البحوث الهامة في المکاسب المحرمة المجلد 2

هوية الكتاب

سرشناسه : خرازی ، سیدمحسن ، ‫1315 -

عنوان قراردادی : المکاسب.شرح

عنوان و نام پديدآور : ‫البحوث الهامه فی المکاسب المحرمه [ مرتضی انصاری ] ‫/ تالیف محسن الخرازی .

مشخصات نشر : قم : موسسه در راه حق ‫، 1423 ق . ‫= 1381 -

مشخصات ظاهری : ‫7ج.

شابک : ‫ج. 6 ‫ 978-964-5515-01-5 : ؛ ‫ج. 7 ‫ ‮ 978-600-5515-04-6 :

يادداشت : عربی .

يادداشت : ج.4 (چاپ ؟: 13).

يادداشت : ‫ج. 7 (چاپ اول: 1390) (فیپا).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب -- نقدو تفسیر

موضوع : ‫معاملات (فقه)

کسب و کار حرام

شناسه افزوده : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1214-1281ق . المکاسب . شرح

شناسه افزوده : موسسه در راه حق

رده بندی کنگره : ‫ BP190/1 ‫ /‮الف 8م 702143 1381

رده بندی دیویی : ‫ 297/372

شماره کتابشناسی ملی : ‫ م 81-45244

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

* العنوان البحوث الهامّة فى المكاسب المحرّمة ج 2

* الموضوع الفقه

* تأليف آية الله السيّد محسن الخرّازى

* باهتمام السيّد علىّ رضا الجعفرى

* نشر فى طريق الحق

* التنضيد و الاخراج الفنى. كومبيوتر المجتبى عليه السلام

* الطبعة الاولى

* المطبعة كيميا

* العدد 1000

* التاريخ 1423 ق

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذى هدانا الى الحلال و الحرام و الصلاة و السلام على نبيّنا محمّد سيد الأنام و الصادع بحدود الأحكام و آله المعصومين الكرام و مصابيح الظلام.

و بعد: فلا يخفى عليك أيها القارئ الكريم ان سيدنا الاستاذ المحقق السيد محسن الخرازى (دام ظلّه) بَحَث فى المجلد الأول حول «المكاسب المحرمة» طبقاً على ما سلكه فقيه اهل البيت عليهم السلام «الشيخ الأعظم الأنصارى قدس سره» و ذكر الانواع الأربعة و عقد النوع الأول فى حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثنى، و النوع الثانى فى حرمة الاكتساب بما يقصد منه الحرام، ثم قسّم هذا النوع الى قسمين:

القسم الأول: فيما لا تكون له منفعة مقصودة غير الحرام.

القسم الثانى: فيما يقصد منه المنفعة المحرمة.

و قد ذكر فى هذا القسم الأخير مسائل؛ سادسها: هو بيع العنب ممن يعمله خمراً و قد مضى البحث فيه بذكر الأخبار المجوزة و الأخبار المانعة و امكان الجمع بينهما و ذكر المناقشات و أجوبتها و لم يتم الكلام و بقى شىء و هو الاستبعادات المذكورة حول جواز ذلك و لذا تمّم البحث هنا بذكر تلك الاستبعادات مع اجوبتها.

الجعفرى شوّال 1423 (دى ماه 1381)

ص: 5

ص: 6

تتمة النوع الثانى

الاستبعادات:

و قد استبعد المحقق الاردبيلى قدس سره جواز بيع العنب ممّن يعلم أنه يجعله خمراً حيث قال و مما يستبعد الجواز و عدم البأس و هو الباعث على تاويل كلامهم ان يجوز للمسلم ان يحمل خمراً لان يشرب و الخنزير لأن يأكله من لا يجوز له اكله و باع الخشب و غيره ليصنع صنما و الدفوف و المزامير مع وجوب النهى عن المنكر و ايجاب كسر الهياكل و عدم جواز الحفظ و كسر آلات اللهو و منع الشرب و الحديث الدال على لعن حامل الخمر و عاصرها المذكور فى الكافى الخ.

و استجوده سيدنا الامام قدس سره حيث قال: و هو فى كمال الاتقان، و حاصله دعوى منافاة ادلة النهى عن المنكر المستفاد منها ان سبب تشريعه لو كان شرعياً قلع مادة الفساد و العصيان سيما مع تلك التأكيدات فيه و الاهتمام به من وجوبه بالقلب و اليد و اللسان و دلالة بعض الاحاديث على ايعاد العذاب لطائفة من الاخيار لمداهنتهم اهل المعاصى و عدم الغضب لغضب اللّه تعالى و النهى عن الرضا بفعل المعاصى و الامر بملاقاة اهلها بالوجوه المكفهرة و غيرها و كذا ساير ما ذكره مع تجويز بيع العنب ممن يعلم انه يجعله خمراً و الخشب ممن يجعله صنما و صليباً أو آلة لهو و طرب مع ان فيه اشاعة الفحشاء و المعاصى و ترويج الاثم و العصيان و ملازم للرضى بفعل العاصى(1).

و فيه: أولاً: ان حمل الخمر منصوص الحرمة فى الحديث الذى لعن رسول

ص: 7


1- ج 1 ص 135.

الله صلى الله عليه و آله و سلم الطوائف الدخيلة فى شرب الخمر وهكذا بيع الخشب للصنم منصوص الحرمة لكونه من مظاهر الشرك، فلا يلزم من جواز بيع العنب جوازهما.

و ثانيا: ان حمل الخنزير الذى لامنفعة مشروعة لها سواء كان بقصد الأكل أو لدونه لايصح الاجرة عليه لانه اكل المال بالباطل بل كان الحمل المذكور محرماً ان كان بقصد الاكل لانه اعانة على الاثم.

وأين هذه الامور وبيع العنب ونحوه من دون قصد التخمير ومن دون انحصار؛ اذ العنب ونحوه محلل ومال وليس بممنوع، والبيع ليس اعانة؛ لان المفروض ان البايع لم يقصد الحرام و أيضاً لم يتمكن البايع من المنع عن وقوع المنكر فى الخارج لفرض بناء غيره على البيع و لم يرض بما فعل المشترى بل لاقاه بوجه مكفهر عند الامكان، واشاعة الفحشاء و المعاصى معلومة التحقق ولكنها بفعل المشترى لا البايع، وليس بيع العنب مع العلم بوقوعها مع كيفية مذكورة من مصاديقها، واطلاق ادلة الامر بالمعروف و النهى عن المنكر يمكن تقييدها بالاخبار المجوزة، والحديث الدال على لعن عاصر العنب و غارسه للتخمير لايشمل ما اذا لم يقصد التخمير كبيع العنب من دون قصد، هذا مضافاً الى استبعاد رد اخبار صحاح من الأئمة الكرام عليهم السلام مع صراحتها فى الجواز وعمل اكثر الاصحاب بها، فلوكانت الروايات مخالفة لحكم العقل لم تصدر من الائمة الاطهار عليهم السلام و لم يروها الثقات و لم يفت بها الاصحاب. فالاقوى هو جواز العمل بمورد الاخبار وان كان لاينبغى ترك الاحتياط.

خلاصة الكلام:

فتحصل مما ذكرنا لحد الآن أن فعل ما هو شرط للحرام الصادر من الغير يقع على وجوه:

الأول: أن يقع من الفاعل قصداً منه لتوصل الغير به الى الحرام و هو الذى

ص: 8

يسمّى إعانة.

ولا اشكال فى حرمته؛ لقوله تعالى: (و لاتعاونوا على الاثم و العدوان) بناء على ظهوره فى الحرمة كما يشهد له عطف العدوان الذى يحكم العقل و الشرع بحرمة المعاونة عليه. هذا مضافاً الى ما عرفت من حكم العقل بحرمة الاعانة على الحرام ومبغوض المولى. ولا فرق بين ان يكون شرط الحرام هو البيع أو غيره كما لا يخفى.

الثانى: ان يقع منه من دون قصد لحصول الحرام ولا لحصول ما هو مقدمة له مثل تجارة التاجر بالنسبة الى معصية العاشر. والظاهر انه جايز لعدم دليل على حرمته.

الثالث: ان يكون ترك الشرط المذكور كالبيع ونحوه علة تامة لعدم تحقق الحرام من الغير. و الاقوى هنا وجوب الترك وحرمة الفعل ولو لم يكن من قصده حصول الحرام ولا حصول ما هو مقدمة له بل قصد نفس التجارة أو غيرها من المعاملات؛ لان مع القصد اعانة على الحرام ومن دون قصد يكون ترك البيع ونحوه مما لا يتم دفع النكر الا به، هذا اذاكان قصد المشترى حين الشراء هو التخمير، واما اذا لم يكن قصده حين الشراء ذلك ولكن يعلم انه ستحدث له ارادة التخمير فان قصد البايع تهيئة مقدماته فهو اعانة وحرام، و الّا فشمول ادلة النهى عن المنكر لذلك مشكل؛ لأنّ المنكر ليس فعلياً حتى يشمله ادلة النهى عن المنكر و التعجيز لادليل عليه؛ اللهم الا ان يدعى القبح العقلى فيه، فافهم.

الرابع: ان لايكون ترك الشرط كالبيع علة تامة لعدم تحقق الحرام من الغير للعلم العادى بحصول الحرام من الغير من غير تاثير لترك ذلك الفعل. و قد عرفت عدم وضوح حكم العقل فى هذه الصورة بلزوم ترك البيع ونحوه مع عدم قصد الحرام.

نعم، مقتضى اطلاق وجوب دفع المنكر هو عدم جواز فعل الشرط المذكور، ولكن مقتضى الاخبار المجوزة الواردة فى بيع العنب ممن يعلم انه يجعله نهراً هو تخصيص

ص: 9

اطلاق وجوب دفع المنكر الاخبار المجوزة بالنسبة الى اطلاق ادلة النهى عن المنكر، و هذا واضح بالنسبة الى بيع العنب. واما مصالحته أو هبته فمحل اشكال من اختصاص الاخبار المجوزة بالبيع ومن امكان الاستدلال مضافاً الى الغاء الخصوصية بقوله عليه السلام: «بعته حلالاً فيجعله حراماً فأبعده الله» على ان المناط هو حليته حال الفعل سواء كان الفعل بيعاً أو غيره وسواء كان المبيع عنباً أو غيره كما يؤيده تجويز بيع الخشب ممن يتخذ منه برابط فى صحيحة عمر بن اذينة.

اللهم إلا أن يقال: ان من المحتمل أن يكون المقصود من قوله: بعته حلالاً الخ...

هو الاشارة الى وجه وموارد جواز البيع لا التعليل. هذا مضافاً الى احتمال الخصوصية فلايدل على التعميم، وعليه فلاوجه لرفع اليد عن اطلاق وجوب دفع المنكر فى غير مورد بيع العنب فتأمّل. والأحوط هو الترك فى غير القدر المتيقن.

تنبيهان:

التنبيه الأول: انه لا يخفى عليك ان التغرير و التسبيب لامورد لهما فى المقام؛ اذ التغرير فيما اذا كان المشترى جاهلا بحرمة شىء أو نجاسته، ولا مورد له بالنسبة الى العنب فانه عين طاهر محلل، كما لامجال للتسبيب فانه فيما اذا كان البايع موجبا لحدوث داعى الحرمة فى المشترى، والمفروض فى المقام هو ان المشترى كان عازما على التخمير قبل البيع من دون دخالة للبائع فى عزمه.

التنبيه الثانى: ان كل مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد محكوم بالحرمة التكليفية، ولادليل على فساد البيع بعد تعلق النهى بما هو خارج عن المعاملة اعنى الاعانة على الاثم أو المسامحة فى رع المنكر، ولا كلام فى عدم افادة النهى الخارجى للفساد و البطلان.

نعم احتمل الشيخ الاعظم قدس سره الفساد لاشعار قوله عليه السلام فى رواية التحف المتقدمة بعد قوله وكل مبيع ملهو به وكل منهى عنه مما يتقرب به لغير الله أويقوى به

ص: 10

الكفر و الشرك فى جميع وجوه المعاصى أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وامساكه الخ بناء على ان التحريم مسوق لبيان الفساد فى تلك الرواية كما لا يخفى، لكن فى الدلالة تامل، ولو تمت لثبت الفساد مع قصد المشترى خاصة للحرام لان الفساد لايتبعض(1).

ولعل المقصود من قوله بناء على ان التحريم مسوق لبيان الفساد فى تلك الرواية هو ما افاده الميرزا الشيرازى قدس سره فى التعليقة من ان المقصود فى المقام (أى رواية التحف) هو بيان الحل و الحرمة فى البيع ونحوه وضعاً وتكليفاً لا خصوص احد الامرين كما يوهم الأول ظهور لفظ المعايش فى ذلك المؤيد بقوله عليه السلام فى آخر الرواية فهذا وجوه اكتساب معايش العباد الظاهر فى كون المراد بالمعايش نفس ما يتعيش به لا اسبابها.

والثانى التعرض صريحا(2) فى الجواب لحرمة البيع وحليته مثلا لافساده وحرمة ترتيب الاثر عليه وحلية ذلك مضافا الى ظهور قوله من وجوه المعاملات فى ذلك بدعوى ظهور «من» فى البيانية.

ومقتضى الجمع بين الظهورين ارادة الامرين جميعا لا الأخذ باحدهما وطرح الاخر.

ولعله لم ينصّ على الفساد من جهة وضوح الملازمة عرفاً أو فى نظر السائل بين الحرمة بالمعنى الذى يجيئ بيانه و الفساد فان عدم التنصيص فى الجواب لا يقتضى عدم التعرض له مع كون السياق وسبق السؤال يقتضيه، فليحمل الجواب على ارادة

ص: 11


1- المكاسب المحرمة: ص 19.
2- قال فى اول الرواية حيث سئل عن معايش العباد فقال جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب، اربع جهات و يكون فيها حلال من جهة و حرام من جهة.

الامرين يعنى الحرمة و الفساد جميعا. ولعله من هنا ذكر المصنف قدس سره فى آخر باب النوع الثانى من المكاسب المحرمة ان الرواية، واردة فى بيان المكاسب الصحيحة و الفاسدة وقال قبل ذلك قريباً منه بناء على ان الحرمة فى تلك الرواية مسوقة لبيان الفساد كما لا يخفى.

ولذلك قال فى جامع المدارك ثم انّ المستفاد ممّا ذكر ليس الّا الحرمة التكليفية لا الحرمة الوضعية أعنى فساد المعاملة الّا أن تندرج فى رواية تحف العقول من جهة ترتب الفساد عليها(1).

و أما وجه تامّل الشيخ قدس سره فى دلالة رواية التحف فلعله لما افاده الميرزا الشيرازى وتبعه فى بلغة الطالب من امكان المنع من دخول الاعانة فيما يوهن الحق به إذ المراد من الحق هو المذهب و الدين والاساس وكذا نمنع من دخولها فيما يقوى به الكفر و الشرك ولو بضميمة قوله «فى جميع وجوه المعاصى» لظهور أنّ المراد عمومات المعاصى المسانخة لتقوية الكفر و الشرك وليس كل معصية كذلك وكذلك الكلام بالنسبة الى قوله «فيما يتقرب به لغير الله» هذا مع ان الظاهر منها كون المبيع كذلك وفيما نحن فيه ليس المبيع مما يتقرب به لغير الله إذ هو انما يكون كذلك بالبيع الذى فرض كونه اعانة.

وبعبارة أخرى المعتبر تحقق العناوبن المزبورة فى المبيع مع قطع النظر عن البيع بان يكون البيع واقعاً عليها مضافاً الى انّ الظاهر كون العناوين المزبورة علة وسبباً لفساد البيع ولايكون كذلك الّا بتحققها مع قطع النظر عن البيع(2).

ومما ذكر يظهر ما فى كلام سيدنا الامام المجاهد قدس سره حيث قال لايبعد الاستناد الى رواية تحف العقول على البطلان لولا ضعفها لا الى الفقرة التى ذكرها شيخنا

ص: 12


1- جامع المدارك: 3/12.
2- تعليقة الميرزا/ 54، بلغة الطالب: 73/1-74.

الأعظم فى أول مكاسبه وفى المقام بل الى فقرة اخرى ساقطة من قلمه الشريف او النسخة التى كانت عنده فما هو الموجود فى التحف هكذا:

وكذلك كل بيع (مبيع ظ) ملهو به وكل منهى عنه مما يتقرب به لغير اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصى(1) وباب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم بيعه وشرائه وامساكه وملكه الخ.

بأن يقال: انّ أبواب الباطل تشمل مطلق المعاصى سيما مع وقوعها فى مقابل أبواب الضلالة وباب يوهن به الحق فالحديث متعرض لما يوجب الضلالة ككتب الضلال وبيع القرطاس لذلك ومما يوجب الوهن فى الاسلام كبيع السلاح لاعداء الدين ومنه بيع العنب مثلاً ممن يجعله خمراً ويبيعه علنا فى شوارع المسلمين أو جنب المشاهد المعظمة ولما يوجب الوهن فى الاسلام ولما يكون باباً من أبواب الباطل و هو ساير المعاصى ولهذا اطلق الباطل على كثير منها فى الاخباركالقمار و الشطرنج و السماع ونحوها ففى رواية الفضيل قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء التى يلعب بها الناس و النرد و الشطرنج حتى انتهيت الى السدر (كعِبَر لعبة للصبيان) فقال اذا ميّز الله الحق من الباطل مع ايهما يكون ؟ قلت مع الباطل. فقال فما لك وللباطل و قد فسر قوله تعالى:) لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) بالسرقة و القمار ونحوهما.

وجه الدلالة على البطلان انّ الظاهركما قالوا أنها سيقت لافادته مضافاً الى أنّ العرف يرى التنافى بين تحريم المعاملة ومبغوضيتها و بين تنفيذها وايجاب الوفاء

ص: 13


1- روى فى جامع الأحاديث هكذا: أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم حرام بيعه وشراؤه و امساكه و ملكه وهبته و عاريته وجميع التقلب فيه الا فى حال تدعو الضرور فيه الى ذلك: ج 17 ص 147.

بها(1).

وذلك لما عرفت من انّ الظاهر من الرواية هو لزوم تحقق العناوين المذكورة فى المبيع مع قطع النظر عن البيع ومن المعلوم انّ مثل العنب وغيره مما كان له منافع محللة ليس بباطل مع قطع النظر عن البيع وان اطلق عليه الباطل باعتبار بيعه لكونه اعانة على الحرام بل المبيع لاشتماله على وجوه الصلاح يدخل فى فقرة اخرى من الرواية وهى فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به فى أمورهم فى وجوه الصلاح الذى لايقيمهم غيره مما يأكلون و يشربون ويلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم ويجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التى لايقيمهم غيرها من كل شىء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذاكلّه حلال بيعه وشراؤه وامساكه واستعماله وهبته وعاريته(2).

و يؤيّده حصر الصنايع المحرمة فى ما يجيئ منه الفساد محضا حيث قال فى نفس هذه الرواية: وذلك انما حرّم الله الصناعة التى حرام هى كلها التى يجيئ منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج وكل ملهو به و الصلبان والاصنام وما اشبه ذلك من صناعات الاشربة الحرام وما يكون منه و فيه الفساد محضا ولايكون فيه ولا منه شىء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلمه و العمل به واخذ الاجر عليه و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلها الا ان تكون صناعة قد تنصرف (تتصرف ئل) الى جهات الصنايع وان كان قد يتصرف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصى فلعله لما فيه من الصلاح حل تعلمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه الى غير وجه الحق و الصلاح فهذا تفسير وجه اكتساب معايش العباد... الحديث(3).

ص: 14


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 150.
2- جامع الأحاديث: ج 17 ص 147.
3- جامع الاحاديث: ج 17 ص 149-150.

بدعوى عدم الفرق بين الصناعه و التجارة لظهورها فى ان المحرم منحصر فى ما يجيئ منه الفساد محضا وليس مثل العنب ونحوه كذلك، وعليه فلايدخل تحت عنوان الباطل ولا اقل من الشك فالتمسك به تمسك بالدليل فى الشبهات الموضوعية ولعله هو منشأ تأمل الشيخ قدس سره هذا مضافا الى أنّ ظاهر قوله: «وكل منهى عنه مما يتقرب... الى أن قال: فهو حرام محرّم بيعه... الخ، انّ الملاك فى حرمة بيعه هو تعلق النهى و الحرمة بنفس العين قبل البيع، وعليه فلايشمل المقام؛ لأنّ العنب لم يتعلق به الحرمة و النهى.

ولقد أفاد و أجاد فى ارشاد الطالب حيث قال ان المذكور فى الحديث من ملاك فساد البيع لايعم المقام حتى لو قيل بوجود فقرة اخرى فى الحديث كما فى النسخة المطبوعة من تحف العقول الموجودة فى ايدينا وهى قوله أو باب من الابواب يقوى به باب من الضلالة أو باب من ابواب الباطل، وجه الظهور انه سلمنا كون المراد بالباطل مطلق الانتفاع المحرم فرضاً الا انه ليس مجرد حرمة الانتفاع وملاكاً لفساد البيع بل الملاك تعلق النهى بنفس العين و العنب لم يتعلق به النهى فى خطاب(1).

وربما يستدل بالروايات المستفيضة. الحاكية للعن ر سول الله صلى الله عليه و آله و سلم الطوايف الدخيلة فى شرب الخمر لبطلان بيع العنب و التمر للتخمير بدعوى ان الظاهر من الروايات. المستفيضة. الحاكية للعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الطوايف الدخيلة فى شرب الخمر مبغوضية اشتراء العنب للتخمير ولو بالغاء الخصوصية عرفا لو لم نقل بفهم العرف منها مبغوضية البيع ممن يعلم انه يجعله خمراً، ومع مبغوضية الاشتراء أو هو مع البيع بعنوانهما يستبعد تنفيذ المبايعة بل يكون الجمع بينهما من قبيل الجمع بين المتنافيين عرفا، و قد عرفت ان الحرمة فيها ليست مقدمية. والفرق بينه وبين ما تقدم من تصحيح البيع المنطبق عليه عنوان محرم واضح.

ص: 15


1- ارشاد الطالب: ج 1 ص 102.

و دعوى ان التحريم دليل على الصحه فى عير محلها؛ فان المبغوض هو المعاملة العقلائية الرائجة بينهم من بيع التمر و العنب للتخمير و امثالهما، ومع مبغوضيته لامحالة يتصدى الشارع لدفعه فى عالم التشريع، و هو ملازم لردعه سيما ان الردع موجب لتقليل مادة الفساد و التنفيذ موجب لتكثيرها؛ لان كثيرا من الناس يرتكبون بعض المعاصى ويتنزهون عن اكل مال الغير بغير حق واشتغال ذمتهم به(1).

و فيه انه يتم ذلك بالنسبة الى من اشترى بقصد التخمير؛ لظهور قوله عليه السلام «لعن رسول الله - فى الخمر عشرة غارسها وحارسها وبايعها ومشتريها وشاربها وآكل ثمنها وعاصرها وحاملها و المحمولة اليه وساقيها» فى ان موارد اللعن هى المقصود بها الخمر و التخمير، واما من لم يكن حال الشراء قصده التخمير وان حدث له ذلك بعد الشراء فلاتشمله الرواية. هذا، مضافا الى ما فى ارشاد الطالب من ان النهى عن معاملة بمعنى تحريمها تكليفاً لايقتضى فسادها حتى فيما اذا تعلق النهى بنفس المعاملة.

والوجه فيه هو أنّ النهى عن المعاملة يمنع عن ايجادها، وصحتها بعد ايجادها أى امضاؤها أمر آخر لاينافى النهى عن الايجاد(2) ودعوى ملازمة الحرمة التكليفية مع الحكم الوضعى غير ثابتة؛ لأنّ النهى التكليفى عن المعاملة يجتمع مع النفوذ كالنهى التكليفى عن المظاهرة، فلو كان الجمع بينهما جمعاً بين المتنافيين لم يجتمع حرمة المظاهرة مع نفوذها، و أيضاً لازم الملازمة المذكورة هو الحكم بعدم تحقق الحيازة لو غرس أرضاً مواتاً بقصد التخمير، ولا أظن الالتزام بذلك، فلا تغفل.

وربما يفصّل و يقال بالصحة فيما اذا كانت المعاملة واقعة بنحو المعاطاة وبالفساد فيما اذا وقعت المعاملة بالصيغة؛ وذلك لأن المحرم فى الاول عنوان آخر منطبق على المعاملة الخارجية، و هذا العنوان غير عنوان نفس المعاملة، وبينهما عموم من وجه،

ص: 16


1- المكاسب المحرمة لسيدنا الامام المجاهد قدس سره: ج 1 ص 151.
2- ارشاد الطالب 101:1.

والمعاملة الخارجية مجمع لهما، ولكل منهما حكمه بناء على جواز اجتماع الامر و النهى فى شىء واحد، ومن ذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع سببا يؤدى الى مبغوضه؛ لان التنفيذ لم يقع الا على عنوان البيع ونحوه، و هو ليس بمبغوض، وكون عنوان آخر منطبق على ما ينطبق عليه عنوان المعاملة مبغوضاً لايوجب تنفيذ المبغوض.

هذا بخلاف الثانى؛ لحصول المزاحمة بعد وقوع المعارضة بين دليل حرمة التعاون على الاثم ودليل وجوب تسليم المثمن، فان قلنا بترجيح الثانى يجب عليه التسليم.

ويعاقب على الاعانة على الاثم، وان قلنا بترجيح الاول فلايجوز له التسليم، فحينئذ ربما يقال ان المعاوضة لدى العقلاء متقومة بامكان التسليم و التسلم ومع تعذره شرعاً أو عقلاً لاتقع المعاوضة صحيحة، ففى المقام يكون تسليم المبيع متعذراً شرعاً لعدم جوازه فرضا و عدم جواز الزامه عليه لا من قبل المشترى ولا الوالى، و مع عدم تسليمه يجوز للمشترى عدم تسليم الثمن، والمعاوضة التى هذه حالها ليست عقلائية ولاشرعية فتقع باطلة.

اورد عليه سيدنا الامام المجاهد قدس سره بما افاد واجاد بقوله: و فيه ان ما يضرّ بصحة المعاوضة هو العجز عن التسليم تكوينا أو نهى الشارع عن تسليم المبيع بعنوانه حيث يستفاد منه ردع المعاوضة.

والمقام ليس من قبيلهما؛ لعدم العجز تكوينا و عدم تعلق النهى عن تسليم المبيع بعنوانه، بل النهى عن الاعانة على الاثم صار موجبا لعدم التسليم.

و بعبارة اخرى: ان المانع العقلى أو الشرعى عن مقتضى المعاملة عرفا الذى منه التسليم لو صار موجبا لبطلانها لا يوجب ان يكون مطلق المانع ولو بجهات خارجية كذلك.

و هذا نظير ما لو كان احد المتبايعين مديونا للاخر ناكلا عن ادائه فحبس

ص: 17

الدائن متاعه المبتاع لاستيفاء دينه فان جواز ذلك لايوجب مضادته لمقتضى المعاوضة، بل هى صحيحة ووجب على المديون تسليم العوض و عدم النكول فى مقابل نكول الاخر لاستيفاء دينه، ففى المقام لايكون ترك التسليم ولا حكم الشرع به منافيا لمقتضى المعاوضة بعد ما كان ذلك لغرض آخر خارج عن المعاملة ومقتضاها.

وان شئت قلت: ان البايع قادر على التسليم وغير ممتنع عنه بشرط رجوع المشترى عن قصد التخمير، فنكول البايع انما هو بتقصير من المشترى وتسبب منه وفى مثله لايكون النكول منافيا لمقتضى المبادلة، بل يجب عليه تسليم الثمن، ولايجوز له النكول فى مقابل نكوله المسبب عن تقصيره(1).

هذا، مضافا الى ما فى ارشاد الطالب من ان غاية الامر (فى صورة ترجيح دليل الحرمة) ان لا يعمه (اوفوا بالعقود) و (احل الله البيع) قبل الاقباض، واما بعده ولو عصيانا فلامانع من شمولهما له، فتكون النتيجة ان اقباض المبيع شرط لتمام البيع نظير تمام بيع السلم بقبض الثمن. و بعبارة اخرى البيع: قبل الاقباض أو مع الاقباض محرم بعنوان الاعانة على الاثم أو المسامحة فى دفع المنكر، وبهذا الاعتبار لاتعمه ادلة الامضاء ودليل وجوب الوفاء بالعقود، ولكن تعمه بعد ذلك. وان شئت قلت: ان المقام نظير ما خرج عن العام أو المطلق فرد من الأول و دار امره بين الخروج الى الابد أو فى الزمان الاول فقط حيث يرجع فيه الى العام و المطلق بالاضافة الى ما بعد ذلك الزمان كما يذكر مثل ذلك فيما اذا باع الراهن الرهن ثم فكّه، ومما ذكرنا يظهر انه لامانع من صحة البيع من الاول فيما اذا كان البيع بالمعاطاة اى بإقباض المبيع، ووجه الظهور هو ان النهى عن ايجاده بذلك الاقباض لاينافى امضاءه بعد حصوله(2).

و لا يخفى ان المقام لايكون خارجا، وانما يقترن بالمانع بناء على تسليم المانعية،

ص: 18


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 149.
2- ج 1 ص 103.

كما ان الرهن ايضا مانع، فاذا ارتفع المانع لأثرت ادلة النفوذ، فقياس ذلك ببيع السلم وجعل الاقباض شرطا لتمامية البيع اجنى عن الواقع، كما ان التعبير بخروج الفرد عن العام لايناسب المقام، وعلى فرض تسليم كونه خارجا عن العموم فالرجوع الى العام كما افاد الشيخ الاعظم قدس سره فى مسألة الفور و التراخى فى خيار الغبن يبتنى على كون الزمان مفردا بالنسبة الى العام وكان للدليل عموم ازمانى بحيث كان كل قطعة زمان بمنزلة فرد دل على ذلك، فحينئذ اذا يبتنى خرج عن تحت العام فرد فى زمان يرجع اليه فى غيره، واما اذا كان الزمان ماخوذا على اطلاقه فلادلالة للعام فى الزمان المشكوك بعد خروج الفرد منه بأزمانه و أحواله. اللهم الا ان يكون الخارج هو العنوان فيصير منوعا للعام بضد الخاص، فيمكن التمسك به فى المشكوك فتامل. هذا لو لم نقل بأن المقرون بعدم جواز التسليم كالمقرون بعدم الرضا، فكما قالوا بعدم جواز الرجوع الى دليل النفوذ فيما اذا صدر عقد عن اكراه ثم لحقه الرضا لعدم دلالة قوله (اوفوا بالعقود) على لزوم الوفاء به فى هذا الحين أيضا كذلك فى المقام فتأمل، وبقية الكلام فى محله.

وكيف كان فتحصل انّ مقتضى القواعد هو الفساد و إن كان البيع أو الاشتراء محرماً من جهة الاعانة أو من جهة المسامحة فى دفع المنكر أو من جهة مبغوضية نفس الاشتراء أو البيع، فلاتغفل.

ص: 19

القسم الثالث: من النوع الثانى ما يحرم لتحريم مايقصد منه شأناً بمعنى ان من شأنه ان يقصد منه الحرام، و لا يخفى عليك أنّه اورد على هذا العنوان فى مصباح الفقاهة بان هذا العنوان يعم جميع الاشياء ولو كانت مباحة؛ اذ ما من شىء الا وله شأنية الانتفاع به بالمنافع المحرمة فلايصح ان يجعل عنوانا للبحث، ولابد من. تخصيصه بالموارد المنصوصة، ولذا خصه الفقهاء ببيع السلاح من اعداء الدين(1).

ويقرب منه ما افاده سيدنا الامام المجاهد قدس سره من ان الاقوى بحسب القواعد عدم حرمته بهذا العنوان وصحة المعاملة عليه، وبيع السلاح لاعداء الدين ليس من مستثنيات هذا العنوان بل له عنوان خاص ينبغى البحث عنه مستقلا(2).

بيع السلاح من أعداء الدين

اشارة

ثم ان الظاهر من الشرايع و المختصر ان المحقق قدس سره جعل بيع السلاح من الاعداء من موارد الاعانة على الاثم، فيتعدى منه الى كل ما كان كذلك، وقال: «كلّ ما يفضى الى مساعدة على محرم كبيع السلاح لاعداء الدين...».

و فيه منع كون بيع السلاح من الاعداء من مصاديق الاعانة فى جميع الموارد هذا مضافا الى ان مورد الروايات وكلام الفقهاء اعم من قصد التوصل الى الحرام، اللهم الا ان يقال: ان الاعانة عنده غير منوطة بقصد التوصل الى الحرام، ولكن مضى ما فيه ولانعيد.

ولعله لذلك اورد على متن المختصر فى جامع المدارك حيث قال - فى ذيل قول المحقق «الثالث ما يقصد به المساعدة على المحرم كبيع السلاح لاعداء الدين فى حال

ص: 20


1- ج 1 ص 186.
2- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 152.

الحرب وقيل: مطلقا» -: المعروف بين الفقهاء «رضوان الله تعالى عليهم» الحرمة ولو لم يقصد المساعدة وكفاية الشأنية بل لامطلق الشأنية حيث فرق فى الاخبار بين حال الحرب و غيرها الخ(1).

فالأولى هو تبديل العنوان بكل ما يوجب تقوية الكفر ووهن الحق، و هذا العنوان يشمل السلاح بل غير السلاح من الدرع و المغفر وغير ذلك.

وكيف كان فقد وردت فى السلاح طوائف من الاخبار:

منها: مطلقات المنع:

الاولى: صحيحة على بن جعفر فى كتابه عن اخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن حمل المسلمين الى المشركين التجارة قال: اذا لم يحملوا سلاحا فلابأس ورواه الحميرى فى قرب الاسناد عن عبدالله بن الحسن عن على بن جعفر مثله(2).

فان مفهومها عدم جواز حمل السلاح اليهم مطلقا، قال الميرزا الشيرازى قدس سره:

يمكن استظهار الاطلاق منها من حيث ان حال المشركين مع المسلمين مختلفة بعد زمن النبى صلى الله عليه و آله و سلم فقد يكون بينهم حرب و قد يكون بينهم مهادنة و قد يكون هدنة مع طائفة وحرب مع اخرى فترك الاستفصال يقتضى ثبوت البأس فى حمل السلاح فى جميع الاقسام(3).

هذا مضافا الى ما فى ارشاد الطالب من انه لايبعد كون الرواية ناظرة الى خصوص غير حال الحرب، فإنّ تقويتهم حال حربهم مع المسلمين ولو بإرسال مثل الطعام اليهم غير جائز لا يظن بمثل على بن جعفر السؤال عنه(4).

ص: 21


1- ج 3 ص 8.
2- الوسائل: ج 12 ص 70.
3- التعليقة: ص 55.
4- ج 1 ص 104.

و لا يخفى ان السؤال عن خصوص حال الحرب غير مناسب لمثل على بن جعفر، واما الاطلاق فلاينافى حاله كما لا يخفى.

وربما يناقش فى اطلاق الرواية بانها بصدد بيان جواز حمل مال التجارة غير السلاح، لابيان عدم جواز بيع السلاح حتى يؤخذ باطلاقها(1).

ويمكن الذبّ عنه بأنّ التجارة عنوان تعم السلاح أيضا، فلا وجه لاستثناء السلاح منها، وايضا حمل الرواية على خصوص صورة المباينة مع ما عرفت من اختلاف احوال المشركين مع المسلمين كماترى، فلا مجال للخدشة فى اطلاق الرواية.

والثانية ما فى وصية النبى صلى الله عليه و آله و سلم لعلى عليه السلام: ياعلى كفر بالله العظيم من هذه الامة عشرة - الى ان قال - وبايع السلاح من اهل الحرب(2).

و لا يخفى عليك ان اهل الحرب اما يختص بمن يكون فى حال الحرب فلايشمل المشركين و الكفار الذين ليسوا فى حال الحرب فينحصر مورد الرواية بصورة المباينة، واما يكون المراد من اهل الحرب مطلق الخارج عن الذمة سواء كانوا فى حال المباينة أو فى حال الهدنة، فالرواية حينئذ من المطلقات، ولابعد فى الثانى مع اختلاف احوال اهل الحرب، ولكن الرواية ضعيفة.

قال فى الجواهر: لاطلاق بعض هذه النصوص اطلق بعض تحريم بيع السلاح لاعداء الدين من غيرتقييد بالقصد أو قيام الحرب(3).

والظاهر من تعليل الشهيد ايضا انه اخذ باطلاق هذه الطائفة حيث حكى عن حواشيه انه قال: ان بيع السلاح حرام مطلقاً فى حال الحرب و الصلح و الهدنة لان فيه تقوية الكافر على المسلم، فلايجوز على كل حال انتهى؛ وذلك لان مورد الروايات

ص: 22


1- المكاسب المحرمة: ص 55.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 268.
3- ج 22 ص 29.

المطلقة هو المشركون واهل الحرب، فتعبير تقوية الكفار يناسب هذه الاخبار. هذا مضافا الى امكان الاستدلال بعموم قوله عليه السلام فى رواية تحف العقول: وكذلك كل مبيع... يقوى به الكفر و الشرك فى جميع وجوه المعاصى أو باب يوهن به الحق انتهى؛ لصدق ذلك العنوان على بيع السلاح من الكفار و المشركين، وضعف الرواية منجبر بعمل المشهور؛ اذ لا اظن أحداً افتى بجواز البيع فيما اذا كان البيع موجبا لذلك العنوان.

نعم لو احتمل ان مستند المشهور هو حكم العقل بذلك فالرواية غير منجبرة. هذا مضافا الى ما مر من ظهوركون العناوين المانعة فيها ثابتة قبل البيع لا بنفس البيع.

ويمكن الاستدلال أيضاً بعموم ذيل مصححة هند السرّاج من قوله عليه السلام: «فمن حمل الى عدونا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك» انتهى، لأنّه بعمومه يشمل المقام ولكنه لايخلو عن الاشكال لانّ الذيل متفرع على المباينة وعليه فلايكون من المطلقات.

و منها ما يدل على الجواز و هو ما رواه فى التهذيب عن محمد بن احمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن ابى القاسم الصيقل قال: كتبت اليه: انى رجل صيقل اشترى السيوف وابيعها من السلطان اجائز لى بيعها؟ فكتب عليه السلام لا بأس به(1).

والرواية ضعيفة بابى القاسم الصيقل.

هذا مضافا الى ان الظاهر من السلطان هو السلطان المخالف، فلا يعم الكفار والمشركين، فهذه الرواية لا تنافى الطائفة السابقة لاختلاف موضوعها بالنسبة الى مايدل على حرمة الحمل الى الكفار أو لكونه اخص بالنسبة الى العمومات، وحيث عرفت ان مايدل على الجواز لاينهض للمعارضة مع المطلقات الدالة على الحرمة

ص: 23


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 268.

لاختلاف موضوعه أو اخصية موضوعه مضافا الى ضعفه، فلاتصل النوبة الى مافى جامع المدارك من دعوى التعارض وترجيح جانب مادل على النهى حيث قال: ان المطلقات و العمومات بمنزلة القوانين، فالقانونان المختلفان مع تساويهما بحسب الافراد كيف يجتمعان ومع غلبة افراد احدهما كيف يكون ما يكون اقل بحسب الافراد قانونا، فالمعارضة بين مادل على الجواز وبين مادل على المنع باق، ولعل نظر الشهيد فيما عن حواشيه - من ان بيع السلاح حرام مطلقا فى حال الحرب و الصلح و الهدنة لان فيه تقوية الكافر على المسلم فلايجوز على كل حال - الى المعارضة، وترجيح ما دلّ على المنع من جهة التقوية، فليس شبه الاجتهاد فى مقابل النص(1).

