّهمّ إلّا أن يكتفى بالأخبار الدالّة على الكراهة، ولكن عرفت المناقشة فيها من جهة كون الكراهة أعمّ من الحرمة، أو إلّا أن يكتفى فى الأخبار المانعة بخبر حنّان بن سدير، فإنه يدلّ على النهى عن الاشتراط مطلقا، و سيأتى ما فيه إن شاء الله تعالى.
وثانياً: إنّ قوله عليه السلام: «لابأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا» مرسلة لاتصلح لتقييد مطلقات النهى حتى تنقلب النسبة و وثوق الصدوق بالصدور لايكفى لنا؛ نعم، يمكن أن يقال: إنّ الكذب خارج عنه تخصّصا من الأخبار المجوّزة إذ لايحتمل تجويز الكذب تكليفا و جواز أخذ الأجرة عليه وضعا.
وثالثاً: إنّ انقلاب النسبة مع بقاء الظهور الاستعمالى و عدم انثلامه بالمخصّص
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 435.
ص: 277
المنفصل لامجال له كما قرّر فى محلّه، فالأولى هو أن يقال: إنّ مقتضى الجمع بين المطلقات المانعة لو كانت بين الأخبار المجوّزة هو حمل المانعة على الكراهة لقوة ظهور المجوّزة كما لايخفى.
بقى شىء و هو أنّ حديث حنّان بن سدير بناء على كونه موثّقا كما هو الظاهر لايصلح لتقييد اللأخبار المجوّزة إذا لم يكن اشتراط. و ذلك لما ذكره السيّد المحقّق الخوئى قدس سره من أنّ النهى عن الاشتراط فى أمثال هذه الصنايع و الأمر بقبول ما يعطى صاحبها إنّما هو إرشاد إلى أنّ الاشتراط فيها لايناسب شؤون نوع الناس، و أنّ المبذول لهؤلاء لايقلّ عن أجرة المثل، و هذا لاينافى جواز ردّ المبذول إذا كان أقلّ من أجرة المثل، و على هذا فلادلالة فيها على التقييد.(1)
ثم إنّه لايذهب أنّ المحكىَّ عن المبسوط فى كتاب الجنائز حرمة النياحة على الأموات مدّعيا عليه الإجماع، و هكذا عن ابن حمزة فى كتاب الطهارة من الوسيلة، قال فى محكىّ الذكرى: إنّ الظاهر أنهّما أرادا النوح بالباطل أو المشتمل على المحرّم، كما قيّده فى النهاية، انتهى.
هذا مضافا إلى أنّ المحكىّ عن المنتهى هو أنّ النياحة بالباطل محرّمة إجماعاً أمّا بالحق فجائزة إجماعا، فدعوى الإجماع فى المبسوط و الوسيلة معارضة مع دعوى المنتهى كما لايخفى. و أمّا ما احتمل قريبا فى الحدائق من حمل الأخبار الدالّة على التحريم على التقيّة، حيث قال: أقول: من المحتمل قريبا حمل الأخبار الأخيرة على التقيّة، فإنّ القول بالتحريم قد نقله فى المعتبر عن كثير من أصحاب الحديث من
**********
(1) مصباح الفقاهة، ص 436-435.
ص: 278
الجمهور و نقل جملة من رواياتهم المطابقة لما روى عندنا، و منه تفسير آية (وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) (1) بالنوح.
ففيه: أنّ الحمل على التقيّة فيما إذا لم يكن جمع دلالى بين الأخبار، و إلّا فلامجال له بعد إمكان الجمع العرفى بين الأخبار، إذ مع إمكان الجمع العرفى لاتعارض بين الأخبار، فلاموضوع للأخبار العلاجية. و قد تقدّم أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المجوّزة و المانعة على تقدير ثبوتها هو الحمل على كراهة النياحة عدا النياحة على النبى و الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) و الشهداء كالحمزة عمّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم و من كان فى رتبة الشهداء أو أعلى منهم كالعلماء العاملين كما عليه السيرة المستمرّة.
ثم يختصّ الكراهة بالموارد التى ورد النهى عن النياحة و لم تكن مشتملة على الباطل أو الكذب أو محرّم آخر، و إلّا فمع اشتمالها على المحرّم، فلاإشكال فى حرمتها، كما يمكن أن ترتفع الكراهة ببعض الجهات المرجّحة، كما يشير إليه خبر خديجة بنت عمر بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليهم السلام فى حديث طويل: أنّها قالت: سمعت عمّى محمد بن على عليهما السلام يقول: إنّما تحتاج المرأة فى المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها، الحديث.(2)
**********
(1) الممتحنة، 12.
(2) الوسائل، الباب 71 من أبواب الدفن، ج 3، ص 242، ح 1.
ص: 279
ص: 280
و يقع الكلام فى أمور:
الأمر الأول: أنّ التولّى إمّا عن العادل و إمّا عن الجائر و لاإشكال فى جواز التولّى عن قِبَل العادل؛ بل يكون ذلك راجحا لما فيه من المعاونة على البرّ و التقوى، و ربّما وجب ذلك كفاية إذا توقّف القضاء و النظام و السياسة الواجبة على قبول الولاية كفاية، و قد يجب ذلك عينا إذا لم يكن من له الأهليّة إلّا واحد أو إذا عيّنه الإمام، كما لا إشكال فى حرمة التولّى عن الجائر، و سيأتى تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
و كيف كان، فإذا تصدّى أحد من قبل العادل أو الجائر لأمور قوم صدق عليه التولّى من قبل العادل أو الجائر. و دعوى أنّ من تقلّد من قبل الولى أمر إمارة بلد أو ولاية ناحية أو أمر قضاوة أو وزارة ليس مستوليا على شؤون السلطنة، بل الاستيلاء انما هو من الولى و السلطان و عمّاله أياديه و ليسوا مستولين على شؤونها حتى الأمر الذى كانوا متولّين له بنصب من السلطان.
و لافرق فى ذلك بين كون النصب من قبل العادل أو من قبل الجائر، فإذا غصب
ص: 281
السلطان بلداً بوسيلة عمّاله فالغاصب هو السلطان لا غير، و أياديه لايعدّون سلطانا و مستولين، و إن كان تصرّفهم فيه محرّما بعنوان التصرّف فى مال الغير بغير إذنه، مندفعة بصدق التولّى من قبل من جعله واليا على أمور القوم، سواء كان الجاعل عادلاً أو جائراً. و ذلك لأنّ جعل الولاية غير الوكالة. و من المعلوم أنّ ولى القضاء و نحوه يحكم بنظره لا بالنيابة عمّن جعله والياً، و هو شاهد على ولايته و إن كانت الولاية طولية.
و لايمنع عن ذلك اختصاص السلطنة المطلقة الأصلية بنفس الجاعل و إن أبيت عن صدق الوالى بدون السلطنة المطلقة، فلامجال للتشكيك فى صدقه فيما إذا جعل السلطان فردا لخلافته بعد موته، فإنّ له السلطنة المطلقة، ولكن عرفت صدقه و لو بدون إعطاء السلطنة المطلقة، فلاتغفل.
ثم إنّ المقصود بالبحث فى المقام هو التولّى عن الجائر. ولا إشكال فى أنّ التصدّى من قبل الجائر حرام بلاخلاف، و تدلّ عليه مضافا إلى وضوح حرمة التعاون على الإثم و العدوان، كما قال الله سبحانه و تعالى: (وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ ) (1) الأخبار المستفيضة بل المتواترة.
منها: الروايات الدالّة على حرمة، الآحاد أعواناً لهم، مثل معتبرة ابن أبى يعفور قال: كنت عند أبى عبدالله عليه السلام إذ دخل (فدخل خ ل) عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك (أصلحك الله خ ل)، إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة(2) يصلحها، فما تقول فى ذلك ؟
فقال أبوعبدالله عليه السلام: ما أحبّ أنّى عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و إن لى ما
**********
(1) المائدة، 2.
(2) المسنّاة هى السدّ.
ص: 282
بين لابتيها لا و لامدّة بقلم إنّ أعوان الظَّلمة يوم القيامة فى سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد.(1) بدعوى دلالة قوله عليه السلام: «إنّ أعوان الظَّلمة يوم القيامة» الحديث على حرمة صيرورة الآحاد أعوانا للظَّلمة، و من المصاديق الواضحة له هو قبول التصدّى من قبلهم.
و مثل موثّقة السَّكونى عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظَّلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم.(2)
و مثل موثّقة السَّكونى أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها، فإنّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من الله عزّوجلّ ، و من آثر السلطان على الله أذهب الله عنه الورع و جعله حيرانا.(3)
و مثل موثّقة مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أباعبدالله عليه السلام عن قوم من الشيعة يدخلون فى أعمال السلطان يعملون لهم و يحبّون لهم و يوالونهم، قال: ليس هم من الشيعة ولكنّهم من أولئك، ثمّ قرأ أبوعبدالله عليه السلام هذه الآية: (لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ) (4) إلى قوله: (وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ ) .(5) قال: الخنازير على لسان داود و القردة على لسان عيسى، (كٰانُوا لاٰ يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ ) (6)
**********
(1) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 6.
(2) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 181، ح 11.
(3) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 181، ح 13.
(4) المائدة، 78.
(5) المائدة، 81.
(6) المائدة، 80.
ص: 283
قال: كانوا يأكلون لحم الخنزير و يشربون الخمور و يأتون النساء أيّام حيضهنّ ، ثمّ احتجّ الله على المؤمنين الموالين للكفار، فقال: (تَرىٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) (1) إلى قوله: (وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ ) (2) فنهى الله عزّوجلّ أن يوالى المؤمن الكافر إلّا عند التقيّة.(3)
قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: و الظاهر من استثناء التقيّة أنّ المراد بالموالات ليس المحبّة و الوداد، بل التولّى للأمور و التصدّى لأعمالهم، أو الأعمّ منه و من الموالات ظاهرا بإظهار المحبّة و الوداد، سيّما مع أنّ الظاهر من صدرها أنّ نفى التشيّع عن الجماعة ليس لخصوص الموالات، بل الظاهر أنّ من عمل لهم و دخل فى أعمالهم ليس من الشيعة و يكون منهم. و معلوم أنّ هذا النفى و الإثبات بوجه من التأويل و ذلك لاشتراكهم حكما و دلالتها على الحرمة الذاتية واضحة.(4)
و مثل موثقة طلحة بن زيد عن أبى عبدالله عليه السلام: العامل بالظلم و المعين له و الراضى به شركاء ثلاثتهم.(5) و غير ذلك من الأخبار و هى ظاهرة فى أنّ التولّى عن الجائر حرام و معصية كبيرة.
الأمر الثانى: فى أنّ حرمة التولّى عن الجائر هل تكون نفسيّة مع قطع النظر عن ترتّب محرّم عليه، أو تكون حرمته من جهة ترتّب المحرّمات عليه ؟ قال فى جامع المدارك: لايبعد ظهور الروايات فى الحرمة النفسيّة. و يؤيّد هذا أنّ مقدمة الحرام ما لم
**********
(1) المائدة، 80.
(2) المائدة، 81.
(3) الوسائل، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 191-190، ح 10.
(4) المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 112-111.
(5) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 178، ح 2.
ص: 284
توجب سلب الاختيار عن المكلّف كالأفعال التوليدية لاوجه لحرمتها.
و يمكن الفرق بين إتيان المقدمة بقصد التوصّل إلى الحرام و الإتيان لابهذا القصد، و لافائدة فى هذا البحث لأنّ الانفكاك يقرب أن يكون من المحالات عادة.(1) و كيف كان، ففى قبال الروايات المتقدّمة الدالّة على الحرمة النفسيّة أخبار أخرى يستدلّ بها لجواز التصدّى من قبل الجائر فى نفسه.
منها: صحيحة داود بن زربى قال: أخبرنى مولى لعلىّ بن الحسين عليهما السلام قال: كنت بالكوفة فقدم أبوعبدالله عليه السلام الحيرة فأتيته فقلت له: جعلت فداك، لو كلّمت داود بن على أو بعض هؤلاء، فأدخل فى بعض هذه الولايات، فقال: ما كنت لأفعل، قال: فانصرفت إلى منزلى، فتفكّرت فقلت: ما أحسبه منعنى إلّا مخافة أن أظلم أو أجور، و الله لآتينّه ولأعطينّه الطلاق و العتاق و الأيمان المغلّظة ألّا أجورنَّ على أحد و لاأظلمنّ لأعدلنّ .
قال: فأتيته، فقلت: جعلت فداك، إنّى فكّرت فى إبائك علىّ فظننت أنّك إنّما منعتنى و كرهت ذلك مخافة أن أظلم أو أجور و إنّ كلّ امرأة لى طالق و كلّ مملوك لى حرّ علىّ و علىّ إن ظلمت أحدا أو جرت عليه و إن لم أعدل، قال: كيف قلت ؟ قال: فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه إلى السماء فقال: تناول السماء أيسر عليك عن ذلك.(2)
بناء على أنّ المشار إليه هو العدل و ترك الظلم، و يحتمل أن يكون هو (أى المشار إليه) الترخّص فى الدخول. و يبعد الاحتمال الثانى ما ورد فى التجويز لتفريج كربة مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه.
فالرواية المذكورة تدلّ على جواز التولّى فى نفسه، وأنّ الحرمة من جهة استحالة
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 59-58.
(2) الكافى، ج 5، ص 108.
ص: 285
التفكيك من التصدّى من قبل الجائر و الظلم. فلو لا محذور الجور و الظلم لكان التصدّى من قبل الجائر جايزا، ولكن الاستدلال بهذه الرواية لإثبات جواز التصدّى من قبل الظالم فى نفسه لايخلو من تأمّل، لأنّ الرواية ضعيفة لجهالة مولى لعلىّ بن الحسين عليهما السلام إذ هو مجهول.
هذا مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّه لادلالة فى الرواية على جواز الدخول فى ولايتهم بل و الإشعار، حتى بناء على رجوع لفظ ذلك إلى ترك الظلم و العدل، لأنّ المسائل كان من العامة، كما هو مقتضى حلفه بالطلاق و العتاق.
و عليه فلايمكن للإمام التصريح ببطلان حكومتهم و حرمة كون الشخص معينا. ولهذه الجهة عبرّ عن عدم الجواز بذلك التعبير، فلايمكن الاستدلال بها على أنّ التولّى جايز لولا محذور الجور على الناس و نحوه من سائر المحاذير.
أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ حمل الكلام على رعاية التقيّة خلاف الأصل. و الحلف بالطلاق و العتاق لاتكون قرينة على ذلك، كما يظهر لمن راجع الروايات الواردة فى ذلك الحلف، حيث يظهر منها أنّ بطلانه لم يكن فى ذلك الزمان ظاهراً كظهوره فى زماننا.(1) فالعمدة هو ضعف الرواية لجهالة الراوى وهو مولى لعلىّ بن الحسين عليهما السلام.
ومنها: صحيحة أبى بصير و قد استدلّ بها لإثبات جواز التصدّى فى نفسه و أنّ الحرمة من جهة الحرام الخارجى. قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن أعمالهم، فقال لى: يا أبامحمد! لا و لامدّة قلم، إن أحدكم لايصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله،(2) حيث أنّ ظاهرها أنّ محذور كون الشخص عاملاً للجائر ما يترتّب عليه من ارتكاب الحرام.
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 259.
(2) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 5.
ص: 286
أجيب عنه: بأنه لادلالة لها على جواز التولّى فى نفسه، حيث أنّ إصابتهم من دينه كما يكون بارتكابه الحرام كذلك يكون بمجرّد كونه معدودا من أعوانهم. و الحاصل: أنه لادلالة لها على كون المراد من إصابتهم الدين ارتكاب الشخص الحرام الخارجى.(1)
ومنها: صحيحة الحلبى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: وسألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا، فيغنيه الله به فمات فى بعثهم، قال: هو بمنزلة الأجير إنه إنما يعطى الله العباد على نيّاتهم.(2)
بدعوى: أنّها تدلّ على جواز العمل لهم فى نفسه. و الجواب عنها: بأنّ هذه الصحيحة تدلّ على جواز العمل لهم مع الحاجة إلى المال لقوت نفسه و عياله، سواء كان ذلك بالدخول فى ولايتهم أو العمل لهم بدونه، فيحمل على الثانى بقرينة ما ورد فى حرمة كون الشخص فى ديوانهم مع أنّ فى جواز الدخول فى ديوانهم عند الضرورة التأمين المعاش كلام تأتى الإشارة إليه.(3) و الحمل على الثانى مقتضى الجمع بين الأخبار كما لايخفى.
فتحصّل: أنّ حرمة التصدّى من قبل الجائر حرمة نفسية و لاحاجة فى الحرمة إلى ترتّب الحرام عليه، لأنّ نفس تصدّيه من قبل الجائر يجعله من أعوانه و هو محرّم بنصّ الأخبار و الآيات كما لايخفى.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: إنّ ظاهر جملة من الروايات كون الولاية من قبل الجائر بنفسها محرّمة، و هى أخذ المنصب منه و تسويد الاسم فى ديوانه و إن لم
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 260.
(2) الوسائل، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 202، ح 2.
(3) إرشاد الطالب، ص 260.
ص: 287
ينضمّ إليها القيام بمعصية عملية أخرى من الظلم و قتل النفوس المحترمة و إصابة أموال الناس و أعراضهم و غيرها من شؤون الولاية المحرّمة. فأىّ والٍ من ولاة الجور ارتكب شيئا من تلك العناوين المحرّمة يعاقب بعقابين: أحدهما من جهة الولاية المحرّمة. و ثانيهما من جهة ما ارتكبه من المعاصى الخارجية.
و عليه فالنسبة بين عنوان الولاية من قبل الجائر و بين تحقّق هذه الأعمال المحرّمة هى العموم من وجه. فقد يكون أحد والياً من قبل الجائر، ولكنّه لايعمل شيئا من الأعمال المحرّمة و إن كانت الولاية من الجائر لاتنفكّ عن المعصية غالبا. و قد يرتكب غير الوالى شيئا من هذه المظالم الراجعة إلى شؤون الولاة تزلّفاً إليهم و طلبا للمنزلة عندهم. و قد يجتمعان بأن يتصدّى الوالى نفسه لأخذ المال و قتل النفوس و ارتكاب المظالم.(1)
تنبيه: و هو أنّ الأخبار فى المسألة على طوائف:
منها: ما يدلّ على الحرمة الذاتية، و قد أشرنا إلى جملة منها.
ومنها: ما يستفاد منها أنّ الحرمة لأمر خارج، كصحيحة أبى بصير قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن أعمالهم، فقال: يا أبامحمد! لا ولامدّة قلم إن أحدكم لايصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله.(2) بناء على اختصاص الإصابة من دينهم بملازمة التولّى للمعصية نوعا. و أمّا مع عدم الاختصاص فهى تدلّ على الحرمة الذاتية أيضا.
ومنها: ما يدلّ على أنّ حرمتها من جهة التصرّف فى سلطان الأئمة عليهم السلام، كرواية أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: من أحللنا له شيئا أصابه من أعمال
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 437-436.
(2) الوسائل، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 179، ح 5.
ص: 288
الظالمين فهو له حلال، و ما حرّمناه من ذلك فهوله حرام.(1)
ومنها: ما يدلّ على الحرمة بلاعنوان، كرواية يحيى بن إبراهيم قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: فلان يقرئك السَّلام و فلان و فلان، فقال: و عليهم السلام. قلت: يسئلونك الدعاء، قال: و ما لهم ؟ قلت: حبسهم أبوجعفر. فقال: و ما لهم ؟ و ما له فقلت: استعملهم فحبسهم، فقال: فما لهم ؟ و ما له ؟ ألم أنههم ؟ ألم أنههم ؟ ألم أنههم ؟ هم النار هم النار هم النار، ثم قال: أللّهمّ اجدع عنهم سلطانهم. قال: فانصرفنا من مكّة فسألنا عنهم، فإذا قد أخرجوا بعد الكلام بثلاثة أيّام.(2)
قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: إنّ هذه الطوائف لامنافاة بينها. أمّا الأخيرة مع ما دلّت على الحرمة الذاتية فواضح. و أمّا ما دلّت على الحرمة لأجل التصرّف فى سلطانهم (أى الأئمة عليهم السلام)، فلعدم المنافاة بين حرمتها ذاتا و من حيث التصرّف المذكور، فإنّهما عنوانان مختلفان فى محطّ تعلّق الحكم و متحدان خارجا، فلكلٍّ حكم مستقل.
