البحوث الهامة في المکاسب المحرمة المجلد 6

هوية الكتاب

سرشناسه : خرازی ، سیدمحسن ، ‫1315 -

عنوان قراردادی : المکاسب.شرح

عنوان و نام پديدآور : ‫البحوث الهامه فی المکاسب المحرمه [ مرتضی انصاری ] ‫/ تالیف محسن الخرازی .

مشخصات نشر : قم : موسسه در راه حق ‫، 1423 ق . ‫= 1381 -

مشخصات ظاهری : ‫7ج.

شابک : ‫ج. 6 ‫ 978-964-5515-01-5 : ؛ ‫ج. 7 ‫ ‮ 978-600-5515-04-6 :

يادداشت : عربی .

يادداشت : ج.4 (چاپ ؟: 13).

يادداشت : ‫ج. 7 (چاپ اول: 1390) (فیپا).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب -- نقدو تفسیر

موضوع : ‫معاملات (فقه)

کسب و کار حرام

شناسه افزوده : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب . شرح

شناسه افزوده : موسسه در راه حق

رده بندی کنگره : ‫ BP190/1 ‫ /‮الف 8م 702143 1381

رده بندی دیویی : ‫ 297/372

شماره کتابشناسی ملی : ‫ م 81-45244

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

* العنوان... البحوث الهامّة ج 6

* الموضوع... فقه

* تأليف... آية الله السيّد محسن الخرّازي

* باهتمام... السيّد علىّ رضا الجعفري

* نشر... مؤسسه در راه حق

* الطبعة... الاُولى

* المطبعة... ولى عصر (عج)

* العدد... 1000

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

المسألة الثالثة والعشرون «في الرشوة»

اشارة

والكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في موضوع الرشوة وحقيقتها

قال في القاموس: «الرشوة - مثلّثة -: الجُعْل، والجمع: رُشا ورِشا. ورشاه: أعطاه إيّاها. وارتشى: أخذها. واسترشى: طلبها... وترشّاه: لايَنَه. والرِشاء - ككساء -: الحبل»(1).

وقال في تاج العروس: «قال ابن الأثير: الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشا الذي يتوصّل به إلى الماء، فالراشي: الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ، والرائش: من يسعى بينهما يستزيد لهذا أو يستنقص لهذا.

فأمّا ما يعطى توصّلاً إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل فيه. وروي عن جماعة من أئمّة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم»(2).

وقال في مجمع البحرين: «والرشوة قلّ ما تستعمل إلاّ فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ

ص: 5


1- القاموس المحيط / مادّة «رش -».
2- تاج العروس / مادّة «رش -».

أو تمشية باطل»(1).

وقال في المصباح المنير: «الرشوة - بالكسر -: ما يعطيه الشخص للحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد»(2).

ولا إشكال في لزوم رفع اليد عن اطلاق كلام صاحب القاموس؛ لأنّه تفسير بالأعمّ كما هو شأن اللغوي أحياناً، وإلاّ لشمل إطلاقه الجعل في مثل قول القائل: «من ردّ عبدي فله ألف» مع أنّه لا يقول به أحد، وهو كماترى؛ ولذا أخرج في النهاية ما يتوصّل به إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم عن معنى الرشوة.

فالمتيقّن من معنى الرشوة - كما في جامع المدارك - هو ما كان في قبال الحكم بالباطل كما يقتضيه ما في مجمع البحرين؛ فإنّ قوله: «والرشوة قلّ ما تستعمل إلاّ فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل» يدلّ على انصرافها عمّا إذا كانت لإحقاق الحقّ .

وقال المحقّق الإيرواني قدس سره أيضاً: «وينبغي القطع بأنّ مطلق الجعل على عمل ليس رشوة وإن أوهمته عبارة القاموس والنهاية؛ وإلاّ لدخل فيه أجرة الاُجراء والأكرة والمكاري، ولئن سُلّم عموم اللفظ فالمحرّم هو قسم خاصّ منه، والمتيقّن من المتّصف بالتحريم هو المال المدفوع بإزاء الحكم بالباطل. بل منصرف لفظ الرشوة أيضاً عرفاً هو هذا لا غير، ويشهد له عبارة المجمع، فما عداها تبقى تحت أصالة الحلّ بل وعمومات صحّة المعاملات ك - (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ ) - إلى أن قال: - وعلى كلّ حال فدفع المال لأجل أن لا يقبل القاضي الرشوة من المبطل ثمّ يحكم هو على طبق

ص: 6


1- مجمع البحرين / مادّة «رش -».
2- المصباح المنير / مادّة «رش -».

الواقع بمقتضى طبعه ليس من الرشوة»(1).

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ في المقام بروايات خاصّة:

منها: ما رواه في التهذيب بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن أحمد بن إبراهيم، عن عبد الرحمان، عن يوسف بن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة»(2).

بدعوى: أنّ ظاهر الرواية سؤال الرشوة لبذل فقهه، فيكون ظاهراً في حرمة أخذ الرشوة للحكم بالحقّ ، أو للنظر في أمر المترافعين ليحكم بعد ذلك بينهما بالحقّ من غير اُجرة.

ولكن اُورد عليه أوّلاً: بأنّه يمكن حمله على سؤال الرشوة للحكم للراشي حقّاً كان أو باطلاً، كما فسّره في المصباح المنير.

وثانياً: بأنّه يمكن أن يكون المراد سؤال الجعل والاُجرة، فأطلق عليه الرشوة تأكيداً للحرمة؛ وإلاّ فالاُجرة غير الرشوة.

وثالثاً - كما في جامع المدارك -: بأنّ استعمال اللفظ في معنى معلوم لا يوجب كونه حقيقة فيه؛ حتّى يستكشف المعنى عند عدم القرينة على المشهور، خلافاً للسيّد المرتضى قدس سره(3).

ورابعاً: بأنّ الرواية ضعيفة السند.

ص: 7


1- التعليقة على المكاسب / ص 25-26.
2- وسائل الشيعة / ج 7 ص 22، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 5.
3- جامع المدارك / ج 5، ص 41.

ومنها: ما روي عن الدعائم عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال: «مِن أكل السحت: الرشوة في الحكم». قيل: يابن رسول الله، وإن حكم بالحقّ؟ قال: «وإن حكم بالحقّ - قال: - فأمّا الحكم بالباطل فهو كفر...» الحديث(1).

ولكنّه ضعيف بالإرسال وإن كانت دلالته على شمول الرشوة للحكم بالحقّ واضحة.

ثمّ إن جعل الحكم بالباطل من مصاديق الكفر لا ينافي كونه من مصاديق الرشوة أيضاً.

ومنها: الروايات المتعدّدة الدالّة على أنّ الرشا في الحكم كفر بالله العظيم، فإنّ مدلولها مشعر بكونها أعمّ (2) أو أنّها مطلقة(3).

ولا يخفى عليك أنّ الروايات في مقام بيان آثار الرشوة، كالكفر بالله العظيم، لا في مقام بيان تفسير معنى الرشوة وتفصيل الموضوع، وعليه فلا تكون تلك الروايات دالّة على تعميم معناها. هذا مضافاً إلى كون بعضها في مقام عدّ موارد السحت لا تفصيل معنى السحت.

فالإنصاف أنّ الرشوة بحسب العرف واللغة لا تشمل الجعل على الحكم بالحقّ وإن قلنا بأنّها لا تختصّ بالجعل على الحكم بالباطل، بل تشمل الجعل على الحكم الموافق مطلقاً سواء كان حقّاً أو باطلاً، كما يظهر من المصباح المنير وذهب إليه الميرزا الشيرازي قدس سره(4).

ص: 8


1- مستدرك الوسائل / ج 17، ص 353، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 1.
2- ابتغاء الفضيلة / ص 82.
3- كتاب القضاء (للسيّد الكلبايكاني) / ص 235-236.
4- التعليقة على المكاسب / ص 73.

وممّا ذكر يظهر ما في بعض الكلمات من تعميم معنى الرشوة، كالمحكي عن جامع المقاصد: من أنّ الجعل من المتحاكمين للحاكم رشوة، والمحكي عن حاشية الإرشاد: من أنّ الرشوة هي ما يبذله أحد المتحاكمين؛ لما عرفت من عدم دليل على التعميم. هذا مضافاً إلى إمكان أن يكون مرادهم من هذه العبائر الإشارة الإجمالية، فلا يستفاد منها التعميم.

والمحكيّ عن السيّد الخوئي قدس سره من أنّ «المتحصّل من كلمات الفقهاء - رضوان الله عليهم - ومن أهل العرف واللغة مع ضمّ بعضها إلى بعض: أنّ الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ أو تمشية باطل أو للتملّق أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة أو في عمل لا يقابل بالاُجرة والجعل عند العرف والعقلاء وإن كان محطّاً لغرضهم ومورداً لنظرهم، بل يفعلون ذلك العمل للتعاون والتعاضد فيما بينهم، كإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، وترك الظلم والإيذاء أو دفعهما، وتسليم الأوقاف إلى غيره؛ كأن يرشو الرجل على أن يتحوّله عن منزله فيسكنه غيره، أو يتحوّله عن مكان في المساجد فيجلس فيه غيره، إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف أخذ الاُجرة عليها»(1).

ولا يخفى عليك أنّ عدم جواز أخذ الاُجرة على شيء أو عدم الاعتياد على أخذ الاُجرة لا يستلزم صدق الرشوة عليه وإن كان الأخذ المذكور غير جائز من جهة اُخرى.

هذا مضافاً إلى أنّ الانضمام المذكور لا يفيد إلاّ الاختصاص بغير الحكم بالحقّ ، كما أنّ انضمام كلمات العلماء إلى العرف واللغة لا يفيد، مع أنّ المعتبر هو العرف واللغة، وأيضاً تعميم معنى الرشوة بالنسبة إلى غير الحكم لا يساعده معناها اللغوي.

وذهب في الجواهر إلى أنّ «الرشا حرام سواء حكم لباذله أو عليه بحقّ أو باطل؛ إذ لا

ص: 9


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 262-263.

مدخلية لتأثيره في الحاكم وعدمه؛ لإطلاق النصّ ومعاقد الإجماعات. فما عساه يقال أو قيل: بعدم البأس به إذا لم يؤثّر في الحاكم، واضح الفساد، كوضوح احتمال حليّته لو بذله المحقّ على الحكم بحقّه فحكم له لذلك أيضاً. نعم، لو توقّف تحصيل الحقّ على بذله لقضاة الجور جاز للراشي وحرم على المرتشي، كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً؛ لقصور أدلّة الحرمة عن تناول الفرض»(1).

ولكن عرفت أنّ النصوص غير تامّة دلالةً أو سنداً، ومعاقد الإجماعات مع احتمال أو معلومية استنادها إلى المدارك المذكورة لا تكشف عن شيء.

فاتّضح: أنّه لا دليل على تعميم الرشوة بالنسبة إلى الحكم بالحقّ .

بل ربّما يستدلّ على عدم التعميم: بصحيحة عمّار بن مروان قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: «كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحت، وأكل مال اليتيم سحت. والسحت أنواع كثيرة، منها: ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها: اُجور القضاة واُجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البيّنة، فأمّا الرشا - يا عمّار - في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله صلى الله عليه وآله»(2).

بدعوى: أنّ جعل الرشا في الحكم مقابلاً لاُجور القضاة خصوصاً بكلمة «أمّا» يشهد على خروج الاُجرة على تولّي القضاء للحكم بالحقّ عن معنى الرشوة، واختصاصها بما يقابل الحكم بالحقّ ولو بمثل ما أفاده في المصباح المنير من الحكم الموافق للراشي مطلقاً؛ سواء كان حقّاً أو باطلاً، من دون اختصاصه بخصوص الباطل.

واُورد عليه: بأنّ «القضاة» المذكورة في الرواية منصرفة إلى قضاة الجور الذين

ص: 10


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 145.
2- معاني الأخبار / ص 211، باب معنى الغلول والسحت.

يأخذون الاُجرة من خلفاء الجور، فلا تشمل الجعل للفقهاء العدول على الحكم بالحقّ ، فتأمّل؛ إذ لا دليل على الانصراف إلاّ غلبة وجود قضاة العامّة، ومن المعلوم أنّ غلبة الوجود لا توجب الانصراف. وممّا ذكر يظهر ما في كلام الميرزا الشيرازي قدس سره حيث قال: «لعلّ الظاهر منها ذلك؛ من حيث انسباق الذهن منها إلى الاُجور المتعارفة المعهودة».(1)

نعم، الاُجرة على القضاء ليست برشوة، وعليه فلا تكون الرواية دالّة على عدم التعميم كما لا دلالة لها على التعميم؛ لأنّ المحمول مترتّب على الرشا في الحكم، وصدق الرشا في الحكم فيما إذا كان الحكم بالحقّ غير ثابت، إلاّ أن يقال بإطلاق الموضوع، كما يظهر من السيّد الكلبايكاني، فتدبّر.

فلا تدلّ الرواية على شمول الرشوة للحكم بالحقّ ، ويؤيّده: المحمول المذكور وهو الكفر بالله العظيم، فإنّه لا يترتّب على الحكم بالحقّ وبما أنزل الله؛ لأنّ الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفراً، لا الحكم بما أنزل الله تعالى، كما قال الله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ )(2) .

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكفر بالله العظيم هو الرشا لا نفس الحكم.

فتحصّل: أنّ الرشوة في اللغة لا تشمل ما يعطى للحكم بالحقّ ، بل هي ما يبذل بإزاء الحكم بالباطل، أو الحكم الموافق للراشي مطلقاً؛ سواء كان باطلاً أو حقّاً.

وهو الظاهر من الشيخ الأعظم قدس سره، خلافاً للمحقّق الثاني وصريح الحلّي وغيرهما من الأعلام.

ص: 11


1- تعليقة الميرزا الشيرازى، على المكاسب، ص 73.
2- سورة المائدة / الآية 44.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ أصل الرشوة هو الرشاء - ككساء - وهو الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء، فاستعملت لفظة الرشوة بهذه المناسبة فيما يتوصّل به إلى الحكم، ويكون معناها هو الوصلة إلى الحكم، ولا اختصاص لها بالوصلة إلى الحكم بالباطل، بل تشمل مايعطى للحاكم للحكم بالحقّ .

ولعلّ هذا هو المقصود من عبارة القاموس؛ لوضوح أنّ مطلق الجعل كالاُجرة والإجارة ليس مقصوده.

وأمّا تخصيصها بغير الحقّ - كما في النهاية ومجمع البحرين - فلعلّه متّخذ من الفتاوى، كما أشار إليه في النهاية بقوله: «وروي عن جماعة من أئمّة التابعين جواز إعطاء الرشوة عند خوف الظلم» مع أنّ اللازم في المعنى اللغوي هو أن يلاحظ موارد الاستعمال مع قطع النظر عن الفتاوى، هذا مضافاً إلى أنّ فتوى التابعين وغيرهم عند خوف الظلم لعلّه من باب أنّ الضرورات تبيح المحذورات لا من باب عدم شمول الرشوة، فهو تخصيص حكميّ لا موضوعيّ ، فلا وجه لإخراج ما يعطى توصّلاً إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم عن الرشوة موضوعاً كمايظهر من النهاية، وكيف كان فقد يؤيّد التعميم: انسباق المعنى العامّ من اللفظ عرفاً.

قال شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره: «والظاهر أنّ لفظها مأخوذ من الرشا؛ بمعنى الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء... وبالجملة، فاستعمل بالمناسبة في هذا المعنى الذي هو مغاير للاُجرة والجعل عند العرف، لا أنّ له وضعاً مستقلاًّ لهذا المعنى - إلى أن قال: - الرشوة بحسب المعنى العرفي: ما يعبّر عنه في الفارسية تارةً ب - «خر كريم نعل كردن»، واُخرى ب - «دم كسي ديدن»، وثالثةً ب - «دم سبيل چرب كردن»، ومن المعلوم مغايرة هذا مع الإجارة

ص: 12

والجعالة، فلو آجر نفسه للقضاء والحكم فلا يشمله عنوان الرشوة...» إلخ(1). وظاهره عدم اختصاص الرشوة بالحكم بالباطل.

وكيف كان، فمقتضى إطلاق قول السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: أنّ معنى الرشوة أعمّ من أن يكون للحكم بالباطل. نعم، يمكن القول بالجواز عند الاضطرار والضرورة كما يدلّ عليه بعض الأخبار، كموثّقة حكم بن حكيم الصيرفي(2).

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق في الحاكم بين أن يحكم بين المترافعين اللذين اختلفا في حكم المسألة، وبين أن يحكم بينهما في الإجرائيّات من دون اختلافهما في الحكم، كما إذا امتنع أحدهما عن أداء حقّ الآخر، فإنّ الحكم حينئذ يكون في مقام الإجراء لا في الشبهة الحكمية؛ لصدق الرشوة بالنسبة إلى كليهما.

ويشهد له: خبر الأصبغ عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «أيّما وال احتجب عن حوائج الناس؛ احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هديّةً كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(3)؛ فإنّ الوالي كثيراً ما يحكم في الإجرائيّات، فالرواية أطلقت الرشوة على ما أخذه لكي يحكم للباذل، مع أنّ حكمه ليس إلاّ في الإجرائيّات.

ثمّ إنّ المستفاد من العرف واللغة هو اشتراط صدق الرشوة؛ بأن يكون إعطاء الرشوة لأجل أن يحكم له الحاكم، وعليه فلو علم أنّ الحاكم حكم له طبق الموازين الشرعية ولا تأثير لما أعطاه في الحكم لَما صدقت الرشوة على ما أعطاه؛ لأنّها في الحقيقة تكون تشويقاً لما بنى عليه الحاكم في أحكامه للحكم طبق الموازين الشرعية، ومع عدم صدق

ص: 13


1- المكاسب المحرّمة / ص 45-50.
2- تهذيب الأحكام/ ج 7، ص 235.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 94، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.

الرشوة على ما يعطيه لا يحرم من هذه الجهة، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في حرمة الرّشوة

قال في الجواهر: «... حرام وسحت إجماعاً بقسميه ونصوصاً مستفيضة أو متواترة، بل في بعضها أنّه الكفر بالله العظيم، وفي رواية اُخرى: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الراشي والمرتشي»(1).

وقال شيخنا الأعظم قدس سره: «حرام، وفي المسالك وفي جامع المقاصد أنّ على تحريمها إجماع المسلمين، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة»(2).

وكيف كان فالحرمة من الواضحات، ويدلّ عليها من الآيات: قوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ )(3) .

وقوله: «تدلوا» أي تدفعوا، وهو معطوف على قوله: «لا تأكلوا»، وعليه فمحلّه الجزم، واحتمالُ كون محلّه النصب على الظرفية وذلك بإضمار «أن» - كقول الشاعر: «لا تَنهَ عن خُلُق وتأتي مثْلَه» أي: لا تجمع بينهما - خلافُ الظاهر؛ لاحتياجه إلى الإضمار. وكيف كان فتقريبه: أنّه تعالى نهى عن الإدلاء بالمال إلى الحكّام لإبطال الحقّ وإقامة الباطل حتّى يأكلوا بذلك فريقاً من أموال الناس بالإثم والعدوان، وهذا هو معنى الرشوة بالحمل الشائع الصناعي...

ص: 14


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 145.
2- المكاسب المحرّمة / ص 30.
3- سورة البقرة / الآية 188.

وأورد عليه المحقّق الإيرواني: بأنّه «يحتمل قريباً أن يكون المراد منه: إدلاء المال المتنازع فيه إليهم الحاصل ذلك برفع الخصومات إليهم، فيأكلوا مقداراً من ذلك المال، ويحكموا لغير مستحقّه في مقدار آخر»(1).

وأجاب عنه في مصباح الفقاهة: بأنّه «لا ظهور في الآية المباركة في كون المدفوع إلى الحكّام مال الغير، بل هي أعمّ من ذلك، أو ظاهرة في كون المدفوع مال المعطي»(2).

ولعلّ الوجه في ظهور كون المدفوع هو مال المعطي: رجوع الضمير في قوله تعالى (بها) إلى (أموالكم) وأمّا ما في جوامع الجامع من أنّ المعنى: ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكّام لتأكلوا - بالتحاكم - فريقاً من أموال الناس، ففيه: أنّه خلاف الظاهر؛ لأنّ الإدلاء في الآية بنفس أموالكم لا بالحكومة في الأموال المتنازع فيها، والتقدير خلاف الأصل، ولعلّ ما ذهب إليه الإيرواني يرجع إلى ما في جوامع الجامع، لوصفه إدلاء المال المتنازع فيه إلى الحكّام بقوله: «الحاصل ذلك برفع الخصومات إليهم».(3)

وكيف كان، ينقدح ممّا ذكر وجه ضعف القول باختصاص نزول الآية بخصوص أموال اليتامى والوديعة، وقد نهى الله تعالى فيها عن إعطاء مقدار من تلك الأموال للقضاة والحكّام لأكل الباقي بالإثم والعدوان.

وعليه، فهي أجنبيّة عن الرشوة؛ لما عرفت من أنّ الآية الكريمة أعمّ ، ولا وجه لدعوى الاختصاص بها، ولا ينافيه تفسير الآية بأحد الاُمور المذكورة؛ فإنّها من باب ذكر المصاديق، ولذلك قال في مصباح الفقاهة: «إنّ هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق،

ص: 15


1- التعليقة على المكاسب/ ص 25.
2- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 264.
3- التعليقة على المكاسب / ص 25.

والقرآن لا يختصّ بطائفة ولا بمصداق، بل يجري كمجرى الشمس والقمر، كما دلّت عليه جملة من الروايات»(1).

ولو سلّم أنّ المدفوع مال الغير - في الآية الكريمة - أمكن القول بصدق الرشوة عليه أيضاً؛ لأنّها: ما يتوصّل به إلى الحكم، وهو يصدق سواء كان من مال نفسه أو مال الغير، فلا تغفل.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الآية الكريمة تدلّ على عدم جواز إعطاء المال للحكّام ليحكموا له بأموال الناس حتّى يتمكّن من التصرّف فيها، ولكنّ الآية مختصّة بالحكم الباطل.

وربّما يقال: إنّه إذا كان إعطاء المال لغرض الحكم بالباطل ممنوعاً بالآية كان إعطاء المال عوضاً عن الحكم محرّماً بالفحوى(2)

وفيه: أنّ المعاوضة بين الحكم والجعل لا تكون رشوة كما عرفت في البحث عن معنى الرشوة، بل تدخل في عنوان الاُجرة والإجارة، وذلك العنوان موضوع الحكم كما سيأتي.

ويدلّ عليها من السنّة روايات:

منها: ما رواه في الكافي، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الرشا في الحكم هو الكفر بالله»(3).

ص: 16


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 264.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 148.
3- وسائل الشيعة / ج 27، ص 222، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 3.

ومنها: ما رواه في عقاب الأعمال، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد، عن موسى بن عمر، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس؛ احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هديّةً كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(1).

ومنها: صحيحة عمّار بن مروان: «... فأمّا الرشا - يا عمّار - في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله صلى الله عليه وآله»(2).

ومنها: ما رواه في الفقيه، قال: قال عليه السلام: «فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم»(3).

ومنها: معتبرة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «السحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغيّ ، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن»(4).

ومنها: خبر سماعة، عن أبي عبدالله عليه السلام: «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم»(5).

ومنها: ما رواه في الفقيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبّي صلى الله عليه وآله لعلىّ عليه السلام قال: «يا عليّ ، من السحت ثمن الميتة... والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن»(6).

ومنها: خبر يوسف بن جابر قال: قال أبوجعفر عليه السلام: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من نظر إلى

ص: 17


1- المصدر السابق / ج 17، ص 94، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.
2- المصدر السابق / ص 95، ح 12.
3- المصدر السابق / ص 94، ح 8.
4- المصدر السابق / ص 93، ح 5.
5- المصدر السابق / ص 92، ح 2.
6- المصدر السابق / ص 94، ح 9.

فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة»(1).

ومنها: ما في نهج البلاغة، عن أميرالمؤمنين عليه السلام في عهد طويل كتبه إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر وأعمالها، يقول فيه: «واختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور». ثمّ ذكر صفات القاضي، ثمّ قال: «وأكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره»(2).

ومنها: ما رواه في التهذيب، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن إسماعيل بن أبي سمّاك، عن محمّد بن أبي حمزة، عن حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام وسأله حفص الأعور فقال: إنّ السلطان يشترون منّا القرب والأدوات، فيوكّلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا، فنرشوه حتّى لا يظلمنا؟ فقال: «لا بأس ما تصلح به مالك». ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: «أرأيت إذا أنت رشوته يأخذ أقلّ من الشرط؟»، قال: نعم، قال: «فسدت رشوتك»(3).

وفي خلاصة العلاّمة في ترجمة إسماعيل بن أبي سمّاك: «قال النجاشي: إنّه ثقة واقفيّ ، فلا أعتمد حينئذ على روايته،(4) وحكم بن حكيم الصيرفي ثقة، وعدم الاعتماد على إسماعيل من جهة كونه واقفيّاً مع التصريح بكونه ثقة لا يضرّ، والظاهر منه هو جواز

ص: 18


1- المصدر السابق / ج 27، ص 223، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 5.
2- المصدر السابق / ح 9.
3- تهذيب الأحكام / ج 7، ص 235، الباب 21 (باب الزيادات)، ح 45.
4- القسم الثاني / ص 315-316.

إعطاء الرشوة عند اقتضاء مصلحة المال».

فتحصّل: أنّ مقتضى الأدلّة هو حرمة الرشوة من دون فرق بين أن تكون الرشوة للوصلة إلى خصوص الحكم بالباطل أو لخصوص الحكم بالحقّ أو للأعمّ ؛ وذلك لإطلاق الأدلّة بعد ما عرفت من عدم اختصاص الموضوع بغير الحكم بالحقّ ، كما ذهب إليه في الجواهر(1).

نعم، لو توقّف تحصيل الحقّ على بذله لقضاة حكّام الجور جاز للراشي وحرم على المرتشي، كما في الجواهر حيث قال: «صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً؛ لقصور أدلّة الحرمة عن تناول الفرض الذي تدلّ عليه اُصول الشرع وقواعده المستفادة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل؛ ضرورة أنّ للإنسان التوصّل إلى حقّه بذلك ونحوه ممّا هو محرّم عليه في الاختيار، بل ذلك كالإكراه على الرشا الذي لا بأس به على الراشي معه عقلاً ونقلاً»(2).

المقام الثالث: في حرمة أخذ الجعل والاُجرة على القضاء وتصدّي أمر المرافعة

ويدلّ عليها:

صحيحة عمّار بن مروان عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «... والسحت أنواع كثيرة: منها: ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها: اُجور القضاة واُجور الفواجر، وثمن الخمر

ص: 19


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 145.
2- المصدر السابق.

والنبيذ المسكر، والربا بعد البيّنة...» الحديث(1).

وقد استدلّ الشيخ الأعظم قدس سره بإطلاقها على حرمة ذلك بناءً على أنّ الأجر في العرف يشمل الجعل، وإن كان بينهما فرق عند المتشرّعة.

وأورد عليه المحقّق الإيرواني قدس سره بأنّ : «منصرفها هو قضاة العامّة المنصوبون من قبل سلاطين الجور؛ ومعلوم أنّ حرمة اُجورهم لعدم لياقتهم للقضاوة بفقدان الإيمان والعلم والعدالة»(2).

هذا مضافاً إلى احتمال رجوع الضمير في قوله: «منها اُجور القضاة» إلى «ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة»، فيختصّ بقضاة الجور.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا وجه لدعوى الانصراف مع عموم عنوان القضاة وعدم قيام قرينة على اختصاصها بقضاة العامّة؛ إذ مجرّد الغلبة الخارجية لا توجب الانصراف، وإرجاع الضمير المذكور إلى «ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة» خلاف ظاهر العطف ومقام عدّ أنواع السحت. هذا مضافاً إلى أنّ عطف «اُجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ المسكر والربا بعد البيّنة» على «اُجور القضاة» لا يساعد رجوع الضمير في «منها» إلى «ما اُصيب»، فلا تغفل.

ثمّ إنّ ظاهر الاُجرة هو أخذ الجعل والاُجرة على تصدّي أمر المرافعة والقضاء، وهو خارج عن حقيقة الرشوة؛ فإنّها في مقابل الحكم للباذل، كما أنّه غير مرتبط بجواز الارتزاق من بيت المال من دون جعله مقابلاً للتصدّي أو القضاء.

وصحيحة عبدالله بن سنان قال: سئل أبوعبدالله عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من

ص: 20


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 95، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 12.
2- تعليقة المكاسب / ص 26؛ وملحقات العروة / ج 3، ص 21.

السلطان على القضاء الرزق ؟ فقال: «ذلك السحت»(1).

بدعوى: ظهور قوله «على القضاء» في أنّ المراد هو جعل الأجر على الحكم من دون فرق بين كونه من بيت المال أو غيره. واستدلّ المحقّق الكركي قدس سره - على المحكي - بهذه الرواية على حرمة أخذ الاُجرة(2).

وأمّا حمل «السلطان» على سلطان الجور، و «القاضي» على القاضي المنصوب من قبل الجائر الذي لا يكون أهلاً للقضاء - كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره - ففيه: أنّه لا دليل على تقييد السلطان بالجائر، كما أنّه لا شاهد على كون القاضي هو المنصوب من قبل الجائر.

بل المراد من الرواية - بقرينة قوله: «على القضاء» - هو بيان حرمة جعل الرزق مقابلاً للقضاء من ناحية السلطان سواء كان من بيت المال أو غيره، وعليه فلو كان القاضي أهلاً للقضاء وجعل له في قبال قضائه وتصدّيه جعلاً من بيت المال؛ كان ذلك محرّماً وإن كان السلطان سلطان عدل. ولذلك قال في جامع المدارك: «ما دلّ عليه الصحيحة هو حرمة أخذ الرزق كاُجرة الأجير، وهذا غير إعطاء الرزق لا بعنوان المقابلة للعمل وإن كان بلحاظه»(3).

وممّا ذكر يظهر ما في ملحقات العروة، حيث حمله على الارتزاق من بيت المال وقال: «ودعوى: أنّ الظاهر من قوله: «على القضاء» كونه عوضاً عنه لا ارتزاقاً،

ص: 21


1- وسائل الشيعة / ج 27، ص 221، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 1.
2- جامع المقاصد / ج 4، ص 236.
3- جامع المدارك / ج 3، ص 43.

كماترى»(1). لما عرفت من التكلّف في حمل الرواية على كون المراد من القضاة قضاة الجور، وأنّ حرمة الارتزاق من جهة عدم أهليّة القاضي للقضاء. ولعلّ وجه استبعاد كون المراد من قوله: «على القضاء» هو مقابلة القضاء للفظ؛ «الرزق» الظاهر في الارتزاق، ولكنّه لا ينافي ظهور قوله: «على القضاء» في مقابلة الرزق.

ويؤيّد الحرمة: ما رواه في الجعفريّات بإسناده عن عليّ عليه السلام قال: «من السحت: ثمن الميتة... والرشوة في الحكم، وأجر القاضي إلاّ قاض يجرى عليه من بيت المال»(2).

فتحصّل: تمامية الأدلّة على حرمة جعل الاُجرة أو الجعل في مقابل تصدّي أمر القضاء مطلقاً؛ سواء كان القاضي محتاجاً أم لم يكن، وسواء تعيّن عليه القضاء أم لم يتعيّن.

وظاهر المقنعة والمحكي عن القاضي هو الجواز مطلقاً، واستدلّ له بالأصل، وبما رواه في معاني الأخبار عن أحمد بن محمّد بن الهيثم العجلي (رحمه الله) قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريّا القطّان قال: حدّثنا بكر بن عبدالله بن حبيب، عن تميم بن بهلول، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «من استأكل بعلمه افتقر». فقلت له: جعلت فداك، إنّ في شيعتك ومواليك قوماً يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون على ذلك منهم البرّ والصلة والإكرام ؟ فقال عليه السلام: «ليس اُولئك بمستأكلين؛ إنّما المستأكل بعلمه: الذي يفتي بغير علم ولا هدىً من الله عزّ وجلّ ليبطل به الحقوق؛ طمعاً في حطام الدنيا»(3).

ص: 22


1- ملحقات العروة / ج 3، ص 20.
2- مستدرك الوسائل / ج 17، ص 354، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 4.
3- معاني الأخبار / ج 1، ص 180، ط - مكتبة الصدوق.

بدعوى: أنّ اللام فيها إمّا للغاية أو للعاقبة، وعلى الأوّل: تدلّ الرواية على حرمة أخذ المال في مقابل الحكم بالباطل، وعلى الثاني: تدلّ على حرمة الانتصاب للفتوى من غير علم طمعاً في الدنيا.

وعلى كلّ تقدير، يظهر منه حصر الاستئكال المذموم فيما كان لأجل الحكم بالباطل أو مع عدم معرفة الحقّ ، وعليه فيجوز الاستئكال مع الحكم بالحقّ مطلقاً؛ سواء كان محتاجاً أم لم يكن، وسواء تعيّن عليه القضاء أم لم يتعيّن.

وفيه اوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة بتميم بن بهلول وأبيه، فلا تنهض للمعارضة مع الصحاح الدالّة على حرمة اُجور القضاة.

وثانياً - كما في مصباح الفقاهة -: أنّ الرواية مسوقة لدفع توهّم السائل؛ بأنّ من تحمّل علوم الأئمّة عليهم السلام وبثّها في شيعتهم ووصل إليه منهم البرّ والإحسان بغير مطالبة كان من المستأكلين بعلمه، فأجاب الإمام عليه السلام: بأنّ هذا ليس من الاستئكال المذموم، وإنّما المستأكلون: الذين يفتون بغير علم لإبطال الحقوق.

وعلى هذا، فمفهوم الحصر هو العقد السلبي المذكور في الرواية صريحاً، وليس فيها تعرّض لأخذ الاُجرة على الحكم بالحقّ ؛ لا مفهوماً ولا منطوقاً(1).

ولعلّه يؤول إليه دعوى الحصر الإضافي، والقول بأنّه خلاف الظاهر - كما في كلام الشيخ الأعظم قدس سره - لا وجه له بعدما عرفت من مساق الرواية.

ومع عدم التعرّض لصورة أخذ الاُجرة على الحكم بالحقّ لا تكون الرواية منافية مع الصحاح الدالّة على حرمة أخذ الاُجرة على الحكم والقضاء بالحقّ .

وثالثاً - كما في إرشاد الطالب -: أنّه على فرض تسليم إطلاق الرواية ودلالتها على

ص: 23


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 267.

جواز الاستئكال في صورة أخذ الاُجرة على الحكم بالحقّ ، يقيّد إطلاقها بمثل صحيحة عمّار بن مروان المتقدّمة(1)، بناءً على اختصاص القضاة بقضاة العدل والحكم بحكم الحقّ .

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق صحيحة عبدالله بن سنان وصحيحة عمّار بن مروان هو عدم صحّة التفصيل: بين حاجة القاضي وعدم تعيّن القضاء عليه؛ فيجوز أخذ الجعل والاُجرة على القضاء، وبين عدم حاجته وكون القضاء متعيّناً عليه إمّا بتعيين الإمام أو عدم وجود الغير؛ فلا يجوز أخذ الجعل والاُجرة على القضاء، كما حكي عن العلاّمة قدس سره في المختلف؛ وذلك لإطلاق الصحاح المذكورة.

ودعوى: اختصاص صحيحة عمّار بن مروان بصورة غنى القاضي وعدم حاجته؛ من جهة أن القضاة في ذلك الزمان كانوا من المرتزقة من بيت المال ومنصوبين من قبل مدّعي الخلافة على المسلمين، ومن المعلوم أنّ القضاة الذين كانوا كذلك لم يحتاجوا إلى أخذ المال من المترافعين.

مندفعة: بما في إرشاد الطالب من أنّ : «الحكم الوارد في الصحيحة لا يختصّ بالقضاة المنصوبين في ذلك الزمان ليقال بعدم حاجتهم؛ إذ القضيّة قضيّة حقيقية لا خارجية»(2).

هذا مضافاً إلى أنّ صحيحة ابن سنان تدلّ على حكم الأخذ على القضاء من دون فرض كون القاضي من قضاة السلطان حتّى يقال إنّه من المرتزقة ولم يحتج إلى أخذ المال من المترافعين.

كما أنّ الاستدلال برواية يوسف بن جابر على اعتبار الغنى في حرمة أخذ الجعل

ص: 24


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 152.
2- المصدر السابق / ص 153.

والاُجرة؛ وذلك لقول أبي جعفر عليه السلام فيها: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله.. رجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة»(1) بدعوى استبعاد أن يكون من هو مرجع للناس في فقهه محتاجاً إليهم، كما ترى؛ لضعف الرواية سنداً، هذا مضافاً إلى أنّه لا ملازمة بين مراجعة الناس إلى شخص في أخذ فقهه وبين عدم احتياجه إليهم في أخذ الجعل والاُجرة، على أنّ موضوع الرواية هو الرشوة لا أخذ الجعل والاُجرة على القضاء، أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المقصود هو الجعل والاُجرة، وإنّما اُطلق عليه الرشوة تأكيداً للحرمة.

فتحصّل: أنّ أخذ الجعل والاُجرة على القضاء أو على تصدّي أمر القضاء بنحو المعاملة والمبادلة محرّم، من دون فرق بين أن يكون القضاء متعيّناً عليه أو لا، وبين أن يكون القاضي غنيّاً أو لا، وكلّ ذلك لإطلاق الأدلّة وعدم شاهد على التقييد والتفصيل.

والأضعف من الاستدلال المذكور على الجواز مطلقاً هو الاستدلال بالأصل وإطلاق (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ إذ الأصل دليل حيث لا دليل، وقد عرفت تمامية دلالة الأخبار على الحرمة. ولا مجال أيضاً للأخذ بإطلاق أدلّة النفوذ مع تقييده بالصحاح الدالّة على الحرمة.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام السيّد في الملحقات حيث اختار الجواز مطلقاً، فراجع(2).

ولا يخفى عليك أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره قال: «ظاهر إطلاق ما تقدّم حرمة الجعل حتّى فيما إذا لم يحصل له كفاية من محلّ آخر - كتبرّع متبرّع أو بيت مال موجود أو مال آخر للفقراء - ولم يوجد من يجبره الحاكم على الإنفاق عليه، لكن يعارض وجوب القضاء حينئذ وجوب التكسّب، والترجيح لوجوب التكسّب - الى أن قال: - والأقوى

ص: 25


1- وسائل الشيعة / ج 27، ص 223، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 5.
2- الملحقات / ج 3، ص 19.

جواز الجعل حينئذ (لمن لم يتعيّن عليه القضاء) على وجه الاستنقاذ لا المعاوضة، بل يمكن القول بجواز المعاوضة أيضاً - إلى أن قال: - لانصراف الأخبار إلى غير الفرض»(1). وكيف كان فالحرمة مختصّة بالقضاة، ولا تشمل غيرهم ممّن يخدمون في المحاكم الشرعية ويهيّئون المقدّمات.

المقام الرابع: في حكم أخذ الجعل والاُجرة على التصدّي لأمر الفتوى أو بيان الأحكام والمعارف الدينية

ربّما يقال بعدم الجواز مطلقاً؛ للتعدّي من أدلّة حرمة أخذ الجعل والاُجرة على القضاء، بدعوى عدم احتمال الفرق بينهما في ذلك(2).

ويشكل ذلك: بالفرق بين البابين، ولذا لم يعتبر الأصحاب في الفتوى جميع ما اعتبروه في باب القضاء؛ من البصر والكتابة والاكتفاء عند الاختلاف بمطلق المرجّح بينهما من الصفات ولو كانا مرجوحين بالنسبة إلى غيرها.

ولعلّ يؤول إليه ما في جامع المدارك حيث قال بالفرق بين القضاء بين الناس والفتوى؛ ولذا مع الاختلاف يؤخذ بالقضاء، كما لو كان نظر أحد المتخاصمين في الفتوى إلى خروج منجّزات المريض من الأصل، والآخر من الثلث، فترافعا عند الحاكم فقضى موافقاً لأحدهما، فلابدّ من التسليم، ويكون المحكوم عليه آخذاً به على خلاف نظره.

ففي مقام القضاء: لا يحلّ أخذ شيء مع كون نظر المعطي إلى القضاء، سواء كان القضاء

ص: 26


1- كتاب القضاء والشهادات / ص 100.
2- انظر: إرشاد الطالب / ج 1، ص 154.

بحقّ أو بباطل.

وفي مقام الفتوى: فصّل بحسب هذه الرواية (أي رواية حمزة بن حمران) بين الصورتين، بل الظاهر أنّ نظر السائل إلى الناقلين لمقالة المعصوم كما هو شأن الرواة، كسائر نقلة فتاوى المجتهدين في هذه الأعصار(1).

وكيف كان، فمقتضى الأصل وإطلاقات أدلّة النفوذ هو جواز أخذ الجعل والاُجرة على الإفتاء أو تعليم الأحكام، وأمّا رواية حمزة بن حمران ورواية يوسف بن جابر فقد عرفت ما فيهما من الضعف، واختصاص رواية حمزة بن حمران بالإفتاء بغير علم ولا هدى لإبطال الحقوق، ورواية يوسف بن جابر بالرشوة. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المراد هو السؤال عن الجعل والاُجرة، وإطلاق الرشوة عليه ليس من باب استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، بل هو من باب إفادة التأكيد في حرمة أخذ شيء في قبال التفقّه.

وممّا ذكر يظهر ما في مصباح الفقاهة حيث قال: «ثمّ الظاهر أنّه لا يجوز أخذ الاُجرة والرشوة على تبليغ الأحكام الشرعية وتعليم المسائل الدينية؛ فقد عرفت فيما تقدّم أنّ منصب القضاوة والإفتاء والتبليغ يقتضي المجّانية»(2).

وذلك لعدم الدليل على حرمة أخذ الاُجرة، ولاختصاص الرشوة بما يعطى في قبال الحكم، ودعوى اقتضاء المجّانية في منصب الإفتاء والتبليغ أوّل الكلام، إلاّ أن يدّعى سيرة الأنبياء والأولياء على ذلك، وقد ورد في الكتاب العزيز: (قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ )(3) ، وغير ذلك من الآيات، بل يكون أخذ الاُجرة في مقابل

ص: 27


1- جامع المدارك / ج 3، ص 41-42.
2- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 268.
3- سورة الشورى / الآية 23.

الإفتاء والتبليغ قبيحاً عند المتشرّعة، وعليه فالأحوط هو الاجتناب عن ذلك.

نعم، لا حرمة لأخذ الجعل والاُجرة لغير تبليغ الأحكام والمعارف الدينية والإفتاء ممّا يتصدّى له المحقّقون من تأليف الكتب أو الرسائل أو تنقيحها أو تتبّع الموضوعات الدينية أو تدريس ما يكون خارجاً عن دائرة تبليغ الأحكام والإفتاء، بل لا مانع من أخذ الاُجرة في مقابل ذكر المصيبة والمراثي لسيّدنا الحسين عليه السلام.

المقام الخامس: في جواز ارتزاق القاضي من بيت المال

ولا إشكال فيه سواء كان محتاجاً إليه أو لم يكن، ولكن بشرط وجود المصلحة في الإعطاء للقضاء؛ لأنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، والقضاء من مهمّاتها. ويدلّ عليه: مرسلة حمّاد بن عيسى الطويلة، وفيها: «... ثمّ ذكر الزكاة وحصّة العمّال... ويؤخذ الباقي، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة»(1). ولكون حمّاد بن عيسى من أصحاب الإجماع فإنّ المرسلة معتبرة بناءً على ما حقّق في محلّه.

ودعوى: تقييد جواز الارتزاق بالحاجة ولو بسبب القيام بالمصالح المانع له من التكسّب.

محلّ منع كما في الملحقات(2)، كممنوعية دعوى أنّ بيت المال معدّ للمحاويج، كلّ ذلك لإطلاق المرسلة المذكورة في جواز صرف بيت المال في المصالح.

ص: 28


1- وسائل الشيعة / ج 27، ص 221، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 2. الكافي / ج 1، ص 441-442.
2- الملحقات / ج 3، ص 22.

هذا مضافاً إلى ما في نهج البلاغة ممّا كتبه عليه السلام إلى مالك الأشتر في عهد طويل، فقد ذكر فيه صفات القاضي، ثمّ قال: «وافسح له في البذل ما يزيل علّته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس»(1).

ولكنّ ظاهره اختصاصه بصورة الحاجة، وربّما يقال في وجه عدم جواز الإعطاء مع الغنى والتعيّن: بأنّه لا مصلحة فيه؛ لعدم جواز التقاعد عنه حتّى يكون الرزق داعياً له، بل التقاعد عنه إلى أن يعطى الرزق حينئذ موجب للفسق المخرج عن أهليّة القضاء(2).

ولا يخفى ما فيه، فإنّ المصلحة ربّما تقتضي الممانعة عن حصول التقاعد؛ فإنّ التقاعد ليس بمصلحة القضاء أو النظام، وإن كان التقاعد حراماً على القاضي.

وربّما يتراءى من الميرزا حبيب الله الرشتي قدس سره صدق الرشوة فيما إذا امتنع إلاّ بالارتزاق(3). وفيه منع، لاختصاص الرشوة بما إذا كان الحكم للباذل، وليس كذلك هنا.

ثمّ إنّه هل يجوز إعطاء الرزق مع متبرّع بالقضاء أو لا؟ وجهان:

الأوّل: إنّ بيت المال معدّ لتحصيل مصالح المسلمين، فلا يجوز صرفه إلاّ فيما اذا توقّف تحصيل المصلحة على صرفه، فيحرم بدونه.

والثاني: إنّ بيت المال معدّ لصرفه على من يقوم بمصالح المسلمين وإن لم يتوقّف تحصيل المصلحة على قيامه.

وقد ذهب إلى الثاني الميرزا الآشتياني قدس سره؛ نظراً إلى أنّ تحصيل المصلحة حكمة

ص: 29


1- وسائل الشيعة / ج 27، ص 223، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 9.
2- كتاب القضاء والشهادات (للشيخ الأعظم) / ص 275.
3- كتاب القضاء / ج 1، ص 69-70.

لجعل بيت المال لا علّة يدور الحكم مداره(1).

وفيه: أنّ ظاهر مرسلة حمّاد هو موضوعية المصلحة، وعليه فلا يجوز بدون إحرازها، فإذا قام بالقضاء متبرّع لا تكون المصلحة في إعطاء الرزق لغيره إلاّ إذا كان في ذلك رجحان من جهات اُخرى.

وربّما يستدلّ على حرمة ارتزاق القاضي بصحيحة عبدالله بن سنان: سئل أبو عبدالله عليه السلام عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ؟ فقال عليه السلام: «ذلك السحت»(2).

ولكن عرفت أنّ الرواية - بقرينة قوله: «على القضاء» - تدلّ على حرمة أخذ الرزق كاُجرة الأجير، وهذا غير إعطاء الرزق بغير عنوان المقابلة للعمل وإن كان بداعيه.

ثمّ إنّ الفرق بين الرزق والأجر واضح عرفاً وشرعاً، ولعلّ وجه الفرق هو اعتبار الاُجرة والمدّة ونوع العمل في الإجارة، أو اعتبار مقدار الجعل ونوع العمل في الجعالة دون الارتزاق؛ فإنّه لا يعتبر فيه شيء عدا المصلحة، وهي تقتضي أن يعطى للقاضي ونحوه.

قال الشيخ الأعظم قدس سره في تبيين الفرق بين الاُجرة والرزق إنّه: «لو فرضنا أنّه لم يقع في تلك السنة مرافعة كثيرة بل مرافعة أصلاً لم يستردّ من الرزق شيئاً»(3). ومقتضاه هو الاسترداد في الإجارة.

ولكن في الفرق المذكور تأمّل ونظر؛ لأنّ الاسترداد صحيح فيما إذا كان الأجر مقابلاً

ص: 30


1- كتاب القضاء / ص 26.
2- وسائل الشيعة / ج 27، ص 221، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 1.
3- كتاب القضاء والشهادات / ص 106.

للقضاء في كلّ مرافعة، وأمّا إذا كان مقابلاً لتصدّي مسؤولية القضاء فلا يستردّ منه شيء أيضاً عند عدم وقوع المرافعة في السنة أصلاً؛ لأنّ الاجر في مقابل التصدّي.

وأيضاً عدم الاسترداد في الرزق فيما إذا لم يبق شيء من الرزق، وإلاّ فاسترداده مع الإباحة بل مع الملكية جائز كما لا يخفى، وعليه فالفرق بما ذكر غير تامّ .

ولقد أفاد وأجاد السيّد قدس سره في الملحقات حيث قال: «إنّ الارتزاق غير الاُجرة، فإنّها عوض العمل، بخلافه فإنّه بسبب كون الشخص قاضياً مثلاً أو مؤذّناً أو نحو ذلك»(1).

ومقتضاه أنّ الرزق لكون القاضي مصرفاً لبيت المال لا في مقابل عمله، وهذا بخلاف الاُجرة؛ فإنّه إمّا أن يكون مقابلاً للعمل أو التصدّي.

وقال في المستند أيضاً: «ومعنى الارتزاق منه أخذ الرزق منه لأجل كونه قاضياً، لا لقضائه وعليه وبإزائه، وإعطاء الوالي أيضاً كذلك، والفرق بين المعنيين واضح؛ فإنّ الأخ يعطي أخاه لكونه أخاً له لا لأجر الاُخوّة وبإزائه، وكذا من وقف على المؤذّن مثلاً أو نذر له شيئاً فهو يعطيه لأجل كونه مؤذّناً لا بإزاء أذانه؛ ولذا لو وقف أحد ضياعاً على شيعة بلده أو صائميه فيجوز لهم الارتزاق من نمائه، مع أنّه لا يجوز أخذ شيء بإزاء التشيّع والصوم»(2).

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر من جواز الارتزاق بين أن يأخذ من السلطان العادل أو من الجائر إذا كان أهلاً للقضاء وكانت قضاوته بمصلحة الاُمّة؛ لما عرفت من دلالة المعتبرة على أنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، والقضاء من مهمّاتها، فإذا عرف القاضي أنّ المصلحة تقتضي التصدّي وأخذ الرزق من بيت المال جاز له ذلك وإن كان السلطان

ص: 31


1- ملحقات العروة / ج 3، ص 21.
2- مستند الشيعة / ج 2، ص 526.

جائراً؛ لأنّ بيت المال معدّ لذلك، والآخذ مجاز في التصرّف؛ لكونه مجتهداً جامعاً للشرائط.

هذا مضافاً إلى ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره من أدلّة حلّية بيت المال لأهله ولو خرج من يد الجائر، ولعلّ مراده من الأدلّة: الأخبار الواردة في جوائز السلطان، كمصحّحة أبي المغرا: أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم، آخذها؟ قال: «نعم»، قلت: وأحجّ بها؟ قال: «نعم»(1) وغير ذلك من أخبار جوائز السلطان التي سيأتي نقلها في البحث عن جوائز السلطان إن شاء الله تعالى.

فإنّها تدلّ على جواز أخذ القاضي بطريق أولى، نعم من لم تجتمع فيه شرائط القضاء لا يجوز له أن يرتزق من بيت المال من هذه الجهة؛ لعدم كونه من موارد مصرف بيت المال.

ولا فرق في ذلك بين كون السلطان عادلاً أو جائراً، ويدلّ عليه ما دلّ على حرمة أكل المال بالباطل من الآيات والأخبار.

ثمّ إنّ المراد من بيت المال - كما أفاده الميرزا حبيب الله الرشتي قدس سره - هو البيت المجتمع فيه مال المسلمين؛ أعني ما اُعدّ لمصالحهم، كسهم سبيل الله من الزكاة والاُجور المحصّلة من الأراضي الخراجية والأوقاف العامّة لكلّ المسلمين؛ فإنّ المسلمين في هذه الأموال شرّع سواء، وليس المراد به مطلق الزكاة أو ما يرجع إلى الفقراء(2).

ونحوه في كتاب القضاء للميرزا الآشتياني قدس سره حيث قال: «وأمّا ما يجتمع فيه الزكاة

ص: 32


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 213، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، ح 2. وذكر صاحب الوسائل في ذيلها أنّ الصدوق روى مثله وزاد: «قال: نعم وحجّ بها».
2- كتاب القضاء / ج 1، ص 69.

والخمس والصدقات ووجوه المظالم وغيرها ممّا يكون مختصّاً بالفقراء، فلا يكون من بيت المال في شيء، ولا يجوز صرف ما يجتمع فيه في مصالح المسلمين، بل لابدّ أن يعطى لمستحقّيه من الفقراء...»(1)

ثمّ إنّه لو لم يكن هناك بيت مال فهل يجوز له الارتزاق من سائر الوجوه التي مصرفها الخير أو سبيل الله ؟

قال في مستند الشيعة: «الظاهر الجواز مع الضرورة والحاجة؛ لتوقّف التوصّل إلى ذلك الخير العامّ بالارتزاق، وأمّا بدونها فيشكل سيّما مع التعيين، بل لا يجوز حينئذ البتّة»(2).

ولعلّ وجه عدم الجواز مع عدم الحاجة والتعيين هو عدم إحراز الإطلاق في سائر الوجوه، وهذا بخلاف بيت المال؛ لما عرفت من إطلاق مرسلة حمّاد.

ولعلّه لذلك استشكل السيّد في الملحقات حيث قال: «وإنّما يختصّ جواز الارتزاق (ولو مع عدم الحاجة) ببيت المال، وأمّا سائر الوجوه التي مصرفها الخير أو سبيل الله فيشكل جواز ارتزاقه منها بدون الحاجة والضرورة»(3).

المقام السادس: في حكم أخذ القضاة الهدايا

ولا يخفى عليك أنّ من أنواع الهديّة هو ما يبذله الباذل على وجه الهبة ليورث المودّة بينه وبين الحاكم، فيحكم له حقّاً كان أو باطلاً.

ص: 33


1- كتاب القضاء / ص 25.
2- مستند الشيعة / ج 2، ص 526.
3- ملحقات العروة / ج 3، ص 22.

وربّما فرّق بين الهديّة المذكورة والرشوة: بأنّ الرشوة تبذل في مقابل الحكم، والهديّة تبذل لإيراث المحبّة الموجبة للحكم له. ومقتضى الفرق المذكور هو الجواز، ولكنّ هذا الفرق لا يكون فارقاً؛ لاندراجها في الرشوة لغةً بناءً على ما ذكره في المصباح المنير في تفسيرها «من أنّ الرشوة - بالكسر -: هي ما يعطيه الشخص للحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد»، ويؤيّده: ما ذكره ابن الأثير من أنّ «الرشوة: هي الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة».

وكيف كان فمن المعلوم أنّ قوله: «ليحكم له أو يحمله على ما يريد» لا يختصّ بما إذا لم يتوسّط غرض آخر كالمودّة، فكما أنّ الرشوة تشمل ما إذا أوجبت الحكم من دون وساطة المودّة، فكذلك تشمل ما إذا أوجبت ذلك مع وساطتها.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المتيقّن من الرشوة هو ما كان بإزاء الحكم لا ما كان بداعيه، ولكنّه فيما إذا لم يكن إطلاق في كلام اللغويّين، والمفروض هو وجود الإطلاق كما عرفت.

إلاّ أن يقال: إنّ قوله: «ليحكم له» ظاهر في الغاية لا العاقبة.

لأنّا نقول: نعم، ولكنّ الغاية أعمّ من كونها أوّلية أو نهائية، ويشهد له أيضاً قوله: «أو يحمله على ما يريد»؛ لأنّه يشمل المقام. هذا كلّه مع حكم العرف بصدق الرشوة عليها.

وإليه مال الشيخ الأعظم قدس سره حيث قال: «فالظاهر حرمتها؛ لأنّها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط»(1)، وإن لم يجزم بذلك، بل قال في مستند الشيعة: «حكم الفقهاء بحرمة الهديّة الغير المعهودة قبل القضاء؛ لأنّه قرينة على أنّ المقصود منه الحكم ولو فرضاً، وهو

ص: 34


1- المكاسب المحرّمة / ص 31.

كذلك؛ لصدق الرشوة عرفاً، فيشمله إطلاقاتها»(1). ولا يخفى أنّه أورد قيد «الغير المعهودة» لإخراج المعهودة من الهدايا التي لا ترتبط بكونه قاضياً، بل تعطى بعنوان القرابة أو المودّة المطلقة ولا يقصد بها الحكم؛ إذ لا إشكال في جوازها. والمراد من قوله: «ولو فرضاً» هو إدراج الهدايا التي تعطى لكي يحكم القاضي له عند وقوع المرافعة؛ فإنّ الرشوة صادقة عليها.

هذا مضافاً إلى صدق الإدلاء بالمال إلى الحكّام لأكل أموال الناس، وهو منهيّ عنه بنصّ الآية الكريمة (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ )(2) من دون فرق بين أن يكون الأكل المذكور غرضاً أوّليّاً أو نهائيّاً للإدلاء ودفع المال، فلو لم يثبت أنّ الهديّة المذكورة رشوة فلا أقلّ أنّها إدلاء، ولكنّه أخصّ من المدّعى؛ لاختصاصه بالحكم بالباطل.

وإن أبيت عن ذلك كلّه، فيمكن القول بإلحاق الهديّة بالرشوة حكماً؛ لعدم احتمال الفرق بينهما في الغاية المذكورة، كما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره بقوله: «أو بحكمها بتنقيح المناط»، والمراد من تنقيح المناط هو التنقيح القطعي لا الظنّي، وعليه فلا يرد عليه ما أورده في مصباح الفقاهة حيث قال: «إنّ غاية ما يحصل من تنقيح المناط هو الظنّ بذلك، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً»(3).

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم قدس سره استدلّ - بعد استظهار الحرمة - بروايات اُخرى:

منها: قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «... وإن أخذ (أي الوالي) هديّة كان غلولاً، وإن أخذ

ص: 35


1- مستند الشيعة / ج 2، ص 526.
2- سورة البقرة / الآية 188.
3- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 271.

الرشوة فهو مشرك»(1).

واورد عليه أوّلاً: بأنّ الرواية ضعيفة السند، وثانياً: بأنّها واردة في هدايا الولاة دون القضاة.

وربّما قيل: لعلّ الوجه في حرمتها هو أنّها تكون عن كره وخوف من ظلم الوالي وجوره.

ومنها: ما ورد من أنّ هدايا العمّال غلولٌ ، وفي آخر: سحتٌ ، فقد روى الحسن بن محمّد الطوسي في الأمالي، عن أبيه عن ابن مهديّ ، عن ابن عقدة، عن عبد الرحمان، عن أبيه، عن ليث، عن عطاء، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال: «هديّة الاُمراء غلول»(2).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة أيضاً: «أوّلاً: بأنّ الرواية ضعيفة، وثانياً: بأنّها مختصّة بالاُمراء، وثالثاً: بأنّه يمكن أن يراد من إضافة الهدايا إلى العمّال إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول؛ بمعنى أنّ الهدايا التي تصل إلى الرعيّة من عمّال سلاطين الجور غلول، فتكون الرواية راجعة إلى جوائز السلطان وعمّاله - إلى أن قال: - وهذا الوجه الأخير وإن كان في نفسه جيّداً إلاّ أنّه إنّما يتمّ فيما إذا علم كون الهديّة من الأموال المحرّمة، وإلاّ فلا وجه لكونها غلولاً، على أنّه بعيد عن ظاهر الرواية»(3).

ثمّ إنه استدلّ النراقي قدس سره في المستند - مضافاً إلى ما ذكر - بالنبويّ المرويّ في كتب العامّة عن الساعدي قال: استعمل النبيّ صلى الله عليه وآله رجلاً يقال له اللثة على الصدقة، فلمّا قدم قال: هذا لكم وهذا اُهدي إليّ ، فقام النبيّ صلى الله عليه وآله على المنبر فقال: «أمّا بعد، فما بال العامل

ص: 36


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 94، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.
2- وسائل الشيعة / ج 27، ص 223، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 6.
3- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 270.

نستعمله فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا الذي اُهدي لي ؟! فهلاّ قعد في بيت أبيه واُمّه فنظر هل يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يقبل أحد منكم منها شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه!»(1).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بضعف السند، هذا مضافاً إلى أنّ موضوع الرواية هو عمّال الصدقة، فلا ترتبط بما نحن فيه. إلاّ أن يقال: إنّ قوله صلى الله عليه وآله في الذيل: «فهلاّ قعد في بيت أبيه واُمّه فنظر هل يهدى له أم لا...» إلخ يشعر بالتعميم؛ فإنّه كالكبرى، ولا خصوصية للعامل.

وأمّا الاستدلال بما رواه الصدوق (رحمه الله) بأسانيد تقدّمت في إسباغ الوضوء عن الرضا، عن آبائه، عن عليّ عليه السلام في قوله تعالى: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ ) ، قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديّته»(2).

ففيه - كما في مصباح الفقاهة -: «أوّلاً: أنّ الرواية مجهولة، وثانياً: أنّها وردت في خصوص الهديّة بعد قضاء حاجة المؤمن، ولم يقل أحد بحرمتها هناك؛ لما دلّ على جواز قبول الهديّة من المؤمن بل من الكافر، ولما دلّ على استحباب الإهداء إلى المسلم. إذاً فلابدّ من حمل الرواية على الكراهة ورجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه؛ لئلاّ يقع في الرشوة يوماً»(3).

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «وللرواية توجيهات تكون الرواية على بعضها محمولة على

ص: 37


1- مستند الشيعة / ج 2، ص 526. المبسوط (للشيخ) ج 8، ص 151، آداب القاضي (للبيهقي) / ج 10، ص 138.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 95، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 11.
3- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 271.

ظاهرها من التحريم، وعلى بعضها محمولة على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة؛ لئلاّ يقع في الرشوة يوماً»(1).

ولعلّ المراد من بعض التوجيهات التي تكون الرواية معه محمولة على التحريم: هو ما إذا كانت الحاجة هي القضاء، وكان القاضي مراعياً في قضائه جانب أشخاص يعطونه الهدايا بعد القضاء؛ فإنّها لو لم تصدق عليها الرشوة اُلحقت بها حكماً؛ لعدم الفرق بين إعطاء الهديّة ليحكم القاضي وبين أن يحكم القاضي لكي يهدي إليه المحكوم له، ويؤيّده: تطبيق قوله تعالى: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ ) .

فتحصّل: أنّ الروايات المذكورة غير مرتبطة بالهديّة المعطاة للقاضي، ولكن صدق الرشوة على هديّة القضاة قبل القضاء لغةً وعرفاً يكفي في حرمتها إن أوجبت المودّة المؤثّرة في الحكم، هذا مضافاً إلى صدق الإدلاء فيما إذا كانت الهديّة للحكم بالباطل. ويلحق بالهديّة المذكورة ما إذا حكم القاضي لشخص أو أشخاص ليعطى الهديّة بعد الحكم.

ثمّ إنّ القاضي لو صرّح بأنّي لا أحكم على طبق مراد المعطي ولكن مع ذلك كانت الهدايا مؤثّرة فيه لكونها مورثة للمودّة الموجبة للحكم له، لم يفد ذلك في رفع الحرمة؛ لصدق الرشوة عليها لغةً وعرفاً. نعم لو علم المعطي أنّ الهدايا لا تؤثّر في الحاكم بوجه لأنّ القاضي يحكم له على طبق الموازين الشرعية فلا تصدق الرشوة عليها؛ لأنّ إعطاءها حينئذ لا يكون لغرض الحكم؛ لا الغرض الأوّلي ولا النهائي، بل يكون مرجعه إلى تشويق القاضي نحو ما بنى عليه من الحكم على طبق الموازين الشرعية، وعليه فلا تحرم الهدايا غير المؤثّرة في الحكم؛ لأنّها لا تكون بداعي الحكم أصلاً، بل تعطى

ص: 38


1- المكاسب المحرّمة / ص 31.

لأغراض اُخرى غير الحكم.

ودعوى: إطلاق النصّ ومعاقد الإجماعات مع عدم التأثير في الحاكم.

غير ثابتة؛ لأنّ الرشوة هي التي يكون الداعي فيها الحكم، والمفروض انتفاؤه.

ثمّ إنّ الرشوة لا تنحصر في الهدايا المالية، بل تشمل كلّ نفع سواء كان عيناً أو منفعةً أو عملاً أومدحاً وثناءً ، ونحوها.

قال السيّد في الملحقات: «الرشوة قد تكون مالاً من عين أو منفعة، وقد تكون عملاً للقاضي كخياطة ثوبه أو تعمير داره أو نحوهما، وقد تكون قولاً كمدحه والثناء عليه لإمالة قلبه إلى نفسه ليحكم له، وقد تكون فعلاً من الأفعال كالسعي في حوائجه وإظهار تعظيمه وتبجيله ونحو ذلك، فكلّ ذلك محرّم؛ إمّا لصدق الرشوة عليها أو للإلحاق بها»(1).

ونحوه في الجواهر حيث قال: «إنّ الرشوة خاصّة في الأموال وفي بذلها على جهة الرشوة، أو أنّها تعمّها وتعمّ الأموال بل والأقوال، كمدح القاضي والثناء عليه والمبادرة إلى حوائجه وإظهار تبجيله وتعظيمه ونحو ذلك ؟ - الى أن قال: - قد يقوى في النظر: الثاني، وإن شكّ في بعض الأفراد في الدخول في الاسم أو جزم بعدمه فلا يبعد الدخول في الحكم»(2).

وممّا ذكر يظهر حكم المعاملات المشتملة على المحاباة والمساهلة والمسامحة، كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم؛ فإنّه داخل تحت عنوان الرشوة، سواء كان غرضه الأصلي من المعاملة هو حكم القاضي له باطلاً أو مطلقاً - حقّاً أو باطلاً -

ص: 39


1- الملحقات / ج 3، ص 23.
2- جواهر الكلام / ج 22، ص 147.

بحيث لولا ذلك لم يقصد المعاملة أصلاً، أو كان غرضه من تقليل الثمن هو الحكم المذكور وإن قصد المعاملة، ولو لم يحكم له تصدق الرشوة عليه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغرض والداعي كالمشروط في العقد أو لا يكون، كلّ ذلك لصدق الرشوة.

بل يندرج في الرشوة ما إذا قصد أصل المعاملة وحابى فيها لجلب قلب القاضي حتّى يحكم له؛ لما عرفت من صدق الرشوة عليه لغةً وعرفاً، فإنّه كالهديّة التي توجب المودّة الموجبة للحكم له.

بل أدرج فيها في إرشاد الطالب ما إذا باع من القاضي بثمن المثل ولكن كان البيع بداعي الحكم له بحيث لولا حكمه له أمسك على متاعه ولم يبعه لا منه ولا من غيره، كما يتّفق ذلك في بعض أزمنة عزّة وجود المبيع(1). وهو كذلك؛ لأنّه نفع، وإن أبيت من صدق الرشوة فلا أقلّ تكون المحاباة في الصور المذكورة ملحقة بالرشوة في الحكم، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره(2)؛ لعدم الفرق بينها وبين الرشوة.

نعم، لو قصد من المحاباة مجرّد تعظيم القاضي أو التودّد المحض أو التقرّب إلى الله فلا وجه للحرمة.

المقام السابع: في الهدايا للاُمراء والولاة والعمّال وغيرهم ممّن يشتغل في الحكومة

ولا يخفى عليك أنّ إطلاق كلمات اللغويّين في معنى الرشوة يشملها؛ لما عرفت من تصريح الفيّومي في المصباح المنير بأنّ : «الرشوة - بالكسر -: ما يعطيه الشخص للحاكم

ص: 40


1- ارشاد الطالب / ج 1، ص 157.
2- المكاسب المحرّمة / ص 31.

وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد». وعليه فبذل شيء للوالي لكي يحكم له في الأحكام العرفية رشوة لغةً .

والقول: بانصراف الحكم في اللغة إلى خصوص الأحكام القضائية، مردود:

اوّلاً: بأنّ الحكم أعمّ والحاكم لا يختصّ بالقاضي.

وثانياً: بأنّ عبارة المصباح المنير لا تختصّ بالحكم ولا بالحاكم؛ لعطف قوله: «أو يحمله على ما يريد»، على قوله قبل ذلك من أنّ : «الرشوة: هي ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم له» ومن المعلوم أنّه أعمّ . ويؤيّده: إطلاق الرشوة على ما يعطى لهم في بعض الروايات:

منها: قوله عليه السلام: «... وإن أخذ (أي الوالي) هديّة كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(1).

وكيف كان، يمكن القول بحرمتها؛ للمطلقات الدالّة على حرمة الرشوة، مضافاً إلى الروايات الخاصّة الواردة في الاُمراء والعمّال.

ومنها: قول النبيّ صلى الله عليه وآله: «هدية الاُمراء غلول»(2)، بناءً على أنّ الإضافة لاميّة لا نشويّة.

ومنها: رواية الساعدي عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال: «أمّا بعد، فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا الذي اُهدي لي، فهلاّ قعد في بيت أبيه واُمّه فنظر هل يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يقبل أحد منكم منها شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة

ص: 41


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 94، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.
2- المصدر السابق / ج 27، ص 223، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 6.

يحمله على عنقه!»(1) وغير ذلك.

ويشكل ذلك: اوّلاً: بمنع دلالة المطلقات؛ فإنّها منصرفة إلى الرشا في الأحكام القضائية، فشمولها بالنسبة إلى الأحكام العرفية غير واضح. ويؤيّده: وقوع قوله: «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم» بعد قوله: «ومنها (أي السحت): اُجور القضاة».

ودعوى: أنّ النصوص وإن كان كثير منها في الرشا في الحكم القضائي لكن فيها ما هو مطلق، كقوله عليه السلام: «وإن أخذ الرشوة فهو مشرك» أو كقول النبيّ صلى الله عليه وآله: «لعن الله الراشي والمرتشي»، ومثلهما كاف لإثبات حرمة مطلق الأحكام ولو كانت أحكاماً عرفية؛ لعدم التنافي بين هاتين الروايتين وبقيّة الروايات الواردة في الأحكام القضائية لأنّها مثبتات، فلا وجه لدعوى تقييدهما بالرشا في الأحكام القضائية بناءً على انصراف المطلقات إليها؛ ولذلك ذهب في الجواهر إلى إمكان الأخذ بإطلاق الروايتين لإثبات الحرمة في غير الأحكام أيضاً(2).

مردودة: بأنّ الروايتين ضعيفتان، فلا يمكن إثبات الحرمة بهما في غير الأحكام القضائية.

وعليه فلا دليل لحرمة هدايا الاُمراء والولاة والعمّال من جهة المطلقات الواردة في حرمة الرشوة بعد انصرافهاإلى الأحكام القضائية.

وثانياً: بأنّ الروايات الخاصّة الواردة في هدايا الاُمراء والعمّال ضعيفة، فلا يمكن رفع اليد عن عمومات أدلّة النفوذ بمثلها.

ص: 42


1- سنن البيهقي / ج 10، ص 138.
2- جواهر الكلام / ج 26، ص 147-148.

ولعلّه لذلك ذهب في مصباح الفقاهة إلى أنّ هديّة الولاة مكروهة(1)؛ لكفاية الروايات الخاصّة في الحكم بالكراهة.

نعم، لا يجوز للاُمراء والولاة والعمّال ونحوهم التواني في الخدمات التي اُنيطت بهم، أو المطالبة بالاُجرة أو الجعل أو غيرهما من الهدايا؛ لأنّهم كالأجير الخاصّ في الإتيان بتلك الخدمات في المدّة المعيّنة بالمباشرة، فلا يجوز لهم مطالبة شيء آخر أو أخذ شيء آخر وراء ما تعاقدوا عليه مع الحكومة؛ لأنّ المطالبة أو أخذ شيء آخر ينافي اتّفاقهم مع الحكومة في الإتيان بالخدمات المعيّنة لأرباب الحاجة مجّاناً، فكما لا يجوز للأجير الخاصّ أن يعمل لغيره بالإجارة أو الجعالة أو التبرّع ولا لنفسه عملاً ينافي حقّ المستأجر إلاّ مع إذنه - كما ادّعي عليه الإجماع، مضافاً إلى خبر إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجر معلوم، فيبعثه في ضيعة، فيعطيه رجل آخر دراهم ويقول: اشترِ بها كذا وكذا وما ربحت بيني وبينك ؟ فقال: «إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس»(2). - فكذلك في المقام؛ لأنّ الولاة ونحوهم كالأجير الخاصّ ؛ في أنّ عملهم في الوقت المعيّن ملك للمستأجر وهو الحكومة، وملكية الحكومة بالنسبة إلى عملهم تمنع عن تعلّق عقد جديد آخر به أو الإتيان بكيفية تنافي ذلك. بل لو أبرموا عقوداً اُخرى بعد تحقّق الإجارة للأعمال الموظّفة بالمباشرة في الوقت المعيّن من دون أخذ شيء آخر من غير المستأجر، كانت العقود المتأخّرة منافية لحقّ المستأجر وتصرّفاً في حقّه، ومقتضى القاعدة هو بطلانها إلاّ إذا أذن المستأجر.

ولذلك قال العلاّمة الخوئي قدس سره في مسألة الأجير الخاصّ : «وبما أنّ الإجارة الثانية قد

ص: 43


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 270.
2- الكافي / ج 5، ص 287، ح 1.

وقعت على ملك المستأجر فتكون صحّتها منوطة بإجازته، فإن أجازها استحقّ الاُجرة المسمّاة في تلك الاُجرة، وإن ردّها بطلت وكان بالخيار بين فسخ الإجارة الاُولى واسترجاع المسمّاة فيها، وبين الإمضاء والمطالبة باُجرة المثل للمنفعة الفائتة»(1).

وعليه، فلا يملك الأجير فيما إذا أجاز المستأجر الإجارة الثانية إلاّ الاُجرة المسمّاة في الإجارة الاُولى، وإذا ردّ المستأجر الإجارة الثانية صارت الإجارة الثانية باطلة، ولا يملك الأجير الاُجرة المسمّاة فيها؛ لبطلان العقد. وحينئذ فإن فسخ المستأجر الإجارة الاُولى لزم على الأجير ردّ الاُجرة المسمّاة في الإجارة الاُولى؛ لفسخها. وإن أبقى المستأجر الإجارة الاُولى استحقّ الأجير الاُجرة المسمّاة في الإجارة الاُولى، ولكن يلزم على الأجير أن يعطي المستأجر اُجرة المثل للمنفعة الفائتة؛ بسبب إتيان العمل للغير.

ثمّ إنّه في صورة ردّ المستأجر الإجارة الثانية وفسخ الإجارة الاُولى هل يستحقّ الأجير شيئاً بالنسبة إلى ما عمله للغير أم لا؟

يمكن أن يقال: لا يستحقّ الاُجرة المسمّاة في الإجارة الثانية لبطلانها؛ وذلك لوقوعها في حقّ الغير وردّ المستأجر، وعدم كفاية ارتفاع الحقّ عنه بفسخ المستأجر للإجارة الاُولى في صحّة الإجارة الثانية بعد وقوعها. نعم حيث لم يكن العمل للغير مجّاناً فإذا ارتفع حقّ المستأجر عنه بفسخ الإجارة الاُولى صار العمل للأجير، فيستحقّ اُجرة المثل في مقابل عمله للغير إن كان حلالاً، وعليه فيجب على الغير أن يعطي اُجرة المثل للعمل المذكور إلى الأجير، لا الاُجرة المسمّاة في الإجارة الثانية.

هذا كلّه بالنسبة إلى حكم الأجير والمستأجر الأوّل، وأمّا حكم المستأجر الثاني

ص: 44


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة / ص 304.

بالنسبة إلى المستأجر الأوّل فيمكن أن يقال إنّه ارتكب المعصية مع الالتفات بسبب استيلائه على المنفعة المملوكة للمستأجر الأوّل من دون استيئذان منه، فإذا دعا الثاني الأجير لعمل بإجارة أو نحوها فبعد قبوله وشروعه فيه فقد استولى على المنفعة المملوكة للمستأجر الأوّل، وهذا الاستيلاء عدوان وظلم ومحرّم بالنسبة إلى حقّ المستأجر الأوّل، بل لو زاد زيادة حكمية كالوصف والهيئة بسبب عمل الأجير على شيء من أموال المستأجر الثاني كالثياب ونحوها، فإن لم يُجِز المستأجر الأوّل الإجارة الثانية ولم يفسخ الإجارة الاُولى استحقّ اُجرة المثل على الأجير بالنسبة إلى المنفعة الفائتة، وصار شريكاً في مالية الثياب بالنسبة إلى الزيادة الحكمية الحاصلة في الملك؛ إذ الوصف والهيئة وإن لم يلحظا مع الموصوف مستقلاًّ ولكنّه فيما إذا كان المالك واحداً، بخلاف ما إذا كان المالك متعدّداً؛ ولذا ذهب بعض مشايخنا إلى الشركة في المالية عند الفسخ أو الإقالة وغيرهما، كما هو مذكور في خيار الغبن بالنسبة إلى الزيادة الحكمية، فتأمّل.

وهكذا الأمر في سائر العقود المنافية للإجارة الاُولى، بل يمكن أن يقال فيما إذا قبل الهدايا ليأتي لهم بالخدمات الموظّفة ففوّت الأجير على المستأجر ملكه؛ لأنّه استأجره على أن يأتي بالخدمات الموظّفة لأرباب الحاجة مجّاناً، فلا جرم يضمن الأجير ويثبت للمستأجر خيار تعذّر التسليم، فله الفسخ واسترجاع تمام الاُجرة المسمّاة، كما أنّ له الإبقاء والمطالبة باُجرة المثل عوضاً عن المنفعة الفائتة كلاًّ أو بعضاً.

ودعوى: أنّ الإجارة السابقة تعلّقت بالكلّي؛ فلا تنافيه العقود المتأخّرة.

مندفعة: بأنّ الكلّي المنحصر فرده في الواحد - كما هو المفروض في الأجير الخاصّ - لا يصلح لتعلّق عقد آخر به(1).

ص: 45


1- انظر: كتاب الإجارة (للمحقق الأصفهاني) / ص 119، وغيره من المصادر.

فتحصّل: أنّ الإجارة الخاصّة تمنع عن المطالبة أو أخذ شيء آخر وراء ما عقدوا مع الحكومة، وعليه فأخذ الاُجرة أو الجعل أو الهدايا من غير الحكومة في مقابل الخدمات الموظّفة محرّم. نعم لو كانت هذه الاُمور للخدمات في غير وقت الخدمة أو في مقابل ما يكون خارجاً عن اتّفاقهم مع الحكومة فلا يحرم، كما أنّ الهدايا إذا لم تكن في مقابل عمل أو كانت بعد العمل لمجرّد التودّد والمحبّة أو التعظيم والتبجيل، فلا دليل على الحرمة إلاّ إذا اشترط عدم قبول مثلها في عقد لازم أو منعت عنها الحكومة بالحكم السلطاني فلا يجوز.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ إشاعة الارتشاء بين الاُمراء والولاة وعمّال الحكومة توجب اختلال النظام ووقوع الناس في المشاقّ ووهن الحكومة الإسلامية، وكلّ ما يكون كذلك فهو محرّم؛ لوجوب إقامة النظام وحفظ النظام الإسلامي وإعزازه، ومن مقدّمات هذا الوجوب هو ترك ما ينافيه وهو إشاعة الارتشاء بينهم. ولكنّه أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المحرّم في هذا الدليل هو الإشاعة لا أصل الرشوة، على أنّ للحاكم الإسلامي أن يمنع عن ذلك فيما إذا رأى المصلحة في المنع عنه ولو لم يكن محرّماً بالعنوان الأوّلي، فيجب إطاعته مادام المنع باقياً.

وربّما يستدلّ على حرمة الارتشاء في المقام بالإجماع. ولكنّه مخدوش أوّلاً: بعدم ثبوت الإجماع، وثانياً: بأنّه محتمل المدرك.

المقام الثامن: في حكم الرشوة في غير الأحكام القضائية والإجرائية والعرفية

اشارة

وينقدح السؤال حينئذ عن حكم إعطاء الرشوه لغير العمّال والولاة والاُمراء في مقابل

ص: 46

أن يعمل له مايريد؛ هل هو جائز أو لا؟

والرشوة وإن كانت صادقة عليه من جهة إطلاق اللغة والعرف، ولكن قد عرفت عدم دليل عامّ على حرمة مطلق الرشوة؛ لاختصاص الأدلّة بالأحكام فلا تشمل غيرها، فحينئذ يجب ملاحظة مقتضى القواعد، فنقول: إنّ للمسألة صوراً مختلفة:

الصورة الاُولى: أن يكون مورد الرشوة مباحاً

الصورة الاُولى: أن يكون الأمر المذكور مباحاً، فلا إشكال في بذل شيء لشخص لكي يعمله له؛ إذ لا دليل على حرمة بذل الرشوة مع كون العمل سائغاً في نفسه وصالحاً لأنّ يقابل بالمال وإن كان العمل ممّا يفعله كثيرون لمجرّد التعاون ولا يأخذون عليه مالاً، ويدلّ عليه - مضافاً إلى أنّ الجواز مقتضى القاعدة -: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ؟ قال: «لا بأس به»(1). بناءً على أنّ المراد من المنزل: المحلّ المشترك، كالمدارس، والمساجد، والأسواق، أو الأراضي المفتوحة عنوة، أو الموقوفة على قبيل، وهما منه.

والمراد من الإعطاء هو البذل بعنوان الرشوة لكي يرفع يده عمّا له حقّ الاستيفاء لا المعاملة بالنسبة إلى حقّ السبق ونحوه؛ وإلاّ فهو خارج عن الرشوة وداخل في المعاملة، ولا إشكال فيه؛ إذ من المعلوم أنّ مورد الرشوة مباح؛ لأنّ الباذل أيضاً ممّن يجوز له السكني، كما أنّ رفع اليد عمّا له حقّ الاستيفاء أيضاً جائز، وربّما استدلّ عليه أيضاً بما رواه الشيخ الطوسي قدس سره عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن إسماعيل بن أبي سمّال، عن محمّد بن أبي حمزة، عن حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام وقد سأله حفص الأعور فقال: إنّ السلطان يشترون منّا القرب والأدوات، فيوكّلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا، فنرشوه حتّى لا يظلمنا؟ فقال: «لا بأس ما تصلح به مالك. ثمّ سكت ساعة

ص: 47


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 278، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

ثمّ قال: «أرأيت إذا أنت رشوته يأخذ أقلّ من الشرط؟»، قال: نعم، قال: «فسدت رشوتك»(1).

بتقريب: أنّ الرواية فصّلت بين الحاجة المحلّلة والمحرّمة، فقوله: «لا بأس ما تصلح به مالك» يدلّ على جواز إعطاء الرشوة للمباح، وهو أن لا يظلمه الوكيل، وقوله: «أرأيت...» إلخ يدلّ على بطلان الرشوة؛ لكونها واقعة في مقابل المحرّم.

وفيه اوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة السند؛ لعدم توثيق إسماعيل بن أبي سمّال، والقول بأنّه موثّق لتوثيق النجاشي إيّاه عند ذكر أخيه إبراهيم غير سديد؛ لعدم إحراز توثيق النجاشي؛ لاحتمال أن يكون التوثيق مرتبطاً بأخيه، حيث قال: «إبراهيم بن أبي سمّال ثقة هو وأخوه إسماعيل بن أبي سمّال، رويا عن أبي الحسن عليه السلام».

وثانياً: أنّ الرواية وإن دلّت على جواز الرشوة لكنّها مختصّة بدفع الظلم، ومحلّ الكلام أعمّ منه، بل دفع الظلم من الضرورات التي تبيح الإعطاء للباذل دون المبذول له، والكلام في صورة جواز البذل والأخذ كليهما.

ولعلّ المقصود من ذيل الروياية هو إعطاء الرشوة للوكيل كي يأخذ اقل من المتّفق عليه، ومن المعلوم أنّ الرّشوة حينئذ تقع في مقابل الحرام وتكون فاسدة، بخلاف ما إذا كانت لرفع الظلم، والله العالم.

فتحصّل: أنّ إعطاء الرشوة في غير الأحكام لغير من يكون أجيراً للحكومة لا إشكال فيه إن كان العمل من المباحات، وهكذا لا إشكال في أخذها في الصورة المذكورة.

الصورة الثانية: أن يكون مورد الرشوة حراماً

الصورة الثانية: أن يكون الأمر المبذول له الرشوة محرّماً، ولا إشكال في كون الرشوة

ص: 48


1- تهذيب الأحكام / ج 7، ص 235، الباب 21 (باب الزيادات)، ح 45.

محرّمة، لا لكونه رشوة لعدم الدليل على حرمتها عدا بعض الإطلاقات التي تكون منصرفة إلى الرشا في الأحكام، بل لأنّه أكل للمال بالباطل، ومقتضاه - كما أفاد شيخنا الأعظم قدس سره - أنّه لا يحرم القبض والإقباض من حيث المعاملة، بل الحرمة من جهة فساد المعاملة والتصرّف فيه؛ لأنّ المبذول باق على ملك باذله، فلا يجوز للمبذول له أن يتصرّف فيه. ولا ينافي ما ذكر من عدم حرمة القبض والإقباض في نفسه من حيث المعاملة حرمته من جهة اُخرى، كالمعاونة على الإثم، أو إعداد مقدّمات الحرام بناءً على حرمة المقدّمات. وكيف كان فيدلّ عليه - مضافاً إلى أنّه مقتضى القاعدة -: ذيل خبر حكم بن حكيم الصيرفي بناءً على ما عرفت من أنّ المراد منه هو إعطاء الرشوة كي يأخذ الوكيل أقلّ ممّا التزمه مع الحكومة، ومقتضاه هو فساد الرشوة.

هذا مضافاً إلى ما روي عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال - في توبيخ مرضعة لطفل لقيط أمرها بجلب امرأة تأتيها وتأخذ الطفل وتقبّله وتقول: يا مظلوم، يابن المظلومة، يابن الظالم! ولكن لم تجلبها من جهة هديّة أعطتها إيّاها لعدم جلبها -: «يا عدوّة الله! ما صنعت بوصيّتي ؟»، قالت: يابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله، طفت بالطفل جميع المصلّى فما وجدت أحداً أخذه منّي، فقال لها أميرالمؤمنين عليه السلام: «كذبت وحقّ صاحب هذا القبر! أتتك امرأة وأخذت منك الطفل وقبَّلَته وبكت، ثمّ ردَدَتْه إليك وأنت تشبّثْتِ بها فأعطتك الرشوة، ثمّ وعَدَتكِ بمثلها». فارتعدت فرائص المرضعة، ثمّ تعجّبت وقالت: يابن عمّ رسول الله، أتعلم الغيب ؟ قال: «معاذ الله، لا يعلم الغيب إلاّ الله، وهذا علم علّمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله»، فقالت: يا أميرالمؤمنين، الصدق حسن؛ الكلام كذلك كان، وإنّي بين يديك؛ مرني مهما تأمرني...»(1).

ص: 49


1- انظر: كتاب أسرار الشهادة / ص 550.

لأنّ هذه الرواية تدلّ على ذمّ أخذ الرشوة في مقابل ترخيص غير مجاز؛ إذ التعبير ب - «عدوّة الله» للمرأة التي تخلّفت عن أمره وعن الهديّة بالرشوة يشير إلى حرمة الرشوة المذكورة. ولكنّ الرواية - مضافاً إلى ضعفها - لا تشمل كلّ حرام كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المحرّم ربّما يكون هو تقديم مَن حقُّه التأخير على مَن حقّه التقديم فإنّه ظلم، فكلّ ما يأخذه في مقابل هذا التقديم محرّم، فإذا قدّم من حقّه التأخير على من حقّه التقديم واشترى شيئاً فالباطل هو ما أخذه في مقابل التقديم، وأمّا الاشتراء فلا وجه لبطلانه وإن كان محرّماً بالنهي الغيريّ .

ولا فرق فيه بين أن يكون آخذ الرشوة متّحداً مع البائع أو متعدّداً، ففي صورة الاتّحاد يكون ما بإزاء التقديم المذكور محرّماً وما بإزاء الشيء المشترى محلّلاً.

ولو قرّر البائع التقديم لصنف خاصّ أو لأقربائه وأحبّائه، فالتقديم فيه لا يكون ظلماً؛ لأنّ الحقّ متقيّد بعدم مورد من موارد هذا الاستثناء، فإذا سبق أحد إلى الشراء وجاء بعده أحد من الصنف المذكور لم يكن تقديمه ظلماً؛ لأنّ الظلم فيما إذا أثبت الحقّ للسابق، وفي الفرض لم يثبت الحقّ للسابق مع مجيء الصنف المذكور كما لا يخفى.

وهكذا لو كان للسابق حقّ اشتراء عدد من الشيء، واستفاد من هذا الحقّ لاشتراء بعض الأعداد لأحبّائه وأصدقائه، لم يكن تقديم بعض الأحبّاء حينئذ ظلماً؛ لأنّه استفاد من حقّه ولم يتعدّ عن الحدّ المجاز.

وبالجملة، إذا أخذ في مقابل التقديم المجاز شيئاً لم يكن محرّماً، بخلاف ما إذا أخذ في مقابل التقديم غير المجاز فإنّه ظلم ومحرّم.

الصورة الثالثة: أن يكون المورد مشتركاً بين الحلال والحرام

الصورة الثالثة: أن يكون الأمر مشتركاً بين الحلال والحرام، لكن بذل شيئاً بعنوان الرشوة على إصلاحه حراماً أو حلالاً، فقد ذهب الشيخ الأعظم قدس سره إلى حرمته معلّلاً ذلك

ص: 50

بأنّه أكل للمال بالباطل، مضافاً إلى إمكان الاستدلال على حرمته بفحوى إطلاق ما تقدّم في هديّة الولاة والعمّال. ولعلّ مراده من الفحوى أنّ الهديّة إذا كانت محرّمة فالرشوة محرّمة بطريق أولى.

وأورد عليه اوّلاً: - كما في مصباح الفقاهة -: بأنّ أخذ المال على الجهة المشتركة بين المحلّل والمحرّم ليس من أكل المال بالباطل، فإنّ أكل المال إنّما يكون باطلاً إذا كان بالأسباب التي علم بطلانها في الشريعة كالقمار والغزو ونحوهما، ولم يعلم بطلان أخذ المال على العمل المشترك بين الحلال والحرام، فلا يكون من مصاديق أكل المال بالباطل(1).

ويمكن أن يقال: إنّ اللازم في الصحّة والحلّية هو إحراز عدم كونه أكلاً للمال بالباطل بعد تقييد الأسباب الشرعية بما لم يكن باطلاً، فما لم يحرز ذلك لا تشمله أدلّة النفوذ، ومقتضى الأصل هو عدم الانتقال، فلا يجوز التصرّف فيه؛ فجواز التصرّف متفرّع على الانتقال، وهو متفرّع على شمول أدلّة النفوذ، وهو متفرّع على تقييده بالحلال، والمفروض عدمه.

وثانياً: - كما في إرشاد الطالب -: إذا كان متعلّق الإجارة عملاً يتحقّق حلالاً وحراماً فلابدّ من تقييد مورد الإجارة في عقدها بتحقّقه حلالاً؛ لئلاّ يكون الأمر بالوفاء بها منافياً لما دلّ على حرمة العمل ويعمّه وجوب الوفاء بها على كلّ تقدير، ومع إطلاق الإجارة - فضلاً عن التصريح بالإطلاق - لا يمكن أن يعمّها كما هو المقرّر في البحث عن اجتماع الأمر والنهي(2).

ص: 51


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 272.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 155.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ أدلّة نفوذ الإجارة مختصّة بالمنافع المشروعة والمحلّلة التي يمكن أن يستوفيها المالك بنفسه فيملّكها للغير بالإيجار، دون المنافع المحرّمة التي ليست له السلطنة عليها، ففي إجارة الأعمال لو آجر نفسه لعمل محرّم - من قتل أو ضرب أو كذب أو نقل خمر من مكان إلى آخر ونحو ذلك من المحرّمات الشرعية - لم تصحّ الإجارة؛ نظراً إلى ما ذكر من عدم السلطنة له على هذه الأعمال بعد النهي الشرعي، فلا تعتبر ملكيّته لما هو ممنوع شرعاً ولا سلطنة له عليه، فلا إطلاق لأدلّة وجوب الوفاء حتّى يمنع عن أدلّة الحرمة سواء قلنا بجواز الاجتماع أم لم نقل؛ إذ مع حرمة المنافع لا موضوع لأدلّة نفوذ الإجارة حتّى يتنافي دليل نفوذها عند الإطلاق مع أدلّة الحرمة كي يحكم عليه بما تقرّر في مبحث اجتماع الأمر والنهي، ولذا اشترط الفقهاء في صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة(1).

فتحصّل: أنّ الإجارة ونحوها تبطل فيما إذا كان العمل مشتركاً بين الحلال والحرام وبذل شيئاً على إصلاحه حلالاً أو حراماً؛ لعدم احراز شمول أدلّة النفوذ بالنسبة إليها، وعدم إحراز شمولها لعدم معلومية إباحة العمل. وأمّا الاستدلال بفحوى ما دلّ على حرمة الهدايا للولاة، ففيه - مضافاً إلى ضعف الروايات المذكورة في الهدايا للولاة -: أنّ فحواها، كما أفاد العلاّمة الخوئي قدس سره، هو حرمة إعطاء الرشوة للولاة والعمّال، لا غيرهما من الناس(2).

ثمّ على تقدير البطلان، فإن عمل الأجير أو المبذول له عملاً مباحاً فهل يستحقّ شيئاً أو لا؟

ص: 52


1- انظر: مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة (للعلاّمة الخوئي قدس سره) / ص 43.
2- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 272.

ذهب في إرشاد الطالب إلى استحقاق اُجرة المثل؛ لتضمّن الإجارة الإذن في العمل الموجب للضمان، بخلاف ما إذا أتى بعمل محرّم فإنّه لا يستحقّ شيئاً، فإنّ أخذ المال في مقابل الحرام أكل له بالباطل. وأوضح من ذلك ما إذا استأجره للجامع بين قراءة القرآن أو الغناء، فعلى تقدير قراءة القرآن يستحقّ اُجرة المثل؛ لقاعدة الضمان المستفاد من الأمر بالعمل والإذن فيه، وعلى تقدير التغنّي لا يستحقّ شيئاً(1).

وبالجملة، فالمباح مأذون فيه عند إجارة العمل المشترك بين الحلال والحرام، ومقتضى كونه مأذوناً فيه أنّ العمل المباح المحترم يؤتى به بإذن المؤجر وطلبه، فالعامل يستحقّ حينئذ اُجرة المثل بعد ما عرفت من بطلان الإجارة.

المقام التاسع: في ضمان القضاة بالنسبة إلى المأخوذ اُجرة أو جعالة أو رشوة

اشارة

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ كلّ ما حكم بحرمة أخذه وجب على الآخذ ردّه وردّ بدله مع التلف إذا قصد مقابلته بالحكم، كالجعل والاُجرة، حيث حكم بتحريمهما، وكذا الرشوة لأنّها حقيقةً جعل على الباطل، ولذا فسّره في القاموس بالجعل. ولو لم يقصد بها المقابلة بل أعطى مجّاناً ليكون داعياً على الحكم - وهو المسمّى بالهديّة - فالظاهر عدم ضمانه؛ لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانية فاسدة؛ إذ الداعي لا يعدّ عوضاً، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده...»(2).

ولا يخفى عليك ما فيه؛ لما مرّ من عدم اختصاص الرشوة بما يقابل الباطل، كما لا

ص: 53


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 155-156.
2- المكاسب المحرّمة / ص 31.

وجه لاختصاصها بصورة المقابلة؛ لصدقها على ما إذا كانت الهديّة بنحو الداعي كما مرّ. وكيف كان فالتحقيق في المسألة يقتضي ملاحظتها بصورها، وهي كما يلي:

الصورة الاُولى: أن يكون المعطى عوضاً عن الحكم بنحو الإجارة أو الجعالة

الصورة الاُولى: أن يكون المعطى عوضاً عن الحكم بنحو الإجارة أو الجعالة، فلا اشكال في حرمته وعدم انتقاله، كما تدلّ عليه الروايات التي منها: صحيحة عمّار بن مروان، حيث قال عليه السلام فيها: «منها (أي من أنواع السحت) اُجور القضاة...»؛ إذ الاُجور إذا كانت سحتاً ومحرّمة لا تنتقل إلى القضاة، فيجب عليهم ردّها مع بقائها، وضمانها عند تلفها، كما يدلّ عليه النبويّ المشهور: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»؛ وذلك لأنّ الحديث يدلّ على اشتغال العهدة بالنسبة إلى العين، فمن آثار هذا الاشتغال والمسؤولية: وجوب حفظها، وتأديتها إلى مالكها، وضمان ماليّتها عند تلفها.

لا يقال: إنّ هذا الحديث مرسل لا سند له، وإنّما نقله العلاّمة قدس سره في كتبه مرسلاً.

لأنّا نقول: إنّ ضعفه منجبر بعمل القدماء؛ حيث استدلّ به الشيخ في كتابي الغصب والرهن من الخلاف(1)، وفي كتاب الغصب من المبسوط(2). وكذا ابن إدريس في السرائر، حيث أسنده جزماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في كتاب الرهن في موضعين(3)، واحتجّ به على المخالف في كتاب الغصب(4)، واستدلّ به في كتابي الغصب(5) والوديعة(6). ومن المعلوم أنّ استدلاله - خصوصاً إسناده جزماً مع أنّه لم يعمل بالخبر الواحد - حاك عن

ص: 54


1- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 36، ص 91، المسألة 20 و ج 27/37، المسألة 17.
2- المصدر السابق / ج 36، ص 101.
3- المصدر السابق / ج 15، ص 135 و 146.
4- المصدر السابق / ج 16، ص 118.
5- المصدر السابق / ص 120.
6- المصدر السابق / ج 17، ص 135.

الوثوق بصدوره وشهرته عندهم بل عند الفريقين. واحتجّ به على المخالف ابن زهرة في كتاب الغصب من الغنية(1). والظاهر من عبارته أنّ المراد من «المخالف» المخالف في المسألة لا في المذهب.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: من أنّ القدماء وإن ذكروا هذه الرواية ولكن يحتمل أن يكون ذكرهم من باب الاحتجاج على المخالفين لا من باب الاستدلال للمسألة(2).

وعليه، فالحديث - كما أفاد في القواعد الفقهية - من ناحية السند من جهة شهرته بين الفريقين غنيّ عن البحث والتكلّم فيه؛ لأنّ هذه الشهرة توجب الوثوق بصدوره منه صلى الله عليه وآله(3). ومقتضى الحديث - كما عرفت - هو الضمان بالنسبة إلى التلف والإتلاف.

هذا مضافاً إلى إمكان الاستدلال بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»؛ إذ المفروض في هذه الصورة هو المعاوضة، ومقتضى صحيحها هو الضمان، ففاسده كذلك.

وأورد عليه في الملحقات بأنّه: لا دليل على القاعدة المذكورة(4). ولعلّه لكون الإجماع المدّعى على القاعدة - كما هو المحكي عن الشيخ الطوسي وابن إدريس - محتمل المدرك، أو لكون قاعدة اليد المدّعى أنّها مدرك هذه القاعدة مختصّة بالأعيان، أو لكون قاعدة احترام مال المؤمن المدّعى أنّها مدرك هذه القاعدة مختصّة بضمان الإتلاف فلا تشمل التلف السماوي، ولا منافاة بين عدم الضمان والاحترام، فهذه القاعدة - أي

ص: 55


1- المصدر السابق / ج 16، ص 109.
2- كتاب البيع / ج 1، ص 247.
3- القواعد الفقهية / ج 2، ص 87.
4- الملحقات / ج 3، ص 24.

قاعدة الاحترام - أخصّ من قاعدة «ما يضمن».

ويمكن أن يقال - كما أفاد في القواعد الفقهية -: إنّ مدركها هو قاعدة الإقدام؛ لما عليه بناء العقلاء في أبواب معاملاتهم على أنّه إذا أخذ شيئاً من الطرف بعنوان أنّه يعطي بدله وعوضه؛ فإن تراضيا على عوض معيّن وسمّياه - وهو الذي نسمّيه بالمسمّى - فإن تعذّر ذلك المسمّى فيرون المأخوذ مضموناً على الآخذ بالضمان الواقعي؛ أي المثل أو القيمة، فلو تلف المأخوذ في يده يرونه ضامناً، فإذا حكم الشارع بفساد معاملة وعدم لزوم أداء المسمّى لذلك الآخر فيرونه ضامناً بالضمان الواقعي، ولم يصدر ردع عن هذا البناء، فيكون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف عند القابض على القاعدة، ودليله: بناء العقلاء، مع عدم ردع الشارع الذي هو كاشف عن الإمضاء(1).

وإن شئت فاجعل الدليل الآخر هو قاعدة الإقدام بالتقريب المذكور في القواعد الفقهية الذي مرّ آنفاً، فتدبّر.

هذا ولكن يمكن الإيراد على الضمان بالإقدام: بأنّ التسلّط المجّاني لا يوجب الضمان؛ إذ الراشي راض بإتلاف المرتشي إيّاها، فيكون هو الهاتك لحرمة ماله؛ حيث إنّه سلّطه عليه مع علمه بعدم ملكيّته وحرمته عليه، فرضاه وإن كان مقيّداً بالعوض الذي هو الحكم إلاّ أنّ قيده حاصل بعد فرض الحكم له، فحاله حال سائر المقبوضات بالعقود الفاسدة، وقد بيّنّا فيها عدم الضمان مع التلف. نعم لو كان رضاه مقيّداً، بالحكم له، ولم يحكم له، يمكن أن يقال فيه بالضمان؛ لأنّ المفروض أنّ رضاه كان مقيّداً، والقيد لم يحصل(2). وعليه فلا إقدام على الضمان؛ فلا وجه للاستدلال بقاعدة «ما يضمن

ص: 56


1- القواعد الفقهية / ج 2، ص 84-86.
2- الملحقات / ج 3، ص 24.

بصحيحه»؛ لأنّ مدركها على الفرض هو قاعدة الإقدام.

نعم، يصحّ الاستدلال للضمان بقاعدة «على اليد» بناءً على كون الموضوع فيها هو اليد التي لا تكون مأذونة شرعاً؛ إذ المفروض أنّ اليد في المقام ليست مأذونة شرعاً.

الصورة الثانية: هي المحاباة مع القاضي بتقليل الثمن

الصورة الثانية: أن يحابي القاضي في المعاملة بتقليل الثمن أو بنفس بيع شيء عزيز الوجود، وقد مرّ أنّ الرشوة تصدق عليهما، ومقتضاه كون المبيع سحتاً؛ فلا توجب المعاملة الانتقال، ومعه يجب عليه ردّ العين إن كانت موجودة، وإلاّ فقيمتها الواقعية إن كانت قيميّة.

وذهب في مصباح الفقاهة إلى أنّ هذه الصورة كالصورة الاُولى في الحرمة التكليفية، ولكن لا وجه للضمان لما نقص من القيمة؛ فإنّ غاية الأمر أنّ المعاملة كانت مشروطة بالشرط الفاسد، وقد عرفت إجمالاً وستعرف تفصيلاً أنّ الشروط مطلقاً لا تقابل بجزء من الثمن، وأنّ الفاسد منها لا يوجب فساد المعاملة وإنّما يثبت الخيار فقط للمشروط له(1).

ويمكن أن يقال: اوّلاً: إنّ المحاباة لا تختصّ بصورة الشرط، بل تعمّ ما إذا حابى في أصل البيع في شيء عزيز الوجود.

وثانياً: إنّ الرشوة تصدق على المعاملة في الصورتين، ومع صدقها يحكم على المعاملة بالسحت، ومقتضاه البطلان الموجب للضمان بقيمته الواقعية، كما يشهد له خبر السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «السحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغيّ ، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن»(2).

ص: 57


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 275.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 93، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

وفي خبر يزيد بن فرقد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سألته عن السحت، فقال: «الرشا في الحكم»(1) وغير ذلك من الأخبار.

هذا مضافاً إلى ظهور قوله عليه السلام في صحيحة عمّار بن مروان -: «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم» بعد بيان موارد السحت من اُجور القضاة والفواجر وغيرهما - في كون الرشا في الحكم كفراً زائداً على ما في المذكورات من السحت.

أللهمّ إلاّ أن يقال: فرق بين ما إذا كان الغرض الأصلي من البيع هو حكم القاضي بحيث لو لم يكن ذلك لما أقدم عليه، وبين ما إذا كان الغرض من التقليل في الثمن هو ذلك لا أصل المعاملة؛ فإنّ الرشوة تصدق على المعاملة في الصورة الاُولى دون الثانية، بل الرشوة هي التقليل. ولكنّه كما ترى؛ لأنّ مرجع الصور إلى صدق الرشوة على المبيع المأخوذ سواء كان بتقليل الثمن أو لم يكن، وصدق السحت على المبيع كصدق السحت على الثمن يوجب البطلان؛ لدلالته على عدم الانتقال الموجب للضمان بقيمته الواقعية، وعليه فلا وجه لعدم الضمان بالنسبة إلى تقليل الثمن عند التلف.

الصورة الثالثة: هي إرسال الهدايا إلى القاضي بداعى الحكم له

الصورة الثالثة: أن يرسل إلى القاضي هديّة بداعي الحكم له، فقد ذهب الشيخ الأعظم قدس سره إلى أنّ : «الظاهر عدم ضمانه؛ لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانية فاسدة؛ إذ الداعي لا يعدّ عوضاً، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، وكونها من السحت إنّما يدلّ على حرمة الأخذ لا على الضمان، وعموم «على اليد» مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني؛ ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام».(2)

ويمكن أن يقال: إنّ الرشوة تصدق على الهديّة المذكورة لغةً ؛ لإطلاق كلمات

ص: 58


1- المصدر السابق / ح 4.
2- المكاسب المحرّمة / ص 31.

اللغويّين، بل تصدق عليها عرفاً، فمع الصدق يكون ما أخذه بعنوان الرشوة حراماً، ومقتضى حرمته وكونه سحتاً هو عدم انتقاله إليه. وحمل السحت على مجرّد الأخذ كما ترى؛ لأنّ الرشوة هي ما يعطى كما صرّح به في المصباح المنير، لا مجرّد الأخذ، ويؤيّده: عطفها في الأخبار على ثمن الميتة وثمن الكلب ومهر البغيّ ، فراجع.

وعليه، فيشمله عموم قاعدة «على اليد» وإن خُصّص بالأمانات بالدليل، فيبقى الباقي تحت العموم والتسليط المجّاني على وجه الحرمة ليس بأمانة، ولا دليل على خروجه عن عموم قاعدة «على اليد». وأمّا قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فهي غير واضحة الشمول للمقام مع الأخبار الدالّة على حرمة الرشوة وكونها سحتاً.

المقام العاشر: في عدم نفوذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان على القاعدة وبالحقّ

وذلك لأنّ أخذ الرشوة من الكبائر؛ لتنزيله منزلة الكفر في الأخبار المتعدّدة، كقوله: «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم»، ومقتضاه سقوط عدالة القاضي بأخذ الرشوة، ومعه لا يكون جامعاً للشرائط؛ فلا ينفذ حكمه.

ولذلك قال السيّد قدس سره في الملحقات: «لا ينفذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان على القاعدة وبالحقّ ؛ لصيرورته فاسقاً بأخذها. نعم لو تاب بعد الأخذ ثمّ حكم بالحقّ بعد التوبة صحّ ونفذ»(1). وهكذا لو تاب بعد الحكم ثمّ حكم مجدّداً صحّ ونفذ.

ص: 59


1- الملحقات / ج 3، ص 25.

المقام الحادي عشر: في عدم ابراء الذمة باعطاء الخمس أو الزكوة الى الحاكم بعنوان الرشوة

لو دفع رجل إلى الحاكم خمساً أو زكاة واجبة بعنوان الرشوة لم تبرأ ذمّته منهما؛ لعدم إمكان قصد القربة بإعطائهما؛ لأنّهما عند أدائهما رشوة محرّمة، ومقتضى الحرمة هو المبغوضية والمبعّدية، فلا يمكن التقرّب بالمبعّد؛ ولذلك قال السيّد في الملحقات: «لو دفع إلى الحاكم خمساً أو زكاة بقصد الرشوة لم تبرأ ذمّته منهما؛ لاعتبار القربة فيهما»(1)، فتأمّل.

المقام الثاني عشر: في الشبهة الموضوعية والحكمية

أمّا الاُولى: فربّما يقال بجواز أخذ هديّة شكّ في أنّها رشوة أو لا؛ لإطلاق أدلّة نفوذ الهبة. ويشكل ذلك: بأنّها معنونة بعدم كون الهبة رشوة، وهو غير محرز، والتمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية غير جائز، كما أنّ التمسّك بأصالة الحلّية في الشبهات المالية كالأعراض والنفوس لا يجوز. نعم لا مانع من إجراء أصالة الصحّة في فعل الواهب، ومقتضاها الانتقال والنفوذ؛ لأنّها من الأمارات.

ولقد أفاد وأجاد في الملحقات حيث قال بجواز أخذها حملاً لفعله على الصحّة، إلاّ إذا كانت هناك قرينة على إرادته منها الرشوة، كما إذا لم يكن من عادته ذلك قبل المرافعة.

والأولى عدم أخذها مطلقاً، ويمكن أن يقال بحرمتها حال المرافعة؛ لأنّه يصدق عليها الرشوة عرفاً، بل يمكن أن يقال بحرمتها تعبّداً؛ لما في بعض الأخبار من أنّ هدايا العمّال

ص: 60


1- المصدر السابق.

غلول أو سحت(1)، بناءً على أنّ المراد من حمل الفعل على الصحّة هو أصالة الصحّة. ولكنّ التمسّك ببعض الأخبار للحكم بالحرمة تعبّداً غير سديد؛ لضعفه.

وأمّا الثانية - أي الشبهة الحكمية -: فكما إذا شكّ في أنّ أخذ الرشوة مع عدم التأثير محرّم أو لا، فالشبهة مفهومية، ومقتضى القاعدة في الشبهات المفهومية هو الأخذ بالقدر المتيقّن، والرجوع في الزائد إلى المطلقات.

واستدلّ السيّد قدس سره في المورد: بأنّ الأصل البراءة من الحرمة(2)، فتأمّل.

المقام الثالث عشر: في حكم إعطاء الرشوة للقاضي فيما إذا توقّف استنقاذ الحقّ أو دفع الظلم أو التوصّل إلى الحاجة الضرورية على ذلك

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى قوله صلى الله عليه وآله في المعتبرة: «رُفع عن اُمّتي تسعة أشياء:... وما اضطرّوا إليه» هو جواز إعطاء الرشوة عند الاضطرار والضرورة.

ويؤيّده: خبر حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام وقد سأله حفص الأعور فقال: إنّ السلطان يشترون منّا القرب والأدوات، فيوكّلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا، فنرشوه حتّى لا يظلمنا؟ فقال: «لا بأس ما تصلح به مالك»(3).

كما يجوز إعطاؤها عند الإكراه؛ لقوله صلى الله عليه وآله: «رُفع عن اُمّتي:... وما استُكرهوا عليه».

وأمّا من لم يكن مضطرّاً أو مكرهاً فلا يجوز له إعطاء ذلك؛ لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ

ص: 61


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- تهذيب الأحكام / ج 7، ص 235، الباب 21 (باب الزيادات)، ح 45.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )(1) ؛ إذ الإدلاء هو الإعطاء، ولقوله صلى الله عليه وآله: «لعن الله الراشي، والمرتشي، ومن بينهما يمشي»(2).

بل يحرم التوسّط في الإيصال أو الاستزادة بل الاستنقاص؛ لصدق «من بينهما يمشي»، مضافاً إلى كونه إعانة على الإثم، فتأمّل.

ولكنّ الحرمة المذكورة مختصّة بموارد الرشا في الأحكام بناءً على انصراف أدلّة حرمة الرشوة إلى الرشا في الأحكام، وأمّا في غير تلك الموارد فهي تابعة لما يبذل فيه؛ فإن كان حراماً فهي حرام من باب مقدّمة الحرام أو الإعانة على الإثم فتأمّل، وإلاّ فلا حرمة إلاّ إذا كان أخذه منافياً لعقد لازم مع من استأجره - كعمّال الحكومة - فلا يجوز الإعطاء؛ لأنّه مناف لوجوب النهي عن المنكر، ولأنّه ربّما يوجب الإخلال بالنظام، فتدبّر جيّداً.

المقام الرابع عشر: في موارد اختلاف الدافع والقابض

ويمكن تصوير موارد اختلافهما كما يلي:

اوّلاً: لو ادّعى الدافع أنّ الرشوة هديّة ملحقة بالرشوة في الفساد والحرمة، وادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لداعي القربة أو غيرها، فاتّفقا في وقوع الهديّة ولكن اختلفا في الصحّة والفساد: قال الشيخ الأعظم قدس سره: «احتمل تقديم الأوّل؛ لأنّ الدافع أعرف بنيّته، ولأصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف. والأقوى تقديم الثاني؛ لأنّه يدّعي

ص: 62


1- سورة البقرة/ الآية 188.
2- مستدرك الوسائل / ج 17، ص 353، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، ح 8.

الصحّة»(1).

والمراد من تعليله بأنّه يدّعي الصحّة: أنّ قوله موافق لأصالة الصحّة، ومن المعلوم أنّ أصالة الصحّة في العقود - كما في مصباح الفقاهة - تتقدّم على جميع الاُصول الموضوعية، كما عليه بناء العقلاء والعلماء كافّة؛ إذ الدافع والقابض يتسالمان في شيء واحد وهو الهبة، وإنّما اختلافهما في أنّ الباذل ادّعى كونها على سبيل الرشوة والقابض ادّعى كونها على سبيل الهبة الصحيحة، فالأصل مع القابض، ومعه لا مورد لقاعدة «على اليد»؛ لأنّ موضوعها هو ما إذا وضع القابض يده على مال الدافع بغير عقد صحيح، والمفروض أنّ القابض وضع يده على مال الدافع بعقد صحيح، فأصالة الصحّة تنفي موضوع الضمان.

وأمّا تقديم الأعرف بالنيّة ففيه: أنّه لا دليل على ثبوت هذه القاعدة إلاّ في موارد خاصّة كإخبار المرأة عن الحمل أو الحيض أو الطهر، فلا يجوز التعدّي إلى غيرها كما في مصباح الفقاهة.

ثمّ لو لم نقل بتقديم قول القابض فقد صرّح الشيخ قدس سره بالضمان معلّلاً ذلك بأصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف.(2)

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بأنّ النزاع إن كان قبل تلف العين فالعين تستردّ إن لم تكن الهبة لذي رحم، وأمّا إذا كان النزاع بعد التلف فلا أثر له بوجه؛ فإنّه لا ضمان للهبة بعد التلف سواء كانت فاسدة أو صحيحة(3).

ص: 63


1- المكاسب المحرّمة / ص 32.
2- المصدر السابق.
3- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 276.

ولعلّه لما عرفت من قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، ولكن مع تقديم أدلّة الرشوة في الضمان على قاعدة «ما لا يضمن» تكون القاعدة متعنونة بما إذا لم تكن رشوة، فالتمسّك بها في المورد تمسّك بها في الشبهات المصداقية، ومقتضى عموم قاعدة «على اليد» هو الضمان بعد التلف، كما ذهب إليه الشيخ هنا.

ثانياً: لو ادّعى الدافع أنّها رشوة أو اُجرة على المحرّم، وادّعى القابض كونها هبة صحيحة، ولم يتّفقا على نوع التمليك: قال الشيخ الأعظم قدس سره: «احتمل أنّه كذلك؛ لأنّ الأمر يدور بين الهبة الصحيحة والإجارة الفاسدة، ويحتمل العدم؛ إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحّته وفساده، فالدافع منكر لأصل العقد الذي يدّعيه القابض لا لصحّته، فيحلف على عدم وقوعه.»(1)

وذهب في مصباح الفقاهة إلى تقديم قول الدافع؛ معلّلاً ذلك بأصالة عدم تحقّق الهبة الصحيحة الناقلة؛ فإنّها أمر وجوديّ وموضوع للأثر فالأصل عدمها، ولا تعارضها أصالة عدم تحقّق الرشوة المحرّمة أو الإجارة الفاسدة؛ لأنّهما لا أثر لهما، وإنّما الأثر مترتّب على عدم تحقّق السبب الناقل سواء تحقّق معه شيء من الأسباب الفاسده أم لم يتحقّق.

ولا مجال لأصالة الصحّة المتقدّمة على الاُصول الموضوعية؛ لأنّ مدركها الإجماع وبناء العقلاء، وهما من الأدلّة اللبّية، فلابدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن؛ وهو ما كان مصبّ الدعوى أمراً واحداً معلوماً للمترافعين وكان الاختلاف في الخصوصيّات، وقد فرضنا أنّ المقام ليس كذلك(2).

ثالثاً: لو ادّعى الدافع أنّها رشوة والقابض أنّها هديّة فاسدة لدفع الغرم عن نفسه - بناءً

ص: 64


1- المكاسب المحرّمة / ص 32.
2- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 277.

على أنّ الهديّة المحرّمة لا توجب الضمان - واتّفقا على فساد التمليك: قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ففي تقديم الأوّل لأصالة الضمان في اليد، أو الآخر لأصالة عدم سبب الضمان ومنع أصالة الضمان، وجهان، أقواهما الأوّل؛ لأنّ عموم خبر «على اليد» يقضي بالضمان إلاّ مع تسليط المالك مجّاناً، والأصل عدم تحقّقه، وهذا حاكم على أصالة عدم سبب الضمان، فافهم.

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بأنّ خبر «على اليد» ضعيف السند وغير منجبر بشيء؛ فلا يجوز الاستناد إليه، ثمّ تمسّك بالسيرة القطعية على أنّ وضع اليد على مال الغير بدون رضا مالكه موجب للضمان بتقريب: أنّ وضع اليد على مال الغير في المقام محرز بالوجدان، فإذا ضممنا إليه أصالة عدم رضا المالك بالتصرّف المجّاني تألّف الموضوع من الوجدان والأصل وحكم بالضمان.

وفيه: أنّ خبر «على اليد» معمول به عند القدماء كما يظهر من كلماتهم، فلا يرد على الشيخ ومن تبعه أنّ الاستدلال بخبر «على اليد» ضعيف. نعم يصحّ أيضاً الاستدلال بالسيرة القطعية المذكورة إن ثبت اتّصالها إلى زمان المعصوم عليه السلام. وبقيّة الكلام في محلّه.

ص: 65

ص: 66

المسألة الرابعة والعشرون «في الرياء»

اشارة

ويقع البحث عنه في مقامات:

المقام الأوّل: في حقيقة الرياء

وهو أن يأتي بالعمل العبادي لإراءته للناس. وأمّا الرياء في غير العبادات فلا إشكال في جوازه لو لم نقل برجحانه في بعض الموارد، كتسلية المصاب.

المقام الثاني: في حرمة الرياء

ويدلّ عليه آيات وروايات:

فمن الآيات: قوله تعالى: (فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(1) ، والإشراك بالعبادة يشمل الرياء؛ لأنّ المرائي يشرك غير الله فيها بإرضائه، والنهي عنه بقوله: (وَ لاٰ يُشْرِكْ ) يدلّ على الحرمة.

وقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ

ص: 67


1- سورة الكهف / الآية 110.

يُرٰاؤُنَ )(1) ، والويل يدلّ على أنّ مورده حرام؛ لأنّه وعيد بالنار المؤلمة، والحرام في الآية الكريمة هو السهو عن الصلاة والرياء فيها. ولعلّ المراد من السهو عن الصلاة هو السهو الناشئ من عدم الأهمّية بها.

ومن الأخبار: موثّقة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وآله: إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجلّ : اجعلوها في سجّين؛ إنّه ليس إيّاي أراد بها»(2).(3)

بدعوى: أنّ العمل إذا كان سجّينيّاً كان محرّماً، وإلاّ لم يكن كذلك كما لا يخفى.

وموثّقة السكوني أيضاً عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم؛ طمعاً في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم(4) رياء، لايخالطهم خوف، يعمّهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم»(5).

بتقريب: أنّ تعميم العقاب يدلّ على كونه من الكبائر.

وصحيحة داود عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من أظهر للناس ما يحبّ الله عزّوجلّبارز الله بما كرهه؛ لقي الله وهو ماقت له»(6). والمقت: هو شدّة البغض من أمر قبيح.

وموثّقة الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: «قال

ص: 68


1- سورة الماعون / الآيات 4-6.
2- في الكافى: «به» بدل «بها»، كما في هامش الوسائل.
3- وسائل الشيعة / ج 1، ص 71، الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 3.
4- في الكافي: «أمرهم» بدل «دينهم»، كما في هامش الوسائل.
5- وسائل الشيعة / ج 1، ص 65، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 4.
6- المصدر السابق / ص 64، ح 3.

رسول الله صلى الله عليه وآله: من تزيّن للناس بما يحبّ الله وبارز الله في السرّ بما يكره الله؛ لقي الله و هو عليه غضبان؛ له ماقت»(1).

والتقريب فيها كالتقريب السابق، مضافاً إلى تأكيده بإضافة الغضبان.

وصحيحة زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لو أنّ عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً»(2). والشرك ظلم عظيم وموجب للعذاب الأليم.

وصحيحة عبدالله بن أبي يعفور قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: «قال أبوجعفر عليه السلام: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه»(3). وهو يوجب النار كما قال الله تعالى: (وَ أَمّٰا مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ * فَأُمُّهُ هٰاوِيَةٌ * وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا هِيَهْ * نٰارٌ حٰامِيَةٌ )(4) .

وصحيحة مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «انّ رسول الله صلى الله عليه وآله سئل: فيمَ النجاة غداً؟ فقال: إنّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم؛ فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان، ونفسَه يخدع لو يشعر. قيل له: فكيف يخادع الله ؟ قال: يعمل بما أمره الله ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الله في الرياء؛ فإنّه الشرك بالله. إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر! حبط عملك، وبطل أجرك، فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له!»(5).

ص: 69


1- المصدر السابق / ص 68، ح 14.
2- المصدر السابق / ص 67، ح 11.
3- المصدر السابق / ص 68، ح 15.
4- سورة القارعة / الآيات 8-10.
5- وسائل الشيعة / ج 1، ص 69، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 16.

وصحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه - صلوات الله عليهم - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يؤمر برجال إلى النار - إلى أن قال: - فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء وما كان(1) حالكم ؟ قالوا: كنّا نعمل لغير الله، فقيل لنا: خذوا ثوابكم ممّن عملتم له»(2).

ولا يخفى أنّ دلالة هذه الأخبار على حرمة الرياء في العبادة واضحة.