وذلك لما عرفت من ان المعارضة و الترجيح فرع وحدة الموضوع، وهى مفقودة فى المقام؛ لان موضوع الحرمة فيما دل على حرمة الحمل الى الكفار هو المشرك والكافر وموضوع الجواز هو السلطان المخالف، وايضا مادل على الجواز لاينافى العمومات. هذا مضافا الى ضعف السند.

ومنها مايدل على التفصيل بين المباينة و الهدنة:

الاول: موثقة ابى بكر الحضرمى المروى فى الكافى: عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد عن على بن الحكم عن سيف بن عميرة عن ابى بكر الحضرمى قال:

دخلنا على ابى عبد الله عليه السلام فقال له حكم السراج: ما ترى فيمن يحمل السروج الى الشام و اداتها فقال لابأس انتم اليوم بمنزلة اصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم انكم فى هدنة فاذا كانت المباينة حرم عليكم ان تحملوا اليهم السروج و السلاح(2).

و قد مر سابقاً ان على بن الحكم وان كان مشتركاً ولكن يتعين الموثق بنقل احمد بن محمد عنه، ثم ان ابا بكر الحضرمى وان لم يوثق بتوثيق خاص ولكن يكفى فى

ص: 24


1- ج 3 ص 9.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 267.

وثاقته التوثيق العام و هو نقل ابن ابى عمير عنه مضافا الى نقل كامل الزيارات بناء على انه لم ينقل الّا عن الثقات فتأمّل.

ثم انه ربما يتوهم ان المراد من السروج هو السيوف السريجية، ولكنه كما فى مصباح الفقاهة فى غير محله لان السريجى اى السيف المنسوب الى السريج كزبير اى القين و هو الحديد يجمع على سريجيات لا على سروج و انّما السروج جمع سرج(1).

والثانى رواية هند السراج المروية فى الكافى عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن على بن الحسن بن رباط عن ابى سارة عن هند السراج قال: قلت لأبى جعفر عليه السلام اصلحك الله انى كنت احمل السلاح الى اهل الشام فابيعه منهم فلما عرّفنى الله هذا الامر ضقت بذلك قلت لا احمل الى اعداء الله فقال: احمل اليهم فان الله عزوجل يدفع بهم عدونا وعدوكم يعنى الروم و بعهم، فاذا كانت الحرب بيننا فلاتحملوا، فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك(2).

والظاهر ان المراد من أحمد بن محمد هو احمد بن محمد بن عيسى لانه الذى اكثر الرواية عن حسن بن محبوب دون احمد بن محمد بن خالد، ثم لا يخفى انه يمكن الاعتماد على الرواية بناء على ما هو المعروف من كون حسن بن محبوب من اصحاب الاجماع و عليه فلا يضرّ عدم توثيق أبى سارة وهند السراج، فتأمّل.

ولايذهب عليك ان موضوع التفصيل هو المخالف لا الكافر؛ لان اهل الشام فى زمن الامام الصادق والامام الباقر عليهم السلام كانوا مسلمين ولامباينة بينهم وبين غيرهم من الشيعة؛ اذ جميع ازمنة الائمة عليهم السلام من الامام السجاد عليه السلام الى زمان غيبة الامام الثانى عشر «أرواحنا فداه» زمان هدنة بيننا وبين المخالفين، فالامام عليه السلام حكم بجواز الحمل و البيع معهم معللا بانكم فى هدنة وبان تقويتهم توجب تحكيم قواهم فى مقابل

ص: 25


1- ج 1 ص 190.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 267.

عدونا وعدوهم يعنى كفار الروم ونحوهم.

وعليه، فلاربط للتفصيل المذكور فى الروايتين بالكفار و المشركين؛ ولذلك نحكم باطلاق منع بيع السلاح مع الكفار قضاءً لاطلاق صحيحة على بن جعفر، اذ لا دليل على تقييدها، بخلاف المخالفين فان حرمة بيع السلاح منهم متقيدة بصورة المباينة.

ومما ذكر يظهر ما فى كلام الشيخ الأعظم قدس سره حيث قال: و صريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم وبين المسلمين بمعنى وجود المباينة فى مقابل الهدنة وبهما يقيد المطلقات جوازاً أو منعا(1).

لما عرفت من ان الموضوع فيهما هو المخالفون لا الكفار، فلا وجه لتقييد ما ورد فى الكفار بالروايتين المذكورتين. ولقد افاد واجاد المحقق الايروانى قدس سره حيث قال: واما.

الاخبار الخاصة الواردة فى الباب فهى بين طائفتين طاثفة مطلقة واخرى مفصلة بين حال قيام الحرب وحال الهدنة، ولا تعارض بين الطائفتين ليحمل مطلقهما على مقيّدهما؛ فان المطلقات واردة فى البيع من اهل الحرب و المشركين، و المقيدات فى البيع من سلاطين الاسلام(2).

اللهم الا ان يتمسك بما رواه فى الكافى عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن ابى عبدالله البرقى عن السراد(3) عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له انى ابيع السلاح قال: لاتبعه فى فتنة(4).

بدعوى ان ترك الاستفصال عن كون بيع السلاح للكفار أو المخالفين يعم

ص: 26


1- المكاسب المحرمة: ص 19.
2- التعليقة: ص 17.
3- السراج (خ ل ئل).
4- جامع الاحاديث: ج 17 ص 268.

الموضوع فتقييد النهى بصورة الفتنة يدل على جواز ذلك فى غيرها، فيوجب تقييد صحيحة على بن جعفر و غيرها بصورة الفتنة و هى صورة المباينة و الحرب. لكن سند الرواية لايخلو عن كلام؛ لما قيل من انه إن اراد بالسراد حسن بن محبوب فسقط منه واسطة، وان اراد به غيره فيجب ان يكون معروفاً و لم نجد عنواناً له فى المعاجم، والسند فى التهذيب كذلك. واما فى الاستبصار [ج 2 ص 57] هكذا عن السراد عن رجل عن ابى عبد الله عليه السلام، والظاهر هو الصواب(1).

ويمكن الجواب عنه بناءً على شمول قولهم فى اصحاب الاجماع لمرسلاتهم كما هو ظاهركلام صاحب الوسائل فى آخر الكتاب. ان الرواية على كل تقدير سواء كان نقل السراد مع الواسطة أو بدونها موثقة، ولكن روى فى الوسائل عن الكافى مكان «عن السراد» عن السراج، وظاهره ان نسخة الكافى مختلفة، وعليه فلايثبت السراد.

وهند السراج لاتوثيق له.

هذا مضافا الى دعوى ان الظاهر من الرواية ان السؤال عن تكليفه الشخصى فى ذلك العصر، و لم يكن البيع من الكفار المستقلين فى الحكومة مورد ابتلائه بل كان بايعا للسلاح فى داخل مملكة الاسلام، والمراد بالفتنة هى الفتنة الحاصلة بين الطائفتين من المسلمين لابين المسلمين وغيرهم فانه لامعنى لعدم الجواز من المسلمين فى الصورة(2)اللهم الا ان يقال ترك الاستفصال يوجب شموله للبيع من الكفار المستقلين فى الحكومة، والقول بعدم ابتلائه لادليل له. والقول بانه لامعنى لعدم جواز بيع السلاح من المسلمين فى صورة الفتنة الواقعة بينهم وبين الكفار منقوض ايضا بانه لامعنى لعدم جواز بيع السلاح من الطائفة المحقة فى صدق الفتنة، فاللازم هو التقييد على كل حال.

ص: 27


1- هامش اصول الكافى: ج 5 ص 113.
2- المكاسب المحرمة لسيدنا الامام المجاهد قدس سره: ج 1 ص 157.

وكيف كان، فتحصل انه لادليل على تقييد اطلاق النهى فى بيع السلاح من الكفار و المشركين، و اتضح مما ذكر ايضا ان ما حكى عن حواشى الشهيد من ان بيع السلاح حرام مطلقا فى حال الحرب و الصلح و الهدنة لان فيه تقوية الكافر على المسلم فلايجوز على كل حال ليس شبه الاجتهاد فى مقابل النصّ ، ولعله أخذ باطلاق صحيحة على بن جعفر عليهما السلام، مضافا الى ما دل على عدم جواز تقوية الكفر و الشرك بل تقوية الكفار المعلومة من عدم جواز تعلية بنائهم على بناء المسلمين ومن عدم جواز تملك الكفار للعبد المسلم وغير ذلك.

والقول بعدم الفصل بين الكفار و المخالفين فما ورد فى تفصيل الحكم فى المخالفين بين الهدنة و المباينة يصلح للتفصيل فى الكفار ايضا ممنوع بما افاد المحقق الايروانى من انه لا اجماع على عدم الفصل فان فى المسألة اقوالا مختلفة(1).

هذا مضافا الى ان اهمية الكفر تكفى فى اطلاق الحكم كما يشعر به قوله فى رواية بيع حمل السلاح الى اهل الشام فان الله يدفع بهم عدونا و عدوكم.

وايضاً ان المناط فى حرمة بيع السلاح من المخالفين هو تقويتهم واعانتهم علينا و هو لايكون الاّ مع قيام الحرب بيننا، هذا بخلاف المشركين فان المناط هو نفس تقويهم وجعلهم أقوياء و هو لايختص بصورة المباينة و المحاربة(2).

وبالجملة ذهب اليه فى محكى المستند و المهذب، قال السيد قدس سره مقتضى عبارة المهذب المحكية فى المستند ان اطلاق المنع بالنسبة الى الكفار اجماعى، وانما الخلاف بالنسبة الى المسلمين فى الاطلاق و التقييد(3).

ثم ان ما ذكرناه من حرمة بيع السلاح بالنسبة الى الكفار يكون حكمه فى

ص: 28


1- التعليقة ص 17.
2- راجع بلغة الطالب: ج 1 ص 74-75.
3- راجع التعليقة: ص 10.

نفسه، واما اذا تزاحم ذلك باهم فالمعلوم هو تقديم الاهم، وذلك مثل ما اذا هجم على حوزة الاسلام عدو قوى لايمكن دفعه الّا بتسليح طائفة من الكفار الذين كان المسلمون فى امن منهم، فدفع السلاح اليهم للدفاع عن حوزة الاسلام و المسلمين واجب حينئذ لاهمية حفظ المجتمع الاسلامى، كما لا يخفى.

ومن المعلوم ان التزاحم المذكور لاينافى ادلة حرمة بيع السلاح من الكفار لانها ليست ناظرة الى صور التزاحم، فتقديم موارد التزاحم لا ينافى اطلاقها كسائر موارد التزاحم مع الاطلاقات.

ربما يقال ان الانصاف انه لايستفاد من الروايات شىء وراء حكم العقل، وعليه فالروايات تكون ارشادا الى ما حكم به العقل و هو تابع لمصالح اليوم و مقتضيات الوقت ربما يحكم بترك بيع السلاح كما اذا كان موجباً لتقوية الكفار سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيؤ له أم زمان الهدنة و الصلح و المعاقدة ولكن خيف على حوزة الاسلام ولو آجلاً بأن احتمل ان تقويتهم موجبة للهجمة على بلاد المسلمين ولسلطتهم على نفوس المسلمين واعراضهم، فنفس هذا الاحتمال موضوع لحكم العقل بترك البيع لاهمية المحتمل.

و ايضا بحكم بترك بيع السلاح فيما اذا كانت للشيعة الامامية حكومة مستقلة ومملكة كذلك وكانت للمخالف ايضاً حكومة مستقلة وكان زمان هدنة ومعاقدة بين الدولتين لكن خيف على المذهب ودولته منهم ولو آجلاً.

كما يحكم بجواز ذلك بل وجوبه فيما اذا هجم على حوزة الاسلام الاعداء بحيث لايمكن دفعهم الّا بحمل السلاح اليهم مع كون المسلمين فى امن منهم وهكذا.

ولكن لقائل ان يقول انه لاوجه لحمل الدليل على الارشاد مع عدم اقامة قرينة عليه؛ اذ الاصل فى الاحكام هو المولوية، ولايرفع اليد عنها بدون القرينة الواضحة، وموارد التزاحم لا يختص بالمقام؛ لان الخوف على الاسلام و المسلمين مقدم على سائر

ص: 29

الاحكام، ولكن لا يكون ذلك دليلا على عدم الاطلاق أو عدم كون الحكم مولويا ولعل الشارع الحكيم حكم بالاطلاق حتى فيما لم بحكم العقل كما اذا لم يكن خوف من الكفار أو المشركين تحكيما لحفظ الاسلام و المسلمين وتعلية لهم بالنسبة الى الكفاو فى السلاح كما امر فى كتابه العزيز باعداد السلاح و القوى الى حد حصول الرعب والوحشة فى الكفار.

ثم ان المراد من المشركين و الكفار ليس الكفار و المشركين الذين كانوا فى بلد المسلمين تابعين للحكومة الاسلامية؛ فان الظاهر من الحمل اليهم هو كونهم مستقلين، ولا اقل من قصور الادلة بالنسبة الى الكفار الذميين، وعليه فاعطاء السلاح اياهم فيما اذا اوجبت المصلحة اعطاء السلاح لا مانع منه ما لم يخف على حوزة الاسلام والمسلمين أو لم يكن ذلك تقوية لهم، والأ فهو منهى بحكم العقل و الشرع كما لا يخفى.

ثم ان الادلة الدالة على منع بيع السلاح من الكفار مطلقاً أو المخالفين عند المباينة مطلقة من جهة قصد الاعانة وعدمه ولذلك قال الشيخ الاعظم قدس سره: ان ظاهر الروايات شمول الحكم لما اذا لم يقصد البايع المعونة و المساعدة اصلا بل صريح مورد السؤال فى روايتى الحكم وهند هو صورة عدم قصد ذلك، فالقول باختصاص حرمة البيع بصورة قصد المساعدة كما يظهر من بعض العبائر ضعيف جدا(1).

ثم ان محل الكلام هو سلاح الحرب فعلا، و هو كما افاد سيدنا الامام المجاهد قدس سره يختلف بحسب الازمان، فربما كان شىء فى زمان ومكان سلاح الحرب دون آخر ففى الازمنة القديمة كانت الاحجار الخاصة و الفلاخن والاخشاب آلة له ثم انقرض زمانها وخرجت تلك الالات عن صلاحية السلاح، فقامت مقامها اسلحة اخرى كالسيف و الرمح و العمود و النيزك و الترس و الدرع ونحوها، ثم انقرضت هى وقامت

ص: 30


1- المكاسب المحرمة: ص 19.

مقامها غيرها الى هذه الاعصار، فالمراد من السلاح فى موضوع البحث سلاح اليوم اى الذى يستعمل فى الحروب لا ما انقرضت ايامه وخرجت عن الاستعمال فيها، فان اراد بعض اعداء الدين واهل الحرب حفظ الاسلحة القديمة لقدمتها وكونها عتيقة لامانع من بيعها وخارج عن موضوع بحث بيع السلاح من اهل الحرب بلاريب كما لا يخفى(1).

بيع غير السلاح من الادوات الاخرى

وهل يلحق غير السلاح كالمجن بكسر الميم وفتح الجيم اى الترس و الدرع والمغفر بكسر الميم وسكون الغين وفتح الفاء اى درع يلبس تحت القلنسوة وسائر ما يكن أى يستر البدن و يحفظه عن الصدمات و الضربات بالسلاح فى عدم جواز بيعه من الكفار مطلقا أو من المخالفين عند المباينة أم لا؟ الاول هو الظاهر لموثقة ابى بكر الحضرمى بناء على ان المراد من السروج غير السيوف كما هو الظاهر. ومن المعلوم انه لا خصوصية للسروج ولكنه متقيد بصورة الباينة.

لايقال: ان الموضوع فى هذه الموثقة هو بيع السروج من المخالف، فلا يعم الكافر.

لانا نقول: يدل على حرمة بيعها منهم بالفحوى كما لا يخفى. هذا مضافا الى عموم قوله عليه السلام: فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك، فتأمل.

وحكم العقل بقبح تقوية الكفار و المخالفين فى حال المباينة.

قال الشيخ الاعظم قدس سره: ان الحكم مخالف للاصول صير اليه للاخبار المذكورة

ص: 31


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 152.

وعموم روايه تحف العقول المتقدمة، فيقتصر فيه على مورد الدليل و هو السلاح دون ما لايصدق عليه ذلك كالمجن و الدرع و المغفر وسائر ما يكن وفاقا للنهاية وظاهر السرائر و اكثر كتب العلامة و الشهيدين و المحقق الثانى؛ للاصل وما استدل به فى التذكرة من رواية محمد بن قيس (المروى فى الكافى عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن على بن الحكم عن هشام بن سالم عن محمد بن قيس) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفئتين يلتقيان من اهل الباطل ابيعهما السلاح ؟ قال: بعهما ما يكنهما كالدرع و الخفين ونحو هذا(1).

ثم عدل عن ذلك وقال نفسه: لكن يمكن ان يقال: ان ظاهر رواية تحف العقول اناطة الحكم على تقوّى الكفر ووهن الحق، وظاهر قوله عليه السلام فى رواية هند: من حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا، ان الحكم منوط بالاستعانة، والكل موجود فيما يكنّ ايضا كما لا يخفى هذا مضافا الى فحوى رواية الحكم المانعة من بيع السروج، وحملها على السيوف السريجيّة لايناسبه صدر الرواية مع كون الراوى سراجا. واما رواية محمد بن قيس فلادلالة لها على المطلوب لان مدلولها بمقتضى ان التفصيل قاطع للشركة الجواز فيما يكنّ و التحريم فى غيره مع كون الفئتين من اهل الباطل، فلابد من حملهما على فريقين محقونى الدماء؛ إذ لو كان كلاهما أو احدهما مهدور الدم لم يكن وجه للمنع من بيع السلاح على صاحبه فالمقصود من بيع ما يكن منهما تحفظ كل منهما عن صاحبه وتترسه بما يكن، و هذا غير مقصود فيما نحن فيه بل تحفظ اعداء الدين عن بأس المسلمين خلاف مقصود الشارع، فالتعدى عن مورد الرواية الى ما نحن فيه، يشبه القياس مع الفارق، ولعله لما ذكر قيد الشهيد فيما حكى عن حواشيه على القواعد اطلاق العلامة جواز بيع ما يكن بصورة الهدنة و عدم قيام الحرب(2).

ص: 32


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 268.
2- المكاسب المحرمة: ص 19-20.

لقد افاد واجاد، الا ان التمسك بقوله: فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا بناء على انّ المناط هو الاستعانة كما ترى؛ لان ظاهر الرواية هو الاستعانة بالسلاح، فلايعم الاستعانة بغير السلاح. وايضا التمسك برواية تحف لايخلو عن الاشكال؛ لان النهى متفرع على عنوان تقوّى الكفر ووهن الحق.

ومن المعلوم انّ غير السلاح ليس فى نفسه كذلك، و القول بأنّ وجود الأمور المزبورة عند الكفّار تقوية الكفر فيصح تفريع النهى(1)، كماترى؛ لأنّ المبيع ليس وجود الأمور المزبورة عند الكفّار بل نفس الأمور المزبورة فافهم.

قال فى مصباح الفقاهة فى ذيل ما افاده الشيخ الاعظم جوابا عن رواية محمد بن قيس: وتوضيح ذلك ان الامام عليه السلام فصّل بين السلاح وبين ما يكن، فلابد وان يكون بيع السلاح حراما بعد. ما جوز الامام بيع الثانى لان التفصيل قاطع للشركة فى الحكم، و الّا لكان التفصيل لغوا، وعليه فترفع اليد عن ظهور الصحيحة وتحمل على فريقين محقونى الدماء من اهل الخلاف، اذ لو كان كلاهما أو احدهما مهدور الدم لم يكن وجه منع بيع السلاح منهم، وحينئذ فيجب ان يباع منهما ما يكن ليتحفظ كل منهما عن صاحبه و يتترس به عنه، بل لو لم يشتروا وجب اعطاؤهم اياه مجانا؛ فان اضمحلالهم يوجب اضمحلال وجهة الاسلام فى الجملة؛ ولذا سكت على عليه السلام عن مطالبة حقه من الطغاة خوفا من انهدام حوزة الاسلام. ومن هنا افتى بعض الاعاظم فى سالف الايام بوجوب الجهاد مع الكفار حفظا للدولة العثمانية(2).

فتحصل ان بيع ادوات الحفاظة فى حال الحرب حرام، واما فى غير حال الحرب فلادليل على الحرمة، الا اذا كان موجباً لسلطتهم فانه لايجوز بحكم العقل والشرع.

ص: 33


1- بلغة الطالب: 75/1.
2- ج 1 ص 191.

م بعد وضوح حرمة بيع الادوات المذكورة فى حال الحرب هل يجوز بيع غيرها منهم فى حال الحرب سواء كان من ادوات الاطلاعات أو من الاطعمة والاشربة والادوية والاجناس المختلفة مما يوجب تقويتهم أو تعليتهم أم لا يجوز؟ يمكن ان يقال بحرمة ذلك ايضا؛ لحكم العقل و الشرع بقبح تقوية اهل الحرب، بل يجب تضعيف الكفار فى حال الحرب بأى طريق كان اذا كان الفتح موقوفاًعليه.

هنا فروع:

احدها: انه اذا كانت طائفتان من الكفار مباينتين هل يجوز بيع السلاح منهما أو من احدهما أم لايجوز؟ ربما يقال لاحرمة لذلك؛ لان النهى عن حمل السلاح وبيعه منهم باعتبار ان لاتكون كلمتهم العليا وشوكتهم قصوى، واما اذا لم يكن كذلك فلا حرمة له(1).

و فيه ان اطلاق المنع يشمل ذلك ايضا ولكن الانصاف بعد ملاحظة مناسبات الحكم و الموضوع هو انصراف الأدلّة عن هذه الصورة وحيث ان فرض المسألة هو فيما اذا لم يلزم تقوية الكفر أو وهن الحق و لم يكن خوف على المسلمين من استفادتهم من السلاح آجلاً فى حربهم مع المسلمين، فلادليل على الحرمة، و الّا فلايجوز عقلا ولا شرعا.

ثانيها: هل يكون بيع السلاح من قطاع الطريق محكوما بحكم بيع السلاح من الكفار أو المخالفين فى صورة المباينة أم لا؟ ذهب الشيخ الاعظم قدس سره - بعد عدم جواز التعدى اليه من مورد النصوص - الى جواز الاستدلال برواية تحف العقول من جهة إناطة الحكم فيها بتقوى الباطل ووهن الحق، فلعله يشمل ذلك، ثم تأمل فيه. ولعل وجه التأمل هو ما اشار اليه الميرزا

ص: 34


1- ارشاد الطالب: ج 1 ص 106.

الشيرازى قدس سره من ان المحتمل بل الظاهر ان يكون المراد بالحق و الباطل الايمان والاسلام ومقابلهما لامطلق الطاعة و المعصية. هذا مضافا الى ما مرّ ايضا من ظهور كون العناوين المانعة المذكورة فيها ثابتة قبل البيع لا به(1).

هذا مع قطع النظر عن قصد الحرام و السرقة، و الّا فهو اعانة على الحرام أو هذا فيما اذا لم يكن ترك البيع علة تامة لعدم قطع الطريق ودفع المنكر، و الّا فلايجوز، بل يمكن القول بعدم الجواز ولو لم يكن ترك البيع علة تامة ؟ لاطلاق ادلة وجوب دفع المنكر و عدم مخصص له، خلافا لما مرّ فى بيع العنب ممن يعلم حيث وردت فيه روايات خاصة.

ثالثها: أنه لا اشكال فى حرمة بيع السلاح من الباغين الذين يكونون فى صدد تضعيف الحكومة الاسلامية فى داخل المملكة الاسلامية؛ لأنّ حفظ النظام الاسلامى من أهم الواجبات، و لعموم قوله عليه السلام: فمن حمل الى عدؤنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك، ولعدم خصوصية المخالف، فيشمل المقام كل مادل على حرمة بيع السلاح من المخالف عند المباينة، هذا مضافاً الى روايات تدل على جواز سى الكراع و السلاح من الباغين(2) فانها لاتساعد جواز بيع السلام منهم، كما لا يخفى.

ثم إنّ تقوية البغاة بغير السلاح من سائر الأدوات و الأجناس لاتجوز فيما إذا كانت لهم فئة، كما يدل عليه النصوص. المستفيضة منها: خبر المنقرى المروى فى الكافى عن على بن ابراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن سلمان (بن داود - يب) المنقرى عن حفص بن غياث: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والاخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية ؟ فقال: ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبراً ولا يقتلوا أسيراً ولايجهزوا على جريح، و هذا إذا لم يبق من أهل البغى أحد، و لم يكن لهم

ص: 35


1- التعليقة: ص 57.
2- جامع الأحاديث: ج 13 ص 104.

فئة يرجعون إليها، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فانّ آسيرهم يقتل ومدبرهم يتبع وجريحهم يجاز عليه(1).

ومن المعلوم أنّ الأمر بقتل أسيرهم و اتّباع مدبرهم ونحوهما لايجتمع مع جواز بيعهم ما يكنّهم و يحفظهم و يقوّيهم كما لا يخفى.

رابعها: هل يجوز ايجاد الروابط الاقتصادية وسائر القرارات مع الكفار فى غير حال الحرب أم لا يجوز؟ لا اشكال فى جواز ذلك ما لم يوجب ذلك سببا لسلطتهم ونفوذهم وتعليتهم على المسلمين، و الّا فيحرم؛ للآيات الدالة على حرمة اتخاذ الكفار اولياء: منها: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم و الكفار اولياء واتقوا الله ان كنتم مؤمنين)(2).

هذا مضافا الى قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)(3). فانه ينفى مطلق سلطة الكفار على المؤمنين؛ بناء على عدم اختصاص الآية بالقيامة كما يوهم ذلك صدر الآية (ان الله جامع المنافقين و الكافرين فى جهنم جميعاً الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا الم نكن معكم وان كان للكافرين نصيب قالوا الم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل..) الاية. بدعوى ان وقوع قوله تعالى (و لن يجعل... الآية) بعد قوله (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) دليل على ان المراد نفى السبيل فى القيامة.

وذلك لامكان ان يقال كما افاد سيدنا الامام المجاهد قدس سره: ان قوله ذلك لنكتة

ص: 36


1- جامع الأحاديث: ج 13 ص 94.
2- المائدة: 57.
3- النساء: 141.

مذكورة فى الصدر، و هو قوله تعالى:) لكم فتح من الله)، فجعل الفتح منه تعالى وبتأييده و امداده وقال فى الكفار ان كان لهم نصيب فلم يسمه فتحا ولانسبه الى نفسه، فلعل قوله تعالى: (ولن يجعل الله)، ناظر الى هذه التفرقة وان النصيب الذى لهم ليس بامداد من اللّه وتأييد وجعل سبيل، بخلاف فتح المسلمين فانه فتح من قبل الله وجعل سبيل للمسلمين عليهم، لكن مع ذلك لاتوجب تلك المناسبة صرف الكبرى الى خصوص المورد، فلايبعد استفادة مطلق السبيل منه(1).

بناء على ان المراد من السبيل مطلق الطريق كما هو معناه الظاهر وحيث انه وقع فى سياق النفى يفيد العموم، فيشمل جميع انواع طرق الاستيلاء من الغلبة والسلطة الخارجية و النفوذ و الحكومة و الغلبة فى الحجة و البرهان و غيرها.

والاية المباركة تدل على ان الله تعالى لم يجعل ولن يجعل فى عالم التشريع سبيلا لهم ان لم نقل فى عالم التكوين أيضاً؛ لان نصيب الكفار من الفتوحات ليس من ناحية اللّه تعالى اصالة.

وكيف كان فالاية تنفى مطلق السبيل لهم على المؤمنين لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولاوجه لاختصاصه ببعض مصاديقه من القيامة. وعليه فما روى فى ذيل الاية من تفسيره بالغلبة فى يوم القيامة لعله تفسير الاية ببعض مصاديقه فلاينافى عمومية الاية، وحيث ان لسان الاية هو لسان الحكومة، فيقدم على سائر العمومات كأدلة المعاملات و النكاح و الوقف وغير ذلك، و يؤيد ذلك فتاوى الاصحاب بالاية فى الفقه كشراء الكافر المسلم. قال المحقق الاردبيلى: احتج به اصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم(2).

وكعدم جواز رهن العبد المسلم عند الكافر و عدم جواز وقف العبد المسلم على

ص: 37


1- كتاب البيع: ج 2 ص 542.
2- زبده البيان: ص 439.

الكافر وبطلان نكاح الكافر باختيار الزوجة للاسلام ان لم يسلم الزوج معها ولذلك قال المحقق الاردبيلى: يمكن الاستدلال بها على عدم تسلط الكافر على المسلم بوجه تملك واجارة ورهن و غيرها؛ لانه نكرة فى سياق النفى يفيد العموم فلاشىء من السبيل له على المسلم(1).

ومن المعلوم ان الاية لاتختص بنفى سلطة الكافر على الفرد بل تعم نفى سلطتهم على المجتمع الاسلامى ايضا، فكل سلطة وسبيل من الكافر على آحاد المسلمين والمجتمع الاسلامى فهى منفية.

هذا مضافاً الى امكان الاستدلال بالنبوى المشهور الموثوق الصدور الذى جزم به الصدوق رحمه اللّه، و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم الاسلام يعلو ولا يعلى عليه(2).

بناء على حمله على ارادة الانشاء، فيكون مفاده الاسلام يجب ان يعلو ولابد ان لايعلى عليه أو يحرم ان يعلى عليه.

أما ان حمل على جملة اخبارية كما ادعى ظهوره فيها فهو كقوله تعالى (هو الذى ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)(3) يدل على غلبة الاسلام فى الزمان المستقبل خارجاً على سائر الاديان أو يدل على كون الاسلام يعلو على سائر الاديان، فلايرتبط بالمقام فتأمل ومضافاً الى إمكان دعوى القطع بأن شرف الاسلام وعزته وشرف المسلم وعزته مقتضٍ بل علة تامة لان لايجعل فى احكامه وشرائعه مايوجب ذل الاسلام و المسلمين(4).

ثم لايخفى عليك بعد دلالة الادلة على ان الله تعالى لم يرد ولم يجعل ولن يجعل

ص: 38


1- زبدة البيان: ص 440.
2- الوسائل: ج 17 ص 376.
3- التوبة: 33.
4- راجع القواعد الفقهية للسيد البجنوردى: ج 1 ص 157.

سلطة للكفار يظهر انه فى أحكامه دفع سلطتهم، و يستفاد منه ايضا حكم الرفع فاذا كان الكفار فى مستوى التعلية و السلطة على المسلمين يجب معارضتهم فى الامور الاقتصادية عند الامكان حتى ترتفع السلطة و التعلية قضاءً لنفى جعل الله تعالى مطلق السبيل لهم. هذا مضافاً الى قوله صلى الله عليه و آله و سلم الاسلام يزيد ولاينقص(1).

خامسها: انه هل يختص المنع عن حمل السلاح بالمعاملات أو يعم غيرها والظاهر هو الثانى؛ لان الادلة الخاصة وان كان موضوعها هو الحمل المعاملى فلايشمل غير صورة المعاملة ولكن لاخصوصية للمعاملة. هذا مضافاً الى قوله عليه السلام فمن حمل الى عدونا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك، فانه مشعر بأن الملاك هو استعانتهم بذلك، فلا فرق بين ان يكون الحمل معاملياً أو غيره. هذا مضافاً الى حكم العقل بقبح تقويتهم وإعانتهم بأى طريق كان فيما اذا كانوا فى الحرب، بل لعل ذلك من الضروريات.

سادسها: ان النهى فى اخبار المنع عن حمل السلاح هل يدل على الفساد ام لا؟ قال الشيخ الاعظم قدس سره: «ان النهى فى هذه الأخبار لايدل على الفساد، فلامستند له سوى ظاهر خبر تحف العقول الوارد فى بيان المكاسب الصحيحة و الفاسدة، و الله العالم».

و قد عرفت عدم دلالة رواية تحف العقول على الفساد فيما اذا لم يكن مع قطع النظر عن البيع معنوناً بالعناوين المانعة و المقام هكذا؛ اذ السلاح فى نفسه ليس داخلاً فى العناوين المذكورة، وانما بالبيع صار معنوناً بالعنوانات المذكورة فى خبر تحف العقول.

اللهم الا ان يقال: «ان وجود الامور المزبورة عندهم يعنى السلاح وما يكنّ

ص: 39


1- الوسائل: ج 17 ص 376.

وما يحفظهم تقوية لهم فتمليكهم اياها فيه تقوية الكفر، فالعنوان ثابت للمبيع مع قطع النظر عن البيع. نعم تصل ذلك به الى المرتبة الفعلية، فان ابيت فلا اقل من دخول البيع المزبور فيما فيه وجه من الفساد الذى يراد منه بضميمة التمثيل بالبيع المزبور ما يعم تحقق وجه الفساد بنفس البيع.

وان ابيت عن ذلك فلاينبغى الشك فى ان بيع الامور المزبورة تقوية لهم، فتحريم تقوية الكفار تحريم للبيع المزبور، فان لم يجتمع هذه الدعوى مع ما مر من دعوى ظهورها فى تحقق العناوين المزبورة مع قطع النظر عن البيع من جهة كونها علة للمنع عنه، فيجب ان يكون تحققها غير متوقف عليه فليلغ ما استظهرناه هناك؛ فان الصدق العرفى فيما نحن فيه معلوم»(1).

و فيه أولاً: ان المبيع ليس وجود الامور المذكورة عند الكفار بل هو نفس السلاح.

و ثانيا: انّ قوله عليه السلام: أو شىء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا أو بيع الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شىء من وجوه النجس فهذا كله حرام محرم الخ ظاهر بقرينة الامثلة فى العناوين الاولية و الذاتية المحرمة، ولم بحرز شموله للعناوين الثانوية.

و ثالثا: ان مع الاستظهار من رواية تحف ان الحرمة و الفساد عارضان على العناوين المانعة فلايشمل ما اذا تحققت العناوين بنفس البيع لامعنى لرفع اليد عنه والقول بغيره بمجرد صدق تقويتهم بنفس البيع، اذ غاية صدق تقويتهم بيع السلاح هو الحرمة التكليفية من جهة العناوين الطارئة، وهى لاتدل على الفساد، فلاينافى العلم بصدق تقويتهم بالبيع مع ما استظهر من رواية تحف العقول من اختصاص

ص: 40


1- بلغة الطالب: ج 1 ص 75 و 76.

دلالتها على الفساد بالعناوين المانعة مع قطع النظر عن البيع فتحصل انه لادليل على الفساد.

نعم اذا كان بيع السلاح من الكفار أو سائر القرارات معهم مصداقاً لتحقق سبيل الكفار وسلطتهم على المؤمنين يمكن الاستدلال على فساد تلك الامور بقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) كما استدل الاصحاب بها على بطلان بيع العبد المسلم من الكافر وبطلان رهن العبد المسلم عند الكافر، وليس ذلك الا لرفع سلطة المشترى أو المرتهن شرعا ومعنى رفعها ليس الاّ عدم تحقق البيع أو الرهن، و هو معنى الفساد. اللهم الا أن يقال: انه اخص؛ فان عدم جواز بيع السلاح من الكفار لايختص بصورة تحقق السلطة كما لا يخفى. هذا مضافا الى ما فى مكاسب الشيخ الانصارى قدس سره من ان إباء سياق الاية عن التخصيص مع وجوب الالتزام به فى طرف الاستدامة(1) و فى كثير من الفروع فى الابتداء يقرّب تفسير السبيل بما لا يشمل اللكية بأن يراد من السبيل السلطنة، فيحكم بتحقق الملك و عدم تحقق السلطنة بل يكون محجوراً عليه مجبوراً على بيعه، و هذا وان اقتضى التقييد فى اطلاق ما دل على استقلال الناس فى أموالهم و عدم حجرهم بها، لكنه مع ملاحظة وقوع مثله كثيراً فى موارد الحجر على المالك أهون من ارتكاب التخصيص فى الاية المسوقة لبيان ان الجعل شىء لم يكن ولن يكون وان نفى الجعل ناش عن احترام المؤمن الذى لا يقيد بحال دون حال(2).

اورد عليه المحقق الخراسانى بأنه يمكن ان يقال ان الآية ولو بقرينة سياقها لابد

ص: 41


1- اذ لايقولون بزوال الملكية بعد اسلام العبد قهراً على الكافر بل يباع عليه و لا يقولون ايضاً بعدم انتقال العبد المسلم الى الكافر بالارث و ان حكموا ببقاء ملكيته له فيما كفر المولى بعدما كانا مسلمين.
2- المكاسب: ص 159 ط قديم.

من ان تحمل على ما لايرد عليه التخصيص، الا ان حملها على ما يعم مثل تملكه له بالاختيار بشرائه لايوجبه؛ فان تملكه بالارث أو ببقاء ملكيته قبل الاسلام انما هو بالتعبد لا بالاختيار، وكون التملك بالاختيار سبيلاً بل من اوضح السبل لايستلزم كون التملك حدوثا أو بقاء تعبداً كذلك، فلايكون الملكية القهرية التعبدية بلا استتباعها السلطنة علوا، وكان سلطنته على تحصيلها بالشراء علوا، فافهم(1).

اجاب عنه المحقق الاصفهانى بأنه يمكن ان يقال ان الملكية ان كانت بنفسها سبيلاً فلافرق بين ان يكون هذا السبيل بجعله تعالى ابتداء أو بتسبيب من العبد الى تحصيله(2).

و فيه ما لا يخفى فان الملكية القهرية الغير المستتبعة لسلطنة الكافر ليست سبيلاً، بخلاف ما اذا وقع المسلم تحت مالكيته بالاختيار، اذ تملك الكافر للمسلمين اختياراً وجعلهم فى حبالته سلطة اعتبارية عرفا واما ما ذكره شيخنا الاعظم قدس سره من تعارض عموم الاية مع عموم ما دل على صحة البيع ووجوب الوفاء بالعقود وحل اكل المال بالتجارة وتسلط الناس على اموالهم وحكومة الاية عليها غير معلومة ففيه ما افاده المحقق الخراسانى قدس سره من ان العرف يساعد على التوفيق بين ما دل على الحكم للعناوين الثانية الطارئة وما دل على الحكم للعناوين الاولية؛ بتقديم الاول على الثانى وان كان بينهما عموماً من وجه وحمل الثانى على الحكم الاقتضائى، ولذا لم يلحظ بين مثليهما تعارض اصلاً(3).

وعليه فلايبعد القول ببطلان المعاملات و القرارات التى تكون نفسها مصداقا لسلطة الكفار على المسلمين كقرار الدولة الاسلامية مع الدولة الكفرية فى ان تتكفل

ص: 42


1- التعليقة على المكاسب: ص 56.
2- التعليقة على المكاسب: ج 1 ص 228.
3- التعليقة على المكاسب: ص 56.