وقوله: «من أحللنا شيئا من أعمال الظالمين فهو حلال» لادلالة له على عدم الحرمة ذاتا للولاية و لا على تحليلهم ما حرّمه الله تعالى ذاتا أو جواز ذلك لهم، بل لما كان فى التحريم الذاتى استثناء، كما سيأتى إن شاء الله يكون فى مورد الاستثناء منه أيضا احتياج إلى تحليلهم، إلى أن قال: فتحصّل من جميع ذلك أنّ ما هو من قبيل المناصب و الولايات و أمثالهما تحرم بعنوانين: أحدهما بعنوان التصرّف العدوانى.
وثانيهما: بعنوانها الذاتى، و ما لايكون كذلك أى ليس من المناصب و شئون السلطنة و الحكومة تحرم فيما تحرم بجهة واحدة و هى الدخول فى أعمال السلطان،
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 198، ح 15.
(2) الوسائل، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 188، ح 3.
ص: 289
و قد تقدّم المراد منه. هذا إذا لم تنطبق عليه عناوين أخر كإعانة الظالم فى ظلمه و تقوية شوكة الظالمين و نحوهما.(1)
الأمر الثالث: فى موارد الاستثناء:
أحدها: القيام بمصالح العباد، و قد تقدّم فى الأمر الأول و الثانى بيان أدلّة حرمة نفس التصدّى من قبل الجائر، لأنّ نفس التصدّى من قبله يوجب صدق كونه من أعوان الظَّلمة و هو حرام بنفسه، و لو لم يصدر عنه ظلم و حرام آخر. ولكن هذا أمر قابل للتخصيص و من موارد التخصيص هو القيام بالعدل و مصالح العباد. و فى صحيحة زيد الشحّام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر فى أمور الناس كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنّة.(2) وثّق الشيخ الطوسى و الشيخ المفيد زيداً الشحّام و معه لاإشكال فى السند.
لايقال: إنّ هذه الصحيحة لاتتعرّض إلّا لجواز التصدّى بشرط العدالة لاالتولّى من قبل الجائر، لأنّا نقول كما فى إرشاد الطالب: إنّ من الظاهر أنّ تولّى الأمر فى زمانه عليه السلام كان من قبل الخلفاء و ولاتهم.(3) و عليه فتولّى الأمر من قبل الخلفاء يكون من موارد الرواية و إن استفيد منه ولاية العادل أيضا بشرط العدالة.
و دعوى حرمة التولّى حتى فى فرض القيام بمصالح العباد فيكون من باب التزاحم لاالتخصيص، مندفعة بما فى إرشاد الطالب من أنّه ينافى مثل صحيحة زيد الشحّام.(4)
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام قدس سره، ج 2، ص 115-114.
(2) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 193، ح 7.
(3) إرشاد الطالب، ص 261.
(4) إرشاد الطالب، ص 261.
ص: 290
ولعلّ وجه المنافاة أنّ وعد الجنّة يناسب الثواب لاعدم المؤاخذة و العقاب و الثواب لايكون على الحرام.
لايقال: إنّ عدم جواز التولّى مع الترغيب إلى إيصال النفع إلى المؤمنين من المتزاحمين فتجرى فيها قاعدة الأهمّ و المهمّ ، فلامجال لاستثناء القيام بمصالح العباد لأنّا نقول كما فى إرشاد الطالب: إنّ إيصال النفع على إطلاقه لايكون واجبا لتقع المزاحمة بين وجوبه و حرمة التولّى، فلابدّ من الالتزام بأنّ نفع المؤمنين أو دفع الضرر عنهم عنوان يكون معه التولّى محكوما بالجواز، بل بالوجوب فى بعض الأحيان.(1) و عليه فليس بابه باب المتزاحمين، بل بابه باب التخصيص.
هذا مضافا إلى النصوص المتظافرة المتضمّنة للمعتبرة و الصحيحة الدالّة على تقييد المطلقات الدالّة على حرمة التولّى عن الجائر.
منها: رواية زياد بن أبى سلمة قال: دخلت على أبى الحسن موسى عليه السلام... فقال لى: يا زياد! لئن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة قطعة أحبّ إلىّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلّا لماذا؟ قلت: لا أدرى جعلت فداك، قال: إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه.(2)
ومنها: صحيحة على بن يقطين قال: قال لى أبوالحسن عليه السلام موسى بن جعفر عليهما السلام: إنّ لله تبارك و تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه.(3)
وفيه: أنّ المعيّة أعم من التولّى، فيمكن إخراج التولّى بأدلّة حرمة كونه من
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 261.
(2) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 194، ح 9.
(3) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 192، ح 1.
ص: 291
الأعوان؛ أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المعيّة غالبا بحسب الخارج منحصرة فى التولىّ ، و عليه فتعارض هذه الصحيحة مع ما دلّ على حرمة التولّى و تقيّده.
ومنها: خبر على بن يقطين قال: قلت لأبى الحسن عليه السلام: ما تقول فى أعمال هؤلاء؟ قال: إن كنت لابدّ فاعلا فاتّق أموال الشيعة، قال: فأخبرنى علىّ أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية و يردّها عليهم فى السرّ.(1)
ولايخفى عليك أنّ قوله عليه السلام: «فأخبرنى على أنّه كان يجبيها الخ» يدلّ على اشتغال علىّ بن يقطين فى الدّولة و كان ذلك جايزاً.
ومنها: خبر أبى بصير عن أبى عبدالله عليه السلام قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولّى ولاية، فقال: كيف صنيعه إلى إخوانه ؟ قال: قلت: ليس عنده خير، قال: أفّ ، يدخلون فيما لاينبغى لهم ولايصنعون إلى إخوانهم خيرا.(2)
و المفهوم منه هو عدم التأفيف فيما إذا صنع إلى إخوانه من الشيعة خيرا.
ومنها: خبر يونس بن عمّار قال: وصفت لأبى عبدالله عليه السلام من يقول بهذا الأمر ممن يعمل عمل (مع يب) السلطان، فقال: إذا ولّوكم يدخلون عليكم المرفق و ينفعونكم فى حوائجكم ؟ قال: قلت: منهم من يفعل (ذلك) ومنهم من لايفعل، قال: ومن لم يفعل ذلك فابرأوا منه برئ الله منه.(3)
والمستفاد منه أنّ البراءة ممن لم يفعل، لا ممن ينفع بحال الشيعة فى قضاء حوائجهم.
ومنها: خبر علىّ بن يقطين أنّه كتب إلى أبى الحسن موسى عليه السلام: إنّ قلبى يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان - و كان وزيراً لهارون -، فإن أذنت جعلنى الله فداك
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 194-193، ح 8.
(2) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 195، ح 10.
(3) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 196، ح 12.
ص: 292
هربت منه. فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم و اتّق الله، أو كما قال.(1) و هو صريح فى جواز التولّى من قبل الجائر.
ومنها: خبر الحسن بن الحسين الأنبارى عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه فى عمل السلطان، فلمّا كان فى آخر كتاب كتبته إليه أذكر: أنّى أخاف على خيط عنقى، و أنّ السلطان يقول لى: إنّك رافضىٌّ و لسنا نشكّ فى أنّك تركت العمل للسلطان للرفض.
فكتب إلىّ أبوالحسن عليه السلام: فهمت كتابك (كتبك خ ل) و ما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنّك إذا ولّيت عملت فى عملك بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ثمّ تصير أعوانك و كتابك أهل ملّتك، و إذا صار إليك شيئ واسيتَ به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا و إلّا فلا.(2) و الذى يفهم منه أنّ عند الخوف و العلم بإمكان العمل بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم جاز.
ومنها: صحيحة الحلبى قال: سئل أبوعبدالله عليه السلام عن رجل مسلم و هو فى ديوان هؤلاء و هو يحبّ آل محمد صلى الله عليه وآله و سلم و يخرج مع هؤلاء فى بعثهم، فيقتل تحت رايتهم ؟ قال: يبعثه الله على نيّته. قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا فيغنيه الله به فمات فى بعثهم، قال: هو بمنزلة الأجير إنه إنما يعطى الله العباد على نيّاتهم.(3) تدلّ هذه الصحيحة على أنّ كونه فى ديوان الظلمة لايضرّ إذا نوى بذلك خيرا، كما أنّ إعطاء الخدمات للإعاشة لابأس به.
**********
(1) الوسائل، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 198، ح 16.
(2) الوسائل، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 201، ح 1.
(3) الوسائل، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 202-201، ح 2.
ص: 293
ومنها: ما رواه فى الكافى عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسن عن أبيه عن عثمان بن عيسى عن مهران بن محمد بن أبى نصر عن أبى عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع الله عزّوجلّ به عن المؤمنين، و هو أقلّهم حظّاً فى الآخرة، يعنى أقلّ المؤمنين حظّاً بصحبة الجبّار.(1)
ولايبعد كون الرواية معتبرة لما حكى عن تعليقة البهبهانى من أنّه روى ابن أبى عمير و صفوان عن مهران بن محمد. ثم إنّ هذه الرواية بإطلاقها تدلّ على عدم الفرق بين كون الداعى إلى دخوله فى ديوان ولاة الجور إيصال النفع إلى المؤمنين أو غير ذلك، ولكن تحمل على الثانى و عدم كون مجرّد نفع المؤمنين داعيا إلى التولّى. و ذلك كما فى إرشاد الطالب من جهة الجمع بين هذه الرواية و غيرها من الروايات.
منها: ما رواه النجاشى فى ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: إنّ الله تعالى بابواب الظَّلمة من نوّر الله له البرهان و مكّن له البلاد ليدفع بهم عن أوليائه و يصلح الله بهم (به) أمور المسلمين إليهم ملجأ المؤمنين من الضرّ و إليهم يفزع ذوى الحاجة من شيعتنا.
وبهم يؤمن الله روعة المؤمن (المؤمنين) فى دار الظَّلمة، أولئك المؤمنون حقّاً، أولئك أمناء الله فى أرضه، أولئك نوّر (الله) فى رعيّتهم يوم القيامة، و يزهر نورهم لأهل السموات كما يزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض اولئك من نورهم نور القيامة يضيىء منهم القيامة، خلقوا و الله للجنّة و خلقت الجنّة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه. قال: قلت: بماذا جعلنى الله فداك ؟ قال: يكون معهم فيسرنا
**********
(1) الوسائل، الباب 44، من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 186، ح 4.
ص: 294
بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد.(1)
ولايخفى ظهور قوله عليه السلام: «فإن لله فى أبواب الظَّلمة الخ» فى المتولّين بولاية الظَّلمة، لا من تردّد إليه، لأنّ «فى أبواب الظَّلمة» يدلّ على استقرارهم فى أبوابهم.
فتحصّل: أنّ التولّى عن الجائر بقصد إصلاح أمر المؤمنين و قضاء حوائجهم و حفظهم أمر مرغوب و مطلوب بنصّ هذه الأخبار التى توجب تقييد المطلقات الدالّة على حرمة التولّى عن الجائر.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و العمدة من الأدلّة التى استدلّ بها على جواز التولّى بالقيام بمصالح العباد هى الأخبار المتظافرة الظاهرة فى جواز الولاية من الجائر للوصول إلى قضاء حوائج المؤمنين. و بعضها و إن كان ضعيف السند ولكن فى المعتبرة منها غنى وكفاية. و بهذه الأخبار نقيّد المطلقات الظاهرة فى حرمة الولاية من قبل الجائر على وجه الإطلاق.(2)
لايقال: إنّ ظاهر النبوى الذى رواه الصدوق فى حديث المناهى قال: من تولّى عرافة قوم أتى به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله تعالى أطلقه الله، و إن كان ظالما يهوى به فى نار جهنّم و بئس المصير. هو حرمة الولاية من حيث هى و إباحتها مع الإحسان بالإخوان، فيكون نظير الكذب فى الإصلاح.
و عليه عدم جريان قبح التولّى عن الجائر ليس من باب تخصيص دليله بغير هذه الصورة، بل يكون من باب مزاحمة قبحها بحسن الإحسان بالإخوان. فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما و العمل بمقتضى التزاحم نظير تزاحم الحقّين فى ساير الموارد. و
**********
(1) رجال النجاشى، ص 233-232؛ إرشاد الطالب، ص 262-261.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 438.
ص: 295
عليه فيختلف حكم التولّى بحسب اختلاف الموارد، لأنّا نقول: إنّ هذا محلّ تأمّل و منع لأنّ النسبة بين الروايات المرخّصة مع أدلّة حرمة التولّى عن الجائر عموم و خصوص. و مقتضاه هو التخصّص. و عليه فمع المواساة بالإخوان لاقبح فى التولّى عن الجائر حتى يكون من باب التزاحم.
أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله صلى الله عليه وآله و سلم: «أتى به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه فإن قام فيهم بأمر الله تعالى أطلقه الله» يحكى عن حزازة التولّى عن الجائر، ولو للقيام بالمصالح. نعم، مع قطع النظر عن سنده يعارضه غيره من الروايات، نحو ما رواه النَّجاشى فى ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع فى خصوص موارد القيام بمصالح العباد.
و مقتضى ذلك هو عدم حزازة فى التولّى عن الجائر فيما إذا قام بمصالح العباد على الأظهر، و معه لامجال للتزاحم. و لعلّ المقصود من النبوى و نحوه هو ما إذا لم يكن قصد المتولّى الإحسان. فالأقوى هو استثناء التولّى لمصالح العباد عن أدلّة حرمة التولّى.
نعم، يمكن فرض التزاحم فيما إذا توقّف الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر الواجبان على التولّى عن الجائر، مع قطع النظر عن الروايات الدالّة على جواز التولّى لمصلحة العباد. فإنّ التولّى حينئذ يكون ممّا لايتمّ الواجب إلّا به. و من المعلوم أنّ ما لايتمّ الواجب إلّا به واجب بالوجوب المقدّمى و نفس التولّى محرّم. فقبح التولّى حينئذ يزاحم قبح ترك الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر. فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما و العمل بمقتضى التزاحم و تقديم الأهمّ إن كان، و إلّا فالتخيير الواقعى.
لايقال: إنّ ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف يعارض ما دلّ على حرمة التولّى عن الجائر. و حيث أنّ النسبة عموم من وجه فيجمع ما بينهما بالتخيير المقتضى
ص: 296
للجواز دفعا لقيد المنع من الترك من أدلّة الوجوب و قيد المنع من الفعل من أدلّة الحرمة. فلامجال للقول بوجوب ما لايتمّ الواجب إلّا به حتى يكون من باب التزاحم، لأنّ الوجوب مرتفع بالمعارضة.
لأنا نقول: كما فى مصباح الفقاهة: إنّ ملاك التعارض بين الدليلين هو ورود النفى و الإثبات على مورد واحد، بحيث يقتضى كلٌّ منهما نفى الآخر عن موضوعه. و مثاله: أن يرد دليلان على موضوع واحد فيحكم أحدهما بوجوبه و الآخر بحرمته، و حيث أنّه لايعقل اجتماع الحكمين المتضادّين فى محلّ واحد فيقع بينهما التعارض و يرجع إلى قواعده. و من المقطوع به أنّ الملاك المذكور ليس بموجود فى المقام. و الوجه فيه أنّ موضوع الوجوب هوالأمر بالمعروف أو النهى عن المنكر، و موضوع الحرمة هو الولاية من قبل الجائر و كلٌّ من الموضوعين لامساس له بالآخر بحسب طبعه الأولى، فلاشيئ من أفراد أحد الموضوعين فرد للآخر.
نعم، المقام من قبيل توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة، و عليه فيقع التزاحم بين الحرمة المتعلّقة بالمقدّمة و بين الوجوب المتعلّق بذى المقدّمة، نظير الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق أو إنجاء الحريق و يرجع إلى قواعد باب التزاحم المقرّرة فى محلّه، انتهى.
و فيه كما أفاد و أجاد فى بلغة الطالب: أنّ أدلّة الأمر بالمعروف مشروطة بالقدرة عقلاً و شرعاً، فمع توقّفه على المحرّم لاوجوب له حتى يدخل فى مسألة التزاحم، إلّا أن يقال: إنّ الشكّ فى الاشتراط (بالقدرة الشرعية) يقتضى التمّسك بإطلاق أدلّة الأمر بالمعروف، فيكون من باب التزاحم.(1)
**********
(1) راجع بلغة الطالب، ج 1، ص 155.
ص: 297
هذا كلّه بحسب ما تقتضيه القواعد عند تزاحم حرمة التولّى مع وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر مع قطع النظر عن الروايات المجوّزة للتولّى. و اللازم هو ملاحظة مجموع الروايات، إذ مع ملاحظة المجموع لاتعارض ولاتزاحم لوجوب الولاية بالوجوب المقدّمى مع جوازها فى نفسها.
قال فى مصباح الفقاهة: دلّت الآيات المتظافرة و الروايات المتواترة من الفريقين على وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و كذلك دلّت الروايات المستفيضة بل المتواترة على أنّه لابأس بالولاية من قبل الجائر إذا كانت لإصلاح أمور المؤمنين من الشيعة. و قد تقدّم بعضها، و بها قيّدنا ما دلّ على حرمة الولاية عن الجائر مطلقا. و من الواضح أنّ الأمور الجائزة إذا وقعت مقدّمة للواجب كانت واجبة شرعا، كما هو معروف بين الأصوليين، أو عقلاً كما هو المختار.
وعليه فلامانع من اتصاف الولاية الجائزة بالوجوب المقدّمى إذا توقّف عليها الواجب، كالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر على أنّه إذا جازت الولاية عن الجائر لإصلاح أمورالمؤمنين جازت أيضا للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، إمّا بالفحوى أو لأنّ ذلك من جملة إصلاح أمورهم.(1) فلاتعارض و لاتزاحم فى ما إذا توقّف الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر على التولّى من قِبَل الجائر لجواز التولّى فى هذه الصورة.
و عليه فيجتمع جواز التولّى مع وجوبه المقدّمى لوجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بحسب مجموع الروايات. و لايصل النوبة إلى التخيير بعد ما عرفت من جواز اجتماعهما.
هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من التعارض بالعموم من وجه ليس هو التخيير
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 442-441.
ص: 298
الواقعى، كما أفاد الشيخ الأنصارى قدس سره، حيث قال: إنّ الحكم فى التعارض بالعموم من وجه هو التوقف و الرجوع إلى الأصول لا التخيير كما قرّر فى محلّه، و مقتضاها إباحة الولاية للأصل و وجوب الأمر بالمعروف لاستقلال العقل به كما ثبت فى بابه.
ثمّ على تقدير الحكم بالتخيير فالتخيير الذى يصار إليه عند تعارض الوجوب و التحريم هو التخيير الظاهرى و هو الأخذ بأحدهما بالتزام الفعل أو الترك لاالتخيير الواقعى.
ثم أضاف إلى ذلك بقوله: إنّ المتعارضين بالعموم من وجه لايمكن إلغاء ظاهر كلّ منهما مطلقا، بل بالنسبة إلى مادّة الاجتماع، لوجوب إبقائهما على ظاهرهما فى مادّتى الافتراق، فيلزمك استعمال كلٍّ من الأمر و النهى فى أدلّة الأمر بالمعروف و النهى عن الولاية فى الإلزام و الإباحة.(1)
و لايخفى عليك ما فى الإضافة المذكورة، حيث أنّ لزوم استعمال كل من الأمر و النهى فى أدلة الأمر بالمعروف و النهى عن الولاية فى الإلزام و الإباحة محلّ تأمّل بل منع بعد ما قرّر فى محلّه من أنّ الوجوب و الحرمة لايكونان معتبرين فى المستعمل فيه، بل هما مستفادان من حكم العقلاء بالوجوب فيما إذا طلب الآمر شيئا و لم يرخّص فى تركه، و بالحرمة فيما إذا نهى عن شيئ و لم يرخّص فى فعله. و عليه فلايلزم استعمال كلّ من الأمر و النهى فى الإلزام و الإباحة كما لايخفى.
و كيف كان، فصحّ القول بأنّ من أقسام الولاية الغير المحرّمة ما يكون واجبة، و هى ما إذا توقف الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر الواجبان عليها، فإنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب بحكم الشرع أو حكم العقل. و حيث كانت الولاية فى الفرض المذكور غير محرّمة فلاتعارض و لاتزاحم كما تقدّم.
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 57.