المقام الثالث: في بطلان العمل بالرياء

لا يخفى عليك أنّه يشترط في نيّة العبادة الخلوص من الرياء، فلو نوى بها الرياء بطلت. ولا خلاف فيه إلاّ من السيّد المرتضى في محكيّ الانتصار، حيث ذهب إلى الحرمة دون البطلان. ولكنْ حمله في مستند العروة على أنّه ناظر إلى بعض الأقسام ممّا يُرى فيه عدم التنافي بين الرياء وقصد القربة، كما في الضميمة على ما سيجيء تفصيلها؛ وإلاّ فاعتبار القربة في العبادات من الضروريّات التي لا تقبل الإنكار.(3) والبطلان مقتضى قولِه عليه السلام في صحيحة مسعدة: «فإنّه الشرك بالله»؛ إذ الشرك يمنع عن التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، وقولِه عليه السلام فيها أيضاً: «إنّ المرائي يدعى يوم القيامة:... يا خاسر، حبط عملك وبطل أجرك»، والحبط لا يجتمع مع صحّة العمل، وقولِه عليه السلام في صحيحة زرارة: «كان مشركاً»؛ فإنّ الشرك يمنع عن التقرّب بالعبادة.

مضافاً إلى صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «يقول الله عزّوجلّ : أنا

ص: 70


1- كذا في الوسائل، وفي هامشه أنّ «كان» ليست في المصدر.
2- وسائل الشيعة / ج 1، ص 70، الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 1.
3- مستند العروة / ج 3، ص 29، المسألة 8.

خير شريك، فمن عمل لي ولغيري فهو لِمن عملَه؛ غيري»(1). وقوله: «غيري» وصف لقوله: «لمن».

المقام الرابع: في صور الرياء

للرياء صور متعدّدة:

منها: أن يأتي بالعمل لمجرّد إراته للناس من دون أن يقصد به امتثال أمر الله تعالى، وهذا باطل بلا إشكال، ومشمول للأخبار المتقدّمة من دون خفاء.

ومنها: أن يكون داعيه ومحرّكه على العمل القربة وامتثال الأمر والرياء معاً، وهذا أيضاً باطل؛ سواء كانا مستقلّين، أو كان أحدهما تابعاً والآخر مستقلاًّ، أو كانا معاً منضمّين محرّكاً وداعياً. وهذا القسم بجميع فروضه مشمول لإطلاق النصوص؛ لصدق إدخال رضا أحد من الناس عليها ولو كان الرياء تابعاً. وهكذا يصدق قوله: «من عمل لي ولغيري» على جميع الصور المذكورة كما لا يخفى.

ومنها: أن يقصد ببعض الأجزاء الواجبة الرياء، فلا إشكال في أنّ نفس الجزء يصير باطلاً بالرياء وبتبعه تفسد الصلاة سواء تداركه مع بقاء محلّ التدارك أم لا؛ للإخلال بها من جهة النقيصة لو لم يتدارك أو من جهة الزيادة العمدية لو يتدارك.

ودعوى: انصراف أدلّة الزيادة عن مثل المقام في فرض التدارك.

غير مسموعة؛ لصدق الزيادة العمدية المبطلة. هذا إذا أتى بالجزء الواجب بقصد الجزئية رياءً ، وأمّا إذا لم يقصد به الجزئية - كما لو قرأ بعد الحمد مثلاً سورة الجمعة بقصد القرآنية رياءً وبعدها أتى بسورة اُخرى قاصداً بها الجزئية - فقد ذهب في مستند العروة

ص: 71


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 72، الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 7.

إلى أنّ الأقوى هو الصحّة؛ لقصور أدلّة البطلان عن الشمول للمقام؛ فإنّ المبطل من الكلام خاصّ بكلام الآدمي، ولا ريب أنّ الذكر أو الدعاء أو القرآن خارج عن موضوع كلام الآدمي وإن كان محرّماً فهو قرآن أو ذكر أو دعاء محرّم، ولا يعدّ من كلام الآدمي في شيء، واختلاف الحكم من كونه مأموراً به وعدمه لا يؤثّر في ذلك شيئاً، فهي خارجة عن الكلام المبطل خروجاً موضوعيّاً، والنسبة نسبة التخصّص دون التخصيص. فالأقوى: أنّ هذه الاُمور المأتي بها رياءً إنّما تبطل الصلاة إذا كانت بعنوان الجزئية من جهة استلزام الزيادة حينئذ كما عرفت، دون ما إذا لم يقصد بها الجزئية، إلاّ إذا استلزم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة، كما إذا قرأ سورة طويلة رياءً ، فإنّها توجب البطلان من هذه الجهة وإن لم يقصد بها الجزئية.

إلى أن قال: هذا كلّه في الصلاة، وأمّا فيما عداها من سائر العبادات ممّا لا تكون الزيادة مبطلة لها - كالوضوء والغسل ونحوهما - فلا موجب للبطلان أصلاً؛ لعدم كون الزيادة مبطلة في غير الصلاة.

نعم، هناك وجه آخر للبطلان لو تمّ لعمّ وشمل جميع أقسام العبادات، وهو التمسّك بإطلاق قوله عليه السلام في الصحيحة المتقدّمة: «وأدخل فيه رضا أحد من الناس»؛ حيث إنّ مفاده: أنّ كلّ عمل تضمّن الرياء ورضا أحد من الناس ولو باعتبار جزئه كان باطلاً؛ لسراية الفساد الناشئ من الرياء إلى الكلّ كسراية النار في القطن، فينتج فساد الوضوء في الفرض المزبور فضلاً عن الصلاة، وكذا في غيرهما من سائر العبادات.

لكنّ هذا الوجه مبنيّ على أن يكون المراد من كلمة «في» في الصحيحة مطلق الظرفية، ومن الواضح عدم إمكان الالتزام بذلك؛ وإلاّ لزم القول بفساد الوضوء أو الصوم لو قرأ في الأثناء سورةً أو دعاءً أو ذكراً رياءً ؛ لصدق إدخال رضا الناس فيه وكونه ظرفاً

ص: 72

للرياء وإن كان مبايناً مع المظروف وجوداً وماهيّةً ، وهكذا يلزم فساد الحجّ لو أتى ببعض أجزائه رياءً ، كالطواف أو السعي ونحوهما، وإلاّ تداركه في محلّه؛ لصدق الظرفية. وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به سيّما في الحجّ ، بل هو غير محتمل جزماً، كما صرّح به المحقّق الهمداني في الحجّ وفي الوضوء.

وعلى الجملة: ليس المراد بالظرفية معناها الواسع بحيث يشمل كون العمل الصادر منه وعاءً لعمل آخر صادر لغير الله، بل المراد نفي الخلوص وتشريك غيره معه تعالى في العبادة بحيث يصدر العمل الوحداني عن داع إلهيّ وداع ريائيّ ، كما يفصح عنه قوله عليه السلام بعد ذلك: «كان مشركاً» المفقود فيما نحن فيه بعد فرض التدارك، فلا جرم يختصّ البطلان بالجزء الذي راءى فيه ولا يعمّ غيره(1).

ولقائل أن يقول: إنّ موارد النقض خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّها إمّا ليست بجزء كالقراءة في أثناء الصوم، والكلام في الأجزاء، ومقتضى قوله: «وأدخل فيه رضا أحد من الناس» هو بطلان العمل بالرياء في الأجزاء الواجبة؛ لصدق إدخال رضا أحد في العمل الوحداني كالصلاة بل الوضوء لو راءى في جزء منهما؛ إذ إدخال شيء في جزء من الشيء إدخال في الشيء المشتمل على الجزء المذكور؛ لاتّحاد الجزء مع الكلّ . وهكذا لا مجال للنقض بالحجّ بعد كون الحجّ أعمالاً، وإدخال الرياء في بعضها يفسد ذلك البعض الذي أدخله رضا غيره تعالى لا سائر الأعمال.

هذا مضافاً إلى أنّ الفساد يسري من الجزء أو الشرط إلى الكلّ إذا كان الرياء في الجزء أو الشرط، لاشتمال العمل على الجزء والشرط، بخلاف ما لم يكن كذلك، كقراءة السورة رياءً أثناء الصوم؛ إذ السورة ليست جزءاً ولا شرطاً للصوم، بل هي من المقارنات، ولا

ص: 73


1- مستند العروة / ج 3، ص 34-37.

دليل على سراية الفساد منها إليه.

وبالجملة: يصدق الفاسد على المجموع بفساد بعض أجزائه أو شرائطه؛ لاتّحاد الجزء مع الكلّ دون المقارنات كما لا يخفى، وعليه فإذا كان بعض الأجزاء ريائيّاً كان المجموع ريائيّاً.

ومنها: أن يقصد ببعض الأجزاء المستحبّة الرياء، كالقنوت في الصلاة. قال السيّد المحقّق اليزدي في العروة: «وهذا إيضاً باطل على الأقوى»(1).

وأورد عليه في المستمسك: بأنّ الرياء إذا كان في الجزء نفسه اختصّ الجزء بالبطلان، ولا وجه لسراية البطلان إلى غيره من الأجزاء. أللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّه يصدق على مجموع العمل أنّه ممّا وقع فيه الرياء فيبطل. وفيه: أنّ صدق ذلك مبنيّ على المسامحة؛ وإلاّ فموضوعه حقيقةً نفس الجزء، فيقدح فيه لا غير، فيكون الحال كما لو صلّى بلا قنوت، فإنّ صلاته صحيحة.

فالبناء على بطلان الصلاة إنّما هو من جهة أنّ القنوت المراءى فيه مأتيّ به بقصد الجزئية، فإذا بطل لزمت الزيادة العمدية التي لا يفرّق في اقتضائها بطلانَ الصلاة بين أن تكون بالجزء الواجب والجزء المستحبّ . لكن عرفت أنّ الأجزاء المستحبّة ليست أجزاء للماهيّة ولا أجزاء للفرد، وإنّما هي اُمور مستحبّة ظرفها الفعل الواجب، فلا يؤتى بها بقصد الجزئية على تقدير بطلانها.

نعم، لو كان المستحبّ من الدعاء أو الذكر أمكن القول ببطلان الصلاة من جهة الكلام؛ بناءً على أنّ الدعاء والذكر المحرّمين من الكلام المبطل(2).

ص: 74


1- العروة الوثقى كتاب الصلاة / النيّة المسألة 8، ج 2، ص 442.
2- مستمسك العروة الوثقى / ج 6، ص 23.

وفيه: أنّ عنوان إدخال رضا أحد من الناس في العمل الوحداني يصدق حقيقةً بالإتيان بالأجزاء المستحبّة رياءً ؛ لاعتبار مجموع العمل ظرفاً واحداً عرفاً، فالأجزاء المستحبّة واقعة في الظرف المذكور، فلو راءى فيها أدخل رضا غيره تعالى في الظرف المذكور، ألا ترى أنّه يطلق المتنجّس على الثوب فيما إذا لاقى النجاسة مع أنّه لم ينجس إلاّ موضع الملاقاة ؟!

هذا مضافاً إلى أنّ الرياء في الجزء يسري إلى الكلّ - أي العمل المشتمل على الجزء - ولو كان استحبابيّاً، فيكون العمل ريائيّاً؛ لاتّحاد الجزء مع الكلّ . نعم، لا وجه لاختيار البطلان من ناحية كونه كلام آدميّ ؛ لما عرفت من أنّ الدعاء الريائي ليس هو بكلام آدميّ ولا تترتّب عليه أحكامه.

ومنها: أن يكون أصل العمل لله لكنّه أتى به في مكان أو زمان خاصّين، وقَصَد بإتيانه في ذاك المكان أو ذاك الزمان أو غيرهما من الخصوصيّات الفردية الرياءَ ، كما إذا أتى به في المسجد أو في الصفّ الأوّل من الجماعة أو في بعض المشاهد أو في أوّل الوقت رياءً .

وهذا أيضاً باطل عند السيّد المحقّق اليزدي، والوجه في البطلان: أنّ موضوع الرياء هو عنوان الصلاة المقيّدة بالمكان أو الزمان الخاصّين، وهو متّحد مع ذات الصلاة في الخارج؛ لأنّ الخصوصية المشخّصة مصداق للطبيعة ومحقّقة لها، ومن الضروري أنّ الكلّي الطبيعي متّحد مع مصداقه خارجاً، وموجودان بوجود واحد؛ يضاف مرّة إلى الطبيعة واُخرى إلى الفرد، فليست الصلاة الموجودة في الخارج شيئاً آخر مغايراً للصلاة في هذا المكان ليكونا موجودين بوجودين، ولا يسري الفساد من أحدهما إلى الآخر، بل بينهما اتّحاد وعينيّة، فلابدّ من الحكم بالفساد والبطلان.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «هذا كلّه فيما إذا راءى في الصلاة في هذا المكان بأن

ص: 75

كان مصبّ الرياء ومركزه هو مصداق الطبيعة بالذات؛ أعني الصلاة الكذائية، وأمّا إذا راءى في مجرّد الكون في هذا المكان - بأن تعلّق قصده الريائي بصرف البقاء في المسجد واللبث فيه أو في أحد المشاهد المشرّفة؛ ليرى الناس أنّه من أهل التقوى المعظّمين لشعائر الله، وفي خلال ذلك صلّى خالصاً لوجهه - فلا موجب حينئذ للحكم بالفساد؛ لخروج الرياء عن حريم المأمور به وعدم مسّه بكرامته، فلا اتّحاد ولا عينيّة، غايته أنّه راءى في مقارنات العمل، ومثله لا ضير فيه»(1).

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ القيام أو الركوع أو السجود ممّا يكون متقوّماً بالكون في المكان ومتّحداً معه ليس من المقارنات، فإذا كان مرائياً في المتّحد مع أجزاء الصلاة فلابدّ من الحكم بالفساد. نعم، لو كان دخوله إلى المسجد ريائيّاً لا بقاؤه فيه صحّ أن يقال: لا موجب للحكم بالفساد.

هذا بناءً على المشهور من عدم جريان حكم اجتماع الأمر والنهي فيما إذا اتّحد المأمور به مع المنهي عنه في الوجود، وأمّا بناءً على المختار من جريانه في المتّحد فلا يحكم بالفساد، وإن كان الأحوط لزوماً هو الإعادة.

ومنها: أن يكون الرياء من حيث أوصاف العمل؛ كالإتيان بالصلاة جماعةً ، أو القراءة بالتأنّي، أو بالخشوع، أو نحو ذلك.

وقد اختار السيّد المحقّق اليزدي بطلان العمل في هذه الصورة أيضاً، والوجه فيه: أنّ خصوصية الجماعة ونحوها باعتبارها ليست من الأفعال المستقلّة يجري عليها حكم خصوصية المكان والزمان بعينها، وقد عرفت حكمها آنفاً. هذا بالنسبة إلى ما إذا لم يكن من الأفعال المستقلّة.

ص: 76


1- مستند العروة / ج 3، ص 38.

وأمّا بالنسبة إلى الأفعال المستقلّة - كالخشوع ونحو ذلك - فقد قال في مستند العروة: «فينبغي التفصيل في الخشوع الريائي وأشباهه: بين ما إذا تعلّق القصد بهذا الفرد الخاصّ من الصلاة فتبطل؛ إذ الطبيعة وإن كانت مقصودة لله إلاّ أنّها لمّا كانت متّحدة مع فردها خارجاً فلا جرم يسري الفساد منه إليها، وبين ما إذا تعلّق قصده بالصلاة خالصاً لوجهه تعالى ثمّ بدا له أن يبكي أويخشع بحيث كان ذلك بنفسه موضوعاً مستقلاًّ للرياء لا أنّه من الأوّل قصد الصلاة المتّصفة بالخشوع الريائي، فحينئذ لا موجب للفساد»(1).

لا يقال: إنّ قوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لو أنّ عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً» يكفي للحكم بالبطلان؛ لأنّه أدخل في العمل رضا أحد من الناس بالخشوع الريائي.

لأنّا نقول: نعم، هو كذلك بالنسبة إلى الصورة الاُولى، وأمّا بالنسبة إلى الصورة الثانية فلم يدخل رضا أحد من الناس في العمل العبادي بعد افتراض أنّ الخشوع المذكور ليس مأخوذاً في العمل العبادي، بل هو من المقارنات.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الخشوع باعتباره من الكيفيّات المطلوبة في الصلاة فالرياء فيها كالرياء في الأجزاء في بطلان الصلاة، فتأمّل.

ومنها: أن يكون الرياء في بعض الأعمال الخارجة عن الصلاة، كالتحنّك حال الصلاة، وهذا لا يكون مبطلاً إلاّ إذا رجع إلى الرياء في الصلاة متحنّكاً، كما ذهب إليه السيّد المحقّق اليزدي في العروة.

والوجه في عدم كون التحنّك حال الصلاة مبطلاً في الصورة الاُولى: أنّ التحنّك حينئذ من المقارنات، والرياء فيها أجنبىّ عن الرياء في العمل.

ص: 77


1- المصدر السابق / ص 40.

وأمّا وجه البطلان فيما إذا رجع إلى الرياء في الصلاة متحنّكاً: فهو أنّ الطبيعة وإن كانت مقصودة لله، إلاّ أنّها لمّا كانت متّحدة مع فردها خارجاً وكان الفرد مأتياً به رياءً فلا جرم يسري الفساد من الفرد إلى الطبيعة، فتبطل العبادة.

ومنها: أن يكون الرياء في مقدّمات العمل، كما إذا كان الرياء في مشيه إلى المسجد لا في إتيان نفس العمل في المسجد. والظاهر عدم البطلان في هذه الصورة، وذلك لأنّ المقدّمات خارجة عن العمل، فلا مقتضي للسراية ولا دخل للرياء في العمل.

ومنها: أن يكون العمل خالصاً لله لكنّه كان بحيث يعجبه أن يراه الناس. قال السيّد المحقّق اليزدي قدس سره في هذه الصورة: «والظاهر عدم بطلانه أيضاً، كما أنّ الخطور القلبي لا يضرّ خصوصاً إذا كان بحيث يتأذّى بهذا الخطور. وكذا لا يضرّ الرياء بترك الأضداد»(1)؛ كأن كان في مجلس يتكلّم أهله بما يرجع إلى اُمور الدنيا، فأعرض عنهم وترك مجالستهم مظهراً أنّه لا يحبّ ذلك ويصلّي.

وأورد عليه السيّد المحقّق البروجردي بقوله: «إنّ عدم بطلان العمل بالإعجاب المذكور فيما إذا لم يكن له دخل في الداعي أصلاً»(2).

ويدلّ عليه: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير، فيراه إنسان، فيسرّه ذلك ؟ قال: «لا بأس؛ ما من أحد إلاّ وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك»(3).

هذا مضافاً إلى أنّ ترك الأضداد بالرياء راجع إلى الرياء في إبقاء العمل، وهو موجب

ص: 78


1- العروة الوثقى / الصلاة الرياء و اقسامه، مسألة 8.
2- العروة المحشاة بعدة من الفقهاء العظام / ج 2، ص 444.
3- وسائل الشيعة / ج 1، ص 75، الباب 15 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1.

للفساد، إلاّ أن يكون مرائياً في ترك الأضداد بما هي لا بما هي أضداد للعمل.

ومنها: أن يكون الرياء متأخّراً، وهو لا يوجب البطلان، فلو كان حين العمل قاصداً للخلوص ثمّ بعد إتمام الصلاة بدا له في ذكره أو عمل عملاً يدلّ على أنّه فعل كذا، لم يكن موجباً للبطلان؛ إذ المنافي للخلوص إنّما هو الرياء المقارن للعمل فإنّه يمنع عن صدوره على وجه العبادة. وأمّا المتأخّر فلا تأثير له في المتقدّم؛ إذ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.

قال في مستند العروة: «أجل، ورد في مرسل علىّ بن أسباط عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل»، قال: وما الإبقاء على العمل ؟ قال: «يصل الرجل بِصِلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له، فكتبت له سرّاً، ثمّ يذكرها، فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها، فتمحى فتكتب له رياءً »(1)؛ فإنّها صريحة في سقوط العبادة بالكلّية بذكرها مرّتين؛ لأنّها مكتوبة بالرياء، ولكنّها لمكان الإرسال غير صالحة للاستدلال. (هذا مضافاً إلى إمكان حملها على عدم الثواب، لا البطلان المحتاج إلى الإعادة).

نعم، لا ريب في أنّ الذكر المزبور والرياء بعد العمل صفة رذيلة ومنقصة في العبد ينبغي تنزيه ساحته عنه، كما تشهد به صحيحة جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : (فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقىٰ )(2) ؟ قال: «قول الإنسان: صلّيت البارحة وصمت أمس، ونحو هذا». ثمّ قال عليه السلام: «إنّ قوماً كانوا يصبحون فيقولون: صلّينا البارحة وصمنا أمس، فقال علىّ عليه السلام: ولكنّي أنام الليل والنهار، ولو أجد بينهما

ص: 79


1- المصدر السابق / ص 75، الباب 14 من أبواب مقدمة العبادات، ح 2.
2- سورة النجم / الآية 32.

شيئاً لنمته!»(1)؛ فإنّها ظاهرة في عدم محبوبية الإفشاء والإشاعة، بل المحبوب كتمان العبادات عن الناس»(2).

وكيف كان، فلا دليل على بطلان العمل بالرياء المتأخّر وإن أوجب ذهاب الثواب.

المقام الخامس: في أحكام بطلان العبادة بالرياء

يعتبر في صحّة عمل الأجير والمتبرّع في العبادة الإتيان بها مع قصد القربة، فلو أخلّ به بالرياء بنحو من الأنحاء المذكورة لم يسقط القضاء عن ذمّة المنوب عنه؛ لأنّ ذمّته مشغولة بأداء العبادة.

فإذا عرفت أنّ القضاء لايسقط عن ذمّة المنوب عنه، فيما لو راءى الأجير، فحينئذ لو أخذ الأجير شيئاً في قبال ما أتى به من دون قربة كان أكلاً للمال بالباطل، واللازم عليه الإعادة إن كان الوقت باقياً وتمكّن من الإعادة، وإلاّ فالواجب ردّ المأخوذ، وعدم وجوب المطالبة إن لم يأخذ شيئاً كما لا يخفى.

ولا فرق فيه بين العلم والجهل، فلو أتى بالعمل رياءً من جهة الجهل ثمّ علم أنّه حرام وغير موجب لسقوط الذمّة، كان عمله في حال الجهل باطلاً وغير مسقط كما لا يخفى.

وربّما يستشكل في صحّة عمل الأجير مطلقاً - سواء راءى فيه أو لم يراءِ - من ناحية أخذ العوض؛ بدعوى: أنّه ينافي القربة ولا يتمشّى قصد القربة من النائب إذا أخذ العوض مع أنّ العمل العبادي موقوف عليه.

وأجاب عنه السيّد المحقّق اليزدي: بأنّ التحقيق أنّ أخذ الاُجرة داع لداعي القربة كما

ص: 80


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 74، الباب 14 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1.
2- مستند العروة / ج 3، ص 44.

في صلاة الحاجة وصلاة الاستسقاء؛ حيث إنّ الحاجة ونزول المطر داعيان إلى الصلاة.

وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ المحقّق الداماد قدس سره: بأنّ الداعي إلى الداعي قد يكون محرّماً كشرب الخمر، كما إذا قال شخص لغيره: لو صلّيت ركعتين فأنا أسقيك الخمر الكذائي، ومن المعلوم أنّ العرف حينئذ لا يرى الركعتين عبادة؛ إذ ليس محرّكه في الإتيان بالعبادة إلاّ فعلاً محرّماً.

وزاد عليه بعض الأكابر: بأنّه لو كان زيد - مثلاً - عدوّاً لعمرو ولم يكن يمتثل أمره، فلو أعطاه بكر دنانير كي يمتثل أمر عمرو فإنّ امتثاله أمر عمرو لا يعدّ أنّه تقرّب إليه؛ للعلم بكونه عدوّاً له ولم يكن بصدد امتثال أمر عمرو أصلاً.

وأمّا موارد النقض - كصلاة الحاجة والاستسقاء - فلعلّ الحاجة موجبة للتوجّه إلى عظمة الله تعالى وقدرته وأنّه أمكن له الإجابة، فيقصد التقرّب إليه بالصلاة أو الدعاء، لا أنّ الحاجة الدنيوية تكون داعية لحصول داعي القربة في الصلاة.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ صلاة الحاجة والاستسقاء لا يقاس عليهما؛ لأنّ كلاًّ من الداعي وداعي الداعي فيهما راجع إليه تعالى، بخلاف النيابة التي يكون الباعث فيها على العمل حقيقةً هو أخذ الاُجرة من غيره تعالى.

وأجاب عنه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: بأنّ : «النيابة في حدّ نفسها إنّما وقعت متعلّقاً للأمر الاستحبابي النفسي، كما يدلّ عليه صحيحة معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: أيّ شيء يلحق الرجل بعد موته ؟ قال: «يلحقه: الحجّ عنه، والصدقة عنه، والصوم عنه»(1)، وغير ذلك من الروايات، فإنّها تدلّ على جواز النيابة عن الأموات في مطلق العبادات وتفريغ ذممهم عنها؛ من دون فرق في ذلك بين الواجبات والمستحبّات.

ص: 81


1- وسائل الشيعة / ج 2، ص 445، الباب 28 من أبواب الاحتضار، ح 8.

ويترتّب على ذلك صحّة الاستئجار للأموات؛ إذ مقتضى إطلاق هذه الأخبار هو الحكم بتفريغ ذمّة المنوب عنه بفعل النائب: سواء كان قد أتى به تبرّعاً لأجل حبّه للمنوب عنه، أم أتى به وفاءً لقصد الإجارة أو الجعالة، أم لغير ذلك من الدواعي.

وهذه الأخبار تدلّ على أنّ النيابة في حدّ نفسها إنّما وقعت متعلّقة للأمر الاستحبابي النفسي، ولا ينبغي الشكّ في كون الأمر المذكور عباديّاً إذا كان مورد النيابة من العبادات كالصلاة والصيام ونحوهما، كما أنّه لابدّ من قصد التقرّب بالأمر المذكور في سقوطه؛ وإلاّ لم تتحقّق العبادة وبالتالي لم تتحقّق النيابة المأمور بها حسب الفرض، فعباديّة العمل النيابي تستدعي تعبّدية الأمر المتعلّق به بعنوان النيابة لا محالة، فلا مناص للنائب من قصد التقرّب بهذا الأمر لكي يتّصف متعلّقه بصفة العبادة التي هي مورد النيابة؛ فإنّه بدونه لم تصدر منه العبادة التي تصدّى للنيابة فيها.

ثمّ إنّ الداعي إلى هذا المجموع المركّب من الصلاة وقصد القربة: تارةً يكون هو استحبابها الذاتي نظراً إلى كونه إحساناً إلى الميّت وصلةً له أو لأجل حبّه له وشفقته عليه، واُخرى يكون الداعي هو الوفاء بعقد الإجارة - كما في الأجير - حتّى لا يكون أخذ الاُجرة أكلاً للمال بالباطل، والداعي للأجير هو التسلّط على العوض بوجه شرعي؛ إذ ما لم يسلّم المعوّض لا يكون له حقّ المطالبة بالعوض، فالداعي بالتالي منته إلى الخوف من الله تعالى، فيكون الأمر الإجاري مؤكّداً للعباديّة لا منافياً لها، كما هو الحال في النذر، والشرط ضمن العقد، ونحوهما»(1).

وفيه - كما أفاد السيّد المحقّق البروجردي -: أنّ قصد التقرّب يعتبر فيه بما أنّه فعل المنوب عنه بحسب الاعتبار الذي صحّحه الشرع، والقربة المنويّة فيه هي قربه، وأمّا

ص: 82


1- مستند العروة / ج 5، ص 249.

النيابة التي هي فعل النائب فهي توصّلية لا يعتبر فيها التقرّب، فإن قصده استحقّ بها الثواب، وإلاّ فلا(1). وعليه فقصد الأمر بالنيابة أجنبيّ عن قصد قربة المنوب عنه كما لا يخفى.

وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد حيث قال: «إنّ النائب يقصد بفعله - أجيراً كان أو متبرّعاً - النيابة والبدلية عن فعل المنوب عنه، وتفرغ ذمّته ويتقرّب به ويثاب عليه. ويعتبر فيه قصد تقرّب المنوب عنه لا تقرّب نفسه، ولا يحصل له بذلك تقرّب إلاّ إن قصد في تحصيل هذا التقرّب للمنوب عنه الإحسان إليه لله تعالى، فيحصل له القرب أيضاً، كالمتبرّع لو كان قصده ذلك»(2).

وقال أيضاً في تعليقته على العروة: «إنّ الأجير يأخذ الاُجرة لتحصيل قرب الغير لا قرب نفسه حتّى يقال إنّ أخذ الاُجرة مناف لقصد الله. نعم، لو كان إعطاء الاُجرة لتحصيل العمل القربي أيضاً منافياً للخلوص المعتبر في العبادة لكان للإشكال وجه، لكنّه ممنوع»(3).

ولا يخفى عليك أنّه لا حاجة إلى تنزيل فعله منزلة فعل الميّت؛ إذ اللازم هو الإتيان بما اشتغلت به ذمّة الميّت؛ لأنّ أداء صلاة النائب كأداء ديون الغير؛ فكما أنّ أداء ديون الغير لا يحتاج إلى تنزيل فعل المؤدّي منزلة فعل المديون، فكذلك الإتيان بعبادة الميّت. ولعلّ إطلاق الروايات المتقدّمة الدالّة على مطلوبية الحجّ عنه والصدقة عنه والصلاة عنه من دون ذكر التنزيل يكفي في عدم لزوم التنزيل، وكفاية الإتيان بواجب الميّت. والأقوى

ص: 83


1- العروة المحشاة بتعليقات الفقهاء العظام / صلاة الاستئجار، مسألة 2، ج 3، ص 78.
2- تحرير الوسيلة / ج 1، ص 223.
3- العروة المحشاة بتعليقات العظام / صلاة الاستئجار، مسألة 2، ص 78.

أنّه لا مانع من أخذ الاُجرة ليتحصّل قرب الغير لا قرب نفسه حتّى يقال إنّ أخذ الاُجرة مناف لقصد الله تعالى، ولعلّ هذا هو المستفاد من إطلاق الروايات الدالّة على مشروعية النيابة. هذا مضافاً إلى دعوى قيام السيرة على ذلك.

ص: 84

المسألة الخامسة والعشرون «في زخرفة المساجد والمصاحف والمقابر»

اشارة

ويقع الكلام فيها من جهات:

الجهة الاُولى: في زخرفة المساجد

اوّلاً: في نقل كلمات الأصحاب

قال الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية: «ولا يجوز أن تكون (المساجد) مزخرفة أو مذهّبة أو فيها شيء من التصاوير»(1).

وحكى في مفتاح الكرامة عن المبسوط والسرائر حرمة الزخرفة(2).

وقال في المهذّب: «وينبغي أن لا يعلى (المسجد) ولا يظلّل ولا يزخرف»(3).

وقال في المراسم في عداد المحرّمات: «... وأجر زخرفة المساجد وتزويقها،

ص: 85


1- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 3، ص 323.
2- مفتاح الكرامة / ج 2، ص 238.
3- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 3، ص 407.

وزخرفة المصاحف»(1).

وحكى في مفتاح الكرامة حرمة الزخرفة عن الشرائع والنافع والمعتبر والمنتهى ونهاية الإحكام والتحرير والإرشاد والبيان وغيرها(2).

وقال في جامع المقاصد: «ويحرم الزخرفة ونقشها بالذهب أو بشيء من الصور. الزخرف - بالضمّ - الذهب. وقد أطلق المصنّف (أي العلاّمة) في المنتهى والنهاية تحريم النقش ولم يقيّده بكونه بالذهب، فيعمّ النقش بالذهب وغيره، وكذا صنع في المعتبر وشيخنا في الذكرى - إلى أن قال: - فعلى هذا يكون النقش مطلقاً حراماً، والتذهيب وإن لم يكن بالنقش حرام، وتصويرها حرام أيضاً، صرّح المصنّف (به) في كتبه، ويلوح من عبارة المعتبر، وهو لازم من تحريم النقش بطريق أولى - إلى أن قال: - وإطلاق عبارتهم يتناول صور الحيوان وغيرها».(3)

ولا يخفى عليك أنّ القائل بحرمة تزيين المساجد بالذهب أو تحسينها بالصور والنقوش من القدماء هو الشيخ الطوسي وابن إدريس وسلاّر وابن البرّاج في المهذّب مع نقل خلافه في الجواهر عن كشف اللثام عن المهذّب والجامع، ومن المعلوم أنّ بمثل قول الشيخ وابن إدريس وسلاّر وابن البرّاج - بناءً على قولهم بالحرمة - لاتثبت الشهرة بين القدماء، ولعلّه لذلك قال في الجواهر: «يمكن منع حصول شهرة معتدّ بها هنا كما لا يخفى على المتتبّع؛ ومن هنا كان خيرة جماعة من المتأخّرين - منهم الشهيد في الدروس -

ص: 86


1- المصدر السابق / ج 13، ص 108.
2- مفتاح الكرامة / ج 2، ص 238.
3- جامع المقاصد / كتاب الصلوة، مكروهات المساجد، ج 1، ص 97، الطبع الحجرى.

الكراهة، كما هو ظاهر اُخرى، بل حكاه في الذكرى عن الجعفي أيضاً»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الجعفي من الطبقة الاُولى من الفقهاء المتقدّمين، فلا شهرة بين القدماء بالنسبة إلى الحرمة، كما لا شهرة بين المتأخّرين؛ لما حكاه في مفتاح الكرامة من كراهة الزخرفة عن الدروس والنفلية والمفاتيح ومجمع البرهان والروض والكفاية والمدارك(2).

فتحصّل ممّا ذكر: أنّه لا شهرة بالنسبة إلى الحرمة لا من القدماء ولا من المتأخّرين وإن صرّح بعضهم بالحرمة، كما لا يخفى.

ثانياً: في أدلّة حرمة زخرفة المساجد

وهي اُمور:

منها: أنّه استدلّ لحرمة زخرفة المساجد - أي تزيينها بالذهب أو نقشها وتصويرها ولو بغير الذهب - بأنّها بدعة؛ إذ لم تكن تلك في زمن صاحب الشريعة - عليه آلاف الصلاة والتحيّة - ولم ترد بها الرخصة.

وأجاب عنه في الرياض: بمنع البدعة مع عدم قصد التشريع؛ فإنّ البدعة إدخال ما ليس من الدين فيه عمداً، والرخصة بأصالة الإباحة حاصلة.(3)

ومنها: أنّ تزيين المساجد بالذهب إسراف وهو محرّم.

وأجاب عنه في الجواهر: بأنّ الإسراف لا يخصّ المساجد. هذا مضافاً إلى إمكان منعه؛ باعتبار حصول الغرض المعتدّ به من التحسين أو قصد تعظيم الشعائر، كما يصنعونه

ص: 87


1- جواهر الكلام / ج 14، ص 88-91.
2- مفتاح الكرامة / ج 2، ص 238.
3- رياض المسائل / ج 8، ص 78.

في المشاهد المشرّفة أو نحو ذلك ممّا يمتنع معه اندراجه في الإسراف المنهي عنه كما هو واضح(1).

ولا يخفى عليك أنّ التحسين من الأغراض العقلائية، ومع المنع عنه في الشرع بالنسبة إلى المساجد كيف يوجب ذلك منع صدق الإسراف ؟! أللهمّ إلاّ أن يقال: بعدم ثبوت إطلاق لحرمة الإسراف حتّى في مثل المقام، بل غايته الكراهة.

هذا مضافاً إلى إمكان منع صدق تعظيم الشعائر بالتزيينات المذكورة في المساجد مع ما ورد من التخطئة الشرعية، كما في صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: سمعته يقول: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله بنى مسجده بالسميط. ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه! فقال: نعم، فزيد فيه، وبناه بالسعيدة. ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه! فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه؛ وبنى جداره بالاُنثى والذكر. ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلّل! فقال: نعم، فأمر به فاُقيمت فيه سوار(2) من جذوع النخل، ثمّ طرحت عليه العوارض(3) والخصف والأذخر(4)، فعاشوا فيه حتّى أصابتهم الأمطار، فجعل المسجد يكفّ (5) عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن! فقال لهم رسول الله: لا، عريش كعريش موسى، فلم يزل كذلك حتّى قبض صلى الله عليه وآله. وكان جداره قبل

ص: 88


1- جواهرالكلام / ج 14، ص 89-90.
2- السَّواري - جمع «سارية» -: الاُسطوانات.
3- عوارض البيت: هي خشب سقفه المعرّضة.
4- الأذخر: الحشيش الأخضر.
5- كَفَّ السقفُ : أي قَطَّر.

أن يظلّل قامة، وكان إذا كان الفيء ذراعاً - وهو قدر مربض عنز - صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر.

وقال: والسميط: لبنة لبنة، والسعيدة: لبنة ونصف، والذكر والاُنثى: لبنتان مخالفتان»(1).

فإنّ الظاهر منها هو الإصرار على بساطة المساجد إلاّ عند اقتضاء الضرورة، فكيف يمكن دعوى مطلوبية التزيين بالذهب من باب تعظيم الشعائر؟! فإنّ هذا التعظيم لو كان راجحاً لكان النبيّ صلى الله عليه وآله أمر بالبناء بنحو ما تعارف في البِيَع والكنائس، مع أنّه امتنع عنه عند قولهم: «لو أمرت بالمسجد فطيّن! فقال: لا، عريش كعريش موسى، فلم يزل كذلك حتّى قبض صلى الله عليه وآله».

ويؤيّده: صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبدالله عليه السلام عن المساجد المظلّلة أتكره الصلاة فيها؟ فقال: «نعم، ولكن لا يضرّكم اليوم، ولو قد كان العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك»(2).

وبالجملة، فمع تخطئة العرف في الشرع في مثل ما ذكر لا يخلو ما ذكره صاحب الجواهر - من منع تحقّق الإسراف بتعظيم الشعائر - عن تأمّل. نعم، لو لم تكن هذه الروايات أمكن القول بصدق تعظيم الشعائر، فيكون مشمولاً لما يستفاد من الإجماع وتضاعيف أخبار كثيرة وفحوى رجحان تعظيم البدن أو مناسك الحجّ ؛ من مطلوبية تعظيم الشعائر مطلقاً، كما ذهب إليه المحقّق النراقي في العوائد(3).

ص: 89


1- وسائل الشيعة / ج 5، ص 205، الباب 9 من أبواب أحكام المساجد، ح 1.
2- المصدر السابق / ص 207، الباب 9 من أبواب أحكام المساجد، ح 2.
3- عوائد الأيّام / ص 30.

ومنها: ما روته العامّة من أنّ «من أشراط الساعة أن تتباهى الناس في المساجد». وعن ابن عبّاس: «لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى». وعن الخدري: «إيّاك أن تحمّر وتصفّر فتفتن الناس!»(1)

وأورد عليه في الجواهر: بأنّه - مع الإغضاء عن دلالة بعضه أو جميعه - من الواضح عدم صلاحيّته لإثبات الحرمة، كوضوح فساد دعوى الجبر سنداً ودلالةً بالشهرة؛ إذ لو سلّم صلاحيّة جبر الشهرة لمثل ذلك ممّا ورد من طرق العامّة يمكن منع حصول شهرة معتدّة بها هنا كما لا يخفى على المتتبّع(2).

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة تزيين المساجد بالذهب والفضّة. نعم مقتضى إطلاق النهي عن إناء الذهب والفضّة هو حرمة الاستعمال والانتفاع بهما لتزيين المساجد أو غيرها، فتأمّل.

وهكذا لا دليل على حرمة مطلق النقش وتصوير المساجد وإن لم يكن بالذهب. وأمّا ما ورد في منع التظليل في صحيحتي عبدالله بن سنان والحلبي، ففيه: أنّهما لا تدلاّن على الحرمة؛ لأنّ الامتناع عن التظليل فعل، وهو لا يدلّ على أزيد من الكراهة، وكذا كراهة الإمام عليه السلام ذلك لا تدلّ على أزيد من المرجوحية. هذا مضافاً إلى أنّهما تدلاّن على المنع عن التظليل لا التصوير.

أللهمّ إلاّ أن يقال: بأنّ التصوير حكمه مستفاد منه بالأولويّة، ومع تسليم دلالتهما على حرمة تصوير المساجد فهما - كما في الجواهر - معارضتان بروايات اُخرى:

ص: 90


1- نقلها وغيرها في الجواهر عن سنن البيهقي / ج 2، ص 439؛ ج 5، ص 158.
2- جواهر الكلام / ج 14، ص 89-90.

منها: ما رووه عن عثمان «أنّه عمّر المسجد، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة، وجعل عمده حجارة منقوشة»(1). وهذا شهادة على العدم؛ بملاحظة عدم الإنكار بذلك عليه خصوصاً من أميرالمؤمنين عليه السلام، وعدم عدّ مثله من البدعة».

ومنها: ما رواه في قرب الاسناد عن عبدالله بن الحسن، عن علىّ بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن المسجد يكتب في قبلته القرآن أو الشيء من ذكر الله ؟ قال: «لا بأس». قال: وسألته عن المسجد ينقش في قبلته بجصّ أو أصباغ ؟ قال: «لا بأس به»(2).

وضعف الطريق المذكور لا ينافي معروفية كتاب علىّ بن جعفر، فالرواية صحيحة وإن كان الطريق المذكور بعنوان أنّه طريق قريب ضعيفاً. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ السؤال يمكن أن يكون عن الصلاة في المسجد المذكور لا عن النقش، وعليه فلا يدلّ على جواز النقش، فالعمدة أنّه لا دليل على الحرمة.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة التصوير والنقش في المساجد. نعم يمكن دعوى كراهة ذلك في المساجد من جهة الأخبار الدالّة على كراهة الإمام عليه السلام وامتناع النبيّ صلى الله عليه وآله عن البناء فضلا عن تزيين المسجد بالنقوش. أللهمّ إلاّ أن تتزاحم الكراهة بمصلحة اُخرى، فتجرى حينئذ قواعد باب التزاحم كما لا يخفى.

الجهة الثانية: في أدلّة حرمة زخرفة المصاحف

استدلّ لحرمة تزيين المصاحف وتعشيرها بالذهب: بما رواه الشيخ في التهذيب

ص: 91


1- المصدر السابق / ص 88-91.
2- وسائل الشيعة / ج 5، ص 215، الباب 15 من أبواب أحكام المساجد، ح 3.

بسند موثّق عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألته عن رجل يعشّر المصاحف بالذهب ؟ فقال: «لا يصلح»، فقال: إنّه معيشتي ؟ فقال: «إنّك إن تركته لله جعل الله لك مخرجاً»(1).

واُجيب عنه: اوّلاً: بضعف الدلالة؛ لعدم ظهور «لا يصلح» في الحرمة.

وثانياً: بأنّه لو سلّمنا تماميّة دلالته وظهوره في الحرمة فهو يتعارض مع مصحّحة محمّد بن الورّاق التي رواها الكليني في الكافي عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن محمّد بن الورّاق قال: عرضت على أبي عبدالله عليه السلام كتاباً فيه القرآن مختّم معشّر بالذهب وكتب في آخره سورة بالذهب، فأريته إيّاه، فلم يعب فيه شيئاً إلاّ كتابة القرآن بالذهب، فإنّه قال: «لايعجبني أن يكتب القرآن إلاّ بالسواد كما كتب أوّل مرّة»(2). والوجه في جعلها مصحّحة: هو عدم ورود توثيق لمحمّد بن الورّاق، وإنّما يكتفى في توثيقه بنقل صفوان عن ابن مسكان عنه، فتأمّل.

ويتعارض أيضاً مع مصحّحة داود بن سرحان المرويّة في الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ليس بتحلية المصاحف والسيوف بالذهب والفضّة بأس»(3).

ولا يخفى أنّ مقتضى الجمع بين صراحة مصحّحة داود بن سرحان وظهور مصحّحة محمّد بن الورّاق في الجواز، وبين ظهور موثّقة سماعة في الحرمة: هو حمل «لا يصلح» على الكراهة.

وعليه: فزخرفة المصاحف وتعشيرها بالذهب محكومان بالكراهة، فلا تغفل.

ص: 92


1- المصدر السابق / ج 7، ص 162، الباب 32 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
2- المصدر السابق / ح 2.
3- المصدر السابق / ج 5، ص 105، الباب 64 من أبواب 6، أحكام الملابس، ح 3.

الجهة الثالثة: في زخرفة القبور بالتجصيص أو التطيين أو البناء عليها

ولا إشكال في كونها مكروهة؛ لدلالة الروايات التي منها: موثّقة علىّ بن أسباط عن علىّ بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح ؟ قال: «لا يصلح البناء عليه، ولا الجلوس، ولا تجصيصه، ولا تطيينه»(1). بناءً على عدم ظهور «لا يصلح» في الحرمة؛ ولذا قال في الجواهر: «لا إشكال في كراهة التجصيص ابتداءً أو بعد الاندراس؛ للإطلاق المتقدّم مع قصور المعارض له». وقال أيضاً بالكراهة في التطيين وإن خصّها بغير طين القبر(2).

وكيف كان، فلا دليل على حرمة التجصيص والتطيين ولا البناء على القبور عدا ما رواه في جامع الأحاديث عن إكمال الدين، عن كتاب جعفر بن محمّد بن شريح الحضرمي، عن عبدالله بن طلحة عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «مِن أكْل السحت سبعة: الرشوة في الحكم، ومهر البغيّ ، وأجر الكاهن، وثمن الكلب، والذين يبنون البنيان على القبور...» الحديث(3).

ولم أرَ توثيقاً لجعفر بن محمّد بن شريح الحضرمي، نعم قال في معجم رجال الحديث: «قال الشيخ: «جعفر بن محمّد بن شريح الحضرمي له كتاب رويناه بالإسناد الأوّل عن ابن همّام، عن حميد، عن أحمد بن زيد بن جعفر الأزدي البزّاز، عن محمّد ابن اُميّة بن القاسم الحضرمي، عن محمّد بن جعفر بن شريح». وأراد بالإسناد الأوّل: جماعة من أصحابنا، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، عن أبي علىّ بن همّام - إلى أن

ص: 93


1- المصدر السابق / ج 3، ص 210، الباب 44 من أبواب الدفن، ح 1.
2- جواهر الكلام / ج 4، ص 336.
3- جامع الأحاديث / ج 17، ص 171، الباب 10 من أبواب ما يكتسب به، ح 12.

قال: - وطريق الشيخ إليه ضعيف بأحمد بن زيد بن جعفر الأزدي البزّاز ومحمّد بن اُميّة»(1).

فالرواية ضعيفة، ولكنّ دلالتها واضحة؛ لأنّ جعل اُجرة البنّاء سحتاً كاشف عن حرمتها كما لا يخفى.

وعدا موثّقة يونس بن ظبيان المرويّة في التهذيب بإسناده عن محمّد بن يحيى، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد بن مروان القندي، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يصلّى على قبر أو يقعد أو يبنى عليه»(2).

وإنّما جعلناها موثّقة مع أنّ يونس بن ظبيان لم يرد فيه توثيق؛ لكفاية نقل صفوان وابن أبي عمير عنه في وثاقته، وكذا يكفي نقل ابن أبي عمير عن زياد القندي في توثيقه، هذا مضافاً إلى أنّ المفيد في الإرشاد عدّه من ثقات أبي عبدالله عليه السلام. وأمّا دلالة النهي على الحرمة فهي وإن كانت واضحة إلاّ أنّها فيما إذا لم يكن مقترناً بالمكروهات المذكورة - من الصلاة على القبر أو العقود عليه - فإنّه مع الاقتران المذكور يقرب أنّ المراد من النهي هو الكراهة. ويؤيّده: دعوى الإجماع على حمله على الكراهة، فتدبّر جيّداً.

وعدا ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم ابن سليمان، عن جرّاح المدائني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا تبنوا على القبور ولا تصوّروا سقوف البيوت؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كره ذلك»(3).

ص: 94


1- معجم رجال الحديث / ج 4، ص 112.
2- وسائل الشيعة / ج 3، ص 210، الباب 44 من أبواب الدفن، ح 2.
3- المصدر السابق / ح 3.

وعن النجاشي: أنّ لقاسم بن سليمان كتاباً يرويه النضر بن سويد، وأنّ لجرّاح المدائني كتاباً يرويه جماعة منهم النضر بن سويد، ولا توثيق لهما.

وفيه - مع الغمض عن سنده -: أنّ دلالته على الحرمة غير واضحة بعد تعليله بالكراهة التي هي أعمّ من الحرمة. هذا مضافاً إلى اقترانه ببعض المكروهات، فاستفادة حرمة البناء من هذه الروايات محلّ إشكال سنداً أو دلالةً ، ولعلّه لذا جعله في مستند الشيعة من المكروهات؛ حيث قال في عدّ المكروهات: «والبناء عليه إجماعاً كما عن المبسوط والتذكرة، سواء كان القبر في أرض مباحة مسبّلة أو مملوكة؛ لاستفاضة النصوص على النهي عنه المحمول على الكراهة إجماعاً».(1)

وفي المستند أيضاً: «واستثنى الشهيد وجماعة من ذلك الحكم (أي الكراهة) قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام مدّعياً فيه إطباق الإماميّة على أن يبنوا عليها، مخصّصاً للعمومات بإجماعهم على البناء في عهود كانت الأئمّة عليهم السلام ظاهرة بينهم وبعدهم من غير نكير، وبكون قبر الرسول صلى الله عليه وآله مبنيّاً عليه، وبالأخبار الدالّة على تعظيم قبورهم وعمارتها.

أقول: أمّا إطباقهم على البناء ففيه كلام؛ فإنّ الأكثر من السلاطين والذين لا يمكن مخالفتهم سيّما مع عدم الاهتمام بالمخالفة؛ إذ غايته الكراهة.

وأمّا قبر الرسول فهو وقع في البناء لكونه بيته، لا البناء عليه.

وأمّا تعظيم القبور فهو غير البناء عليها.

نعم، يحسن التخصيص بما دلّ على فضل تعمير قبورهم، كرواية الساجي(2) كما في

ص: 95


1- مستند الشيعة / ج 3، ص 280.
2- التي رواها في البحار عن أبي عامر التبّاني عن أحمد بن زكريا بن طهمان وعن عبدالله بن محمّد بن البلوي (البحار/ ج 97، ص 120-121).

التهذيب، وفيها: «وجعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم - إلى أن قال: - اُولئك، يا علىّ ، المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة. يا علىّ ، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس»(1)».

ثمّ قال في المستند: «ورواه (أي السيّد ابن طاووس) في فرحة الغري أيضاً بسندين»(2).

وقال أيضاً: «وتدلّ على فضل البناء عليها الروايات المتكثّرة المصرّحة بالأمر بالوقوف على باب الروضة أو القبّة أو الناحية المقدّسة، والاستئذان، وتقبيل العتبة، والدعاء عند ترائي القبّة الشريفة، ونحو ذلك ممّا وردت فيه الأخبار الغير العديدة المؤذنة برضاهم بل ميلهم إلى هذه الأبنية الشريفة، والآمرة بآداب متوقّفة على وجود الباب والقبّة والعتبة الموقوفة على البناء(3).

فلا ينبغي الريب في تخصيص عمومات المنع بغير قبورهم، واستحباب البناء عليها مؤكّداً. ويحتمل قويّاً التعدّي إلى قبور من علم انتسابه بالولادة إليه من الأبرار من أولادهم؛ لاحتمال دخوله في ضمير الجمع في قوله: «قبوركم».

وأمّا من لم يعلم انتسابه إليهم وكذا غير أولادهم من العلماء والصلحاء فلا أرى لإخراجهم من عمومات الكراهة وجهاً، والقول بعدم انصرافها إليهم فاسد؛ فالقول بالكراهة فيها أظهر.

ص: 96


1- وسائل الشيعة / ج 14، ص 382، الباب 26 من أبواب المزار، ح 1، عن أبي عامر واعظ أهل الحجاز.
2- فرحة الغري / ص 77-78.
3- انظر: الباب 76 من كامل الزيارات، والباب 6 من مزار الوسائل (ج 14، ص 341-344).

ثمّ المراد بالبناء المكروه ما يسمّى بناءً عرفاً، وأمّا مطلق التظليل ولو بالصناديق والضرائح والخيام والفساطيط فلا دليل على كراهته، إلاّ أنّه ذكرها جماعة كما في القواعد وعن النهاية والمصباح والوسيلة والسرائر، ولا بأس به؛ لفتاواهم مع استثناء ما إذا تعلّق به غرض صحيح كما صرّح به بعضهم»(1).

ولقد أفاد وأجاد، إلاّ أنّ دعوى أنّ إطباقهم على البناء يكون على الأكثر من السلاطين والذين لا يمكن مخالفتهم، ممنوعة؛ إذ في عهد الأئمّة الطاهرين كان السلاطين على الأكثر غير مطبقين على ذلك، بل خالفوا فيه.

ثمّ إنّ قبر الرسول صلى الله عليه وآله وإن كان واقعاً في البناء في بادئ الأمر إلاّ أنّه بعد تخريب البيت وتجديده يصدق على البناء الجديد أنّه بناء على القبر الشريف كما لا يخفى، مع أنّه لم ينقل عن أحد من المسلمين إنكار ذلك.

وحكى العلامّة المجلسي عن صاحب المدارك أنّه قال: وكيف كان، فيستثنى من ذلك قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام؛ لإطباق الناس على البناء على قبورهم من غير نكير، واستفاضة الروايات بالترغيب في ذلك. بل لا يبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء أيضاً استضعافاً لسند المنع، والتفاتاً إلى أنّ في ذلك تعظيماً لشعائر الإسلام، وتحصيلاً لكثير من المصالح الدينية كما لا يخفى(2).

ولا يخفى عليك أنّ استضعاف سند المنع محلّ منع بعد ما عرفت من كون بعض الروايات موثّقاً، بل ترفع اليد عن الكراهة بما ثبت من الشرع من رجحانه، أو من جهة انطباق عنوان راجح عليه، كتعظيم الشعائر وتحصيل كثير من المصالح.

ص: 97


1- مستند الشيعة / ج 3، ص 280-282.
2- مرآة العقول / ج 14، ص 118.

قال في الجواهر: «فاللائق هو استثناء قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام من كراهة البناء على القبور، كما في الذكرى وغيرها، والمقام عندها - إلى أن قال: - وحاصل الكلام: أنّ استحباب ذلك فيها - كاستحباب المقام عندها وزيارتها وتعاهدها - كاد يكون من ضروريّات المذهب إن لم يكن الدين، فلا حاجة للاستدلال على ذلك.

نعم، قد يلحق بقبور الأئمّة عليهم السلام قبور العلماء والصلحاء وأولاد الأئمّة عليهم السلام والشهداء ونحوهم، فتستثنى أيضاً من كراهة البناء ونحوه، كما تقضي به السيرة المستمرّة، مع ما فيه من كثير من المصالح الاُخرويّة. لكنّه لا يخلو من تأمّل؛ لإطلاق أجلاّء الأصحاب من دون استثناء»(1).

وقال المحقّق الكركي: «ولا يخفى أنّ كراهة التجصيص والتجديد فيما عدا قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام؛ لإطباق السلف والخلف على فعل ذلك بها؛ لأنّ فيه تعظيماً لشعائر الله عزّ وجلّ ، ولفوات كثير من المقاصد الدينية بترك ذلك»(2).

وقال العلاّمة المجلسي بعد نقل الأخبار الناهية عن البناء: «لا ريب أنّ الإماميّة مطبقة على مخالفة قضيّتين من هذه: إحداهما: البناء، والاُخرى: الصلاة في المشاهد المشرّفة، فيمكن القدح في هذه الأخبار؛ لأنّها آحاد وبعضها ضعيف الإسناد، وقد عارضها أخبار أشهر منها. وقال ابن الجنيد: لا بأس بالبناء عليه وضرب الفسطاط يصونه ومن يزوره، أو تخصيص هذه العمومات بإجماعهم في عهود كانت الأئمّة عليهم السلام ظاهرة فيهم وبعدهم من غير نكير، وبالأخبار الدالّة على تعظيم قبورهم وعمارتها وأفضليّة الصلاة عندها. ثمّ أورد بعض ما سيأتي من الأخبار الدالّة على فضل زيارتهم وعمارة

ص: 98


1- جواهر الكلام / ج 4، ص 340-341.
2- جامع المقاصد / ج 1، ص 62، الطبعة الحجرية.

قبورهم وتعاهدها والصلاة عندها، ثمّ قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ومع ذلك فقبر رسول الله صلى الله عليه وآله مبنيّ عليه في أكثر الأعصار، ولم ينقل عن أحد من السلف إنكاره، بل جعلوه أنسب لتعظيمه»(1).

ولا بأس هنا بذكر بعض الأخبار الدالّة على وجود البناء على قبور بعض الأئمّة عليهم السلام في عهدهم من دون إنكار منهم عليه:

فمنها: ما رواه في كامل الزيارات: حدّثني أبي وعليّ بن الحسين ومحمّد بن الحسن - رحمهم الله جميعاً - عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن القاسم بن يحيى، عن الحسن بن راشد، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال: كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضّل بن عمر وأبو سلمة السرّاج جلوساً عند أبي عبدالله عليه السلام وكان المتكلّم يونس - وكان أكبرنا سنّاً - فقال له: جعلت فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم - يعني ولد العبّاس - فما أقول ؟ فقال: «إذا حضرتهم فذكرتنا فقل: أرِنا الرخاء والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد». فقلت: جعلت فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين عليه السلام، فأىّ شيء أقول ؟ فقال: «قل: السلام عليك يا أبا عبدالله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليك من قريب وبعيد»... فقلت له: جعلت فداك، إنّي اُريد أن أزوره فكيف أقول وكيف أصنع ؟ قال: «إذا أتيت أبا عبدالله عليه السلام فاغتسل على شاطئ الفرات، ثمّ البس ثيابك الطاهرة، ثمّ امشِ حافياً؛ فإنّك في حرم من حرم الله وحرم رسوله. وعليك بالتكبير والتهليل والتمجيد والتعظيم لله كثيراً والصلاة على محمّد وأهل بيته حتّى تصير إلى باب الحائر، ثمّ تقول...» إلخ(2).

ص: 99


1- بحار الأنوار / ج 79، ص 20.
2- كامل الزيارات / ص 216-217.

ومن المعلوم أنّ المصير إلى باب الحائر لا يمكن بدون البناء ولو بمثل الجدران.

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن جابر الجعفي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام للمفضّل: «يا مفضّل، إذا أتيت قبر الحسين بن عليّ (عليهما السلام) فقف بالباب...» إلخ(1).

ومنها: ما رواه فيه عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام: «... فإذا أتيت الباب الذي يلي المشرق فقف على الباب... ثمّ ادخل الحائر... ثمّ تخرج من السقيفة...» إلخ(2).

فإنّ الظاهر منه أنّ للحائر أبواباً وسقفاً.

ومنها: ما رواه فيه أيضاً في زيارة موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن الواسطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال: «زوروه»، قال: قلت: فأيّ شيء فيه من الفضل ؟ قال: فقال: «فيه من الفضل كفضل من زار والده» - يعني رسول الله صلى الله عليه وآله - قلت: فإن خفت ولم يمكن لي الدخول داخلاً؟ قال: «سلّم من وراء الجدار»(3).

ومنها: ما رواه محمّد بن علىّ بن الحسين بإسناده عن محمّد بن إسماعيل البرمكي، عن موسى بن عبدالله النخعي أنّه قال لعليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام: علّمني يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله قولاً أقوله بليغاً كاملا إذا زرت واحداً منكم، فقال: «إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل، فإذا دخلت ورأيت القبر فقف...» الحديث(4).

لدلالة الدخول على أنّ للقبر الشريف بناءً .

ص: 100


1- المصدر السابق / ص 225.
2- المصدر السابق / ص 237-256.
3- المصدر السابق / ص 314.
4- وسائل الشيعة / ج 14، ص 390، الباب 29 من أبواب المزار، ح 3.

ومنها: ما رواه عليّ بن الحسين بن بابويه عن أبي الصامت قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام وهو يقول: «من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة ألف سنة - إلى أن قال: - فإذا أتيت باب الحائر فكبّر أربعاً، ثمّ امشِ قليلا ثمّ كبّر أربعاً، ثمّ ائتِ رأسه فقف عليه فكبّر أربعاً، وصلِّ عنده، وسل الله حاجتك»(1).

ومنها: ما رواه علىّ بن محمّد الخزّاز في كتاب الكفاية عن علىّ بن الحسين، عن التلعكبري... عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه أخبره بقتل الحسين - إلى أن قال: - «ألا وإنّ الإجابة تحت قبّته، والشفاء في تربته، والأئمّة من ولده»(2).

ومنها: ما رواه أحمد بن فهد في عدّة الداعي قال: روي أنّ الله عوّض الحسين من قتله أربع خصال: جعل الشفاء في تربته، وإجابة الدعاء تحت قبّته، والأئمّة من ذرّيّته، وأن لاتعدّ أيّام زائريه من أعمارهم».(3)

ومنها: ما رواه في عدّة الداعي أيضاً حيث قال: وروي أنّ الصادق عليه السلام مرض، فأمر من عنده أن يستأجروا له أجيراً يدعو عند قبر الحسين عليه السلام، فوجدوا رجلاً فقالوا له ذلك، فقال: أنا أمضي، ولكنّ الحسين إمام مفترض الطاعة وهو إمام مفترض الطاعة! فرجعوا إلى الصادق عليه السلام وأخبروه، فقال: «هو كما قال، ولكنّ ما عرف أنّ لله تعالى بقاعاً يستجاب فيها الدعاء، فتلك البقعة من تلك البقاع»(4).

ولكنّ البقعة لا تدلّ على البناء؛ لإطلاقها على القطعة من الأرض، ومنه: (فَلَمّٰا أَتٰاهٰا

ص: 101


1- المصدر السابق / ص 440، الباب 41 من أبواب المزار، ح 3.
2- المصدر السابق / ص 452، الباب 45 من أبواب المزار، ح 16.
3- المصدر السابق / ص 537، الباب 76 من أبواب المزار، ح 1.
4- المصدر السابق / ح 2.

نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ ...)(1) أللّهمّ إلاّ أن تحمل على القبّة بقرينة سائر الأخبار، فتأمّل.

ومنها: ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن محمّد بن الحسن، عن سعد، عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن عبدوس، عن أبيه قال: قلت للرضا عليه السلام: إنّ زيارة قبر أبي الحسن عليه السلام ببغداد فيها مشقّة، وإنّما نأتيه فنسلّم عليه من وراء الحيطان، فما لمن زاره من الثواب ؟ قال: «والله مثل ما لمن أتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله»(2).

ومنها: ما رواه محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن الحسن بن علىّ بن فضّال، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «إنّ بخراسان لبقعة يأتي عليها زمان تصير مختلف الملائكة، فلايزال فوج ينزل من السماء وفوج يصعد إلى أن ينفخ في الصور»، فقيل له: وأيّة بقعة هذه ؟ فقال: «هي بأرض طوس، وهي والله روضة من رياض الجنّة، من زارني في تلك البقعة كان كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله...» الحديث(3).

وقد عرفت أنّ البقعة لا تدلّ على البناء، ولكنّ المراد من تلك البقعة هي القبّة؛ لرواية الهروي عن مولانا الرضا عليه السلام - في حديث - أنّه دخل القبّة التي فيها قبر هارون في دار حميد بن قحطبة، ثمّ قال: هذه تربتي وفيها أدفن...» الحديث(4).

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

ص: 102


1- سورة القصص / الآية 30.
2- وسائل الشيعة / ج 14، ص 547، الباب 80 من أبواب المزار، ح 10.
3- المصدر السابق / ص 567، الباب 87 من أبواب المزار، ح 4.
4- المصدر السابق / ص 559، الباب 82 من أبواب المزار، ح 24.

المسألة السادسة والعشرون «في الزنا»

لا إشكال ولا ريب في أنّ الزنا فجور وفاحشة ومعصية كبيرة، وهو موجب للحدّ الشرعي على ما فصّل في محلّه، من دون فرق: بين الوضيع والشريف والعبد والحرّ، والرجل والمرأة.

وعقاب الزاني والزانية في الآخرة أليم شديد، وقد ورد في ذلك آيات وروايات عديدة صريحة في ذلك:

أمّا الآيات:

فقوله تعالى: (إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(1) .

وقوله عزّ وجلّ : (وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً)(2) .

وقوله تبارك وتعالى: (اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ

ص: 103


1- سورة النحل / الآية 90.
2- سورة الإسراء / الآية 32.

وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ )(1)

وأمّا الروايات:

فمنها: مارواه الصدوق قدس سره في كتاب عقاب الأعمال عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة أهبّ الله ريحاً نتنة يتأذّى بها أهل الجمع، حتّى إذا هبّت تمسك بأنفاس الناس؛ ناداهم مناد: هل تدرون ما هذه الريح التي قد آذتكم ؟ فيقولون: لا، فقد آذتنا وبلغت منّا كلّ مبلغ - قال: - فيقال: هذه الريح ريح فروج الزناة الذين لقوا الله بالزنا ثمّ لم يتوبوا، فالعنوهم لعنهم الله! - قال: - فلا يبقى في الموقف أحد إلاّ قال: أللّهم العن الزناة»(2).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن الإمام الصادق، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «للزاني ستّة خصال؛ ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. أمّا الّتي في الدنيا: فيذهب بنور الوجه، ويورث الفقر، ويعجّل الفناء. وأمّا التي في الآخرة: فيسخط الربّ ، وسوء الحساب، والخلود في النار»(3).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه»(4).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن عبدالله بن بكير، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام في قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «إذا زنى الرجل فارقه روح الايمان ؟» قال: «قوله

ص: 104


1- سورة النور / الآية 2.
2- عقاب الأعمال / ص 234.
3- المصدر السابق / ص 234.
4- المصدر السابق / ص 235.

تعالى: (وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ؛ ذلك الذي يفارقه»(1).

وغير ذلك من الآيات والروايات.

ثمّ لا يخفى أنّ كلّ ما يؤخذ في قبال هذه الفحشاء حرام وأكل للمال بالباطل، من دون فرق بين أنواع المعاملات؛ سواء كان ذلك بالإجارة أم بغيرها، بل إجارة المحلّ لهذا العمل الشنيع أو إجارة السيّارة لخصوص الذهاب إليه محرّمة، وقد ورد: «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

وفي صحيحة عمّار بن مروان قال: سألت أباجعفر عليه السلام...؟ فقال: «و السحت أنواع كثيرة: منها: اُجور الفواجر...»(2).

وموثّقة سماعة قال: قال: «السحت أنواع كثيرة: منها... وأجر الزانية»(3).

وموثّقة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «السحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، ثمن الخمر، ومهر البغيّ ، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن»(4).

وغير ذلك من الأخبار.

وينبغي لمن ابتلي بذلك أن يتوب ويرجع إلى الله تعالى، وأن يعيد المأخوذ من الأموال إلى مالكيها إن كانوا معلومين، أو التصدّق بها عن مالكيها للفقراء غير السادة بإذن من الحاكم الشرعي إن لم يكونوا معلومين.

ص: 105


1- المصدر السابق / ص 235.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 92، الباب 5 من أبواب مايكتسب به، ح 1.
3- المصدر السابق / ص 93، ح 6.
4- المصدر السابق / ح 5.

ص: 106

المسألة السابعة والعشرون «في السباب»

اشارة

والكلام في المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في حرمة السباب

استدلّ لحرمة السباب بمجموعة من الآيات والروايات:

أمّا الآيات:

فمنها: قوله تعالى: (وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ )(1) .

ومعناه - كما أفاد في زبدة البيان -: ولا يعيب بعضكم بعضاً؛ فإنّ المؤمنين كنفس واحدة، واللمز: الطعن باللسان. ولا يدعو بعضكم بعضاً باللقب السوء الذي لا يرضى به صاحبه، النبز مختصّ باللقب السوء عرفاً. وبئس الجمع بين الإيمان والفسق، فلا يطلق الفاسق على المؤمن، وفيه إشعار بعدم الاجتماع بينهما، فتأمّل(2).

ص: 107


1- سورة الحجرات / الآية 11.
2- زبدة البيان / ص 529، الطبعة الحديثة.

ويحتمل أن يكون المراد من الفسوق هو ذكر المؤمنين باللقب السوء، كما لعلّه يشير إليه قوله صلى الله عليه وآله: «سباب المؤمن فسوق».

وكيف كان، فالآية تدلّ بقوله: (وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ )(1) على أنّ ذكر المؤمنين بالألقاب السيّئة منهيّ عنه.

ويشكل ذلك: بأنّ السباب قد يكون بغير ذكر اللقب السوء، فالآية أخصّ من المدّعى. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ اللقب أعمّ ممّا صار عنواناً، فتشمل الآية المباركة وصف شخص بوصف يفيد السبّ والشتم أيضاً.

ومنها: قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ * حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ )(2) .

بدعوى: أنّ السباب من أوضح مصاديق قول الزور، والزور هو الباطل. واستدلّ به في مصباح الفقاهة وقال: «لا ينافي ذلك ما ورد من تطبيق الآية على الكذب»(3).

وظاهر الأمر بالاجتناب هو الوجوب، وعليه: فارتكاب قول الزور محرّم، كما أنّ عدم الاجتناب عن الرجس محرّم.

وأورد عليه في إرشاد الطالب بأنّ : «الزور ظاهره الباطل، فيكون قول الزور هو الكلام الباطل، واتّصافه بالبطلان يكون باعتبار معناه لا محالة، فينطبق على الكذب وما هو متضمّن له. وأمّا الإنشاءات التي لا تتضمّن الأخبار الكاذبة فلا يكون فيها بطلان، كما إذا قال بمسمع من الناس لإنسان غير حاذق: «يا حمار»، فإنّ الكلام المزبور باعتبار

ص: 108


1- سورة الحجرات / الآية 11.
2- سورة الحج / الآيتان 31 و 32.
3- مصباح الفقاهة / ص 279.

كونه هدراً لكرامة ذلك الإنسان وتنقيصاً له سبٌّ ، ولكن لا يكون من الباطل، نظير ما إذا قال للشجاع إنّه أسد؛ فإنّه مع فرض كونه شجاعاً لا يكون من الباطل»(1).

وفيه: أنّه لا وجه لتخصيص الباطل بالأخبار الكاذبة حتّى لا يشمل الإنشاءات؛ لصحّة إطلاق الباطل على صيغ المعاملات أيضاً؛ باعتبار عدم ترتّب الأثر عليها مع أنّها إنشاءات لا أخبار فيها.

ويؤيّده بل يشهد له: ما في القاموس من أنّ : «الزور - بالضمّ -: الكذب، والشرك بالله تعالى، وأعياد اليهود والنصارى، والرئيس، ومجلس الغناء، وما يعبد من دون الله تعالى، والقوّة، وهذه وفاق بين لغة العرب والفرس»(2).

ومن المعلوم أنّ الموارد المذكورة تشترك في عنوان الباطل، فلا وجه لدعوى اختصاص الباطل بالأخبار الكاذبة، مع أنّ العبارة من مقولة الإنشاء. ودعوى الاشتراك اللفظي مع صدق معنى الباطل على غالب الموارد المذكورة، كما ترى.

هذا مضافاً إلى أنّ السبّ عنوان مستقلّ ولو لم يوجب التنقيص، فلا وجه لقوله: «فإنّ الكلام المزبور باعتبار كونه هدراً لكرامة ذلك الإنسان وتنقيصاً له، سبٌّ ».

وأيضاً: فإنّ مجرّد وجود الشبه في الجملة بين غير الحاذق والحمار لا يوجب خروج قوله: «يا حمار» عن الباطل، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا يمكن أن يقال: بأنّ قول الزور هو شهادة الزور، مستشهداً بما روي عن أيمن بن حزيم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قام خطيباً فقال: «يا أيّها الناس! عدلت شهادة الزور بالشرك بالله»، فإنّه لا يدلّ على اختصاص قول الزور بشهادة

ص: 109


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 159.
2- القاموس المحيط / مادّة «زور».

الزور؛ إذ لعلّ ذلك من باب ذكر أحد المصاديق.

ويشهد له: ما أفاده في زبدة البيان من أنّه: «روى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية»(1)؛ إذ لو اختصّ قول الزور بشهادة الزور لم يدخل فيه الغناء وغيره كما لا يخفى.

فتحصّل: أنّ الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب الاجتناب عن سباب المؤمنين صحيح؛ لأنّه قول الزور؛ لكونه باطلا وواقعاً في غير محلّه كما لا يخفى.

ومنها: قوله تعالى: (لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً)(2) .

بدعوى: أنّ السباب من مصاديق السوء من القول، وهو ممّا لا يحبّه الله تعالى، وكلّ ما لا يحبّه الله تعالى في القرآن الكريم يكون من المبغوضات؛ لعدم ذكر ما لا يحبّه الله تعالى في القرآن الكريم للمباحات أو المكروهات.

هذا مضافاً: إلى أنّ الاستثناء من المباح لا معنى له؛ إذ الجهر بالسوء من القول ممّن ظلم جائز بلا كلام، فإذا كان المراد من قوله: (لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ ) هو المبغوضيّة دلّت الآية الكريمة على مبغوضيّة السباب، وهي مساوقة للحرمة.

واُورد عليه: بأنّ «الظاهر - ولا أقلّ من الاحتمال - أن يكون قوله سبحانه: (مِنَ اَلْقَوْلِ ) بياناً للجهر بالسوء لا للسوء، والمراد: أنّه عند ارتكاب إنسان سوءاً يكون إظهاره جهراً بالسوء، سواء كان المظهر - بالكسر - هو المرتكب أم غيره، وأنّ الله لا يحبّ هذا الإظهار والجهر إلاّ من المظلوم؛ فإنّه يجوز له التظلّم وإظهار ما فعله الغير في حقّه من

ص: 110


1- زبدة البيان / ج 1، ص 3-4.
2- سورة النساء / الآية 148.

السوء، وهذا لا يرتبط بالسبّ أصلا، وعلى ذلك: فارتكاب الشخص للحرام معصية وإظهار ارتكابه للناس معصية اُخرى»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الظاهر أنّ قوله تعالى: (مِنَ اَلْقَوْلِ ) بيان للسوء؛ لقربه إليه، وجعله بياناً للجهر خلاف الظاهر والاُسلوب العربي؛ إذ لا يفصل بين البيان والمبيّن به، كقوله عزّ وجلّ : (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ )(2) . ويؤيّد ذلك: ما ورد في بعض الأخبار، كما حكي عن مجمع البيان حيث قال: «قيل في معنى الآية أقوال: أحدها: لا يحبّ الله الشتم في الانتصار إلاّ من ظلم، فلا بأس أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام؛ وذلك لأنّ ظاهر المروي أنّ المراد من السوء هو القول السيّئ وهو الشتم، ولا يساعد ذلك مع جعل السوء مختصّاً بسوء الأفعال.

نعم، ينافيه ما روي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه (أي أنّ من ظلم هو) الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله»(3)؛ فإنّ الظاهر منه أنّ المراد من السوء هو سوء ما فعله.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ السوء من القول يعمّ ذكر السوء من الفعل؛ لأنّ ذكر السوء من الفعل هو السوء من القول أيضاً. وعليه فيصحّ الاستدلال بالآية للمقام ولإظهار السوء من الفعل، فتدبّر جيّداً.

لا يقال: إنّ الاستثناء بقوله: (إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ ) قرينة على أنّ السوء من القول لا يشمل سباب المؤمن؛ وذلك لعدم جواز السباب من المظلوم أيضاً لأنّه معصية، والتظلّم

ص: 111


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 160.
2- سورة الحج / الآية 30.
3- حكاه عنه في تفسير نور الثقلين / ج 1، ص 470.

بالمعصية لا معنى له، وهذا بخلاف إظهار ما فعله الغير في حقّه من السوء؛ فإنّه وإن كان ممنوعاً من جهة احترام الغير، ولكنّه صار جائزاً عند توقّف التظلّم على الإظهار؛ لأهمّية التظلّم بالنسبة إليه.

لأنّا نقول: نعم، لا يجوز الاعتداء بالمثل إذا كان ما فعله الظالم من الفحشاء والمنكر في نفسه؛ ولذا لا يجوز لمن اُكره على شرب الخمر أن يكره المكره - بالكسر - على شرب الخمر، ولكن كما أنّ إظهار المعاصي أو العيوب ليس في نفسه من المنكر وإنّما هو ممنوع من ناحية أهمّية ستر المعاصي وعدم إشاعتها واحترام نفس المؤمن، كذلك لا يكون الشتم والسبّ في نفسهما من المنكر وإنّما هما ممنوعان من ناحية احترام الغير. ولعلّ تخصيص موضوع الحرمة بالمؤمن أو المسلم ممّا يشهد على أنّ وجه الحرمة هو حفظ احترام المؤمن أو المسلم.

فإذا توقّف التظلّم على شتم الظالم ارتفعت الحرمة؛ لعدم احترام الظالم، ولا يكون نفس الشتم والسبّ من والفحشاء والمنكر، كما أنّ حرمة الغيبة ترتفع إذا توقّف التظلّم عليها.

فتحصّل: أنّ الآية الكريمة تدلّ على حرمة الجهر بالسوء من القول؛ سواء كان ذلك بإظهار ما فعله الغير من العيوب أو بذكر السبّ والشتم، فتدبّر.

وأمّا الروايات:

فمنها: دلالة بعض الروايات على أنّ السبّ فسوق، كموثّقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1).

ص: 112


1- الكافي / ج 2، ص 359.

وروى البرقي مثله إلى قوله: «معصية»، ورواه الصدوق مرسلاً إلى آخره(1).

وروى في المجالس والأخبار بإسناده الآتي عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله - في وصيّته لأبي ذرّ -: يا أبا ذرّ، سباب المسلم فسوق»(2).

وهذه الروايات تدلّ على حرمة نفس السبّ ولو لم يتعنون بعنوان آخر كالظلم والإيذاء ونحوهما؛ وذلك لأنّ الفسوق هو العصيان، وترك أمر الله، والفجور.

ومنها: صحيحته الاُخرى عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم»(3)؛ لظهور النهي في الحرمة. إلاّ أنّ قوله: «فتكتسبوا...» إلخ يصلح لكون النهي إرشاداً إلى أمر آخر وهو اكتساب العداوة، أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ قوله: «فتكتسبوا» هو حكمة الحكم، فتأمّل.

ونحوه ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل النبيّ صلى الله عليه وآله: إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء؟ قال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله، وكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين؛ فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون، فقال: (وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ )(4) »(5).

ص: 113


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 297، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 3.
2- المصدر السابق / ص 280، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 9.
3- الكافي / ج 2، ص 360.
4- سورة الأنعام / الآية 108.
5- وسائل الشيعة / ج 16، ص 254، الباب 36 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 3.

ونحوه أيضاً ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ما أيسر ما رضي الناس به منكم! كفّوا ألسنتكم عنهم»(1).

ومنها: موثّقة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن كالمشرف (كالشرف) على الهلكة»(2). أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ قوله: «كالمشرف» أو «كالشرف» قرينة على كون النهي عن السباب إرشاداً إلى أنّه إشراف على الهلاك.

وكيف كان، فبعض هذه الروايات يدلّ على حرمة السباب في نفسه ولو مع قطع النظر عن سائر العناوين.

وينقدح ممّا ذكر: ما في كلام شيخنا الأعظم قدس سره من الاستدلال على حرمة السباب بأنّه ظلم وإيذاء وإذلال(3)؛ وذلك لأنّ هذه العناوين المذكورة ليست من لوازم السباب؛ لإمكان تحقّق السباب بدونها كما يمكن تحقّقها بدون السباب، وعليه فالنسبة بينها وبين عنوان السباب هي العموم من وجه؛ فكلّ واحد من هذه العناوين موضوع مستقلّ .

قال في ابتغاء الفضيلة: «فلو سبّ أحد أحداً في غيابه ولم يلزم منه هون له في نظر المخاطب ولم ينقص من حقّه شيء حتّى يصدق عليه الظلم، مع قطع النظر عن حرمة سبّه، والمفروض غياب المسبوب وعدم استماعه السبّ حتّى يتأثّر ويتأذّى بذلك، فيحكم بحرمته وكونه فسوقاً؛ لموثّق أبي بصير: «سباب المؤمن فسوق»(4). هذا مضافاً

ص: 114


1- المصدر السابق / ح 1.
2- الكافي / ج 2، ص 359. وسائل الشيعة / ج 12، ص 298، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 4.
3- المكاسب المحرّمة / ص 32.
4- ابتغاء الفضيلة / ص 89.

إلى أنّ الإذلال - وهو التعرّض لعرض المؤمن وكرامته - من مصاديق الظلم وليس شيئاً آخر.

وعلى تقدير كون العناوين المذكورة مستقلّة في تعلّق الحرمة فاللازم هو تعدّد العقوبة فيما إذا اجتمعت في مورد واحد.

ومنها: ما رواه في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمان بن الحجّاج، عن أبي الحسن موسى عليه السلام في رجلين يتسابّان ؟ قال: «البادئ منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم»(1).

بدعوى: أنّ الظاهر من الرواية هو التعرّض لصورة كون كلّ واحد من الطرفين بصدد سبّ الآخر، لا أنّ أحدهما صدر منه السبّ وكان الآخر في مقام الدفاع والتظلّم؛ وإلاّ فلا مجال للتعبير بأنّ البادئ منهما أظلم؛ لدلالته على أنّ الآخر ظالم أيضاً، مع أنّه لو كان في مقام الدفاع والتظلّم لا يكون ظالماً. نعم، تدلّ الرواية على حرمة السبّ بعنوان الظلم لا بعنوان نفسه، ولعلّه من جهة الملازمة بين السبّ والظلم بحسب الغالب.

لا يقال: إنّ قوله عليه السلام: «ووزر صاحبه عليه» يقتضي أن لا يكون على صاحبه شيء من الوزر، وهو كما ترى.

لأنّا نقول: نعم لولا قوله عليه السلام: «البادئ منهما أظلم» فإنّه قرينة على أنّ كلّ واحد منهما ارتكب ظلماً، وعليه فيحمل قوله: «ووزر صاحبه عليه» على أنّ المراد: مثل وزر صاحبه عليه؛ لكونه مسبّباً لوزره.

وربّما يقال: إنّ تقييد الوزر في الرواية بما إذا لم يعتذر إلى الآخر لا يمكن الأخذ

ص: 115


1- الكافي / ج 2، ص 360.

بظاهره؛ فإنّ الاعتذار إلى المظلوم في سبّه وإيقاعه في السبّ لا يوجب ارتفاع الوزر بل ارتفاعه موقوف على التوبة إلاّ أن يكون الداعي إلى اعتذاره توبته(1).

ويمكن أن يقال: إنّ قوله: «ما لم يعتذر...» إلخ قيد لقوله عليه السلام: «ووزر صاحبه عليه»، ولا إشكال فيه؛ حيث إنّ كون وزر صاحبه عليه من جهة التسبيب، فإذا اعتذر انتفى التسبيب بقاءً ولا حاجة إلى التوبة إلاّ في رفع العقوبة عمّا فعل بنفسه. نعم، إن كان اعتذاره بداعي التوبة برأ من الوزرين كما أفاده الشيخ الأعظم.

هذا مضافاً إلى أنّ الرواية أوردها الكليني بنفس السند في باب السفه من الكافي هكذا: «ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يتعدّ المظلوم»(2)، فيكون المعنى حينئذ - كما قيل -: ما لم يتعدّ المظلوم ما اُبيح له من مقابلته، فالمراد بوزر صاحبه الوزر التقديري ولكن هذه النسخة لا تنسجم مع قوله عليه السلام في صدر الرواية من أنّ البادئ منهما أظلم؛ إذ المقابلة بما اُبيح للمظلوم لا تكون ظلماً، ولا وزر له حتّى يصحّ أن يقال: «ووزر صاحبه عليه»، وحمله على الوزر التقديري خلاف الظاهر من الصدر.

قال المحقّق المازندراني قدس سره: «وأمّا إثم سبّ الرادّ: فلأنّ البادئ هو الحامل له على الردّ، وإن كان منتصراً فلا إثم على المنتصر؛ لقوله تعالى: (وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ) الآية(3)، لكنّ الصادر منه سبّ يترتّب عليه الإثم، إلاّ أنّ الشرع أسقط منه المؤاخذة وجعلها على البادئ؛ للعلّة المتقدّمة»(4).

ص: 116


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 161.
2- الكافي / ج 2، ص 322، باب السفه، ح 3.
3- سورة الشورى / الآية 41.
4- شرح اصول الكافي / ج 9، ص 337.

وفيه: أنّ ترتّب الإثم ممنوع بعد جواز الانتصار. وكيف كان، فإجمال الذيل لا يضرّ بدلالة الرواية على أنّ السبّ والشتم ظلم ومعصية.

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تحريم الفحش والبذاء. وعلى كلّ حال، فإنّ جملة من هذه الآيات والروايات تكفي للدلالة على حرمة سباب المؤمنين، فلا تغفل.

المقام الثاني: في المراد من السباب

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ المرجع في السبّ إلى العرف، وفسّره في جامع المقاصد بإسناده ما يقتضي نقصه إليه، مثل: الوضيع والناقص، وفي كلام بعض آخر: إنّ السبّ والشتم بمعنى واحد، وفي كلام ثالث: إنّ السبّ أن تصف الشخص بما هو إزراء (أي ذكر العيب) ونقص؛ فيدخل في النقص كلّ ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتدّ، والتعيير بشيء من بلاء الله تعالى، كالأجذم والأبرص»(1).

وأورد عليه في إرشاد الطالب بأنّه: «لم يظهر الفرق بين هذا (أي قوله: وفي كلام ثالث) وما ذكره في جامع المقاصد»(2).

وفيه: أنّ الفرق واضح؛ لأنّ ما في جامع المقاصد هو إسناد ما له اقتضاء النقص، بخلاف الثالث فإنّه ظاهر في كون السبّ موجباً للنقص بالفعل.

ويؤيّد المحكي عن جامع المقاصد بما عرفت من أنّ السبّ هو عنوان مستقلّ للحرمة ولو لم يوجب التنقيص بالفعل أو لم يتعنون بعنوان آخر كالظلم والإيذاء ونحوهما. نعم له اقتضاء التنقيص، فلفظ الوضيع أو الناقص ونحوهما له اقتضاء النقص؛ ولذا يصحّ أن

ص: 117


1- المكاسب المحرّمة / ص 32.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 161.

نقول: إنّ السبّ أعمّ من الظلم أو الإيذاء أو الإهانة أو التحقير أو التنقيص.

وممّا ذكر يظهر ما في بعض العبائر من أنّ حقيقة السبّ هي الإهانة بالتنقيص سواء كان بالقذف أو بالوصف بمثل الحمار والكلب، وأمّا الإهانة بغير التنقيص - كأن يخاطبه على وجه يعدّ إهانة ولم يكن فيه تنقيص - فالظاهر أنّها ليس بسبّ ؛ لما عرفت من كفاية الاقتضاء للتنقيص في صدق السبّ ، ولا يتوقّف على حصول التنقيص بالفعل، فلو لم يحصل تنقيص بالفعل مع إسناد الوضيع أو الحمار أو الكلب إليه صدق عليه السبّ والشتم؛ لأنّه ممّا يقتضي ذلك.

وكذا لا وجه لاعتبار قصد الإهانة؛ لصدق السبّ والشتم بدونه أيضاً. وممّا ذكر ينقدح ما في كلام الشيخ قدس سره من أنّه يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص؛ وذلك لما عرفت من صدق السبّ والشتم بذكر ما فيه اقتضاء النقص والإهانة ولو لم يحصلا أو لم يقصدا من ذكره، وكلّ ذلك للصدق العرفي.

فتحصّل: أنّ السبّ والشتم يراد بهما التعيير بذكر ما فيه اقتضاء الإهانة والتنقيص. وربّما قيّد السبّ بوصف الوجيع، والمراد منه دخالة الإيلام والإيجاع في معنى السبّ والشتم، مع أنّه كما ترى؛ لأنّ الشتم والسبّ أعمّ ولا وجه لتقييده ببعض مصاديقه.

ولعلّه يرجع إليه ما في لسان العرب من أنّ «سَبَّ »: أي عيّر بالبخل، والسبّ : الشتم(1)؛ لأنّه اعتبر التعيير في صدق السبّ والشتم، لا حصول النقص والإهانة فالمعتبر في صدق السبّ هو التعيير بذكر ما فيه اقتضاء الإهانة والتنقيص ولو لم يلازم الظلم أو الإيذاء.

ثمّ إنّ المواجهة مع المسبوب لا تعتبر في صدق السبّ ؛ لوضوح صدقه من دونها، فيقع الكلام حينئذ في الفرق بينه وبين الغيبة، وهو واضح، فإنّ الغيبة إظهار لما ستره الله تعالى،

ص: 118


1- لسان العرب / مادّة «سبب».

بخلاف السبّ فإنّه قد يتحقّق من دون أن يكون إظهاراً لما ستره الله تعالى؛ كأن يخاطب المسبوب بصفة ظاهرة مع التعيير بها، كما أنّ الغيبة قد تتحقّق من دون تعيير، كأن يظهر عيبه المستور بلا قصد التعيير كالمستشار، وقد يجتمعان كما إذا عيّره بإظهار المستور، وعليه فالنسبة بينهما هي العموم من وجه.

والمحكي عن المحقّق الإيرواني: أنّ النسبة بين السبّ والغيبة هي التباين؛ فإنّ السبّ هو ما كان بقصد الإنشاء، وأمّا الغيبة فجملة خبرية.

وأورد عليه في مصباح الفقاهة بأنّه: «لا دليل على هذه التفرقة؛ فإنّ كلاًّ منهما يتحقّق بكلّ من الإنشاء والإخبار»(1).

وفيه: أنّه يمكن أن يكون السبّ بالتعيير بالآثار عن وجود شخص فاسق في آباء فرد أو وجود رذيلة في صفات أحد، كما يمكن أن يكون بالتعيير بوصف مشهود كالعمى الذي يكون من الإنشاءات، ولكنّ الغيبة لابدّ أن تكون بالإخبار عن عيب مستور ولا تتصوّر بالإنشاء هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ السبّ بالتعيير بالإخبار يكون التعيير دخيلاً في تحقّق السبّ لا الإخبار، وعليه فالسبّ من مقولة الإنشاء لا من مقولة الإخبار، كما أنّ الغيبة من مقولة الإخبار، فتأمّل.

ولكنّ التباين المذكور لا يمنع من كون النسبة بينهما في الصدق من باب العموم من وجه.

ثمّ إنّ الفرق بين السبّ واللعن واضح؛ فإنّهما وإن كانا من مقولة الإنشاء ولكن اللعن من مقولة الدعاء عليهم، بخلاف السبّ فإنّه ليس دعاء عليهم فيستحقّ اللعن الظالمون والمنكرون والملحدون والذين يؤذون الله ورسوله، كما نصّ عليه في قوله عزّ وجلّ : (إِنَّ

ص: 119


1- مصباح الفقاهة / ص 281.

اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1) .

المقام الثالث: في المسبوب

قال في المواهب: «لا شكّ أنّ سبّ المؤمن حرام من غير فرق بين الموافق والمخالف؛ لما عرفت من قوله صلى الله عليه وآله: «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»»(2).

ولا يخفى عليك أنّ المؤمن هو الذي آمن بكلّ ما لزم الاعتقاد به ممّا نزل من الله تعالى وحكم به العقل، ومن المعلوم أنّ من لم يؤمن ببعض ما أنزل الله إلى رسوله وحكم به العقل لم يصدق عليه المؤمن بوصف الإطلاق، وعدم صدق المؤمن عليه ليس من جهة اختلاف المفهوم بل من جهة اختلاف المصداق؛ فإنّ مصداق ما نزل من الله تعالى عند ظهور الإسلام كان منحصراً في قلائل من الاُمور، بخلافه عند رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله، فإنّه صار كثيراً غاية الكثرة، والمؤمن هو الذي آمن بجميع ما نزل منه وحكم به العقل من دون تفرقة في ذلك، ولا يطلق المؤمن على وجه الإطلاق لو آمن ببعض وكفر ببعض آخر.

وربّما يقال: يكفي الاعتقاد إجمالاً بما نزل منه تعالى وحكم به العقل في صدق المؤمن وإن أخطأ في التطبيق، وعليه يصدق على جميع المستضعفين من المسلمين الذين يؤمنون بما نزل منه تعالى وحكم به العقل إجمالاً أنّهم مؤمنون.

وفيه: أنّ الظاهر من جملة من الأخبار الكثيرة هو لزوم المعرفة التفصيلية في صدق

ص: 120


1- سورة الأحزاب / الآية 57.
2- المواهب / ص 418.

الإيمان، ولا يكفي للمتمكّن منها المعرفة الإجمالية، ومن هذه الأخبار: قوله صلى الله عليه وآله: «من مات لا يعرف امامه مات ميتة جاهلية»(1). فالاعتقاد الإجمالي لا يكفي في صدق الإيمان.

أللهمّ إلاّ أن يقال: نعم، هذا صحيح بحسب الواقع ونفس الأمر، ولكنّ مقتضى بعض الأخبار أنّ غير المؤمنين من طوائف المسلمين محكومون بجميع أحكام الإسلام بحسب الظاهر، وعليه فلا فرق بينهم وبين المؤمنين في حرمة السبّ ، ومن جملة تلك الأخبار: معتبرة حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام [قال:] سمعته يقول: «الإيمان: ما استقرّ في القلب، وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام: ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فخرجوا بذلك من الكفر واُضيفوا إلى الإيمان. والإسلام لا يشرك الإيمان، والإيمان يشرك الإسلام» - إلى أن قال: - قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك ؟ فقال: «لا، هما يجريان في ذلك مجرىً واحداً، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزّ وجلّ »(2).

فهذه الرواية تدلّ على أنّ المؤمن والمسلم مشتركان في الأحكام عدا ما خرج بالأدلّة والنصوص، هذا مضافاً إلى تعليل التعزير في الافتراء على المملوك في موثّقة أبي بصير بحرمة الإسلام(3)، وإلى تحريم تعيير المسلم وغيبته(4).

ص: 121


1- الكافى / باب من مات و ليس له امام، ج 1، ص 377.
2- الكافي / ج 2، ص 26، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، ح 5.
3- وسائل الشيعة / ج 28، ص 181، الباب 4 من أبواب حدّ القذف، ح 12.
4- انظر: المصدر السابق / ج 12، ص 276-286، الباب 151 و 152 من أبواب أحكام العشرة.

وعليه، فحرمة السباب تعمّ المسلم من الموافق والمخالف ولو بحسب الظاهر، فتأمّل.

ثمّ إنّ مقتضى اختصاص الموضوع بالمؤمنين والمسلمين هو عدم شمول الآيات والروايات لغير المؤمنين والمسلمين من الكفّار والمشركين.

ولا مجال للتمسّك بقوله عليه السلام: «لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداو ة بينهم»(1) لإثبات حرمة السبّ بالنسبة إليهم؛ لأنّ النهي فيه ليس مولويّاً؛ لظهوره في الإرشاد، فهو تابع لما يرشد إليه؛ فإن كان محرّماً فالسبّ محرّم، وإلاّ فلا.

كما أنّ قوله تعالى: (وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ ) مع تذييله بقوله: (بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ )(2) لا يشمل غير المؤمن والمسلم؛ لأنّ قوله: (بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ ) يصلح للقرينية على أنّ المراد هو التنابز بالألقاب بالنسبة إلى المؤمن والمسلم لا المشرك والكافر.

وأيضاً قوله تعالى: (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ)(3) - أي قول الباطل - لا إطلاق له بالنسبة إلى غير المسلمين والمؤمنين؛ إذ مع عدم الكرامة للكفّار والمشركين لا يكون السبّ في حقّهم باطلا.

وممّا ذكر يظهر أنّ السوء من القول في قوله تعالى: (لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ )(4) لا يشمل غير المؤمنين من الكفّار والمشركين؛ لأنّ سبّهم

ص: 122


1- الكافي / ج 2، ص 360.
2- سورة الحجرات / الآية 11.
3- سورة الحج / الآية 30.
4- سورة النساء / الآية 148.

وشتمهم مع ما هم عليه من الكفر والإلحاد والصدّ عن سبيل الله وقتل المسلمين ليس سوءاً من القول. هذا مضافاً إلى أنّهم ظلمونا، وذكرهم بالسوء من القول من قِبل المسلمين يكون داخلاً في المستثنى؛ أي قوله عزّ وجلّ (إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ ) .

وبالجملة، تختصّ الأدلّة من الآيات والروايات بسبّ المؤمنين والمسلمين، ولا تشمل غيرهم من الكفّار والمشركين. ويؤيّد ذلك: سبّهم في الآيات والروايات فمن الآيات: قوله تعالى: (أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ )(1) ، وقوله عزّ وجلّ : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ )(2) ، وقوله تبارك وتعالى: (وَ اِمْرَأَتُهُ حَمّٰالَةَ اَلْحَطَبِ )(3) .

ولو سلّمنا إطلاق أدلّة السبّ فليحمل على غير الكفّار والمشركين؛ جمعاً بينه وبين الأدلّة الدالّة على سبّهم وشتمهم.

فإذا عرفت أنّ سبّ الكفّار والمشركين ليس محكوماً بالحرمة في نفسه فلا يذهب عليك أنّ حكمه في نفسه هو الكراهة، كما يؤيّد ذلك بل يشهد له ما في نهج البلاغة: «ومن كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفّين: «إنّي أكره أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر (الكلام)»»(4).

قال في ابتغاء الفضيلة: «لا يبعد أن يقال بكراهة سبّ غير المؤمن إذا لم يترتّب عليه

ص: 123


1- سورة الأعراف / الآية 179.
2- سورة الأعراف / الآية 176.
3- سورة المسد / الآية 4.
4- نهج البلاغة / ج 2، ص 185، خ 206 (دار الذخائر - قم).

أثر»(1).

وربّما يكون سبّهم محكوماً بالحرمة من جهة كونه سبباً للعداو ة أو سبّ المقدّسات، كما لعلّه يدلّ عليه صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم»(2). وربّما يشير إليه قوله تعالى: (وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )(3) .

وروي أنّ رجلاً سبّ مجوسيّاً بحضرة أبي عبدالله عليه السلام، فزبره ونهاه عن ذلك، فقال: إنّه قد تزوّج بأُمّه! فقال: «أما علمت أنّ ذلك عندهم النكاح ؟!»(4).

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الممنوع هو السبّ في العلن أو مظانّ سماعهم، فإنّه يكون سبباً للعداو ة وسبّ المقدّسات، ويؤيّده قول الإمام الصادق عليه السلام: «وإيّاكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبّوا الله عدْواً بغير علم! وقد ينبغي لكم أن تعلموا حدّ سبّهم لله كيف هو؟ إنّه من سبّ أولياء الله فقد انتهك سبّ الله، ومن أظلم عند الله ممّن استسبّلله وأولياء الله! فمهلا مهلا، فاتّبعوا أمر الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله»(5).

ويؤكّد ذلك بصحيحة هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني عن أبي جعفر عليه السلام قال: «في التوراة مكتوب - فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى بن عمران عليه السلام -: يا موسى، اكتم مكتوم سرّي في سريرتك، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّي وعدوّك من خلقي، ولا تستسبّ لي عندهم بإظهار

ص: 124


1- ابتغاء الفضيلة / ص 90.
2- الكافي / ج 2، ص 360.
3- سورة الأنعام / الآية 108.
4- تهذيب الأحكام / ج 9، ص 365.
5- روضة الكافي / ص 87.

مكتوم سرّي؛ فتشرك عدوّي وعدوّك في سبّي»(1).

وبالمروي عن عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام: «وإذا سمعوا مثالب(2) أعدائنا بأسمائهم سبّونا بأسمائنا، وقد قال الله تعالى: (وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) والعَدْو: الظلم»(3).

المقام الرابع: في تبعات السبّ

لا يخفى أنّ السبّ موجب للتعزير غالباً أو للحدّ أحياناً، ويختلف مقدار التعزير بحسب ما يراه الحاكم الشرعي، وإذا كان المسبوب هو النبيّ صلى الله عليه وآله أو أهل بيته عليهم السلام كان السابّ محكوماً بالقتل وإن كان من بعض طوائف المسلمين، ولا خلاف في ذلك، بل الإجماع بقسميه عليه، وتدلّ عليه عدّة روايات.

أمّا النصوص الدالّة على أنّه موجب للتعزير أو الحدّ:

فمنها: صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل سبّ رجلاً بغير قذف به، هل يجلد؟ قال: «عليه تعزير»(4).

ومنها: خبر وهب بن وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهما السلام): «انّ عليّاً عليه السلام لم يكن يحدّ في التعريض حتّى يأتي بالفرية المصرّحة: يا زانِ ، أو يا ابن الزانية، أو لست

ص: 125


1- كنز الدقائق / ج 4، ص 421.
2- المثالب: العيوب.
3- كنز الدقائق / ج 4، ص 423.
4- وسائل الشيعة / ج 28، ص 202، الباب 19 من أبواب حدّ القذف، ح 1.

لأبيك»(1).

ومنها: خبر الجرّاح المدائني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا قال الرجل: أنت خبيث (خُنَث) أو أنت خنزير فليس فيه حدّ، ولكن فيه موعظة وبعض العقوبة»(2).

ومنها: خبر أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام: «قضى أميرالمؤمنين عليه السلام في الهجاء التعزير»(3).

وأمّا النصوص الدالّة على كونه موجباً للقتل:

فمنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه سئل عمّن شتم رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال عليه السلام: «يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام»(4).

ولكن يقيّد ذلك بما إذا لم يكن خوف على نفسه، كما تدلّ عليه صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ رجلاً من هذيل كان يسبّ رسول الله صلى الله عليه وآله...»، فقلت لأبي جعفر عليه السلام: أرأيت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبيّ صلى الله عليه وآله أيقتل ؟ قال: «إن لم تخف على نفسك فاقتله»(5).

أو بما إذا لم يكن موجباً لقتل بريء، كما تدلّ عليه صحيحة هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما تقول في رجل سبّابة لعليّ عليه السلام ؟ - قال: - فقال: «حلال الدم والله لولا أن تعمّ به بريئاً» - قال: - قلت: لأيّ شيء يعمّ به بريئاً؟ قال: «يقتل مؤمن بكافر...»

ص: 126


1- المصدر السابق / ص 205، ح 9.
2- المصدر السابق / ص 203، ح 2.
3- المصدر السابق / ص 204، ح 5.
4- المصدر السابق / ص 337، الباب 7 من أبواب حد المرتد، ح 1.
5- المصدر السابق / ص 213، الباب 25 من أبواب حدّ القذف، ح 3.

الحديث(1).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره قال: «ويلحق بسبّ النبيّ صلى الله عليه وآله سبّ الأئمّة عليهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء - عليها السلام - من دون خلاف بين الأصحاب، بل ادّعي عليه الإجماع بقسميه؛ وذلك لما علم من الخارج بالضرورة أنّ الأئمّة عليهم السلام والصدّيقة الطاهرة بمنزلة نفس النبيّ صلى الله عليه وآله، وأنّ حكمهم عليهم السلام حكمه صلى الله عليه وآله، وكلّهم يجرون مجرى واحداً». ثمّ استدلّ بصحيحة هشام بن سالم الواردة في سبّابة عليّ عليه السلام وصحيحة داود بن فرقد(2).

ولكنّ صحيحة داود بن فرقد تناولت الناصب لا السابّ ، وأمّا صحيحة هشام بن سالم فلها ذيل يدلّ على عدم التعرّض لمن يذكر أبا عبدالله ويؤذي أصحابه، ولعلّ الذيل محمول على عدم السبّ والنصب أو على صورة إثارة الفتنة لو قتله، وكيف كان فالمسألة واضحة؛ لكون الأئمّة عليهم السلام وسيّدتنا فاطمة عليها السلام في حكم النبيّ صلى الله عليه وآله بالضرورة.

هذا مضافاً إلى صحيحة هشام بن سالم الواردة في سبّابة عليّ عليه السلام، فلا تغفل.

نعم، يجوز السبّ عند التقيّة كما نصّت عليه معتبرة ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبدالله عليه السلام: «ما منع ميثم (رحمه الله) من التقيّة، فوالله لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه: (إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ )(3) »(4).

المقام الخامس: في موارد الاستثناء

فمنها: المتجاهر بالفسق، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «يستثنى من المؤمن المظاهر

ص: 127


1- المصدر السابق / ص 215، الباب 27 من أبواب حدّ القذف، ذيل ح 1.
2- تكملة المنهاج / ج 1، ص 264.
3- سورة النحل / الآية 106.
4- جامع الأحاديث / ج 14، ص 575.

بالفسق؛ لما سيجيء في الغيبة من أنّه لا حرمة له. وهل يعتبر في جواز سبّه كونه من باب النهي عن المنكر فيشترط بشروطه أم لا؟ ظاهر النصوص والفتاوى - كما في الروضة - الثاني، والأحوط الأوّل»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الاستثناءَ في المقام متفرّعاً على استثنائه في الغيبة محلُّ تأمّل؛ و ذلك لما ذكره السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في مسألة الغيبة من أنّه: لم يدلّ دليل معتبر على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ليكون مقيّداً للإطلاقات الدالّة على حرمة الغيبة مطلقاً، بل وجه تجويز غيبة المتجاهر فيما تظاهر به: هو خروجه عن حدود الغيبة تخصّصاً وموضوعاً؛ لأنّه كشف ستره بنفسه بالتظاهر قبل أن يكشفه المغتاب - بالكسر - فلا يبقى مورد للغيبة كما لا يخفى(2).

وحيث إنّه في المقام ليس الموضوع - وهو المؤمن في «سباب المؤمن فسوق» - مقيّداً بعدم التظاهر بالفسق، فجواز الغيبة فيما تجاهر به لا يلازم جواز السبّ ؛ لأنّ موضوع السبّ لا يرتفع بالتجاهر، بخلاف موضوع الغيبة فإنّه يرتفع بالتجاهر. ودعوى: أنّ كرامة المؤمن بالتجاهر ترتفع ومع ارتفاعها يجوز الغيبة والسبّ ، مندفعة: بأنّه يمكن أن تكون الكرامة من ناحية إيمانه لا من جهة عدم المعصية وعدم التجاهر بها.

وممّا ذكر يظهر عدم جواز السبّ بالمعاصي التي لم يتجاهر بها بطريق أولى.

وأمّا تجويز سبّ المتجاهر من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمشروط بوجود شرائطهما المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعنى ذلك أنّه بمجرّد التجاهر لا يجوز السبّ ، بل لوتوقّف الانتهاء عن المعصية عليه لكان سبّه بما

ص: 128


1- المكاسب المحرّمة / ص 32.
2- انظر: مصباح الفقاهة / ص 339-340.

تجاهر به جائزاً إذا تمّت سائر الشرائط.

ومنها: المبتدع، كما دلّت عليه الروايات المتعدّدة، ومن جملتها: صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة(1)، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم؛ يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(2).

ومنها: ما إذا اقتضت التقيّة، كما نصّت عليه معتبرة ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبدالله عليه السلام: «ما منع ميثم (رحمه الله) من التقيّة، فوالله لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه: (إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ و مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ )»(3) .

ومنها: ما إذا لم يتأثّر المسبوب من السبّ ، كقول الوالد لولده أو السيّد لعبده عند مشاهدة ما يكرهه: يا حمار، وعند غيظه: يا خبيث، ونحو ذلك، وهذا هو الظاهر من شيخنا الأعظم قدس سره(4).

وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بأنّ : «مقتضى الإطلاقات المتقدّمة أنّ سبّ المؤمن حرام مطلقاً سواء تأثّر أم لم يتأثّر.

نعم، إذا لم يوجب إهانة المسبوب في نظر العرف كان خارجاً عن عنوان السبّ

ص: 129


1- أي الغيبة.
2- وسائل الشيعة / ج 16، ص 267، الباب 39 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 1.
3- تقدّم تخريجها آنفاً.
4- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 32.

موضوعاً؛ لما عرفت من اعتبار الإهانة والاستنقاص في مفهوم السبّ »(1).

ولقد أفاد وأجاد في أنّ المعيار ليس هو التأثّر وعدمه، بل مقتضى إطلاق الأدلّة هو حرمة السبّ وإن لم يتأثّر المسبوب، وأمّا ما أفاده من اعتبار الإهانة والاستنقاص في مفهوم السبّ فقد عرفت ما فيه؛ من أنّ المعتبر - كما في جامع المقاصد - هو إسناد ما يقتضي النقص إليه، مثل الوضيع والناقص، لا فعليّة النقص والإهانة، وعليه فكلّ ما يقتضي النقص من لفظ أو عبارة يكون محرّماً وإن لم يتأثّر المسبوب ولم يحصل النقص والإهانة بالفعل بجهة من الجهات؛ إذ مع اقتضاء النقص والإهانة لم يسلب عنه عنوان السبّ ، ومع صدق عنوان السبّ يشمله إطلاق الأدلّة الدالّة على حرمة السبّ .

نعم، لا يحرم لو كان اللفظ المذكور عند العرف غير مقتض للنقص والإهانة أصلاً بحيث لا يطلق عليه عنوان السبّ ، فلا تشمله الأدلّة الدالّة على حرمة السبّ ، كما إذا تكلّم به حبّاً لولده بتشبيهه بحيوان في كثرة الحركة وشدّتها مثلاً، أو إذا تكلّم به حبّاً لزوجته بما يستقبح ذكره.

قال في إرشاد الطالب: «فمقتضى موثّقة أبي بصير المتقدّمة عدم الجواز... إلاّ إذا لم يعدّ الكلام المزبور من المولى أو الأب سبّاً وإهانةً ، كما إذا تكلّم به حبّاً لولده، فيكون نظير ما إذا قال لزوجته ما يستقبح ذكره للغير في عدم كونه هدراً للكرامة»(2).

ومنها: ما إذا كان الوالد أو المعلّم في مقام التأديب وتوقّف ذلك على السبّ ، فإنّ اللفظ المذكور حينئذ وإن كان مقتضياً للنقص ولكن يجوز ذكره لأهمّية التأديب؛ إذ مع أهمّية التأديب تسقط الحرمة. وبالجملة، في هذه الصورة تتزاحم حرمة السبّ مع الأهمّ ،

ص: 130


1- مصباح الفقاهة / ص 282.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 162.

ومقتضاه سقوط الحرمة عن الفعلية، وإن كان المتزاحم مساوياً معه أوجب التخيير في ذلك.

ثمّ اعلم أنّه مع التزاحم بالأهمّ أو المساوي والحكم بسقوط الحرمة أو التخيير لا مجال للتقييد بما إذا لم يكن موجباً للإيذاء؛ لارتفاع حرمة الإيذاء أيضاً من ناحية التزاحم، فيجوز السبّ لو توقّف التأديب عليه ولو صار ذلك موجباً لإيذائه.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا دليل على تجويز السبّ للمعلّم أو الوالد مطلقاً ولو لم يكن لغرض التأديب؛ لأنّ السبّ مقتض للنقص والإهانة ولو كان من معلّم أو والد، ومع الاقتضاء المذكور يطلق عليه السبّ ، فتشمله العمومات الدالّة على حرمة السبّ ، والتأثّر وعدمه لا دخل لهما في صدق السبّ وعدمه، بل يكفي في صدقه اقتضاء النقص والإهانة، وهو موجود في سبّ الوالد أو المعلّم.

وربّما يستدلّ على جواز السبّ للوالد مطلقاً بمثل قولهم عليهم السلام: «أنت ومالك لأبيك»، أو استمرار السيرة.

وهو غير سديد؛ لأنّ الأوّل راجع إلى الجهات الأخلاقية الناشئة من الجهات التكوينية؛ فإنّ الولد بحسب التكوين من المواهب الإلهية للوالد، فلا يناسبه أن يعارض أباه في تصرّفاته؛ وإلاّ فمن الواضح أنّ الولد ليس بمملوك لوالده، والشاهد عليه: هو عدم جواز التصرّف فيما يرجع إلى الأولاد تصرُّفَ الموالي في عبيدهم واُمورهم.

هذا مضافاً إلى أنّه لو ثبت كونه كالمملوك للوالد لما جاز سبّه لو لم يكن لغرض التأديب كما لا يجوز ضربه، فالاستدلال به لجواز السبّ مطلقاً كما ترى.

وأمّا السيرة: فهي ممنوعة في غير مورد التأديب، والقدر المتيقّن منها في الوالد والمعلّم هو مقام التأديب إذا توقّف عليه.

ص: 131

ودعوى: عدم اقتضاء النقص والإهانة في سبّ الوالد والولد والمعلّم والمتعلّم.

مندفعة: بأنّ المعلوم خلافه إلاّ ما شذّ وندر، فتدبّر جيّدا.

ص: 132

المسألة الثامنة والعشرون «في السحر»

اشارة

والكلام في المسألة يقع ضمن اُمور:

الأمر الأوّل: في معناه لغةً وعرفاً

قال في تاج العروس: «السحر - بالكسر -: عمل يقرّب فيه إلى الشيطان وبمعونة منه، وكلّ ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر. والجمع: أسحار وسحور. والفعل - كمنع -: سَحَرَه يَسْحَره سحراً وسحراً وسحرة. ورجل ساحر: من قوم سحرة - إلى أن قال: - ومن المجاز: السحرُ البيانُ في فِطْنَة، كما جاء في الحديث أنّ قيس بن عاصم المنقري والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم قدموا على النبيّ صلى الله عليه وآله، فسأل النبيّ صلى الله عليه وآله عمراً عن الزبرقان فأثنى عليه خيراً، فلم يرضَ الزبرقان بذلك، وقال: والله يا رسول الله إنّه ليعلم أنّني أفضل ممّا قال، ولكنّه حسد مكاني منك، فأثنى عليه عمرو شرّاً، ثمّ قال: والله ما كذبت عليه في الاُولى ولا في الآخرة، ولكنّه أرضاني فقلت بالرضا، ثمّ أسخطني فقلت بالسخط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنّ من البيان لسحراً». قال أبو عبيد: كأنّ معناه - والله أعلم - أنّه يبلغ من ثنائه أنّه يمدح الإنسان فيصدق فيه حتّى يصرف قلوب السامعين إليه؛ أي إلى قوله،

ص: 133

ويذمّه فيصدق فيه حتّى يصرف قلوبهم أيضاً عنه إلى قوله الآخر، فكأنّه سحر السامعين بذلك. انتهى - إلى أن قال: - وقال بعض أئمّة الغريب: وقيل: إنّ معناه: إنّ من البيان ما يكتسب من الإثم ما يكتسبه الساحر بسحره، فيكون في معرض الذمّ ، وبه صرّح أبو عبيد البكري الأندلسي في شرح أمثال أبي عبيد القاسم بن سلاّم، وصحّحه غير واحد من العلماء، ونقله السيوطي في مرقاة الصعود فأقرّه، وقال: وهو ظاهر صيغ أبي داود. قال شيخنا: وعندي أنّ الوجهين فيه ظاهران، كما قال الجماهير من أرباب الغريب وأهل الأمثال.

وفي التهذيب: وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره؛ فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في صورة الحقّ وخيّل الشيء على غير حقيقته فقد سحر الشيء عن وجهه؛ أي صرفه.

وروى شمر عن ابن أبي عائشة قال: «العرب إنّما سمّت السحر سحراً لأنّه يزيل الصحّة إلى المرض، وإنّما يقال سحره؛ أي أزاله عن البغض إلى الحبّ .

وقال الكميت:

وقاد إليها الحبّ فانقاد صعبه *** بحبّ من السحر الحلال التحبّب

يريد أنّ غلبة حبّها كالسحر وليس به؛ لأنّه حبّ حلال، والحلال لا يكون سحراً؛ لأنّ السحر فيه كالخداع»(1).

وفي المصباح المنير: «قال ابن فارس: السحر هو إخراج الباطل في صورة الحقّ ، ويقال هو الخديعة. وسحره بكلامه: استماله برقّته وحسن تركيبه. قال الإمام فخر الدين في التفسير: ولفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر يخفى سببه، ويتخيّل على

ص: 134


1- تاج العروس / مادّة «سحر».

غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، قال تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ )(1) ، وإذا اُطلق ذمّ فاعله. وقد يستعمل مقيّداً فيما يمدح ويحمد، نحو قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إنّ من البيان لسحراً»؛ أي: إنّ بعض البيان سحر؛ لأنّ صاحبه يوضّح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، فيستميل القلوب كما تستمال بالسحر. وقال بعضهم: لمّا كان في البيان من إبداع التركيب وغرابة التأليف ما يجذب السامع ويخرجه إلى حدّ يكاد يشغله عن غيره شبّه بالسحر الحقيقي، وقيل: هو السحر الحلال».(2)

والمحكي عن لسان العرب: «ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتّى يظنّ أنّ الأمر كما يرى وليس الأصل على ما يرى. والسحر: الأخذة، وكلّ ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر.

قال الأزهري: وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيرها؛ فكأنّ الساحر لمّا رأى الباطل في صورة الحقّ خيّل الشيء على غير حقيقته فقد سحر الشيء عن وجهه؛ أي صرفه.

وقال الفرّاء في قوله تعالى: (فَأَنّٰى تُسْحَرُونَ )(3) : معناه فأنّى تُصْرَفون.

وقال يونس: تقول العرب للرجل: ما سحرك عن وجه كذا وكذا؟ أي صرفك»(4).

وفي أقرب الموارد: «سحره سحراً: عمل له السحر وخدعه، وفلاناً عن الأمر: صرفه،

ص: 135


1- سورة طه / الآية 66.
2- المصباح المنير / مادّة «سحر».
3- سورة المؤمنون / الآية 89.
4- لسان العرب / مادّة «سحر».

وبكلامه وألحاظه: استماله وسلب لبّه - إلى أن قال: - ويقال: السحر إخراج الشيء في أحسن معارضه حتّى يفتن؛ ولذلك قيل للرائق المعجب هو السحر الحلال، ويقال: سحرت الفضّة إذا طليتها بالذهب. وقيل: السحر والتمويه يجريان مجرىً واحداً - إلى أن قال: - وفي البيضاوي: السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرّب إلى الشيطان ممّا لا يستقلّ به الإنسان، وإطلاقه على ما يفعله من الحيل حقيقة لغويّة»(1).

وعن صاحب العين: «السحر: عمل يقرّب إلى الشياطين، ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتّى تظنّ أنّ الأمر كما ترى وليس الأمر كماترى، فالسحر عمل خفيّ ؛ لخفاء سببه؛ يصوّر الشيء بخلاف صورته، ويقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ ) ؟!»(2).

إلى غير ذلك من المصادر اللغوية.

والحاصل من كلماتهم ومن المحاورات العرفية: أنّ السحر هو أن يصرف الساحر الشيء عن وجهه في عيون الناس على سبيل الخدعة والتمويه بحيث يلبس الباطل بلباس الحقّ والحقيقة ويري الباطل في صورة الحقّ ، ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، ويستعين في تحصيله بالتقرّب إلى الشيطان. وعليه فاللازم أن يحمل قوله في تاج العروس ولسان العرب: «وكلّ ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر» على ذلك؛ وإلاّ فمن المعلوم أنّه ليس كلّ ما لطف مأخذه ودقّ فهو من السحر، ألا ترى أنّ مثل الأجهزة الكهربائية كالراديو والتلفاز والحاسوب وغيرها من الصناعات الحديثة مشمولة للعبارة

ص: 136


1- أقرب الموارد / مادّة «سحر».
2- كتاب العين / مادّة «سحر».

المذكورة مع أنّها ليست من مصاديق السحر؟!

وبالجملة: فالقدر المتيقّن منها هو صرف الشيء عن وجهه في عيون الناس على سبيل الخدعة والتمويه بحيث يلبس الباطل بلباس الحقّ ويستعين في تحصيله بالتقرّب إلى الشياطين. ويشهد له ما في بعض الآيات الكريمة، كقوله تعالى: (قٰالَ أَلْقُوا فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ )(1) ، وقوله عزّوجلّ : (فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ )(2) .

ولقائل أن يقول: إنّ صرف الشيء عن وجهه على سبيل الخدعة والتمويه وتلبيس الباطل بلباس الحقّ مع التقرّب إلى الشياطين لا يمنع أن يجتمع مع حدوث اُمور وجودية في الواقع، كالعداوة أو المحبّة بين الزوجين أو بين الشخصين. ويشهد له قوله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ )(3) ؛ فإنّ العداوة والإضرار من الاُمور الواقعية.

أللهمّ إلاّ أن يقال: بأنّ منشأ هذه الاُمور الوجودية هو صرف الشيء عن وجهه على سبيل الخدعة والتمويه مع التقرّب إلى الشياطين، فالسحر هو المنشأ لا ما يحدث بسببه من العداوة والمحبّة والإضرار، وعليه فإطلاق السحر على الاُمور المذكورة من باب تسمية الشيء باسم سببه، وهو من المجازات.

وممّا ذكر ينقدح ما حكاه في تاج العروس عن ابن أبي عائشة من إطلاق السحر على

ص: 137


1- سورة الأعراف / الآية 116.
2- سورة طه / الآية 66.
3- سورة البقرة / الآية 102.

إزالة الصحّة إلى المرض مع أنّها مسبّبة عن السحر، وهذا الإطلاق مجازىّ من باب تسمية الشيء باسم سببه.

قال في مصباح الفقاهة: «ليست للسحر حقيقة واقعية، ولكن قد يترتّب عليه أمر واقعيّ ؛ فقد يُظهر الساحر للمسحور شيئاً مهولاً فيخاف هذا ويصبح مجنوناً، أو يريه بحراً وفيه سفينة جارية، فيحاول المسحور أن يركبها فيقع من شاهق ويموت؛ فإنّ الجنون والموت وإن كانا من الاُمور الواقعية إلاّ أنّهما ترتّبا على الأمر التخيّلي الذي هو السحر. ويقرّب ما ذكرناه: ما عن صاحب العين من أنّه «يقلب الشيء من جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة». وقد اُشير إلى ما ذكرناه في خبر الاحتجاج، حيث سئل الإمام عليه السلام عن الساحر: أيقلب الواقع إلى واقع آخر؟ فقال عليه السلام: «هو أضعف من ذلك»»(1).

ودعوى: أنّ الحلّ والعقد أمران وجوديّان ويبعد كونهما من الخيالات، هذا مع ما ورد في سحر بعض الناس للنبيّ صلى الله عليه وآله، والالتزام بالتخيّل بالنسبة إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كما ترى.

مندفعة: بما مرّ في مصباح الفقاهة من أنّه: قد يترتّب على السحر أمر واقعيّ ، وعليه فالحلّ والعقد مترتّبان على السحر وليسا بنفسهما من السحر، بل الساحر يريد شيئاً يترتّب عليه العقد، فإذا زال السحر حصل الحلّ . وأمّا ما حكي بالنسبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فهو أمر غير ثابت.

فتحصّل: أنّ السحر في اللغة والعرف: هو التمويه والخدعة والعمل الخفيّ بحيث يصرف الشيء عن حقيقته في عيون الناس، ويخرج الباطل في صورة الحقّ مع التقرّب

ص: 138


1- مصباح الفقاهة / ص 286.