امور المسلمين او ان يكون اختيار المسلمين فى بعض الامور بأيدى الكفار كاختيار اكتشاف معادنهم أو اختيار بعض الصنائع وغير ذلك. واما اذا لم تكن نفس المعاملات والقرارات كذلك ولكن مستلزمة لسلطتهم فالحكم بالبطلان مشكل وان كان ايجاد هذه المعاملات ممنوعاً بحكم الاية و غيرها، و يجب رفع السلطة ان وقعت تلك المعاملات، نعم للحاكم الاسلامى ان يحكم ببطلان تلك المعاملات اذا اقتضت المصلحة ولم يكف رفع السلطة، والمسالة محتاجة الى التأمل، والله تعالى يهدى السبيل.

ص: 43

النوع الثالث: الاكتساب بما لا منفعة فيه محللة معتداً بها عند العقلاء

و يقع الكلام فى امور:

الأمر الاول: انه لاحاجة فى ادراجه فى المكاسب المحرمة بعدما عرفت من تعميم الحرمة بالنسبة الى الحرمة الوضعية الى تصوير الحرمة التكليفية فيه:

بدعوى شمول الاكل بالباطل لتملك مال الغير بلا مال فى قباله، فيصدق على بيع البايع ونقله ما لامنفعة له الى غيره بعوض له مالية باعتبار تضمنه لنقل المال اى العوض الى نفسه، انه اكل مال المشترى اعنى تملكه بالباطل، فيكون حراماً لظهور الآية فى انه محرم بهذا العنوان.

هذا مضافاً الى ما فى التقريب المذكور من امكان المناقشة حيث ان عنوان الاكل بالباطل كما افاد سيدنا الامام المجاهد قدس سره وان كان كناية ولايراد به الاكل مقابل الشرب، لكن لايستفاد منه الّا سائر التصرفات الخارجية نظير الشرب و اللبس، لا مثل انشاء البيع و الصلح ونحوهما مما لايعد تصرفاً عرفا ولا اظن ان يلتزم احد بحرمة انشاء المعاملة على مال الغير مع عدم رضا صاحبه، مع وضوح حرمة التصرف فى مال الغير بلا رضاه، فشمول الاية لمثل التملك الانشائى ممنوع(1).

أو بدعوى دلالة رواية تحف العقول على حصر جميع الاقسام المحللة فى الضابط للمحلّلات من قوله: وكل شىء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كله حلال بيعه وشرائه، و هو لايشمل مالامنفعة محللة معتداً بها عند العقلاء فيه، بل هو خارج عنه؛ لعدم صلاح الناس فيه، فاذا خرج منه دخل فى المحرم بمقتضى صدر الحديث الدال على تفسير التجارات فى جميع البيوع ووجوه الحلال وحرامها.

ص: 44


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 158.

مع امكان ان يمنع دلالة الحديث على الحصر؛ فان مساق الرواية كما افاد سيدنا الامام المجاهد قدس سره انها متعرضة لوجوه التجارات العقلائية المتعارفة بين الناس دون ما لايقدمون عليه مما لامنفعة عقلائية له.

ويشهد له قوله فى صدر الرواية سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التى فيها الاكتساب و التعامل بينهم ووجوه النفقات ؟ فقال: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب اربع جهات الخ؛ لانها متعرضة لما فيه الصلاح أو فيه الفساد محضاً أو من جهة من الجهات(1).

هذا مضافاً الى انّ عدم دخوله فى ضابط المحللات لايلازم دخوله فى المحرمات التكليفية بعد كون المحرمات اعم من المحرمات التكليفية و الوضعية فافهم.

وكيف كان فقد مرّ البحث فى اوائل الكتاب من كون المراد من الحرمة اعم من الحرمة التكليفية و الوضعية.

الامر الثانى: فى ان ما لامنفعة معتداً بها لدى العقلاء على انحاء:

منها ما لامنفعة له مطلقا لاعاجلاً ولا آجلاً ولا يرجى منه المنفعة. ولا اشكال فى فساد المعاملة فى هذه الصورة و عدم تملك الثمن؛ لعدم دليل على صحتها لعدم صدق واحد من عناوين المعاملات عليها من البيع و الصلح و الهبة، اذ لا مالية له ولا اضافة له بالنسبة الى شخص حتى يبدّل اضافته بالهبة أو الصلح أو بغيرهما.

قال سيدنا الامام المجاهد قدس سره: لاينبغى الاشكال فى بطلانها؛ ويدل عليه عدم صدق واحد من عناوين المعاملات عليها، لان حقيقة المعاوضة ونحوها كالهبة مجاناً متقومة بتبديل الاضافات الخاصة، فالبيع عبارة عن مبادلة مال بمال أو عين بعين لامطلقاً؛ فان المبادلة المطلقة لامعنى لها، ولا فى ذاتهما أو اوصافهما الحقيقية ولا فى

ص: 45


1- راجع المكاسب المحرمة: ج 1 ص 159.

مطلق الاضافات، بل فى اضافة خاصة هى اضافة الملكية او الاعم منها ومن اضافة الاختصاص.

والهبة عبارة عن تمليك عين مجانا أو مقابل تمليك عين مثلاً، وحقيقتها ايضاً نقل الاضافة الخاصة او تبديلها، فمع عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص لشىء بالنسبة الى شخص لايمكن تحقق العناوين المتقومة بهما، و هو واضح.

ولاريب فى ان اعتبار الملكية وكذا الاختصاص لدى العقلاء ليس جزافاً وعبثا بل للاعتبارات العقلائية كلها مناشئ ومصالح نظامية ونحوها، فاعتبار الملكية والاختصاص فيما لاينتفع به ولايرجى هى منه راساً ولايكون مورداً لغرض عقلائى . نوعى أو شخصى لغو صرف وعبث محض، فمثل البرغوث و القمل ليس ملكاً لأحد ولا لاحد حق اختصاص متعلق به، فما ربما يقال ان للانسان حق اختصاص بالنسبة الى فضلاته ليس وجيهاً على اطلاقه، فالنخامة الملقاة على الارض ليست ملكاً لصاحبها ولا له حق اختصاص بها اعرض عنها أو لم يعرض - الى ان قال: - فما قيل من أن البيع عبارة عن تبديل عين بعين من غير اعتبار المالية فيهما ساقط لاينبغى ان يصغى اليه، كما ان توهم الافتراق بين البيع وبين العقد و التجارة بما قيل ان البيع لو لم يصدق مع عدم المالية لكن صدق التجارة و العقد لا يتوقف عليها فيكفى فى تصحيح المعاملة التمسك بدليل نفوذهما، غير وجيه لاشتراك الجميع فى عدم الصدق وفى عدم المناط لاعتبار العقلاء ولان المعاوضة بين العينين لو صدقت عليها عناوبن البيع و الصلح والاجارة ونحوها صدقت عليها التجارة و العقد، ومع عدم صدق شىء من العناوين الخاصة كيف يصدقان عليها بل عدم صدق التجارة ليس بأخفى من عدم صدق البيع، بل لو فرض الشك فى الصدق كفى فى عدم جواز التمسك بالادلة أو ببناء

ص: 46

العقلاء، انتهى موضع الحاجة منه(1).

ولا حاجة مع عدم صدق عناوين المعاملات عليها فى الحكم ببطلان المعاملة الى الاستدلال بقوله تعالى: (لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل...) الخ بدعوى ان الظاهر منه ان الاكل بغير التجارة مطلقاً منهى عنه، فالامر دائر بين الامرين لا ثالث لهما، فاذا لم تصدق على مورد التجارة عن تراض يدخل فى مقابله، بل لو شك فى صدق اكل المال بالباطل فى مورد لكن علم عدم صدق تجارة عن تراض فيه يدفع الشك عنه وينسلك فى الاكل بالباطل(2).

لان مع عدم صدق عناوين المعاملات عليها لا اقتضاء لصحتها، فلايصل النوبة الى حكم التصرف فى ما يبذل بازائه حتى يستدل بالآية و يقال انه اكل المال بالباطل.

هذا مضافاً الى ان الاستدلال المذكور متوقف على دلالة الآية على الحصر مع انه محل كلام بعدكون الاستثناء منقطعا لان الاستثناء حينئذ بمنزلة لكن و تؤول الجملة الى جملتين مستقلّتين احدهما انه لايجوز اكل المال بالباطل، وثانيهما ان المعاملة التى تكون تجارة عن تراض موجبة لجواز اكل المال، فلايدل على حصر المجوز فى التجارة بحيث اذا لم تصدق على مورد التجارة عن تراض يدخل فى مقابلها.

و يشهد على كون الاستثناء منقطعاً وضوح ان التجارة عن تراض ليست داخلة فى الباطل.

اللهم الا ان يقال: ان الاستثناء لدورانه بين النفى والاثبات يفيد الحصر حتى فى المنقطع، ألا ترى ان التبادر من قولهم اطلع جميع الناس على الشىء الفلانى الا الخواجه الحاظ الشيرازى هو افادة الحصر بنحو ابلغ مع ان الاستثناء منقطع لان

ص: 47


1- راجع المكاسب المحرمة: ج 1 ص 160.
2- كما فى المكاسب المحرمة للامام: ج 1 ص 162.

الخواجه لم يكن فى رتبة المطلعين حتى امكن اطلاعه عن ذلك.

ولقائل ان يقول: ان الاستثناء المنقطع يدل على تأكيد العموم لا على حصر المنفى فى المستثنى بحيث يكون غيره محكوماً بخلافه، فمثل إلا الخواجه لايدل إلا على تأكيد اطلاع جميع الناس، ولايدل على حصر عدم الاطلاع فى الخواجه؛ لامكان عدم اطلاع غيره ايضاً ممن لايكون معاصراً للناس المذكورين، كما ان قولهم جاءنى القوم الّا حماراً لايحصر عدم المجيئ فى الحمار؛ لامكان عدم مجيئ غير الحمار مما لم يكن داخلاً فى المستثنى منه.

وفى المقام لايدل الاستثناء على دخول معاملة ما لامنفعة فيه فى المستثنى منه بعد عدم دخولها فى التجارة؛ لاحتمال ان تكون داخلة فى غير التجارة مما يجوز الاكل بعد عدم دلالة الاستثناء على الحصر. وبالجملة فلاوجه لقوله: فالامر بين الامرين لا ثالث لهما الخ.

نعم بعد ما عرفت من عدم صدق عناوين المعاملات فالتصرف فيما يؤخذ بازاء ما لامنفعة له تصرف فى مال الغير بلا وجه عرفى أو شرعى ويكون مصداقاً للاكل بالباطل، ويشمله المستثنى منه سواء دل الاستثناء على حصر المجوز فى التجارة أو لم يدل. وهكذا لاوجه للاستدلال على البطلان بسفهية المعاملة بعد ما عرفت من عدم صدق اصل المعاملة فى مثل المقام؛ اذ مع عدم صدق المعاملة فلاموضوع للسفهية هذا مضافا الى ان الدليل لايدل على بطلان المعاملة السفهية بل يدل على بطلان معاملة السفيه؛ لكونه محجوراً عن التصرفات و امّا المعاملات السفهية عن الرشيد فلادليل على فسادها بعد فرض عموم أدلة المعاملات.

وبالجملة فلو توهم المتعاملان منفعة فيما لانفع له فأوقعا المعاملة ثم بان الخلاف كشف عن فساد المعاملة، ومع فسادها لايجوز التصرف فيما بذل بازائه ثمناً كان أو مثمنا

ص: 48

قال سيدنا الامام المجاهد قدس سره: و يلحق بما تقدم فى البطلان ما لا منفعة عقلائية له ولم يتعلق به غرض عقلائى كما لو اشترى الزيز لاستماع صوته و الجعل لرؤية تلاعبه مع العذرة؛ وذلك لان المعاملة سفهية غير عقلائية، والادلة العامة كقوله تعالى (اوفوا بالعقود) و (احل الله البيع) و (تجارة عن تراض) غير شاملة لها؛ اما لعدم صدق تلك العناوين عليها كما لايبعد ومع الشك فالمرجع اصل الفساد، أو لانصرافها عنها فانها ادلة امضائية لما لدى العقلاء وليست بصدد تأسيس امر زائد على ذلك سيما مثل الاعمال السفهية التى هى اضحوكة العقلاء و تتنفر عنها الطباع السليمة. فتوهم شمولها لها فاسد جدا، كتوهم عدم الاحتياج الى الدليل اللفظى فى الامضاء بل يكفى عدم الردع فى الكشف عنه؛ وذلك لان المفروض انها ليست عقلائية فلاتكون متعارفة ولم تكن كذلك بمرئى و منظر من الشارع حتى يستكشف الامضاء من عدم الردع بل لو فرض تعارف امر سفهى بين اراذل الناس لايمكن كشف رضى الشارع عنه لو لم يصل الينا الردع، لغاية بعد رضاه بما هو سفهى تنبو عنه الطباع و العقول السليمة و تتنفّر عنه العقلاء مع كونه مربى العقول و متمّم المكارم، بل لايبعد صدق الاكل بالباطل على مثلها(1).

ولقد افاد واجاد، ولكن مع عدم تعارف العقلاء بتلك المعاملة فلاوجه للاستدلال على البطلان بان المعاملة سفهية غير عقلائية؛ اذ لا معاملة عندهم حتى يقال ان سفهيتها موجبة للبطلان. هذا مضافاً الى ما عرفت من انّ المعاملة السفهية لادليل على بطلانها لو تم شمول الادلة العامة لها، ومع عدم تمامية الأدلة العامة كما هو كذلك فالدليل على البطلان هو ذلك لاكون المعاملة سفهية.

و مما تقدم يظهر حكم بيع ما لا مالية له لقلّته كحبة من خردل أو لكثرته

ص: 49


1- المكاسب المحرّمة: ج 1 ص 162.

وشيوعه كالثلج فى الشتاء مع عدم تعلق غرض عقلائى بالمعاملة؛ وذلك لما عرفت من عدم صدق عنوان المعاملة عليها، ولا اقل من الشك فلادليل على صحته. نعم لو كانت الحبة ملكاً أو الثلج مورد حق الاختصاص فلامانع من هبتها أو المصالحة عليها لو تصور قيام غرض عقلائى على ذلك. واما الاستدلال بسفهية المعاملة فقد عرفت انه لامعاملة مع عدم الاضافة حتى يبحث عن بطلانها بالسفهية. هذا مضافاً الى انه لادليل على بطلان المعاملات السفهية.

ومنها ما له منفعة غير شايعة قلما يتفق الانتفاع بها، و هو على قسمين:

احدهما: انه يكون بحيث يحكم العرف بالعدم. و لا يخفى عليك انه ملحق بما لامنفعة له اصلاً، و يكفى فى بطلان معاملتها عدم صدق عناوين المعاملات، ولا اقل من الشك فلادليل على صحتها.

وربما يستدل لحرمة انشاء المعاملة بقوله تعالى (و لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل) بناء على شمول الاكل بالباطل لتملك مال الغير بلا مال فى مقابله، فيصدق على بيع البايع أو على مطلق نقله مالا مالية له الى غيره بعوض يكون مالاً باعتبار تضمّنه لنقل المال يعنى العوض الى نفسه انه اكل مال المشترى، يعنى تملكه بالباطل، فيكون حراماً بمقتضى الآية الكريمة كما افاد الميرزا الشيرازى فى التعليقة(1).

و فيه كما مرّ ان الاكل بالباطل وان كان كناية ولايراد به الاكل مقابل الشرب، لكن لايستفاد منه إلا ساير التصرفات الخارجية نظير الشرب لامثل انشاء البيع والصلح ونحوهما مما لا يعدّ تصرفاً عرفا، فلاوجه لجعل انشاء المعاملة حراما وريما تمسك بالآية الكريمة لاثبات حرمة الثمن لا بعنوان التصرف فى مال الغير بل بعنوان أكل المال بالباطل بدعوى ظهورها فى أنه محرم بهذا العنوان ولكن يرد

ص: 50


1- التعليقة: 7.

عليه ما أورده سيدنا الامام المجاهد قدس سره من انّ الظاهر انّ الباطل عنوان انتزاعى من العناوين المقابلة للتجارة التى هى حق مثل القمار و السرقة و الخيانة ونحوها فاكل المال بالقمار حرام لكونه أكل مال الغير بلاسببية التجارة التى جعلها الشارع ولو بامضاء ما لدى العقلاء سبباً للنقل فلايكون حراماً تارة بعنوان كونه مال الغير الذى لم ينقل اليه لسبب شرعيى و أخرى بعنوان كونه باطلاً بل الباطل عنوان مشير الى العناوين الاخرى(1).

اللهمّ الّا أن يمنع كون عنوان الباطل عنواناً مشيراً لانّ ظاهر جعل العنوان المزبور موضوعاً للحكم و النهى أنه هو بنفسه هو موضوع الحكم لا أنه عنوان مشير الى الموضوع ولكن مع ذلك لايكون النهى تكليفياً لأنّ النهى عن التصرف فى الثمن بعنوان انه أكل المال بالباطل دالاً على فساد المعاملة كما يقال ثمن العذرة سحت فتدبّر جيداً.

وثانيهما: انه يكون بحيث يحكم العرف بصحة مقابلته بالمال ولو قليلاً، ولافرق بينه وبين بعض نباتات الادوية. و هذه الصورة تكون مشمولة لعناوين المعاملات، ولا مجال للاستدلال فيها بقوله تعالى (ولا تكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض)، لفساد المعاملة، بعد حكم العرف بصحة مقابلته بالمال؛ لانه انه حينئذ داخل فى المستثنى لا فى المستثنى منه.

ولذا تأمل الشيخ قدس سره فى الاستدلال بالاية الكريمة وعلله بأنّ منافع كثير من الاشياء التى ذكروها فيالمقام يقابل عرفاً بمال ولو قليلاً بحيث لايكون بذل مقدار قليل من المال بازائه سفها و أورد على العلامة قدس سره حيث قال فى التذكرة ولا اعتبار بما ورد فى الخواص من

ص: 51


1- المكاسب المحرمة: 158/1.

منافعها لانها لا تعد مع ذلك مالا وكذا عن الشافعى انتهى بأنه يشكل ذلك بأنه اذا اطلع العرف على خاصية فى أحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها فاى فرق بينها وبين ثبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصية وحينئذ فعدم جواز بيعه واخذ المال فى مقابله بملاحظة تلك الخاصية يحتاج الى دليل لانه حينئذ ليس أكلاً للمال بالباطل و يؤيد ذلك ما تقدم فى رواية التحف من أنّ كل شىء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك حلال بيعه الخ الى أن قال ولا مانع من التزام جواز بيع كل ماله نفع ما ولو فرض الشك فى صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشك فى صدق البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة عليها لعمومات التجارة و الصلح و العقود والهبة المعوضة و غيرها وعدم المانع لانه ليس الّا أكل المال بالباطل و المفروض عدم تحققه هنا(1).

وعن محكى ايضاح النافع أنه قال جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب وذكر أشياء معينة على سبيل المثال فان كان ذلك لان عدم النفع مفروض فيها فلا نزاع و إن كان لان ما مثل به لايصح بيعه لأنه محكوم بعدم الانتفاع فالمنع يتوجه فى أشياء كثيرة(2).

وقال فى جامع المدارك: و هذا اى عدم كفاية المنفعة النادرة فى غير مقام الحاجة مسلم، واما فى مقام الحاجة فهل تكفى فى صحة المعاملة ام لا؟ لايبعد ان يقال تصح؛ لعدم كون المعاملة سفهية حينئذ، فمثل العقرب من الحشرات اذا فرض له النفع فى حال لدفع مرض بيعه واشتراؤه لا يكون سفهياً عند العقلاء، والشاهد على هذا ان الامام عليه الصلاة و السلام على ما نقل اشترى الماء للوضوء فى السفر بمبلغ لايكون فى غير هذا الحال ثمناً لذلك المقدار من الماء، فان كان النظر الى عدم صحة المعاملة

ص: 52


1- المكاسب المحرمة: 20.
2- المكاسب للشيخ الأعظم: 20.

مطلقاً حتى فى تلك الصورة ففيه منع لانه لاوجه له الّا عدم توجه العقلاء و كون المعاملة سفهية، وفى هذه الحالة ليست سفهية، وان كان النظر الى حال عدم الحاجة فهومسلم.(1)

وبالجملة فمع وجود المنفعة وكونها عقلائية فلامحالة تشملها عناوين المعاملات، ومقتضى ذلك هو صحة معاملاتها فى نفسها؛ ولذلك قال فى الجواهر:

لايبعد جواز التكسب بما لانفع غالباً فيه اذا اتفق حصول النفع المعتدّ به فيه فيكتسب به فى ذلك الحال(2).

نعم، ربما يستدل على البطلان بالاجماع.

قال الشيخ الاعظم قدس سره: فالعمدة ما يستفاد من الفتاوى و النصوص من عدم اعتناء الشارع بالمنافع النادرة وكونها فى نظرهكالمعدومة، قال فى المبسوط: ان الحيوان الطاهر على ضربين ضرب ينتفع به و الآخر لا ينتفع به - الى ان قال: - وان كان مما لاينتفع به فلايجوز بيعه بلا خلاف مثل الاسد و الذئب وسائر الحشرات مثل الحيات والعقارب و الفأر و الخنافس و الجِعلان(3) والحِدأة(4) والرَخمة(5) والنسر وبغاث(6)الطير و كذلك الغربان(7)، انتهى. وظاهر الغنية الاجماع على ذلك ايضا ويشعر به عبارة التذكرة حيث استدل على ذلك بخسّة تلك الاشياء وعدم نظر الشارع الى مثلها فى التقويم و لا يثبت يد لأحد عليها، قال: ولا اعتبار بما ورد فى الخواص من منافعها؛

ص: 53


1- جامع المدارك ج 3 ص 12.
2- الجواهر: ج 22 ص 35.
3- ضرب من الخنافس وهى دويبة سوداء لها ريح كريه.
4- الحدأة: طائر من الجوارح تسميه العامة (شاهين).
5- وهى من أكبر الجوارح.
6- هو أصغر من الرخمة بطىء الطيران.
7- المبسوط: ج 2 ص 166.

لانها لا تعدّ مع ذلك مالاً وكذا عند الشافعى، انتهى. وظاهره اتفاقنا عليه(1).

و فيه:

أوّلا: كما افاد سيدنا الامام المجاهد قدس سره ان العمدة هو الاجماع المحكى عن المبسوط «... كل ماينفصل من الآدمى من شعر و مخاط ولعاب وظفر وغيره لايجوز بيعه اجماعاً لانه لا ثمن له و لا منفعة فيه»(2) وعن موضع آخر منه: فان كان مما لاينتفع به فلايجوز بيعه بلا خلاف مثل الاسد و الذئب وسائر الحشرات.

وهما كما ترى دعوى الاجماع وعدم الخلاف على ما لامنفعة فيه ولاينتفع به حتى الثانية؛ لان المذكورات من قبيل الامثلة بنظره وتشخيصه لا من معقد الاجماع ضرورة انه لم يدع الاجماع ولم يقم ذلك على عنوان الاسد و الذئب وغيرهما.

والظاهر من معقدهما ما لاينتفع به مطلقاً وما لامنفعة له كذلك ولو حملاً على عدم الانتفاع العقلائى كما تقدم لابأس به، لكن التعدى الى ما يكون له المنفعة العقلائية النادرة مما لاوجه له(3).

و فيه ان هذا التوجيه وان كان لايبعد بالنسبة الى كلام المبسوط، ولكن لا يساعد مع عبارة التذكرة فانه التفت الى بعض الخواص ومع ذلك قال لا اعتبار به لعدم كونه موجباً لصدق المال عليه الخ الظاهر فى كونه اتفاقيا فراجع.

نعم، لو شك فى قيام الاجماع على ازبد مما لامنفعة فيه أصلاً فمقتضى الاصل هو العدم فيجوز بيع ما له منفعة عقلائية نادرة.

و ثانيا: كما فى مصباح الفقاهة ان المحصل منه غير حاصل و المنقول منه ليس بحجة، على أنّا لا نطمئن بوجود الاجماع التعبدى الكاشف عن الحجة المعتبرة لاحتمال

ص: 54


1- المكاسب المحرمة للشيخ الانصارى قدس سره: ص 20.
2- المبسوط 166:2.
3- المكاسب المحرمة للامام المجاهد قدس سره: ج 1 ص 165.

استناد المجمعين الى الوجوه المذكورة فى المسألة(1).

و فيه ان مع تصريح الشيخ الطوسى بالاجماع فى موضعين وظهوركلام الغنية فى الاجماع وظاهر العلامة فى التذكرة فى الاتفاق وفتوى بعض الاصحاب بعدم الجواز فيما لامنفعة فيه. لامجال لدعوى عدم كون الاجماع محصلاً، واليك بعض العبائر:

قال فى الغنية: واما شروطه (اى البيع) فعلى ضربين احدهما شرائط صحة انعقاده و الثانى شراظ لزومه. فالضرب الاول ثبوت الولاية فى المعقود عليه وان يكون معلومأ مقدوراً على تسليمه منتفعاً به منفعة مباحة - الى ان قال: - واشترطنا ان يكون منتفعاً به تحرزاً مما لامنفعة فيه كالحشرات و غيرها، وقيدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة، ويدخل فى ذلك كل نجس لايمكن تطهيره الاّ ما اخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت للاستصباح به تحت السماء، و هو اجماع الطائفة(2).

ظاهر قوله: «و هو اجماع الطائفة أنّه راجع الى اشتراط ثبوت الولاية فى المعقود عليه و أن يكون معلوماً الخ» كما أيّده شيخنا الأنصارى بقوله: وظاهر الغنية الاجماع على ذلك.

قال فى المراسم: و اما المحرم فبيع كل غصب - الى ان قال: - و بيع القرد و السباع والفيلة و الذباب(3). والسباع و الدباب يدلان على ان مقصوده من ذكرهما هو بيع ما لامنفعة له كما ذكر الشيخ الطوسى السباع و الحشرات.

قال فى الوسيلة: و البهيمة ضربان اما يحل لحمها أو يحرم، فالاول يحل بيعها الا اذا عرض امر يمنع من ذلك، والثانى اما يمكن الانتفاع بها مثل جوارح الطير و السباع

ص: 55


1- مصباح لفقاهة: ج 1 ص 195.
2- الجوامع الفقهية: ص 585 و 586.
3- الجوامع الفقهية: ص 647.

وكلب الصيد و الماشية و الزرع و الحراسة و السنجاب و الفنك و السمور وسباع الوحش للانتفاع بجلدها وصيدها مثل الفهد و النمر و الذئب واشباه ذلك وجاز بيع جميع ذلك، واما لايمكن الانتفاع بها و يحرم بيعه و هو ما سوى ذلك(1).

و هو وان اختلف مع كلام الشيخ فى بعض الامثلة، ولكن يتحد معه فى عدم جواز ما لايمكن الانتفاع به كما لا يخفى.

قال فى النهاية: وبيع جميع السباع و التصرف فيها و التكسب بها محظور الأ الفهود خاصة فانه لابأس بالتكسب بها و التجارة فيها لانها تصلح للصيد، و لا بأس بشرى الهر وبيعه واكل ثمنه، ولايجوز بيع الجرى و المارماهى و الطافى وكل السمك لايحل اكله وكذلك الضفاع و السلاحف وجميع ما لايحل اكله حرام بيعه و التكسب به والتصرف فيه(2).

الى ان قال: ولابأس ببيع جوارح الطير كلها واخذ ثمنها و التكسب بها بجميع الوجوه(3).

ومقتضى الجمع بين العبارتين من النهاية انه لايجوز بيع ما لامنفعة له بخلاف جوارح الطير فانها ينتفع بها فى الصيد، و يؤيد ذلك تعليل جواز بيع الفهود بأنها تصلح للصيد.

قال ابن ادريس فى السرائر: قال شيخنا ابو جعفر فى نهايته.. و بيع سائر المسوخ وشراؤها و التجارة فيها و الكسب بها محظور مثل القردة و الفيل و الدببة وغيرها من انواع المسوخ.

قوله رحمه الله: «الفيلة و الدببة» فيه كلام؛ وذلك ان ما جعل الشارع وسوغ

ص: 56


1- الجوامع الفقهية: ص 707.
2- الجوامع الفقهية: ص 295.
3- الجوامع الفقهية: ص 297.

الانتفاع به فلابأس ببيعه وابتياعه لتلك المنفعة والا يكون قد حلل واباح وسوغ شيئا غير مقدور عليه، وعظام الفيل لاخلاف فى جواز استعمالها مداهن وامشاط وغير ذلك، و الدب ليس بنجس السؤر بل هو من جملة السباع، فعلى هذا جلده بعد ذكاته ودباغه طاهر - الى ان قال ابن ادريس: - ثم قال الشيخ فى نهايته: وبيع جميع السباع والتصرف فيها و التكسب بها محظور الاّ بيع الفهود خاصة فانه لابأس بالتكسب بها والتجارة فيها لانها تصلح للصيد، و قد قلنا ما عندنا فى السباع وجلودها و هو انه يجوز بيعها لأخذ جلدها لان جلود السباع لاخلاف انها مع الذكاة الشرعية يجوز بيعها وهى طاهرة وبمجرد الذكاة يجوز بيع الجلود بلا خلاف و بانضمام الدباغ يصح التصرف فيها فى جميع الاشياء من لبس وفرش ودثار وحرز المايعات لانها طاهرة الا الصلاة فانها لايجوز فيها فحسب وما عدا الصلاة فلابأس بالتصرف فيها.

وقال شيخنا فى مبسوطه: وما لايؤكل لحمه مثل الفهد و النمر و الفيل وجوارح الطير مثل البزاة و الصقورة و الشواهين و العقبان والارنب و الثعلب وما اشبه ذلك فقد ذكرناه فى النهاية فهذاكله يجوز بيعه، وان كان مما لاينتفع به فلايجوز بيعه بلا خلاف مثل الأسد و الذئب وسائر الحشرات و الحيات و العقارب الخ.

ثم قال ابن ادريس: والذى ذكره فى مبسوطه رجع عنه فى نهايته لان فى النهاية حرم بيع جميع السباع الا الفهود، والصحيح ما ذكره فى مبسوطه الا ما استثنيناه من الاسد و الذئب لانه جعل ذلك فى قسم مالاينتفع به و قد قلنا انه لاخلاف فى الانتفاع بجلد ذلك بعد الذكاة(1).

وظاهر تصحيحه انه سلّم عدم الخلاف فيما اذا لم يكن للمبيع منفعة، و انما اختلف مع الشيخ فى بعض الامثلة.

ص: 57


1- السرائر: ص 208.

وقال فى الجامع للشرائع: ولايجوز بيع الحشرات كالعقارب و الخنافس و محرّم السمك و الرقاق (ضرب من دوابّ الماء شبه التمساح) والسلاحف و الضفادع(1).

وقال فى محكى ايضاح النافع جرت عادة الاصحاب بعنوان هذا الباب وذكر اشياء معينة على سبيل المثال، فان كان ذلك لان عدم النفع مفروض فيها فلانزاع، وان كان لان ما مثل به لايصح بيعه لانه محكوم بعدم الانتفاع فالمنع متوجه فى اشياء كثيرة، انتهى(2).

ظاهركلامه ان الاصحاب متعرضون لهذا الباب وذاهبون الى عدم الجواز، ولا كلام إلّا فى بعض الامثلة.

وكيف كان، فقد اطمأننا بوجود الاجماع على عدم جواز بيع ما لامنفعة له فدعوى عدم كون الاجماع محصلاً كما ترى.

نعم، يقوى دعوى ان معقد الاجماع لايشمل المنافع النادرة العقلائية لاختلاف الكلمات فيه ولورود الاخبار المتعددة بجواز بيع عظام الفيل وجلود بعض السباع بل نفس السباع.

منها مارواه فى الكافى عن أبى على الاشعرى عن محمد بن عبدالجبار عن صفوان بن يحيى قال: سألت أبا ابراهيم عليه السلام عن عظام الفيل يحل بيعه أو شراؤها الذى يجعل منه الامشاط فقال: لابأس قد كان لابى منه مشط أو امشاط(3).

ومنها مارواه على بن جعفر فى كتابه عن أخيه قال: سألته عن جلود السباع وبيعها و ركوبها ايصلح ذلك قال: لابأس ما لم يسجد عليها.

ومنها مارواه فى الكافى عن أبى على الأشعرى عن محمد بن عبدالجبار عن ابن

ص: 58


1- الجامع للشرائع: ص 248.
2- المكاسب المحرمة: ص 20.
3- جامع الأحاديث: ج 17 ص 181.

أبى نجران عن صفوان قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الفهود وسباع الطير يلتمس التجارة فيها قال: نعم(1).

ومقتضى اطلاقها وترك الاستفصال فيها هو جواز بيع هذه المذكورات سواء كانت لها منافع عقلائية شايعة أو نادرة فمع اطلاق هذه الأخبار لامجال للنهى عن معاملة ماله منفعة نادرة عقلائية.

قال فى الجواهر فما عن أكثر المتقدمين من اطلاق المنع عن بيعها فى غير محله مع أنه لاشك فى جواز الانتفاع بعظم الفيل منها المسمى بالعاج وجلود الثعالب والارانب مع التذكية بشرط الدباغ أو مطلقاً ثم نقل الروايات الدالة على جواز بيع عظام الفيل واستعمالها فراجع(2).

لايقال انّ الروايات محمولة على المنافع الشايعة لانّ استعمال عظام الفيل فى مثل الامشاط وجلود السباع فى مثل اللباس و الفرش وسباع الطير فى مثل الصيد شايع لانا نقول انا لا نسلّم ان استعمال جلود جميع أنواع السباع شايع بل يكون بالنسبة الى بعضها شايع والاخر نادر وهكذا لايكون جميع انواع سباع الطير شايعاً صيده ومع ذلك لم يستفصل الامام عليه السلام وترك الاستفصال يدل على العموم وعليه فلامانع من صحة المعاملة لوكانت لها منفعة عقلائية نادرة و المتيقن من الاجماع هو ما اذا لم يكن له منفعة عقلائية مطلقاً شايعة كانت أو نادرة هذا مضافاً الى كون الاجماع محتمل المدرك فتأمّل.

فلايكشف عن شىء اخر وراء الوجوه المذكورة لعدم جواز معاملة ما فيه منفعة غير شايعة.

وربما يستدل بالاخبار لبطلان معاملة مافيه منفعة نادرة:

ص: 59


1- جامع الأحاديث: 181/17.
2- الجواهر 35/22.

منها: ما عن العوالى عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم انه قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها واكلوا اثمانها(1).

بناء على ان للشحوم منفعة نادرة محللة على اليهود، لان ظاهر تحريمها عليهم تحريم اكلها أو سائر منافعها المتعارفة، فلولا ان النادر فى نظر الشارع كالمعدوم لم يكن وجه للمنع عن البيع، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محللة مساوية للمحرمة فى التعارف والاعتداد كما افاد شيخنا الاعظم قدس سره.

واجاب عنه سيدنا الامام المجاهد قدس سره بأنها مع الغض عن سندها ظاهرة فى ان اليهود باعوها للمنفعة المحرمة كما يشعر به التعليل الوارد فيها [أى فى بعض الأخبار عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم: قاتل الله اليهود ان الله لمّا حرّم عليهم شحومها اجملوه (أى اذابوه) ثم باعوه فاكلوا ثمنه] مع عدم معلومية حلية بعض المنافع لهم(2).

بل يشهد صدر الخبر على مارواه فى الخلاف على انّ المراد هو بيعها للمنافع الشايعة.

حيث قال روى جابر انه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عام الفتح بمكة يقول: انّ الله ورسوله حرم بيع الخمر و الميتة و الخنزير والاصنام فقيل يا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: أفرأيت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس.

فقال: هو حرام ثم قال: قاتل الله اليهود انّ الله لما حرم عليهم شحومها حملوها ثم باعوها فاكلوا ثمنها(3) اذ طلى السفن ودهن الجلود والاستصباح بالشحوم من المنافع الشايعة فقوله صلى الله عليه و آله و سلم فى الذيل قاتل الله الخ ناظر اليها و اليه أشار فى بلغة الطالب حيث قال: ببالى انه نقل مضمون الرواية ببعض طرقها فى الجواهر مسبوقاً بسئوال أنه

ص: 60


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 175.
2- المكاسب المحرمة: 165/1.
3- كتاب الخلاف: 588/1.

يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود وعليه فلايمكن هذا الحمل (أى حمل الذى افاده الشيخ قدس سره) فيها(1).

وعليه فالمنع عن البيع لايدل على انّ المنافع النادرة كالمعدوم بل هو من جهة قصدهم للمنافع الشايعة المحرمة هذا مضافاً الى اختصاص مارواه فى الخلاف بشحوم الميتة و هو أخصّ من المدّعى.

وعليه فلو دلت الرواية على انّ المنافع النادرة فى الميتة كالمعدوم فهو لا يفيد فى غيرها لاحتمال خصوصية فى الميتة ولكن المروى فى العوالى لا يختصّ بها ويويده اطلاق قوله تعالى: (و على الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر و الغنم حرّمنا عليهم شحومها الّا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون)(2) فتدبّر جيدا.

ومنها: ما عن العوالى أيضاً عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم ان الله اذا حرم شيئاً حرم ثمنه(3).

بدعوى ان الشىء اذا كان محرماً منافعه حرم ثمنه مطلقاً ولو للمنافع النادرة.

وفيه ان المتبادر من حرمة الشىء هو حرمة جميع انتفاعاته؛ لعدم صدق كون العين الخارجى محرماً بقول مطلق الا اذا كان جميع منافعه العقلائية محرمة، وعليه فلا يشمل مثل المقام الذى يكون بعض منافعه العقلائية محللة ولوكانت نادرة. هذا مضافاً الى ما فى جامع المدارك من ان الظاهر ان النظر الى صورة وقوع المعاملة باعتبار الجهة المحرمة كاشتراء الجارية المغنية باعتبار وصفها، الا ترى ان الطين حرام اكله ومع ذلك يجوز فيه البيع و الشراء(4).

ص: 61


1- بلغة الطالب 79/1.
2- الانعام: 146.
3- جامع الاحاديث: ص 17 ص 175.
4- جامع المدارك: ج 3 ص 13.

ومنها: قوله عليه السلام فى رواية تحف العقول: وكل شىء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كله حلال بيعه وشراؤه. بدعوى ان المراد منه الجهة الشايعة لامحالة، ولايراد منه مجرد المنفعة و الأ لعمّ الاشياء كلّها كما افاد شيخنا الاعظم قدس سره.

وفيه ان الكلام فى المنافع النادرة العقلائية لامجرد المنافع النادرة حتى يعم الاشياء كلها؛ ولذلك قال فى بلغة الطالب لاوجه لقوله: والا لعمّ الاشياء كلها؛ اذ لا نسلم أن فى كل شىء منفعة قابلة لان يجعل بملاحظتها عوضا بل كلمات الفقهاء ايضا بملاحظة تمثيلهم بالديدان و الخنافس لايشمل مثل ذلك(1).