ص: 299
و قد حكى الشيخ قدس سره عن جماعة استحباب التولّى عن الجائر عند توقف الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر عليه. قال فى النهاية: و أمّا سلطان الجور فمتى علم الإنسان أو غلب على ظنّه أنّه متى تولّى الأمر من قبله أمكن التوصّل إلى إقامة الحدود و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و قسمة الأخماس و الصدقات فى أربابها وصلة الإخوان و لايكون معذلك مخلّاً بواجب و لافاعلا لقبيح، فإنّه يستحبّ له أن يتعرّض لتولّى الأمر من قبله.
ثمّ قال الشيخ الأعظم بعد الحكاية المذكورة: أورد عليه فى المسالك بعد أن اعترف أنّ مقتضى ذلك وجوبها (الولاية) و لعلّ وجه عدم الوجوب كونه بصورة النائب عن الظالم و عموم النهى عن الدخول معهم و تسويد الاسم فى ديوانهم. فإذا لم يبلغ حدّ المنع فلا أقلّ من عدم الوجوب.
و استشكل الشيخ عليه بأنّ الأمر بالمعروف واجب. فإذا لم يبلغ ما ذكره من كونه بصورة النائب إلى آخر ما ذكره حدّ المنع، فلا مانع من الوجوب المقدّمى للواجب.
و لقد أفاد و أجاد ولكن أضاف إليه شيئا آخر لايخلو عن التأمّل و النظر، حيث قال: و يمكن توجيه الاستحباب بأنّ نفس الولاية قبيح محرّم لأنها توجب إعلاء كلمة الباطل و تقوية شوكته، فإذا عارضها قبيح آخر و هو ترك الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و ليس أحدهما أقّل قبحا من الآخر فللمكلّف فعلها تحصيلا لمصلحة الأمر بالمعروف، و تركها دفعا لمفسدة تسويد الاسم فى ديوانهم الموجب لإعلاء كلمتهم و قوّة شوكتهم.
نعم، يمكن الحكم باستحباب اختيار أحدهما لمصلحة لم يبلغ حدّ الإلزام حتى يجعل أحدهما أقّل قبحا ليصير واجبا. و الحاصل: أنّ جواز الفعل و الترك هنا ليس
ص: 300
من باب عدم جريان دليل قبح الولاية و تخصيص دليله بغير هذه الصورة بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف. فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما و العمل بمقتضاه نظير تزاحم الحقّين فى غير هذا المقام.(1)
ولايخفى عليك أنّ التوجيه الأخير لامورد له بعد الاستدلال بالروايات الدالّة على جواز التولّى من قبل الجائر لمصلحة المؤمنين، فإنّ التولّى عن قبل الجائر حينئذ جايز، و مع جوازه يصير واجبا بوجوب النهى عن المنكر و الأمر بالمعروف أو إقامة الحدود فلامورد للاستحباب.
أللّهمّ إلّا أن يكون المراد من الاستحباب أنّ التولّى عن الجائر فى هذه الصورة مستحبّ عينىٌّ فى نفسه، فلاينافى وجوبه باعتبار وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و لعلّ إليه يؤوّل كلام الشيخ فى نهاية المطاف، حيث قال: إنّ دليل استحباب الشيئ الذى قد يكون مقدّمة لواجب لايعارض أدلّة وجوب ذلك الواجب، فلاوجه لجعله شاهدا على الخروج عن مقتضاها، لأنّ دليل الاستحباب مسوق لبيان حكم الشيئ فى نفسه مع قطع النظر عن الملزمات العرضية، كصيرورته مقدّمة لواجب أو ماموراً به لمن يجب إطاعته أو منذور أو شبهه.
فالأحسن فى توجيه كلام من عبرّ بالجواز مع التمكّن من الأمر بالمعروف إرادة الجواز بالمعنى الأعم و من عبرّ بالاستحباب فظاهره إرادة الاستحباب العينى الذى لاينافى الوجوب الكفائى نظير قولهم يستحبّ تولّى القضاء لمن يثق من نفسه، مع أنّه واجب كفائى لأجل الأمر بالمعروف الواجب كفاية، أو يقال: إنّ مورد كلامهم ما إذا لم يكن هنا معروف متروك يجب فعلا الأمر به، أو منكر مفعول يجب النهى عنه كذلك
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ الأعظم قدس سره، ص 57-56.
ص: 301
بل يعلم بحسب العادة تحقّق مورد الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بعد ذلك.
ومن المعلوم أنّه لايجب تحصيل مقدّمتهما قبل تحقّق موردهما خصوصا مع عدم العلم بزمان تحقّقه. و كيف كان، فلاإشكال فى وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك أو منكر مركوب يجب فعلا الأمر بالأول و النهى عن الثانى.(1)
فتحصّل إلى حدّ الآن: أنّ التولّى عن الجائر لمصلحة العباد يكون جائزا جمعا بين الأخبار الدالة على حرمة التولّى و بين الأخبار المرخّصة فى صورة كون داعيه هو مصلحة العباد، لأنّ النسبة بينهما هى العموم و الخصوص المطلق و مقتضاه استثناء مصلحة العباد عن حرمة التولّى عن الجائر.
و مما ذكر يظهر حكم تقدّم وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر على أدلّة حرمة التولّى أيضا بمفهوم الأولوية، إذ التولّى إذا كان جايزاً بسبب مصلحة العباد فكذلك يكون جائزاً بمصلحة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بالأولوية. فالتولّى عن الجائر فيما إذا كان مقدّمة لأمر واجب، كالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر يكون جايزا فى نفسه و واجبا بحسب وجوب ذى المقدّمة و مع كونه جايزا فى نفسه فلاتعارض و لاتزاحم كما تقدّم بيانه تفصيلا.
بقى هنا شيئ و هو أنّ شيخنا الأستاذ قال: إنّ القدر المسلّم من هذا الحكم الذى لايستفاد أزيد منه من الأخبار أنّما هو هذا المعنى فى من يطلق عليه الظالم بقول مطلق و هو لايتحقّق إلّا بتمحّض أعماله الخارجية فى التى لها إضافة إلى غيره بالظلم و عدم صدور الإحسان منه مطلقا أو فى نادر يلحق بالمعدوم، كما لايتحقّق صدق اسم النجّار بقول مطلق على شخص إلّا بتمحّض شغله و كسبه فى النجّارة، فلو انضمّ إليها
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 57.
ص: 302
الخياطة لايقال: إنّه نجّار بقول مطلق، بل يقال: فى بعض وقته نجّار و فى بعضه خيّاط.
كذلك لو انقسم الأعمال الخارجية المتعدّية إلى الغير من شخص إلى الظلم و الإحسان فلايصحّ أن يقال: إنّه ظالم بقول مطلق، بل يقال: إنّه ظالم من جهة فلانية و محسن من جهة كذائية.
والمقصود من هذا الكلام: أنّ سلاطين الشيعة يمكن إخراجهم عن عنوان الظالم فى هذه الأخبار (لعدم إطلاق الظالم عليهم بقول مطلق). إلى أن قال: و أمّا غاصبيّة الخلفاء فى زمانهم فلأنّ هذه الأمور فى ذلك الزمان حقّهم (الأئمة عليهم السلام) و كان الخلفاء هم الصادّين عنهم عليهم السلام حقّهم.
و أمّا فى هذه الأعصار فهو عليه السلام قد رفع اليد عن هذه الأمور بدون دفع و صدّ من هذا السلطان الذى من الشيعة لجنابه عن حقه، بل متى ظهر يسلّمه إليه. إلى أن قال: هذا بخلاف الحال فى أمراء العامّة و خلفائهم، فإنّهم داخلون فى الإمارة و الخلافة بعنوان الغصب و كونهم مستحقّين له دون غيرهم.
فالواصل من ناحيتهم إلى من سواهم ليس إلّا محض الشرّ و الظلم و الفساد، فإنهم المانعون عن وصول الفيوضات و الخيرات من الإمام (صلوات الله عليه) إلى رعيّته و الملجئون له عليه السلام إلى رفع اليد أو الغيبة و الاستتار عن الأبصار. فهذه الخلفاء شرّ محض و ظَلَمة محضة، كما أشار عليه السلام إلى ذلك فى الأخبار المتقدّمة بقوله: هم النار هم النار هم النار.(1)
و لقائل أن يقول: لاوجه لمنع صدق الظالم بقول مطلق للسلطان الشيعى الذى لايبالى بالإثم غالبا، و دعوى اختصاص الصدق بمن لم يصدر عنه إحسان أصلاً كما
**********
(1) راجع المكاسب المحرّمة لشيخنا الأستاذ الأراكى قدس سره، ص 96-93.
ص: 303
ترى، بل يكفى فى صدق الظالم عليه بقول مطلق غلبة صدور الظلم عنه و إن صدر منه إحسان أو إحقاق حقٍّ أحياناً. هذا مضافا إلى أنّ السلطان الشيعى المذكور أيضا غصب حقَّ نائب الامام عليه السلام و دفعه و صدّه و صدّ النائب كصدّ المنوب عنه فى تحقّق الغصب و صدق الظلم، فلاتغفل.
الثانى: مما يسوّغ الولاية الإكراه عليه بالتوعيد على تركها من الجائر بما يوجب ضررا بدنيا أو ماليا عليه أو على من يتعلّق به، بحيث يعدّ الإضرار به إضرارا به، و يكون تحمّل الضرر عليه شاقّاً على النفس كالأب و الولد و من جرى مجراهما.
قال شيخنا الأعظم قدس سره: و هذا ممّا لاإشكال فى تسويغه ارتكاب الولاية المحرّمة فى نفسها، و استدلّ له بعموم قوله تعالى: (إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ) ،(1) فإن هذا العموم يستثنى عن عموم (لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .) (2)
هذا مضافا إلى النبوى صلى الله عليه وآله و سلم: رفع عن أمتى ما أكرهوا عليه، و قولهم عليهم السلام: التقيّة فى كلّ ضرورة، و ما من شيئ إلّا فقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه، إلى غير ذلك مما لايحصى كثرة من العمومات و ما يختصّ بالمقام.(3)
أورد عليه كما فى إرشاد الطالب: بأنه لم يستدلّ على حرمة كون الشخص من أعوان الظَّلمة و تسويد الاسم فى ديوانهم بالآية، مع تمسّكه بالاستثناء فيها على جوازه مع الإكراه، فإنّ لازم هذا تسليم دلالتها بصدرها على حرمة قبول الولاية من الجائر، ولكن لايخفى ما فيه.
**********
(1) آل عمران، 28.
(2) آل عمران، 28.
(3) المكاسب المحرّمة، ص 57.
ص: 304
فإنّ مدلول الآية عدم جواز اختيار المسلم الكافر وليّاً له، سواء كان ذلك الكافر ظالما أو عادلا بحسب دينه. فلايجوز للمسلم أن يجعل الكافر قيّماً لأطفاله الصغار لدلالة الآية بصدرها على ذلك. و الكلام فى مسألة عدم جواز كون الشخص من أعوان الظَّلمة عدم جواز قبول الولاية من قبلهم، سواء كان الظالم مسلما أو كافرا. و الحاصل: أنّه لايستفاد حرمة كون الشخص من أعوانهم من الآية المباركة ليدلّ الاستثناء فيها على ارتفاع حرمته عند الإكراه عليه.(1)
وفيه أوّلاً: أنه إن أريد من دون المؤمنين فى قوله عزّوجلّ : (لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ) الآية،(2) هم العادلون منهم. فالنهى عن اتخاذ غيرهم بعنوان الأولياء يعمّ الجائرين من المؤمنين، لأنهم أيضا ليسوا من المؤمنين العادلين.
فالآية تدلّ على ممنوعية اتخاذ غير المؤمنين العادلين للولاية، و ذكر الكافرين من باب ذكر أحد المصاديق، و إن أريد من المؤمنين مطلق المؤمنين. فالنهى يختصّ باتخاذ الكفار للولاية، إلّا أن يقال: إنّ النهى عن ذلك يكون بعنوان مصداق من الجائرين و لاخصوصيّة لكونهم من الكفار، فتأمّل.
وثانياً: أنّ بعد ما تقدّم من حرمة التولّى عن الجائر ذاتا بالعمومات، لاإشكال فى تعلّق الاستثناء بذلك أيضا إن كان مطلقا و لو كانت العمومات الدالّة على حرمة التولّى عن الجائر منفصلات، كما يؤيّده أو يشهد له عموم أدلّة التقيّة. و دعوى اختصاص الاستثناء بالمورد لايساعدها عموم أدلّة التقيّة.
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 267.
(2) آل عمران، 28.
ص: 305
وثالثاً: أنّ التقيّة لو أوجبت جواز تولّى الكفار لكانت كذلك فى تولّى المسلمين الجائرين بطريق أولى. هذا مضافا إلى عموم النبوى صلى الله عليه وآله و سلم: رفع عن أمتى ما أكرهوا عليه، و عموم قوله عليه السلام: و ما من شيئ إلّا فقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه و قوله عليه السلام: إنمّا جعل التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة فتحصّل: أنّ التقيّة و الإكراه من مسوّغات تولّى الكفار و الظالمين.
التنبيه الأوّل: أنّه قال الشيخ الأعظم قدس سره: كما يباح بالإكراه نفس الولاية المحرّمة، كذلك يباح به ما يلزمها من المحرّمات الأخر و ما يتّفق فى خلالها مما يصدر الأمر به من السلطان الجائر ما عدا إراقة الدَّم إذا لم يكن التفصّى عنه، و لاإشكال فى ذلك.
و إنّما الإشكال فى أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير من نهب الأموال و هتك الأعراض و غير ذلك من العظايم هل تباح كلّ ذلك بالإكراه و لو كان الضرر المتوعَّد به على ترك المكره عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكره عليه، كما إذا خاف على عرضه من كلمة خشنة لايليق به فهل يباح بذلك أعراض الناس و أموالهم و لو بلغت ما بلغت كثرة و عظمة، أم لابدّ من ملاحظة الضررين و الترجيح بينهما؟ وجهان: من إطلاق أدلّة الإكراه و أنّ الضرورات تبيح المحظورات، ومن أنّ المستفاد من أدلّة الإكراه تشريعه لدفع الضرر، فلايجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير، و لو كان ضرر الغير أدون، فضلاً عن أن يكون أعظم.
و إن شئت قلت: إنّ حديث رفع الإكراه و فع الاضطرار مسوق للامتنان على جنس الأمة و لاحسن فى الامتنان على بعضهم بترخيصه فى الإضرار بالبعض الآخر، فإذا توقّف دفع الضرر عن نفسه على الإضرار بالغير لم يجز و وجب تحمّل الضرر هذا، ولكن الأقوى هو الأول، لعموم دليل نفى الإكراه لجميع المحرّمات حتى الإضرار
ص: 306
بالغير ما لم يبلغ الدم و عموم نفى الحرج، فإنّ إلزام الغير(1) تحمّل الضرر و ترك ما أكره عليه حرج، و لقول أبى جعفر عليه السلام: إنّما جعل التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة.(2) حيث أنّه دلّ على أنّ حدّ التقيّة بلوغ الدم فتشرع لما عداه.
و أمّا ما ذكر من استفادة كون نفى الإكراه لدفع الضرر فهو مسلّم بمعنى دفع توجّه الضرر و حدوث مقتضية، لابمعنى دفع الضرر المتوجه بعد حصول مقتضيه.
بيان ذلك: أنّه إذا توجّه الضرر إلى شخص بمعنى حصول مقتضيه، فدفعه عنه بالإضرار بغيره غير لازم بل غير جايز فى الجملة، فإذا توجّه ضرر على المكلّف بإجباره على مال و فرض أنّ نهب مال الغير دافع له فلايجوز للمجبور نهب مال غيره لدفع الجبر (الضرر) عن نفسه؛ و كذلك إذا أكره على نهب مال غيره فلايجب تحمّل الضرر بترك النهب لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير.
و توهّم أنّه كما يسوّغ النهب فى الثانى لكونه مكرها عليه فيرتفع حرمته، كذلك يسوّغ الأول لكونه مضطرّا إليه. ألا ترى أنّه لو توقّف دفع الضرر على محرّم آخر غير الإضرار بالغير، كالإفطار فى شهر رمضان أو ترك الصلاة أو غيرهما ساغ له ذلك المحرّم.
و بعبارة أخرى: الإضرار بالغير من المحرّمات كما يرتفع حرمته بالإكراه كذلك يرتفع بالاضطرار، لأنّ نسبة الرفع الى ما أكرهوا عليه و ما اضطرّوا اليه على حدّ سواء.
مدفوع بالفرق بين المثالين فى الصغرى بعد اشتراكهما فى الكبرى المتقدّمة، و هى أنّ الضرر المتوجّه إلى شخص لايجب دفعه بالإضرار بغيره بأنّ الضرر فى الأول
**********
(1) أى المكره بالفتح.
(2) الوسائل، الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف، ج 16، ص 234، ح 1.
ص: 307
متوجّه إلى نفس الشخص فدفعه عن نفسه بالإضرار بالغير غير جائز. و عموم ما اضطرّوا إليه لايشمل الإضرار بالغير المضطرّ إليه، لأنه مسوق للامتنان على الأمة، فترخيص بعضهم فى الإضرار بالآخر لدفع الضرر عن نفسه و صرف الضرر إلى غيره مناف للامتنان، بل يشبه الترجيح بلا مرجحّ . فعموم ما اضطرّوا إليه فى حديث الرفع مختصّ بغير الإضرار بالغير من المحرّمات.
و أمّا الثانى: فالضرر فيه أولاً و بالذات متوجّه إلى الغير بحسب إلزام المكره بالكسر وإرادته الحتميّة و المكره بالفتح و إن كان مباشرا، إلّا أنه ضعيف لاينسب إليه توجيه الضرر إلى الغير حتى يقال إنّه أضرّ بالغير لئلّا يتضرّر نفسه.
نعم، لو تحمّل الضرر و لم يضرّ بالغير فقد صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفا، لكنّ الشارع لم يوجب هذا و الامتنان بهذا على بعض الأمة لاقبح فيه، كما أنّه لو أراد ثالث الإضرار بالغير لم يجب على الغير تحمّل الضرر و صرفه عنه إلى نفسه.
هذا كلّه مع أنّ أدلّة نفى الحرج كافية فى الفرق بين المقامين، فإنّه لاحرج فى أن لايرخّص الشارع فى دفع الضرر عن أحد بالإضرار بغيره، بخلاف ما لو ألزم الشارع الإضرار على نفسه لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير، فإنه حرج قطعا.(1)
منها: أنّ قوله رحمه الله: «إنّ إطلاق أدلّة الإكراه يقتضى نفى الإكراه لجميع المحرّمات حتى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم إذا صار مكرهاً على ذلك، و لايجب عليه تحمّل الضرر بنفسه و دفع الضرر من غيره»، منظور فيه بما أفاده فى مصباح الفقاهة من أنّه:
**********
(1) المكاسب، ص 58-57.
ص: 308
لو جازت التقيّة بنهب مال الغير و جلبه إلى الظالم لدفع الضرر عن نفسه لجاز للآخر ذلك أيضا، لشمول أدلة التقيّة لهما معاً، فيقع التعارض فى مضمونها.
وحينئذٍ فلايجوز الاستناد إليها (أى أخبار التقيّة) فى دفع الضرر عن أحد الطرفين بإيقاع النقص بالطرف الأخر، لأنّه ترجيح بلامرجّح. و عليه فنرفع اليد عن إطلاقها فى مورد الاجتماع، و يرجع إلى عموم حرمة التصرّف فى مال الغير و شؤونه.(1)
فلايرفع حرمة الإضرار بالغير بالإكراه عليه، و يشكل ما ذكر من التعارض بمنعه، إذ لاإكراه بالنسبة إلى الآخر بعد ما فرض من إكراه أحدهما على الإضرار بالغير، و مع اختصاص الإكراه بأحدهما كيف يكون الآخر مشمولا لأدلّة الإكراه و التقيّة حتى يدّعى التعارض ؟ هذا مضافا إلى أنّ التعارض فيما إذا اجتمع النفى و الإثبات فى شىءٍ واحد، و شمول أدلّة التقيّة لهما معا لايوجب ذلك.
أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التعارض من ناحية دلالة أدلّة الإكراه و التقيّة على نفى حرمة إضرار زيد مثلاً على عمرو بسبب إكراهه عليه، و شمول أدلّة الإكراه بالنسبة إلى عمرو أيضا من جهة إرادة الظالم الإضرار به يقتضى نفى حرمة إضراره على زيد و حرمة إضرار زيد عليه. فإضرار زيد على عمرو موضوع للحرمة و عدمها عليهما، فيقع التعارض، ولكنّه بعد غيرواضح إذ لاتعارض عند شمول أدلّة التقيّة لهما معا فيجوز لكلّ منهما إكراه الغير، فتأمّل.