في تحصيله إلى الشياطين. ولا يقيّد التأثير المذكور بشيء خاصّ ، كالكتابة أو الرقية أو الكلام، بل يشمل بإطلاقه ما إذا لم تكن الأعمال المذكورة موجودة كالإرادة، فاللازم من صرف الشيء في عيون الناس هو وجود المسحور، والتأثير فيه بإراءة الباطل في صورة الحقّ بنحو من الأنحاء، والاستعانة في ذلك بالتقرّب إلى الشياطين، فلا تغفل.

وهذا هو المعنى اللغوي والعرفي، فلا وجه لما عن الفخر الرازي من أنّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر يخفى سببه ويتخيّل على غير حقيقته؛ إذ استعمال لفظ السحر في القرآن في معناه اللغوي والعرفي لا يوجب أن يكون هذا المعنى معنىً شرعيّاً كما لا يخفى. ولقد أحسن البيضاوي حيث قال: «إطلاق السحر على ما يفعله من الحيل حقيقة لغويّة».

ثمّ على تقدير اختصاص السحر بأمر غير واقعيّ فالميز بينه وبين المعجزة واضح؛ لواقعية المعجزة دون السحر، ولعلّه لوضوح ذلك آمن سحرة فرعون بالله تعالى بعد ما رأوا واقعية معجزة موسى بن عمران - على نبيّنا وآله وعليه السلام - من دون تأخير.

وأمّا إذا قلنا بأنّ السحر أعمّ من الأمر الواقعي، فيمكن الفرق بينهما: بأنّ المعجزة ليست لها أسباب عاديّة، بخلاف السحر فإنّ له أسباباً عاديّة يمكن تعلّمها وتعليمها وإن كانت خفيّة. ثمّ إنّ السحر بأيّ معنى كان في معرض البطلان ولا يدوم، بخلاف المعجزة، كما يشهد له قوله تعالى: (فَلَمّٰا أَلْقَوْا قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ * وَ يُحِقُّ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ )(1) .

قال في الميزان: «يدلّ قوله عزّ وجلّ على أنّ الذي جاؤوا به سحر، والسحر شأنه إظهار ما ليس بحقٍّ واقع في صورة الحقّ الواقع لحواسّ الناس وأنظارهم، وإذ كان باطلا

ص: 139


1- سورة يونس / الآيتان 81 و 82.

في نفسه فإنّ الله سيبطله؛ لأنّ السنّة الإلهيّة جارية على إقرار الحقّ وإحقاقه في التكوين وإزهاق الباطل وإبطاله، فالدولة للحقّ وإن كانت للباطل جولة أحياناً؛ ولذا علّل قوله: (إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ ) بقوله: (إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ ) ؛ فإنّ الصلاح والفساد شأنان متقابلان، وقد جرت السنّة الإلهيّة أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد؛ أي يرتّب على كلّ منهما أثره المناسب له المختصّ به - إلى أن قال: - والحاصل: أنّ موسى - على نبيّنا وآله وعليه السلام - إنّما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنّة إلهيّة حقّة غفلوا عنها وليهيّئ نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الآية المعجزة على السحر وظهور الحقّ على الباطل؛ ولذا بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا المعجزة وألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين»(1).

الأمر الثاني: في كلمات القدماء

قال الشيخ الطوسي في النهاية: «وتعلّم السحر وتعليمه والتكسّب به وأخذ الاُجرة عليه حرامٌ محظور، وكذلك التكسّب بالكهانة والقيافة والشعبذة وغير ذلك محرّمٌ محظور»(2).

وقال في السرائر - في عداد المحرّمات -: «والكهانة، والشعبذة، والحيل المحرّمة(3)، وما أشبه ذلك، والقيافة، والسحر وتعلّمه وتعليمه»(4).

ص: 140


1- الميزان في تفسير القرآن / ج 10، ص 112-114.
2- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 76.
3- وفي الإيضاح: «... الاستعانة بالنسب الرياضية؛ وهو علم الحيل وجرّ الأثقال، وهذان النوعان ليسا من السحر».
4- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 14، ص 402.

وقال في الغنية - في عداد المحظور على كلّ حال -: «... والكهانة، والشعبذة وما أشبه ذلك من القيافة والسحر»(1).

وقال في إصباح الشيعة - في عداد المحرّمات -: «وتعلّم السحر والكهانة والقيافة والشعبذة، والتكسّب بها كلّها»(2).

ولم أجد في كلمات القدماء غير هذه، وهي - كما عرفت - خالية عن تعريف السحر. نعم، قال السيّد المرتضى في رسالة الحدود والحقائق: «السحر: تخييل ما ليس له حقيقة كالحقيقة، فيتعذّر على من لا يعلم وجه الجملة فيه»(3).

ثمّ إنّ المحكي عن مجمع البرهان أنّ تحريم السحر وتعلّمه وتعليمه وأخذ الاُجرة عليه إجماعيّ بين المسلمين(4).

وعن الكفاية: أنّه لا خلاف في حرمة عمله والتكسّب به، وعن الإيضاح والتنقيح - بعد ذكر أقسامه - أنّ كلّه حرام في شريعة المسلمين، ومستحلّه كافر(5).

وقال في الجواهر: «من المحرّمات لنفسها تعلّم شيء من السحر للعمل، وتعليمه كذلك وعمله، بلا خلاف أجده فيه في الجملة بين المسلمين فضلا عن غيرهم، بل هو من الضروريّات التي يدخل منكرها في سبيل الكافرين»(6).

ص: 141


1- المصدر السابق / ج 13، ص 208.
2- المصدر السابق / ص 275.
3- رسائل الشريف المرتضى / ص 272.
4- انظر: مجمع البرهان.
5- انظر مفتاح الكرامة / ج 4، ص 69.
6- جواهر الكلام / ج 22، ص 75.

ولا يخفى عليك - بعد ما عرفت من خلوّ كلمات القدماء عن تعريف السحر - أنّ دعوى الإجماع والضرورة مرتبطة بأصل حرمة السحر لا بالأقسام المذكورة في كلمات المتأخّرين؛ لعدم تعرّض القدماء لأقسامه، ولا أقلّ من الشكّ ، فالقدر المتيقّن هو ذلك، ولا دليل على الأزيد من ذلك كما لا يخفى.

ثمّ إنّ نسبة حرمة جميع الأقسام إلى الإيضاح صحيحة - كما ستأتي عبارته إن شاء الله تعالى - دون التنقيح؛ لأنّه اكتفى بنقل ذلك عن الغير.

الأمر الثالث: في تعريف السحر

لم نجد في كلمات المتقدّمين تعريفاً للسحر، وأمّا المتأخّرون فالظاهر أنّ أوّل من عرّفه منهم هو العلاّمة قدس سره في القواعد، حيث قال في تعريفه: «وهو كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رقية، أو يعمل شيئاً يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة»(1).

قال في مفتاح الكرامة: «وقد عرّف بذلك حرفاً بحرف في التحرير والتذكرة إيضاح النافع والتنقيح والكفاية ومجمع البحرين، وكذا المنتهى مع زيادة «عقد»، والمسالك مع زيادة «أقسام وعزائم»، ولكنّه ذكر بدل قوله: «أو يعمل شيئاً» قوله: «يحدث بسببها ضرر»، ومثله المفاتيح، وزاد في الدروس - على ما في المسالك - الدخنة والتصوير والنفث وتصفية النفس، وكلّ ذلك مندرج في قول المصنّف (أي العلاّمة في القواعد): «أو يعمل شيئاً»»(2).

وقال الشيخ الأعظم قدس سره: «نعم، ظاهر المسالك ومحكيّ الدروس أنّ المعتبر في السحر

ص: 142


1- قواعد الأحكام / ج 1، ص 121.
2- مفتاح الكرامة / ج 4، ص 69-70.

الإضرار، فإن اُريد من التأثير في عبارة القواعد وغيرها خصوص الإضرار بالمسحور فهو، وإلاّ كان أعمّ (أي من عبارة المسالك والدروس)»(1).

وأورد المحقّق الكركي في جامع المقاصد على تعريف العلاّمة في القواعد: «وهو كلام...» إلخ بقوله: «واعلم أنّ قوله: «يؤثّر في بدن المسحور» إن كان قيداً في الجميع(2) يخرج عن التعريف كثير من أقسام السحر التي لا تحدث شيئاً في بدن أو قلب أو عقل، وبالأخير(3) أعني قوله: «أو يعمل شيئاً» يخرج عنه السحر بالعمل؛ حيث لا يؤثّر في شيء من المذكورات. ومن السحر: عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها، وإلقاء البغضاء بينهما، ونحو ذلك»(4).

وحاصله: أنّ التعريف المذكور مع كون قوله: «يؤثّر في بدن المسحور...» إلخ قيداً في الجميع ليس جامعاً لأفراد السحر؛ حيث لا ينحصر السحر فيما يوجب إحداث شيء في بدن أو قلب أو عقل، بل يمكن تحقّق السحر بدون ذلك، بل الأمر كذلك إن كان قوله: «يؤثّر» قيداً لخصوص قوله: «أو يعمل شيئاً»، فالسحر عند المحقّق الكركي أعمّ من الموارد التي ذكرها العلاّمة قدس سره، ولا دليل على انحصاره فيها.

ولعلّ مراده من موارد الخروج عن السحر وعدم جامعية التعريف هو الإشارة إلى ما حكي عن الشهيدين والكاشاني؛ من أنّ من السحر: استخدام الجنّ والملائكة والاستنزال للشياطين - في كشف الغائبات وعلاج المصاب - واستحضارهم، وتلبّسهم ببدن صبيّ أو

ص: 143


1- المكاسب المحرّمة، ص 32.
2- أي قوله: «وهو كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رقية أو يعمل شيئاً».
3- أي وإن كان قوله: «يؤثّر» قيداً للأخير، وهو قوله: «أو يعمل شيئاً».
4- جامع المقاصد / ج 1، ص 205، الطبعة الحجرية.

امرأة، وكشف الغائبات على لسانه انتهى. فإنّ هذه الموارد فاقدة للتأثير المذكور في كلام العلاّمة ومع ذلك تكون سحراً.

ويمكن أن يقال - كما في مفتاح الكرامة -: «إنّ مثل استخدام الجنّ والملائكة واستنزال الشياطين ليس من السحر وإن حرم من وجه آخر؛ لكونه كهانة كما ستعرف؛ إذ لا تأثير لهذه الاُمور في شيء من البدن والعقل والقلب، ولا تسحر العين، ولا تورث استرهاباً؛ ولهذا ترك ذكرها الأكثر، وما ذكرهما غير الشهيدين ومن تأخّر عنهما، وبذلك يندفع عن العبارة (أي عبارة القواعد) ونحوها اعتراض المحقّق الثاني حيث قال: «إنّ قوله: يؤثّر، إن كان قيداً في الجميع خرج عن التعريف كثير من أقسام السحر الذي لا يحدث شيئاً في بدن أو عقل»؛ لما عرفت من خروج استخدام الجنّ والملائكة واستنزال الشياطين من السحر، ويؤيّده المحكي عن الشهيد الثاني في المسالك: من أنّ الاستخدام من الكهانة، وأنّها غير السحر؛ قريبة منه»(1).

وما ذكره صاحب مفتاح الكرامة في رفع الإشكال عن القواعد أولى ممّا يستفاد من كلام الشيخ الأعظم قدس سره؛ من أنّ قوله: «يؤثّر في بدن المسحور» يشمل استخدام الجنّ والملائكة واستنزال الشياطين؛ لأنّ المسحور هي الملائكة والجنّ والشياطين، والإضرار بهم يحصل بتسخيرهم وتعجيزهم عن المخالفة له وإلجائهم إلى الخدمة، وعليه فلفظ البدن لا خصوصية فيه، ولا يكون استخدام الجنّ والملائكة واستنزال الشياطين خارجاً عن حقيقة السحر وإن اُطلق عليه الكهانة أيضاً.

فعبارة القواعد بعمومها تشمل هذه الموارد، فلا يرد عليه ما أورده في جامع المقاصد من أنّ التعريف ليس بجامع؛ وذلك لأنّ تعميم التأثير في البدن لمثل التسخير وتعجيز

ص: 144


1- مفتاح الكرامة / ج 4، ص 700.

الشياطين أو الملائكة أو الجنّ خلاف الظاهر، وليس المسحور صادقاً عليهم ولا على من استمع إخباراتهم. نعم، تصدق الكهانة على جملة من التسخيرات والاستنزالات. وعليه فلا يرفع الإشكال عن عبارة القواعد إلاّ بالالتزام بخروج هذه الموارد عن السحر كما ذهب إليه في مفتاح الكرامة.

نعم، يرد على تعريف العلاّمة من ناحية خلوّه عن قيد التخييل والتمويه والتقرّب إلى الشياطين مع اعتباره في اللغة؛ ولذا يشمل التعريف المذكور ما لا يكون سحراً، وعليه فالتعريف ليس بمانع من الأغيار.

هذا كلّه بالنسبة إلى تعريف العلاّمة في القواعد.

ثمّ عرّفه فخر المحقّقين في الإيضاح بما هو أعمّ من القواعد حيث قال: «إنّ المراد بالسحر: استحداث الخوارق بمجرّد التأثيرات النفسانية، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط، أو على سبيل تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة. وقد خصّ أهل المعقول الأوّل باسم السحر، والثاني بدعوة الكواكب، والثالث بالطلّسمات، والرابع بالعزائم، وكلّ ذلك محرّم في شريعة الإسلام، ومستحلّه كافر.

وأمّا على سبيل الاستعانة بخواصّ الأجسام السفلية فهو علم الخواصّ ، أو الاستعانة بالنسب الرياضية؛ وهو علم الحيل وجرّ الأثقال، وهذان النوعان الأخيران ليسا من السحر»(1).

وظاهره أنّ جميع الصور الأربع سحر وإن ذهب الفلاسفة إلى اختصاص الأوّل باسم السحر. قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ولا يخفى أنّ هذا التعريف أعمّ من الأوّل (أي تعريف

ص: 145


1- إيضاح الفوائد / ج 1، ص 405.

العلاّمة)؛ لعدم اعتبار مسحور فيه فضلا عن الإضرار ببدنه أو عقله»(1).

ويرد عليه اوّلاً: - كما في مصباح الفقاهة -: أنّ السحر هو صرف الشيء عن وجهه على سبيل الخديعة والتمويه من دون أن يكون له واقعية، فاستحداث الاُمور الخارقة للعادة ليس من السحر، ولو تمكّن أحد من إحداث الاُمور الغريبة بواسطة القوّة النفسانية الحاصلة بالرياضة أو بصرف المقدّمات فلا يقال له إنّه ساحر، بل لا دليل على حرمته؛ فإنّ هذا شعار أهل الكرامة - إلى أن قال: - إنّ كثيراً من الأقسام المزبورة بل كلّها خارج عن حقيقة السحر(2).

وثانياً: أنّ تطبيق السحر على الأوّل عند الفلاسفة مع عدم صدق السحر عليه عرفاً لا يفيد؛ إذ المعيار في تشخيص المفاهيم وتطبيقها هو العرف العامّ ، وقد عرفت حكم العرف واللغة باختصاص السحر بما فيه التمويه والخدعة والتقرّب إلى الشياطين، والمفروض أنّ الأقسام المذكورة غير متقيّدة بهذه القيود، ومقتضاه خروج جميعها عن حقيقة السحر ولو اُطلق السحر على بعضها عند الفلاسفة.

وثالثاً: أنّ مقتضى تعريف فخر المحقّقين قدس سره هو حصر السحر في الأربعة المذكورة، وعليه يلزم من ذلك خروج السحر بمعناه العرفي عن مصاديق السحر، كما أدرجه ابن خلدون - على ما حكي عنه في دائرة المعارف - في الشعبذة أو الشعوذة(3)، وهو كما ترى؛ لما عرفت من أنّ السحر هو ما يصدق السحر عليه عرفاً، والشعوذة أو الشعبذة أمر واقعيّ يفعله المشعوذ بسرعة من دون أن تكون خيالية واقعاً، وعليه فإنّه أدرج السحر في

ص: 146


1- المكاسب المحرّمة / ص 33.
2- انظر: مصباح الفقاهة / ص 288-293.
3- دائرة المعارف الإسلامية (لفريد وجدي) / ص 55-57.

مباينه وهو الشعوذة، وهو كما ترى.

ثمّ عرّفه العلاّمة المجلسي بالأعمّ من تعريفهما، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «قال في البحار - بعد ما نقل عن أهل اللغة أنّه ما لطف وخفي سببه -: إنّه في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر يخفى سببه ويتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع. انتهى. وهذا أعمّ من الكلّ ؛ لأنّه ذكر بعد ذلك ما حاصله: أنّ السحر على أقسام:

الأوّل: سحر الكلدانيّين الذين كانوا في قديم الدهر، وهم قوم كانوا يعبدون الكواكب، ويزعمون أنّها المدبّرة لهذا العالم، ومنها تصدير الخيرات والشرور والسعادات و النحوسات. ثمّ ذكر أنّهم على ثلاثة مذاهب... والساحر عند هذه الفرق: من يعرف القوى العالية الفعّالة بسائطها ومركّباتها، ويعرف ما يليق بالعالم السفلي، ويعرف معدّاتها ليعدّها وعوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشرية، فيكون متمكّناً من استحداث ما يخرق العادة.

الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القويّة.

الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وقد أنكرها بعض الفلاسفة وقال بها الأكابر منهم، وهي في أنفسها مختلفة؛ فمنهم خيّرة وهم مؤمنو الجنّ ، وشرّيرة وهم كفّار الجنّ وشياطينهم.

الرابع: التخيّلات والأخذ بالعيون، مثل راكب السفينة يتخيّل نفسه ساكناً والشطّ متحرّكاً.

الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركّبة على نسب الهندسة، كرقّاص يرقص وفارسان يقتتلان.

السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية، مثل أن تجعل في الطعام بعض الأدوية المبلّدة

ص: 147

أو المزيلة للعقل، أو الدخن المسكر، أو عصارة البنج المجعول في الملبَّس(1)، وهذا ممّا لاسبيل إلى إنكاره، وأثر المغناطيس شاهد.

السابع: تعليق القلب، وهو أن يدّعي الساحر أنّه يعرف علم الكيميا وعلم اللَّهيا(2) والاسم الأعظم؛ حتّى يميل إليه العوامّ ، وليس له أصل.

الثامن: «النميمة. انتهى الملخّص منه».

ثمّ قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ الجمع بين ما ذكر في معنى السحر في غاية الإشكال، لكنّ المهمّ بيان حكمه لا موضوعه».(3)

وفيه اوّلاً: أنّ دعوى عرف الشرع فيما ذكره مع خلوّ كلمات القدماء عن التعريف، كما ترى، ولا مجال أيضاً لدعوى الاتّفاق في المقام على التعريف المذكور في الشرع؛ لعدم ثبوت اتّفاق فيه.

وثانياً: أنّ التعريف المذكور هو التعريف العرفي كما عرفت، وجعله تعريفاً شرعيّاً لا مورد له. نعم، دعوى الاكتفاء بالتعريف العرفي في كلمات العلماء والروايات لا بأس بها كما لا يخفى.

وثالثاً: أنّ إطلاق السحر على الأقسام المذكورة عدا الرابع منها ليس على الحقيقة؛ لخلوّ السحر عن الواقعية، وتقييده بالتمويه والتخييل والخداع والتقرّب إلى الشياطين. فمثل: استحداث الاُمور الخارقة للعادة، وتأثير أصحاب الأوهام والنفوس القويّة،

ص: 148


1- في المنجد: «الملبّس عند المولّدين: نُقلٌ من لوز و نحوه يلبَّس سكّراً».
2- بفتح اللام و سكون الميم: أي اللطيفة الدقيقة وفي بعض النسخ: «السيميا»، وهو إحداث خيالات لاوجود لها في الحسّ .
3- المكاسب المحرّمة / ص 33.

والاستعانة بالأرواح الأرضية والأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النسب الهندسية، والاستعانة بخواصّ الأدوية، وغيرها من الاُمور الواقعية، ليست بسحر موضوعاً وحكماً؛ لخلوّها عن قيد التمويه والتخييل والخداع، ولا يتناسب جعلها من أقسام السحر مع تعريف السحر في كلامه أوّلاً بما فيه التمويه والتخييل والخداع. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المقصود بيان موارد إطلاق السحر ولو بناءً على المجاز، لا بيان موارد حقيقة السحر.

ثمّ إنّ النميمة وإن كانت محرّمة إلاّ أنّها - كما أفاد في مصباح الفقاهة - أجنبيّة عن السحر وعن مورد الأخبار الدالّة على كفر الساحر ووجوب قتله؛ فإنّ من البديهي أنّ النمّام ليس بكافر ولا يجوز قتله(1)، وإطلاق السحر عليها إنّما هو من باب المجاز؛ لشبهها به من بعض الجهات، كما أنّ تعليق القلب بإطلاقه ليس بسحر؛ وإلاّ لزم أن يكون مطلق الاستمالة سحراً. نعم، تعليق القلب على نحو خاصّ بما فيه التمويه والتخييل والخداع يصدق عليه السحر ويكون حراماً.

هذا بعض الكلام بالنسبة إلى التعاريف الثلاثة المذكورة، وقد عرفت عدم تماميّتها والتخالف بينها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أصحاب التعاريف المذكورة إن كانوا في مقام بيان المعنى اللغوي والعرفي، فاللازم عليهم الاستدلال بكلمات أهل اللغة، وذكر قيود التعريف العرفي؛ من التخييل والتقرّب إلى الشياطين، والمفروض خلاف ذلك.

وإن كانوا في مقام بيان المعنى الشرعي والحقيقة الشرعية، فاللازم عليهم الاستدلال بالأدلّة الشرعية، والمفروض عدم استدلالهم بذلك. ودعوى الإجماع مع ما عرفت من

ص: 149


1- مصباح الفقاهة / ص 292.

خلوّ كلمات القدماء عن ذلك كماترى.

وإن كانوا في مقام بيان كلمات أهل الفنّ ، فاللازم هو نقل كلماتهم بناءً على جواز الاكتفاء بتعريفهم، ولكنّه محلّ تأمّل ومنع؛ لأنّ المخاطب هو العرف العامّ لا العرف الخاصّ .

ثمّ بعد أن اتّضح لك اختلافهم في موضوع السحر: فإن لم يكن له قدر متيقّن له، فاللازم هو الاحتياط بين المحتملات التي يعلم عدم خروج السحر عنها، كما قيل ذلك في الأربعة المذكورة في تعريف فخر المحقّقين قدس سره، وإن كان له قدر متيقّن - كما هو الحقّ وهو المعنى اللغوي والعرفي - فالواجب هو الاجتناب عنه، وأمّا غيره من الموارد المشكوكة فيرجع فيها إلى البراءة.

قال في بلغة الطالب: «اختلفوا في موضوعه (أي السحر) الثابت له الحكم شرعاً بل مطلقاً اختلافاً لا يجمعه جامع: فما علم كونه سحراً بأن كان هناك مسحور وكان للسحر تأثير فيه من ضرر أو غيره حرم بالأخبار المتظافرة. وإن لم يعلم صدق السحر لعدم وجود مسحور فيه أو عدم تأثير في بدنه أو عقله أو شيء من متعلّقه لم يحرم؛ لاحتمال دخل كلّ من الأمرين في تحقّق موضوعه، أللهمّ إلاّ أن يقوم هناك إجماع على تحريمه كما ادّعي ذلك في حرمة التسخيرات»(1). وقد عرفت ما في دعوى الإجماع مع خلوّ كلمات القدماء عن التعريف.

ثمّ إنّ التفصيل بين الإضرار وعدمه خروج عن محلّ الكلام الذي هو السحر الأعمّ من الضرر والإضرار، فلا وجه لإدخال الموارد الضررية في البحث عن السحر؛ فكلّ مورد يصدق عليه السحر يشمله الدليل الدالّ على حرمة السحر وإن لم يكن فيه ضرر أو

ص: 150


1- بلغة الطالب / ج 1، ص 108.

إضرار. هذا مع أنّه لو كان الضرر دخيلاً لزم في صورة التزاحم تقديم أقوى الضررين. وأمّا دعوى أنّ مجرّد صرف نفس المسحور عن الجريان على مقتضى إرادته يعدّ من الضرر فلا تخلو عن إشكال، ألا ترى أنّه لو كان إرادة الإنسان متعلّقة بما فيه خلاف المصلحة أو بما فيه المفسدة فعمل صديقه عملاً أوجب انصرافه، فهل يعدّ هذا إضراراً؟!(1)

والإنصاف أنّه لا وجه لرفع اليد عن المعنى العرفي للسحر مع عدم وجود دليل على الحقيقة الشرعية والمتشرّعية، وحيث إنّ المعنى العرفي ليس بواضح أيضاً فاللازم فيه أن يؤخذ بالقدر المتيقّن منه بعد الشكّ في بعض القيود والخصوصيّات.

قال في مستند الشيعة: «ثمّ السحر عرّف تارةً : بكلام أو كتابة يحدث بسببه ضرر على من عُمل له في بدنه أو عقله. واُخرى: به مع زيادة العمل في الجنس وتبديل الضرر بالأثر وإضافة القلب. وثالثة: بالثاني مع اشتراط عدم المباشرة له. ورابعة: بالثالث مع زيادة العقد والرقى في الجنس. وخامسة: بأنّه عمل يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة وأسباب خفيّة. وسادسة: باستحداث الخوارق؛ سواء كان بالتأثير النفساني، أو الاستعانة بالفلكيّات فقط، أو بتمزيج قواها بالقوى الأرضية، أو بالاستعانة بالأرواح الساذجة.

ثمّ أورد عليه بقوله: ولا يخفى أنّ كلاًّ منها منتقضة إمّا في الطرد أو العكس أو فيهما؛ لورود النقض بما يؤثّر في متعلّقات المسحور (كداره أو ولده أو ماله)، أو ما يوجب حدوث أمر غريب من غير تأثير في شخص، وبالسحر عملا، وبالدعوات المستجابة والتوسّل بالقرآن والأدعية، وبالمعجزة، والتوصّل إلى الاُمور الغريبة باستعمال القواعد الطبيعية، إلى غير ذلك.

ص: 151


1- جامع المدارك / ج 3، ص 23-25.

ولم أعثر على حدّ تامّ في كلماتهم، والمرجع في معرفته وإن كان هو العرف - كما هو القاعدة وصرّح به في المنتهى - إلاّ أنّه فيه أيضاً غير منقّح. والذي يظهر من العرف والتتبّع في موارد الاستعمال أنّه: عمل يوجب حدوث أمر منوط بسبب خفىّ غير متداول عادةً ، لا بمعنى أنّ كلّ ما كان كذلك هو سحر، بل بمعنى أنّ السحر كذلك.

وتوضيح ذلك: أنّ ذلك تارةً : يكون بتقوية النفس وتصفيتها حتّى يقوى على مثل ذلك العمل، كما هو دأب أهل الرياضة وعليه عمل أهل الهند.

واُخرى: باستعمال القواعد الطبيعية أو الهندسية أو المداواة العلاجية، وهو المتداول عند الإفرنجيّين.

وثالثة: بتسخير روحانيّات الأفلاك والكواكب ونحوها، وهو المشهور عن اليونانيّين والكلدانيّين.

ورابعة: بتسخير الجنّ والشياطين.

وخامسة: بأعمال مناسبة للمطلوب، كتماثيل أو نقوش أو عدّ أو نفث أو كتب منقسماً إلى رقية وعزيمة أو دخنة في وقت مختار، وهو المعروف عن النبط.

وسادسة: بذكر أسماء مجهولة المعاني وكتابتها بترتيب خاصّ ، ونسب ذلك إلى النبط والعرب.

وسابعة: بذكر ألفاظ معلومة المعاني غير الأدعية.

وثامنة: بالتصرّف في بعض الآيات والأدعية أو الأسماء من القلب أو الوضع في اللوح المربّع أو مع ضمّه مع عمل آخر من عقد أو تصوير أو غيرهما.

وتاسعة: بوضع الأعداد في الألواح.

ولا شكّ في عدم كون الأوّلين سحراً، كما أنّ الظاهر كون الخامس سحراً والبواقي

ص: 152

مشتبهة، والأصل يقتضي فيها الإباحة إلاّ ما علمت حرمته من جهة الإجماع كما هو الظاهر في التسخيرات»(1).

ولقد أفاد وأجاد، ولكنّ تسليم الإجماع في التسخيرات مع خلوّ كلمات القدماء عن ذكر التعريف كما ترى هذا مضافاً إلى أنّ وجه الحرمة في التسخيرات لعلّه من جهة اُخرى، كالكهانة والإيذاء، لا السحر.

وأيضاً الخامسة المذكورة ليست بإطلاقها من السحر، بل تحتاج إلى تقييدها بما إذا كان ذلك للتمويه والخدعة مع التأثير في النفوس أو غيرها مع التقرّب فيه إلى الشياطين، فتدبّر جيّداً.

فتحصّل: أنّ حكم الأقسام المذكورة واضح؛ إذ القدر المتيقّن منها حرام والباقي جائز؛ أخذاً بأصالة البراءة.

بقي شيء: وهو أنّ الظاهر من صدر كلام الشيخ الأنصاري قدس سره أنّ الأقسام الأربعة المذكورة في كلام الإيضاح تكون محرّمة؛ لشهادة المحدّث المجلسي قدس سره بدخول الأقسام المذكورة في البحار في المعنى المعروف للسحر عند أهل الشرع، فتشملها الإطلاقات، ولدعوى فخر المحقّقين في الإيضاح كون حرمتها من ضروريّات الدين، وأنّ مستحلّها كافر، وهو ظاهر الدروس أيضاً فحكم بقتل مستحلّها؛ فإنّا وإن لم نطمئنّ بدعوى الإجماعات المنقولة، إلاّ أنّ دعوى ضرورة الدين ممّا يوجب الاطمئنان بالحكم واتّفاق العلماء عليه في جميع الأعصار. انتهى. وشهادتهما كافية في إدراج الأقسام المذكورة في السحر، ولكنّ المستفاد من ذيل كلامه هو التأمّل في شهادة المجلسي؛ لظهور استناد شهادة المجلسي إلى الاجتهاد (ولعلّ وجه الظهور هو الاستدلال باللغة قبل الشهادة).

ص: 153


1- مستند الشيعة / ج 14، ص 113-115.

هذا مع معارضته بما تقدّم من الفخر من إخراج علمي الخواصّ والحيل من السحر، وما تقدّم من تخصيص صاحب المسالك وغيره السحرَ بما يحدث ضرراً، بل عرفت تخصيص العلاّمة له بما يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، فهذه شهادة من هؤلاء على عدم عموم لفظ السحر لجميع ما تقدّم من الأقسام. وتقديم شهادة الاثبات لا يجري في هذا الموضع؛ لأنّ الظاهر استناد المثبتين إلى الاستعمال، والنافين إلى الاطّلاع على كون الاستعمال مجازاً للمناسبة، ومع ذلك ذهب الشيخ الأعظم قدس سره إلى الاحتياط، حيث قال بعد الصدر والذيل المذكورين: «والأحوط الاجتناب عن جميع ما تقدّم من الأقسام في البحار، بل لعلّه لا يخلو عن قوّة؛ لقوّة الظنّ من خبر الاحتجاج(1) وغيره»(2).

ولا يخفى ما فيه؛ إذ الخبر ضعيف، والظنّ المطلق ليس بحجّة.

هذا مضافاً إلى ما في مصباح الفقاهة من أنّ : «إطلاق السحر على بعض الاُمور المذكورة في خبر كالسرعة والخفّة والنميمة - إنّما هو بنحو من العناية والمجاز»(3).

وأيضاً بعد اعتراف المصنّف بكون شهادة المجلسي مستندة إلى الاجتهاد أو معارضة

ص: 154


1- وهو حديث الزنديق الذي سأل أبا عبدالله عن مسائل كثيرة، منها ما ذكره بقوله: فأخبرني عن السحر ما أصله ؟ وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه ؟ وما يفعل ؟ قال أبو عبدالله عليه السلام: «إنّ السحر على وجوه شتّى: منها بمنزلة الطبّ ؛ كما أنّ الأطبّاء وضعوا لكلّ داء دواء فكذلك علماء السحر احتالوا لكلّ صحّة آفة، ولكلّ عافية عاهة، ولكلّ معنى حيلة. ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة. ونوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين عنهم - إلى أن قال: - وإنّ من أكبر السحر النميمة يفرّق بها بين المتحابّين، ويجلب بها العداوة على المتصافين...» الحديث. (الاحتجاج / ج 2، ص 81-82، طبعة النجف الأشرف).
2- المكاسب المحرّمة / ص 34، الطبعة الحجرية.
3- مصباح الفقاهة / ص 293.

بشهادة الآخرين كيف ذهب إلى قوّة الاحتياط في الأقسام المذكورة في كلام صاحب البحار؟! ثمّ إنّ دعوى الضرورة في الإيضاح لعلّها بالنسبة إلى أصل حرمة السحر لا السحر بما له من الأقسام المذكورة في كلام فخر المحقّقين وصاحب البحار.

هذا مضافاً إلى ما في مصباح الفقاهة من: «أنّا لم نجد في كلام المجلسي شهادة على كون الأقسام المذكورة من السحر عند عرف الشارع، فإنّه قال: «إنّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ مخفىّ سببه، ويتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع»، ثمّ ذكر الأنواع المتقدّمة. وأيّ شهادة في ذلك على مقصود المصنّف ؟!»

وأيضاً - كما في مصباح الفقاهة -: ما ذكره المصنّف - من معارضة شهادة المجلسي بما ذكره الفخر من إخراج علمي الخواصّ والحيل من السحر، وبما ذكره صاحب المسالك وغيره من تخصيصهم السحر بما يحدث ضرراً، وبما ذكره العلاّمة من تخصيصه السحر بما يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله - يكفي في الكشف عن عدم العموم في لفظ السحر لجميع ما تقدّم(1).

وعليه فلا وجه للاستدلال بشهادة المجلسي على حرمة الأقسام الأربعة المذكورة، كما أنّه لا وجه للاستدلال على حرمة الأقسام الأربعة بكون حرمتها من ضروريّات الدين قائلاً: بأنّ هذا يوجب الاطمئنان بالحكم وباتّفاق العلماء عليه في جميع الأعصار؛ لأنّ تعارض الأقوال يمنع عن الاطمئنان المذكور. ولذلك قال في مصباح الفقاهة: «إنّ الدعوى المذكورة لا توجب الاطمئنان بالحكم إلاّ في المورد المتيقّن، كالإضرار بالمسحور في عقله أو بدنه أو ماله أو ما يرجع إليه من شؤونه، وأمّا في غير الموارد المتيقّنة فإنّه لا دليل على حرمة الاستعانة بالاُمور المتقدّمة، بل ربّما تكون مطلوبة

ص: 155


1- انظر: المصدر السابق / ص 294.

لإبطال سحر مدّعي النبوّة والإمامة، ومع الشكّ فيه فأصالة البراءة محكّمة»(1).

ولقد أفاد وأجاد في أنّ اللازم عند الشكّ هو الأخذ بالقدر المتيقّن والرجوع في غيره إلى أصالة البراءة، وأمّا أنّ القدر المتيقّن هو الذي أفاده أو يحتاج إلى قيود اُخرى أيضاً فالظاهر أنّه محتاج إلى تقييده بما إذا كان للتمويه والخدعة مع زيادة قيد التقرّب إلى الشياطين، وأمّا دخالة الإضرار فلعلّها لا تكون شرطاً، فتدبّر جيّداً.

فتحصّل: أنّه لا تثبت الحقيقة الشرعية أو المتشرّعية لعنوان السحر، فالمعتمد هو العرف، فيؤخذ بالموارد المتيقّنة التي حكم العرف بكونها من السحر فيحكم بحرمتها، بخلاف موارد الشكّ فإنّه يرجع فيها إلى أصالة البراءة، والله العالم.

الأمر الرابع: في الأدلّة على حرمة السحر

وهي مجموعة من الآيات والروايات:

أمّا الآيات:

فمنها: قوله تعالى (وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولاٰ إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاٰ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ )(2)

ص: 156


1- المصدر السابق.
2- سورة البقرة / الآية 102.

بتقريب: أنّ السحر لو لم يكن محرّماً لما كان تعلّمه وتعليمه محرّمين؛ حتّى أو عد الله تعالى على أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولما عبرّ عن تعليمه وتعلّمه واستعماله بالكفر في قوله عزّوجلّ : (وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ ) ، وقوله تبارك وتعالى: (وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ) ، وقوله تعالى: (فَلاٰ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ ) ... الآية.

وبالجملة: لاسترة في دلالتها على حرمة السحر مطلقاً سواء كان تعلّماً أو تعليماً أو عملا، بل تدلّ على كونه من المعاصي الكبيرة؛ لدلالة قوله: (وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ ) على أنّ من تعلّمه أو علّمه أو عمله للتفرقة والمقاصد الباطلة محروم في الآخرة عن رحمة الله تعالى ومعذّب في الآخرة.

لا يقال: إنّ حرمة ذلك في الشرع السابق لاتكفي للحرمة في شرعنا.

لأنّا نقول: إنّ الأحكام الإلهية النازلة في الشرع السابق بقيت على ما عليها ما لم يثبت نسخها.

ومنها: قوله تعالى (وَ أَلْقِ مٰا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مٰا صَنَعُوا إِنَّمٰا صَنَعُوا كَيْدُ سٰاحِرٍ وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُ حَيْثُ أَتىٰ )(1) .

بدعوى: أنّ نفي الفوز والنجاة ملازم الهلاك.

ولقائل أن يقول: إنّ الآية الكريمة باعتبار بعض الآيات السابقة - وهو قوله عزّوجلّ : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلىٰ )(2) تدلّ على نفي ظفر الساحر لا هلاكه وعذابه، فقوله: (إِنَّمٰا صَنَعُوا كَيْدُ سٰاحِرٍ) صغرى لقوله: (وَ لاٰ يُفْلِحُ )

ص: 157


1- سورة طه / الآية 69.
2- سورة طه / الآية 64.

(اَلسّٰاحِرُ حَيْثُ أَتىٰ ) ، والنتيجة أنّهم لا يظفرون، وعليه فالاستدلال بها لإثبات الحرمة محلّ تأمّل.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ قوله تعالى: (وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُ حَيْثُ أَتىٰ ) عامّ ، والظفر من خصوصيّات المصداق في الدنيا، كما أنّ النجاة من العذاب من خصوصيّات المصداق الاُخروي، ومقتضى العموم شموله لكليهما.

ومنها: قوله تعالى (قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ ) و (إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ )(1) .

ويمكن أن يقال: إنّ الاستدلال به لإثبات الحرمة لا يخلو عن إشكال؛ لأنّ هذه الآية الكريمة في مقام بيان عدم ظفرهم بالسحر، لا في مقام بيان عقوبتهم و مؤاخذتهم عليه.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ التعبير عنهم بالمفسدين يدلّ على أنّ عملهم هو الإفساد، وهو ممّا يوجب العقوبة والمؤاخذة.

وأمّا الأخبار:

فمنها: موثّقة زيد بن علىّ التي رواها الشيخ بإسناده عن محمّدبن الحسن الصفّار، عن أبي الجوزاء (منبه بن عبدالله)، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علىّ ، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه»(2). ودعوى ضعفها لكون الحسين بل علوان عامّياً، كما ترى بعدما حكي عن ابن عقدة أنّ الحسن - أعني أخاه - كان أوثقَ من أخيه -

ص: 158


1- سورة يونس / الآية 81.
2- وسائل الشيعة / ج 28، ص 367، الباب 3 من أبواب بقية الحدود، ح 1.

وهو الحسين - وأحمَدَ عند أصحابنا. ثمّ أبو الجوزاء صحيح الحديث؛ روى عنه الأجلاّء، وعمرو بن خالد من رجال العامّة، ولكن روى عنه بعض الأجلاّء ونقل عن ابن فضّال أنّه وثّقه كما عن الكشّي.

ومنها: معتبرة اسحاق بن عمّار المرويّة في التهذيب بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، عن غياث بن كلوب بن قيس البجلي عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: من تعلّم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربّه، وحدّه القتل إلاّ أن يتوب...» الحديث.(1)

وهذه الرواية معتبرة؛ لأنّ غياثاً من أولئك العامّة الذين صرّح الشيخ بأنّ العصابة عملت برواياتهم ممّا لم ينكروه، ولم يكن عندهم خلافه(2)، وإسحاق بن عمّار صرّح بوثاقته، ونقل عنه ابن أبي عمير.

ومنها: معتبرة نصر بن قابوس المرويّة عن الصدوق، عن الصفّار، عن الحسن بن علىّ الكوفي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «المنجّم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنّية ملعونة، ومن آواها ملعون، وآكل كسبها ملعون»(3).

ويشكل في الرواية: بالضعف من ناحية الحسن بن علىّ الكوفي وإسحاق بن إبراهيم؛ لعدم توثيقهما.

ص: 159


1- المصدر السابق / ح 2.
2- عدّة الاُصول / ص 380.
3- المصدر السابق / ج 17، ص 143، الباب 24، من أبواب ما يكتسب به، ح 7.

وفيه: أنّ الحسن بن علىّ الكوفي قال الصدوق في حقّه: إنّه «معروف»(1) ولكن يبقى الإشكال في إسحاق بن إبراهيم، وهو الحضيني؛ بقرينة نقل الحسن بن عليّ عنه، وجرت الخدمة للرضا عليه السلام على يده؛ ولذا قال في التعليقة: «الأقرب قبول قوله؛ لكونه وكيلاً»، وهو يقتضي الوثاقة، وقال العلاّمة أيضاً: «الأقرب قبول قوله»، ونصر بن قابوس ثقة، وعليه فلايبعد القول باعتبار الرواية.

ومنها: موثقة السكوني المرويّة في الكافي: عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ساحر المسلمين يُقتل، وساحر الكفّار لا يقتل: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله، لم لا يُقتل ساحر الكفّار؟ قال: لأنّ الكفر أعظم من السحر، ولأنّ السحر والشرك مقرونان».(2)

وتضعيف الرواية من ناحية النوفلي غير مقبول لأنّه وقع في طرق كثير من الأخبار المذكورة في الكتب المعتبرة، وهو يكفي في الوثوق به؛ وإلاّ لما نقلوا عنه بهذه الكثرة.

هذا مضافاً إلى أن ناشر رواياته هو إبراهيم بن هاشم وهو أبو عليّ بن إبراهيم من القمّيّين؛ فلو كانت رواياته ضعيفة لما تحمّله القمّيّون، كما طعن القمّيّون على أحمد بن محمّد بن خالد البرقي بأنّه يروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل، حتّى أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى بعّده عن بلدة قم، ثمّ أعاده إليها واعتذر منه.

وأيضاً روى في الوافي بسند صحيح عن صفوان عنه.

ومنها: صحيحة عبد العظيم الحسني المرويّة في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عبد العظيم بن عبدالله الحسني قال: حدّثني أبو جعفر

ص: 160


1- انظر: من لا يحضره الفقيه / ص 68.
2- الكافي / ج 7، ص 260.

الثاني عليه السلام قال: «سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: دخل عمروبن عبيد على أبي عبدالله عليه السلام، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية: (وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ )(1) ثمّ أمسك، فقال له أبو عبدالله عليه السلام: ما أسكتك ؟ قال: اُحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزّ وجلّ ، فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر: الإشراك بالله؛ يقول الله: (... مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ )(2) - إلى أن قال: - والسحر؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: (وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ )(3) - إلى أن قال: - فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم!»(4).

ومنها: ما رواه في الخصال عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «اجتنبوا السبع الموبقات». قيل: وما هنّ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر...» الحديث(5).

ومنها: ما رواه في كنز الفوائد قال: قال عليه السلام: «الكبائر تسع، أعظمهنّ الإشراك بالله عزّ وجلّ - إلى أن قال: - والسحر...» الحديث(6).

ومنها: ما رواه محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين قال: دخل عيسى بن شفقي(7) على أبي عبدالله عليه السلام - وكان ساحراً يأتيه الناس

ص: 161


1- سورة الشورى / الآية 37.
2- سورة المائدة / الآية 72.
3- سورة البقرة / الآية 102.
4- وسائل الشيعة / ج 15، ص 318، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ح 2.
5- المصدر السابق / ص 330، ح 34.
6- المصدر السابق / ص 331، ح 37.
7- في التهذيب والفقيه: «عيسى بن شفقي».

ويأخذ على ذلك الأجر - فقال له: جعلت فداك، أنا رجل كانت صناعتي السحر، وكنت آخذ عليه الأجر، وكان معاشي، وقد حججت منه، ومنّ الله عليَّ بلقائك، وقد تبت إلى الله عزّ وجلّ ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبدالله عليه السلام: «حل و لا تعقد»(1). ورواه الصدوق بإسناده عن عيسى بن السقفي نحوه، ورواه الحميري في قرب الاسناد عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن أبيه، عن عيسى بن السقفي(2).

ودعوى: أنّها مرسلة.

كما ترى؛ لظهور قوله: «عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين» في أنّ الراوي كان معتمداً وإن لم يسمّ اسمه. وكيف كان فالرواية تدلّ على حرمة السحر؛ لقوله: «ولا تعقد»؛ لأنّ النهي يدلّ على الحرمة.

هذا مضافاً إلى دلالة كلام السائل على مفروغيّته عن حرمة السحر.

ومنها: ما رواه محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب، عن الهيثم قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيء يُسرَق أو شبه ذلك، فنسأله ؟ فقال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب»(3). والهيثم قريب الأمر، وله كتاب، وروى عنه بعض الأجلاّء، وصحّح العلاّمة طريقاً فيه الهيثم.

وهو وإن لم يدلّ على كون السؤال عن الشيء يُسرَق أو شبه ذلك مختصّاً بالسحر - لاحتمال أن يكون ذلك من موارد الكهانة أو الكذب - ولكنّ قوله: «من مشى إلى

ص: 162


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 145، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
2- انظر: المصدر السابق / ذيل ح 1.
3- المصدر السابق / ص 150، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

ساحر...» إلخ يدلّ على حرمة تعلّم السحر سواء كان مورد السؤال سحراً أم لا.

ومنها: ما رواه في عيون الأخبار بسند ضعيف عن الحسن بن علىّ العسكري، عن آبائه عليهم السلام - في حديث - قال في قوله عزّ وجلّ : (وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ ) قال: «كان بعد نوح عليه السلام قد كثرت السحرة المموّهون، فبعث الله عزّ وجلّ ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان يذكر ما يسحر به السحرة، وذكر ما يبطل به سحرهم، ويردّ به كيدهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزّ وجلّ ، وأمرهم أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه، ونهاهم أن يسحروا به الناس، وهذا كما يدلّ على السمّ ما هو وعلى ما يدفع به غائلة السمّ - إلى أن قال: - وما يعلّمان من أحد ذلك السحر وإبطاله حتّى يقولا للمتعلّم: إنّما نحن فتنة وامتحان للعباد؛ ليطيعوا الله فيما يتعلّمون من هذا، ويبطلوا به كيد السحرة ولا يسحروهم، فلا تكفر باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنّك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلاّ الله عزّ وجلّ ! فإنّ ذلك كفر - إلى أن قال: - ويتعلّمون مايضرّهم ولا ينفعهم؛ لأنّهم إذا تعلّموا ذلك السحر ليسحروا به ويضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم فيه...» الحديث(1).

ونحوه ما رواه في عيون الأخبار عن علىّ بن الجهم بسند ضعيف أيضاً(2).

والروايتان وإن كانتا ضعيفتين، ولكنّهما تشتملان على الاستدلال بالآية الكريمة الدالّة على حرمة تعلّم السحر، كما مرّ تفصيله.

ومنها: ما ورد في الخصال بسند ضعيف عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ثلاثة لا يدخلون الجنّة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم...»

ص: 163


1- المصدر السابق / ص 147، ح 4.
2- المصدر السابق / ح 5.

الحديث(1).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على حرمة تعليم السحر وتعلّمه وعمله، ولا إشكال في ذلك.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأخبار المذكورة هو عدم الفرق في الحرمة بين أن يكون السحر مضرّاً أو لا، فمع صدق السحر ولو بدون الضرر - كما هو الظاهر - تشمله الإطلاقات، واختصاص بعض الأدلّة بالضرر - مثل ما رواه في العيون - لا يوجب رفع اليد عن الإطلاقات مع كون كلّ منهما نافياً للجواز. هذا مضافاً إلى ضعف السند كما عرفت.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما حكي عن الشهيدين: من أنّ المعتبر في السحر الإضرار؛ وذلك لصدق السحر بدون الإضرار، وإطلاق الأدلّة، فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه بعد اختصاص موضوع الحرمة بما يصدق عليه السحر عرفاً لا مانع ممّا لا يصدق عليه السحر، فيجوز أن يؤثّر شخص في بعض النفوس في رفع العداوة أو الوسواس أو في إيجاد المحبّة مادام لم يصدق عليه السحر.

والاستدلالُ لحرمة ذلك - ولو لم يصدق عليه السحر - بما رواه في الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله لامرأة سألته: إنّ لي زوجاً، وبه عليَّ غلظة، وإنّي صنعت شيئاً لأعطفه عليَّ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: اُفٍّ لك! كدّرت البحار وكدّرت الطين، ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السماوات والأرض - قال: - فصامت المرأة نهارها وقامت ليلها وحلقت رأسها ولبست المسوح(2)، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله، فقال: «إنّ ذلك لا يقبل منها»(3).

ص: 164


1- المصدر السابق / ص 148، ح 6.
2- المسح - بكسر الميم -: البلاس يقعد عليه، والكساء من شعر، وما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفاً وقهراً، وتجمع على أمساح ومسوح.
3- وسائل الشيعة / الباب 144 من أبواب مقدمات النكاح، ح 1.

لا يخلو عن إشكال:

اوّلاً: لضعف السند؛ لجهالة إسماعيل بن مسلم.

وثانياً: لما أفاده في مصباح الفقاهة من أنّه: ليس في الرواية ما يدلّ على كون المصنوع سحراً. مضافاً إلى أنّ الرواية مخالفة للقواعد؛ فإنّها مشتملة على عدم قبول التوبة من المرأة التي صنعت لزوجها شيئاً يوجب المحبّة والعطف مع أنّ الثابت في الإسلام جواز توبة المرأة المرتدّة سواء أكانت فطرية أم ملّية، ومن المقطوع به أنّ سحرها لا يزيد على الارتداد(1).

وثالثاً: لأنّ هذه الرواية تعارضها معتبرة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام: «انّ عليّاً كان يقول: من تعلّم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربّه، وحدّه القتل إلاّ أن يتوب»(2)؛ لدلالتها على أنّ التوبة توجب درء الحدّ.

فتحصّل: أنّ تعليم السحر وتعلّمه وعمله حرام، ومعصيته كبيرة، من دون فرق بين كونه مضرّاً وعدمه مادام يصدق عليه السحر.

والظاهر من شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره هو اختصاص الحرمة بعمل السحر حيث قال: «وأمّا قوله: «من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً...» إلخ فالظاهر منه رجوع الحرمة إلى العمل؛ فإنّه قد يضاف المبغوضية إلى التعلّم بلحاظ مبغوضية العمل، والقرينة على هذا: قوله في ذيله: «وحدّه أن يقتل إلاّ أن يتوب»؛ فإنّ هذا مناسب للعمل كما لا

ص: 165


1- انظر: مصباح الفقاهة / ص 295.
2- وسائل الشيعة / ج 28، ص 367، الباب 3 من أبواب بقية الحدود، ح 2.

يخفى»(1). ولا يخفى ما فيه.

الأمر الخامس: في استحقاق الحدّ

يستحقّ حدّ القتل من اتّخذ السحر شغلاً وحرفةً له، واستدلّ لذلك: بمعتبرة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفّار لا يقتل. قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله، ولِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟! قال: لأنّ الكفر أعظم من السحر، ولأنّ السحر والشرك مقرونان»(2).

بدعوى: أنّ المراد من الساحر الذي حكمه القتل هو من اتّخذ السحر شغلاً وحرفةً له، دون مطلق من عمل بالسحر ولو لم يكن ذلك حرفة له.

وأورد عليه في تكملة المنهاج بأنّ : «ذيل المعتبرة - وهو قوله عليه السلام: «ولأنّ السحر والشرك مقرونان» - يدلّ على أنّ عمل السحر كالشرك في إيجابه القتل؛ سواء اتّخذه شغلاً وحرفة له أم لم يتّخذه»(3).

ويمكن أن يقال: إنّ قوله صلى الله عليه وآله: «ولأنّ السحر والشرك» كقوله قبله: «لأنّ الكفر أعظم من السحر» مذكور بعنوان العلّة لعدم قتل ساحر الكفّار، وعليه فلا ارتباط لهذه العلّة بإيجاب القتل حتّى يستدلّ بها على أنّ إيجاب السحر للقتل كإيجاب الشرك للقتل بمقتضى كونهما مقرونين. ويؤكّد ذلك: أنّ قوله صلى الله عليه وآله: «لأنّ الكفر أعظم من السحر» علّة لعدم القتل لا للقتل؛ إذ قوله صلى الله عليه وآله: «ولأنّ السحر والشرك مقرونان» عطفٌ على العلّة

ص: 166


1- المكاسب المحرّمة / ص 154.
2- الكافي / ج 7، ص 260.
3- تكملة المنهاج / ج 1، ص 267.

المتقدّمة، وهو بمعناها.

ودعوى: إرجاع الذيل إلى «ساحر المسلمين يقتل».

خلاف الظاهر؛ لأنّ الجواب المذكور جواب لقوله: «ولِمَ لا يقتل ساحر الكفّار» كما لا يخفى، ولا أقلّ من الشكّ ، فيكون الذيل المذكور مجملاً، ومع الإجمال لا يصحّ الاستدلال به؛ لكون مطلق السحر - ولو لم يكن حرفةً - موجباً للقتل، كما لا دليل آخر عليه.

إلاّ أن يقال: إنّ تعلّم السحر يوجب حدّ القتل؛ لمعتبرة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: من تعلّم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربّه، وحدّه القتل إلاّ أن يتوب»(1)، فإذا كان تعلّم السحر موجباً للقتل فالسحر الصادر ممّن لم يتّخذه حرفة له يوجب ذلك بالأولوية.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ التعلّم مقارن لصدق عنوان الساحر عليه، واستحقاقه مع مقارنة ذلك الصدق للقتل لا يلازم استحقاق من عمل بالسحر من دون صدق عنوان الساحر عليه.

وفيه: أنّ تعلّم شيء من السحر لا يلازم صدق عنوان الساحر عليه.

وقد يقال: إنّ معتبرة إسحاق بن عمّار محمولة على ما إذا تعلّم وعمل؛ حملاً على الغالب من العمل للمتعلّم.

واُورد عليه: بأنّه تقييد بلا موجب، والفعلية الخارجية لا توجب الانصراف أيضاً.

نعم، لقائل أن يقول: إنّ قوله في ذيل هذه الرواية: «وحدّه القتل إلاّ أن يتوب» لعلّه يدلّ على العمل؛ إذ التعلّم بنفسه لا يقبل التكرار، والتوبة والعزم على عدم التكرار لا مورد

ص: 167


1- وسائل الشيعة / ج 28، ص 367، الباب 3 من أبواب بقية الحدود، ح 2.

لهما بالنسبة إلى التعلّم، فاستثناء قوله: «إلاّ أن يتوب» يدلّ على أنّ المراد هو مقارنة التعلّم مع العمل، ومن المعلوم أنّ العمل قابل للتكرار، والتوبة عنه متصوّرة، ولكن لا يخفى عليك أنّ التعلّم ذو درجات، فالعزم على عدم التكرار باعتبار كون التعلّم ذا درجات متصوّر أيضاً، فلا دليل على مقارنة التعلّم مع العمل، كما لا دليل على مقارنة صدق عنوان الساحر عليه، فالتعلّم موجب لاستحقاق القتل من دون مقارنة لشيء ممّا ذكر، فالتمسّك بمعتبرة إسحاق بن عمّار لاستحقاق المتعلّم للسحر صحيح، وبالأولوية تدلّ على استحقاق من عمل سحراً ولو لم يكن حرفة له. نعم، الأحوط مراعاة صدق عنوان الساحر في إجراء الحدّ.

وأمّا ما في الجواهر: من أنّ رواية إسحاق بن عمّار ضعيفة ولا جابر لها(1).

ففيه: ما عرفت من أنّ غياث بن كلوب الواقع في السند ثقة كما نصّ عليه الشيخ في العدّة، فلا وجه لتضعيف الرواية.

فتحصّل: أنّ المستحقّ للقتل - مضافاً إلى من يصدق عليه عنوان الساحر؛ وهو الذي اتّخذ السحر شغلاً له وإن لم يقع منه سحر - هو متعلّم السحر ومن عمل سحراً. وكيف كان فلا دخالة للكفر ولا للاستحلال ولا للإضرار في استحقاق الحدّ.

وممّا ذكرناه ينقدح ما في بعض العبائر:

قال الفاضل الشعراني: «إن ثبت كون الساحر معتقداً لما يراه الصابئون من أهل بابل فهو مرتدّ عن الإسلام.

وإن لم يثبت ذلك؛ فإن ثبت كون أعماله مؤثّرة فيما يدّعيه لقوّة نفسه تناوله تعريف الفقهاء بشرط أن يثبت أنّه ارتكب عملاً مضرّاً في عقل المسحور أو بدنه وأثّر فيه.

ص: 168


1- جواهرالكلام / ج 41، ص 443.

وإن لم يثبت هذا ولا ذاك بل رأينا أنّه يعمل أعمالاً ولا نعلم اعتقاده ولا تحقّق لنا تأثير عمله في الإضرار - كما هو الغالب - فلا دليل على قتله وإن حرم عمله؛ لأنّه أكل للمال بالباطل في غالب الأمر.

ويستفاد من كلام شيخنا المحقّق الأنصاري (رحمه الله) التعميم.

بل بالغ في ذلك بعض علمائنا، فأثبت حكم الحدّ لكلّ ما عدّ سحراً عرفاً:

فإن كان اعتماده على الحديث فالظاهر أنّ كلمة «السحر» فيه منصرفة إلى ما هو الغالب في ذلك العهد من سحر البابليّين كما ذكرنا (أي الذين يعتقدون تأثير روحانية الكواكب بنحو الاستقلال أو الاشتراك، وتمزيج القوى العالية بالسافلة بدعوتها، ومثل ذلك كفر) بل يختصّ بما يضرّ منه.

وإن كان معتمداً على إجماع المسلمين فهو ثابت على منع السحر في الجملة لا مطلقاً، وإنّما يتمسّك للتعميم بالمطلق لا بالمجمل، والثابت بالإجماع مجمل:

أمّا عندنا: فلأنّ العلاّمة وأكثر الفقهاء الذين حكموا بحرمة السحر فسّروه بأنّه: ما فيه ضرر على المسحور في بدنه أو عقله.

وأمّا عند غيرنا: فلأنّ مالكاً وأبا حنيفة حكما بقتل الساحر حدّاً؛ لكونه كافراً باعتقاده وتعلّمه وإن لم يعمل، والشافعي حكم به قصاصاً إذا ثبت قتل المسحور بعمله. ويظهر من العلاّمة التردّد»(1).

ولقائل أن يقول: إنّ اعتمادنا على الحديث. وأمّا دعوى الانصراف من جهة الغلبة في ذلك العصر إلى سحر البابليّين، فهي مندفعة:

اوّلاً: بأنّ الغلبة الوجودية لا توجب الانصراف.

ص: 169


1- حاشية الوافي / ج 15، ص 476-477.

وثانياً: أنّ دعوى غلبة سحر البابليّين في جزيرة العرب ممنوعة.

وثالثاً: أنّ اعتقاد الاُلوهية أو الشرك بالنسبة إلى الأفلاك والكواكب لا مدخلية له في صدق السحر كما لا مدخلية للإضرار في صدقه. وإسناد اعتبار ذلك إلى العلاّمة كماترى، ولا أقلّ من الشكّ في الدخالة، فمع صدق السحر وإطلاقه يؤخذ بإطلاق السحر؛ قضاءً للإطلاق، ولا حاجة إلى عنوان الارتداد ولا إلى صدق عنوان الساحر أيضاً كما عرفت، وإن كان هو الأحوط.

وقال في الجواهر: «لا خلاف ولا إشكال في كفر الساحر مع الاستحلال للقسم المحرّم منه، فيجري عليه حكم المرتدّ من القتل ونحوه.

أمّا غير المستحلّ فقد يظهر من جماعة عدم القتل به، خلافاً لبعض فجعله حدّاً له مطلقاً، ولعلّه لإطلاق الأدلّة، ولا يخلو من توقّف، ويأتي تمام الكلام فيه في باب الحدود...

ودعوى: أنّه بجميع أقسامه كفر كما يقضي به بعض الأخبار بل هو ظاهر آية «هاروت وماروت» أيضاً.

يدفعها: معلومية حصر أسباب الكفر في غيره، فالمراد حينئذ المبالغة في معصيته»(1).

ولا يخفى ما فيه؛ إذ مع إطلاق الأدلّة لا مجال لحملها على ما إذا كان الساحر مستحلاًّ؛ فساحر المسلمين يستحقّ القتل ولو لم يكن مستحلاًّ. وأيضاً مع تصريح الأخبار بأنّ ساحر الكفّار لا يقتل لا يمكن حمل المطلقات على ما إذا كان الساحر كافراً.

ص: 170


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 88.

ولقد أفاد وأجاد في إرشاد الطالب حيث قال: «وحملها على صورة الاستحلال - كما هو ظاهر جمع - لا يمكن المساعدة عليه. نعم، توبته (أي توبة الساحر) توجب سقوط حدّ القتل كما ذكر في الموثّقة، وبها يرفع اليد عن إطلاق غيرها. ولا بعد في جواز قتله بل وجوبه؛ تحفّظاً على مصالح المسلمين ليكونوا على أمن من كيده.

ودعوى: أنّ السحرة في عصر الأئمّة عليهم السلام كانوا غالباً من الكفّار ويعتقدون تأثير الكواكب والأجرام العلوية، لا يخفى ما فيها، مع أنّ رواية السكوني دالّة على قتل خصوص الساحر من المسلمين، فكيف تحمل على صورة كونه كافراً؟!»(1).

والذي يسهّل الخطب أنّ صاحب الجواهر اعترف في باب الحدود بأنّ إطلاق النصّ والفتوى يقتضي عدم الفرق بين المستحلّ وغيره، فما عن بعض المتأخّرين من القول باختصاصه بالأوّل لم نتحقّقه، وعلى تقديره غير واضح الوجه(2)، كما صرّح في المقام بعدم جواز حمل جميع أقسامه على الكفر.

ثمّ إنّ ساحر الكفّار وإن لم يُحكم بقتله إلاّ أنّه صرّح في الشرائع بأنّه يؤدّب، ولا دليل عليه بالخصوص، ولعلّه من جهة ما هو المعروف من أنّ كلّ ذنب غير موجب للحدّ فهو موجب للتعزير، وإن نوقش فيه: بأنّه لا نصّ ظاهراً على الكلّية كما في جامع المدارك(3)، ولكن يمكن اصطياد ما هو المعروف من الروايات الكثيرة الواردة في الموارد المختلفة، فراجع.

ص: 171


1- إرشاد الطالب / ج 1، ص 166.
2- جواهر الكلام / ج 41، ص 443.
3- جامع المدارك / ج 7، ص 114.

الأمر السادس: في جواز رفع السحر بالسحر

واستدلّ له مضافاً إلى الأصل - بعد دعوى انصراف الأدلّة الناهية عن السحر إلى غير ما إذا قصد به غرض راجح شرعاً -: بالآية الكريمة الواردة في قصّة هاروت وماروت، بتقريب: أنّ السحر لو لم يكن جائزاً في مقام رفع السحر لم يجز تعليمه أصلا، فجواز التعليم يدلّ على جواز العمل به في الجملة، والقدر المتيقّن هو صورة رفع السحر.

وبالأخبار: منها: خبر الاحتجاج، حيث قال السائل فيه: فما تقول في الملكين هاروت وماروت وما يقول الناس بأنّهما يعلّمان الناس السحر؟ قال: «إنّما هما موضع ابتلاء وموقع فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا أصناف السحر، فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنّما نحن فتنة، فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم»(1).

واُورد عليه: بضعف السند، أللهمّ إلاّ أن يقال: يكفي اشتماله على الآية الدالّة على جواز التعليم لغرض رفع السحر؛ إذ لو لم يكن السحر جائزاً في مقام رفع السحر لم يجز تعليمه أصلا كما عرفت.

ولكن لا يخفى أنّ صحّة الاستدلال بالآية الكريمة لا يصحّح الاستدلال بالخبر بما هو خبر.

ومنها: ما رواه محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين قال: دخل عيسى بن سقفي على أبي عبدالله عليه السلام - وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر - فقال له: جعلت فداك، أنا رجل كانت صناعتي السحر، وكنت آخذ عليه الأجر، وكان معاشي، وقد حججت منه، ومنّ الله عليَّ بلقائك، وقد تبت إلى الله

ص: 172


1- الاحتجاج / ج 2، ص 82.

عزّ وجلّ ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبدالله عليه السلام: «حلَّ ولا تعقد»(1).

واُورد عليه: بأنّ إرساله مانع عن الاعتماد عليه.

ويمكن الذبّ عنه: بما عرفت سابقاً من أنّ قوله: «شيخ من أصحابنا» ظاهر في كون الراوي معتمداً ومن الأجلاّء، ولعلّه لذلك عبّر في الجواهر عن الخبر المزبور بالحسن(2).

ثمّ يقع الكلام في أنّه هل الحَلّ الحلال أعمّ ممّا كان العقد حاصلاً بسحر ساحر وما كان العقد حاصلاً بغيره كما في علاج من أصابه الجنّ بغير سحر ساحر، أو يختصّ بالقسم الأوّل ؟

قال شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره: «لا شكّ في صدق الحلّ في القسم الثاني أيضاً، فلا وجه لدعوى الاختصاص إلاّ أن يدّعى الانصراف»(3).

ثمّ إنّه يظهر من بعض العبائر جواز السحر لدفع السحر، ولكنّه محلّ إشكال ومنع. قال شيخنا الاُستاذ: «لا يمكن التعميم للدفع للسحر الغير الحاصل؛ فإنّ الدليل مختصّ بالرفع، ولا مناط منقّح في البين أيضاً حتّى يدّعى شموله للتوقّي والدفع أيضاً، والله العالم بأحكامه»(4).

ويعتضد ذلك بمعتبرة السقفي حيث قال: «حلّ ولا تعقد»؛ لظهور قوله: «حلّ » في وجود السحر؛ إذ لا معنى للحلّ إلاّ بعد العقد، بل لعلّ الآية الكريمة ظاهرة في تعليم السحر لرفع السحر الموجود من ناحية الشياطين بناءً على الملازمة بين تعليم الشياطين

ص: 173


1- وسائل الشيعة / ج 28، ص 145، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
2- جواهر الكلام / ج 22، ص 76.
3- المكاسب المحرّمة / ص 153.
4- المصدر السابق.

وعمل السحر من الناس غالباً، فتأمّل.

ولو شككنا في جواز الدفع - كالرفع - وعدمه فاللازم هو الرجوع إلى مطلقات الحرمة أو عمومها؛ قضاءً للقاعدة في تقييد المطلقات أو تخصيص العمومات من الأخذ بالقدر المتيقّن من المخصّصات أو المقيّدات، والرجوع إلى العمومات أو المطلقات في الشبهات المفهومية.

وممّا ذكر يظهر ما في مصباح الفقاهة؛ من أنّ القدر المتيقّن من الجواز هو صورة دفع ضرر الساحر(1)، مع أنّ الأمر بالعكس؛ لما عرفت من اختصاص الآية الكريمة وخبر السقفي بصورة رفع السحر.

ثمّ إنّ المحكي عن العلاّمة والشهيد والفاضل الميسي والشهيد الثاني هو المنع عن حلّ السحر بالسحر إلاّ إذا اقتضت الضرورة وكان سبب الحلّ منحصراً في السحر، فلا يجوز ذلك فيما لو أمكن رفع السحر بغيره من الأدعية والتعويذات، وهو مقتضى عدم إطلاق الأدلّة المرخّصة. ولعلّه كذلك؛ لأنّ الآية الكريمة حكت قضيّة في واقعة، فلا إطلاق لها، كما أنّ رواية السقفي في مقام بيان مورد الحلال في الجملة وليست في مقام بيان الخصوصيّات والشرائط، وعليه فلا وجه لرفع اليد عن الأدلّة الناهية إلاّ في القدر المتيقّن؛ وهو صورة الضرورة وانحصار الأمر في السحر، ولا يخفى أنّه لا يحتاج الجواز في صورة الضرورة إلى الأدلّة الخاصّة، بل مقتضى القاعدة رفع الحرمة عند الضرورة.

قال في الجواهر: «نعم، لو فرض توقّف دفع مفسدة ترجّح على مفسدة عمله عليه، اتّجه الجواز كما في غيره من المحرّمات؛ مثل الكذب وشرب الخمر وغيرهما»(2).

ص: 174


1- مصباح الفقاهة / ص 296.
2- جواهر الكلام / ج 22، ص 78.

الأمر السابع: في تسخير الجنّ والأرواح

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «الظاهر أنّ التسخيرات بأقسامها داخلة في السحر على جميع تعاريفه، وقد عرفت أنّ الشهيدين مع أخذ الإضرار في تحريم السحر ذكرا أنّ استخدام الملائكة والجنّ من السحر، ولعلّ وجه دخوله: تضرّر المسخّر بتسخيره، وأمّا سائر التعاريف فالظاهر شمولها لها. وظاهر عبارة الإيضاح أيضاً دخول هذه في معقد دعواه الضرورة على التحريم؛ لأنّ الظاهر دخولها في الأقسام والعزائم والنفث، ويدخل في ذلك تسخير الحيوانات من الهوام والسباع والوحوش وغير ذلك، خصوصاً الإنسان»(1).

ويمكن أن يقال: اوّلاً: إنّ جعلَ أقسام التسخيرات من السحر - مع ما عرفت من اختصاص السحر بما لا يكون له واقعية وبما يكون مقروناً بالتمويه والخدعة والاستعانة بالشيطان - محلّ تأمّل ونظر.

ولعلّه يرجع إليه: ما في الرياض من تضعيف ذلك بقوله: «وقيل: منه استخدام الملائكة والجنّ واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب، واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبىّ أو امرأة، وكشف الغائبات على ذلك»(2).

وما في مفتاح الكرامة من أنّ : «فقولهم: «يؤثّر في بدن المسحور» ظاهرٌ في أنّ استخدامات الجنّ والملائكة واستنزال الشياطين ليست من السحر وإن حرمت من وجه آخر؛ لكونه كهانة»(3).

ولعلّه لذلك قال المحقّق الإيرواني قدس سره: «إنّ الظاهر المحصّل من مجموع الأخبار

ص: 175


1- المكاسب المحرّمة / ص 34.
2- رياض المسائل / كتاب التجارة السحر، الطبع الحجرى.
3- مفتاح الكرامة / ج 4، ص 70.

وكلمات الفقهاء واللغويّين: خروج التسخيرات بأقسامها من السحر، فإن حرمت حرمت من جهة اُخرى، ولأجل انطباق عنوان آخر عليه. وعليه فالأمر في تسخير الحيوانات أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر والغلبة والضرب ومع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخدمة طوعاً؟!»(1).

ثمّ إنّ الوجه في خروج التسخيرات بأقسامها من السحر: هو عدم صدق تعريف السحر عليها. قال في مصباح الفقاهة: «هو صرف الشيء عن وجهه على سبيل الخديعة والتمويه من دون أن يكون له واقعية، فاستحداث الاُمور الخارقة للعادة ليس من السحر، ولو تمكّن أحد من إحداث الاُمور الغريبة بواسطة القوّة النفسانية الحاصلة بالرياضة أو بصرف المقدّمات فلا يقال له إنّه ساحر، بل لا دليل على حرمته؛ فإنّ هذا شعار أهل الكرامة.

- إلى ان قال: - لا ريب في خروج هذا النوع (أي الاستعانة بالأرواح الأرضية) من السحر موضوعاً وحكماً، تعليماً وتعلّماً، بل لا دليل على حرمته في نفسه إلاّ إذا ترتّب عليه عنوان محرّم من إيذاء الإنسان والإضرار به، أو كانت مقدّماتها محرّمة، فيحرم الاشتغال بها؛ وإلاّ فلا يحرم استخدام الجنّ وكشف الغائبات بواسطتهم، بل لا دليل على حرمة إيذائهم - إلى أن قال: - قد عرفت خروج الاستعانة بالأرواح الأرضية واستخدام الجنّ من السحر موضوعاً وحكماً، وحينئذ: فإن انطبق على ذلك شيء من العناوين المحرّمة حكم عليه بالحرمة؛ لتلك الجهة المحرّمة لا لكونه سحراً، كما إذا اشتملت التسخيرات على المقدّمات المحرّمة، أو كان المسخِّر - بالكسر - لعمله ذلك عرضاً للتضرّر أو التلف أو الجنون أو لارتكاب شيء آخر من الاُمور غير المشروعة، أو كان

ص: 176


1- تعليقة المكاسب / ص 28.

المسخَّر - بالفتح - مؤمناً من الإنس أو ملكاً وكان التسخير ظلماً عليهم. ومع انتفاء العناوين المحرّمة فلا وجه للحرمة، كتسخير الكفّار من الإنس والجنّ وإن اشتمل ذلك على إيذائهم؛ وإلاّ لما جاز قتل الكفّار وأخذ الجزية منهم وهم صاغرون.

وكذلك يجوز تسخير الحيوانات مطلقاً خصوصاً المؤذيات منها، كالعقارب والحيّات والسباع؛ وإلاّ لما جاز استخدام الحمولة وقتل المؤذيات منها. وقد أجاد المحقّق الإيرواني وقال: «فالأمر في تسخير الحيوانات أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر والغلبة والضرب ومع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخدمة طوعاً؟!»»(1).

ولقد أفاد وأجاد، إلاّ أنّه مع حرمة الإيذاء والإضرار ولو في حقّ الكفّار محلّ تأمّل وإشكال إلاّ إذا كانوا في حرب معنا.

وثانياً: إنّه لو سلّمنا حرمة التسخيرات فهي - كما في ابتغاء الفضيلة - إذا كانت بنحو التسخير، وأمّا لو حصل في النفس بالعلم أو الرياضة أو كليهما قوّةٌ بها يقدر على الاتّصال بالملائكة والأرواح بدون التأثير فيهم وتسخيرهم بل بعد الاتّصال يسأل ويتقاضى عنهم بعض الاُمور أو بعض الإعانات فلا؛ لعدم وضوح كون ذلك سحراً. وشمول إطلاق كلام الإيضاح له غير واضح أيضاً؛ إذ ليس في مقام الإطلاق؛ وإلاّ كان الاستشفاع بالملائكة أيضاً حراماً، بل هو ناظر إلى ما يدّعى أنّه التسخير(2).

وثالثاً: إنّه مع تعارض أقوال العلماء في تعريف السحر وحقيقته - كما عرفت - لا يحصل الاطمئنان بكون جميع أقسام السحر مورداً للاتّفاق والضرورة، وعليه فاللازم هو

ص: 177


1- مصباح الفقاهة / ص 288، 290، 296-297.
2- ابتغاء الفضيلة / ص 66.

الأخذ بالقدر المتيقّن - وهو ما يصدق عليه السحر من غير أن يكون له واقع - والحكم بالحرمة، وأمّا غيره فمحكوم بالجواز.

ثمّ إنّ كلّ مورد يشكّ في كونه سحراً أو لا أو يشكّ في كونه ضرريّاً أو لا، فمقتضى البراءة هو الجواز.

وممّا ذكر ينقدح ما في مستند الشيعة من قبول دعوى الإجماع في التسخيرات، حيث قال: «ولا شكّ في عدم كون الأوّلين سحراً، كما أنّ الظاهر كون الخامس سحراً والبواقي مشتبهة يقتضي فيها الإباحة إلاّ ما علمت حرمته من جهة الإجماع كما هو الظاهر في التسخيرات»(1).

وقد عرفت سابقاً خلوّ عبارات القدماء عن تعريف السحر، ولم يتعرّض أحد منهم لشمول السحر للتسخيرات ولا لعدم جوازها، وعليه فدعوى الإجماع في مثل المقام تكون مبنيّة على الحدس على اتّفاق نظر السابقين مع المتأخّرين في تعريف السحر وشموله للتسخيرات، وهو كما ترى.

فتحصّل ممّا ذكرنا إلى حدّ الآن: عدم الدليل على حرمة التسخيرات ما لم تتأوّل بعنوان الإضرار أو الإيذاء أو الكهانة، وأنّ الحرام في السحر هو تعليمه وتعلّمه وعمله. وأمّا رؤية عمل الساحر فلا دليل على حرمتها، فيجوز أن ينظر إلى عمل الساحر المرتكب للحرام، أللهمّ إلاّ أن يكون ترك الرؤية من مصاديق النهي عن المنكر، وبهذا الاعتبار لا يجوز رؤية عمل الساحر ومصاحبته كما لا يخفى.

ص: 178


1- مستند الشيعة / ج 14، ص 115.

المسألة التاسعة والعشرون «في السخرية»

اشارة

والكلام فيها يقع في عدّة جهات:

الجهة الاُولى: في حقيقة السخرية

السخرية: اسم مصدر من «سخر»، وسخر منه وبه بمعنىً واحد؛ أي هزئ به، والتعدّي ب - «من» أفصح.

قال في جامع السعادات: «السخرية والاستهزاء: هي محاكاة أقوال الناس أو أفعالهم أو صفاتهم وخلقهم؛ قولاً وفعلاً أو إيماءً وإشارةً ، على وجه يضحك منه، وهو لا ينفكّ عن الإيذاء والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص وإن لم يكن ذلك بحضرة المستهزأ به، فيتضمّن الغيبة أيضاً - إلى أن قال: - ولا ريب في أنّه صفةُ مَن لا حظّ له في الدين، وشيمة أراذل أحزاب الشياطين - إلى أن قال: - ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو في حقّ من يؤذي الناس ويهينهم باستهزائه وسخريته، وأمّا من جعل نفسه مسخرة ويسرّ أن يهزل ويسخر به وإن كان هو ظالماً لنفسه خارجاً عن شعار المؤمنين حيث أهان نفسه وأذلّها، إلاّ أنّ سخرية الغير به من جملة المزاح، ويأتي ما يذمّ منه وما يحمد، وإنّما المحرّم منه ما يؤدّي إلى

ص: 179

إيذائه وتحقيره بأن يضحك على كلامه إذا يخبط ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوّشة، أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو طويلاً أو ناقصاً بعيب من العيوب، فالضحك على جملة ذلك داخل في السخرية المنهي عنها»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الاستهزاء لا ينحصر في القول أو الفعل أو الإيماء والإشارة، بل يشمل أيضاً الكتابة والرسم المعبّر عنه في زماننا هذا بالكاريكاتير. وكذا تصدق السخرية على من أظهر الإيمان بنبيّ في الصباح وكفر به في المساء سخريةً ، أو على من دعا شخصاً إلى الضيافة فأجاب مع أنّه لم يصدق في ذلك. وكيف كان فجميع ما يوجب الاستهزاء والسخرية داخل في البحث، وأمّا الغيبة فليست ملازمة للسخرية وإن اتّحدت معها في بعض الأحيان كما لا يخفى.

وممّا ذكر ينقدح ما في الميزان من أنّ : «السخرية هي الاستهزاء، وهو ذكر ما يستحقر ويستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليداً بحيث يضحك منه بالطبع»(2).

وذلك لما عرفت من أنّ الاستهزاء ربّما يتحقّق بالكتابة أو الرسوم الكاريكاتيرية أو بغيرهما ممّا ذكرناه آنفاً، وكان عليه أن يذكر هذه الموارد، أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّه اكتفى بما ذكر من باب المثال.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ من جعل نفسه في معرض السخرية ويسرّ أن يهزل به ويسخر منه فقد رضي بالإذلال والتحقير، ولا يوجب الرضا المذكور عدم صدق السخرية على الاستهزاء به، فلا وجه لجعله من أقسام المزاح بل هو من أقسام السخرية، ويترتّب عليه ما يترتّب على السخرية. نعم، لو كان تقليد شخص في الكلام أو الأفعال خالياً عن

ص: 180


1- جامع السعادات / ج 2، ص 287-289.
2- الميزان في تفسير القرآن / ج 18، ص 350.

الإذلال والتحقير - كما لو كان هازلاً لاجادّاً - ورضي المسخور منه بذلك - كأن كان ذلك من أحبّائه - لم يبعد دخوله في المزاح، فتترتّب عليه أحكامه.

ولكن كثرة المزاح تنافي المروءة، كما حكي عن مجموعة الشهيد نقلاً من كتاب معاذ بن ثابت إلى الحسن الجوهري، عن عمرو بن جميع، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «إيّاكم وكثرة المزاح! فإنّه يذهب البهاء عن الوجوه، ويذهب بالمروءة»(1).

فتحصّل: أنّ السخرية لا تختصّ ببعض الموارد المذكورة، بل تعمّ جميع الموارد المذكورة وغيرها. والمعيار هو صدقها، فيترتّب عليها حكمها، وليس كلّ تقليد لكلام الغير أو فعله سخرية، كما إذا كان ذلك للمحبّة لا للإذلال أو التحقير.

الجهة الثانية: في أدلّة حرمتها

يدلّ على حرمة السخرية آيات:

منها: قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ )(2) .

قال في الميزان: «والقوم: الجماعة، وهو في الأصل الرجال دون النساء؛ لقيامهم بالاُمور المهمّة دونهنّ . وهذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء»(3).

وقال في زبدة البيان: «أي لا يسخر بعض المسلمين والمسلمات بعضهم، وإنّما اقتصر في الاُولى على المسلمين وفي الثانية على المسلمات للوقوع والكثرة؛ إذ قد

ص: 181


1- مستدرك وسائل الشيعة / ج 2، ص 77، الباب 66 من أبواب أحكام العشرة، ح 19.
2- سورة الحجرات / الآية 11.
3- الميزان في تفسير القرآن / ج 18، ص 350.

يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر. وظاهره أنّ القوم مخصوص بالرجال، كالنساء بالمرأة، ويحتمل العموم، وخصّ هنا للمقابلة»(1).

وحيث إنّ تقييد المسخور منه في الفقرة الاُولى بالرجال وفي الفقرة الثانية بالنساء من باب الوقوع والكثرة فلا يوجب تقييد الحكم، بل لا يجوز أن يسخر المؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض مطلقاً؛ سواء كان الساخر أو المسخور منه رجلاً أو امرأة، كما صرّح به في زبدة البيان بقوله: «أي لا يسخر بعض المسلمين والمسلمات بعضهم».

ثمّ إنّ ظهور قوله تعالى: (عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ )(2) وقوله: (عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) في احتمال الخير الفعلي يمنع من شمول الحكم لغير المؤمنين والمؤمنات؛ إذ لا يجتمع احتمال الخير بالفعل مع الكفر والنفاق، وعليه فالتحريم مختصّ بالسخرية من المؤمنين والمؤمنات ولا يشمل الكفّار والمنافقين، فلا حرمة للسخرية منهم ما لم ينطبق عليها عنوان من العناوين المحرّمة أو المرجوحة.

ثمّ إنّ مقتضى كون قوله تعالى: (عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ) وقوله: (عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) حكمةً لا علةً : أنّ سخرية المؤمنين والمؤمنات محرّمة مطلقاً وإن اطمأنّ الساخر أو علم بكون نفسه خيراً من المسخور منه.

ومنها: قوله تعالى: (اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ إِلاّٰ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )(3) .

واللَّمّاز كالهَمّاز: هو العَيّاب، وخصّ بعض اللغويّين الأوّل بمن يعيب في وجهك،

ص: 182


1- زبدة البيان / ص 529.
2- سورة الحجرات / الآية 11.
3- سورة التوبة / الآية 79.

والثاني بمن يعيب في ظهر الغيب.

والمراد من الذين يلمزون: هم المنافقون الذين كانوا يسخرون من الذين لا يجدون إلاّ جهدهم ومع ذلك كانوا ينفقون بمقدار قدرتهم، وكان ما أنفقوه قليلاً بالنسبة إلى ما أنفقه المنافقون.

فالآية الكريمة تدلّ على حرمة السخرية واستحقاق الساخر للعذاب؛ ولذلك قال في الجواهر: «الاستهزاء بالمؤمنين من كبائر الذنوب؛ لوقوع التصريح فيها بالعذاب»(1).

الجهة الثالثة: في كفر من استهزء بالايات

إنّ الاستهزاء والسخرية من آيات الله والأنبياء والأولياء - عليهم الصلاة والسلام - والأديان الإلهية كفرٌ، ويدلّ على ذلك آيات:

منها: قوله تعالى: (يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ * وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لاٰ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ ...) الآية(2).

ومنها: قوله تعالى: (وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتٰابِ أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلاٰ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(3) .

ص: 183


1- جواهر الكلام / ج 13، ص 313-320.
2- سورة التوبة / الآيات 64-66.
3- سورة النساء / الآية 140.

إلى غير ذلك من الآيات.

بل السخرية من المؤمنين والمؤمنات من جهة إيمانهم ترجع إلى السخرية من الدين، فيترتّب عليها ما يترتّب عليها إن كان الساخر ملتفتاً إلى ذلك، فتدبّر.

الجهة الرابعة: في اختصاص الحرمة بما إذا كان الفرض هتكا

إنّ حرمة سخرية المؤمنين والمؤمنات بعضهم من بعض واضحة فيما إذا كان الغرض تحقير المسخور منه وإذلاله وهتك حرمته، هذا مضافاً إلى أنّها لا تنفكّ نوعاً عن الإيذاء، وربّما تكون مصداقاً للغيبة أيضاً، كما إذا كانت في ظهر الغيب.

وأمّا إذا لم يكن الغرض ذلك، بل كان الغرض تنبيه الشخص إلى ما في نفسه من العيوب ليصلح نفسه، أو إلى ما في فعله وكيفية عمله من الإشكالات ليسعى في رفعها، ففي هذه الصورة يمكن القول بجوازها؛ لأنّها ليست بهتك، بل هي رفع الذلّة وإيجاد الرفعة، أو الإرشاد والنصيحة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما إذا انحصرت تلك الاُمور فيها، فلا تحرم وإن كانت موجبة للإيذاء.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ إطلاق السخرية والاستهزاء يشمل تلك الموارد أيضاً.

ولكن لقائل أن يقول: بأنّ الأدلّة منصرفة عن مثل هذه الموارد، وإن أبيت عن ذلك فقد تتزاحم مفسدة السخرية والاستهزاء مع مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها، فاللازم حينئذ تقديم الأهمّ منهما إن كان، وإلاّ فهو محكوم بالتخيير فيما إذا دار الأمر بين المحذورين؛ أي الحرمة والوجوب.

ثمّ اعلم أنّ الحرمة لا ترتفع فيما إذا جعل الشخص نفسه في معرض السخرية ويسرّ أن يهزل ويسخر به؛ لأنّ الله تعالى لا يرضى بإذلال المؤمنين وإن رضوا هم بذلك.

ص: 184

وممّا ذكر يظهر ما في جامع السعادات حيث قال: «وأمّا من جعل نفسه مسخرة ويسرّ أن يهزل ويسخر به، وإن كان هو ظالماً لنفسه خارجاً عن شعار المؤمنين حيث أهان نفسه وأذلّها إلاّ أنّ سخرية الغير به من جملة المزاح، ويأتي به ما يذمّ منه وما يحمد، وإنّما المحرّم منه ما يؤدّي إلى إيذائه وتحقيره»(1).

وذلك لأنّ التحقير والإذلال موجودان في هذه الصورة، وإطلاق دليل الحرمة يشملهما، وتخلّف الإيذاء لا يمنع عن حرمة الاستهزاء والسخرية مع وجود سائر الملاكات - من الإذلال والتحقير - فيه، فلا تغفل.

الجهة الخامسة: في إنّ الاكل في مقابل السخرية أكل المال بالباطل

إنّ أخذ الاُجرة في مقابل السخرية أكلٌ للمال بالباطل، ولا يملكها الساخر؛ لأنّ السخرية محرّمة، والعمل المحرّم لا يقابل بالأعواض. ولا فرق في ذلك بين أنواعها.

والإذن والإجازة لا يوجبان الحلّية بعد كون السخرية محرّمة؛ لعدم رضا الشارع بإذلال المؤمنين، ورضا المسخور منه بالإذلال غير مقبول في الشرع كما عرفت.

ويدلّ على بطلان الإجارة: قوله تعالى: (لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ )(2) .

وقد نصّ في خبر الحسن بن عليّ بن شعبة على أنّ كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له؛ أو شيء منه أو له(3).

ص: 185


1- جامع السعادات / ج 2، ص 289.
2- سورة النساء / الآية 29.
3- تحف العقول / ص 248، المطبعة الحيدرية.

فلا يجوز أن يؤجر نفسه لعمل الاستهزاء أو السخرية كما لا يجوز ذلك لمقدّماتهما، وكما أنّ إيجار النفس لا يجوز لهما فكذلك لا يجوز ذلك لبعض العمل المحرّم أو لبعض مقدّماته.

ثمّ إنّ النهي عن الأكل في الآية الكريمة كالنهي عن المعاملة إرشادٌ إلى فساد المعاملة؛ لأنّه في قوّة النهي عن العوض والثمن، ومن المعلوم أنّ المعاملة بلا ثمن وعوض ليست بمعاملة.

ولا فرق فيما ذكر بين الإجارة والجعالة والهبة المعوّضة والمصالحة بعد كون السخرية محرّمة كما عرفت؛ إذ مع المنع عنها لا مالية لها، ومع عدم ماليّتها لا تصلح للمعاملة بأيّة كيفية كانت كما لا يخفى.

وعليه، فيحرم مثل الكاريكاتير إن كان موجباً لتحقير أو إذلال المؤمنين أو المؤمنات، ولا يملك الساخر ما أخذه في قباله. وأمّا إن لم يكن موجباً لذلك أو كان كذلك بالنسبة إلى غير المؤمنين من الكفّار والأجانب ممّن لا حرمة لهم فلا يكون محرّماً، ولا مانع من أخذ شيء في قباله، والله العالم.

ص: 186

المسألة الثلاثون «سدّ المعابر»

اشارة

قال الإمام المجاهد قدس سره: «الشوارع والطرق العامّة وإن كانت معدّة لاستطراق عامّة الناس ومنفعتها الأصلية التردّد فيها بالذهاب والإياب، إلاّ أنّه يجوز لكلّ أحد الانتفاع بها بغير ذلك؛ من جلوس أو نوم أو صلاة أو غيرها، بشرط أن لا يتضرّر بها أحد على الأحوط ولم يزاحم المستطرقين ولم يتضيّق على المارّة».

وقال قدس سره أيضاً: «لا فرق في الجلوس غير المضرّ: بين ما كان للاستراحة أو النزهة، وبين ما كان للحرفة والمعاملة إذا جلس في الرحاب والمواضع المتّسعة؛ لئلاّ يتضيّق على المارّة»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الجلوس في الرحاب أو المواضع المتّسعة خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ تلك المواضع ليست من الطرق، والبحث حول جواز الجلوس في نفس الطرق.

ثمّ إنّه قال في الجواهر: «وتحقيق ذلك: هو أنّ الأصل والسيرة القطعية يقتضيان جواز

ص: 187


1- تحرير الوسيلة، كتاب المشتركات / ص 351، المسألة 5 و 6.

سائر وجوه الانتفاع بالمنافع المشتركة إذا لم تعارض أصل المنفعة المقصودة منه الذي اُعدّ لها؛ بإحياء المحيي أو بوقف الواقف أو بتسبيل المسبّل أو بغير ذلك، من غير فرق: بين ما يدوم اثر التصرّف كالبناء ونحوه، وبين ما لا يدوم مع فرض عدم إخراجه بذلك عمّا اُعدّ له، فلو بنى بعض أرض الطريق بآجرّ - مثلاً - على وجه لا يخرجه عن أصل الاستطراق، لم يكن بذلك بأس وإن كان مراده بذلك الاستئثار به لو أراد الجلوس عليه غير المضرّ بالمارّة؛ باعتبار أنّه ملكه، نحو وضع البساط ونحوه. وكذا الكلام في السقف.

ولاينافي ذلك ثبوت حقّ الاستطراق بعدما سمعت من الإجماع على جواز الارتفاق بغير المضرّ به، فليس للمستطرق حينئذ اختيار هذه القطعة لاستطراقه بعد فرض وجود ما يصلح له غيرها؛ إذ الثابت له حقّ الاستطراق في المجموع لا في كلّ جزء؛ ومن هنا لم يكن له إزعاج الجالس غير المضرّ.

واستمرّت الطريقة على وضع القمامة وغيرها في الطرقات إذا لم تكن مضرّة بالمستطرق؛ لوجود ما يصلح لاستطراقه غيرها.

ولا ينافي ذلك اشتراك الناس فيها بعد أن كان الثابت من الاشتراك كونه على الوجه المزبور، بل مؤكّد له، ومن ذلك استمرار الناس على الانتفاع بالمساجد بغير العبادة مع عدم المزاحمة لأهل المنفعة المقصودة.

ودعوى: حرمة الانتفاع بغيرها إلاّ ما جرت السيرة عليه، لا حاصل لها بعد أن علم منها الجواز على وجه الكلّية لا خصوص أفراد من الارتفاق، بل صريح كلمات الاصحاب أنّ المدار على تضرّر ذوي المنفعة المقصودة وعدمه كما هو واضح، والله العالم»(1).

ص: 188


1- جواهر الكلام / ج 38، ص 81-82.

ثمّ إنّ المحكي عن المسالك أنّه قال: «إنّهم اختلفوا في جواز الجلوس للبيع والشراء: فمنعه بعضهم مطلقاً؛ لأنّه انتفاع بالبقعة في غير ما اُعدّت له، فكان كالانتفاع بالوقوفات الخاصّة في غير ما عيّنت له من الجهة. والمشهور: التفصيل؛ وهو المنع من ذلك في الطريق المسلوك الذي لا يؤمن تأذّي المارّة به غالباً، وجوازه في الرحاب المتّسعة في خلاله بحيث يؤمن تأذّي المارّة به»(1).

وأورد عليه في الجواهر: بأنّه «مع أنّ ما حكاه من القول الأوّل لم نعرفه لأحد من العامّة والخاصّة، وقد نقل هو وغيره إجماع الناس في جميع الأعصار على فعل ذلك مع عدم التضرّر، من غير فرق بين الجلوس للبيع وغيره انّ التفصيل المزبور لم نعرفه أيضاً لأحد إن لم يكن المراد به ما أشرنا إليه من ضرر المارّة وعدمه.

كما أنّ ما ذكره من قوله: «يؤمن» و «لا يؤمن» لا حاصل له أيضاً؛ ضرورة كون المدار في المنع على الضرر المزبور الذي يمكن القول بالجواز حتّى يحصل، لا المنع حتّى يعلم العدم، وإن كان هو محتملا أيضاً، إلاّ أنّ الأوّل أقوى».(2)

ولقد أفاد وأجاد، إلاّ أنّ الإنصاف هو أن يقال: إنّ الأصل في الوقف ونحوه هو المنع عن غير الاستطراق؛ لأنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، وإنّما ترفع اليد عنه بالسيرة القطعية، وعليه فمقتضى القاعدة هو وجوب الاجتناب عن غير الاستطراق إلاّ إذا كان من الموارد التي قامت عليها السيرة.

ودعوى: استفادة الكليّة من السيرة، كما ترى؛ لانها دليل لبّي، وعليه ففي الموارد المشكوكة يرجع إلى مقتضى الأصل.

ص: 189


1- مسالك الأفهام / ج 12، ص 430 (مؤسسة المعارف الاسلامية - قم).
2- جواهرالكلام / ج 38، ص 82-84.

والقول: بعدم وجود الموارد المشكوكة، غير سديده.

ويؤيّد ما ذكرناه: ما رواه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد في الإرشاد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام - في حديث طويل - أنّه قال: «إذا قام القائم عليه السلام سار إلى الكوفة، وهدم بها أربعة مساجد، ولم يبقَ مسجد على وجه الأرض له شُرَف إلاّ هدمها وجعلها جمّاء، ووسّع الطريق الأعظم، وكسر كلّ جناح خارج في الطريق، وأبطل الكنف والميازيب إلى الطرقات....» الحديث(1).

إذ إطلاق كسر كلّ جناح خارج في الطريق وإبطال الكنف يقتضي حرمة إخراج الجناح في الطريق وحرمة إحداث الكنف والميازيب إلى الطرقات ولو لم يكن منافياً للاستطراق، وهو يساعد كون الأصل هو المنع، لا أنّ الأصل هو الجواز إلاّ إذا كان منافياً للاستطراق. ولكنّ الالتزام به مشكل؛ لما عرفت من أنّ التصرّف غير المنافي جائز، فالمنع عنه لا يلتزم به.

ثمّ إنّ الطريق نوعان: نافذ، وغير نافذ:

فالأوّل: الطريق نوعان نافذ وغير نافذ فالأول يسمّى بالشارع العام

فالأوّل - وهو المسمّى بالشارع العامّ - محبوس على الأنام كافّة، والناس فيه شرّع سواء، وليس لأحد إحياؤه والاختصاص به.

ولذا فلو جلس في موضع من الطريق ثمّ قام عنه؛ فإن كان جلوس استراحة بطل حقّه، فجاز لغيره الجلوس فيه. وكذا إن كان لحرفة ومعاملة وقام بعد استيفاء غرضه وعدم نيّته العود، فلو عاد إليه بعد أن جلس في مجلسه غيره لم يكن له رفعه.

ولو قام قبل استيفاء غرضه ناوياً للعود، ففي ثبوت حقّ له إشكال.

من ناحية احتمال صدق الحقّ بالنسبة إليه، فتشمله صحيحة طلحة بن زيد عن أبي

ص: 190


1- وسائل الشيعة / ج 25، ص 436، الباب 20 من أبواب إحياء الموات، ح 1.

عبدالله عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين عليه السلام: سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل. وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء»(1). وقد نقل الأجلاّء عن طلحة بن زيد، ومنهم صفوان الذي لا يروي إلاّ عن الثقة.

ومرسلة محمّد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قلت له: نكون بمكّة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربّما خرج الرجل يتوضّأ فيجيء آخر فيصير مكانه ؟ قال: «من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه وليلته»(2).

والمحكي عن المبسوط وجملة من كتب الفاضل والدروس وغيرها هو بقاء الحقّ لو كان له رحل فيه؛ مستنداً إلى فحوى ما ورد من ذلك في المسجد.

ومن ناحية ما ذهب إليه صاحب الجواهر من أنّ : «حقّية الطريق للجالس بالسبق ووضع الرحل ونحو ذلك ليست كحقّية التحجير التي تنتقل بالصلح والإرث ونحوهما، بل هي لا تزيد على حرمة الظلم بدفعه عن مكانه وبالتصرّف برحله الموضوع في مكان كان يجوز له وضعه»(3).

وعليه، فالمتيقّن منها - كما أفاد السيّد المحقّق الخوئي - عدم جواز مزاحمة السابق مادام شاغلاً للمحلّ ، لا الحقّ بالمعنى المبحوث عنه»(4).

أللهمّ إلاّ أن يقال: لا مانع من أن يراد منه الحقّ بالمعنى المبحوث عنه؛ بدعوى ظهور الحقّ - خصوصاً مع تحديده باليوم أو الليل - في الحقّ بالمعنى المبحوث عنه، وعليه فلو

ص: 191


1- المصدر السابق / ج 5، ص 278، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد، ح 2.
2- المصدر السابق / ح 1.
3- جواهر الكلام / ج 38، ص 78-80.
4- مستند العروة / ج 2، ص 14.

جلس في الطريق وقام قبل استيفاء غرضه ناوياً للعود بقي حقّه إلى الليل، وهكذا في المساجد وغيرها من الأمكنة المشتركة. ولعلّ الرحل ونحوه معتبر من جهة مقام الإثبات؛ وإلاّ فنفس استيلائه على المحلّ يكفي في كونه أحقّ ، بل اللازم هو كونه سابقاً.

وممّا ذكر يظهر ما في الجواهر حيث قال: «إلاّ أنّه مع ذلك يمكن أن يقال: إنّ الأحقّية تحصل أيضاً مادام يصدق كون الشيء في يد المستحقّ وفي تصرّفه وتحت قبضته فأخذه منه حينئذ - كدفعه الحسّي - ظلم؛ ولعلّه لذا اعتبروا الرحل مع نيّة العود في الطريق والمسجد، بخلاف ما إذا لم يكن له رحل؛ فإنّ نيّة العود لا تكفي في صدق كون الشيء في اليد وتحت قبضته»(1).

وذلك لمّا عرفت من احتمال كون اعتبار الرحل من جهة مقام الإثبات؛ وإلاّ فنفس الاستيلاء يكفي في كونه أحقّ بأيّ معنىً كان كما لا يخفى.

ثمّ لو كان الجلوس مزاحماً للمستطرقين لزم على الجالس ترك الجلوس، فلو لم يتركه كان آثماً.

وأمّا المعاملات الواقعة في هذا المحلّ فهي صحيحة؛ لأنّ الممنوع هو المزاحمة لا نفس المعاملات. نعم، لو صار أحد أجيراً لإيجاد المزاحمة بإشغال الطريق كان المأخوذ بعنوان الاُجرة محرّماً؛ لأنّ الحرام لا يكون قابلاً للمعاوضة، فيشمله قوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) .

ثمّ إنّ الموضع يصير شارعاً عاماً باُمور:

أحدها: بكثرة التردّد في الموات.

والثاني: بجعل المالك بعض ملكه شارعاً عامّاً وتسبيلاً دائمياً لسلوك عامّة الناس،

ص: 192


1- جواهر الكلام / ج 38، ص 80-81.

وسلك فيه بعض الناس.

والثالث: بإحياء جماعة أرضاً مواتاً، وترك بعضها مسلكاً نافذاً بين الدور والمساكن.

وأمّا الثاني: أي الطريق غير النافذ

وأمّا الثاني - أي الطريق غير النافذ - فهو الذي يسمّى بالشارع غير العامّ ؛ لعدم السلوك منه إلى طريق آخر أو أرض مباحة، بل تحيط بجوانبه الثلاثة الدور والحيطان والجدران، فهو ملك لأرباب الدور التي أبوابها مفتوحة إليه، دون من كان حائط داره إليه من غير أن يكون بابها إليه، فيكون هو كالملك المشترك بين أشخاص؛ إذ يجوز لأربابه سدّه، وتقسيمه بينهم، وإدخال كلّ منهم حصّته في داره، ولا يجوز لأحد غيرهم بل ولا منهم أن يتصرّف فيه ولا في فضائه إلاّ بإذن من يعتبر إذنه.

ولا يجوز لغير الملاّك التصرّف فيه إلاّ فيما إذا قامت قرينة عليه، ولو تصرّف فيه بالمعاملة ونحوها ولم تقم قرينة على جوازها كان ذلك موجباً للإثم.

وأمّا بطلان المعاملات فلا كما مرّ؛ لأنّ العنوان المحرّم - كالمزاحمة - عنوان مغاير لعنوان المعاملات، وبقيّة الكلام في محلّه.

ص: 193

ص: 194

المسألة الحادية والثلاثون «في السرقة»

لا إشكال في كون سرقة الأموال من المحرّمات. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(1) . وسرقة الشيء لا تستلزم ملكيّته، بل يجب ردّ الأشياء المسروقة إلى ملاّكها، وإن تعيّبت ونقصت قيمتها فعلى السارق النقصان، وإن تلفت الأعيان المسروقة ضمن مثلها إن كانت مثليّة، وقيمتَها ان كانت قيميّة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وآله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه». والنماءات المتّصلة والمنفصلة منها لملاّكها، وما بذله السارق لحفظها أو حياتها لا يضمنه ملاّكها؛ لإقدام السرّاق عليها من دون إذن أو أمر منهم.

والسرقة بشرائطها توجب الحدّ - من قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى مع ترك الراحة والإبهام له - عند الخاصّة، ولو سرق ثانيةً قُطعت رجله اليسرى من الساق وتِرُك له العقب، وإن سرق ثالثةً حُبس دائماً واُنفق عليه من بيت المال، وإن سرق من السجن قُتل. ولا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، والذكر والاُنثى، والحرّ والعبد. وبقيّة الكلام

ص: 195


1- سورة المائدة / الآية 38.

في باب الحدود، وإنّما أوردنا البحث عنها هنا في الجملة للإشارة إلى أهمّية هذه المسألة؛ وهي أنّ الاشتغال بها يعدّ من المكاسب المحرّمة، والأسوء منه هو سرقة الحرّ وبيعه مع أنّ الحرّ ليس قابلاً للتملّك في نفسه، والأسوء منه هو سرقة الحرّ وبيعه إلى مراكز الفساد والفحشاء - نعوذ بالله من شرّ أنفسنا - فقد صرّح الفقهاء بأنّ من باع إنساناً حرّاً، صغيراً كان أو كبيراً ذكراً كان أو اُنثى، فعل حراماً وقطعت يده. وتدلّ عليه معتبرة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام: «إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام اُتي برجل قد باع حرّاً فقطع يده»(1).

قال في الجواهر: «ولو سرقه ولم يبعه اُدّب بما يراه الحاكم؛ للأصل بعد اختصاص النصوص بالبيع»(2).

وقال أيضاً في مورد سرقة الحرّ وعدم البيع: «ولو كان عليه ثياب أو حلي يبلغ النصاب لم يقطع وإن كان صغيراً؛ لثبوت يده عليها، ولذا يحكم بأنّ ما في يد اللقيط له. نعم، لو فرض سرقته للمال معه على وجه لم تكن يده عليه اتّجه حينئذ القطع»(3).

ثمّ لو صارت سرقة الحرّ وبيعه شغلاً له لا يبعد القول بكونه مفسداً، فيجري عليه حكم المفسد - وهو القتل - بناءً على تمامية الكبرى من استحقاق المفسد القتل، ولا يتنافى ذلك مع موثّقة السكوني؛ لأنّ موردها ظاهر فيما إذا لم يكن ذلك شغلاً له، بل حمل الشيخ القطع في مورد رواية السكوني على أنّه لدفع فساده لا الحدّ للسرقة، ولعلّه لعدم كون الحرّ مالاً يبلغ النصاب.

ودعوى: أنّ القطع المزبور إن كان للفساد لا للسرقة فالمتّجه جريان حكم المفسد

ص: 196


1- المصدر السابق / ج 28، ص 283، الباب 20 من أبواب حد السرقة، ح 2.
2- جواهر الكلام / ج 41، ص 511.
3- المصدر السابق.

عليه لا خصوص القطع المزبور.

مندفعة: بما في الجواهر: من أنّها اجتهاد في مقابلة النصّ ، على أنّه قابل لتخصيص ذلك الإطلاق.

نعم، البحث عن كون القطع لقلع الفساد أو للحدّ لاأثر عمليّ له كما أفاد في جامع المدارك(1).

وممّا ذكرنا يظهر ما في تحرير الوسيلة حيث قال: «لو سرق حرّاً كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو اُنثى، لم يقطع حدّاً فهل يقطع دفعاً للفساد؟ قيل: نعم، وبه رواية، والأحوط ترك القطع، وتعزيره بما يراه الحاكم»(2).

وذلك لما عرفت من ثبوت القطع بموثّقة السكوني، هذا مع ذهاب المشهور إليه قطعاً، وإنّما الخلاف بينهم في أنّ القطع حدّ للسرقة أو لقلع الفساد، والله هو الهادي.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ السرقة وإن كانت تطلق أيضاً على أخذ المطالب العلمية أو الأشعار أو غيرهما ممّا يعتبر من حقوق الآخرين من دون إذن أصحابها، ولكن هذه السرقة يختلف حكمها عن حكم سرقة الأموال والأنفس من القطع أو القتل. نعم، يجوز للحاكم أن يعزِّر من أخذ كذلك مع صدق الظلم على أخذه من دون إذن من أصحابها، فلا تغفل.

ص: 197


1- جامع المدارك / ج 7، ص 147.
2- تحرير الوسيلة / ج 2، ص 617، المسألة 13.

ص: 198

المسألة الثانية والثلاثون «في الشرب الحرام»

اشارة

والكلام فيها يقع في عدّة مقامات:

المقام الأوّل: في شرب السموم القاتلة

ولايخفى أنّ شربها لا يجوز، قال المحقّق في الشرائع: «الخامس من أنواع المحرّمات من المأكولات والمشروبات: السموم القاتلة قليلها وكثيرها»(1).

وقال في الجواهر: «بلا خلاف ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه»(2).

وكيف كان فيدلّ عليه:

1 - قوله تعالى: (وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نٰاراً وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً)(3) .

بدعوى: أنّ ظاهر النهي هو الحرمة، والتوعيد بالنار يدلّ على كونه من الكبائر. قال

ص: 199


1- شرائع الإسلام / ج 2، ص 146.
2- جواهر الكلام / ج 36، ص 370.
3- سورة النساء / الآيتان 29 و 30.

المحقّق الأردبيلي: «تدلّ الآية على كون القتل كبيرة»(1).

ودعوى: أنّ المراد هو قتل بعض لبعض لا قتل النفس.

مندفعة: بأنّ المتبادر من قوله عزّ وجلّ : (وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) هو قتل النفس. نعم، لو قامت قرينة على اندراج قتل بعض لبعض لعمّه أيضاً.

2 - وقوله تعالى: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ )(2) ؛ فإنّ النهي عن الإلقاء في التهلكة يدلّ على الحرمة.

لا يقال: إنّ الآية إرشاد، ولا دلالة لها على الحكم المولوي.

لأنّا نقول: إنّ إلالقاء في التهلكة وإن كان عند العقلاء محكوماً بالمنع إلاّ أنّه لا يوجب أن يكون النهي الصادر عن الشارع لمحض الإرشاد، بل هو إمضاء مولويّ لما حكم به العقلاء، ولذا يكون ترك الامتثال موجباً لهتك حرمة المولى، والهتك يستلزم العقوبة، ولا يحمل الأمر أو النهي الشرعي على الإرشاد المحض إلاّ إذا لم يمكن الأمر أو النهي المولوي، كالأمر بالإطاعة في مثل قوله عزّ وجلّ : (أَطِيعُوا اَللّٰهَ ...) الآية.

ودعوى: أنّ النهي في قوله عزّ وجلّ : (وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ) عقيب قوله تبارك وتعالى: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ) يرجع إلى النهي عن ترك إطاعة الأمر بالإنفاق، والأمر بالإطاعة والنهي عن ترك الإطاعة إرشادٌ محض.

مندفعة: بأنّ قوله تعالى: (وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ) بمنزلة الكبرى الكلّية، كما يشهد له التمسّك به في مقامات اُخرى لحرمة الإلقاء في التهلكة، وحيث إنّ الإرشادية والمولوية ليستا في حاقّ الأمر والنهي - كما أنّ الوجوب والاستحباب ليسا

ص: 200


1- زبدة البيان / ص 544.
2- سورة البقرة / الآية 195.

في حاقّهما - بل تستفادان من خارجهما، فلا مانع أن يكون الأمر الواحد أو النهي الواحد إرشاديّاً بالنسبة إلى مورد ومولويّاً بالنسبة إلى آخر، كما يمكن أن يكون دالاًّ على الوجوب بالنسبة إلى شيء وعلى الاستحباب بالنسبة إلى آخر، ففي المقام يكون النهي عن الإلقاء في التهلكة إرشاديّاً بالنسبة إلى ترك إطاعة الأمر بالإنفاق، وأمّا بالنسبة إلى غيره من الموارد فهو مولويّ ، فلا تغفل.

3 - ومرسلة تحف العقول - التي عمل بها في الجملة - عن الصادق عليه السلام: «وكلّ شيء يكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلاّ في حال الضرورة - إلى أن قال: - وما كان من صنوف البقول ممّا فيه المضرّة على الإنسان في أكله - نظير بقول السموم القاتلة، ونظير الدفلاء (الدّفلى) وغير ذلك من صنوف السمّ القاتل - فحرام أكله»(1).

وفيه: أنّ اللازم هو إحراز العمل بالفقرة التي استدلّ بها، ولا يكفي لذلك العمل بسائر الفقرات مع إرسالها.

4 - وحديث نفي الضرر بناءً على شموله للإضرار بالنفس كما قرّر في محلّه، ولا ضرر أكبر من قتل النفس. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مفاد «لا ضرر» هو النهي عن الضرر أو نفي الضرر؛ فإنّ نفي الضرر مطلقاً الذي يدلّ بدلالة الاقتضاء على نفي تجويز الضرر يساوي النهي عن الضرر، كما قرّر في محلّه.

5 - أضف إلى ذلك: الأخبار الدالّة على حرمة أكل الطين وتعليلها بكونه موجباً لفساد البدن والهلاك(2).

ثمّ إن عنوان السموم لا مدخلية له، بل المراد كلّ ما يوجب القتل ولو لم يكن من أنواع

ص: 201


1- وسائل الشيعة / ج 25، ص 84، الباب 42 من أبواب الأطعمة المباحة، ح 1.
2- المصدر السابق / انظر: روايات الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ص 220-225.

السموم، بل لا خصوصية لعنوان الشرب، فلو أدخل بواسطة الإبر ما يوجب القتل كالهواء ارتكب حراماً ولو لم يصدق عليه الشرب؛ كلّ ذلك لحرمة قتل النفس والإلقاء في التهلكة.

ثمّ إنّ الحرمة لا ترتفع بإذن من يريد قتل نفسه، فلا يجوز للطبيب إهلاكه بالإذن منه إن كان في حرج، وأخذ الاُجرة على الإهلاك ولو مع الإذن حرام، ولا يوجب النقل والانتقال، بل هو أكل للمال بالباطل، بل المباشر قاتل وتترتّب عليه أحكامه.

ويجب الحيلولة دون وقوع القتل، ولا يجوز الإعانة عليه أصلا؛ لأنّه من المبغوضات الفعلية كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المعاملة على السموم القاتلة مع عدم المنفعة المحلّلة الشائعة باطلة، ومقتضى البطلان عدم انتقال الثمن إلى البائع، بل لا تجوز المعاملة لو كان تناولها في الأيادي مظانّ القتل.

المقام الثاني: في شرب الأفيون والسقمونيا ونحوهما

المقام الثاني: في شرب الأفيون(1) والسقمونيا(2) ونحوهما

قال المحقّق قدس سره: «أمّا ما لا يقتل القليل منها - كالأفيون والسقمونيا - في تناول القيراط والقيراطين إلى ربع الدينار في جملة حوائج المسهل فهذا لا بأس به؛ لغلبة السلامة.

ولا يجوز التخطّي إلى موضع المخاطرة، منه كالمثقال من السقمونيا والكثير من شحم الحنظل و او الشوكران، فإنّه لا يجوز؛ لما يتضمّن من ثقل المزاج وإفساده»(3).

ص: 202


1- الأفيون: هو عصارة الخشخاش.
2- السقمونيا: نبات يستخرج من تجاويفه أو جذوره رطوبة لاصقة.
3- شرايع الاسلام / ج 2، ص 146.

ولا إشكال - كما هو الظاهر من عبارة المحقّق - في جواز الاستفادة من الأفيون أو السقمونيا أو نحوهما ممّا لا يقتل قليله للتداوي والمعالجة إذا لم يكن في ذلك مخاطرة، وأمّا إذا كانت الاستفادة المذكورة موجبة للمخاطرة فلا يجوز في مقام المعالجة فضلا عن غيره؛ لما مرّ من قوله تعالى: (وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ) ؛ إذ صدق التهلكة لا يختصّ بموارد العلم بالموت، بل يشمل موارد الظنّ بل الاحتمال العقلائي؛ ولعلّه لذا اعترض الإمام عليه السلام على من غسّل المجدور غسل الجنابة فمات، كما ورد في معتبرة محمّد بن سكين وغيره عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور، فغسّلوه فمات ؟ فقال: «قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمّموه ؟! إنّ شفاء العيّ السؤال»(1).

ومن المعلوم أنّ مغسّل المجدور لم يعلم بأنّ تغسيله يوجب القتل؛ وإلاّ لما غسّله، وعليه يكون اعتراض الإمام مختصّاً بصورة الظنّ أو الاحتمال العقلائي للخطر.

هذا مضافاً إلى حكم العقلاء بوجوب الاجتناب عن صورة المخاطرة ومظانّها مع عدم الردع عنه.

ودعوى: أنّ الاجتناب عن صورة المخاطرة ومظانّها لكون الفرار من الخطر جبلّيّاً، ولا حكم فيه للعقلاء حتّى يكون عدم الردع عنه إمضاءً له شرعاً.

مندفعة: بأنّه لا يمنع ذلك عن حكم العقلاء بوجوب الاجتناب عنه أيضاً، فيكون ذلك الحكم - بضميمة عدم الردع - حكماً شرعيّاً إمضائيّاً.

لا يقال: لا حاجة إلى الحكم الشرعي المستفاد من عدم الردع.

لأنّا نقول: بل الحاجة إلى الحكم الشرعي متحقّقة ولو بإمضاء الحكم العقلائي؛ إذ ربّما لا يمنع الفرار الجبلّي عن الوقوع في الخطر، بل يحتاج إلى التأكيد الشرعي.

ص: 203


1- وسائل الشيعة / ج 3، ص 346، الباب 5 من أبواب التيمم، ح 1.

ثمّ إنّ لزوم الاجتناب عن موارد المخاطرة للتداوي إنّما هو في الحالات التي لم يرخّصها الطبيب الماهر المحتاط غير المتسامح ولا المتهوّر، وإلاّ فإذا رجّح الطبيب المذكور المعالجة المذكورة على عدمها جاز ذلك.

ولعلّه لذلك قال صاحب الجواهر: لو فرض فعل ذلك للتداوي من داء جاز وإن خاطر إذا كان جارياً مجرى العقلاء؛ لإطلاق النصوص، مضافاً إلى السيرة المستمرّة.

ثمّ ذكر الروايات الواردة في ذلك والتي منها: ما رواه في الكافي بسند صحيح عن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق، وربّما انتفع به وربّما قتله ؟ قال: «يقطع ويشرب»(1)، بناءً على حمل هذه الرواية على صورة كون السلامة منه أكثر على وجه يجوّزه الطبيب.

كما يؤيّد ذلك: ما رواه في الخصال عن إبراهيم بن مسلم، عن عبد الرحمان بن أبي نجران، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يشرب الدواء وربّما قتل وربّما سلم منه، وما يسلم منه أكثر؟ - قال: - فقال: «أنزل الله الدواء وأنزل الشفاء، وما خلق الله داءً إلاّ وجعل له دواء، فاشرب وسمِّ الله تعالى»(2)(3) . وهذا أوضح فيما إذا دار الأمر بين مخاطرتين ورجّح الطبيب الماهر طرف التداوي، فتدبّر جيّداً.

المقام الثالث: في حرمة شرب المضرّ

يحرم ما يكون شربه مضرّاً وموجباً للنقص ولو لم يوجب الموت والفساد والمخاطرة.

ص: 204


1- وسائل الشيعة / الباب 134 من أبواب الاطعمة المباحة، ح 3.
2- المصدر السابق/ ص 223، ح 9.
3- انظر: جواهر الكلام / ج 36، ص 371-372.

والدليل على ذلك: عموم قوله: «لا ضرر ولا ضرار» بناءً على شموله للإضرار بالنفس كما قرّر في محلّه.

ودعوى: أنّ الاجتناب عن الإضرار بالنفس أمر جبلّي لا يحتاج الإنسان فيه إلى النهي عنه شرعاً، وعليه فلا إطلاق لنفي الضرر بالنسبة إلى الإضرار بالنفس.

مندفعة: بما مرّ من أنّه ليس كلّ ما يكون جبلّيّاً فهو موجب للاجتناب، بل كثيراً ما يحتاج في الترك إلى تقوية الداعي بالحكم الشرعي، فلا وجه لمنع عموم حديث نفي الضرر للإضرار بالنفس.

والقول: بأنّ لازم هذا هو لزوم الاحتراز عن مثل شرب الماء وأكل الغذاء زائداً على اللازم بالنسبة إلى من يتضرّر، والظاهر أنّ السيرة على خلاف هذا(1).

غير سديد؛ لأنّ محلّ الكلام هو الضرر المعتدّ به.

ثمّ لا يخفى أنّ حرمة الإضرار لا تختصّ بصورة العلم، بل تشمل المظنون أو المحتمل العقلائي أيضاً؛ ولذا قال في الجواهر: «وبالجملة، كلّ ما كان فيه الضرار علماً أو ظنّاً بل أو خوفاً معتدّاً به، حرم»(2).

المقام الرابع: في حرمة شرب المواد المخدّرة

يحرم شرب جميع أنواع الموادّ المخدّرة لغير التداوي إذا كان مستتبعاً للضرر من جهة زيادة المقدار المستعمل منها أو من جهة إدمانه، بل لا يجوز إذا احتمل ذلك الاستتباع احتمالاً عقلائيّاً؛ لعدم الفرق في حرمة استعمال المضرّ بين معلوم الضرر ومظنونه، بل

ص: 205


1- جامع المدارك / ج 5، ص 172.
2- جواهر الكلام / ج 36، ص 371.

ومحتمله إذا كان احتماله معتدّاً به عند العقلاء ولو من جهة أهمّية المحتمل؛ لصدق التهلكة عليه. ولا فرق أيضاً بين أن يكون الضرر المترتّب عليه عاجلاً أو بعد مدّة؛ لصدق التهلكة على التقديرين كما لا يخفى.

وهل يجوز تناوله مرّة أو مرّتين مثلاً، أو لا يجوز؟

قال السيّد الفقيه أبو الحسن الأصفهاني قدس سره في وسيلته: «في الأفيون ومشتقّاته: إذا كان لا يضرّ تناوله مرّة أو مرّتين مثلاً، ولكن يضرّ إدمانه وزيادة تكريره والتعوّد به، يحرم تكريره المضرّ خاصّة. ومن ذلك شرب الأفيون بانبلاعه أو شرب دخانه، فإنّه لا يضرّ مرّة أو مرّتين، لكنّ تكراره والمداومة عليه والتعوّد به - كما هو المتداول في بعض البلاد خصوصاً ببعض كيفيّاته المعروفة عند أهله - مضرٌ غايَته، وفيه فساد وأيّ فساد! بل هو بلاء وأيّ بلاء! وداء عظيم، وبلاء جسيم، وخطر خطير، وفساد كبير، أعاذ الله المسلمين منه»(1).

ولا يخفى عليك أنّ نظره الشريف إلى ما لايضرّ ولا يكون مظنّة له، وأمّا إذا كان التناول مرّةً أو مرّتين في بعض أقسام الموادّ المخدّرة - كالهيروئين مثلا - مظنّةً للوقوع في التهلكة والضرر العظيم فالأحوط إن لم يكن الأقوى هو لزوم الاجتناب عنه؛ لما عرفت من صدق التهلكة عليه. هذا مضافاً إلى بناء العقلاء على الاحتراز عن الموارد التي يخاف الوقوع في التهلكة فيها مع عدم الردع عنها، فلا تغفل.