هذا مضافاً الى ما افاده المحقق الايروانى من انه بعد تسليم ان الفقرة فى مقام حصر المعاملات المحللة فيما فيه جهة صلاح ولو نادرا. انها معارضة بفقرة اُخرى أو فقرتين منها فى ضابط المعاملات المحرمة وهى: قوله عليه السلام: «فكل أمر يكون فيه الفساد»، وقوله عليه السلام: «أو شىء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» و بعد حصول الاجمال بالتعارض يرجع الى العمومات(2) مراده من الاجمال أنّ مقتضى الحمل على الشائع أنّ ملاك المعاملات المحرمة أًيضاً هو شيوع الفساد فمقتضى هذه الفقرات عدم الحرمة وصحة المعاملة مع ندرة المنفعة وعدم شيوع الفساد ومقتضى ما مر من لزوم شيوع المصلحة و المنفعة هو عدم صحتها فيتعارضان و يرجع الى مقتضى العمومات.

ومنها: قوله عليه السلام فى آخر رواية تحف العقول: انما حرم الله الصناعة التى يجيئ منها الفساد محضاً نظيركذا وكذا... الخ. بدعوى ان كثيراً من الامثلة المذكورة هناك لها منافع محللة، فالاشربة المحرمة مثلاً كثيراً ما ينتفع بها فى معالجة الدواب بل الامراض فجعلها مما يجيئ منه الفساد محضاً باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرنها كما افاد الشيخ الاعظم قدس سره.

ص: 62


1- بلغة الطالب: ج 1 ص 79.
2- التعليقة على المكاسب ص 18.

وفيه ان مجرد كون المنافع محلله لا يكفى بعد عدم اعتداد العقلاء بها، و عليه فدعوى ان كثيراً من الامثلة تكون كذلك كما ترى. هذا مضافا الى ما افاد سيدنا الامام المجاهد من ان رواية التحف متعرضة للمعاملات المتعارفة(1).

قال فى مصباح الفقاهة ان هاتين القطعتين من رواية تحف العقول انما سيقتا لبيان حكم الاشياء التى تمحضت للصلاح و الفساد أو تساوت فيها الجهتان أو غلبت احداهما على الاخرى فيحكم بصحة بيعها أو فساده حسب ما اقتضته تلك الجهة التعليلية المكنونة فيها، واما الاشياء التى لها نفع محلل نادر فخارجة عن حدود الرواية؛ اذ ليس فيها تعرض لذلك بوجه لا من حيث صحة البيع ولا من حيث فساده، على انها لو تمت فانما تدل على فساد بيع ما لانفع فيه لخسته لكونه مما يجيئ منه الفساد محضا و لا تشمل ما لانفع فيه لقلّته كحبة من الحنطة، اذ ليست فيه جهة فساد اصلاً. ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه فهى مختصة بالحرمة التكليفية على ما تقدم فى اول الكتاب، فلاتشمل الحرمة الوضعية. ويضاف الى ما ذكرناه كله انها ضعيفة السند فلايصح الاستدلال بها(2).

وانت خبير بأن تخصيص رواية تحف العقول بالحرمة التكليفية لاوجه له لما مر من تعميم الرواية بالنسبة الى الحكم التكليفى و الوضعى. هذا مضافاً الى امكان دعوى جبران ضعف الرواية بعمل المشهور، فتأمّل.

وكيف كان فلادليل على فساد معاملة ما فيه منافع نادرة عقلائية، فالاقوى هو الجواز وان كان لاينبغى ترك الاحتياط لما سمعت من الاستدلالات، فلاتغفل.

هنا فروع:

احدها: انه اذا لم يكن لشىء منفعة ولكن تعلق غرض سياسى أو غيره من

ص: 63


1- المكاسب المحرمة للامام: ج 1 ص 16.
2- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 194.

الاغراض العقلائية باشترائه وحفظه او اشترائه واعدامه فهل يصح بيعه وشرائه ام لا؟ ذهب سيدنا الامام المجاهد قدس سره الى صحته مستدلاً بأن مع تعلق ذلك الغرض صار ذلك منشأ للرغبة الى اشترائه، ومن المعلوم ان تلك الرغبة اوجبت ازدياد الطلب، و هو يوجب حدوث المالية فيه؛ لان مالية الاشياء تابعة وجوداً ومرتبة للعرضة و التقاضا، فلو تعلق غرض دولة باشتراء ما لامنفعة له من ناحية من النواحى لاغراض سياسية فأوجدت بقدرتها السوق لذلك المتاع صار ذا قيمة لدى العقلاء من غير لحاظ ان اشترائه بأى غرض كان، وبالجملة الشىء صار متمولاً بمجرد حدوث التقاضا، ويخرج المتمول عن كونه كذلك بمعدوميته مطلقا كما ان مراتب التمول ايضا تابعة لكثرة العرضة أو التقاضا(1).

و يظهر من ذلك ان المنافع التكوينية ربما لادخالة لها فى المالية كما فى الورد المذكور؛ فان المفروض انه لامنافع تكوينية له، وانما يترتب عليه غرض سياسى أو اقتصادى، وكما اذا كثر الشىء بحيث لايرغب الى شرائه احد كالهواء و الماء عند الساحل وغير ذلك، فالمنافع التكوينية ليست علة للمالية بحيث اذاكانت تحققت المالية واذا لم تكن ارتفعت المالية فتدبّر جيدا.

وعليه فالأنسب بعنوان البحث فى النوع الثالث هو البحث عن ما لامالية عقلائية، له لا البحث عن ما لامنفعة له، فان المعيار هو المالية وهى متقومة بالرغبة وهى حاصلة اما من جهة المنفعة واما من غيرها كالاغراض السياسية كما عرفت.

وثانيها: انه هل يجوز بيع ما لا مالية له عندنا كالضفاع و السرطان من الكفار الذين يجوزون اكلها او لايجوز؟

ص: 64


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 164.

يمكن القول بالاول مستدلا بقاعدة الالزام، مضافا الى موثقة حفص بن البخترى عن ابى عبدالله عليه السلام فى العجين من الماء النجس كيف يصنع به ؟ قال: يباع ممن يستحل الميتة(1)؛ بدعوى عدم خصوصية العجين بل قوله: يباع ممن يستحل الميتة فى الجواب مشعر بوجه الحكم و هو استحلال الكفار، و هو موجود فى غير العجين ايضاً كما هو المفروض.

وصحيحة الحلى عن ابى عبد الله عليه السلام انه سئل عن رجل كان له غنم وبقر وكان يدرك الذكى منها فيعزله و يعزل الميتة ثم ان الميتة و الذكى اختلطا كيف يصنع به ؟ قال:

يبيعه ممن يستحل الميتة و يأكل ثمنه فانه لابأس(2)؛ بناءً على رجوع الضمير فى قوله:

كيف يصنع به وقوله يبيعه الى المختلط كما هو الظاهر، فالمختلط الذى لا يحل أكله لنا لكونه من اطراف المعلوم بالاجمال جوز بيعه بملاك الاستحلال، وحيث انه لاخصوصية له نتجاوز عنه الى غيره خصوصاً مع اشعارقوله عليه السلام: يبيعه ممن يستحل الميتة بوجه الحكم.

لايقال: مقتضى ذلك هو جواز بيع الميتة التى لها نفس سائلة من الكفار؛ لأنا نقول انّما الجواز فيما اذا لم يرد النهى عن ذلك، و قد مر فى محله ممنوعية مطلق الانتفاع بالميتة التى لها نفس سائلة، فيقتصر فيها على مورد الترخيص و هو المختلط، واما مثل المقام مما ليس له نفس سائلة فلا يرد فيه النهى عن مطلق الانتفاع به ولو بمثل البيع والشراء، فاذا كان الكفار معتقدين بجواز اكلها فهى مورد الرغبة عندهم وكانت بذلك اموالا عندهم، فلايكون اخذ المال بازائها اكلا للباطل.

اللهم الا ان يقال: ان قاعدة الالزام مخصوصة بما اذا كان البيع و الشراء بينهم لا بيننا وبينهم وإلغاء الخصوصية فى مورد الرواية الدالة على جواز بيع العجين المتنجس

ص: 65


1- الوسائل: ج 12 ص 68.
2- الوسائل: ج 12 ص 68.

غير محرز، وعليه فمقتضى ممنوعية اكل هذه الاشياء شرعا تكفى فى كونها مسلوب المالية ان لم يكن لها منافع محللة اخرى، ومع كونها مسلوب المالية فاخذ المال بازائها اكل للمال بالباطل. نعم لو كان الكفار من الكفار الحربيين فيجوز اخذ الثمن منهم من باب الاستنقاذ، ولكن يمكن الذب عن ذلك بان تخصيص قاعدة الالزام بالمعاملات الواقعة بينهم مع اطلاق قولهم عليهم السلام الزموهم بما التزموا ولكل قوم دين يدين به، وهكذا احتمال الاختصاص بالمورد فى الروايات مع اشعار قولهم: ممّن يستحل الميتة، بأن الملاك هو استحلالهم. لا وقع له، فتأمّل.

ثالثها: انه ذهب الشيخ الاعظم قدس سره الى تجويز بيع الهرة قائلاً بأن بيع الهرة هو المنصوص فى غير واحد من الروايات(1).

وادعى عليه الاجماع فى التذكرة دون القردة مستدلاً بأنّ مجوز بيعها هو المصلحة المقصودة منها وهى نادرة(2).

وفيه ان الندرة ان كانت عقلائية كافية فى صحة المعاملة كما عرفت. نعم نهى فى بعض النصوص عن بيعها.

كما روى الكلينى قدس سره عن عدة من اصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون عن الاصم عن مسمع عن ابى عبدالله عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن القرد ان يشترى وان يباع(3).

ولكنه ضعيف.

وكما روى فى الجعفريات: من السحت ثمن القرد(4) و هو أيضاً ضعيف؛ لما

ص: 66


1- راجع جامع الاحاديث: ج 17 ص 179.
2- راجع المكاسب: ص 20.
3- الوسائل: ج 12 ص 123.
4- المستدرك: ج 2 ص 426.

عرفت من عدم مطابقة كتاب الجعفريات الذى بأيدينا مع ما يكون معنونا فى الفهارس.

ولعل الشيخ قدس سره لم يستند اليهما لضعفهما.

اورد فى مصباح الفقاهة على الشيخ قدس سره بأن منافع القرد المحللة ليست بنادرة، بل هى من مهمات المنافع، وانما الوجه فى المنع عن بيع القرد هو الروايات التى تقدمت فى بيع المسوخ(1).

و لا يخفى عليك ان تلك المناقشة ضعيفة بعد كون منافع القرد المحللة فى زمان الشيخ الاعظم قدس سره نادرة؛ لانه ربما كان بعض الاشياء لم يلتفت الى فائدته فى عصر والتفت اليها فى عصر آخر. هذا مضافاً الى ان الروايات الواردة فى المنع عن بيع القرد ضعيفة، فلاوجه للاستدلال بها.

ثم إنّ التوجيه بعدم خلو البيت عن الهره و الحمام و الديك لعله من جهة من الجهات المعنوية، وهى موجبة للرغبة و إن لم تكن لها منفعة ظاهرة، و قد مر ان المعيار فى صحة المعاملة هو المالية، وهى متوقفة على الرغبة، وهى ربما تحصل من دون وجود المنفعة الظاهرة، وعليه فلامجال لمقايسة الهرة مع القرد فى قلة المنافع وعدمها كما لا يخفى.

رابعها: فى انه لا اشكال فى صحة بيع بقية السباع واجزائها اذا كانت قابلة للتذكية والانتفاع العقلائى بجلودها وريشها ووبرها وغير ذلك.

و يدل عليه ما عرفت من صدق المالية وشمول الادلة العامة الدالة على نفوذ المعاملات. هذا مضافاً الى روايات خاصة دالة على جواز بيعها كموثقة عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟

ص: 67


1- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 195.

قال: نعم(1). ومقتضى ترك الاستفصال فيها هو عدم الفرق بين كون المنفعة العقلائية شايعة أو نادرة.

وموثقة على بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن جلود السباع وييعها وركوبها ايصلح ذلك ؟ قال: لا بأس ما لم يسجد عليها(2) و غير ذلك من الاخبار.

خامسها: انه لو حاز ما لانفع له للخسة كالحشرات هل يوجب ذلك حق الاختصاص أم لا؟ استدل الشيخ الاعظم على ثبوت حق الاختصاص بعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من سبق الى ما لم يسبق اليه احد من المسلمين فهو احق به. مضافاً الى عدّ اخذه منه ظلماً عرفاً.

قال فى مصباح الفقاهة: لو حاز ما لانفع له كالحشرات لثبت له الاختصاص، فيكون اولى به من غيره، فليس لاحد ان يزاحمه فى تصرفاته فيه؛ للسيرة القطعية على ان اخذ المحاز من المحيز قهراً عليه ظلم فهو حرام عقلاً وشرعا و أما حديث من سبق الى ما لم يسبق اليه احد من المسلمين فهو احق به، فقد تقدم انه ضعيف السند وغيرمنجبربشىء(3).

وفيه اولاً: ان السيرة القطعية فى مثل الحشرات غير ثابتة وثانيا أن دعوى الظلم العرفى مع عدم معلومية حق الاختصاص وانصراف ادلة حق الاختصاص عن مثله كما ترى.

ولقد أفاد و اجاد سيدنا الامام قدس سره حيث قال: ولاريب فى ان اعتبار الملكية وكذا الاختصاص لدى العقلاء ليس جزافاً وعبثاً بل للاعتبارات العقلائية كلّها

ص: 68


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 181.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 181.
3- ج 1 ص 197.

مناشئ ومصالح نظامية ونحوها، فاعتبار الملكية والاختصاص فيما لا ينفع به و لا يرجى هى منه رأساً ولايكون مورداً لغرض عقلائى نوعى أو شخصى لغو صرف وعبث محض(1).

فالأقوى كما عن التذكرة انّ ما لانفع له لايملك ولايدخل تحت اليد لما عرفت من عدم تعلّق غرض عقلائى باعتبار حق الاختصاص وانصراف الادلة عن مثله نعم لو حاز ما لانفع له لكثرته كالماء عند الساحل لايبعد ايجابه لحق الاختصاص لعدم انصراف الادلة عن مثله.

سادسها: انه اذا لم يكن حاجة بالفعل الى شىء، ولكنه بحيث اذا بقى الى زمان الحاجة ينتفع به، فان كان مخارج حفظه الى وقت الحاجة غير كثيرة بحيث يكون حفظه عقلائياً فالعاملة صحيحة لانها مال لفعلية الرغبة اليه ولو لم يكن الحاجة اليه بالفعل؛ لما عرفت من ان المعيار بالرغبة و المالية لا الفائدة و المنفعة الفعلية. هذا بخلاف ما اذا لم يكن مخارج حفظه عقلائية فانه ليس بمال حينئذ فلايجوز المعاملة.

سابعها: انه لو غصب شيئاً ليس له منفعة معتدّ بها من جهة قلّته فقد صرح الشيخ الاعظم قدس سره بأنه كان عليه مثله ان كان مثليا، انتهى.

ولعله لعموم النبوى المشهور صلى الله عليه و آله و سلم: على اليد ما اخذت حتى تؤدى. و القول بأن النبوى ضعيف مع انه معمول به بين الاصحاب كما ترى. هذا مضافاً الى دعوى السير القطعية من العقلاء و المتشرعة على الضمان. وعليه فيجب عليه رد عينه ان امكن والاّ فبمثله ان كان مثليا و أمّا اذا كان الشىء المذكور قيمياً قال فى مصباح الفقاهة: اصبح الغاصب مشغول الذمة لصاحب العين الى يوم القيامة مثل المفلس؛ اذ الانتقال الى القيمة انما

ص: 69


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 161.

هو فيما اذا كان التالف من الاموال فلاينقل اليها اذا لم يكن التالف مالاً - الى ان قال: - هذا فيما اذا لم يكن المغصوب مقداراً يصدق عليه عنوان المال. ومن البديهى ان كل حبة من الصبرة وان لم تكن مالاً بشرط لا ومجردة عن الانضمام الى حبة اخرى الا انها اذا انضمت الى غيرها من الحبات صارت مالاً فتشملها أدلّة الضمان(1).

فتحصل ان مقتضى عموم النبوى هو الحكم بالضمان، فان كان مثليا فالواجب هو رد العين عند الامكان و الّا فرد المثل.

ودعوى انصراف ادلة الضمانات الى ما له مالية وقيمة غير مسموعة، فالحكم بضمان المثل فى المثلى لايتوقف على الانضمام ولا على شىء آخر. هذا بخلاف القيمى فان مقتضى عموم النبوى هو الحكم برد العين عند الامكان، واما مع عدم الامكان فيعاقب بالغصب، ولكن لايكون محكوماً بضمان القيمة؛ لان المفروض انه لا قيمة له.

نعم ان انضم اليه ما يوجب صدق المال عليه يحكم بضمان القيمة بعد الانضمام، ولكنه فيما اذا لم يتلف المأخوذ سابقا والاّ فقبل الانضمام لا مالية للمأخوذ سابقا وبعد الانضمام أيضاً لا مالية للجزء المأخوذ لاحقا وحتى لو أتلف صبرة كذلك فلا ضمان.

الاّ ان التحقيق هو صدق اتلاف المال على اتلاف الصبرة شيئاً فشيئا، فيشمله قوله عليه السلام: من اتلف مال الغير فهو ضامن. قال المحقق الايروانى قدس سره: هذا اذا لم يكن التلف باتلاف الآخذ، و إلّا جاء ضمان الاتلاف حين يبلغ المتلف مقدار التمول لصدق انه اتلف مال الغير حينئذ(2).

ثم على تقدير كون الجزء المغصوب قيمياً ان لم ينضم اليه شىء يوجب صدق المالية فبقيت ذمته مشغولة بالمأخوذ حتى يحصل رضاية مالكه و يستغفر.

ص: 70


1- مصباح الفقاهة 196/1-197.
2- التعليقة: ص 19.

النوع الرابع: ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما فى نفسه

اشارة

النوع الرابع: أما بحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما فى نفسه لا للنجاسة ولا لغاية محرمة ولا لعدم المنفعة أو الرغبة إليه كالايجار والاستيجار للمعاصى والاعمال الشنيعة كالزنا و اللواط و المساحقة و سائر الاستمتاعات المحرمة يقع الكلام هنا فى امور:

الاول: فى حرمة عقد الاجارة المذكورة تكليفاً ولا اشكال فى حرمة الاجارة المذكورة للضرورة والاجماع والاتفاق بين المسلمين فى الجملة ولدلالة رواية التحف واما وجوه الحرام من وجوه الاجارة نظير ان يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه اكله أو شربه أو لبسه أو يؤاجر نفسه فى صنعة ذلك الشىء أو حفظه أو لبسه أو يؤاجر نفسه فى هدم المساجد أو قتل النفس بغير حل أو حمل التصاوير و الاصنام والمزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم أو شىء من وجوه الفساد الذى كان محرماً عليه من جهة الاجارة فيه.

ولحكم العقل بقبح ذلك بعد العلم بالحرمة و العصيان شرعاً مضافا الى ما ادركه العقل من القبائح العقلية.

قال سيدنا الامام المجاهد قدس سره يمكن الاستدلال على حرمة نفس الاجارة بقبح الاستيجار و الايجار على معصية الله تبارك وتعالى فكما ان نفس الاستيجار و الايجار

ص: 71

للقبايح العقلية قبيحان بحكم العقل و العقلاء كايجار شخص و العياذ بالله نفسه أو من يتعلق به من نواميسه لارتكاب الفاحشة كذلك هما قبيحان لمعصية الله التى هى ايضا من القبائح العقلية فالمدعى ادراك العقل قبح عنوان المعاملة على القبائح وانها واسطة لثبوت القبح لنفس المعاملة.

هذا مضافا الى امكان الاستدلال بفحوى ادلة وجوب الامر بالمعروف و النهى عن المنكر بان يقال: ان المستفاد عرفا من تلك الادلة أو من فحواها ان الامر بالمنكر والنهى عن المعروف محرمان بل مطلق مايوجب الاغراء على المحرم و الترغيب اليه والتشويق اليه محرم سواء ارتكب الطرف أم لا ولاريب فى ان استيجار المغنية للتغنّى والمصور للتصوير المحرم دعوة لهما الى اتيان الحرام و تشويق اليه واغراء عليه بل قبول الاجارة ايضا نحو ترغيب للمستاجر اليه مضافا الى امكان الاستفادة من قوله تعالى:

«المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر و ينهون عن المعروف»، بدعوى ان العنوانين ليس لصرف معرفيتهم بل الاية الكريمة فى مقام تعييرهم وتقريعهم وذكر ماهو قبيح عقلا ومحرم شرعا من اعالهم.

وبدعوى ان لا خصوصية لعنوان الامر بالمنكر بل المراد اعم مما يفيد فائدته من الترغيب و التشويق اليه وبدعوى انه ليس المراد من الامر بالمنكر ما يرجع الى رد قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و الى مخالفته فى قوانينه بل الظاهر ان الامر بالمنكر بالحمل الشايع و النهى عن المعروف كذلك من صفات المنافقين و يكون محرما سواء كان الغرض رد قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أم لا تأمل.

ولكن الاستناد الى فحوى ادلة الامر بالمعروف والاية الكريمة لايدل على حرمة نفس الاستيجار والاجارة بعنوانهما بل المحرم ما ينطبق عليهما فى الخارج من

ص: 72

الاغراء على المحرم و الترغيب اليه و التشويق اليه(1).

وفيه انه لا اشكال فى التمسك بالادلة الدالة على الامر بالمعروف و النهى عن المنكر لعدم خصوصية الامر و النهى وعمومية المقصود من ايقاع المعروف وارتفاع المنكر ولكن التمسك باوصاف المنافقين مع انه فى مقام آخر لايخلو عن تأمل ونظر.

الثانى: فى حرمة الاجرة بعنوان كونه اجرة للحرام و يدل عليه موثقة عمار المروية فى الكافى عن عد من أصحابنا عن سهل بن زياد واحمد بن محمد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن عمار بن مروان قال سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الغلول(2)؟ قال: كل شىء غل من الامام فهو سحت واكل مال اليتيم وشبهه سحت والسحت انواع كثيرة منها اجور الفواجر؛ الحديث(3).

والسحت ظاهر فى الحرمة و عليه فاجور الفواجركانت حراما وموثقة عمار المروية فى المعانى عن محمد بن موسى بن المتوكل عن عبدالله بن جعفر الحميرى عن محمد بن الحسين عن الحسن بن محبوب عن ابى ايوب عن عمار بن مروان قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الغلول فقال: كل شىء غل من الامام فهو سحت واكل مال اليتيم سحت و السحت انواع كثير منها ما اصيب من اعمال الولاة الظلمة ومنها اجور القضاة واجور الفواجر(4).

وموثقة سماعة قال: سألته عن الغلول فقال: الغلول كل شىء غل عن الامام واكل مال اليتيم وشبهه و السحت انواع كثير منها كسب الحجام واجر الزانية(5)؛

ص: 73


1- راجع المكاسب المحرمة: ج 1 ص 166 مع تلخيص ما.
2- الخيانة خفية فى الغنم و غيره.
3- الكافى: ج 5 ص 126.
4- جامع الاحاديث: ج 17 ص 168.
5- المصدر السابق.

الحديث.

وموثقة السكونى المروية فى الكافى عن على بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلى عن السكونى عن ابى عبد الله عليه السلام قال: السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغى(1) والرشوة فى الحكم واجر الكاهن(2).

وغير ذلك من الروايات الدالة على حرمة اجرة المحرمات كالكهانة و البغى وتولى الظلمة و الفجور ولعل هذه الامور لاخصوصية لها فالمعيار هو الاجرة على الافعال المحرمة، هذا مضافا الى ما افاده سيدنا الامام المجاهد قدس سره من انه يدل عليه قوله ان الله اذا حرّم شيئاً حرم ثمنه بتقريب ان لا خصوصية لعنوان الثمن فى نظر العرف بل الظاهر منه ان تحريم الشىء لايلايم مع تحليل ما يقابله سواء صدق عليه عنوان الثمن ام كان عنوانه اجرا واجرة ونحوهما و قد تقدم ان الرواية وان كانت ضعيفة لكن لايبعد استفادة مضمونها من سائر الروايات فى الابواب المتفرقة(3).

ثم الفرق بين الاول و الثانى ان المحرم التكليفى فى الاول هو نفس العقد وان لم يكن الاجرة محرمة كالبيع فى وقت النداء ولكن المحرم فى الثانى هو نفس الاجرة اللهم الا ان يقال: ان حرمة نفس المعاملة بما هى هى ملازمة لعدم انتقال الاجرة وعليه فحرمة الاجرة من لوازم حرمة نفس المعاملة هذا مضافا الى انه لو كانت المعاملة معاطاتية فحرمة نفس المعاملة متحدة مع حرمة الثمن ايضا الثالث: فى بطلان الاجارة و لا يخفى عليك ان السحت ظاهر فى الحرمة وحرمة الاجرة ملازمة لفساد المعاملة وعليه فالروايات المتقدمة الدالة على ان اجور الفواجر

ص: 74


1- المرأة الزانية الفاجرة.
2- جامع الأحاديث: ج 17 ص 169.
3- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 167.

والكهانة وتولى الظلمة ونحوها سحت تدل على بطلان الاجارة أيضا.

هذا مضافا الى ما افاده سيدنا الامام المجاهد قدس سره من ان المحرم ليس مالا فى نظر الشارع ولهذا لو منع شخص عن تغنّى جارية مغنية أو العبد المغنى لايكون ضامنا بالنسبة الى تلك المنفعة المحرمة بلا اشكال وانكانا اجيرين لذلك وما لايكون مالاً فى محيط التشريع لاتكون المعاملة عليه معاملة.

وان شئت قلت ان سلب المالية عن شىء واسقاطها دليل على رع المعاملة به.

ويمكن الاستدلال عليه بوجه آخر و هو ان مقتضى ذات المعاملة لدى العقلاء امكان التسليم و التسلّم ومع منع الشارع عن تسليم المنفعة المحرمة وتسلمها لايعقل ان تكون المعاملة نافذة عنده الى ان قال.

وبوجه آخر و هو ان الاية الكريمة اعنى «لاتاكلوا اموالكم بينكم بالباطل»، وان كان الموضوع فيها الباطل العرفى و العقلائى لا الشرعى ولكن بتحكيم مادل على نفى المالية ونفى تسليم المنفعة ينسلك فى مفاد الآية فان اخذ مال الغير بلا انتقال منفعة اليه اكل المال بالباطل(1).

ولعل اليه يؤول فى مصباح الفقاهة من انه يكفى فى عدم جواز المعاملة على الاعمال المحرمة مادل على حرمتها من الادلة الاولية اذ مقتضى ادلة صحة العقود لزوم الوفاء بها ومقتضى ادلة المحرمات حرمة الاتيان بها وهما لايجتمعان وعليه فلاموجب للبحث فى كل مسالة من المسائل الاتية عن صحة المعاملة عليها وفسادها بل فى جهات اخرى(2).

الرابع: انه لا يخفى عليك ان البحث فى الانواع الثلاثة الماضية كان فى حرمة

ص: 75


1- المكاسب المحرمة: ج 1 ص 167.
2- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 197،.

الاعيان اما من جهة النجاسة الذاتية واما من جهة حرمة المنفعة المقصودة واما من جهة عدم المنفعة أو المالية و البحث فى النوع الرابع يكون فى حرمة الاعمال و هو مناسب لباب الاجارة و الجعالة لا باب البيع و المكاسب بالمعنى الاخص اللهم إلأ ان يتسامح ويراد من المكاسب معناها الاعم فيشمل الاجارة و الجعالة ايضا.

و يزيد فى التسامح جريان عادة القوم بذكر كثير من المحرمات التى لم يكن الاكتساب بها متعارفا وكيف كان فنحن نذكر ان شاء الله تعالى المهم منها فى مسائل مرتبة بترتيب حروف اوائل عناوينها ان شاء الله تعالى.

ص: 76

المسألة الأولى التأمين

القسم الأوّل يقع الكلام حول التأمين فى عدّة مقامات:

المقام الأوّل: فى حقيقة التأمين
اشارة

لا يخفى عليك أنّ عقد التأمين عقد مستقل، ولا إلزام فى إدراجه فى العقود المتعارفة السابقة بعد كونه - عرفاً - عقداً مستقلا.

تعريفه:

يمكن تعريف التأمين بانه: عقد بين المؤمّن - بالكسر - أى الشركة وبين المؤمن له أو المستأمن فى مدّة معيّنة من جهة الابتداء والانتهاء؛ لتأمين خسارة خاصّة بالنسبة إلى نفس أو مال - كالعين أو المنفعة - أو حق أو مسؤولية، فى قبال تعهّد المؤمّن له بدفع ما توافقا عليه، فيقول المؤمّن: أنا ملتزم و متعهّد بأن أدفع للمؤمّن له مبلغاً معيّناً ولو بالكسر المشاع من الخسارة أو جميع مبلغ الخسارة عند حدوث الحريق - مثلاً - بالنسبة إلى كذا وكذا، فى مقابل أن يدفع المؤمّن له مبلغاً يتفق عليه - الذى يسمّى بقسط التأمين - أو فى مقابل تعهّد المؤمّن له بدفع المبلغ المذكور(1).

ص: 77


1- جاء فى قانون التأمين الايرانى المصوّب عليه بتاريخ 1316/2/7 ه -. ش ما ترجمته: المادة رقم 1: إنّ عقد التأمين عقد بموجبه يتعهد أحد الطرفين بأن يدفع لآخر مقداراً معيّناً من المال أو يعوّضه خسارة كذائية عند وقوع حادث أو لحوق ضرر بالمؤمّن عليه، فى مقابل أن يدفع الآخر مبلغاً يتفقان عليه فى العقد. ويقال للمتعهد: المؤمّن: و لطرف التعهد: المؤمّن له أو المستأمن، ولما يدفعه المؤمّن: حق التأمين، ولما يكون مؤمّناً عليه: موضوع التأمين. المادة رقم 2: يجب أن يكون مفاد عقد التأمين وماينطوى عليه من شروط مندرجاً ومكتوباً، و يسمى هذا المكتوب: وثيقة التأمين. المادة رقم 3: تذكر فى عقد التأمين وبشكل صريح الاُمور التالية: أ - تاريخ إجراء العقد. ب - اسم المؤمّن و المومّن له. ج - موضوع التأمين. د - نوع الحادثة أو الخطر الذى لأجله يقع العقد. ه - تاريخ ايتداء وانتهاء عقد التأمين. و - حقّ التأمين. ز - مقدار ما يتعهد به المؤمّن فى صورة وقوع الحادث. المادة رقم 4: موضوع التأمين إمّا أن يكون مالاً - سواء كان عيناً أم منفعة أم أىّ حق مالىّ آخر - و إمّا أن يكون مسؤولية حقوقية أيّاً كان نوعها، مشروطاً بأن يعود النفع على المؤمّن له ببقاء المؤمّن عليه، وكذا مشروطاً بأن يكون التأمين من الحادث أو الخطر بحيث يلحق المؤمّن له الضرر بوقوعه. المادة رقم 5: المؤمّن له تارة يكون أصيلاً، و أخرى يكون نائبا عن صاحب المال أو المنتفع بواحد من العناوين القانونية، وثالثة يكون متولّيا مسؤولية الحفاظ على المال من قِبل صاحبه. المادة رقم 6: يتعلّق التأمين بخصوص من أقدم عليه لا سواه، ما لم يصرّح فى وثيقة التأمين بأنّ التأمين لصالح شخص آخر. ولكن لا يشترط فى وثيقة تأمين الحمل و النقل ذكر اسم بخصوصه، بل يكتفى بذكر عنوان عام، من قبيل: حامل الوثيقة مثلاً. المادة رقم 7: يحق للدائن أن يؤمّن على المال الذى أخذه بعنوان الوثيقة أو الرهن، وفى هذه الحالة لو ألمّ بالمال المذكور حادث ما، فعلى المؤمّن أن يدفع للمؤمّن له الخسائر اللاحقة به بمقدار دينه يوم وقوع الحادث، والباقى يستحقّه صاحب المال. المادة رقم 8: إذا كان هناك مال مؤمّناً عليه، فما دامت مدّة التأمين باقية إزاءه، لا يصحّ التأمين مجدّداً على نفس ذاك المال ولصالح المؤمّن له بعينه ولنفس ذاك الخطر. المادة رقم 9: لو أمّن على مال بأقلّ من قيمته، يجوز التأمين على ما تبقّى من قيمته. وحينئذ يكون كل مؤمّن مسؤولاً إزاء مبلغ المال الذى أمّنه. المادة رقم 10: لو اُمّن على مال بأقلّ من قيمته الحقيقية، فالمؤمّن لا يتحمّل من المسؤولية إزاء الخسارة إلّا بمقدار المبلغ الذى تكفل بضمانه مقيساً إلى قيمته الحقيقية. انظر فى جميع ما تقدّم: كتاب مجموعه قوانين بيمه «بالفارسية» و الصادر عن انتشارات بيمه مركزى ايران، اطبعة الثالثة، عام 1374 ه -. ش.

ص: 78

ومن المعلوم أنّ ما يدفعه المستأمِن إنّما يكون فى مقابل التعهّد من قِبل المؤمِّن بتدارك الخسارة، لا فى مقابل التدارك؛ و إلّا لزم أن يكون العقد باطلاً عند عدم حدوث الحوادث و انتفاء موضوع التدارك، مع أنّ عقد التأمين عندهم لا يكون باطلاً فى هذه الصورة، فلا تغفل.

ومن أدرجه فى العقود المتعارفة السابقة عرّفه بحسب ما أدرجه فيه؛ فإن أدرجه فى الهبة المشروطة عرّفه بانه: هو أن يهب شخص فى كلّ سنة - مثلاً - إلى مدّة معيّنة لشخص أو شركة شيئاً معيّناً بشرط أن تتحمّل الشركة أو الشخص تدارك الخسارة جميعها أو بعضها بالنسبة إلى وقوع حادثة كذائية فى مال كذا وكذا أو نفس معيّنة، فيقول طالب التأمين: وهبتك كذا مقداراً من المال شهرياً على أن تتحمّل كذا مقداراً من المال خسارة لمدّة عشر سنوات مثلاً لو حدث حادث بمالى أو نفسى، وقبل المتّهب ذلك التحمّل و المسؤولية.

و إن أدرجه فى الصلح بشرط تحمّل الخسارة عرّفه: بأن يتصالح الطرفان على أن يتحمّل أحدهما - و هو الشركة - الخسارة التى تحل بالطرف الآخر بشرط أن يدفع الطرف الآخر المقدار المعيّن من المال.

ص: 79

قال الشيخ حسين الحلّى فى كتاب بحوث فقهية: «يمكن أن يكون الصلح واقعاً على أن يدفع طالب التأمين إلى الشركة مقداراً معيّناً من المال فى كل شهر مثلاً على أن تدفع الشركة خسارته لو حدث حادث بماله، أوكذا مقداراً من المال لو حلّ به موت أو تلف لعضو من أعضائه»(1).

و إن أدرجه فى ضمان الأعيان الشخصية و لو لم تكن مغصوبة - بناءً على توسعة باب الضمان إلى أمثال هذا النوع، كما فى العارية المضمونة - صوّره كما فى بحوث فقهية هكذا: باًن يقول الضامن لصاحب العين: ضمنت مالك لمدّة عشر سنين على أن تعوّضنى ديناراً عن كل شهر، فيقبل المضمون له. أو يكون الأمر بالعكس؛ كأن يقول المضمون له: أدفع لك كل شهر ديناراً على أن تضمن مالى لمدّة عشر سنوات، و يقبل الضامن بهذا العرض(2).

و إن أدرجه فى ضمان الجريرة صوّره بمثل ضمان الجريرة بناءً على عدم اعتبار الإرث فى ضمان الجريرة، ولكنه محل تأمّل.

وكيف كان، ضمان الجريرة إمّا من طرفين و إمّا من طرف واحد، و هو من العقود المعتبر فيها الإيجاب و القبول، و هو التعاقد على ضمان الجناية و الأخطاء و الدفاع؛ كان يقول المضمون: عاقدتك على أن تنصرنى وأنصرك وتمنع عنّى وتعقل عنّى وترثنى، فيقول الآخر: قبلت. أو يتعاقدكل واحد على أن يضمن كل منهما ما يقع على الآخر بسبب الأخطاء و الجناية عليه و مظلوميّته من قبل المجتمع، و يضمن كل واحد منهما للآخر جميع الخسارات التى ترد على كلّ منهما، وعليه فيقول المؤمّن للمؤمّن له فى المقام: إنّى أضمن ما يقع عليك بسبب الحوادث الكذائية فى مقابل تضمينك لى بأن تدفع إلىّ فى كلّ شهر كذا وكذا إلى مدّة معيّنة.

ص: 80


1- بحوث فقهية: 39. ط - دار الزهراء.
2- انظر: المصدر السابق: 35.
المقام الثانى: فى أنواع التأمين

للتأمين أنواع يمكن بيانهاكما يلى:

الأوّل: التأمين على الحياة بشرط الموت: كأن يتعهّد المؤمّن فى مدّة معيّنة أن يدفع مبلغاً معيّناً إلى الورثة لو مات المؤمّن له فى تلك المدّة، فى قبال أن يدفع المؤمّن له أو غيره مبلغاً معيّناً فى تلك المدّة.

الثانى: التأمين على نفس شخص أو أشخاص - من عمّال الشركة أو الدولة أو أهل بيت خاص - من جهة الأمراض، أو من جهة الشيخوخة وعدم القدرة على الاكتساب، أو من جهة المؤن العارضة للزواج، أو تعليم الأطفال وتربيتهم، أو من جهة ما يعرض للعمل كالإفلاس أو البطالة، أو من جهة الحوادث الطبيعية كالزلزلة، وغير ذلك.

الثالث: التأمين على المنقول فى البحر و البرّ و الجؤ.

الرابع: التأمين على السيارات و الطائرات وغيرها من وساظ النقل من ناحية الحوادث و الأخطار.

الخامس: التأمين على الأملاك و المصانع و الحقوق و المسؤوليات ونحوهامن جهة الحوادث و السرقات و نظائرها.

السادس: التأمين على الخسارة المؤداة إلى الغير من ناحية الاصطدامات والأضرار الناشئة بسبب السير و المرور، والذى يعبّر عنه ب «تامين الشخص

ص: 81

الثالث».

السابع: التأمين على الحياة بشرط البقاء: بأن يتعهّد المؤمّن دفع مبلغ معيّن إلى المؤمّن له لو لم يمت فى المدّة المعيّنة، فى قبال أن يدفع إليه المؤمّن له ما توافقا عليه.

الثامن: التأمين المركب: و هو أن يتعاقدا على أن يدفع المؤمّن له فى مدّة معيّنة مبلغاً معيّناً إلى المؤمّن، فى قبال أن يتعهّد المؤمّن بدفع حق التأمين إلى الورثة لو مات المؤمّن له فى خلال المدّة المذكورة، أو إليه لو لم يمت فى المدّة المذكورة.

التاسع: التأمين على العضو كالرجل، أو التأمين على الصوت، أو التأمين على حالات العجز وعدم القدرة على العمل والاكتساب. ويمكن إدراج هذا القسم فى تأمين نفس الأشخاص.

العاشر: التأمين التعاونى - و قد يسمّى بالتأمين التبادلى أو التقابلى أيضاً -:

و هو أن تقوم جماعة بإنشاء شركة تعاونية للتأمين، يجمع كل عضو فيها بين صفة المؤمّن و المستأمن، و يدفع كلّ مشترك مبلغاً كل عام أو نصف سنة أو يشهر، قد يختلف من عام إلى آخر تبعاً لحاجة الشركة إلى الأموال التيتلزم لتعويض الخطر طول العام.