ومنها: أنّه لا يقاس توجّه الضرر إلى الغير بحسب إرادة الجائر بتوجّه الضرر التكوينى إلى الغير فى عدم وجوب دفع الضرر عنه بتحمّل الضرر. و ذلك كما فى إرشاد الطالب لأنّ مع توجّه الضرر بإرادة المكره بالكسر إلى الغير يكون الإضرار
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 446.
ص: 309
بمباشرة المكره بالفتح و يضاف إليه الإضرار فلايجوز، بخلاف توجّه الضرر إلى الغير تكويناً. و دعوى ضعف نسبة الإضرار إلى المكره بالفتح ضعيفة، و إلّا لم يسند القتل أيضا إلى المباشر المكره.(1)
ومنها: أنّ حديث الرفع وارد فى الامتنان على جنس الأمة، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وآله و سلم: رفع عن أمتى تسعة الحديث، لأنّ الرفع للأمة لالبعض الآحاد.
و نفى حرمة الإضرار بالغير و إن كان امتنانا على المكره بالفتح، ولكنّه خلاف الامتنان على الآخر المتضرّر به، فلايجوز الاستدلال برفع الإكراه على جواز الإضرار بالغير فيما إذا أراد الظالم الإضرار بالغير و أكره شخصا عليه بتوعيده الإضرار عليه فى صورة المخالفة، و عليه فلايكون المكره بالفتح مأذونا فى إيراد الضرر على الغير.
و بعبارة أخرى: إرادة المكره عليه بالفتح تمنع عن استناد الإضرار إلى الظالم المكره بالكسر. و دعوى أنّ إرادة المكره بالكسر توجّهت إلى الإضرار بالغير أوّلاً ثم أراد تحصيله بوسيلة المكره (بالفتح) إرادة غيريّة مقدّميّة، فالمكره (بالفتح) لو تحمّل الضرر اللازم للتخلّف عن أمره فإنّما تحمّله لصرف الضرر عن غيره و هو حرجىٌّ نفاه الشارع منّة على العباد. و كون الفاعل شاعرا لايدفع ما هو مناط فى المقام.(2)
مندفعة بأنّ إرادة الظالم من دون وساطة إرادة المكره (بالفتح) لاتوجب إضراراً على الغير حتى يكون الضرر متوجّها بالطبع إلى الغير بل الإضرار مستند إلى المكره بالفتح. فترخيص الشارع المكره بالفتح فى الإضرار بالغير حرج على الغير و مناف للامتنان على جنس الأمة.
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 268-267.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ص 147.
ص: 310
و دليل نفى الحرج كقوله عزّوجلّ : (يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) .(1) كدليل نفى الضرر فى أنّه للامتنان على جنس الأمة. والقول بأنّ إلزام المكره عليه بالفتح تحمّل الضرر بنفسه لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير حرج أيضاً غير سديد، لأن ضرر المكره بالكسر متوجّه إلى المكره بالفتح، لا إلى الغير بعد ما عرفت من عدم إضرار بلا واسطة من المكره بالكسر إلى الغير. و على تقدير تسليم توجّه الضرر منه إلى الغير و كون تحمّله حرجاً على المكره بالفتح غايته هو تعارض الحرجين. فيلزم حينئذ بعد السقوط الرجوع إلى عموم أدلّة حرمة التصرّف فى مال الغير و شؤونه.
و مما ذكر يظهر ما فى كلام سيّدنا الإمام المجاهد من أنّ الامتنان من قبيل نكتة التشريع لاعلّة الحكم، نظير جعل العدّة لنكتة عدم تداخل المياه. و فى مثله يتبع إطلاق الدليل،(2) لما عرفت من أنّ استفادة الامتنان من ناحية الاستظهار اللفظى من الأدلّة. فإذا كان الامتنان مستفاداً من ظاهر قوله صلى الله عليه وآله و سلم: رفع عن أمتى التسعة، و من ظاهر قوله: (يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) .(3) فلامجال لدعوى أنّ الامتنان نكتة الحكم كما لايخفى.
وعليه فلايشمل حديث الرفع الموارد التى يكون نفى الإكراه أو الحرج فيه خلاف الامتنان على الأمة. فما اشتهر من أنّ المأمور معذور لادليل له، بل إضرار الغير محرّم. و أدلّة نفى الإكراه أو الحرج لايرفع حرمة الإضرار، لمنافاته مع الامتنان على جنس الأمة كما تقدم، فتدبّر جيّدا.
هذا كلّه بناء على حكومة لاضرر و لاحرج بالنسبة إلى ساير الأحكام، و إلّا
**********
(1) البقرة، 185.
(2) المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 143.
(3) البقرة، 185.
ص: 311
فالأمر أوضح لوجوب الرجوع حينئذ إلى قاعدة التزاحم.
وقد ذهب فى جامع المدارك إلى منع حكومة دليل نفى الضرر و دليل نفى الحرج على أدلّة المحرّمات و أدلّة الواجبات، حيث قال: إنا لانسلّم حكومتهما على أدلّة المحرّمات و أدلّة الواجبات. ألا ترى أنّه لو أكره على فعل الزناء بالمحارم أو بامرأة ذات زوج، بحيث لو لم يفعل المكره بالفتح توجّه إليه ضرر مالىٌّ أو أكره على إعطاء شيئ من ماله بلاعوض إذا أراد الحجّ ، هل يلتزم بجواز الفعل فى الصورة الأولى و الترك فى الصورة الثانية و يلتزم بسقوط الحجّ عن غالب الناس فى هذه الاعصار؟
و الظاهر أنّه من باب المزاحمة و لذا لايجوز أن يجعل نفسه فى معرض الإكراه كأن يمشى إلى محلّ يكره فى ذلك المحلّ على شرب الخمر مثلاً. إلى أن قال: فالأظهر فى المقام ملاحظة الضررين و تقديم الأقوى و مع التساوى التخيير.(1)
ولقائل أن يقول: لامجال للإشكال فى حكومة دليل نفى الحرج بالنسبة إلى أدلّة الواجبات، كما يشهد له الاكتفاء بمسح المرارة عن المسح بالبشرة مع قوله عليه السلام: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله، و ليس ذلك إلّا لحكومة «لاحرج» على أدلّة الوضوء و المسح على البشرة كما لايخفى.
و هكذا لاإشكال فى سقوط القيام فى الصلاة عند كونه ضرريا و يكتفى بالجلوس، و ليس ذلك إلّا لحكومة «لاضرر». نعم، حكومة لاضرر و رفع الإكراه و نفى الحرج بالنسبة إلى المحرّمات محلّ تأمّل و نظر بخلاف نفى الاضطرار، فإنه حاكم بالنسبة إلى المحرّمات، بل شمول «لاضرر» لصورة إكراه من يريد الحجّ على إعطاء شيئ من ماله بلاعوض محلّ تأمّل، لإمكان دعوى انصرافه عن مثله، فتدبّر جيّداً.
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 64-63.
ص: 312
التنبيه الثانى: فى أنّ من جوّز الإضرار بالغير بإكراه الجائر عليه خصّص ذلك بما إذا صدق الإكراه قال: الشيخ الأعظم قدس سره: إنّ الإكراه يتحقّق بالتوعّد بالضرر على ترك المكره عليه ضررا متعلّقا بنفسه أو ماله أو عرضه أو باهله ممن يكون ضرره راجعا إلى تضرّره و تألّمه.
و أمّا إذا لم يترتّب على ترك المكره عليه إلّا الضرر على بعض المؤمنين ممن يعدّ أجنبيا من المكره بالفتح، فالظاهر أنّه لايعدّ ذلك إكراها عرفا، إذ لاخوف له يحمله على فعل ما أمر به. و بما ذكرنا من اختصاص الإكراه بصورة خوف لحوق الضرر بالمكره نفسه أو بمن يجرى مجراه، كالأب و الولد صرّح فى شرايع و تحرير و روضة و غيرها.
نعم، لو خاف على بعض المؤمنين جاز له قبول الولاية المحرّمة، بل غيرها من المحرّمات إلالهيّة التى أعظمها التبرّى من أئمة الدين لقيام الدليل على وجوب مراعاة المؤمنين و عدم تعريضهم لضرر، مثل ما فى الاحتجاج عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: و لَإن تبرّء منّا ساعة بلسانك و أنت مُوال لنا بجنانك لتقى على نفسك روحها الذى هو قوامها، و مالها الذى به نظامها، و جاهها الذى به تمسكها، و تصون من عرف بذلك من أوليائنا و إخوانك، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك و تنقطع به عن عملك فى الدين و صلاح إخوانك المؤمنين. و إيّاك ثمّ إيّاك أن تترك التقيّة التى أمرتك بها، فإنك شائط بدمك و دم إخوانك معرض بنعمتك و نعمتهم للزوال، مذلّ لهم فى أيدى أعداء دين الله، و قد آمُرُك بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيّتى كان ضررك على إخوانك و نفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا، الحديث. لكن لايخفى أنّه لايباح بهذا النحو من التقيّة الإضرار بالغير لعدم شمول أدلّة الإكراه لهذا، لما عرفت من عدم تحقّقه (الإكراه) مع عدم لحوق ضرر بالمكرَه و لابمن يتعلّق به و عدم جريان أدلّة
ص: 313
نفى الحرج إذ لاحرج على المأمور لأنّ المفروض تساوى من أمر بالإضرار به و من يتضرّر بترك هذا الأمر من حيث النسبة إلى المأمور مثلا لو أمر الشخص بنهب مال مؤمن و لايترتّب على مخالفة المأمور به إلّا نهب مال مؤمن آخر فلاحرج.
حينئذ فى تحريم نهب مال الأوّل بل تسويغه لدفع النهب عن الثانى قبيح بملاحظة ما علم من الرواية المتقدّمة من الغرض فى التقيّة، خصوصا مع كون المال المنهوب للأوّل أعظم بمراتب، فإنّه يشبه بمن فرّ من المطر إلى الميزاب، بل اللازم فى هذا المقام عدم جواز الإضرار بمؤمن و لو لدفع الضرر الأعظم من غيره. نعم إلّا لدفع ضرر النفس فى وجه مع ضمان ذلك الضرر.
و بما ذكرنا ظهر أنّ إطلاق جماعة لتسويغ ما عدا الدم من المحرّمات بترتّب ضرر مخالفة المكره عليه على نفس المكره و على أهله أو على الأجانب من المؤمنين لايخلو من بحث إلّا أن يريدوا الخوف على خصوص نفس بعض المؤمنين، فلاإشكال فى تسويغه لما عدا الدم من المحرّمات، إذ لاتعادل نفس المؤمن شيئ، فتأمّل.(1)
منها: أنّ الإكراه عند المصنّف لايتحقّق إلّا بحمل الشخص على ما يكرهه بوعيد بترتّب ضرر عليه أو على عشيرته عند المخالفة، لأنّه يتأبّى عن وقوع الضرر المذكور. و أمّا إذا كان ضرر الترك و المخالفة متوجّها إلى بعض المؤمنين ممن يعدّ أجنبيا من المكره بالفتح، فالظاهر أنّه لايعدّ ذلك إكراهاً عرفا إذ لا خوف له و لاتأبى له يحمله على فعل ما أمر به. و عليه فلايأتى فيه ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من جواز الإضرار بالغير عند الإكراه عليه لعدم تحقّق موضوعه و هو الإكراه.
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 58.
ص: 314
و بذلك يظهر ما فى مصباح الفقاهة، حيث قال: أقول: الكراهة فى اللغة هى ضدّ الحبّ ، و الإكراه هو حمل الرجل على ما يكرهه. و هذا المعنى يتحقّق بحمل الشخص على كلّ ما يكرهه، بحيث يترتّب على تركه ضرر عليه أو على عشيرته أو على الأجانب من المؤمنين، و إذا انتفى التوعّد بما يكرهه انتفى الإكراه. و عليه فلانعرف وجها صحيحا لما ذكره المصنّف من تخصيص الإكراه ببعض ما ذكرناه،(1) إذ تقدّم أنّ ترتّب الضرر على الأجنبى ليس كترتّب الضرر على الأهل موجبا لصدق الإكراه أو الحرج. و معه لامجال للاستدلال بنفى الإكراه أو نفى الحرج لجواز الإضرار بالغير على مبنى الشيخ، بل هو محرّم.
وتفصيل ذلك: أنّ الكره ليس مساوقا لضد الحبّ ، بل هو بمعنى الإباء، كما فى القاموس. وعليه فالإكراه هو حمل الرجل على ما يتأبّى عنه و التأبّى محقّق بالنسبة إلى ترتّب الضرر إلى الأهل أو النفس. و أمّا بالنسبة إلى غيرهما من الأجنبى لاتالى له بالنسبة إليه. و عليه فحمله عليه ليس بإكراه هذا مضافا إلى أنّ عند الشك فى شمول نفى الإكراه للمقام يكون مقتضى الأصل هو عدم جواز الإضرار بالغير لعدم إحراز صدق الإكراه فى هذا المورد.
ومنها: أنه لايذهب عليك أنّ مع الخوف من ترتّب الضرر و لو لم يكن على النفس، أو ولو لم يكن على أهله يجوز قبول الولاية لما تقدّم من الأخبار المجوّزة للتولّى عن الجائر لمصلحة العباد.
ومنها: أنّ المستفاد من كلام الشيخ أنّه يجوز ارتكاب المحرّمات التى لاتكون من قبيل الإضرار بالغير لدفع الضرر عن المؤمنين.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 448.
ص: 315
أورد عليه: بأنّه لادليل على تقييد إطلاقات المحرّمات لمجرّد دفع الضرر المالى مثلا بعن بعض المؤمنين. و كيف يمكن الالتزام بجواز شرب الخمر فى مجلس الجائر أو غيره أو اللواط معه و غير ذلك من الموبقات لدفع الضرر المالى بل العرضى عن زيد.
و أمّا التبرّى فهو نظير الكذب و الافتراء و الحلف كاذبا لدفع الضرر عن المؤمن جائز. و جوازه لايلازم جواز ارتكاب سائر المحرّمات، فلادلالة فى مثل خبر الاحتجاج على ذلك، حيث أنّ المذكور فيه هو التبرّى صورة مع التولّى قلباً ليس من أعظم المحرّمات حتى يؤخذ بالفحوى.(1) و فيه: أنّ استبعاد تقييد الإطلاقات لمجرّد دفع الضرر المالى لايلازم عدم تقييدها بغير الضرر المالى.
ومنها: أنّ المستفاد من كلام الشيخ أنّ الخوف على نفس المؤمنين عند ترك المحرّمات يوجب جواز الارتكاب، و لعلّ ذلك من جهة أدلّة التقيّة و إلّا فيكون من باب التزاحم بين المحرّمات و وجوب إحياء النفس المحترمة فتجرى فيه قواعده.
قال فى إرشاد الطالب: فإن لم يحرز أهميّة وجوب الإنقاذ بأن احتمل الأهميّة فى كلّ منهما كان إطلاق دليل حرمة تلك المقدّمة حاكما على ما دلّ على وجوب انقاذ النفس المحترمة، حيث أنّه بإطلاق دليل حرمتها يثبت عدم التمكّن من الإنقاذ و أمّا إذا أحرز الأهميّة أو احتمل الأهميّة له لاللمحرّم الآخر تعيّن الإنقاذ للعلم بسقوط الإطلاق عن خطاب حرمة المقدّمة.(2)
ولايخفى عليك أنّ حكومة إطلاق دليل حرمة المقدّمة على طول على وجوب
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 272.
(2) إرشاد الطالب، ص 274-273.
ص: 316
إنقاذ النفس المحترمة صحيحة فيما إذا كان ما دلّ على وجوب إنقاذ النفس المحترمة مشروطا بالقدرة الشرعية أيضا، بخلاف ما إذا كان مشروطا بالقدرة العقلية فقط، فإنّ مقتضى إطلاق وجوب الإنقاذ هو سقوط خطاب حرمة المقدّمة من باب أهميّة وجوب الإنقاذ، و هكذا الأمر فيما إذا لم يثبت اشتراط القدرة الشرعية، فإنّ إطلاق وجوب الإنقاذ يقدّم على حرمة المقدّمة.
وممّا ذكر يظهر حكم ما إذا أكره الظالم أحدا على ارتكاب شيئ من المحرّمات الإلهية، سواء كانت هى الولاية أم غيرها، من غير أن يترتّب عليه فى تركها ضرر أصلاً، ولكن الظالم أوعده على ترك ذلك العمل بإجبار غيره على معصية من حرمات الله. و مرجع ذلك فى الحقيقة إلى دوران الأمر بين إقدام المكره (بالفتح) على معصية لايتضرّر بتركها و بين إقدام شخص آخر.
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و مثاله ما إذا أكرهه الجائر على شرب الخمر، و إلّا أكره غيره عليه. و الظاهر أنّه لاريب فى حرمة ارتكاب المعصية فى هذه الصورة، فإنّه لامجوّز للإقدام عليها من الأدلّة العقلية و النقلية، إلّا أن يترتّب على ارتكاب المعصية حفظ ما هو أهمّ منها، كصيانة النفس عن التلف و ما أشبه ذلك. و حينئذٍ يكون المقام من صغريات باب التزاحم، فتجرى فيه قواعده.(1)
والحاصل: أنّ الشيخ الأعظم قدس سره قال: و كيف كان، فهنا عنوانان: الإكراه و دفع الضرر المخوف عن نفسه و عن غيره من المؤمنين من دون إكراه. و الأوّل يباح به كلّ محرّم، و الثانى إن كان متعلّقا بالنفس جاز له كلّ محرّم حتى الإضرار المالى بالغير، لكنّ الأقوى أستقرار الضمان عليه إذا تحقّق سببه لعدم الإكراه المانع عن الضمان أو استقراره.
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 450-449.
ص: 317
و أمّا الإضرار بالعرض بالزنا و نحوه ففيه تأمّل. و لايبعد ترجيح النفس عليه و إن كان متعلّقا بالمال فلايسوّغ معه الإضرار بالغير أصلاً حتى فى اليسير من المال. فإذا توقّف دفع السَّبُع عن فرسه بتعريض حمار غيره للافتراس لم يجز، و إن كان متعلّقا بالعرض ففى جواز الإضرار بالمال مع الضمان أو العرض الاخف من العرض المدفوع عنه تأمّل. و أمّا الإضرار بالنفس أو العرض الأعظم فلايجوز بلاإشكال.(1)
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: توضيح كلامه: أنّ الشارع المقدّس قد جعل الإكراه موضوعا لرفع كلّ محرّم عدا إتلاف النفوس المحترمة كما تقدّم، بخلاف دفع الضرر المخوف على نفسه أو على غيره من المؤمنين، فإنّه من صغريات باب التزاحم، ولكنّك قد عرفت أنّ دليل الإكراه لايسوّغ دفع الضرر عن النفس بالإضرار بغيره. و عليه فكلا العنوانين من صغريات باب التزاحم. و على كلّ حال فتجوز الولاية عن الجائر فى كلا المقامين لدفع الضرر عن نفسه و عن سائر المؤمنين.(2)
و قد تقدّم أنّ وجه عدم تسويغ دليل الإكراه دفع الضرر عن النفس بالإضرار بالغير و إنّه خلاف الامتنان المستفاد من أدلّة نفى الإكراه. و مقتضاه هو جعل هذا المورد من صغريات باب التزاحم. هذا بخلاف الإكراه بالنسبة إلى سائر المحرّمات، فإنّه كالاضطرار يوجب رفع الحرمة عدا مورد الإكراه على قتل النفس، فإنّه منهىٌّ عنه بحسب ما ورد فى أدلّة التقيّة و عدى الإضرار بالغير، لأنه خلاف الامتنان.
ودعوى أنّ أدلّة نفى الإكراه ليست بحاكمة، مندفعة بأنّ أدلّة نفى الإكراه كأدلّة نفى الاضطرار فى الحكومة بالنسبة إلى المحرّمات عدا الإضرار بالغير و قتل النفس. و مع
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 59-58.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 450.
ص: 318
حكومة نفى الإكراه و الاضطرار لامجال لجعل العنوانين من الإكراه و الخوف عن نفسه و عن غيره من المؤمنين من باب التزاحم.
نعم، إذا كان الإكراه بالنسبة إلى إضرار الغير لايشمله دليل نفى الإكراه، لأنه خلاف الامتنان. فيكون مورد الإضرار بالغير من باب التزاحم كما عرفت.