ثمّ لا فرق في حرمة استعمال الموادّ المخدّرة بين شربها وأكلها، وبين استعمالها بواسطة الحقنة أو إدخالها في البدن عن طريق الإبر أو غير ذلك؛ لصدق التهلكة على جميع الطرق المذكورة وغيرها.

ص: 206


1- الوسيلة / ص 184، مسألة 6.

المقام الخامس: في حرمة توليد المواد المخدّرة

يحرم إنتاج وتوليد الموادّ المخدّرة كالهيروئين إذا لم يكن لها منفعة شائعة محلّلة. ولا يجوز بيعها وشراؤها وحملها ونقلها، بل يجب على الحكومة وآحاد الناس النهي عنه؛ لأنّه من المنكرات، والثمن المأخوذ في بيعها لا ينتقل إلى البائع؛ لأنّه أكل للمال بالباطل. وكذا لا تنتقل الاُجرة في مقابل حملها ونقلها إلى الأجير كما لا يخفى.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره - في جواب السؤال عن جواز المعاملة والارتزاق بثمن الموادّ المخدّرة الموسومة بالهيروئين -: «إنّ المعاملة عليها محرّمة، والثمن المأخوذ في مقابلها حرام، ولا يملكه، ولا يجوز الارتزاق به»(1).

المقام السادس: في عدم جواز التخلّف عند نهى الحاكم عن موضوع

إذا منع الوليّ الفقيه عن المعاملة على مثل الترياك الذي له منفعة محلّلة، فهل يمنع ذلك عن الانتقال أو لا؟

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «لا يجوز التخلّف عن نهيه، ولكن لو تخلّف أثم. ولا يمنع ذلك عن النقل والانتقال، ولا يترتّب عليه الحكم الوضعي في الفرض المذكور»(2).

ثمّ إن منع الوليّ الفقيه عن المعاملة على مثل الترياك وجبت الإطاعة حتّى على من لم يقلّده؛ لإطلاق أدلّة حرمة ردّ حكم الحاكم.

قال السيّد الفقيه الكلبايكاني: «لو منع المجتهد الجامع للشرائط عن موضوع مع

ص: 207


1- انظر كتاب: استفتاءات (بالفارسية) / ج 2، ص 35-36.
2- المصدر السابق / ص 36-37.

اجتماع الشرائط وجبت إطاعته حتّى على غير مقلّده»(1).

المقام السابع: في حرمة إدمان المضر

يجب ترك الإدمان على المضرّ، والدليل عليه: هو عموم حديث نفي الضرر والضرار؛ فإنّه لا فرق في حرمة الإضرار بين الإحداث والإبقاء. نعم، لو كان ترك الإدمان مستلزماً للضرر فإنّهما يتزاحمان، فإن كان بينهما أقوى قُدّم، وإلاّ فهو مختار بينهما وإن عوقب على المختار لو اختار الاستمرار على الإدمان؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «يجب على المدمن أن يترك إن لم يلزم منه الضرر»(2).

ولعلّ نظره الشريف إلى الضرر الأقوى؛ وإلاّ فلو كان ترك الإدمان موجباً لضرر أقلّ من ضرر الإدمان وجب ترك الإدمان وإن تضرّر بذلك، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه يجب مساعدة المدمن على ترك الإدمان خصوصاً إذا كان مهلكاً؛ وذلك لمبغوضية الإدمان عند الشارع.

وممّا ذكر يظهر عدم جواز دفع الآخرين نحو الإدمان؛ لأنّه إضرار، وهو حرام.

المقام الثامن: في استحقاق المدمن للحد

هل يستحقّ المدمن الحدّ والقصاص أو لا؟

ص: 208


1- مجمع المسائل / ج 3، ص 68.
2- انظر كتاب: استفتاءات (بالفارسية) / ج 2، ص 32.

واُجيب عن ذلك: بأنّه لا فرق بين المدمن وغيره في الجنايات والمعاصي العمدية واستحقاق الحدود والقصاص. نعم، لو فرض صيرورته مسلوب الإرادة بحيث لا يصدق عليه أنّه قاصد ولا عامد يشكل الحكم بالاستحقاق، بل الأقوى عدمه. نعم، يستحقّ العقوبة الاُخروية؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يترتّب على عمله ما لا يعتبر فيه القصد، كالضمانات والغرامات.

المقام التاسع: في جواز المعالجة بالمواد المخدّرة وعدمها

هل يجوز معالجة المرضى بمثل الهيروئين من الموادّ المخدّرة أو لا يجوز؟

يمكن أن يقال: إن توقّف التخلّص من الموت عليها بحيث يضطرّ إليها ولا سبيل إلى غيرها كان جائزاً وإلاّ فلا. ثمّ إنّ التوقّف المذكور والاضطرار يعلمان من طريق مراجعة الطبيب الماهر الموثوق به.

المقام العاشر: في عدم جواز توزيع المواد المخدّرة

لا يجوز توزيع الموادّ المخدّرة بين الناس؛ لأنّه إضرار لهم، وهو محرّم. وكذا لا يجوز إجارة المحالّ لخصوص استعمالها؛ لأنّه إعانة على الحرام، ويحرم أخذ الاُجرة في مقابل ذلك إن كانت تلك المحالّ معدّة لشرب الموادّ المخدّرة واستعمالها؛ وذلك لبطلان الإجارة والمعاملة عند انحصار المنفعة في المحرّمة.

المقام الحادي عشر: في جوب ترك الاشتغال بالمواد المخدّرة

من اشتغل بمبادلة الموادّ المخدّرة التي لا فائدة محلّلة لها وجب عليه ترك الشغل

ص: 209

المذكور، وإن لم يتركه عزّر واُجبر على تركه؛ لأنّه أقدم على إضرار المسلمين، بل عدّه بعض العلماء من المفسدين، واستدل له بإطلاق قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً)(1) ؛ بدعوى أنّ دفع فساد المفسدين في الأرض وقتلهم - إذا توقّف رفع فتنتهم عليه - ممّا عليه ارتكاز العقلاء، والآية الكريمة إمضاء لهذا الارتكاز.

ويشكل ذلك: بأنّه لا إطلاق للآية الكريمة؛ لأنّ مفهومها هو عدم كون قتل النفس حينئذ كقتل الناس جميعاً، ولا تعرّض لها بالنسبة إلى جواز ذلك وعدمه.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المعتبر هو ما عليه العقلاء؛ لأنّ الآية الكريمة إمضاء وإشارة إليها، فما عليه العقلاء بالإطلاق مورد الإمضاء.

إلاّ أنّ بناء العقلاء دليل لبّي، فلا إطلاق له، فتأمّل.

نعم، لا ينحصر الدليل في الآية المذكورة، فاللازم هو الرجوع إلى الأدلّة الاُخرى، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ البائع لا يملك ما قبضه من أموال في مقابل أعيان الموادّ المذكورة، فإن عرف ملاّكها فعليه ردّ أموالهم إليهم، وإن لم يعرفهم وجب عليه التصدّق عنهم للفقراء غير الهاشميّين مع إذن المجتهد الجامع للشرائط.

المقام الثاني عشر: في عدم جواز البيع و شراء المواد المخدّرة

لا يجوز بيع ما له منفعة محرّمة ومنفعة محلّلة كبعض الموادّ بقصد الاستفادة من

ص: 210


1- سورة المائدة / الآية 32.

المحرّمة؛ لصدق الإعانة على الإثم عليه بلا إشكال، بخلاف ما إذا لم يقصدها فإنّه لا إشكال فيه وإن علم بأنّ غرض المشتري هو ذلك. أللهمّ إلاّ أن يكون ترك البيع من مصاديق الدفع عن المنكر فلا يجوز.

المقام الثالث عشر: في حكم شرب التتن

اشارة

يجوز شرب التتن إذا لم يكن فيه ضرر معتدّ به لا بالنسبة إلى الشارب ولا بالنسبة إلى غيره من الحاضرين؛ وذلك لعدم دليل على حرمته، والأصل هو الإباحة.

ودعوى: أنّه موضوع جديد؛ إذ لم يكن التتن في عصر الشارع، فاللازم فيه الاحتياط.

مندفعة: بما قرّر في أصالة البراءة؛ من أنّ غايته هو الشكّ في الحلّية وعدمها، ومقتضى أصالة الإباحة والبراءة هو الحلّية والجواز.

نعم، إذا كان شربه مضرّاً للشارب أو غيره من الحاضرين حرم ذلك؛ قضاءً لإطلاق حديث نفي الضرر والضرار بناءً على شموله للإضرار بالنفس أيضاً، كما قوّيناه في محلّه.

ولا تفاوت في الضرر بين أن يكون موجباً لفساد البدن وتلفه، وبين ما لا يكون كذلك بل يكون ضرريّاً؛ وذلك لإطلاق حديث نفي الضرر. نعم، اللازم أن يكون الضرر معتدّاً به.

وأمّا تعيين الضرر في بعض المصاديق مثل «السيجارة» أو «النارجيلة» ونحوهما فليس هو من شؤون الفقيه، بل هو تابع لتشخيص الشاربين ومن حولهم خصوصاً مع اختلاف أحوالهم في التضرّر وعدمه والعلم به وعدمه. نعم، لا يترك الاحتياط فيما لو اطّلع الشارب على مضرّاته بالنسبة له أو لغيره من الحاضرين بواسطة إخبار أهل الخبرة بها وكانت المضرّات معتدّاً بها فيما إذا لم يطمئنّ بها، وإلاّ فمع الاطمئنان بها فاللازم الاجتناب؛ قضاءً لإطلاق حديث نفي الضرر والضرار.

ص: 211

وأمّا دعوى: أنّ شرب التتن محرّم من جهة صدق تضييع المال وإتلافه، فهي صحيحة إن لم يكن غرض عقلائي في شربه، كتخدير الأعصاب أو حصول النشاط أو نحوهما ممّا يزعمه الشاربون.

لا يقال: إن كان هناك غرض عقلائي يكفي لمنع صدق التضييع والإتلاف، فليكن كذلك بالنسبة إلى صدق الضرر.

لأنّا نقول: لا ملازمة بينهما؛ لأنّه مع عدم صدق التضييع لغرض - كحصول النشاط مثلا - يمكن أن يكون شرب التتن في هذه الصورة موجباً للضرر أو الفساد من ناحية اُخرى كما لا يخفى.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في عدم اختصاص الأحكام بعنوان الهيروئين أو الترياك

التنبيه الأوّل: إنّ كلّ ما ذكرناه من الأحكام بعنوانها الخاصّ كالهيروئين أو الترياك يجري في أمثالهما كالحشيش؛ إذ لا تختصّ الأحكام بخصوص عنوان الهيروئين أو الترياك؛ لأنّ هذين العنوانين لم يردا في النصوص حتّى يُحتاج إلى إلغاء الخصوصية للتعدّي منهما إلى غيرهما، بل دليل حرمة الإدمان عليهما ووجوب تركه هو كونهما مشمولين لنفي الضرر والضرار في الإسلام، وهذا جار في غيرهما.

وعليه، فمثل الحشيش - الذي هو عصارة تُستحصل من ساق بعض النباتات أو خليط من الأوراق والأزهار النباتية الخاصّة(1) - يكون محكوماً بالأحكام المترتّبة على الهيروئين والترياك من الحرمة إذا كان الضرر الحاصل منه ضرراً معتدّاً به.

وكذا الأمر في الكوكائين المتّخذ من أوراق شجر الكوكا، فإنّه محكوم بحكم سائر

ص: 212


1- انظر: كتاب پزشكي قانوني (بالفارسية) المؤلّفه الدكتور محمّد قضائي / ص 310-311.

الموادّ المخدّرة المذكورة إن كان مثلها في الآثار(1).

وممّا ذكر يظهر حال غير المذكورات ممّا يكون شريكاً معها في الآثار؛ لأنّ الدليل واحد كما لا يخفى.

التنبيه الثاني: في حرمة شرب التتن الخمر فى الخمر

التنبيه الثاني: لو خمّر التتن في الخمر أو المسكر بحيث يوجب شربه السكر فلا إشكال في حرمته وإن لم يكن التتن مضرّاً في نفسه؛ لما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من عموم حرمة كلّ مسكر، فإذا كان شربه محرّماً حرم بيعه وحمله أيضاً كالخمر. وأمّا إذا كان التتن مضرّاً ومخمّراً في الخمر أو المسكر فيكون محرّماً من جهتين كما لا يخفى.

التنبيه الثالث: في اجتماع حرمة الإضرار والإسكار

التنبيه الثالث: يظهر من بعض كتب الطبّ أنّ الآثار الحادّة لمثل الهيروئين ربّما تفضي إلى حالة تسمّى بالسكر يمكن معها صدور القتل والجنايات الاُخرى من المدمن كإمكان صدورهما من شارب المسكر(2).

وصرّح أحد المؤلّفين في هذا المضمار أيضاً: بأنّ الحشيش قد يؤدّي إلى ما يشبه الجنون، ويحدث لآكله في الأغلب علائم تكون مشابهة للسكر(3).

ففي هذه الموارد إن كان السكر حقيقيّاً اجتمع فيها حرمة الإضرار وحرمة الإسكار، وإلاّ فالحرمة من ناحية الإضرار. نعم، لو كان مسكراً فقليله حرام ككثيره وإن لم يكن مسكراً كما لا يخفى.

التنبيه الرابع: في وجوب الاجتناب عن شرب التتن فى الأمكنة العامّه

التنبيه الرابع: إذا اطمأنّ بأنّ شرب التتن في الأمكنة العامّة مضرّ بحال الحاضرين يجب عليه الاجتناب عنه وإن لم يكن مضرّاً بحال نفسه، وإذا لم يطمئنّ بذلك: فإن اطمأنّ

ص: 213


1- المصدر السابق / ص 314.
2- المصدر السابق / ص 300.
3- انظر: كتاب پزشكي قانوني (بالفارسية) لمؤلّفه الدكتور فرامرز گودرزي / ص 696.

بعدم إضراره بحالهم فلا دليل على وجوب اجتنابه عنه، وإن احتمل الإضرار فالأحوط الاجتناب سيّما إذا أخبر به ذوو الخبرة، بل يجب الاجتناب في هذه الصورة؛ لقيام الأمارة على إضراره مقامَ العلم به.

وإذا منع الحاكم الإسلامي عن شربه في الأمكنة العامّة وجبت إطاعته وحرم شربه فيها وإن علم بعدم الإضرار، فضلا عمّا إذا لم يعلم به؛ وذلك لعموم أدلّة حرمة ردّ حكم الحاكم، فلا تغفل.

المقام الرابع عشر: في حرمة شرب الخمر والمسكر

اشارة

يحرم شرب الخمر والمسكر وغيرهما من المائعات. قال المحقّق في المختصر النافع: «القسم الخامس في المائعات: والمحرّم خمسة: الأوّل: الخمر وكلّ مسكر والعصير إذا غلى. الثاني: الدم وكذا العلقة ولو في البيضة... الثالث: كلّ مائع لاقته نجاسة... الرابع: أبوال ما لا يؤكل لحمه. الخامس: ألبان الحيوان المحرّم...»(1).

ولا يخفى أنّ حرمة الخمر من ضروريّات دين المسلمين، ويدلّ عليها بعض الآيات، كقوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(2) .

قال في زبدة البيان: «وفي الآية مبالغة زائدة من وجوه شتّى في تحريم الخمر والميسر؛ من جهة: المقارنة بالأصنام التي عبادتها كفر، والحصر بأنّه ليس إلاّ الرجس، ثمّ كونه من عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب بعد ذلك كلّه، والتصدير ب - «إنّما»، والإشعار

ص: 214


1- المختصر النافع / ص 253-254.
2- سورة المائدة / الآية 90.

بأنّ شاربها لا يفلح...»(1).

وأمّا حرمة كلّ مسكر ولو لم يسمَّ بخمر فادّعي عليها الإجماع، ويدلّ عليها: صحيح عليّ بن يقطين وغيره عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: «إنّ الله عزّ وجلّ لم يحرّم الخمر لاسمها، ولكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(2).

وصحيحة الحلبي: «وكلّ مسكر حرام»(3).

ويحرم الفقّاع؛ لكونه من أنواع المسكرات، مضافاً إلى التصريح به في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن الفقّاع ؟ فقال: «خمر، وفيه حدّ شارب الخمر»(4).

ثمّ لا فرق في حرمة الخمر والمسكر مطلقاً بين قليله وكثيره، ويدلّ على ذلك: صحيحة الفضيل بن يسار قال: ابتدأني أبو عبدالله عليه السلام يوماً من غير أن أسأله فقال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كلّ مسكر حرام» - قال: - قلت: أصلحك الله، كلّه حرام ؟ فقال: «نعم، الجرعة منه حرام»(5).

وصحيحة حنّان قال: سمعت رجلاً يقول لأبي عبدالله عليه السلام: ما تقول في النبيذ؟ فإنّ أبا مريم يشربه ويزعم أنّك أمرت بشربه!؟ فقال: «معاذ الله - عزّ وجلّ - أن أكون آمر بشرب مسكر! والله إنّه شيء ما اتّقيت فيه سلطاناً ولا غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كلّ مسكر حرام،

ص: 215


1- زبدة البيان / ص 70.
2- الكافي / ج 6، ص 412.
3- وسائل الشيعة / ج 28، ص 225، الباب 4 من أبواب حد المسكر، ح 5.
4- المصدر السابق / ص 238، الباب 13 من أبواب حد المسكر، ح 1.
5- الكافي / ج 6، ص 409.

فما أسكر كثيره فقليله حرام»(1).

وكذا لا فرق في حرمة الخمر بين شربه وبين إدخاله في الجوف بوجه من الوجوه وإن لم يصدق عليه عنوان الشرب، فلو جعل الخمر في قارورة وأدخله في الجوف بواسطة الإبرة ارتكب حراماً؛ إذ موضوع الحرمة عند العرف في مثل الخمر هو إدخاله في الجوف ولو بما لم يصدق عليه الشرب؛ ولذا نقول بحرمة الحقنة فيه أيضاً.

ثمّ إنّه إذا مزج الخمر أو المسكر بمائع آخر ولم يستهلك فيه ترتّب عليه حكم شرب الخمر أو المسكر.

وأمّا إذا استهلك في المائع الآخر، فإن كان المستهلك هو الخمر أو ما يلحق به - على الأحوط في النجاسة - كالنبيذ المسكر والفقّاع صار المائع الآخر بملاقاة الخمر وما يلحق به نجساً، فلا يجوز شربه، ولكن لا يصدق على شربه أنّه شرب للخمر أو المسكر؛ ولذا يشكل الأمر في دعوى أنّ المعروف بل المتسالم عليه بين الأصحاب أنّ شرب المستهلَك فيه الخمر أو المسكر شربٌ للخمر أو المسكر وتترتّب عليه أحكامه(2).

نعم، يمكن القول بحرمة شربه لعدّة من الروايات:

منها: صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج قال: استأذنت لبعض أصحابنا على أبي عبدالله عليه السلام - إلى أن قال: - فقال أبو عبدالله عليه السلام: «إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام»، فقال له الرجل: فأكسره بالماء؟ فقال له أبو عبدالله عليه السلام: «لا، وما للماء يحلّ الحرام ؟! اتّقِ الله ولا تشربه»(3).

ص: 216


1- المصدر السابق / ج 6، ص 410.
2- تكملة المنهاج / ج 1، ص 270.
3- وسائل الشيعة / ج 25، ص 339، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 7.

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إنّ رجلاً من بني عمّي - وهو من صلحاء مواليك - يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك ؟ فقال: «أنا أصف لك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كلّ مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام». فقلت: فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فردّ بكفيه مرتين: «لا، لا»(1).

ومنها: معتبرة عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى تذهب عاديته ويذهب سكره ؟ فقال: «لا والله، ولا قطرة قطرت في حِبّ إلاّ اُهريق ذلك الحبّ »(2).

ولا يخفى أنّ موضوع الروايات أعمّ من مزج الخمر، فهو شامل أيضاً لمزج كلّ مسكر بالنحو المذكور. وترك الاستفصال يشمل صورة الاستهلاك؛ ولذا ذهب السيّد المحقّق الخوئي إلى حرمة شرب المستهلك فيه الخمر(3).

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الظاهر من السؤال أنّه لم يُرد صورة الاستهلاك؛ لأنّه أراد شرب المسكر بنحو لا يكون محرّماً، وأمّا مع الاستهلاك فلا يبقى شرب كما لا يخفى.

نعم، يمكن الاستدلال بقوله في الرواية الأخيرة: «لا والله، ولا قطرة قطرت في حبّ إلاّ اُهريق ذلك الحبّ »؛ فإنّه صريح في عدم جواز شرب المستهلك في أمثال الأواني المتعارفة ولو بمثل الحِبّ .

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ قوله: «اُهريق» متكلّم وحدة، وعليه فلا يدلّ على لزوم الإراقة؛ لأنّ فعل الإمام أعمّ من اللزوم. نعم، لا يترك الاحتياط بالاجتناب عنه ولو مع الاستهلاك

ص: 217


1- المصدر السابق / ص 336، ح 1.
2- المصدر السابق / ص 341، الباب 18 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 1.
3- تكملة المنهاج / ج 1، ص 270.

من جهة احتمال كون قوله: «اُهريق» ماضياً مجهولاً، بناءً على ما في أقرب الموارد من أنّه قد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهراقه يهريقه، ولكن يمكن ترجيح كونه فعلا ماضياً من ناحية ظهور كلام الإمام في العموم لا في خصوص حِبّ الإمام عليه السلام، فلا تغفل.

لا يقال: إنّ عمر بن حنظلة لم يوثّق في الرجال.

فإنّه يقال: إنّ عمر بن حنظلة ثقة؛ لنقل الأجلاّء عنه، ومنهم صفوان الذي هو من الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلاّ عن الثقة. نعم، لا يمكن الاستدلال بهذه الأخبار لحرمة مطلق الاستعمال؛ لأنّ المنسبق منها هو الشرب، فلا تغفل.

تنبيهان:

التنبيه الأوّل: في أنّه لا يجوز الجلوس على مائدة فيها خمر أو مسكر

اعلم أنّه لا يجوز الجلوس على مائدة فيها خمر أو مسكر. قال المحقّق في الشرائع: «ويحرم الأكل على مائدة يشرب عليها شيء من المسكرات أو الفقّاع»(1).

أمّا بالنسبة للخمر فيدلّ عليه: صحيحة هارون بن الجهم قال: كنّا مع أبي عبدالله عليه السلام بالحيرة حين قدم على أبي جعفر (المنصور)، فختن بعض القوّاد ابناً له وصنع طعاماً ودعا الناس، وكان أبو عبدالله عليه السلام فيمن دعي، فبينا هو على المائدة يأكل ومعه عدّة على المائدة فاستسقى رجل منهم، فاُتي بقدح فيه شراب لهم، فلمّا أن صار القدح في يد الرجل قام أبو عبدالله عليه السلام عن المائدة، فسئل عن قيامه، فقال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر!»(2).

ص: 218


1- شرائع الإسلام / ج 2، ص 149.
2- الكافي / ج 6، ص 268.

وأمّا بالنسبة للخمر وغيره من المسكرات فيدلّ عليه: موثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سئل عن المائدة إذا شرب عليها الخمر أو مسكر؟ فقال: «حرمت المائدة». وسئل: فإن أقام رجل على مائدة منصوبة يأكل ممّا عليها ومع الرجل مسكر لم يُسقِ أحداً ممّن عليها بعد؟ فقال: «لا تحرم حتّى يشرب عليها، وإن وضع بعدما يشرب فالوذج فكل؛ فإنّها مائدة اُخرى»؛ يعني كل الفالوذج(1).

وهذه الرواية تشمل غير الخمر من المسكرات، كما صرّح به المحقّق في الشرائع، وأشار إليه في الجواهر - في ذيل إلحاق المصنّف المسكرات أو الفقّاع بالخمر - بقوله: «بل في كشف اللثام نسبته إلى الأصحاب، ولعلّه للموثّق المزبور، أو بناءً على أنّ الخمر اسم لكلّ مسكر، أو على الإلحاق به؛ للقطع بعدم الخصوصية حتّى في الفقّاع الذي هو خمر مجهول واستصغره الناس»(2).

ثمّ إنّ المستفاد من الروايتين هو حرمة الأكل على مائدة فيها مسكر، بل يستفاد من الرواية الاُولى حرمة الجلوس عليها ولو لم يأكل؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وآله: «ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر!»؛ ولعلّه لذا قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «يحرم الأكل بل الجلوس على مائدة فيها المسكر»(3).

ثمّ إنّه لا خصوصية للمائدة، بل لو كان المجلس مجلس شرب لم يجز الجلوس فيه ولو لم يكن فيه غير الشراب أو المسكر شيء آخر من الأطعمة والمأكولات، ومع إلغاء خصوصية المائدة فالمعيار هو صدق مجلس الشرب. وعليه فيشكل جواز الجلوس في

ص: 219


1- المصدر السابق / ص 429.
2- جواهر الكلام / ج 36، ص 466-467.
3- منهاج الصالحين / كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 25.

بيت فيه موائد متعدّدة يشرب على بعضها الشراب لو صدق على كلّ موضع منه أنّه مجلس شرب؛ فإنّ الجلوس فيه جلوس في مجلس الشرب عرفاً. نعم، لو كانت المجالس متعدّدة يشرب في بعضها الخمر أو المسكر اختصّت الحرمة بمجلس الشرب. والمعيار: هو صدق وحدة مجلس الشرب، وهو يختلف باختلاف الموارد والمحافل، وقد تصدق الوحدة مع تعدّد الكراسي وملحقاته كمجالس العقد ونحوه، وربّما لا تصدق في السيّارات والطائرات ونحوهما.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على حرمة الجلوس على المائدة أو الجلوس في مجلس الشرب وإن لم يشرب: بوجوب الإنكار على شارب الخمر أو المسكر؛ إذ أقلّه القيام عن المائدة أو المجلس، والامتناع عن حضورها إعراضاً عن فاعل الشرب وإهانةً له، فيجب لذلك، ويحرم تركه بالمقام عليها.

وفيه: أنّ النهي عن المنكر إنّما يجب بشرائط، من جملتها: جواز التأثير، ومقتضى الروايات تحريم الجلوس والأكل حينئذ وإن لم ينهَ عن المنكر ولم يجوز تأثيره.

هذا مضافاً إلى أنّ النهي عن المنكر لا يتقيّد بالمقام، بل بحسب مراتبه المعلومة على التدريج، وإذا لم يكن المقام من مراتبه لا يحرم فعله.

ويستدلّ على حرمة الجلوس: بما رواه في الفقيه مرسلاً قال: قال الصادق عليه السلام: «لا تجالسوا شرّاب الخمر؛ فإنّ اللعنة إذا نزلت عمّت من في المجلس»(1).

وفيه: ضعف الإرسال وإن أرسله الصدوق جازماً؛ لأنّ المعتبر هو حصول الجزم، وهو غير متحقّق بجزم الصدوق، فتدبّر جيّداً.

هذا مضافاً إلى أنّ المستفاد منه النهي عن مجالسة الشرّاب وإن لم يكونوا حال

ص: 220


1- وسائل الشيعة / ج 25، ص 374، الباب 33 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 2.

المجالسة شاربين، وهو غير الجلوس في مجلس الشرب.

ثمّ إنّ المستفاد من الأخبار هو حرمة الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر أو المسكر، وبدعوى إلغاء الخصوصية قلنا بحرمة الجلوس في مجلس الشراب. وربّما يتعدّى عن ذلك إلى مائدة يعصى عليها، كأكل الخنزير، بل حضور مجلس يعصى الله تعالى فيه.

وفيه: أنّه لا دليل عليه؛ لاختصاص الروايات بمجلس شرب الخمر أو المسكر.

واحتمال: حرمة حضور مطلق المجالس المنعقدة على المعاصي والمعدّة لها من تلك النصوص؛ بدعوى: أنّ ذكر الخمر إنّما هو باعتبار غلبة استعمالها في ذلك الوقت مع الغناء والرقص والضرب بالعود ونحوها ممّا هو شائع في تلك الأزمنة، ولا دخالة لنوع منها في الحرمة.

يدفعه: ما في الجواهر من «عدم ظهور النصوص المزبورة بل والفتاوى فيه، بل يمكن دعوى ظهورهما - خصوصاً النصوص - في غيره، ولا يبعد كون الحكم المزبور تعبّديّاً لا يتعدّى منه إلى غيره. نعم، لو حصل مقتض للحرمة من وجه آخر فلا بأس بالقول بها، ولكن هي غير حرمة نفس المائدة بمجرّد شرب شخص ممّن هو عليها خمراً أو مسكراً التي هي المرادة من النصّ والفتوى»(1).

وممّا ذكر ينقدح ما في المحكي عن كشف اللثام من قوله: «وبالجملة، يحرم الجلوس على مائدة يعصى الله عليها، بل حضور مجلس يعصى الله تعالى فيه، إلاّ أن يضطرّ إليه أو يقدر على إزالة المنكر؛ لوجوب إنكاره، ولأنّ مجلس العصيان في معرض نزول العذاب بأهله.

ص: 221


1- جواهر الكلام / ج 36، ص 468.

لما عرفت من أنّ الحكم تعبّدي لا يتعدّى منه إلى غيره. نعم، لو توقّف النهي عن المنكر على الخروج عن مجلس المعصية أو عدّ الجلوس تأييداً لهم وجب الخروج، ولكنّ هذا غير حرمة نفس الجلوس المستفاد من الأخبار الواردة في الخمر أو المسكر، فلا تغفل.

نعم، يدلّ على قوله: «ولأنّ مجلس العصيان في معرض نزول العذاب بأهله»: مرسل الفقيه: «لا تجالسوا شرّاب الخمر؛ فإنّ اللعنة إذا نزلت عمّت من في المجلس»(1)، ومقتضى عموم التعليل عدم اختصاصه بمجلس شرب الخمر، وهو - بضميمة قوله تعالى: (وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ...) الآية - يدلّ على حرمة الجلوس في مجلس المعصية بناءً على أنّ الإلقاء في التهلكة محرّم بالنهي الإمضائي المولوي، وهو موجب للعقاب، مضافاً إلى ما فيه من اللعنة المذكورة.

ولكن لقائل أن يقول: لم يثبت التعليل المذكور للإرسال، هذا مضافاً إلى أنّ المرسلة تنهى عن مجالسة الشرّاب لا عن مجلس الشرب، فتدبّر.

التنبيه الثاني: في جواز التداوى بالخمر أو المسكر وعدمه
اشارة

هل يجوز التداوي بالخمر أو المسكر أو لا؟

قال المحقّق في الشرائع: «ولا يجوز التداوي بها ولا بشيء من الأنبذة ولا بشيء من الأدوية معها شيء من المسكر أكلا ولا شرباً، ويجوز عند الضرورة أن يتداوى بها للعين»(2).

وظاهره أنّ عدم جواز التداوي بالخمر وما يلحق بها لا يختصّ بصورة عدم الانحصار

ص: 222


1- وسائل الشيعة / ج 25، ص 374، الباب 33 من أبواب الأشربة المحرمة، ح 2.
2- شرائع الإسلام / ج 2، ص 149.

وعدم الضرورة والاضطرار؛ لتخصيص الجواز بمورد التداوي بخصوص العين. ولكن في الجواهر خصّ عدم الجواز بصورة عدم الضرورة والاضطرار، حيث ذكر في ذيل قول الماتن: «ولا يجوز التداوي بها...» قائلاً: «مع عدم الانحصار، بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلا عن محكيّه في كشف اللثام؛ لإطلاق أدلّة التحريم السالمة عن معارضة الرخصة فيه للمضطرّ المعلوم عدم تحقّقه في الفرض.

بل لعلّه كذلك مع عدم العلم بالانحصار؛ لعدم تحقّق عنوان الرخصة أيضاً، بل المشهور - على ما في المسالك وكشف اللثام - عدم الجواز حتّى مع الانحصار، بل عن الشيخ في الخلاف وظاهر المبسوط الإجماع عليه(1).

لصحيح الحلبي عن الصادق عليه السلام: سألته عن دواء عجن بالخمر؟ فقال: «لا والله، ما اُحبّ أن أنظر إليه، فكيف أتداوى به ؟! فإنّه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير، وإنّ اُناساً ليتدا ون به»(2).

وحسن ابن اُذينة: كتبت إلى الصادق عليه السلام أسأله عن رجل ينعت (يبعث - خ ل) له

ص: 223


1- قال في الخلاف: «إذا اضطرّ إلى شرب الخمر للعطش أو الجوع أو التداوي فالظاهر أنّه لايستبيحها أصلاً. وقد روي أنّه يجوز عند الاضطرار إلى الشرب أن يشرب، فأمّا الأكل والتداوي فلا. وبهذاالتفصيل قال أصحاب الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة: تحلّ للمضطرّ إلى الطعام وإلى الشراب، وتحلّ للتداوي بها. دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، وأيضاً تحريم الخمر معلوم ضرورةً ، وإباحته (وإباحتها) في وضع يحتاج إلى دليل، وما قلناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل». (الخلاف/ ج 2، ص 545).
2- وسائل الشيعة / ج 25، ص 345، الباب 20 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 4. على أنّ عبارة: «وإنّ اُناساً ليتداوون به» وردت في الوسائل هكذا: «ترون اُناساً يتداوون به»، وفي هامشه أنّه: «في المصدر (أي الكافي): وإنّ اُناساً ليتداوون».

الدواء من ريح البواسير، فيشربه بقدر سكُرّجة من نبيذ صلب؛ ليس يريد به اللذّة إنّما يريد به الدواء؟ فقال: «لا، ولا جرعة - ثمّ قال: - إنّ الله عزّ وجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواء ولا شفاء»(1).

- إلى أن قال صاحب الجواهر -: إلى غير ذلك من النصوص التي يمكن حملها على عدم الانحصار، كما أنّه يمكن إرادة عدم حصر الدواء في المحرّم من التعليل، أو ينزّل على الغلبة، على أنّه لم نجد القائل به في غير الخمر.

ولعلّه لذا - مؤيّداً بما سمعته من حلّ تناوله عند الاضطرار الذي لا ريب في كون المقام منه بشهادة الوجدان وأهل الخبرة، بل وقوله تعالى: (وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا) الظاهر في حصول نفع به، وخبر عبد الرحمان بن الحجّاج المروي عن طبّ الأئمّة: أنّ رجلا سأل أبا الحسن عليه السلام عن الترياق، قال: «ليس به بأس». قلت: يا ابن رسول الله، إنّه يجعل فيه لحوم الأفاعي ؟ فقال: «لا تقذره علينا»(2) - أطلق القاضي الجواز، وتبعه جماعة من متأخّري المتأخّرين، وهو الأقوى»(3)؛ أي أطلق القاضي الجواز في صورة الانحصار، ولم يخصّصه بمورد خاصّ كالاكتحال.

ثمّ قال في الجواهر: «ومن الغريب جزم المصنّف بالعدم مع قوله: «ويجوز عند الضرورة أن يتداوى بها للعين»! بل حكاه في المسالك عن الأكثر، وفي كشف اللثام عن

ص: 224


1- جامع الأحاديث / ج 24، ص 202، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 1. وفيه «شفاء ولا دواء» بدل «دواء ولا شفاء».
2- وسائل الشيعة / ج 25، ص 227، الباب 136 من الأطعمة المباحة، ح 8. وفيه «قلت: يا ابن رسول الله، فيه لحوم الأفاعي»، وفي هامشه: «في المصدر زيادة: إنه يجعل».
3- انظر: جواهر الكلام / ج 36، ص 444-446.

الشيخ وجماعة، مستدلّين عليه: بعموم وجوب دفع الضرر، وخصوص خبر (موثّقة) هارون بن حمزة الغنوي عن الصادق عليه السلام في رجل اشتكى عينيه، فبُعِث له كحل يعجن بالخمر؟ فقال: «هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرّاً فليكتحل به»(1)؛ ضرورة منافاته للتعليل الذي هو منشأ المنع في السابق.

ولعلّه لذا كان المحكي عن ابن إدريس المنع هنا أيضاً، محتجّاً بالتعليل السابق المؤيّد بمرسل مروك عن أبي عبدالله عليه السلام: «من اكتحل بميل من مسكر كحّله الله بميل من نار»(2)، بعد القول بحرمة مطلق الانتفاع به؛ لخصوص ما ورد فيه، مضافاً إلى ما سمعته في مطلق الأعيان النجسة.

ولكن لا يخفى عليك ما في ذلك كلّه بعد الإحاطة بما ذكرناه؛ من أنّ الأصحّ الجواز مع الاضطرار وإن قلنا بحرمة الانتفاع به مطلقاً مع عدمه، ويمكن حمل المرسل المزبور عليه، والله العالم»(3).

ولا يخفى عليك أنّ خبر عبد الرحمان بن الحجّاج ضعيف.

وكيف كان، فيؤيَّد ما ذهب إليه صاحب الجواهر من الجواز عند الاضطرار: بموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله عليه السلام في الإناء يشرب منه النبيذ؟ فقال: «يغسله سبع مرّات، وكذلك الكلب»، وعن الرجل أصابه العطش حتّى خاف على نفسه فأصاب

ص: 225


1- وسائل الشيعة / ج 25، ص 350، الباب 21 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 5. وفيه: «فنعت له بكحل».
2- المصدر السابق / ص 349، ح 2.
3- جواهر الكلام / ج 36، ص 446-447.

خمراً؟ قال: «يشرب منه قوته»(1).

ولا يخفى أنّ في قبال موثّقتي هارون الغنوي وعمّار بن موسى روايات تمنع عن التداوي بشرب الخمر في صورة الاضطرار. هذا مضافاً إلى اختصاص موثّقة عمّار بصورة التهلكة وموثّقة الغنوي بصورة الاكتحال، فلا تدلاّن على الجواز في مطلق موارد الاضطرار.

وإليك فيما يلي الروايات المعارضة:

فمنها: ما رواه في عيون أخبار الرضا عليه السلام قال: حدّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري العطّار (رضي الله عنه) بنيسابور في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال: حدّثنا عليّ بن محمّد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان - في حديث محض الإسلام - عن الرضا عليه السلام قال: «وتحريم كلّ شرب مسكر قليله وكثيره، وما أسكر كثيره فقليله حرام. والمضطرّ لا يشرب الخمر؛ لأنّها تقتله»(2).

وعبد الواحد من مشايخ الصدوق، وقد أكثر الرواية عنه مترضّياً، وحكى عنه أنّه قال في موضع من العيون: «حديث عبد الواحد (رضي الله عنه) عندي أصحّ »(3)، وعليّ بن محمّد بن قتيبة قال النجاشي في حقّه: «عليه اعتمد أبو عمرو الكشّي في كتاب الرجال»(4)، والاعتماد لا يكون إلاّ بعد ثبوت وثاقته لديه، وعليه فالأقوى هو اعتبار سند الرواية.

ثمّ إنّ معنى الرواية أنّ الخمر تكون ذات مفسدة التهلكة، ومعه لا وجه لانتظار البرء

ص: 226


1- جامع الأحاديث / ج 24، ص 195، الباب 31 من أبواب الأشربة، ح 8.
2- المصدر السابق / ص 206، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 16.
3- العيون / ج 2، الباب 35، ح 1.
4- رجال النجاشى / ص 259.

والشفاء منها.

ومنها: ما رواه في تفسير العيّاشي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «المضطرّ لا يشرب الخمر؛ لأنّها لا تزيده إلاّ شرّاً، فإن شربها قتلته، فلا يشربنّ منها قطرة»(1). وهذه الرواية ضعيفة بالإرسال.

ومنها: ما رواه في طبّ الأئمّة عليهم السلام: عن عبدالله بن جعفر قال: حدّثنا صفوان بن يحيى البيّاع، عن عبدالله بن مسكان، عن الحلبي قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن دواء يعجن بالخمر؛ لا يجوز أن يعجن بغيره إنّما هو اضطرار؟ فقال: «لا والله، لا يحلّ لمسلم أن ينظر إليه فكيف يتداوى به ؟! وإنّما هو بمنزلة شحم الخنزير الذي يقع في كذا وكذا لا يكمل إلاّ به، فلا شفى الله أحداً شفاء خمر وشحم خنزير!»(2).

ولا يخفى أنّه لم يثبت اعتبار كتاب طبّ الأئمّة عليهم السلام.

ومنها: ما رواه في علل الشرائع: أخبرني عليّ بن حاتم - فيما كتب إلىّ - قال: حدّثنا محمّد بن عمر قال: حدّثنا عليّ بن محمّد بن زياد قال: حدّثنا أحمد بن الفضل المعروف بأبي عمر طيبة (طيبه - خ ل)، عن يونس بن عبد الرحمان عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «المضطرّ لا يشرب الخمر؛ لأنّها لا تزيده إلاّ شرّاً، ولأنّه إن شربها قتلته، فلا يشرب منها قطرة». وروي: «لا تزيده إلاّ عطشاً». (قال محمّد بن عليّ بن الحسين مصنّف هذا الكتاب:) جاء هذا الحديث هكذا كما أوردته، وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح مطلق مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، وإنّما أوردته لما فيه من

ص: 227


1- جامع الأحاديث / ج 24، ص 207، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 18.
2- المصدر السابق / ص 204، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 7.

العلّة، ولا قوّة إلاّ بالله(1).

هذا مضافاً إلى ضعف الرواية؛ لجهالة أحمد بن الفضل.

ويؤيّد هذه الروايات: التعليل المذكور في حسنة ابن اُذينة وغيرها، وهو: «إنّ الله لم يجعل في رجس حرّمه شفاءً »(2).

ويمكن الجمع بين هذه الروايات الناهية المستفيضة - بل المعتبر بعضها - وبين غيرها ممّا تجوّز التداوي: بحمل ما دلّ على الجواز على صور خاصّة، كإكحال العين أو خوف هلاك النفس، كما هو مقتضى صناعة الفقه؛ فإنّ النسبة بين موثّقة الغنوي وموثّقة عمّار وبين معتبرة الفضل بن شاذان هي الإطلاق والتقييد.

هذا مضافاً إلى أنّ الاكتحال ليس بشرب، وتجويز الشرب عند الخوف على النفس ليس من باب التداوي بالشرب، بل من باب النجاة به من الموت، ومع إلغاء الخصوصية عنه إلى التداوي به يختصّ بصورة الهلكة، ولا يجوز التعدّي منها إلى مطلق الاضطرار.

وخبر عبد الرحمان بن الحجّاج - مضافاً إلى ضعفه - مطلق ولايختصّ بصورة الضرورة والاضطرار، ومقتضى القاعدة مع الغمض عمّا في سنده هو حمله على صورة الهلكة.

وأمّا الاستدلال بالآية الكريمة: (وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا)(3) بدعوى أنّ الظاهر منها هو حصول نفع بها.

ففيه: أنّه يكفيه التداوي بغير الشرب كالاكتحال مثلاً، فلا إطلاق لها.

ص: 228


1- المصدر السابق / ص 206، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 17.
2- المصدر السابق / ص 206 و 205 و 202.
3- سورة البقرة / الآية 219.

فتحصّل ممّا ذكرناه: قوّة القول بجواز التداوي بشرب الخمر عند الاضطرار بحيث يؤدّي تركه إلى الهلكة أو ما يدانيها، خلافاً للمشهور حيث خصّوا الجواز بخصوص الاكتحال.

وممّا ذكرنا يظهر وجه ما ذهب إليه السيّد في الوسيلة وسيّدنا الإمام في تحرير الوسيلة؛ من أنّ المشهور عدم جواز التداوي بالخمر بل بكلّ مسكر حتّى مع الانحصار، لكنّ الجواز لا يخلو من قوّة بشرط: العلم بكون المرض قابلاً للعلاج، والعلم بأنّ ترك معالجته يؤدّي إلى الهلاك أو إلى ما يدانيه، والعلم بانحصار العلاج به بالمعنى الذي ذكرناه. نعم، لا يخفى شدّة أمر الخمر، فلا يبادر إلى تناولها والمعالجة بها إلاّ إذا رأى من نفسه الهلاك لو ترك التداوي بها ولو بسبب توافق جماعة من الحذّاق واُولي الديانة والدراية من الأطبّاء، وإلاّ فليصطبر على المشقّة؛ فلعلّ الباري - تعالى شأنه - يعافيه لمّا رأى منه التحفّظ على دينه(1).

فروع:
الأوّل: في جواز ارتياد الأماكن التى يقدم فيها الخمر و عدمه

الأوّل: هل يجوز للمسلم ارتياد الأماكن التي يقدّم فيها الخمر مع الطعام أو لا يجوز؟

ذهب بعض الأعلام إلى الجواز بشرط أن لا يؤدّي ذلك إلى ترويج عمل هذه المطاعم، وبشرط أن لا يأكل من مائدة يشرب عليها الخمر ولا يجلس عليها على الأحوط وجوباً. ولا مانع من الجلوس على مائدة اُخرى مجاورة لمائدة من يشرب الخمر(2).

وقد عرفت أنّ الجلوس على المائدة حرام ولو لم يأكل منها، بل لا خصوصية للمائدة،

ص: 229


1- الوسيلة / كتاب الأطعمة والأشربة، ص 89. وتحرير الوسيلة.
2- الفقه للمغتربين / ص 145.

وإنّما الحرام هو الجلوس في مجلس الشرب، وعليه فالجلوس على مائدة مجاورة لمائدة يشرب عليها الخمر أيضاً غير جائز لو صدق وحدة المجلس؛ إذ العبرة بصدق وحدة المجلس بعد إلغاء خصوصية المائدة.

الثاني: في وجوب ترك المقهى لو شرب الخمر فيه بعض آخر

الثاني: لو جلس مسلم في مقهى ليشرب الشاي، وجاء شخص آخر ليشرب الخمر على نفس المائدة، فهل يجب عليه قطع شرب الشاي والخروج أو لا؟

الظاهر هو وجوب القطع وترك تلك المائدة، بل يجب عليه الخروج من المقهى لو صدق وحدة مجلس الشرب. نعم، لا يجب الخروج من المقهى ونحوه إذا تعدّدت المجالس ولم يكن مجلسه مجلس شرب.

الثالث: في جواز شرب الأدوية المخلوطة بالكحول وعدمه

الثالث: هل يجوز شرب الأدوية مع كون كثير منها مخلوطاً بالكحول ؟

ذهب بعض الأعلام إلى جوازه معلّلاً بكونها طاهرة ومستهلكة فيها(1). ولكنّه محلّ تأمّل ونظر؛ لأنّ الكحول المتّخذة من الخمر محكومة بما حكم على الخمر من النجاسة، فيوجب نجاسة الأدوية بالملاقاة قبل استهلاكها فيها.

الرابع: في جواز شرب بعض الادوية التى استهلك المسكر فيه وعدمه

الرابع: لو استهلك المسكر غير النجس في الأدوية، فهل يجوز شربه أو لا؟

يمكن القول بالثاني؛ لمعتبرة عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى تذهب عاديته ويذهب سكره ؟ فقال: «لا والله، ولا قطرة قطرت في حبّ إلاّ اُهريق ذلك الحبّ »(2)، بناءً على أنّ «اُهريق» فعل ماض مجهول لا متكلم وحدة كما هو الظاهر. وتفصيل ذلك: أنّ «هراق» من باب «دحرج يدحرج»، وأصله «أراق يريق» اُبدلت الهمزة هاء، وقد يجمع بين الهاء والهمزة فيقال: أهراقه

ص: 230


1- المصدر السابق / ص 152.
2- وسائل الشيعة / ج 25، ص 341، الباب 18 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 1.

يهريقه، ولكنّ دلالته على لزوم الاجتناب عمّا استهلك فيه المسكر محلّ تأمّل؛ لأنّ «اُهريق» مردّد: بين أن يكون متكلّم وحدة فلا يدلّ على لزوم الاجتناب لأنّ فعل الإمام وهو الإهراق لا يدلّ على الوجوب، وبين أن يكون فعلاً ماضياً مجهولاً بناءً على جواز الجمع بين الهاء والهمزة كما نصّ عليه في أقرب الموارد، فيدلّ حينئذ على لزوم الاجتناب وإن لم يكن محكوماً بالنجاسة. ويمكن ترجيح كونه فعلاً ماضياً مجهولاً بظهور الكلام - أعني قوله: «ولا قطرة قطرت في حبّ » - في العموم لا في خصوص حبّ الإمام، فلا تغفل.

الخامس: في التداوى بالمسكر أو الخمر بغير الشرب

الخامس: لو اضطرّ إلى التداوي بما استهلك فيه الخمر أو المسكر بغير الشرب جاز التداوي به؛ لرفع الحرمة بالاستهلاك؛ إذ مع الاستهلاك لا يصدق التداوي بالخمر أو المسكر، والأدلّة المانعة مخصوصة بشرب الخمر والمسكر، وهما لا يصدقان بعد الاستهلاك.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مقتضى بعض التعليلات - كقوله: «فلا شفى الله أحداً شفاءَ خمر وشحم خنزير!»، وكقوله عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً »(1) - هو عدم جواز التداوي بالخمر أو المسكر مطلقاً، ولكنّه أجنبيّ عن مورد الاستهلاك؛ لعدم صدق التداوي بهما بعد الاستهلاك.

هذا مع إمكان أن يدّعى: أنّ المنساق من التعليلات هو صورة التداوي بالشرب، فتأمّل.

السادس: هل يجوز ركوب الطائرات ونحوها مع العلم بشرب الخمر فيها

السادس: هل يجوز ركوب الطائرات ونحوها في صورة العلم بشرب بعض المسافرين الخمر أو المسكر، أو لا يجوز؟

ص: 231


1- انظر: جامع الأحاديث / ج 24، ص 202-206.

يمكن القول بالجواز؛ لتعدّد المجالس فيها بتعدّد الكراسي، ولا يصدق على محلّ جلوسه أنّه مجلس شرب. نعم، لو كان في الطائرة مكان معدّ للأكل والشرب وكان على المائدة مسكر لا يجوز الجلوس في ذلك المحلّ ، ولا الأكل ولا الشرب من تلك المائدة، فلا تغفل.

السابع: في جواز شرب ماء الشعير الذى يجوزه الأطبّاء

السابع: لا إشكال في جواز شرب ماء الشعير الذي يجوّزه الأطبّاء لعلاج بعض الأمراض لأنّه غير الفقّاع؛ حيث إنّ الفقّاع يوجب النشوة - وهي السكر الخفيف - وماء الشعير لا يوجبها.

الثامن: في عدم مالية الخمر أو المسكر

الثامن: لا مالية للخمر ولا للمسكر فيما إذا كانا بيد من يريد شربهما، فيجوز بل يجب إراقتهما.

وأمّا الإناء الذي يحتويهما فهو باق على ملكية مالكه، وإتلافه يوجب الضمان فيما إذا لم تتوقّف المدافعة عليه، وإلاّ فقد صرّح سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بأنّه: «لو انجرّت المدافعة إلى وقوع ضرر على الفاعل، ككسر كأسه أو سكّينه بحيث كان من قبيل لازم المدافعة، فلا يبعد عدم الضمان.

ولو وقع الضرر على الآمر والناهي من قبل المرتكب كان ضامناً وعاصياً.

ولو كسر القارورة التي فيها الخمر مثلاً أو الصندوق الذي فيه آلات القمار ممّا لم يكن ذلك من قبيل لازم الدفع، ضمن وفعل حراماً»(1).

ويشكل ذلك: بأنّ الملازمة العرفية غير ثابتة، ألا ترى أنّ أكل مال الغير في المخمصة جائز بل واجب ومع ذلك لا يوجب رفع الضمان مع أنّه لازم وجوب حفظ النفس ؟!

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الضمان هناك من جهة أنّ التصرّف في مال الغير لمصلحة نفسه،

ص: 232


1- تحرير الوسيلة / ج 1، ص 461.

بخلاف المقام فإنّ التصرّف فيه للمصلحة الاجتماعية؛ و (مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) .

هذا مضافاً إلى أنّ الحكم بالضمان مستلزم لتعطيل المدافعة، فتأمّل.

هذا كلّه فيما إذا كان من بيده الخمر أو المسكر مريداً للشرب، وأمّا إذا لم يرد ذلك بل أراد أن يجعلهما خلاًّ فهو أولى بهما، ولا يجوز أخذهما منه وإتلافهما كما لا يخفى.

التاسع: في عدم جواز المعاملة على الخمر أو المسكر

التاسع: لا تجوز المعاملة على الخمر أو المسكر بعد أن عرفت فقدان ماليّتهما، وأخذ شيء في قبالهما أكل للمال بالباطل، وهو حرام؛ لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ) .

هذا مضافاً إلى موثّقة عمّار بن مروان عن أبي جعفر عليه السلام: «والسحت أنواع كثيرة، منها: اُجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر...» الحديث(1).

العاشر: في حكم دوران الأمر بين شرب الخمر و بين البول

العاشر: ذكر في الجواهر - في ذيل قول المحقّق: «ولو اضطرّ إلى خمر وبول تناول البول» - قائلاً: «وإن كان نجساً؛ لأنّه أخفّ حرمةً منها، وعدم الحدّ عليه؛ لأنّه لا يسلب العقل والإيمان، ولا يؤدّي إلى شرّ كالخمر. نعم، لو وجد ماءً متنجّساً قدّمه على البول؛ لأنّ نجاسته عارضية»(2).

ومع الاضطرار إلى شرب البول هل يقدّم بول نفسه على بول غيره أو لا؟

يدلّ على الأوّل خبر سماعة بن مهران قال: قال لي أبو عبدالله الصادق عليه السلام عن رجل كان به داء فاُمر له بشرب البول ؟ فقال: «لا يشربه» قلت: إنّه مضطرّ إلى شربه ؟ قال: «فإن

ص: 233


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 92، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
2- جواهر الكلام / ج 36، ص 443.

كان يضطرّ إلى شربه ولم يجد دواء لدائه فليشرب بوله، أمّا بول غيره فلا»(1).

ولكنّ الخبر ضعيف. نعم، الأحوط الاكتفاء بشرب بول نفسه، وإن كان التخيير ذا وجه.

الحادي عشر: في عدم وجوب الاجتناب عما يشك فى اشتماله على المسكر

الحادي عشر: لو شكّ في اشتمال الأغذية أو الحلويات على المسكر أو الخمر وعدمه، لا يجب الفحص لو كانت في يد المسلم، وأمّا إذا كانت في غير يد المسلم وأمكن الفحص بسهولة فالأحوط الفحص؛ لعدم استقرار الشكّ بالفحص، ومع عدم استقراره لا يبقى موضوع لأصالة الإباحة. أللهمّ إلاّ أن يكتفى بمجرّد الشكّ ولو لم يكن مستقرّاً.

نعم، لو احتاج الفحص إلى مؤونة إضافية كالدقّة الزائدة فلا يجب الفحص، كما نصّ عليه في صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ قال: «لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك»(2)، بناءً على أنّ النظر يحتاج إلى إعمال دقّة زائدة. وبقيّة الكلام في محلّه، فراجع.

وأمّا العصير العنبي: فيكفي في حرمته إذا غلى: حسنة حمّاد بن عثمان عن أبي عبدالله عليه السلام: «لا يحرم العصير حتّى يغلي»(3)، ثمّ بعد الغليان بالنار لا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه بالنار.

وفي صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام: «كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه»(4). وبقيّة الكلام في محلّه من كتاب الطهارة.

ص: 234


1- جامع الأحاديث / ج 24، ص 207، الباب 34 من أبواب الأشربة، ح 21.
2- المصدر السابق / ج 2، ص 136.
3- وسائل الشيعة / ج 25، ص 287، الباب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 1.
4- المصدر السابق / ص 282، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 1.

وأمّا حرمة شرب الدم: فلا خلاف ولا إشكال فيها كما صرّحوا بها في محرّمات الذبيحة. نعم، قد تُمنع حرمة شرب دم الحيوان غير ذي النفس السائلة كالجراد والسمك ذي الفلس؛ بدعوى السيرة القطعية على أكله، وشمول دليل حلّ أكله لدمه معه إذا كان الدم مع اللحم، وأمّا لو كان منفرداً لم يحلّ ؛ لإطلاق ما دلّ على حرمة الدم كتاباً وسنّةً ، وعدم ثبوت السيرة إلاّ بالنسبة إلى ما لا تنفكّ اللحوم عنه، كالباقي في الباطن في مثل لحم الشاة، والتبعية مسلّمة مع عدم الاستثناء، وقد استثني الدم في الذبيحة، وفي مثل السمك لم يُستثنَ الدم، لكنّ عموم دليل الحرمة للدم يكفي في حرمته، فتأمّل.

وأمّا حرمة العلقة: فلا إشكال في حرمتها وإن كانت من مأكول اللحم؛ لكونها من الخبائث، ولصدق الدم عليها. أللهمّ إلاّ أن يناقش في ثبوت العموم لحرمة الدم كما قرّر في محلّه. هذا بالنسبة إلى العلقة لو كانت في غير البيضة.

وأمّا الموجودة في البيضة: فقد استشكل فيها في جامع المدارك من جهة عدم صدق العلقة عليها، فمع صدق الدم عليها وعدم الانصراف عنها يشملها عموم ما دلّ على حرمته، ومع المنع (عن صدق الدم) تشكل الحرمة إلاّ من جهة كونها معدودة من الخبائث(1).

ولا يخفى أيضاً التأمّل في ثبوت العموم للدم، ومع عدم العموم فالأصل هو الطهارة والإباحة، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط. هذا مع قطع النظر عن كونها من الخبائث وإلاّ فمع ثبوت كونها كذلك تكون محرّمة، إلاّ أنّ كونها من الخبائث غير ثابت، فتدبّر جيّداً.

وأمّا تنجّس كلّ مائع لاقته النجاسة: فلا كلام فيه في الجملة، ولا يجوز شرب المتنجّس كما لا يجوز شرب عين النجس. ويجب إزالة النجاسة عن المأكول

ص: 235


1- انظر: جامع المدارك / ج 5، ص 174.

والمشروب؛ لحرمة أكله وشربه كما قرّر في محلّه.

وأمّا حرمة شرب أبوال غير مأكول اللحم: فلنجاستها، كما تدلّ عليه صحيحة عبدالله بن سنان قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1)، ومقتضى النجاسة حرمة شربها كما لا يخفى. وغير ذلك من الأخبار.

وأمّا حرمة شرب ألبان الحيوان المحرّم أكله: فلا خلاف فيها ظاهراً، قال في جامع المدارك: «واستدلّ له بالمرسل المذكور في البيض المنجبر بالعمل: «كلّ شيء يؤكل لحمه فجميع ما كان منه من لبن أو بيض أو إنفحة فكلّ ذلك حلال طيّب»(2)، فمفهومه عدم حلّية المذكورات من غير ما يؤكل لحمه.

ثمّ قال: «ويمكن أن يقال: غاية ما يستفاد من هذا المرسل مدخلية حلّية اللحم في حلّية المذكورات؛ لأنّ الأصل في القيود الاحترازيةُ ، لكن لا مانع من قيام شيء آخر مقام القيد المذكور»(3).

والمقصود أنّ حلّية اللحم وإن كانت دخيلة في حلّية المذكورات ولكن لا دليل على انحصار العلّية فيها، وبقيّة الكلام في محلّه.

وأمّا لبن الإنسان: فقد قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره - في الجواب عن السؤال عن حكم شرب حليب المرأة سواء كان الشارب زوجها أو شخصاً آخر -: «إنّه لا بأس بذلك في نفسه»(4). وهو كذلك؛ لعدم دليل على حرمته. ودعوى الاستخباث ممنوعة وإن قلنا

ص: 236


1- الوسائل / الباب 8 من ابواب النجاسات، ح 2.
2- وسائل الشيعة / ج 25، ص 81، الباب 40 من أبواب الأطعمة المباحة، ح 2.
3- جامع المدارك / ج 5، ص 178.
4- صراط النجاة / ج 1، ص 189.

بحرمة مطلق الخبيث؛ لضعف وجه المنع عن حرمة مطلق الخبيث، وهو أنّه لم يدلّ أيّ دليل على حرمة أكل الخبيث إلاّ ما قيل من دلالة الآية المباركة عليها، قال تعالى في وصف نبيّه صلى الله عليه وآله: (وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ )(1) ، ولكن من المقطوع به أنّه ليس المراد من الآية الكريمة أنّه صلى الله عليه وآله يحلّ لهم الطيّبات؛ أي الأجسام والذوات الطيّبة التي تشتهيها الطباع وترغب فيها وتلتذّ منها، ويحرّم الخبائث من الأجسام التي يتنفّر منها الطبع؛ فإنّ الآية المباركة بصدد توصيف النبيّ ، ولا يعدّ ذلك التحليل ولا هذا التحريم كمالاً له، بل المراد الأعمال الطيّبة والأعمال الخبيثة(2).

ويمكن أن يقال: لا مانع من وصفه بأنّه يحلّل الطيّبات ويحرّم الخبائث؛ ولأنّه يحكي عن جامعيّة شريعته، وهو أيضاً من أوصافه؛ وإلاّ فالإشكال وارد بالنسبة إلى تحليل بعض الأعمال وتحريم بعض آخر؛ فإنّ التحليل والتحريم ليسا من أوصافه، فتدبّر جيّداً.

والتمسّك بمفهوم قوله عليه السلام في المرسلة: «كلّ شيء يؤكل لحمه فجميع ما كان منه من لبن أو بيض أو إنفحة فكلّ هذا حلال».

غير صحيح بعدما عرفت أنّ حلّية اللحم ليست علّة منحصرة للجواز، هذا مضافاً إلى إرسالها. ولعلّ هذا هو وجه احتياط بعض الأعلام، إلاّ أنّ عدم لزوم الاحتياط لا يخلو من قوّة، فتدبّر جيّداً.

ص: 237


1- سورة الأعراف / الآية 157.
2- مستند العروة / ص 207.

ص: 238

المسألة الثالثة والثلاثون «في الشعبذة»

صرّح الشيخ الطوسي وابن إدريس وابن زهرة والصهرشتي بحرمة الشعبذة، وإليك فيما يلي جملة اُخرى من كلمات الفقهاء في المسألة:

قال في الجواهر: «ومنها [المحرمات]: الشعبذة المحرّمة بالإجماع المحكي والمحصّل، وبالدخول تحت الباطل والإغراء والتدليس واللهو وغيرهما، بل لعلّها من السحر على بعض الوجوه التي عرفتها فيه؛ لأنّها هي - على ما فسّرها غير واحد بل نسب ذلك إليهم -: الحركات السريعة التي تترتّب عليها الأفعال العجيبة بحيث يخفى على الحسّ الفرق بين الشيء وشبهه؛ لسرعة الانتقال منه إلى شبهه، فيحكم الرائي له بخلاف الواقع»(1).

وقال الشيخ الأعظم قدس سره: «الشعبذة حرام بلا خلاف... ويدلّ على الحرمة بعد الإجماع - مضافاً إلى أنّه من الباطل واللهو -: دخوله في السحر في الرواية المتقدّمة عن الاحتجاج، المنجبر وهنها بالإجماع المحكي، وفي بعض التعاريف المتقدّمة للسحر ما

ص: 239


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 94.

يشملها»(1).

وقال الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدس سره: «محلّ الاستشهاد من الرواية المتقدّمة عن الاحتجاج هو قوله فيها: «ونوع آخر (منه) خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة»، ومحلّ الاستشهاد فيما حكاه عن البحار: التخييلات والأخذ بالعيون؛ مثل راكب السفينة يتخيّل نفسه ساكناً والشطّ متحرّكاً»(2).

وقال في مستند الشيعة «ومنها: الشعبذة، قيل: هي الأفعال العجيبة المترتّبة على سرعة اليد بالحركة فتلبس على الحسّ ، وعن الدروس نفي الخلاف في تحريمه»(3).

وقال في الحدائق: «وقد صرّح في المنتهى بنفي الخلاف عن التحريم، والظاهر أنّه لا دليل سواه؛ فإنّي لم أقف - بعد التتبّع - على خبر يدلّ على ذلك»(4).

وقال شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره: «وله (أي للسحر) قسم آخر يكون صرف الوهم والخيال يسمّى بالشعبذة وأخذ العين؛ فإنّ أغلاط العين مثل رؤيتها الشمس عند طلوعها بواسطة كبيرةً ، ورؤية الكبير المرئي من البعيد صغيرة مشاهدة، فإذا أشغل المشعبذ باصرة الناظرين في غير الجهة التي يحتال فيها واستغرق تلك الجهة حواسّهم يعمل بسرعة عملاً يظهر بسببه خلاف ما يترقّبونه بواسطة هذه السرعة وذلك الاشتغال، وهذا هو المشار إليه في خبر الاحتجاج: «ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة»»(5).

ص: 240


1- المكاسب المحرّمة / ص 34.
2- تعليقة المكاسب / ص 83.
3- مستند الشيعة / ج 14، ص 117.
4- الحدائق الناضرة / كتاب المتاجر، ص 35، الطبعة الحجرية.
5- المكاسب المحرّمة / ص 150-151.

إلى غير ذلك من العبارات.

ولا يخفى عليك ضعف الوجوه المذكورة لحرمة الشعبذة:

أمّا دعوى الإجماع: فهي مندفعة بما أفاده في مصباح الفقاهة من أنّه: «ليس هنا إجماع تعبّدي؛ لاحتمال استنادهم إلى سائر الوجوه المذكورة في المسألة»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الاستناد إلى الوجوه المذكورة لا يضرّ بالإجماع إذا كان متّصلاً إلى زمان المعصوم؛ فإنّه حينئذ يكشف عن التقرير كما قرّر في محلّه. نعم، اللازم أن تكون المسألة من المسائل الأصلية لا التفريعية الفرضية غير المتداولة في ذلك العصر.

فالأولى أن يقال: إنّ الإجماع غير ثابت؛ لعدم ذكر له في كلمات القدماء، وفتوى جماعة من القدماء لا يساوق الإجماع، كما أنّ عدم الخلاف ليس بمساو للإجماع.

قال في ابتغاء الفضيلة: «إنّ الإجماع حدسيّ من باب عدم وجدان الخلاف؛ إذ لم نظفر بالشيخ أو أحد القدماء ادّعاء الإجماع، والمنقول عن العلاّمة ادّعاء نفي الخلاف»(2).

ومن المعلوم أنّ مجرّد عدم الخلاف لا يكفي في ثبوت الإجماع.

وأمّا صدق عنوان الباطل عليها: فهو أيضاً ممنوع؛ إذ ليس كلّ باطل حراماً، كما أنّ صدق اللهو لا يكفي في إثبات الحرمة مادام غير مطرب. قال في ابتغاء الفضيلة: «ليس كلّ لهو حراماً مادام لا يوجب تحريك القوى الشهوانية بنحو الإطراب»(3).

هذا مضافاً إلى إمكان منع صدق الباطل أو اللهو فيما إذا ترتّب عليه غرض عقلائي.

ص: 241


1- مصباح الفقاهة / ص 298.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «القول بأنّه من اللهو والباطل ممنوعٌ صغرى وكبرى:

أمّا الوجه في منع الصغرى: فلأنّا لا نسلّم كونها من اللهو والباطل إذا ترتّب عليهما غرض عقلائي.

وأمّا الوجه في منع الكبرى: فلأنّه لا دليل على حرمتهما على الإطلاق، بل الحرام منهما هو القسم الخاصّ »(1).

وأمّا دعوى صدق السحر عليها: فهي كما ترى مع تصريح بعض اللغويّين بأنّها كالسحر، قال في المصباح المنير: «وهي لعب يرى الإنسان منه ما ليس له حقيقة، كالسحر»(2)، وقال في أقرب الموارد: إنّ «الشعبذة كالسحر»(3)؛ إذ مقتضى التشبيه هو عدم كونها منه حقيقةً .

هذا مضافاً إلى أنّ عطفَ الشعبذة على السحر مع الفصل بينهما بغيرهما في كلمات القدماء أو ذكرها قبل ذكر السحر دليلُ المغايرة، وإليك عبائرهم:

قال الشيخ الطوسي في النهاية: «وتعلّم السحر وتعليمه والتكسّب به وأخذ الاُجرة عليه حرامٌ محظور، وكذلك التكسّب بالكهانة والقيافة والشعبذة»(4).

وقال في السرائر - في عداد المحرّمات -: «... والكهانة، والشعبذة، والحيل المحرّمة وما أشبه ذلك، والقيافة، والسحر، وتعلّمه وتعليمه»(5).

ص: 242


1- مصباح الفقاهة / ص 298.
2- المصباح المنير / مادّة «شعوذ».
3- أقرب الموارد / مادّة «شعبذ».
4- مصباح الفقاهة / ص 298.
5- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 76.

وقال في الغنية - في عداد المحظورات -: «... والكهانة، والشعبذة، وما أشبه ذلك من القيافة والسحر»(1).

وقال في إصباح الشيعة - في عداد المحرّمات -: «... وتعلّم السحر، والكهانة، والقيافة، والشعبذة، والتكسّب بها كلّها»(2).

فلا مجال للقول بأنّ الشعبذة من السحر وكون ذكرها من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ ؛ إذ مع تقدّم ذكر الشعبذة على السحر أو الفصل بينهما بغيرهما لا يبقى وجه لهذا الاحتمال.

وتعتضد المغايرة بينهما: بما أفاده المحقّق الإيرواني من أنّ : «المتبادر من الاستعمالات العرفية أنّ السحر لا واقعية له، بل مجرّد تصرّفات خيالية ناشئة من قوّة نفسانية لا من الأسباب الطبيعية، كما في شعلة الجوّالة. وبهذا يفترق عن الشعبذة كافتراقه عن سائر التصرّفات التكوينية الحاصلة بالأسباب الطبيعية السفلية، أو الفلكية العلوية، أو المركّبة منهما، أو باستخدام المجرّدات»(3).

وبما أفاده في ابتغاء الفضيلة من أنّ : «السحر تأثير النفس في النفس، ولا يكون مورد البحث كذلك؛ لأنّه لا يؤثّر في نفس الطرف، بل يوجد العمل في الخارج سريعاً بلا إعمال عمل في نفسه وتأثير في قوّة تخيّله، والتمويه حاصل في مطلق الغشّ في الأجناس، بل في كلّ ما له ظاهر وليس باطنه كظاهره»(4).

وبالجملة: مجرّد وجود الشبه لا يوجب الحكم بالحرمة، وتعريف السحر على كلّ

ص: 243


1- المصدر السابق / ص 208.
2- المصدر السابق / ص 275.
3- تعليقة المكاسب / ص 28.
4- ابتغاء الفضيلة / ص 66.

تقدير لا يشمل الشعبذة؛ لما عرفت من ظهور كلمات القدماء في أنّ بينهما مغايرة، فالحكم بالحرمة باعتبار كونها من مصاديق السحر غير سديد، وتخالفه كلمات اللغويّين والقدماء من أصحابنا كما لا يخفى.

وكذا ما حكاه فريد وجدي في دائرة معارفه عن ابن خلدون من إدراج السحر في الشعوذة أو الشعبذة - حيث قال: «تأثير القوى المتخيّلة صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيّلة يتصرّف فيها بنوع من التصرّف، ويكفي فيها أنواعاً من الخيالات والمحاكاة وصوراً ممّا يقصده من ذلك ثمّ ينزلها إلى الحسن بين الرائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه، فينظر الراؤون كأنّها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك - إلى أن قال: - ويسمّى هذا عند الفلاسفة بالشعوذة أو الشعبذة»(1) - لا يخلو عن إشكال ونظر؛ وذلك لأنّ هذا اصطلاح الفلاسفة، ولا تساعده كلمات القدماء الظاهرة في المغايرة بينهما ولاكلمات أهل اللغة والعرف.

وأمّا خبر الاحتجاج المشتمل على قوله: «ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة»، ففيه: أنّه ضعيف السند وغير منجبر بشيء.

ودعوى جبره بالإجماع.

مندفعة بما أفاده السيّد المحقّق الخوئي قدس سره من أنّ : «الإجماع المحكي إن كان حجّة في نفسه لزم اتّباعه لذلك؛ وإلاّ فإنّ ضمّ غير الحجّة إلى مثله لا يفيد الاعتبار»(2).

هذا مضافاً إلى ما أفاده في ابتغاء الفضيلة: من أنّ عدّ النميمة في خبر الاحتجاج من

ص: 244


1- دائرة المعارف الإسلامية / ص 55-57.
2- مصباح الفقاهة / ص 298.

السحر قرينة على أنّه في مقام تعداد ما يطلق عليه السحر ولو بالمجاز والمسامحة(1).

فتحصّل: أنّ الشعبذة أو الشعوذة غير محرّمة إلاّ إذا ترتّب عليها عنوان محرّم، كالإضرار بمؤمن ونحو ذلك.

وممّا ذكر يظهر جواز رسم شيء وتكراره على وجه خاصّ ، كأن يرسم سيّارة بحيث يراها الناس متحرّكة ماشية مع أنّها ليست كذلك؛ لأنّ العمل المذكور متقوّم بأسبابه الخاصّة من الرسم وتكراره ونحوهما من الاُمور الواقعية، وليس ذلك بسحر؛ لعدم التصرّف في الأعين ولا في النفوس، بل هو عمل خارجي متقوّم بأسبابه الخارجية، ولا يترتّب عليه عنوان محرّم، وليس هو بباطل ولا لهو مع ترتّب الغرض الصحيح عليه، كما في بعض أنواع الأفلام، فتدبّر جيّداً.

ص: 245


1- انظر: ابتغاء الفضيلة / ص 66.

ص: 246

المسألة الرابعة والثلاثون «في الشعر»

اشارة

ويقع الكلام في مقامات:

المقام الأوّل: في معنى الشعر

قال في المصباح المنير: «والشعر العربي: هو النظم الموزون. وحدّه ما تركّب تركّباً متعاضداً وكان مقفّى موزوناً مقصوداً به ذلك، فما خلا من هذه القيود أو من بعضها فلا يسمّى شعراً، ولا يسمّى قائله شاعراً؛ ولهذا ما ورد في الكتاب أو السنّة موزوناً فليس بشعر، لعدم القصد أو التقفية، وكذلك ما يجري على ألسنة بعض الناس من غير قصد؛ لأنّه مأخوذ من «شَعَرْتُ » إذا فطنت وعلمت. وسمّي شاعراً لفطنته وعلمه به، فإذا لم يقصده فكأنّه لم يشعر به. وهو مصدر في الأصل، يقال: شعرت أشعر - من باب قتل - إذا قلته»(1).

وقال في تاج العروس: «والشِّعر - بالكسر - كالعلم وزناً ومعنى، وقيل: هو العلم بدقائق الاُمور، وقيل: هو الإدراك بالحواسّ ، وبالأخير فسّر قوله تعالى: (وَ أَنْتُمْ )

ص: 247


1- المصباح المنير / مادّة «شعر».

(لاٰ تَشْعُرُونَ ) . قال المصنّف في البصائر: ولو قال في كثير ممّا جاء فيه «لا يشعرون»: «لا يعقلون» لم يكن يجوز؛ إذ كان كثيراً ممّا لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً. انتهى.

ثمّ غلب على منظوم القول؛ لشرفه بالوزن والقافية؛ أي بالتزام وزنه على أوزان العرب والإتيان له بالقافية التي تربط وزنه وتظهر معناه وإن كان كلّ علم شعراً؛ حيث غلب الفقه على علم الشرع، والعود على المَندَل، والنجم على الثريّا، ومثل ذلك كثير.

وربّما سمّوا البيت الواحد شعراً، حكاه الأخفش. قال ابن سيده: وهذا عندي ليس بقويّ إلاّ أن يكون على تسمية الجزء باسم الكلّ .

وعلّل صاحب المفردات غلبته على المنظوم بكونه مشمولاً على دقائق العرب وخفايا أسرارها ولطائفها. قال شيخنا: وهذا القول هو الذي مال إليه أكثر أهل الأدب؛ لرقّته وكمال مناسبته، ولما بينه وبين الشَّعَر - محرّكة - من المناسبة في الرقّة، كما مال إليه بعض أهل الاشتقاق. انتهى.

وقال الأزهري: الشعر القريض: المحدود بعلامات لا يجاوزها - إلى أن قال صاحب التاج: - وفي البصائر للمصنّف: وقوله تعالى عن الكفّار: (بَلِ اِفْتَرٰاهُ بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ)(1) حمل كثير من المفسّرين على أنّهم رموه بكونه آتياً بشعر منظوم مقفّى، حتّى تأوّلوا ما جاء في القرآن من كلّ كلام يشبه الموزون من نحو: (وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ )(2) وقال بعض المحصّلين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه؛ به وذلك أنّه ظاهر من هذا أنّه ليس على أساليب الشعر، وليس يخفى ذلك على الأغتام(3) من العجم فضلا عن بلغاء

ص: 248


1- سورة الأنبياء / الآية 5.
2- سورة سبأ/ الآية 13.
3- جمع الأغتم: وهو من لايُفصح شيئاً.

العرب، وإنّما رموه؛ فإنّ الشعر يعبّر به عن الكذب، والشاعر: الكاذب، حتّى سمّوا الأدلّة الكاذبة: «الأدلّة الشعرية»؛ ولهذا قال تعالى في وصف عامّة الشعراء (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ...)(1) إلى آخر السورة، ولكون الشعر مقرّاً للكذب، قيل: أحسن الشعر أكذبه».(2)

وقال في أقرب الموارد: «الشعر مصدر بمعنى العلم، ج: أشعار، وعند أهل العربية: كلام يقصد به الوزن والتقفية. والشاعر: قائل الشعر، قال الأخفش: الشاعر مثل لابنوتامر؛ أي صاحب شعر»(3).

والحاصل ممّا تقدّم: أنّ الشعر وإن كان في الأصل مشتقّاً من الشعر بمعنى العلم والإحساس، ولكنّه بعدُ غلب على نظم مقفّى وموزون مقصود، وعليه فالشعر لا يشمل النثر ولو كان موزوناً؛ لأنّه لم يقصد به الشعر. والظاهر أنّ هذه الغلبة لا تختصّ بزمان الإسلام بل كانت كذلك قبل الإسلام ونزول القرآن؛ لتبادر الشعر عندهم في المذكور.

وممّا ذكر يظهر ما في كتاب ما وراء الفقه حيث قال: «وأمّا الشعر فهو من الشعور وهو الإحساس، يقال: شعرت واستشعرت به إذا أحسست به، وكلّ كلام يعبّر عن الشعور والأحاسيس النفسية أو يكون سبباً لإثارتها فهو شعر سواء كان منظوماً أو منثوراً؛ ومن هنا قالوا: الشعر المنثور؛ فإنّه شعر من زاوية كونه ممثّلاً للشعور والأحاسيس... ومن هنا يمكننا أن نلتفت أنّ بين مفهوم النظم ومفهوم الشعر نسبة العموم من وجه(4)... ومن هنا

ص: 249


1- سورة الشعراء / الآية 224.
2- تاج العروس / مادّة «شعر».
3- أقرب الموارد / مادّة «شعر».
4- ولعلّ الوجه في دعوى كون النسبة هي العموم من وجه: هو أنّ النظم - بناءً على قوله - قد يرجع إلى

نعرف أنّ الاستعمال الأعمق للشعر يتبع الوزن والقافية سواء كان فيه شعور أم لا، والاستعمال الأعمق للنظم يتبع الوزن والقافية سواء كان فيه شعور أم لا، إلاّ أنّ الاستعمال الغالب للشعر هو في النظم عموماً، وإن كان لا يخلو من تسامح على أيّ حال»(1).

وذلك لأنّ مقصوده إن كان اشتراك الشعر بين النظم والنثر ففيه منع؛ لأنّ الأصل المشتقّ منه وإن كان كذلك لكنّه مهجور، بل الاستعمال الغالب هو اختصاص الشعر بالنظم مع الخصوصيّات المذكورة في تعريفه، وعليه فمدح الشعر أو ذمّه لا يشمل النثر.

وممّا ذكر يظهر ما في تفسير عليّ بن إبراهيم - من أنّها «نزلت في الذين غيّروا دين الله (بآرائهم) وخالفوا أمر الله، هل رأيتم شاعراً قطّ تبعه أحد؟! إنّما عنى بذلك الذين وضعوا ديناً بآرائهم فتبعهم على ذلك الناس»(2) - من الضعف؛ لاحتمال أن يكون ذلك من كلام القمّي لا الرواية. هذا مضافاً إلى ضعف الرواية؛ لعدم كونها مسندة، وكذا عدم تمامية مدلولها، فلا تغفل.

وكذا لا تصلح مرسلة العيّاشي - عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «هم قوم تعلّموا وتفقّهوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» - للاستدلال على أنّ المراد بالشعراء في الآية الكريمة كلّ من يأتي بكلام شعريّ منظوماً كان أو منثوراً؛ لضعفها من جهة الإرسال. هذا مضافاً إلى احتمال أن يكون المراد ذلك بإلغاء الخصوصية لا باستعمال الشعر في الأعمّ .

ص: 250


1- ماوراء الفقه (للسيد محمّد الصدر) / ج 10، ص 93.
2- تفسير القمي / ج 2، ص 125.

ثمّ إنّ الشعر مستعمل في ذلك قبل الإسلام؛ لما عرفت من أنّ الغلبة ليست حادثة في الإسلام، والشاهد له قوله تعالى: (وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ )(1) ؛ فلو كان النثر الموزون أيضاً شعراً لما قال: (وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ ) ، وعليه فالشعر مع النثر قسيمان من الكلام، ولا وجه لجعل النسبة بينهما العموم من وجه.

وعليه فالآيات أو الروايات الدالّة على مرجوحية الشعر لا تشمل النثر، نعم مصداق الشعر في ذلك العصر هو الأشعار الجاهلية الباطلة. وإذا عرفت ذلك فالبحث يقع في الأدلّة الدالّة على مرجوحية الشعر بمعناه الشائع والمتبادر منه.

المقام الثاني: في الأدلّة الدالّة على مرجوحية الشعر

اشارة

وهي على قسمين: آيات وروايات:

أوّلاً - الآيات الكريمة:

1 - قوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلىٰ كُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كٰاذِبُونَ * وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ )(2) .

قال المحقّق الأردبيلي: «وفي قوله: (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي

ص: 251


1- سورة يس /الآية 69.
2- سورة الشعراء / الآيات 221-227.

كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ ) دلالة على كون الشعر صفة ذمّ ، وكذا متابعة الشعراء. ويدلّ عليه الأخبار أيضاً؛ حتّى ورد إعادة الوضوء بقراءة ما زاد على ثلاثة أبيات، إلاّ أن يراد ما هو الباطل منه.

في الكشّاف: (وَ اَلشُّعَرٰاءُ ) مبتدأ (يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ) خبره. ومعناه: أنّه لا يتّبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم، وما هم عليه من الهجاء والتمزيق بالأعراض، والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحقّ المدح، ولا يستحسن ذلك منهم إلاّ الغاوون والسفهاء. انتهى».

ثمّ قال المحقّق الأردبيلي قدس سره: «ويؤيّد التخصيص(1) وجود الأشعار عن العلماء والصلحاء بل عن الأئمّة عليهم السلام. والظاهر أنّه إذا كان مشتملاً على النصيحة والحكمة والمباحات والحقّ والمراثي والمدح لأهل البيت عليهم السلام لا يذمّ ، ويدلّ عليه قوله تعالى: (إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً) .

في الكشّاف: استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعراً قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وآله والصحابة وصلحاء الاُمّة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطّخون فيها بذنب ولا يتلبّسون بشائبة ولا منقصة»(2).

وكيفما كان فالمستفاد من الآية الكريمة - بناءً على كون الاستثناء متّصلاً - أنّ الشعر

ص: 252


1- أي يؤيّد تخصيص الذمّ في الآية الكريمة بالباطل من الأشعار: وجود الأشعار المنظومة من قِبل العلماء والصلحاء والأئمّة عليهم السلام، بل الشائع من الأشعار في عصر النزول هو الباطل منها.
2- زبدة البيان / ج 2، ص 523.

والشعراء على قسمين: أحدهما: ما ينشأ من العمى والضلالة، وقائله هو الضالّ وتابعه هو الغاوي. وثانيهما: ما ينشأ من الإيمان والعمل الصالح وذكر الله كثيراً، فقائله هو الهادي وتابعه هو المهتدي. وعليه فالمستثنى منه هو ذمّ الشعر والشاعر، والمستثنى بخلافه، ويستفاد منه المدح بالنسبة الى الشعراء المؤمنين العاملين الذاكرين.

وأمّا بناءً على كون الاستثناء منقطعاً فالمراد من الشعر والشعراء - بقرينة قوله تعالى: (أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ )(1) نوع خاصّ منهما وهو الشعر الجاهلي والشاعر الجاهلي الّذي يأتي بالأشعار الفاسدة الضالّة ولا هداية في أشعاره، لأنّه نفسه ضالّ ، ولا ينافي إرادة الشعر الجاهلي والشاعر الجاهلي من الشعر والشعراء مع كونهما أعمّ ؛ لوجود القرينة المذكورة، فالمراد منهما هو الشعر الجاهلي والشاعر الجاهلي مصداقاً، وعليه فالذمّ مختصّا بنوع خاصّ من الشعراء والأشعار لا مطلق الشعر والشعراء، ولا يستفاد من الآية الكريمة مدح للشعراء المؤمنين العاملين الذاكرين؛ إذ لا استثناء في هذه الصورة بالنسبة إلى الشعراء؛ لأنّ المفروض هو كون الاستثناء منقطعاً والشعر والشعراء صفة ذمّ حينئذ، ولكن من المعلوم بالقرينة أنّ المراد من الشعر والشعراء نوع خاصّ وهو الأشعار الجاهلية الباطلة.

وأورد على الاستدلال بالآية الكريمة على مرجوحية الشعر ولو في الجملة بوجوه:

منها: أنّ موضوع الذمّ في الآية هم الشعراء، فإن كان المراد منهم من ينظم الشعر تمّ الاستدلال من هذه الناحية، ولكنّنا عرفنا قبل قليل أنّ الاستعمال الغالب للفظي الشعر والشعراء وإن كان ذلك إلاّ أنّ الواقع أنّ الشعر هو ما يرجع إلى العواطف النفسية

ص: 253


1- سورة الشعراء / الآيتان 225 و 226.

والخلجات القلبية سواء كان الكلام منظوماً أو منثوراً، ولا ربط له بالنظم ربطاً حقيقيّاً، إذاً فيختصّ موضوع الآية بمن يكثر شعوره النفسي لا من يكثر نظمه للشعر(1).

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ مع تسليم كون الاستعمال الغالب هو الشعر المتعارف لا مجال لدعوى استعمال الشعر في الآية الكريمة في مطلق الأحاسيس النفسية والخلجات القلبية سواء كانت منظومة أو منثورة؛ إذ المفروض أنّ الشعر ظاهر بغلبة الاستعمال في الشعر المتعارف، وعليه فالآية مربوطة بالشعر والشعراء لا بمن يكثر شعوره النفسي، فلا تشمل المنثور من الكلام كما لا يخفى.

ومنها: أنّ الغواية وإن كانت في اللغة ضدّ الهداية، إلاّ أنّنا يمكن أن نحمل معناها على معنى العواطف الجيّاشة والحماس المتزايد لأيّ أمر من اُمور الدنيا والآخرة، فلا يتعيّن إرادة الضلال منها، بل لا أقلّ من أن يكون هناك إطلاق شامل لكلا الشكلين من العاطفة كإطلاق الذي ذكرناه من الشعراء نفسه، بل سيكون لفظ الشعراء بمنزلة القرينة المتّصلة على هذا الفهم، ومن المعلوم أنّ ذوي العواطف الضالّة يتّبع بعضهم بعضاً، وذوي العواطف المحقّة يتّبع بعضهم بعضاً، ولا يتعيّن في الآية مجرّد الاتّباع على الضلال(2).

وفيه أيضاً: أنّ الاستعمال الشائع في الغواية هو الضلالة، ودعوى إطلاقها وإرادة الأعمّ من الضلالة عجيبة.

هذا مضافاً إلى أنّ الاستثناء في قوله تعالى: (إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً...) يدلّ على أنّ المقصود الجدّي من لفظ «الشعراء» هم أهل الغواية، وعليه فكيف يكون لفظ «الشعراء» بمنزلة القرينة المتّصلة لتعميم الغواية للهداية ؟!

ص: 254


1- ماوراء الفقه (للسيد محمّد الصدر) / ج 10، ص 96.
2- انظر ماوراء الفقه / ج 10، ص 97.

وهكذا لو كان الاستثناء منقطعاً ينحصر مصداق الشعراء في غير أهل الهداية، ويكون بين الشعراء، على أنّ مورد الاستثناء التقابل، ومعه لا مجال لكون لفظ «الشعراء» بمنزلة القرينة على إرادة الأعمّ كما لا يخفى.

ومنها: أنّنا لو تنزّلنا وقبلنا اختصاص الغواية بالضلال فهذا لا يلازم كون الشعراء أشدّ غواية ممّن يتّبعهم من الغاوين كما ذكرنا في أصل الاستدلال من هذه الجهة، وما ذنب الفرد إذا اتّبعه شخص ضالّ؟! فإنّ الآية بالتأكيد خالية من الإشارة إلى أنّ اتّباع الغاوين للشعراء إنّما هو على الغواية والضلال، بل ظاهرها اتّباعهم على الشعر وهو العاطفة، وقد عرفنا أنّه شامل للعاطفة الصحيحة والعاطفة الباطلة وغير مختصّ بالباطلة لا محالة(1).

ولا يخفى ما فيه من الضعف؛ لظهور الاتّباع في أنّ الشعراء يدعونهم نحو الضلالة وهم يحبّونهم، فالسبب هم الشعراء وهم مضلّون، وبهذه المناسبة هم أشدّ غواية؛ لأنّهم ضاّلون ومضلّون، بخلاف التابعين فإنّهم ضالّون.

هذا مضافاً إلى التهافت بين صدر كلامه وذيله؛ لأنّه مع تسليم اختصاص الغواية بالضلال كيف تكون أعمّ من العاطفة الصحيحة ؟!

يضاف إلى ذلك: احتمال دلالة قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلىٰ كُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كٰاذِبُونَ * وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ )(2) على أنّ المقصود من الشعراء هم الذين كانوا مورداً لتنزّل الشياطين، ومن المعلوم أنّ هؤلاء هم الذين لا يتّبعهم إلاّ الغاوون.

ثمّ إنّ قوله تعالى: (أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا

ص: 255


1- المصدر السابق.
2- سورة الشعراء / الآيات 221-224.

لاٰ يَفْعَلُونَ )(1) يدلّ أيضاً على أنّ مورد الذمّ هو الأشعار والشعراء الذين كانوا كذلك، بخلاف من ليس كذلك من الشعراء المؤمنين، فلا مجال لتعميم الشعر والشعراء؛ إذ لا يناسب الوصف المذكور في الآية إلاّ القسم الجاهلي منه كما لا يخفى.

والقول: بأنّ المراد من الوديان وديان الأفكار والمعاني وليس الوديان الأرضية، وتلك الوديان إمّا أن يراد بها خصوص الوديان الباطلة أو ما يشمل الحقّ والباطل، وكلاهما فعل باطل؛ إذ لا يحقّ للفرد أن يفكّر تفكيراً باطلا لا قليلاً ولا كثيراً(2).

غير سديد؛ لأنّ قوله تعالى: (أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ ) في مقام الذمّ ، وهو يناسب الوديان الباطلة، فلا يشمل الوديان الحقّة من الأساس، فتأمّل.

ودعوى: أنّ ظاهر الوديان هو الوديان الأرضية وليس الوديان الذهنية؛ فإنّ الأوّل حقيقة والآخر مجاز، ويتعيّن حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، إذاً فهم يهيمون في الوديان الأرضية، وليس هذا بأمر باطل على أيّ حال، بل لا شكّ أنّ وجوهاً عديدة من هذا الهيام حقّ أو أقرب إلى الحقّ .

مندفعة: بأنّها لا محصّل لها؛ إذ قرينة السياق قرينة ذمّ ، ومن هذه الجهة اختصّت الآية بالهيام الباطل، والوديان الأرضية كناية عن الوديان الذهنية الباطلة، فالذمّ المستفاد من الآية الكريمة يختصّ بشعراء الجاهلية الكَذَبة الفَسَقة؛ لاختصاص الآية بهم مصداقاً في عصر النزول ولو بالقرينة.

ولقد أفاد وأجاد في الميزان حيث قال في ذيل قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ ) إلى قوله: (وَ أَكْثَرُهُمْ كٰاذِبُونَ ) : «ومحصّل حجّة الآيات الثلاث: أنّ

ص: 256


1- سورة الشعراء / الآيتان 225 و 226.
2- ماوراء الفقه / ج 10، ص 98.

الشياطين لابتناء جبلّتهم على الشرّ لا يتنزّلون إلاّ على كلّ كذّاب فاجر، وأكثرهم كاذبون في اخبارهم، والنبيّ صلى الله عليه وآله ليس بأفّاك أثيم، ولا ما يوحى إليه من الكلام كذباً مختلقاً؛ فليس ممّن تنزّل عليه الشياطين ولا الذي ينزل عليه شيطان، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.

وقوله: (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ) إلى قوله: (لاٰ يَفْعَلُونَ ) جواب عن رمي المشركين للنبيّ صلى الله عليه وآله بأنّه شاعر، نبّه عليه بعد الجواب عن قولهم: إنّ له شيطاناً يوحي إليه القرآن - إلى أن قال: - وملخّص حجّة الآيات الثلاث: أنّه صلى الله عليه وآله ليس بشاعر؛ لأنّ الشعراء يتّبعهم الغاوون؛ لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد، لكن الذين يتّبعونه إنّما يتّبعونه ابتغاءً للرشد وإصابة الواقع وطلباً للحقّ ؛ لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحقّ والرشد دون الباطل والغيّ .

وقوله: (إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً...) إلخ استثناء من الشعراء المذمومين، والمستثنون هم شعراء المؤمنين؛ فإنّ الإيمان وصالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحقّ واتّباع الباطل. ثمّ الذكر الكثير لله سبحانه يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى، مقبلاً إلى الحقّ الذي يرتضيه، مدبراً عن الباطل الذي لا يحبّ الاشتغال به، فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لاُولئك. وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان وعمل الصالحات ثمّ عطْف قوله: (وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً) على ذلك»(1).

والظاهر أنّ ما ذهب إليه مبنيّ على كون الاستثناء متّصلاً، وقد عرفت أنّ هنا احتمالاً آخر؛ وهو كون الاستثناء منقطعاً، وأنّ الشعر والشعراء بمعناهما الجاهلي صفة ذمّ حينئذ

ص: 257


1- الميزان في تفسير القرآن / ج 15، ص 362.

كما لا يخفى.

2 - قوله تعالى: (وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ )(1) .

والشعر مستعمل في هذه الآية أيضاً في الشعر الاصطلاحي الأعمّ منه ومن النثر؛ قضاءً لكثرة الاستعمال فيه. ثمّ إنّ المراد من الشعر هو الشعر الجاهلي الرائج الذي كان هجواً وباطلا، كما يشهد له التقابل بين الشعر والذكر؛ فإنّ الظاهر منه أنّ الشعر في مقابل الذكر، والذكر في مقابل الشعر، وهو لا يستقيم إلاّ إذا اُريد من الشعر الشعر الجاهلي ولو بحسب المصداق الرائج في ذلك العصر. ويؤكّده قوله: (وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ ) ؛ إذ لو كان الشعر أعمّ من النثر ومن الحقّ والباطل لكان النثر الحاكي عن الحقّ من أقسام الذكر، ولا يصحّ أن يقال هو ممّا لا ينبغي له، فكيف يجعل مقابلا له ؟! وعليه فقوله تعالى: (وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ ) ذمّ للشعر المصطلح عليه في الجاهلية، ولا يشمل الأشعار الحقّة ولا النثر مطلقاً.

ثمّ إنّ مقتضى نفي تعليمه تعالى إيّاه الشعر - كما أفاد في الميزان - أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لا يحسن قول الشعر، لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي الله سبحانه وتعالى.

والمحصّل من الآية الكريمة: أنّ عدم تعليمه تعالى إيّاه الشعر لا يوجب نقصاً فيه ولا هو تعجيز له، بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عمّا يتحاوره العارف بصناعة الشعر؛ فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخييلات الشعرية الكاذبة التي كلّما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له صلى الله عليه وآله أن يقول الشعر وهو رسول الله صلى الله عليه وآله، وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي

ص: 258


1- سورة يس /الآية 69.

هو ذكر وقرآن مبين.

ثمّ إنّ قوله: (إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ) يدلّ على أنّ القرآن هو الذكر المحض والمقروء المبيّن، ولا مجال لاحتمال أن يكون كالشعر الحاوي للباطل ونحوه.

فالآية الكريمة وإن دلّت على أنّ الشعر لا يليق بتعليم النبيّ صلى الله عليه وآله ولكنّ المقصود منه هو الشعر بمعناه الاصطلاحي وما يكون في قبال الذكر، وهو ليس إلاّ الأشعار الجاهلية الباطلة، فلا يستفاد منه الذمّ والتحقير بالنسبة إلى مطلق الشعر ولو كان ذكراً وحكمة، كما لا يشمل النثر؛ لأنّ النثر ليس بشعر من دون فرق بين كونه حقّاً أو باطلا.

3 - قوله تعالى (وَ يَقُولُونَ أَ إِنّٰا لَتٰارِكُوا آلِهَتِنٰا لِشٰاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جٰاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ )(1) .

وهو يدلّ على أنّ قول الشاعر عندهم ليس ممّا ينبغي أن يصغى إليه سيّما إذا كان مجنوناً، وهذا اعتراف منهم بأنّ المقصود من رمي القرآن بالشعر في كلامهم هو الكذب، ولا يصلح الكذب لأنّ يتّبع في رفع الاعتقاد، فردعهم الله تعالى في نسبة القرآن إلى الشعر بمعناه الجاهلي والكذب بقوله: (بَلْ جٰاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ ) بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله جاء بالحقّ وتصديق المرسلين، ومن المعلوم أنّ المرسلين كانوا على حقّ ، فكيف يكون تصديقهم من الباطل وكذباً وشعريّاً؟!

ورمي القرآن بالشعر مع وضوح عدم كونه شعراً عند العجم - فضلا عن العرب - يشهد على أنّهم قصدوا بذلك رميه بالكذب؛ فإنّ الشاعر الجاهلي كاذب، حتّى سمّوا الأدلّة الكاذبة بالأدلّة الشعرية، فعنوان الشاعر في هذه الآية صفة ذمّ ، ولكن أرادوا منه الشعر الجاهلي، والقرآن الكريم ردّ النسبة المذكورة إلى القرآن، ونزّه ساحة النبيّ صلى الله عليه وآله عنها، ولا

ص: 259


1- سورة الصافات / الآيتان 36 و 37.

نظر لله تعالى بالنسبة إلى الأشعار الحقّة ولا الشعراء المؤمنين، فلا يصحّ جعل الآية ممّا تدلّ على ذمّ الشعر والشعراء مطلقاً.

4 - قوله تعالى: (بَلْ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ بَلِ اِفْتَرٰاهُ بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ فَلْيَأْتِنٰا بِآيَةٍ كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ )(1) .

وهو يدلّ على أنّ الكفّار بعد نسبة التشويش والاختلاط والافتراء إلى القرآن والرسول صلى الله عليه وآله رموه بأنّه أتى بالشعر، وقصدوا بذلك الشعر الباطل والجاهلي؛ بقرينة كونهم في مقام تكذيب النبيّ صلى الله عليه وآله، كما يشهد له تقدّم نسبة «أضغاث أحلام والافتراء» إليه صلى الله عليه وآله؛ ولذا طلبوا منه الإتيان بالآية والمعجزة، فأجاب الله سبحانه وتعالى بعد أربع آيات بقوله عزّ وجلّ : (لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ كِتٰاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ )(2) .

فإذا كان القرآن نازلاً من الله تعالى وذكراً فلا مجال للرمي المذكور، بل هو من أعظم الآيات، ومعه لا حاجة إلى آية اُخرى، فهذه الآية أيضاً لا تدلّ على ذمّ مطلق الشعر.

فتحصّل: أنّ الآيات المذكورة لا تدلّ على ذمّ الشعر الحاوي للحقّ ، وإنّما تدلّ على ذمّ الشعر الجاهلي فقط.

ثانياً - الروايات الدالّة على ذمّ الشعر:

منها: موثّقة سماعة قال: سألته عن نشيد الشعر هل ينقض الوضوء، أو ظلم الرجل صاحبه، أو الكذب ؟ فقال: «نعم، إلاّ أن يكون الشعر يصدق فيه، أو يكون يسيراً من الشعر؛ الأبيات الثلاثة والأربعة، فأمّا أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء»(3). قال في

ص: 260


1- سورة الأنبياء / الآية 5.
2- سورة الأنبياء / الآية 10.
3- وسائل الشيعة / ج 1، ص 269، الباب 8 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.

الوسائل بعد نقل هذا الخبر: «أقول: حمله الشيخ على الاستحباب، وحكى بعض علمائنا انعقاد الإجماع على عدم الوجوب، وذلك دالّ على ترجيح الأوّل».

وكيف كان فهذه الموثّقة لا تدلّ إلاّ على أنّ إكثار الشعر الباطل موجب لنقض الوضوء.

وتعارضها معتبرة معاوية بن ميسرة المرويّة عن محمّد بن الحسن، عن المفيد، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن معاوية بن ميسرة قال: سألت أبا عبدالله عن إنشاد الشعر هل ينقض الوضوء؟ قال: «لا»(1). قال في الوسائل بعد نقل الرواية: «ورواه الصدوق مرسلاً. أقول: ويدلّ على ذلك ما تقدّم من حصر النواقض في عدّة أحاديث».

ومقتضى الجمع بين الروايتين: هو تقييد المعتبرة بما إذا كان الشعر يصدق فيه أو كان يسيراً كالأبيات الثلاثة والأربعة، بخلاف ما إذا كان الشعر باطلا وجاهليّاً فإنّ غير اليسير منه يكون موجباً للنقض.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّهما متعارضتان، لقوّة دلالة المعتبرة على عدم النقض لاعتضادها بحصر النواقض في عدّة أحاديث، ودعوى الإجماع على عدم كونه موجباً لذلك، وعليه فتحمل الموثّقة على الاستحباب كما نسب إلى الشيخ.

هذا مضافاً إلى أنّ الموثّقة تدلّ على الحكم الوضعي وهو نقض الوضوء، ولا دلالة لها على مرجوحية الشعر. إلاّ أن يقال: إنّ نقض الوضوء يكشف عن المرجوحية في الجملة كما لا يخفى.

ومنها: خبر نوف المروي عن الخصال: عن أبيه، عن سعد، عن أيّوب بن نوح، عن الربيع بن محمّد المسلي، عن عبد الأعلى، عن نوف قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «يا نوف،

ص: 261


1- المصدر السابق / ح 1.

إيّاك أن تكون عشّاراً، أو شاعراً، أو شرطيّاً، أو عريفاً، أو صاحب عرطبة وهي الطنبور، أو صاحب كوبة وهو الطبل؛ فإنّ نبيّ الله خرج ذات ليلة فنظر إلى السماء فقال: إنّها الساعة التي لا يردّ فيها دعوة إلاّ دعوة عريف أو دعوة شاعر أو شرطيّ أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة»(1).

وهذا الخبر يدلّ على ذمّ الشاعر مطلقاً، أللهمّ إلاّ أن يحمل على الشعر الجاهلي بقرينة السياق وعدم إجابة الدعاء.

هذا مضافاً إلى ضعف الخبر؛ لعدم توثيق الربيع بن محمّد المسلّي ونوف بن فضالة. نعم، حكي عن التعليقة أنّه يظهر من الأخبار كونه من خواصّ أميرالمؤمنين عليه السلام، ولكنّه لا يرفع ضعف الراوي عنه.

ومنها: معتبرة محمّد بن مروان المرويّة عن الكشّي، عن جعفر بن معروف، عن محمّد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن ابن بكير، عن محمّد بن مروان قال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام وعنده ابن خرّبوذ فأنشدني شيئاً، فقال أبو عبدالله عليه السلام: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لئن يمتلئ جوف الرجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً»، فقال ابن خرّبوذ: إنّما يعني بذلك من يقول الشعر، فقال أبو عبدالله عليه السلام: «ويلك - أو ويحك - قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله!»(2).

ولعلّ الظاهر من قوله عليه السلام: «قال ذلك...» إلخ هو الاستفهام الإنكاري وليس إخباراً. وكيف كان فالسند موثّق وإن لم يوثّق جعفر بن معروف؛ لأنّه مردّد بين من يقال في حقّه إنّه وكيل وبين من يروي عنه العيّاشي كثيراً، وأيّهما كان يدلّ على وثاقته.

ثمّ لعلّ المقصود من الشعر في الرواية هو الشعر الباطل؛ حيث إنّه يناسب التشبيه

ص: 262


1- بحار الأنوار / ج 72، ص 343.
2- المصدر السابق / ج 76، ص 292.

بالقيح. هذا مضافاً إلى أنّ القضيّة قضيّة في واقعة فلا إطلاق لها، فلا يستفاد منها ذمّ بالنسبة إلى مطلق الشعر، فتأمّل.

ومنها: ما روي عن محمّد بن الحسين الرضي في المجازات النبوية قال: قال عليه السلام في امرئ القيس: «يجيء يوم القيامة يحمل لواء الشعر إلى النار». قال: وقال عليه السلام: «إنّ من الشعر لحكماً، وإنّ من البيان لسحراً»(1).

وحمل لواء الشعر إلى النار يدلّ على أنّ نوع أشعاره يوجب استحقاق النار، وليس ذلك إلاّ لكونها من الأباطيل والضلالة. هذا مضافاً إلى أنّ الرواية مرسلة.

ومنها: ما قاله في الفقيه في رواية إبراهيم بن أبي البلاد، عن زرارة، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من أنشد بيت شعر يوم الجمعة فهو حظّه من ذلك اليوم»(2).

والرواية تدلّ على عدم مقبولية سائر الأعمال، وكفى به حزازة، وهي مطلقة لكنّها مختصّة بيوم الجمعة. إلاّ أنّ الرواية مرويّة في الخصال مرسلة، كما أنّ ما في الفقيه لعلّه إشارة إلى رواية الخصال، فليراجع.

ومنها: خبر السكوني، عن جعفر عليه السلام، عن عليّ عليه السلام: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تمثّل ببيت شعر من الخنا ليلة الجمعة لم تقبل منه صلاة تلك الليلة، ومن تمثّل في يوم الجمعة لم تقبل منه صلاة في يومه ذلك»(3).

ولا يخفى أنّه لا يدلّ إلاّ على مرجوحية شعر الخنا في ليلة الجمعة ويومها، ولا يشمل غيره إلاّ أن يكون سالكاً مسلكه.

ص: 263


1- جامع الأحاديث / ج 6، ص 190.
2- المصدر السابق / ص 188.
3- المصدر السابق / ص 189.

ومنها: ما رواه في التهذيب، عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن الحسن بن عليّ الكوفي، عن الحسين بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تمثّل ببيت شعر من الخنا لم يقبل منه صلاة في ذلك اليوم، ومن تمثّل بالليل لم تقبل منه صلاة تلك الليلة». ورواه في الجعفريّات وزاد في آخره: «ولقي الله تعالى يوم يلقاه ولا خلاق له»(1).

والرواية معتبرة، ولكنّها لا تدلّ إلاّ على مرجوحية شعر الخنا في مطلق اليوم والليلة، بل تدلّ على حرمته وكونه من المعاصي الكبيرة مطلقاً، بيد أنّها مختصّة بشعر الخنا ولا تشمل غيره إلاّ إذا كان من سنخه فيلحق به.

ومنها: ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمان بن الحجّاج، عن جعفر بن إبراهيم، عن علىّ بن الحسين - صلوات الله عليهما - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سمعتموه ينشد الشعر في المساجد فقولوا: فضّ الله فاك، إنّما نصبت المساجد للقرآن»(2).

وجعفر بن إبراهيم لم يوثّق؛ لمغايرته مع جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبدالله بن جعفر الطيّار، وإلاّ فقد وثّقه العلاّمة قدس سره.

ومنها: ما رواه في التهذيب عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن أحمد الهاشمي، عن العمركي، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، سألته عن الشعر أيصلح أن ينشد في المسجد؟ فقال: «لا بأس»(3).

ص: 264


1- المصدر السابق.
2- الكافي / ج 3، ص 369.
3- جامع الأحاديث / ج 4، ص 574.

والسند معتبر؛ لأنّ محمّد بن أحمد الهاشمي متّحد مع محمّد بن أحمد العلوي وهو ممّن روى عنه الأجلاّء ولم يستثنه ابن الوليد، وعبّر عنه الصدوق ب - «الصدوق»، ويظهر من النجاشي أنّه من شيوخ أصحابنا.

ومقتضى الجمع بينهما هو حمل الرواية الاُولى على كراهة الشعر في المساجد بناءً على صحّتهما، فلا تدلّ على الحرمة.

ومنها: موثّقة السكوني عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «ستّة لا يسلّم عليهم: اليهود، والمجوس، والنصراني، والرجل على غائطه وعلى موائد الخمر، وعلى الشاعر الذي يقذف المحصنات، وعلى المتفكّهين بسبّ الاُمّهات»(1).

ولا دلالة لها على ذمّ مطلق الشعر، بل تختصّ بصورة القذف.

ومنها: خبر ابن نباتة عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «ستّة لا ينبغي أن يسلّم عليهم: اليهود، والنصارى، وأصحاب النرد والشطرنج، وأصحاب الخمر والبربط والطنبور، والمتفكّهون بسبّ الاُمّهات، والشعراء»(2).

والسند ضعيف؛ لاشتماله على ابن طريف وهو مجهول. ولكنّ دلالته مطلقة، أللهمّ إلاّ أن يحمل على نوع خاصّ من الشعر؛ وهو الشعر الجاهلي الذي يؤيّده السياق.

ومنها: صحيحة حمّاد بن عثمان قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «يكره رواية الشعر للصائم، وللمحرم، وفي الحرم، وفي يوم الجمعة، وأن يروى بالليل». قال: قلت: وإن كان شعر حقّ؟ قال: «وإن كان شعر حقّ »(3).

ص: 265


1- بحار الأنوار/ ج 76، ص 292.
2- المصدر السابق / ص 293.
3- وسائل الشيعة / ج 10، ص 169، الباب 13 من أبواب آداب الصائم، ح 1.

ومنها: صحيحه الآخر عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا ينشد الشعر بليل، ولا ينشد في شهر رمضان بليل ولا نهار»، فقال له إسماعيل: يا أبتاه، فإنّه فينا! قال: «وإن كان فينا»(1).

وهما يدلاّن على مرجوحية الشعر في مطلق الليل وفي شهر رمضان مطلقاً؛ ليلاً كان أو نهاراً. وقد دلّت الرواية الاُولى - مضافاً إلى ذلك - على مرجوحية الشعر في حال الإحرام وفي يوم الجمعة وفي الحرم، وظاهر الرواية الثانية هو النهي ومقتضاه الحرمة. ولكنّ الرواية الاُولى تدلّ على الكراهة، أللهمّ إلاّ أن يقال: بعدم كون فعل «يكره» ظاهراً في الكراهة الاصطلاحية. نعم، يمكن حمل النهي في الرواية الثانية والكراهة في الرواية الاُولى على الاصطلاحية بالقرائن الخارجية؛ كالإجماع على عدم حرمة ذلك، وذهاب الأصحاب إلى الكراهة دون الحرمة، وعليه فيدلاّن على كراهة مطلق الأشعار في مطلق الليالي، وفي شهر رمضان مطلقاً؛ ليلاً كان أو نهاراً.

ويعارضهما ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب الآداب الدينية عن خلف بن حمّاد قال: قلت للرضا عليه السلام: إنّ أصحابنا يروون عن آبائك عليهم السلام أنّ الشعر ليلة الجمعة ويوم الجمعة وفي شهر رمضان وفي الليل مكروه، وقد هممت أن أرثي أبا الحسن (في ليلة الجمعة - خ ل)، وهذا شهر رمضان ؟ فقال لي: «اِرثِ أبا الحسنفي ليلة الجمعة وفي شهر رمضان وفي الليل وفي سائر الأيّام؛ فإنّ الله يكافئك على ذلك»(2).

واختصاصه بالمراثي لا يقدح في التعميم؛ لإمكان التعدّي عنها بعدم القول بالفصل كما ادّعي، على ما في المستمسك(3).

ص: 266


1- المصدر السابق / ح 2.
2- المصدر السابق / ج 14، ص 599، الباب 105 من أبواب المزار، ح 8.
3- مستمسك العروة الوثقى / ج 8، ص 337.

وفيه: أنّ الرواية ضعيفة، ومع ضعفها لا تصلح للمعارضة، أللهمّ إلاّ أن يقال: بانجبار ضعفها بما حكي من عدم عمل الأصحاب بعموم الروايتين بالنسبة إلى المراثي والمدائح والحِكَم. هذا مضافاً إلى ما ادّعي من موافقة عموم الكراهة للعامّة، وعليه فقوله: «وإن كان فينا» تقيّة؛ للروايات المتعدّدة الدالّة على ترغيب الشعراء نحو مدح أهل البيت عليهم السلام، أو ترغيب الناس نحو تعليم بعض الأشعار الحقّة للأطفال، أو تجويز الشعر حال السفر أو حال الطواف وغير ذلك. ولعلّه لذلك ذهب الشهيدان في الذكرى وغيرها. والمحقّق الثاني وصاحب المدارك إلى اختصاص الكراهة في شهر رمضان بغير المراثي ومدح الأئمّة عليهم السلام.

فالمكروه من الشعر هو المنظوم في غير مراثي أهل البيت عليهم السلام، ومدائحهم بل يكره الشعر غير الحِكَمي بناءً على إلحاقه بهما كما لعلّه لا يبعد ذلك؛ قال في العروة في مكروهات الصوم: «الثالث عشر: إنشاد الشعر، ولا يبعد اختصاصه بغير المراثي أو المشتمل على المطالب الحقّة من دون إغراق أو مدح الأئمّة عليهم السلام، وإن كان يظهر من بعض الأخبار التعميم»(1).

وهذا الجمع أولى ممّا ذهب إليه في الوافي من التفصيل: بين ما إذا كان الشعر تخييليّاً فالحكم بكراهته مطلقاً وإن كان في مدح أهل البيت عليهم السلام، وبين ما إذا لم يكن كذلك فالحكم بعدم الكراهة؛ لأنّه لا شاهد عليه، بل هو جمع تبرّعي، وهذا لفظه:

«قال في ذيل الصحيحة الاُولى من حمّاد: الإنشاد قراءة الشعر، والشعر غلب على المنظوم من القول، وأصله: الكلام التخييلي الذي هو إحدى الصناعات الخمس نظماً كان أو نثراً. ولعلّ المنظوم المشتمل على الحكمة والموعظة أو المناجاة مع الله سبحانه ممّا لم

ص: 267


1- العروة الوثقى / المحشاة بتعليقات الفقهاء العظام، ج 3، ص 589..

يكن فيه تخييل شعري مستثنى عن هذا الحكم أو غير داخل فيه؛ لما ورد أنّ ما لا بأس به من الشعر فلا بأس به.

وقال في ذيل قوله عليه السلام: «وإن كان فينا» في الصحيحة الثانية: أي في مدحنا أهل البيت؛ وذلك لأنّ كونه في مدحهم عليهم السلام لا يخرجه عن التخييل الشعري - إلى أن قال: - كون موضوع الكلام حقّاً كحكمة أو موعظة لا يخرجه عن التخييل الشعري، فأمّا إذا لم يكن كلاماً شعريّاً بل كان موزوناً فقط فلا بأس»(1).

والوجه في أولوية الجمع بين الأخبار بشهادة بعض الأخبار: أنّ الجمع المذكور في كلامه - لو لم يرد منه ما ذكرناه - هو جمع تبرّعي لا شاهد له.

فتحصّل ممّا ذكرناه إلى الآن: أنّ الشعر إذا كان مؤدّياً إلى الضلال والفساد يكون مكروهاً بل محرّماً، وتزيد الكراهة أو الحرمة بحسب اختلاف الأيّام والأزمنة بل والأمكنة والأحوال الشريفة عدا ما استثني، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

المقام الثالث: في النصوص الدالّة على رجحان الأشعار المنظومة في رثاء و مدح أهل البيت عليهم السلام أو الأشعار الحقّة

وهي على طوائف:

منها: ما دلّ على الترغيب في رثاء الحسين عليه السلام، كمعتبرة زيد الشحّام - في حديث - أنّ أبا عبدالله عليه السلام قال لجعفر بن عفّان الطائي: «بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيد؟»، قال: نعم، فأنشده، فبكى ومن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال: «يا جعفر، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون هاهنا يسمعون قولك في الحسين،

ص: 268


1- الوافي / ج 11، ص 220.

ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله لك - يا جعفر - في ساعتك الجنّة بأسرها، وغفر لك»، فقال: «ألا أزيدك ؟»، قال: نعم يا سيّدي، قال: «ما من أحد قال في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له»(1).

والسند موثّق، إلاّ أنّ زيداً الشحّام لم يوثّق توثيقاً خاصّاً، لكن يكفي في وثاقته نقل جماعة كتابه منهم صفوان بن يحيى، مضافاً إلى نقل جماعة من الأجلاّء عنه.

ومن المعلوم أنّ الترغيب المذكور بنحو مطلق من دون تقييد لا يتناسب مع كراهته بالفعل ولو في بعض الأيّام والليالي، والروايات بهذا المضمون متعدّدة متضافرة.

ومنها: ما دلّ على الترغيب في مدح الأئمّة عليهم السلام.

مثل معتبرة عبدالله بن الفضل الهاشمي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتاً في الجنّة»(2).

والسند موثّق، إلاّ أنّ عبدالله بن الفضل الهاشمي لم يوثّق. ولكن يكفيه رواية ابن أبي عمير عنه.

ومثل: صحيحة عبيد بن زرارة عن أبيه قال: دخل الكميت بن زيد على أبي جعفر عليه السلام وأنا عنده، فأنشده:

مَن لِقلب مُتَيَّم مُستَهامِ .................

فلمّا فرغ منها قال للكميت: «لاتزال مؤيّداً بروح القدس ما دمت تقول فينا»(3).

ومثل: خبر عبدالله بن حمّاد عن أبي عبدالله عليه السلام، وذكر حديثاً طويلاً في ثواب زيارة

ص: 269


1- وسائل الشيعة / ج 14، ص 593، الباب 104 من أبواب المزار، ح 1.
2- وسائل الشيعة / ج 14، ص 597، الباب 105 من أبواب المزار، ح 1.
3- المصدر السابق / ص 598، ح 4.

الحسين عليه السلام - إلى أن قال: - بلغني أنّ قوماً يأتونه (أي الحسين عليه السلام) من نواحي الكوفة وناساً غيرهم ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان؛ فمن بين قارئ يقرأ وقاصّ يقصّ ونادب يندب وقائل يقول المراثي»، فقلت له: نعم، قد شهدت بعض ما تصفه، فقال: «الحمد لله الذي جعل في الناس من يَفِد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدّدونهم ويقبّحون ما يصنعون»(1).

والحديث موثّق إلاّ أنّه مشتمل على علىّ بن محمّد بن سليمان النوفلي الواقع في الطريق، وهو غير النوفلي المعروف الذي اعتمد الأصحاب عليه في نقل روايات السكوني، فلا تغفل.

وإلى غير ذلك من الروايات المستفيضة.

ومنها: ما دلّ على عدم البأس بالأشعار الحقّة، مثل: صحيحة عليّ بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الكلام في الطواف وإنشاد الشعر والضحك في الفريضة أو غير الفريضة، أيستقيم ذلك ؟ قال: «لا بأس به، والشعر ما كان لا بأس به منه». وفي نسخة مكان «منه»: «مثله»(2).

والحديث يدلّ على عدم البأس بإنشاد الشعر في الحرم وحال الإحرام والطواف فيما إذا لم يكن الشعر من الأشعار الجاهلية التي فيها البأس، فالأشعار الحقّة ما تكون مشمولة للأخبار الدالّة على الذمّ للجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ الصحيحة أخصّ من المطلقات، فإذا لم يكن بأس بإنشاد الشعر في حال الطواف في المسجد الحرام والحرم فعدم البأس في سائر المساجد أولى.

ص: 270


1- المصدر السابق / ص 599، ح 7.
2- جامع الأحاديث / ج 11، ص 329.

ومنها: ما دلّ على الترغيب في تعليم الأشعار للأطفال والأولاد، مثل ما رواه في كمال الدين عن السيّد الجليل شمس الدين فخّار بن معد الموسوي في كتاب الحجّة في إيمان أبي طالب بإسناده عن أبي الفرج الأصفهاني قال: حدّثني أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري قال: حدّثنا أبو الحسن محمّد بن عليّ بن المعمّر الكوفي قال: حدّثنا عليّ بن أحمد مسعدة بن صدقة، عن عمّه، عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) أنّه قال: «كان أميرالمؤمنين عليه السلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب وأن يُدوَّن، وقال: تعلّموه وعلّموا أولادكم؛ فإنّه كان على دين الله، وفيه علم كثير»(1).

ومثل: ما رواه الكشّي عن نصر بن صباح، عن إسحاق بن محمّد البصري، عن محمّد بن جمهور، عن أبي داود المسترق، عن عليّ بن النعمان، عن سماعة قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «يا معشر الشيعة! علّموا أولادكم شعر العبدي؛ فإنّه على دين الله»(2).

ومنها: ما دلّ على الترغيب في الشعر لتنوح به النساء، فقد روى الكشّي عن محمّد بن مسعود، عن حمدان بن أحمد، عن سليمان المسترق، عن سفيان بن مصعب العبدي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «قل شعراً تنوح به النساء»(3).

ومنها: ما دلّ على استثناء ما ليس فيه جفاء، مثل: ما رواه في المحاسن عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبدالله عليه السلام: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: زاد المسافر الحداء، والشعر ما كان منه ليس فيه جفاء»(4).

ص: 271


1- المصدر السابق / ج 6، ص 190.
2- بحار الأنوار / ج 76، ص 293.
3- المصدر السابق.
4- المحاسن / ج 2، ص 358.

ومنها: ما فصل بين الصدق وغيره أو بين القليل والكثير، مثل: موثّقة سماعة قال: سألته عن نشيد الشعر هل ينقض الوضوء، أو ظلم الرجل صاحبه، أو الكذب ؟ فقال: «نعم، إلاّ أن يكون الشعر يصدق فيه، أو يكون يسيراً من الشعر؛ الأبيات الثلاثة والأربعة، فأمّا أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء»(1).

ومنها: ما دلّ على قراءة بعض الأنبياء والأئمّة عليهم السلام بعض الأشعار في بعض الأحوال، مثل: ما رواه في العيون والخصال: سأل الشاميّ أميرالمؤمنين عليه السلام عن أوّل من قال الشعر؟ فقال: «آدم عليه السلام»، فقال: وما كان شعره ؟ قال: «لمّا اُنزل على الأرض من السماء فرأى تربتها وسعتها وهواها وقتل قابيل هابيل فقال آدم عليه السلام:

تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عَلَيْها *** فَوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ

تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْن وَطَعْم *** وَقَلَّ بَشاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحِ »(2).