و لا يسعى أى شريك من الشركاء جرّ مغنم من اشتراكه؛ لأنّ مقصد الجميع هو تعويض الخسارة التى تلحق بأى منهم دون نظر إلى مكسب مادى(1).

الحادى عشر: التأمين التجارى؛ أى التأمين المختلط مع الاشتراك فى الأرباح:

بأن يدفع مبلغ التأمين عند وفاة المومّن عليه أو عند انتهاء مدّة التأمين، وتدفع الأقساط لغاية الوفاة وعلى الأكثر حتى انتهاء مدّة التأمين، و للمؤمّن له الحقّ فى الاشتراك و الاشتراط فى الأرباح التى توزعها الشركة على حاملى وثائق الاشتراك فى

ص: 82


1- انظر: عقد التأمين فى الفقه الإسلامى لخليل رضا المنصورى: 10.

الأرباح بناءً على نتيجة عملية تقدير الأرباح، و يضاف نصيب كل وثيقة فى الأرباح إلى مبلغ التأمين، و يدفع مع مبلغ التأمين عند استحقاقه سواء بالوفاة أو عند انتهاء التأمين(1).

الثانى عشر: التأمين المضاعف: و هو أن تقوم بعض شركات التأمين بإعادة التأمين لدى شركات أوسع منها، و إنّما تلجأ شركات التأمين إلى هذا النوع من الإعادة لتوزيع الخطر على عدّة أشخاص دون الاقتصار على جماعة معيّنة(2).

الثالث عشر: التأمين الإلزامى: كتأمين الشخص الثالث لكلّ من يكون مالكاً لواسطة نقلية فى البرّ، أو تأمين عمّال المصانع ونحوها، أو تأمين الناس من جهة الصحّة والمعالجة.

ثمّ إنه ليس من باب التأمين العقدى لزوم دفع الدية على العاقلة أو على المعتِق أو على الإمام؛ إذ لا قرار هنا بين العاقلة أو المعتِق أو الإمام وبين الخاطئ، بل هو حكم و تضمين شرعى من دون مقابل له.

اللّهمّ إلّا أن يقال - كما أفاد الشهيد المطهرى قدس سره - إنّ تحميل هذا الحكمعلى الأفراد المذكورة يكون فى الواقع فى قبال إمكان إرثهم من الخاطئ عند موته، فهو فى الحقيقة تأمين إجبارى(3). وكيف كان فهو خارج عمّا نحنفيه؛ لعدم حاجته إلى العقد.

وهكذا ليس من هذا الباب تأمين الدولة للضعفاء و المحتاجين من بيت المال كما روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كتب إلى و اليه على مصر: «واجعل لهم قسماً من بيت مالك...»(4).

ص: 83


1- يحوث فقهية: 44، نقلاً عن كتاب التأمين على الحياة الصادر من شركة مصر للتأمين.
2- بحوث فقهية: 47.
3- انظر: كتاب بررسى فقهى مسئله بيمه: 51؛ بالفارسية.
4- نهج البلاغة: 438، تحقيق الدكتور صبحى الصالح.

وكما روى عنه عليه السلام - فى شيخ مكفوف كبير نصرانى استعمله بعض حتى إذا كبر وعجز فأهمله - انه قال: «استعملتموه وه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال»(1).

إذ لا عقد فى أمثال هذه الموارد، بل هى من الوظائف المقرّرة للحكومة، والتعبير عنها بالتأمين الإيقاعى أيضاً مسامحة؛ إذ لا إنشاء ولا إيقاع فى تلك الموارد.

ص: 84


1- الوسائل 49:11، ب 19، جهاد العدو، ح 1.
المقام الثالث: فى أركان عقد التأمين و شروطه
أمّا الأركان:

فمنها:

1 - الإيجاب و القبول: و يمكن وقوعه من قِبل المؤمّن؛ بان يقول أويكتب: علىّ جبر خسارة كذائية فى قبال كذا وكذا، أو: أنا ملتزم بجبر خسارة كذائية فى قبال كذا وكذا. فيقبله المستأمن.

كما يمكن وقوعه من قِبل طالب التأمين - بعد أن يأخذ من الشركة استمارة التامين - بأن يقول أو يكتب: أنا ملتزم بدفع أقساط معيّنة فى مدّة معلومة، فى قبال تعهّد الشركة بدفع خسارة كذائية على ما فى الاستمارة. ثم يسلّمها إلى الشركة، فتقبله الشركة بأخذ الاستمارة وتوقيعها وإصدار وثيقة التعاقد بين الجانبين.

2 - ذكر المؤمّن عليه: إذ يجب تعيين موضوع التأمين من حياة الشخص أو الثروة ونحوهما؛ لأنّ تأمين هذه الاُمور ليس على حدّ سواء؛ إذ لكل واحد منها خصوصيّاته و أوضاعه، و لابدّ من أن تعرف الشركة و المؤمّن له أنّ عقد التامين وقع بالنسبة إلى أىّ منها حتى يلتزما بدفع ما يجب عليهما. ومن المعلوم أنّه بدون ذكر المؤمّن عليه لا تتحقق عملية التأمين، فهو من مقوّمات عقد التأمين.

3 - ذكر مبلغ التأمين: لأنّ قوام عملية التامين بذلك؛ إذ لا داعى للتأمينلا من ناحية المؤمّن ولا من ناحية المؤمّن له، فلابدّ أن يذكر فى عملية التأمين مبلغ التأمين

ص: 85

من ناحية المؤمّن، وهكذا يتعيّن ذكر مبلغ ما يدفعه المؤمّن له.

وبالجملة، فهذه الاُمور ممّا لها الدخل فى قوام عقد التأمين؛ إذ بدونها يختل عقد التأمين؛ لأنّ عقد التأمين بلا ذكر المؤمّن عليه أو مبلغ التأمينكالبيع من دون ذكر العوضين، فلا يترتب عليه الغرض و هو التأمين، كما لا يخفى.

و أمّا الشروط: فمنها:

1 - بيان نوع الخطر: لاختلاف أنواعه من حيث تقدير المبالغ التى تؤدّيها الشركة للمؤمّن له، فلا يصحّ العقد بدون تعيينه عند العقلاء. اللّهمّ إلّا أن يكون التعهّد بالنسبة إلى جميع الأنواع، فتدبّر.

لا يقال: إنّ هذا الشرط ينبغى أن يذكر فى عداد الأركان، لأنّا نقول: إنّ تفاوت اختلاف الأنواع يوجب الخطأ فى العقد. و هذا بخلاف موضوع عقد التأمين؛ فإنّ الإخلال به يوجب الاختلال فى قوام العقد.

2 - تعيين الأقساط التى يدفعها المؤمّن له إلى المؤمّن: لاختلاف الحال فى أقساط التأمين باختلاف النسب و المبالغ، وهكذا كيفيّة تسديد الأقساط لعين الملاك، فلا يصحّ بدون تعيينها.

3 - مدّة العقد: أعنى تاريخ ابتدائه وانتهائه؛ إذ تعيين وقت أداء مبلغ التأمين من الجانبين لا يمكن بدون ذلك، فلا يجوز أن تبقى هذه الاُمور مجهولة فى عقد التأمين؛ لكون الجهل بها مناقضاً للتأمين.

ثمّ إنّ هذه الشروط لو لم تكن لما حصل التأمين عند العقلاء؛ لاحتوائه على إبهامات متعدّدة ومن المعلوم أنّ مع الإبهامات المذكورة لا يحصل الغرض و هو التأمين المطلوب، ويكون العقد خطريا و العقلاء يجتنبون عنه.

ص: 86

و أمّا الشرائط العامّة: فمنها:

1 - العقل.

2 - القصد.

ولا يجوز صدور عقد أو إيقاع بدونهما؛ لأنّ العقود و الإيقاعات من الامور القصدية التى لا تتحقّق بدونهما.

3 - عدم السفاهة: لظهوركلمات الأصحاب فى ممنوعيّة السفيه من جميع التصرّفات المالية. و يدل عليه عموم قوله تعالى: وَ لاٰ تُؤْتُوا اَلسُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ (1).

4 - عدم الحجر: لعموم ما يدل على محجورية المفلّس فى الأموال، والفروض أنّ قوام عقد التأمين بدفع الأموال و هو محجور عليه.

5 - البلوغ: فإنه معتبر فى المقام بناءً على إطلاق ما دلّ على عدم اعتبار معاملات الصبى قبل الاحتلام.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الممنوع هو ما إذا كان غير البالغ المميّز طرف التأمين بنفسه، و أمّا إذا كان بإذن الولىّ فهذا الفعل بما هو منسوب إلى الولى لايكون مشمولاً للأدلّة المانعة، و بقيّة الكلام فى محلّه.

6 - عدم الإكراه: لما دل على لزوم طيب النفس فى المعاملات، كموثّقة سماعة حيث علّل فيها بقوله عليه السلام: «فإنه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه»(2). وليعلم أنّ الإكراه مانع عن صحّة العاملة بعد الفراغ عن جميع شرائط الصحّة عدا طيب النفس، فإذا أوقع المكرَه عقداً بلا قصدكان خارجاً عن محل الكلام؛

ص: 87


1- النساء: 5.
2- الوسائل 424:3، ب 3، مكان المصلّى، ح 1.

إذ لا قصد له، فلا تجتمع فيه شرائط صحّة المعاملة. فمحل الكلام هو ما إذا دهش المكره وقصد المعاملة من دون طيب نفس، فمقتضى الأدلّة هو بطلان العقد.

لا يقال: إنّ بيع المضطرّ صحيح، مع أنّ الفرق بينه وبين المكره مشكل؛ حيث إنّ الجائع يرى أنّه يدور أمره بين الموت أو التألّم من الجوع و بيع ثوبه، فيرضى بالثانى فراراً من أشدّ المحذورين، كما أنّ المتوعّد بالضرب مثلاً يدور أمره بين التألّم بالضرب وبيع ماله، فيرضى بالثانى فراراً من الأشدّ إلى الأضعف.

لأنّا نقول: الحكم ببطلان العقد فى صورة الاضطرار خلاف الضرورة والنصوص والامتنان، بل إنّ العقلاء يفرّقون بين الاضطرار و الإكراه. وعليهفلو لم يكن فرق بينهما من جهة عدم الرضا وطيب النفس بعنوان أوّلى، فلا إشكال فى تفاوت حكمهما عند العقلاء و الشرع قضاءً للامتنان و الأدلّة التعبّدية.

فتحصّل: أنّ المعاملات الإكراهية باطلة، دون الاضطرارية، و إن لم يكن بينهما فرق من جهة عدم الطيب و الرضاية، مع قطع النظر عن الاضطرار أو الإكراه.

ثمّ يقع الكلام فى صحّة التأمين الإلزامى و الإجبارى؛ حيث إنّ مع الإلزام والإجبار لا طيب ولا رضا، فمقتضى ما عرفت هو بطلان التأمين الإلزامى والإجبارى.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ نوع موارد التأمين الإلزامى و الإجبارى يرجع إلى الاضطرار؛ فإنّ الإلزام و الإجبار من جهة تعليق إعطاء الخدمات و الامتيازات على التأمين؛ إذ الدولة لا تعطى الخدمات والامتيازات و الإمكانات إلّا لمن استأمن على سيارته تأمين الشخص الثالث، أو على عمّاله فى المعمل و المصنع، أو على ولده و أهله، فالمستأمن يرى أنّه لو لم يفعل ذلك لما تيسّرت له سبل المعيشة أو التجارة، فرضى بذلك وطابت نفسه كالمضطرّ.

نعم، لو اُوعد على التأمين بمثل أخذ غرامة أو حبس أو نحو ذلك كان باطلاً؛

ص: 88

للإكراه، عدا ما إذا كان ذلك بعنوان تصرّف الولىّ الفقيه، فله حكمه، كما قرّر فى محلّه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الشروط المذكورة معتبرة فى الأشخاص كما عرفت، و أمّا إذا كان طرف العقد أو طرفاه شخصية حقوقية اعتبارية - كبعضالشركات التأمينية - فهل تكون الشرائط العامه معتبرة فيها أو لا؟ الظاهر هو الثانى؛ لأنّه لا معنى لاعتبار العقل و البلوغ والاختيار فيما لا يتمكّن من الاتّصاف بها عدا اشتراط عدم المحجورية، فالشركات المذكورة خارجة عن اعتبار الاُمور المذكورة خروجاً تخصّصيا نعم، تعتبر الاُمور المذكورة فيمن يتصدّى لإدارة الشركة لا من جهة النيابة والقيام مقامها فى تلك الاُمور - لما عرفت من أنّ الشركات خارجة عن مقام الاشتراط تخصّصا - بل لاعتبارها فى المتصدّى، فهى من شرائط العاقد لا المعقود له.

و ممّا ذكر يظهر ما فى كلام بعض من أنّه لابدّ ا للشخصيات ات الاعتبارية الحقوقية من تعيين الهيئة الإدارية التى تديرها وتباشر أعمالها، فهى تقوم مقامها فى تلك الاُمور.

والخلاصة: فكل ما لا يعقل اشتراطه فى نفس الشركة يعتبر فى القائم مقامها؛ وذلك باعتبار بناء العقلاء العملى فى تلك الموارد على النيابة عنها(1).

وذلك لما عرفت من انّها من شرائط المتصدّى و العاقد لا المعقود له حتى يأتى فيها اعتبارها من باب النيابة، فلا تغفل.

ص: 89


1- انظر: كتاب التأمين: 211.
المقام الرابع: فى لزوم عقد التأمين

ولا يخفى عليك - بعد ما عرفت من كون عقد التأمين عقداً مستقلّا مؤلّفاً من إيجاب وقبول وشروط خاصّة كسائر العقود المتعارفة - أنّ الظاهركون العقد المذكور واجب الوفاء؛ للعمومات و الإطلاقات الدالّة على نفوذ العقود و العهود:

فمنها: قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)؛ إذ العقدهو العهد الموثّق و المشدّد بالإظهار اللفظى أو الكتبى، و هو عام يشمل المقام، بناءً على أنّ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا يكون مختصّاً بالعقود المتعارفة الموجودة سابقا بل هو شامل لكلّ ما يتعاقد عليه الطرفان ما لم يكن مشتملاً على اُمور ممنوعة، كالربا ومخالفة الكتاب و السنة ونحوها ممّا منعه الشارع المطهّر.

لا يقال: إنّ اللّام فى «العقود» للعهد، ومقتضاه هو اختصاصه بالعقود المتعارفة الموجودة فى وقت نزول الآية الكريمة.

لأنّا نقول: لا شاهد لكون اللّام للعهد، بل الموضوع فى الأحكام القانونية مأخوذ على نحو القضية الحقيقية لا القضية الخارجية و الشخصية؛ لعدم تناسبها مع المقنّن، كما أفاد اُستاذنا الأراكى قدس سره، وذهب إليه السيّد الحكيم قدس سره فى... المستمسك حيث

ص: 90


1- المائدة: 1.

قال: «إنّ التعارف لا يقيّد الإطلاق، ولو بنى على ذلك لزم تأسيس فقه جديد»(1)، والشيخ حسين الحلّى قدس سره فى بحوث فقهية حيث قال: «لأنّ القاعدة فى كل عقد لزومه ووجوب الوفاء به و إن لم يكن راجعاً إلى العقود الموجودة - إلى أن قال: - ولعل هذا الوجه هو أصحّ الوجوه المتقدّمة»(2).

قال سيّدنا الإمام قدس سره - على ما حكى عنه - «ولا أظنّ انه يختلج ببال أحد من العارف باللسان، العارى الذهن عن الوساوس، أنّ قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ - الوارد فى مقام التقنين المستمرّ إلى يوم القيامة - منحصر فى العهود المعمول بها فى ذلك الزمان؛ فإنّ مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه، بل عن ربقة الدين نعوذ بالله من ذلك»(3).

لا يقال: إنّ مع إمكان إدراج عقد التأمين فى سائر المعاملات لا ضرورة فى جعل اللّام فى «العقود» للجنس.

لأنّا نقول - مع فرض تسليم ذلك - إنّ جعل الموضوع بنحو القضية الحقيقية ممّا يقتضيه شأن المقنّن، و مجرّد إمكان إدراج بعض الموارد فى المعاملات المتعارفة لا ينافى ذلك.

ومنها: قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ (4).

بدعوى شمول المستثنى للمقام؛ فإنه اكتساب عن تراضٍ ، والآية الكريمة فى صدد بيان المنع عن التصرّف فى الأموال بالأسباب الباطلة وجواز التصرّف فيها

ص: 91


1- المستمسك 381:13.
2- بحوث فقهية: 41.
3- مجلّة فقه أهل البيت: - العدد الأوّل - مقالة التأمين: 8.
4- النساء: 29.

بالأسباب الصحيحة، ولا فرق فى ذلك بين أن يكون الاستثناء منقطعا كما هو الظاهر والموافق لكلمات المفسّرين ولبعض الروايات الواردة فى شأن نزول الآية، كصحيحة زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عزّ و جلّ : وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ؟ فقال: «كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عزّ و جلّ عن ذلك»(1)؛ إذ الظاهر منها كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره كظاهر نفس الآية فى أنّ النهى عن الاكل من جهة السبب الباطل، فالقيد احترازى لا توضيحى، والاستثناء منقطع، و توهّم أنّ الاستثناء المنقطع خلاف الفصاحة باطل جدّاً، بل قد تقتضى الفصاحة الانقطاع، و قد ورد فى الكتاب العزيز فى غير المقام، كقوله تعالى:

لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (2) .(3) .

و بين أن يكون متّصلاً مع ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر؛ بأن يكون قوله:

بِالْبٰاطِلِ قيداً توضيحياً ذكر لبيان علّة الحكم، فكانه قال: لاتأكلوا أموال الناس إلّا أن تكون تجارة عن تراضٍ ، فإنّ كل أكل باطل، أو فكانه قال: لا تأكلوا أموالكم بوجه من الوجوه إلّا بوجه التجارة، فإنّ الأكل بغير هذا الوجه باطل.

وبين أن تكون كلمة الّا مركبة من «إن» الشرطية و «لا» النافية، و محصّلها: يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إن لا تكن تجارة عن تراضٍ ، وعليه فقوله: «إن لا تكن» قضية شرطية تقدّم جوابها عليها، فتأمّل.

وكيف كان، فالآية الكريمة تدلّ فى جميع الصور على جواز التصرّف بالتجارة عن تراضٍ ، و هو يشمل العقود الحديثة كالعقود السابقة.

ص: 92


1- الوسائل 119:12، ب 35 مما يكتسب به، ح 1.
2- الواقعة: 25-26.
3- كتاب البيع 119:1.

لا يقال: إنّ قوله تعالى: إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ حيث كان استثناءً من السلب الكلّى لا يفيد إلّا الموجبة الجزئية كما أنّ الاستثناء من الموجبة الكلّية لا يفيد إلّا السالبة الجزئية، فلا إطلاق للمستثنى حتى يمكن التمسّك به فى المقام.

لأنّا نقول: إنّ المستفاد من مثل قوله: لا تكرم الناس إلّا المؤمنين، أو قوله: أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم، هو العموم فى المستثنى منه و المستثنى.

نعم، تصحّ تلك الدعوى فى المركبات التى يكون المتكلّم فى مقام بيانبعض أجزائها أو شرائطها فى الجملة، كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)، أو «لا صلاة إلّا بطهور»(2)، فإنّ المتكلّم فى مقام بيان جزئية الفاتحة أو شرطية الطهور. ولا يستفاد منه الإطلاق أو عدم دخالة شىء آخر؛ لانه فى مقام بيان أصل الجزئية والشرطية.

هذا مضافاً إلى أنّ مقتضى ما قرّر فى الاُصول هو عدم ترتّب الاستثناء على جريان مقدّمات الإطلاق فى المستثنى منه حتى يقال: إنّ الاستثناء من السلب الكلّى لا يفيد إلّا الوجبة الجزئية، بل مقدّمات الإطلاق جارية بالنسبة إلى المستثنى منه والمستثنى كليهما، ومع جريانها بالنسبة إليهما تفيد الإطلاق فى كليهما لا الإطلاق فى خصوص المستثنى منه، فلا تغفل.

ومنها: الروايات الدالّة على نفوذ الشروط، منها:

1 - صحيحة علىّ بن رئاب، عن أبى الحسن موسى عليه السلام، قال: سئل و أنا حاضر عن رجل تزوّج امرأة على مئة دينار على أن تخرج معه إلى بلاده، فإن لم تخرج معه

ص: 93


1- المستدرك 158:4، ب 1 من أبواب القراءة، ح 5.
2- الوسائل 222:1، ب 9، أحكام الخلوة، ح 1.

فإنّ مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلى بلاده ؟ قال: فقال: «إن أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك فلا شرط له عليها فى ذلك، ولها مئة دينار التى أصدقها إيّاها، و إن أراد أن يخرج بها الى بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها، .

والمسلمون عند شروطهم، وليس له أن يخرج بها إلى بلاده حتى يؤدّى إليها صداقها أو ترضى منه من ذلك بما رضيت، و هو جائز له»(1).

2 - موثّقة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: إنّ علىّ بن أبى طالب عليه السلام كان يقول: «من شرط لامرأته شرطاً فليفِ لها به؛ فإنّ المسلمين عند شروطهم، إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً»(2).

3 - موثّقة عبد الله بن سنان، عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذى اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ و جلّ »(3).

4 - موثّقة عبد الله بن سنان، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «المسلمون عند شروطهم، إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله عزّ و جلّ فلا يجوز»(4).

5 - موثّقة منصور بزرج، عن العبد الصالح، قال: قلت له: إنّ رجلاً من مواليك تزوّج امرأة ثم طلّقها فبانت منه، فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلّا أن يجعل لله عليه أن لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها، فاعطاها ذلك، ثمّ بدا له فى التزويج بعد ذلك، فكيف يصنع ؟ فقال: «بئس ما صنع! وما كان يدريه ما يقع فى قلبه بالليل و النهار! قل

ص: 94


1- الوسائل 49:15، ب 40 من أبواب المهور، ح 2.
2- المصدر السابق: ح 4.
3- المصدر السابق 353:12، ب 6 من أبواب الخيار، ح 1.
4- المصدر السابق: ح 2.

له: فليفِ للمرأة بشرطها؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: المؤمنون عند شروطهم»(1).

بدعوى أنّ هذه الجملة - أعنى «المؤمنون عند شروطهم» - إخبارية بداعى الإنشاء، ويرجع مفادها إلى أنّ المخبر يدّعى أنّ المؤمن لا يتخلّف عن قوله، ومن المعلوم أنّ هذا الادعاء لا يصحّ إلّا مع كون المؤمن ملزماً بإيقاعه، والتعبير عن الإلزام بالجملة الخبرية المذكورة يدلّ على لزوم الإيجاد بنحو أبلغ وآكد، نظير قولك للعبد:

تذهب إلى السوق و تشترى كذا وكذا؛ إذ من المعلوم أنّ ذلك إخباربداعى البعث بنحو آكد، و مبنىّ على لزوم الذهاب إلى السوق والاشتراء.

وبالجملة، هذه العبار تدلّ على الإلزام بالعمل على طبق الشرط، و الإلزام حاكٍ عن الصحّة و النفوذ، فيستفاد منها الحكم التكليفى و الوضعى، كما يدلّ على كليهما النصوص المذكورة، كدلالة صحيحة فى بن رئاب على نفوذ الشرط ولزومه، و موثّقة إسحاق بن عمّار على وجوب الوفاء، وغيرهما من الأخبار.

والحاصل: إنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ المؤمّن ملزم بجعله و عهده، و هو شامل للمقام؛ لأنّ المقام يحتوى الجعل و العهد.

ولكن يشكل ذلك: بأنّ عنوان «الشرط» أو «الشروط» لا يشمل القام؛ لظهوره فى الالتزام فى ضمن الالتزام لا العقود المستقلّة كالبيع و الصلح ونحوهما، ولذا ذهب الأصحاب إلى عدم تماميّة الاستدلال به لصحّة البيع المعاطاتى.

و يشهد له ما فى القاموس(2) وتاج العروس(3) من أنّ «الشرط: إلزام الشىء، والتزامه فى البيع ونحوه، والجمع: شروط».

ص: 95


1- المصدر السابق 30:15، ب 20 من أبواب المهور، ح 4.
2- القاموس المحيط: 869.
3- تاج العروس 166:5.

ومن المعلوم أنّ الشرط لو كان عندهما مطلق الإلزام والالتزام، لكان قولهما:

«فى البيع ونحوه» لغوا.

و يشهد له كذلك ما عن معيار اللغة: «شرَط عليه كذا فى البيع ونحوه: ألزَمَه إيّاه، فالتزم هو لما اشترط عليه».

ويشهد له أيضاً غير ما ذكرناه من كتب اللغة.

نعم، فى المنجد: «الشرط: إلزام الشىء و التزامه»(1)، و هو ظاهر فى الإطلاق، ولكن لا يرفع اليد به عمّا فى القاموس وتاج العروس مع تفرّد صاحب المنجد فى ذلك وعدم إقامة الشواهد عليه، كما أنّه لا وجه لرفع اليد عنه باستعماله فى بعض الأخبار فى الشرط الابتدائى؛ لأنّه لم يحرز أنّه مجرّد عن القرينة.

قال سيّدنا الإمام المجاهد الخمينى قدس سره: لا شبهة فى أنّ الشرط ليس بمعنى مطلق الجعل و القرار، فلا يقال لجعل النصب و الإشارات: الشرط، ولا مطلق الجعل المستتبع للإلزام و الضيق... فلا يقال لجعل الأمارة الشرعية المستتبعة للضيق و الإلزام: الشرط، ولا بمعنى لزوم شىء لشىء، فلا يقال للحجّية المجعولة لخبر الواحد مثلاً باعتبار لزومها له: الشرط، ولا لجعل الوجوب للصلاة باعتبار لزومه لها. وإطلاق الشرط على الطهارة للصلاة ليس باعتبار اللزوم، بل باعتبار تعليقها عليها، وعدمها بعدمها.

- ثمّ قال: - الظاهر المتبادر من الشرط هو الضمنى، ولا يطلق على الابتدائى بنحو الحقيقة، فإذا التزم إتيان شىء لايقال: شرط إتيانه أو شرط عليه ذلك، ولا أقل من الشكّ فى الشمول. ودعوى تبادر الأعمّ ضعيفة، واستعماله فى الروايات أو غيرها فى الابتدائى أعمّ من الحقيقة، مع إمكان التفصّى عن الجلّ أو الكل؛ أمّا مثل قوله عليه السلام:

ص: 96


1- المنجد: 382.

«شرط الله قبل شرطكم»(1) و «شرط الله آكد»(2) فقرينة مجاز المشاكلة فيه موجودة، و أمّا مثل قوله عليه السلام: «الشرط فى الحيوان ثلاثة أيام»(3) فإطلاق الشرط فيه على الخيار لا يبعد أن يكون باعتبار أنّ جواز العقد وعدم لزومه معلّق عليه ومشروط به.

- ثم قال: - نعم لا يبعد إلغاء الخصوصية عرفاً من الشروط الضمنية إلى الابتدائية، بل إلى مطلق القرار و الجعل بمناسبة الحكم و الموضوع، بان يقال: إنّ العرف يفهمون من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم» أنّ ما يكون المؤمن ملزماً به هو جعله وقراره من غير دخالة عنوان الشرط فيه، فالضمنية والابتدائية و الشرط وسائر عهوده على السواء فى ذلك، تأمّل(4).

و لعلّ وجه التأمّل عدم القطع بعدم الخصوصية.

فتحصّل: أنّ مقتضى العمومات و الإطلاقات هو لزوم عقد التأمين ووجوب الوفاء به على ماتوافقا عليه.

ص: 97


1- الوسائل 31:15، ب 20 من أبواب المهور، ح 6.
2- المستدرك 300:13، ب 5 من أبواب الخيار، ح 2.
3- الوسائل 350:12، ب 4 من أبواب الخيار، ح 1.
4- كتاب البيع 87:1-93.
المقام الخامس: فى الموانع

لا يخفى أنّ تأثير العقد بأركانه وشرائطه موقوف على عدم وجود موانع تحول دون ذلك، و قد ادعى فى المقام وجود عدد منها نشير إليها فيما يلى:

فمنها: إنّ عقد التأمين كضمان ما لم يجب، و قد ادعى فيه الإجماع على بطلانه.

قال فى الجواهر: الحقّ المضمون: «و هوكل مال ثابت فى الذمّة، ومرجعه إلى ما فى القواعد من أنّ شرطه المالية و الثبوت فى الذمّة و إن كان متزلزلاً، كالثمن فى مدّة الخيار، والمهر قبل الدخول، بل قيل: إنّ على الأوّل الإجماع معلوم ومحكئ فى ظاهر الغنية وغيرها، بل فيها وغيرها أيضاً الإجماع صريحاً على الثانى. وفى محكئ التذكرة:

لو قال لغيره: مهما أعطيت فلاناًفهو علىّ ، لم يصحّ إجماعا»(1).

وفيه: أوّلاً: إنّ مورد الإجماع هو الضمان الشرعى الذى يكون عندنا هونقل الذمّة إلى الذمّة، ومن المعلوم أنّه متقوّم بثبوت شىء فى الذمّة، فالقول بلزوم الثبوت فى الذمّة فى الضمان المصطلح الشرعى لا يلازم اعتباره فى الضمانات العرفية التى تكون هى التعهّد بالمال وكون مسؤوليّته على الضامن من دون انتقاله بالفعل إلى ذمّته، كما هو الحال فى موارد العارية المضمونة مع الشرط، أو كون العين المستعارة ذهباً أو فضّة،

ص: 98


1- جواهر الكلام 135:26.

وفى موارد ضمان اليد كقولهم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»(1) و إنّ الغاصب ضامن؛ فإنّ الضمان فى أمثال هذه الموارد ليس إلّا بمعنى كون مسؤوليّتها فى عهدته بحيث يكون هو المتعهّد بردها ولو مثلاً أو قيمةً عند تلفها من دون اشتغال ذمّة الضامن بالبدل فعلاً.

فليكن فى المقام كذلك؛ فإنّ معنى عقد التأمين هو إنشاء مسؤولية الخسارات الواردة على النفس أو المال على المؤمّن من دون اعتبار نقل ذمّة إلى ذمّة، ومثل هذا متعارف عند العقلاء، بل لا تبعد - كما أفاد السيّد الخوئى قدس سره - دعوى تعارف هذا النوع من الضمان عندهم فى الاُمور الثابتة فى الذمّة أيضا، حيث قال: «فإذا صحّ مثل هذا الضمان فى الأعيان الخارجية كموارد اليد و العارية فليكن ثابتاً فى الاُمور الثابتة فى الذمّة أيضاً؛ فإنهلا يبعد دعوى كونه متعارفاًكثيراً فى الخارج؛ فإنّ أصحاب الجاه والشأنيضمنون المجاهيل من الناس من دون أن يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم، و إنّما يراد به تعهّدهم به عند تخلّف المضمون عنه عن أدائه. و الحاصل أنّ الضمان فى المقام غير مستعمل فى معناه المصطلح، وعليه فلا مجال للإيراد عليه بانه يتضمّن التعليق الباطل، أو أنّه من ضمّ ذمّة إلى اُخرى لا من نقل ما فى ذمّة إلى ذمّة اُخرى، و إنّما هو مستعمل فى التعهّد و المسؤولية عن المال، و هو أمر متعارف عند العقلاء، فتشمله العمومات و الإطلاقات؛ فإنه عقد يجب الوفاء به»(2).

وبالجملة، إنّ عقد التأمين ليس عقد الضمان الاصطلاحى، فلا يشترط فيه ما اشترط فى الضمان الاصطلاحى.

و ثانيا: بأنّ الإجماع المذكور غير ثابت، بل يظهر من المحكى عن المبسوط

ص: 99


1- المستدرك 88:17، ب 1 من أبواب الغصب، ح 4.
2- مبانى العروة الوثقى: كتاب المساقاة و الضمان: 115-116.

والتحرير و المختلف و مجمع البرهان(1) خلافه فى مسألة ضمان مال الجعالة قبل فعل ما شرط و فى مسألة مال السبق و الرماية؛ فإنهم ذهبوا إلى صحّة الضمان مع عدم ثبوت شىء فى الذمّة، ولا مجال لدعوى أنّ العقد سبب ثبوت المال فى الذمّة؛ لأنّ العقد جزء السبب و الجزء الآخر هو العمل، فالضمان قبل العمل ضمان ما لم يجب. قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: إنّ دعوى الإجماععلى بطلان ضمان ما لم يجب ممنوعة كما يظهر بالرجوع إلى مظانه؛ إذ أنّ الفقهاء قد أفتوا فى موارد عديدة بصحّته(2).

رثالثا إنّ دعوى الإجماع ينافى بعض الأخبار الدالّة على صحّة ضمان ما لم يجب، كموثّقة حبيب الخثعمى عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «قلت له: الرجل يكون عنده المال وديعة، يأخذ منه بغير إذن ؟ فقال: لا يأخذ إلّا أن يكون له وفاء. قال: قلت:

أرأيت إن وجد من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذى يضمنه يأخذ منه ؟ قال: نعم»(3).

لظهورها فى صحّة ضمان ما لم يجب؛ فإنّ ضمان الدين قبل الأخذ و الصرف.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الرواية معرض عنها، فتأمّل.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره - على ما حكى عنه - بل فى أخبارنا ما يدلّ على صحّته، كما فى رواية يعقوب بن شعيب عن أبى عبدالله قدس سره، قال: سألته عن الرجل يبيع للقوم بالأجر، عليه ضمان مالهم ؟ قال: «إذا طابت نفسه بذلك؛ إنّما أخاف أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم، فإذا طابت نفسه فلا بأس»(4).

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ دعوى الإجماع فى ضمان الديون، والرواية واردة فى ضمان

ص: 100


1- انظر: جواهر الكلام 199:35، 224:28.
2- مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام - العدد الأوّل - مقالة التأمين: 11.
3- الوسائل 232:13، ب 8، أحكام الوديعة، ح 1.
4- الوسائل 393:12، ب 19، أحكام العقود، ح 2.

الأعيان.

و ربّما يقال فى الجواب عن الإشكال: إنّ التأمين من مصاديق ضمان ما لم يجب إن أنشأ المؤمّن التعهّد الفعلى بالنسبة إلى تدارك الخسارة بعد الغرق أو السرقة ونحوهما، و أمّا إذا لم يكنكذلك بل هو أنشأ تعهّد الخسارة لما بعد وقوعها بحيث تكون فعليّة التعهّد بعد وقوع الخسارة فلا يرد حينئذ أنّ ذلك من مصاديق ضمان ما لم يجب، لأنّ التعهّد الفعلى يقع بعد وقوع الخسارة(1).

ولكن يرد عليه: أنّ لازمه تفكيك الإنشاء عن المنشَأ وتعليق التعهّد. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التفكيك ممنوع، لأنّ المنشَأ التعليفى لا ينفكّ عن الإنشاء، هذا مضافاً إلى أنّه لا دليل على بطلان التعليق إلّا فى البيع ونحوه خاصّة.

وكيف كان، فقد ظهر أنّ المقتضى للحكم بالصحّة فى عقد التأمين هو العمومات، والمانع عنه غير موجود، فالواجب هو القول بالصحّة. والمحكئ عن الميرزا القمّى قدس سره هو جواز ضمان ما لم يجب فى مثل عين الدار أو منفعتها لو ظهر انّها مستحقّة للغير، كما يجوز ذلك عند الضرورة فى مثل «ألق متاعك فى البحر وضمانه علىّ »(2).

ومنها: إنّ تامين الحوادث الآتية مع كر خسارنها فى قبال ما يؤخذ من المؤمّن له معاملة سفهائية، والعقلاء لا يقدمون عليه.

وفيه: أوّلاً: إنا نمنع الصغرى؛ لما نرى من إقدام العقلاء فى جميع الأقطار والنواحى على ذلك، فلوكان ذلك أمراً سفهياً لما أقدموا عليه، وكثرة الخسارة فى بعض الموارد تكون متداركة بعدمها أو قلّتها فى كثير من الموارد الاُخرى.

وثانيأ: إنّ الكبرى ممنوعة؛ لأنّ الباطل هو معاملة السفيه، كما دلّت عليه الآية

ص: 101


1- انظر: كتاب تعهّدات ناشى از قرارداد در حقوق اسلامى للگرجى: 145 بالفارسية.
2- انظر: جامع الشتات: 207-208.

الكريمة: وَ لاٰ تُؤْتُوا اَلسُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً (1)، لا المعاملة السفهاثية؛ إذ لا دليل على بطلانها.

ومنها: إنّ ما يؤخذ عليه من المال ربما لا يقابل فى الأغلب بتدارك ما، فيكون المأخوذ من دون مقابل، و يندرج بهذا الاعتبار فى الأكل بالباطل النهى عنه فى الكتاب العزيز: وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ (2).

ويمكن أن يقال: إنّ المقابل هو التأمين، و هو أمر خطير، وما يؤدّيهالمؤمّن له قليل بالنسبة إليه. هذا مضافاً إلى أنّ شركة التأمين ترسل - فى الغالب - مندوباً عنها لإرشاد المؤمّن له وإطلاعه على كيفيّة الحفاظ على الأموال وصيانتها، وفى كثير من الحالات تقوم الشركة بإصدار كرّاس خاصّ يحتوى على مجموعة من التعلمات والإرشادات فى هذا الشأن.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المقابل هو التأمين، و هذه الاُمور من لوازم التأمين وليست بنفسها من المقابلات. هذا مضافاً إلى انّها كثيراً ما تكون بنفع الشركة؛ لكونها مسبّبة لتقليل الحوادث و الخسارات، فتدبّر.

وأجاب سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره - على المحكئ عنه - بأنّ حلّية العوض فى المعاملات غير منوطة بالانتفاع من المعوّض؛ فإنّ من استأجر بيتاً للضيافة المشروطة عليه - بمعنى أنّه شرط على نفسه فى ضمن عقد الإجارة أن لاينتفع به إلّا للضيافة - أو استأجر حانوتاً لاختزان القمح كذلك، فاتّفق أنّه لم يرد عليه ضيف فى مدّة الإجارة أو أجدبت السنة فلم ينتفع بالعين المستأجره فإنّه لا إشكال فى صحّة الإجارة حينئذ، و أنّ ما يأخذه المؤجر يكون من تجارة عن تراض. هذا مع أنّ ما يؤخذ - فيما نحن فيه -

ص: 102


1- النساء: 5.
2- البقرة: 188.

فى قبال هذا التعهّد الخطير قليل فى الغاية و يسير إلى النهاية، والعقلاء يرغبون فيه ويرونه من أحكم طرق حفظ الأموال و النفوس، ولا يكاد يفرّق ذو مسكة بين هذا وبين استئجار الحرّاس لحفظ الأموال و النفوس فى الحكم بالصحّة مع قوّة الداعويّة فى التأمين؛ لأجل التضمين المحقّق فيه دون الاستئجار، كما لا يخفى على اُولى الابصار(1).