ثم إنّه إن توقّف حفظ نفسه أو غيره من المؤمنين على الإضرار المالى إلى الغير جاز ذلك بأدلّة الاضطرار، و هكذا جاز الإضرار بالعرض لو توقّف حفظ النفس عليه مع تأمّل. و أمّا إذا توقّف حفظ المال على الإضرار بالغير فلايجوز لخروج المورد المذكور عن عموم أدلّة الاضطرار، لأنه ينافى الامتنان.
و إذا كان حفظ العرض متوقّفا على الإضرار بالنفس أو العرض الأعظم فلايجوز و إذا توقّف حفظ العرض على الإضرار بالمال أو العرض الأخفّ فقد تأمّل فى جوازه الشيخ قدس سره. و بالجملة، كلّ مورد لايشمله نفى الإكراه و نفى الاضطرار يكون من باب التزاحم، بخلاف الموارد التى يشملانها، فالمأخوذ فيها هو، إطلاق الحاكم، فتدبّر جيّداً.
التنبيه الثالث: قال الشيخ: قد ذكر بعض مشايخنا المعاصرين أنّه يظهر من الأصحاب أنّ فى اعتبار عدم القدرة على التفصّى من المكره عليه و عدمه أقوالا، ثالثها التفصيل بين الإكراه على نفس الولاية المحرّمة فلايعتبر و بين غيرها من المحرّمات فيعتبر فيه العجز عن التفصّى.
و الذى يظهر من ملاحظة كلماتهم فى باب الإكراه عدم الخلاف فى اعتبار العجز عن التفصّى إذا لم يكن حرجا و لم يتوقف على ضرر، كما إذا أكره على أخذ المال من مؤمن، فيظهر أنه أخذ المال و جعله فى بيت المال مع عدم أخذه واقعا، أو أخذه جهرا ثم ردّه إليه سرّا، كما كان يفعله ابن يقطين. و كما إذا أمره بحبس مؤمن فيدخله فى دار واسعة من دون قيد و يحسّن ضيافته و يظهر انّه حبسه و شدّد عليه.
ص: 319
و كذا لاخلاف فى أنّه لايعتبر العجز عن التفصّى إذا كان فيه ضرر كثير. و كأنّ منشأ زعم الخلاف ما ذكره فى المسالك فى شرح عبارة الشرايع مستظهرا منه خلاف ما اعتمد عليه. قال فى شرايع بعد الحكم بجواز الدخول فى الولاية دفعا للضرر اليسير مع الكراهة و الكثير بدونها: «إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول و العمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّى منه إلّا فى الدماء المحرّمة (المحترمة)، فإنه لاتقيّة فيها، انتهى».
قال فى المسالك ما ملخّصه: إنّ المصنّف ذكر فى هذه المسألة شرطين: الإكراه و العجز عن التفصّى و هما متغايران و الثانى أخصّ . و الظاهر أنّ شروطهما مختلف، فالأول شرط لأصل قبول الولاية، و الثانى شرط للعمل بما يأمره.
ثم فرّع عليه أنّ الولاية إن أخذت مجرّدة عن الأمر بالمحرّم فلايشترط فى جوازه الإكراه. و أمّا العمل بما يأمره من المحرّمات فمشروط بالإكراه خاصّة و لايشترط فيه الإلجاء إليه، بحيث لايقدر على خلافه. و قد صرّح به الأصحاب فى كتبهم. فاشتراط العجز عن التفصّى غير واضح، إلّا أن يريد به أصل الإكراه، إلى أن قال: إنّ الإكراه مسوّغ لامتثال ما يؤمر به و إن قدر على المخالفة مع خوف الضرر، انتهى. (فلا يصحّ اشتراط الإكراه فى جواز الولاية و لااشتراط غير الإكراه فى العمل بما يأمره الوالى الجائر من العجز عن التفصّى).
قال الشيخ: أقول: لايخفى على المتأمّل أنّ المحقّق لم يعتبر شرطا زائدا على الإكراه إلّا أنّ الجائر إذا أمر الوالى بأعمال محرّمة فى ولايته كما هو الغالب و أمكن فى بعضها المخالفة واقعا. و دعوى الامتثال ظاهرا كما مثلنا لك سابقا قيد امتثال ما يؤمر به بصورة العجز عن التفصّى.
و كيف كان، فعبارة شرايع واقعة على طبق المتعارف من تولية الولاة و أمرهم فى
ص: 320
ولايتهم بأوامر كثيرة يمكنهم التفصّى فى بعضها. و ليس المراد بالتفصّى المخالفة مع تحمّل الضرر كما لايخفى.(1)
قال الميرزا الشيرازى قدس سره ذيل قوله «قيد امتثال ما يؤمر به بصورة العجز عن التفصّى»: فيكون ذكر القيد لتحقّق معنى الإكراه لظهور أنّ مجرّد أمر الجائر بشيئ لايقتضى تحقّق الإكراه مع إمكان التفصّى على الوجه الذى ذكره المصنّف.
إلى أن قال: إلّا أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق التفصّى المنفى إمكانه، بل عموم المستند إلى كونه من النكرة فى سياق النفى عدم إمكان التفصّى مطلقا حتى يتحمّل الضرر، فيكون أعمَّ من التفصّى المعتبر عدم إمكانه فى تحقّق موضوع الإكراه، فإنه خصوص التفصّى بما لايترتّب عليه ضرر. فيكون عدم إمكان التفصّى فى عبارة الشرايع أخصّ من عدم الإمكان المعتبر فى تحقّق موضوع الإكراه، فإنّ نقيض الأعم أخص.
فيكون مفاد العبارة حينئذٍ اعتبار خصوصيّة زائدة على تحقّق موضوع الإكراه فى جواز الايتمار بما يأمره الجائر. و هذا هو الذى أنكره فى المسالك قائلا بعدم اعتبار المنع عن التفصّى مع ترتّب ضرر عليه.(2)
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: حاصل ما ذكره فى المسالك: أنّه يمكن أن يكون غرض المحقّق هو تعدّد الشرط و المشروط بأن تكون الولاية عن الجائر بنفسها مشروطة بالإكراه فقط و يكون العمل بما يأمره الجائر بانفراده مشروطا بعدم قدرة المأمور على التفصّى.
و يرد عليه: أنه لاوجه لاشتراط الولاية مطلقا بالإكراه، فإنّ جواز قبولها لايتوقّف
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 59.
(2) التعليقة على المكاسب، ص 141.
ص: 321
على الإكراه إذا انفردت عن العمل بما يأمره الجائر، و لذا قد تكون مباحة و قد تكون مستحبّة و قد تكون مكروهة و قد تكون واجبة. و أمّا العمل بما يأمر به الجائر فقد صرّح الأصحاب فى كتبهم أنّه مشروط بالإكراه خاصّة و لايشترط فيه الإلجاء إليه، بحيث لايقدر على خلافه.
إلى أن قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: إنّا لانعرف وجها صحيحا للقول بالتفصيل (بين الولاية و بين العمل بما يأمره الجائر. فيقيّد الأول بالإكراه و الثانى بالإلجاء إليه و العجز عن التخلّص). فإنّ الظاهر من كلمات الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) فى باب الإكراه أنه لاخلاف بينهم فى اعتبار العجز عن التفصّى فى ترتّب أحكام الإكراه.
أمّا إذا أمكن التفصّى فلاتترتّب تلك الأحكام إلّا إذا كان التفصّى حرجيا و لم يفرّقوا فى ذلك بين الولاية المحرّمة و بين العمل بما يأمره الجائر من الأعمال المحرّمة المترتّبة على الولاية و بين بقية المحرّمات. فإن أدلّة المحرّمات محكمة و لاتحتمل أن يجوّز أحد شرب الخمر بمجرّد الإكراه حتى مع القدرة على التخلّص.
و كذلك لاخلاف بين الفقهاء أيضا فى أنه لايعتبر فى باب الإكراه العجز عن التفصّى إذا كان فى التفصّى ضرر كثير على المكره، كما أنّهم لم يشترطوا فى ترتّب الأحكام أن يلجأ إلى المكره عليه، بحيث لايقدر على خلافه، كما صرّح به فى المسالك، فإن مرجع ذلك إلى العجز العقلى و لم يعتبره أحد فى الإكراه جزما.
نعم، قد يترتّب على المعصية التى أكره عليها مصلحة هى أهمّ منها، و لايعتبر فى هذه الصورة العجز عن التفصّى. و مثاله ما إذا أكره الجائر أحدا على معصية و كان المجبور متمكّنا من التخلّص منها بخروجه عن المكان الذى يعصى الله فيه، إلّا أنّ ارتكابه لتلك المعصية مع الظالم يتيح له الدخول فى أمر يترتّب عليه حفظ الإسلام أو
ص: 322
النفس المحترمة أو ما أشبه ذلك.(1)
فتحصّل إلى حدّ الآن: أنّه لايشترط جواز التولّى بولاية الجائر بالإكراه لإمكان كونه مباحا أو مندوبا أو واجبا أو مستحبّا مع قطع النظر عن الإكراه.
و لايجوز العمل بما يأمره الجائر عند إمكان التفصّى بإظهار الامتثال مع أنه لم يمتثل واقعا، لأنّ جواز العمل بما يأمره الجائر مشروط بالإكراه و هو لايتحقّق مع إمكان التفصّى بالنحو المذكور. فاللازم هو العجز عن التفصّى بالمعنى المذكور إلّا إذا تترتّب على المعصية التى أكره عليها مصلحة هى أهمّ ، فحينئذٍ يكون التفصّى ممنوعا عقلا و شرعا.
ثمّ إنّ اعتبار العجز عن التفصّى بالنحو المذكور غير اعتبار العجز بنحو الإلجاء ضرورة عدم اشتراطه، بل هو خصوصية زائدة على ما يعتبر فى تحقّق الإكراه كما لايخفى. ثمّ إنّه لو قيل بجواز الدخول فى الولاية من الجائر للضرورة أى لتأمين المعيشة فهو مقيّد كما فى إرشاد الطالب بما إذا لم يكن الدخول فيها ملازما لارتكاب محرّم آخر بأن كان عاملا له فى عمل مباح، و إلّا فلاموجب لارتفاع حرمة ذلك العمل الآخر، فلاتغفل.
التنبيه الرابع: أنّ الشيخ قدس سره قال: إنّ قبول الولاية مع الضرر المالى الذى لايضرّ بالحال رخصة لاعزيمة. فيجوز تحمّل الضرر المذكور (بسبب عدم القبول)، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، بل ربّما يستحبّ تحمّل ذلك الضرر للفرار عن تقوية شوكتهم، انتهى.
ثمّ إنّه هل يشترط تحمّل الضرر بما إذا كان الضرر لايضرّ بالحال أو لايشترط؟
**********
(1) مصباح الفقاهة، ص 452-451.
ص: 323
ظاهر الشيخ هو الأول و ظاهر مصباح الفقاهة هو الثانى، حيث قال: إذا أجبر الجائر أحدا على الولاية من قبله أو على عمل محرّم و كان المجبور متمكّنا من التخلّص و لو بتحمّل الضرر المالى و إن بلغ ما بلغ، جاز له ذلك. فإن أدلّة نفى الإكراه إنما هى مسوّقة لرفع الإلزام فقط عن مورد الإكراه و ليست ناظرة إلى بيان حكم المورد.
وعليه فلابدّ من تعيين حكمه من الرجوع إلى القواعد الآخر، فقد يكون المكره عليه من قبيل قتل النفس و ما يشبهه فيحرم الإقدام عليه، و قد يكون من قبيل الضرر المالى على نفسه فيجوز تحمّله، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم. و من هنا يعلم أنّ تقييد الضرر المالى بعدم إضراره بالحال لايخلو عن مسامحة. و بعبارة أخرى: أنّ أدلّة الإكراه لاتشمل المقام. و عليه فإن كان المورد كقتل النفوس و نحوه مما اهتمّ الشارع بحفظه فيحرم الإقدام عليه، بل يجب دفعه و إن كان من قبيل الضرر المالى فيجوز التحمّل به لدليل السلطنة.(1)
ولايخفى ما فيه: فإنّ قاعدة السلطنة ليست بمشرعة و يكفى قاعدة «لاضرر» للدلالة على حرمة الضرر سواء كان بالنفس أو بحالها أو بالغير على ما قرّر فى محلّه. فقبول الولاية حينئذ يكون عزيمة إلّا إذا كان قبول الولاية مستلزما لعنوان مرجوح يجوز تحمّل الضرر. و عليه فلايكون تقييد الضرر المالى بعدم إضراره بالحال خاليا عن المسامحة، بل الضرر المعتدّ به و لو لم يكن مضرّا بالحال موجب لجواز قبول الولاية على وجه العزيمة.
ودعوى أنّ قبول الولاية مع عدم المضرّ بالحال و كذا ارتكاب محرّم آخر مع كونه يسيراً يتعارف تحمّله مشكلٌ ، فإنّ مثل هذا الضرر لايكون موجبا لارتفاع التكليف
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 452.
ص: 324
بقاعدة نفى الضرر أو حديث الرفع.(1)مندفعة بأنّ الضرر الذى لايضرّ بالحال ليس مساوقا للضرر غير المعتدّبه، بل هو مما يعتدّ به ولكن لايضرّ بالحال، فتأمّل.
التنبيه الخامس: أنّ الشيخ الأعظم قدس سره قال: لايباح بالإكراه قتل المؤمن و لو توعّد على تركه بالقتل إجماعا على الظاهر المصرّح به فى بعض الكتب، و إن كان مقتضى عموم نفى الإكراه و الحرج الجواز، إلّا أنّه قد صحّ من الصادقين (صلوات الله عليهما) أنّه إنما شرعت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغت الدم فلاتقيّة. و مقتضى العموم أنه لافرق بين أفراد المؤمنين من حيث الصغر و الكبر و الذكورة و الأنوثة و العلم و الجهل و الحرّ و العبد و غير ذلك.(2)
و لايخفى عليك: أن قوله: «و إن كان مقتضى عموم نفى الإكراه و الحرج الجواز» يدلّ على جريان حديث رفع الإكراه و قاعدة نفى الحرج أو نفى الضرر فى مثل المقام مما يكون الوعيد على ترك المكره عليه هو القتل مع أنه كما ترى، لما عرفت من أنّ هذه القواعد قواعد امتنانية، و عليه فلاتشمل مثل المقام لأنّ تجويز الإضرار بالغير سواء كان مالا أو عرضا أو نفسا خلاف الامتنان على ذلك الغير، و مع عدم شمول هذه القواعد لمثل المقام يرجع فيه إلى عموم حرمة الإضرار بالغير مطلقا، مضافا إلى صريح الصحيحة الدالّة على أنّه انما شرعت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغت الدم فلاتقيّة.
قال فى بلغة الطالب: و أمّا التوعيد بالقتل على وجه يعلم بترتّبه على تقدير عدم الإتيان بما أكره عليه، فهل يجوز القتل أم لا؟ لا إشكال فى أنّه لايشرعه أدلّة التقيّة لما
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 276.
(2) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 59.
ص: 325
صحّ عن الصادقين أنّ تشريعهما فى غير القتل، لكن لايستفاد منه أزيد من أنّ التقيّة لايجوّز القتل، وأمّا أنّه لامجوّز له غيرها فممنوع.
إلى أن قال: و حينئذ فالقتل بنفسه و إن كان غير مشروع إلّا أنّه حيث لايزاحمه حكم ثابت بدليل آخر كالنهى عن الإلقاء فى التهلكة و وجوب التحفّظ على النفس و حينئذٍ فيدور الأمر بين أمرين: إلقاء النفس فى التهلكة و القتل أو قتل من أكرهه الجائر بقتله. و لادليل على ترجيح أحدهما إن لم يكن ترتّب أحدهما معلوما و الآخر مشكوكا بل أو مظنونا. إلى أن قال: لكنّ التحقيق أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز مباشرة القتل و وجوب التسليم له لأنّ فى مباشرة القتل ارتكاب للحرام بالمباشرة بخلاف التسليم له، فإنّ المحرّم يصدر من غيره. و معلوم أنّ عند الدوران يقدّم الثانى.
إلى أن قال: و دعوى أنّ فى اختيار الثانى أيضا ارتكاب للمحرّم و هو التعريض لقتل نفسه، مدفوعة بأنّ ذلك ليس إلقاء لها فى التهلكة، بل ترك لإيجاد ما يرفع القتل عن نفسه و لايصدق عليه الإلقاء فى التهلكة.(1)
هذا مضافا إلى أن الأدلّة الدالّة على نفى الإكراه و الضرر و الحرج واردة فى مقام الامتنان و من الواضح أنّ الإضرار بالغير مناف للامتنان فلايكون مشمولا لها، فتبقى الأدلّة الدالّة على حرمة قتل النفس المحترمة سليمة عن المزاحم.(2)
و مما ذكر يظهر حكم ما لو أكره الجائر أحدا إمّا على قتل نفسه و إمّا على قتل غيره، فتدبّر. فإنه لاترجيح لأحدهما على الآخر لو سلّمنا الدوران و عدم تمكّنه من التسليم له، و إلاّ فيقدّم التسليم مع عدم قتل نفسه و لاعدم قتل غيره.
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 159-158.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 454.
ص: 326
1 - قال الشيخ الأعظم: و لو كان المؤمن مستحقّا للقتل لحدّ، ففى العموم وجهان: من إطلاق قولهم «لاتقيّة فى الدماء» و من أنّ المستفاد من قوله «ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلاتقيّة». أنّ المراد الدم المحقون دون المأمور بإهراقه، و ظاهر المشهور الأول.(1) نعم، إذا أذن الحاكم أو كان الحدّ نظير سبّ النبى صلى الله عليه وآله و سلم أو الأئمة عليهم السلام جاز لكلّ مكلّف القيام بذلك. و عليه فلو اقتضت التقيّة أو الإكراه قتل ناصبىٍّ فلامحذور فى الإقدام عليه لثبوت جوازه قبل التقيّة و الإكراه، فمعهما يكون أولى بالجواز ما لم يترتّب عليه الفتنة.
2 - قال الشيخ قدس سره: و أمّا المستحقّ للقتل قصاصاً فهو محقون الدم بالنسبة إلى غير ولىّ الدم.(2) فلايجوز لغير ولىّ الدم قتله، فيعمّه قولهم عليهم السلام: «لاتقيّة فى الدّماء».
3 - قال الشيخ: و مما ذكرنا يظهر سكوت الروايتين عن حكم دماء أهل الخلاف، لأنّ التقيّة إنّما شرعت لحقن دماء الشيعة، فحدّها بلوغ دمهم لادم غيرهم. إلى أن قال: و مما ذكرنا يعلم حكم دم الذمّى و شرعيّة التقيّة فى اهراقه.(3)
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و عليه فحكم قتل المخالفين بالتقيّة أو بالإكراه حكم سائر المحرّمات التى ترتفع حرمتها بهما.(4)
يرد عليه بناء على ما تقدّم من عدم شمول دليل رفع الإكراه أو الضرر للموارد التى يكون الرفع فيها خلاف الامتنان على الأمة، بل يحكم فى الفرض بعدم الجواز لإطلاق
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 59.
(2) المكاسب المحرّمة، ص 59.
(3) المكاسب المحرّمة، ص 59.
(4) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 456.
ص: 327
ما ورد «حرمة مال مسلم كحرمة دمه»، و لايقاس المخالف بالناصب و الكافر ممن لاحرمة لدمه أصلاً أو ليس له احترام دم المسلم كالذمّى.(1)
4 - قال فى المناهل: و هل يجوز التقيّة فى قتل الفاسق مطلقا فيقتل إذا أكره عليه أولا؟ كذلك كالمؤمن أو الأوّل: إذا كان الفاسق متجاهرا بالفسوق غير نافع بقائه فى الدين و الدنيا و كان المكره عليه مؤمنا عدلا ثقة عالما فاضلا مروّجا للشريعة نافعا للدنيا و الآخرة.
والثانى: إذا لم يكن كذلك احتمالات ولكن ثانيها مقتضى إطلاق النصوص و الفتاوى، ولكن الاحتمال الثالث فى غاية القّوة، إلّا أنّه لاينبغى ترك الاحتياط كما فيما تقدّم.(2)
ولايخفى ما فيه لما عرفت من أنّ قاعدة التقيّة و الإكراه و قاعدة لاضرر و لاحرج من القواعد الامتنانية، و معه لامجال للتمسّك بها لجواز القتل عند الإكراه أو التقيّة من دون فرق بين أن يكون الفاسق متجاهرا أو لا يكون، و بين أن يكون المكره ذا فضائل أو لايكون.