ومثل: ما حكي عن أميرالمؤمنين عليه السلام:

محمّد النبيّ أخي وصنوي *** وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يضحي ويمسي *** يطير مع الملائكة ابن اُمّي

وبنت محمّد سَكَني وعرسي *** منوطٌ لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها *** فأيّكم له سهم كسهمي ؟!

سبقتكم إلى الإسلام طرّاً *** على ما كان من فهمي وعلمي

فأوجب لي ولايته عليكم *** رسولُ الله (ص) يوم غدير خمّ

ص: 272


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 269، الباب 8 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.
2- بحار الأنوار / ج 76، ص 290

فويلٌ ثمّ ويلٌ ثمّ ويلٌ *** لمن يلقى الإله غداً بظلمي!!(1)

ومنها: ما اشتهر عن سيّدنا الحسين عليه السلام في ليلة العاشر من المحرّم ويومه سيّما إذا كان جمعة، وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام(2)، وما روي عن الإمام الرضا عليه السلام(3)، وغير ذلك من الأشعار والأراجيز المنقولة في الحروب.

ومنها: ما روي في ترغيب الشعراء وحثّهم إلى هجاء الكفّار، قال العلاّمة الأميني قدس سره في كتاب الغدير:

«وكان صلى الله عليه وآله يحثّ الشعراء إلى هذه الناحية، ويأمرهم بالاحتفاظ بها، ويرشدهم إلى أخذ حديث المخالفين له وأحسابهم وتأريخ نشآتهم ممّن يعرفها وهجائهم، كما كان يأمرهم بتعلّم القرآن العزيز، وكان يراه نصرةً للإسلام وجهاداً دون الدين الحنيف، وكان يصوّر للشاعر جهاده وينصّ به ويقول:

«اهجوا بالشعر؛ إنّ المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمّد بيده كأنّما تنضحونهم بالنبل»، وفي لفظ آخر: «فكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل»، وفي ثالث: «والذي نفس محمّد بيده فكأنّما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر».

وكان صلى الله عليه وآله يثوّر شعراءه إلى الجدال بنبال النظم وحسام القريض، ويحرّضهم إلى الحماسة في مجابهة الكفّار في قولهم المضادّ لمبدئه القدسيّ ويبثّ فيهم روحاً دينيّاً قويّاً، ويؤكّد فيهم حميّةً تجاه الحميّة الجاهلية، وكان يوجِد فيهم هياجاً ونشاطاً في النشر والدعاية، وشوقاً مؤكّداً إلى الدفاع عن حامية الإسلام المقدّس، ورغبةً في المجاهدة

ص: 273


1- الغدير / ج 2، ص 53-54.
2- كنزالدقائق / ج 9، ص 523-524.
3- جامع الأحاديث / ج 6، ص 191.

بالنظم بمثل قوله صلى الله عليه وآله للشاعر: «اهجُ المشركين؛ فإنّ روح القدس معك ما هاجَيْتَهم»، وقوله: «هجُهُم؛ فإنّ جبرئيل معك»(1).

ومنها: ما دلّ على ارتياح النبيّ صلى الله عليه وآله ونشاطه ببعض الأشعار، كارتياحه لشعر عمّه شيخ الأباطح أبي طالب - سلام الله عليه - لمّا استسقى فسقي، قال: «لله درّ أبي طالب! لو كان حيّاً لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله ؟».

فقام علىّ بن أبي طالب وقال: كأنّك أردت يا رسول الله:

وأبيض يُسْتَسْقَى الغَمامُ بِوَجْهِهِ *** رَبِيع(2) اليَتامى عِصْمَة للأرامِلِ

تَلُوذُ بِهِ الهُلاّكُ مِنْ آلِ هاشِم *** فَهُم عِنْدَهُ فِي نعْمَة وفَواضِلِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «أجل»...

وكارتياحه لشعر عمّه العبّاس بن عبد المطلّب ولشعر عمرو بن سالم ولشعر النابغة الجعدي ولشعر كعب بن زهير لمّا أنشده في مسجده الشريف لاميّته التي أوّلها:

بانَتْ سُعادُ فَقَلْبِي اليَومَ مَتْبُولُ *** متيّمٌ إثرها لَم يُفْدَ مَكْبُولُ

وكارتياحه لشعر عبدالله بن رواحة ولشعر حسّان بن ثابت يوم غدير خمّ ودعائه له بقوله: «لاتزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

ومن أشعاره:

يُنادِيهُمُ يَوْمَ الغَدِيرِ نَبِيُّهُم *** بِخُمّ وأسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا

فَقَالَ فَمَنْ مَوْلاكُمُ ونَبِيِّكُم *** فَقالوا وَلَمْ يُبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا

إلهُكَ مَوْلانا وأنْتَ نَبِيُّنا *** وَلَمْ تَلْقَ مِنّا فِي الوِلايَةِ عاصِيا

ص: 274


1- الغدير / ج 2، ص 23.
2- وفي بعض النسخ: «ثمال»؛ أي غياثهم.

فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَلِىُّ فَإِنَّني *** رَضِيْتُكَ مِنْ بَعْدِي إماماً وهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ *** فَكُونُوا لَهُ أتْباعَ صِدْق مَوالِيا

هُناكَ دَعَا اللّهُمّ والِ وَلِيَّهُ *** وَكُنْ لِلَّذِي عادَى عَلِيّاً مُعادِيا

وكارتياحه لشعر أبي بكير الهذلي، وغير ذلك»(1).

ثمّ إنّ الحثّ والترغيب إلى إنشاد الأشعار الواردة في فضائل أهل البيت ورثائهم كان مستمرّاً ومتناقلا بين الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم بحيث لا تبعد دعوى السيرة القطعية على رجحان تلك الأشعار بل سائر الأشعار الحقّة، كما تشهد له محافلهم ومجالسهم في الأيّام والليالي المختلفة، مضافاً إلى ذلك: تدوينهم دواوين الشعر التي حكاها في الفهرست وغيره من كتب التراجم.

المقام الرابع: في كيفية الجمع بين الأخبار والأدلّة

اشارة

لا يخفى عليك أنّ النسبة بين الأخبار بعضها إزاء بعض مختلفة:

فإن كانت النسبة بينهما العموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد فحينئذ يخصّص العموم أو يقيّد الإطلاق.

ومثال ذلك: ما ورد في جوازه عند الطواف في المسجد الحرام إذا لم يكن في محتواه بأس، فيقدّم ما دلّ على الجواز على ما نهي عنه في حال الإحرام أو المسجد أو الحرم؛ قضاءً لأخصّيّة ما دلّ على الجواز. فإذا كان الشعر الذي لا بأس فيه جائزاً في المسجد الحرام - حال الطواف والإحرام - والحرم للأخصّيّة فلا مانع منه في سائر المساجد بطريق أولى، كما لايخفى.

ص: 275


1- انظر: الغدير / ج 2، ص 17-22، 65.

وأمّا النسبة بين هذه الأخبار وبين الأخبار الناهية عن الشعر في الليالي والأيّام فهي العموم من وجه؛ إذ الشعر الذي ليس فيه بأس قد يكون في النهار أو يكون في الليل؛ في غير شهر رمضان أو في شهر رمضان؛ في يوم الجمعة أو غير يوم الجمعة، كما أنّ الشعر المنهي عنه في تلك الأيّام والليالي قد يكون فيه ما فيه بأس أو لا يكون كذلك، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه.

وأيضاً النسبة بين ما رغّب نحو رثاء الحسين أو أهل البيت عليهم السلام أو مدحهم وبين ما دلّ على النهي عن الشعر في الليالي أو الأيّام الخاصّة - كيوم الجمعة أو ليالي شهر رمضان وأيّامه - هي العموم من وجه؛ لأنّ الرثاء أو المدح قد يقع في الليالي أو في الأيّام، في غير يوم الجمعة، أو في يوم الجمعة، في أيّام شهر رمضان ولياليه أو في غيرها كما أنّ الشعر في الليالي أو يوم الجمعة قد يكون رثاءً أو مدحاً لأهل البيت عليهم السلام وقد يكون غيرهما من أنواع الشعر، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه.

وكذا ما دلّ على جواز الشعر الذي ليس فيه جفاء في السفر فإنّه أعمّ من أن يكون في الليالي أو يوم الجمعة، ومن أن يكون في ليالي شهر رمضان وأيّامه أو في غيرها، فتكون النسبة بينه وبين ما نهى عن الشعر في تلك الأيّام والليالي مطلقاً - سواء كان فيه جفاء أو لم يكن - هي العموم من وجه.

وقس على هذا النسبة بين ما دلّ على الأمر بتعليم بعض الأشعار للأطفال أو النساء، أو الأمر بهجاء الكفّار بالشعر، وبين ما نهى عن الشعر مطلقاً؛ فإنّ بينهما نسبة العموم من وجه. وبالجملة: ففي كلّ مورد تكون النسبة بينهما العموم من وجه فلا مجال للتخصيص أو التقييد، بل مقتضى القاعدة هو التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصل لو لم نعلم بصدورهما، وأمّا مع العلم بصدور الطرفين فمقتضى القاعدة هو التزاحم في مورد

ص: 276

المزاحمة والرجوع إلى الأهمّ وسقوط الآخر عن الفعلية، ولعلّ الأهمّ يختلف باختلاف الموارد.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الأهمّ هو ما تقع عليه السيرة من ذكر فضائل أهل البيت ومدائحهم ورثائهم بالشعر ولو في الليالي أو يوم الجمعة أو في أيّام شهر رمضان ولياليه، فتدبّر جيّداً.

ويؤيّد ذلك: ما حكي عن «كفاية الأثر في النصّ على الأئمّة الإثني عشر» عن أبي المفضّل الشيباني، عن جعفر بن محمّد بن القاسم العلوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطيّة، عن عمر بن يزيد، عن الورد بن كميت، عن أبيه قال: دخلت على سيّدي أبي جعفر الباقر عليه السلام فقلت: ياابن رسول الله، إنّي قلت فيكم أبياتاً، أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال: «إنّها أيّام البيض»، قلت: فهو فيكم خاصّة! قال: «هات»، فأنشأت أقول:

أضْحَكَني الدَّهْرُ وأبْكاني *** وَالدَّهْرُ ذُو صرف وألوانِ (1)

هذا مضافاً إلى قوّة دعوى ظهور الترغيبات والحثّ على الرثاء والمديح في رجحانها مطلقاً من دون تقييد، فتأمّل جيّداً.

فتحصّل: أنّه لا حزازة في الشعر إذا كان صادقاً وحقّاً أو رثاءً أو مدحاً لأهل البيت عليهم السلام، أو هجاءً للكفّار الذين يهجون المسلمين. ولا فرق فيه بين الأيّام والليالي بعد تقديم موارد الجواز والترغيب نحو المطلقات؛ للأخصّية أو للأهمّية على التفصيل الذي عرفت آنفاً.

وأمّا إذا كان الشعر باطلا فهو مكروه في الليالي وأيّام شهر رمضان ولياليه ويوم

ص: 277


1- بحار الأنوار / ج 68، ص 415.

الجمعة، بل قد يكون محرّماً إذا كان كذباً وضلالة، وتختلف هذه الحزازة باختلاف أهمّية الأيّام والليالي. ولعلّ ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله: «إنّ من الشعر لحكماً»(1) ناظر إلى القسم الأوّل، والله العالم.

بقي شيء: وهو أنّه روى الصدوق قدس سره في معاني الأخبار بسند صحيح عن حمّاد بن عثمان، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ )(2) ، قال: «هل رأيت شاعراً يتّبعه أحد؟! إنّما هم قوم تفقّهوا لغير الدين فضلّوا وأضلّوا»(3).

وروى نحوه في شرح الآيات الباهرة محمّد بن جمهور بإسناده يرفعه إلى أبي عبدالله عليه السلام في قوله عزّ وجلّ : (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ) ، فقال: من رأيتم من الشعراء يتّبع ؟! إنّما عنى هؤلاء الفقهاء الذين يُشعِرون قلوب الناس بالباطل؛ فهم الشعراء الذين يُتَّبَعون»(4).

ويحتمل أن يكون المقصود من الروايتين إلحاق مورد متّحد معه في الملاك وهم الفقهاء الضالّون والمضلّون؛ لأنّهم وإن لم يصدق عليهم عنوان الشعراء - على ما عرفت من اختصاص الشعر بالنظم لغلبة استعماله فيه - ولكن يشملهم بملاك ذمّ الشعراء وهو القول بالكذب والباطل. ولكون اتّباع الشعراء في قبال اتّباع الفقهاء الضالّين والمضلّين قليلا نفاه بقوله: «هل رأيت شاعراً يتّبعه أحد؟!»، فالنفي إضافيّ بالنسبة إلى أتباع الفقهاء المذكورين؛ وإلاّ فلا خفاء في أنّ للشعراء أيضاً أتباعاً في الجملة.

ص: 278


1- المصدر السابق / ج 68، ص 415.
2- سورة الشعراء / الآية 224.
3- كنز الدقائق / ج 9، ص 521.
4- المصدر السابق / ص 523.

وممّا ذكر يظهر الجواب أيضاً عن مرسلة الصدوق، حيث قال في اعتقاداته: «وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ) ، قال: «هم القصّاص»»(1).

وعليه، فغير الشعر من كلام المبطلين والمضلّين ملحق به إذا كان متّحداً معه في الملاك وإن استعمل لفظ «الشعراء» في معناه الاصطلاحي.

ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام: «إنّما هم قوم تفقّهوا لغير الدين فضلّوا وأضلّوا» بياناً للغاوين، وأنّهم هم المبطلون الذين يتّبعون الشعراء في ابتناء فتاويهم على القياس والاستحسان والإحساسات ونحوها، فالآية الكريمة - كما أفاد بعض الأكابر - تدلّ على أنّ تابعي الشعراء هم الفقهاء المذكورون؛ لغلبتهم بالنسبة إلى غيرهم، وعليه فكلمة «الشعراء» مستعملة في معناها الاصطلاحي كما لا يخفى.

ويحتمل أن يكون المقصود من الصحيحة: أنّ كلمة «الشعراء» استعملت في معناها الأصلي من الشعر - وهو العلم - سواء كان نظماً أو نثراً بقرينة اتّباع الغاوين؛ إذ لو اُريد منها المعنى الذي غلب استعماله فيها - وهو الذي أنشأ النظم والكلام الموزون - لَما كان لاتّباع الغاوين معنى واضح، فبقرينة الاتّباع المذكور يكون المراد من «الشعراء» هو الأعمّ من الشاعر الذي أنشأ النظم أو أنشده، فيشمل المبطلين والفقهاء المذكورين.

ولعلّه إليه يؤول المحكيّ عن الصافي: وهو شمول الشعراء للّذين صناعتهم الشعر وللمبطلين والمغيّرين لدين الله؛ فإنّ حجج المبطلين من أهل الجدل أكثرها خيالات شعرية لاحقيقة لها، وتمويهات لا طائل تحتها كأقاويل الشعراء، فكلا الفريقين سيّان في أنّهم في كلّ واد يهيمون وأنّهم يقولون ما لا يفعلون، إلاّ أنّ ذكر اتّباع الغاوين إنّما هو بالنظر

ص: 279


1- المصدر السابق / ص 522.

إلى من له رئاسة في الإضلال من أهل المذاهب الباطلة.

وأورد عليه المحقّق القمّي: بأنّ هذا الكلام خروج عن طريقة فهم الألفاظ؛ لأنّ غاية الأمر جواز استعمال اللفظ في معنى عامّ يشمل المعنيين، ومع ذلك فيتبع متعلّقات ذلك اللفظ لما اُريد منه بمعنى مناسب للقدر المشترك، وأمّا جعل بعض متعلّقاته راجعاً إلى أحد المعنيين الأوّليّين دون الآخر فليس من طريقة أهل اللسان - إلى أن قال: - فالأنسب فيما رامه من التوفيق أن ينزّل «الشعراء» على معنى عامّ يشمل صاحبي صناعة الشعر والمبطلين من أهل الجدل، والاتّباع على مجرّد الإصغاء والاستماع والركون إليه، كما في قوله تعالى: (يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )(1) لا خصوص الاتّباع من حيث الرئاسة والمرؤوسية(2).

ولعلّ الاحتمال الثاني أظهر؛ لعدم لزوم استعمال لفظ «الشعراء» في غير ما غلب استعماله فيه.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في حكم استماع الأشعار

التنبيه الأوّل: إنّ المكروه أو الحرام هو إنشاد الشعر وقراءته، وأمّا الاستماع فلا يكون كذلك إلاّ إذا صدق عليه عنوان محرّم كالغيبة فيحرم الاستماع، أو كان منكراً من المنكرات فيجب النهي ولو بترك الوقوف والاستماع؛ وذلك لعدم صدق قراءة الشعر وإنشاده على مجرّد الاستماع، وموضوع الأخبار هو قراءة الشعر.

نعم، لو كان الاستماع موجباً للتأثّر والاتّباع فلا يبعد القول بالمنع عنه؛ لشمول قوله

ص: 280


1- سورة الزمر / الآية 18.
2- انظر: جامع الشتات / كتاب الصوم.

تعالى: (وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ ) لذلك، فتدبّر جيّداً.

التنبيه الثاني: في أنّ اتّصاف الأشعار بالمرجوحية من جهة اشتمالها على الباطل فقط أو مع ضميمية النظم والوزن

التنبيه الثاني: هل اتّصاف الشعر بالمرجوحية في موارد المرجوحية هو من جهة اشتماله على الباطل فقط، أو من جهة كونه كذلك مع ضميمة دخالة النظم والوزن ؟

وجهان:

من أنّ الوزن والنظم لا يكونان مرجوحين، والشاهد عليه: هو ارتفاع المرجوحية فيما إذا كان محتواه حقّاً ومدحاً ورثاءً لأهل البيت عليهم السلام.

ومن أنّ للوزن والنظم مدخلية في سرعة نشر الباطل وإشاعته.

ويلزم من الأوّل: القول بمرجوحية النثر بمجرّد مماثلته للشعر في الاحتواء على الباطل.

ويلزم من الثاني: عدم التعدّي؛ لاحتمال مدخلية النظم والوزن في المرجوحية. نعم، لو كان مدلول النثر ضلالةً وإضلالاً حرمت قراءته ونشره على كلّ حال.

التنبيه الثالث: لا فرق في مذمومية الشعر أو حرمته أو جوازه ورجحانه بين أن يكون المنشد له رجلاً أو امرأة؛ وذلك لإطلاق أدلّة ذمّ الشعر أو رجحانه، فلا وجه للتفصيل بينهما.

ويشهد له: أنّه كان يوجد عدد من النساء المسلمات الشواعر، وقد تلقّى العلماء والمتديّنون أشعارهنّ المحتوية على الحقّ والمدح والرثاء لأهل البيت عليهم السلام بالقبول، أو الردّ لو لم يكن محتواها ذلك.

ص: 281

ص: 282

المسألة الخامسة والثلاثون «في العجب»

اشارة

ويقع الكلام في عدّة جهات:

الجهة الاُولى: في تعريف العجب المذموم

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «وهو أن يرى المرء نفسه غير مقصّر في مقام العبودية؛ ومؤدّياً لحقّ الربوبية»(1).

وفيه: أنّه تعريف للشيء ببعض مصاديقه أو مراتبه؛ لأنّ العجب - لما أفاد في جامع السعادات(2) -: هو استعظام نفسه لأجل ما يرى لها من صفة كمال. وهو أعمّ من التعريف السابق.

نعم، عمّم السيّد المحقّق الخوئي قدس سره تعريفه في باب الوضوء حيث قال فيه: «العجب - على ما يظهر من أهل اللغة - معناه: هو إعظام العمل واعتقاد أنّه عظيم؛ إمّا لكيفيتّه، وإمّا

ص: 283


1- التنقيح في شرح العروة / ج 5، ص.
2- جامع السعادات / ج 1.

لكميّته، وإمّا من جهة صدوره منه»(1).

ثمّ إنّ العجب ليس بمساو للكبر؛ لعدم اعتبار رؤية نفسه فوق الغير في هذا الكمال وهذه النعمة في مفهومه، بخلاف الكبر فإنّه: هو أن يرى لنفسه مزيّة على غيره في صفة كمال»(2). وكيف كان، فالعجب إمّا متأخّر عن العمل أو مقارن له.

الجهة الثانية: في ذمّه

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «لا شبهة في قبح صفة العجب تكويناً، بل كشفها عن خفّة عقل صاحبها؛ ضرورة أنّ العاقل الكيّس متى لاحظ وفور نعم الباري تعالى البالغة من الكثرة حدّاً لاتحصى - ومن أبرزها نعمة الوجود، ثمّ النعم الظاهرية والباطنية - يرى نفسه عاجزاً عن أداء شكر واحدة منها، كيف وهو ممكن لايزال يستمدّ القوى من بارئه، ولا يستغني عنه طرفة عين، بل يفتقر إليه في جميع حالاته حتّى حالة التصدّي للشكر، فيحتاج إلى شكر آخر، فيتسلسل ؟! ومنه تعرف أنّه لو استغرق في العبادة طيلة حياته واستوعبت ليله ونهاره؛ لم يكن يقابل نعمة من نعمه الجزيلة، فكيف وهو لا يتشاغل بها إلاّ في بضع ساعات ؟! فإعجابه بعبادته الضئيلة التي استمدّ مبادئها منه تعالى، والحقيرة تجاه تلكم النعمة العظيمة، وهو بهذه المثابة من العجز بحيث لا يستطيع من أداء شكر نعمة الوجود فقط، فضلاً عن سائر النعم - في غاية القبح والوهن، بل لا يكاد يجتمع مع سلامة العقل، إلاّ إذا فرض محالاً أنّه واجب الوجودثان، فلعلّ مثله يتمكّن من أداء شكره؛

ص: 284


1- التنقيح في شرح العروة / ج 5، ص 29-30.
2- جامع السعادات / ج 1، ص 321.

لعدم انتساب وجوده إليه تعالى»(1).

وأمّا مطلق الإعجاب فهو أيضاً كذلك؛ لعدم الاطّلاع على قبول العمل؛ إذ يمكن أن تمنع عنه بعض الاُمور الخفيّة، كما ورد أنّ نيّة السوء لمؤمن تمنع عن قبول الأعمال، هذا مضافاً إلى عدم إحراز حسن العاقبة، وعدم الاطمئنان بدوام ما رآه حسناً وبقائه، ومعه كيف نطمئنّ بالأعمال ونتوكّأعليها؟! قال المحقّق النراقي قدس سره: «وقد ورد: «العَجَب كلّ العَجَب ممّن يعجب بعمله وهو لا يدري بِمَ يختم له!». فمن اُعجب بنفسه وفعله فقد ضلّ عن نهج الرشاد، وادّعى ما ليس له، والمدّعي من غير حقّ كاذب وإن أخفى دعواه وطال دهره. وأنّ أوّل ما يفعل بالمعجب نزع ما اُعجب به؛ ليعلم أنّه عاجز حقير، ويشهد على نفسه؛ ليكون الحجّة عليه أوكد، كما فعل بإبليس»(2).

وقد روى الكليني في الكافي عن أبى عبدالله عليه السلام أنّه قال: «من دخله العجب هلك»(3).

وفي نهج البلاغة: «سيّئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك».(4) فالإعجاب يوجب انقلاب الحسنة إلى ما يكون أدون من السيّئة.

وفي عدّة الداعي: وقال المسيح عليه السلام: «يا معشر الحواريّين، كم من سراج أطفاه الريح! وكم من عابد أفسده العجب!»(5).

ص: 285


1- كتاب الصلاة / ج 3، ص 44.
2- جامع السعادات / ج 1، ص 324.
3- وسائل الشيعة / ج 1، ص 101، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 8.
4- المصدر السابق / ص 105، ح 22.
5- جامع الأحاديث / الباب 15 من أبواب المقدمات، ح 21.

وفي صحيحة داود الرقّي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «اتّقوا الله، ولا يحسد بعضكم بعضاً؛ إنّ عيسى بن مريم عليه السلام كان من شرائعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير - وكان كثير اللزوم لعيسى بن مريم عليه السلام - فلمّا انتهى عيسى عليه السلام إلى البحر قال: بسم الله؛ بصحّة يقين منه، فمشى على ظهر الماء، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السلام جازه قال: بسم الله؛ بصحّة يقين منه، فمشى على الماء ولحق بعيسى عليه السلام، فدخله العجب بنفسه، فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء، فما فضله علىّ - قال: - فرمي في الماء فاستغاث بعيسى عليه السلام، فتناوله من الماء فأخرجه، ثمّ قال له: ما قلت يا قصير؟ قال: قلت: هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي (على الماء)، فدخلني من ذلك عجب، فقال له عيسى عليه السلام: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيك، فمقتك الله على ما قلت، إلى الله عزّ وجلّ ممّا قلت، فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها...» الحديث(1).

وبالجملة، فلاإشكال في كون العجب مذموماً ومنقصة بجميع مراتبه.

الجهة الثالثة: في حرمة العجب

اشارة

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «وأمّا حكمه تشريعاً فلا ينبغي التأمّل في حرمته؛ لأوله إلى هتك حرمة المولى وتحقير نِعمه؛ إذ المعجب بعمله يرى نفسه غير مقصّر تجاه نعم ربّه؛ لأنّه قد أتى بما يساويها أو يزيد عليها، فلا يرى - والعياذ بالله - فضلاً له تعالى عليه، وهو من أعظم الكبائر والجرائم على أنّ النصوص الكثيرة - وفيها معتبرة - قد دلّت على الحرمة:

ص: 286


1- المصدر السابق / ح 8.

فمنها: مارواه الكليني بإسناد عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: إنّ من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي، فيقوم من رُقاده ولذيذ وساده، فيجتهد لي الليالي، فيتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين؛ نظراً منّي له، وإبقاءً عليه، فينام حتّى يصبح، فيقوم وهو ماقت لنفسه زارى لنفسه عليها. ولو اُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك، فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه؛ لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه، حتّى يظنّ أنّه قد فاق العابدين، وجاز في عبادته حدّ التقصير، فيتباعد منّي عند ذلك وهو يظنّ أنّه يتقرّب إلىّ »(1).

وهي وإن كانت واضحة الدلالة (من حيث كونه مظانّاً للفتنة والهلاك والتباعد عن المبدأ المتعال؛ لأنّها من علائم كبيرة الحرمة) إلاّ أنّ السند ضعيف؛ لاشتماله على داود ابن كثير الرقّي الذي تعارض فيه التوثيق والتضعيف، فلا يمكن التعويل عليها.

ومنها: معتبرة عبد الرحمان بن الحجّاج قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق، ثمّ يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العجب ؟ فقال: «هو في حاله الاُولى وهو خائف أحسن حالاً منه في حال عجبه».(2)

وهي أيضاً واضحة الدلالة؛ لأنّ مفادها أنّ المعصية مع الخوف أهون من العبادة مع العجب (والمراد من العمل - بقرينة المقابلة مع البرّ - هو المعصية)، كما أنّها معتبرة السند؛ إذ ليس فيه من يتأمّل فيه ما عدا محمّد بن عيسى العبيدي الذي استثناه الصدوق - تبعاً لشيخه ؟ ابن الوليد - من روايات يونس، لكنّك عرفت غير مرّة ما في

ص: 287


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 98، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1.
2- المصدر السابق / ص 99، ح 2.

هذا الاستثناء، وأنّه محكوم بالتوثيق، بل قيل: إنّه من مثله.

إذاً، فلا ينبغي التأمّل في أنّ الإعجاب مبغوض عقلاً ومحرّم شرعاً، بل قد عدّ من المهلكات فيما رواه الصدوق بإسناده عن أبي حمزة الثمالي»(1).

وقد أفاد وأجاد ولكن مع ذلك لا يخلو كلامه عن بعض المناقشات:

منها: أنّ ما ذكره في داود الرقّي من أنّه «تعارض فيه التوثيق والتضعيف، فلا يمكن التعويل على الرواية» منظور فيه؛ حيث إنّ التضعيف فيه ناشئ من رميه بالغلوّ وفساد المذهب، وفي مثله يقدّم التوثيق على التضعيف؛ لأنّ الغلوّ وفساد المذهب لا ينافيان التوثيق. هذا مضافاً إلى أنّ الغلوّ في ذلك العصر ربّما يتوهّم تحقّقه بما لم يكن غلوّاً، كما لا يخفى على أهله.

ومنها: أنّ الموضوع في الروايات أعمّ ممّا ذكره؛ لعدم اختصاصه بما إذا يرى نفسه غير مقصّر في مقام العبودية، وإن كان الخبر الأوّل كذلك. وإليك بعض تلك

الروايات:

أحدها: صحيحة أبي حمزة الثمالي

أحدها: صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي عبدالله عليه السلام أو علىّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات. قالوا: يا رسول الله، ما المنجيات ؟ قال صلى الله عليه وآله: خوف الله في السرّ كأنّك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنّه يراك والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر. قالوا: يا رسول الله، فما المهلكات ؟ قال صلى الله عليه وآله: هوىً متّبع، وشحّ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه»(2).

ومن المعلوم أنّ مقتضى عدم تقييده بشيء هو التعميم، فلا يختصّ ذلك بما ذكره السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، فإعجاب المرء بنفسه مطلقاً من المهلكات والمحرّمات.

ص: 288


1- مستند العروة / ج 3، ص 44-47.
2- جامع الأحاديث / الباب 15 من أبواب المقدمات، ح 4.
ثانيها: ما رواه المفيد في الأمالي

ثانيها: ما رواه المفيد في الأمالي: حدّثني الشيخ الجليل المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان - أدام الله تأييده - قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه قال: حدّثني محمّد بن يعقوب الكليني، عن علىّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى اليقطيني، عن يونس بن عبد الرحمان، عن سعدان بن مسلم، عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بينما موسى عليه السلام جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمّا دنا من موسى عليه السلام خلع البرنس وقام إلى موسى فسلّم عليه، فقال له موسى عليه السلام: من أنت ؟ فقال: أنا إبليس، قال: أنت فلا قرّب الله دارك! قال: إنّى إنّما جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله - قال: - فقال موسى عليه السلام: فما هذا البرنس ؟ قال: به أختطف به قلوب بني آدم فقال موسى عليه السلام: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه إبن آدم استحوذت عليه ؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه».

وقال: «قال الله عزّوجلّ لداود عليه السلام: يا داود، بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين. قال: كيف اُبشّر المذنبين واُنذر الصدّيقين ؟ قال: يا داود، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم؛ فإنّه ليس عبد أنصبه للحساب إلاّ هلك»(1).

وقدعبّر فيها عن مطلق إعجاب المرء بنفسه بالذنب، هذا مضافاً إلى أنّ المستفاد منها أنّه من المهلكات وممّا يوجب استحواذ الشيطان على الإنسان.

ثمّ إنّ اليقطيني وإن ضعّفه بعض، ولكنّه لا يقاوم توثيق الآخرين له؛ من جهة أنّ التضعيف - كما أفاد بعض الأكابر - ناشئ من رميه بالغلوّ.

ثمّ إنّ سعدان بن مسلم هو ممّن روى عنه صفوان، كما حكي عن الفهرست بسند فيه

ص: 289


1- المصدر السابق / ح 5.

ابن بُطّة، وعن النجاشي والخلاصة أنّ ابن بطّة كبير المنزلة بقم. قال ابن الوليد: كان محمّد بن جعفر بن بطّة ضعيفاً مخلّطاً فيما يسنده. والظاهر - كما أفاد بعض الأكابر - أنّ كونه مخلّطاً لا يضرّ بوثاقته؛ وذلك لاحتمال أن يكون وصف ابن الوليد إيّاه بالضعف ناظراً إلى ضعفه في الرواية لا في الوثاقة، ومع هذا الاحتمال لا يكون معارضاً مع ما في رجال النجاشي من أنّه: «كبير المنزلة بقم»، فلا تغفل.

ثالثها: صحيحة أبي حمزة الثمالي

ثالثها: صحيحة الثمالي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إنّ الله تعالى يقول: إنّ من عبادي لمن يسألني الشيء من طاعتي لأحبّه، فأصرف ذلك عنه؛ لكيلا يعجبه عمله»(1).

ولا يخفى أنّه مطلق، ولا يتقيّد بما ذكره السيّد المحقّق الخوئي قدس سره وهو بإطلاقه يدلّ على مبغوضية العجب.

رابعها: صحيحة علي بن سويد

رابعها: صحيحة عليّ بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن العجب الذي يفسد العمل ؟ فقال: «العجب درجات: منها: أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه، ويحسب أنّه يُحسِن صنعاً. ومنها: أن يؤمن العبد بربّه، فيمنّ على الله عزّ وجلّ ، ولله عليه فيه المنّ »(2).

وهذه الصحيحة تدلّ على درجات العجب ومراتبه، والإدلال من تلك المراتب كما أنّ توهّم حسن العمل السيّئ منها، والموردان مذكوران في الرواية من باب المثال. وكيف كان، فهي تدلّ على مفروغية كون العجب موجباً لفساد العمل، وأنّه لا إشكال في كون ما ذكر فيها من مراتب الضلالة والهلاكه.

خامسها: صحيحة يونس بن عمّار

خامسها: صحيحة يونس بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قيل له وأنا حاضر:

ص: 290


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 105، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 20.
2- المصدر السابق / ص 100، ح 5.

الرجل يكون في صلاته خالياً، فيدخله العجب ؟ فقال: «إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك، فليمضِ في صلاته وليخسأ الشيطان»(1).

وظاهرها مفروغية أنّ العجب المقارن يضرّ بصلاته. أللهمّ إلاّ أن تحمل على أنّ العجب موجب لنقص كمالها، وسيجيء وجهه إن شاء الله تعالى.

سادسها: ما رواه في الخصال

سادسها: ما في الخصال من أنّه: حدّثني أبي (رضي الله عنه) قال: حدّثنا علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عمّن ذكره، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفية: إيّاك والعجب، وسوء الخلق، وقلّة الصبر؛ فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب...» الحديث(2). وقوله: «عمّن ذكره» مرسل بالنسبة لنا، وإن كان غير مرسل عند الراوي.

وبالجملة، التعبير بالذنب عن العجب، وأنّه من المهلكات، وأنّه يحتاج إلى التوبة، وأنّه من مظانّ الفتنة والتباعد عن الله تعالى، وغير ذلك من التعبيرات، يدلّ على حرمة مطلق الإعجاب، فاللازم هو الاجتناب عنه مطلقاً، ولا وجه - مع كون موضوع تلك الأخبار هو مطلق العجب - لحمله على مورد خاصّ . نعم، حيث إنّ للعجب درجات فإنّ ملاك الحرمة يكون متفاوتاً بحسبها، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّ العجب يوجب الابتلاء باُمور تنتهي إلى الضلالة والجهل والكفر والبغى والظلم، وغير ذلك من المفاسد، كما روى في جامع السعادات: «إنّ العجب نباتٌ حبّها الكفر، وأرضها النفاق، وماؤها البغي وأغصانها الجهل، وورقها الضلالة، وثمرها اللعنة والخلود في النار، فمن اختار العجب فقد بذر الكفر وزرع النفاق، ولابدّ أن

ص: 291


1- المصدر السابق / ص 107، الباب 24 من أبواب مقدمة العبادات، ح 3.
2- جامع الأحاديث / الباب 15 من أبواب المقدمات، ح 34.

يثمر»(1).

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ الاستبشار بالأعمال الحسنة ليس بعجب؛ لأنّه خال عن استعظام النفس من جهة الأعمال المذكورة، بل هو استعظام لله في إعطاء توفيق تحقّقه، وهو من علائم خير العباد، كما ورد من أنّهم «إذا أحسنوا استبشروا»(2)، فلاتغفل.

ثمّ إنّ محلّ الكلام وإن كان هو إعجاب المرء بعمله، ولكنّ إعجاب المرء برأيه وعقله أيضاً كذلك؛ لأنّه من المهلكات. قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «ولا إشكال في أنّه من المهلكات؛ لأنّه إذا رأى نفسه أعقل الناس وترك مشاورتهم واستقلّ في أعماله برأيه، فلا محالة يقع في المهلكة والخسران»(3).

الجهة الرابعه: في البطلان وعدمه

اشارة

والكلام فيه يقع: إمّا في العجب المقارن، وإمّا في العجب المتأخّر:

العجب المقارن

أمّا الأوّل - (أي العجب المقارن) -: فقد قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في باب الصلاة: «إنّ ظاهر الأصحاب عدم كونه موجباً للبطلان؛ وذلك لأجل أنّ العجّب فعل نفسانيّ ، والصلاة عمل خارجيّ فلا اتّحاد بينهما ليسري الفساد منه إليها، ولادليل على بطلان الصلاة المقرونة بذلك بعد صدورها عن نيّة خالصة كما هو المفروض، وعدم خلل في شي ممّا يعتبر فيها، فالصحّة إذاً مطابقة لمقتضى القاعدة - إلى أن قال: - نعم، ربّما يستفاد الفساد ممّا رواه في الكافي بإسناده عن عليّ بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته

ص: 292


1- جامع السعادات / ج 1، ص 324.
2- وسائل الشيعة / ج 1، ص 106، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 2.
3- التنقيح في شرح العروة / ج 5، ص 40.

عن العجب الذي يفسد العمل ؟ فقال: «العجب درجات: منها: أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه، ويحسب أنّه يحسن صنعاً. ومنها: أن يؤمن العبد بربّه، فيمنّ على الله عزّ وجلّ ، ولله عليه فيه المنّ »(1)، فإنّ السند صحيح؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالراوي هو عليّ بن سويد السائي الذي وثّقه الشيخ من غير معارض، وقد دلّت على أنّ مفسدية العجب في الجملة أمر مسلّم مفروغ عنه عند الراوي، وقد أقرّه الإمام عليه السلام على ذلك. ولكنّ الظاهر أنّها غير دالّة على البطلان فيما نحن فيه؛ فإنّ الفساد في الدرجة الاُولى لم يطرأ على العمل الصحيح الذي هو محلّ الكلام، بل العمل كان فاسداً من الأوّل وإن حسب المعجب أنّه يحسن صنعاً، فتوصيف العجب بالمفسدية من قبيل قولنا: ضيّق فم الركيّة، وقوله تعالى: (يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ )(2) كما لا يخفى. وأمّا في الدرجة الثانية فالفساد أيضاً واضح؛ ضرورة أنّ المنّ مبطل للعمل، كما يكشف عنه قوله تعالى: (لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ ) فإنّ المنّة إذا كانت مبطلة للصدقة المعطاة للفقير فكيف لا تبطل الإيمان بالله الغنيّ وأين هذا كلّه من الفساد الذي نتكلّم حوله من إعجاب المرء بعبادته بحيث يرى نفسه غير مقصّر في مقام العبودية ومؤدّياً لحقّ الربوبية ؟! نعم، هو مبغوض ومحرّم كما تقدّم، إلاّ أنّ إبطاله للعمل لا دليل عليه»(3).

العجب المتأخّر

وأمّا الثاني - أي العجب المتأخّر -: فعدم كونه موجباً للبطلان أظهر؛ وذلك لما تقدّم في الرياء اللاحق من عدم تأثيره في السابق؛ إذ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه. قال

ص: 293


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 100، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 5.
2- سورة الأحزاب / الآية 33.
3- مستند العروة / ج 3، ص 47-49.

السيّد المحقّق الخوئي في كتاب الطهارة: «إنّ السيّد صاحب العروة حكم بعدم بطلان العمل بالعجب المتأخّر، وهذا هو المشهور بين الأصحاب - قدّس الله أسرارهم - بل ادّعي عليه الإجماع، إلاّ أنّ المحقّق الهمداني قدس سره نقل عن السيّد المعاصر قدس سره - والظاهر أنّه السيّد علىّ في كتابه البرهان - بطلان العبادة بالعجب المتأخّر فضلاً عن مقارنه؛ مستدّلاً عليه: بظواهر الأخبار الواردة في الباب. وقد أورد عليه: باستحالة الشرط المتأخّر، وأنّ العمل بعدما وقع مطابقاً للأمر وبعدما حكم الشارع عليه بالصحّة يستحيل أن ينقلب عمّا وقع عليه بحدوث ذلك الأمر المتأخّر - إلى أن قال: - هذا ولكنّا ذكرنا في محلّه: أنّ الشرط المتأخّر ممّا لا استحالة فيه، ولا مانع من اشتراط العمل بأمر متأخّر؛ لأنّ مرجعه إلى تقيّد العمل بأن يأتي بعده بأمر كذا، فالواجب هو الحصّة الخاصّة من العمل؛ وهو الذي يتعقّب بالشرط، فإذا اُتي بالعبادة ولم يتحقّق بعدها ذلك الشرط كشف هذا عن أنّ ما تحقّق لم تكن هى الحصّة الخاصّة المأمور بها، فلا محالة يقع باطلة، فالشرط المتأخّر أمر ممكن. وإنّما الكلام في دلالة الدليل عليه في مقام الإثبات، والصحيح أنّه لا دليل على اشتراط العبادة بعدم العجب المتأخّر؛ لأنّ أكثر الأخبار ضعيفة سنداً، على أنّها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بالعجب، فلا يمكن الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.

على أنّا لو فرضناها صحيحة من حيث الدلالة والسند أيضاً لم نكن نلتزم ببطلان العبادة بالعجب المتأخّر؛ وذلك للقطع بعدم كونه مبطلاً، فلا مناص من تأويل تلك الأخبار وحملها على نفي الثواب؛ وذلك لأنّ العجب ليس بأعظم من الكفر المتأخّر، فلو أنّ المكلّف كفر ثمّ أسلم لم تجب عليه إعادة أعماله السابقة فضلاً عن قضائها؛ لأنّه لا يوجب بطلان الأعمال المتقدّمة، فكيف بالعجب المتأخّر؟! - إلى أن قال: - نعم، العجب يوجب

ص: 294

بطلان العبادة في مقام إعطاء الثواب، لا في مقام الامتثال حتّى تجب إعادته فضلاً عن قضائها. والأخبار الواردة في المقام أيضاً لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب المقارن فضلاً عن المتأخّر.

ثمّ ذكر تلك الأخبار، وبيّن عدم دلالتها، ومن جملتها:

صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي عبدالله عليه السلام - أو عليّ بن الحسين (عليهما السلام) - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله - في حديث -: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(1).

وقد عرفت في نظائرها أنّ إهلاك العجب بمعنى استلزامه لمثل التحقير لعبادة الغير أو التكبّر أو تحقير الله سبحانه أو غيرها، ولا دلالة لها على إبطال العمل والعبادة.

وما عن العلل عن النبّي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل - في حديث -: «قال الله تبارك وتعالى: ما يتقرّب إلىّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه؛ لئلاّ يدخله العجب فيفسده»(2).

ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب؛ لأنّه أسند الإفساد إلى نفس العامل بمعنى هلاكه، لا إلى العمل والعبادة. مضافاً إلى أنّها مرويّة عن النبّي صلى الله عليه وآله بطريق لا يمكن الاعتماد عليه.

- إلى أن قال: - فالمتحصّل: أنّه لا دلالة في شيء من تلك الأخبار... على بطلان العمل به مقارناً كان أو متأخّراً، وإنّما تدلّ على أنّه من الصفات الخبيثة المهلكة البالغة

ص: 295


1- وسائل الشيعة / ج 1، ص 102، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 12.
2- المصدر السابق / ص 104، ح 17.

بالإنسان إلى ما لا يرضى به الله سبحانه وتعالى.

بقي من الأخبار رواية واحدة: وهي ما رواه يونس بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قيل له وأنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خالياً، فيدخله العجب ؟ فقال: «إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك، فليمضِ في صلاته، وليخسأ الشيطان»(1).

حيث قد يتوهّم دلالتها على بطلان العبادة بالعجب المقارن إذا كان في أوّلها؛ لقوله عليه السلام: «إذا كان أوّل صلاته...» الحديث. إلاّ أنّها - كسابقتها - قاصرة الدلالة، فلابدّ من حمل الرواية على معنى آخر؛ لعدم إمكان حملها على ظاهرها من جهة القرينة العقلية واللفظية، وأمّا القرينة العقلية فللقطع بأنّ العجب لو كان مبطلاً للعمل فلا يفرّق فيه: بين تحقّقه أوّل العبادة، وبين حدوثه أثناءها، أو في آخرها. وأمّا القرينة اللفظية فهي قوله عليه السلام: «فليمضِ في صلاته، وليخسأ الشيطان»، حيث إنّ العجب إذا تحقّق وقلنا بكونه مبطلاً للعمل فلامعنى للمضي فيه لإخساء الشيطان؛ لأنّه باطل على الفرض، وعليه فلابدّ من حملها على الوسوسة الطارئة على الإنسان بعد دخوله في العبادة، لأنّ الشيطان عدوّ عجيب للإنسان؛ فقد يجيء من قبل الوسوسة في أنّ العمل مقرون بالعجب، فهو باطل أو لا ثواب له، وقد أمر عليه السلام بالمضي في العمل وعدم الاعتناء به؛ ليخسأ الشيطان»(2).

وقال في المستمسك في توجيه عدم إبطال العجب أيضاً: «إنّه الذي يقتضيه الأصل بعد عدم الدليل على البطلان، وما في جملة من النصوص - من أنّه من المهلكات، وأنّه

ص: 296


1- المصدر السابق / ص 107، الباب 24 من أبواب مقدمة العبادات، ح 3
2- التنقيح في شرح العروة / ج 5، ص 35-51.

مانع عن صعود العمل إلى الله تعالى، ومانع من قبوله - لا يقتضي البطلان؛ فإنّه أعمّ ، وكذا ما يظهر من كثير منها من أنّه محرّم؛ فإنّه لا ينطبق على العمل ليوجب امتناع التقرّب به كما لا يخفى»(1).

فالأقوى: أنّ العمل لا يبطل بالعجب المقارن؛ لما عرفت من عدم دلالة الأدلّة عليه، و لأنّ مقتضى الأصل هو عدم كونه مبطلاً، وإن كان الأحوط هو الإعادة أو القضاء لحكاية القول بالبطلان عن بعض المشايخ في الجواهر ومصباح الفقيه.

الجهة الخامسة: في عدم إضرار العجب بصحة العمل

إنّ العجب - كما عرفت - لا يضرّ بصحّة العمل، ومع عدم إضراره بها يكون العمل الاستئجاري المأتي به بالعجب مسقطاً لذمّة المنوب عنه ومقرّباً. نعم، إنّ العجب يوجب إبطال الثواب أو نقصانه.

وهل يضرّ ذلك بالعمل الاستئجاري أو لا؟

الظاهر هو الثاني؛ لأنّ النظر في الاستئجار إلى الإتيان بما يكون صحيحاً وموجباً لسقوط الذمّة، ولا نظر فيه إلى خلوّ المأتي به عمّا ينقص ثوابه.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ إبطال الثواب ونقصانه من جهة عمل النائب بما هو نائب لا عمل المنوب عنه. نعم، لو اشترط على النائب أن يأتي بالعمل خالياً عمّا ينقص ثوابه، فإذا تخلّف عنه وأتى بما ينقص سقط ما في ذمّة المنوب عنه، ولكنّ النائب لا يستحقّ اُجرة المسمّى.

ص: 297


1- مستمسك العروة الوثقى / ج 6، ص 29.

وأمّا استحقاق الأجير لاُجرة أصل العمل فهو متفرّع على أن يكون الإنشاء متعدّداً، كما إذا اشترط في ضمن عقد الإجارة أن يأتي بالعمل مع الخصوصية المذكورة، وأمّا إذا كان مورد الإجارة متقيّداً بالخصوصية المذكورة وتخلّف فلا يستحقّ شيئاً.

وأمّا كيفية تعيين قيمة أصل العمل فبأن يعرف نسبة أصل العمل بالإضافة إلى العمل المقرون بالخصوصية، ويؤخذ بتلك النسبة من اُجرة المسمّى، فتدبّر جيدّاً.

ص: 298

المسألة السادسة والثلاثون «في الغرور والتغرير»

اشارة

والكلام في المسألة يقع في عدّة اُمور:

الأمر الأوّل: في اعتبار اعتماد المغرور على قول الغار

إنّ المعتبر في صدق التغرير هو جهل المغرور بالحكم أو الموضوع؛ ولذا استدلّ الشيخ الأعظم بقاعدة حرمة التغرير على حرمة بيع الدهن المتنجّس بدون الإعلام(1) بدعوى أنّ البيع المذكور يلقي المشتري في الحرام الواقعي، وهو تغرير.

وأمّا ما يقال: من أنّ الإلقاء المذكور يتوقّف على اعتماد المغرور في العمل على قول الغارّ، وعليه يعتبر فيه - مضافاً إلى الجهل المذكور -: اعتماد المغرور على قول الغارّ.

ففيه: أنّ الملاك في حرمة التغرير ليس اعتماد المغرور في العمل على قول الغارّ، بل يمكن أن يكون الملاك هو كون الغارّ سبباً لوقوع الغير في الحرام والمفاسد الواقعية، ألا ترى أنّ التغرير صادق على فعل من وضع خمراً مكان شيء آخر من الأشربة المحلّلة في

ص: 299


1- المكاسب المحرّمة / ص 9.

دار الغير فجاء صاحب الدار وشربه، مع أنّه لم يعتمد على قول الغير؟! ولو اعتبر الاعتماد على الغير لزم أن لا يصدق عنوان المغرور عليه، وهو كماترى. فتحصّل: أنّ التغرير هو إلقاء الغير في المفاسد مع جهل المغرور بالحكم أو الموضوع.

الأمر الثاني: في أدلّة حرمة التغرير وضمان الغارّ

منها: أنّ العقلاء جرت سيرتهم وبناؤهم في جميع الأعصار على منع الغارّ ونهيه والحكم بضمانه للخسارة الواردة على المغرور بسبب تغرير الغارّ، وحيث إنّ الشارع لم يردع عن هذه السيرة العقلائية فيكون ذلك دليلاً على تقريره وإمضائه كما لا يخفى.

ومنها: صحيحة إسماعيل بن جابر المرويّة في الكافي، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل نظر إلى امرأة فأعجبته، فسأل عنها، فقيل: هي ابنة فلان، فأتى أباها فقال: زوّجني ابنتك، فزوّجه غيرها، فولدت منه، فعلم بها بعدُ أنّها غير ابنته وأنّها أمة ؟ قال: «تردّ الوليدة على مواليها، والولد للرجل، وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة كما غرّ الرجل وخدعه»(1).

وقد أورد عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بأنّ : «هذه الرواية وإن عبّر عنها بالصحيحة في كلمات بعضهم ضعيفة السند بمحمّد بن سنان؛ حيث لم يثبت توثيق الرجل، إذاً فهي ساقطة عن الاعتبار، ولا يمكن الاعتماد عليها في شيء»(2).

ويمكن أن يقال: إنّ غير الموثّق هو محمّد بن سنان بن طريف الهاشمي أخوه عبدالله،

ص: 300


1- وسائل الشيعة / ج 14، الباب 7 من أبواب العيوب والتدليس، ح 1.
2- مباني العروة الوثقى / ج 3، ص 365-366.

وهو الذي روى بلا واسطة عن الإمام الصادق عليه السلام، بخلاف من روى عنه عليه السلام بالواسطة أو روى عن الإمام الكاظم والإمام الرضا والإمام الجواد عليهم السلام من دون واسطة، فإنّه أبو جعفر الزاهري وقد وثّقه جماعة وضعّفه بعض. ولكنّ المستند في التضعيف ضعيف، وهو نقله بعض الروايات التي كان فهمها مشكلاً، فحمل ذلك على الغلوّ.

هذا مضافاً إلى إكثار الرواية عنه من مثل أحمد بن محمّد بن عيسى، وهو يوجب الوثوق به أيضاً؛ لأنّه هو الذي أخرج بعض الرواة من بلدة قم المشرّفة من جهة نقله عن الضعفاء، فكيف نَقَلَ وأكثَرَ الرواية هو بنفسه عن الضعيف ؟! فلا تغفل.

وأيضاً قال في جامع الرواة: «لا يخفى أنّ رواية جمع كثير من العدول والثقات عنه - على ما ذكرنا - تدلّ على حسن حاله وقبول رواياته».

وقال المولى محمّد تقي المجلسي في شرحه على مشيخة الفقيه: «روى الكشّي أخباره في الغلوّ، ولا نجد فيها غلوّاً، بل الذي يظهر منها أنّه كان من صاحب الأسرار»(1).

فتحصّل: أنّ الرواية صحيحة كما صرّح بذلك بعض الأكابر، ولا ينبغي الإشكال فيها من هذه الجهة.

ثمّ إنّ تقريب الاستدلال بهذه الرواية بأن يقال: إنّ قوله عليه السلام: «كما غرّ الرجل وخدعه» تعليل، كقوله تعالى: (وَ اُذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ )(2) ، والتعليل بنفس التغرير لضمان قيمة ثمن الولد لموالي الوليدة، وعليه تدلّ الرواية - بصريح تعليلها - على أنّ التغرير موجب للضمان، وحيث إنّ التعليل عامّ فلا يختصّ الحكم بالضمان بمورد الرواية، بل يستفاد منه الحكم الكلّي، وهو أنّ التغرير موجب للضمان. ولعلّ قوله عليه السلام: «وخدعه يدلّ على

ص: 301


1- بهجة الآمال / ج 6، ص 458.
2- سورة البقرة / الآية 198.

الحرمة التكليفية أيضاً؛ حيث إنّ الخدعة من المحرّمات».

وقد اُورد عليه: بأنّ ضمان المغرور ليس له في هذه الرواية عين ولا أثر، بل ظاهرها رجوع الموالي إلى الغارّ بلا واسطة، وهو غير ما نحن فيه، فلابدّ من توجيهها(1).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ ضمان الغارّ هو أساس المسألة، وأمّا المغرور فضمانه معلوم ومفروغ عنه فيما إذا تصرّف في مال الغير، ويرجع إلى الغارّ لو رجع إليه وأخذ منه. ودلالة الرواية على ما نحن بصدده - من كون التغرير موجباً للضمان - واضحة.

ومنها: موثّقة حفص بن البختري عن أبي عبدالله عليه السلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به ؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة»(2)، بدعوى أنّها تدلّ على لزوم بيع العجين النجس ممّن يستحلّ الميتة، ومقتضاه عدم جواز بيعه من مسلم، ولعلّ وجهه هو عدم وجود منفعة محلّلة له.

فهذه الرواية بإطلاقها تدلّ على حرمة التغرير إن كان المشتري جاهلاً، أو على حرمة التسبيب إن كان المشتري عالماً. ولكنّ التعميم يحتاج إلى إلغاء الخصوصية في المورد.

ومنها: صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال في رجل تزوّج امرأة من وليّها، فوجد بها عيباً بعدما دخل بها؟ قال: فقال: «إذا دلّست العفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق، ويأخذ الزوج المهر من وليّها الذي كان دلّسها، فإن لم يكن وليّها علم بشيء من ذلك فلا شيء عليه، وتردّ على أهلها...» الحديث(3)، بتقريب: أنّ قوله عليه السلام: «الذي كان دلّسها» وصف مشعر

ص: 302


1- القواعد الفقهية / ج 4، ص 287.
2- وسائل الشيعة / ج 12، ص 68، الباب 7 من ابواب مايكتسب به، ح 3.
3- الوسائل / الباب 2 من أبواب العيوب والتدليس، ح 1.

بالعلّيّة، ولعلّه يستفاد منه العموم. نعم، حيث إنّ التدليس هو كتم العيب عن الزوج أو المشتري فهو أخصّ من التغرير.

ومنها: صحيحة رفاعة بن موسى المرويّة في الكافي: عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد، عن رفاعة بن موسى قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام - إلى أن قال: - وسألته عن البرصاء، فقال: «قضى أميرالمؤمنين عليه السلام في امرأة زوّجها وليّها وهي برصاء: أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها، وأنّ المهر على الذي زوّجها؛ وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها...» الحديث. ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن الحلبي، عن أبي عبدالله عليه السلام(1).

ولا مجال لتضعيف الرواية بسبب اشتمالها على سهل بن زياد؛ وذلك: لأنّ سهل بن زياد موثّق، مضافاً إلى أنّ طريق ابن إدريس إلى الكتاب، صحيح وأيضاً الكتاب المذكور معروف، ولا حاجة بعد ذلك إلى السند.

وكيف كان فقوله عليه السلام: «لأنّه دلّسها» من قبيل منصوص العلّة، وهو أظهر من قوله عليه السلام: «الذي كان دلّسها» كما لا يخفى. ثمّ إنّه لا يختصّ بباب النكاح؛ لأنّ العلّة تعمّم، نعم يختصّ بالموارد التي فيها عيب قابل للكتمان، هذا مع قطع النظر عن الروايات الواردة في خصوص بعض الموارد: نحو ما ورد في أبواب العيوب والتدليس، ومثل ما ورد في أبواب نكاح الأمة، أو ما ورد في أبواب الشهادات أو ما ورد في الميتة المختلطة بالمذكّى والأمر ببيعها ممّن يستحلّها، أو ما ورد في إراقة المرق الذي قطرت فيه قطرة من خمر؛ أو إطعامه أهل الذمّة والكلاب، أو ما دلّ على أنّ من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه، وغير ذلك من الموارد الخاصّة التي يمكن أن تكون مؤيّدة لحرمة التغرير وكونه موجباً

ص: 303


1- المصدر السابق / ح 2.

للضمان.

هذا مضافاً إلى إمكان تأييد حرمة التغرير بما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من دليل الاعتبار، حيث قال: «إنّ أكل الحرام وشربه من القبيح ولو في حقّ الجاهل؛ ولذا يكون الاحتياط فيه مطلوباً مع الشكّ ؛ إذ لو كان للعلم دخل في قبحه لم يحسن الاحتياط، وحينئذ فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراءً بالقبيح، وهو قبيح عقلاً»(1).

وأورد عليه الميرزا الشيرازي قدس سره: بأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم يستند في الترخيص إلى أصل شرعيّ كأصالة الطهارة؛ فإنّ الترخيص الشرعي كاشف عن تدارك المفسدة، وإلاّ كان الترخيص إيقاعاً في القبيح، وهو قبيح - إلى أن قال: - قد يكتفى في حسن الاحتياط برعاية المصالح الأوّلية؛ إذ هي أولى بالمراعاة في نظر العقل وإن كان مفسدة تركها متداركة فعلاً بترخيص الشارع.

ويمكن أن يقال: إنّ تدارك المفسدة الواقعية بمصلحة الترخيص الشرعي بالنسبة إلى الجاهل لا يمنع عن حرمة التغرير بالنسبة إلى الغارّ؛ من جهة أنّ التغرير إلقاء للغير في المفاسد الواقعية، أو من جهة أنّ التغرير تفويت لغرض الشارع، خصوصاً إذا كان الغارّ هو السبب في ارتكاب الحرام مع الاستناد المذكور.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «إنّ الأحكام الواقعية - كما حقّق في محلّه - ليست مقيّدة بعلم المكلّفين؛ وإلاّ لزم التصويب المستحيل أو الباطل، فالأحكام الواقعية وملاكاتها شاملة لحالتي العلم والجهل. ثمّ إنّ غرض الشارع من بعث المكلّفين نحوها وتكليفهم بها ليس الاّ امتثالها بالإتيان بالواجبات وترك المحرّمات؛ حتّى لا يوجد ما هو

ص: 304


1- المكاسب المحرّمة / ص 9-10.

مبغوض للشارع ولا يترك ما هو مطلوب.

ونتيجة المقدّمتين: أنّ المكلّف الملتفت كما يحرم عليه مخالفة التكاليف الإلزامية من ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات فكذلك يحرم عليه التسبيب إلى مخالفتها بإلقاء الجاهل في الحرام الواقعي؛ لأنّ مناط الحرمة في ذلك إنّما هو تفويت غرض المولى بإيجاد المفسدة وترك المصلحة الملزمتين، وهذا المناط موجود في كلتا الصورتين؛ فالأدلّة الأوّلية كما تقتضي حرمة مخالفة التكاليف الإلزامية بالمباشرة فكذلك تقتضي حرمة مخالفتها بالتسبيب - إلى أن قال: - وعليه فتغرير الجاهل بالأحكام الواقعية وإن لم يوجب مخالفة المغرور التكاليف الإلزامية إلاّ أنّه يوجب تفويت غرض الشارع، فهو حرام. ومثال ذلك في العرف: إنّ المولى إذا نهى عبيده عن الدخول عليه في وقت خاصّ عيّنه لفراغه، فإنّ نهيه هذا يشمل المباشرة والتسبيب؛ ولذلك لو سبّب أحد العبيد لدخول أحد على مولاه في ذلك الوقت لصحّ عقابه كما يصحّ عقابه لو دخل هو بنفسه؛ لاتّحاد الملاك في كلتا الصورتين بحكم الضرورة والبدلية»(1).

ولا فرق فيه بين أن يستند المغرور في دخوله على مولاه إلى الأصل أو لا يستند؛ وذلك لتفويت غرض المولى كما لا يخفى.

فتحصّل من جميع ما ذكر من الأدلّة والمؤيّدات: أنّ التغرير حرام تكليفاً، وموجب للضمان.

الأمر الثالث: إنّ التغرير محرّم سواء كان بالتسبيب أو إعداد المقدمات

الأمر الثالث: إنّ التغرير محرّم سواء كان بالتسبيب أو إعداد المقدّمات بداعي دخول المغرور في الحرام؛ لأنّ للغار حينئذ مدخلية في الإلقاء في المفاسد أو تفويت المصالح، ومعه فالتغرير صادق فتشمله أدلّة التحريم. نعم، لو كانت دخالته بنحو لا

ص: 305


1- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 118-119.

يصدق معه التغرير فلا تشمله أدلّة حرمة التغرير كما لا يخفى.

الأمر الرابع: إنّ الغارّ يتوقّف صدقه على كونه عالماً بالمفاسد

الأمر الرابع: إنّ الغارّ يتوقّف صدقه على كونه عالماً بالمفاسد، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان هو والمغرور كلاهما جاهلين فلا يصدق عليهما عنوان الغارّ والمغرور لعدم كون الأوّل مسبّباً أو معدّاً بداعي ارتكاب الحرام كما لا يخفى.

لا يقال: إنّ لازم ذلك هو وجوب تسبيب الغير للإتيان بما إذا كانت مصلحته ملزمة.

لأنّا نقول: نعم ولا بأس به، بل هو من موارد الأمر بالمعروف إلاّ إذا كان الغير غير مكلّف، فلا إلزام حينئذ بالنسبة إليه كما لا يخفى.

الأمر الخامس: هل يجب الإعلام أو المنع أو الدفع اذا رأى غيره أراد ما فيه المفسدة

الأمر الخامس: هل يجب الإعلام أو المنع أو الدفع على من يرى شخصاً يريد أن يفعل ما فيه مفسدة - كأكل النجس - وهو لا يعلم، أو لا يجب ؟

يمكن القول بالثاني؛ لعدم صدق الغارّ عليه في صورة سكوته أو عدم منعه أو دفعه؛ وذلك لعدم مدخليّته فيه وكونه سبباً ومعدّاً، ولعدم صدق المنكر على الفعل المذكور؛ لإتيانه جهلاً، والمنكر منوط بإتيانه مع العلم بالحرمة.

ولعلّه لذا استشكل الشيخ الأعظم(1) على العلاّمة قدس سره الذى ذهب إلى وجوب الإعلام فيما إذا رأى في ثوب المصلّي نجاسة؛ من باب وجوب النهي عن المنكر، قائلاً: إنّ الظاهر من أدلّة النهي عن المنكر وجوب الردع عن المعصية، فلا يدلّ على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية. نعم، يجب ذلك في موردين: أحدهما: إذا كان الجهل بالحكم لا بالموضوع؛ لوجوب تبليغ التكاليف ليستمرّ التكليف إلى الأبد، ولتتمّ الحجّة على الجاهل، وثانيهما: إذا كان المورد شيئاً علم من الخارج عدم رضا الشارع بوقوعه كقتل النفس. وحينئذ فلو لم يرتدع بالإعلام وجب منعه عن الفعل المذكور بأيّ طريق كان كما

ص: 306


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 10.

لا يخفى.

الأمر السادس: لا يحرم التغرير فيما إذا كان المورد من الموارد التى يكون وجودها وعدمها على حد سواء

الأمر السادس: لا يحرم التغرير فيما إذا كان المورد من الموارد التي يكون وجودها وعدمها على حدّ سواء، كما إذا قدّم شخص ثوباً متنجّساً لمن أراد الصلاة، فلبسه وصلّى فيه وهو جاهل بنجاسته، حيث لا يترتّب على نجاسة الثوب وطهارته أثر إذا كان جاهلاً بالحال؛ إذ صلاته على أيّ تقدير صحيحة ولا تنقص عن الصلاة في الثوب الطاهر.

الأمر السابع: في تعدّد الغارّ

الأمر السابع: لو تعدّد الغارّ؛ فإن كانا مستقلّين في حدوث الغرور واجتمعا في التأثير فإنّ كلّ واحد منهما يكون غارّاً وفاعلاً للحرام فيشتركان في الضمان، وإن كان أحدهما سابقاً ومستقلاًّ والآخر تابعاً فالسابق يكون غارّاً وفعله حراماً والضمان عليه، دون الثاني؛ لاختصاص التأثير بالأوّل كما لا يخفى.

الأمر التاسع: التغرير موجب للضمان

الأمر التاسع: التغرير موجب للضمان، ولا إشكال فيه، لكنّه بحاجة إلى توضيح وتفصيل:

فإن كان الغارّ سبباً تامّاً لوقوع المغرور في الضرر والخسارة بالتصرّف في مال الغير مثلاً - كما عرفت في مورد التزويج بالأمة - فلا مجال للتأمّل في كون ذلك موجباً لضمان الغارّ. ولا فرق فيه بين أن يرجع مالك الأمة إلى المغرور من أوّل الأمر ويأخذ قيمة الولد منه فيرجع المغرور إلى الغارّ، أو يرجع من أوّل الأمر إلى الغارّ؛ وذلك لاستقرار الضمان على الغارّ كما لا يخفى.

وإن كان الغارّ مسبّباً ومقتضياً لوقوع المغرور في الضرر والخسارة بحيث يصدق عليه الغارّ حقيقةً فالظاهر أنّه كالصورة الاُولى موجب للضمان؛ أخذاً بإطلاق قوله عليه السلام: «كما غرّ الرجل وخدعه».

وإن كان الغارّ موجباً لإتلاف مال الغير، كأكل شيء أو شرب شيء بزعم أنّه مال الغارّ،

ص: 307

فهو أيضاً يوجب الضمان على الغارّ بالتفصيل المذكور.

وإن كان الغارّ موجباً لاشتراء شيء فيه ضرر على المغرور، فالإضرار موجب للضمان، ويجب على الغارّ أن يؤدّي مقدار الضرر إلى المغرور.

وإن كان الغارّ موجباً لإكراء المغرور واسطة نقل - كسيّارة مثلاً - وإنفاق مال للوصول إلى ما غرّه فيه، ثمّ بان الخلاف، فالأقرب هو ضمان الغارّ ما أنفقه المغرور في ذلك.

وإذا كان له عند وكيله وأمينه مال معيّن خارجىّ فأحال دائنه عليه ليدفع إليه بما عنده، فقبل المحتال والمحال عليه، وجب عليه الدفع إليه وإن لم يكن من الحوالة المصطلحة، وإذا لم يدفع له الرجوع على المحيل؛ لبقاء شغل ذمّته، ولو لم يتمكّن من الاستيفاء منه ضمن الوكيل المحال عليه إذا كانت الخسارة الواردة عليه مستندة إليه؛ للمغرور(1).

وإن كان الغارّ موجباً لعدم وصول نفع إلى المغرور، فكونه موجباً للضمان محلّ تأملّ ونظر؛ لعدم صدق الضرر والخسارة على عدم النفع، ولعدم التصرّف في مال الغير؛ كما في مورد التزويج بأمة الغير، ولعدم كونه موجباً لإتلاف مال الغير؛ كما في مورد أكل شيء أو شرب شيء بزعم أنّه مال الغارّ، ولعدم إنفاق مال معتمداً على الغارّ. وبالجملة: فكلّ مورد استندت الخسارة فيه إلى الغارّ فهو ضامن، والله هو الهادي.

ص: 308


1- انظر: العروة الوثقى، كتاب الحوالة / مسألة 17.

المسألة السابعة والثلاثون «في الغشّ »

اشارة

والكلام فيه يقع ضمن اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى الغشّ

قال في المصباح المنير: «غَشَّهُ - من باب «قَتَلَ »، والاسم غِشّ بالكسر -: لم ينصحه، وزيّن له غير المصلحة. ولبن مغشوش: مخلوط بالماء»(1).

وقوله: «وزيّن له غير المصلحة» يدلّ على أنّ الغشّ أمر وجوديّ لا أنّه مجرّد ترك النصيحة.

وقال الزبيدي في تاج العروس: «(غشّه) يغشّه غشّاً: (لم يمحضه النصح، وأظهر له خلاف ما أضمره). وهو - أي قوله: وأظهر له خلاف ما أضمره - بعينه عدم الإمحاض في النصيحة، فلا حاجة إلى إيراده... (والغِشّ بالكسر اسم منه)... (و) الشيء (المغشوش) أي (الغير الخالص) من الغشّ . (والغَشَش - محرّكة -: الكَدِر المشوب) هكذا في النسخ، أو هو المشرب الكَدِر كما هو نصّ ابن الأنباري، ونقله هكذا الأزهري والصاغاني، قيل: ومنه

ص: 309


1- المصباح المنير / مادّة «غشش».

اُخذ الغشّ نقيض النصح».

ولا يخفى عليك إمكان أن يكون ذكر قوله: «وأظهر له خلاف ما أضمره» للإشارة إلى أنّ الغشّ أمر وجوديّ يضادّ النصيحة لا أنّه ترك النصيحة، فلا وجه لقوله: «فلا حاجة إلى إيراده».

وقال في أقرب الموارد: «غشّه غشّاً: لم يمحضه النصح، أو أظهر له خلاف ما أضمره، وزيّن له غير المصلحة. والاسم الغشّ ... المغشوش اسم مفعول، و -: الغير الخالص، يقال: لبن مغشوش؛ أي مخلوط بالماء غير خالص».

والظاهر أنّ قوله: «أو أظهر له» لا ينسجم مع ما عرفت من الزبيدي؛ حيث عبّر بالواو، والمستفاد منه دخالة ذلك في تحقّق معنى الغشّ ؛ ولذا استظهرنا منه أنّه أمر وجوديّ .

فتحصّل: أنّ الغشّ ضدّ النصح، وهو أن يظهر له خلاف ما أضمره، وله مصاديق عديدة ولا يختصّ بمورد النقص، والإظهار أو التزيين من الاُمور بالقصدية، وعليه فالغشّ أمر وجوديّ قصديّ .

قال المحقّق النراقي قدس سره: «الغشّ خلاف النصح والخلوص، أو إظهار خلاف ما أضمر، وحصوله في المعاملات إنّما يكون إذا كان في المبيع نقص ورداءة، وله صور.

وتوضيح المقام: أنّ النقص الذي يمكن أن يتحقّق فيه الغشّ يتصوّر على وجوه:

لأنّ سببه إمّا يكون مزج المبيع بغير جنسه (كاللبن بالماء) أو بجنسه (كالجيّد بالرديء)، أو بغير المزج، وهو قد يكون بعيب فيه إخفاء بإبداء وصف يستره أو عدم إظهاره مع كونه مستوراً، وقد يكون بتغييره عمّا هو في الواقع إلى الأدنى لمصلحة نفسه؛ كبلّ اليابس لزيادة الوزن، وقد يكون بالتباس السلعة بأن يزعم الرديء الجيّد؛ كأن يبيع لبن البقر مكان لبن المعز.

ص: 310

ثمّ على جميع التقادير: إمّا يكون النقص خفيّاً حال المعاملة عرفاً، أو غير خفيّ بل يكون ممّا يعرف غالباً، وعلى الأوّل: إمّا يكون ممّا يظهر النقص حال المعاملة بالفحص ويكون خفاؤه لتقصير المشتري، أو لا يظهر بالفحص، وعلى الثاني: إمّا يعلم تفطّن المشتري به أو عدم تفطّنه، أو لا يعلم، وعلى التقادير: إمّا يبيعه على ما هو المتعارف في الخالي عن النقص من السعر أو على ما يتعارف مع النقص، وعلى التقادير: إمّا يكون حصول النقص بفعل البائع بقصد الغشّ أو لا»(1).

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ حصر معنى الغشّ في النقص لا وجه له، بل هو أعمّ منه؛ ولذا يصدق الغشّ على إظهار صفة كمالاً على خلاف الواقع مع أنّه لا نقص.

وأيضاً المذكور في تاج العروس في معنى الغشّ هو أنّه لم يمحضه النصح وأظهر له خلاف ما أضمره، وظاهره دخالة الإظهار المذكور، فلا وجه لقوله: «الغشّ خلاف النصح والخلوص، أو إظهار خلاف ما أضمر».

هذا مضافاً إلى عدم صحّة جعل بعض موارد النقص - كالنقص غير الخفيّ الذي يعرفه الناس غالباً - من مصاديق الغشّ ، مع أنّه ليس كذلك؛ إذ إظهار خلاف ما في الضمير والتزيين لغير المصلحة لا يكون بدون الخفاء، وعليه فالخفاء معتبر في حقيقته عرفاً. قال في الجواهر: «الظاهر اعتبار الخفاء في حقيقته وإلاّ لم يكن غشّاً، فلو كان المزج بما لا يخفى أو أخبر بمزج ما يخفى فلا غشّ فيه، ولعلّ من ذلك وضع القطن العتيق في القلانس باعتبار تفاوته»(2).

بل لعلّه هو الظاهر من الأخبار أيضاً، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ ظاهر الأخبار هو

ص: 311


1- مستند الشيعة / ج 14، ص 169-170.
2- جواهر الكلام / ج 22، ص 112.

كون الغشّ بما يخفى؛ كمزج اللبن بالماء، وخلط الجيّد بالرديء في مثل الدهن، فمنه وضع الحرير في مكان بارد ليكتسب ثقلاً، ونحو ذلك. وأمّا المزج والخلط بما لا يخفى فلا يحرم؛ لعدم انصراف الغشّ إليه».(1)

نعم، لا يبعد صدق الغشّ فيما إذا كان قصد البائع تلبيس الأمر على المشتري سواء كان العيب خفيّاً أم لا؛ وذلك لأنّ التلبيس لا يخلو من نوع من الخفاء، وهو كاف في صدق الغشّ . قال في بلغة الطالب: «إنّ الظاهر صدقه (أي الغشّ ) إذا قصد التلبيس على المشتري بالخلط، أو عمل وجوديّ غيره»(2). وعليه فلا إشكال من هذه الناحية على المحقّق النراقي إن أراد بقوله: «أو غير خفيّ بل يكون ممّا يعرف غالباً» هذه الصورةَ ؛ أعني صورة قصد التلبيس.

فتحصّل: أنّ الخلط بغير الخفيّ إذا كان للمشتري طريق إلى معرفته بالنظر والفحص مع عدم قصد التلبيس هو ليس بغشّ ولا يكون حراماً، ولا يجب على البائع الإعلام.

أللهمّ إلاّ أن يقال: ظاهر خبر الإسكاف - عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وآله في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلاّ طيّباً! وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّوجلّ إليه أن يدسّ (يدير - خ ل) يده في الطعام ففعل، فأخرج طعاماً رديئاً، فقال لصاحبه: ما أراك إلاّ وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين!»(3) - هو أنّ الخلط بما لايخفى ممّا يعلم بالنظر والفحص غشّ ومحرّم، ولم يقيّده بقصد التلبيس.

وكذا ظاهر رواية هشام - الذي كان يبيع السابريّ في الظلال، فقال له أبو الحسن عليه السلام:

ص: 312


1- المكاسب المحرّمة / ص 35.
2- بلغة الطالب / ج 1، ص 108-109.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 282، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

«إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ »(1) - هو صدق الغشّ على البيع في الظلال، مع أنّ الطريق إلى معرفته موجود، ولم يقيّده بقصد التلبيس.

وأيضاً ظاهر رواية الحلبي - قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يشتري طعاماً، فيكون أحسن له وأنفق له أن يبلّه من غير أن يلتمس زيادته ؟ فقال: «إن كان بيعاً لا يصلحه إلاّ ذلك ولا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، وإن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح»(2) - هو أنّ المستفاد منها أنّه كلّ ما لم يكن إصلاحاً للمبيع كان غشّاً ولو كان له طريق إلى معرفته بالنظر والفحص، ولم يقيّده بالتلبيس.

ولكن يمكن الجواب عنه - كما في بلغة الطالب -: بأنّ ظاهر الأوّل هو إناطة صدق الغشّ بقصد التلبيس، حيث قال صلى الله عليه وآله: «ما أراك إلاّ وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين!»؛ يعني أنّك غطّيت الرديء بالجيّد بقصد الغشّ والخيانة.

وأمّا مسألة بيع السابريّ في الظلال فهو ليس من قبيل إخفاء العيب بل من قبيل إظهار الجودة وشدّة السواد للسابريّ ، وفي مثله يعتبر قصد التلبيس بلا إشكال.

وأمّا رواية الحلبي فالظاهر منها هو اعتبار قصد التلبيس؛ لأنّ التماس الزيادة عبارة اُخرى عن قصد التلبيس؛ فإنّه إذا خلط لالتماس الزيادة فقد قصد إلقاء المشتري في الجهل وزعم جودة الجميع، وإلاّ لم يكن معنى لالتماس الزيادة(3).

فتحصّل: أنّ الخلط بما لا يخفى مع عدم قصد التلبيس ليس بغشّ على الأظهر.

وممّا ذكر يظهر ما في مصباح الفقاهة حيث قال: «لا دليل على اعتبار القصد بمعنى

ص: 313


1- المصدر السابق / ص 280، ح 3.
2- المصدر السابق / ج 18، ص 113، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، ح 3.
3- انظر: بلغة الطالب / ج 1، ص 109-110.

الداعي في مفهوم الغشّ ؛ بداهة كونه من الاُمور الواقعية، وهي لا تختلف باختلاف الدواعي كالاُمور القصدية، وإنّما المعتبر فيه علم البائع بالخلط مع جهل المشتري إيّاه»(1)؛ وذلك لما عرفت من أنّ التزيين والإظهار والتلبيس من مقوّمات الغشّ ، وهي لا تخلو من قصد.

هذا مضافاً إلى: أنّ المعتبر في تحقّق عنوان الغشّ هو احتمال الخلط من البائع مع جهل المشتري، ولا يعتبر فيه علم البائع بالخلط، فلا تغفل.

الأمر الثاني: في كلمات العلماء حول حرمة الغشّ

قال الشيخ الطوسي في النهاية في عداد المحرّمات: «وكلّ شيء غشّ فيه فالتجارة فيه والتكسّب به بالبيع والشراء وغير ذلك حرامٌ محظور»(2).

وقال ابن إدريس في السرائر: «ولا يجوز لأحد أن يغشّ أحداً من الناس فيما يبيعه أو يشتريه، ويجب عليه النصيحة فيما يفعله لكلّ أحد»(3).

وقال فيها أيضاً: «ويجتنب بيع الثياب في المواضع المظلمة التي يتستّر فيها العيوب»(4).

وفيها أيضاً: «ويحرم... والغشّ في جميع الأشياء»(5).

ص: 314


1- مصباح الفقاهة / ص 301.
2- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 76.
3- المصدر السابق / ج 14، ص 282.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق / ص 401.

وقال ابن زهرة في الغنية: «من المحرّمات الغشّ في جميع الأشياء»(1).

وتبعهم المتأخّرون، قال المحقّق في الشرائع: «والغشّ بما يخفى، كشوب اللبن بالماء»(2).

وقال ابن سعيد في الجامع للشرائع: «والغشّ حرام... ولا يجوز بيع الثياب في المواضع المظلمة، وشوب اللبن بالماء»(3).

وقال العلاّمة في القواعد: «والغشّ بما يخفى، كمزج اللبن بالماء»(4). ونحوه في تلخيص المرام(5) والتبصرة(6) وإرشاد الأذهان(7) والتذكرة(8) والدروس(9) واللمعة(10) وجامع المقاصد(11).

وغير ذلك من الكلمات الدالّة على عدم الخلاف في المسألة بل الإجماع عليه، قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه»(12)، وقال الشيخ الأعظم قدس سره:

ص: 315


1- المصدر السابق / ج 13، ص 208.
2- المصدر السابق / ج 14، ص 414.
3- المصدر السابق / ص 470.
4- قواعد الأحكام / ج 1، ص 121.
5- تلخيص المرام / ص 92.
6- تبصرة المتعلمين / ص 73.
7- إرشاد الأذهان / ج 1، ص 357.
8- تذكرة الفقهاء / ج 1، ص 582.
9- الدروس الشرعية / ص 327.
10- اللمعة الدمشقية / ج 1، ص 236.
11- جامع المقاصد / ج 1، ص 204.
12- جواهر الكلام / ج 22، ص 111.

«بلا خلاف»(1)، وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «لا شبهة في حرمة غشّ المسلم في الجملة بلا خلاف بين الشيعة وأهل السنّة؛ لتواتر الروايات من طرقنا ومن طرق العامّة، بل هي من ضروريّات مذهب المسلمين»(2).

الأمر الثالث: في الروايات الدالّة على حرمة الغشّ

وهي كثيرة:

منها: صحيحة هشام بن الحكم قال: كنت أبيع السابريّ في الظلال، فمرّ بي أبوالحسن الأوّل موسى عليه السلام (راكباً - خ ل) فقال لي: «يا هشام، إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ »(3).

ومنها: موثّقة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «نهى النبيّ صلى الله عليه وآله أن يشاب اللبن بالماء للبيع»(4).

ومنها: معتبرة الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وبناته وكانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبيّ وهي عندهنّ فقال: «إذا أتيتِنا طابت بيوتُنا»، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: «إذا بعتِ فأحسني ولا تغشّي؛ فإنّه أتقى وأبقى للمال...» الحديث(5).

ص: 316


1- المكاسب المحرّمة / ص 34.
2- مصباح الفقاهة / ص 298.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 280، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، ح 3.
4- المصدر السابق / ح 4.
5- المصدر السابق / ص 281، ح 6.

ومنها: ما رواه في الكافي بسند صحيح، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ليس منّا من غشّنا»(1).

ومنها: ما رواه بهذا الإسناد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل يبيع التمر: يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم ؟!»(2).

ومنها: ما رواه في العيون بأسانيد تقدّمت في إسباغ الوضوء، عن الرضا عليه السلام، عن آبائه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره»(3).

ومنها: ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال قال: حدّثني محمّد بن موسى بن المتوكّل قال: حدّثني محمّد بن جعفر قال: حدّثني موسى بن عمران قال: حدّثني عمّي الحسين ابن زيد، عن حمّاد بن عمرو الصيني، عن أبي الحسن الخراساني، عن ميسرة ابن عبدالله، عن أبي عائشة السعدي، عن يزيد بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن أبي هريرة وعبدالله بن عبّاس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله قبل وفاته - وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة حتّى لحق بالله تعالى - فوعظ بمواعظ ذرفت منها العيون - إلى أن قال: - «ومن غشّ مسلماً في بيع أو شراء فليس منّا، ويحشر مع اليهود يوم القيامة؛ لأنّ من غشّ الناس فليس بمسلم... ومن مات وفي قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط الله تعالى، وأصبح كذلك وهو في سخط الله حتّى يتوب ويرجع، وإن مات كذلك مات على غير دين الإسلام». ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ألا ومن غشّ مسلماً فليس منّا» قالها ثلاث مرّات - إلى أن قال: - «ومن غشّ أخاه المسلم نزع الله

ص: 317


1- المصدر السابق / ص 279، ح 1.
2- المصدر السابق / ح 2.
3- المصدر السابق / ص 283، ح 12.

منه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه»(1).

ومنها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن محبوب، عن أبي جميلة، عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وآله في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلاّ طيّباً! وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن يدسّ (يدير - خ ل) يده في الطعام ففعل، فأخرج طعاماً رديئاً، فقال لصاحبه: ما أراك إلاّ وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين!»(2).

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده، ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: ألقِه في البالوعة؛ حتّى لا يباع شيء فيه غشّ »(3). ولم أجد إسناده عن موسى بن بكر في المشيخة.

وكيف كان، ففي صحيحة هشام وموثّقة السكوني كفاية، ولا يضرّ عدم استظهار الحرمة من بعض الأخبار الدالّة على أنّ من غشّ مسلماً ليس منّا، ولكونه أعمّ من الكراهة، فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع: في الظاهر من الكلمات والأخبار

يظهر من الكلمات والأخبار حرمة نفس الغشّ بما هو غشّ ، وعليه فلا وجه لإرجاع الحرمة إلى العناوين الاُخرى كالكذب وأكل أموال الناس بلا إذن منهم، والسبر والتقسيم

ص: 318


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال / ص 249-257.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 282، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، ح 8.
3- المصدر السابق / ص 280، ح 5.

ونفي الحرمة عن الغشّ اجتهاد في مقابل النصّ .

ولذا قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «والعجب من المحقّق الإيرواني حيث ألغى عنوان الغشّ عن الموضوعية والتزم بحرمته للعناوين الثانوية؛ من الكذب وأكل أموال الناس بلا رضا منهم.

ولا ريب أنّ الروايات حجّة عليه؛ لظهورها في حرمة الغشّ في نفسه، فإذا تحقّق موضوعه في مورد ترتّب عليه حكمه كسائر القضايا الحقيقية.

فقد ظهر: أنّه لا وجه لما ارتكبه المحقّق المذكور من السبر والتقسيم في نفي موضوعية الغشّ ، بدعوى أنّه لا دليل على حرمة شوب اللبن بالماء ولا على حرمة عرض المشوب على البيع ولا على حرمة مجرّد الإنشاء، فتعيّن أن يكون الغشّ المحرّم أخذ قيمة غير المغشوش بإزاء المغشوش»(1).

ويؤيّد ما ذكره السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: ترتّب أحكام الغشّ حتّى فيما إذا لم يكن إظهار خلاف ما أضمر، كما إذا كان الغشّ بقصد التلبيس بما لا يخفى. هذا مضافاً إلى ما إذا كان الغشّ بالتورية، فمعها لا كذب كما أفاد في إرشاد الطالب(2).

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق بعض الأخبار وإن كان حرمة مطلق الغشّ ولو في غير المعاملات، ولكن يرفع اليد عنه ويحمل على خصوص المعاملات، قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «لابدّ من صرف الأخبار إلى خصوص المعاملات في الجملة؛ بداهة أنّه لا بأس بتزيين الدور والألبسة والأمتعة لإراءة أنّها جديدة مع أنّها عتيقة، وكذلك لا بأس بإطعام الطعام المغشوش وسقي اللبن الممزوج للضيف وغيره وبذل الأموال المغشوشة

ص: 319


1- مصباح الفقاهة / ص 299.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 174.

للفقراء، بل يمكن عدم صدق الغشّ في هذه الموارد أو في بعضها. نعم، لو أخبر بموافقة الظاهر في ذلك للواقع كان حراماً من جهة الكذب سواء كان إخباره قوليّاً أو فعليّاً، وهو أجنبيّ عمّا نحن فيه»(1).

نعم، لا يبعد الأخذ بإطلاق مثل قوله صلى الله عليه وآله: «ليس منّا من غشّ مسلماً» لإثبات المرجوحية لمطلق الغشّ بالنسبة إلى غير المعاملات من الاُمور الاجتماعية وغيرها؛ كأن يقول مثلا: إنّي لم أذهب إلى سفر، مع أنّه أراد السفر، ونحو ذلك ممّا يصدق عليه عنوان الغشّ ، مضافاً إلى صدق عنوان الكذب عليه.

إلاّ أنّه لا يستفاد من تلك الأخبار حرمة مطلق الغشّ ؛ لأنّها بعنوان «ليس من المسلمين» ونحوه، وأمّا ما يدلّ على الحرمة فهو مختصّ بالمعاملات، كصحيحة هشام وموثّقة السكوني، فراجع.

الأمر الخامس: في الصحّة والفساد

ذكر المحقّق الثاني - على ما حكي عنه - في الغشّ بما يخفى بعد تمثيله له بمزج اللبن بالماء وجهين في صحّة المعاملة وفسادها: من حيث إنّ المحرّم هو الغشّ والمبيع عين مملوكة ينتفع بها، ومن أنّ المقصود بالبيع هو اللبن، والجاري عليه العقد هو المشوب. ثمّ قال: وفي الذكرى في باب الجماعة ما حاصله: أنّه لو نوى الاقتداء بإمام معيّن على أنّه زيد فبان عمرو أنّ في الحكم نظراً، ومثله لو قال: بعتك هذا الفرس، فإذا هو حمار، وجعل منشأ التردّد تغليب الإشارة أو الوصف(2).

ص: 320


1- مصباح الفقاهة / ص 301.
2- انظر: جامع المقاصد / ص 204.

قال الشيخ الأعظم بعد نقل عبارة المحقّق: «وما ذكره من وجهي الصحّة والفساد جار في مطلق العيب؛ لأنّ المقصود هو الصحيح، والجاري عليه العقد هو المعيب، وجعله من باب تعارض الإشارة والوصف مبنيّ على إرادة الصحيح من عنوان المبيع، فيكون قوله: بعتك هذا العبد بعد تبيّن كونه أعمى بمنزلة قوله: بعتك هذا البصير.

وأنت خبير بأنّه ليس الأمر كذلك كما سيجيء في باب العيب، بل وصف الصحّة ملحوظ على وجه الشرطية وعدم كونه مقوّماً للمبيع، كما يشهد به العرف والشرع.

ثمّ لو فرض كون المراد من عنوان المشار إليه هو الصحيح لم يكن إشكال في تقديم العنوان على الإشارة بعدما فرض (رحمه الله) أنّ المقصود بالبيع هو اللبن والجاري عليه العقد هو المشوب؛ لأنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد؛ ولذا اتّفقوا على بطلان الصرف فيما إذا تبيّن أحد العوضين معيباً من غير الجنس.

وأمّا التردّد في مسألة تعارض الإشارة والعنوان فهو من جهة اشتباه ما هو المقصود بالذات بحسب الدلالة اللفظية؛ فإنّها مردّدة: بين كونِ متعلّق القصد (العقد خ ل) أوّلاً وبالذات هو العين الحاضرة، ويكون اتّصافه بالعنوان مبنيّاً على الاعتقاد، وكونِ متعلّقه هو العنوان والإشارة إليه باعتبار حضوره:

أمّا على تقدير العلم بما هو المقصود بالذات ومغايرته للموجود الخارجي - كما فيما نحن فيه - فلا يتردّد أحد في البطلان.

وأمّا وجه تشبيه مسألة الاقتداء في الذكرى بتعارض الإشارة والوصف في الكلام مع عدم الإجمال في النيّة فباعتبار عروض الاشتباه للناوي بعد ذلك فيما نواه؛ إذ كثيراً ما يشتبه على الناوي أنّه حضر في ذهنه العنوان ونوى الاقتداء به معتقداً لحضوره المعتبر في إمام الجماعة، فيكون الإمام هو المعنون بذلك العنوان وإنّما أشار إليه معتقداً لحضوره،

ص: 321

أو أنّه نوى الاقتداء بالحاضر وعنونه بذلك العنوان لإحراز معرفته بالعدالة، أو تعنون به بمقتضى الاعتقاد من دون اختيار - إلى أن قال: - فالأقوى حينئذ في المسألة صحّة البيع في غير القسم الرابع (وهو الغشّ بإظهار الشيء على خلاف جنسه، كبيع المموّه على أنّه ذهب أو فضّة)»(1).

وتفصيل الكلام وتوضيحه: أنّ الأوصاف في المعاملات الشخصية - كوصف الصحّة وغير المخلوط - لا تؤخذ عناوين للمبيع، بل هي مشروطة في ضمن الالتزام بالبيع والمعاملة، والاشتراط في ضمن الالتزام بالبيع يؤول إلى الالتزام الفقهي وهو الالتزام في ضمن الالتزام؛ ولذا لا يكون تخلّفها موجباً للبطلان وإنّما يقتضي الخيار؛ ولهذا صرّح الشيخ قدس سره بأنّ وصف الصحّة إنّما اُخذ على وجه الشرطية وعدم كونه مقوّماً للمبيع. نعم، لو كان الوصف مأخوذاً بنحو المقوّمية كبيع المموّه على أنّه ذهب أو فضّة فإنّ تخلّفه يوجب مغايرة الباقي مع الموصوف عرفاً؛ ولذا يكون محكوماً بالبطلان، ولا يؤثّر في الصحّة الإشارة حينئذ؛ إذ المقصود هو الجنس الذي لا وجود له.

ثمّ إنّ مسألتنا ليست من باب تعارض الوصف والإشارة؛ للعلم بأنّ الوصف مأخوذ على نحو الشرطية، ولو فرض أنّه مأخوذ بنحو وصف المقوّمية فلا إشكال في البطلان، وتشبيه مسألة الاقتداء بتعارض الإشارة والوصف لا يصحّ إلاّ بحسب مقام الإثبات؛ وإلاّ فبحسب مقام الثبوت لا إجمال ولا ترديد فيه.

هذا كلّه فيما إذا كانت المعاملات شخصية، وأمّا إذا كانت كلّية وكان الغشّ في الفرد المقبوض فلا إشكال في الصحّة ولو كان الفرد المقبوض من غير جنس المبيع؛ لأنّ غايته هو الحكم ببطلان المقبوض، وأمّا المعاملة فهي صحيحة؛ لعدم كون الغشّ في البيع وإنّما

ص: 322


1- المكاسب المحرّمة / ص 35-36.

هو في تطبيق المبيع الكلّي على الفرد الخارجي، فللمشتري تبديله بغيره.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المتراءى من عبارة الشيخ قدس سره أنّ الوصف لو لم يؤخذ بنحو الشرطية يوجب البطلان ولو لم يكن مقوّماً، وهو محلّ تأمّل ونظر؛ لأنّ العرف يجعل الوصف غير المقوّم كالمشروط في كون المعاملة متعلّقة بذات الموصوف، والوصف كالمشروط التزام في ضمن التزام.

ودعوى: أنّ العقد معلّق على الوصف، فينتفي البيع مع انتفاء الوصف؛ للتعليق المجمع على كونه مبطلاً للعقد.

صحيحة لو اُريد من الشرط الشرط الاُصولي، وأمّا إن اُريد منه الشرط الفقهي - أي الالتزام في ضمن الالتزام في الأوصاف - فلا يوجب البطلان كما عرفت.

ثمّ إنه قد يستدلّ على البطلان: بورود النهي عن بيع المغشوش؛ فإنّه يدلّ على الفساد. ولكن لم نجد ما يدلّ على النهي عن بيع المغشوش إلاّ خبر موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه السلام في الدينار المغشوش: «ألقِهِ في البالوعة؛ حتّى لا يباع شيء فيه غشّ »(1).

وهو مضافاً إلى ما في سنده - حيث لم أجد إسناد الصدوق إلى موسى بن بكر - محمول على ما إذا كان المقصود منه حراماً، نظير آلات اللهو والقمار؛ إذ من المعلوم أنّ مثله بهيئته لا يقصد منه إلاّ التلبيس؛ فهو آلة الفساد لكلّ من دفع إليه، وأين هو من اللبن الممزوج بالماء وشبهه ؟! كما أفاد وأجاد الشيخ في المكاسب.

وأمّا النهي عن الغشّ فهو لا يفيد الفساد؛ لأنّ الغشّ أمر خارج عن البيع، والنهي إذا تعلّق بأمر خارج عن الشيء لا يدلّ على الفساد.

وعليه فلا يكون البيع باطلا فيما إذا كان الغشّ بإخفاء الأدنى في الأعلى كمزج الجيّد

ص: 323


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 282، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

بالرديء، أو غير المراد في المراد كإدخال الماء في اللبن، وبإظهار الصفة الجيّدة المفقودة واقعاً.

وهذا بخلاف ما إذا كان الغشّ بإظهار الشيء على خلاف جنسه، كبيع المموّه على أنّه ذهب أو فضّة، كما صرّح به الشيخ الأعظم قدس سره.

ص: 324

المسألة الثامنة والثلاثون «في الغناء»

اشارة

والبحث فيه يقع في عدّة جهات:

الجهة الاُولى: في كلمات الأصحاب

قال الصدوق في المقنع: «واعلم أنّ كسب المغنّية حرام»(1).

وظاهره حرمة التكسّب بالغناء من دون شرط.

وقال في الهداية: «وكسب المغنّية حرام، ولا بأس بكسب المغنّية النائحة إذا قالت صدقاً. وقد روي أنّها تستحلّه بضرب إحدى يديها على الاُخرى»(2).

وظاهره حرمة التكسّب بالغناء من دون شرط، بخلاف النائحة فإنّ التكسّب بالنوح حرام إذا لم يكن صدقاً.

وقال المفيد: «وعمل العيدان والطنابير وسائر الملاهي محرّم... وكسب المغنّيات حرام. وتعلّم ذلك وتعليمه محظور في شرع الإسلام. وكسب النوائح بالباطل حرام، ولا

ص: 325


1- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 11.
2- المصدر السابق / ص 17.

بأس بالنوح على أهل الدين بالحقّ من الكلام. ولا بأس بالأجر على ذلك، والتنزّه عن التكسّب به أولى في الدين»(1).

وهذه العبارة كعبارة الصدوق في تحريم الغناء من دون شرط، بخلاف تحريم النياحة حيث شرط فيه كونه بالباطل.

وقال الشيخ في النهاية في عداد المحرّمات: «ومنها: عمل جميع أنواع الملاهي والتجارة فيها والتكسّب بها - مثل العيدان والطنابير وغيرهما من أنواع الأباطيل - محرّمٌ محظور... وكسب المغنّيات وتعلّم الغناء حرام. وكسب النوائح بالأباطيل حرام، ولا بأس بذلك على أهل الدين بالحقّ من الكلام»(2).

وقال في الاستبصار بعد نقل روايات المغنّية التي تزفّ العرائس: «فالوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا تتكلّم بالأباطيل ولا تلعب بالملاهي من العيدان وأشباهها ولا بالقصب ونحوه، بل يكون ممّن تزفّ العروس وتتكلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد من الفحش والأباطيل، فأمّا ما عدا هؤلاء ممّن يتغنّين بسائر الملاهي فلا يجوز على حال؛ سواء كان في العرائس أو غيرها»(3).

وظاهره استثناء الغناء في ليلة الزفاف إذا لم تقترن معه المذكورات.

وقال سلاّر في المراسم في عداد المحرّم من البيع: «وعمل الملاهي، والتجارة فيها... وكسب المغنّيات والنوائح بالباطل»(4).

ص: 326


1- المصدر السابق / ص 21-22.
2- المصدر السابق / ص 75-76.
3- الاستبصار / ج 2، ص 62.
4- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 107-108.

ولعلّ قيد «الباطل» متعلّق بالنوائح.

وقال ابن البرّاج في المهذّب: «وأمّا المكروه: فجميع ما كره من المآكل والمشارب... وأجر المغنّيات في الأعراس إذا لم يغنّين بالأباطيل والضرب»(1).

وجواز الغناء في الأعراس قيّده بما إذا لم يكن باطلا ومقترناً بالملاهي.

وقال الراوندي في فقه القرآن: «ومتى علم الإنسان أو غلب على ظنّه أنّه لا يتمكّن من جميع ذلك فلا يجوز له التعرّض له على حال. وعن أبي بصير: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن كسب المغنّيات، قال: «التي تدعى إلى العرائس ليس به بأس، والتي يدخل عليها الرجال حرام، وهو قول الله تعالى: (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ )(2) »(3)»(4).

وقال ابن زهرة في الغنية: «فأمّا المحظور على كلّ حال:... وآلات الملاهي، والزمر، مثل الناي وجميع ما جرى مجراه، والقصيب، والشين وما جرى مجرى ذلك، والحبال (والطبال ظ) على اختلاف وجوهه وضروبه وآلاته، والغناء»(5).

وقال الكيدري في إصباح الشيعة: «ولا يجوز بيع أنواع الملاهي كالطنابير والعيدان وغيرهما... وكسب المغنّيات والنوائح بالأباطيل... ولا بأس بأخذ اُجرة المغنّية في الأعراس إذا لم تغنّ بالأباطيل ولا يدخلن على الرجال»(6).

ص: 327


1- المصدر السابق / ص 132.
2- سورة لقمان / الآية 6.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 120، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
4- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 13، ص 181.
5- المصدر السابق / ص 208.
6- المصدر السابق / ص 275.

وقال ابن إدريس في السرائر في عداد المحرّمات: «وآلات جميع الملاهي على اختلاف ضروبها من الطبول والدفوف والزمر وما جرى مجراه، والقصب، والسير، والرقص، وجميع ما يطرب من الأصوات والأغاني وما جرى مجرى ذلك»(1).

وقال أيضاً في عداد المكروهات: «وأجر المغنّيات في الأعراس إذا لم يغنّين بالأباطيل على ما روي. والأظهر أنّ الغناء محرّم ممّن كان»(2).

وقال يحيى بن سعيد الحلّي في نزهة الناظر في عداد ما لا يجوز بيعه: «وبيع المغنّية بزيادة في ثمنها لأجل الغناء»(3).

وقال المحقّق في الشرائع: «الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به، كآلات اللهو مثل العود والزمر... الرابع: ما هو محرّم في نفسه، كعمل الصور المجسّمة والغناء... ونوح النائحة بالباطل»(4).

وظاهر كلامه - كظاهر كلام من سبق عليه - هو حرمة الغناء من دون تقييد بالباطل، بخلاف نوح النائحة فإنّ حرمته متقيّدة بما إذا كان النوح بالباطل.

وقال في المختصر النافع: «الخامس: الأعمال المحرّمة، كعمل الصور المجسّمة، والغناء عدا المغنّية لزفّ العرائس إذا لم تغنّ بالباطل ولم تدخل عليها الرجال، والنوح بالباطل؛ أمّا بالحقّ فجائز»(5).

ص: 328


1- المصدر السابق / ج 14، ص 400.
2- المصدر السابق / ص 406.
3- المصدر السابق / ج 35، ص 280.
4- المصدر السابق / ج 14، ص 413-414.
5- المصدر السابق / ص 450.

وقال العلاّمة في القواعد في عداد المحرّمات: «الثاني: كلّ ما يكون المقصود منه حراماً كآلات اللهو كالعود... الرابع: ما نصّ الشرع على تحريمه عيناً، كعمل الصور المجسّمة، والغناء وتعليمه واستماعه، وأجر المغنّية، وقد وردت رخصة في إباحة أجرها في العرس إذا لم تتكلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهي ولم يدخل الرجال عليها. ويحرم أجر النائحة بالباطل، ويجوز بالحقّ »(1).

وقال في تبصرة المتعلّمين: «الخامس: يحرم التكسّب بما يحرم عمله، كعمل الصور المجسّمة، والغناء في غير العرس، والنوح بالباطل؛ ولا بأس بالحقّ »(2).

وقال في إرشاد الأذهان: «الرابع: ما هو حرام في نفسه، كعمل الصور المجسّمة، والغناء... والنوح بالباطل»(3).

وقال في تلخيص المرام: «يحرم التكسّب بالأعيان النجسة... وعمل الصور ذات الروح المجسّمة وغيرها على رأي، والغناء... والنوح بالباطل»(4).

وقال في التذكرة: «الرابع: ما نصّ الشارع على تحريمه عيناً، كعمل الصور المجسّمة، والغناء وتعليمه واستماعه، وأجر المغنّية، قال الصادق عليه السلام وقد سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات، فقال: «شراؤهنّ حرام، وبيعهنّ حرام، وتعلّمهنّ كفر، واستماعهنّ نفاق»(5). وقال الصادق عليه السلام: «المغنّية ملعونة؛ ملعون من أكل كسبها»(6). وأوصى إسحاق

ص: 329


1- المصدر السابق / ج 1، ص 496-497.
2- المصدر السابق / ج 35، ص 299-300.
3- المصدر السابق / ص 312.
4- المصدر السابق / ص 335.
5- انظر: وسائل الشيعة / ج 17، ص 124، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 7.
6- المصدر السابق / ص 121، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

بن عمر عند وفاته بجوار له مغنّيات أن يبعن ويحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السلام. قال إبراهيم بن أبي البلاد: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم، وحملت الثمن إليه، فقلت له: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات وحمل الثمن إليك، وقد بعتهنّ ، وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ؟ فقال: «لا حاجة لي فيه؛ إنّ هذا سحت، وتعليمهنّ كفر، والاستماع منهنّ نفاق، وثمنهنّ سحت»(1)»(2).

وقال الشهيد الأوّل في اللمعة: «فالمحرّم:... وآلات اللهو... ويحرم عمل الصور المجسّمة والغناء... والنوح بالباطل»(3).

وقال في الدروس: «وقد يحرم إذا اشتمل على وجه قبيح، وهو أقسام: أحدها: ما حرّم لعينه كالغناء - فيحرم فعله وتعلّمه وتعليمه واستماعه والتكسّب به، إلاّ غناء العرس إذا لم يدخل الرجال على المرأة ولم يُتكلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهي، وكرّهه القاضي، وحرّمه ابن إدريس والفاضل في التذكرة، والإباحة أصحّ طريقاً وأخصّ دلالةً - والنياحة بالباطل»(4).

وقال ابن طي في المسائل: «مسألة (187): الجارية المغنّية إذا بيعت بأكثر ممّا يرغب فيها لولا الغناء فالوجه التحريم، إذا كان اشتراها لكونها مغنّية لم يصحّ ، وإلاّ صحّ ويفعل حراماً»(5). ويحتمل سقوط حرف الواو قبل قوله: «إذا كان...».

ص: 330


1- المصدر السابق / ص 123، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.
2- تذكرة الفقهاء / ج 2، ص 583، الطبعة الحجرية.
3- سلسلة الينابيع الفقهية / ج 14، ص 557.
4- المصدر السابق / ج 35، ص 395.
5- المصدر السابق / ص 490.

وقال المحقّق الثاني في جامع المقاصد في ذيل قول العلاّمة في القواعد: «والغناء»، «هو ممدود، والمراد به - على ما في الصحاح -: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، وليس مطلق مدّ الصوت محرّماً وإن مالت القلوب إليه ما لم ينتهِ إلى حيث يكون مطرباً بسبب اشتماله على الترجيع المقتضي لذلك. واستثني من الغناء: الحُداء، وفعل المرأة له في الأعراس بشروطه الآتية، واستثنى بعضهم مراثي الحسين عليه السلام كذلك»(1).

وقال أيضاً في ذيل قول العلاّمة في القواعد: «وأجر المغنّية، وقد وردت رخصة...» إلخ: «العمل على الرخصة وموردها، فلا ترخّص في غناء الرجال. والمراد من عدم دخول الرجال عليها: عدم سماعهم صوتها؛ للقطع بالتحريم وإن لم يدخلوا عليها وذلك إذا كانوا أجانب، ويحتمل العموم؛ لإطلاق النصّ ، وإنّما يحرم من الملاهي ما لا يجوز مثله في العرس، فالدفّ الذي لا صنج له ولا جلاجل له يجوز لعبها به على الظاهر؛ لاستثنائه».

وقال أيضاً في ذيل قوله في القواعد: «ويحرم أجر النائحة بالباطل، ويجوز بالحقّ »: «بشرط عدم آلات اللهو وعدم سماع الرجال الأجانب صوتها»(2).

وفي إيضاح الفوائد في ذيل قول والده في القواعد: «وقد وردت رخصة في إباحة أجرها (أي المغنّية) في العرس إذا لم تتكلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهي ولم يدخل الرجال عليها» قال: «أقول: الرخصة ما جاز فعله مع قيام المانع لمعنىً اقتضى جوازه بدليل، وهاهنا كذلك؛ لقيام الدليل على تحريم الغناء والملاهي. ودليل الرخصة: رواية

ص: 331


1- جامع المقاصد / ج 1، ص 204.
2- المصدر السابق / ص 204.

أبي بصير في الصحيح قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «أجر المغنّية التي تغنّي لزفّ العرائس ليس به بأس؛ ليست التي يدخل عليها الرجال»(1).

وقد اختلف الأصحاب هنا: فقال الشيخ في النهاية: «لا بأس بأجر المغنّية إذا لم تغنِّ بالباطل، ولا تدخل على الرجال، ولا يدخل الرجال عليهنّ ». وقال أبو الصلاح: «يحرم الغناء كلّه». وقال المفيد: «كسب المغنّية حرام». واختاره ابن إدريس، وهو الأقوى؛ لأنّ هذه الرواية من الآحاد، فلا يعارض الدليل المانع؛ لتواتره»(2).

وقال الشهيد الثاني في المسالك: «الغناء - بالمدّ -: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فلا يحرم بدون الوصفين - أعني الترجيع مع الإطراب - وإن وجد أحدهما، كذا عرّفه جماعة من الأصحاب. وردّه بعضهم إلى العرف؛ فما سمّي فيه غناء يحرم وإن لم يطرب، وهو حسن. ولا فرق في ذلك بين كونه في شعر وقرآن وغيرهما، واستثني منه الحداء - بالمدّ - وهو سوق الإبل بالغناء لها، وفعل المرأة له في الأعراس إذا لم تتكلّم بالباطل ولم تعمل بالملاهي ولم تسمع (يسمع) صوتها الأجانب من الرجال. وذهب جماعة من الأصحاب منهم العلاّمة في التذكرة إلى تحريم الغناء استناداً إلى أخبار مطلقة، ووجوب الجمع بينها وبين ما دلّ على الجواز هنا من الأخبار الصحيحة متعيّن؛ حذراً من اطّراح المقيّد»(3).

وقال الفيض الكاشاني في الوافي - بعد نقل رواية من الفقيه أنّه: «سأل رجل عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة؛

ص: 332


1- انظر: وسائل الشيعة / ج 17، ص 121، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 3.
2- إيضاح الفوائد / ج 1، ص 404-405.
3- مسالك الأفهام / ج 3، ص 126-127.

يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور»(1) - «بيان: الظاهر أنّ هذا التفسير من كلام الصدوق (رحمه الله)، ويستفاد منه أنّ مدّ الصوت وترجيعه بأمثال ذلك ليس بغناء أو ليس بمحظور، وفي الأحاديث التي مضت في باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن من كتاب الصلاة دلالةٌ على ذلك.

والذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه: اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني اُميّة وبني العبّاس؛ من دخول الرجال عليهنّ وتكلّمهنّ بالأباطيل ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها، دون ما سوى ذلك كما يشعر به قوله عليه السلام: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال».

قال في الاستبصار بعد نقل ما أوردناه في أوّل الباب: «الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا يتكلّم بالأباطيل ولا يلعب بالملاهي والعيدان وأشباهها ولا بالقضيب وغيره بل يكون ممن يزفّ العروس ويتكلّم عندها بإنشاد والشعر والقول البعيد عن الفحش والأباطيل، وأمّا ما عدا هؤلاء ممّن يتغنّين بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال؛ سواء كان في العرائس أو غيرها».

ويستفاد من كلامه: أنّ تحريم الغناء إنّما هو لاشتماله على أفعال محرّمة، فإن لم يتضمّن شيئاً من ذلك جاز، وحينئذ فلا وجه لتخصيص الجواز بزفّ العرائس ولا سيّما وقد ورد الرخصة به في غيره. إلاّ أن يقال: إنّ بعض الأفعال لا يليق بذوي المروءات وإن كان مباحاً، فالميزان فيه حديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده»(2)، وقول أبي جعفر -

ص: 333


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 122، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 2.
2- المصدر السابق / ص 317، الباب 101 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

صلوات الله عليه -: «إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟!»(1). وعلى هذا فلا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة والنار، والتشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الله الملك الجبّار، وذكر العبادات، والترغيب في الخيرات، والزهد في الفانيات، ونحو ذلك، كما اُشير إليه في حديث الفقيه بقوله عليه السلام: «فذكّرتك الجنّة»؛ وذلك لأنّ هذه كلّها ذكر الله تعالى، وربّما تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

وبالجملة: لا يخفى على ذوي الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حقّ الغناء من باطله، وأنّ أكثر ما يتغنّى به المتصوّفة في محافلهم من قبيل الباطل»(2).

ولا يخفى عليك أنّ ما نقله عن الشيخ من جواز الغناء غير المقرون بالمحرّمات مختصّ بالعرائس فلا يشمل غيرها. وبعبارة اُخرى: انّ الشيخ عمّم تحريم الغناء المقرون بأفعال محرّمة لصورتي العرس وغيره، وأمّا إذا لم يقترن بذلك فخصّ جوازه بصورة العرس، فلا يستفاد منه تجويز الغناء الذي لم يقترن بالمحرّمات في غير العرس، بل مقتضى تخصيص الجواز بالعرس عدم الجواز في غيره، وحمل عبارته على أنّ عدم الذكر من جهة منافاته مع المروءة لا شاهد له.

ثمّ إنّ مرسلة الصدوق أجنبيّة عن المقام؛ لأنّ موضوعها هو الصوت لا الغناء.

هذا مضافاً إلى أنّه لا يستفاد من تفسير الصدوق أنّ الغناء بقراءة القرآن والزهد والفضائل لا محظور فيه، بل غايته أنّ إعمال الصوت في الفضائل والقرآن بالنحو الذي لا يصدق عليه أنّه غناء لهويّ لا بأس به، بخلاف ما إذا كان بنحو الغناء المتداول اللهويّ فهو

ص: 334


1- المصدر السابق / ص 306، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 13.
2- الوافي / ج 17، ص 217-223.

ممنوع، ومضافاً إلى أنّ الرواية مرسلة، وجزم الصدوق بها لا يستلزم جزمنا بها كما لا يخفى.

وقال السبزواري في الكفاية: وممّا محرّم في نفسه الغناء؛ وهو: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب على ما قال بعضهم. وبعضهم اقتصر على الترجيع، وبعضهم على الإطراب من غير ذكر الترجيع. ومن العامّة من فسّر بتحسين الصوت، ويظهر ذلك من بعض عبارات أهل اللغة. والظاهر أنّ في الغالب لا ينفكّ التحسين من الوصفين المذكورين. ومنهم من فسّر بمدّ الصوت. ومنهم من قال: من رفع صوتاً ووالاه فهو غناء. ولعلّ الإطراب والترجيع مجتمعان غالباً. وقيل: ما يسمّى غناءً عرفاً وإن لم يشتمل على القيدين.

ولا خلاف عندنا في تحريم الغناء في الجملة، والأخبار الدالّة عليه متظافرة. وصرّح المحقّق وجماعة ممّن تأخّر عنه بتحريم الغناء ولو كان في القرآن، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه بل استحبابه في القرآن، بناءً على دلالة الروايات على حسن الصوت والتحزين في القرآن، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم وفصّلناه في بعض رسائلنا:

ففي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرؤوه بالحزن»(1).

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام: إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين»(2).

ص: 335


1- وسائل الشيعة / ج 6، ص 208، الباب 22 من أبواب قراءة القرآن، ح 1.
2- المصدر السابق / ح 2.

وعن حفص قال: ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر عليه السلام ولا أرجى للناس منه، وكانت قراءته حزناً؛ فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً(1).

وفي رواية عبدالله بن سنان: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها»(2).

وفي رواية النوفلي عن أبي الحسن عليه السلام، قال: ذكرت الصوت عنده، فقال: «إنّ عليّ بن الحسين (عليهما السلام) كان يقرأ القرآن، فربّما يمرّ به المارّ فصعق من حسن صوته و إنّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه...» الحديث(3).

وفي رواية عبدالله بن سنان عن رسول الله صلى الله عليه وآله: «لم يعْطَ اُمّتي أقلّ من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ»(4).

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال النبى صلى الله عليه وآله: «إنّ من أجمل الجمال: الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن»(5).

وفي رواية عبدالله بن سنان عن النبيّ صلى الله عليه وآله: «لكلّ شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»(6).

وفي رواية اُخرى عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ما بعث الله عزّوجلّ نبيّاً إلاّ حسن الصوت».(7)

ص: 336


1- المصدر السابق / ح 3.
2- المصدر السابق / ص 210، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 1.
3- المصدر السابق / الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 2.
4- الكافى / ج 2، ص 615، ح 7.
5- المصدر السابق / ح 8.
6- وسائل الشيعة / ج 6، ص 211، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 3.
7- الكافي / ج 2، ص 616، ح 10.

وفي رواية اُخرى عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «كان علىّ بن الحسين عليه السلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قراءته»(1).

وفي رواية اُخرى عن أبي جعفر عليه السلام: «رجّع بالقرآن صوتك؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعاً».(2)

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القرآن حتّى يرفع صوته ؟ فقال: «لا بأس؛ إنّ عليّ بن الحسين (عليهما السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار، وإنّ أبا جعفر عليه السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، و كان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(3).

وفي الفقيه: سأل رجل عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة؛ يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور»(4).

وفي رواية عبدالله بن سنان: «وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر! فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ولا يجوز تراقيهم، قلوبهم مغلوبةٌ وقلوب من يعجبه شأنهم»(5).

ص: 337


1- وسائل الشيعة / ج 6، ص 211، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 4.
2- المصدر السابق / ح 5.
3- المصدر السابق / ح 2.
4- المصدر السابق / ج 17، ص 122، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 2.
5- الوسائل / الباب 24 من ابواب قراءة القرآن، ح 1.

وارتكاب التأويل في هذه الأخبار - ما عدا الأخيرين - بحيث يجتمع مع القول بتحريم الغناء في القرآن يحتاج إلى تكلّف بيّن، والشيخ أبو جعفر الطبرسي قال في كتاب مجمع البيان: «الفنّ السابع: في ذكر ما يستحبّ للقارئ من تحسين اللفظ وتزيين الصوت بقراءة القرآن»، ونَقَل روايات من طريق العامّة حتّى نقل رواية عبد الرحمان الثابت قال: قدم علينا سعد بن أبي وقّاص، فأتيته مسلّماً عليه، فقال: مرحباً بابن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن! قلت: نعم، والحمد لله، قال: فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا»(1)، وتأوّل بعضهم: بمعنى استغنوا به. وأكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت وتحزينه. انتهى.

وهذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفاً بين القدماء، وكلام السيّد المرتضى في الغرر والدرر لا يخلو عن إشكال واضح بذلك.

وفي الكافي: «باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن»، وأورد أكثر الأخبار المذكورة، وأنت تعلم طريقة القدماء.

وحينئذ نقول: يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين: أحدهما: تخصيص تلك الأخبار بما عدا القرآن، وحمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه الفسّاق في غنائهم(2).

ص: 338


1- مجمع البيان / ج 1، ص 16.
2- لعلّ مراده من قوله: «على سبيل اللهو» - كما سيأتي في عبارته - هو اقترانه بالملاهي، وبعد تخصيص الأخبار الدالّة على حرمة التغنّي بغير القرآن فالتغنّي بالقرآن عنده جائز فيما إذا لم يكن مقروناً بالملاهي وإن كان في نفسه من الملاهي.

وثانيهما: أن يقال: المذكور في تلك الأخبار الغناء، والمفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم لغةً ، وعمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على إرادة الخاصّ ، وإرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة وسياق البيان والحكمة، فلابدّ من حمله على الاستغراق والعموم، وهاهنا ليس كذلك؛ لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري والمغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور وغيرها، فحمل المفرد على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد.

وفي عدّة من تلك الأخبار إشعار بكونه لهواً باطلا، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة والمهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل.

فإذاً: إن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعاً، وإلاّ بقي حكمه على أصل الإباحة، وطريق الاحتياط واضح. والمشهور بين الأصحاب استثناء الحداء؛ وهو سوق الإبل بالغناء لها، ولا أعلم حجّة عليه إلاّ أن يقال بعدم شمول أدلّة المنع له.

واختلفوا في فعل المرأة له في الأعراس إذا لم تتكلّم بالباطل ولم تعمل بالملاهي ولم تسمع صوتها الأجانب من الرجال: فأباحه جماعة منهم الشيخان، وكرّهه القاضي، وذهب جماعة - منهم ابن إدريس والعلاّمة - إلى التحريم استناداً إلى أخبار مطلقة. ووجوب الجمع بينها وبين الصحيح الدالّ على الجواز يقتضي المصير إلى القول الأوّل. وعن بعضهم استثناء مراثي الحسين عليه السلام، وهو غير بعيد(1).

ص: 339


1- انظر: الكفاية / ص 85-86.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ حمل الصوت الحسن وتحزينه على الغناء الذي من الملاهي أو القول بملازمتهما كماترى، ولا وجه له، إلاّ أن نلتزم بأنّ الغناء مطلق الصوت الحسن. ولكن لم يُفتِ أحد بحرمة الغناء بهذا المعنى؛ ولذا قال الشيخ الأعظم قدس سره: «نعم، لو فرض كون الغناء موضوعاً لمطلق الصوت الحسن - كما يظهر من بعض ما تقدّم في تفسير معنى التطريب - توجّه ما ذكراه (أي الكاشاني والسبزواري)، بل لا أظنّ أحداً يفتي بإطلاق حرمة الصوت الحسن، والأخبار بمدح الصوت الحسن، وأنّه من أجمل الجمال، واستحباب القراءة والدعاء به، وأنّه حلية القرآن، واتّصاف الأنبياء والأئمّة به؛ في غاية الكثرة»(1).

وعليه، فلا وجه لنسبة استحباب التغنّي بالقرآن إلى أكثر العلماء إلاّ بالمعنى المذكور، لا الغناء بالمعنى المعروف الذي هو من الملاهي، والأخبار الواردة في استحباب التغنّي بهذا المعنى لا تتعارض مع أخبار حرمة التغنّي الذي هو من الملاهي، ومع عدم المعارضة بينهما لا يحتاج إلى الجمع بينهما بأحد الوجهين.

هذا مضافاً إلى ما في الجمع المذكور من الاستدلال لاختصاص الحرمة بالصوت المقارن للملاهي دون نفس الصوت: بكون اللام للعهد والإشارة إلى المتعارف في مجالس اللهو من الغناء على سبيل اللهو من الجواري والمغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور وغيرها، مع أنّ المتعارف والشائع لا يختصّ بذلك، بل التغنّي من دون الاقتران بإحدى المذكورات شائع، ومع شمول الغناء لكليهما كيف يمكن الرجوع في غير المقرون بذلك إلى أصالة البراءة ؟!

فتحصّل إلى حدّ الآن: أنّ المشهور ذهبوا إلى حرمة الغناء مطلقاً ولو كان في القرآن

ص: 340


1- المكاسب المحرّمة / ص 38.

والدعاء وغير ذلك من الكلمات الحقّة، عدا ما يظهر من كلام الفيض الكاشاني قدس سره من اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به - من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلّها - بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني اُميّة وبني العبّاس؛ من دخول الرجال عليهنّ ، وتكلّمهن بالأباطيل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها دون ما سوى ذلك(1)، وعدا ما احتمله السبزواري في الكفاية من جريان البراءة في المجرّد عن المحرّمات(2).