ولا يخفى عليك أنّ المقابل فى الإجارة هو تملّك المنفعة لا الانتفاع، و هو لا يتخلّف و إن لم ينتفع بها.

ومنها: إنّ عقد التامين عقد غررى، و قد نهى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم عن العقدالغررى، ومقتضى النهى فى المعاملة فسادها؛ لأنّ النهى فى المركبات ظاهر فى الإرشاد إلى الفساد؛ لعدم الحرمة التكليفية فى مثل العقد إلّا ما استثنى، فهو ظهور ثانوى يقدّم على ظهور النهى فى التكليف.

و يدلّ على النهى المذكور الخبر المشهور بين الفريقين من نهى النبى صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر، فقد روى الصدوق بالأسانيد الثلاثة عن الحسين بن علىّ عليهما السلام أنّه قال:

«خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: سياتى على الناس زمان عضوض يعضّ المؤمن على ما فى يده ولم يؤمن بذلك - إلى أن قال: - وسيأتى زمان يقدّم فيه الأشرار، و ينشأ فيه الأخيار، ويبايع المضطرّ، و قد نهى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع المضطرّ وعن بيع الغرر...»(2). ولعل المراد من المضطرّ هو المكره، كما يشهد له بعض الأخبار.

ونحوه فى صحيفة الرضا عليه السلام(3).

ورواه العامّة أيضاً فى جوامعهم(4).

ص: 103


1- مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام - العدد الأوّل - مقالة التأمين: 11.
2- جامع الأحاديث 61:18.
3- صحيفة الرضا 270:7.
4- حكى الحديث عن صحيح الترمذى 349:2، وكنز العمّال 74:4، و صحيح مسلم 3:5، -.

وكيف كان، فالرواية ممّا اتفق عليها الفريقان، كما عن الرياض: «إنّ الرواية متّفق عليها بين العلماء كافّة»(1)، وقال الفاضل النراقى قدس سره: «هى قاعدة مقبولة مسلّمة بين الجميع»(2)، وعمل بها الأصحاب فى تضاعيف أبواب الفقه؛ منهم السيّد فى الانتصار، وابن إدريس فى السرائر، و العلّامة فى نهج الحقّ ومواضع عديدة من التذكرة وفخر المحققين فى شرح القواعد، والفاضل المقداد فى التنقيح، و الشهيد فى قواعده، وغيرهم على ما حكيعنهم.

ثم إنّ الرواية تدلّ على فساد المعاملة بالغرر، وحيث إنّ عقد التأمين من جهة وقوع الخسارة وعدمه ومن جهة كميّتها و كيفيّتها غير معلوم، فيشمله النهى عن الغرر، و يحكم ببطلانه من جهة الغرر.

و يشهد له أيضاً الأخبار الدالّة على عدم جواز الشراء بدينار غير درهم، مثل ما رواه حمّاد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «يكره أن يشترى الثوب بدينار غير درهم؛ لأنّه لايدرى كم الدينار من الدرهم»(3).

ص: 104


1- رياض المسائل 553:1. ط - حجرى.
2- عوائد الأيام: 28، انتشارات مكتبة بصيرتى.
3- الوسائل 398:12، ب 23، أحكام العقود، ح 1. قال المحقّق فى المعتبر 529:2: والمعتبركون الدرهم ستّة دوانيق بحيث يكون كل عشره منها سبعة مثاقيل من ذهب. وفى المغرب: تكون العشره وزن سبعة مثاقيل. و قال العلّامة فى التحرير 62:1: والدراهم فى صدر الإسلام كانت صنفين: بغلية: وهى السود، وكل درهم -.

ويمكن الجواب عن ذلك:

أوّلاً: إنّ الحديث مخصوص بباب البيع، و التعميم غير ثابت، فلا مجال للتمسّك به فى المقام.

و اُورد عليه: بأنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة فى العموموالخصوص، وعليه فالتعليل بلفظة «لايدرى» تعميم للمورد الخاصّ بحيث لا يتأمّل العرف فى أنّ الجهالة قادحة فى المعاملة مطلقا و أجاب عنه سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: بأنّ حديث تعميم العلّة و تخصيصها لمورد المعلول ممّا لا مساغ لإنكاره، إلّا أنّ قدح الجهالة بلحاظ التعليل و إن كان عامّاً يشمل شراء الثوب وغيره من الأمتعة والاعيان و الأثمان غير النقدين، ولكن لا يخرج عن نطاق البيع و الشراء(1).

وثانيأ: إنّ العوض فى عقد التأمين معلوم، و هو التعهّد وقبول المسؤولية، ولا يضرّ بمعلوميّة التعهّد المذكور جهالة متعلّقه، كالخسارة من جهة الوقوع وعدمه أو من جهة الكيفية و الكمّية، كما لا يضرّ الترديد فى المنوىّ بتعيين النيّة، كما قرّر فى صوم يوم الشكّ ، فتأمّل.

نعم، لوكان عقد التأمين معاوضة بين ما يدفعه المؤمّن له وبين ما يدفعه المؤمّن عند وقوع الخسارة كان عقداً غررياً؛ لعدم معلومية المقابل من جهة حدوثه ومقداره و كيفيّته.

اللّهمّ إلّا أن يقال بمعلومية المقابل بتقدير المقدّر و المخمّن، كما أفاد اُستاذنا

ص: 105


1- انظر: مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام - العدد الأوّل - مقالة التأمين 9-10.

الأراكى قدس سره، فتأمّل.

و ثالثا إنّ الغرر - محرّكة - اسم مصدر، و هو الخطر؛ من غَرّرَ بنفسه وكذلك بالمال تغريراً؛ أى عرّضها للهلكة من غير أن يعرف، كما فى تاج العروس(1). والظاهر من كون الغرر اسم مصدر من فعل التغرير - الذى قيّده بقوله: «من غير أن يعرف» - هو اعتبار الجهالة فيه فى الجملة.

و ممّا ذكريظهر ما فى كلام بعض الأعلام من أنّه ليس فى شىء من الكتب اللغوية تفسيره بالجهالة، كما فى كتاب البيع لسيّدنا الإمام قدس سره(2). اللّهمّ إلّا أن يكون مقصوده تفسير الغرر بالجهالة بالمطابقة، لا أنّ للجهالة مدخلية فيه. وكيف كان، فلا يصحّ الاستدلال بانه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن بيع الغرر؛ لمبطلية مطلق الجهالة من دون صدق التعريض للهلكة، كما أنّ الغرر ليس هو مطلق الخطر ولو لم يكن عن جهل.

وعليه، فالتأمين ليس داخلاً فى الغرر، لعدم جهل الشركة المؤمّنة بنوع الخسارة ومقدار تداركها، ولعدم جهل المؤمّن له بالمدّة و الأقساط.

هذا، مضافاً إلى أنّه لا يصدق عليه الإقدام على الخطر لا بالنسبة إلى المؤمّن ولا بالنسبة إلى المؤمّن له بعدكونه من المعاملات العقلائية؛ لأنّ تحمّل دفع مبلغ يسير عند حلول كل قسط لاكتساب تدارك الخسارات أمر عقلائى، وكذا تحمّل تدارك الخسارات فى مقابل استلام مبالغ أقساط كثيرة من أشخاص عديدين يعدّ أمراً عقلائياً.

وهكذا لا مجال للتمسّك بالنبوى المذكور لبطلان التأمين بناءً على كون معنى الغرر هو الخدعة، كما ذهب إليه السيّد الكوهكمرى قدس سره، حيث قال فى كتاب البيع: و أمّا

ص: 106


1- تاج العروس 443:3.
2- كتاب البيع 205:3.

الكلام فى دلالة الرواية فأهل اللغة و إن اختلفوا فى تفسير الغرر - فبعضهم جعله من الغرّة من الغفلة، و بعضهم من التغرير بمعنى الخدعة و الغفلة، و بعضهم بالخطر - إلّا أنّ الصحيح أنّه من الخدعة فى جميع موارد استعمالاته... وكذا إطلاقها على الدنيا، فتكون هى الموضوعة له، و أمّا الخطر فهو من لوازمه؛ لأنّ الخدعة تستلزم الوقوع فى الخطر، فلو عبّر به فى مورد يكون التعبير باللازم(1).

وكما ذهب إليه السيّد الحكيم فى نهج الفقاهة حيث قال: «و المحصّل ممّا ذكرنا أنّ المفهوم من مادّة الغرر لغةً وعرفاً أنّه ليس هو الخطر ولا الجهل، بل هو توهّم حسن ما هو قبيح فى الواغ المناسب ذلك لتفسيره بالخديعة بمعنى اسم المصدر، و أنّ تفسيره بالجهل و الغفلة و الخطر تفسير باللازم»(2).

وذلك لعدم صدق الخدعة بالنسبة إلى عقد التأمين، ولعل وجهه هو اعتبارالجهالة فى الخدعة و المفروض هو عدمها بالنسبة إلى المؤمّن و المؤمّن له، وهكذا لا يصدق توهّم حسن ما هو قبيح فى الواقع، إذ ما توافقا عليه هو ما وقع فى الواقع لا خلافه. هذا مع الإغماض عن اختصاص الغرر بالخدعة مع تصريح أهل اللغة بكون معناه هو الخطر، بل قال الفاضل النراقى قدس سره - بعد نقل كلمات اللغويين - «إنّ الموضوع من تلك المادة ألفاظ عديدة من المصادر المجرّدة كالغرّة... وغير المجرّد كالتغرير... ومن الأسماء كالغرّة - م قال: - ولكن كلّها متطابقة على أنّ الغرر هو الاسم من التغرير الذى معناه التعريض للتهلكة، و أنّ معنى الغرر هو الخطر، و الخطر المصدرى: الإشراف على الهلاك، و المخاطرة: ارتكاب ما فيه خطر وهلاك... ووضع ألفاظ اُخر متّحدة مادّة مع هذا اللفظ لمعانٍ اُخر لا يوجب اشتراك هذا اللفظ بعد اختلاف الهيئة وعدم

ص: 107


1- كتاب البيع: 145.
2- نهج الفقاهة: 396.

الاشتقاق»(1).

فتحصّل: أنّ الغرر لا يصدق على التأمين على أىّ تقدير من التقادير المذكورة.

ومنها: أنّه كما أنّ القمار هو عمل تصادفى يوجب تحصيل مال أو ذهابه من دون عوض، والمقامر يقدم على القمار متّكئاً على الغلبة التصادفية، بحيث لو علم من أوّل الأمر أنّه لا يغلب لم يقدم على القمار.

فكذلك المؤمّن له و المؤمّن شأنها شأن المقامر؛ فإنّ المؤمّن له يقدم على التأمين من جهة تصوّر الانتفاع به، بحيث لو علم بانه لا ينتفع به لايقدم على ذلك، وهكذا المؤمّن يقدم على ذلك برجاء أن يأخذ الأقساط وأن لا تقع حوادث، بحيث لو علم بوقوعها من أوّل الأمر لا يقدم على ذلك.

ولذا ذهب بعض إلى أنّ التأمين شبيه بالقمار ويكون محرّماً(2).

وخصّصه بعض آخر بالتأمين على الحياة؛ لإمكان موت المؤمّن له قبل دفع تمام الأقساط، فاللازم على المؤمّن أن يعطى مبالغ أكثر بمرّات ممّا أخذ، وحينئذ ألا يكون هذا قماراً؟! ولو لم يكن قماراً فالقمار أى شىء؟!(3).

وفيه: أنّ حقيقة التأمين لاتشبه حقيقة القمار؛ لأنّ التأمين معاوضة بين المؤمّن و المؤمّن له، ونوع عقد و تجارة، بخلاف القمار فإنه خال عن المعاوضة، بل هو الغلبة فى اللعب، كما تشهد له اللغة، قال فى تاج العروس: «قامره مقامرةً و قماراً فقمره - كنصره

ص: 108


1- عوائد الأيام: 30.
2- هاشم معروف الحسنى فى كتابه نظرية العقد فى الفقه الجعفرى: 118-120.
3- ذهب إلى ذلك الشيخ رجب التميمى من علماء فلسطين، وعبد الله بن زياد آل محمود من علماء قطر، و محمّد بخيت المطيعى و الشيخ أحمد إبراهيم من علماء مصر - انظر: مجلّة كنفرانس اسلامى: 557. وهفته فقه اسلامى دمشق: 451، نقلاً عن مجلّة شبّان المسلمين: العدد الثالث - السنة الثالثة عشرة - 1941 م.

- يقمره قمراً و تقمّره: راهنه فغلبه، و هو التقامر»(1)، وفى الصحاح: «قمرت الرجل أقمره - بالكسر - قمراً: إذا لاعبته فيه فغلبته(2).

ولا لعب ولا مغالبة فى التأمين، و مجرّد وجود الشبه فى بعض الاُمور لا يوجب اندراجه فى القمار، و إلّا لزم اندراج البيع أيضاً فيه؛ لأنّ البائع لو علم بأنّ البيع يصير ضرراً عليه لا يقدم عليه، وهكذا المشترى، فالبيع شبيه بالقمار من هذه الجهة، لكنه غير مندرج تحته.

هذا، مضافاً إلى ما قيل: من أنّ المقامر يجعل نفسه فى معرض الخطر ويكون مضطربا، بخلاف المؤمّن له فإنه بعقد التأمين يصير مطمئنّا كما أنّ المؤمّن يقنع بالأقساط ولا اضطراب له من جهة انتفاعه بكر الأقساط من ناحية معامليه.

وكذا ما قيل: من أنّ القمار يوجب التضرّر نوعاً فى أحد الطرفين، بخلاف التأمين؛ فإنّ الأقساط المؤدّاة تكون من مخارج المعيشة وليست بضرر على المؤمّن له، كما أنّ المؤمّن ليس متضرّراً بأداء الخسارات؛ لأنّ الخسارات لا تكون عامّة بالنسبة إلى جميع الأفراد الذين يدفعون الأقساط.

إلى غير ذلك من اللوازم.

وكيف كان، فلا إشكال ولا شبهة فى أنّ عقد التأمين مغاير للقمار فى الهويّة و الماهيّة، فلا تغفل.

ومنها: إنّ عقد التأمين لا يخلو من الربا؛ فإنّ فى التأمين على الحياة ربّما يرد المؤمّن إلى المؤمّن له أكثر ممّا أخذه، و هو ليس إلّا الربا. بل يلزم الربا أيضاً فى سائر التأمينات إذا أخذ المؤمّن له من المؤمّن عند وقوع الحادثة أكثر ممّا أعطاه للمؤمّن،

ص: 109


1- تاج العروس 505:3.
2- الصحاح 799:2. ط - دار العلم.

وهكذا ما يأخذه المؤمّن فى قبال تأخير الأقساط يكون من الربا(1).

هذا، مضافاً إلى ما قيل: من أنّ شركة التامين تتعامل بمعاملات ربوية بالوجوه المأخوذة. ومن المعلوم أنّ خلؤ العقد من الربا من شرائط الصحّة، مضافاً إلى كون الربا عملاً محرّماً بنفسه، بل الإعانة عليه فى المعاملات الربوية محرّمة.

و قد حكى عن الشيخ حسين الحلّى أنّ التأمين على الحياة فى بعض أنواعه ربوى، كما إذا قامت الشركة بدفع فوائد سنوية أو شهرية إضافة إلى مبلغ التأمين المتّفق على تسليمه إلى طالب التأمين عند حدوث الخطر؛ لأنّ هذا النوع من المعاملات منزّل على القرض الربوى، حيث يكون دفع المال من قبل المؤمّن له - والذى هو طالب التأمين - قرضاً إلى الشركة، وتكون دفع الفوائد إنما هى فى قبال المال الذى أقرضه إلى الشركة(2).

ولعل وجه توهّم القرض أنّ مع حياة المؤمّن له لا ترد خسارة حتى يعطيها المؤمّن، فيرجع عقد التأمين إلى أنّ الأقساط تكون قروضاً فى الحقيقة، فإعطاء الزائد عمّا أخذه يكون ربا فى القرض، و هو محرّم.

يمكن أن يقال: إنّ حق التأمين ليس قرضاً أو وديعة فى التأمينات مطلقا بل هو عوض تضمين المؤمّن وتأمينه، وعليه فما زاد ليس ربا ولو كان ما يعطيه المؤمّن أزيد ممّا أخذ، من دون فرق بين أن يشترط فى ضمن العقدهذه الزيادة أو لا يشترط، ومن دون فرق بين أن يكون التأمين تأميناً على الحياة وغيره؛ لأنّ طرف العقد هو التعهّد لا إعطاء الخسارة، ومع وجود طرف العقد لا ترجع الأقساط إلى القروض، بل هى فى مقابل التعهّد ولو لم تقع حادثة، كما إذا مضت مدّة التأمين على الحياة ولم يمت المؤمّن له.

ص: 110


1- انظر: كتاب التأمين على الحياه للسيّد عبد المطّلب عبده: 72.
2- بحوث فقهية: 45-46.

هذا مضافاً إلى عروض آثار التقدّم فى العمر - كضعف الحواس و القوى ونحوهما - مع بقاء الحياة، فالتدارك يقع بالنسبة إلى هذه الفوائت، فلا وجه لإرجاع الأقساط إلى القروض و الإشكال فيه من جهة الربا.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: «لو التزم المؤمّن بدفع إضافة على مبلغ التأمين فالظاهر أنّه لا بأس به، كمن أمّن على حياته عند شركة التأمين لمدّة معلومة على مبلغ معلوم، واستوفت الشركة أقساطاً شهرية مقدّرة فى قبال التأمين، وتلتزم الشركة بدفع.

مبلغ إضافة على مبلغ التأمين ترغيباً لأهل التأمين، فإنّ تلك الزيادة ليست من الربا القرضى؛ لعدم كون أداء الأقساط قرضا بل التأمين معاملة مستقلّة اشترط فى ضمنها ذلك، والشرط سائغ نافذ لازم العمل»(1).

هذا، مضافاً إلى ما قيل: من أنّه مع تسليم كونها قرضاً فالزيادة المأخوذة تكون فى قبال كسر القوّة المالية فى الأقساط المذكورة من جهة طول المدّة كما حكى ذلك عن الشهيد المطهّرى وبعض الأعلام فى عصرنا هذا.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ الربا القرضى محرّم، و مجرّد كسر القوّة المالية لو كان موجباً لتجويز أخذ الزيادة لذهبوا إليه فى القرض، مع انّهم لم يفرّقوا فى حرمة الربا فى القرض بين كسر القوّة المالية وعدمه، فتأمّل.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو كان ذلك موجباً لتجويز أخذ الزيادة لزم أن يقتصر فيه على مقدار الكسر لا أزيد منه.

ثم إنّ ما تأخذه الشركة فى قبال تأخير الأقساط محرّم لوكان من جهة تأخير أداء الأقساط وملاحظة طول مدّة الأداء، و أمّا إذا اشترط فى عقد لازم أن يعطى الغرامة عند تأخير الأداء فقد يقال بصحّة الشرط المذكور؛ لأنّ الغرامة ليست ريا،

ص: 111


1- تحرير الوسيلة 610:2-611، المسألة 9.

فتدبّر. و ستأتى إن شاء الله تعالى بقيّة الكلام فى المقام السابع.

ومنها: إنّ التأمين معاوضة على المعدوم؛ لعدم وجود الحوادث و الخسارات عند عقد التأمين، والمعاوضة على المعدوم باطلة، كما عن ابن تيمية.

و فيه: إنّ المعاوضة تقع بين الأقساط و التأمين و تحمّل مسؤولية الضمان، ومن المعلوم أنّ التعهّد أمر موجود بالفعل فى الذمّة من حين انعقاد العقد نظير وجود الكلّى فى الذئة، فكما أنّ الكلّى فى الذمّة له وجود بالفعل ولذا كان معتبراً فى المعاملاتكذلك التعهّد و التأمين له وجود فى ذمّة المؤمّن أوالشركة حين المعاملة، فلا تكون المعاوضة على المعدوم. و يشهد له أيضاً أنّ بيع الديون بالأعيان الخارجية بيع الموجود الذمّى لا المعدوم، ولو سلّمنا عدم فعليّته باعتبار اشتماله على التدارك الآتى فهو ليس أدون من السلف، و هولا يكون ممنوعا مع أنّه عبارة عن بيع شىء موصوف فى الذمّة بشىء حاضر، ومن المعلوم أنّ الشىء الموصوف فى الذمّة لا يكون موجوداً فى الخارج، و مع ذلك تصحّ المعاملة بشرط قبض رأس المال قبل التفرّق.

وسبب هذا الاشتباه هو توهّم أنّ المعاملة فى التأمين واقعة بين الأقساط ونفس الحوادث، مع أنّك عرفت مراراً أنّ المعاملة واقعة بين التعهّد و الأقساط، و التعهّد موجود بالفعل فى اعتبار الذمّة.

ومنها: إنّ التأمين بيع الدين بالدين؛ لأنّ الأقساط كتدارك الخسارات ليست نقداً و هو ممنوع، كما ورد فى رواياتنا أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا يباع الدين بالدين»(1)، وكما ورد فى روايات العامّة من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»(2).

وفيه: أوّلاً: إنه مخصوص بالبيع ولايشمل المقام؛ لما عرفت من أنّه عقد مستقل

ص: 112


1- الوسائل 64:13، ب 8 من أبواب السلف، ح 2.
2- الجامع الصغير للسيوطى 699:2، ط - دار الفكر.

وليس ببيع.

وثانيا إنّ المعوض فى المقام و هو تحمّل المسؤولية للضمان لا يصدق عليه الدين، كما لا يصدق عليه الكالئ؛ فإنه الدين المؤجّل، و النسيئة و التعهّد أمر فعلىّ غير مؤجّل.

و ثالثا إنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يباع الدين بالدين» لا يشمل ما صار ديناً بالعقد؛ لظهوره فيما إذا كان العوضان ديناً قبل المعاملة كما هو مقتضى تعلّق الباء؛ لظهوره فى وجوده مع قطع النظر عن المعاوضة، والتأمين - على فرض تسليم كونه ديناً - يصير ديناً بنفس المعاوضة، وليس ديناً مع قطع النظر عنها.

و رابعا - كما قيل -: إنّ حقّ التأمين فى بعض أنواعه - كتأمين الشخص الثالث أو تأمين الدية - يؤخذ نقداً ولا يكون دينا فلا يشملهالحديث النبوى.

فتحصّل إلى حدّ الآن: أنّ عقد التأمين عقد مستقل تشمله الإطلاقات والعمومات، والموانع المذكورة لا تصلح لفساده.

ومقتضى القاعدة هو لزوم عقد التأمين بعد واجديّته للأركان و الشروط و خلوّه عن الموانع، إلّا إذا اشترط فى متن العقد اختيار الفسخ، كما يظهر من بعض الكتب المختصّة بهذا المجال أنّ عقد التأمين من العقود اللازمة، إلّا عقد التأمين على الحياة فإنّه لازم بالنسبة إلى المؤمّن وجائز بالنسبة إلى المؤمّن له، فإنّ له أن يمتنع من أداء أقساط التأمين متى شاء و يستدعى الفسخ(1).

ثم لا يذهب عليك أنّ تعهّد المؤمّن لا يختصّ بزمان خاصّ من أزمنة التأمين، بل يعمّ جميعها بحيث يجب عليه تدارك الخسارة فى كل لحظة، و يترتّب عليه أنّ ما يدفعه المؤمّن له يقع فى قبال التعهّد فى جميع مدّة عقد التأمين؛ بمعنى أنّ كلّ قسط يقع

ص: 113


1- انظر: كتاب كليات بيمه لآية الله كريمى: 51-52 بالفارسية، انتشارات بيمه مركزى - ايران.

فى قبال تعهّد المؤمّن فى ذلك الزمان كما هو المتعارف فى التأمينات، بناء على ما صرّح به فى بعض كتبهم(1).

فيترتّب عليه أنّه لو لم يدم التعهّد - كما إذا فسخ كلاهما أو أحدهما العقد - لم يكن العقد باطلاً من ابتداء عقد التأمين، بل هو صحيح بالنسبة إلى ما مضى و يفسخ بالنسبة إلى الباقى، و عليه فتقسّط الأقساط بحسب الأزمان عند فسخ العقد.

نعم، لو كان عقد التأمين مقيّداً لجميع المدّة فبان أنّه لم يكن كذلك لعدم قدرته عليه فالعقد باطل من أوّل الأمر، واستحق اُجرة المثل بالنسبة إلى ما مضى، إلّا أن يتّفقا على عدم استحقاق شىء فى هذه الصورة فتدبّر.

ص: 114


1- المصدر السابق: 53.
المقام السادس: فى إدراج التأمين فى المعاملات المتعارفة

قد عرفت قوّة كون عقد التأمين عقداً مستقلاً بحيث يكون التعهّد بالتدارك طرفاً للعقد و التعهّد بدفع الأقساط طرفاً آخر، كما يعترف به العرف ويشهد له بقاء صحّة العقد ولو مع عدم وقوع الخسارة و التدارك، و هو يشبه ضمان الجريرة من بعض الجهات.

ولكن يظهر من بعض عبائر الفقهاء إدراجه فى المعاملات المتعارفة، وهى عديدة نذكر منها ما يلى:

إحداها: الهبة بشرط التدارك أو الهبة المعوّضة:

و هو الظاهر من كلام السيّد الخوئى قدس سره حيث قال فى الجواب عن مسألة التزام بعض شركات التأمين بدفع مبالغ إلى المؤمّن له إضافة إلى مبلغ التأمين عند وفاة المستحقّ ، هل هذه الفائدة ربويّة ؟:

«لمّا كان التأمين المتعارف مبنيّاً على دفع مبلغ مقرّر هبة من المستأمن إلى الشركة بشرط تدارك ما يحدث من خسارات للمستأمن، فإن دفعت الشركة فاندة لصاحب التأمين لم تحسب من ربا القرض المحرّم»(1).

قال فى بحوت فقهية: «فيقول طالب التأمين: وهبتك كذا مقداراً من المال

ص: 115


1- صراط النجاة 304:2، سؤال 955.

شهرياً على أن تتحمّل كذا مقداراًمن المال خسارة لمدّة عشر سنوات مثلاً لو حدث حادث بمالى أو نفسى، و يأتى دور الشركة لتقبل بهذه الهبة وتسجّلعلى نفسها ما اشترطه الواهب من تحمّل الخسارة المذكورة و تكون الهبة من طالب التأمين إيجاباً منه، وموافقة الشركة تقريراً على نفسها بقبول هذه الهبة المشروطة. وليس هذا الشرط من الشرط المخالف ليبطل الشرط وتقع الهبة غير مشروطة، بل هو شرط سائغ لا مانع فيه. ولو لاحظنا هذه الهبة المشروطة لرأيناها حاوية على نفس أركان التأمين؛ لاشتمالها على الإيجاب و القبول و المؤمّن عليه و هو النفس أو المال ومقدار الخسارة، و هو مبلغ التامين»(1).

ولكن لا يخفى عليك أنّ إيقاع العقد المذكور بنحو الهبة المشروطة أو المعوّضة و إن كان ممكناً ولكنه غير متعارف عند الناس.

وإليه يشير ما فى التحرير حيث قال: «الظاهر أنّ التأمين عقد مستقل، وما هو الرائج ليس صلحاً ولا هبة معوّضة بلا شبهة»(2).

اللهمّ إلّا أن يكون المقصود هو لزوم أن يكون كذلك بعد عدم ثبوت كون عقد التأمين عقداً مستقلّا، أو عدم وضوح ذلك عنده.

ثمّ إنّه بناءً على إدراجه فى الهبة بشرط التحمّل، لا فرق فى العوض بينأن يكون مذكوراً فى نفس العقد أو يلحق به بعد العقد بأن اُطلق فى العقد ثمّ بذل العوض بعد ذلك، كما فى الجواهر(3)؛ لصدق قول أيى عبد الله عليه السلام فى صحيحة عبد الله بن سنان: «إذا عوّض صاحب الهبة فليس له أن يرجع»(4) - فى كلتا

ص: 116


1- بحوت فقهية: 39.
2- تحرير الوسيلة 609:2، المسألة 6.
3- جواهر الكلام 184:28.
4- الوسائل 341:13، ب 9، أحكام الهبات، ح 1.

الصورتين.

نعم، صرّح جماعة كما فى الجواهر باعتبار بذله على أنّه عوض وقبول الواهب له على ذلك؛ إذ هو حينئذ هبة جديدة ولا يجب عليه قبولها. ومال إليه فى الجواهر حيث قال: «ولا بأس به اقتصاراً فى الخروج عن أصل الجواز على المتيقّن»(1).

وعليه، فيجوز أن يهب طالب التأمين مقداراً من المال من دون عوض ثمّ يشترط فى ضمن هذا العقد أن يتحمّل المو هوب له الخسارة، كما يجوز له أن يهبه طالب التأمين فى مقابل تحمّل المو هوب له الخسارة أو بشرط تحمّل الخسارة؛ لأنّ كلّا من هذه الصور موجب لصدقكون الهبة معوّضة، فيشمله قوله عليه السلام: «إذا عوّض صاحب الهبة فليس له أن يرجع».

و ممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه للإيراد على الصورة الأولى: بأنّ الهبة بلا عوض جائزه فالشرط الواقع فى ضمنها لا يجب الوفاء به، بل حكمه حكم الشرط الابتدائى(2).

لما عرفت من أنّ الهبة و إن كانت ابتداءً بلا عوض ولكنها بعد ضميمة الاشتراط بعنوان العوض يصدق عليها المعوّضة، فباعتبار أنّ الهبة ابتداء ليست فى مقابل شىء كانت غير معوّضة، وباعتبار انضمام الاشتراط بعنوان العوض تصير معوّضة.

وبالجملة، ففى كلتا الصورتين تكون الهبة لازمة؛ لصدق المعوّضة عليها،

ص: 117


1- جواهر الكلام 185:28.
2- انظر: دراسات موسعة حول المسائل المستحدثة) للشيخ القزوشى): 253، ط - سيد الشهداء 7 قم.

فيشملها إطلاق دليل اللزوم.

ثمّ إنّ اشتراط الإضافة كاشتراط التحمّل فى صيرورة الهبة هبة معوّضة وكونها مشمولة لقوله عليه السلام: «إذا عوض صاحب الهبة فليس له أن يرجع»، فيلزم العقد ولا يجوز فسخها.

وممّا ذكر يظهر ما فى كلام بعض حيث قال فى مقام بيان الفرق بين عقد التأمين و الهبة: بأنّ فى الهبة يكون المتّهب بعد القبض مخيّراً بين رد المو هوب وبين دفع العوض، بخلاف عقد التأمين؛ لأنّ الأقساط المؤدّاة تصير أموالاً للمؤمّن فلا تكون قابلة للاسترداد(1).

وذلك لأنّ بعد كون الهبة معوّضة من ابتداء الأمر أو بإلحاق الاشتراط لايجوز للمتّهب ولا للواهب أن يردّ المو هوب أو يسترده، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه حيث كانت المعاوضة على المعدودات لا الموزونات لا يلزم من ذلك الربا المعاملى، كما لا يلزم من ذلك الربا القرضى؛ لأنّ الأقساط التى وهبها الواهب لا تكون قرضا و ممّا ذكر ينقدح ما فى صراط النجاة حيث قال: «و دفع الأقساط هبة بشرط الاشتراك فى الربح غير جائز»(2).

لا يقال: إنّ الهبة المعوّضة متقوّمة بالعوض المعلوم، وليس العوض فى عقد التأمين أمراً معلوما، هذا مضافاً إلى أنّ العوض خطرىّ و غررىّ ، على أنّ الهبة المعوّضة تابعة للبيع فى الأحكام؛ فحيث إنّ بيع النقود بالنقود المؤجّلة غير جائز للربا فالهبة المعوّضة أيضاً غير جائزة لذلك.

ص: 118


1- انظر: كتاب حقوق بيمه در اسلام: 148 (بالفارسية).
2- صراط النجاة 305:2.

لأنّا نقول:

أوّلاً: إنّ الالتزام بتحمّل مسؤولية الأمر المحتمل فى قبال الهبة يكفى فى صدق المعوّضية، ألا ترى صدقها على هبة شىء لشخص فى مقابل إكرام ضيفه إن جاء، مع أنّ مجىء الضيف لايكون أمراً مقطوعاً! وثانيا إنّ عدم العلم بحدوث ما اشترط لا يوجب صدق الغرر، وعلى فرض التسليم لا يضرّ ذلك فى غير البيع؛ لاختصاص دليله بالبيع.

وثالثا إنّ حرمة الربا المعاملى فى النقدين و الموزونات لا توجب حرمة التفاضل فى المعدودات، فبيع الريالات بالريالات المؤجّلة بأزيد لا إشكال فيه؛ لكونها من المعدودات، ولا يجرى فيها حكم النقدين و الموزونات. والقول بأنّ الريالات حاكيات عن النقدين غير مسموع؛ لكونها فى نفسها معتبرة فى المالية، فإذا لم يكن التفاضل فى بيع المعدودات رباً محرّماً ففى الهبة لا يكون كذلك بطريق أولى.

ورابعا إنّ الإشكال المذكور على فرض صحّته وارد فيما إذا كانتالهبة معوّضة من أوّل الأمر، و أمّا إذا كانت الهبة من دون عوض و انضمّ الاشتراط فى ضمن الهبة كان الاشتراط تبعيا فلا تكون الهبة المذكورة كالبيع فى التقابل مع الموزون بالتفاضل، فتأمّل.

ثانيتها: الصلح بشرط تحمّل الخسارة:

قال الشيخ حسين الحلّى قدس سره: «ومن جملة ما نعرض عليه معاملة التأمين هو باب الصلح، حيث يتصالح الطرفان على أن يتحمّل أحدهما و هو الشركة الخسارة التى تحلّ بالطرف الآخر بشرط أن يدفع الطرف الآخر المقدار المعيّن من المال.

ومن الممكن أن يكون الصلح واقعاً على أن يدفع طالب التأمين إلى الشركة

ص: 119

مقداراً معيّناً من المال فى كل شهر مثلاً على أن تدفع الشركة خسارته لو حدث حادث بماله، أوكذا مقداراًمن المال لو حلّ به موت أو تلف لعضو من أعضائه»(1).

والمحكى عن السيّد اليزدى صاحب العروة قدس سره هو تصحيح عقد التأمين فى تأمين الحمل و النقل بالصلح بشرط تحمّل الخسارة(2)، و أضاف شرط الفسخ، ولا يضرّ ذلك.

وذهب السيّد الگلپايگانى قدس سره إلى صحّة الصلح مع شرط إقدام المؤمّن على تدارك الخسارات الواردة و التزامه بذلك(3).

ص: 120


1- بحوث فقهية: 39.
2- و إليك ترجمة نصّ الاستفتاء المطروح إلى السيد صاحب العروة وجوابه: الاستفتاء: ما حكم التأمين على البضائع التى يجلبها التجّار من الهند إلى إيران، حيث يتعهّد المؤمّن بإيصال البضائع سالمة إلى مقصدها إزاء خصم 2 أو 3 من قيمة البضاعة ؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم المعاملة المزبورة ليست شرعية، ولو أرادا تصحيحها شرعا فإنّه يجب على صاحب المال (المؤمّن له) أن يصالح صاحب التأمين (المؤمّن (على ماله، و يشترط خيار الفسغ إلى وقت معيّن؛ بأن يدفع له مئة ربّية مثلاً، فإن تلف المال دفع إليه قيمته، و إن وصل المال إلى مقصده سالما استرجع المئة ربّية و فسَخ المعاملة. و تصرّف المؤمّن له فى المال الذى أخذه من صاحب التأمين (المؤمّن) فيما لو تلف ماله، جائز فى صورة رضا المؤمّن حتى لو كانت المعاملة فاسدة، وكذا بالنسبة للمئة ربّية التى دفعها صاحب المال (المؤمّن له) برضاه! فانه لو فسخت المعاملة ووصلت البضاعة إلى مقصدها سالمة، ففى هذا المورد أيضاً يجوز لصاحب التأمين (المؤمّن) التصرّف فى هذا المال. (نقلاً عن كتاب عقد التأمين: 147).
3- توضيح المسائل (فارسى): 489، المسألة 2855، انتشارات دار القرآن الكريم.

وغيرهما من الأعلام.

لا يقال: إنّ الصلح لقطع التجاذب و التنازع، وفى المقام لا تجاذب و لا تنازع.

لأنّا نقول: نعم، المعروف أنّ الصلح مشروع لقطع التجاذب و التنازع، ولكنه لا يشترط سبق ذلك فيه؛ لعموم الدليل، كما فى موثّقة حفص بن البخترى: «الصلح جائز بين الناس»(1). بل لا يشترط فيه توقع المنازعة؛ لأنّ المراد بلفظ الصلح الواقع فى إيجاب العقد إنشاء الرضا بما توافقا و اصطلحا وتسالما عليه فيما بينهما، لا أنّ المراد به خصوص الصلح المتعقّب للخصومة. و تشريع العقد لقطع التنازع من الحِكم التى لا يجب اطرادها، مثل المشقّة فى حكمة القصر التى لا تقتضى تخصيصاً أو تقييداً لعموم الدليل أو إطلاقه، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق الأخبار، كصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، ومنصور بن حازم عن الصادق عليه السلام؛ أنّهما قالا فى رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولى ما عندى، فقال: «لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت به أنفسهما»(2).

وصحيحة الحلبى عن أبى عبدالله عليه السلام فى الرجل يكون عليه الشىء فيصالح، فقال: «إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس»(3).

وغيرهما من الأخبار.

إن قلت: إنّ الصلح لا يكون مشرّعا، فكيف يصير التأمين الذى كان غير مشروعاً جائزاً بالصلح ؟!

ص: 121


1- الوسائل 164:13، ب 3، أحكام الصلح، ح 1.
2- الكافى 258:5. التهذيب 206:6، ح 1.
3- التهذيب 206:6.

قلت: نعم، ولكن موردنا و هو عقد التأمين لم يكن محرّما و إنّما هو عند من أدرجه فى ضمن سائر المعاملات ممّا لا دليل على مشروعيّته، فبإدراجه تحت المعاملات الاُخرى صار مشروعا لا يقال: إنّ المصالحة فيما إذا كان فى الطرفين شىء محقّق و إن كان غير معلوم، وموردنا ليس كذلك؛ إذ لا شىء لطالب التأمين على ذمّة المؤمّن حتى يصالحه بالأقساط ويشترط عليه تحمّل الخسارة.

لأنّا نقول: لا يلزم فى المصالحة أن تكون ذمّة المصالح بكسر اللام مشغولة للمصالح له، ولذا قال فى جامع المدارك: «الصلح هو التسالم على أمر؛ من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط دين أو حق وغير ذلك، بعوض أو بلا عوض»(1).

ففى المقام يملّك المؤمّن له المؤمّن من دون عوض، ولكن يشترط عليه فى ضمن المصالحة التى تكون من العقود اللازمة تحمّل الخسارة.