5 - قال الشيخ الأعظم: بقى الكلام فى أنّ الدم يشمل الجرح و قطع الأعضاء أو يختصّ بالقتل ؟ وجهان: من إطلاق الدم و هو المحكىّ عن الشيخ و من عمومات التقيّة و نفى الحرج و الإكراه و ظهور الدم المتّصف بالحقن فى الدم المبقى للروح و هو المحكىّ عن الروضة و المصابيح و الرياض، و لايخلو من قوة.(3)
أورد عليه فى مصباح الفقاهة: بأنّ الظاهر من قوله عليه السلام «إنّما جعلت التقيّة ليحقن
**********
(1) راجع إرشاد الطالب، ص 278.
(2) المناهل، ص 318.
(3) المكاسب المحرّمة، ص 59.
ص: 328
بها الدم» و إن كان هو الدم الذى كان علّة لبقاء الحياة، إلّا أنّه معذلك لايمكن الحكم بجواز جرح الغير أو قطع أعضائه للتقيّة، فإنّ دليل جواز التقيّة كدليل رفع المستكره عليه إنّما ورد فى مقام الامتنان فلايشمل ما إذا كان شموله منافيا له. و عليه فيجرى فى موردها ما ذكرناه فى مورد الإكراه.(1)
ومما ذكر يظهر ما فى المناهل، حيث قال: اختلف الأصحاب على القولين: الأول: أنّه يجوز التقيّة فى مثل الجرح و التنكيل كقطع الأعضاء و نحوه، و يجوز قطع يد مؤمن مثلاً للتقيّة. الثانى: أنّه لا يجوز التقيّة فيها كالقتل لتصريحهم بأنّه لاتقيّة فى الدماء و الجمع المعرّف باللام يفيد العموم.
و استدلّ للأول بوجوه: منها: الأصل، و منها: عموم قوله تعالى: (وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ) .(2)
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله و سلم: و لاضرر و لاضرار، و منها: عموم ما دلّ على نفى الحرج فى الشريعة.
ومنها: لزوم الاقتصار فى الخروج عن العمومات المجوّزة لفعل المحرّمات بالتقيّة على المتيقّن المتبادر من الإطلاق و هو القتل، لأنّه الضرر الأكمل.
و أستدلّ للثانى بعموم خبرى محمد بن مسلم و أبى حمزة الثمالى المتقدّمين المصرّحين باستثناء الدم و الدماء (لما عرفت من أنّ الجمع باللام يفيد العموم). و قد يجاب عنهما: بأنّ المتبادر من حقن الدم الذى علّل به الاستثناء فيهما خصوص القتل فلايعمّان الجرح، و الأقرب هو القول الأول، انتهى.(3)
**********
(1) مصباح الفقاهة، ص 456.
(2) البقرة، 195.
(3) المناهل، ص 319-318.
ص: 329
و ذلك لما عرفت من أنّ قاعدة لاضرر و قاعدة لاحرج و هكذا قاعدة التقيّة و الإكراه تكون من القواعد الامتنانية، فلاتشمل ما إذا كان شموله منافيا للامتنان، كالإضرار بالغير نفسا أو عرضا أو مالا. و عليه فيشكل الاستدلال للقول الأول بما ذكر من القواعد الامتنانية. و عليه فلامجال للأخذ بإطلاقها و جعل القدر المتيقّن من الدماء هو القتل و يحكم بجواز غيره.
و بالجملة فلاوجه لرفع اليد عن إطلاق حرمة دم المسلم و ماله و بعد هذا الإطلاق لامجال للتمسّك بالأصل ثم إنّ الإمتناع من قطع اليد و نحوها لايكون إلقاءاً فى التهلكة، بل هو ترك لإيجاد ما يرفع التهلكة و لايصدق عليه التهلكة، فالأقوى هو القول الثانى من أنّ التقيّة فى الأعضاء كالتقيّة فى القتل فى عدم التجويز، و الله هو العالم.
6 - هل يجب على من يقبل الولاية المحرّمة أو يفعل الحرام تقيّة أ ن يختار الأسهل فالأسهل و ارتكاب الأدنى فالأدنى أولا يجب ؟
اختار الأوّل فى المناهل و قال: يجرى الأسهل فالأسهل و ارتكاب الأدنى دون الأعلى كمراتب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر. و قد صرّح به فى مجمع الفائدة، و كذا صرّح به فى رياض محتجّاً عليه بلزوم الاقتصار فى فعل المحرّم على أقلّ ما يندفع به الضرورة الموجبة لفعله. و صرّح فى المنتهى بأنّه لايجوز أن يتعدّى الحقّ ما أمكن. و صرّح بأنّه ينفذ الحقّ ما استطاع و أشار إليه فى السرائر و هما جيّدان.(1)
7 - إذا قبل الولاية عن الجائر حيث يجوز قبولها فهل يجب عليه أن يقصد التولّى من قِبَل الإمام العادل و إن ولّاه الظالم فى الظاهر أو لايجب ؟ حكى فى المناهل عن
**********
(1) المناهل، ص 319.
ص: 330
الإرشاد و الدروس و الكشف: الأول مستدّلاً فى الكشف بأنّ هذه القبيلة تولّى يوسف عليه السلام من قِبَل الملك و ما ذكروه أحوط و إن كان فى تعينّه نظر.(1)
و لعلّ وجه النظر هو إطلاق الأخبار المجوّزة و لا دلالة لقصة يوسف (على نبينا و آله و عليه السلام) على اعتبار القصد المذكور و عدمه، لأنّ يوسف كان مستحقّا للسلطنة و إنّما طلب منه (الجائر) ما هو حقّه، فلايكون واليا من قبل الجائر. و عليه فقصّة يوسف (على نبينا و آله و عليه السلام) أجنبيّة عن المقام. و يكفى الإطلاقات فى عدم اعتبار القصد المذكور.
8 - لايختصّ جواز التولّى عن الجائر بالجائرين فى ذلك الزمان، بل يعمّ الجائرين فى كلّ زمان. فإنّ الاختصاص بعيد لجريان مصلحة الدفع عن المؤمنين و إيصال النفع إليهم فى جميع الأعصار.
هذا مضافا إلى أنّه يقتضيه إطلاق صحيحة زيد الشحّام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: من تولّى أمراً من أمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر فى أمور الناس كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنّة.(2) بناء على أنّ موردها هو التولّى عن الجائر كما تقدم، لاالتصدىّ استقلالاً.
9 - قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: ينصرف أدلّة الإكراه عن بعض المحرّمات التى فى ارتكاز المتشرّعة من العظائم و المهمّات جدّا كمحو كتاب الله الكريم و العياذ بالله بجميع نسخه و تأويله بما يخالف الدين أو المذهب، بحيث يوجب ضلالة الناس و الردّ على الدين أو المذهب بنحو يوجب الإضلال و هدم الكعبة المعظّمة و محو آثارها و
**********
(1) المناهل، ص 319.
(2) إرشاد الطالب، ص 265-260.
ص: 331
كذا قبر النبى صلى الله عليه وآله و سلم و الائمة عليهم السلام كذلك إلى غير ذلك. و إنّما شرّعت التقيّة لبقاء المذهب الحقّ و لولا ها لصارت تلك الأقلية المحقّة فى معرض الزوال و الاضمحلال و الهضم فى الأكثرية الباطلة و تجويزها لمحو المذهب و الدين خلاف غرض الشارع الأقدس، بل لعلّ بعض حقوق الناس كالأعراض الكثيرة المهمّة فى ارتكاز المتشرّعة كذلك. ففى تلك المقامات لابدّ من ملاحظة أقوى المقتضيين و أهمّ المناطين.
و تشهد لما ذكرناه موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبى عبدالله عليه السلام و فيها: تفسير ما يتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم على غير حكم الحقّ و فعله، فكلّ شيئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة مما لايؤدّى إلى الفساد فى الدين فإنّه جائز.(1) بل يشكل تحكيم الأدلّة فيما إذا كان المكره بالفتح من الشخصيات البارزة الدينيّة فى نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض القبائح موجبا لهتك حرمة المذهب و وهن عقائد أهله.(2)
ربّما يقال: إنّ الإكراه عنوان غير عنوان التقيّة، فلايجوز الاستدلال بما ورد فى التقيّة للإكراه و ترتيب آثارها عليه.
وأجيب عنه: بأنّ التقيّة أعمّ لغة، فإنها بمعنى التجنّب و التحذّر و المخافة فصدقت على التحرّز من كلّ مكروه و شرّ، فإذا أكرهه على أمرفأتى به تجنّبا من شرّه يصدق عرفا و لغة أنّه فعله تقيّة و اتقاءً ، فلاوجه لتقييد عمومات التقيّة بخصوص ما ذكر (من أنّها عبارة عن الاحتراز و التجنّب عن شرّ قوم مخالف للمذهب بإتيان أعمال توافق مذهبهم من غير أن أكرهوه على إتيانها و أو عدوه على تركها) بمجرّد كون مورد بعض الأخبار ذلك مع إمكان حملها على التفسير بالمصداق كما هو شايع.
**********
(1) الوسائل، الباب 25 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 216، ح 6.
(2) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره، ج 2، ص 148-147.
ص: 332
هذا مضافا إلى أنّ الظاهر من جملة من الروايات: أنّ الإكراه أيضا تقيّة، كرواية محمد بن مروان قال: قال لى أبوعبدالله عليه السلام: ما منع ميثم رحمه الله من التقيّة ؟ فوالله لقد علم أنّ هذه الآية نزلت فى عمّار و أصحابه (إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ ) .(1)
و فى رواية درست عن أبى عبدالله عليه السلام قال: ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف إن كانوا ليشهدون الأعياد و يشدّون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرّتين.(2) مع ما فى رواية عبدالله بن يحيى عن أبى عبدالله عليه السلام: أنّه ذكر أصحاب الكهف فقال: لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم، فقيل له: ما كلّفهم قومهم ؟ فقال: كلّفوهم الشرك بالله العظيم، فأظهروا لهم الشرك و أسرّوا الإيمان حتّى جاءهم الفرج.(3) فيظهر من ضمّ الروايتين أنّ الإكراه أيضاً من التقيّة.
و مضافا إلى روايات فيها صحاح قال: التقيّة فى كلّ ضرورة، أو التقيّة فى كلّ شيئ يضطرّ إليه ابن آدم. و لاشبهة فى أن المكره يكون ملجأ و مضطرّاً إلى إتيان ما أكره عليه عرفا و أيضا لو بنينا على مقابلة العنوانين بل مباينتهما لأمكن الإلحاق فى الأحكام بصحيحة بكر بن محمد عن أبى عبدالله عليه السلام فقال: إنّ التقيّة ترس المؤمن و لاإيمان لمن لاتقيّة له، فقلت له: جعلت فداك، قول الله تبارك و تعالى: (إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ ) (4) قال: و هل التقيّة إلّا هذا.(5) فإنّها إن دلّت على أنّ الإكراه تقيّة حقيقة فهو، و إلّا بما أنّها دلّت على أنّ التقيّة ليست إلّا الإكراه على سبيل المبالغة، كقوله: هل
**********
(1) الوسائل، الباب 29 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 226، ح 3. النحل، 106.
(2) الوسائل، الباب 26 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 219، ح 1.
(3) الوسائل، الباب 29 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 230، ح 14.
(4) النحل، 106.
(5) الوسائل، الباب 29 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 227، ح 6.
ص: 333
الأسد إلّا زيد تدلّ على الإلحاق الحكمى بلسان الهوهويّة. و بالجمله أنّها حاكمة على أخبار التقيّة التى منها صحيحة محمد بن مسلم و غيرها «إذا بلغت التقيّة الدم فلاتقيّة» بتنقيح موضوعها.(1)
خاتمة: قال الشيخ الأعظم قدس سره: خاتمة فيما ينبغى للوالى العمل به فى نفسه و فى رعيّته:
روى شيخنا الشهيد الثانى فى رسالته المسمّى (المسمّاة) بكشف الريبة عن أحكام الغيبة بإسناده عن شيخ الطائفة عن المفيد عن جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه محمد بن عيسى الأشعرى عن عبدالله بن سليمان النوفلى قال: كنت عند أبى عبدالله عليه السلام فإذا بمولى لعبدالله النجاشى قد ورد عليه(2) و أوصل إليه كتابا ففضّه و قرأه، فإذا أوّل سطر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله(3) بقاء سيّدى و جعلنى من كلّ سوء فداه و لاأرانى فيه مكروها. فإنّه ولّى ذلك و القادر عليه.
اعلم سيّدى و مولاى، إنّى بُليتُ بولاية الأهواز، فإن رأى سيّدى و مولاى(4) أن يحدّ لى حدّا و يمثّل لى مثالا لأستدلّ به على ما يقرّبنى إلى الله عزّوجلّ و إلى رسوله و يلخّص لى فى كتابه ما يرى لى العمل به(5) و فيما أبذله (ابتذله)(6) و أين أضع زكوتى و
**********
(1) المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام قدس سره، ج 2، ص 151-150.
(2) و فى المصدر: فسلّم.
(3) و فى المصدر: تعالى.
(4) ليس فى المصدر «و مولاى».
(5) و فى المصدر: للعمل به.
(6) و فيما تبدله و ابتدله، هكذا فى المصدر و فى جامع الأحاديث و فيما ابتذله / ج 17، ص 307.
ص: 334
فيمن أصرفها و بمن آنس و إلى من استريح و بمن أثق و آمن و ألجأ اليه فى سرّى، فعسى أن يخلَّصنى الله تعالى(1) بهدايتك و ولايتك.(2) فإنّك حجة الله على خلقه و أمينه فى بلاده لازالت نعمته عليك.(3)
قال عبدالله بن سليمان: فأجابه أبوعبدالله عليه السلام: بسم الله الرّحمن الرّحيم حاطك الله بصنعه(4) و لطف بك بمنّه و كلأك برعايته، فإنّه ولّى ذلك.
أمّا بعد، فقد جائنى(5) رسولك بكتابك فقرأته و فهمت جميع ما ذكرته و سألت عنه و ذكرت(6) أنّك بليت بولاية الأهواز و سرّنى ذلك و سائنى، و سأخبرك بما سائنى من ذلك و ما سرّنى إن شاء الله تعالى.
أمّا(7) سرورى بولايتك، فقلت: عسى أن يغيث الله بك ملهوفاً خائفا من أولياء آل محمد صلى الله عليه وآله و سلم و يعزّ بك ذليلهم(8) و يكسو بك عاريهم و يقوى بك ضعيفهم و يطفى بك نار المخالفين عنهم.
و أمّا الذى سائنى من ذلك، فانّ أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بولىّ لنا فلاتشمّ رائحة حظيرة القدس، فإنى ملخّص(9) لك جميع ما سألت عنه، فإن أنت عملت به و لم
**********
(1) لم يكن فى المصدر «الله تعالى».
(2) و فى نسخة: و دلالتك.
(3) و فى المصدر بعد قوله لازالت نعمته عليك «كذا بخطّه». (أى بخطّ النجاشى).
(4) و فى المصدر: حاملك الله بصنعه. و فى نسخة: صافحك الله بصنعه.
(5) و فى المصدر: فقد جاء إلىّ رسولك.
(6) و فى المصدر: و زعمت انك.
(7) و فى المصدر: فأمّا.
(8) و فى المصدر: ذليلا.
(9) و فى المصدر: مخلّص.
ص: 335
تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله تعالى.
أخبرنى يا عبدالله أبى عن آبائه عن على(1) عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قال: من استشاره أخوه المؤمن المسلم فلم يمحضّه النصحية سلب الله(2) لبّه عنه.
و اعلم أنّى سأشير عليك برأيى(3) إن أنت عملت به تخلّصتَ مما أنت تخافه(4).
و اعلم أنّ خلاصك و نجاتك فى(5) حقن الدماء و كفّ الأذى عن أولياء الله و الرفق بالرعية و التأنّى و حسن المعاشرة مع لين فى غير ضعف و شدّة فى غير عنف و مداراة صاحبك و من يرد عليك من رسله و ارفق(6) برعيّتك بأن توقفهم على ما وافق الحق و العدل إن شاء الله تعالى.
و إيّاك(7) و السعاة و أهل النمايم، فلايلزقنَّ بك منهم أحد(8) و لايراك الله يوما و ليلة و أنت تقبل منهم صرفا و لاعدلا فيسخط الله عليك و يهتيك سرّك و احذر مكرخوزى الأهواز،(9) فإنّ أبى أخبرنى عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليهم السلام قال:(10) إنّ
**********
(1) و فى المصدر: على بن أبى طالب.
(2) و فى المصدر: سلبه الله لبّه.
(3) و فى المصدر: برأى.
(4) و فى المصدر: متخوفّه.
(5) و فى المصدر: من مكان فى.
(6) و فى المصدر: و ارتق فتق رعيتك.
(7) و فى المصدر: إياك من دون «واو».
(8) و فى المصدر: فلايلتزقنّ منهم بك أحد.
(9) و فى المصدر: خوز الأهواز.
(10) و فى المصدر: إنه قال.
ص: 336
الإيمان لايثبت فى قلب يهودىٍّ و لاخوزىٍّ أبدا(1).
و أمّا من تأنس به و تستريح به و تلجئ أمورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر(2) الأمين الموافق لك على دينك و ميّز أعوانك و جرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشداً فشأنك. و إياه و إياك أن تعطى درهما أو تخلع ثوبا أو تحمل على دابّة فى غير ذات الله لشاعر أو مضحك أو مخرج(3) إلّا أعطيت مثله فى ذات الله. وليكن جوائزك و عطاياك و خلعك للقوّاد و الرسل و الأحفاد(4) و أصحاب الرسائل و أصحاب الشرط و الأخماس و ما أردت أن تصرف(5) فى وجوه البرّ والنجاح(6) و الصدقة و الفطرة و الحجّ و الشرب و الكسوة التى تصلّى فيها(7) و تصل بها والهديّة التى تهديا إلى الله (عزّوجلّ ) و رسوله صلى الله عليه وآله و سلم من أطيب كسبك.
و انظر (اجهد)(8) يا عبدالله! أن لاتكنز ذهبا و لافضّة فتكون من أهل هذه الآية: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ) .(9)
**********
(1) و لايخفى عليك أنّه كيف لايثبت الإيمان فى قلب يهودى مع أن كثيراً منهم أسلموا و كانوا من الصالحين. و لعلّه محمول على يهودى خاصّ أو يردّ علمه إلى أهله، و هكذا بالنسبة إلى من سكن الأهواز مع احتمال أن يكون المراد من خوزى قبيلة خاصة الذين انقرضوا دون كلّ من سكن الأهواز.
(2) و فى المصدر: الرجل المستبصر الأمين.
(3) و فى المصدر: أو ممتزح.
(4) و فى جامع الأحاديث، ج 17، ص 308: و الأجناد.
(5) و فى المصدر: أن تصرفه.
(6) و فى المصدر: و الفتوة و العتق.
(7) و فى المصدر: التى تصل فيها.
(8) و فى المصدر: يا عبدالله اجهد أن لاتكنز.
(9) التوبة، 34.
ص: 337
و لاتستصغرنّ من حلو أو فضل طعام تصرفه فى بطون خالية تسكّن بها(1) غضب الله ربّ العالمين.(2)
و اعلم أنّى سمعت أبى يحدّث عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليهم السلام: أنّ رسول الله(3) قال يوما () لأصحابه:(4) ما آمن بالله و اليوم الآخر من بات شبعانا(5) و جاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول الله! فقال: من فضل طعامكم و من فضل تمركم و رزقكم و خلقكم و خرقكم تطفؤن بها غضب الربّ تعالى.(6)
و سأنبّئك بهوان الدنيا و هوان شرفها على من مضى من السلف و التابعين. فقد حدّثنى أبى محمد بن علىّ بن الحسين(7) قال: لمّا تجهّز الحسين إلى الكوفة أتاه ابن عباس فناشده الله و الرحم أن يكون هو المقتول بالطَّفّ ، فقال: أنا أعرف بمصرعى(8) منك و ما وكدى من الدنيا إلّا فراقها.
ألا أخبرك يابن عباس بحديث أميرالمؤمنين عليه السلام و الدنيا؟ فقال له: بلى، لعمرى إنّى أحبّ (9) أن تحدّثنى بأمرها، فقال أبى: قال علىُّ بن الحسين: سمعت أباعبدالله
**********
(1) و فى المصدر: يسكن بها.