ونسبة ذلك إلى الصدوق أو الشيخ غير ثابتة؛ لما قدّمناه حول كلامهما، فراجع.

بقي شيء: وهو أنّ العامّة - على ما حكي عنهم - ذهبوا إلى حرمة الغناء لجهات خارجية، وإلاّ فهو بنفسه أمر مباح. قال في فقه المذاهب الأربعة: «التغنّي من حيث كونه ترديد الصوت بالألحان مباح لا شيء فيه، ولكن قد يعرض له ما يجعله حراماً أو مكروهاً، وعلى هذا المنهج تفصيل المذاهب الأربعة. فما عن أبي حنيفة من أنّه يكره الغناء ويجعل سماعه من الذنوب، فهو محمول على النوع المحرّم منه»(3).

الجهة الثانية: في حقيقة الغناء

اختلفت كلمات اللغويّين في تفسير الغناء، وإليك بعضها:

قال الفيّومي في المصباح المنير: «والغناء - مثال كتاب -: الصوت، وقياسه الضمّ ؛

ص: 341


1- الوافي / ج 17، ص 217-233.
2- الكفاية / ص 85-86.
3- الفقه على المذاهب الأربعة / ج 2، ص 42-43.

لأنّه صوت(1)»(2).

ومقتضى إطلاقه هو كون كلّ صوت غناءً ولو لم يكن لهويّاً، أللّهم إلاّ أن تكون اللام في «الصوت» لام عهد وإشارة إلى المفهوم المعيّن المتعارف منه، فتأمّل؛ إذ لا شاهد لحمله على الخاصّ .

وقال الفيروزآبادي في القاموس: «والغناء - ككساء - من الصوت: ما طرب به»(3).

ولا يخفى عليك أنّ تفسير الغناء بالصوت المطرب إن اُريد به بيان موضوع أدلّة الحرمة فهو، ولكنّه لا يناسب شأن اللغوي، وإن اُريد به بيان اللغة فلا وجه لتخصيص الغناء بالمطرب مع كونه أعمّ منه في اللغة كما عرفت من المصباح المنير.

وقال الزبيدي في تاج العروس بعد نقل كلام صاحب القاموس: «قال حميد بن ثورة: عجبت به أنّى يكون غناؤها. وفي الصحاح: الغناء - بالكسر - من السماع. وفي النهاية: هو رفع الصوت وموالاته»(4).

ثمّ إنّ المحكي عن الكلّيات أنّ : «الغناء - بالضمّ والمدّ - التغنّي، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بكون الألحان من الشعر وانضمام التصفيق لها، فهو من أنواع اللعب»(5).

ولا يخفى ما فيه من الضعف؛ حيث إنّ مقتضاه هو نفي الغناء عمّا لا ينضمّ إليه التصفيق، والمعلوم خلافه. هذا مضافاً إلى أنّ تخصيصه بالشعر محلّ تأمّل.

ص: 342


1- ويشهد له: الحداء والدعاء بالضمّ .
2- المصباح المنير / مادّة «الغناء».
3- القاموس المحيط / مادّة «الغناء».
4- تاج العروس / مادّة «الغناء».
5- حكاه عنه في أقرب الموارد.

والمحكي عن الشافعي أنّه: تحزين القراءة و ترقيقها(1)، وبعضهم اقتصر على الترجيع أو على الإطراب(2).

وادّعى السبزواري أنّه: «في الغالب لا ينفكّ التحسين من الوصفين المذكورين»(3). ولا يخفى ما فيه؛ إذ لا دليل على عدم الانفكاك كما لا ملازمة بين الترجيع والإطراب؛ لجواز انفكاكهما، والظاهر أنّ الغناء في اللغة أعمّ ، ولا ينافيه اختصاص موضوع أدلّة الحرمة بالصوت اللهوي الخاصّ ؛ للانصراف.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «وكلّ هذه المفاهيم ممّا يعلم عدم حرمتها وعدم صدق الغناء عليها فكلّها إشارة إلى المفهوم المعيّن عرفاً، والأحسن من الكلّ ما تقدّم من الصحاح (حيث قال: إنّ الغناء من السماع، وقال أيضاً: جارية مسمّعة أي مغنّية) - إلى أن قال الشيخ الأعظم قدس سره -: ولقد أجاد في الصحاح حيث فسّر الغناء بالسماع، وهو المعروف عند أهل العرف، وقد تقدّم في رواية محمّد بن أبي عبّاد المستهتر بالسماع وبشرب النبيذ قال: سألت الرضا عليه السلام عن السماع ؟ قال: «لأهل الحجاز فيه رأي، وهو في حيّز الباطل واللهو، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً)(4) ؟!»(5). وكيف كان، فالمحصّل من الأدلّة المتقدّمة حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو؛ فإنّ اللهو كما يكون بآلة من غير صوت كضرب الأوتار ونحوه وبالصوت في الآلة كالمزمار والقصب

ص: 343


1- المصباح المنير / مادّة «غنّ ».
2- الجواهر / ج 22، ص 45.
3- الكفاية / ص 85 الطبع الحجرى.
4- سورة الفرقان / الآية 72.
5- وسائل الشيعة / ج 7، ص 308، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 19.

ونحوهما، فقد يكون بالصوت المجرّد فكلّ صوت يكون لهواً بكيفية ومعدوداً من ألحان أهل الفسوق والمعاصي فهو حرام وإن فرض أنّه ليس بغناء، وكلّ ما لا يعدّ لهواً فليس بحرام وان فرض صدق الغناء عليه فرضاً غير محقّق؛ لعدم الدليل على حرمة الغناء إلاّ من حيث كونه باطلا ولهواً ولغواً وزوراً.

ثمّ انّ اللّهو يتحقّق بأمرين: أحدهما: قصد التلّهي وإن لم يكن لهواً، والثاني: كونه لهواً في نفسه عند المستمعين وإن لم يقصد به التلهّي. ثمّ إنّ المرجع في اللهو إلى العرف، والحاكم بتحقّقه هو الوجدان؛ حيث يجد الصوت المذكور مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص، ولحضور ما يستلذّه القوى الشهوية من كون المغنّي جارية أو أمرداً ونحو ذلك، ومراتب الوجدان المذكور مختلفة في الوضوح والخفاء؛ فقد يحسّ بعض الترجيع من مبادئ الغناء ولم يبلغه»(1).

واُورد عليه: بأنّه كيف يمكن قصد التلهّي بما يعلم عدم كونه لهواً؟! ولعلّ المراد - بقرينة العبارة الثانية - عدم كونه لهواً بالنسبة إلى المستمعين؛ لعدم وجود المستمع أو لعدم التهائهم به لمرض أو شدّة همّ أو نحو ذلك من موانع التلهّي. فحاصل العبارتين يرجع إلى ما تقدّم من أنّ المراد من المطرب ما يكون مطرباً في الجملة بالنسبة إلى المغنّي أو المستمع.

هذا مضافاً إلى أنّ الشيخ خصّص الغناء بما يتعارف بين أهل الفسق والفجور من الصوت اللهوي الخاصّ مع أنّ الغناء في اللغة أعمّ ، إنّما موضوع أدلّة الحرمة مختصّ بالصوت اللهوي الخاصّ ، ولا وجه لجعل اللام في «الصوت» في كلمات أهل اللغة إشارة إلى موضوع أدلّة الحرمة أو المفهوم المعيّن الخاصّ عرفاً؛ لعدم الدليل عليه مع إطلاق

ص: 344


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 36-37.

الغناء في اللغة على غيرهما، ومجرّد اختصاص موضوع أدلّة الحرمة به لا يوجب رفع اليد عن إطلاق الغناء في اللغة.

وكيف كان، فقد تبع السيّد المحقّق الخوئي الشيخ الأعظم حيث قال: «عرّفوا الغناء بتعاريف مختلفة، إلاّ أنّها ليست تعاريف حقيقية؛ لعدم الاطّراد والانعكاس، بل هي بين إفراط وتفريط، فقد عرّفه في المصباح بأنّه: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب. وعلى قوله هذا يخرج أكثر أفراد الغناء ممّا لم يحتوِ على القيدين المذكورين؛ فإنّ من أظهر أفراده الألحان التي يستعملها أهل الفسوق، وهي لا توجب الطرب إلاّ أحياناً، ولذا التجأ الطريحي في المجمع وبعض آخر في غيره إلى توسعة التعريف المذكور بقولهم: «أو ما يسمّى في العرف غناء». نعم، قد يحصل الطرب لحسن الصوت وإن لم يشتمل على ترجيع.

وعرّفه آخرون بأنّه: مجرّد مدّ الصوت أو رفعه؛ مع الترجيع أو بدونه، وبأنّه تحسين الصوت فقط أو ترجيعه كذلك. ويلزم من هذه التعاريف أن يدخل في الغناء ما ليس من أفراده قطعاً، كرفع الصوت لنداء أحد من البعيد ورفع الصوت أو تحسينه لقراءة القرآن والمراثي والمدائح والخطب بل التكلّم العنيف، مع أنّ الشارع قد ندب إلى قراءة القرآن بصوت حسن وبألحان العرب.

بل في بعضها: «كان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن»(1)، وفي بعضها أنّه: «كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته»(2)، وفي بعضها:

ص: 345


1- وسائل الشيعة / الباب 24 من ابواب قراءة القرآن، ح 4.
2- المصدر السابق / ح 2.

«و رجّع بالقرآن صوتك؛ فإنّ الله عزّوجلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع به ترجيعاً»(1)، وستأتي الإشارة إلى هذه الروايات، فإنّ جميع هذه الأفراد ممّا يصدق عليه الغناء على التفاسير المذكورة، وهي ليست منه قطعاً.

وأيضاً ثبت في الشريعة المقدّسة استحباب رفع الصوت بالأذان ولم يتوهّم أحد أنّه غناء، وقد ورد أنّه: «ما بعث الله نبيّاً إلاّ حسن الصوت»(2)، ومن الواضح جدّاً أنّ حسن الصوت لايعلم إلاّ بالمدّ والرفع والترجيع.

وقد دلّت السيرة القطعية المتّصلة إلى زمان المعصوم عليه السلام على جواز رفع الصوت بقراءة المراثي، بل ورد الحثّ على قراءة الرثاء للأئمّة وأولادهم، ودلّت الروايات على مدح بعض الراثين كدعبل وغيره؛ فلو كان مجرّد رفع الصوت غناء لما جاز ذلك كلّه. وتوهّم خروج جميع المذكورات بالتخصيص تكلّف في تكلّف.

والتحقيق: أنّ المستفاد من مجموع الروايات بعد ضمّ بعضها إلى بعض هو ما ذكره المصنّف (أي الشيخ الأعظم) من حيث الكبرى (من حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو.) وتوضيح ذلك: أنّ الغناء المحرّم عبارة عن الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو والباطل والإضلال عن الحقّ سواء تحقّق في كلام باطل أم في كلام حقّ ، وسمّاه في الصحاح بالسماع - إلى أن قال -: ويصدق عليه في العرف أنّه قول زور وصوت لهويّ ؛ فإنّ اللهو المحرّم قد يكون بآلة اللهو من غير صوت كضرب الأوتار، وقد يكون بالصوت المجرّد، وقد يكون بالصوت في آلة اللهو كالنفخ في المزمار والقصب، وقد يكون بالحركات المجرّدة كالرقص، وقد يكون بغيرها من موجبات اللهو.

ص: 346


1- المصدر السابق / ح 5.
2- الكافى / ج 2، ص 616، ح 10.

وعلى هذا، فكلّ صوت كان صوتاً لهويّاً ومعدوداً في الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصي فهو غناء محرّم، ومن أظهر مصاديقه الأغاني الشائعة بين الناس في الراديوات ونحوها، وما لم يدخل في المعيار المذكور فلا دليل على كونه غناء فضلا عن حرمته وإن صدق عليه بعض التعاريف المتقدّمة.

ثمّ إنّ الضابطة المذكورة إنّما تتحقّق بأحد أمرين على سبيل مانعة الخلوّ: الأوّل: أن تكون الأصوات المتّصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعدّ عند العقلاء إلاّ باطلا؛ لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة بحيث يكون لكلّ واحد من اللحن وبطلان المادّة دخل في تحقّق معنى السماع والغناء، ومثاله: الألفاظ المصوغة على هيئة خاصّة المشتملة على الأوزان والسجع والقافية والمعاني المهيّجة للشهوة الباطلة والعشق الحيواني من دون أن تشتمل على غرض عقلائي، بل قد لا تكون كلماتها متناسبة كما تداول ذلك كثيراً بين شبّان العصر وشابّاته وقد يقترن بالتصفيق وضرب الأوتار وشرب الخمور وهتك الناس وغيرها من الاُمور المحرّمة. وعليه، فلو وجد اللحن المذكور في كلام له معنى صحيح عند العقلاء لما كان غناءً ، ومثاله: قراءة القرآن والأدعية والخطب والأشعار المشتملة على الحِكم والمواعظ ومدائح الأنبياء والأوصياء وأعاظم الدين ومصائبهم ورثائهم.

نعم، قد يتوهّم صدق الغناء على رفع الصوت وترجيعه بالاُمور المذكورة لجملة من التعاريف المتقدّمة، فيكون مشمولاً لإطلاقات حرمة الغناء.

ولكنّك عرفت أنّها تعاريف لفظية، وإنّما سيقت لمجرّد شرح الاسم فقط، وإن كان بلفظ أعمّ فلا تكون مطّردة ولا منعكسة، وعليه فلا وجه لما ذكره بعضهم من عدّ المراثي من المستثنيات من حرمة الغناء؛ فإنّها خارجة عنه موضوعاً كما عرفت، وإذا ثبت كونها

ص: 347

غناء فلا دليل على الاستثناء الذي يدّعيه هؤلاء القائلون.

الثاني: أن يكون الصوت بنفسه مصداقاً للغناء وقول الزور واللهو المحرّم، كألحان أهل الفسوق والكبائر التي لا تصلح إلاّ للرقص والطرب سواء تحقّقت بكلمات باطلة أم تحقّقت بكلمات مشتملة على المعاني الراقية كالقرآن ونهج البلاغة والأدعية. نعم، وهي في هذه الاُمور المعظّمة وما أشبهها أبغض؛ لكونها هتكاً للدين، بل قد ينجرّ إلى الكفر والزندقة؛ ومن هنا نهي في بعض الأحاديث عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق والكبائر أو بألحان أهل الكتابين كما في بعض الأحاديث، ويريدون بأهل الكتابين: اليهود والنصارى.

ومن هذا القبيل ما ذكر في غناء جواري الأنصار «جئناكم جئناكم، حيّونا حيّونا، نحيّيكم». ومنه أيضاً الرجز الذي يشبه ما جاء في غناء جواري الأنصار؛ فإنّ التكلّم العادي بذلك ليس من المحرّمات في الشريعة المقدّسة، بل هو مطلوب؛ لكونه مصداقاً للتحيّة والإكرام، وإنّما يكون حراماً إذا تكيّف في الخارج بكيفية لهويّة وظهر في صورة السماع والغناء.

وعلى الجملة: لا ريب أنّ للصوت تأثيراً في النفوس، فإن كان إيجاده للحزن والبكاء وذكر الجنّة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم يكن غناءً ليحكم بحرمته، بل يكون القارئ مأجوراً عند الله، وإن كان ذلك للرقص والتلهّي كان غناءً وسماعاً ومشمولاً للروايات المتواترة الدالّة على حرمة الغناء، والله العالم»(1).

وحاصله: هو قبول ما ذهب إليه الشيخ بحسب الكبرى؛ من حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو، سواء كان كذلك في نفسه مع قطع النظر عن محتوى الكلام، أو مع

ص: 348


1- مصباح الفقاهة / ص 311-313.

محتوى باطل، أو مع انضمام محرّم من المحرّمات، فكلّ مورد يكون لهواً مستقلاًّ أو مع انضمام باطل سواء كان هو محتواه أو اقترن به محرّم آخر فهو محرّم، وأمّا إذا لم يكن مؤثّراً في تحقّق سماع الغناء ولو بنحو جزء العلّة فلا إشكال فيه، فما وجد من اللحن في محتوى صحيح وغير محرّم ولم يقترن بمحرّم آخر فلا وجه لحرمته، كالألحان الواقعة في قراءة القرآن أو الأدعية أو غيرهما وإن كانت مع ترجيع ورفع صوت؛ لأنّ المفروض أنّها غير دخيلة في تحقّق السماع والغناء لا مستقلاًّ ولا مع الاقتران مع كلام لا يعدّ عند العقلاء إلاّ باطلا، فالغناء هو الذي يكون بنفسه أو مع ضميمة لهواً، وأمّا ما لا يكون كذلك فلا يكون غناءً محرّماً.

ويمكن أن يقال: إنّ الأظهر بحسب اللغة أنّ الغناء مطلق الصوت والسماع، ومن المعلوم أنّه أعمّ من الغناء المصطلح الذي وقع موضوعاً لأدلّة الحرمة، ولا ينافي أعمّية الغناء بحسب اللغة اختصاص موضوع النصوص الناهية بالغناء المصطلح؛ كما أنّ لفظ الشراب في اللغة أعمّ من كلّ ما يشرب حلالاً كان أو حراماً، ولكن إذا صار موضوعاً لحدّ الشراب كان منصرفاً إلى الحرام منه، كشرب الخمر؛ إذ مناسبة الحكم والموضوع من قرائن الاختصاص، ومع الاختصاص المذكور لا تسري حرمة الغناء المصطلح إلى مطلق السماع والغناء اللغوي حتّى يحتاج خروج غير المصطلح إلى التخصيص، فلا يرد عليه بأنّه تكلّف في تكلّف كما في عبارة مصباح الفقاهة، بل الحكم بالحرمة مختصّ بنوع من الغناء؛ وهو الغناء المصطلح كما لا يخفى.

وعليه، فالغناء الذي حرّم في الشرع هو الصوت اللهوي المخصوص بمجالس الفسق والفجور، بخلاف الغناء اللغوي فإنّه أعمّ منه، ولا دليل على حرمته؛ ولذا يقال في مثل ما ورد في صحيحة علىّ بن جعفر - حين سئل عليه السلام عن الغناء: هل يصلح في الفطر

ص: 349

والأضحى والفرح ؟ فقال: «لا بأس به ما لم يعص به»(1) -: إنّ السؤال عن مطلق ما يصدق عليه الغناء، والجواب عنه: باختصاص الحرمة بما إذا تحقّقت المعصية بنفس الغناء كما إذا كان لهويّاً، وعليه فلا يبعد أن يقال: إنّ حمل الغناء في الأدلّة الناهية عنه على الغناء اللهوي المخصوص بمجالس الفسق والفجور يكون للانصراف إلى المعروف المتداول بين أهل الفسوق والفجور، لا لأنّ المراد من المعنى اللغوي أو العرفي هو الصوت اللهوي المذكور كما يظهر من عبارة الشيخ الأعظم ومن تبعه، وبذلك يمكن الجمع بين ما ورد من الأمر بالتغنّي والمنع عنه. وبالجملة: الغناء كالشراب أعمّ من الحرام، وحرمة بعض أنواعه لا تنافي حلّية بعض آخر أو رجحانه، فالصوت اللهوي المناسب لمجالس أهل الفسوق والفجور غناء محرّم، وأمّا الصوت الحسن المناسب للقرآن فهو غناء محلّل، ولا دليل لحصر الغناء في المحرّم.

ولقد أفاد وأجاد الفاضل الشعراني حيث قال: «والذي يظهر لنا من تتبّع كلام العرب وأشعارهم وعبارات الفقهاء وأهل الأدب وغيرهم: أنّ الغناء اسم مطلق الصوت، أو لكلّ صوت يرتفع ويرجّع فيه وإن لم يمل إليه الطبع، فهو نظير القول والسماع؛ فالقول يطلق على كلّ كلام يتكلّم به، وقد يختصّ في بعض العبارات بالغناء المطرب، ويطلق القوّال على المغنّي، وروي أنّ الأنصار قوم يعجبهم القول؛ أي الغناء، وكذلك السماع اسم لاستماع كلّ كلام وصوت، وقد يخصّ في اصطلاحهم بالغناء وسماعه، كما قيل: ربّ سماع حسن سمعته من حسن، فكما أنّ القول والسماع لغةً أعمّ من المحرّم كذلك الغناء ومدّ الصوت أعمّ منه، وليس مطلق الغناء - أي مطلق مدّ الصوت - حراماً.

ونظيره الشراب؛ فإنّه في اللغة كلّ ما يشرب وليس حراماً، وقد خصّ في بعض

ص: 350


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 122، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

الاصطلاحات بالمسكر وهو حرام، فكما يجب تقسيم الشراب إلى محرّم ومحلّل كذلك الغناء - أي مدّ الصوت - فيقال: الغناء والسماع والقول قسمان: قسم محرّم وقسم محلّل، إلاّ أنّه غلب اللفظ على القسم المحرّم، نظير البدعة فإنّها اسم للشيء الحادث وغلبت على المذموم منه.

قال الشاعر في حمامه:

إذا هي غنّت أبهت الناس حُسنها وأطرق إجلالاً لها كلُّ حاذقِ

ولا ريب في صحّة إطلاق التغنّي على صوت الحمام مع عدم حرمته والالتذاذ بصوته وصوت سائر الطيور. ولا ريب أيضاً في صدق الغناء على النوح والمراثي، وتأثير الصوت ليس خاصّاً بالشهوة قطعاً.

قال إبراهيم الموصلي: إذا تغنّيت بالمديح ففخِّم، أو بالنسيب فاخضع، أو بالمراثي فاحزن، أو بالهجاء فشدِّد.

قيل: أطيب الغناء ما أشجاك وأبكاك؛ وأطربك وألهاك، وليس مخصوصاً بالبكاء في العشق واللهو، بل في المراثي أيضاً.

وقد حكي عن العارفين بهذا الشأن أحوال غريبة وأعمال عجيبة:

منها: أنّ يعقوب بن إسحاق الكندي لعب بالعود عند مريض مشرف على الموت فتهيّج فيه الحرارة الغريزية وقعد وأوصى بما أراد، ثمّ لمّا زال أثر الغناء سقط ومات. وروي أنّ بعضهم كان عنده لحن منوّم، وبعضهم كان يغنّي بلحن يثير الحماسة ويحمي الغيرة في الحرب، وبعضهم يوجد الخوف من العدوّ فيهرب. وبالجملة: لتركيب أنواع النغم على أنحاء مختلفة تأثيرٌ في النفوس.

ولا يمكن أن يقال: إنّ كلّ صوت له تأثيرٌ حرام، ولا إنّ كلّ صوت حسن بتركيب

ص: 351

نغماته يميل إليه الطبع حرام؛ لما قد سبق في كتاب الصلاة من قراءة سيّدنا السجّاد عليه السلام واجتماع الناس لصوته(1)، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لبريدة: «لقد اعطي هذا من مزامير آل داود»(2) لمّا سمع قراءته القرآن بصوت حسن، وقال: «من لم يتغنَّ بالقرآن ليس منّا»(3)، وقد سبق أنّ الباقر عليه السلام أوصى بمال للنائحة تنوح عليه أيّام منى(4)، والنوح لا يخلو من صوت بلحن شجيّ ، والحُداء للإبل معروف، ولم يمنع منه أحد؛ مع أنّه مركّب من أصوات ونغمات على نحو يؤثّر في الجملة، مع صدق التغنّي والغناء على جميع ذلك.

فلابدّ: إمّا أن يذهب مذهب الشيخ في الاستبصار ويحمل المنع من الغناء على مصاحباته لا على نفس الصوت من حيث هو صوت، أو تخصّ الحرمة بنوع خاصّ من الألحان؛ وهي ما ترغّب في الحرام وتبعث عليه، كتهييج الشهوة والرغبة في شرب المسكر واللهو والفساد، أو يثير الغيرة والحميّة لقتل نفس محرّمة وإثارة فتنة نائمة فتكون حراماً؛ لأنّها سبب الحرام، وهو المنصرف إليه من إطلاق الأحاديث المانعة وعبارة الفقهاء الأقدمين.

وأمّا الألحان التي توجب الرغبة إلى الله والعبادة وترك النظر إلى الزخارف الفانية والحزن على المظلومين من آل محمّد - صلوات الله عليهم أجمعين - أو بيان مناقبهم بلحن يوجب تأثيرها في القلوب فليس من المحرّم في شيء، فهي نظير الصوت الحسن في القرآن.

ص: 352


1- انظر: المصدر السابق / ج 6، ص 211، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 4.
2- المستدرك للحاكم النيسابورى / ج 4، ص 282.
3- مستدرك الوسائل / ج 4، ص 271، ح 2/4673.
4- انظر: المصدر السابق / ج 17، ص 125، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

وحكى الراغب في كتاب المحاضرات: إنّ ماسرجويه بكى من قراءة اُبيّ (رضي الله عنه)، فقيل له: كيف تبكي لكتاب لا تصدّق به ؟! فقال: أبكاني الشجا.

وقال إسحاق الموصلي: أمرُ الصوت عجيب؛ منه ما يسرّ سروراً يرقص، ومنه ما يُبكي، ومنه ما يُكمِد، ومنه ما يزيل العقل حتّى يُغشى على صاحبه، وليس يعتري ذلك من قبل المعاني؛ لأنّهم في كثير من الأحوال لا يفهمون. انتهى.

أقول: «ما يسرّ سروراً يرقص» هو الذي ينصرف إليه المطلق؛ فإنّه الذي كان مكسباً لجماعة يأخذون عليه اُجرة ويسمّون بالمغنّي والمغنّية.

وأمّا «ما يُبكي» فإن كان نظير بكاء العشّاق وأهل اللهو في السكر فهو أيضاً حرام، وإن كان في النوح والمراثي والمواعظ وذكر الجنّة والنار فهو محلّل، ولا ينصرف إليه المنع عن الغناء في الأحاديث وإن اُطلق عليه لفظ الغناء في اللغة.

ثمّ إن فرض نادراً أنّ بعض الألحان قد تستعمل في مجالس أهل الفسوق وقد تستعمل في المواعظ والمراثي، فلا نضايق عن الحكم بالحرمة في الأوّل وعدمها في الثاني، وإن فُرض أنّ لحناً لا يناسب القرآن والدعاء والمواعظ أصلاً بحيث لا يمكن أن يغنّي به أحد ولا يقصد به اللهو والفسوق وإن ادّعى أنّي ما أردت اللهو لم يقبل منه، فحرامٌ في العبادات وإن لم نقل بحرمة الغناء من حيث هو صوت؛ فإنّه استخفاف وتوهين للقرآن والوعظ، وقد ورد في الحديث الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب لابألحان أهل الفسق، كما مرّ في كتاب الصلاة.

وقد تبيّن بما ذكرنا: أنّه يبعد كلّ البعد أن يتحقّق الغناء المحرّم في مجالس القرآن ومراثي أبي عبدالله الحسين عليه السلام وفي مجالس الذكر والوعظ؛ لأنّ الألحان المستعملة فيها ليست لتهييج الشهوة ولا تناسب الفسوق ولا يقصد بها الفساد، بل توجب الحزن على

ص: 353

مصائب آل محمّد صلى الله عليه وآله، وهو أمر مندوب إليه.

وإن فُرض أنّ راثياً اختار لحناً من لحون أهل الفسق سُخِر منه وضُحِك قطعاً؛ لعدم المناسبة، واستهزأ الناس به حتّى الفسّاق، وتقوّض عليه مجلسه، وبار صنعته. نعم، إن اختار أهل الفسق في مجالسهم آية من آيات القرآن أو شعراً من المراثي وغنّوا بها لهواً بلحن يناسب الرقص والعزف كان حراماً البتّة؛ فهو لهو بألفاظ القرآن، لا قرآن بألحان اللهو»(1).

وقد أفاد وأجاد، ولكنّ كلامه غير خال عن بعض المناقشات، كنسبة حرمة الغناء من ناحية المقرونات إلى الشيخ الطوسي قدس سره؛ لما عرفت من عدم صحّة هذه النسبة، وكاختصاص حرمة اللحن الذي لا يمكن أن يغنّي به أحد ولا يقصد به اللهو والفسوق بالعبادات، مع أنّه إذا كان الصوت في نفسه لهويّاً ومناسباً لمجالس الفسق والفجور فإنّ ذلك لا يختصّ بالعبادات، بل اللحن المذكور حرام مطلقاً سواء كان في العبادات أو في غيرها. هذا مضافاً إلى أنّ حرمة اللحن المذكور حينئذ تكون من جهة نفس اللحن لا من جهة حرمة الاستخفاف؛ إذ الاستخفاف حرام آخر، وأيضاً: شأنية التهييج تكفي للحرمة وإن لم يقصد باللحن ذلك، وعليه فالألحان المخصوصة بمجالس الفسق والفجور محرّمة في مجالس القرآن والدعاء.

لا يقال: إن كانت شأنية التهييج تكفي للحرمة وإن لم يقصد باللحن ذلك لزم أن يكون شرب الخمر ولو من دون قصد وعمد فعلاً اختياريّاً ومحرّماً.

لأنّا نقول: إنّ عدم قصد التهييج مع قصد الإتيان بما فيه شأنية التهييج لا يوجب خروج اللحن المذكور عن القصد والاختيار، كما أنّ عدم قصد شرب الخمر بعنوان شرب

ص: 354


1- حاشية الوافي / ج 17، ص 218-220.

الخمر لا يوجب أن يكون شرب الخمر غير اختياريّ ، بل الفعل صدر عن عمد وقصد ولو اُتي به بعنوان آخر كرفع العطش أو أمر آخر، فلا تغفل.

لا يقال: إنّ حرمة الغناء المصطلح من جهة كونه لغواً أو لعباً أو لهواً أو باطلا، وحرمة هذه الاُمور بإطلاقها محلّ تأملّ ونظر؛ لأنّ مطلق اللغو ليس بحرام، وقوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )(1) في مقام المدح، ولا يدلّ على الوجوب.

ولأنّ اللعب هو الحركة لا لغرض عقلائي، ولا خلاف في عدم حرمته على الإطلاق. ثمّ اللهو - كما يظهر من الصحاح والقاموس - هو مطلق اللعب لا لغرض عقلائي، فإذا كان كذلك فلا وجه لتحريمه مطلقاً.

ولو خصّ اللهو في تفسيره بما يكون من بطر، وفسّر البطر بشدّة الفرح وهو ما تلتذّ به النفس وينبعث عن القوى الشهوية، فالمعروف أنّه حرام. ولكنّه - كما في جامع المدارك - لا يساعد هذا التفسير عدّ السفر للصيد من اللهو، مع أنّه لا يصدق التفسير المذكور عليه. هذا مضافاً إلى عدم دلالة الروايات الواردة في كون السفر للصيد لا يوجب القصر على حرمة السفر اللهوي، ومضافاً إلى أنّ التلذّذ بالنحو المذكور من سماع صوت حسن ليس بغناء، أو من مشاهدة بعض المناظر ليس بغناء، ولا يلتزم بحرمتهما(2).

وهكذا لا دليل على حرمة مطلق الباطل، والتمسّك بمثل موثّقة زرارة - عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه سئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب التي يقال لها لعبة الأمير، وعن لعبة الثلاث ؟ فقال: «أرأيتك إذا ميّز الله الحقّ والباطل مع أيّهما تكون ؟» قال: مع الباطل، قال:

ص: 355


1- سورة المؤمنون / الآية 3.
2- جامع المدارك / ج 3، ص 18.

«فلا خير فيه»(1) - لحرمة مطلق الباطل محلّ تأمّل ومنع؛ لأنّ نفي الخير لا يدلّ على الحرمة بل يناسب الكراهة أيضاً وإن كان المراد منه بالإضافة إلى بعض مورد السؤال أو كلّه الحرمة ولكنّها بقرينة خارجية، ولو كنّا وهذه الرواية لما أمكن الحكم بالحرمة حتّى في مورد السؤال(2).

لأنّا نقول: إنّ المدّعى ليس هو حرمة مطلق اللغو واللعب واللهو والباطل، بل الخاصّ من هذه الاُمور؛ وهو ما تعارف في مجالس أهل الفسوق والمعاصي كما صرّح به الشيخ الأعظم وتبعه جماعة منهم السيّد المحقّق الخوئي قدس سره. ولا إشكال في حرمة الاُمور المذكورة بهذا المعنى، كما تدلّ عليه أدلّة حرمة الغناء الآتية التي منها موثّقة الوشّاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن شراء المغنّية ؟ فقال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلاّ ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار»(3)؛ إذ لا وجه لذلك إلاّ حرمة الغناء المتعارف الذي يتغنّى به في مجالس أهل الفسوق والفجور.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ اللهو المحرّم هو نفس الصوت ولو لم يكن الكلام لهواً أو لم يقترن به محرّم آخر أو لم يكن كلام؛ لصدق الغناء عليه عرفاً بالإتيان بالصوت بالكيفية المعهودة في مجالس الفسق والفجور.

هذا مضافاً إلى موثّقة عبد الأعلى قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الغناء وقلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم، حيّونا حيّونا، نحيّيكم ؟ فقال: «كذبوا! إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ )

ص: 356


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 319، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.
2- إرشاد الطالب / ج 1، ص 183.
3- جامع الأحاديث / الباب 20 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.

لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ )(1) ». ثمّ قال: «ويلٌ لفلان ممّا يصف! رجل لم يحضر المجلس»(2)؛ حيث إنّ محتوى الكلام ليس بلهو محرّم، فالحرمة من ناحية كيفية الصوت. وعليه فلا تتوقّف حرمته على كون الكلام باطلا، بل لا تتوقّف على الكلام؛ فلو سمع من بعيد صوتاً يكون لحنه مناسباً لمجالس الفسوق والفجور يحكم بأنّه غناء محرّم وإن لم يحتوِ كلاماً؛ ولذلك قال في الجواهر: «إنّ الغناء من مقولة الأصوات أو كيفيّاتها من غير مدخلية لأمر آخر، ولا ينافي ذلك عدّه من لغو الحديث وقول الزور ونحوها ممّا يمكن كون المراد منه أنّه كذلك باعتبار هذه الكيفية الخاصّة»(3).

ثمّ لا يذهب عليك أنّه إن اُحرز في مورد أنّ كيفية الصوت غناء ولهو مناسب لمجالس الفجور والفسوق فهو، وإلاّ فشمول مفهوم الغناء بالنسبة إلى مورد الشكّ غير محرز، وتكون الوظيفة في الشبهة المفهومية هي الأخذ بالمقدار المتيقّن والرجوع في غيره إلى البراءة.

توضيح للغناء الاصطلاحي:

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «وقد تصدّى العلم الفقيه الشيخ محمّد رضا آل الشيخ محمّدتقي (رحمهم الله)» لتفسيره (أي الغناء) في رسالة لطيفة مستقلّة، فقال: الغناء صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، والطرب: هو الخفّة التي تعتري

ص: 357


1- سورة الأنبياء / الآيات 16-18.
2- الكافي / ج 6، ص 433.
3- جواهر الكلام / ج 22، ص 44.

الإنسان فتكاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً.

ثمّ تصدّى لتشييده بذكر مقدّمة حاصلها: أنّ الغناء من أظهر مظاهر الحسن، ولأجله يطلبه من يطلبه، فلابدّ لبيان ناموس الحسن فأقول: الحسن وإن كان ممّا تحيّر فيه العقول ويدرك ولا يوصف، ولكنّه في المركّبات لا يخرج عن حدّ التناسب، فأينما وجد فالتناسب سببه؛ فالخطّ الحسن ما تناسبت واواته وميماته، والشعر الحسن ما تناسبت ألفاظه ومعانيه، ولا يوصف الحيوان بالحسن إلاّ إذا تناسبت أعضاؤه، ولا يقال للوجه إنّه جميل إلاّ إذا تناسبت أجزاؤه... وهكذا. والصوت بين مظاهر الحسن من أكثرها قبولاً للتناسب، فإذا كان الصوت متناسباً بَمُّه وزِيْرُه وبزاته ومدّه وارتفاعه وانخفاضه واتّصاله وانفصاله سمّي بالغناء. وقد وضع لبيان هذه النسب وأقسامها فنّ الموسيقى الذي هو أحد أقسام العلوم الرياضية.

إلى أن قال: وإذا اُنشد الشعر على طبق مقرّرات الفنّ أوجب لسامعه إذا كان من متعارف الناس الطرب الخارج عن المتعارف حتّى يكاد أن يفعل فعل المسكر، فيصدر من الشريف الحكيم ما يأنف منه الأنذال من أقوال وأفعال يشبه أقوال السكارى وأفعالهم.

إلى أن قال: ولقد أحسن الشيخ قدس سره في قوله: ما كان مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص، وكأنّه تحاول ما ذكرناه؛ فإنّ النسب الموسيقية تنطبق على النسب الإيقاعية؛ ولذلك يطابق أهل اللهو بينهما. وقد اعترض اُستاذ الصناعة على الرشيد بأنّ مغنّيك يغنّي بالثقل، وعوّادك يضرب بالخفيف، فالصوت الخالي عن النسبة لا يكون غناء وإن أوجب الطرب وقصد به اللهو، كما أنّ مجرّد تحريك الأوتار لا يقال له ضرب ولا يكون محرّماً، وكذلك مجرّد تحريك الأعضاء لا يكون رقصاً ما لم يكن على النسب المعيّنة. انتهى ملخّصاً.

ص: 358

وإنّما نقلناه بتفصيل؛ أداءً لبعض حقوقه، ولاشتماله على تحقيق وفوائد. والإنصاف أنّ ما ذكره وحقّقه أحسن ما قيل في الباب وأقرب بإصابة الواقع، وإن كان في بعض ما أفاده مجال للمناقشة، كانتهائه حدّ الإطراب بما يكاد أن يزيل بالعقل، وأنّ العلّة في الغناء عين العلّة في المسكر؛ وذلك لعدم الشاهد عليه في العرف واللغة؛ لصدق الغناء على ما لم يبلغ الإطراب ذلك الحدّ ولم يكن من شأنه ذلك أيضاً؛ فإنّ للغناء أقساماً كثيرة ومراتب كثيرة غاية الكثرة في الحسن والإطراب، فربّما بلغ فيه غايته، كما لو كان الصوت بذاته في كمال الرقّة والرخامة وكان الصائت ماهراً في البحور الموسيقية وكان البحر مناسباً له - كالبحر الخفيف مثلاً - فحينئذ لا يبعد أن يكون مزيلاً للعقل ومهيّجاً للحليم وموجباً لصدور أعمال من الشريف الحكيم ما لا يصدر من الأنذال والأرذال - إلى أن قال: - وربّما لا يكون بتلك المرتبة كما لعلّه كذلك غالباً، وكلمات اللغويّين أيضاً لا تساعده؛ لعدم تقييد مهرة الفنّ بحصول تلك المرتبة.

إلى أن قال: فالأولى تعريف الغناء بأنّه: صوت الإنسان الذي له رقّة وحسن ذاتيّ ولو في الجملة، وله شأنية إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس - إلى أن قال: - وبما ذكرناه تظهر الخدشة في الحدّ المنتسب إلى المشهور؛ وهو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب؛ فإنّ الغناء لا يتقوّم بالمدّ ولا الترجيع، ففي كثير من أقسامه لا يكون مدّ ولا ترجيع، لعلّ القيدين في كلماتهم لأجل كون المتعارف من الغناء في أعصارهم هو ما يكون مشتملاً عليهما فظنّ أنّه متقوّم بهما، كما أنّ المطربية الفعلية غير معتبرة فيه بما مرّ، وأنّ الصوت ما لم يكن فيه رخامة وصفاء ليس بغناء. ثمّ إنّ ما ذكرناه في المقام هو تحصيل ماهيّة الغناء من غير نظر إلى ما كان موضوعاً للحكم الشرعي، ولعلّ موضوعه أعمّ أو أخصّ .

ص: 359

فتحصّل من ذلك: أنّ الغناء ليس مساوقاً للصوت اللهوي والباطل ولا لألحان أهل الفسوق والكبائر، بل كثير من الألحان اللهوية وأهل الفسوق والأباطيل خارج عن حدّه ولا يكون في العرف والعادة غناءً ، ولكلّ طائفة من أهل اللهو والفسوق والتغنّي شغل خاصّ في عصرنا ومحالّ خاصّة معدّة له، ولشغله وصنعته اسم خاصّ يعرفه أهل تلك الفنون»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الغناء اللغوي أعمّ من الصوت اللهوي وما له شأنية الطرب، وعليه فتفسير الغناء اللغوي بما له شأنية إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس لا يساعد المعنى اللغوي. نعم، هو مناسب لموضوع الحكم الشرعي، ومعه فكيف يمكن أن يقال: إنّ ما ذكرناه في المقام هو تحصيل ماهيّة الغناء من غير نظر إلى ما كان موضوعاً للحكم الشرعي، ولعلّ موضوعه أعمّ أو أخصّ؟!

وإن أراد بذلك تعريف الغناء الاصطلاحي فلا وجه لما أفاد من أنّ الغناء ليس مساوقاً للصوت اللهوي والباطل ولا لألحان أهل الفسوق والكبائر؛ لأنّ الغناء الاصطلاحي لا يخلو عن اللهو والباطل ولا عن ألحان أهل الفسوق والكبائر، بل القدر المتيقّن من الغناء الاصطلاحي هو المشتمل على الاُمور المذكورة كما لا يخفى.

فتحصّل: أنّ الغناء في اللغة: هو مطلق الصوت الحسن، وهو أعمّ من الغناء المصطلح المختصّ بمجالس الفسوق والفجور.

ولا ينافي ما ذكرناه كون الموضوع في الأخبار الناهية هو الصوت اللهوي منه المختصّ بمجالس الفسوق والفجور من جهة الانصراف؛ سواء كان من ناحية كثرة الاستعمال أو كان بمناسبة الحكم والموضوع.

ص: 360


1- المكاسب المحرّمة / ص 198-203.

ثمّ إنّ القدر المتيقّن من الغناء المختصّ بمجالس أهل الفسق والفجور هو الصوت اللهوي الذي له شأنية الإطراب، والمراد من الإطراب ليس هو الخفّة المزيلة للعقل بل الخفّة التي تصلح لتهييج الشهوة وجعل السامع ممّن لا يبالي بالدين؛ فيعمل الأعمال القبيحة والمحرّمة. نعم، ربّما تصل هذه الخفّة إلى حدّ يكاد أن يذهب بالعقل ويفعل السامع ما يفعله شارب الخمر، ولكن لا يتقيّد الغناء به كما عرفت.

ثمّ إنّ تحقّق شأنية الإطراب وعدمه موكول إلى العرف كسائر الموضوعات، وليس تعيين ذلك من وظيفة الفقيه، والمراد من العرف هو العرف العامّ ، قال في الجواهر: «لا عبرة بعرف عامّة سواد الناس؛ فإنّه الآن مشتبه قطعاً؛ لعدّهم الكيفية الخاصّة من الصوت في غير القرآن والدعاء وتعزية الحسين عليه السلام غناءً ، ونفىِ ذلك عنها فيها، وما ذلك إلاّ لاشتباهه؛ للقطع بعدم مدخلية خصوص ألفاظ فيه؛ لما عرفت من أنّه كيفية خاصّة للصوت بأيّ لفظ كان»(1).

ولا يخفى عليك أنّه لا فرق بين الغناء وسائر الموضوعات في أنّ المرجع في تحقّقه وعدمه هو العرف العامّ ، لا العرف الخاصّ كأهل الخبرة، إلاّ إذا كان الموضوع من الموضوعات التي لا يعلمها إلاّ أهل الخبرة، وما نحن فيه من الموضوعات التي يعرفها العرف العامّ ؛ فإنّ شأنية الإطراب كشأنية الإسكار ممّا يعرفه العرف، ولا فرق عندهم بين أن يكون ذلك في غير القرآن والدعاء وتعزية الحسين عليه السلام أو يكون في هذه الموارد، ولا اشتباه لهم في ذلك كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد الشيخ الأعظم حيث قال: «ثمّ إنّ المرجع في اللهو إلى العرف، والحاكم بتحقّقه هو الوجدان؛ حيث يجد الصوت المذكور مناسباً لبعض آلات اللهو

ص: 361


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 46.

والرقص، ولحضور ما يستلذّه القوى الشهوية من كون المغنّي جارية أو أمرداً ونحو ذلك، ومراتب الوجدان مختلفة في الوضوح والخفاء؛ فقد يحسّ بعض الترجيع من مبادئ الغناء ولم يبلغه»(1).

ثمّ إنّ الظاهر من الرياض أنّه يمكن أن يتحقّق الغناء عند العرف من دون إطراب حيث قال: «والغناء: هو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، وما يسمّى في العرف غناء وإن لم يطرب؛ سواء كان في الشعر أو قرآن أو غيرهما، على الأصحّ الأقوى، بل عليه إجماع العلماء كما حكاه بعض الأجلاّء»(2).

ويمكن أن يقال: إن أراد من نفي الإطراب فعليّة الإطراب فهو، وأمّا إن أراد نفي الإطراب ولو بحسب الشأنية ففيه منع؛ لانصراف موضوع أدلّة الحرمة إلى ما تعارف في مجالس الفسوق والفجور، وهو لا يخلو عن الشأنية المذكورة. نعم، لا يلزم المدّ أو الترجيع في الغناء الذي له شأنية الإطراب.

وممّا ذكر يظهر ما في زبدة البيان حيث قال: «الغناء مشهور، فكلّ ما يسمّى في العرف بها (به) فهو محرّم؛ إذ لا معنى له شرعاً. قيل: هو ترجيع الصوت المطرب، وما اعتبر المطرب بعض، والأصل أنّ تحريمه ثابت، فكلّ ما يقال إنّه غناء فهو حرام إلاّ ما استثني مثل الحداء، فإن ثبت اعتبار الترجيع والطرب في الغناء فهو المحرّم فقط، وما نعرفه، وإلاّ فيحرم الكلّ ، والاحتياط في ترك الكلّ »(3)؛ وذلك لأنّ القدر المتيقّن من الغناء المحرّم هو الصوت اللهوي الذي له شأنية الإطراب وحرمته معلومة، ومقتضى

ص: 362


1- المكاسب المحرّمة / ص 37.
2- الرياض، كتاب المتاجر / الطبعة الحجرية.
3- زبدة البيان / ص 413، منشورات المكتبة المرتضوية.

القاعدة في الشبهة المفهومية هو الأخذ بالقدر المتيقّن والرجوع إلى البراءة فيما شكّ فيه، وقد قال قدس سره في مجمعه: «وقد يستثنى المراثي للحسين عليه السلام، ودليله غير واضح، ولعلّ دليل الكلّ أنّه ما ثبت بالإجماع إلاّ في غيرها، والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً، والأصل الجواز، فما ثبت تحريمه يحرم والباقي يبقى، فتأمّل فيه. ويؤيّده: أنّ البكاء والتفجّع عليه عليه السلام مطلوب ومرغوب وفيه ثواب عظيم، والغناء معين على ذلك...» إلخ(1).

وبالجملة، إنّ من فسّر الغناء بالصوت اللهوي الخاصّ الذي له شأنية الإطراب إن أراد بذلك بيان الموضوع الشرعي الذي حرّمه الشارع فهو حقّ وظاهر، وإن أراد بذلك بيان المعنى اللغوي والعرفي فالظاهر - كما أفاد الفاضل الشعراني - أنّه ليس كذلك، بل يطلق الغناء اللغوي والعرفي على اللهو وغير اللهو، إلاّ أنّ اللهوي منه حرام وغير اللهوي جائز مع صدق الغناء عليهما جميعاً، لكنّ أكثر استعمال الغناء في اللهو؛ لأنّه المتداول المشهور المطلوب عند أهل الدنيا الذي صار أحد المشاغل والمعايش، ويعطى بإزائه الاُجرة، وتجرّد جماعة للتمهّر فيه، وهو المسؤول عنه والمطلوب حكمه، والنهي وارد عليه(2).

فلا دليل على حرمة الغناء بمعناه اللغوي إلاّ في نوع منه؛ وهو الصوت اللهوي الذي له شأنية الإطراب، وعليه فمقتضى الجمع بين ما ورد في حرمة الغناء وما ورد في تحسين التغنّي بالقرآن أن يقال: إنّ المحرّم منه هو اللهوي الذي له شأنية الإطراب وأمّا الصوت الحسن الذي ليس كذلك فمستحسن في القرآن، فلا تهافت. ولعلّ كلام الفيض يؤول إلى الاختلاف في المعنى؛ فإنّه يقول: إنّ معنى الغناء لغةً هو الصوت الحسن وهو مطلوب في

ص: 363


1- مجمع الفائدة والبرهان / ج 8، ص 61.
2- حاشية الوافي / ج 10، ص 221-222.

القرآن، لا أنّ الصوت اللهوى على قسمين: حلال وحرام؛ لأنّه في مقام نفي التحريم عن الصوت الحسن المذكِّر باُمور الآخرة؛ المُنسي لشهوات الدنيا.

ولكن قال الشيخ الأعظم قدس سره: «نعم، بعض كلماتهما (أي المحدّث الكاشاني والسبزواري) ظاهرة فيما نسب إليهما من التفصيل في الصوت اللهوي الذي ليس هو عند التأمّل تفصيلاً؛ بل قولاً بإطلاق جواز الغناء وأنّه لا حرمة فيه أصلاً، وإنّما الحرام ما يقترن به من المحرّمات»(1)، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ الحزن والبكاء ربّما جُعلا من أنواع الغناء، ولعلّ المراد بهما هو ما إذا كانا للعشق الشهواني، وأمّا إذا كانا لمحبّة أهل البيت عليهم السلام فهو مندوب، ولا يكون الصوت الموجب لهما من أنواع الغناء كما صرّح به في محكيّ شرح الإرشاد حيث قال: «ليس في المراثي طرب، بل ليس فيها إلاّ الحزن»(2).

وقال الفاضل الشعراني: «وأمّا ما يبكي: فإن كان نظير بكاء العشّاق وأهل اللهو في السكر فهو حرام، وإن كان في النوح والمراثي والمواعظ وذكر الجنّة والنار فهو محلّل، ولا ينصرف إليه المنع عن الغناء في الأحاديث وإن اُطلق عليه لفظ الغناء في اللغة»(3).

الجهة الثالثة: في أدلّة حرمة الغناء

اشارة

لا خلاف بين الإمامية في حرمة الغناء، قال في الجواهر: «بل الإجماع بقسميه

ص: 364


1- المكاسب المحرّمة / ص 38.
2- مصباح الفقاهة / ج 1، ص 490 نقلة عن المحقق الاردبيلى فى محكى شرح الارشاد.
3- حاشية الوافى / ج 10، ص 220.

عليه... بل يمكن دعوى كونه ضروريّاً في المذهب».(1)

ويدلّ عليه جملة من الآيات المفسّرة في الروايات بالغناء، وهي متعدّدة:

إحداها: قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ)(2) ، والزور هو الباطل، وقد دلّت طائفة من الأخبار على أنّ الغناء من الزور، كمرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) ؟ قال: «قول الزور: الغناء»(3).

وكمصحّحة درست عن زيد الشحّام قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ : (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) ؟ فقال: «... وقول الزور: الغناء»(4). ولا إشكال في توثيق درست بن منصور؛ لنقل البزنطي وابن عمير عنه. ثمّ إنّ زيد الشحّام هو زيد بن يونس أبو اُسامة الأزدي مولاهم الشحّام الكوفي، له كتاب يرويه جماعة منهم صفوان بن يحيى. هذا مضافاً إلى نقل جماعة من الأجلاّء عنه.

وكصحيحة هشام المحكيّة عن تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) ؟ قال: «الرجس من الأوثان: الشطرنج، وقول الزور: الغناء»(5).

ولا يخفى أنّ ظاهر الأمر - أعني «اجتنبوا» - في الآية الكريمة هو الوجوب، فيجب

ص: 365


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 44.
2- سورة الحج /الآية 31.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 305، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 8.
4- جامع الأحاديث / ج 17، ص 184، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
5- وسائل الشيعة / ج 17، ص 310، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 26.

الاجتناب عن قول الزور - وهو الغناء - بصريح هذه الروايات المفسّرة للآية الكريمة، فالغناء منهيّ عنه بعنوان كونه مصداقاً للزور والباطل.

و ثانيتها: قوله تعالى: (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ )(1) .

وقد دلّت طائفة اُخرى من الأخبار على تفسير لهو الحديث بالغناء، والإضافة في «لهو الحديث» من باب إضافة الصفة إلى الموصوف:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: «الغناء ممّا وعد الله عليه النار»، وتلا هذه الآية: (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ )(2) .

والرواية صحيحة؛ لأنّ عليّ بن إسماعيل الواقع في الطريق والملقّب بالسندي ثقة، وقد روى عنه ابن أبي عمير أيضاً.

ومنها: صحيحة الوشّاء قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام (يقول: سئل أبو عبدالله عليه السلام - خ ل) يسأل عن الغناء، فقال: «هو قول الله عزّ وجلّ : (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ )»(3) . ولا يضرّ بصحّة الرواية اشتمال طريقها على سهل بن زياد؛ لأنّه على المختار ثقة.

ومنها: معتبرة مهران بن محمّد عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: سمعته يقول: «الغناء ممّا

ص: 366


1- سورة لقمان / الآية 6.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 304، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 6.
3- المصدر السابق / ص 306، ح 11.

قال الله: (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ )(1) .

ووجه كون الرواية معتبرة: أنّ ابن أبي عمير وصفوان كانا يرويان عن مهران بن محمّد، وهو يكفي في وثاقته؛ لأنّهما لا يرويان ولا يرسلان إلاّ عن الثقة، ومن المعلوم أنّ اشتراء لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله من الكبائر وممّا وعد الله عليه النار.

وربّما يخدش في الاستدلال بروايات الطائفة الاُولى والثانية: من جهة ظهورها في أنّ الغناء من مقولة الكلام؛ لتفسير قول الزور أو لهو الحديث به، فينافي كون الغناء كيفية الصوت اللهوي من دون اعتبار شيء آخر.

ويؤيّده: ما ورد في صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبدالله عليه السلام من أنّ : «قول الزور أن يقول للّذي يغنّي: أحسنت»(2)؛ حيث إنّ قوله: «أحسنت» باعتبار تضمّنه لمدح الفاعل للحرام يكون زوراً وباطلا، فيوافق أنّ الغناء من مقولة الكلام.

بل يشهد له: قول علىّ بن الحسين (عليهما السلام) في مرسلة الفقيه - الآتية - في الجارية التي لها صوت: «لا بأس لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة؛ يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور»(3).

بدعوى: أنّ التعبير عن الكلام الصحيح والفضائل الحقّة بعدم الغناء دليل على أنّ المراد بالغناء - ولو في بعض استعمالاته - ما يقابل هذه الاُمور من الكلام الباطل.

ثمّ إنّ قوله: «يعني» في الرواية وإن كان من الصدوق لا الإمام عليه السلام إلاّ أنّه لا يضرّ؛ لأنّ تفسير الصدوق يدلّ على صحّة استعمال الغناء فيه في ذلك العصر، وهو المطلوب.

ص: 367


1- الكافي / ج 6، ص 431.
2- انظر: جامع الأحاديث / الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، ح 37.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 122، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

وبالجملة: لا تصلح هذه الروايات لإثبات حرمة نفس كيفية الصوت ولو لم تكن في الكلام، مع أنّ المدّعى هو ذلك.

ويمكن الجواب عنه أوّلاً: بما في جامع المدارك من أنّه ليس معنى الغناء سوى الكيفية الخاصّة للصوت التي من شأنها التطريب الذي من شأنه أن يوجب خفّة تعتري الإنسان لشدّة حزن أو سرور، ولا اختصاص لها بالكلام الباطل. نعم، الغالب تحقّقها في الكلام الباطل، ومن جهة اتّحادها مع الكلام يطلق الغناء على الكلام، وما استشهد به أو أيّد به لما ذكر لا ينافي ما ذكر؛ فإنّ الظاهر أنّ ما ورد في بعض الأخبار أنّ من قول الزور «أن يقول للّذي يغنّي: أحسنت» يكون من باب التنزيل، كما ورد: «إنّ السامع للغيبة أحد المغتابين»؛ حيث لا ريب في أنّ قول: «أحسنت» للمغنّي بمجرّده ليس غناء. وما حكي من قول عليّ بن الحسين (عليهما السلام) لا شهادة له؛ لأنّ مجرّد الصوت والصوت الحسن ليسا بغناء بل ما من شأنه التطريب، وعلى هذا فيكون الغناء أخصّ مطلقاً من اللهو(1).

وحاصله: أنّ الغناء هو كيفية خاصّة للصوت التي من شأنها التطريب، وإطلاق الغناء على الكلام من باب اتّحاد الغناء معه بحسب الغالب، فما ينافي ذلك كون الغناء هو الكيفية المذكورة.

وثانياً: بما في مصباح الفقاهة من أنّه لا فرق بين كون الغناء نفسه من مقولة الكلام أو هو كيفية مسموعة تقوم به؛ لاتّحادهما في الخارج على كلّ حال، فلا وجه للخدشة في الروايات الواردة في تفسير الآية بأنّ مقتضاها أنّ الغناء من مقولة الكلام مع أنّه كيفية تقوم به(2).

ص: 368


1- جامع المدارك / ج 3، ص 17.
2- مصباح الفقاهة / ص 305.

ويمكن أن يقال: إن كان الغناء من مقوله الكلام فاللازم منه أن لا يكون الصوت المجرّد عن الكلام غناء وإن كان موجباً للطرب والخفّة. وهو كما ترى؛ لصدق الغناء على الصوت اللهوي الذي له شأنية التطريب ولو لم يكن معه كلام.

وإن كان الغناء من مقولة الصوت ولو كان مجرّداً عن الكلام فمقتضاه أن يتحقّق الغناء من دون كلام، ومعه لا مجال لدعوى اتّحاد الكيفية مع الكلام؛ إذ لا كلام حتّى يتّحد معه.

وثالثاً: بما في الجواهر حيث قال: «إنّ الغناء من مقولة الأصوات أو كيفيّاتها من غير مدخلية لأمر آخر، ولا ينافي ذلك عدّه من لغو الحديث وقول الزور ونحوهما ممّا يمكن كون المراد منه أنّه كذلك باعتبار هذه الكيفية الخاصّة»(1).

فتحصّل: أنّ الغناء من كيفية الأصوات، وإطلاقه على الكلام من باب اتّحاده معه غالباً؛ فيصير الكلام بذلك لهواً وزوراً، فالدليل الدالّ على حرمة قول الزور أو لهو الحديث لا ينافي كون الغناء من كيفية الأصوات ومحرّماً، فتدبّر جيّداً.

ثالثها: قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ)(2) ، ويدلّ على تفسير مَشاهد (مجالس) الزور بمَشاهد الغناء من دون اشتراط الكلام: صحيحة أبي الصباح (الكناني) عن أبي عبدالله عليه السلام قال في قوله عزّ وجلّ : (وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ) قال: «الغناء»(3).

والخدشة فيه: بأنّ مَشاهد الزور التي مدح الله تعالى من لا يشهدها هي مجالس التغنّي بأباطيل الكلام، فيختصّ الغناء المحرّم بما كان مشتملاً على الكلام الباطل، فلا

ص: 369


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 44.
2- سورة الفرقان /الآية 72.
3- جامع الأحاديث / ج 17، ص 185، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

تدلّ على حرمة نفس الكيفية ولو لم يكن في كلام باطل.

ممنوعةٌ : بأنّ ظاهر الغناء هو الكيفية في الأصوات ولا يختصّ الغناء في المجالس بالكلام. نعم، يرد الإشكال من ناحية اُخرى، وهي أنّ مدح الذين لا يشهدون الزور لا يكفي في الحكم بالحرمة.

ثمّ على تقدير تقييد الغناء بالكلام يمكن أن يقال - كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره -: إنّ المحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ الآية الكريمة، بضمّ الروايات المفسّرة، تدلّ على حرمة الغناء بذاته إذا كان مقروناً بقول، وبإلغاء الخصوصية عرفاً يستفاد منها حرمته مطلقاً ولو وُجد في مهمل لا يقال له قول أو وُجد في الصوت بلا كلام. بل يمكن أن يقال: إنّ الغناء المتحقّق في الكلام لا يقوم جميع قرعاته ورجعاته بالكلام، بل يقع كثير منها في خلاله وقبله وبعده، ولا شبهة في أنّ الصوت الكذائي بمطلق وجوده غناء، فتدلّ الروايات على حرمته ولو بتلك القطعات الغير القائمة بالألفاظ، ولا شبهة في عدم الفرق بين تلك القطعات المحرّمة والصوت المتحقّق بلا كلام إن كان غناء(1).

لا يقال: إنّ الظاهر من الآية الكريمة الدالّة على حرمة اشتراء لهو الحديث أنّ لهو الحديث قسمان، والمحرّم منه هو ما يشترى، وتكون الغاية منه إضلال الناس عن سبيل الله، وغاية ما تدلّ الروايات هو أنّ الغناء داخل في لهو الحديث، ومقتضاه أن يكون الغناء - كلهو الحديث - قسمين: محرّم وهو ما تكون الغاية منه الإضلال، ومحلّل وهو غيره.

لأنّا نقول: - كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره -: «إنّ المراد بالإضلال عن سبيل الله ليس خصوص الإضلال عن العقائد الحقّة، بل جميع الواجبات فعلاً والمحرّمات تركاً من سبيل الله، وكلّ شيء يوجب ترك واجب أو فعل محرّم يكون صادّاً عن سبيل الله ومضلاًّ

ص: 370


1- المكاسب المحرّمة / ص 206.

عنه - إلى أن قال: - مع أنّ مقتضى إطلاق الأخبار أنّ مطلق الغناء داخل في الآية وأوعد الله عليه النار.

مع أنّه قلّما يتّفق لشخص أن يكون غاية تعلّمه للغناء أو تغنّيه الإضلال عن سبيل الله والصدّ عنه، فعليه يكون عدّ الغناء من الآية بنحو الإطلاق على الاحتمال المتقدّم في الإشكال كحمل المطلق على الفرد النادر جدّاً، فقوله: الغناء ممّا أوعد الله عليه النار في الآية مع عدم دخوله فيها إلاّ ما هو نادر كالمعدوم يعدّ مستهجناً قبيحاً، فلابدّ وأن تحمل اللام على النتيجة، أعمّ من كونها غاية أو لا، فلا ينافي ذلك ما ورد في شأن نزولها، كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً)(1) ، وكقول الشاعر: «لِدُوا للموت وابنوا للخراب»(2).

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الآيات المفسّرة في الروايات بالغناء، وهناك طائفة اُخرى من الأخبار تدلّ على حرمة الغناء بذاته، وهي كثيرة جدّاً:

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «الثالث: الروايات الدالّة على حرمة الغناء وحرمة تعليمه وتعلّمه وحرمة التكسّب به واستماعه، وأنّه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة، وأنّه يورث الفقر والقساوة وينزع الحياء، وأنّه رُقية الزناء ويرفع البركة وينزل البلاء كما نزل البلاء على المغنّين من بني إسرائيل، وأنّه ممّا وعد الله عليه النار وبئس المصير، وأنّه غشّ النفاق، وأنّ الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وأنّ استماع الغناء نفاق وتعلّمه كفر، وأنّ صاحب الغناء يحشر من قبره أعمى وأخرس وأبكم، وأنّ من ضرب في بيته شيئاً من الملاهي أربعين يوماً فقد باء بغضب من الله؛ فإن مات في أربعين مات فاجراً

ص: 371


1- سورة القصص / الآية 8.
2- المكاسب المحرّمة / ص 207-208.

فاسقاً مأواه النار وبئس المصير، وأنّ من أصغى إلى ناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان، وأنّ الغناء أخبث ما خلق الله وشرّ ما خلق الله، وأنّه يورث الفقر والنفاق، وأنّ من استمع إلى الغناء يذاب في اُذنه الإفك، وغير ذلك من المضامين المدهشة التي اشتملت عليها الأخبار المتواترة، والروايات الواردة في حرمة الغناء وإن كان أكثرها ضعيف السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية. والعجب من المحقّق الأردبيلي حيث قال في محكيّ شرح الإرشاد: «ما رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم»، وهو أعرف بمقاله»(1).

ولا بأس بالإشارة إلى جملة من هذه الأخبار:

منها: ما رواه في الكافي بسند موثّق عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب، عن عبد الأعلى قال سألت: أبا عبدالله عليه السلام عن الغناء وقلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رخّص في أن يقال: «جئناكم جئناكم، حيّونا حيّونا، نحيّيكم»؟ فقال: «كذبوا! إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ )(2) »، ثمّ قال: «ويلٌ لفلان ممّا يصف! رجل لم يحضر المجلس»(3).

والوجه في كون الرواية موثّقة واضح؛ إذ غير عبد الأعلى من الرواة الواقعين في طريق الرواية صُرّح بوثاقتهم. وأمّا عبد الأعلى فهو عبد الأعلى بن أعين، وقد حكي عن

ص: 372


1- مصباح الفقاهة / ص 307.
2- سورة الأنبياء / الآيات 16-18. على أنّ المذكور في الرواية «السموات» بدل «السماء»، ولعلّه من سهو النسّاخ.
3- الكافي / ج 6، ص 433.

تعليقة البهبهاني أنّ الظاهر من عبارة المفيد أنّه من فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم السلام وخاصّتهم والرؤساء والأعلام.

ثمّ إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ حرمة الغناء من حيث كيفية الصوت لا مفاد الكلام؛ إذ ليس مفاد الجمل المذكورة لهواً كما لا يخفى، وحمل الجمل على أنّها كناية عن اللهو خلاف الظاهر.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ الكلام المذكور المرخّص فيه بزعمهم ليس بالباطل واللهو اللذين يكذّب الإمام عليه السلام رخصة النبيّ فيه، فليس الإنكار الشديد المذكور وجعل ما زعموا الرخصة فيه من اللهو والباطل إلاّ من جهة التغنّي به»(1).

ثمّ إنّ دلالةَ الرواية على حرمة التغنّي من ناحية التمسّك بالآية الكريمة التي يستفاد منها كون التغنّي من اللهو ومن الباطل مع انضمام قوله تعالى فيها: (وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ ) وقول الإمام عليه السلام: «ويلٌ لفلان ممّا يصف! رجل لم يحضر المجلس» واضحةٌ .

وممّا ذكر يظهر ما في جامع المدارك حيث قال: «مجرّد عدم الترخيص لا يستفاد منه الحرمة»(2).

ومنها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السلام في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء، يجلس إليه ؟ قال: «لا»(3).

وهي تدلّ على حرمة الغناء بذاته، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون الغناء في الكلام الباطل أو غيره من الكلام الصحيح، بل العمدة هو صدق الغناء ولو بمثل الأصوات

ص: 373


1- المكاسب المحرّمة / ص 36.
2- جامع المدارك / ج 3، ص 18.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 312، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 32.

الملهية من دون ضميمة الكلام معه.

ومنها: معتبرة سعيد بن محمّد الطاطري، عن أبيه، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات، فقال: «شراؤهنّ وبيعهنّ حرام، وتعليمهنّ كفر، واستماعهنّ نفاق»(1). والسند إلى سعيد موثّق بابن فضّال، وعن الشيخ في العدّة أنّ الطائفة عملت بما رواه الطاطريّون. ودلالتها على الحرمة باعتبار تحريم الشراء والبيع؛ إذ لا وجه لحرمة المعاملة إلاّ لحرمة فعلهنّ وهو الغناء، ومقتضى إطلاقها هو حرمة الغناء ولو لم يكن في الكلام.

ومنها: ما رواه محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن بعض أصحابنا، عن محمّد بن إسماعيل، عن إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن تبيعهنّ (2) ويحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السلام، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إليه، فقلت له: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات وحمل الثمن إليك، وقد بعتهنّ ، وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ؟ فقال: «لا حاجة لي فيه؛ إنّ هذا سحت، وتعليمهنّ كفر، والاستماع منهنّ نفاق، وثمنهنّ سحت»(3). ودلالتها كدلالة معتبرة الطاطري، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.

ومنها: صحيحة نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «المنجّم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنّية ملعونة، ومن آواها وأكل كسبها ملعون...»

ص: 374


1- المصدر السابق / ج 17، ص 124، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 7.
2- في التهذيب: «يُبَعْنَ ».
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 123، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

الحديث(1).

والوجه في توثيق الرواية: أنّ إسحاق بن إبراهيم الحصيني - الواقع في سند الرواية - وإن لم يصرّح بوثاقته إلاّ أنّ الوحيد البهبهاني قال: «الأقرب قبول قوله؛ لكونه وكيلاً»(2). وهو يقتضي الوثاقة، وأمّا نصر بن قابوس فقد صرّح بوثاقته الشيخ المفيد في محكيّ الإرشاد.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كونه في كلام - سواء كان باطلاً أو حقّاً - أو لم يكن هناك كلام.

وغير خفىّ أنّ كلمة اللعن ظاهرة في الحرمة خصوصاً مع اقتران هذه الجملة مع لعن المنجّم والكاهن والساحر، والمفروض أنّ حرمة هذه الاُمور من الواضحات.

ومنها: صحيحة الريّان بن الصلت المرويّة في عيون الأخبار، عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن الريّان بن الصلت قال: سألت الخراساني قدس سره عن الغناء وقلت: إنّ العبّاسي ذكر عنك أنّك ترخّص في الغناء؟ فقال: «كذب الزنديق! ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء فقلت: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حكمت»(3).

والظاهر منها الحرمة، كما يشهد لذلك قوله عليه السلام: «كذب الزنديق! ما هكذا قلت له». هذا مضافاً إلى تصديق تطبيق الباطل عليه، ومن المعلوم أنّ نفي الترخيص يساوي

ص: 375


1- جامع الأحاديث / الباب 20 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.
2- منتهى المقال / ص 49 الطبع الحجرى.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 306، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 13.

الحرمة.

ومنها: ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في حديث شرائع الدين قال: «... والكبائر محرّمة، وهي الشرك بالله - إلى أن قال: - والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله - تبارك وتعالى - مكروهة، كالغناء وضرب الأوتار...» الحديث(1). قال صاحب الوسائل بعد نقل هذا الخبر: «أقول: الكراهة في آخره محمول - (- ة) على التحريم أو على التقيّة»(2).

قال في إرشاد الطالب: «لا يدلّ على أنّه بإطلاقه من الكبائر؛ حيث إنّ المذكور فيها الملاهي التي تصدّ عن ذكر الله. والملاهي: جمع ملهى بمعنى اللهو؛ بقرينة التمثيل بالفعل، ومدلولها كون الغناء الموجب لنسيان الله كبيرة، فلا تعمّ ما يكون في ضمن الأشعار المتضمّنة للوعظ والإرشاد ونحوهما»(3).

ولا يخفى أنّ نفس الصوت إذا كان لهويّاً مناسباً لمجالس أهل الفسق والفجور يكون ممّا يصدّ عن ذكر الله، فيشمله ولو كان في ضمن الأشعار المتضمّنة للوعظ والإرشاد، فلا وجه لنفي شموله وعمومه لما يكون في ضمن الأشعار المذكورة ونحوها.

ومنها: صحيحة الوشّاء المرويّة في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن شراء المغنّية، فقال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلاّ ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في

ص: 376


1- الخصال / ص 603-610.
2- وسائل الشيعة / ج 15، ص 331، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ح 36.
3- إرشاد الطالب / ج 1، ص 179.

النار»(1).

إذ لا وجه لجعل الثمن سحتاً إلاّ حرمة الغناء، ومقتضى الإطلاق هو حرمة الغناء الملهي سواء كان ذلك بكلام لهويّ أو بدونه؛ فقد حكم في الرواية بكون ثمن الجارية سحتاً، ومقتضاه عدم حلّية منفعتها، وهي الغناء بإطلاقه؛ وإلاّ فلا مجال لإطلاق تحريم ثمن المغنّية.

ومنها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن محمّد، عن إبراهيم الأحمر، عن عبدالله بن حمّاد، عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر! فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم»(2). إلى غير ذلك من الأخبار.

قال في الحدائق بعد نقل جملة من تلك الأخبار: «فهذه جملة من الأخبار الصريحة الدالّة في تحريم الغناء مطلقاً من غير تقييد بما قدّمنا ذكره عن المجوّز له في حدّ ذاته، ويعضدها الأخبار الدالّة على تحريم الاستماع له والأخبار الدالّة على تحريم ثمن المغنّية - إلى أن قال بعد ذكر بعض هذه الأخبار: - والتقريب في هذه الأخبار: أنّه لو كان الغناء جائزاً وحلالاً بل مستحبّاً، كما هو ظاهر كلامهم في نحو القرآن والأدعية والمناجاة، وإنّما يحرم بسبب ما يعرض له من المحرّمات الخارجة (كما ادّعوه)، فكيف يتمّ الحكم بتحريم سماعه وتحريم ثمن المغنّية وأنّ تعليمه كفر؟! وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكلّ ذي عقل ورويّة، لا ينكره إلاّ من قابل بالصدود أو الاستكبار عن الحقّ

ص: 377


1- جامع الأحاديث / الباب 20 من أبواب ما يكتسب به، ح 10.
2- وسائل الشيعة / ج 6، ص 210، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، ح 1.

بالكلّية»(1).

ولعلّ مقصوده أن الحكم بتحريم السماع مطلقاً وتحريم ثمن المغنّية مطلقاً وكذا الحكم بكون تعليمه كفراً لاينسجم مع القول بأنّه على قسمين: محرّم ومحلّل.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام الأردبيلي قدس سره حيث قال: «ولكن ما رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم، ولعلّ الشهرة تكفي مع الأخبار الكثيرة، بل الإجماع على تحريم الغناء، والتخصيص يحتاج إلى دليل. ويمكن أن يقال: الأخبار ليست بحجّة وإنّما الإجماع والشهرة مع القيدين، فلاحجّة على غيره، والأصل دليل قوىّ ، والاحتياط واضح»(2).

ولعلّ كلامه في الغناء الذي يكون خالياً عن الترجيع والتطريب، فتأمّل.

فتحصّل: أنّ الغناء بما هو غناء مع قطع النظر عن المحرّمات الخارجة موضوع للحرمة ولا يكون مقيّداً بما إذا كان مقروناً ببعض المعاصي أو بما إذا كان محتواه كلاماً فضلا عن كونه باطلا، وليس الغناء المذكور إلاّ الصوت اللهوي الذي يكون متعارفاً في مجالس أهل الفسق والفجور، وهو الصوت الذي له شأنية التطريب على التفصيل الذي تقدّم في البحث عن حقيقة الغناء.

وبالجملة: الغناء لغةً أعمّ من الصوت اللهوي، والذي كان موضوعاً للأخبار الناهية هو خصوص الصوت اللهوي؛ وهو الذي يكون له شأنية التطريب، ولا فرق فيه بين أن يكون الصوت المذكور علّة تامّة مستقلّة لذلك - كما إذا كان نفس الصوت لهواً من دون حاجة إلى انضمام اشتماله على الكلام الباطل - وبين أن يكون جزء العلة ومتمّماً بحيث يكون

ص: 378


1- الحدائق الناضرة / ج 18، ص 106-108.
2- مجمع الفائدة والبرهان / ج 8، ص 59.

لكلّ واحد من اللحن وبطلان المادّة دخل في تحقّق الصوت اللهوي المذكور.

نعم، لو تقوّمت لهويّة الصوت بكونه في الكلام الباطل بحيث إذا انفكّ عنه لا يكون له شأنية التطريب سواء كان مجرّداً عن الكلام أو كان في الكلام الصحيح، فلا دليل على حرمته؛ إذ لا يكون علّة تامّة ولا جزء العلّة التامّة للتطريب ولو بنحو الشأنية.

وأمّا إذا كان الصوت باقياً على لهويّته ولو انفكّ عن الكلام الباطل فحرمته باقية وإن كان الصوت المذكور مقروناً بالكلام الصحيح كالقرآن والمراثي والأدعية ونحوها، أو كان المجلس من مجالس الذكر أو العزاء ونحوهما؛ لأنّ المفروض أنّ الصوت علّة تامّة لشأنية التطريب.

ثمّ إن فرض أنّ صوتاً في بلد ما يعدّ صوتاً لهويّاً فيه دون غيره من البلدان الاُخرى، اختصّت الحرمة بالبلد الذي يكون الصوت فيه لهويّاً. نعم، الأحوط الاجتناب عنه في جميع البلدان.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الصوت اللهوي كما لا يجوز التغنّي به كذلك لا يجوز استماعه؛ للتصريح به في الأخبار، كصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء، يجلس إليه ؟ قال: «لا»(1).

وكمعتبرة الطاطري، عن أبيه، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات، فقال: «شراؤهنّ وبيعهنّ حرام، وتعليمهنّ كفر، واستماعهنّ نفاق»(2).

ثمّ إنّه يلحق بالتغنّي بالصوت المذكور إيجاد الصوت اللهوي بوسيلة بعض الآلات؛ لإلغاء الخصوصية وعمومية الحكمة، والله العالم.

ص: 379


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 312، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 32.
2- المصدر السابق / ص 124، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح 7.

تفصيل الفيض الكاشاني قدس سره:

لا يذهب عليك أنّه قد نسب إلى الفيض الكاشاني قدس سره تخصيص حرمة الغناء بما إذا اشتمل على محرّم، مثل اللعب بالآلات اللهوية أو دخول الرجال على النساء أو التغنّي بكلام باطل، وإلاّ فهو ليس بغناء أو ليس بمحرّم وإن كان الصوت صوتاً لهويّاً.

واستدلّ له بروايات:

منها: مرسلة الفقيه: سأل رجل علىّ بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت، فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة؛ يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور»(1).

قال الفيض قدس سره: «بيان: الظاهر أنّ هذا التفسير من كلام الصدوق (رحمه الله)، ويستفاد منه أن مدّ الصوت وترجيعه بأمثال ذلك ليس بغناء أو ليس بمحظور»(2).

واُجيب عنه: بأنّ هذه الرواية - مضافاً إلى ضعفها سنداً - أجنبيّة عن الغناء نفياً وإثباتاً، قال في مصباح الفقاهة: «إنّ رواية الصدوق خارجة عن محلّ الكلام أصلاً؛ فإنّ المفروض فيها شراء الجارية التي لها صوت، ومورد البحث هنا بيع الجارية المغنّية، وبينهما بون بعيد»(3).

ومنها: صحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال»(4).

ص: 380


1- المصدر السابق / ص 122، ح 2.
2- الوافى / ج 10، ص 218.
3- مصباح الفقاهة / ص 169.
4- وسائل الشيعة / ج 17، ص 121، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

ومنها: معتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن كسب المغنّيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عزّوجلّ : (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ )(1)(2) .

والوجه في اعتبارها: هو نقل الحسين بن سعيد عن عليّ بن أبي حمزة البطائني؛ فإنّه يكشف عن كون النقل منه في حال استقامته؛ إذ الحسين بن سعيد من الأجلاّء، ولا يمكن أن ينقل عنه في حال انحرافه.

ثمّ تقريب الاستدلال بروايتي أبي بصير: بدعوى إشعارهما باختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني اُميّة وبني العبّاس؛ من دخول الرجال عليهنّ وتكلّمهن بالأباطيل ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها، دون ما سوى ذلك.

وبعبارة اُخرى: إنّ قوله: «وليست بالتي...» إلخ مشعر بالعلّية أو دالّ عليها، فتدلّ على أنّ المحرّم قسم منه، وهو المقارن للمعاصي - كدخول الرجال على النساء - بخلاف غير المقارن. بل يمكن القول: بأنّ الظاهر أنّ حرمة الغناء منوطة بما يقصد منه؛ فإن كان المقصود إقامة مجلس اللهو حرم وإلاّ فلا.

ويمكن الجواب عنه: بما قاله في مصباح الفقاهة بعد نقل الرواية الاُولى من أنّ «هذه الرواية وإن كانت صحيحة إلاّ أنّها لا دلالة فيها على مقصد المحدّث المذكور؛ فإنّ غاية ما يستفاد منها ومن رواية اُخرى لأبي بصير أنّه لا بأس بأجر المغنّية التي تدعى إلى العرائس ولا يدخل عليها الرجال، أمّا الغناء في غير زفّ العرائس فلا تعرّض في

ص: 381


1- سورة لقمان / الآية 6.
2- وسائل الشيعة / ج 17، ص 120، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

الروايتين لحكمه»(1).

وقال الشيخ الأعظم قدس سره أيضاً: «إنّها لا تدلّ إلاّ على كون غناء المغنّية التي يدخل عليها الرجال داخلاً في لهو الحديث في الآية وعدم دخول غناء التي تدعى إلى الأعراس فيها، وهذا لا يدلّ على دخول ما لم يكن منهما في القسم المباح مع كونه من لهو الحديث قطعاً، فإذا فرضنا أنّ المغنّي يغنّي بأشعار باطلة فدخول هذا في الآية أقرب من خروجه. وبالجملة: فالمذكور في الرواية تقسيم غناء المغنّية باعتبار ما هو الغالب من أنّها تطلب للتغنّي إمّا في المجالس المختصّة بالنساء كما في الأعراس وإمّا للتغنّي في مجالس الرجال.

نعم، الإنصاف أنّه لا يخلو من إشعار بكون المحرّم هو الذي يدخل فيه الرجال على المغنّيات، لكن المنصف لا يرفع اليد عن الإطلاقات لأجل هذا الإشعار، خصوصاً مع معارضته بما هو كالصريح في حرمة غناء المغنّية ولو لخصوص مولاها، كما تقدّم من قوله عليه السلام (في صحيحة الوشّاء): «قد يكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلاّ كثمن الكلب»، فتأمّل. وبالجملة: فضعف هذا القول بعد ملاحظة النصوص أظهر من أن يحتاج إلى الإظهار، وما أبعد ما بين هذا وبين ما سيجيء من فخر الدين من عدم تجويز الغناء بالأعراس! لأنّ الروايتين وإن كانتا نصّين في الجواز إلاّ أنّهما لا تقاومان الأخبار المانعة؛ لتواترها»(2).

ولا يخفى عليك أنّ ما لم يكن منهما - كما صرّح به الشيخ - لا يدخل في القسم المباح مع كونه من لهو الحديث، إلاّ أنّ تخصيص ذلك بما إذا كان التغنّي بأشعار باطلة لا دليل

ص: 382


1- مصباح الفقاهة / ص 308.
2- المكاسب المحرّمة / ص 39.

عليه، بل يعمّ ما إذا كان التغنّي بأشعار صحيحة وبصوت لهويّ ، فلا تغفل.

ومنها: ما رواه في قرب الاسناد عن عبدالله بن الحسن، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه، سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح ؟ قال: «لا بأس به ما لم يعص به»(1).

بدعوى: أنّ المراد به ظاهراً أنّه لا بأس بالغناء ما لم يصر سبباً للمعصية ولا مقدّمةً للمعاصي المقارنة له، فيعلم منه أنّ الغناء بما هو هو ليس بمحرّم في الفطر والأضحى والفرح، وإنّما حرمته من ناحية مقدّميّته للمحرّمات.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سره بأنّ : «هذه الرواية ظاهرة في تحقّق المعصية بنفس الغناء، فيكون المراد بالغناء: مطلق الصوت المشتمل على الترجيع؛ وقد يكون مطرباً ملهياً، وقد لا ينتهي إلى ذلك الحدّ فلا يعصى به»(2).

ويؤيّده: ما تقدّم من أنّ الغناء في اللغة أعمّ من الصوت اللهوي كما لا يخفى.

هذا مضافاً إلى ضعف الرواية بعبد الله بن الحسن. نعم، رواها في الوسائل عن عليّ بن جعفر في كتابه، إلاّ أنّه قال: «ما لم يؤمر به»(3).

ورواه في البحار أيضاً من غير طريق الحميري، عن عليّ بن جعفر، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: وسألته عن الغناء أيصلح في الفطر والأضحى والفرح ؟ قال: «لا بأس مالم يزمر به»(4).

ص: 383


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 122، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.
2- المكاسب المحرّمة / ص 39.
3- وسائل الشيعة / ج 17، ص 122، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 5.
4- بحار الأنوار / ج 10، ص 271.

وكيف كان، فما رواه في الوسائل عن كتاب علىّ بن جعفر صحيح، إلاّ أنّ الظاهر أنّ نسخة «ما لم يؤمر به» غير صحيحة؛ إذ لا معنى لها، ونسخة «ما لم يزمر به» مذكورة في البحار، لكنّ الطريق المذكور فيه غير صحيح. وعلى كلّ حال فتقريب الاستدلال بها كالتقريب السابق.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه يحتمل في قوله: «ما لم يزمر به» وجوه:

منها: ما أفاده الشيخ الأعظم في خبر قرب الاسناد من أنّ : «معنى قوله: «ما لم يزمر به»: لم يرجّع فيه ترجيع المزمار، أو لم يقصد منه قصد المزمار، أو أنّ المراد من الزمر: التغنّي على سبيل اللهو»(1). فالرواية كرواية الحميري ظاهرة في تحقّق المعصية بنفس الغناء.

وإليه يؤول ما في مصباح الفقاهة من أنّ : «الظاهر من قوله عليه السلام: «ما لم يزمر به» أنّ الصوت بنفسه صوت مزماريّ ولحن رقصيّ كألحان أهل الفسوق... لا أنّه صوت يكون في المزمار؛ وإلاّ لقال: ما لم يكن في المزمار أو بالنفخ في المزمار، وعليه فيدلّ على تحقّق الغناء بالصوت المزماري واللحن الرقصي لا مطلقاً»(2).

وممّا ذكر يظهر ما في كلام سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره حيث قال: «وبعد عدم جواز حمل «ما لم يعص به» على ظاهره - فإنّه من توضيح الواضح(3) - فيه احتمالات، أبعدها ما احتمله الشيخ الأنصاري؛ وهو أنّ المراد بالسؤال: الصوت الحسن الأعمّ من الغناء المحرّم، وبالجواب: تجويز قسم منه وهو ما ليس بغناء، وتحريم قسم وهو الغناء.

ص: 384


1- المكاسب المحرّمة / ص 39.
2- مصباح الفقاهة / ص 309.
3- إذ يكون معنى الرواية حينئذ: هو عدم البأس بالغناء المحرّم ما لم يكن محرّماً ومعصية.

والإنصاف أنّ هذا الحمل يساوق الطرح، ولعلّ ما دعاه إلى هذا الحمل البعيد: بناؤه على تعارضها مع الروايات الكثيرة المستفيضة أو المتواترة، فرأى أنّ التصرّف فيها أوهن من رفع اليد عنها؛ مع أنّ بينها وبين الروايات جمعاً عقلائيّاً؛ وهو حمل المطلقات عليها، وتجويز الغناء في أيّام الأعياد المقتضية للسرور والفرح، فقوله: «ما لم يعص به» أي ما لم يكن سبباً للمعصية أو ما لم يقترن بها أو ما يتّحد معها، كما لو كان التغنّي بالفحش والكذب ونحوهما من المحرّمات. وبالجملة: الظاهر المتفاهم منها أنّ الغناء في الأعياد وأيّام الفرح لا بأس به بذاته ما لم يقترن بمعصية، وهو بوجه نظير ما ورد في بعض الروايات من رفع القلم في بعض الأعياد، والمراد به أيضاً - على فرض صحّته -: ما يناسب أيّام العيد والسرور كالتغنّي والتلهّي، لا مطلق المعاصي.

والظاهر أنّ المراد بقوله: «ما لم يزمر به» ما لم يتغنّ في المزمار؛ من «زمر» أو «زمّر» - من التفعيل -: غنّى بالمزمار، فتدلّ على جواز الغناء في الأعياد دون المزامير، مع احتمال أن يكون «ما لم يؤزر»، فتوافق الاُولى(1).

لكن يشكل العمل بها:

لعدمِ قائل - ظاهراً - باستثنائه فيها، بل عدم نقل احتماله من أحد مع بُعد تجويزه في العيدين الشريفين المعدّين لطاعة الله تعالى والصلاة والانقطاع إليه تعالى، كمايظهر من الأدعية والأذكار والعبادات الواردة فيهما وفي الأعياد المذهبية بل بعض الأعياد الملّية.

وضعفِ الرواية المشتملة على قوله: «ما لم يعص به» بعبد الله بن الحسن المجهول وإن كان كثير الرواية عن عليّ بن جعفر، والظاهر إتقان رواياته، وعن الكفاية أنّه مرويّ عن قرب الاسناد للحميري بإسناد لا يبعد إلحاقه بالصحاح، وإن قال بعض المدقّقين: ما

ص: 385


1- أي رواية الحميري حيث قال عليه السلام فيها: «لا بأس به ما لم يعص به».

رأيت ذلك في الكفاية في باب الغناء والمكاسب وفي كتاب القضاء والشهادات. وكيف كان، لم يصل الاعتماد عليها بحدّ يمكن تقييد الأدلّة - سيّما تلك المطلقات المستفيضة - بها.

والرواية الاُخرى صحيحة. لكن قوله: «ما لم يزمر به» يحتمل وجوهاً: منها: ما تقدّم. ومنها: ما احتمله الشيخ الأنصاري: أي لم يرجّع به ترجيع المزمار، أو لم يتغنّ به على سبيل اللهو، أو لم يقصد منه قصد المزمار. وليس ظهورها في الأوّل معتدّاً به أمكن معه تقييد المطلقات الكثيرة، فالأحوط بل الأقوى عدم استثناء أيّام العيد والفرح»(1).

وذلك لماعرفت من أنّه لا وجه لمنع كون الغناء أعمّ من الحرام، مع أنّ الظاهر من تتبّع كلمات العرب وأشعارهم وعبارات الفقهاء وأهل الأدب وغيرهم - على ما صرّح به الفاضل الشعراني قدس سره - أنّ الغناء اسم لمطلق الصوت، أو لكلّ صوت يرتفع به ويرجّع فيه وإن لم يمل إليه الطبع، فهو نظير القول والسماع؛ فالقول يطلق على كلّ كلام يتكلّم به، وقد يخصّ في بعض العبارات بالغناء المطرب. وكذلك السماع اسم لاستماع كلّ كلام وصوت، وقد يخصّ في اصطلاحهم بالغناء وسماعه، كما قيل: ربّ سماع حسن سمعته من حسن. فكما أنّ القول والسماع لغةً أعمّ من المحرّم، كذلك الغناء ومدّ الصوت أعمّ منه.

وعليه، فالرواية أفادت حلّية الغناء الذي ليس بلهويّ ، بخلاف اللهوي فإنّه محرّم، ومع إفادة ذلك لا وجه لجعل احتمال الشيخ مساوقاً للطرح؛ لإفادته حرمة بعض أنواع الغناء اللغوي فيما إذا كان صوتاً لهويّاً، فيؤول المعنى إلى أنّه لا بأس بالصوت الحسن ما لم يبلغ حدّ الحرمة؛ وهو الصوت اللهوي المناسب لمجالس المعاصي ولو لم يقترن بمحرّم آخر، فهو يفيد خلاف ما ذهب إليه الفيض قدس سره.

ص: 386


1- المكاسب المحرّمة (لسيّدنا الإمام المجاهد) / ص 218-219.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الظاهر من قوله: «ما لم يزمر به» أنّ الحرام هو ما إذا كان نفس الصوت صوتاً مزماريّاً ولحناً رقصيّاً كألحان أهل الفسوق والفجور، لا الصوت في المزمار، فراجع.

فتحصّل: عدم تمامية هذه الروايات سنداً أو دلالةً لإثبات حلّية الغناء اللهوي إذا لم يكن مقروناً بمحرّم من المحرّمات كما نسب إلى الفيض قدس سره.

واستدلّ للفيض أيضاً: بقصور الأدلّة عن إثبات حرمة مطلق الغناء؛ لعدم الإطلاق فيما تدلّ على الحرمة.

واُجيب عنه: بأنّه لا قصور في إطلاق كثير من الروايات الدالّة على حرمة الغناء من دون تقييده باقترانه مع بعض المحرّمات، وقد مضى البحث عنها عند ذكر أدلّة حرمة الغناء، فراجع.

واستدلّ له أيضاً: بدعوى انصراف الأدلّة إلى الغناء المتعارف المعهود في زمن بني اُميّة وبني العبّاس.

وأجاب عنه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بأنّه: «مضافاً إلى عدم مجال لهذه الدعوى في بعض الروايات: كصحيحة عليّ بن جعفر (عن أخيه، قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء، يجلس إليه ؟ قال: «لا»(1) الظاهرة في المنع عن الجلوس عند من يتغنّى من غير أن يكون هنا معاص اُخر كالمزامير وغيرها كما هو ظاهرها، وكحسنة عبد الأعلى الدالّة على أن التغنّي بمثل ألفاظ التحيّة أيضاً حرام - إلى أن قال: - كما لا يخفى على المتأمّل أنّ كون غالب أفراده ما يتعارف في عصر الخبيثتين من اشتمالها على محرّمات اُخر ممنوعة، كيف ؟! وأنّ التغنّي بالأشعار عند الناس كان متعارفاً في كلّ عصر، وربّما يتّفق

ص: 387


1- وسائل الشيعة / ج 17، ص 312، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح 32.

معه سائر المحرّمات. وكون المتعارف عند سلاطين الطائفتين أو الاُمراء في عصرهم وسائر الأعصار ذلك لا يوجب أن يكون نوع التغنّيات كذلك حتّى يدّعى الانصراف.

مضافاً إلى أنّ كثرة أفراد طبيعة في قسم لا توجب الانصراف؛ فإنّ الإطلاق عبارة عن الحكم على طبيعة من غير قيد، فلابدّ في دعوى الانصراف من دعوى كون الكثرة والتعارف واُنس الذهن بوجه تصير كقيد حافّ بالطبيعة، وهو في المقام ممنوع سيّما في مثل مقارنات الطبيعة لا مصاديقها وأصنافها - إلى أن قال: - فدعوى الانصراف كدعوى عدم الإطلاق في الضعف»(1).

فالغناء بمعنى الصوت اللهوي حرام، ولا فرق فيه بين أن يقترن بمحرّم من المحرّمات أو لم يقترن.

بقي شيء: وهو أنّه قد يقال: إنّ الفيض أنكر حرمة الغناء اللهوي أساساً، وإنّما حرّمه من ناحية اقتران سائر المحرّمات، كدخول الرجال على النساء وغير ذلك.

ويمكن أن يناقش في هذه النسبة: بدعوى أنّها خلاف ظاهر كلامه، حيث قال: «إنّ الغناء على قسمين: حقّ وباطل، فالحقّ : هو التغنّي بالأشعار المتضمّنة لذكر الجنّة والنار والتشويق إلى دار القرار، والباطل: ما هو متعارف في مجالس أهل اللهو كمجالس بني اُميّة وبني العبّاس...» إلخ.

فإنّ ظاهر هذه العبارة بل صريحها صدراً وذيلاً - كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد - أنّ الغناء على قسمين:

قسم محرّم: وهو ما قارن تلك الخصوصيّات؛ بمعنى أنّ الغناء المقارن لها حرام لا أنّ المقارنات حرام فقط؛ ولهذا حرم أجرهنّ وتعليمهنّ والاستماع منهنّ ، ولولا ذهابه إلى

ص: 388


1- المكاسب المحرّمة / ص 213-214.

تحريمه ذاتاً لا وجه لتحريم ما ذكر.

وقسم محلّل: وهو ما يتغنّى بالمواعظ ونحوها، فقد استثنى من حرمة الغناء قسماً هو التغنّي بذكر الله تعالى، كما استثنى بعضهم التغنّي بالمراثي وبعضهم التغنّي بالقرآن وبعضهم الحُداء وبعضهم في العرائس، وهذا أمر لم يثبت أنّه خلاف الإجماع أو خلاف المذهب حتّى يستوجب صاحبه الطعن والنسبة إلى الخرافة والأراجيف(1).

فتحصّل: أنّ الفيض جعل الغناء محرّماً ذاتاً ومع ذلك استثنى منه التغنّي بذكر الله تعالى.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم قدس سره حيث قال: «ليس هو (أي كلام الفيض) عند التأمّل تفصيلاً؛ بل قولاً بإطلاق جواز الغناء وأنّه لا حرمة فيه أصلاً، وإنّما الحرام ما يقترن به من المحرّمات»(2)؛ وذلك لظهور عبارة الفيض في أنّ نفس الغناء محرّم فيما لو اقترن بحرام من المحرّمات، والشاهد على ذلك حرمة الاُجرة؛ وإلاّ فالحرمة العارضة من ناحية المقرونات لا توجب حرمة الاُجرة كما لا يخفى.

نعم، يرد على الفيض: أنّه لا دليل على استثناء الغناء اللهوي في التغنّي بالذكر والقرآن والمواعظ، بل استثناؤه خلاف الإجماع أو خلاف المذهب، ومع كونه كذلك لا وجه لمنع الإيراد عليه - كما عن سيّدنا الإمام - إذ لم يفتِ أحد بجواز الغناء اللهوي في مثل الذكر والقرآن والدعاء ونحو ذلك. نعم، لا ينبغي طعنه ونسبته إلى ما لا يناسب مقامه.

أللهمّ إلاّ أن يكون مقصوده هو استثناء الغناء غير اللهوي بناءً على كون الغناء أعمّ من اللهوي وغيره كما عرفت في البحث عن حقيقة الغناء، وعليه فيكون الغناء اللهوي عنده

ص: 389


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 209-210.
2- المكاسب المحرّمة / ص 38.

حراماً، بخلاف غير اللهوي - كالصوت الحسن - فإنّه جائز.

كلام السبزواري قدس سره:

قال السبزواري في الكفاية - بعد نقل الأخبار المتخالفة جوازاً ومنعاً في القرآن وغيره -: «يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين:

أحدهما: تخصيص تلك الأخبار بما عدا القرآن، وحمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه الفسّاق في غنائهم(1).

وثانيهما: أن يقال: المذكور في تلك الأخبار الغناء، والمفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم لغةً ، وعمومه يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على إرادة الخاصّ ، وإرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة وسياق البيان والحكمة، فلابدّ من حمله على الاستغراق والعموم، وهاهنا ليس كذلك؛ لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري والمغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور وغيرها، فحمل المفرد على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد.

وفي عدّة من تلك الأخبار إشعار بكونه لهواً باطلا، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة والمهيّجة للأشواق إلى عالم القدس

ص: 390


1- وعليه فيكون الغناء عنده أعمّ من اللهوي وغيره، ومقتضى التخصيص المذكور أن يكون الغناء غيراللهوي جائزاً في القرآن، واللهوي منه حراماً فيه وفي غيره، وهذا ممّا لا إشكال فيه، ولايخالف المعروف إلاّ في معنى الغناء؛ فإنّه جعله أعمّ من اللهوي وغيره، وقد عرفت استظهار ذلك من كلام بعض اللغويّين، فراجع.

محلّ تأملّ . فإذاً: إن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعاً، وإلاّ بقي حكمه على أصل الإباحة، وطريق الاحتياط واضح»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الغناء من مقولة الصوت وكيفيّته، فإذا كان نفس الصوت لهويّاً فإنّ اقترانه بالذكر والقرآن والموعظة لا يخرجه عن اللهوية، كما لا تتوقّف لهويّته على الاقتران بمحرّم من المحرّمات، وعليه فالصوت اللهوي في القرآن والذكر مصداق للغناء ويكون محرّماً، واستثناؤه خلاف المذهب والإجماع.

نعم، لو لم يكن الصوت لهويّاً لا يكون حراماً، ومجرّد إطلاق الغناء بمعنى الصوت الحسن عليه في اللغة لا إجماع على حرمته؛ لاختصاص أدلّة الحرمة بما إذا كان الصوت لهويّاً، ولا دليل على حرمة مطلق الصوت الحسن. ويحتمل أن يكون مقصود السبزواري من التأمّل هذا القسم، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ دعوى: أنّ الغناء - باعتبار اللام فيه - مختصّ بما تعارف في مجالس الخلفاء من تقارنه مع محرّم من المحرّمات.

مندفعة: بأنّه - مضافاً إلى عدم كون جميع المجالس كذلك - يكون الصوت اللهوي حراماً مطلقاً؛ سواء اقترن بمحرّم من المحرّمات أو لم يقترن، والوجه في حرمته هو لهويّة الصوت مع قطع النظر عن محرّم آخر. قال الشيخ الأعظم - بعد نقل قول صاحب الكفاية -: «أقول: لا يخفى أنّ الغناء - على ما استفدنا من الأخبار بل فتاوى الأصحاب وقول أهل اللغة - هو من الملاهي نظير ضرب الأوتار والنفخ في القصب والمزمار، وقد تقدّم التصريح بذلك في رواية الأعمش عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في حديث شرائع الدين قال: «والكبائر محرّمة، وهي: الشرك بالله... والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله عزّ وجلّ

ص: 391


1- الكفاية / ص 85-86.

مكروهة كالغناء»(1) الواردة في الكبائر، فلا يحتاج إلى أن يقترن بالمحرّمات، كما هو ظاهر بعض ما تقدّم من المحدّثين المذكورين (أي الفيض والسبزواري). نعم، لو فرض كون الغناء موضوعاً لمطلق الصوت الحسن - كما يظهر من بعض ما تقدّم في تفسير معنى التطريب - توجّه ما ذكراه، بل لا أظنّ أحداً يفتي بإطلاق حرمة الصوت الحسن.

والأخبار بمدح الصوت الحسن، وأنّه من أجمل الجمال، واستحباب القراءة والدعاء به، وأنّه حلية القرآن، واتّصاف الأنبياء والأئمّة به، في غاية الكثرة، وقد جمعها في الكفاية بعدما ذكر أنّ غير واحد من الأخبار يدلّ على جواز الغناء في القرآن بل استحبابه بناءً على دلالة الروايات على استحباب حسن الصوت والتحزين والترجيع به، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم على ما فصّلناه في بعض رسائلنا. انتهى.

وقد صرّح في شرح قوله عليه السلام: «إقرؤوا القرآن بألحان العرب» أنّ اللحن هو الغناء، وبالجملة، فنسبة الخلاف إليه في معنى الغناء أولى من نسبة التفصيل إليه (في الصوت اللهوي)، بل ظاهر أكثر كلمات المحدّث الكاشاني أيضاً ذلك؛ لأنّه في مقام نفي التحريم عن الصوت الحسن المذكّر لاُمور الآخرة المنسي لشهوات الدنيا. نعم، بعض كلماتهما ظاهرة فيما نسب إليهما من التفصيل في الصوت اللهوي الذي ليس هو عند التأمّل تفصيلاً؛ بل قولاً بإطلاق جواز الغناء وأنّه لا حرمة فيه أصلاً، وإنّما الحرام ما يقترن به من المحرّمات، فهو - على تقدير صدق نسبته إليهما - في غاية الضعف؛ لا شاهد له يقيّد الإطلاقات الكثيرة المدّعى تواترها...»(2).

ص: 392


1- الخصال / ص 603-610.
2- المكاسب المحرّمة / ص 38.

ولا يخفى عليك أنّ التحقيق: أنّ الغناء في اللغة هو الصوت الحسن، وهو يشمل اللهوي وغيره، ولا ينافي ذلك انصراف أدلّة الحرمة - بمناسبة الحكم والموضوع - إلى اللهوي. وبالجملة، فلا دليل على تقسيم اللهوي إلى الحلال والحرام، بل الصوت اللهوي محرّم أينما وُجد، ولا فرق فيه بين أن يقترن بالباطل أو لم يقترن، وبين أن يكون مشتملاً على حرام من المحرّمات أو لا، فدعوى الانصراف إلى اللهوي المقارن للحرام كما ترى.

كلام السيّد المحقّق الخوئي قدس سره:

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «الضابطة - على سبيل مانعة الخلوّ -: إمّا أن تكون الأصوات المتّصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعدّ عند العقلاء إلاّ باطلا؛ لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة بحيث يكون لكلّ واحد من اللحن وبطلان المادّة دخل في تحقّق معنى السماع والغناء. ومثاله: الألفاظ المصوغة على هيئة خاصّة؛ المشتملة على الأوزان والسجع والقافية والمعاني المهيّجة الباطلة والعشق الحيواني من دون أن تشتمل على غرض عقلائي بل قد لا تكون كلماتها متناسبة كما تداو ل ذلك كثيراً بين شبّان العصر وشابّاته، وقد يقترن بالتصفيق وضرب الأوتار وشرب الخمور وهتك الناس وغيرها من الاُمور المحرّمة. وعليه فلو وجد اللحن المذكور في كلام له معنى صحيح عند العقلاء لما كان غناءً . ومثاله: قراءة القرآن والأدعية والخطب والأشعار المشتملة على الحكم والمواعظ... إلخ.

وإمّا أن يكون الصوت بنفسه مصداقاً للغناء وقول الزور واللهو المحرّم، كألحان أهل الفسوق والكبائر التي لا تصلح إلاّ للرقص والطرب؛ سواء تحقّقت بكلمات باطلة أم

ص: 393

تحقّقت بكلمات مشتملة على المعاني الراقية»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الغناء بعدما عرفت أنّه من مقولة الأصوات لا وجه لفرض مدخلية غيرها - كمادّة الكلام - في تحقّقه، ثمّ إنّ كلّ واحد من الصوت والمادّة يقتضي مقتضاه، وعليه فالصوت المقتضي لشأنية التطريب إذا اجتمع مع مادّة باطلة ولم يكن مانع عن تأثيرهما، فقد أثّرا أثرهما، بخلاف ما إذا اجتمع الصوت المقتضي لشأنية التطريب مع الذكر ونحوه؛ فإنّه يمكن أن يمنع عن تأثير الصوت المذكور مادّة الكلام الصحيحة ولكن مع ذلك لا يخرج الصوت المذكور عن كونه غناءً ومقتضياً لشأنية التطريب بالتزاحم كما يكون الأمر كذلك في جميع المتزاحمات؛ لبقاء الملاكات وصدق العناوين مع التزاحم، ومع عدم خروجه عن ذلك وصدق الغناء والصوت اللهوي عليه فلا يبعد دعوى شمول عموم حرمة الغناء عليه. وعليه فالتغنّي في القرآن والدعاء بالصوت اللهوي المقرون بالمانع عن فعليّة التأثير لا يخلو عن إشكال ونظر، فتدبّر جيّداً.

نعم، لو خرج عن اللهوية مطلقاً فلا إشكال أيضاً لو كان هناك صوت مشترك بين مجالس الذكر ومجالس الفسق ولكنّه ليس لهواً بنفسه فلا إشكال فيه بنفسه، وإنّما الإشكال من ناحية ضمائمه من اللهويّات، فلا تغفل.

أسئلة وأجوبة:

السؤال الأوّل: هل يكون التغنّي بالنثر كالتغنّي بالنظم

السؤال الأوّل: هل يكون التغنّي بالنثر كالتغنّي بالنظم في الحرمة، أو لا؟

الجواب: يمكن إلحاقه به إذا كان الصوت في النثر كالصوت في الشعر لهويّاً وله شأنية التطريب وإن لم يصدق عليه عنوان الشعر؛ لعموم علّة الحرمة التي هي مبغوضية شأنية

ص: 394


1- مصباح الفقاهة / ص 311-313.

التطريب.

السؤال الثاني: هل تختصّ حرمة الغناء باللغة العربية أو لا؟

السؤال الثاني: هل تختصّ حرمة الغناء باللغة العربية ؟

الجواب: لا اختصاص لحرمة الغناء بلغة من اللغات، بل المعيار هو صدق شأنية التطريب على الصوت. ومنه يظهر قوّة حرمة استماع الصوت الخارجي اللهوي الذي له شأنية التطريب ولو لم تكن الكلمات معلومة أو مفهومة.

السؤال الثالث: هل تكون حرمة الغناء من ناحية نفس الصوت أو من ناحية المحتوى ؟

السؤال الثالث: هل حرمة الغناء من ناحية نفس الصوت، أو من ناحية الكلام ؟

الجواب: قد عرفت أنّ الكلام لا دخالة له، بل الموضوع هو الصوت اللهوي وكيفيّته ولو كان ذلك بألفاظ مهملة أو بدون ألفاظ أصلاً.

السؤال الرابع: هل يكون حرمة الغناء مختصّة بما إذا قصد التطريب أو لا؟

السؤال الرابع: هل حرمة الغناء مختصّة بما إذا قصد التطريب، أو لا؟

الجواب: لا مدخلية للقصد والنيّة، بل الموضوع هو الصوت اللهوي وشأنية التطريب ولو صدر عنه بعنوان آخر، وعليه فلا يجوز أن يستمع الغناء بقصد إشغال الوقت أو غير ذلك. وممّا ذكر يظهر أنّه لا فرق في الحرمة بين أن يكون للمغنّي قصد الإلهاء والإطراب وبين أن لا يكون له ذلك؛ إذ المعيار هو صدق الإلهاء والإطراب على نفس الصوت الذي يتعمّده المغنّي، فلا دخل للقصد والنيّة لا من طرف المغنّي ولا من طرف المستمع، كما في سائر المحرّمات؛ فإنّها محرّمة وإن اُتي بها لا بعنوان كونها من المحرّمات؛ فمن شرب الخمر لرفع العطش فقد شرب خمراً واستحقّ الحدّ.. وهكذا، فتدبّر جيّداً.

السؤال الخامس: هل يجوز توليد الصوت اللهوي بالآلات الحديثة ؟

السؤال الخامس: هل يجوز توليد الصوت اللهوي الذي له شأنية التطريب بالآلات الحديثة من غير طريق الفم ؟

الجواب: يمكن إلحاقه بالصوت اللهوي المتعارف من ناحية عمومية العلّة؛ وهي

ص: 395

اللهوية وشأنية التطريب. هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ عموم قوله تعالى: (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ...)(1) أو قوله: (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ)(2) وغيرهما من الأدلّة يشمل الصوت المذكور بعد البناء على أنّ المعيار هو صدق اللهوية أو شأنية الإطراب على نفس الصوت، وإن قلت: إنّ الأدلّة منصرفة عن مثلها؛ فيتعدّى عن مورد الأدلّة بعموم العلّة.

السؤال السادس: هل يجوز استماع الصوت اللهوي الذي يكون وسيلة للطرب المعنوي ؟

السؤال السادس: هل يجوز استماع الصوت اللهوي الذي له شأنية التطريب لمن يقدر أن يجعله وسيلة للطرب المعنوي - من التذكّر والتوجّه إلى الخير والحقّ والعبودية - أو لا يجوز؟

الجواب: مقتضى إطلاق أدلّة حرمة استماع الغناء وكفاية شأنية التطريب لنوع الناس هو حرمة الاستماع المذكور بعد فرض تسليم إمكان ذلك.

السؤال السابع: هل تختصّ حرمة الغناء بالنسوان أو لا؟

السؤال السابع: هل تختصّ حرمة الغناء بالنساء، أو تشمل الرجال أيضاً؟

الجواب: لا فرق في الحرمة بين الرجال والنساء؛ لإطلاق الأدلّة وإن كان عنوان «المغنّية» أكثر من عنوان «المغنّي». وممّا ذكر يظهر أنّه لا فرق في حرمة الاستماع بين أن يكون المغنّي رجلاً أو امرأة؛ وذلك للإطلاق والعموم.

السؤال الثامن: هل يجوز التداوى بالغناء أو لا؟

السؤال الثامن: هل يجوز التداوي بالغناء، أو لا؟

الجواب: إذا انحصر التداوي حقيقةً به بحيث يكون المنع عنه موجباً لاستمرار المرض أو شدّته جاز في مقام المعالجة لو لم يوجب مفسدة اُخرى، فتدبّر.

ص: 396


1- سورة لقمان / الآية 6.
2- سورة الحج / الآية 30.

الجهة الرابعة: في موارد الاستثناء

أحدها: المراثي ونحوها

أحدها - المراثي ونحوها:

قال في الجواهر: «إنّ ما حكي عن بعضهم من استثناء مراثي الحسين عليه السلام إن اُريد به الخروج عن الموضوع باعتبار اندراجه في النوح الذي ستعرف جوازه فلا إشكال فيه، وإلاّ كان ممنوعاً؛ لعدم الدليل الصالح، وكونه معيناً على البكاء المرغّب فيه طاعةً لله بمعصيته. ودعوى استمرار السيرة عليه، ممنوعة كما هو واضح.

نعم، لا بأس بالْهَلْهُوْلة على الظاهر؛ لكونها صوتاً من غير لفظ، والغناء من الألفاظ»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الغناء اللهوي - كما مرّ - هو الصوت اللهوي الذي له شأنية التطريب ولو لم يكن هناك لفظ، وعليه فلو كان الصوت المجرّد عن الألفاظ لهويّاً لم يجز.

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «أقول: قد عرفت آنفاً أنّ المراثي خارجة عن الغناء موضوعاً (ولعلّه باعتبار اندراجه في النوح كما أشار إليه في الجواهر)، فلا وجه لذكرها من مستثنيات حرمة الغناء.

ولو سلّمنا إطلاق الغناء عليها لشملتها إطلاقات حرمة الغناء المتقدّمة، ولا دليل على الاستثناء.

ووجود السيرة على الرثاء وإقامة التعزية على المعصومين عليهم السلام في بلاد المسلمين وإن كان مسلّماً ولكنّها لا تدلّ على جواز الغناء فيها الذي ثبت تحريمه بالآيات والروايات.

وأمّا ما دلّ على ثواب البكاء على الحسين أو ما دلّ على جواز النوح على الميّت فلا

ص: 397


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 51.

يعارض بما دلّ على حرمة الغناء»(1).

وقال الشيخ الأعظم قدس سره: «ربّما وجّهه (أي الغناء في المراثي) بعض من متأخّري المتأخّرين بعمومات أدلّة الإبكاء والرثاء، وقد أخذ ذلك ممّا تقدّم من صاحب الكفاية من الاستدلال بإطلاق أدلّة قراءة القرآن.

وفيه: أنّ أدلّة المستحبّات لا تقاوم أدلّة المحرّمات خصوصاً التي يكون من مقدّماتها؛ فإنّ مرجع أدلّة الاستحباب إلى استحباب إيجاد الشيء بسببه المباح لا بسببه المحرّم ألا ترى أنّه لا يجوز إدخال السرور في قلب المؤمن وإجابته بالمحرّمات كالزنا واللواط والغناء؟! والسرّ في ذلك أنّ دليل الاستحباب إنّما يدلّ على كون الفعل لو خلّي وطبعه خالياً عمّا يوجب لزوم أحد طرفيه، فلا ينافي ذلك طروء عنوان من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه، كما إذا صار مقدّمة لواجب أو صادفه عنوان محرّم، فإجابة المؤمن وإدخال السرور في قلبه ليس في نفسه شيء ملزم(2) لفعله أو تركه، فإذا تحقّق في ضمن الزنا فقد طرأ عليه عنوان ملزم لتركه، كما أنّه إذا أمر به الوالد أو السيّد طرأ عليه عنوان ملزم لفعله. والحاصل: أنّ جهات الأحكام الثلاثة - أعني الإباحة والاستحباب والكراهة - لا تزاحم جهة الوجوب أو الحرمة، فالحكم لهما مع اجتماع جهتيهما مع إحدى الجهات الثلاث. ويشهد بما ذكرنا من عدم تأدّي المستحبّات في ضمن المحرّمات: قوله صلى الله عليه وآله: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب»، و «إيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر!»»(3).

فالغناء اللهوي في الرثاء ونحوه محرّم بإطلاق أدلّة حرمة الغناء، ولا يعارضه أدلّة

ص: 398


1- مصباح الفقاهة / ص 313-314.
2- لعلّ الأولى التعبير ب - «ليس في نفسه شيئاً ملزماً».
3- المكاسب المحرّمة / ص 39.

استحباب الرثاء والإبكاء؛ لما عرفت من أنّها تدلّ على الاستحباب لو خلّي وطبعه، ولا نظر لها بالنسبة إلى جهات اُخرى.

ولعلّ هذا هو الذي أفاده صاحب الجواهر أيضاً حيث قال: «ودعوى: التزام جواز ذلك فيها (أي في القرآن والدعاء والتعزية على الحسين عليه السلام) وإن كان غناء في غيرها لإطلاق ما دلّ على الأمر بها الشامل لهذه الكيفية الخاصّة، بل جاء في خصوص القرآن الأمر بالتغنّي فيه وما يقضي بجواز الغناء فيه، واضحة الفساد؛ لمعلومية تحكيم النهي في أمثال ذلك، وليس من التعارض من وجه المحتاج إلى ترجيح، بل فهم أهل العرف كاف فيه، نحو العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد؛ وإلاّ لتحقّق التعارض من وجه بين: ما دلّ على قضاء حاجة المؤمن مثلاً، والنهي عن اللواط والزنا والكذب وغيرها من المحرّمات المعلوم بطلانه بضرورة الشرع أنّه لا يطاع من حيث يعصى، وما ورد في خصوص القرآن ممّا لا ريب في قصوره عن معارضة ما دلّ على الحرمة من وجوه مطّرح أو مؤوّل أو موضوع»(1). ومن المؤوّل: حمل ما ورد في خصوص القرآن على تحسين الصوت ومدّه على نحو لا يكون لهويّاً.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره سلك في توجيه عدم المعارضة بين أدلّة استحباب المراثي وبين أدلّة حرمة الغناء مسلكاً آخر حيث قال: «إنّ الأحكام في المطلقات لم تتعلّق إلاّ بنفس الطبائع دون أفرادها، ولم تكن ناظرة إلى أحوال الأفراد فضلا عن كونها ناظرة إلى طبيعة اُخرى وأفرادها أو حال المزاحمات بين الأفراد أو المقتضيات في حال انطباق العناوين على الموضوعات الخارجية، وعليه يكون حكم كلّ عنوان عليه فعليّاً من غير تعارض بين الدليلين؛ فإنّ مصبّ التعارض بين الأدلّة هو

ص: 399


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 46-47.

مقام الدلالة والمدلول، والفرض أنّ الحكم متعلّق بالطبائع وكلّ طبيعة تغاير الاُخرى، فلا مساس بين الدليلين ولا الحكمين المتعلّقين بالطبيعتين، فلا تعارض بين قوله: «البكاء والإبكاء - مثلاً - مستحبّ » وبين قوله: «الغناء حرام» في مقام الدلالات وتعلّق الأحكام بالموضوعات.

وأمّا مقام انطباق العناوين على الأفراد الخارجية فخارج عن باب تعارض الأدلّة والدلالات؛ لعدم كون الأفراد من مداليل الأدلّة في المطلقات، فالعناوين التي بينها عموم من وجه بحسب التصادق خارج عن باب التعارض.

فتحصّل من ذلك: أنّ حرمة الغناء على عنوانه باقية فعلية، واستحباب قراءة القرآن والرثاء على أبي عبدالله الحسين عليه السلام كذلك من غير تعارض بين الدليلين أو تزاحم بين المقتضيين. نعم، العقل في مقام الامتثال يحكم بلزوم الاحتراز من باب حفظ الغرض الأهمّ ، فلو سمّي هذا عدمَ مزاحمةِ مقتضي المستحبّات لمقتضي المحرّمات فلا بأس به بعد وضوح المراد، فالترجيح في مقام الامتثال بحكم العقل غير مرتبط بمقام جعل الأحكام على عناوين الموضوعات، هذا بحسب القواعد.

وأمّا لو فرض موردٌ يكون بقاء الاستحباب مخالفاً لارتكاز المتشرّعة؛ يكشف ذلك عن قيد في دليل الاستحباب، كما لو فرض أنّ إكرام الضيف بالمحرّم لم يكن مستحبّاً بارتكاز المتشرّعة أو بدليل آخر؛ يكشف ذلك عن قيد في دليل استحبابه، كما ورد في صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي عبدالله عليه السلام: «لا تسخطوا الله برضا أحد من خلقه»، تأمّل»(1).

ولقائل أن يقول: إنّا نمنع عدم كون الأفراد من مداليل الأدلّة في المطلقات بعد كون كلّ

ص: 400


1- المكاسب المحرّمة / ص 222-223.

طبيعة حاكية عن أفرادها، وعليه فالعناوين التي تكون النسبة بينها العموم من وجه داخلة في التعارض، فالعمدة في الجواب عن الاستدلال بإطلاق أدلّة المستحبّات: هو أن يقال بعدم إطلاق أدلّة المستحبّات والمكروهات والمباحات، ومع عدم إطلاقها لا مجال للمعارضة بينها وبين أدلّة الواجبات والمحرّمات كما لا يخفى. فتحصّل: أنّ جواز الرثاء أو استحبابه إنّما هو في صورة عدم كونه بكيفية الغناء اللهوي وإن صدق عليه الغناء بمعناه اللغوي من مدّ الصوت وحسنه، وإلاّ فيكون الرثاء محرّماً مع فرض كونه مصداقاً للغناء اللهوي.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكر حكم المديح، فإنّه يجوز أو يستحبّ فيما إذا لم يكن بكيفية الغناء اللهوي؛ لما ذكر في المراثي، ولا يضرّ صدق الغناء اللغوي فيما إذا لم يكن لهويّاً؛ لاختصاص حرمة الغناء بما إذا كان لهويّاً وزوراً كما لا يخفى.

ثانيها: غناء المغنّية لزفّ العرائس

ثانيها - غناء المغنّية لزفّ العرائس:

قال في الجواهر: «ذكر غير واحد ورود الرخصة في إباحة اُجرة المغنّية في الأعراس، بل نسبه بعض مشايخنا إلى الشهرة، ومقتضاه جواز غنائها فيه؛ ضرورة التلازم بين إباحة الاُجرة عليه وبين إباحته.

نعم، قيّده بعضهم: بما إذا لم تتكلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهي ولم تدخل عليها الرجال، وآخر بالأوّل والأخير. لكن فيه: أنّ ذلك كلّه محرّمات خارجة عنه لا مدخلية له فيها، خصوصاً الأخير الذي قد يتوهّم أخذه من دليل الجواز؛ وهو قول الصادق عليه السلام في صحيح أبي بصير: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس؛ ليست بالتي تدخل عليها الرجال»، وقوله في خبره أيضاً - حين سأله عن كسب المغنّيات التي يدخل عليها الرجال -: «حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس».

ص: 401

لكن فيه: أنّهما - خصوصاً الأخير - ظاهران في المقابلة لا التخصيص؛ بمعنى أنّ هذه أجرها حلال، لا المغنّية في غير الأعراس وهي التي يدخل عليها الرجال لاتّخاذ مجالس اللهو، وحينئذ لا دلالة فيهما على أزيد ممّا في قوله في الخبر الثالث: «المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها»»(1).

وهنا إشكالات:

منها: أنّ في سند هذه الروايات أبا بصير، وهو غير صحيح(2)، والشهرة على وجه يوجب الانجبار غير ثابتة؛ لأنّ المحكيّ عن المفيد والمرتضى وظاهر الحلبي وصريح الحلّي والتذكرة والإيضاح بل كلّ من لم يذكر الاستثناء بعد التعميم، المنعُ .

ولكن أجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سره بقوله: «ولكنّ الإنصاف أنّ سند الروايات وإن انتهت إلى أبي بصير إلاّ أنّه لا يخلو من وثوق، والعمل بها تبعاً للأكثر غير بعيد، وإن كان الأحوط - كما في الدروس - الترك، والله العالم»(3).