ثالثتها: الضمان العقدى:

وذلك مبنى على توسعة باب الضمان وعدم اختصاصه بباب الديون أو الأعيان المضمونة كالغصب و العقد الفاسد وشموله لكل فرد، سواء كان المضمون دينا أو عيناً بيد الغاصب، أو أمانة، أو عيناً شخصية خارجية بيد صاحبها، أو نفساً سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، قال الشيخ حسين الحلّى قدس سره: «إنّ منطقة الضمان العقدى أوسع من الاقتصار على فرد دون آخر، فكما يجرى فى الديونكذلك يجرى فى الأعيان الخارجية؛ من الأموال، و العقارات، وغيرها من النفوس مملوكة وغير مملوكة، فيمكن للشركة حينئذٍ أن تضمن هذه الأشياء؛ لأنّ الضمان ليس إلّا التعهّد وإدخال الشىء فى العهدة، و هو اعتبار يقرّه العقلاء، حيث يدخل الضامن المضمون

ص: 122


1- جامع المدارك 392:3.

فى عهدته وحيازته»(1).

و ربّما يمنع الضمان العقدى فى مثل المقام من جهة تقؤم الضمان بالأركان الأربعة، وهى:

المضمون له، و هو الدائن.

والمضمون عنه، و هو المدين.

والمضمون، و هو الدين.

و الضامن، و هو الشخص الجديد.

والركن الثانى غير موجود فى عقد التأمين، فإنه لا يشتمل إلّا على أركان ثلاثة، وهى:

مضمون له، و هو صاحب المال أو الشخص.

ومضمون، و هو نفس المال أو الشخص.

وضامن، و هو الشخص المؤمّن.

و أمّا المضمون عنه فليس بموجود.

واُجيب عنه: بأنّ وجود الركن الرابع و هو المضمون عنه غير ضرورى فى حقيقة الضمان بل المدار فى الضمان وتحقّقه هو وجود الأركان الثلاثة وهى الضامن والمضمون له و المضمون، و هو كاف فى تحقّق الضمان، كما اكتفى به السيّد فى ضمان الأمانات و الأعيان غير المضمونة كمال المضاربة و الرهن و الوديعة قبل تحقق سبب ضمانها من تعدّ أو تفريط، خلافاً لغيره من الفقهاء قدّس الله أرواحهم، وعليه فالركن الرابع ليس بركن، بل هو من خصوصيات بعض مصاديق الضمان.

على أنّنا يمكننا القول بأنّ ضمان الأعيان المغصوبة لا يشتمل على وجود

ص: 123


1- بحوث فقهية: 30.

المضمون عنه؛ لإمكان القول بأنّ ضمان العين المغصوبة لا يكون ضماناً عن الغاصب، بل هو ضمان ابتدائى ليس عن الغاصب بل عن المالك، وما هو إلّا من قبيل ضمانك للعين التى هى فى قعر البحر لصاحبها بأن تتعهّد بها إمّا بإخراجها أو بأداء بدلها - فى عدم الاحتياج إلى المضمون عنه، ولأجل ذلك لو أقدم شخص وغصب العين من يد الغاصب يكون ضامناً لنفس العين، لكنه ضمان ابتدائى منه لا عن الغاصب. و حينئذٍ يكون الحاصل: أنّ ضمان العين مطلقاً لا يدخل فى حقيقة الضمان عن ضامن، و أنّ ذلك إنّما هو فى ضمان الدين فقط؛ فإنّ الضامن يضمن الدين الذى فى ذمّة الدائن، بخلاف ضمان العين التى هى فى ضمان الغصب؛ فإنّ ضمانها لا يكون عن الغاصب، فلا يكون موجباً لانتقال الضمان من الغاصب إلى الضامن.

لا يقال: إنّ الضمان العقدى منحصر فى ضمان الديون، ولم يجر الضمان الإنشائى فى غيرها من الأعيان و النفوس، كما يدلّ عليه ما فى الشرائع حيث قال:

«الحق المضمون: و هو كل مال ثابت فى الذمّة»(1).

لأنّا نقول: لا وجه للانحصار مع صدق الضمان، و هو تحمّل المسؤولية، من غير فرق بين الديون و الأعيان الخارجية و النفوس الحرّة و المملوكة. ودعوى الإجماع فى المسالة مع ما بأيدينا من الأدلّة و القواعد لا تفيد؛ لعدم كشفه عن رأى المعصوم مع كونه محتمل المدرك.

هذا مضافاً إلى أنّ كلام المحقّق راجع إلى الضمان الاصطلاحى الذى هونقل الذمّة إلى الذمّة، لا مجرد إنشاء تحمّل المسؤولية وإدخال الشىء فيحيازة الضامن، كما هو الشائع عند العرف و العقلاء.

ص: 124


1- شرائع الإسلام 109:2، ط - النجف الأشرف.

والمراد من الضمان العامّ ليس هو نقل الحقّ الثابت من ذمّة إلى ذمّة اُخرى، بل هو الضمان العرفى من إنشاء تحمّل المسؤولية بالنسبة إلى المضمون، و من المعلوم أنّه عقد ومشمول للعمومات، كقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وغيره، و هذه العمومات كافية و إن لم يكن إطلاق أو عموم فى أدلّة الضمان الإنشائى بالمعنى الاسمى؛ لورودها فى ضمان ما فى الذمّة، أو لكونها فى مقام بيان أحكام اُخر.

فالتأمين مندرج تحت الضمان العرفى؛ لانه إنشاء تحمّل المسؤولية بالنسبة إلى الأعيان و النفوس، ولا دليل على أنّه بمعنى نقل الذمّة إلى الذمّة إلّا فى الديون.

لا يقال: إنّ الضمان عقد تبرّعى، فلا يمكن تطبيق عقد التأمين الذى هو عقد معاوضى عليه.

لأنّا نقول: إنّ التبرّع و إن كان حاصلاً فى كثير من الموارد و لكنّه لا يكون من مقوّمات الضمان، بل يجوز أن يكون للضمان معوّض. وعليه فالضمانمن جهة العوض هو لا بشرط وليس هو بشرط لا.

فتحصّل: أنّ التأمين مندرج فى الضمان العرفى الذى له سابقة فى العقود، ولا حاجة لأن يجعل من العقود المستحدثة.

رابعتها: الجعالة كما حكى عن بعض الأعلام:

ولا يخفى عليك أنّ بينهما فرقاً من جهات:

منها: أنّ المؤمّن يستحقّ المال بالعقد من دون حاجة إلى العمل، بخلاف العامل فى الجعالة فإنه لا يستحقّ الجعل إلّا بالعمل.

ومنها: لزوم تعيين المؤمّن و المؤمّن له فى عقد التأمين، مع أنّ تعيين العامل لا يلزم فى عقد الجعالة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العمل الذى يستحقّ به الجعل هو نفس تحمّل الخسارة، و هو حاصل بنفس البناء على التحمّل وإعلامه، وبه يستحقّ الجعل، ولزوم تعيين

ص: 125

المؤمّن و المؤمّن له مبنى على كونه عقداً مستقلّا لا مصداقاً للجعالة كما هو المفروض، فتأمّل.

ثمّ إنّ المقصود من إدراجه فى الجعالة هو التفصّى عن كونه من العقود المستحدثة.

ص: 126

المقام السابع: فى أحكام عقد التأمين

1 - المذكور فى المادة (6) من قوانين التأمين المصوّب عليها فى عام (1316 ه -. ش) والتى لا يزال العمل بها باقياً إلى زماننا هذا أنّ المستحق لما يتداركه المؤمّن هو الذى يعطى الأقساط، إلّا إذا توافقا فى العقد بأن يعطيه غيره.

نعم، المستحق فى تأمين الحمل و النقل هو حامل الوثيقة.

ولا إشكال فى جواز توافق الطرفين فى كون التدارك لغير من يعطى الأقساط كما هوكذلك فى المعامل و المصانع؛ إذ يعطى أصحابها الأقساط ويكون التدارك لغيرهم من العمّال بحسب ما يعرض لهم من الحوادث و الأخطار.

وليس حقيقة عقد التأمين كالبيع الذى عُرّف بمبادلة مال بمال حتى يقال إنّ مقتضى المبادلة هو قيام العوض مقام المعوّض وبالعكس، بل هو حقيقة مستقلّة، وهى لا تقتضى ما يقتضيه البيع على تقدير صحّة ذلك، بل تقتضى فى المعامل ونحوها خلافه، و عنوان التدارك لا يقتضى أيضاً أن يكون ما يدفعه المؤمّن واصلاً إلى من يعطى الأقساط بعنوان تدارك الخسارة؛ إذ المفروض أنّها وردت على العمّال لا على من يعطى الأقساط.

و ممّا ذكر يظهر حكم استحقاق حامل الوثيقة فى تأمين الحمل و النقل؛ لانه إن كان من جهة انتقال الاستحقاق إلى الحامل فلا إشكال فيه كما عرفت، و إن كان من جهة كون الحامل وكيلاً فى الوصول فلا نقل ولا انتقال، بل المستحقّ هو من

ص: 127

يعطى الأقساط، والحامل وكيله. و سيأتى بقيّة الكلام فى بعض المواد الآتية إن شاء الله تعالى.

2 - المذكور فى المادة (7) منها أنّ للمرتهن أن يقدم على التأمين بالنسبة إلى ما عنده من الهائن و الوثاثق، فإذا حدث حادث اُعطى المرتهن بمقدار طلبه، و أمّا الزائد عليه فهو للمدين.

وفيه: إنّه لا يخلو عن تأمّل؛ لأنّ المرتهن أمين، والأمين مع عدم الإفراط والتفريط لا يضمن إلّا إذا اشترط الضمان فى العقد. وعليه فإذا أقدم المرتهن على التأمين فمقتضى القاعدة أنّ كل ما يدفعه المؤمّن يكون له فى مقابل الأقساط التى دفعها، فلا وجه لتقسيم التدارك وإعطاء قسم منه لصاحب المال.

اللّهمّ إلّا أن يتوافقا على ذلك من ابتداء التأمين فلا إشكال فيه؛ لأنّه توافق فى أن يكون قسم من التدارك للغير.

لا يقال: إنّ التأمين على مال الغير تصرّف فيه، و هو ممنوع بإطلاق قوله عليه السلام:

«الراهن و المرتهن كلاهما ممنوعان من التصرّف»(1)، وعليه فعقد التأمين من دون التوافق مع صاحب المال لا يصحّ .

لأنّا نقول: التأمين على المال إحسان بالنسبة إلى صاحبه، فكما أنّ إجارة الأفراد لحفظ المال لا يكون تصرّفاً فيه كذلك عقد التأمين، فتدبّر جيّدا.

3 - المذكور فى المادة (8) منها انه لا يجوز تكرار التأمين بنفع المؤمّن له بالنسبة إلى مال واحد من جهة واحدة وفيه: إنه كذلك إن كان المؤمّن واحدا، لأنّه تحصيل الحاصل، و أمّا إذا كان المؤمّن متعدّداً فهو يوجب ازدياد الاطمئنان، ولا يكون لغوا.

ص: 128


1- المستدرك 426:13، ب 17 من أبواب الرهن، ح 6.

نعم، يشكل ذلك من جهة أنّ التدارك لا يكون قابلا للتكرّر، فبعد تدارك الأوّل لا يبقى موضوع لتأمين الثانى.

4 - المذكور فى المادة (9) منها أنّه إذا وقع عقد التأمين على مال ببعض قيمته جازتجديد عقد التأمين بالنسبة إلى بقيّة القيمة، فعند تعدّد التأمين و المؤمّنين يكون كل مؤمّن ضامناً بالنسبة إلى المقدار الذى أمّنه، ويجوزتأمين الباقى من المؤمّن الأوّل بالعقد الجديد أيضا كما لا يخفى.

5 - المذكور فى المادة (10) منها أنّه إذا وقع عقد التأمين على مال بأقلّ من قيمته الواقعية كان المؤمّن ضامناً للخسارة بنسبة المبلغ الذى عقد التأمينعليه مع قيمته الواقعية.

وفيه: إنّ غايته هو خيار الغبن، فللمؤمّن الخيار فى إدامة قبول تحمّل مسؤولية تدارك المال بقيمته الواقعية وفسخ العقد؛ لتغاير القيمة المذكورة للمال فى العقد مع قيمته الواقعية؛ لعموم أدلّة خيار الغبن من حديث «لا ضرر»، وبناء العقلاء وعدم اختصاصهما بباب البيع، لا يقال: إنّ العقد على القيمة المذكورة بعنوان أنّها قيمته الواقعية باطل؛ لتغايرهما.

لأنّا نقول: تفاوت القيمة المذكورة مع قيمته الواقعية بالأقل و الأكثر لا بالتباين، وعليه وقع العقد على قيمته الواقعية بتخيّل أنّها كذا وكذا فبان الخلاف، ولا تكون المغايرة بينهما فى حدّ التباين بحيث لا يصدق العقدعليها، وإنما التخلّف فى الزيادة والنقصان، و هو يوجب الخيار بين إدامة تحمّل المسؤولية و الفسخ، و أمّا أخذ التفاوت فلا دليل له. نعم، لو أعطى المؤمّن له التفاوت لإسقاط المؤمّن خياره فلا بأس به.

فتحصّل: أنّ الضمان للخسارة بالنسبة لادليل له. اللّهمّ إلّا أن يشترط فى ضمن عقد التأمين الضمان بالنحو المذكور مع التفات الطرفين إليه ولو بالارتكاز

ص: 129

والإجمال، فيجب العمل بما اشترط فى العقد.

6 - المذكور فى المادة (11) منها أنّ المؤمّن له لو زاد فى قيمة المال عند العقد خدعة كان عقد التأمين باطلاً، والأقساط المأخوذة لا تكون قابلة للاسترداد.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنه لا وجه للبطلان بعد كون الاختلاف بينهما بالقلّة والكثرة لا بالتباين، بل غايته هو ثبوت الخيار للمؤمّن.

كما لا وجه لعدم استرداد الأقساط على فرض البطلان. و القول بأنّه مشروط فى ضمن عقد التأمين منافٍ لدعوى بطلان العقد.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ نفس تحمّل المسؤولية للخسارة بأمر صاحب المال عمل محترم عند العقلاء، و هو يوجب استحقاق اُجرة المثل، ولكنها لا تساوق الأقساط؛ لإمكان كونها أكثر أو أقلّ .

واحتمال أن يكون المقصود من البطلان هو الإبطال مع فرض صحّة العقد مع الخيار خلاف الظاهر من العبارة 7 - المذكور فى المادة (12) و (13) منها أنّه لو لم يذكر صاحب المال أوصاف المال التى لها دخل فى موضوع الخطر ومقدار أهمّيته وعدمها عند المؤمّن؛ فإن كان عدم الذكر من جهة العمد أوكذب فى أوصاف المال ثمّ بان الخلاف فعقد التأمين باطل ولو لم تكن الأوصاف المذكورة موثّرة فى وقوع الحادثة، ولكن الأقساط المأخوذة لا تكون قابلة للاسترداد، بل للمؤمّن أن يقدم على أخذ الأقساط التى لم يؤدّها إلى هذا التاريخ.

و إن لميكن عدمالذكر منجهة العمد ولميكسب فيالأوصاف فالعقد صحيح.

فلو علم بالأوصاف المذكورة قبل وقوع الحادثة فالمؤمّن بالخيار بين الإبقاء مع ازدياد الأقساط أو الفسغ، ولو لم يعلم بها إلّا بعد وقوع الحادئة وجب على المؤمّن إعطاء الخساره مع ملاحظة النسبة بين ما ذكر فى العقد وما ظهر بعد

ص: 130

وقوع الحادثة.

وفيه:

أوّلاً: إنه لا فرق بين العمد وغيره؛ فإنّ العقد صحيح فى كليهما، وإنما للمؤمّن خيار الفسخ؛ لعموم أدلّة خيار تخلّف الوصف أو التدليس أو الغبن.

وثانيا إنّ الحكم بعدم قابلية الاسترداد و جواز أخذ بقيّة الأقساط لا يتلاءم مع الحكم بالبطلان؛ إذ مع بطلان العقد لا وجه لذلك، و القول بانه مشروط فى ضمن العقد لا يفيد؛ لأنّ الشرط الابتدائى لا حكم له مع فرض كون العقد باطلاً.

نعم، يجوز أخذ اُجرة المثل فى مقابل تحمّل المسؤولية إلى زمان ظهور تخلّف الأوصاف، ولكنه لا يساوق الأقساط.

وثالثا إنّ الإلزام بإعطاء الزيادة فى صورة اختيار الإبقاء فيما إذا لم يكن عدم الذكر من جهة العمد لا دليل له؛ إذ مع ظهور تخلّف الوصف يكون للمؤمّن الخيار بين الإبقاء و الفسخ، و أمّا الإلزام بإعطاء الزيادة فى صورة اختيار الإبقاء فهو محتاج إلى الدليل، و هو مفقود فى مثل المقام، بخلاف خيار العيب فى باب البيع فإنّ الدليل يدلّ على الأرش.

نعم، يجوز للمؤمّن له أن يعطى الزيادة لئلّا يفسخ المؤمّن، ولكن ليس للمؤمّن إلزامه بها.

ورابعا إنّ الحكم بتقليل الخسارة بالنسبة عند العلم بالصفات التى لم تذكر بعد وقوع الحادثة محتاج أيضاً إلى الدليل؛ إذ مع صحّة العقد واختيار الإبقاء يلزم على المؤمّن العمل بالعقد، والتقليل خلاف الوفاء بالعقد.

نعم، له الفسخ ورد الأقساط، كما يجوز للمؤمّن له أن يعطى الزيادة لئلّا يفسخ المؤمّن، فتدبّر.

8 - المذكور فى المادة (14) منها أنّه لا يضمن المؤمّن الخسارات التى أوردها

ص: 131

المؤمّن له أو وكلاؤه عمداً أو تقصيراً.

ولا بأس بذلك؛ لانصراف عقد التأمين عن ضمانها.

9 - المذكور فى المادة (15) منها هو وجوب محافظة صاحب المال على ماله المؤمّن عليه، و حيلولته بما تقتضيه العادة دون وقوع حادثة فيه أو ازديادها.

و هو كذلك؛ لأنّ ذلك مبنى عليه عقد التأمين. بل يجب عليه إطلاع المؤمّن على قرب وقوع الحادثة أو ازديادها و غير ذلك فى المدّة التى توافقا فيها إن اشترط ذلك فى عقد التأمين.

فلو كان تحمّل الخسارة مشروطاً بالمحافظة على المال و الإطلاع، و تسامَحَ المؤمّن له فى تلك الاُمور، فلا ضمان على المؤمّن.

و لو تحمّل المؤمّن له إنفاق شىء للحيلولة دون حدوث الخسارة أو كثرتها، فله أخذه من المؤمّن إن كان مشروطاً فى العقد أو كان مبنيّاً عليه، و إن اختلفا فى لزوم الإنفاق أو مقداره فاللازم هو الرجوع إلى المحاكم الشرعية.

10 - المذكور فى المادة (16) منها أنّه لو كان المؤمّن له باعثاً بسبب عمله على تشديد الخطر أو تغييركيفيّة موضوع التأمين بحيث لوكان كذلك من أوّل الأمر لما أقدم المؤمّن على عقد التأمين بالنسبة إليه، يجب عليه أن يُعلِم المؤمّن بذلك، وهكذا يجب عليه إعلامه فيما إذا لم يكن سبباً فى ذلك.

وفى كلا الموردين للمؤمّن أن يطالب المؤمّن له بأن يزيد فى حق الأقساط، ولو لم يقبل المومّن له ذلك فله أن يفسخ عقد التأمين. و إن أدّى المؤمّن الخسارة الحاصلة بسبب فعل المؤمّن له فله مطالبته بها؛ لأنّه السبب فى حصول الخسارة.

ولو اختار المؤمّن بقاء العقد ولو بقبول الأقساط بعد الاطلاع على كونه سبباً فى تشديد الخطر، أو أداء الخسارة بعد وقوع الحادثة وتشديد الأمر بسببه فليس له فسخ العقد؛ إذ وصول الأقساط بعد الاطّلاع على تشديد الخطر أو أداء الخسارة بعد

ص: 132

وقوع الحادثة دليل على رضا المؤمّن ببقاء عقد التأمين. انتهى.

أمّا وجوب الإعلام فهو لاشتراطه فى ضمن العقد، مضافاً إلى أنّ عدم الإعلام تغرير، فتدبّر.

و أمّا مطالبة المؤمّن بأن يزيد المؤمّن له فى حقّ الأقساط فلا مانع منها إذا لم يكن فيها إلزام؛ إذ مع تخلّف الشرط وظهور تغييركيفيّة موضوع عقد التأمين ليس له إلّا خيار الفسخ أو الإبقاء. و أمّا أخذ التفاوت فلا دليل له.

و أمّا جواز المطالبة بالخسارات المؤداة فلأنّ المؤمّن له هو السبب فيها، كما هو المفروض.

11 - لو مات المؤمّن له وانتقل المال إلى الورثة، أو نقل المؤمّن له المال إلى الغير، ففى المادة (17) من قوانين التامين أنّ الورثة أو الذى انتقل المال إليه إن التزموا بكفية القرارات المذكورة فى عقد التأمين وعملوا بها، فالعقد باقٍ على ما هو عليه. ولكن لكل من المؤمّن و الورثة ومن انتقل إليه المال حقّ بأن تستبدل الوثيقة باسمه.

والناقل مسؤول بالنسبة إلى الأقساط حتى يُعلم المؤمّن بالانتقال بصورة قانونية بواسطة سند قانونى ونحوه.

ولوكان الورثة أو المنتقل إليه المال متعدّدا، كان كل واحد منهم مسؤولاً تجاه المؤمّن بالنسبة إلى تمام الأقساط المعيّنة للتأمين. انتهى.

ولا يخفى عليك:

أوّلاً: إنّ بقاء عقد التأمين لا يتوقّف على العمل بالقرارات المذكورة فى عقد التأمين، فلا وجه لتعليق البقاء على الالتزام و العمل بها، بل هو باق و يجب العمل بها.

وثانيا إنه إن اشترط فى عقد التأمين حقّ الفسخ لكل من المؤمّن و الورثة ومن انتقل إليه المال فلا مانع منه، و أمّا إذا لم يشترط ذلك فمقتضى القاعدة هو بقاء

ص: 133

عقد التأمين على اللزوم فى الإرث بل فى النقل الاختيارى إذا كان المشترى عالماً بكون العين مورداً لعقد التأمين. نعم لو لم يعلم بذلك ثمّ علم فله الخيار؛ للفرق بين ما اشتراه وما ظهر له بعد ذلك من الخصوصيات.

ثمّ إنّ مدّة الفسغ تابعة للشرط إن كان الخيار بالشرط، كما هوكذلك.

وثالثا إنّ مسؤولية الناقل بالنسبة إلى الأقساط إلى أن يعلن عن الانتقال إن كانت مشروطة فى العقد فلا بأس، وغايته هو التزام تأدية بعض الأقساط مع عدم كونه مالكا ولا مانع من ذلك مع اشتراطه فى العقد؛ لعموم «المؤمنون عند شروطهم». و أمّا لو لم تكن مشروطة فى العقد فالمسؤول هو المالك للعين، فإذا انتقلت عنه فلا مسؤولية له بالنسبة إليها بعد الانتقال، سواء اعلن أم لم يعلن. و إذا اختلفا فى زمان الانتقال فاللازم هو الرجوع إلى المحاكم الشرعية.

ورابعا إنّ مسؤولية كل واحد من الورثة أو من انتقل إليه المال بالنسبة إلى تأدية تمام الأقساط المعيّنة للتأمين غير واضحة لو لم تشترط فى عقد التأمين؛ لأنّ مسؤولية تأدية الأقساط تابعة لمقدار مالكية الوارث أو من انتقل إليه المال، فإن صار مالكاً لجميع المال فعليه تلك المسؤولية، و أمّا إذا كان المفروض هو تعدّد الوارث أو من انتقل إليه المال فلم يصر مالكاً لجميع المال، ومعه كيف يكون ملزماً بتأدية جميع الأقساط؟! والظاهر من النبوى «من ترك مالاً فلورثته(1) هو ثبوت الواحد الشخصى لمجموع الورثة، ولو سلّم عدم ظهور ذلك من النبوى فلا أقلّ من أنّه هو القدر المتيقّن. فحقّ التأمين للمجموع، وهم المسؤولون فى قبال المؤمّن فى تأدية الأقساط، كما أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من انتقال حقّ الخيار فى باب البيع إلى

ص: 134


1- الكافى 406:1.

الورثة. ولذلك قال فى جامع المدارك: وعلى فرض عدم جواز التبعّض فى الخيار وشمول أدلّة الإرث للحقوق لابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن و هو المجموع للمجموع(1).

بل مسؤولية تأ ية تمام الأقساط لكل واحد من الورثة أو من انتقل إليهالمال بالاشتراط فى العقد أيضاً غير واضحة؛ لأنّ الشرط فى ضمن العقد نافذ فى حق الشارط لا غيره.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الاشتراط المذكور يوجب اتّصاف العين بخصوصية خاصئة، فمع انتقال العين بالإرث أو بغيره من الشراء ونحوه تتتقل مع خصوصياتها، ولكن مرجع ذلك فى النهاية هو أن يكون الاشتراط فى العقدمن الشارط نافذاً فى حقّ الغير، فتامّل.

12 - المذكور فى المادة (18) منها أنّه لو ظهر أنّ الخطر الذى لاجله جرى عقد التأمين كان واقعاً قبل عقد التأمين، فعقد التأمين باطل، ولا أثر له، فلو أخذ المؤمّن من المؤمّن له شيئاً فعليه رده إلى المؤمّن له بعد كسر عشر منه. انتهى.

و فيه: أنّ أخذ العشر لا دليل له بعد فرض كون العقد باطلاً، فالاشتراط فى ضمنه لا أثر له؛ إذ يكون الشرط حينئذ شرطاً ابتدائيا نعم، يمكن أن يقال: إنّ للمؤمّن اُجرة المثل؛ لأنّ تحمّل المسؤولية بأمر المؤمّن له و الإتيان بلوازمه عمل محترم، فيستحقّ اُجرة المثل.

13 - المذكور فى المادة (19) منها أنّ المؤمّن مسؤول لتأدية تفاوت قيمة المال قبل وقوع الحادثة بلا فصل مع قيمته بعد حدوث الحادثة بلا فصل نقداً. و أمّا التعمير أو إعطاء البدل و المثل فلا يكفى، إلّا إذا اشترط ذلك فى متن عقد التأمين،

ص: 135


1- جامع المدارك 171:3-173، بتصرّف.

فيجب عليه الإقدام على ذلك فورا، انتهى.

ولا بأس بذلك بناء على أنّ الشائع فى التأمين هو تحمّل الخسارة نقداً، كما هوكذلك.

ثمّ إنّ المقرّر فى هذه المادة هو أنّ الحدّ الأكثر من المسؤولية المذكورة فى الخسارة النقدية هو عدم تجاوز التفاوت عن القيمة التى كانت مذكورة فى عقد التأمين، و إلّا فلا مسؤولية للمؤمّن بالنسبة إلى الزائد عليها و إن كانت قيمتها مرتفعة عند وقوع الحادثة.

14 - إنّ المؤمّن كما قرّر فى المادة (20) منها لا يكون مشمولاً للخسارة الناشئة من العيوب الذاتية للشىء إلّا إذا اشترط مسؤولية تلك الخسارة أيضا، انتهى.

أو كان العقد من أوّل الأمر على تعميم المسؤولية.

15 - الخسارة الواردة فى مثل الحريق على أقسام:

أحدها: نفوذ الحريق إلى الشىء، ولو كان الحريق من مكان آخر قريبمنه.

ثانيها: الخسارة الواردة من ناحية إطفاء الحريق بالماء ونحوه.

ثالثها: الخسارة الواردة من ناحية إخراج الشىء من الحريق.

رابعها: الخسارة الواردة من ناحية تخريب البناء دفعاً للسراية أوتوسعتها.

و قد صرّح فى المادة (21) منها بأنّ المؤمّن مسؤول لتأدية الخسارة فى جميع الأقسام المذكورة و هو كذلك قضاءً لإطلاق تحمّل الخسارة. نعم لو استثنى منها قسماً خاصّا فلا مسؤولية له بالنسبة إليه، كما لا يخفى.

16 - تعيين الخسارة فى تأمين الأموال يكون كما عرفت بملاحظة التفاوت بين القيمة قبل الحادثة بلا فصل وبعدها بلا فصل. و تعيينها فى تأمين الحمل و النقل يكون - كما فى المادة (22) منها بملاحظة قيمة المال فى المقصد وقيمته بعد وقوع الحادثة بلا فصل. وتعيينها فى تأمين المنافع المتوقّفة على أمر خاصّ يكون

ص: 136

بملاحظة قيمتها عند وقوع ذلك الأمر الخاصّ . وتعيينها فى تأمين المحصول الزراعى يكون بملاحظة قيمته عند أخذ المحصول.

نعم، تُنقص المخارج و اُجور الأتعاب و الجهود المبذولة من القيم المذكورة لو لم تقع الحوادث. وليعلم أنّ القيم المذكورة لو كانت زائد عن القيم المذكورة فى متن عقد التأمين فلا تكون مشمولة بالنسبة إلى المقدار الزائد لعقد التأمين، كما لايخفى.

17 - المذكور فى المادة (23) منها أنّ المبلغ الذى يؤديه المؤمّن فى التأمين على الحياة أو نقص الأعضاء يلزم أن يكون متعيّناً جزماً فى عقد التأمين بين الطرفين.

ثمّ إنّ التأمين على الحياة أو التأمين على نقص الأعضاء بالنسبة إلى الغير يكون باطلاً فى صورة عدم إحراز موافقة خطية مسبَقة منه، انتهى.

وما ذكره من البطلان إن كان المقصود منه ما إذا كان الغير طرف العقد فهو واضح؛ لأنّ العقد متقوّم بالطرفين. وهكذا الأمر إن كان المقصود إجراء عقد التأمين بين المؤمّن و المؤمّن له بالنسبة إلى شخص آخر بحيث يجب اداء مقدار من الأقساط على الآخر؛ إذ لا يجب على الغير شىء من دون رضاه به. و أمّا ان كان المقصود هو إجراء عقد التأمين بينهما بالنسبة إلى شخص آخر بحيث يجب أداء جميع مقدار الأقساط على المؤمّن له دون الآخر فهو صحيح فيما إذا كان الغير ممّن يعوله، ولا حاجة إلى رضاه بذلك. نعم إذا لم يكن ممّن يعوله كان ذلك تصرّفاً فى شؤونه، ومقتضى استقلال الحرّ فى اُموره هو عدم جواز ذلك من دون رضاه.

هذا مضافاً إلى أنّ حقيقة التأمين غير موجودة فى المورد؛ إذ الغير لم يطلع على ذلك حتى يكون تأميناً فى حقّه، وطرف العقد لا اضطراب له بالنسبة إلى الاجنبى حتى يوجب عقد التأمين تأميناً له، و هذا بخلاف من يعوله؛ فإنّ حقيقة التأمين فيه موجودة كما لا يخفى.

ص: 137

18 - المذكور فى المادة (24) منها أنّ حقّ التأمين على الحياة يعطى إلى الورثة بعد الموت، إلّا أن يذكر غيرهم فى الوثيقة حين العقد أو بعده، فالحق يكون لذلك الغير.

وفيه: أنّ ذلك صحيح إذا كان الانتقال فى زمان الحياة بنحو التنجيز، و أمّا إذا كان بنحو الوصية لما تركه من الحقّ فنفوذه فى الزائد على الثلث محتاج إلى رضا الورثة.

وممّا ذُكر يظهر ما فى المحكى عن اُستاذنا الأراكى قدس سره من أنّ حقّ التأمين الذى أدّاه المؤمّن ليس إرثاً ولا وصيّةً ، بل هو أمر مستقل تابع للعقد، فيجوز أن يجعله المؤمّن له لغير الورثة ولو زاد عن الثلث، أو يجوز له أن يوصى بان يعطى إلى الورثة بالسويّة(1)..

وذلك لأنّ الملكية بالنسبة إلى حق التأمين و إن كانت غير حاصلة حال الحياة - لتوقفها على بقائه فى مدّة التأمين، و هو غير حاصل؛ لأنّ المفروض هو موته فى تلك المدّة ولكن حقّ التأمين من حقوقه بسبب عقد التأمين، فهو بعد موته مندرج تحت عموم «من ترك مالاً فلورثته»(2).

اللّهمّ إلّا أن يكون المفروض على نحو يكون الانتقال إلى الغير فعليّاً و إن كان المنتقل استقبالياً بحيث لا يندرج تحت عنوان التركة، فتأمّل.

19 - المذكور فى المادة (25) منها أنّ للمؤمّن له أن يغيّر ذا النفع فى الوثيقة فى التأمين على الحياة إلّا إذا نقله إلى الغير قبلاً وأعطاه الوثيقة.

والظاهر منه أنّ النقل من دون إعطاء الوثيقة لا أثر له، مع أنّ النقل إن كان

ص: 138


1- اُنظر: كتاب استفتاءات: 140 (بالفارسية).
2- الكافى 406:1.

بمثل المصالحة فهو عقد لازم يتحقّق بالإيجاب و القبول، ولا يحتاج إلى القبض، فضلاً عن قبض الوثيقة. فإعطاء الوثيقة لا أثر له فى تاثير الانتقال.

نعم، لو كان النقل بمثل الهبة فتاثيرها منوط بالقبض، وحيث إنّ الحق لا يكون قابلاً للقبض يكفى فيه التخلية عنه واستيلاء الغير عليه، و هو يحصل بإعطاء الوثيقة، فما دام لم يعط الوثيقة كانت الهبة غير مؤثّرة، فله أن ينقله إلى غير المنقول إليه أوّلاً، فلا تغفل.

20 - يجوز للمؤمّن له أن ينقل إلى الغير فى مدّة التأمين المبلغ المعيّن له فى العقد للتأمين على الحياة المذكور فى الوثيقة، ولكن النقل المزبور يلزم أن يكون بتوقيع الناقل و المؤمّن. هكذا جاء فى المادة (26) منها.

أقول: إنّ اعتبار توقيع الناقل واضح؛ إذ بدونه لا يتمكّن المنقول إليه من إثبات أنّ المال نُقل إليه، ولذا يكون التوقيع كالشرط المذكور فى المعاملات.

و أمّا اعتبارتوقيع المؤمّن فلا وجه له؛ لانه ليس بناقل.

نعم، لوكان المنقول هو الأقساط كان رضا المؤمّن وتوقيعه شرطاً؛ لأنّ النقل حينئذٍ يكون كالحوالة، و اللازم فيها هو رضا الثلاثة: المحيل و المحتال و المحال عليه، ولكن الحوالة خلاف الظاهر من العبارة.

اللّهمّ إلّا أنّ يقال: إنّ اعتبار توقيع المؤمّن من باب اعتبار توقيع الناقل لا من باب أنّ له حقّاً فى ذلك.

21 - آثار الانتقال القانونية فى انتقال المبلغ المعيّن للمؤمّن له فى التأمين على الحياة تترتّب من حين الموت لا من حين العلم بالموت؛ لأنّ الموضوعات ظاهرة فى واقعها ولا دخل للعلم و الأطّلاع فيها. إلّا إذا كان المؤمّن له قد أخذ من الشركة شيئاً من المبلغ المعيّن له حال حياته، أو صالحها على شىء، فلا إشكال فى اعتباره، كما هو المستفاد من المادة (27) منها.

ص: 139

22 - تحمّل الخسارة تابع لما توافق عليه المؤمّن و المؤمّن له، فإن كان مطلقاً فهو يشمل كل خسارة إلّا الخسارة المتعمّدة؛ للانصراف. ولكن الظاهر من المادة (28) منها هو عدم التوافق بالنسبة إلى الخسارة الواردة بسبب الحرب.

23 - لا إشكال فى أنّ عقد التأمين بالنسبة إلى المال المنقول يوجب مسؤولية المؤمّن بالنسبة إلى حامل المال المنقول أو حافظه فى الخزائن؛ لأنّه هو الذى أجرى عقد التأمين مع المؤمّن. فإذا وقع أمر وحصلت الخسارة وأدّاها المؤمّن إلى طرفه الذى هو الحامل و الحافظ فلا مسؤولية له بالنسبة إلى أرباب الأموال المنقولة؛ إذ لا عقد بينهما، كما لايخفى.

ولعلّ هذا هو المقصود من المادة (29) منها حيث نصّت فى مورد تأمين المال المنقول عند وقوع الحادثة وأداء المؤمّن الخسارة إلى الذى استأمنه على أنّ المؤمّن يبرأ من المسؤولية فى مقابل الشخص الثالث، انتهى.

وحمل المنقول على المنتقل إلى الغير وإرادة أنّ المؤمّن مسؤول بالنسبة إلى الناقل لا المنقول إليه لكون عقد التأمين بينهما و إن كان ممكنا ولكنه خلاف الظاهر من العبارة؛ لظهور عنوان (المال المنقول) فى الأموال القابلة للانتقال من مكان إلى مكان آخر، فى قبال الأموال غير المنقولة، كالدار و الأرض ونحوهما، فلا تغفل.

24 - لو اشترط المؤمّن على المؤمّن له فى عقد التأمين أن يقوم مقامه فى استيفاء حقّه ممّن اعتدى على ماله، جاز ذلك، و يكون المأخوذ له إن كان بمقدار ما أدّاه المؤمّن من الخسارة أو تقبّل تأديته إلى المؤمّن له. ولا يجوز أن يفعل المؤمّن له ما ينافى الاشتراط المذكور، كما يظهر من المادة (30) منها.

.. ووجهه ظاهر؛ لانه اشتراط و التزام فى ضمن عقد لازم، ومقتضى قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمنون عند شروطهم» هو وجوب الوفاء به.

ص: 140

25 - لو توقّفت شركة التأمين عن القيام بأعمالها أو أفلست فقد نصّت المادة (31) على أنّ للمؤمّن له حقّ الفسخ.

يمكن أن يقال: إنّ حقّ الفسخ متفرّع على أمرين:

أحدهما: إمكان أن تقوم الشركة بأعمالها.

وثانيهما: هو اشتراط حقّ الفسخ فى متن عقد التأمين.

إذ مع عدم إمكانها القيام بأعمالها لا معنى لبقاء العقد حتى يتصوّر فيه حقّ الفسخ؛ لبطلانه بعد عدم إمكان إدامة التأمين وتقسيط أقساط التأمين بالنسبة إلى ما مضى ومابقى، فتأمّل.

كما انه مع إمكان القيام بأعمالها وعدم الاشتراط، لا مجال لحقّ الفسخ.

26 - لو أفلس المؤمّن فلا وجه لتقدّم حقّ المؤمّن له على حقّ سائر الغرماء بل هو غريم من الغرماء، فمع حكم الحاكم بالحجر تقسّم أموال المفلس بين الغرماء بنسبة حقّهم، ولا يجوز تقديم أحد على أحد بالنصّ و الإجماع، إلّا إذا كانت عين مال أحد موجودة عند المفلس.

و ممّا ذكر يظهر ما جاء فى المادة (32) حيث نصّت على تقدّم حقّ المؤمّن على سائر الغرماء. بل لا يجوز اشتراط ذلك فى عقد التأمين؛ لانه شرط مخالف للكتاب و السنة، نعم يجوز اشتراط تقديم حقّ التأمين على الحياة على سائر التأمينات؛ بمعنى اشتراط المؤمّن على المستأمنين أن لا يقدموا على المطالبة بحقّهم عند وجود مستأمن على حياته؛ لأنّ شرط عدم إعمال الحقّ مع المستحقّين لا مانع منه، و هذا بخلاف سائر الغرماء؛ فإنّهم لا يكونون فى زمرة المشترطين.