(2) و فى المصدر: تبارك تعالى مكان ربّ العالمين.
(3) و فى المصدر: أنه سمع النبى (رسول الله) يقول.
(4) و فى المصدر: يقول لأصحابه يوما.
(5) و فى المصدر: شبعان.
(6) و فى المصدر: غضب الرب.
(7) و فى المصدر: فقد حدّثنى محمد بن على بن الحسين.
(8) و فى المصدر: فقال بمصرعى منك، و الظاهر أنه غلط.
(9) و فى المصدر: لأحبّ .
ص: 338
الحسين عليه السلام يقول: حدّثنى أميرالمؤمنين عليه السلام قال: إنّى بفدك(1) فى بعض حيطانها و قد صارت لفاطمة عليها السلام، فإذا أنا بامرأة قد قحمت(2) علىّ و فى يدى مسحاة و أنا أعمل بها فلمّا نظرت إليها طار قلبى ممّا تداخلنى من جمالها، فشبّهتها بثبينه(3) بنت عامر الجحمى و كانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يابن أبى طالب! هل لك أن تتزوّج بى(4) فأغنيك عن(5) هذه المسحات و أدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك(6) ما بقيت و لعقبك من بعدك، فقال لها: من أنتِ حتّى أخطبك من أهلك ؟ قال: فقالت: أنا الدنيا، قال لها: فارجعى و اطلبى زوجا غيرى فلست من شأنى.(7)
فأقبلت على مسحاتى و أنشأت أقول:(8) لقد خاب من غرّته دنيا دنيّة - و ما هى ان غرّت قرونا بنائل (بطائل).(9)
أتتنا على ذىّ العزيز بثينة *** و زينتها فى مثل تلك الشمائل
فقلت لها غرّى سواى فاثنى *** فقلت لها غرّى سواى فاثنى
و ما أنا و الدنيا فإنّ محمداً *** أحلّ صريعاً بين تلك الجنادل
**********
(1) و فى المصدر: إنّى كنت بفدك.
(2) و فى المصدر: قد فحمت.
(3) و فى المصدر: بتبينة (بضم الباء الموحدة كجهينة).
(4) و فى المصدر: لى.
(5) و فى المصدر: من مكان عن.
(6) و فى المصدر: لك الملك.
(7) و ليس فى المصدر فلست من شأنى.
(8) و فى المصدر: و اقول.
(9) و فى المصدر: بتائل (بطائل)
ص: 339
و هيهات امنّى(1) بالكنوز و ودّها(2) *** و أموال قارون و ملك القبائل
أليس جميعا للفناء مصيرنا(3) *** و يطلب من خزّانها بالطوائل
فغرّى سواى إنّنى غير راغب *** بما فيك من عزّ وملك و نائل(4)
فقد قنعت نفسى بما قدرزقته *** فشأنك يا دنيا و أهل الغوائل
فإنّى أخاف الله يوم لقائه *** وأخشى عذابا دائما غير زائل
فخرج من الدنيا و ليس فى عنقه تبعة لأحد حتّى لقى الله محمودا غير ملوم و لامذموم، ثمّ اقتدت به الأئمّة عليهم السلام من بعده بما قد بلغكم لم يتلطّخوا بشيئ من بوائقها(5) و قد وجّهت إليك بمكارم الدنيا و الآخرة، و عن الصادق المصدّق رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم(6) فإن أنت عملت بما نصحت لك فى كتابى هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب و الخطايا كمثل أوزان الجبال و أمواج البحار رجوت الله أن يتجافى عنك جلّ و عزّ بقدرته.(7)
يا عبدالله! إيّاك أن تخيف مؤمنا فإنّ أبى حدّثنى عن أبيه عن جدّه علىّ بن أبى طالب عليهم السلام أنّه كان يقول: من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله(8) يوم لاظلّ إلّا
**********
(1) و فى المصدر: وهينها اتتنى.
(2) و فى المصدر: و ردّها.
(3) و فى المصدر: مصيرها.
(4) و فى المصدر: من ملك و عزّ و نائل.
(5) و فى المصدر: عليهم السلام أجمعين و أحسن مثواهم.
(6) و فى المصدر: و عن الصادق رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم.
(7) و فى المصدر: أن يتجاوز عنك عزّوجلّ بقدرته.
(8) و فى المصدر: بها.
ص: 340
ظلّه و حشره(1) فى صورة الذرّ لحمه و جسده و جميع أعضائه حتّى يورده مورده.
و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال: من أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه الله يوم لاظلّ إلّا ظلّه و آمنه من الفزع الأكبر و آمنه من سوء المنقلب، و من قضى(2) لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة إحديها(3) الجنّة، و من كسى أخاه المؤمن جُبّة عن عرى كساه الله من سندس الجنّة و استبرقها و حريرها، و لم يزل يخوض فى رضوان الله مادام على المكسو منه(4) سلك.
من أطعم(5) أخاه من جوع أطعمه الله من طيّبات الجنّة، و من سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم،(6) و من أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلّدين و أسكنه مع أوليائه الطاهرين، و من حمل أخاه المؤمن على راحلته(7) حمله الله على ناقة من نوق الجنّة و باهى به الملائكة المقرّبين يوم القيامة، و من زوّج أخاه امرأة يأنس بها و تشدّ عضده و يستريح إليها زوّجه الله من الحور العين و آنسه بمن أحبّه من الصدّيقين من أهل بيت نبيّه و إخوانه و آنسهم به،(8) و من أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه
**********
(1) و فى المصدر: و حشره الله.
(2) و فى المصدر: و من أقضى.
(3) و فى المصدر: من إحديها الجنة.
(4) و فى المصدر: المكسومنها.
(5) و فى المصدر: و من أطعم.
(6) ريّه.
(7) و فى المصدر: رحله.
(8) و فى المصدر: و آنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته و إخوانه و آنسهم به.
ص: 341
الله على إجازة الصراط عند زلّة الأقدام،(1) و من زار أخاه المؤمن فى منزله(2) لالحاجة منه إليه كتب من زوّار الله و كان حقيقا على الله أن يكرم زائره يا عبدالله!
و حدّثنى(3) أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول(4) لأصحابه يوما: معاشر الناس! إنّه ليس بمؤمن من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه فلاتتّبعوا عثرات المؤمنين، فإنّه من تتّبع عثرة مؤمن يتبع الله عثرته(5) يوم القيامة و فضّحه فى جوف بيته.
و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام قال: أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لايصدق فى مقالته و لاينتصف من عدوّه(6) و على أن لايشفى غيظه إلّا بفضيحة نفسه لأنّ المؤمن ملجم،(7) و ذلك لغاية قصيرة و راحة طويلة.
أخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها(8) مؤمن مثله يقول بمقالة يبغيه(9) و يحسده، و شيطان يغويه و يمقته،(10) و سلطان يقفو أثره و يتبع عثراته، و كافر بالذى هو مؤمن به يرى سفك دمه دنيا و إباحة حريمه غنما فما بقاء المؤمن بعد هذا. يا
**********
(1) و فى المصدر: عند زلزلة الاقدام.
(2) و فى المصدر: أخاه المؤمن إلى منزله.
(3) و فى المصدر: يا عبدالله حدّثنى.
(4) و فى المصدر: و هو يقول.
(5) و فى المصدر: فانه من اتبع ثمرة مؤمن اتبع الله عثراته.
(6) و فى المصدر: فى عدوّه.
(7) و فى المصدر: لأنّ كلّ مؤمن.
(8) و فى المصدر: عليه.
(9) و فى المصدر: فيبغيه.
(10) و فى المصدر: و يمعيه.
ص: 342
عبدالله! و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىّ عليهم السلام عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال: نزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمّد! يقرئك السلام(1) و يقول: اشتققت للمؤمن اسماً من أسمائى سمّيته مؤمنا فالمؤمن منّى و أنا منه من استهان بمؤمن فقد استقبلنى بالمحاربة يا عبدالله.
يا عبدالله! و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام عن النبى صلى الله عليه وآله و سلم أنه قال يوما: يا على! لاتناظر رجلا حتّى تنظر فى سريرته، فإن كانت سريرته حسنة فإنّ الله عزّوجلّ لم يكن ليخذل وليّه،(2) و إن كانت سريرته رديّة فقد يكفيه مساويه، فلو جهدت أن تعمل به(3) أكثر ما عمل به من معاصى الله عجل ما قدرت عليه.
يا عبدالله و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىّ عليهم السلام عن النّبى صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قال: أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها(4) عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لاخلاق لهم يا عبدالله و حدّثنى أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام أنّه قال: من قال فى مؤمن ما رأت عيناه و سمعت أذناه ما يشينه و يهدم مروّته فهو من الذين قال الله عزوجل: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ) (5) يا عبدالله! وحدّثنى أبى عن آبائه عن علىٍّ عليهم السلام أنّه قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروّته و شينه(6) أو ثقه الله(7) بخطيئة(8) يوم القيامة حتّى يأتى بالمخرج مما قال و لن يأتى
**********
(1) و فى المصدر: إنّ الله يقرء عليك السلام.
(2) و فى المصدر: لم يكن ليحذوك لبّه.
(3) و فى المصدر: فلوجهدت أن يعمل به أكثر مما عمله.
(4) و فى المصدر: ليحفظها.
(5) النور، 19.
(6) و فى المصدر: وثلبه.
(7) و فى المصدر: أوقبه الله، و الظاهر أوبقه كما فى جامع الأحاديث، ج 17، ص 311.
(8) فى المصدر: أوقبه الله بخطية.
ص: 343
بالمخرج منه أبدا، و من أدخل على أخيه المؤمن سرورا فقد أدخل على أهل بيت(1) نبيّه صلى الله عليه وآله و سلم سرورا، و من أدخل على أهل بيت نبيّه(2) سرورا فقد أدخل على رسول ظاللّه صلى الله عليه وآله و سلم سرورا، و من أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم سرورا فقد سرّ الله و من سرّ الله فحقيق على الله أن يدخله جنّته.
ثم إنّى أوصيك بتقوى الله و إيثار طاعته و الاعتصام بحبله، فإنّه من اعتصم بحبل الله فقد هدى إلى صراط مستقيم. فاتق الله و لاتؤثر أحداً على رضاه و هواه، فإنه وصيّة الله عزّوجلّ إلى خلقه لايقبل منهم غيرها و لايعظّم سواها. و اعلم أنّ الخلق(3) لم يوكّلوا بشيئ أعظم من تقوى الله،(4) فإنّه وصيّتنا أهل البيت فإن استطعت أن تنال(5) من الدنيا شيئا يسئل الله عنه(6) غداً فافعل. قال عبدالله بن سليمان: فلمّا وصل كتاب الصادق عليه السلام إلى النجاشى نظر فيه فقال: صدق و الله الذى لا إله إلّا هو مولاى فما عمل أحد بما فى هذا الكتاب إلّا نجى، قال: فلم يزل عبدالله يعمل به أيّام حياته.(7)
ولايخفى عليك أنّ النوفلى المعروف هو الحسين بن يزيد و ليس هو عبدالله بن سليمان والحسين بن يزيد موثّق، أمّا عبدالله بن سليمان فهو مجهول. نعم، لو كان المراد منه هو الصيرفى فهو ممن روى عنه الصفوان و ابن أبى عمير و هو يكفى فى وثاقته، ولكن الصيرفى غير مذكور بعنوان النوفلى.
**********
(1) و فى المصدر: على أهل البيت سرورا.
(2) و فى المصدر: على أهل البيت.
(3) و فى المصدر: الخلائق.
(4) و فى المصدر: من التقوى.
(5) و فى المصدر: أن لاتنال.
(6) و فى المصدر: شيئا تسئل عنه.
(7) المكاسب للشيخ، ص 61-59.
ص: 344
و كيف ما كان، قال الشهيد الثانى فى كشف الريبة: الحديث العاشر رويناها بأسانيد متعدّدة، أحدها الإسناد المتقدّم فى الحديث السابع إلى الشيخ أبى القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه محمد بن عيسى الأشعرى عن عبدالله بن سليمان النوفلى، قال: كنت إلخ (كشف الريبة فى أحكام الغيبة الحديث العاشر). و فيه: أنّ الأسانيد لو انتهت إلى عبدالله بن سليمان النوفلى بقى الإشكال على حاله.
قال فى إرشاد الطالب: إنّ الرواية متضمّنة لقصّة علىٍّ عليه السلام و تجسم الدنيا له، فلابدّ من حمل ذلك على كونه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وآله و سلم و قبل أخذ فدك من فاطمة عليها السلام، مع أنّ عبدالله بن سليمان النوفلى مجهول.(1)
**********
(1) إرشاد الطالب، ج 1، ص 280.
ص: 345
ص: 346
قال الشيخ الأعظم قدس سره: هجاء المؤمن حرام بالأدلة الأربعة، لأنّه همز و لمز و أكل اللحم و تعيير و إذاعة سرّ و كلّ ذلك كبيرة موبقة، فيدلّ عليه فحوى جميع ما تقدّم فى الغيبة بل البهتان أيضا بناء على تفسير الهجاء بخلاف المدح كما عن الصحاح، فيعمّ ما فيه من المعايب و ما ليس فيه كما عن القاموس و نهاية و المصباح، لكن مع تخصيصه فيها بالشعر، و أمّا تخصيصه بذكر ما فيه بالشعر كما هو ظاهر جامع المقاصد فلايخلو عن تأمّل.
ولافرق فى المؤمن بين الفاسق و غيره، و أمّا الخبر محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين، فالمراد به الخارجون عن الإيمان أو المتجاهرون بالفسق.
واحترز بالمؤمن عن المخالف، فإنّه يجوز هجوه لعدم احترامه، و كذا يجوز هجاء الفاسق المبدع لئلّا يؤخذ ببدعه (ببدعته)، لكن بشرط الاقتصار على المعايب الموجودة فيه، فلايجوز بهته بما ليس فيه لعموم حرمة الكذب، و ما تقدّم من الخبر فى الغيبة من قوله عليه السلام فى حق المبتدعة باهتوهم لكيلا يطعمو (يطمعوظ) فى أضلالكم
ص: 347
(الفساد فى الإسلام) محمول على اتهامهم و سوء الظنّ بهم بما يحرم اتهام المؤمن به بأن يقال: لعلّه زان أو سارق، و كذا إذا زاده ذكر ما ليس فيه من باب المبالغة و يحتمل إبقائه على ظاهره بتجويز الكذب عليهم لأجل المصلحة، فإنّ مصلحة تنفير الخلق عنهم أقوى من مفسدة الكذب.
و فى رواية أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون و يقذفون من خالفهم (من مخالفيهم) فقال: الكفّ عنهم أجمل، ثم قال لى: و الله يا أباحمزة! الناس كلّهم أولاد بغايا ماخلا شيعتنا، ثمّ قال: نحن أصحاب الخمس و قد حرّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا، و فى صدرها دلالة على جواز الافتراء و هو القذف على كراهة، ثم أشار عليه السلام إلى أولوية قصد الصدق بإرادة الزنا من حيث استحقاق حقوق الأئمة عليهم السلام.(1)
أحدها: أنّ ظاهر تعليل حرمة الهجاء بكونه معنونا بالهمز و اللمز و الغيبة و الإهانة و إذاعة السرّ و التعيير أنّ الهجاء ليس بعنوانه محرّما، بل هو محرّم بعنوان كونه مصداقا من مصاديق هذه العناوين المحرّمة، ثمّ إنّ العناوين المذكورة مندمج فى بعضها.
قال فى إرشاد الطالب: و لاببعد اتحاد عنوان الهمز أو اللمز مع التعيير و اتحاد أكل لحمه مع إذاعة سرّه، و ربّما ينطبق عليه عنوان البهتان بناء على أنّ الهجاء ضدّ المدح، فيعمّ ذكر المعايب الموجودة فى الشخص و التى ليست فيه فيكون ذكرها بهتانا.
والحاصل: أنّه تختلف الموارد، ففى بعضها ينطبق على الهجاء بعض العناوين المشار إليها و فى بعضها الآخر ينطبق عليه بعضها الآخر، و لو كان ذكر شخص بعيب
**********
(1) المكاسب المحرّمة للشيخ قدس سره، ص 61.
ص: 348
ظاهر للإهانة و الاستخفاف انطبق عليه عنوان العتيير لاعنوان الغيبة و هكذا.(1) فلايطلق عنوان الغيبة على مورد البهتان و لاالعكس لتباينهما كما لايطلق الغيبة على عيب ظاهر و يطلق عليه عنوان التعيير.
ثانيها كما فى مصباح الفقاهة: أنّ الهجو قد يكون بالجملة الإنشائية، و قد يكون بالجملة الخبرية. أمّا الأول: فلاشبهة فى حرمته لكونه من اللمز و الهمز و الإهانة و الهتك. و قد دلّت الروايات المتواترة على حرمة هتك المؤمن و إهانته و نطق القرآن الكريم بحرمة الهمز و اللمز. و أمّا الثانى: فإن كان الخبر مطابقا للواقع كهجو المؤمن بما فيه من المعايب كان حراما من جهة الغيبة و الهتك و الإهانة و التعيير و الهمز. و إن كان الخبر مخالفا للواقع كان حراما أيضا من نواحى شتّى، لكونه كذبا و بهتا و إهانة و ظلما و همزا و لمزا.(2)
ثالثها: أنّ أكثر اللغويين قيّدوا الهجاء بالهجو فى الأشعار، و مقتضاه هو عدم حرة الهجاء فى غيرها، و هو كما ترى، لأن على تقدير تسليم تقييده بالأشعار أمكن أن يقال: إنّ الهجاء فى غير الأشعار محكوم بحكم الهجاء فى الأشعار، لما عرفت من أنّ حرمة الهجاء من ناحية انطباق ساير العناوين المحرّمة عليه، و لافرق فيه بين كون الهجاء فى الأشعار أو غيرها لانطباق العناوين المحرّمة على الهجاء فى غير الأشعار أيضا، فلامجال لإنكار حرمته كما لايخفى.
و لعلّ مراد الشيخ من التأمّل فى كلام جامع المقاصد الذى ذهب إلى تخصيصه بالأشعار هو ذلك، فتدبّر جيّدا.
**********
(1) إرشاد الطالب، ص 280.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 457.
ص: 349
ودعوى أنّ حرمة الهجاء فى غير الأشعار لكونه من مصاديق العناوين المحرّمة لاكلام فيها. و إنّما الكلام فى صدق الهجاء عليه، مندفعة بصدق الهجاء على ما وقع فى الخطب، بل لعلّه صادق على مثل ما يكون رائجا فى زماننا هذا من كاريكاتور.
ورابعها: أنّه لافرق فى حرمة الهجاء بين أن يكون مورد الهجو عادلا أو فاسقا لإطلاق أدلّة حرمة العناوين المذكورة، بل يمكن أن يقال بحرمة هجو الفاسق المعلن بفسقه. قال فى مصباح الفقاهة: فقد تقدّم فى البحث عن مستثنيات الغيبة أنّ عمدة الدليل على جواز غيبة المتجاهر فى الفسق خروج ذلك عن دائرة الغيبة موضوعا، فإنّها أن تقول فى أخيك: ما ستره الله عليه، و ما ارتكبه الفاسق المتجاهر من المعايب و المعاصى ليس ممّا ستره الله عليه، ولكن لاقصور فى شمول ما دلّ على حرمة الهجو لانتقاص المتجاهر، و ذكره بما فيه من العيوب عدا ما دلّ على حرمته من حيث كونه غيبة.
نعم، يجوز هجو الفاسق المتجاهر فى الفسق إذا ترتّبت على هجوه مصلحة أهمّ من مصلحة احترامه، أو كان ممّن لايبالى بما قيل فيه، و بذلك يحمل ما ذكره المصنّف من الخبر «محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين».(1)
وممّا ذكر يظهر ما فى كلام الشيخ قدس سره من إطلاق جواز الهجاء بالنسبة إلى المتجاهرين بالفسق، و ذلك لأنّ مقتضى إطلاق أدلّة حرمة العناوين المذكورة هو حرمة ذلك الأمور حتّى بالنسبة إلى المتجاهرين ما لم يترتّب على هجوهم مصلحة أهمّ .
ثمّ إنّ قول السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: أو كان ممّن لايبالى بما قيل فيه، لايخلو عن تأمّل لإطلاق أدلّة حرمة العناوين المذكورة، و لايرفع اليد عن إطلاقها بمجرّد كون
**********
(1) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 457.