وعليه، فيكفي في جواز غناء المغنّية لزفّ العرائس:

صحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال»(4)؛ للتلازم بين جواز الاُجرة والحلّية.

ومعتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن كسب المغنّيات، فقال: «التي يدخل

ص: 402


1- جواهر الكلام / ج 22، ص 48-49.
2- لعلّ منشأ ذلك: هو توهّم ضعف مثل ليث المرادي من جهة ورود بعض الروايات الدالّة على ذمّه، ولكنها معارضة بالصحاح الدالّة على مدحه هذا مضافاً إلى ضعف الروايات الذامّة. على أنّ المنصرف من أبي بصير عند الإطلاق هو يحيى بن القاسم، وقد صرّح النجاشي بكونه ثقة وجيهاً.
3- المكاسب المحرّمة / ص 40.
4- وسائل الشيعة / ج 17، ص 121، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس...»(1).

ومنها: أنّ في سند هذه المعتبرة عليّ بن أبي حمزة البطائني، وهو ضعيف.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ نقل مثل الحسين بن سعيد عنه يكشف عن كون ذلك قبل انحرافه؛ لأنّ الحسين بن سعيد من الأجلاّء، ولا يمكن أن ينقل عنه في حال انحرافه كما لا يخفى.

ومنها: أنّ هذه الروايات لا تصمد أمام ما دلّ على الحرمة؛ لأنّ أدلّة التحريم بقول مطلق آبية عن التخصيص.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الإباء المذكور لا يساعده ذهاب الأكثر إلى جوازه؛ فإنّه لو كان كذلك لما ذهبوا إلى الجواز. قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «وليس حرمته أشدّ من الربا، ولا لسان أدلّته أشدّ وأغلظ من أدلّته، وهي مخصّصة بموارد، كالربا بين الوالد والولد والزوج والزوجة وغيرهما»(2).

ثمّ إنّ جواز الغناء في زفّ العرائس مختصّ بالمغنّية لا المغنّي، وبمجلس العرس المختصّ بالنساء لا غير، بل الأحوط الاقتصار على زفّ العرائس لا غير؛ لتقيّد الرواية الاُولى بزفّ العرائس، بل لا يخلو من قوّة؛ لاحتمال وحدتهما.

بل يشترط في جواز الغناء في زفّ العرائس عدم اقترانه مع عنوان آخر محرّم، كالتكلّم بالأباطيل والكذب وضرب الأوتار ودخول الرجال عليهنّ وغيرها من الاُمور المحرّمة.

ودعوى: أنّ هذه الاُمور خارجة عن الغناء، ومعه فالمحرّم هو المقترنات لا الغناء.

ص: 403


1- المصدر السابق / ص 120، ح 1.
2- المكاسب المحرّمة / ص 233.

مندفعة: بأنّ الأصل هو حرمة الغناء، والمتيقّن من الاستثناء هو الغناء الذي لا يكون مقروناً بأحد المحرّمات المذكورة، فيبقى الباقي تحت العمومات الدالّة على الحرمة.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «بل الأحوط عدم دخول المَحرم أيضاً؛ لأنّ إسماع الغناء واستماعه محرّم ولو كان الإسماع لمَحرم، وإنّما الخارج زفّ الأعراس مع عدم دخول الرجال، ومع وجود الرجال ولو المحارم يكون التغنّي حراماً (أخذاً بعموم أدلّة حرمة التغنّي)، وكذا أخذ الأجر عليه.

إلاّ أن يقال: إنّ زفّ الأعراس إلى بيت الأزواج وتجويز الغناء لذلك ملازم لسماع الأجانب فضلا عن بعض المحارم، فالتجويز للزفّ ملازم لتجويز الإسماع، لكنّ مقدار الملازمة هو الإسماع الاتّفاقي للعابر ونحوه، ولا يلزم منه جوازه للداخل لتلك الغاية. أو يقال: إنّ الرواية منصرفة عن المحارم، وهو ليس ببعيد، وإن كان الأحوط ما ذكر»(1).

بقي شيء: وهو أنّه قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «لا بأس بأخذ الأجر للغناء وإن اقترنت معه المحرّمات الخارجية، كما لو كان مقترناً بآلات اللهو، وإن كانت المغنّية ضاربة لها مع تغنّيها يجوز أخذه في مقابل تغنّيها لا العمل المحرّم المقارن له»(2).

وفيه - كما عرفت -: أنّ القدر المتيقّن من مورد الاستثناء هو ما إذا كان الغناء في ليلة الزفاف غير مقرون بأحد المحرّمات، ومع حرمة الغناء المقرون بأحدها لا يجوز أخذ شيء في قبال التغنّي كما لا يخفى، بل هذا هو مقتضى قوله آنفاً: «ومع وجود الرجال ولو المحارم يكون التغنّي حراماً، وكذا أخذ الأجر عليه» فتدبّر جيّداً.

ص: 404


1- المصدر السابق / ص 233-234.
2- المصدر السابق / ص 234.

ثمّ إنّ دعوى: أنّ المتعارف من الغناء في الزفاف كان مقترناً باستعمال الملاهي، غير ثابتة.

فتحصّل: أنّ الجائز هو غناء المغنّية لزفّ العرائس مع عدم اقترانه بأحد المحرّمات؛ وإلاّ فلا دليل على الجواز بعد عدم إطلاق في الباب وإن لم يستظهر التقييد من قوله عليه السلام: «وليست بالتي يدخل عليها الرجال»، فلا تغفل.

ثالثها: الحداء لسوق الإبل

ثالثها - الحداء لسوق الإبل:

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ ظاهر الأصحاب أنّ الحداء من الأصوات اللهوية؛ بشهادة استثنائهم إيّاه من الغناء بعد أخذهم الإطراب في تعريفه على أنّه من الأصوات اللهوية، فلم أجد ما يصلح لاستثنائه مع تواتر الأخبار بالتحريم(1).

وفيه: أنّ العرف لا يراه مطرباً بالنسبة إلى آحاد الناس حتّى يكون لهويّاً، وعليه فالظاهر أنّه خارج من مفهوم الغناء موضوعاً بناءً على اختصاصه بالصوت اللهوي، ومع حكم العرف بأنّه خارج من مفهوم الغناء موضوعاً يكون استثناء الأصحاب من باب الاستثناء المنقطع، ولا حاجة في جوازه إلى دليل؛ ولذا قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «الظاهر خروجه من مفهوم الغناء موضوعاً، وقد مال إليه صاحب الجواهر قال: «بل ربّما ادّعي أنّ الحداء قسيم للغناء بشهادة العرف، وحينئذ يكون خارجاً عن الموضوع»»(2).

ثمّ بناءً على تسليم كون الحداء من الغناء فلا إشكال في أنّ حلّيّته تحتاج إلى الدليل، وقد استدلّ له بوجوه:

منها: الشهرة؛ فإنّها كاشفة عن النصّ أو التقرير، على ما قرّرناه في الاُصول؛ فإنّ

ص: 405


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 40.
2- مصباح الفقاهة / ص 314.

المشهور لا يقولون بشيء إلاّ بدليل، كما أنّ المعصوم لا يسكت عن الإرشاد لو ذهبوا إلى شيء لم يرض به في محضره عليه السلام، ولكنّ تمام الكلام في إثبات الشهرة:

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «يظهر من المحقّق في كتاب الشهادات استثناء الحداء من الغناء حكماً، وهو المحكي عن العلاّمة في القواعد والشهيد في الدروس والخراساني، بل عنه دعوى الشهرة عليه، وفي شرح الفقيه المجلسي الأوّل أنّ ظاهر أكثر الأصحاب استثناء الحداء، وفي الرياض والمستند: اشتهر استثناؤه.

لكن تأمّل صاحب مفتاح الكرامة في الشهرة، وجزم في الجواهر بعدمها، واحتمل تحقّقها على الخلاف، ولعلّه لإطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم ذلك ما عدا المحقّق ومن عرفت ممّن هو بعده.

والإنصاف: عدم ثبوت الشهرة المعتمدة في طرفي القضيّة»(1).

ومنها: الاستدلال بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله من أنّه قال لعبد الله بن رواحة: «حرّك بالنوق»، فاندفع يرتجز، وكان عبدالله جيّد الحداء، وكان مع الرجال، وكان أنجشة (مولى للنبىّ صلى الله عليه وآله) مع النساء، فلمّا سمعه تبعه، فقال صلى الله عليه وآله لأنجشة: «رويدك، رفقاً بالقوارير!» يعني النساء(2).

وفيه مضافاً إلى ضعف السند: أنّ ابن رواحة - كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد - ارتجز لتحريك النوق، والإنشاد ببحر الرجز يخالف الغناء، ولا يحصل به الخفّة والطرب الخاصّ بالغناء، بل يحصل منه التهيّج الخاصّ بالحرب ونحوه.

فيمكن أن يقال: فيها إشعار بعدم جواز الحداء والتغنّي للإبل؛ فإنّ تركه والأخذ

ص: 406


1- المكاسب المحرّمة / ص 228-229.
2- سنن البيهقى / ج 10، ص 227.

بالرجز مع مناسبة الأوّل للسوق مشعر بممنوعيّته. وأمّا قوله: «وكان عبدالله جيّد الحداء» إخبار من الراوي ولا يدلّ على حدوه بالتغنّي(1).

ومنها: الاستدلال بما رواه ابن بابويه في الفقيه بإسناده عن السكوني، بإسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: زاد المسافر الحداء، والشعر ما كان منه ليس فيه جفاء». وفي نسخة: «ليس فيه خناء» أو «حنان» على اختلاف النسخ.

ورواه البرقي في المحاسن عن النوفلي عن السكوني(2).

ويشكل ذلك أوّلاً: بضعف سند الفقيه إلى السكوني.

وفيه: أنّه يكفي نقل الرواية المذكورة في المحاسن؛ فإنّ سنده إلى أبي عبدالله عليه السلام صحيح، ولكن الموجود في النسخة: «ما كان منه ليس فيه جفاء».

وثانياً: بضعف دلالتها؛ لاحتمال أن يكون الحداء قسيماً للغناء، فلا يدلّ على استثناء الحداء الغنائي كما لا يخفى.

قال سيّدنا الإمام المجاهد: «إنّما الإشكال في دلالتها منشؤه الشكّ في معنى الحداء: هل هو بمعنى سوق الإبل مطلقاً بأيّة وسيلة كان ؟ كما هو ظاهر القاموس قال: «حدا الإبل وبها حدواً وحداءً وحداءً : زجرها وساقها»، بناءً على أنّ «ساقها» معنى آخر له مقابل «زجرها».

أو سوقها بمطلق الصوت الأعمّ من الغناء؟ كما يظهر منه في كلمة «دي دي» قال: ما كان للناس حداءٌ ، فضرب أعرابيّ غلامه وعضّ أصابعه، فمشى وهو يقول: «دي دي» أراد يا يدي، فسارت الإبل على صوته، فقال له: الزمه، وخلع عليه، فهذا أصل الحداء.

ص: 407


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 229-230.
2- وسائل الشيعة / ج 11، ص 418، الباب 37 من أبواب آداب السفر إلى الحج، ح 1.

انتهى. تأمّل.

أو مشترك بين سوق الإبل مطلقاً والتغنّي لها؟ كما هو محتمل الصحاح والمنجد ومجمع البحرين. ففي الأوّل: «الحدو: سوق الإبل والغناء لها»، وقريب منه في تالييه.

أو هو سوق الإبل بالغناء؟ كما هو محتمل عبارة الصحاح وبعده وظاهر الوافي والمسالك وشرح الفقيه للمجلسي والرياض والمستند ومجمع البرهان وغيرها. ففي الأوّل: «هو سوق الإبل بالترنّم»، وفي المسالك: «سوق الإبل بالغناء لها» ونحوه غيره. والظاهر منهم تفسيره مطلقاً، لا ما هو موضوع الحكم الشرعي أو مورد استثناء الفقهاء.

أو هو مباين للغناء؟ كما هو صريح مفتاح الكرامة؛ تمسّكاً بشهادة العرف، وكأنّه مال إليه في الجواهر.

فإن كان عبارةً عن التغنّي للإبل فتكون الرواية أخصّ مطلقاً من أدلّة التحريم، ولا مانع من تقييدها لها سواء في ذلك النسخ المختلفة؛ لأنّ كونه مطرباً من لوازم الغناء، فلا يرجع إليه القيد ولو كان الحنان بمعنى الطرب.

إلاّ أن يقال: المأخوذ في الغناء هو المطربية الاقتضائية، والمراد بالحنان هو المطربية الفعلية، لكنّه مع بعده يفيد استثناء الغناء إلاّ إذا أثّر الطرب فعلاً.

وكذا لو كان أحد معنييه التغنّي لها والآخر السوق بغير صوت، وأمّا لو كان أعمّ من التغنّي - بمعنى كونه إمّا مطلق سوق الإبل بصوت أو غيره بالتغنّي أو لا، أو بمعنى سوقها بمطلق الصوت - فتفسير الرواية أعمّ من وجه من روايات التحريم، فيأتي فيها ما تقدّم من الكلام، وعلى فرض عمل المعارضة تقدّم عليها روايات التحريم بوجوه.

مضافاً إلى أنّه على فرض الأعمّية تصير مجملة؛ لاحتمال رجوع القيد المجمل إليه، وإن لا يبعد ظهوره في الرجوع إلى الشعر؛ لتأخّره، وكون الضمير مفرداً، وعدم احتمال

ص: 408

رجوعه إلى المتقدّم فقط.

وكيف كان، فالمتحصّل ممّا ذكر: عدم استثناء الحداء من الغناء»(1).

ولقد أفاد وأجاد، وحاصله: أنّه يدور الأمر:

بين أن تكون النسبة بين موثّقة السكوني وأدلّة تحريم الغناء هي العموم والخصوص المطلق لو كان المراد من الحداء هو الغناء، ومقتضى القاعدة حينئذ هو تخصيص عمومات حرمة الغناء بموثّقة السكوني.

وبين أن تكون النسبة بينها وبين أدلّة تحريم الغناء هي العموم من وجه لو كان الحداء أعمّ من الغناء، فتقدّم العمومات الدالّة على تحريم الغناء؛ لقوّتها من وجوه.

وبين أن تكون النسبة بينهما هي التباين لو كان الحداء قسيماً للغناء، فتجويزه لا يعارض أدلّة تحريم الغناء؛ لتغاير موضوعهما.

فلو لم نرجّح أحد هذه الوجوه على الاُخرى فإنّ الإجمال يبقى على حاله، فلا يستفاد منه استثناء الحداء من الغناء. بل لعلّ الحداء عند العرف قسيم للغناء فلا حاجة فيه إلى إقامة دليل على الجواز.

ومنها: السيرة، قال في بلغة الطالب: «وعلى أيّ حال، يمكن دعوى استقرار السيرة على جواز الحداء، فلو كان من الغناء كان خارجاً عنه حكماً، لكن من المعلوم أنّ الغناء بالمعنى الذي فسّره به المصنّف (أي الشيخ الأعظم) لا ينطبق على الحداء»(2).

وبعبارة اُخرى: إن كان الحداء من الغناء لزم الاستدلال على جوازه واستثنائه بأحد الاُمور المذكورة، وأمّا إذا كان المراد منه أنّه قسيم للغناء فلا حاجة إليها في الجواز.

ص: 409


1- المكاسب المحرّمة / ص 230-232.
2- بلغة الطالب / ج 1، ص 121.

ودعوى السيرة على الغناء بمعنى الصوت اللهوي، ممنوعة، وإنّما المتيقّن منها هو الغناء اللغوي، وهو غير اللهوي.

فتحصّل: أنّه لا دليل على استثناء الحداء من الغناء، والله هو العالم.

ص: 410

المسألة التاسعة والثلاثون «في الغيبة»

اشارة

والكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في تعريف الغيبة

اشارة

قال في الصحاح: «اغتابه اغتياباً: إذا وقع فيه. والاسم: الغِيبة؛ وهو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمّي غيبة، وإن كان كذباً سمّي بهتاناً»(1).

وظاهره أنّ عدم حضور المغتاب مأخوذ في مفهوم الغيبة. والمراد من قوله: «إذا وقع فيه» أي عابه.

وعن القاموس: «وغابه: عابه وذكره بما فيه من السوء، كاعتابه. والغيبة: فِعلة منه تكون حسنة أو قبيحة»(2).

وظاهره أنّ ذكر السوء والعيب مأخوذ في مفهوم الغيبة. وقوله في الذيل: «تكون

ص: 411


1- الصحاح / مادّة «غيب».
2- القاموس المحيط / مادّة «غيب».

حسنة أو قبيحة» راجع إلى بيان الفعلة لا بيان الغيبة.

وعن المصباح: «اغتابه: إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حقّ . والاسم: الغيبة»(1).

وظاهره أنّ موضوع الغيبة هو ما يكرهه المغتاب من عيوبه، وقد أشار إليه في الصحاح بقوله: «بما يغمّه لو سمعه».

وعن النهاية: «هو أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء ممّا يكون فيه»(2).

وهذا التعريف خال عن ذكر الكراهة، وبهذا الاعتبار يكون أشمل.

وعن منتهى الإرب - ما ترجمته -: «الغيبة: ذكر السوء خلف شخص، وهي اسم للاغتياب إن كان صدقاً، وإن كان كذباً سمّي بهتاناً»(3).

وهذا التعريف قريب ممّا في النهاية.

قال الشيخ الأعظم قدس سره بعد نقل كلمات جماعة من اللغويّين: «والظاهر من الكراهة في عبارة المصباح كراهة وجوده، ولكنّه غير مقصود قطعاً، فالمراد إمّا كراهة ظهوره ولو لم يكره وجوده كالميل إلى القبائح، وإمّا كراهة ذكره بذلك العيب.

وعلى هذا التعريف دلّت جملة من الأخبار:

مثل قوله صلى الله عليه وآله - وقد سأله أبو ذرّ عن الغيبة -: بأنّها «ذكرك أخاك بما يكرهه»(4).

وفي نبويّ آخر: قال صلى الله عليه وآله: «أتدرون ما الغيبة ؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك

ص: 412


1- المصباح المنير / مادّة «غيب».
2- النهاية في غريب الحديث والأثر / مادّة «غيب».
3- منتهى الإرب / مادّة «غيب».
4- وسائل الشيعة / ج 12، ص 278، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.

أخاك بما يكرهه»(1)»(2).

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره الشيخ قدس سره من تأييد بعض التعاريف اللغوية بجملة من الأخبار مثل قوله صلى الله عليه وآله - وقد سأله أبو ذر عن الغيبة -: «إنّها ذكرك أخاك بما يكرهه» مبنيّ على أنّ المراد من «ذكرك أخاك بما يكرهه» في الأخبار: هو ذكره في غيابه كما هو الظاهر من جواب السائل عن الغيبة، ومبنىّ على أنّ المذكور في غيابه هو السوء الذي يكون فيه كما لعلّه كذلك، فلذا لا يشمل ذكر المحاسن ولو مع الكراهة.

ثمّ إنّ الكراهة المذكورة أو الاغتمام المذكور في اللغة لا يكونان إلاّ من ناحية الذكر والظهور، كما يشهد له قوله: «لو سمعه» بعد قوله: «بما يغمّه» في تعريف الصحاح، لا من ناحية أصل وجود ميل المغتاب - بالفتح - كثيراً إلى وجود القبائح.

ثمّ إنّ وصف الإنسان بالمستور في الصحاح يوجب اختصاص التعريف بغير المتجاهر. وأمّا تخصيص الكراهة بالظهور فهو مشعر بكون العيوب مستورة، فتعريف الغيبة في اللغة ب - «التكلّم خلف إنسان عفيف بما يكرهه من عيوبه المستورة» تعريف توافقه بعض الروايات في الجملة، كما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره.

وقد أورد في مصباح الفقاهة على تعريف صحاح اللغة بأنّ : «هذا التعريف لا يرجع إلى معنى محصّل؛ فإنّ المراد من الموصول فيه:

إن كان هو الذكر بحيث يكون حاصله أنّ الغيبة ذكر غيره بذكر لا يرضى به لو سمعه، دخل في التعريف ما ليس بغيبة قطعاً إذا كره المقول فيه، كذكره بفعل بعض المباحات بل وبعض المستحبّات؛ من المواظبة على الأدعية والأذكار، والقيام على النوافل

ص: 413


1- وفي نسخة: «أتدري ما الغيبة ؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكركم أخاكم بما يكرهه».
2- المكاسب المحرّمة / ص 41.

والعبادات، والالتزام بالزيارات، وإعطاء الصدقات. وعليه فالتعريف المذكور تعريف بالأعمّ ، كما أنّ تعريف المصباح بقوله: «اغتابه: إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حقّ ، والاسم: الغيبة» يكون تعريفاً بالأخصّ .

وإن كان المراد من الموصول في التعريف الأوصاف المذمومة والأفعال القبيحة الصادرة من المقول فيه ويقربه التعريف المتقدّم من المصباح، خرج عن الغيبة ما لا يشكّ أحد كونه منها، كذكر الغير بالاُمور المحرّمة التي ارتكبها عن رغبة وشهوة من غير أن يشمئزّ منها ومن ذكرها. وعليه فلا يكون التعريف المذكور جامعاً للأفراد.

والتحقيق أن يقال: إنّه لم يرد نصّ صحيح في تحديد مفهوم الغيبة ولا تعريف من أهل اللغة كي يكون جامعاً للأفراد ومانعاً للأغيار، وعلى هذا فلابدّ من أخذ المتيقّن من مفهوم الغيبة وترتيب الحكم عليه؛ وهو أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا في المقدار الزائد فيرجع إلى الاُصول العملية»(1).

ويمكن أن يقال: اوّلاً: إنّه بعد وضوح كون المذكور في كلمات أهل اللغة هو السوء أو العيوب فلا يدخل في التعريف ما ليس بغيبة كذكر المباحات والمستحبّات. وعليه فالإشكال على التعريف بأنّه ليس بمانع عن الأغيار لشموله لذكر محاسنه إذا لم يرضَ بذكرها، كما ترى.

وبعبارة اُخرى: قوله في الصحاح: «وهو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه» منصرف عن ذكر المباحات والمستحبّات الذي لا ينافي كون المغتاب مستوراً وعفيفاً كما لا يخفى.

وثانياً: إنّ تعريف النهاية وهو: «أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء ممّا يكون فيه» خال

ص: 414


1- مصباح الفقاهة / ص 325-326.

عن ذكر الكراهة، وهو يشمل من ارتكب العيوب عن رغبة وشهوة من غير أن يشئمزّ منها ومن ذكرها، فيكون تعريفه جامعاً لأفراده. وعليه فالكراهة المذكورة في سائر التعاريف محمولة على الغلبة، فلا يلزم من ذكرها خروج من لا يشمئزّ منها ومن ذكرها عن الغيبة. ويؤيّده: عدم ورود نصّ صحيح لاعتبار الكراهة في الغيبة، فتدبّر.

وثالثاً: إنّ ما جعله قدراً متيقّناً يشمل ذكر ما يكون فيه من السوء في حضوره، مع أنّه ليس بغيبة. إلاّ أن يقال: إنّ الموضوع حيث كان عنوان الغيبة فلا يشمل ذكر السوء في الحضور.

هذا مضافاً إلى أنّ ما ستره الله يكون أعمّ من العيوب. أللّهم إلاّ أن يقال: إنّ ما ستره الله منصرف إلى العيوب؛ فلا يشمل المستحبّات والمحسّنات المستورة.

ورابعاً: إنّ دعوى عدم ورود نصّ صحيح محلّ تأمّل ونظر بعد ورود حسنة عبد الرحمان بن سيّابة قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «الغيبة: أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا الأمر الظاهر - مثل الحدّة والعجلة - فلا. والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه»(1).

فما عن النهاية قريب ممّا ذكر في حسنة عبد الرحمان بن سيّابة. والمراد من الموصول في قوله: «ما ستره الله عليه» هو عيوبه المستورة؛ بقرينة ذكر العيوب الظاهرة.

وكيف كان، يؤخذ بالحسنة فيما يدلّ عليه من الإضافات، كقيد «الاُخوّة» واعتبار الستر. فتحصّل: أنّ الغيبة هي أن يتكلّم خلف إنسان مؤمن عفيف بما ستره الله عليه من عيوبه، ولكن إضافة القيود إلى المعنى اللغوي ليس بمعنى رفع اليد عن المعنى اللغوي وبيان الحقيقة الشرعية كما لا يخفى.

ص: 415


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 288، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في عدم اعتبار قصد الانتقاص

صرّح الشيخ قدس سره بأنّ : «الظاهر من الكلّ - خصوصاً القاموس المفسّر لها أوّلاً بالعيب - أنّ المراد ذكره في مقام الانتقاص، والمراد بالموصول هو نفس النقص الذي فيه - إلى أن قال: - وقال الشهيد الثاني في كشف الريبة: «إنّ الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصاً في العرف بقصد الانتقاص والذمّ »»(1).

ثمّ أورد عليه بأنّ : «مقتضى ذلك هو خروج ما إذا ذكر الشخص بصفات ظاهرة يكون وجودها نقصاً مع عدم قصد انتقاصه بذلك، مع أنّه داخل في التعريف عند الشهيد أيضاً؛ حيث عدّ من الغيبة ذكر بعض الأشخاص بالصفات المعروف بها، كالأعمش والأعور ونحوهما، وكذلك ذكر عيوب الجارية التي يراد شراؤها إذا لم يقصد من ذكرها إلاّ بيان الواقع، وغير ذلك ممّا ذكره هو وغيره من المستثنيات. ودعوى: أنّ قصد الانتقاص يحصل بمجرّد بيان النقائص، موجبةٌ لاستدراك ذكره بعد قوله: «ممّا يعدّ نقصاً»»(2).

ثمّ قال الشيخ قدس سره: «والأولى - بملاحظة ما تقدّم من الأخبار وكلمات الأصحاب بناءً على إرجاع الكراهة إلى الكلام المذكور به لا إلى الوصف - ما تقدّم من أنّ الغيبة أن يذكر الإنسان بكلام يسوء به: إمّا بإظهار عيبه المستور وإن لم يقصد انتقاصه، وإمّا بانتقاصه بعيب غير مستور؛ إمّا بقصد المتكلّم أو بكون الكلام بنفسه منقّصاً له، كما إذا اتّصف الشخص بالألقاب المشعرة بالذمّ . نعم، لو اُرجعت الكراهة إلى الوصف الذي يسند إلى الإنسان تعيّن إرادة كراهة ظهورها، فيختصّ بالقسم الأوّل؛ وهو ما كان إظهاراً لأمر

ص: 416


1- المكاسب المحرّمة / ص 41.
2- المصدر السابق.

مستور»(1).

ثمّ اختار الشيخ إرادة كراهة الظهور، وأيّده بل عيّنه بقوله: «ويؤيّد هذا الاحتمال بل يعيّنه: الأخبار المستفيضة الدالّة على اعتبار كون المقول مستوراً غير منكشف، مثل قوله عليه السلام فيما رواه العيّاشي بسنده عن ابن سنان: «الغيبة: أن تقول في أخيك ما فيه ممّا قد ستره الله عليه» - إلى أن قال: - وحسنة عبد الرحمان بن سيّابة بابن هاشم قال: قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «الغيبة: أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا الأمر الظاهر مثل الحدّة والعجلة فلا. والبهتان: أن يقول فيه ما ليس فيه». وهذه الأخبار - كما ترى - صريحة في اعتبار كون الشيء غير منكشف - إلى أن قال: - والعمل بالمستفيضة لا يخلو عن قوّة وإن كان ظاهر الأكثر خلافه، فيكون ذكر الشخص بالعيوب الظاهرة الذي لا يفيد السامع اطّلاعاً لم يعلمه ولا يعلمه عادةً من غير خبر مخبر ليس غيبة، فلا يحرم إلاّ إذا ثبت الحرمة من حيث المذمّة والتعيير»(2).

وحاصله: اختيار عدم اعتبار قصد الانتقاص، وإنّما المعتبر هو إظهار عيبه المستور وإن لم يقصد انتقاصه. ولكن لا يخفى عليك أنّ دعوى ظهور الأكثر على الخلاف وأنّ مراد اللغويّين هو ذكره في مقام الانتقاص، ممنوعة؛ لما أفاده في بلغة الطالب من أنّ : «ظهور كلامهم - حتّى القاموس - في ذلك ممنوع؛ ضرورة أنّه ليس معنى «عابه» إلاّ أنّه ذكر عيبه، وأمّا كون ذلك بقصد الانتقاص حتّى يكون بمعنى «عيب جوئي» بالفارسية فلا، كما هو كذلك وجداناً عند بيان عيوب الجارية بعد سؤال المشتري عن عيوبها. وبعبارة اُخرى: فرق بين ذكر العيب وقصد ظهور ما يستلزمه من نقص المعيوب ورداءته،

ص: 417


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق / ص 41-42.

إلاّ أن يقال: إنّ قصد الملزوم مستلزم لقصد اللازم. لكن عليه يكون التقييد بقصد الانتقاص لمجرّد التوضيح، ولذا لا نجد في الأخبار الواردة في بيان موضوع الغيبة ما يشير إلى اعتبار ذلك، فلا وجه لما سيجيء من كشف الريبة من اعتباره فيها»(1). فكلمات أهل اللغة ليست مخالفة لإطلاق الروايات المستفيضة الدالّة على عدم اعتبار قصد الانتقاص.

هذا مضافاً إلى أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره قال: «إنّ صدق عنوان العيب على المقول أمر عرفىّ لا يرتبط بالقصد، ولا يقاس هذا بالتعظيم والهتك المتقوّمين بالقصد»(2).

وممّا ذكر يظهر ما في المحكي عن كشف الريبة(3) من عدّ ذكر بعض الأشخاص بالصفات المعروف بها - كالعمش والعور ونحوهما - من الغيبة، مع أنّك عرفت أنّه ليس من الغيبة؛ لأنّ هذه الصفات لا مساس لها بالستر والعفاف، ولا تكون ممّا ستره الله عليه، كما أنّ ذكر عيوب الجارية التي يراد شراؤها إذا لم يقصد من ذكرها إلاّ بيان الواقع ليس بخارج عن الغيبة، نعم يكون من موارد الاستثناء من حكم الغيبة وهو الحرمة كما لا يخفى.

فتحصّل: أنّه لا دليل على اعتبار قصد الانتقاص في الغيبة لا في اللغة ولا في السنّة، فالغيبة: هي ذكرك خلف أخيك ما ستره الله عليه من العيوب والنواقص، كما تشهد له حسنة عبد الرحمان بن سيّابة قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «الغيبة: أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا الأمر الظاهر - مثل الحدّة والعجلة - فلا. والبهتان: أن تقول

ص: 418


1- بلغة الطالب / ج 1، ص 122.
2- مصباح الفقاهة / ص 328.
3- كشف الريبة / الفصل الاول فى اقسام الغيبة، الطبعة الحجرية.

فيه ما ليس فيه»(1).

التنبيه الثاني: في عدم اختصاص الغيبة بما يكون في ارتكابه حدّ

وذلك للمطلقات، وعدم الدليل على هذا القيد إلاّ رواية داود بن سرحان قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الغيبة، قال: «هو أن تقول لأخيك في دينك ما لم يفعل، وثبَّتَّ (وتبثّ ) عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ»(2).

وفي تعليقة الوسائل: «نقلت نسخة اُخرى وهي «وتثبت»». وكيف كان، فإنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الغيبة: هي أن تقول لأخيك في دينك ما لم يفعل ممّا كان مقتضى الديانة تركه، وتثبت عليه أمراً قد ستره الله عليه ولم يقم عليه فيه حدّ، وعليه فتختصّ حرمة الغيبة بإظهار مستور يكون في ارتكابه حدّ ولم يقم عليه فيه حدّ، وأمّا ما لا يكون في ارتكابه حدّ فليس بغيبة، كما أنّه إذا قام عليه الحدّ لا يكون غيبة؛ لظهوره عند الناس وخروجه عن عنوان ما ستره الله عليه.

واُجيب عنه: اوّلاً: بضعف الرواية بمعلّى بن محمّد الواقع في طريقها؛ لعدم وجود توثيق خاصّ له.

وفيه: أنّه من مشايخ الإجازة ومن شيوخ مشايخ الكليني، وله كتب قريبة. وعن تعليقة البهبهاني: «قال جدّي: لم نطّلع على خبر يدلّ على اضطرابه في الحديث والمذهب كما ذكره بعض الأصحاب، وعليه لا يبعد دعوى الاعتماد عليه»(3).

وثانياً: بأنّه يمكن الجمع بين هذه الرواية وحسنة عبد الرحمان بن سيّابة: برفع اليد

ص: 419


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 288، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
2- المصدر السابق / ح 1.
3- منتهى المقال / معلى بن محمد البصري.

عن القيد المذكور ببركة حسنة عبد الرحمان بن سيّابة.

وفيه: أنّ مقتضى الجمع هو العكس؛ لأنّ الأخصّ مقدّم على الأعمّ .

وثالثاً - كما في إرشاد الطالب -: بأنّه «لا دلالة في الرواية على التقييد؛ فإنّ عدم قيام الحدّ بمفاد «ليس» التامّة يصدق على ما إذا لم يكن في ارتكابه حدّ. ولعلّ وجه ذكر ذلك القيد هو التنبيه على أنّ مع قيام الحدّ يكون الارتكاب ظاهراً عند الناس، فلا يكون في البين غيبة وكشف عيب مستور»(1).

التنبيه الثالث: في حكم نفي الكمال

قال الشيخ الأعظم: «والملخّص من مجموع ما ورد في المقام: أنّ الشيء المقول إن لم يكن نقصاً فلا يكون ذكر الشخص حينئذ غيبة وإن اعتقد المقول فيه كونه نقصاً عليه، نظير ما إذا نفى عنه الاجتهاد وليس ممّن يكون ذلك نقصاً في حقّه إلاّ أنّه معتقد باجتهاد نفسه. نعم قد يحرم هذا من وجه آخر»(2).

التنبيه الرابع: في العيوب الظاهرة

يعتبر في الغيبة كون العيب مستوراً، كما دلّت عليه حسنة عبد الرحمان بن سيّابة. قال الشيخ الأعظم: «ذكرُ الشخص بالعيوب الظاهرة الذي لا يفيد السامع اطّلاعاً لم يعلمه ولا يعلمه عادةً من غير خبر مخبر ليس غيبة، فلا يحرم إلاّ إذا ثبت الحرمة من حيث المذمّة والتعيير، أو من جهة كون نفس الاتّصاف بتلك الصفة ممّا يستنكفه المغتاب ولو باعتبار بعض التعبيرات، فيحرم من جهة الإيذاء والاستخفاف والذمّ والتعيير»(3).

ص: 420


1- إرشاد الطالب / ص 193.
2- المكاسب المحرّمة / ص 41.
3- المصدر السابق / ص 42.
التنبيه الخامس: في أنواع العيب والنقصان

لا فرق في العيب والنقصان بين كونه في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه، حتّى في ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك، ولكنّ اللازم أن يكون العيب مستوراً حتّى يدخل ذكره في الغيبة.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «وقد روي عن مولانا الصادق عليه السلام الإشارة إلى ذلك بقوله عليه السلام: «وجوه الغيبة تقع: بذكر عيب في الخلق، والفعل، والمعاملة، والمذهب، والجهل، وأشباهه»(1).

قيل: أمّا البدن فكذكرك فيه العَمَش، والحَوَل والعَوَر، والقَرَع، والقِصَر، والطول، والسواد، والصفرة، وجميع ما يتصوّر أن يوصف به ممّا يكرهه.

وأمّا النسب فبأن يقول: أبوه فاسق، أو خبيث، أو خسيس، أو إسكاف، أو حائك، أو نحو ذلك ممّا يكره.

وأمّا الخلق فبأن يقول: إنّه سيّئ الخلق، بخيل، مرّاء، متكبّر، شديد الغضب، جبان، ضعيف القلب، ونحو ذلك.

وأمّا في أفعاله المتعلّقة بالدين فكقولك: سارق، كذّاب، شارب، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، لا يحسن الركوع والسجود، ولا يجتنب من النجاسات، ليس بارّاً بوالديه، لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرّض لأعراض الناس.

وأمّا أفعاله المتعلّقة بالدنيا فكقولك: قليل الأدب، متهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقّاً، كثير الكلام، كثير الأكل والنوم، يجلس في غير موضعه.

ص: 421


1- مستدرك الوسائل / ج 2، ص 106.

وأمّا في ثوبه فكقولك: إنّه واسع الكمّ ، طويل الذيل، وسخ الثياب، ونحو ذلك»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ إطلاق بعض ما ذكر في توضيح ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام لا يساعد ما عرفت من اختصاص الغيبة بالمستور؛ لظهور بعض هذه الموارد كما لا يخفى، وقد مرّ عليك تعريف الغيبة في حسنة عبد الرحمان بن سيّابة بأنّها: «أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا الأمر الظاهر - مثل الحدّة والعجلة - فلا. والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه»(2). وعليه فليحمل إطلاق ما ذكر على صريح حسنة عبد الرحمان بن سيّابة، فيختصّ مورد الغيبة بما ستره الله عليه؛ فلا حرمة في ذكر العيوب الظاهرة من ناحية الغيبة.

ودعوى: ضعف رواية حسنة ابن سيّابة بعبد الرحمان بن سيّابة.

مندفعة: بأنّ نقل الأجلاّء عنه - كالحسن بن محبوب وأبان بن عثمان ويونس بن عبد الرحمان وعبدالله بن سنان وابن فضّال وغيرهم - يوجب الوثوق به.

هذا مضافاً إلى ما أفاده في إرشاد الطالب: من أنّه يعمّه التوثيق العامّ الذي ذكره الشيخ في العدّة؛ فإنّه من مشايخ ابن أبي عمير(3). ولكن لم أجد ذلك.

نعم، لو أراد من ذكرها الإهانة أو التعيير أو الذمّ يكون حراماً من تلك الناحية كما لا يخفى.

التنبيه السادس: في أنواع ذكر العيب

لا فرق في الغيبة بين أن يذكر العيوب باللسان أو بالإشارة أو الكتابة؛ لأنّ كلّ ما

ص: 422


1- المكاسب المحرّمة / ص 42.
2- وسائل الشيعة / ج 12، ص 288، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
3- إرشاد الطالب / ص 193.

يوجب ذكر الشخص من القول أو الفعل أو الإشارة أو غيرها فهو مصداق لذكر الغير بالعيوب. قال شيخنا الأعظم قدس سره: «ومن ذلك: المبالغة في تهجين المطلب الذي ذكره بعض المصنّفين بحيث يفهم منها الإزراء بحال ذلك المصنّف؛ فإنّ قولك: «إنّ هذا المطلب بديهيّ البطلان» تعريض لصاحبه بأنّه لا يعرف البديهيّات، بخلاف ما إذا قيل: «إنّه مستلزم لما هو بديهيّ البطلان»؛ لأنّ فيه تعريضاً بأنّ صاحبه لم ينتقل إلى الملازمة بين المطلب وبين ما هو بديهيّ البطلان، ولعلّ الملازمة نظرية. وقد وقع من بعض الأعلام بالنسبة إلى بعضهم ما لابدّ له من الحمل والتوجيه. أعوذ بالله من الغرور، وإعجاب المرء بنفسه، وحسده على غيره، والاستئكال بالعلم»(1).

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «قد تتحقّق الغيبة بالتعريض والإشارة؛ قولاً: كأن يقول: الحمد لله الذي لم يبتلني بالسلطان وبالميل إلى الحكّام، أو فعلاً: كأن يحكي مشية الغائب، بل هو أشدّ من الذكر باللسان؛ لكونه أعظم في الانتقاص، أو كتابةً : فقد قيل: إنّ القلم أحد اللسانين؛ فإنّ المناط في تحقّق الغيبة كشف ما ستره الله، ولا خصوصية للكاشف»(2). وفي كون حكاية مشية الغائب غيبةً تأمّل ونظر.

وكيف كان، يتفرّع على هذا التنبيه عدم جواز ما شاع في زماننا هذا بعنوان الكاريكاتير فيما إذا كان موجباً لكشف ما ستره الله عليه، ولا يسوّغه إظهار رضا المغتاب أو عدم كراهته ذلك.

ودعوى: اعتبار الكراهة في صدق الغيبة؛ لما في النبوي من أنّها «ذكرك أخاك بما يكرهه».

ص: 423


1- المكاسب المحرّمة / ص 42.
2- مصباح الفقاهة / ص 328.

مندفعة: بأنّه لا دليل على دخالة الكراهة؛ لضعف ما ورد في ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ اللازم هو حمل الكراهة على الغلبة؛ وإلاّ خرج عن الغيبة ما لا يشكّ أحد في كونه منها، كذكر الغير بالاُمور المحرّمة التي ارتكبها عن رغبة وشهوة من غير أن يشمئزّ منها ومن ذكرها.

لا يقال: إنّ من أظهر الرضا أهدر حقّه، ومع الإهدار لم لا تجوز غيبته ؟

لأنّا نقول: إنّ الغيبة وإن أوجبت حقّاً للمغتاب ومع الإهدار لا حقّ له، ولكنّها تكون معصية لله تعالى، كما صرّح بذلك في موثّقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله:... وأكل لحمه معصية لله»(1).

وعليه، فالإهدار لا يوجب جواز الغيبة، كما أنّه لا يجوز إذلال المؤمن وإهانته بإظهار رضاه، هذا كلّه مع الغمض عن عناوين اُخرى محرّمة كالإيذاء والإهانة والسخرية ونحوها؛ وإلاّ فمع صدقها على مثل الكاريكاتير فلا إشكال في حرمتها كما لا يخفى.

التنبيه السابع: في المراد من الستر

لا يخرج ذكر عيب الغير عن عنوان الغيبة فيما إذا علم العيب واحد أو اثنان أو ثلاثة مع عدم علم جلّ معاشريه؛ لصدق ما ستره الله على عيبه، وإنّما لا يصدق ذلك فيما إذا علمه جلّ معاشريه. هذا مضافاً إلى أنّه لو كان علم الواحد أو الاثنين أو الثلاثة مجوّزاً للغيبة لزم تجويز الغيبة في أغلب الموارد؛ لأنّها لا تخلو عن مثل ذلك.

وأمّا إذا كان العيب مستوراً عند طائفة وظاهراً عند اُخرى، فقد يقال: لا يصدق على ذكره عند الطائفة الاُولى أنّه غيبة؛ لأنّه عيب لم يستره الله على ذلك الإنسان(2).

ص: 424


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 281، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 12.
2- إرشاد الطالب / ص 193.

وفيه نظر؛ لأنّ ذكر العيب عند الطائفة التي لم تطّلع على العيب يصدق عليه أنّه ذكر لعيب مستور وإن لم يكن مستوراً عند الطائفة الاُخرى. والوجه في ذلك: أنّ الغيبة - كسائر الموضوعات - يختلف حكمها باختلاف صدقها وعدمه، فكما أنّ حكم المكيل والموزون والمعدود يختلف باختلاف الأمكنة والبلاد، فكذلك يختلف حكم الغيبة باختلاف موارد الاطّلاع وعدمه، فذكر العيب عند الطائفة الاُولى يصدق عليه أنّه ذكر للعيب المستور، فتترتّب عليه الحرمة.

ودعوى: أنّه لا ينبغي التأمّل في جواز إظهار ذلك العيب عند الجاهل به من الطائفة الثانية - كما هو ظاهر الروايات الواردة في تحديد الغيبة وتفسيرها - وإذا جاز إظهار عيبه عنده مع أنّه إسقاط لعرضه عنده جاز عند الطائفة الاُولى أيضاً؛ باعتبار عدم احتمال الفرق(1).

مندفعة: بأنّ الفرق بينهما واضح؛ لصدق الغيبة على ذكره عند الطائفة الاُولى وعدم صدقها عند الطائفة الثانية؛ وإلاّ لزم أن لا تجوز الغيبة ولو في عيب يعرفه الناس جميعاً عدا المخاطب، وهو كما ترى.

وبعبارة اُخرى: إنّ ذكر عيب الغير عند طائفة لم تطّلع على ذلك العيب يصدق عليه أنّه ذكر عيب لم يعرفه الناس؛ إذ المقصود من الناس هو جماعة منهم لا جميعهم أو جلّهم؛ وإلاّ لما بقي مصداق للغيبة غالباً. ويؤيّد ما ذكر: رواية أبان عن رجل لا نعلمه إلاّ يحيى الأزرق قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه

ص: 425


1- إرشاد الطالب/ ص 194.

فقد بهته»(1). بناءً على أنّ المراد من الناس طائفة منهم لا جميعهم أو جلّهم.

هذا مضافاً إلى أنّ الأصل في المؤمن الاحترام على الإطلاق كما هو المعلوم من مذاق الشارع المقدّس، فالواجب حينئذ الاقتصار على ما يتيقّن خروجه، وعليه فالأحوط - لو لم يكن الأقوى - الاجتناب عن الغيبة عند طائفة لم تطّلع على العيب وإن اطّلعت عليه طائفة اُخرى.

لا يقال: إنّ قوله عليه السلام في رواية داود بن سرحان: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، وتبثّ عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ»(2) يكفي لتجويز الغيبة عند اطّلاع طائفة؛ لأنّ إجراء الحدّ لا يوجب اطّلاع جميع الطوائف.

لأنّا نقول: نمنع ذلك؛ لأنّ إجراء الحدّ ممّا يوجب اطّلاع عموم الناس أو جلّهم بحسب العادة، وفرض عدم اطّلاع طائفة على ذلك بعيد جدّاً.

هذا مضافاً إلى أنّ غايته هو جواز غيبة من لم يرد الله ستر عيبه بإقامة الحدّ عليه، فيجوز غيبته عند طائفة لا تعرف عيبه، فلا تدلّ على جواز ذلك مطلقاً، فلا تغفل.

ثمّ إنّه لا يصدق إظهار ما ستره الله فيما إذا كان المخاطب كالمتكلّم عالماً بالعيب، فلا يحرم من ناحية الغيبة، وأمّا إذا كان ذلك موجباً لإيذاء المؤمن فلا يجوز.

التنبيه الثامن: في اعتبار حضور المخاطب الملتفت عند من يذكر عيب الغير

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ظاهر الأكثر دخول ذكر عيب الغير عند نفسه في الغيبة المحرّمة كما صرّح به بعض المعاصرين. نعم، ربّما يستثنى من حكمها عند من استثنى: ما

ص: 426


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 289، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، ح 3.
2- المصدر السابق / ص 288، ح 1.

لو علم اثنان صفة شخص فيذكر أحدهما بحضرة الآخر، وأمّا على ما قوّيناه من الرجوع في تعريف الغيبة إلى ما دلّ عليه المستفيضة المتقدّمة من كونها هتك ستر مستور فلا يدخل ذلك في الغيبة»(1).

والوجه فيما أفاده الشيخ: أنّ الهتك لا يصدق مع عدم وجود أحد يقصد بالتفهيم، قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «ولابدّ في صدق الغيبة من وجود أحد يقصد بالتفهيم؛ لأنّها إظهار ما ستره الله، وهو لا يتحقّق بمجرّد حديث النفس؛ فإنّه لا يزيد على الصور العلمية والملكات النفسانية. ومن هنا علم عدم تحقّق الغيبة أيضاً بذكر الإنسان بعيوب يعلمها المخاطب. نعم، قد يحرم ذلك من جهة اُخرى»(2).

وممّا ذكر يظهر حكم الغيبة عند من يلتفت كالمجانين والأطفال ممّن لا تمييز لهم.

التنبيه التاسع: في عدم صدق الغيبة مع حضور المغتاب بالفتح

إنّ مقتضى ما عرفت من تعريف الغيبة - وهي أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه - هو عدم صدق الغيبة مع حضور المغتاب بالفتح، ويؤيّده: تشبيه المغتاب - بالفتح - في الآية الكريمة بالميتة؛ لعدم شعوره بما قيل فيه. ولكنّ إطلاق قوله عليه السلام في حسنة عبد الرحمان بن سيّابة: «أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه» يقتضي صدق الغيبة مع حضور المغتاب أيضاً. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ حسنة عبد الرحمان في مقام بيان التفصيل بين العيوب الظاهرة والمستورة لا خصوصيّات المغتاب، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّ تعريف الغيبة بما ذكر في حسنة عبد الرحمان بن سيّابة - في جواب

ص: 427


1- المكاسب المحرّمة / ص 42.
2- مصباح الفقاهة / ص 328-329.

السؤال عن الغيبة - ظاهر في مفروغية اعتبار عدم حضور المغتاب، فتدبّر جيّداً.

التنبيه العاشر: في الشك في دخالة شىء في تحقق موضوع الغيبة

إذا شككنا في دخالة شيء في تحقّق موضوع الغيبة، قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن من مفهوم الغيبة وترتيب الحكم عليه، وهو «أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه»، وأمّا المقدار الزائد فيرجع فيه إلى الاُصول العملية»(1).

وعليه، فإذا شكّ في اعتبار قصد الانتقاص أو دخالة الكراهة ونحوهما يرجع فيه إلى أصالة عدم دخالتهما في حقيقة الغيبة.

ولقائل أن يقول: بعد ورود حسنة عبد الرحمان بن سيّابة في معنى الغيبة، لا مجال للأخذ بالأصل في الشكّ في المقدار الزائد، بل يكفي في نفيه الأخذ بإطلاق حسنة عبد الرحمان بن سيّابة: «أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه». والظاهر أنّ الوجه فيما ذهب إليه: أنّه لم يثبت عنده تعريف جامع أو نصّ صحيح.

هذا مضافاً إلى أنّ القدر المتيقّن - مع القول بعدم ما يعتمد عليه في تعريف الغيبة وتفسيرها وعدم ورود رواية صحيحة في ذلك كما أدّى إليه نظره الشريف - هو العكس؛ وهو عدم حرمة الغيبة إلاّ إذا اجتمع في تحقّقها جميع ما يحتمل له دخالة، والرجوع في غيره إلى الاُصول. أللهمّ إلاّ أن يراد من القدر المتيقّن أنّ كشف ما ستره الله عليه حرامٌ على كلّ تقدير؛ سواء كان لقصد الانتقاص أو الكراهة دخالة فيها أم لم يكن، فتأمّل.

لا يقال: إنّ وجوب حفظ أعراض المؤمنين يوجب لزوم الاحتياط في موارد الشكّ ؛ وإلاّ لم يمتثل وجوب الحفظ كما لا يخفى.

لأنّا نقول: يكفي في الخروج عنه - بعد تسليم ذلك - إطلاق الحسنة؛ لظهور تقدّم

ص: 428


1- المصدر السابق / ص 326-329.

الإطلاق على ما يقتضيه الاحتياط.

هذا مضافاً إلى أنّ الاجتناب عن الغيبة والاكتفاء بصدق ما ستره الله عليه في وجوب الاجتناب من دون توقّف على الكراهة أو قصد الانتقاص يوافق الاحتياط، ويكون حفظاً لأعراض المؤمنين كما لا يخفى.

التنبيه الحادي عشر: في عدم الفرق بين أن تكون الغيبة بالدلالة المطابقية أو بغيرها

لا فرق في الغيبة بين أن تكون بالدلالة المطابقية أو الالتزامية أو الكنائية؛ لصدق الغيبة عليها على كلّ تقدير؛ لأنّها إظهار لما ستره الله عليه من العيوب.

ثمّ لا فرق بين دواعي الغيبة في حرمتها، فمن قال: «فلان ضعيف الرأي وركيك الفهم» وغير ذلك من الكلمات المشعرة بالذمّ وقصد بذلك ترفيع نفسه بتنقيص غيره فقد ارتكب غيبةً ولو كان المقصود الأصلي هو ترفيع نفسه، وعليه فلا تفاوت بين أن تكون الغيبة غرضاً أصليّاً أو تبعيّاً، كلّ ذلك لصدق الغيبة.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ثمّ إنّ ذكر الشخص قد يتّضح كونه غيبة وقد يخفى على النفس لحبّ أو بغض؛ فيرى أنّه لم يغتب وقد وقع في أعظمها، ومن ذلك: أنّ الإنسان قد يغتمّ بسببِ ما يبتلى به أخوه في الدين لأجل أمر يرجع إلى نقص في فعله أو رأيه، فيذكره المغتمّ في مقام التأسّف عليه بما يكره ظهوره للغير، مع أنّه كان يمكنه بيان حاله للغير على وجه لا يذكر اسمه ليكون قد أحرز ثواب الاغتمام على ما أصاب المؤمن، لكن الشيطان يخدعه ويوقعه في ذكر الاسم»(1).

وقد عرفت أنّ الميزان في تحقّق الغيبة هو إظهار ما ستره الله عليه، ولا دخالة لكراهة

ص: 429


1- المكاسب المحرّمة / ص 42.

المغتاب.

التنبيه الثاني عشر: في حكم غيبة من يكون مردّداً بين أشخاص

لا يدخل في الغيبة ما لو كان الغائب مجهولاً عند المخاطب ومردّداً بين أشخاص غير محصورين، كما إذا قال: «جاءني اليوم رجل بخيل دنيء ذميم». قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ظاهر تعريف الأكثر دخوله وإن خرج عن الحكم بناءً على اعتبار التأثير عند السامع، وظاهر المستفيضة المتقدّمة عدم الدخول - إلى أن قال: - هذا كلّه لو كان الغائب المذكور مشتبهاً على الإطلاق.

أمّا لو كان مردّداً بين أشخاص؛ فإن كان بحيث لا يكره كلّهم ذكر واحد مبهم منهم كان كالمشتبه على الإطلاق، كما لو قال: «جاءني عجميّ أو عربيّ كذا وكذا» إذا لم يكن بحيث يكون الذمّ راجعاً إلى العنوان؛ كأن يكون في المثالين تعريض إلى ذمّ تمام العجم أو العرب.

وإن كان بحيث يكره كلّهم ذكر واحد مبهم منهم، كأن يقول: «أحد ابنَي زيد أو أحد أخويه كذا وكذا»، ففي:

كونه اغتياباً لكلّ منهما؛ لذكرهما بما يكرهانه من التعريض لاحتمال كونه هو المعيوب.

وعدمه؛ لعدم تهتّك ستر المعيوب منهما، كما لو قال: «أحد أهل البلد الفلاني كذا وكذا» وإن كان فرق بينهما من جهة كون ما نحن فيه محرّماً من حيث الإساءة إلى المؤمن بتعريضه للاحتمال دون المثال.

أو كونه اغتياباً للمعيوب الواقعي منهما وإساءةً بالنسبة إلى غيره؛ لأنّه تهتّك بالنسبة إليه؛ لأنّه إظهار في الجملة لعيبه بتقليل مشاركه في احتمال العيب، فيكون الاطّلاع عليه

ص: 430

قريباً، وأمّا الآخر فقد أساء بالنسبة إليه، حيث عرّضه لاحتمال العيب.

وجوهٌ »(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الأظهر هو الثاني من الوجوه؛ لعدم صدق كشف ستر المعيوب، ولا أقلّ من الشكّ ، فلا دليل على الحرمة وإن كان مقتضى الاحتياط هو الاجتناب.

أللهمّ إلاّ أن يقال: بأنّه مع عدم تعيين المغتاب - بالفتح - وإن لم يكن كشفاً لعيبه المستور عليه فلا يصدق على الإظهار المزبور عنوان الغيبة، إلاّ أنّ ملاك حرمتها - وهو إيراد النقص على مؤمن وإسقاطه من أعين الناس بل عنوان أكل لحمه الوارد في موثّقة أبي بصير المتقدّمة - موجود بالإضافة إلى كلّ منهما؛ فإنّه بذلك يكون كلّ منهما معرّضاً للتهمة.

وأمّا كراهة كلّ منهما وعدمه فقد تقدّم أنّه لا دخل لكراهة الطرف (أي المغتاب - بالفتح -) في تحقّق عنوان الغيبة، بل ولا في حرمة الإظهار وعدمها(2). ولكنّه لا يخلو من تأمّل؛ لعدم إحراز الملاك؛ لإمكان دخالة التعيين في حرمة الغيبة.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ من شرط الغيبة أن يكون متعلّقها محصوراً، وإلاّ فلا تعدّ غيبة.

ويمكن دفعه: بما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من أنّه: «إن أراد أنّ ذمّ جمع غير محصور لا يعدّ غيبة وإن قصد انتقاص كلّ منهم - كما لو قال: «أهل هذه القرية أو هذه البلدة كلّهم كذا وكذا» - فلا إشكال في كونها غيبة محرّمة، ولا وجه لإخراجه عن موضوعها أو حكمها.

وإن أراد أنّ ذمّ المردّد بين غير المحصور لا يعدّ غيبة، فلا بأس كما ذكرنا؛ ولذا ذكر بعض - تبعاً لبعض الأساطين - في مستثنيات الغيبة: ما لو علّق الذمّ بطائفة أو أهل بلدة أو

ص: 431


1- المكاسب المحرّمة / ص 43.
2- إرشاد الطالب / ص 195.

أهل قرية مع قيام القرينة على عدم إرادة الجميع، كذمّ العرب أو العجم أو أهل الكوفة أو البصرة وبعض القرى. انتهى.

ولو أراد الأغلب، ففي كونه اغتياباً لكلّ منهم وعدمه ما تقدّم في المحصور»(1).

والمراد بقوله: «ما تقدّم» هو الوجوه المذكورة هناك، وقد عرفت أنّ الأظهر هو الوجه الثاني.

بقي شيء: وهو أنّه إذا قال لمن لا يعرف زوجته أو ابنه: «زوجتي أو ابني كذا وكذا» فهل يكون ذلك غيبة أم لا؟ لا يبعد الأوّل؛ لأنّه إظهار ما ستره الله لمن يكون معلوماً بالإضافة وإن لم يكن معلوماً بالاسم وغيره، فتدبّر.

المقام الثاني: في أدلّة تحريم الغيبة

اشارة

لا إشكال في حرمة الغيبة، واستدلّ لها بطائفة من الآيات والروايات:

أمّا الآيات:

فمنها قوله تعالى: (وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ )(2) . وقوله عزّ وجلّ : (مَيْتًا) حال من اللحم أو الأخ، قال في زبدة البيان في ذيل الآية الكريمة: «تمثيلاً لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات: الاستفهام المقرّر، والإسناد إلى «أحد» فإنّه للتعميم، وتعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول الأخ الميّت، وتعقيب

ص: 432


1- المكاسب المحرّمة / ص 43.
2- سورة الحجرات /الآية 12.

ذلك بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ ) تقريراً وتحقيقاً لذلك»(1).

فالآية الكريمة تدلّ بصدرها على الحرمة، وبذيلها على عِظَم هذا الذنب.

وأوضح ذلك في مصباح الفقاهة بقوله: «إنّه تعالى بعد نهيه عن الغيبة صريحاً أراد بيان كونها من الكبائر الموبقة والجرائم المهلكة، فشبّه المغتاب - بالكسر - بآكل الميتة؛ إمّا لأنّه يأكل الجيف في الآخرة كما في بعض الروايات، أو تشبيهه بالسباع والكلاب، أو لكون حرمة الغيبة كحرمة أكل الميتة بل أعظم كما في رواية العسكري عليه السلام.

وقد شبّه عرض المؤمن باللحم؛ فإنّه ينتقص بالهتك كما ينتقص اللحم بالأكل، وشبّه الاغتياب بالأكل لحصول الالتذاذ بهما، ووصف المؤمن بأنّه أخ فإنّ المؤمنين إخوة؛ ومن طبيعة الإخوة أن يكون بينهم تحابب وتوادد، وشبّه المغتاب - بالفتح - بالميّت لعدم حضوره في أكثر حالات الاغتياب.

وصدّر - سبحانه وتعالى - الجملة بالاستفهام الإنكاري إشعاراً للفاعل بأنّ هذا العمل يقبح أن يصدر من أحد؛ إذ كما لا يحبّ أحد أن يأكل لحم أخيه الميّت لاشمئزاز طبعه عنه وشدّة رأفته به فكذلك لابدّ وأن يشمئزّ عقله عن الغيبة؛ لكونها هتكاً لعرض أخيه»(2).

وأورد المحقّق الإيرواني على التقريب المذكور لبيان حرمة الغيبة في الآية الكريمة: بأنّه ليس في الآية إشعار على إرادة تشبيه الموضوع بالموضوع سيّما بهذا البسط؛ بتشبيه كلّ جزء من أجزاء المشبّه بجزء من أجزاء المشبّه به مع بطلان التشبيه فيما ذكره، وأيّة مناسبة بين العرض واللحم، وأيضاً بين التكلّم والأكل، وكذا بين عدم الحضور والالتفات وبين الموت ليصحّ تشبيه كلّ بصاحبه ؟! فالأولى أن يقال: إنّ التشبيه واقع بين حكميهما؛

ص: 433


1- زبدة البيان / ص 530.
2- مصباح الفقاهة / ص 318-319.

يعني أنّ الغيبة في اشتداد الحرمة وتأكّد المنع كأكل لحم الأخ الميّت، أو أنّ مناط المنع عنها هو مناط المنع عن أكل لحم الأخ الميّت، والاشمئزاز الحاصل هناك حاصل هنا مع الالتفات بالجهات التي هي عليها. ولعلّ الآية تنبّه على جزاء الغيبة وأنّه يؤمر المغتاب يوم القيامة بأكل لحم الأخ الميّت أو تتجسّم غيبته بصورة لحم الأخ الميّت، فمن أحبّ هذا ووطّن نفسه على ذلك فليغتب، وفي بعض الأخبار أنّها «إدام كلاب النار»(1)»(2).

ولقائل أن يقول: لا يتوقّف حسن التشبيه على إحدى المناسبات المذكورة في حسن التشبيه، بل الملاك هو قبول الطبع ولو لم تكن فيه تلك المناسبات كما قرّر في محلّه، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية في حسن التشبيه من جهة الموضوع بالموضوع، كتشبيه العرض باللحم والتكلّم بالأكل؛ لأنّ الأكل يوجب نقص اللحم والغيبة توجب نقص عرض المؤمن، ولأنّ الأكل يوجب الالتذاذ والتكلّم بالغيبة يكون كذلك، وهكذا عدم حضوره بمنزلة الموت من جهة عدم تمكّنه من الدفاع، وهذه التشبيهات مقبولة عند العقلاء كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا دليل على تخصّص التشبيه بالحكم؛ لإمكان أن يكون التشبيه باعتبار الموضوع والحكم كليهما. هذا مضافاً إلى أنّه لا وجه لتخصيص الآية بما يرتبط بالقيامة مع إطلاق الذيل بالنسبة إلى الدنيا والآخرة، كما لا وجه لتخصيصها بالدنيا مستدلاًّ بأنّه قد عبّر في بعض الروايات المعتبرة عن الغيبة بأكل لحوم الناس، كما في صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل

ص: 434


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 283، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 16.
2- التعليقة على المكاسب / ص 32.

لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1)؛ فإنّ إطلاق أكل اللحم على الغيبة في قوله: «وأكل لحمه معصية» بالنسبة إلى الدنيا؛ حيث إنّها دار المعصية ووعاء العصيان. ورواية نوف البكالي - مضافاً إلى ضعف سندها - لا دلالة لها على تعيين غذاء المغتابين - بالكسر - يوم القيامة، ولعلّ كلاب النار غيرهم(2).

وذلك لأنّ التعبير في هذه الرواية عن الغيبة بأكل لحم الناس مع التصريح بأنّه معصية لا يوجب تخصيص الآية بالدنيا؛ إذ لا منافاة بين كون أكل لحمه معصية في الدنيا وبين كونه عقوبة له في الآخرة.

ثمّ إنّه قد يستدلّ بذيل الآية الكريمة على كون الغيبة من الكبائر - كما قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره - بأنّه: يمكن الاستدلال على كون الغيبة كبيرةً بالآية الكريمة بناءً على أنّ ذيلها تنبيه على تجسّم عمل المغتاب في الآخرة بصورة أكل لحم ميتة أخيه، وهو إيعاد بالعذاب - إلى أن قال: - أو كان المراد من ذيلها التنزيل الحكمي بمعنى أنّ الغيبة بمنزلة أكل لحم ميتة الأخ في الحكم بناءً على أنّ أكل الميتة من الكبائر، كما تدلّ عليه حسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون، وفيها عدّ أكل الميتة من الكبائر(3)، ومعلوم أنّ ميتة الآدمي إمّا داخلة في إطلاقها أو أكلها أعظم من غيرها(4).

لا يقال: لا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة على كونها كبيرة بل على أصل تحريمها؛ لاحتمال أن يكون المراد من ذيلها تنظير الغيبة والتفكّه بأعراض الناس بأكل لحم ميتة

ص: 435


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 297، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 3.
2- إرشاد الطالب / ص 186-187.
3- الوسائل / ج 1، كتاب الجهاد، الباب 46، من ابواب جهاد النفس.
4- انظر: المكاسب المحرّمة / ج 1، ص 245-246.

الأخ في تنفّر الطباع السليمة عنه، وانتقاص أعراضهم كأكل لحومهم، فيكون إرشاداً إلى حكم العقل، فلا تدلّ على التحريم فضلا عن كونها كبيرة.

لأنّا نقول - كما قال سيّدنا الإمام -: «ولا يبعد أن يكون الاحتمال الأخير أقرب إلى فهم العرف، وإن كان إنكار دلالتها على أصل التحريم مكابرة، فدلالتها على الحرمة غير قابلة للإنكار؛ لظهورها وسياقها وعدم فهم مجرّد الإرشاد منها.

نعم، لا تدلّ على كونها كبيرة؛ لما قلناه من أقربية الاحتمال الأخير، ولا أقلّ في عدم ظهورها في أحد الأوّلين»(1).

ولا يخفى عليك أنّه لا مجال للتشكيك في حرمة الغيبة وكونها من الكبائر بعد تشبيه الغيبة بأكل لحم الأخ الميّت في ذيل الآية الكريمة وتصريح الإمام في حسنة الفضل بن شاذان بكون لحم الميتة من الكبائر، فتأمّل، أو بعد إدراج الغيبة في قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ ...)(2) في صحيحة محمّد بن عمران: قال أبو عبدالله عليه السلام: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اُذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )»(3) ؛ إذ لا إشكال في كون إشاعة الفحشاء من الكبائر؛ بقرينة ذيل هذه الآية؛ أعني قوله عزّوجلّ : (لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ) . والآية وإن كان موضوعها هو إشاعة الفاحشة، ولكن بعد إدراج الغيبة فيها يعلم أنّ المراد من الإشاعة المذكورة هو مطلق الإظهار وكشف الستر.

هذا مضافاً إلى اعتضاد كون الغيبة من الكبائر بجملة من الأخبار، منها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله

ص: 436


1- المصدر السابق / ص 247.
2- سورة النور / الآية 19.
3- وسائل الشيعة / ج 12، ص 280، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 6.

خطب يوماً فذكر الربا وعظّم شأنه فقال: «إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم من ستّة وثلاثين زنية، وإنّ أربى الربا عرض المسلم»(1)، فتأمّل.

ثمّ إنّ حمل ذيل آية تحريم الغيبة على الإرشاد لا يوجب رفع اليد عن ظهور النهي في قوله تعالى: (وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(2) في الحرمة؛ لأنّ الذيل المذكور ينسجم مع حرمة الغيبة؛ لأنّ مفاده هو التنبيه على عِظَم ذنب الغيبة - وكم له من نظير في المحرّمات - حيث ذكر عقيبها لوازمها ممّا يحكم العقل بها؛ ألا ترى صحّة أن يقال: «لا تكذب؛ إنّ الكذب يذهب وجاهة الإنسان في المجتمع الإنساني ويدخله في الآثام»؟! ومن المعلوم أنّه لا يتنافى مع حرمة الكذب، والله هو العالم.

ومنها: قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ )(3) ، بناءً على أنّ «الهُمَزة»: من يعيبك في الغيب، وهو مرادف للمغتاب بالكسر، و «الويل» يدلّ على التفجيع والإيعاد بالعذاب، وعليه فيمكن استفادة حرمتها بل كونها من الكبائر من الآية الكريمة.

وفيه: أنّ الهُمَزة ليست بظاهرة في ذلك المعنى؛ لاختلاف كلمات اللغويّين في معناها، ومع الاختلاف المذكور لا يمكن الاستظهار.

قال في المصباح المنير: «وهمز همزاً: اغتابه في غيبته فهو همّاز. ولمزه: أي عابه»(4).

وقال في تاج العروس: «الهمّاز - ككتّان - وهو العيّاب. وقيل الهمّاز والهُمَزة: الذي

ص: 437


1- المصدر السابق.
2- سورة الحجرات / الآية 12.
3- سورة الهمزة / الآية 1.
4- المصباح المنير / مادّة «همز» و «لمز».

يخلف الناس من ورائهم ويأكل لحومهم - إلى أن قال: - قال الليث: الهمّاز والهُمَزة: الذي يهمز أخاه في قفاه من خلفه»(1).

وظاهر تاج العروس هو اختيار عكس ما اختاره في المصباح؛ حيث صرّح في البداية بأنّ معناه هو العيّاب.

وقال في أقرب الموارد: «الهُمَزة - بضمّ ففتح -: الغمّاز والعيّاب. وقيل: الهمّاز والهُمَزة: الذي يخلف الناس من ورائهم ويأكل لحومهم». وقال: «اللمّاز واللُّمَزة: العيّاب للناس، أو الذي يعيبك في وجهك، والهُمَزة: من يعيبك في الغيب. وقيل: الهُمَزة: المغتاب، واللُّمَزة: العيّاب، أو هما بمعنى واحد. ولمزه - من باب نصر -: عابه وأشار إليه بعينه ونحوها مع كلام خفيّ »(2).

وعباراته متهافتة؛ فإنّ الظاهر من صدره أنّ الهمزة بمعنى العيّاب، وظاهر ذيله أنّه بمعنى من يعيبك في الغيب.

وكيف كان، فإن ثبت ظهورها فيمن يعيبك في الغيب أمكن الاستدلال بالآية الكريمة للمقام، وأمّا إذا كان معناها هو العيّاب - سواء كان في الغياب أم في الحضور - فهو عنوان آخر كعنوان الإيذاء، فتكون النسبة بين عنوان «الهُمَزة» وعنوان «الغيبة» العموم من وجه.

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «إنّ الهُمَزة واللُّمَزة: بمعنى كثير الطعن على غيره بغير حقّ سواء كان في الغياب أم في الحضور، وسواء كان باللسان أم بغيره، وسيأتي أنّ الغيبة عبارة عن إظهار ما ستره الله. وبين العنوانين عموم من وجه»(3).

ص: 438


1- تاج العروس / مادّة «همز».
2- أقرب الموارد / مادّة «همز» و «لمز».
3- مصباح الفقاهة / ص 319.

وبالجملة، فمع اختلاف أهل اللغة لا مجال للاستدلال بالآية الكريمة لحرمة عنوان الغيبة؛ لاحتمال أن يكون معنى الهمزة أعمّ وتكون النسبة بينها وبين الغيبة عموماً من وجه، ولا يصلح الاستدلال بما دلّ على حرمة أحد العنوانين اللذين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه على حرمة العنوان الآخر؛ إذ مع كون النسبة كذلك يكون مورد افتراق العنوان الآخر خارجاً عن العنوان الذي حكم بحرمته، وعليه فالحكم بحرمة العنوان الآخر بجميع أفراده كماترى. هذا بناءً على أنّ النسبة بين عنوان العيّاب والغيبة هي العموم من وجه.

ولقائل أن يقول: إنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق؛ لأنّ كلّ غيبة عيب بخلاف العكس، وعليه فالآية تدلّ على حرمة الغيبة على التقديرين، إلاّ أنّه على تقدير كون معنى الهمزة هو العيّاب فالغيبة محرّمة بما هي ذكر عيب كما أنّها محرّمة بعنوان أنّها إيذاء.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ اللمزة والهمزة متعاكستان في المعنى، فإن كانت اللمزة بمعنى مطلق ذكر العيب فالهمزة بمعنى ذكر العيب في الغيب، وإن كانت الهمزة بمعنى ذكر العيب فاللمزة بمعنى ذكر العيب في الغيب، وعليه فالآية تدلّ على حرمة ذكر العيب في الغيب، وهو المطلوب.

ولكنّ هذا تامّ لو لم تكن كلتاهما بمعنى ذكر العيب مطلقاً؛ وإلاّ فالآية تدلّ على حرمة عنوان آخر كما لايخفى، ولا أقلّ من الشكّ ، فالاستدلال بالآية للمقام - أي حرمة الغيبة بما هي غيبة - محلّ تأمّل ونظر.

ومنها: قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ

ص: 439

عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ )(1) .

واُورد عليه: بأنّ الغيبة من مقولة الإخبار وإظهار المستور، وهذا العنوان مباين لعنوان حبّ نشر الفاحشة؛ فإنّه من مقولة كيف النفس، ومع التباين بينهما لا يصلح الاستدلال بأحدهما على الآخر. هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من حبّ شيوع الفاحشة - كما أفاد في بلغة الطالب - هو حبّ كثرة وجود الفاحشة دون مجرّد ذكرها(2)، إلاّ إذا كان الإخبار عن العيوب المستورة مصداقاً لحبّ شيوع الفاحشة، ولكنّه أخصّ من المدّعى.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من صحيحة محمّد بن الحسن، عن الصفّار، عن أيّوب بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن محمّد بن حمران، عن الصادق عليه السلام قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اُذناه؛ فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )»(3) هو إدراج مطلق الغيبة والإخبار عن العيوب المستورة في حبّ شيوع الفاحشة تعبّداً.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «فالرواية صحيحة دالّة على أنّ مطلق الغيبة داخل في الآية الكريمة، فتدلّ على أنّ المراد بالآية ليس الحبّ فقط ولا الشياع بمعناه المعروف بل مطلق الإظهار وكشف الستر، ولو كان المراد به الإلحاق الحكمي بلسان الإلحاق الموضوعي - كما سنشير إليه في استماع الغيبة - فلا يضرّ بالاستدلال على المطلوب»(4).

ص: 440


1- سورة النور / الآية 19.
2- بلغة الطالب / ج 1، ص 21.
3- وسائل الشيعة / ج 12، ص 280، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 6.
4- المكاسب المحرّمة / ص 248.

لا يقال: إنّ الغيبة حينئذ تكون محرّمة بعنوان أنّها موجبة لإشاعة الفحشاء، مع أنّ الغيبة قد لا تكون كذلك، وعليه فالاستدلال المذكور أخصّ من المدّعى.

لأنّا نقول: إنّ الاستدلال بالآية على حرمة الغيبة بوجهين:

أحدهما: إدراج الغيبة في الآية بعد التوسعة في معنى الحبّ والإشاعة؛ بأن يراد منهما مطلق الإظهار وكشف الستر، كما تؤيّده الرواية المتقدّمة حيث قال: «من قال في مؤمن... فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ ...)» ؛ لظهوره في جعله من مصاديقه، فلو كان إدراجاً حكميّاً لقال: «فهو كالذين». فإذا اُريد بالتعبّد والحكومة منها هذا المعنى فلا يكون الاستدلال المذكور أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو حرمة مطلق الإظهار وكشف الستر، والمفروض أنّ الآية - بضميمة الرواية الحاكمة - تدلّ على ذلك. هذا بالنسبة إلى الإدراج الموضوعي.

وثانيهما: إمّا بأن يكون المراد من الرواية هو إلحاق كشف الستر وإظهار العيب بحبّ الإشاعة في الحكم من دون تصرّف في الإشاعة، وهو إلحاق حكميّ ، وفي هذه الصورة يجري على كشف الستر وإظهار العيب حكم الإشاعة؛ من الحرمة وكونه موجباً للنار، ولا يكون أخصّ من المدّعى.

وإمّا بأن يكون الإدراج المذكور إلحاقاً حكميّاً بلحاظ الإلحاق الموضوعي؛ وذلك لأنّ الإلحاق المذكور مع كون الإشاعة غير شاملة لذلك بمجرّد الإظهار يكون قرينة على أنّ الإلحاق الحكمي بلحاظ الإلحاق الموضوعي؛ بأن تدرج الغيبة في الإشاعة كي يترتّب عليها حكم الإشاعة، وهذا لا يمكن إلاّ بحمل الإشاعة على مجرّد الإظهار وكشف الستر حتّى تكون الغيبة من أفرادها.

فالمحصّل: أنّ الغيبة على كلّ تقدير تكون - بحكم هذه الآية - محرّمة ومن الكبائر

ص: 441

التي يستحقّ مرتكبها العذاب الدنيوي والاُخروي، والله هو العالم.

وأمّا الروايات فهي كثيرة:

منها: موثّقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله. وحرمة ماله كحرمة دمه»(1). ومن الواضح أنّ المراد من قوله: «وأكل لحمه...» إلخ هو غيبة المؤمن. وعليه فهذه الرواية صريحة في كون الغيبة من معاصي الله تعالى.

ومنها: صحيحة ابن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال: «نعم»، قلت: يعني سفلته ؟ قال: «ليس حيث تذهب؛ إنّما هو إذاعة سرّه»(2).

ويمكن أن يقال: إنّ عنوان إذاعة السرّ عنوان أعمّ من ذكر العيب المستور. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ إذاعة سرّه تختصّ بذكر العيب ولا تشمل غيره؛ بقرينة التعبير عن السرّ بالعورة.

ومنها: موثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم؛ كان ممّن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوّته»(3). فإنّ الظاهر منها مفروغية حرمة الغيبة، وإنّما كان عليه السلام بصدد بيان شرائط المغتاب، بالفتح.

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى؛ إذ ظاهر الرواية اختصاص الحرمة بمن اجتمعت فيه هذه الأوصاف؛ وهو العادل المذكور.

ص: 442


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 281، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 12.
2- المصدر السابق / ص 294، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، ح 1.
3- المصدر السابق / ص 278، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ قوله عليه السلام: «كان ممّن حرمت غيبته...» إلخ يدلّ على أنّ الذي تجتمع فيه هذه الخصال يكون ممّن حرمت غيبته، وهذا التعبير لا يدلّ على اختصاص الغيبة بالعادل، ولعلّ غير العادل كذلك كما هو المفتى به فيما إذا لم يتجاهر بالمعصية، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من صحيحة محمّد بن حمران الدالّة على ذلك، وغيرها من الأخبار الكثيرة الدالّة على النهي عن الغيبة أو الدالّة على أنّ المغتاب - بالكسر - معذّب في النار، أو الدالّة على أنّ الغيبة أشدّ من الزنا وإن كانت ضعيفة بحسب السند أو الدلالة.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: بعد ذكر الأخبار المتعدّدة: «ثمّ ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر كما ذكره جماعة، بل أشدّ من بعضها، وعدّ في غير واحد من الأخبار من الكبائر الخيانة، ويمكن إرجاع الغيبة إليها، فأيّ خيانة أعظم من التفكّه بلحم الأخ على غفلة منه وعدم شعور؟!»(1).

واُورد عليه: بأنّ كون الغيبة أشدّ من بعض الكبائر في الوزر وإن كان مقتضاه أنّها أيضاً من الكبائر، إلاّ أنّ كونها أشدّ من الكبيرة في التخلّص عن وزرها لا يقتضي ذلك، كما إذا كانت الغيبة من حقوق الناس وحرمة شرب الخمر من حقوق الله، فالتخلّص عن وزر شرب الخمر يكون بمجرّد التوبة، بخلاف وزر الغيبة، فمثل هذه الأشدّية لا تقتضي أن تكون الغيبة من الكبائر، والمرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله بعدّة طرق من أنّ «الغيبة أشدّ من الزنا»(2) ناظر إلى مرحلة التخلّص عن الوزر، كما هو مفاد ذيله وهو قوله: «إنّ الرجل يزني فيتوب ويتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه». نعم،

ص: 443


1- المكاسب المحرّمة / ص 40.
2- انظر: وسائل الشيعة / ج 12، ص 284، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 18.

روي أنّ الغيبة أشدّ من ستّة وثلاثين زنية، وذكر العدد ظاهره النظر إلى العقاب؛ وإلاّ لكان الأنسب أن يقول: الغيبة أشدّ من الزنا، ولكنّ النبوي مرسل لا يمكن الاعتماد عليه، بل لو كان حديثاً صحيحاً لكان اللازم تأويله لو لم يمكن طرحه؛ للجزم بأنّ الغيبة لا تكون أشدّ حرمةً ووزراً من زنية واحدة فضلا عن ستّة وثلاثين؛ ولذا لو اُكره على الزنا أو الغيبة تعيّن اختيار الثاني، وذكرنا نظير ذلك فيما ورد من أنّ «درهم ربا أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم»(1)... هذا مضافاً إلى أنّ اندراج الغيبة في الخيانة ممنوع، كيف ؟! ولو لم يكن في البين دليل على حرمتها بعنوان الغيبة فباعتبار دخولها في الخبر الصدق كانت جائزة، بل على تقدير كونها خيانة لما أمكن الحكم بكونها من الكبائر؛ حيث لا دليل على كون الخيانة بمعناها العامّ من الكبائر(2).

هل تختصّ حرمة الغيبة بالمؤمن ؟

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ثمّ إنّ ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن، فيجوز اغتياب المخالف كما يجوز لعنه، وتوهّم عموم الآية كبعض الروايات لمطلق المسلم مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم وعدم جريان أحكام الإسلام عليهم إلاّ قليلاً ممّا يتوقّف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه، مثل: عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة، وحلّ ذبائحهم ومناكحتهم، وحرمة دمائهم - لحكمة دفع الفتنة - ونسائهم؛ لأنّ لكلّ قوم نكاحاً، ونحو ذلك، مع أنّ التمثيل المذكور في الآية مختصّ بمن ثبت اُخوّته فلا يعمّ من وجب التبرّي عنه. وكيف كان، فلا إشكال في المسألة بعد ملاحظة الروايات

ص: 444


1- المصدر السابق / ج 18، ص 117، الباب 1 من أبواب الربا، ح 1.
2- إرشاد الطالب / ص 187-188.

الواردة في الغيبة وفي حكمة حرمتها وفي حال غير المؤمن في نظر الشارع»(1).

ولكنّ المحكي عن المقدّس الأردبيلي وظاهر السبزواري في الكفاية: أنّ الظاهر عموم أدلّة تحريم الغيبة - من الكتاب والسنّة - للمؤمنين وغيرهم؛ لأنّ قوله تعالى: (وَ لاٰ يَغْتَبْ ...) الآية، للمكلّفين أو المسلمين؛ لجواز غيبة الكافر، وألسنة أكثرها بلفظ «الناس» و «المسلم»، وهما معاً شاملان للجميع، ولا استبعاد في ذلك؛ إذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه. ثمّ قال: «في ظنّي أنّ الشهيد في قواعده جوّز غيبة المخالف من جهة مذهبه ودينه لا غير»(2). انتهى.

ويمكن أن يقال: إنّ الناصبين والمقصّرين من العامّة لا تشملهم أدلّة حرمة الغيبة؛ لأنّ الناصبين في حكم الكفّار والمقصّرين لا يشملهم عنوان المؤمنين؛ لأنّ الإيمان وإن كان قبل نصب رسول الله صلى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام للولاية عبارةً عن التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، ولكن بعد نصبه عليه السلام صارت الولاية والإمامة من أركان الإيمان، فمن أنكره عن تقصير فهو خارج عن عنوان المؤمنين؛ فلا تشمله أحكام عنوان المؤمنين.

نعم، لو كان قاصراً في عدم الاعتقاد بالولاية كان ذلك موجباً لرفع العذاب عنه، ولكن لا يدرجه في عنوان المؤمنين بعد عدم الاعتقاد بما يلزم الاعتقاد به كما أنّ القاصرين من الكفّار لا يدخلون في عنوان المؤمنين وإن لم يكونوا معذّبين، وعليه فمقتضى القاعدة هو جواز غيبتهم؛ لاختصاص الحرمة بعنوان المؤمنين.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الأمر بحسب الواقع وإن كان كما ذكر، ولكن مقتضى معتبرة حمران بن أعين - عن أبي جعفر عليه السلام، سمعته يقول: «الإيمان: ما استقرّ في القلب وأفضى

ص: 445


1- المكاسب المحرّمة / ص 40-41.
2- كفاية الاحكام / ص 86.

به إلى الله عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام: ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فخرجوا بذلك من الكفر واُضيفوا إلى الإيمان. والإسلام لا يشرك الإيمان، والإيمان يشرك الإسلام - إلى أن قال: - قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك ؟ فقال: «لا، هما يجريان في ذلك مجرىً واحداً، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزوجلّ »(1) - هو أنّ المؤمن والمسلم مشتركان في الأحكام تعبّداً من دون فرق بين المذاهب عدا ما خرج بالأدلّة والنصوص، وعليه فدعوى عدم جريان أحكام الإسلام عليهم إلاّ قليلاً محلّ تأمّل ونظر؛ إذ المستفاد من الرواية هو اشتراكهما بحسب الظاهر في الأحكام ما لم يدلّ دليل على الخلاف، وعليه فتجويز غيبته محلّ تأمّل وإشكال.

وقد حكى شيخنا الاُستاذ الأراكي عن اُستاذه المحقّق اليزدي الحائري: أنّ المتحصّل من الأدلّة عدم الفرق بين المؤمن وغيره، ويكون الشارع قد تعامل معهم في ظاهر الدنيا معاملة المؤمن في المواريث والأنكحة والذبائح وطهارة البدن وحرمة الدم والمال والعرض وغير ذلك. ثمّ قال شيخنا الاُستاذ الأراكي: «أللهمّ إلاّ أن يقال: بثبوت السيرة على جواز اغتيابهم»(2).

نعم، من قصّر في التحقيق وتعمّد ترك الشهادة بمجموع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله ولو بترك الفحص عن الحقّ لا يصدق عليه الإسلام؛ لعدم شهادته بمجموع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله.

ص: 446


1- الكافي / ج 2، ص 26، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، ح 5.
2- المكاسب المحرّمة / ص 244.

هذا مضافاً إلى كونه من أظهر أفراد الفسّاق والمتجاهرين بفسقهم؛ إذ التجاهر بترك الولاية أشدّ من التجاهر بترك سائر الواجبات؛ لأنّ الولاية أهمّ ما يبنى عليه الإسلام بحسب الروايات الكثيرة الدالّة عليه، فتأمّل.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «والإنصاف أنّ الناظر في الروايات لا ينبغي أن يرتاب في قصورها عن إثبات حرمة غيبتهم، بل لا ينبغي أن يرتاب في أنّ الظاهر من مجموعها اختصاصها بغيبة المؤمن الموالي لأئمّة الحقّ عليهم السلام. مضافاً إلى أنّه لو سلّم إطلاق بعضها وغضّ النظر عن تحكيم الروايات التي في مقام التحديد عليها فلا شبهة في عدم احترامهم، بل هو من ضروريّ المذهب كما قال المحقّقون. بل الناظر في الأخبار الكثيرة في الأبواب المتفرّقة لا يرتاب في جواز هتكهم والوقيعة فيهم، بل الأئمّة المعصومون عليهم السلام أكثروا في الطعن واللعن عليهم وذكر مسائيهم (مساوئهم)»(1).

ولا يخفى عليك أنّ ما دلّ على الإكثار في الطعن واللعن وذكر مساوئهم على فرض صحّته سنداً ودلالةً محمول على الناصبين والمقصّرين بمناسبة الحكم والموضوع، فلا يشمل القاصرين.

ودعوى: أنّ معتبرة حمران بن أعين محمولة على التقيّة.

مندفعة: بأنّ ذيل الرواية الوارد فيه: «ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزّ وجلّ » لا يساعد حملها على التقيّة، والمسألة محتاجة إلى تأمّل زائد.

غيبة الصبيان والمجانين:

الظاهر - كما أفاد الشيخ الأعظم - دخول الصبيّ المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها؛

ص: 447


1- المكاسب المحرّمة / ص 251.

لعموم بعض النصوص الدالّة على حرمة اغتياب الناس وأكل لحومهم، مع صدق عنوان الأخ عليه، كما يشهد به قوله تعالى في الأيتام: (وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ )(1) ، وإمكان دعوى صدق المؤمن عليه مطلقاً أو في الجملة.

وقد صرّح في كشف الريبة بعدم الفرق بين الصغير والكبير، وظاهره الشمول لغير المميّز أيضاً.

ومنه يظهر حكم المجنون، إلاّ أنّه صرّح بعض الأساطين باستثناء من لا عقل له ولا تمييز معلّلاً بالشكّ في دخوله تحت أدلّة الحرمة، ولعلّه من جهة أنّ الإطلاقات منصرفة إلى من يتأثر لو سمع، وسيتّضح ذلك زيادةً على ذلك(2).

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «لم يشترط في حرمة الغيبة كون المغتاب - بالفتح - مكلّفاً، بل المستفاد من الروايات المتقدّمة وغيرها أنّ المناط في حرمة الغيبة صدق المؤمن على المغتاب - بالفتح - كما أنّ الظاهر من معنى الغيبة هي كشف أمر قد ستره الله، وسيأتي، ومن الضروري أنّ الصبيّ المميّز ممّن يصدق عليه عنوان المؤمن إذا أقرّ بما يعتبر في الإيمان، بل قد يكون أكمل إيماناً من أكثر البالغين.

وأيضاً: لا شبهة أنّ الله قد ستر عيوب الناس حتّى الصبيان المميّزين، فذكرهم بالمساوى الموجودة فيهم كشفٌ لما ستره الله عليهم.

نعم، لا بأس بذكر الاُمور التي هي من مقتضيات الصباوة بحيث لا تعدّ من العيوب والمساوئ، كاللعب بالجوز والكعاب والكرة ونحوها.

أمّا الصبيان أو المجانين غير المميّزين فلا شبهة في جواز اغتيابهم، لأنّ الاُمور

ص: 448


1- سورة البقرة / الآية 220.
2- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 41.

الصادرة منهم لا تعدّ عيباً حتّى يكون ذكرها كشفاً لما ستره الله عليهم»(1).

ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا دليل على لزوم التأثّر، بناءً على ما مرّ في البحث عن تعريف حقيقة الغيبة من أنّ الكراهة لا دليل على اعتبارها، وعليه فلو لم يتأثّر المميّز بالغيبة كانت الغيبة محرّمة أيضاً؛ قضاءً لإطلاق الأدلّة الدالّة على حرمة الغيبة.

ثمّ إنّه هل يجوز غيبة المجانين إذا كانوا عاقلين قبل صيرورتهم مجانين أو لا يجوز؟

يمكن القول بالأوّل؛ لأنّهم حال الغيبة مجانين، فالأدلّة منصرفة عنهم. أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ غيبتهم قبل صيرورتهم مجانين كانت محرّمة، فنستصحب الحرمة بعد صيرورتهم مجانين لو لم نقل بعدم بقاء الموضوع، فتدبّر.

المقام الثالث: في كفّارة الغيبة

لا يخفى أنّ الذي قيل أو يمكن أن يقال في بيان كفّارة الغيبة وجوه:

منها: لزوم الاستحلال من المغتاب؛ وذلك لأنّ الغيبة ظلم في حقّ المغتاب لكونها توجب النقص له، وهو من حقوق الناس، وهذه هي الصغرى. ولا ترتفع حقوق الناس إلاّ بالاستحلال من ذويها، وهذه هي الكبرى، وهي التي عليها بناء العقلاء، ولا ردع بالنسبة إليها.

هذا مضافاً إلى شهادة بعض الأخبار على لزوم الاستبراء:

كمعتبرة سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله. فأمّا الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأمّا الظلم الذي يغفره

ص: 449


1- مصباح الفقاهة / ص 324-325.

فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأمّا الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد»(1). فإنّها تدلّ على أنّه لا مخلص مادامت الذمّة مشتغلة بالدين للغير، بناءً على شمول الدين لمثل الغيبة.

وموثّقة السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ظلم أحداً وفاته فليستغفر الله له؛ فإنّه كفّارة له». وروى محمّد بن عليّ بن الحسين في عقاب الأعمال، عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم مثله(2). حيث إنّ المفهوم منها عدم كفاية الاستغفار له عند التمكّن من استحلال عن المغتاب، وهو ظاهر في لزوم الاستحلال.

واُورد على الاستدلال بها:

اوّلاً: بأنّ الرواية ضعيفة بالنوفلي.

وثانياً: بأنّه لا دلالة فيها على أنّ الاستغفار للمظلوم.

وثالثاً: بأنّ كون الغيبة ظلماً على المغتاب - بالفتح - أوّل الكلام؛ ولذا لو لم يكن في البين أدلّة تحريم الغيبة وأكل لحم المؤمن لما كانت أدلّة تحريم الظلم كافية لإثباتها، مع أنّه ليس الظلم مطلقاً من حقوق الناس، كما في الزنا، فإنّه لا يجب على الزاني - مثلاً - في توبته الاستحلال من أب البنت أو زوج المرأة ممّن يكون عرضه مع ظهور الزنا مورد المناقشة بين الناس(3).

ويمكن أن يقال: إنّ النوفلي معتمد؛ لأنّ كتاب السكوني المعمول به عند الأصحاب لم ينقل أكثره إلاّ بواسطة النوفلي، وهو شاهد على أنّ النوفلي معتمد، ولا يضرّ بذلك نقل

ص: 450


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 52، الباب 78 من أبواب جهاد النفس، ح 1.
2- المصدر السابق / ص 53، ح 5.
3- إرشاد الطالب / ص 196-197.

غير النوفلي عن السكوني في بعض الموارد القليلة كما لا يخفى.

هذا مضافاً إلى كفاية قوله: «له» في موثّقة السكوني في كون الاستغفار للمظلوم.

ومضافاً إلى أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الغيبة ظلماً عرفاً، كما لا وجه للمناقشة في كون الظلم من حقوق الناس. والنقص بالزنا ليس في محلّه؛ لأنّ الزنا لا يوجب نقصاً في عرض الأب أو الزوج ما لم يظهر. نعم، لو كان ذلك موجباً لذلك أمكن القول بصدق الظلم، ويترتّب عليه حكمه من لزوم الاستحلال منه أيضاً.

ودعوى: اكتفاء الشارع بالحدّ فلا يجب الاستحلال.

مندفعة: بمنع الاكتفاء، كما لم يكتف في السرقة بإجراء الحدّ عليه ويلزم عليه أداء المال المسروق إلى صاحبه، فتأمّل.

لا يقال: نحن وإن سلّمنا ثبوت حقّ للمغتاب - بالفتح - على المغتاب - بالكسر - إلاّ أنّ كونه بحيث يقتضي الاستبراء والتخلّص عنه بالاعتذار والترضية لم نعلم به إلاّ من بعض ما لا يصحّ سنده، فأصالة البراءة عن الاستبراء لا قاطع لها، واستصحاب بقاء الحقّ بعد الاستغفار وعدم حصول البراءة منه وإن كان جارياً إلاّ أنّه لا يقطع أصالة البراءة عن الاستبراء؛ إذ ليس وجوب الاستبراء والاعتذار من آثار هذا الحقّ حتّى يقدّم الاستصحاب وتنقطع البراءة(1).

لأنّا نقول: إنّ الظلم العرضي كالظلم المالي، وعليه فكما أنّ اللازم في الظلم المالي هو الاسترضاء فكذلك في المقام، ومع وضوح بناء العقلاء على الكبرى المذكورة من أنّه لا ترتفع حقوق الناس إلاّ بالاستحلال لا مجال لأصالة البراءة؛ لأنّه مع استصحاب بقاء الحقّ بعد الاستغفار يترتّب عليه ما عليه العقلاء من لزوم الاستبراء. هذا مضافاً إلى دلالة

ص: 451


1- بلغة الطالب / ج 1، ص 126.

بعض الأخبار عليه.

قال الشيخ الأعظم قدس سره في ابتداء هذه المسألة: «ومقتضى كونها من حقوق الناس توقّف رفعها إلى إسقاط صاحبها:

أمّا كونها من حقوق الناس: فلأنّه ظلم على المغتاب، وللأخبار في أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه، وأنّ حرمة عرض المسلم كحرمة دمه وماله.

وأمّا توقّف رفعها على إبراء ذي الحقّ : فللمستفيضة المعتضدة بالأصل...»(1).

نعم، لا حاجة في إثبات الكبرى - وهي توقّف رفعها على الاستبراء من ذوي الحقوق - إلى الاستدلال بالأخبار؛ لأنّ التوقّف المذكور ممّا عليه بناء العقلاء، والوجه فيه هو اشتغال الذمّة بحقوق الناس.

لا يقال: هذا فيما إذا لم يرد نصّ لكفاية الاستغفار؛ وإلاّ فالكبرى المذكورة أو الأخبار الدالّة على مفاد الكبرى تتقيّد به.

وفي الكافي: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبدالله، عن أبيه، عن هارون ابن الجهم، عن حفص بن عمير (عمر) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل النبيّ صلى الله عليه وآله: ما كفّارة الاغتياب ؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلّما ذكرته»(2). والمراد بأحمد بن أبي عبدالله هو أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وهو وأبوه كلاهما ثقة.

لأنّا نقول: اوّلاً: إنّ الرواية ضعيفة بحفص بن عمر.

وثانياً - كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره -: إنّ كون الاستغفار كفّارة لا يدلّ على البراءة؛ فلعلّه كفّارة للذنب من حيث كونه حقّاً لله تعالى، نظير كفّارة قتل الخطاء التي لا توجب

ص: 452


1- المكاسب المحرّمة / ص 43.
2- وسائل الشيعة / ج 12، ص 290، الباب 155 من أبواب احكام العشرة، ح 1.

براءة القاتل، إلاّ أن يدّعى ظهور السياق في البراءة(1). ولعلّ مراده من ظهور السياق أنّ الاستغفار لو كان لحقّ الله تعالى فلا حاجة إلى تكراره؛ لحصول الغفران له بدفعة واحدة، وعليه فلزوم تكرار الاستغفار يكون طريقاً إلى حصول البراءة بالنسبة إلى حقوق المغتاب، والعمدة هو ضعف الرواية، فلا دليل على كفاية الاستغفار عن الاستحلال.

ومنها: كفاية الاستغفار للمغتاب عند عدم التمكّن من الاستحلال منه؛ جمعاً بين ما يدلّ على لزوم الاستحلال وما يدلّ على أنّ كفّارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته. هذا مضافاً إلى أنّ في الاستحلال إثارة للفتنة وجلباً للضغائن.

وفيه - كما أفاد الشيخ قدس سره - أنّ ما يدلّ على حصول البراءة بالاستغفار لمن اغتبته كلّما ذكرته ضعيفٌ ، ومعه يتعيّن طرحه والرجوع إلى الأصل وإطلاق الأخبار المتقدّمة، وتعذّر الاستبراء ووجود المفسدة لا يوجب وجود مبرئ آخر.

ولا يخفى عليك أنّ المراد من الأصل هو استصحاب بقاء الحقّ ، والمراد من إطلاق الأخبار المتقدّمة هو إطلاق أنّ الغيبة لا تغفر حتّى يغفر صاحبها، وقوله صلى الله عليه وآله: «للمؤمن على أخيه ثلاثون حقّاً؛ لا براءة له منها إلاّ بأدائها أو العفو»(2)، وقوله صلى الله عليه وآله: «إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة ويقضى له وعليه»(3)، وغير ذلك من الأخبار.

ثمّ عدل الشيخ عمّا ذكر بقوله: «والإنصاف أنّ الأخبار الواردة في هذا الباب كلّها غير نقيّة السند، وأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الاستحلال ولا الاستغفار، وأصالة بقاء

ص: 453


1- المكاسب المحرّمة / ص 43.
2- كشف الريبة فى احكام الغيبة، ص 115.
3- وسائل الشيعة / ج 12، ص 213، ح 16115.

الحقّ الثابت للمغتاب - بالفتح - على المغتاب - بالكسر - تقتضي عدم الخروج منه إلاّ بالاستحلال خاصّة، لكنّ المثبت لكون الغيبة حقّاً بمعنى وجوب البراءة منه ليس إلاّ الأخبار الغير النقيّة السند، مع أنّ السند لو كان نقيّاً كانت الدلالة ضعيفة، لذكر حقوق اُخر في الروايات لا قائل بوجوب البراءة منها - إلى أن قال: - فالقول بعدم كونه حقّاً للناس بمعنى وجوب البراءة - نظير الحقوق المالية - لا يخلو عن قوّة وإن كان الاحتياط في خلافه، بل لا يخلو عن قرب؛ من جهة كثرة الأخبار الدالّة على وجوب الاستبراء منها، بل اعتبار سند بعضها. والأحوط الاستحلال إن تيسّر وإلاّ فالاستغفار»(1).

ولا يخفى عليك أنّه مع بناء العقلاء على لزوم الاستحلال لا حاجة إلى استصحاب بقاء الحقّ ولا إلى الأخبار، ولا مورد للبراءة مع بناء العقلاء على لزوم الاستحلال، وعليه فالأقوى هو لزوم الاستحلال، ولا يسقط وجوب الاستحلال إلاّ إذا ترتّب عليه الفساد، فيسقط الوجوب للتزاحم كما لا يخفى.

ثمّ لو سلّمنا تمامية دلالة الأخبار، أمكن أن يقال: إنّها - على فرض صحّتها - متعارضة بين الاستحلال والاستغفار، فيرجع إلى الأصل وهو البراءة.

أللهمّ إلاّ أن يقال: تصلح موثّقة السكوني - عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ظلم أحداً ففاته فليستغفر الله له؛ فإنّه كفّارة له»(2) - لأن تكون شاهدة جمع بين الطائفتين المتعارضتين، وعليه يكفي الاستغفار للمغتاب - بالفتح - عند عدم التمكّن من الاستحلال منه.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «وبالجملة، إنّ تلك الرواية مع اعتبارها سنداً حاكمة

ص: 454


1- المكاسب المحرّمة / ص 43-44.
2- وسائل الشيعة / ج 16، ص 53، الباب 78 من أبواب جهاد النفس، ح 5.

على الطائفتين من الروايات، ومفسّرة لها، وقرينة على المراد منها»(1).

ثمّ استشكل قدس سره في الموثّقة بقوله: «لكنْ في دلالتها على المطلوب إشكال؛ لأنّ قوله: «ففاته» قرينة على أنّ الظلم الذي يجب الاستغفار لصاحبه هو ما يمكن جبرانه عند وجود المظلوم وليس مطلق الظلم ممّا يكون له جبران، وكون الغيبة كذلك أوّل الكلام، بل لا تدلّ على وجوب الجبران عند عدم فوت صاحب المظلمة؛ لعدم تعرّضه له. إلاّ أن يقال: إنّ الظاهر وجوب الاستغفار له، فيدلّ على وجوب أداء الحقّ .

ويمكن أن يقال: إنّ الأمر دائر: بين الأخذ بإطلاق قوله: «من ظلم أحداً» وحمل الاستغفار له على الاستحباب؛ لعدم قائل - ظاهراً - بوجوب الجبران في مطلق الظلم، أو حمل الظلم على ما يكون له جبران وإبقاء الأمر على ظاهره. وكيف كان، لا دليل معتمد على وجوب الاستحلال أو الاستغفار للمغتاب؛ فإنّ ما له دلالة قاصرة سنداً - وغالبها قاصرة سنداً - ودلالةً ، وبعض ما هو معتمد كرواية السكوني قد عرفت حالها، مع احتمال أن يكون الاستغفار المذكور هو الاستغفار لنفسه عن ذنبه، وإن كان المظنون أن يكون الاستغفار لصاحبه كما أشرنا إليه، لكنّه ظنّ خارجيّ لا حجّية فيه، تأمّل.

نعم، لو كانت روايات الاستغفار له تامّة السند، لكان احتمال قرينيّتها على المراد فيها قريباً.

وهنا احتمال آخر في متن الرواية: وهو احتمال كون «ففاته» تصحيف «فعابه» كما في رواية الجعفريّات المتقدّمة؛ لتشابههما كتباً، واحتمال العكس أبعد، وعليه تخرج الرواية عن شهادة الجمع، ولا يرد عليها الإشكال المتقدّم في الحقوق المالية، بل لعلّه صار قرينة على غلط النسخة.

ص: 455


1- المكاسب المحرّمة / ص 319-320.

لكنّ الإنصاف أنّ هذه الاحتمالات لا يعتنى بها»(1).

ولا يخفى عليك أنّ المعتمد هو بناء العقلاء في لزوم الاستحلال بعد صدق الظلم، ولا وجه للمناقشة في صدق الظلم بالغيبة؛ لكونها موجبة للنقص في العرض، وعليه فاللازم الاستحلال، ولا حاجة فيه إلى الأخبار.

ثمّ إنّ موثّقة السكوني تدلّ مطلقاً - سواء كانت النسخة «ففاته» أو «فعابه» - على أنّ الاستغفار للمغتاب - بالفتح - كفّارة له، وإنّما الفرق: في أنّه على تقدير «ففاته» تختصّ كفاية الاستغفار للكفّارة بصورة فقدان المغتاب، وعلى تقدير «فعابه» تكون أعمّ من هذه الصورة، ولكن مع اختلاف النسختين يلزم الأخذ بالقدر المتيقّن منهما؛ وهو صورة فقدان المغتاب أو عدم التمكّن من الوصول إليه.

ثمّ إنّ قوله: «له» يدلّ على أنّ الاستغفار للمغتاب - بالفتح - ومن المعلوم أنّ هذا المدلول ليس ظنّاً خارجيّاً.

هذا مضافاً إلى أنّ ذيل الرواية يصلح للشهادة على أنّ المراد من الظلم هو ما يكون له جبران.

والحاصل: أنّ الكبرى - وهي أنّ حقوق الناس لا ترتفع إلاّ بالاستحلال - ممّا عليه بناء العقلاء، ولا يرفع اليد عنها إلاّ بالقدر المتيقّن من موثّقة السكوني؛ وهو صورة فقدان المغتاب، أو عدم إمكان الوصول إليه، أو احتمال وقوع الفتنة ونحوها، ففي هذه الموارد يجوز الاكتفاء بالاستغفار للمغتاب - بالفتح - أخذاً بالموثّقة؛ إذ لو لزم شيء آخر - كالتصدّق عن المغتابين - لأشار إليه، فالوجه الثاني لا يخلو من قوّة.

ومنها: التفصيل بين وصول الغيبة للمقول فيه وبين عدم وصولها إليه؛ فيجب

ص: 456


1- المصدر السابق، ص 321-322.

الاستحلال منه في الصورة الاُولى، ويجب الاستغفار له في الصورة الثانية.

ويدلّ عليه: ما عن مصباح الشريعة من قوله عليه السلام: «إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه، فإن لم تبلغه ولم تلحقه فاستغفر الله له»(1).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بأنّه ضعيف السند. مضافاً إلى أنّ الغيبة: إن كانت من حقوق الناس وجب الاستحلال من المقول فيه سواء علم بذلك أم لا، وإلاّ بقي المغتاب - بالكسر - مشغول الذمّة إلى الأبد، ويكون شأن الغيبة في ذلك شأن الحقوق المالية، وإن لم يكن من حقوق الناس فلا وجه لوجوب الاستحلال من المقول فيه وإن بلغته. وعلى كلّ حال فلا وجه للتفصيل المذكور، ولابدّ إمّا من حمل الرواية على الجهات الأخلاقية، أو ردّ علمها إلى قائلها(2).

ويمكن تقييد وجوب الاستحلال بما إذا لم تترتّب على الاستحلال مفسدة أكثر من مصلحة الاستحلال، وإلاّ فيسقط وجوب الاستحلال من باب التزاحم. ولا فرق في ذلك بين صورة العلم والجهل، ففي كلّ مورد يكون في الاستحلال مفسدة يسقط وجوب الاستحلال سواء علم المقول فيه بالغيبة أم لم يعلم، ولكن يبقى المغتاب - بالكسر - مشغول الذمّة إلى الأبد كما في تزاحم أداء الحقوق المالية مع المفسدة، فتدبّر.

أللهمّ إلاّ أن يؤخذ بإطلاق موثّقة السكوني «فليستغفر له؛ فإنّه كفّارة له»، فمع التزاحم أو عدم إمكان الاستحلال يكتفى بالاستغفار له ولا شيء عليه.

ومنها: جواز الاكتفاء بالتوبة في محو تبعات الغيبة كما يكتفى بها في محو تبعات سائر المعاصي. قال في مصباح الفقاهة: «وهو المتعيّن؛ لقيام الضرورة ودلالة الآيات

ص: 457


1- بحارالانوار / ج 75، ص 257، ح 48.
2- مصباح الفقاهة / ص 335.

المتظافرة والروايات المتواترة من الفريقين على أنّ التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له»(1).

وفيه: ما لا يخفى؛ فإنّ النظر في أدلّة التوبة إلى محو تبعات المخالفة لحقّ الله، ولا ينافيها ما عليه بناء العقلاء من لزوم الاستحلال في حقوق الناس، ألا ترى أنّ التوبة لا تكفي في رفع الاشتغال بالحقوق المالية ؟!

ومنها: القول بالتخيير بين الاستحلال وبين الاستغفار للمغتاب، واستدلّ له: بأنّ مقتضى إطلاق الروايات الدالّة على وجوب الاستحلال هو كون وجوبه وجوباً تعيينيّاً، ومقتضى رواية السكوني هو لزوم الاستغفار للمغتاب تعيّناً، فمع تعارضهما قيل يرفع اليد عن كلا الإطلاقين بحمل الوجوب فيهما على التخييري، كما هو مقتضى الجمع العرفي بين الأمر بفعل في خطاب والأمر بفعل آخر في خطاب آخر.

وأورد عليه في إرشاد الطالب ب -: «أنّ هذا النحو من الجمع في المقام غير ممكن؛ لما ورد من كون الغيبة أشدّ من الزنا في التخلّص عن وزرها، ومع التخيير بين الاستحلال والاستغفار لا يكون في البين ما يوجب كون التخلّص من وزرها أشدّ.

مع أنّ الجمع بحمل الفعل في كلّ من الخطابين على التخييري يختصّ بما إذا علم بعدم وجوب كلا الفعلين معاً، كما في مسألة دلالة إحدى الروايتين على وجوب صلاة الجمعة والاُخرى على وجوب صلاة الظهر؛ حيث يعلم بعدم وجوب كلتا الصلاتين معاً، وأمّا فيما احتمل وجوب كلّ منهما تعييناً فيؤخذ بإطلاق الوجوب في كلّ منهما.

لا يقال: ظاهر كلّ من الروايتين عدم وجوب الفعل الآخر؛ فإنّ مقتضى رواية حفص بن عمر كون الاستغفار للمغتاب - بالفتح - كافياً في تكفير ذنب الاغتياب؛ فلا

ص: 458


1- المصدر السابق.

حاجة معه إلى الاستحلال، كما أنّ ظاهر النبوي(1) كون الاستحلال كافياً ولا حاجة معه إلى الاستغفار له.

فإنّه يقال: نعم، هذا الظهور إطلاقيّ ومن باب السكوت في مقام بيان كفّارة الاغتياب، فينتفي هذا الإطلاق عن كلّ من الطائفتين بقرينة الاُخرى؛ فإنّ مدلول رواية حفص عدم الحاجة إلى غير الاستغفار من سائر الأفعال ومنها الاستحلال، فيرفع اليد عن الإطلاق بالإضافة إلى الاستحلال، وكذا الحال في ناحية النبوي؛ حيث إنّ مدلوله أيضاً عدم الحاجة إلى غير الاستحلال من سائر الأفعال ومنها الاستغفار للمغتاب، فيرفع اليد بالإضافة إلى الاستغفار.

والحاصل: أنّ مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين هو الالتزام بوجوب كلا الأمرين، وهذا يناسب أيضاً كون الغيبة أشدّ من الزنا كما لا يخفى.

نعم، يبقى في البين أنّ هذا الجمع فرع اعتبار كلّ من الطائفتين، ومع ضعف سندهما لا يمكن الاعتماد عليهما حتّى يجمع بينهما بما ذكر»(2).

ولقد أفاد وأجاد في أنّ مقتضى الجمع بين الروايتين هو الحكم بوجوبهما بعد احتمال وجوبهما معاً. هذا مضافاً إلى أنّ التخيير هو الاحتمال الثالث، وكلّ واحدة من الروايتين تنفي الاحتمال الثاني وهو المعارض الدالّ على وجوب شيء آخر، كما أنّهما تنفيان الاحتمال الثالث وهو التخيير بينهما، وعليه فاحتمال التخيير ضعيف جدّاً، فلا مجال إلاّ للاحتياط بعد العلم بوجوب أحدهما كما هو مقتضى العلم الإجمالي.

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ ما دلّ على وجوب الاستغفار أمره يدور بين وجوب

ص: 459


1- وهو قوله صلى الله عليه وآله: «وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه».
2- إرشاد الطالب / ص 195-196.

الاستغفار عند عدم التمكّن من المغتاب - بالفتح - أو وجوب الاستغفار مطلقاً، وحيث لم تثبت النسخة المصحّحة يؤخذ بالمتيقّن منها؛ وهو وجوب الاستغفار له عند عدم التمكّن من الوصول إلى المغتاب، فبه يقيّد ما عليه العقلاء من وجوب الاستحلال.

فتحصّل: أنّ الاستحلال واجب عند التمكّن، ومع عدمه يسقط وجوب الاستحلال ويلزم الاستغفار للمغتاب؛ جمعاً بين الكبرى التي عليها بناء العقلاء وموثّقة السكوني.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق دليل الاستغفار له هو جواز الاكتفاء به؛ إذ لو لزم شيء آخر - كالتصدّق عن المغتاب - لأشار إليه في الرواية، فلا تغفل.

المقام الرابع: في موارد الاستثناء

اشارة

وقبل الشروع في البحث عن موارد الاستثناء بالخصوص ينبغي أن يبحث عن أنّه: هل يوجد هناك ملاك كلّي وضابط عامّ لتجويز الغيبة، أو لا يوجد بل يحتاج ذلك إلى إقامة الأدلّة في موارد خاصّة ؟

والظاهر من الشيخ الأعظم - تبعاً للشهيد والمحقّق الكركي - أنّه: «إذا فرض هناك مصلحة أقوى - سواء كانت راجعة إلى المغتاب بالكسر أو بالفتح أو ثالث - دلّ العقل أو الشرع على كونها أعظم من مسألة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين، كما هو الحال في كلّ معصية من حقوق الله وحقوق الناس. وقد نبّه عليه غير واحد:

قال في جامع المقاصد: «إنّ ضابط الغيبة المحرّمة: كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس منه. وأمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم؛ كنصح المستشير، والتظلّم وسماعه، والجرح والتعديل، وردّ من ادّعى نسباً ليس له، والقدح في

ص: 460

مقالة باطلة خصوصاً في الدين». انتهى.

وفي كشف الريبة: «اعلم أنّ المرخّص في ذكر مساوئ الغير غرض صحيح لا يمكن التوصّل إليه إلاّ بها». انتهى.

وعلى هذا فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد»(1).

وقد أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره بأنّه: «إن كان المراد من الضابط المذكور قصور إطلاق أدلّة الغيبة عن شمول مورد يكون للمغتاب غرض صحيح، أو انصرافها عنه كما هو محتمل كلام المحقّق الكركي - وإن كان بعيداً عن ظاهر كلام الشهيد - ففيه منع؛ لعدم قصور الآية الكريمة بل سائر الآيات وكثير من الروايات؛ فلها إطلاق من غير انصراف عن المورد المدّعى، كما لا تنصرف أدلّة سائر المحرّمات - نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ...) إلخ، و (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ...) إلخ - عن موارد الصلاح.

وإن كان المراد أنّ مصلحة احترام المؤمن أو مفسدة حرمة الغيبة لا تزاحم سائر المصالح مطلقاً؛ لكون مصلحة حرمة المؤمن ومفسدة الغيبة ضعيفة لا تقاوم سائر المصالح المزاحمة، ففيه: منع كلّية ذلك؛ لأنّ الغيبة من كبائر الذنوب كما تقدّم، وقد علم اهتمام الشارع بتركها من أدلّة الباب، والتعبيرات الواردة فيها وفي حرمة المؤمن كما هو أحد الطرق إلى كشف أهمّية الأحكام فلا شبهة في أنّ مفسدتها أهمّ من كثير من المصالح، سواء رجعت إلى المغتاب بالفتح أو بالكسر أو غيرهما. نعم، هو ثابت في الجملة، فلابدّ من النظر في الموارد الخاصّة.

وإن كان المراد أنّ الدليل قائم على استثناء مطلق موارد يكون للمغتاب فيها غرض صحيح فالظاهر فقدان ذلك بهذا العنوان العامّ . نعم، وردت روايات وأدلّة في موارد

ص: 461


1- المكاسب المحرّمة / ص 44.

خاصّة لكن لا يمكن إلغاء الخصوصية عنها إلى كلّ ذي مصلحة وملاك، مع أنّ عمدة ما وردت فيها الأدلّة المرخّصة: المتجاهر بالفسق والمتظلّم، والترخيص فيهما ليس للتزاحم وتقديم جانب المقتضي ظاهراً، فلا وجه لاحتمال إلغاء الخصوصية»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ صريح كلام الشيخ هو تجويز الغيبة فيما إذا دلّ العقل والشرع على كون المصلحة الراجعة إلى المغتاب - بالكسر أو بالفتح أو ثالث - أعظم من مسألة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، ولا مانع من دعوى الكلّية فيه، وعليه فمقصود الشيخ أنّ الأدلّة الدالّة على تحريم الغيبة بعنوانها الأوّلي مطلقة سواء انطبقت عليها سائر العناوين المحرّمة أو المحلّلة أم لا، فمع التزاحم في موارد لا يتمكّن المكلّف من الجمع بين امتثال النهي عن الغيبة والإتيان بتكليف آخر يكون الضابط هو ترجيح ما دلّ العقل والنقل على أهمّيته، ولعلّ مقصود الشهيد والمحقّق الكركي هو ذلك أيضاً، وهذا لا يختصّ بباب الغيبة، بل الأمر كذلك في كلّ محرّم من المحرّمات.

ولقد أفاد وأجاد في مصباح الفقاهة حيث قال: «ما ذكره المصنّف تبعاً لجامع المقاصد في ضابطة ترجيح الأهمّ على المهمّ فهو في غاية المتانة والجودة - على ما نقّحناه في علم الاُصول - ولا تحصى ثمراته في علم الفقه، إلاّ أنّه لا وجه لذكر هذه الضابطة في المقام؛ فإنّ الكلام هنا متمحّض لبيان مستثنيات الغيبة بحسب التعبّد بالأدلّة الخاصّة، فلا مساس له بلحاظ المناط والعمل بطبق أقوى الملاكين»(2).

والحاصل: أنّه لا مانع من القول بأنّه مع التزاحم وأهمّية ما دلّ العقل والنقل عليه تجوز الغيبة مطلقاً، وأمّا سائر الموارد التي لم يدلّ العقل والنقل على أهمّيتها فمع التعارض

ص: 462


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 274-275.
2- مصباح الفقاهة / ص 337.

وكون النسبة بينهما العموم من وجه يسقطان ويرجع إلى أصل آخر.

وربّما يقال في هذه الصورة: لابدّ في مورد الاجتماع من تقديم قوله سبحانه وتعالى: (وَ لاٰ يَغْتَبْ ...)(1) كما هو الحال في كلّ مورد يتعارض فيه الخبر والآية بالعموم من وجه، مع أنّ دلالة الآية على العموم وضعية، فتقدّم على الإطلاقية حتّى فيما إذا كانت الإطلاقية في الآية أيضاً، وتفصيل ذلك في علم الاُصول. ولا يخفى عليك أنّ الأخبار العلاجية لا تشمل التعارض بنحو العموم من وجه؛ لاختصاصها بما إذا كانا متعارضين في جميع مدلولهما كما هو مقتضى إطلاق المعارضة، وعليه فلا وجه لتقديم الآية على الرواية المعارضة فيما إذا كانت النسبة بينهما عموماً من وجه. نعم، إذا كان لسان الرواية لسان التفسير والحكومة فهي مقدّمة على الآية الكريمة.

ثمّ إنّه لا فرق بين الدلالة الوضعية وبين الدلالة الإطلاقية بعد انعقاد الظهور، فلا موجب لترجيح الوضعية على غيرها لمجرّد كونها وضعية، فلا تغفل.

ولو كانت النسبة بينهما التباين؛ فإن كان بينهما مرجّح فهو، وإلاّ فإن قلنا بالتخيير فهو، وإلاّ فيسقطان ويرجع إلى أصل آخر على ما قرّر في محلّه.

ثمّ إنّه يرد على جامع المقاصد: اوّلاً: أنّ اعتبار قصد الهتك في صدق الغيبة محلّ نظر؛ لما مرّ من أنّه لا دخل للقصد في صدق الغيبة، بل مقتضى إطلاق دليل حرمة الغيبة هو الحكم بالحرمة ولو لم تكن الغيبة بقصد الهتك.

وثانياً: أنّه يمكن للرجالي فيما إذا علم فسق الراوي أن يترك توثيقه؛ فإنّ هذا يكفي في سقوط روايته عن الاعتبار، ولا يلزم التعرّض لفسقه المستور (فتأمّل). وكذا الحال في مدّعي النسب؛ فإنّه يمكن ردّ دعواه بنحو لا يكون ظاهراً في كون دعواه من قبيل

ص: 463


1- سورة الحجرات / الآية 12.

التعمّد إلى الكذب، كما إذا قال: إنّك على خطأ وليس لك هذا النسب، فيمكن نصح المؤمن في ذلك المورد بنحو لا يدخل في عنوان الاغتياب، كما إذا قال لأخيه المؤمن: إنّي لا أرى صلاحاً في تزويج ابنتك من فلان، ولا يلزم أن يظهر أنّه شارب الخمر مثلاً(1).

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه ذكر الأصحاب صوراً بعنوان أنّها من موارد مزاحمة الأهمّ مع المهمّ ، وذكر الشيخ الأعظم قدس سره بعضها:

منها: نصح المستشير؛ فإنّ النصيحة واجبة للمستشير؛ لأنّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب، وكذلك النصح من غير استشارة؛ فإنّ من أراد تزويج امرأة وأنت تعلم بقبائحها التي توجب وقوع الرجل من أجلها في الغيبة والفساد فلا ريب أنّ التنبيه على بعضها - وإن أوجب الوقيعة فيها - أولى من ترك نصح المؤمن، مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه(2).

ويمكن أن يقال: اوّلاً: إنّ الذي ثبت بالدليل حرمة الخيانة لا وجوب النصح خصوصاً بالنسبة إلى غير المستشير، ولا ينافي ذلك كونه من حقوق المؤمن(3)، فمع عدم ثبوت وجوب النصح كيف يتصوّر التزاحم بين النصح وحرمة الغيبة وجعل النصح أهمّ مطلقاً؟!

وثانياً: إنّ الاقتصار على كون النصيحة واجبة مع كون المقام من موارد التزاحم كماترى، قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «إنّ الظاهر أنّ ما نحن فيه من صغريات باب التزاحم لا التعارض؛ فإنّ الغيبة في موارد الاجتماع مأخوذة في مقدّمات النصح وإنّه يتولّد منها ويتوقّف عليها، نظير توقّف إنقاذ الغريق والإتيان بالصلاة على التصرّف في

ص: 464


1- إرشاد الطالب / ص 199.
2- المكاسب المحرّمة / ص 45.
3- بلغة الطالب / ج 1، ص 132-133.

ملك غيره، وعليه فيتّصف كلّ من النصح والغيبة بالأحكام الخمسة حسب اختلاف الموارد بقوّة الملاك وضعفه؛ فإن تساوى الملاكان كان النصح والغيبة مباحين، وإن زاد أحدهما على الآخر كان الزائد متّصفاً بالوجوب أو الاستحباب بقدر ما فيه من زيادة الملاك، وكان الناقص محرّماً أو مكروهاً بمقدار ما فيه من نقصه»(1). وعليه فلا يصحّ القول بتقدّم النصح مطلقاً.

وثالثاً - كما في إرشاد الطالب -: إنّ ما ذكر من رعاية المصلحة الراجحة موقوفة على الاطّلاع على الملاكات، وأين لنا ذلك ؟ بل هذه الرعاية من وظيفة الشارع في مقام جعل الأحكام - إلى أن قال: - هذا في مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات فإذا طرأ على غيبة المؤمن عنوان يحتمل معه تبدّل فسادها ولم يكن ذلك العنوان الطارئ مورد الأمر أو الترخيص في شيء من الخطابات الشرعية، فيؤخذ بإطلاق دليل حرمة الغيبة، ومع تعلّق الأمر أو الترخيص بذلك العنوان في خطاب تلاحظ النسبة بينه وبين خطاب النهي عن الغيبة على تفصيل مذكور في بحث التعارض. نعم، إذا كان التزاحم بين حرمة الغيبة وتكليف آخر من قبيل التزاحم بين التكليفين - بأن لم يتمكّن المكلّف من الجمع بين امتثال النهي عن الغيبة وموافقة التكليف الآخر المتعلّق بفعل آخر - فيلاحظ الأهمّ منهما أو محتمله(2).

ورابعاً - كما في مصباح الفقاهة -: إنّ دعوى ظهور الأخبار في وجوب نصح المشير محلّ تأمّل بل منع، ولا بأس بذكرها:

منها: قوله عليه السلام في رواية ابن عمر عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من استشار أخاه فلم

ص: 465


1- مصباح الفقاهة / ص 348-349.
2- إرشاد الطالب / ص 198.

ينصحه محض الرأي؛ سلبه الله عزّ وجلّ رأيه»(1).

ومنها: قوله عليه السلام في رواية النوفلي: «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة؛ سلبه الله لبّه»(2).

وفيه: أنّ التوعيد في هاتين الروايتين بالعقوبة الدنيوية من سلب اللبّ والرأي لا يدلّ على أزيد من الاستحباب ورجحان العمل؛ فإنّ العقل من أعظم النعم الإلهية، وقد منّ به سبحانه على عباده لهدايتهم، فصرفه إلى غير ما خلق لأجله يوجب الزوال، وهو من النقمات الشديدة، كما أنّ صرفه إلى ما خلق لأجله يوجب المزيّة والاستكمال، ولا شبهة في رجحانه.

ومن هنا ظهر أنّ قوله عليه السلام في رواية عباية: «وانصح لمن استشارك»(3) إرشاد إلى ما ذكرناه، فيكون محمولاً على الاستحباب. على أنّ الروايات المذكورة كلّها مجهولة الرواة(4).

وعليه، فدعوى وجوب تقديم النصيحة على الغيبة مطلقاً بملاك الأهمّية محلّ تأمّل وإشكال. نعم، يصحّ القول بتقديمها إذا كانت أهمّ من مفسدة الغيبة.

ومنها: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان في حقّي، فكيف طريقي في الخلاص ؟ هذا إذا كان الاستفتاء موقوفاً على ذكر الظالم بالخصوص، وإلاّ فلا يجوز.

واستدلّ له الشيخ الأعظم قدس سره بصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «جاء

ص: 466


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 44، الباب 23 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
2- مستدرك الوسائل / الباب 22 من أبواب وجوب نصح المستشير.
3- جامع احاديث الشيعة / ج 16، ص 87.
4- مصباح الفقاهة / ص 350.

رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: إنّ اُمّي لا تدفع يد لامس، فقال: احبسها، قال: قد فعلت، فقال صلى الله عليه وآله: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، فقال صلى الله عليه وآله: فقيّدها؛ فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله عزّ وجلّ ...» الخبر(1). واحتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل.

واُورد عليه: اوّلاً: بأنّه لم يظهر لنا من الرواية كون المرأة معروفة عند النبيّ صلى الله عليه وآله، وقد عرفت فيما سبق اعتبار العلم بالمغتاب - بالفتح - في تحقّق الغيبة، وذكرها بعنوان الاُمومة لا يستلزم التعيين، ويتّفق نظير ذلك كثيراً للمراجع والمجتهدين.

وثانياً: بأنّ المذكور في الرواية قضيّة شخصية، وخصوصيّاتها مجهولة لنا، فيحتمل أن تكون الاُمّ متجاهرة بالزنا، كما هو الظاهر من قول ابنها: «إنّ اُمّي لا تدفع يد لامس...»، وعلى هذا فلا مجال لاستصحاب عدم التجاهر كما صنعه المصنّف، على أنّه لا يترتّب عليه أثر إلاّ على القول بالأصل المثبت(2).

ويمكن أن يقال: اوّلاً: إنّه قد تقدّم أنّه يكفي في المعلومية إضافة المرأة بعنوان الاُمومة إلى نفسه؛ فإنّها معلومة بالإضافة المذكورة، وذكر عيبها إظهار لما ستره الله عليها، فتشمله أدلّة حرمة الغيبة، ولا يلزم في المعلومية العلم بالاسم ونحوه.

ودعوى: أنّ ذكرها بعنوان الاُمومة لا يستلزم التعيين.

مندفعة: بما ذكر من أنّ الاُمومة المضافة إلى معلوم - كالابن - يكفي في المعلومية، ويصدق على ذكرها بالسوء كشف ما ستره الله، وتكره الاُمّ ذلك إذا سمعت.

وثانياً: إنّ احتمال كون الاُمّ متجاهرة بالزنا مع تخصيص الخطاب بالابن منفيّ ؛ لأنّ

ص: 467


1- وسائل الشيعة / الباب 48 من أبواب حد الزنا.
2- مصباح الفقاهة / ص 352.

منع المتجاهرة بالزنا وظيفة جميع المسلمين لا خصوص ابن المتجاهرة، ولا يجوز التجاوز من المرتبة الأدنى إلى المرتبة الأعلى مع إمكان الانتهاء بالدانية.

وثالثاً: إنّ منع الإطلاق باحتمال كون القضيّة شخصية لا وجه له بعد كون الناقل هو الإمام الصادق عليه السلام؛ فإنّ نقله عليه السلام يشهد على أنّ القضيّة ليست بشخصية. نعم، يؤخذ بالقدر المتيقّن منه؛ وهو ما إذا كان الاستفتاء موقوفاً على ذكر المغتاب، ولا بأس بذلك؛ لأهمّية تعلّم الأحكام كما لا يخفى.

ثمّ مع وضوح عدم كون المرأة متجاهرة - كما هو الظاهر - فلا تصل النوبة إلى إجراء استصحاب عدم التجاهر حتّى يرد عليه بأنّه لا أثر له إلاّ على القول بالأصل المثبت.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ موضوع الغيبة بعد تخصيص الأدلّة بالمتجاهر بالفسق مركّب؛ وهو هتك ستر المسلم غير المتجاهر بالفسق، ومعه يجري استصحاب عدم كون هذا المسلم متجاهراً ولو بالعدم الأزلي، فيثبت موضوع الحرمة جزءاً بالوجدان وهو كونه مسلماً، وجزءاً بالتعبّد وهو الاستصحاب.

فتحصّل: أنّ الاستفتاء إذا توقّف على الغيبة يوجب رفع حرمة الغيبة؛ لأهمّية تعلّم الأحكام عند الشارع.

ومنها - كما أفاد الشيخ الأعظم -: قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله؛ فإنّه أولى من ستر المنكر عليه، فهو في الحقيقة إحسان في حقّه. مضافاً إلى عموم أدلّة النهي عن المنكر.

واُورد عليه: بأنّ الدليل الأوّل أخصّ من المدّعى؛ إذ ربّما لا يرتدع المقول فيه عن فعل المنكر. هذا مضافاً إلى أنّ الغيبة محرّمة على المغتاب - بالكسر - ولا يجوز الإحسان بالأمر المحرّم؛ فإنّه إنّما يتقبّل الله من المتّقين.

ص: 468

وبأنّ الدليل الثاني منصرف عن المقام؛ لأنّه لا يجوز ردع المنكر بالمنكر؛ وإلاّ لجاز ردع الزناة بالزنا بأعراضهم، وردع السرّاق بسرقة أموالهم.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن ردع ذلك المنكر مطلوباً من كلّ أحد؛ وإلاّ وجب ردعه على كلّ من اطّلع عليه بأيّ نحو اتّفق، كمن تصدّى لقتل النفوس المصونة وهتك الأعراض المحترمة وأخذ الأموال الخطيرة، فإنّ منعه واجب بما هو أعظم من الغيبة فضلا عنها؛ لأنّ حفظ الاُمور المذكورة أهمّ في نظر الشارع من ترك الغيبة ونحوها(1).

وعليه تحمل صحيحة عبدالله بن سنان الدالّة على حبس الاُمّ وتقييدها مع أنّهما محرّمان بالأولوية؛ لوضوح حرمة التأفيف.

ودعوى: أنّه لا يستفاد منها وجوب منعها عن المنكر بما ذكر، بل غاية مدلولها جواز المنع أو استحبابه في مورد توقّف المنع على مثل الضرب والحبس أو اتّحاده معهما وعدم إمكان المنع بغيرهما(2).

مندفعة: بأنّ قوله عليه السلام: «فقيّدها؛ فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله...» الخبر، لا ينافي وجوب المنع المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: «احبسها» كما لا يخفى.

هذا مضافاً إلى أنّ قاعدة الأهمّ والمهمّ قاعدة عقلائية لم يردع عنها الشارع، فهي حجّة، ولا حاجة في حجّيّتها إلى الاستدلال بمثل الصحيحة، فتدبّر جيّداً.

ومنها: قصد حسم مادّة فساد المغتاب عن الناس، كالمبتدع الذي يخاف من إضلاله الناس. واستدلّ له الشيخ الأعظم قدس سره - مضافاً إلى أنّ مصلحة دفع الفتنة عن الناس أولى من ستر عيوب المغتاب -: بما عن الكافي بسنده الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال

ص: 469


1- المصدر السابق / ص 353.
2- إرشاد الطالب / ص 207.

رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم؛ كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلّموا من بدعهم؛ يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات»(1).

وبالجملة: أهمّية حفظ الدين توجب الترخيص أو الوجوب في غيبة المبدع وإظهار البراءة ونحوهما ممّا يدفع شرّ المبدع عن المجتمع الإسلامي، والكلّية في هذا العنوان محفوظة، وجعله من موارد تزاحم الأهمّ والمهمّ صحيح.

ومنها: جرح الشهود، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ الإجماع دلّ على جوازه، ولأنّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفسّاق أولى من الستر على الفاسق. ومثله بل أولى بالجواز جرح الرواة؛ فإنّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة شهادته، ويلحق بذلك الشهادة بالزنا وغيره لإقامة الحدود»(2).

ومنها: دفع الضرر المهتمّ به عن المغتاب، كالقتل وهتك العرض وغصب الأموال ونحوها ممّا يكون حفظها أهمّ في الشريعة المقدّسة من ستر ما فيه من العيوب، ولا إشكال فيه.

والشيخ الأعظم قدس سره حمل عليه ما ورد في ذمّ زرارة من عدّة أحاديث، وقد بيّن ذلك الإمام عليه السلام بقوله في بعض ما أمر عليه السلام عبدالله بن زرارة بتبليغ أبيه: «اقرأ منّي على والدك السلام فقل له: إنّما أعيبك دفاعاً منّي عنك؛ فإنّ الناس يسارعون إلى كلّ من قرّبناه ومجّدناه لإدخال الأذى فيمن نحبّه ونقرّبه، ويذمّونه لمحبّتنا له وقربه ودنوّه منّا ويرون

ص: 470


1- المكاسب المحرّمة / ص 45.
2- المصدر السابق.

إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كلّ من عيّبناه نحن، وإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت بنا (منّا - خ ل) بميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس؛ غير محمود الأمر (الأثر - خ ل) لمودّتك لنا وميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون ذلك منّا دافع شرّهم عنك، يقول الله عزّ وجلّ : (أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكٰانَتْ لِمَسٰاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي اَلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهٰا وَ كٰانَ وَرٰاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(1) . هذا التنزيل من عند الله، ألا والله ما عابها إلاّ لكي تسلم من الملك ولا تغصب (تعطب - خ ل) على يديه! ولقد كانت صالحةً ليس للعيب فيها مساغ، والحمد لله. فافهم المثل - رحمك الله - فإنّك والله أحبّ الناس إليّ ، وأحبّ أصحاب أبي إلىّ حيّاً وميّتاً، وإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام العظيم الزاخر، وإنّ وراءك لملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كلّ سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ويغصب أهلها. فرحمة الله عليك حيّاً، ورحمة الله عليك ميّتاً...» الخبر(2).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة بأنّ : «الغيبة إظهار ما ستره الله عليه، ومن الواضح أنّه لم يكن في زرارة عيب دينيّ ليكون ذكره غيبة»(3).

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ التهمة إذا جازت دفعاً للضرر المهتمّ به جازت الغيبة؛ لإلغاء الخصوصية أو للأولوية، ولعدم الخصوصية ألحق الشيخ الأعظم قدس سره بذلك الغيبة للتقيّة حيث قال: «ويلحق بذلك الغيبة للتقيّة على نفس المتكلّم أو ماله أو عرضه أو عن ثالث؛

ص: 471


1- سورة الكهف / الآية 79.
2- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 45-46.
3- مصباح الفقاهة / ص 355.

فإنّ الضرورات تبيح المحظورات»(1).

ومنها: ردّ من ادّعى نسباً ليس له، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إنّ مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة حرمة المغتاب»(2).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة بأنّ : «أهمّية حفظ الأنساب ثابتة فيما إذا ترتّب على النسب أثر شرعي من التوارث والنظر إلى النساء ونحوها، وأمّا إذا لم يترتّب عليه أثر شرعي أو ترتّب الأثر على دعوى النسب - كأن ادّعاه لصيانة نفسه أو عرضه أو ماله من إصابة الظالم إيّاها - فلا تجوز الغيبة بردّ هذه الدعوى، ومع الشكّ في مورد يرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة الغيبة على وجه الإطلاق؛ لأنّ الشبهة وإن كانت مصداقية إلاّ أنّ التخصيص من جهة المزاحمة، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن»(3).

ومنها: القدح في مقالة باطلة وإن دلّ على نقصان قائلها إذا توقّف حفظ الحقّ وإضاعة الباطل عليه، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «وأمّا ما وقع من بعض العلماء بالنسبة إلى من تقدّم عليه منهم من الجهر بالسوء من القول، فلم يعرف له وجه مع شيوعه بينهم من قديم الأيّام»(4).

ولا يخفى عليك أنّ القدح في المقالة الباطلة أجنبيّ عن الغيبة، وإن صحّ القول بالحرمة فيما إذا كان القدح بمثل الفحش والشتم والإهانة. والوجه في كونه أجنبيّاً عن الغيبة: أنّ القدح المذكور يكشف به عيب المقالة لا عيب صاحب المقالة. نعم، لو استلزم

ص: 472


1- المكاسب المحرّمة / ص 46.
2- المصدر السابق.
3- مصباح الفقاهة / ص 356.
4- المكاسب المحرّمة / ص 46.

قدحها لذلك في بعض الأحيان أو الموارد فلا يكون أجنبيّاً عن الغيبة، ولكن مع ذلك يجوز إذا كان القدح أهمّ ، فتدبّر جيّداً.

وبالجملة: يكفي بعض ما ذكروه لصحّة جعله من موارد تكون مصلحة كشف ما ستره الله فيها أهمّ من مفسدته. قال الشيخ الأعظم قدس سره: «ثمّ إنّهم ذكروا موارد اُخرى للاستثناء لا حاجة إلى ذكرها بعد ما قدّمنا أنّ الضابط في الرخصة وجود مصلحة غالبة على مفسدة هتك احترام المؤمن، وهذا يختلف باختلاف تلك المصالح ومراتب مفسدة هتك المؤمن، فإنّها مندرجة في القوّة والضعف، فربّ مؤمن لا يساوي عرضَه شيء من المصالح، فالواجب التحرّي في الترجيح بين المصلحة والمفسدة»(1).

فتحصّل: أنّ كلّ مورد تكون مصلحة الغيبة فيه أهمّ من مفسدتها فلا إشكال في تجويزها، وأمّا استثناء الموارد بالعناوين الكلّية - كنصح المستشير - فلا يخلو أكثرها عن الإشكال والنظر؛ لما عرفت من عدم كون مواردها أهمّ .

ثم حان الوقت لذكر الموارد الخاصّة، ولا يخفى عليك أنّ الأصحاب ذكروا موارد بعنوان الاستثناء من دون تقييدها بالمصلحة فضلاً عن الأهميّة وإليك بعضها:

المورد الأوّل: ما إذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق، ولا إشكال فيه بعدما عرفت من أنّ الغيبة هي إظهار لما ستره الله عليه؛ فإنّ ذكر فسق المتجاهر حينئذ ليس إظهاراً لما ستره الله عليه، بل هو خارج موضوعاً عن الغيبة، فيجوز ذلك لو لم يترتّب عليه عنوان من العناوين المحرّمة.

وهكذا الأمر لو اعتبرنا الكراهة في حقيقة الغيبة؛ لأنّ المتجاهر بالفسق لا يكره أن يُغتاب فيما تجاهر به؛ ولذا قال الشيخ الأعظم قدس سره في تعليل جواز غيبة المتجاهر بالفسق:

ص: 473


1- المصدر السابق.

«فإنّ من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق. نعم، لو كان في مقام ذمّه كرهه من حيث المذمّة، لكنّ المذمّة على الفسق المتجاهر به لا تحرم كما لا يحرم لعنه»(1).

فمع عدم صدق الغيبة بأحد الوجهين فلا حاجة في جواز ذكر العيب - بالنسبة إلى المتجاهر بالفسق - إلى إقامة الأدلّة عليه؛ لما عرفت من أنّ ذكر العيب المتجاهر به خارج عن الغيبة موضوعاً.

ولقد أفاد وأجاد في مصباح الفقاهة حيث قال: «قد ذكرنا في معنى الغيبة: أنّها عبارة عن كشف ما ستره الله على العباد، وأيّدناه ببعض الروايات، فيكون المتجاهر بالفسق خارجاً عن حدود الغيبة تخصّصاً وموضوعاً؛ لأنّه قد كشف ستره بنفسه قبل أن يكشفه المغتاب، بالكسر»(2).

ولو أبيت عن ذلك فاعلم أنّهم استدلّوا لاستثناء غيبة المتجاهر بأخبار:

منها: موثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم؛ كان ممّن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوّته»(3).

بتقريب: أنّ مفهومها هو انتفاء حرمة الغيبة مع انتفاء الشروط المذكورة، وهذا المفهوم بإطلاقه يشمل المتجاهر بالفسق.

وأورد عليه في بلغة الطالب بقوله: «وأمّا قول: «من عامل الناس فلم يظلمهم»

ص: 474


1- المصدر السابق / ص 44.
2- مصباح الفقاهة / ص 340.
3- وسائل الشيعة / ج 12، ص 278، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.

فظاهره اعتبار العدالة فيمن تحرم غيبته، وهو خلاف الإجماع، والالتزام بعدم المفهوم له أولى من الالتزام بعمومه ودعوى خروج ما خرج بالإجماع بأنّ هذا تخصيص مستهجن»(1).

ويشهد لعدم ثبوت المفهوم لها: أنّ مدلول الموثّقة هو ترتّب مجموع الأحكام المذكورة في الجزاء على مجموع الشروط المذكورة، فيكون مفهومها انتفاء المجموع بانتفاء مجموع الشروط، وهو في حكم الموجبة الجزئية بالنسبة إلى الجواز، ولا ينافي ثبوت بعض تلك الأحكام - كحرمة الغيبة في فرض انتفاء مجموع الشروط - لبعض آخر كالفاسق.

وقد يدفع ذلك: بظهور القضيّة في ترتّب كلّ واحد من الأحكام المذكورة على الشرط(2).

ولا يخفى ما فيه؛ لعدم ثبوت ظهور القضيّة في ذلك بعد احتمال ترتّب المجموع على المجموع، وعليه فالمفهوم هو جواز غيبة غير الذي اُحرزت عدالته في الجملة، ولا عموم ولا إطلاق له حتّى يحتاج إلى التخصيص، ويمكن تعيين المفهوم بالإجماع على حرمة غيبة الفاسق مع عدم التجاهر، فيدلّ مفهوم الرواية حينئذ مع الإجماع المذكور على جواز غيبة الفاسق المتجاهر، ولا يلزم منه تخصيص ولا استهجان كما لا يخفى.

وقد يقال - بناءً على ثبوت المفهوم لها: - إنّ المفهوم هو جواز غيبة الفاسق المحرز فسقه سواء كان متجاهراً أو متستّراً؛ حيث إنّ المذكورات في الشرط بمجموعها طريق إلى عدالة الشخص، فيكون إحرازها إحرازاً لعدالته، وإحراز خلافها إحرازاً لفسقه،

ص: 475


1- بلغة الطالب / ج 1، ص 127.
2- إرشاد الطالب / ص 202.

وترتّب حرمة الاغتياب على صورة الطريق إلى عدالته مقتضاه عدم الحرمة في الصورة الثانية؛ كان متجاهراً بفسقه أم لا، والمفهوم المزبور أخصّ ممّا دل على حرمة اغتياب المؤمن، فيرفع اليد عن إطلاقه بالمفهوم، فيختصّ ما دلّ على حرمة الاغتياب بما إذا لم يظهر فسق المغتاب، ولا فرق في جوازها مع ظهوره بين كونه متجاهراً أو لا.

ولكنّ الصحيح أنّه يرفع اليد عن إطلاق المفهوم بالتقييد الوارد في صحيحة ابن أبي يعفور: قال أبو عبدالله عليه السلام فيها بعد السؤال عن العدالة في الرجل: «أن تعرفوه: بالستر والعفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان - إلى أن قال: - والدلالة على ذلك: أن يكون ساتراً لجميع عيوبه؛ حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك...»(1). فإنّ ظاهرها اعتبار الستر في حرمة الفحص عن عيوبه، فيجوز مع عدم الستر، ولا يحتمل الفرق في الجواز وعدمه بين التفتيش عن سائر عيوبه وبين إظهارها بعد العلم بها.

وهذه الصحيحة مع رواية هارون بن الجهم قرينتان على رفع اليد عن إطلاق المفهوم في الموثّقة(2)، فينحصر مفهومها في المتجاهر بالفسق، ولا يجوز غيبة الفاسق غير المتجاهر.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ مفهوم الموثّقة لا إطلاق له كما عرفت؛ فإنّ انتفاء المجموع بانتفاء المجموع لا يفيد إلاّ القضيّة الجزئية، ومع عدم الإطلاق لا حاجة إلى تقييد المفهوم المذكور بالتجاهر. هذا مضافاً إلى أن التعدّي عن التفتيش إلى إظهار العيوب بالغيبة محلّ تأمّل ومنع.

ص: 476


1- وسائل الشيعة / ج 27، ص 391، الباب 41 من أبواب الشهادات، ح 1.
2- إرشاد الطالب / ص 200.

ولقد أفاد وأجاد في بلغة الطالب حيث قال: «إنّ حرمة الفحص والتفتيش عن العيوب لا ربط لها بحرمة الغيبة»(1).

فالأولى أن يستدلّ بمفهوم موثّقة سماعة بن مهران على جواز غيبة المتجاهر بعد تعيّنه بالإجماع القائم على حرمة غيبة الفاسق المتستّر؛ فإنّ جواز الغيبة حينئذ ينحصر في المتجاهر كما لا يخفى.

لا يقال: إنّ الرواية المذكورة ضعيفة بعثمان بن عيسى الموجود في طريقها، لعدم توثيقه.

لأنّا نقول: يكفي نقل صفوان عنه؛ لأنّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن الثقات. هذا مضافاً إلى نقل الأجلاّء عنه وعدّ بعضهم إيّاه من أصحاب الإجماع.

ومنها: رواية صالح بن عقبة عن علقمة عن الصادق عليه السلام، وهو قوله عليه السلام: «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله؛ داخل في ولاية الشيطان»(2).

بتقريب: أنّها تدلّ على ترتّب حرمة بالاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة على طريق اللفّ والنشر، أو على اشتراط الكلّ بكون الرجل لم تُرَ منه المعصية ولم يُسْهَد عليه بها، ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرائط، خرج منه غير المتجاهر وبقي الباقي في المفهوم؛ وهو الفاسق المتجاهر.

واُورد عليه اوّلاً: بضعف السند من ناحية صالح بن عقبة وعلقمة؛ فإنّهما لم يوثّقا.

ص: 477


1- بلغة الطالب / ص 127.
2- وسائل الشيعة / ج 27، ص 395، الباب 41 من أبواب الشهادات، ح 13.

وثانياً: بأنّ ظاهرها اعتبار العدالة في حرمة الغيبة، وهو بديهيّ البطلان.

وثالثاً: بأنّ ظاهر مفهومها جواز غيبة الرجل لمن يشاهد صدور المعصية منه أو إذا شهد عليه بها شاهدان، وعليه فتنححصر موارد الأدلّة الدالّة على حرمة الغيبة بالعيوب البدنية والأخلاقية؛ فإنّ المغتاب - بالكسر - لابدّ له من العلم حين يغتاب؛ وإلاّ كان من البهتان لا من الغيبة، وهذا خلاف صراحة غير واحدة من الروايات الدالّة على حرمتها، على أنّه لم يلتزم به أحد.

نعم، لو اُريد من الخطاب في قوله عليه السلام: «فمن لم تره بعينك...» العنوان الكلّي والقضيّة الحقيقية، وكان معناه أنّ صدور المعصية منه بمرأى من الناس ومسمع منهم بحيث يرى الناس ويرونه وهو يوقع المعصية، لسلم(1) عن هذا الإشكال(2).

وكيف كان، فلا كلام في جواز غيبة المتجاهر فيما تجاهر به؛ لخروجها عنها تخصّصاً، وإن أبيت عن ذلك أمكن الاستدلال للجواز بمفهوم موثّقة سماعة بن مهران بالتقريب المذكور آنفاً.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في جواز غيبة المتجاهر فيما تجاهر به

التنبيه الأوّل: إنّ مقتضى إطلاق الروايات - كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره - جواز غيبة المتجاهر فيما تجاهر به ولو مع عدم قصد غرض صحيح، ولم أجد من قال باعتبار قصد الغرض الصحيح وهو ارتداعه عن المنكر. نعم، تقدّم عن الشهيد الثاني احتمال اعتبار

ص: 478


1- وذلك لأنّ المعصية بمرأى من الناس عبارة اُخرى عن التجاهر، فجواز الغيبة لمورد المتجاهر لا مورد المشاهدة، فلا تغفل.
2- مصباح الفقاهة / ص 339.

قصد النهي عن المنكر في جواز سبّ المتجاهر، مع اعترافه بأنّ ظاهر النصّ والفتوى عدمه(1).

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «مقتضى العمل بالإطلاقات المتقدّمة الدالّة على نفي الغيبة عن المتجاهر بالفسق هو عدم اعتبار قصد الغرض الصحيح في جواز غيبة المتجاهر بالفسق؛ إذ لم يتقيّد المطلقات بالقصد المذكور، كما أنّ ذلك أيضاً مقتضى ما ذكرنا من خروج ذكر المتجاهر بالفسق عن تعريف الغيبة موضوعاً؛ إذ لم يتقيّد عنوان الغيبة بأكثر من كونها كشفاً لما ستره الله»(2).

وبعبارة اُخرى: إنّ كشف الستر مع التجاهر بالفسق لا يصدق سواء قصد الغرض الصحيح أم لم يقصد. هذا بناءً على خروج ذكر المتجاهر عن تعريف الغيبة.

وأمّا بناءً على التخصيص، فمقتضى إطلاق المفهوم في المطلقات الدالّة على حرمة غيبة العدول هو جواز غيبة الفاسق، وحيث إنّ غيبة الفاسق غير المتجاهر ممنوعة بالإجماع فيبقى جواز غيبة الفاسق المتجاهر، ومقتضى إطلاق ذلك هو جواز غيبته سواء كان الغرض من الغيبة صحيحاً أم لم يكن، فتأمّل؛ لعدم ثبوت الإطلاق.

التنبيه الثاني: هل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به ؟

التنبيه الثاني: هل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به ؟

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «صرّح الشهيد الثاني وغيره بعدم الجواز، وحكي عن الشهيد أيضاً، وظاهر الروايات النافية لاحترام المتجاهر وغير الساتر هو الجواز، واستظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام، وصرّح به بعض الأساطين.

وينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح، فمن تجاهر باللواط

ص: 479


1- المكاسب المحرّمة / ص 44.
2- مصباح الفقاهة / ص 240.

- العياذ بالله - جاز اغتيابه بالتعرّض للنساء الأجانب (الأجنبيّات)، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة، ومن تجاهر بكونه جلاّد السلطان يقتل الناس وينكّلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح. ولعلّ هذا هو المراد ب - «من ألقى جلباب الحياء...»، لا من تجاهر بمعصية خاصّة وعدّ مستوراً بالنسبة إلى غيرها، كبعض عمّال الظلمة»(1).

وحاصله: التفصيل بين المعاصي التي دون ما تجاهر بها في القبح وبين غيرها؛ فيجوز اغتيابه في الحالة الاُولى دون الثانية.

وأورد عليه في مصباح الفقاهة بأنّ : «القول بالتفصيل المذكور لا دليل عليه بوجه؛ فإنّ بعض الناس قد يتجاهر بالذنوب الكبيرة كقتل النفوس المحترمة وشرب الخمور وأكل أموال الناس ومع ذلك يتستّر فيما هو دونها، كإيذاء الجار والنظر إلى الأجنبيّات وترك العبادات الواجبة. نعم، إذا تجاهر في معصية جاز اغتيابه بها وبلوازمها، فإذا تجاهر بشرب الخمر جاز اغتيابه بتهيئة مقدّمات الشرب من الشراء والحمل أو الصنع؛ فإنّ الالتزام بشيء التزام بلوازمه، ومن ألقى جلباب الحياء في معصية ألقى جلبابه في لوازمه أيضاً، وعليه فيدور الأمر: بين القول بالجواز مطلقاً، وبين القول بعدم الجواز كذلك.

وقد يقال: إنّ الظاهر هو جواز اغتياب المتجاهر مطلقاً - إلى أن قال: - ولكنّك قد عرفت ضعف الروايات المذكورة، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها، وعليه فالاقتصار على المقدار المتيقّن يقتضي عدم جواز غيبة المتجاهر بغير ما تجاهر فيه وفي لوازمه»(2).

وبعبارة اُخرى: إنّ منشأ جواز اغتياب المتجاهر بما تجاهر به هو عدم صدق الغيبة

ص: 480


1- المكاسب المحرّمة / ص 44.
2- مصباح الفقاهة / ص 340-341.

حقيقةً على ذكر العيب الذي تجاهر به؛ لأنّ الغيبة - كما مرّ - هي إظهار ما ستره الله، وهذا المعنى - أعني إظهار ما ستره الله - ليس صادقاً على ذكر عيب المتجاهر الذي تجاهر به، بخلاف العيب الذي لم يتجاهر به؛ فإنّ الغيبة صادقة على ذكره، وبعد صدق الغيبة تشمله عمومات حرمة الغيبة، ولا دليل على رفع اليد عن تلك العمومات؛ إذ مفهوم موثّقة سماعة بن مهران في حكم الجزئي، والقدر المتيقّن منه هو جواز غيبة المتجاهر فيما تجاهر به، ومعه لا مجال لتجويز غيبة المتجاهر في غير ما تجاهر به، فلا تغفل.

التنبيه الثالث: في المراد من المتجاهر بالفسق

التنبيه الثالث: إنّ المراد بالمتجاهر بالفسق - كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره - هو من تجاهر بالقبيح بعنوان أنّه قبيح، فلو تجاهر به مع إظهار محمل لا يعرف فساده إلاّ القليل - كما إذا كان من عمّال الظلمة وادّعى في ذلك عذراً مخالفاً للواقع أو غير مسموع منه - لم يعدّ متجاهراً. نعم، لو كان اعتذاره واضح الفساد لم يخرج عن المتجاهر(1).

وقد أوضح ذلك في مصباح الفقاهة حيث قال: «ظهر من مطاوي ما ذكرناه: أنّه يعتبر في صدق التجاهر بالفسق أن يكون المتجاهر به ممّا يوجب الفسق والخروج عن العدالة، فلو ارتكب أحدٌ الحرام الواقعي لشبهة حكمية أو موضوعية فإنّه ليس بمذنب، فضلا عن كونه متجاهراً بالفسق»(2).

التنبيه الرابع: في حكم غيبة المتجاهر في غير بلده إذا كان مستور الفسق عندهم

التنبيه الرابع: لو كان متجاهراً عند أهل بلده أو محلّته؛ مستوراً عند غيرهم، هل يجوز ذكره عند غيرهم أو لا؟

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «فيه إشكال؛ من إمكان دعوى ظهور روايات الرخصة فيمن لا يستنكف عن الاطّلاع على عمله مطلقاً، فربّ متجاهر في بلد متستّر في بلاد الغربة أو

ص: 481


1- المكاسب المحرّمة / ص 44.
2- مصباح الفقاهة / ص 341.

في طريق الحجّ والزيارة؛ لئلاّ يقع عن عيون الناس. وبالجملة: فحيث كان الأصل في المؤمن الاحترام على الإطلاق وجب الاقتصار على ما تيقّن خروجه، فالأحوط الاقتصار على ذكر المتجاهر بما لا يكرهه لو سمعه ولا يستنكف من ظهوره للغير.

نعم، لو تأذّى من ذمّه بذلك دون ظهوره لم يقدح في الجواز؛ ولذا جاز سبّه بما لا يكون كذباً. وهذا هو الفارق بين السبّ والغيبة؛ حيث إنّ مناط الأوّل المذمّة والتنقيص فيجوز، ومناط الثاني إظهار عيوبه فلا يجوز إلاّ بمقدار الرخصة»(1).

وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره حيث قال: «إنّ مقتضى العمل بالمطلقات هو جواز غيبة المتجاهر مطلقاً بمجرّد تجاهره بمعصية من المعاصي، فيكون التجاهر ولو في معصية واحدة علّة تامّة لجواز الغيبة، وعليه فلا يفرّق في ذلك بين أن يكون معروفاً بالتجاهر في الفسق بين جميع الناس وفي جميع الأمكنة والأصقاع أو بين بعضهم وفي بعض البلاد والقرى.

وعلى هذا، فلا وجه لما استشكله المصنّف من «دعوى ظهور روايات الرخصة فيمن لا يستنكف عن الاطّلاع على عمله مطلقاً، فربّ متجاهر في بلد متستّر في بلاد الغربة أو في طريق الحجّ والزيارة؛ لئلاّ يقع عن عيون الناس». نعم، لو تجاهر بذلك بين جماعة هم أصحاب سرّه ورفقائه في العمل فإنّه لا يعدّ متجاهراً بالفسق».

ولكنّه عدل عن هذا الإشكال في نهاية الأمر حيث قال: «ولكن قد عرفت ضعف المطلقات المذكورة، فلا يمكن الاستناد إليها في تجويز هتك عرض المؤمن وافتضاحه بين الناس، ولا تصلح لتقييد المطلقات الدالّة على حرمة الغيبة، وإذاً: فلا تجوز غيبة المتجاهر إلاّ لمن تجاهر بالمعصية عنده، لا من جهة الروايات بل لعدم تحقّق مفهوم

ص: 482


1- المكاسب المحرّمة / ص 44.

الغيبة مع التجاهر على ما ذكرناه في تفسيرها، والله العالم»(1).

ودعوى: كفاية صحيحة ابن أبي يعفور مع مفهوم موثّقة سماعة بن مهران في الدلالة على جواز غيبة المتجاهر مطلقاً ولو في بلد لم يكن متجاهراً فيه.

مندفعة: بأنّ مفهوم الموثّقة لا إطلاق له، وإنّما تدلّ الموثّقة - في صورة عدم اجتماع شرائط حرمة الغيبة - على جواز الغيبة في الجملة كما مرّ، فلا تغفل.

وعلى فرض تسليم إطلاق مفهوم موثّقة سماعة يمكن تقييده بصحيحة ابن أبي يعفور، فينحصر مفهومها في المتجاهر بالفسق ولا يجوز في غير المتجاهر.

التنبيه الخامس: إذا صار المتجاهر ساتراً لعيوبه وتائباً

التنبيه الخامس: إذا صار المتجاهر ساتراً لعيوبه واعتذر عن عيبه المتجاهر به وتاب عنه، فلا يجوز اغتيابه؛ لأنّ الخارج من أدلّة حرمة الغيبة هو المتجاهر، وهو مع التوبة وصيرورته ساتراً لعيوبه غير صادق، ومقتضى عموم أدلّة حرمة الغيبة هو حرمة غيبته.

قال في إرشاد الطالب: «إنّ ظاهر الأدلّة كون الحكم مادام كونه جاهراً؛ نظير قوله عليه السلام: «لا تصلِّ خلف الفاسق»، فلا يجوز الاغتياب بعدما صار الشخص ساتراً لعيوبه؛ حتّى بإظهار عيبه الذي كان عليه زمان تجاهره كما لا يخفى»(2). ولا أقلّ من الشكّ ، فيرجع فيه إلى عموم أدلّة حرمة الغيبة بعد عدم دلالة دليل على الجواز، فلا تغفل.

الثاني من موارد الاستثناء: تظلّم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متستّراً به، قال الشيخ الأعظم قدس سره: «جاز ذكره بذلك عند من لا يعلم ذلك منه»(3).

واستدلّ له بآيات:

ص: 483


1- مصباح الفقاهة / ص 341-342.
2- إرشاد الطالب / ص 203.
3- المكاسب المحرّمة / ص 44.

منها: ظاهر قوله تعالى: (وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )(1) .

وهو يدلّ على جواز الانتصار بقوله: (مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) ، كما أنّ قوله عزّ وجلّ : (وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ )(2) يدلّ على جوازه بمدح المنتصرين.

فكيف كان، فقد قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره في ذيل قوله تعالى: (اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ...) الآية، ما حاصله: مقتضى إطلاقه جواز الاستنصار وطلب النصر من كلّ من يرجو منه النصر؛ كان الظالم متجاهراً أم لا، والسامع عالماً بمساءته أم لا، هذا بناءً على أنّ المراد وَلَمَنِ من الانتصار هو طلب النصر. وأمّا إذا كان المراد منه هو الانتقام من الظالم فلأنّ جواز الانتقام من الظالم مستلزم لجواز الانتصار من الغير؛ وإلاّ قلّما يكون المظلوم بنفسه يمكنه الانتقام من ظالمه، والانتصار ملازم لذكر مساءة الظالم، ولا أقلّ من أنّ إطلاق الانتصار يقتضي جواز انتقامه بمعاونة الغير كعشيرته وقبيلته إذا لم يمكنه بنفسه، وهو ملازم للغيبة - إلى أن قال: -

وربّما يقال: إنّ تجويز الانتصار والانتقام للمظلوم بنفسه من الظالم يوجب الهرج والمرج، وإنّما نصب الوالي والقاضي للانتصاف والانتصار وتنظيم اُمور الناس، ومعه كيف يطلق ذلك للناس بأنفسهم ؟! لكنّه اعتبار ضعيف مخالف للإطلاق بل والاعتبار الصحيح، وقد وقع نظيره في الشرع، كتجويز التقاصّ للدائن، وتجويز الدفاع عن النفس والعرض والمال، ودفع المشرف على بيت الرجل، وقتل من سبّ النبيّ صلى الله عليه وآله أو أحد

ص: 484


1- سورة الشورى / الآيتان 41 و 42.
2- سورة الشورى / الآيتان 39 و 40.

الأئمّة عليهم السلام.. إلى غير ذلك، فهل ترى من نفسك وجوب القعود عن دفع السارق المهاجم على عرض الرجل وماله وعدم جواز دفعه ثمّ بعد فعله ما فعل يقال للمظلوم: لك الرجوع إلى المحاكم الصالحة ؟! وبالجملة: لا وجه للاستبعاد بعد قيام الدليل(1). هذا مضافاً إلى أنّ غايته هو جواز الانتصار مع وساطة الحاكم الإسلامي، وهو أيضاً لا يخلو عن ملازمة ذكر مساءة الظالم.

واُورد عليه: بأنّ ظاهر الآية جواز انتقام المظلوم من ظالمه بالمثل، كما يؤيّده ملاحظة ما قبلها من قوله عزّ وجلّ : (وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ )(2) . وأمّا جواز الاغتياب من ظالمه بإظهار ظلمه أو حتّى سائر عيوبه المستورة عليه فلا دلالة لها عليه(3).

فالمراد من الآية الكريمة هو جواز الانتقام بالمثل لا جواز الاغتياب.

وفيه: أنّه يمكن الاستدلال بإطلاق الآية الكريمة - كما أفاد سيّدنا الإمام(4) - سواء كان المراد من الانتصار هو طلب النصر أو الانتقام؛ لما عرفت من ملازمة الانتقام لذكر مساءة الظالم، وعليه فلا وجه لتخصيص الآية الكريمة بخصوص الانتقام.

أللهمّ إلاّ أن يقال: بلزوم تقييد الإطلاق بأدلّة حرمة الغيبة، ولكنّه لا يخلو عن التأمّل والنظر؛ لأنّ النسبة هي العموم من وجه، ومقتضى ذلك هو التعارض والتساقط والرجوع إلى أصل آخر من الإباحة والبراءة.

ص: 485


1- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 284-286.
2- سورة الشورى / الآية 40.
3- إرشاد الطالب / ص 203-204.
4- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 285.

ومنها: قوله تعالى: (لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ )(1) .

وتقريبه - كما في مصباح الفقاهة -: أنّه قد ثبت من الخارج أنّ الغيبة من الجهر بالسوء؛ فإنّها إظهار ما ستره الله من العيوب الموجبة لهتك المقول فيه وإهانته، وعليه فتنطبق الآية على ما نحن فيه، وتكون النتيجة: انّ الله لا يحبّ الاغتياب إلاّ من المظلوم؛ فإنّ له أن يتظلّم إلى الناس بذكر مساوئ الظالم وإن لم يرجُ ارتداعه عن ظلمه إيّاه.

لا يقال: إنّ الجهر بالسوء فسّر في بعض الروايات بأنّ المراد منه هو الشتم، وعليه فلا يرتبط بالغيبة.

لأنّا نقول - كما أفاد في مصباح الفقاهة -: إنّ انطباقه على الشتم لا ينافي انطباقه على الغيبة أيضاً؛ لما عرفت مراراً أنّ الروايات الواردة في تفسير القرآن لبيان المصاديق وتنقيح الصغرى. هذا مضافاً إلى ضعف سند هذه الرواية.

ثمّ إنّ قوله تعالى: (إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ ) مطلق، ومقتضاه جواز اغتياب الظالم من قبل المظلوم مطلقاً؛ سواء احتمل ارتداعه أم لا.

قال الشيخ الأعظم قدس سره بعد ذكر المؤيّدات وتضعيفها: «ومع ذلك كلّه فالأحوط عدّ هذه الصورة من الصور التي رخّص فيها في الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة احترام المغتاب»(2).

ولا يخفى ما فيه بعد كون الآية الكريمة مطلقة. نعم، لا ينبغي ترك الاحتياط، فتدبّر.

ومنها: قوله تعالى: (فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ )(3) .

ص: 486


1- سورة النساء /الآية 148.
2- المكاسب المحرّمة / ص 45.
3- سورة البقرة / الآية 194.

بدعوى: أنّه لو كان ظلمه هو الاغتياب والتنقيص المسقط للمغتاب - بالفتح - عن أعين الناس فيجوز للمغتاب الانتقام من ظالمه بإظهار عيوبه.

واُورد عليه: بأنّه لا إطلاق للآية بالنسبة إلى المجازاة بالمحرّمات؛ وإلاّ لجاز الاعتداء بالزنا ونحوه، ولم يلتزم به أحد، بل هو ضروريّ البطلان(1).

ثمّ إنّ الأخبار أيضاً تدلّ على جواز التظلّم:

منها: ما عن تفسير العيّاشي عنه صلى الله عليه وآله: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم؛ فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه»(2).

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «وهذه الرواية وإن وجب توجيهها إمّا بحمل الإساءة على ما يكون ظلماً وهتكاً لاحترامهم أو بغير ذلك، إلاّ أنّه دالّة على عموم (مَنْ ظُلِمَ ) في الآية الشريفة، وأنّ كلّ من ظلم فلا جناح عليه فيما قال في الظالم»(3).

وفيه اوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة السند.

وثانياً - كما في مصباح الفقاهة -: أنّ ذكر صورة الظلم والهتك في الضيافة نوع من التظلّم، فيكون مشمولاً للآية من دون احتياج إلى الرواية. نعم، لا بأس بجعل الرواية مؤيّدة لتطبيق الآية على إساءة الضيافة(4).

ومنها: ما روى البخاري عن أبي هريرة: انّ أعرابيّاً تقاضى النبيّ صلى الله عليه وآله ديناً كان له عليه فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: «دعوه؛ فإنّ لصاحب الحقّ

ص: 487


1- مصباح الفقاهة / ص 344.
2- تفسير العياشى / ج 1، ص 283.
3- المكاسب المحرّمة / ص 45.
4- مصباح الفقاهة / ص 343.

مقالاً»(1).

بدعوى أنّ معنى الحديث: أنّ كلّ من ثبت له حقّ فعليّ على أحد من الحقوق المالية والعرضية والبدنية وغيرها فله مقال في المطالبة به والمرافعة عليه.

واُورد عليه - مضافاً إلى ضعفه -: بأنّ هذا لا يشمل المظلوم الذي اُضيع حقّه وفات بالظلم عليه؛ إذ ليس له حقّ فعليّ حتّى يكون له مقال في المطالبة به والمرافعة عليه. ويحتمل اختصاصه بالدين فقط، فيكون مساوقاً لقوله صلى الله عليه وآله: «لىّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله عزّ وجلّ »(2).

واللىّ : المطل، وهو يوجب جواز ملامته على التأخير وعقوبته عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الحقّ مطلق، وهو يعمّ الغيبة؛ لأنّ تنقيص الغير ظلم فعليّ ، ومع فعليّة الظلم تتعلّق ذمّة المغتاب - بالكسر - بالنسبة إلى ذمّة المغتاب - بالفتح - بالحقّ الفعلي، فلا وجه لتخصيص قوله صلى الله عليه وآله: «فإنّ لصاحب الحقّ مقالاً» بالدين، والعمدة أنّ الرواية ضعيفة، نعم هي تصلح للتأييد.

قال الشيخ قدس سره: «والظاهر من جميع ما ذكر: عدم تقييد جواز الغيبة بكونها عند من يرجو إزالة الظلم عنه، وقوّاه بعض الأساطين، خلافاً لكاشف الريبة وجمع ممّن تأخّر عنه فقيّدوه؛ اقتصاراً في مخالفة الأصل على المتيقّن من الأدلّة؛ لعدم عموم في الآية، وعدم نهوض ما تقدّم في تفسيرها للحجّية، مع أنّ المروي عن الباقر عليه السلام في تفسيرها المحكي عن مجمع البيان: أنّه لا يحبّ الشتم في الانتصار إلاّ من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين. قال في الكتاب المذكور: «ونظيره

ص: 488


1- صحيح البخاري/ ج 2، ص 37، الوكالة في قضاء الدين.
2- مصباح الفقاهة / ص 345-346.

وانتصروا من بعد ما ظلموا»، وما بعد الآية لا يصلح للخروج بها عن الأصل الثابت بالأدلّة العقلية والنقلية، ومقتضاه الاقتصار على مورد رجاء تدارك الظلم، فلو لم يكن قابلاً للتدارك لم يكن فائدة في هتك الظالم»(1).

ويمكن أن يقال - كما في مصباح الفقاهة -: إنّ الآية وإن لم تشتمل على شيء من ألفاظ العموم وأدواته، إلاّ أنّ قوله: (إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ ) مطلق، فبمقتضى مقدّمات الحكمة فيه يفيد العموم، وعليه فيجوز للمظلوم اغتياب الظالم؛ سواء احتمل ارتداعه أم لا(2).

ومع إطلاق الآية فلا حاجة في تفسيرها إلى الرواية، مع ما فيها من الضعف.

فتحصّل: أنّه يخرج بالآية الكريمة عن الأصل الثابت بالأدلّة العقلية والنقلية، فلا يختصّ جواز الانتصار على مورد رجاء تدارك الظلم.

ودعوى: أنّ الآية ليست صريحة في إرادة الإطلاق من هذه الجهة، بل المراد أنّه رفع منعه عن الظلم إلاّ أنّه عن كلّ نوع من الظلم وبكلّ وجه؛ فلا يعلم لها إطلاق(3).

مندفعة: بما عرفت من إطلاق الآية؛ لوجود مقدّمات الحكمة، ولا يلزم في استفادة الإطلاق إلى صراحة الدلالة، فلا تغفل.

هذا مضافاً إلى أنّ جعل المراد هو رفع منعه عن الظلم كما ترى؛ إذ مفاد الآية الكريمة أنّ للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول، ومن المعلوم أنّ الجهر بالسوء من القول ليس بظلم.

عدم جواز الغيبة بذكر ترك الأولى:

إذا كان ذكر ترك الأولى عيباً ستره الله تعالى، عمّته أدلّة حرمة الغيبة؛ ولذلك قال

ص: 489


1- المكاسب المحرّمة / ص 45.
2- مصباح الفقاهة / ص 343.
3- بلغة الطالب / ج 1، ص 130-131.

الشيخ الأعظم قدس سره: «وكذا (أي لا يجوز) لو لم يكن ما فعل به ظلماً بل كان من ترك الأولى، وإن كان يظهر من بعض الأخبار جواز الاشتكاء لذلك»(1). ثمّ روى خبرين:

أحدهما: ما عن الكافي والتهذيب بسندين عن حمّاد بن عثمان قال: دخل رجل على أبي عبدالله عليه السلام فشكا إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكوّ، فقال له أبو عبدالله عليه السلام: «ما لفلان يشكوك ؟»، فقال: يشكوني أنّي استقضيت منه حقّي، قال: فجلس أبو عبدالله عليه السلام مغضباً ثمّ قال: «كأنّك إذا استقضيت حقّك لم تسئ! أرأيتك ما حكى الله عزّ وجلّ فقال: (وَ يَخٰافُونَ سُوءَ اَلْحِسٰابِ )(2) ؟! أترى أنّهم (إنّما - خ ل) خافوا الله أن يجور عليهم ؟! لا والله، ما خافوا إلاّ الاستقضاء، فسمّاه الله عزّ وجلّ (سُوءَ اَلْحِسٰابِ ) ، فمن استقضى فقد أساء»(3).

والخبر ضعيف؛ لجهالة معلّى بن محمّد الواقع في طريق الكافي وجهالة محمّد بن يحيى الصيرفي الواقع في سند التهذيب.

وثانيهما: مرسلة ثعلبة بن ميمون المرويّة عن الكافي، عمّن ذكره، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: كان عنده قوم يحدّثهم، إذ ذكر رجل منهم رجلاً فوقع فيه وشكاه، فقال له أبو عبدالله عليه السلام: «وأنّى لك بأخيك كلّه ؟! وأيّ الرجال المهذّب ؟!»(4).

والخبر ضعيف بالإرسال، وقوله: «وأيّ الرجال المهذّب ؟!» مردّد بين كونه من كلام الإمام عليه السلام أو الراوي، وكيف كان فهو تمثيل.

ص: 490


1- المكاسب المحرّمة / ص 45.
2- سورة الرعد / الآية 21.
3- وسائل الشيعة / ج 18، ص 348، الباب 16 من أبواب الدين والقرض، ح 1.
4- المصدر السابق / ج 12، ص 85، الباب 56 من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

قال العلاّمة المجلسي: «بأخيك كلّه: أي كلّ الأخ التامّ في الاُخوّة؛ أي لا يحصل مثل ذلك إلاّ نادراً، فتوقّع ذلك كتوقّع أمر محال، فارْضَ من الناس بالقليل.

ونقل السيّد (رحمه الله) في كتاب الغرر والدرر عن النابغة:

حلفتُ لم أترك لنفسي ريبة(1) وليس وراء الله للمرء مذهَبُ (2)

لئن كنتَ قد بُلّغتَ عنّي خيانةً لَمُبلغك الواشي أغَشُّ وأكذَبُ (3)

فلست بمستبق أخاً لا تلمّه *** على شعث أىّ الرجال المهذَّبُ (4)»(5).

ثمّ قال الشيخ بعد ذكر الخبرين: «ومع ذلك كلّه فالأحوط عدّ هذه الصورة من الصور العشر الآتية التي رخّص فيها في الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة احترام المغتاب»(6).

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بضعف الخبرين.

هذا مضافاً إلى ما في الرواية الاُولى: من أنّ ظاهرها أنّ الدائن قد تعدّى على المديون، فطلب منه أداء الدين مع عدم وجوب الأداء عليه لعسر أو لغيره، ولا شبهة أنّ ذلك ظلم تباح معه الغيبة - إلى أن قال: - هذا كلّه على النسخة المعروفة التي تبعها صاحب الوسائل والمصنّف في النقل، وأمّا على نسختي الوافي والمستدرك وما ذكره المجلسي عن بعض النسخ القديمة من تبديل الضاد المعجمة في «استقضيت» في الموضعين بالصاد المهملة

ص: 491


1- في جامع الشواهد: «حلفت فلا أترك لنفسك ريبة».
2- في جامع الشواهد: «مطلب» مكان «مذهب».
3- الواشي: النمّام. وأغَشّ - من الغشّ -: أي الخيانة.
4- لا تلمّه: أي لا تجمعه ولا تضمّه. والشعث: شتيت الاُمور.
5- مرآة العقول / ج 12، ص 550.
6- المكاسب المحرّمة / ص 45.

فالرواية تكاد تكون نصّاً فيما ذكرناه؛ فإنّ معنى الاستقصاء في الحقّ : البلوغ إلى الغاية في المطالبة، ومن الواضح أنّ ذلك قد يؤدّي إلى الهتك والظلم فيكون حراماً، وعليه فتكون الرواية من جملة ما دلّ على جواز اغتياب الظالم من قبل المظلوم بذكر أوصافه المحرّمة كما تقدّم.

(ومضافاً إلى ما في الرواية الثانية) أي مرسلة ثعلبة بن ميمون: من أنّ جواب الإمام ظاهر في أنّ الصنع الذي شكا منه الرجل أمر يصيب به جميع الناس، وليس يوجد من لا يصيب به إلاّ الأوحدي، وعليه فيخرج هذا عن موضوع الغيبة؛ فقد عرفت أنّها كشف ما ستره الله(1).

فإذا كان الصنع المذكور شائعاً وصادراً من جميع الناس فليس هو أمراً مستوراً، فالخبران أجنبيّان عن المقام، فلا دليل على جواز ذكر ترك الأولى إذا كان ذكر عيب ستره الله تعالى؛ لما عرفت من عموم دليل حرمة الغيبة وعدم وجود المخصّص، فالأصل فيه هو الحرمة. نعم، لو طرأ عليه عنوان له مصلحة أهمّ كان ذكر ترك الأولى جائزاً.

المقام الخامس: في حكم استماع الغيبة

اشارة

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «يحرم استماع الغيبة بلا خلاف؛ فقد ورد أنّ السامع للغيبة أحد المغتابين، والأخبار في حرمته كثيرة، إلاّ أنّ ما يدلّ على كونه من الكبائر - كالرواية المذكورة ونحوها - ضعيفة السند»(2).

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «الظاهر أنّه لا خلاف بين الشيعة والسنّة في حرمة

ص: 492


1- انظر: مصباح الفقاهة / ص 346-347.
2- المكاسب المحرّمة / ص 46.

استماع الغيبة، ولكنّا لم نجد دليلاً صحيحاً يدلّ عليها بحيث يكون استماع الغيبة من المحرّمات فضلا عن كونه من الكبائر؛ إذ ما ورد في حرمته من طرق الخاصّة ومن طرق العامّة كلُّه لا يخلو عن الإرسال وضعف السند، فلا يكون قابلاً للاستناد إليه»(1).

وكيف كان، فعمدة ما استدلّ به للحرمة اُمور:

منها: النبوىّ المعروف المنقول عن تفسير أبي الفتوح الرازي أنّه صلى الله عليه وآله قال: «السامع للغيبة أحد المغتابين»(2).

وقد عرفت استدلال الشيخ به - لولا ضعف سنده - على كون استماع الغيبة من الكبائر، ولعلّ وجه الاستدلال: هو ظهور «المغتابين» في صيغة التثنية، فحينئذ يدلّ على تنزيل المستمع منزلة القائل في الحرمة وكونها كبيرة.

ثمّ إنّ الوجه في ظهوره في التثنية: ورود هذا التركيب بصيغة التثنية كثيراً، مثل: «القلم أحد اللسانين» و «التراب أحد الطهورين».

واستشكل عليه في بلغة الطالب بأنّه: «لا دليل على اعتبار الغلبة في ثبوت الظهور بمجرّد ذلك، والأولى أن يقال: إنّ مثل الكلام ناظر إلى دفع توهّم يقال: إنّ وزر الغيبة لا يصيب إلاّ القائل، وأمّا المستمع فلم يصدر منه شيء. وفي مقام دفع هذا التوهّم يقال: إنّ السامع لا ينقص عن المتكلّم، بل هو بمنزلة المتكلّم للغيبة وكأنّه الصادر منه الغيبة، وهذا مثل أن يقول: «المعين على القتل أحد القاتلين» و «المشير إلى الصيد أحد الصائدين»؛ يعني: أنّ بنفس إشارته وإعانته واستماعه يزيد على العدد الموجود واحد، فيصير

ص: 493


1- مصباح الفقاهة / ص 357-358.
2- مستدرك الوسائل / الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، ح 7.

اثنان»(1)؛ فمن هذه الجهة يقوى ظهوره في التثنية.

ويعتضد ذلك: بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره من أنّ إرادة الجمع بعيد؛ لعدم فائدة في ذكر الجمع لإفادة هذا المعنى(2). وعليه فصيغة «المغتابين» هي صيغة تثنية، ويكون تنزيل المستمع منزلة المتكلّم في صدور الغيبة والتنزيل يفيد الحرمة بل كونها كبيرة.

ثمّ إنّه يشكل ذلك: بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره من أنّ هذا اللسان كأنّه ينافي التنزيل بلسان إثبات الموضوع؛ لأنّ لسان إثباته يقتضي أن يكون بإيقاع الهوهوية لا الاثنينية والتغاير كما في الرواية.

نعم، لو كان المراد به جعل العَدل للمغتاب فكأنّه قال: السامع مغتابٌ آخر عدلُ المغتاب، وعليه لا تبعد تمامية دلالته بأن يقال: إنّ إطلاق العدلية يقتضي الاشتراك في جميع الآثار والأحكام(3).

ولكن لا يخلو ذلك أيضاً عن الإشكال؛ لعدم ثبوت عموم التنزيل أو عموم العدلية، وعليه فلا يستفاد من الرواية المذكورة كون الاستماع من الكبائر ولو مع الغمض عن السند، فلا تغفل.

ومنها: ما رواه في المستدرك عن جامع الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال: «ما عمر مجلسٌ بالغيبة إلاّ خرب من الدين، فتنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة؛ فإنّ القائل والمستمع لها شريكان في الإثم»(4).

ص: 494


1- بلغة الطالب / ج 1، ص 136.
2- المكاسب المحرّمة / ص 298.
3- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 298.
4- مستدرك الوسائل / الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، ح 32.

بدعوى: أنّ اشتراكهما في الإثم يدلّ على حرمة استماع الغيبة، بل إطلاق الاشتراك يدلّ على كونها كبيرة.

وفيه: أنّ هذه الرواية من المرسلات، ودعوى كون مرسلات الصدوق معتبرةً ممنوعةٌ إلاّ في مرسلات من لا يحضره الفقيه، على إشكال فيها أيضاً. هذا مضافاً إلى عدم ثبوت كونها من مرسلات الصدوق؛ لأنّ مؤلّف جامع الأخبار مردّد بين عدّة أشخاص، فراجع(1).

ومنها: ما رواه في الاختصاص من أنّه: نظر أميرالمؤمنين عليه السلام إلى رجل يغتاب رجلاً عند الحسن ابنه عليه السلام، فقال: «يا بنيّ ، نزّه سمعك عن مثل هذا؛ فإنّه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك»(2).

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «ربّما يدّعى كونه رواية مسندة قد أرسلها صاحب الاختصاص للاختصار، فيدلّ ذلك على وثاقة رواتها المحذوفين عنده؛ إذ فرق بين كلمة «روي عنه كذا» وبين كلمة «قال فلان كذا»؛ فإنّ القول الأوّل ظاهر في كون المنقول مرسلاً دون الثاني، وعليه فهي رواية معتبرة تدلّ على حرمة استماع الغيبة.

ولكن يرد عليه: أنّ ثبوت الاعتبار عنده لا يستلزم ثبوته عندنا؛ إذ لعلّه يعتمد على ما لا نعتمده»(3).

وفيه: أنّ الكتاب لو كان للشيخ المفيد وكشفنا اعتماده على الرواة من جهة نسبته إلى أميرالمؤمنين عليه السلام بالجزم لصحّ الاعتماد عليه؛ لأنّه في حكم الشهادة؛ لقرب عهده بحال

ص: 495


1- انظر: المصدر السابق / ج 3، ص 366.
2- المصدر السابق / الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، ح 5.
3- مصباح الفقاهة / ص 358.

الرواة، ولا يسأل في الشهادة عن أسبابها، إلاّ أنّ الكلام في صحّة نسبة الكتاب إلى الشيخ المفيد لنقله فيه عن ابن الوليد، مع أنّ سنين عمره لا تصلح للنقل عنه، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: من أنّ في متنها إشكالاً؛ لأنّ نهيه عليه السلام ابنه عليه السلام إن كان من استماع الغيبة المحرّمة - والعياذ بالله - كانت الرواية مخالفة لاُصول المذهب؛ ضرورة أنّ الحسن بن علىّ (عليهما السلام) لا يستمع إليها، وإن كان من الاستماع الجائز فلا تدلّ على المقصود، فهي مطروحة أو غير دالّة(1).

وحاصله: أنّه لا يستفاد من الرواية حرمة الاستماع بعد أن احتمل أنّ النهي عن الاستماع الجائز لمرجوحيّته. نعم، لو قلنا: إنّ المراد من قول الراوي: «رجل يغتاب رجلاً عند الحسن ابنه عليه السلام» أنّ رجلاً يريد أن يغتاب رجلاً عند الحسن بن عليّ (عليهما السلام) فنهى أميرالمؤمنين عليه السلام ابنه عن استماع كلامه، فلا يبقى إشكال في تمامية دلالته، ولكن عرفت عدم ثبوت نسبة الكتاب إلى الشيخ المفيد قدس سره، فتدبّر جيّداً.

ومنها: ما ورد عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام - في حديث المناهي -: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع إليها، وقال: لا يدخل الجنّة قتّات - يعني نمّاماً - ونهي عن الغيبة وقال: من اغتاب امرءاً مسلماً - إلى أن قال: - ألا ومن تطوّل على أخيه في غيبة سمعها في مجلس فردّها عنه؛ ردّ الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة، فإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة»(2).

وفيه: اوّلاً: أنّه ضعيف السند؛ لجهالة شعيب بن واقد الواقع في طريقه.

ص: 496


1- المكاسب المحرّمة / ص 294.
2- وسائل الشيعة / ج 12، ص 282، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 13.

وثانياً - كما في مصباح الفقاهة -: أنّ صدره وإن كان ظاهراً في الحرمة مطلقاً، إلاّ أنّ ذيله قرينة على حرمة الاستماع مع عدم الردّ فقط، وعليه فالرواية أخصّ ، وحمل الذيل على السماع القهري خلاف الظاهر منها، على أنّه أمر نادر.

وثالثاً: أنّ حديث المناهي لاشتماله على الاُمور الأخلاقية - ككون الغيبة موجبة لبطلان الوضوء والصوم - لا يدلّ على أزيد من النهي التنزيهي والإرشاد إلى الجهات الأخلاقية.

أللهمّ إلاّ أن يقال: - كما في مصباح الفقاهة -: إنّ ما ثبت كونه راجعاً إلى الأخلاقيّات تُرفع اليد فيه عن ظهور النهي في الحرمة، وأمّا غيره فيؤخذ بظهوره لا محالة، كما حقّق في محلّه(1).

ومنها: الأحاديث العديدة الدالّة على أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم، ومن جملتها: صحيحة أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام: «ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه»(2)، وموثّقة طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن علىّ عليهم السلام قال: «العامل بالظلم والراضي به والمعين عليه؛ شركاء ثلاثة»(3).

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى؛ وهو حرمة مطلق الاستماع سواء كان مع الرضا أم بدونه، وهي غير مستفادة من هذه الأحاديث؛ حيث إنّ مفادها: أنّه لو استمع ولم يرضَ بالغيبة لم يرتكب محرّماً، وهو خلاف المدّعى.

ومنها: أنّ المبغوض هو كشف الستر اختياراً، وهو مبغوض في ذاته، ولا دخالة

ص: 497


1- مصباح الفقاهة / ص 358.
2- وسائل الشيعة / ج 16، ص 138، الباب 5 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 4.
3- المصدر السابق / ص 139، ح 6.

لصدورها من مكلّف خاصّ في المبغوضية، وعليه فهذا المبغوض يوجب مبغوضية أسبابه من الذكر والاستماع، فإذا علم السامع أنّ المتكلّم يريد تحقّق هذا المبغوض وجب عليه الامتناع عن الاستماع؛ لأنّه مبغوض ذاتاً.

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ ما ذكر لا يكفي لإثبات الحرمة لعنوان الاستماع؛ فإنّه سبب أو ملازم للمحرّم، وما هو محرّم كشف الستر اختياراً، إلاّ أن يقال: إنّ الكشف المبغوض صار سبباً لجعل الحكم على الغيبة والاستماع، تأمّلْ ، أو يقال: إنّ ذلك التحليل والتجزئة عقليّ ، والعرف يفهم من الأدلّة حرمة الاغتياب والاستماع المتّحدين مع الكشف، تدبّرْ(1).

وعلى الأخير من كلامه تكون حرمة الكشف عين حرمة الغيبة والاستماع؛ لاتّحادهما مع الكشف عرفاً. وإن أبيت عن ذلك فلا إشكال في أنّ حرمة كشف الستر توجب الاحتراز عن أسبابه شرعاً - بناءً على وجوب المقدّمة - أو عقلاً، وعلى كلا التقديرين يجب الاجتناب عن أسبابه. ولعلّه إليه أشار سيّدنا الإمام المجاهد حيث قال: «إلاّ أن يقال...» إلخ. ولعلّ وجه تأمّله عدم ثبوت وجوب المقدّمة شرعاً عنده قدس سره.

ومنها: مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اُذناه؛ فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )(2) »(3). ورواها الصدوق مسندة.

وتقريبها - كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره -: بأنّ الظاهر من قوله: «فهو من

ص: 498


1- المكاسب المحرّمة / ص 295.
2- سورة النور / الآية 19.
3- وسائل الشيعة / ج 12، ص 280، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 6.

الذين...» إلخ، هو أنّ المغتاب مصداق حقيقيّ للآية الكريمة، والتنزيل الموضوعي بلحاظ الحكم خلاف ظاهره؛ لأنّه مجاز يحتاج إلى التأوّل والدعوى، فتكون الرواية مفسّرة للآية بتعميمِ الحبّ للعمل الناشئ من الرضا والإرادة، وتعميمِ الشياع لمطلق النشوء والنشر الشاملين للذكر عند واحد كما هو مقتضى إطلاق الرواية، فيصير مفاد الآية شاملاً لكلّ عمل اختياريّ موجب لنشوء الفاحشة ورفع الستر عنها في الجملة، فتشمل السامع كما تشمل المغتاب بلا افتراق بينهما؛ لأنّ السامع أيضاً عمل بفعله الاختياري - وهو الاستماع - ما هو موجب لنشوء الفاحشة ورفع الستر عنها، وليس مفاد الآية حرمة إشاعة الفاحشة حتّى يقال إنّ الإشاعة عرفاً من فعل المغتاب، بل مفادها حبّ شيوعها، وهو أعمّ من الإشاعة. وبالجملة: بعد تحكيم الرواية على الآية تفسيراً وتوضيحاً تدلّ الآية على حرمة الاستماع وكونه من الكبائر».

ثمّ ناقش سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره فيه: «بأنّ الظاهر من الرواية وإن كان الاندراج الحقيقي، لكنّ حملَ الآية على ما ذكر والتصرّف في الحبّ والشياع بما ذكر خلافُ ظاهر بل ظاهرين، فدار الأمر: بين ارتكاب خلافِ ظاهر واحد شائع في الشرع والعرف، وهو التنزيل الحكمي بلسان الاندراج الموضوعي مع قيام قرينة عقلية عليه وهو عدم كون الاغتياب داخلاً في مفادها وجداناً، وبين ارتكاب خلافِ ظاهرَين بعيدين عن الأفهام غريبين عن الأذهان بلا قرينة في نفس الآية الكريمة، ولا شبهة في تعيّن الأوّل، فعليه فيكون مفاد الرواية: تنزيل المغتاب منزلة الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة. نعم، مقتضى إطلاقها كون الغيبة كبيرة دون استماعها»(1). بل ليس للآية الكريمة حينئذ تعرّض لحرمة الاستماع، فضلا عن كونه كبيرة.

ص: 499


1- المكاسب المحرّمة / ص 295-296.

ومنها: أنّ الغيبة لا تتحقّق إلاّ بالمستمع، وعليه فما دلّ على حرمة الغيبة يدلّ على حرمة الاستماع.

وأورد عليه في مصباح الفقاهة: بأنّ حرمة الغيبة لا تلازم حرمة الاستماع وإن كان بينهما تلازم خارجاً؛ فإنّ التلازم في الخارج لا يستدعي التلازم في الحكم، وقد جاز سماع الغيبة للردّ جزماً(1).

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الاستماع ممّا لا تتحقّق الغيبة إلاّ به، وعليه فالاستماع مقدّمة، وتترتّب عليه أحكامها من الحرمة الشرعية أو العقلية. وأمّا جواز الاستماع للردّ: فلتزاحم مصلحة الردّ مع مفسدة الغيبة، وترجيحِ الاُولى وأهمّيّتها على الثانية.

ومنها: أخبار وجوب ردّ الغيبة؛ بدعوى أنّها تدلّ على حرمة الاستماع مع عدم الردّ. والأخبار في هذا المضمون متعدّدة:

كخبر أنس بن محمّد، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام (في وصيّة النبىّ صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام): «يا عليّ ، من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره؛ خذله الله في الدنيا والآخرة»(2).

ومعتبرة أبي الورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه؛ نصره الله وأعانه في الدنيا والآخرة. ومن لم ينصره ولم يعنه ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه؛ إلاّ خفضه الله في الدنيا والآخرة»(3).

وصحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبدالله عليه السلام: «... وما من مؤمن يخذل أخاه

ص: 500


1- مصباح الفقاهة / ص 360.
2- وسائل الشيعة / ج 12، ص 291، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، ح 1.
3- المصدر السابق / ح 2.

وهو يقدر على نصرته؛ إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة»(1).

وظاهر الرواية أنّ الخاذل هو المؤمن؛ لقراءة «أخاه» بالنصب، مع أنّ الظاهر بقرينة ذيلها «وهو يقدر على نصرته» هو قراءة الرفع؛ أي يُخذَلُ أخوه، وأنّ الخاذل غيره، فتدبّر.

وما رواه في عقاب الأعمال - في عيادة المريض - عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال في خطبة له: «ومن ردّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس؛ ردّ الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة، فإن لم يردّ عنه وأعجبه كان عليه كوزر من اغتاب»(2).

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على وجوب ردّ الغيبة والانتصار للمغتاب، بالفتح.

وأورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: بأنّها أجنبيّة عن الدلالة على حرمة الاستماع، كما هي أجنبيّة عن الدلالة على جوازها، بل تدلّ على أنّه لو سمع الغيبة يجب عليه الردّ(3).

أللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ غير الرواية الأخيرة مطلق؛ فيشمل الاستماع أيضاً. ولكنّ الإنصاف أنّه بملاحظة الحكم والموضوع تكون الأخبار ظاهرة في السماع لا الاستماع الاختياري.

ومنها: أنّه إذا اتّصل إلاجماع والاتّفاق إلى زمان المعصوم عليه السلام، فإنّ ذلك يكفي لكشف تقرير المعصوم عليه السلام لما أجمعوا عليه وإن استندوا فيه إلى استدلالات غير تامّة؛ لما قرّر في محلّه من وجوب إرشادهم لو لم يكن كذلك، فعند عدم إرشادهم إلى غيره يكشف ذلك عن تقريره لما ذهبوا إليه. فالأظهر هو حرمة الاستماع، بل لا يبعد القول بكونه من

ص: 501


1- المصدر السابق / ص 292، ح 4.
2- المصدر السابق / ح 5.
3- المكاسب المحرّمة / ص 297.

الكبائر؛ لأنّ هتك المؤمن إثم عظيم.

نعم، لو كان المغتاب - بالفتح - متجاهراً فلا بأس بالاستماع؛ لعدم تحقّق الهتك مع التجاهر.

فروع:

الأوّل: في حكم عدم الملازمة بين جواز الغيبة بالإكراه وجواز الاستماع

الأوّل: لو جاز للمغتاب - بالكسر - اغتياب الناس بسبب الإكراه فلا يجوز لغيره استماع الغيبة عنه، وهكذا جواز الاستماع للمكره لا يلازم جواز الغيبة لمن لا يكون مكرهاً؛ فإنّ ارتفاع الحكم عن أحدهما لا يستلزم ارتفاعه عن الآخر، فلا ملازمة بين الطرفين. نعم، لو كانت ملازمة عرفية بين جواز الغيبة وجواز الاستماع إليها كتظلّم المظلوم فلا مانع من الاستماع، فالنسبة بين جواز الغيبة وجواز الاستماع هي العموم من وجه؛ إذ قد تحرم الغيبة دون الاستماع كالمكره على الاستماع، وقد يحرم الاستماع دون الغيبة كما إذا كان المتكلّم معذوراً في ذلك دون المستمع، وقد يجتمعان ويحرمان.

الثاني: في حكم غيبة من يكون متجاهراً عند المغتاب بالكسر ومستوراً عند المستمع

الثاني: لو كان متجاهراً عند المغتاب - بالكسر - مستوراً عند المستمع وقلنا بجواز الغيبة حينئذ للمتكلّم، فهل يجوز الاستماع حينئذ مع احتمال كون المغتاب متجاهراً عند المتكلّم أو لا يجوز؟

المحكي عن بعض جواز الاستماع مع احتمال كونه متجاهراً عند المتكلّم، ويمكن القول بحرمة استماع هذه الغيبة مع فرض جوازها للقائل؛ لأنّ السامع أحد المغتابين، فكما أنّ المغتاب يحرم عليه الغيبة إلاّ إذا علم التجاهر المسوّغ، فكذلك السامع يحرم عليه الاستماع إلاّ إذا علم التجاهر. وأمّا نهي القائل فغير لازم مع دعوى القائل العذر المسوّغ، بل مع احتماله في حقّه وإن اعتقد الناهي عدم التجاهر، نعم لو علم عدم اعتقاد

ص: 502

القائل بالتجاهر وجب ردعه.

هذا ولكنّ الشيخ الأعظم قدس سره ذهب في نهاية المطاف إلى جواز الاستماع حيث قال: «الأقوى جواز الاستماع إذا جاز للقائل؛ لأنّه قول غير منكر، فلا يحرم الإصغاء إليه؛ للأصل. والرواية (أي: «السامع أحد المغتابين») على تقدير صحّتها تدلّ على أنّ السامع لغيبة كقائل تلك الغيبة؛ فإن كان القائل عاصياً كان المستمع كذلك، فيكون دليلاً على الجواز فيما نحن فيه.

نعم، لو استُظهر منها أنّ السامع للغيبة كأنّه متكلّم بها؛ فإن جاز للسامع التكلّم بغيبة جاز سماعها وإن حرم عليه حرم سماعها أيضاً، كانت الرواية - على تقدير صحّتها - دليلاً للتحريم فيما نحن فيه. لكنّه خلاف الظاهر من الرواية على تقدير قراءة «المغتابين» بالتثنية، وإن كان هو الظاهر على تقدير قراءته بالجمع، لكنّ هذا التقدير خلاف الظاهر، وقد تقدّم في مسألة التشبيب أنّه إذا شكّ السامع في حصول شرط حرمته من القائل لم يحرم استماعه»(1).

ولعلّ الوجه في قوله: «لكنّه خلاف الظاهر من الرواية على تقدير قراءة «المغتابين» بالتثنية» أنّ التنزيل بين السامع والقائل لا بين استماع السامع وتكلّمه بالغيبة. نعم، لا يبعد دعوى ظهوره في ذلك لو كانت قراءته بالجمع؛ لأنّ جعله أحد المغتابين - بصيغة الجمع - مشعر بكون استماعه في حكم الغيبة، ولكن لا قرينة على قراءة الجمع.

وكيف كان، فقد أورد عليه في مصباح الفقاهة بقوله: قد ذكرنا في محلّه أنّ عنوان المخصّص إذا كان أمراً وجوديّاً فإنّه ينفى بالأصل الموضوعي في مورد الشكّ ، وينقّح به موضوع التمسّك بالعامّ ، ولا يلزم منه التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، وكذلك في

ص: 503


1- المكاسب المحرّمة / ص 46.

المقام: إذا شككنا أنّ المقول فيه جائز الغيبة عند القائل أم لا نستصحب عدمه (باستصحاب عدم كونه متجاهراً) وينقّح به موضوع التمسّك بعموم ما دلّ على حرمة استماع الغيبة - على تقدير ثبوته - وبعموم ما دلّ على وجوب ردّ الغيبة.

هذا مضافاً إلى أنّ المتعارف من أفراد الغيبة هو أنّ السامع لا يعلم نوعاً بحال المقول فيه، والظاهر من الروايات الدالّة على وجوب ردّ الغيبة أنّ ذلك هو المراد؛ إذ لو حملناها على خصوص ما إذا علم السامع بكون المقول فيه غير جائز الغيبة كان ذلك حملاً لها على المورد النادر(1).

ولقد أفاد وأجاد، إلاّ أنّ ذلك وجيه فيما إذا كان هناك عموم أو إطلاق لفظىّ ، وأمّا إذا لم يكن كما في حرمة استماع الغيبة - وقد أشار إليه بقوله: «على تقدير ثبوته» - فالدليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن؛ فلا عموم حتّى يقال: إنّ الأصل ينقّح موضوع الدليل العامّ الدالّ على الحرمة. نعم، لا يترك الاحتياط بترك الاستماع فيما إذا كان متجاهراً عند المغتاب - بالكسر - ومستوراً عند المستمع.

الثالث: يجب عند الاغتياب أمران: أحدهما: نهي المغتاب بالكسر وثانيهما: ردّ الغيبة

الثالث: يجب عند الاغتياب أمران: أحدهما: نهي المغتاب - بالكسر - وثانيهما: ردّ الغيبة. والنسبة بينهما هي العموم من وجه:

إذ قد يجب النهي عن الغيبة لوجوب النهي عن المنكر إذا لم يكن جائز الغيبة عند القائل، ولا يجب ردّها لكون المقول فيه جائز الغيبة عند السامع.

وقد يجب ردّ الغيبة ولا يجب النهي عن الغيبة، كما إذا كان المغتاب - بالكسر - صبيّاً؛ فإنّ فعله ليس بمنكر كي يجب النهي عنه، إلاّ أنّه يجب على السامع حينئذ ردّ الغيبة؛ حفظاً لاحترام أخيه المؤمن.

ص: 504


1- انظر: مصباح الفقاهة / ص 363.

وقد يجتمعان، كما إذا علم السامع بكون الاغتياب حراماً؛ فإنّه من حيث كونه منكراً يجب النهي عنه، ومن حيث كونه هتكاً للمؤمن يجب ردّه.

الرابع: المراد من ردّ الغيبة هو انتصار المغتاب بالفتح

الرابع: إنّ المراد من ردّ الغيبة هو الانتصار للمغتاب - بالفتح - بما يناسب تلك الغيبة. ولا كلام فيه، وإنّما الكلام في كيفيّة الانتصار المذكور:

قال الشيخ الأعظم قدس سره: «إن كان عيباً دنيويّاً انتصر له: بأنّ العيب ليس إلاّ ما عاب الله به من المعاصي التي من أكبرها ذكرك أخاك بما لم يعبه الله به. وإن كان عيباً دينيّاً وجّهه بمحامل تخرجه عن المعصية، فإن لم يقبل التوجيه انتصر له: بأنّ المؤمن قد يبتلى بالمعصية، فينبغي أن تستغفر له وتهتمّ له، لا أن تعيّر عليه؛ وإنّ تعييرك إيّاه لعلّه أعظم عند الله من معصيته، ونحو ذلك»(1).

ولا يخفى عليك أنّ الفقرة الاُولى - أي قوله: «إن كان عيباً دنيويّاً...» إلخ - ترجع إلى تصديق القائل، بل سائر الفقرات لا تخلو عن ذلك.

وقال في بلغة الطالب: «وأحسن من ذلك ما ذكره العلاّمة الاُستاذ التقيّ قدس سره: من التكذيب وأنّ نسبته إليه مخالف للواقع؛ معتمداً في ذلك إلى أصالة عدم وقوع ذلك منه وعدم صدوره، وحملاً لفعل المسلم على الصحيح، فيحكم بكذب مدّعيه وكون كلامه مخالفاً للواقع؛ مستشعراً ذلك من قوله تعالى: (لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قٰالُوا هٰذٰا إِفْكٌ مُبِينٌ )(2) ، وقوله تعالى: (لَوْ لاٰ جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ )(3) ، وقوله

ص: 505


1- المكاسب المحرّمة / ص 46-47.
2- سورة النور / الآية 12.
3- سورة النور / الآية 13.

تعالى: (وَ لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهٰذٰا سُبْحٰانَكَ هٰذٰا بُهْتٰانٌ عَظِيمٌ )(1) . بل الظاهر تعيّن هذا الوجه بالنسبة إلى ما في الكتاب؛ لأنّ ما في الكتاب من الانتصار راجع إلى تصديق القائل، وهو محرّم. نعم، إن لم يتمكّن من التكذيب تعيّن ما في الكتاب على وجه لا يرجع إلى تقرير القائل وتصديقه»(2).

ولعلّ وجه التعبير بالإشعار: أنّ مورد الآيات هو البهتان لا الغيبة.

ثمّ إنّ الظاهر من كلام شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره هو تقديم التوجيه على التكذيب، حيث قال: «وتفصيل القول فيه: أنّه بعد عدم إمكان النهي عن أصل الغيبة واستماع القضيّة يدور الأمر في انتصار المغتاب - بالفتح -: بين تصديق أصل القضيّة والصيرورة بصدد توجيهها وتصحيحها على وجه يبرّئ ذيل المغتاب - بالفتح - عن لوث المعصية، وبين تكذيب أصل الوقوع. ومن المعلوم أنّ الانتصار في الأوّل أزيد من الثاني»(3).

فتحصّل: أنّه إن أمكن انتصار المغتاب بما يبرّئ ذيله عن لوث المعصية؛ فهو مقدّم.

وإن لم يمكن ذلك وأمكن التكذيب معتمداً فيه على أصالة عدم وقوع ذلك وحملاً لفعل المسلم على الصحيح؛ فعليه أن يحكم بكذب مدّعيه وكون كلامه مخالفاً للواقع.

وإن لم يمكن التكذيب لقيام قرينة قطعية على وقوع ذلك؛ فما أفاده الشيخ متعيّن، فلا تغفل.

الخامس: في حكم ذي اللسانين

الخامس: لا يخفى عليك أنّ الشيخ الأعظم قدس سره قال: قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممّن يمدح المغتاب في حضوره، وهذا وإن كان في نفسه مباحاً إلاّ أنّه إذا انضمّ مع

ص: 506


1- سورة النور / الآية 16.
2- بلغة الطالب / ج 1، ص 137-138.
3- المكاسب المحرّمة / ص 246.

ذمّه في غيبته سمّي صاحبه ذا اللسانين، وتأكّد حرمته؛ ولذا ورد في المستفيضة أنّه: «يجيء ذو اللسانين يوم القيامة وله لسانان من النار»(1)؛ فإنّ لسان المدح في الحضور وإن لم يكن لساناً من النار إلاّ أنّه إذا انضمّ إلى لسان الذمّ في الغياب صار كذلك.

وعن المجالس بسنده عن حفص بن غياث، عن الصادق عن آبائهعن عليّ عليهم السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مدح أخاه المؤمن في وجهه واغتابه من ورائه فقد انقطع ما بينهما من العصمة»(2).

وعن الباقر عليه السلام: «بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين؛ يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن اُعطي حسده، وإن ابتلي خذله»(3)»(4).

وأشار بقوله: «ورد في المستفيضة» إلى أخبار متعدّدة تدلّ على تضاعف عقاب ذي اللسانين، منها: موثّقة عمرو بن خالد، عن زيد بن عليّ ، عن آبائه، عن عليّ عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان ناراً حتّى يلهبا جسده، ثمّ يقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين ولسانين؛ يعرف بذلك يوم القيامة»(5).

وقد تتضاعف عقوبة الغيبة بذكر سوء ليس في المغتاب، بناءً على أنّ الغيبة «هي

ص: 507


1- انظر: وسائل الشيعة / ج 12، ص 260، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، ح 9.
2- المصدر السابق / ح 10.
3- المصدر السابق / ص 257، ح 2.
4- انظر: المكاسب المحرّمة/ ص 47. وفيه: «عن الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، عن علىّ عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مدح أخاه المؤمن في وجهه واغتابه من ورائه فقد انقطعت العصمة بينهما»». على أنّنا نقلنا الرواية كما وردت في الوسائل.
5- وسائل الشيعة / ج 12، ص 258، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، ح 5.

ذكرك أخاك بما يكرهه»؛ فإنّه أعمّ من الغيبة.

قال الشيخ الأعظم قدس سره: واعلم أنّه قد يطلق الاغتياب على البهتان؛ وهو أن يقال في شخص ما ليس فيه، وهو أغلظ تحريماً من الغيبة، ووجهه ظاهر؛ لأنّه جامع بين مفسدتي الكذب والغيبة. ويمكن القول بتعدّد العقاب من جهة كلّ من العنوانين والمركّب. وفي رواية علقمة عن الصادق عليه السلام: «حدّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنّة أبداً، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب في النار خالداً فيها وبئس المصير»(1).(2)

وظاهره صدق الغيبة على ما ليس في المغتاب، وهو مبنيّ على أنّ الغيبة «هي ذكرك أخاك بما يكرهه»، وقد مرّ عليك أنّ تعريفها: «هي أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه». وهذا التعريف يدلّ على أنّ الغيبة لا تتحقّق بدون عيب مستور، وعليه فكيف يمكن أن تطلق الغيبة على مورد البهتان مع أنّ المأخوذ فيه هو ذكر الأخ بما ليس فيه، بل هما متباينان مفهوماً ومصداقاً ولا يجتمعان ؟! وكيف يتصوّر تعدّد العقاب من جهة تعدّد العنوان مع أنّهما متباينان ؟!

قال في مصباح الفقاهة: «أمّا إطلاق الغيبة على البهتان في رواية علقمة فبنحو من المسامحة والتجوّز، على أنّها ضعيفة السند. وأمّا كون عقاب التهمة أشدّ من الغيبة فلاشتمالها على الفرية والهتك معاً»(3).

ص: 508


1- المصدر السابق / ص 285، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 20.
2- انظر: المكاسب المحرّمة / ص 47. وفيه بدل الذيل: «وكان المغتاب خالداً في النار وبئس المصير». لكنّنا نقلنا الرواية كما وردت في الوسائل.
3- مصباح الفقاهة / ص 364.

ولا منافاة بينهما، إلاّ أنّ اجتماع العنوانين - أي البهتان والغيبة - كما ترى؛ إذ البهتان هو الفرية، والهتك من لوازمها. نعم، لا منافاة بين كون البهتان عنواناً واحداً ومع ذلك تكون عقوبته أشدّ من الغيبة من جهة لوازمها، كما تدلّ عليه رواية علقمة لو أغمضنا عن ضعف سندها، فتدبّر.

السادس: في حكم الشبهة الموضوعية

السادس: في حكم الشبهة الموضوعية: قال شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره: «قد عرفت بعضاً من القيود المأخوذة في مفهوم الغيبة؛ من الإسلام والإيمان والكراهة، وبعضاً منها في حكمها؛ من عدم التجاهر وعدم التظلّم وعدم المبتدعية، فمع العلم بثبوت الجميع أو انتفاء البعض لا كلام، أمّا لو شكّ في واحد منها فقد يقال: إنّ الشبهة موضوعية في القسم الأوّل، ومصداقية في الثاني، وقد تقرّر في محلّه عدم الرجوع فيهما إلى عموم العامّ ، بل المرجع أصالة البراءة العقلية والشرعية. لكن قد استثنوا من هذه الكلّية باب الدماء والفروج والأعراض؛ لأنّ اهتمام الشارع بحفظ تلك مانعٌ عن الترخيص في الاقتحام في شبهاتها، وكاشفٌ عن إيجاب الاحتياط؛ فلهذا لو رأيت شبحاً من بعيد ولم تعلم أنّه مهدور الدم أو محقونه لا يجوز لك رميه.

وهذا مخدوش: أوّلاً: بأنّه ما الفرق بين أصل الإباحة وسائر الاُصول ؟ وقد رأيناهم يعملون في هذه الموارد بالاستصحاب، كما في استصحاب عدم تحقّق الرضاع المحرّم أو النسب بينك وبين امرأة تشكّ أنّها اُختك أو رضيعتك، فيحكمون بصحّة تزويجها، والاهتمام المذكور لو كان هو المانع عن إجراء أصل الإباحة لكان مانعاً عن إجراء الاستصحاب.

وثانياً: أنّ الاهتمام إن صار مقطوعاً كان كذلك، لكن أنّى لنا باستكشافه ؟! ومجرّد احتمال الاهتمام غير منجّز عقلاً، ولا فرق بينه وبين احتمال أصل التكليف في كون

ص: 509

العقاب عليه بلا نصب دلالة من الشارع عليه قبيحاً، كيف ؟! وإلاّ فلا مفرّ لك من الاحتمال في شيء من الوقائع الموضوعية والحكمية، فالمائع المردّد بين الماء والخمر؛ والتتن المردّد حكمه بين الحرمة والحلّية، تشربهما، وأنّى لك بالقطع بعدم الاهتمام من الشرع في هذين التحريمين على تقدير ثبوتهما في الواقعة ؟!

هذا، والحقّ أن يقال: إنّه في أمثال هذه المقامات لا شبهة موضوعية أو مصداقية في البين، ويمكن التمسّك بنفس الدليل؛ وذلك أنّ الدليل متكفّل لإثبات الحرمة والاحترام والرعاية والحفظ في هذه الموضوعات الواقعية، ففي صورة الشكّ في تحقّق الموضوع وعدمه وإن كان الشكّ من جهة نفس الموضوع شكّاً في الموضوع، لكن ما هو المضاف إلى هذا الموضوع من الاحترام والحفظ منقّح الموضوع؛ فإنّ حفظ الشيء من التلف يصدق حقيقةً في مورد احتماله، كما أنّ عدم المبالاة فيه صادق حقيقةً على ترك الحفظ ولو لم يكن لنفس الشيء تحقّق وواقعية.

وبالجملة: حال الحفظ حال الاحتياط؛ فكما أنّه صادق في مورد احتمال الضرر ولو لم يكن ضرر واقعاً، وتركه تهوّر كذلك أيضاً، ولا يدور شيء منهما مدار وجود الواقع بل الاحتمال هو الدخيل التامّ في صدقهما، فكذلك الحفظ ورعاية الجانب، فإذا رأيت شخصاً واحتملت كونه مسلماً ورميته فقد صدق عليك أنّك ما حافظت عن نفس المسلم، وصرت بمقام تعريضه في الخطر، فأنت فاعل للحرام وإن كان المرميّ كافراً واقعاً... وعلى هذا فلا مساغ للرجوع إلى أصل البراءة، لكن لا ينافي هذا مع جريان الأصل المنقّح للموضوع نفياً وإثباتاً، فإذا كان عدم الضرر له الحالة السابقة يجري الاستصحاب... وهكذا في مقامنا لو كان مسبوقاً بالكفر أو عدم الإيمان أو التجاهر أو عدم الكراهة جاز استصحاب ذلك - إلى أن قال: - إذا عرفت ذلك فنقول:

ص: 510

كما يقال في الأصل الحاكم بالنسبة إلى الأصل المحكوم: إنّ الأوّل بلسان إثبات الواقع لا في موضوع الشكّ في موضوعه، والثاني حكم في موضوع الشكّ فيه، والأوّل وإن كان ليس لسانه أوّلاً: ألغِ الشكّ ولا تعتنِ به، لكن إذا كان لسانه الأوّلي إعطاء الواقع فهو بغرض رفع الشكّ ، وهذا أيضاً شريك مع لسان نفي الشكّ في ملاك الحكومة والتقدّم.

كذلك نقول في المقام: إنّ الحكم وإن رتّب على الاحتمال والاحترام بنحو تمام الدخل، لكن من المعلوم أنّ الواقع علّة لهذا الحكم، فهو وإن لم يكن حيثية تقييدية لكنّه حيثية تعليلية؛ فإنّ الشارع إنّما حرّم الإقدام والاقتحام في محتمل الضرر لكون النفس والعرض من المسلم عنده محترماً وذا شأن، فإذا قام أصل على نفي هذه العلّة وأنّ هذا موضوع لا يرى له الشارع شأناً واحتراماً، فلا محالة يكون حاكماً على الدليل الدالّ على احترام المؤمن ووجوب احتفاظ دمه وعرضه؛ فإنّ الدليل لسانه في مورد الشكّ : أنّ المؤمن ذو شأن عند الشارع فاحتفظه، والأصل لسانه: أنّ هذا الشخص ليس مؤمناً قد أوجب الشارع احترامه وحمايته، ومن المعلوم حكومة هذا على الأوّل.

هذا على تقدير إجراء الاستصحاب في الشخص المقول عنه، ويمكن إجراؤه في نفس القول أيضاً؛ بأن يقال: إنّ هذا القول لم يكن في السابق غيبة ووقيعة في المؤمن الكاره الغير المتجاهر، والآن نشكّ في بقائه، فالأصل بقاؤه على ما كان»(1).

فتحصّل: أنّه لا مجال للبراءة في الشبهات الموضوعية والمصداقية في الغيبة؛ لأنّها من الأعراض، والأصحاب لا يأخذون بالبراءة في الدماء والأموال والأعراض. والوجه في ذلك: أنّ مادّة حفظ الأعراض والدماء والأموال تقتضي الاجتناب عن الشبهات، ومع قيام الأدلّة على حفظ هذه الاُمور لا مجال للتمسّك بأصل البراءة؛ لأنّ

ص: 511


1- المكاسب المحرّمة / ص 235-239.

الأصل دليل حيث لا دليل. نعم، لو جرى في موضوع الدليل المذكور أصل منقّح قدّم عليه؛ لأنّه حاكم بالتقريب المذكور، وبه يتّضح الفرق بين البراءة والاستصحاب؛ فإنّ البراءة لا تجري مع الدليل، ولكنّ الاستصحاب الموضوعي الحاكم يجري، ومع جريانه لا مجال للدليل تعبّداً، فلا تغفل.

السابع: في حكم استماع الغيبة بقصد صحيح

السابع: قال شيخنا الاُستاذ الأراكي قدس سره: «قد عرفت من خبر مصباح الشريعة(1) دخل فساد المراد في مفهوم الغيبة فيما إذا كان العيب المذكور معصية، وعلى هذا فيجري هذا في الاستماع بقضيّة تنزيله منزلة الغيبة، كما يجري فيه سائر القيود؛ مثل عدم التجاهر وعدم الابتداع وغير ذلك، فكما تجوز الغيبة مع صلاح المراد - بل ليست بغيبة - فكذلك لو استمع بقصد صحيح، كما لو كان المستمع ممّن يحتشم من استماعه وإن كان القائل ممّن لا يبالى بقوله ولا يعبأ بشأنه؛ فإنّه إذا كان قصد القائل قصداً فاسداً لا مقدّمةً لاستماع هذا الشخص ولا غيره من الأغراض الصحيحة كان قوله غيبة واقعاً بالنسبة إليه، ولا يكون الاستماع غيبة واقعاً بالنسبة إلى المستمع، كما أنّ شخص القول الواحد عن شخص واحد يختلف في قائلين بل في قائل واحد في التسمية وعدمها على حسب اختلاف القصد في الصحّة والفساد. وعلى هذا فيتّضح جواز الاستماع لأجل الردّ على

ص: 512


1- قال الصادق عليه السلام: «الغيبة حرام على كلّ مسلم؛ مأثوم صاحبها في كلّ حال. وصفة الغيبة: أن تذكر أحداً بما ليس هو عند الله عيباً، أو تذمّ ما يحمده أهل العلم فيه. وأمّا الخوض في ذكر الغائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به، وكنت أنت معافىً عنه وخالياً منه، وتكون في ذلك مبيّناً للحقّ من الباطل ببيان الله ورسوله، ولكن بشرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله عزّ وجلّ ، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وإن كان صواباً. وإن اغتبت وبلغ المغتاب فاستحلّ منه...» الحديث. (مصباح الشريعة / الباب 49، على ما نقل في حاشية المكاسب المحرمة لشيخنا الاُستاذ / ص 189).

القائل والانتصار من المقول عنه الذي دلّت الأخبار الكثيرة على وجوبه بلسان النصرة له في خصوص مورد الاغتياب... فإنّ الانتصار يتوقّف على الاستماع حتّى يفهم ما يقوله القائل ثمّ يصير بمقام الانتصار والردّ؛ فإنّ ردّ المقال وإبطاله فرع فهم أصله، فهو نظير حفظ كتب الضلال ومطالعة ما فيها والغور فيه لأجل النقض والردّ والإبطال.

فإن قلت: فعلى ما ذكرت يجب الاستماع؛ لكونه مقدّمةً للدفع والذبّ الواجب.

قلت: لا يلزم ذلك؛ لعدم توقّف الدفع عليه مطلقاً، فإذا علم من حال المتكلّم أنّه يريد غيبة مؤمن وأمكن نهيه عن فعل الغيبة كان هو المتعيّن بواسطة أدلّة النهي عن المنكر، ولا يزاحمه حرمة الإيذاء لو كان متوقّفاً عليه؛ لأنّ أدلّة حرمة الإيذاء مخصّصة بأدلّة النهي عن المنكر؛ لعدم انفكاكه غالباً عن الإيذاء. نعم، لو لم يجتمع شرائط النهي عن المنكر فلا نضايق حينئذ من وجوب الاستماع؛ إذ لا مانع من إطلاق وجوب الانتصار والدفع والذبّ حينئذ، وإنّما المتيقّن اشتراطه بالنسبة إلى أصل عمل الاغتياب، والمفروض حصوله وعدم إمكان الردع عنه، فيجب الاستماع حينئذ؛ لكونه مقدّمةً للواجب المطلق»(1).

وفيه أوّلاً: أنّا نمنع دخالة قصد فساد المراد في حقيقة الغيبة؛ إذ لا دليل عليه لا في اللغة ولا في السنّة، بل الغيبة - كما في نصّ الدليل - هي أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، ولا دخالة لقصد الفساد في مفهومها.

وثانياً: أنّ صدق عنوان العيب على المقول أمر عرفيّ لا يرتبط بالقصد، ولا يقاس هذا بالتعظيم والهتك المتقوّمين بالقصد. ثمّ إنّ تخصيص الغيبة بما ليس هو عند الله عيباً لا وجه له، بل ما يكون عند الله عيباً كالمعاصي يكون ذكره - فيما إذا كان مستوراً - غيبة

ص: 513


1- المكاسب المحرّمة / ص 244-246.

أيضاً، والتفصيل المذكور خلاف النصوص والاتّفاق والضرورة.

وثالثاً: أنّ الاستناد في ذلك إلى مصباح الشريعة مع ضعفه كما ترى.

ورابعاً: أنّه لا يصحّ الاستدلال عليه بتنزيل الاستماع منزلة الغيبة؛ لأنّه متوقّف على عموم التنزيل، وهو غير ثابت.

وخامساً: أنّ الروايات الواردة في وجوب النصرة راجعة إلى السماع لا الاستماع. نعم، لو توقّف النهي عن المنكر أو دفعه أو النصرة على الاستماع فلا يبعد وجوب الاستماع مع فرض كونه أهمّ .

فتحصّل: أنّه لا دليل على اعتبار قصد الفساد في حرمة الغيبة واستماعها، ولا على تخصيص الغيبة بما ليس هو عند الله عيباً.

الثامن: في حكم غيبة أحد عند من علم بما في المغتاب بالفتح

الثامن: إذا كان المغتاب والمستمع عالمين بما في المغتاب - بالفتح - وتذاكرا ما علماه لم يكن ذلك غيبة. والوجه فيه واضح؛ لأنّ الغيبة هي كشف المستور، وقد ذكرنا سابقاً أنّها: «ذكرك خلف أخيك ما ستره الله عليه من العيوب والنواقص»، وقد نصّ عليه في حسنة عبد الرحمان بن سيّابة قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «الغيبة: أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه»(1).

وذكرهما في الفرض المزبور لا يوجب كشف ما ستره الله عليه. نعم، لو كان ذكرهما موجباً لكشف بعض ما اُجمل أو اُهمل فالأظهر أنّه لا يجوز؛ لصدق كشف المستور بالنسبة إلى الموارد المذكورة كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن ذكرهما موجباً للعناوين المحرّمة الاُخرى كالإيذاء، وإلاّ فهو محرّم من تلك الجهة كما لا يخفى.

ص: 514


1- وسائل الشيعة / ج 12، ص 288، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
التاسع: في حكم استماع من لا يعرف المغتاب بالفتح غيبة أحد

التاسع: لو اغتاب شخص عند آخر واستمع ثالث لا يعرف المغتاب - بالفتح - فلا يصدق بالنسبة إلى الشخص الثالث كشف المستور، ومعه لا تتحقّق الغيبة. نعم، لو تمكّن من نهيهما وجب عليه ذلك لو لم يكن من موارد الجواز، ولو كان استماع الثالث موجباً لإيذاء المغتاب لزم عليه ترك الاستماع من جهة الإيذاء.

العاشر: في حكم غيبة من كان عيبه مستوراً عند الغيبة ولكن يكشف لاحقاً

العاشر: لو ذكر خلف أخيه شيئاً لا يكشف عن شيء حال الذكر ولكن يكشف عن عيوبه لاحقاً، ففيه وجهان:

أحدهما: أنّه لا يجوز، لصدق كشف المستور؛ إذ من المعلوم أنّه مستند - ولو بعد مدّة - إلى الذي ذكر خلف أخيه شيئاً.

ثانيهما: أنّه يجوز؛ إذ لا يصدق الكشف حين الذكر، والكشف اللاحق ليس من فعله ولا يستند إليه.

والأوّل أقوى فيما إذا علم حين الذكر أنّه سيكشف بما ليس من فعله؛ لقوّة استناد الكشف إليه حينئذ، بل الأحوط الترك فيما إذا احتمل احتمالاً عقلائيّاً ذلك.

الحادي عشر: لا يندرج فى الغيبة ذكر موارد الخلل والنقص فى وظائف المتصدّين

الحادي عشر: لا يندرج في الغيبة ذكر موارد الخلل والنقص في وظائف وأعمال المتصدّين لإدارة الدولة أو العاملين في الدوائر أو المعامل أو غير ذلك لمن فوقهم لو كان مكشوفاً، بل لا يكون محرّماً لو كان مستوراً إن كانت مصلحة ذكره أهمّ وأغلب من مفسدته، أو تزاحمت مفسدة ذكره مع مصلحة أقوى تفوت بعدم ذكره.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذكر بالقول أو الكتابة أو الكاريكاتير أو غير ذلك. نعم، لا تجوز الإهانة والإيذاء زائداً على ذلك بالنسبة إلى المؤمنين والمسلمين.

الثاني عشر: لا يجوز أخذ الاُجرة على الغيبة المحرّمة

الثاني عشر: لا يجوز أخذ الاُجرة على الغيبة المحرّمة؛ لأنّ العمل المحرّم مسلوب المالية شرعاً، فأخذ المال في قباله سحت وأكل للمال بالباطل.

ص: 515

الثالث عشر: في حرمة نقل الغيبة عن الغير

الثالث عشر: كما تحرم نفس الغيبة كذلك يحرم نقلها؛ إذ كشف المستور صادق فيهما معاً من دون فرق كما لا يخفى.

وأمّا مجرّد ذكر المستور أمام جهاز التسجيل ونقله إلى الغير فهل يعدّ غيبة أو لا؟

يمكن القول بالمنع؛ لأنّ ذكر المستور أمام الجهاز المذكور مع عدم وجود مخاطب لا يوجب كشف المستور، كما أنّه عند نقل الجهاز إلى مخاطب لا يكون ثمّة قائل حتّى يصدق أنّه اغتاب.

ولكنّ التحقيق: أنّ الهتك والإهانة متحقّقان، وهما من الاُمور المبغوضة للشارع والمنهيّ عنها من دون ريب وإشكال.

وممّا ذكرنا يظهر حكم نظائر ذلك من «الكمبيوتر» و «الإنترنيت» وغيرهما إذا اُلقي فيها ما يكشف عيوب الآخرين من المؤمنين ولو لم يكن لها مخاطب حين الإلقاء، فلا تغفل.

ولله الحمد أولاً و آخراً

السيد محسن الخرازي

جمادى الاُولى من سنة 1430 ه -

ص: 516

الفهرس

(1) * المسألة الثالثة والعشرون في الرشوة... 5

(2) * المقام الأوّل: في موضوع الرشوة وحقيقتها... 5

(3) * المقام الثاني: في حرمة الرّشوة... 14

(4) * المقام الثالث: في حرمة أخذ الجعل والاُجرة على القضاء وتصدّي أمر المرافعة... 19

(5) * المقام الرابع: في حكم أخذ الجعل والاُجرة على التصدّي لأمر الفتوى أو بيان الأحكام والمعارف الدينية... 26

(6) * المقام الخامس: في جواز ارتزاق القاضي من بيت المال... 28

(7) * المقام السادس: في حكم أخذ القضاة الهدايا... 33

(8) * المقام السابع: في الهدايا للاُمراء والولاة والعمّال وغيرهم ممّن يشتغل في الحكومة... 40

(9) * المقام الثامن: في حكم الرشوة في غير الأحكام القضائية والإجرائية والعرفية... 46

(10) الصورة الاُولى: أن يكون مورد الرشوة مباحاً... 47

(11) الصورة الثانية: أن يكون مورد الرشوة حراماً... 48

(12) الصورة الثالثة: أن يكون المورد مشتركاً بين الحلال والحرام... 50

(13) * المقام التاسع: في ضمان القضاة بالنسبة إلى المأخوذ اُجرة أو جعالة أو رشوة... 53

(14) الصورة الاُولى: أن يكون المعطى عوضاً عن الحكم بنحو الإجارة أو الجعالة... 54

(15) الصورة الثانية: هي المحاباة مع القاضي بتقليل الثمن... 57

(16) الصورة الثالثة: هي إرسال الهدايا إلى القاضي بداعى الحكم له... 58

(17) * المقام العاشر: في عدم نفوذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان على... 59

ص: 517

(18) * المقام الحادي عشر: في عدم إبراء الذمّة بإعطاء الخمس أو الزكوة إلى الحاكم بعنوان الرشوة... 60

(19) * المقام الثاني عشر: في الشبهة الموضوعية والحكمية... 60

(20) * المقام الثالث عشر: في حكم إعطاء الرشوة للقاضي فيما إذا توقّف استنقاذ الحقّ عليه... 61

(21) * المقام الرابع عشر: في موارد اختلاف الدافع والقابض... 62

(22) * المسألة الرابعة والعشرون في الرياء... 67

(23) * المقام الأوّل: في حقيقة الرياء... 67

(24) * المقام الثاني: في حرمة الرياء... 67

(25) * المقام الثالث: في بطلان العمل بالرياء... 70

(26) * المقام الرابع: في صور الرياء... 71

(27) * المقام الخامس: في أحكام بطلان العبادة بالرياء... 80

(28) * المسألة الخامسة والعشرون في زخرفة المساجد والمصاحف والمقابر... 85

(29) * الجهة الاُولى: في زخرفة المساجد... 85

(30) أوّلاً: في نقل كلمات الأصحاب... 85

(31) ثانياً: في أدلّة حرمة زخرفة المساجد... 87

(32) * الجهة الثانية: في أدلة حرمة زخرفة المصاحف... 91

(33) * الجهة الثالثة: في زخرفة القبور بالتجصيص أو التطيين أو البناء عليها... 93

(34) * المسألة السادسة والعشرون في الزنا... 103

ص: 518

(35) * المسألة السابعة والعشرون في السباب... 107

(36) * المقام الأوّل: في حرمة السباب... 107

(37) * المقام الثاني: في المراد من السباب... 117

(38) * المقام الثالث: في المسبوب... 120

(39) * المقام الرابع: في تبعات السبّ ... 125

(40) * المقام الخامس: في موارد الاستثناء... 127

(41) * المسألة الثامنة والعشرون في السحر... 133

(42) * الأمر الأوّل: في معناه لغةً وعرفاً... 133

(43) * الأمر الثاني: في كلمات القدماء... 140

(44) * الأمر الثالث: في تعريف السحر... 142

(45) * الأمر الرابع: في الأدلّة على حرمة السحر... 156

(46) * الأمر الخامس: في استحقاق الحدّ... 165

(47) * الأمر السادس: في جواز رفع السحر بالسحر... 171

(48) * الأمر السابع: في تسخير الجنّ والأرواح... 174

(49) * المسألة التاسعة والعشرون في السخرية... 179

(50) * الجهة الاُولى: في حقيقة السخرية... 179

(51) * الجهة الثانية: في أدلّة حرمتها... 181

(52) * الجهة الثالثة: في كفر من استهزء بالآيات... 183

(53) * الجهة الرابعة: في اختصاص الحرمة بما إذا كان الفرض هتكاً... 184

(54) * الجهة الخامسة: في أنّ الأكل في مقابل السخرية أكل المال بالباطل... 185

ص: 519

(55) * المسألة الثلاثون سدّ المعابر... 187

(56) * فالأوّل: الطريق نوعان نافذ وغير نافذ فالأول يسمّى بالشارع العام... 190

(57) * وأمّا الثاني: أي الطريق غير النافذ... 193

(58) * المسألة الحادية والثلاثون في السرقة... 195

(59) * المسألة الثانية والثلاثون في الشرب الحرام... 199

(60) * المقام الأوّل: في شرب السموم القاتلة... 199

(61) * المقام الثاني: في شرب الأفيون والسقمونيا ونحوهما... 202

(62) * المقام الثالث: في حرمة شرب المضرّ... 204

(63) * المقام الرابع: في حرمة شرب المواد المخدّرة... 205

(64) * المقام الخامس: في حرمة توليد المواد المخدّرة... 207

(65) * المقام السادس: في عدم جواز التخلف عند نهى الحاكم عن موضوع... 207

(66) * المقام السابع: في حرمة إدمان المضرّ... 208

(67) * المقام الثامن: في استحقاق المدمن للحد... 208

(68) * المقام التاسع: فى جواز المعالجة بالمواد المخدّرة وعدمها... 209

(69) * المقام العاشر: في عدم جواز توزيع المواد المخدّرة... 209

(70) * المقام الحادي عشر: في وجوب ترك الاشتغال بالمواد المخدّرة... 209

(71) * المقام الثاني عشر: في عدم جواز البيع و شراء المواد المخدّرة... 210

(72) * المقام الثالث عشر: في حكم شرب التتن... 211

(73) تنبيهات:... 212

(74) التنبيه الأوّل: في عدم اختصاص الأحكام بعنوان الهيروئين أو الترياك... 212

ص: 520

(75) التنبيه الثاني: في حرمة شرب التتن الخمر فى الخمر... 213

(76) التنبيه الثالث: في اجتماع حرمة الإضرار والإسكار... 213

(77) التنبيه الرابع: في وجوب الاجتناب عن شرب التتن فى الأمكنة العامّه... 213

(78) * المقام الرابع عشر: في حرمة شرب الخمر والمسكر... 214

(79) تنبيهان:... 218

(80) التنبيه الأوّل: في أنه لا يجوز الجلوس على مائدة فيها خمر أو مسكر... 218

(81) التنبيه الثاني: في جواز التداوى بالخمر أو المسكر وعدمه... 222

(82) فروع:... 229

(83) الأوّل: في جواز ارتياد الأماكن التى يقدم فيها الخمر و عدمه... 229

(84) الثاني: في وجوب ترك المقهى لو شرب الخمر فيه بعض آخر... 230

(85) الثالث: في جواز شرب الأدوية المخلوطة بالكحول وعدمه... 230

(86) الرابع: في جواز شرب بعض الادوية التى استهلك المسكر فيه وعدمه... 230

(87) الخامس: في التداوى بالمسكر أو الخمر بغير الشرب... 231

(88) السادس: هل يجوز ركوب الطائرات ونحوها مع العلم بشرب الخمر فيها... 231

(89) السابع: في جواز شرب ماء الشعير الذى يجوزه الأطبّاء... 232

(90) الثامن: في عدم مالية الخمر أو المسكر... 232

(91) التاسع: في عدم جواز المعاملة على الخمر أو المسكر... 233

(92) العاشر: في حكم دوران الأمر بين شرب الخمر و بين البول... 233

(93) الحادي عشر: في عدم وجوب الاجتناب عما يشك فى اشتماله على المسكر... 234

(94) * المسألة الثالثة والثلاثون في الشعبذة... 239

ص: 521

(95) * المسألة الرابعة والثلاثون في الشعر... 247

(96) * المقام الأوّل: في معنى الشعر... 247

(97) * المقام الثاني: في الأدلّة الدالّة على مرجوحية الشعر... 251

(98) أوّلاً: الآيات الكريمة... 251

(99) ثانياً: الروايات الدالّة على ذمّ الشعر... 260

(100) * المقام الثالث: في النصوص الدالّة على رجحان الأشعار المنظومة في رثاء اهل البيت عليهم السلام... 268

(101) * المقام الرابع: في كيفية الجمع بين الأخبار والأدلّة... 275

(102) تنبيهات:... 280

(103) التنبيه الأوّل: في حكم استماع الأشعار... 280

(104) التنبيه الثاني: في أنّ اتّصاف الأشعار بالمرجوحية من جهة اشتمالها على الباطل فقط أو مع ضميمية النظم والوزن... 281

(105) التنبيه الثالث: لا فرق في الكراهة بين الرجل والمرأة... 281

(106) * المسألة الخامسة والثلاثون في العجب... 283

(107) * الجهة الاُولى: في تعريف العجب المذموم... 283

(108) * الجهة الثانية: في ذمّه... 284

(109) * الجهة الثالثة: في حرمة العجب... 286

(110) الروايات:... 288

(111) أحدها: صحيحة أبي حمزة الثمالي... 288

(112) ثانيها: ما رواه المفيد في الأمالي... 289

(113) ثالثها: صحيحة أبي حمزة الثمالي... 290

ص: 522

(114) رابعها: صحيحة علي بن سويد... 290

(115) خامسها: صحيحة يونس بن عمّار... 290

(116) سادسها: ما رواه في الخصال... 291

(117) * الجهة الرابعه: في البطلان وعدمه... 292

(118) العجب المقارن... 292

(119) العجب المتأخّر... 293

(120) * الجهة الخامسة: في عدم إضرار العجب بصحة العمل... 297

(121) * المسألة السادسة والثلاثون في الغرور والتغرير... 299

(122) * الأمر الأوّل: في اعتبار اعتماد المغرور على قول الغار... 299

(123) * الأمر الثاني: في أدلّة حرمة التغرير وضمان الغارّ... 300

(124) * الأمر الثالث: إنّ التغرير محرّم سواء كان بالتسبيب أو إعداد المقدمات... 305

(125) * الأمر الرابع: إنّ الغارّ يتوقّف صدقه على كونه عالماً بالمفاسد... 306

(126) * الأمر الخامس: هل يجب الإعلام أو المنع أو الدفع اذا رأى غيره أراد ما فيه المفسدة... 306

(127) * الأمر السادس: لا يحرم التغرير فيما إذا كان المورد من الموارد التى يكون وجودها وعدمها على حد سواء... 307

(128) * الأمر السابع: في تعدّد الغارّ... 307

(129) * الأمر التاسع: التغرير موجب للضمان... 307

(130) * المسألة السابعة والثلاثون في الغشّ ... 309

(131) * الأمر الأوّل: في معنى الغشّ ... 309

ص: 523

(132) * الأمر الثاني: في كلمات العلماء حول حرمة الغشّ ... 314

(133) * الأمر الثالث: في الروايات الدالّة على حرمة الغشّ ... 316

(134) * الأمر الرابع: في الظاهر من الكلمات والأخبار... 318

(135) * الأمر الخامس: في الصحّة والفساد... 320

(136) * المسألة الثامنة والثلاثون في الغناء... 325

(137) * الجهة الاُولى: في كلمات الأصحاب... 325

(138) * الجهة الثانية: في حقيقة الغناء... 341

(139) * الجهة الثالثة: في أدلّة حرمة الغناء... 364

(140) تفصيل الفيض الكاشاني قدس سره... 380

(141) كلام السبزواري قدس سره... 390

(142) كلام السيّد المحقق الخوئى قدس سره... 393

(143) أسئلة وأجوبة... 394

(144) السؤال الأوّل: هل يكون التغنّي بالنثر كالتغنّي بالنظم... 394

(145) السؤال الثاني: هل تختصّ حرمة الغناء باللغة العربية أو لا؟... 395

(146) السؤال الثالث: هل تكون حرمة الغناء من ناحية نفس الصوت أو من ناحية المحتوى ؟... 395

(147) السؤال الرابع: هل يكون حرمة الغناء مختصّة بما إذا قصد التطريب أو لا؟... 395

(148) السؤال الخامس: هل يجوز توليد الصوت اللهوي بالآلات الحديثة ؟... 395

(149) السؤال السادس: هل يجوز استماع الصوت اللهوي الذي يكون وسيلة للطرب المعنوي ؟... 396

(150) السؤال السابع: هل تختصّ حرمة الغناء بالنسوان أو لا؟... 396

(151) السؤال الثامن: هل يجوز التداوى بالغناء أو لا؟... 396

(152) * الجهة الرابعة: في موارد الاستثناء... 397

(153) أحدها: المراثي ونحوها... 397

ص: 524

(154) ثانيها: غناء المغنّية لزفّ العرائس... 401

(155) ثالثها: الحداء لسوق الإبل... 405

(156) * المسألة التاسعة والثلاثون في الغيبة... 411

(157) * المقام الأوّل: في تعريف الغيبة... 411

(158) تنبيهات:... 416

(159) التنبيه الأوّل: في عدم اعتبار قصد الانتقاص... 416

(160) التنبيه الثاني: في عدم اختصاص الغيبة بما يكون في ارتكابه حدّ... 419

(161) التنبيه الثالث: في حكم نفي الكمال... 420

(162) التنبيه الرابع: في العيوب الظاهرة... 420

(163) التنبيه الخامس: في أنواع العيب والنقصان... 421

(164) التنبيه السادس: في أنواع ذكر العيب... 422

(165) التنبيه السابع: في المراد من الستر... 424

(166) التنبيه الثامن: في اعتبار حضور المخاطب الملتفت عند من يذكر عيب الغير... 426

(167) التنبيه التاسع: في عدم صدق الغيبة مع حضور المغتاب بالفتح... 427

(168) التنبيه العاشر: في الشك في دخالة شيء في تحقق موضوع الغيبة... 428

(169) التنبيه الحادي عشر: في عدم الفرق بين أن يكون الغيبة بالدلالة المطابقية أو بغيرها... 429

(170) التنبيه الثاني عشر: في حكم غيبة من يكون مردّداً بين أشخاص... 430

(171) * المقام الثاني: في أدلّة تحريم الغيبة... 432

(172) هل تختص الغيبة بالمؤمن ؟... 444

(173) غيبة الصبيان والمجانين... 447

(174) * المقام الثالث: في كفّارة الغيبة... 449

ص: 525

(175) * المقام الرابع: في موارد الاستثناء... 460

(176) تنبيهات:... 478

(177) التنبيه الأوّل: في جواز غيبة المتجاهر فيما تجاهر به... 478

(178) التنبيه الثاني: هل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به ؟... 479

(179) التنبيه الثالث: في المراد من المتجاهر بالفسق... 481

(180) التنبيه الرابع: في حكم غيبة المتجاهر في غير بلده إذا كان مستور الفسق عندهم... 481

(181) التنبيه الخامس: إذا صار المتجاهر ساتراً لعيوبه وتائباً... 483

(182) * المقام الخامس: في حكم استماع الغيبة... 492

(183) فروع:... 502

(184) الأوّل: في حكم عدم الملازمة بين جواز الغيبة بالإكراه وجواز الاستماع... 502

(185) الثاني: في حكم غيبة من يكون متجاهراً عند المغتاب بالكسر ومستوراً عند المستمع... 502

(186) الثالث: يجب عند الاغتياب أمران: أحدهما: نهي المغتاب بالكسر وثانيهما: ردّ الغيبة... 504

(187) الرابع: المراد من ردّ الغيبة هو انتصار المغتاب بالفتح... 505

(188) الخامس: في حكم ذي اللسانين... 506

(189) السادس: في حكم الشبهة الموضوعية... 509

(190) السابع: في حكم استماع الغيبة بقصد صحيح... 512

(191) الثامن: في حكم غيبة أحد عند من علم بما في المغتاب بالفتح... 514

(192) التاسع: في حكم استماع من لا يعرف المغتاب بالفتح غيبة أحد... 514

(193) العاشر: في حكم غيبة من كان عيبه مستوراً عند الغيبة ولكن يكشف لاحقاً... 515

(194) الحادي عشر: لا يندرج فى الغيبة ذكر موارد الخلل والنقص فى وظائف المتصدّين... 515

(195) الثاني عشر: لا يجوز أخذ الاُجرة على الغيبة المحرّمة... 515

(196) الثالث عشر: في حرمة نقل الغيبة عن الغير... 515

(197) الفهرس

ص: 526

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.