ص: 350
مورد الهجو ممّن لايبالى بما قيل فيه، و تعريف الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكرهه تعريف غالبى، هذا مضافا إلى تجويز الغيبة و الهجاء و لو مع رضاية الطرف إذلال المؤمن و لايرضى الشارع بذلك.
خامسها: ظاهر كلام الشيخ قدس سره هو الاحتراز بذكر المؤمن عن المخالف و استدلّ على جواز هجوه بعدم احترامه.(1)
قال السيّد المحقّق الخوئى قدس سره: و أمّا هجو المخالفين أو المبدعين فى الدين فلاشبهة فى جوازه لأنّ المراد بالمؤمن هو القائل بإمرة الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام و كونهم مفترضى الطاعة. و من الواضح أنّ ما دلّ على حرمة الهجو مختصٌّ بالمؤمن من الشيعة، فيخرج غيرهم عن حدود حرمة الهجو موضوعا.(2) و يمكن تقريب ما أفاده السيّد المحقّق الخوئى بأنّ الإيمان هو الالتزام بالعقائد الحقّة و العقائد الحقّة فى أول ظهور الإسلام هى الالتزام بوجود الله تعالى و المعاد و النبوّة ثمّ بعد بيان للولاية و العدل دخلتا فى العقائد الحقّة، فالمؤمن لايصدق إلّا على من التزم بالعقائد الحقّة بما لها من المصاديق، و عليه فآثار المؤمن و أحكامه لايشمل المخالف لإخلاله ببعض مصاديقه.
هذا مضافا إلى ما فى إرشاد الطالب: من أنّه احترز بالمؤمن عن المخالف، فإنّه قد تقدّم فى البحث عن حرمة الغيبة أنّ جواز اغتيابه باعتبار كونه ممن ألقى جلباب الحياء لتظاهره بالفسق بإنكاره قولاً و عملاً ما هو عماد الدين و أهمّ أركانه، يعنى ولاية أهل البيت عليها السلام، و لايبعد جواز هجوه أيضا فيما إذا كان قاصرا، فإنّه على ما تقدّم من الفاسق المبدع.(3)
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 61.
(2) مصباح الفقاهة، ج 1، ص 457.
(3) إرشاد الطالب، ج 1، ص 281.
ص: 351
و قال فيما تقدّم: لاينبغى التأمّل و الريب فى جواز اغتياب المخالف و سائر فرق الشيعة فيما إذا كان خلافهم أو مخالفتهم الحقّ بنحو التقصير و لو بتركهم الفحص عن الحقّ ، فإنّهم فى هذه الصورة من أظهر أفراد الفسّاق و المتجاهرين بفسقهم، إذ التجاهر بترك الولاية الحقّة لايقصر عن التجاهر بترك ساير الواجبات و ارتكاب المحرّمات الموجب لجواز الاغتياب على ما سيأتى.
كيف و أنّ الولاية من عماد الدين و أهمّ ما بنى عليه الإسلام على ما فى الروايات المعتبرة، بل لايبعد اندراج المخالفين و سائر الفرق فى أهل البدع و الريب مع تقصيرهم أو مطلقا، حيث ينسبون إلى الشريعة و الرسول الأكرم ما يبرأ منه الرسول، فيعمّهم، مثل صحيحة داود بن سرحان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدى فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا فى الفساد فى الإسلام، الحديث.(1)
ولايخفى عليك أولا: أنّه قد تقدّم فى مسألة حرمة سبّ المؤمنين و غيبتهم أنّ المخالف ليس بمؤمن بما أنزل الله فى الولاية، و معه يشكل صدق عنوان المؤمن عليه، فلايترتّب عليه ما يترتّب على عنوان المؤمن من الأحكام و الآثار، ولكن هذا و إن كان صحيحا بحسب الثبوت والواقع إلّا أنّ مقتضى بعض الأخبار أنّ غير المؤمنين من طوائف المسلمين محكوم تعبّدا بحسب الظاهر بأحكام المؤمنين و آثارهم من حرمة السبّ و الغيبة و الهجو و غيرذلك.
ويدلّ عليه معتبرة حمران بن أعين عن أبى جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: الإيمان ما
**********
(1) الوسائل، الباب 39 من أبواب الأمر و النهى، ج 16، ص 267، ح 1؛ إرشاد الطالب، ج 1، ص 189-188.
ص: 352
استقرّ فى القلب و أفضى به إلى الله عزّوجلّ و صدّقه العمل بالطاعة لله و التسليم لأمره، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل و هو الذى عليه جماعة الناس من الفرق كلّها و به حقنت الدماء و عليه جرت المواريث و جاز النكاح و اجتمعوا على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ ، فخرجوا بذلك من الكفر و أضيفوا إلى الإيمان، و الإسلام لايشرك الإيمان و الإيمان يشرك الإسلام، إلى أن قال: قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم فى شيئ من الفضائل و الأحكام و الحدود و غير ذلك ؟ فقال: لا، هما يجريان فى ذلك مجرى واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم فى أعمالهما و ما يتقرّبان به إلى الله عزّوجلّ .(1)
والمستفاد من الرواية هو اشتراكهما بحسب الظاهر فى الأحكام ما لم يدلّ دليل على الخلاف، و عليه فتجويز هجوهم و سبّهم و غيبتهم محلّ تأمل و إشكال. و يعتضد ذلك بالروايات الكثيرة الدالّة على جريان أحكام الإسلام بالشهادتين،(2) و بالروايات الكثيرة الدالّة على العشرة معهم بالمعروف.(3)
وقد حكى شيخنا الأستاذ الأراكى قدس سره عن أستاذه المحقّق الحائرى اليزدى: أنّ المتحصّل عدم الفرق فى المسلم بين المؤمن و غيره و يكون الشارع قد عامل معهم فى ظاهر الدنيا معاملة المؤمن فى المواريث و الأنكحة و الذبائح و طهارة البدن و حرمة الدم و المال و العرض و غير ذلك.(4)
و ثانيا: أنّ دعوى صدق المبدعين و المتجاهرين بالفسق على القاصرين منهم محلّ
**********
(1) الكافى، ج 2، ص 26 باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام و الإسلام لايشرك، ح 5.
(2) الكافى، ج 2، ص 24.
(3) الوسائل، الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر ج 16، ص 220-219.
(4) المكاسب المحرّمة لشيخنا الأستاذ قدس سره، ص 244.
ص: 353
تأمل و نظر. نعم، الظاهر صدق ذلك على المقصرّين المعاندين الجاعلين الذين عمدوا إلى إخفاء الفضائل و إظهار ما لاأصل له من المناقب للغاصبين حقوق الأئمّة الأطهار (عليهم الصلوات و السلام)، و يترتّب عليه آثار ذلك من جواز غيبتهم و بهتانهم، و عليه يحمل قوله عليه السلام: و باهتوهم كى لايطمعوا فى الإسلام جمعا بين الأدلّة.
و قدحكى شيخنا الأستاذ الأراكى عن شيخه الأستاذ الحائرى قدس سرهما: من أنّ الظاهر من صحيحة داود بن سرحان و غيرها نفس من كان محدثا و مخترعا للبدعة و لايعمّه و من تبعه و عمل ببدعته،(1) فلاتغفل.
و أمّا خبر أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون و يقذفون من خالفهم، فقال: الكفّ عنهم أجمل، ثمّ قال: يا أبا حمزة! و الله إنّ الناس كلّهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا، ثم قال: نحن أصحاب الخمس و قد حرّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا.(2)
وففيه: أنّه ضعيف لجهالة الحسن بن عبدالرحمن و للمذمّة على علىّ بن العباس الواقعين فى طريقه، هذا مضافا إلى ما فى أنوار الفقاهة من أنّه يشكل الموافقة على مضمونها، لأنّ الحكم بأنّهم أولاد بغايا بعد كون النكاح الموجود عند كل قوم ممضى عند الشرع، و لاأقلّ من كونهم أولاد شبهة، و إطلاق أولاد البغايا على ولد الشبهة غير صحيح مشكل جدّا، إلّا بضرب من التشبيه و المجاز و يعارضه ما جاء فى الرواية من أنّ لكلّ أمة نكاحا يحتجزون به عن الزنا، و غيره مما ورد فى الباب 71 و 72 من أبواب جهاد النفس.(3)
**********
(1) المكاسب المحرّمة لشيخنا الأستاذ قدس سره، ص 244.
(2) الوسائل، الباب 73 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 37، ح 3.
(3) أنوار الفقاهة، ص 517.
ص: 354
قال الشيخ الأعظم قدس سره: الهُجر بالضمّ و هو الفحش من القول و ما استقبح التصريح به منه، ففى صحيحة أبى عبيدة: البذاء من الجفاء و الجفاء فى النار،(1) و فى النبوى: انّ من شرّ عباد الله من يكره مجالسته لفحشه،(2) و فى رواية: من علامات شرك الشيطان الذى لاشكّ (لايشكّ ) فيه أن يكون فحّاشا لايبالى بما قال و لا ما قيل فيه،(3) إلى غير ذلك من الأخبار. هذا آخر ما تيسّر تحريره من المكاسب المحرّمة.(4)
قال فى إرشاد الطالب: و يظهر من المصنّف أنّ البذاء بفتح الباء مرادف للفحش، حيث استدلّ على حرمة الفحش بصحيحة أبى عبيدة عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: البذاء
**********
(1) الوسائل، الباب 72 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 35، ح 3، هذه الرواية صحيحة.
(2) الوسائل، الباب 71 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 33، ح 8، الحسين بن سعيد فى (كتاب الزهد) عن حمّاد بن عيسى عن شعيب العقرقوفى عن أبى بصير عن أبى عبدالله عليه السلام فى حديث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ من أشرّ عبادالله من تكره مجالسته لفحشة. هذه الرواية صحيحة.
(3) الوسائل، الباب 71 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 32، ح 1 هذه الرواية موثقة.
(4) المكاسب المحرّمة، ص 61.
ص: 355
من الجفاء و الجفاء فى النار. و يظهر من صاحب الوسائل رحمه الله أنّه غير الفحش، حيث جعل لحرمة الفحش بابا و لحرمة البذاء بابا آخر، و كان البذاء عنده عدم مبالاة الشخص بما يقول أو يقول فيه، و الفحش هو ذكر نفسه أو غيره ببعض الأفعال التى يقبح ذكرها كقوله ياديّوث و يازانى و نحوها.
و تؤيّد ذلك الروايات التى وصف الفحّاش فيها بكونه بذيا، و فى رواية سليم بن قيس: أنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذىء قليل الحياء لايبالى ما قال و ما قيل له.(1)
و كيف كان، فلاإشكال فى حرمة الفحش و عدم مبالاة الشخص فى قوله، ولكن كونها بمرتبة ما فى رواية سليم و نحوها لم تثبت، و الله سبحانه هو العالم.(2)
و لايخفى عليك أنّه يكفى صحيحة أبى بصير لحرمة الفحش، و لو لم يكن من تكلّم بالفحش بمرتبة ما فى رواية سليم بن قيس من أنّه: لايبالى ما قال و ما قيل فيه، و ذلك لإطلاق قوله صلى الله عليه وآله و سلم: إنّ من أشرّ عبادالله من تكره مجالسته لفحشه.(3)
و البذاء كما فى موثّقة أبى بصير(4) مرتبة فوق مرتبة الفحش و هى محرّمة بالأولوية، مضافا إلى صحيحة أبى عبيدة عن أبى عبدالله عليه السلام: البذاء من الجفاء و الجفاء فى النار.(5)
ثم إنّ الفرق بين الفحش و السبّ (و هو ذكر ما فيه اقتضاء النقص) بالعموم و الخصوص، إذ الفحش يختصّ بما استقبح ذكره. نعم، لو قلنا بصحّة إطلاق الفحش على
**********
(1) الوسائل، الباب 72 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 35، ح 2 و السند ضعيف.
(2) إرشاد الطالب، ج 8، ص 281.
(3) الوسائل، الباب 71 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 33، ح 8.
(4) الوسائل، الباب 71 من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 35، ح 1.
(5) الوسائل، الباب 72، من أبواب جهاد النفس، ج 16، ص 35، ح 3.
ص: 356
ذكر ما استقبح ذكره و لو لم يكن مخاطب كانت النسبة بينهما هى العموم من وجه، لأنّ السبّ قد يطلق على أمر لايصدق عليه الفحش، إذ ليس هو ممّا يستقبح ذكره، و قد يطلق الفحش على ما لايصدق عليه السبّ ، كما إذا ذكر ما يستقبح ذكره من دون مخاطب شاعر، كما إذا قال: ذلك لجماد من الجمادات، و قد يكون شيئ مجمع العنوانين.
و مما ذكر يظهر أنّ الفحش يصدق و لو لم يكن مخاطب شاعر، ولكن اقامة الدليل على حرمته مع عدم إطلاق صحيحة أبى بصير محلّ تأمّل و نظر.
ص: 357
ص: 358
يقع الكلام فى اُمور:
الأمر الأول: فى موضوع المسألة، قال الشيخ الاعظم قدس سره: و اعلم أنّ موضوع هذه المسألة ما إذا كان الواجب على العامل منفعة تعود إلى من يبذل بإزائه المال، كما لو كان كفائيا و أراد سقوطه منه، فاستأجر غيره، أو كان عينيّا على العامل و رجع نفعه منه إلى باذل المال كالقضاء للمدّعى إذا وجب عينا.
و بعبارة أخرى مورد الكلام ما لو فرض مستحبّا لجاز الاستيجار عليه، لأن الكلام فى كون مجرد الوجوب على الشخص مانعا عن أخذ الاُجرة عليه، فمثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه لايجوز أخذ الاُجرة عليه لالوجوبها، بل لعدم وصول عوض المال إلى باذله، فإنّ النافلة أيضا كذلك.(1)
قال فى بلغة الطالب: يعنى أنّ عنوان هذه المسألة فى كلمات الجماعة حيث يدّعون عليه الإجماع أو الشهرة هو أنّ وصف الوجوب بما هو مانع عن أخذ
**********
(1) المكاسب المحرّمة، ص 62-61.
ص: 359
الاُجرة على فعل متعلقه لمن وجب عليه أم لا. و من المعلوم أنّ المسألة تحرّر هكذا إذا فرض عدم مانع من أخذ الاُجرة من سائر الجهات، كما أنّ الأمر كذلك فى كل مورد يتكلم فى مانعية فعل أو قول أو وصف عن شىء، فإنّ محلّ الكلام فى مثله أنّ الشىء الكذائى لو خلّى عن كل مانع من الموانع المعلومة هل يمنع عنه الأمر الفلانى أم لا؟ فموضوع الكلام فى البحث عن مانعية شىء دائما يكون عند خلو الممنوع عن غير المانع المبحوث عنه.
فإذا فرضنا وقوع الكلام فى أنّ صفة الوجوب مانع من أخذ الاُجرة أم لا، يجب أن يجعل الموضوع هو العمل الذى لا مانع من أخذ الاُجرة عليه من سائر الجهات، فلاينبغى لمن يدعى مانعية صفة الوجوب عن أخذ الاُجرة أن يستدل له بأنه لاينتفع به المستأجر، كما فى فعل صلاة الظهر أو العصر إذا لم ينتفع به المستأجر، لما عرفت من أنّ الواجب على الأجير الذى لاينتفع به المستأجر خارج عن محل الكلام.
والحاصل: أنّه لو كان عدم الانتفاع ببعض الواجبات دليلا على مانعية صفة الوجوب عن الاستيجار كان عدم الانتفاع ببعض المستحبات أيضا دليلا على مانعية صفة الاستحباب.(1)
قال فى إرشاد الطالب ايضا: و بعبارة أخرى الكلام فى المقام فيما إذا اجتمع الشرائط المعتبرة فى الاستيجار، و يقع البحث فى أنّ وجوب عمل على المكلف مانع عن جواز أخذ الاُجرة عليه من المنتفع بذلك العمل أم لا.(2)
و لايخفى عليك إمكان المناقشة فى المثال المذكور فى الكلمات و هى أنّ
**********
(1) بلغة الطالب، ج 1، ص 160-161.
(2) إرشاد الطالب، ج 1، ص 282.
ص: 360
التمثيل للخارج عن محل الكلام باستيجار المكلف لمثل أداء الفريضة اليومية بأنّ المدار كما فى جامع المدارك وجود غرض يكون محلّ توجه العقلاء، و من الأغراض إطاعة المكلفين الأوامر الإلهية.(1) فإذا كانت الإطاعة من الأغراض فلا تكون خارجة عن محل الكلام.
ثم لا يذهب عليك ما فى مستند العروة من أنّ محل الكلام فى المقام ما إذا لم يثبت من الخارج بناء العمل على صدوره على صفة المجانية، و إلّا فلا كلام فى عدم جواز أخذ الاُجرة عليه كما لايبعد ذلك فى مثل تجهيز الميت و فى بعض الروايات أنّ هذا حق من حقوق المؤمن على أخيه المؤمن اعتبره الشارع مجانا و القى ماليته.(2)
الأمر الثانى: فى الأدلة الدالة على عدم جواز الإجارة على الواجبات.
منها: أنّ أخذ الاُجرة ينافى الإخلاص المعتبر فى العبادة. و الوجه فى ذلك كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره أنّ الوجوب الناشى من الإجارة إنما يتعلق بالوفاء بعقد الإجارة، و مقتضى الإخلاص المعتبر فى ترتب الثواب على موافقة هذا الأمر و لو لم يعتبر فى سقوطه هو إتيان الفعل من حيث استحقاق المستأجر له بإزاء ماله. فهذا المعنى ينافى وجوب إتيان العبادة لأجل استحقاقه تعالى إيّاه، و لذا لو لم يكن هذا العقد واجب الوفاء، كما فى الجعالة لم يمكن قصد الإخلاص مع قصد استحقاق العوض.
إلى أن قال: و هذا الاستدلال حسن فى بعض موارد المسألة، و هو الواجب التعبدى فى الجملة؛ إلّا أنّ مقتضاه جواز أخذ الاُجرة فى التوصليات و عدم جوازه فى المندوبات التعبدية، فليس مطردا و لامنعكساً.
**********
(1) جامع المدارك، ج 3، ص 37.
(2) مستند العروة، كتاب الإجارة، مسألة 13 من فصل إجارة الأرض لزرع الحنطة أو الشعير.
ص: 361
ثم أورد عليه إشكال النقض بالعبادات المستأجرة، فأجاب عنه: بأنّ الإجارة إنما تقع على الفعل المأتى به تقربا إلى الله نيابة عن فلان. توضيحه: أنّ الشخص يجعل نفسه نائباً عن فلان فى العمل متقربا إلى الله فالمثوب عنه يتقرب إليه تعالى بعمل نائبه و تقربه و هذا الجعل فى نفسه مستحبا، لأنه إحسان إلى المنوب عنه و إيصال نفع إليه. و قد يستأجر الشخص عليه، فيصير واجبا بالإجارة وجوبا توصّليا لايعتبر فيه التقرب، فالأجير إنما يجعل نفسه لأجل استحقاق الاُجرة نائبا عن الغير فى إتيان العمل الفلانى تقربا إلى الله، فالأجرة فى مقابل النيابة فى العمل المتقرب به إلى الله التى مرجع نفعها إلى المنوب عنه.
و هذا بخلاف ما نحن فيه، لأن الاُجرة هنا فى مقابل العمل تقربا إلى الله، لأن العمل بهذا الوجه لايرجع نفعه إلّا إلى العامل، لأن المفروض أنّه يمتثل ما وجب على نفسه، بل فى مقابل نفس العمل، فهو يستحق نفس العمل. و المفروض أنّ الإخلاص إتيان العمل لخصوص أمر الله تعالى، و التقرب يقع للعامل دون الباذل و وقوعه للعامل يتوقف على أن لا يقصد بالعبادة سوى امتثال أمر الله تعالى.
إلى أن قال: فإن قلت: يمكن أن يكون غاية الفعل التقرب، و المقصود من إتيان هذا الفعل المتقرب به استحقاق الاُجرة (بنحو الداعى إلى الداعى) كما يؤتى بالفعل تقربا إلى الله و يقصد منه حصول المطالب الدنيوية، كأداء الدين و سعة الرزق و غيرهما من الحاجات الدنيوية. قلت: فرق بين الغرض الدنيوى المطلوب من الخالق الذى يتقرب إليه بالعامل و بين الغرض الحاصل من غيره و هو استحقاق الاُجرة، فإن طلب الحاجة من الله تعالى و سبحانه و لو كانت دنيوية محبوب عندالله، فلا يقدح فى العبادة، بل ربما تؤكدها.(1)