ومن ذلك ينقدح أيضاً عدم الوجه فى تقديم حقّ المؤمّن على سائر الغرماء لو أفلس المؤمّن له. ولذلك يظهر أيضاً مافى المادة (33) منهاحيث نصّت على تقديمه عليهم، مع أنّه يخالف النصّ و الإجماع.

ص: 141

27 - لوكانت أشياء مختلفة موضوعة للتأمين فى عقد واحد، فلو ثبت أنّ المؤمّن له خَدَع فى واحد منها من جهة من الجهات لم يكن العقد باطلاً، لا بالنسبة إلى المخدوع فيه ولا بالنسبة إلى غيره، بل غايته هو أن يكون للمؤمّن خيار التدليس أو الغبن، ولو سلّم البطلان بالنسبة إلى المخدوع فيه فلا وجه للبطلان فى غيره، غايته هو خيار تبعّض التأمين. اللّهمّ إلّا أن يشترط فى ضمن عقد التأمين أن يكون للمؤمّن حق الإبطال فى الفرض المزبور، ولكنّه - بعد التى و اللتيّا يؤكد صحّة العقد؛ إذ الإبطال مسبوق بالصحّه.

وكيف كان، يظهر ممّا ذكر ما فى المادة (34) حيث نصّت على بطلان المخدوع فيه وسراية البطلان إلى الباقى بمجرّد كون العقد واحدا.

28 - ولا يخفى عليك أنّ الحق لذيه، ولا يبطل بمرور الزمان، بل هو قابل للطرح و المطالبة به فى المحاكم الشرعية فى أى وقت من الأوقات.

و ممّا ذكر يظهر ما فى المادة (36) منها حيث نصّت على أنّ مبدأ الشروع بطرح الحق و المطالبة به يكون بعد مضئ سنتين من ابتداء وقوع الحادثة التى تكون منشأ للدعوى.

نعم، يمكن للمحاكم الشرعية أن تجعل غير ما مضى عليه سنتان فى الأولوية من جهة طرحه و المطالبة به، فتأمّل.

29 - قد عرفت أنّ من أنواع التأمين التأمين على الحياة بشرط الموت ولا إشكال فيه إذا كان ذلك بين الشركة و المؤمّن له باعتبار حياته هو، فإنّ التأمين فيه حاصل؛ لأنّ اضطراب الورثة بعد موته يعدّ من اضطرابه عند العقلاء، فيقدّم المورث على تأمين الحياة بشرط الموت؛ ليحصل التأمين بالنسبة إلى ما بعد موته.

و أمّا إذا كان التأمين على الحياة بشرط الموت باعتبار حياة شخص آخر، فقد أورد عليه الاُستاذ الشهيد المطهّرى قدس سره بانه مضافاً إلى كونه أمراً مكروها لأنّ

ص: 142

المؤمّن له يطمع فى موت الغير ليصل إلى ما تعهّدت به شركة التامين، و هو مذموم فى الإسلام - لا يصحّ ؛ لخلوّه عن التأمين؛ إذ موت الغير لا يوجب اضطراباً بالنسبة إليه حتى يقدم على عقد التأمين لرفع اضطرابه.

فهذا النوع من أنواع التأمين و إن أجازته موسّسات التأمين ولكنه كما عرفت غير صحيح؛ لعدم وجود حقيقة التأمين فيه، وليس هو إلّا كالمشارطة..

يمكن أن يقال: إنّ الغير إن كان من الأقارب أو الأزواج فالمؤمّن يضطرب بفقدانهم من جهة مخارج الموت، أو تكفّل من تكفّلوه، أو من جهة قطع ما استفاده من عطاياهم، أو غير ذلك، فيقدم على تأمين حياة الغير المذكور لرفع اضطرابه، فتتحقّق حقيقة التأمين فى هذه الصورة أيضاً. بل يحصل التأمين أيضاً إن كان الأجنبى ممّن بينه وبين المؤمّن علاقة ورابطة قويّة بحيث يوجب فقدانه اضطراباً فيه من بعض النواحى المذكورة.

نعم، لو لم تكن قرابة أو علاقة بينهما لما صحّ عقد التأمين بالنسبة إلى الغير؛ لعدم تحقّق حقيقة التأمين فيه، كما لايخفى.

30 - قد عرفت سابقاً أن من أنواع التأمين هو التأمين على الحياة بشرط البقاء، ولا إشكال فيه بعد إمكان عروض الحوادث أو الأمراض أو الكهولة أو ضعف الأعضاء أو الإفلاس ونحوها؛ فإنّ العقد المذكور يوجب التأمين فى أمثالها.

و ممّا ذكر يظهر ما فى إنكارمثل هذا النوع من التأمين، كما يظهر من المحكى عن الاُستاذ الشهيد المطهّرى قدس سره فى جواب السائل القائل بنفى حقيقة التأمين فى التأمين على الحياة بشرط البقاء بأنّ هذا إشكال وارد(1).

إذ لا مانع من إجراء عقد التأمين بين الشركة و المؤمّن له؛ بأنّه لو لم يمت

ص: 143


1- انظر: كتاب بررسى فقهى مسئله بيمه: 34-35 (بالفارسية).

المؤمّن له فى المدّة المعيّنة كان على المؤمّن أن يعطيه مبلغاً معيّناً حتى يتمكّن من تدارك بعض ما يمكن أن يتّفق له فى تلك المدّة. ولا يلزم فى ذلك العلم بوقوع الاُمور المذكورة، بل يكفى مجرّد إمكان وقوعها فى الاضطراب و تحقّق التأمين فيه بمثل عقد التأمين، كما لا يخفى.

31 - لو أدى المؤمّن له الأقساط دفعة واحدة فى التأمين على الحياة بشرط البقاء، فلا إشكال فيه، إلّا ممّا يحكى عن الاُستاذ الشهيد المطهّرى 1 حيث قال: فيه إشكال من جهة أنّ ماهيّته ماهيّة ربويّة؛ إذ فى هذه الصورة يرجع ما أدّاه المؤمّن له إليه بعد مضى المدّة مع زيادة الربح، ومسألة التأمين فيه تكون تبعاً لتلك المعاملة الربوية(1).

يمكن أن يقال: إنّ الأقساط لم تقع فى عقد التأمين فى قبال المأخوذ زائداً عليه بعد مضى المدّة المعيّنة، بل هى فى قبال التأمين فى المدّة المذكورة، فلا وجه لشبهة الربا ولو سُلّم المعاوضة بين الأقساط و المأخوذ زائدا.

فلا فرق فى مجىء الشبهة فى جميع الصور؛ إذ أداء الأقساط دفعة أو مرّات لا يوجب تفاوتاً فى وجود هذه الشبهة وعدمها، فإن كانت المعاملة ربوية ففى جميع الصور تكون كذلك، و إن قلنا بعدم كونها ربوية لأنّها من المعدودات لا الموزونات فلا إشكال فى جميع الصور. وأيضاً لا تكون الأقساط قرضاً حتى تكون الزيادة موجبة للربا، لأنّها كما عرفت وقعت فى قبال التأمين أو فى قبال المأخوذ زائداً، فلاتغفل.

32 - عرفت أنّ التأمين على الحياة بشرط البقاء فى مدّة معيّنة لا إشكال فيه؛ فيجب على المستأمن أداء الأقساط، كما يجب على المؤمّن إعطاء ما توافقا عليه

ص: 144


1- المصدر السابق: 31-32.

بعد مضى المدّة المذكورة وبقاء حياة المؤمّن له.

و أمّا إذا مات المؤمّن له فى المدّة المذكورة فلا شىء على المؤمّن بالنسبة إلى ما توافقا عليه؛ فإنّه مشروط ببقاء المؤمّن له إلى تمام المدّة و هو غير حاصل.

و إنّما يقع الكلام فى أنّه هل يجب أداء الأقساط الباقية بعد الموت إلى آخر المدّة أم لا يجب ؟ يمكن أن يقال بوجوب أداء الأقساط الباقية؛ إذ لا يبطل عقد التأمين بموت المؤمّن له، ومع عدم بطلانه لا وجه لعدم وجوبه، كما أنّ الإجارة لا تبطل بموت المستأجر أو بموت المؤجر بناءً على المشهور بين المتأخرين.

اللّهمّ إلّا أن يقال ببطلان عقد التأمين بموت المؤمّن له بتوهّم انه لا يبقى موضوع للتأمين مع موته، فمع بطلان عقد التأمين من حين الموت لا وجه لبقاء وجوب الأقساط الباقية.

ولكن يمكن الذبّ عنه: بأنّ موضوع العقد هو الحياة بشرط البقاء، وعروض الموت لا يوجب تخلّف الموضوع؛ لأنّه من أوّل الأمر يكون مشروطاً بالبقاء، ومعنى اشتراطه بالبقاء هو إمكان عدم بقاء الحياة قبل تمام المدّة، فلا تخلّف فى الموضوع.

نعم، لو جُعل نفس العقد مشروطاً ببقاء الحياة فى تمام المدّة، بطل العقد بعروض الموت، ومع بطلانه لا وجه لوجوب أداء الأقساط الباقية.

ولا مجال لما حكى عن الاستاذ الشهيد المطهّرى قدس سره من أنّ جعل العقد مشروطاً ببقاء الحياة لا يصحّ ؛ للزوم التعليق فيه، مع أنّ التنجيز من شرائط صحّة المعاملات، و التعليق ينتهى إلى الجهل فى الأقساط؛ لعدم العلم بمدّة البقاء على قيد الحياة و هكذا لا تصحّ هبة الأقساط الباقية بشرط الموت؛ فإنّ التعليق فى جميع المعاملات حتى الهبة و القرض باطل. نعم، يصحّ أن يهب الأقساط الباقية بعد

ص: 145

الموت تنجيزاً(1).

لأنّ تعليق العقد لا دليل على بطلانه إلّا فيما قام الإجماع عليه كالبيع، بل العقد التعليقى واقع؛ كالوصيّة و النذر و العهد.

ثمّ إنّ إشكال التعليق ليس من ناحية استلزامه للجهل كما يظهر من كلام الشهيد المطهّرى قدس سره، بل إشكاله من ناحية قيام الإجماع، و هو دليل لبّى يقتصر على مورده.

هذا مضافاً إلى أنّ الجهل المذكور فى غير البيع كعقد التأمين لا دليل على بطلانه. نعم لا تعليق فى نفس العقد حتى يبطل بعروض الموت.

و ممّا ذكر يظهر أيضاً أنّ المنع عن الهبة التعليقية أو القرض التعليقى لا دليل له.، فتحصّل: أنّ عقد التأمين على الحياة لا يبطل بعروض الموت، ولا إشكال فى هبة الأقساط الباقية بعد الموت بشرط حدوث الموت قبل مضى المدّة المعيّنة فى عقد التأمين، كما لا إشكال فى هبة الأقساط الباقية بعد عروض الموت، فلا تغفل.

33 و قد تقرّر فى تأمين الشخص الثالث أنّه لو تصادمت سيارة المؤمّن له مع سيارة اُخرى، وكان التصادم المذكور موجباً للضمان شرعا، كان على المؤمّن تحمّل الخسارة الواردة على الغير بحسب ما توافقا عليه.

ولا إشكال فيه، و إنّما الكلام فيما إذا لم يكن التصادم موجباً للضمان شرعاً و إنّما يحكم العرف بأخذ الضمان؛ فإنّ هنا شبهة كما أفاد الاُستاذ الشهيد المطهّرى قدس سره، وهى أنّه هل يصحّ عقد الضمان فى هذه الموارد التى يكون أخذ الضمان ظلما أو لا يصحّ؟ فاللازم أن يبحث عن الصحّة وحدودها، وكم نظيراً له فى

ص: 146


1- المصدر السابق: 37-36.

الفقه(1)..

وفيه:

أوّلاً: إنّ عقد التأمين لا ينحصر فى ذلك، بل يعمّ الضمان الشرعى و العرفى.

وثانيا إنه إعانة للمظلوم فى عدم ابتلائه بأفسد من هذا، وليس ذلك إعانة للظالم، فهل يكون إقراض المستقرض لدفع الظلم إعانةً على الظلم ؟! والمقام يشبه القرض المذكور، فكما أنّ الإقراض لنجاة المبتلى بالظلم إحسان إلى المظلوم لا إعانة للظالم، فكذلك تأمين المظلوم لئلّا يقع فى الشدّة و المحنة ليس إلّا الإحسان.

نعم، تامين الظالم فيما يريده من الظلم إعانة للظالم وحرام، وأخذ الأقساط فيه أكل المال بالباطل؛ لعدم صلاحية تأمين الظالم للمقابلة و المعاوضة شرعاً.

و ممّا ذكر يظهر حكم نظائر المقام و أشباهه، فلا تغفل.

ص: 147


1- المصدر السابق: 32.

ص: 148

المسألة الثانية فى التجسّس و التفتيش

اشارة

ويقع البحث فى مقامات:

المقام الأوّل: فى معناه:

لا يخفى عليك أنّ التجسّس لغة وعرفاً هو التفتيش عن بواطن الاُمور، قال فى لسان العرب قال اللحيانى: تجسّست فلاناً ومن فلان بحثت عنه كتحسّست(1)، انتهى. ظاهره أنّه لا فرق بين التجسّس بالجيم و التحسّس بالحاء.

قال فى المصباح المنير: جسّه بيده جسّاً من باب قتل، واجتسّه ليتعرّفه، و جسّ الأخبار وتجسّسها تتبّعها، ومنه الجاسوس لأنّه يتتبّع الأخبار و يفحص عن بواطن الاُمور(2).

و ظاهره أنّ التجسّس لا يختصّ بالتفحّص عن القبائح المستورة، قال فى مقاييس اللغة فى معنى جسّ بالجيم و السين: هو تعرّف الشىء بمسّ لطيف.

ص: 149


1- لسان العرب 283:2، مادة «جسّس».
2- المصباح المنير 125:1، مادة «جسس».

والجاسوس فاعول من هذا لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف(1).

وقال الجوهرى فى الصحاح: و جَسست الأخبار و تجسّستها، أى تفحّصت عنها، ومنه الجاسوس.

وحكى عن الخليل: الجواسّ : الحَواسّ (2).

وقال فى أقرب الموارد: تجسّس الخبر تفحّص عنه، وبواطن الاُمور بحث عنها ... الجاسوس و الجَسِيس صاحب سرّ الشرّ، و هو العين الذى يتجسّس الأخبار ثمّ يأتى بها(3).

وقال فيه أيضا: تحسّس استمع لحديث القوم وطلب خبرهم فى الخير...

و بالجيم فى الشرّ(4).

وقال فى لسان العرب: الحاسوس الذى يتحسّس الأخبار مثل الجاسوس بالجيم أو هو فى الخير وبالجيم فى الشر، وقيل: التجسّس بالجيم أن يطلبه لغيره وبالحاء أن يطلبه لنفسه، وقيل: بالجيم البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع، وقيل:

معناهما واحد فى تطلّب محرمة الأخبار(5).

و عن الأخفش: ليس تبعد التجسّس بالجيم عن التحسّس بالحاء؛ لأنّ التحسّس البحث عمّا يكتم عنك، و التحسّس بالحاء طلب الأخبار و البحث عنها.

وهنا قول ثان فى الفرق أنّه بالحاء تطلّبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره، قاله ثعلب.

ص: 150


1- معجم مقاييس اللغة 414:1، مادة «جسّ ».
2- الصحاح 913:3، مادة «جسّس».
3- أقرب الموارد 123:1، مادة «جسّس».
4- المصدر السابق: 191، مادة «حسس».
5- لسان العرب 283:2، مادة «جسّس» و 170:3، مادة «حسس».

قال فى تفسير القرطى بعد نقل الكلام المحكئ عن الأخفش و الأوّل أعرف(1).

و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ التجسّس لغة وعرفاً لا يختصّ بما إذا كان التتبّع للغير، بل هو أعمّ كما يشعر به التعبير عن هذا القول بلفظ: قيل فى لسان العرب: نعم لا يبعد ذلك فى لفظ الجاسوس. كما أنّ الظاهر عدم اختصاص التجسّس بالعيوب والشرور و التحسّس بغيرها، و هو الستفاد من عبارة الصباح المنير، والمحكى عن الأخفش، بل لسان العرب بناءً على تخصيص الفرق فى كلامه بلفظ الجاسوس. نعم ظاهر أقرب الموارد هو الفرق بين التحسّس بالحاء و التجسّس بالجيم، فتأمّل؛ لأنّ العبرة بمصادره لا بمنفرداته، والمصادر لا تفيد اعتبار القيود المذكورة.

هذا مضافاً إلى استعمال التجسّس فى بعض الاخبار فيما لا يعنى، وسيأتى الخبر إن شاء الله تعالى.

ويشهد على ما ذكرناه، صحّة إطلاق الجاسوس على جاسوس المخالفين بالنسبة إلى المجتمعات الإسلامية مع أنّه تتبّع الايجابيات و الكمالات الموجودة فى تلك المجتمعات. اللّهمّ إلّا أن يكتفى فى ذلك بتوهّم الشرور من المخالفين بالنسبة إليها.

وكيف كان فما يظهر من الكلمات المذكوره أنّ التجسّس هو تتبّع الأخبار، ولا دخل للغرض من التتبّع فى صدق مفهوم التجسّس.

وعليه فلا فرق فى صدقه بين ما إذا كان الغرض هو الخير أو الشّر، وغرض الخير إن كان له مدخلية فهو فى نفى الحكم لا فى صدق الموضوع.

و ممّا ذكر يظهر ما فى المحكىّ عن تفسير ابن كثير: أنّ التجسّس طلب الخبر للشرّ(2).

ص: 151


1- الجامع لأحكام القرآن 333:16.
2- انظر: تفسير ابن كثير 214:4.

انقدح من ذلك أنّ ما مال إليه العلّامة الميانجى (مدّ ظلّه) من اختصاص التجسّس بما إذا كان الداعى هو الشرّ و استشهد له بقول بعض اللغويّين من أنّ الجاسوس صاحب سرّ الشرّ أو قولهم تحسّس أى استمع وطلب الخبر فى الخير و بالجيم فى الشرّ(1)، لا يخلو عن الإشكال. غاية ما دلّ عليه هذا القول هو أنّ طلب العثرات و القبائح ممّا يكون مستوراً هو التجسّس كما أنّ طلب الخير و المحسنات هو التحسّس، ولا ارتباط لهذا القول بدواعى الطالب من أنّه تفحّص لغرض الخير أو الشرّ.

وبالجملة فإنّ منشأ الفرق فى المطلوب لا فى داعى الطلب.

فتحصّل أنّ التجسّس هو التتبّع و التفحّص عن بواطن الاُمور، سواء كان لنفسه أو لغيره، وسواء كان لداعى الشرّ أو لداعى الخير، وسواء كانت الاُمور خيراً أو شرّا.

ص: 152


1- لسان العرب 283:2.

المقام الثانى: فى اختلاف موارد التجسّس:

إنّ موارد التجسّس تختلف من جهة اشتمالها على المصالح وعدمها. وهى على أقسام:

أحدها: أن يكون لمجرّد الاطلاع عن أحوال الاشخاص من دون غرض وداع عقلائى عليه.

وثانيها: أن يكون ذلك لغرض فاسد، كالهتك و إذاعة الفحشاء و إيذاء المؤمنين.

وثالثها: أن يكون ذلك لغرض صحيح ولكنه ينقسم إلى:

1 - غرض لازم كحفظ الحكومة من إخلال الكفّار أو المنافقين، أو لدفع نشر الفساد الاجتماعى، سواء كان أخلاقياً أو حالياً أو ماليا أو لدفع الاضلال والانحراف عن المجتمعات الإسلامية، أو للاطلاع على كيفيّة إتيان العمّال بوظائفهم، أو للإطلاع على الارتشاء والاختلاس، أو الاطلاع على قؤات الأعداء و إعداداتهم وغير ذلك من الأغراض اللازمة.

2 - غرض راجح كالاطّلاع عن الأفراد الكاملين لاعطائهم المناصب المناسبة لهم، أو الاطلاع بالنسبة إلى العلوم الحديثة أو للكشف عن رضى العامّة وعدمه بالنسبة إلى تمشية الاُمور، أو لكشف الحاجات الاجتماعيّة، وغير ذلك من الاُمور الراجحة.

ص: 153

المقام الثالث: فى حكم الأقسام المذكورة:

لا يخفى عليك أنّه لا إشكال فى حرمة القسم الأوّل و الثانى، فيما إذا كان مورد التجسّس هو العيوب؛ لدلالة الكتاب و السنة عليها.

أ) أمّا من الكتاب فقد استدلّ له بقوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا. (1)؛ إذ مقتضى إطلاق النهى حرمة كلا القسمين.

قال المحقّق الأردبيلى قدس سره: قوله: وَ لاٰ تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، والنهى عن تتبّع عورات المسلمين فى الأخباركثير... إلخ(2).

وقال فى تفسير القرطى: «ومعنى الآية خذوا ما ظهر ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أى لايبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطّلع عليه بعد أن ستره الله»(3).

ومقتضى عدم التقييد فى كلامهم هو عدم الفرق فى الحرمة بين القسم الأوّل و الثانى.

و استدلّ له أيضاً بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ

ص: 154


1- الحجرات: 12.
2- زبدة البيان: 417.
3- الجامع لأحكام القرآن 333:16.

آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ (1) بدعوى أنّ التجسّس هو بنفسه إشاعة الفاحشة(2).

وفيه: أنّه ليس التجسّس بنفسه إشاعة للفاحشة ما لم يقدم على الإذاعة، فالنهى عن إشاعة الفحشاء و إذاعتها نهى عن المرتبة المتأخّره ولا نظر له بالنسبة إلى نفس التجسّس و المرحلة المتقدّمة عليه. قال المحقّق الأردبيلى فى ذيل الآية الكريمة:

يعنى الذين يريدون شيوع الفاحشة وظهورها ويقصدون إشاعتها ونسبتها إلى المؤمنين تفضيحاً لهم(3).

ب) و أمّا الروايات فهى متعدّدة تتجاوز حدّ التظافر:

منها: ما رواه فى الفقيه و التهذيب والاستبصار بأسناد معتبرة عن ابن أبى يعفور فى معنى العدالة، عن أبى عبدالله عليه السلام: «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك»(4).

إلّا انّها دلّت كما أفاد الشيخ الأعظم قدس سره على ترتّب حرمة التفتيش على كون الرجل ساتراً فينتفى عند انتفائه(5).

ومنها: ما رواه فى الكافى بسند معتبر عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخى الرجل و هو يحفظ عليه زلّاته ليعيّره بها

ص: 155


1- النور: 19.
2- مجلّة نور علم، السنة الثانية، العدد الخامس، ص 28.
3- زبدة البيان: 387.
4- جامع الأحاديث 212:25، ح 503.
5- المكاسب المحرّمة: 44، ط - جماعة المدرّسين.

يوماً ما»(1).

و هو لا يشمل القسم الأوّل؛ لتقييده بالداعى الفاسد، هذا مضافاً إلى أنّ حفظ ما يواجهه من الزلّات من جهة المواخاة ليس هو التجسّس المبحوث عنه، اللّهمّ إلّا أن يدلّ عليه بالأولوية.

ومنها: ما رواه فى الكافى بسند موثّق عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص (أى لم يصل) الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتّبعوا عورانهم، فإنه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو فى بيته»(2).

و هو بإطلاقه يشمل القسمين، و النهى يدلّ على حرمة تتبّع العورات.

ومنها: ما رواه فى عقاب الأعمال عن ابن عبّاس، عن رسول اللهم صلى الله عليه و آله و سلم فى آخر خطبة خطبها بالمدينة: «ومن مشى فى عيب أخيه وكشف عورته كان أوّل خطوة خطاها ووضعها فى جهنم وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق»(3).

ومنها: ما رواه فى السرائر عن أبى عبدالله السيارى، عن محمّد بن إسماعيل، عن بعض رجاله، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «إذا رأيتم العبد متفقّداً لذنوب الناس ناسياً لذنوبه فاعلموا أنّه قد مُكِرَ به»(4).

و من المعلوم أنّ العاصى مستحق لمكر الله تعالى.

ومنها: ما رواه فى ميزان الحكمة: «إنّى لم اُؤمر أن أشق عن قلوب الناس ولا

ص: 156


1- جامع الأحاديث 314:16.
2- المصدر السابق: 315.
3- المصدر السابق: 317.
4- السرائر 569:3.

أشق بطونهم»(1).

ولكن دلالته على حرمة التفتيش غير واضحة؛ لأنّ عدم المأمورية أعمّ من الحرمة.

و منها: ما رواه فى تحف العقول عن الصادق عليه السلام: «الجهل فى ثلاث: فى تبدّل الإخوان، والمنابذة بغير بيان، و التجسّس عمّا لا يعنى»(2).

إلّا أنّ الخبر يناسب الحكم التنزيهى؛ إذ تبدّل الإخوان أو المفارقة من دون الإعلام و التجسّس عمّا لا يفيد لا يكون محرّماً.

ومنها: ما فى نهج البلاغة، قال عليه السلام لمالك: «وليكن أبعد رعيّتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإنّ فى الناس عيوباً الوالى أحقّ مَن سَتَرها، فلا تكشفن عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، و الله بحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحبّ ستره من رعيّتك»(3).

و النهى يدلّ على الحرمة.

ومنها: ما رواه القرطى عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم: «إيّاكم و الظن فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً»(4).

والنهى يدلّ على الحرمة، إلّا أن يقال: إنّ اقترانه بسائر الفقرات مع عدم كون جميع مواردها محرّمة يمنع عن الدلالة على الحرمة، فافهم.

ومنها: ما رواه القرطى أيضاً عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّك إن اتّبعت عورات

ص: 157


1- ميزان الحكمة 42:2.
2- تحف العقول: 234، ط - منشورات الشريف الرضى.
3- نهج البلاغة: 429، الكتاب 53، الدكتور صبحى الصالح.
4- الجامع لأحكام القرآن 331:16، ط - دار إحياء التراث.

الناس أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم»(1).

ومن المعلوم أنّ إفساد المجتمع الإسلامى من أشنع المحرّمات.

ومنها: ما رواه فى مستدرك الوسائل عن النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم: «شرّ الناس الظانون، و شرّ الظانين المتجسّسون، و شرّ المتجسّسين القوّالون، و شرّ القوّالين الهتاكون»(2).

ودلالة الرواية على الحرمة غير واضحة، اللّهمّ إلّا أن يقال: بمعونة الآية المباركة الدالّة على وجوب الاجتناب عن ظن السوء يستفاد أنّ التجسّس أشدّ من ظن السوء المحرم، فتأمّل.

ومنها: ما رواه فى ثواب الأعمال عن ابن المتوكّل، عن محمّد بن يحيى، عن سهل، عن يحيى بن المبارك، عن ابن جبلة، عن محمّد بن الفضيل، عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: قلت له: جعلت فداك، الرجل من اخوانى يبلغنى عنه الشىء الذى أكرهه، فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرنى عنه قوم ثقاة، فقال لى: «يا محمّد، كذب سمعك وبصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولاً فصدّقه وكذبهم» الحديث(3). فإنّ الظاهر من الخبر عدم جواز التجسّس عن حاله و إن كانت شواهد وجود القبائح موجودة كشهادة خمسين، فإنّ جواز التجسّس لا يجتمع مع لزوم تكذيب السمع و البصر.

ثمّ إنّ ما استظهرناه لا ينافى عدم إمكان الاستدلال به لأصالة الصحّة فى فعل الخير بقرينة. جمع الإمام بين تكذيب خمسين وتصديق الأخ المؤمن؛ إذ تصديق واحد من المؤمنين وتكذيب خمسين بمعنى الحمل على الصحّة، والحمل على الفساد لا يكفى، بل اللازم هو تصديق خمسين فى الفساد، كما إذا أخبروا ببيع الراهن بعد رجوع المرتهن

ص: 158


1- المصدر السابق: 333.
2- مستدرك الوسائل 147:9، ب 141، أحكام العشرة، ح 15.
3- ثواب الأعمال: 247.

عن الإذن، و أخبر المؤمن الواحد ببيع الراهن قبل رجوع المرتهن، فإنّ المتّبع حينئذ هو شهادة خمسين، ولكن يمكن حمل الرواية على تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة قوله الواقع المستلزم تكذيب القسامة، بمعنى المخالفة للواقع مع الحكم بصدقهم واعتقادهم.

ومنها: الروايات الواردة فى المنع عن التفتيش فيما إذا ادّعت المرأة أنّها خلية كخبر عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبى عبدالله عليه السلام: إنّى تزوّجت امرأة فسألت عنها، فقيل فيها، فقال: «و أنت لِمَ سألت أيضا ليس عليكم التفتيش»(1).

ولكن دلالة هذه الطائفة لا تخلو عن إشكال؛ لأنّ الظاهر منها هو رفع لزوم التفتيش لا حرمته.

ومنها: ما رواه فى عقاب الأعمال عن ابن عبّاس، عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم: «ومن اطلع فى بيت جاره فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شىء من جسدهاكان حقّاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يبتغون عورات الناس فى الدنيا» الحديث(2).

بدعوى دلالته على أنّ تتبّع عورات الناس من أوصاف المنافقين التى توجب دخول النار.

وكيف كان، فهذه الأخبار تكفى للدلالة على حرمة التفتيش فى القسم الأوّل والثانى، بل مقتضى ما عرفت من صدق التجسّس ولو مع الغرض الصحيح هو شمول الأدلّة المذكورة للقسم الثالث و الرابع أيضا لا يقال: سياق الآية الدالّة على حرمة التجسّس يدلّ على اختصاص الحرمة

ص: 159


1- الوسائل 227:14، ب 25، عقد النكاح، ح 1.
2- ثواب الأعمال: 282.

بما إذا كانت الأغراض فاسدة؛ لأنّه قبل حرمة التجسّس دلّت الآية على حرمة السخرية و الطعن ودعت إلى منابذة الألقاب وسوء الظن.

لأنّا نقول: العبرة بإطلاق الوارد لا بخصوصية المورد، هذا مضافاً إلى أنّ الأدلّة لا تختصّ بالآية الكريمة، فعدم إطلاقها لا يضرّ بعد إطلاق سائر الأدلّة، وعليه فالتجسّس حرام فى نفسه مطلقا نعم، ربّما تزاحمه الاُمور الاُخرى كحفظ النظام و النفوس و المعالجة ونحوها من الاُمور التى تكون أهمّ بالنسبة إلى حرمة التفتيش، فمع التزاحم المذكور تسقط حرمته عن الفعلية كسائر موارد التزاحم. ولذا قال الشيخ الأعظم قدس سره فى أحكام الغيبة: فاعلم أنّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة وغيرها أنّ حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن وتأذّيه منه، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب بالكسر، أو بالفتح، أو ثالث دلّ العقل أو الشرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين، كما هو الحال فى كلّ معصية من حقوق الله وحقوق الناس، و قد نبّه عليه غير واحد.

قال فى جامع المقاصد بعد ما تقدّم عنه فى تعريف الغيبة: إنّ ضابط الغيبة المحرّمة: كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس منه، و أمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم، كنصح المستشير، و التظلّم و سماعه، والجرح والتعديل، وردّ من ادّعى نسباً ليس له، والقدح فى مقالة باطلة خصوصاً فى الدين(1).

ظاهر كلام الشيخ و المحقّق هو رفع الحكم لا رفع الموضوع ولكن لا يخلو كلام المحقّق عن التأمّل، فإنّ مجرّد كون الغرض صحيحاً لا يكفى فى رفع الحرمة، بل اللازم هو إحراز التزاحم و الأهمّية.

ص: 160


1- المكاسب 342:14، تراث الشيخ الأعظم.

هذا مضافاً إلى أنّ جملة من الموارد التى يصدق عليها التجسّس لا تكون من موارد تتبّع العيوب كالاطّلاع على العلوم الحديثة، أو كشف رضى عامّة الناس عن الاُمور وعدمه، أو كشف الحاجات الاجتماعية، أو كشف الأفراد الكاملين لإعطاء المناصب، وغير ذلك. بل لا يصدق على أنّ المنهى هو التجسّس عن بواطن الاُمور من المسلمين، فلا تشمل الأدلّة غيرهم من الكفّار و المنافقين جمعاً بين الأدلّة، بل مقتضى ترتّب حرمة التفتيش على كون الرجل ساتراً فى صحيحة ابن أبى يعفور هو عدم حرمة ذلك فى المريب و المتجاهر بالذنوب، فيتقيّد إطلاق سائر الأخبار بمثل هذه الصحيحة.

اللّهمّ إلّا أن يقال كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره إنّ الالتزام بجواز تفتيش عثرات المتجاهر فى غاية الإشكال(1)، ولعل وجه الإشكال هو عدم ثبوت الإطلاق للمفهوم؛ لأنّ الرواية فى مقام بيان حكم آخر، و هو بيان أمارات العدالة، وعليه فالمستفاد من الرواية أنّ غير الساتر لجميع عيوبه يجوز التفتيش فى عيوبه فى الجملة؛ لاعتبار الستر فى حرمة التفتيش، فتأمّل.

ص: 161


1- المكاسب المحرّمة 278:1.

المقام الرابع: فى أهمّية حفظ النظام:

يدلّ على أهمّية ذلك مضافاً إلى البداهة و الضرورة ودلالة آيات الدفاع اُمور:

منها: وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام ولو تحت لواء المخالفين كما يشهد له موثقة يونس عن أبى الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: جعلت فداك إنّ رجلاً من مواليك بلغه أنّ رجلاً يعطى سيفاً و قوساً فى سبيل الله فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء لا يجوز و أمروه بردهما، قال: «فليفعل»، قال: قد طلب (شخص) الرجل فلم يجده، وقيل له: قد قضى (مضى خ) الرجل، قال: «فليرابط ولا يقاتل» قال: مثل قزوين وعسقلان(1) وما أشبه هذه الثغور، فقال: «نعم»، قال: يجاهد، قال: «لا، إلّا أن يخاف على ذرارى المسلمين» (فقال): أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم، قال: «يرابط ولا يقاتل، و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان» قال: قلت: فإن جاء العدوّ إلى الموضع الذى هو فيه مرابط كيف يصنع ؟ قال: «يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء؛ لأنّ فى دروس الإسلام دروس دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم»(2).

ص: 162


1- عسقلان: بلد بساحل الشام.
2- الوسائل 19:11، ب 6، جهاد العدوّ وما يناسبه، ح 2.

ودلالته على وجوب حفظ بيضة الإسلام و المسلمين بالمقاتلة ولو تحت لواء المخالفين واضحة، وهى حاكية عن أهمّية حفظ النظام، ولذا صرّح الشيخ فى المبسوط(1) و العلّامة فى النتهى(2) والشهيد فى الدروس(3) وغيرهم من الأعلام بوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام تحت لواء غير منصوب الإمام عند الخوف على بيضة الإسلام.

والحاصل: أنّ ولاية الغاصبين ليست مقبولة، ولكن إذا دار الأمر بين وجود النظام ولو بولايتهم وبين عدم وجود النظام الإسلامى فالأوّل مقدّم، ولا يمنع ذلك عن السعى لخلع الغاصبين عن مقامهم فيما إذا لم يلزم منه عدم حفظ النظام.

ومنها: عدم جواز تحمّل المخالفين فيما إذا أدّت مخالفتهم إلى الخوف على المجتمع الإسلامى كما يشهد له كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة: «... إنّ هؤلاء قد تمالؤوا على سَخطَة إمارتى(4) و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم فإنّهم إن تمّموا على فَيالة(5) هذا الرأى انقطع نظام المسلمين»(6).

وواضح أنّه عليه السلام علّق القيام عليهم بالخوف العقلائى على النظام فهو يدل على جواز المقاتلة مع المخالفين عند الخوف على المجتمع الإسلامى.

ومنها: وجوب الاجتناب عن كل فعل و عمل يوجب الخوف على النظام،

ص: 163


1- المبسوط 8:2.
2- منتهى المطلب 900:2.
3- الدروس الشرعية 30:2.
4- تمالؤوا: أى اتّفقوا و تعاونوا. و السخطة بالفتح: الكراهة، والمراد من هؤلاء من انقضّ عليه من طلحة و الزبير و المنضمّين إليهما.
5- قال: فيالة رأيه يفيل بالفتح أخطأ وضعف.
6- نهج البلاغه: 244، الخطبة 169، الدكتور صبحى الصالح.

كما يدلّ عليه نهى أمير المؤمنين عليه السلام عمر بن الخطّاب عن الذهاب نحو إيران للحرب معلّلاً باحتمال عروض الخطر بالنسبة إلى النظام.

قال عليه السلام لعمر بن الخطّاب و قد استشاره فى غزوة الفرس بنفسه: «ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرَز يجمعه و يضُمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبداً»(1).

و قاله عليه السلام فى مقام نهى عمر عن الذهاب نحو إيران لوجود احتمال الخطر من جهة تفرّق العرب ونقض بيعتهم و مهاجمة الأعداء. ولا خفاء فى أنّ المراد من الرواية ليس المنع من الذهاب إلى الحرب فى جميع الأحوال و الأزمان، بل فى زمان عمر منعه عن ذلك لعدم مساعدة الظروف، فليس حكماً كلّيا، ولذا ذهب النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم مع الجيش الإسلامى فى أكثر الغزوات، بل علىّ عليه السلام فى صفّين و الجمل.

ومنها: ضروريّة. الإمارة لإقامة النظام وحفظه، كما يدلّ عليه قول أمير المؤمنين عليه السلام فى الخوارج لمّا سمع قولهم لا حُكم إلّا لله: «كلمة حقّ يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلّا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا لله، وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل فى إمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر، و يبلّغ الله فيها الأجل و يجمع به الفَىء، و يقاتل به العدو، و تَأمن به السبل، و يؤخَذ به للضعيف من القوى؛ حتى يستريح بَرّ و يستراح من فاجر»(2).

و الخبر ليس فى مقام تصحيح حكومة الفاجر، بل هو فى مقام بيان أنّ الحكومة ولو عن الفاجر خير من عدمها.

و منها: وجوب الاستعانة بالأعراب إذا خيف على الإسلام كما تدلّ عليه

ص: 164


1- المصدر السابق: 203، الخطبة 146. و القيّم: هو القائم به، يريد الخليفة. و النظام: السلك ينظم فيه الخرز. و تقول: أخذته كلّه بحذافيره، أى بأصله.
2- المصدر السابق: 82، الخطبة 40.

الروايات، ومن جملتها موثقة هشام بن سالم عن أبى عبدالله عليه السلام قال: سألته عن الأعراب عليهم جهاد؟ قال: «لا، إلّا أن يخاف على الإسلام فيستعان على الإسلام بهم» الحديث(1).

ومنها: تشريع الإمامة ووجوب إطاعة الإمام لحِكَم، منها: إقامة النظام، كما يدلّ عليه: ما ورد عن سيّدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام انّها قالت فى خطبتها التى أوردتها فى مسجد النبى صلى الله عليه و آله و سلم: «.. فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك... والعدل تنسيقاً للقلوب وطاعتنا نظاماً للملّة و إمامتنا أماناً للفرقة»(2).

ومن المعلوم أنّ تشريع الإمامة للنظام حاكٍ عن أهمّية النظام.

وما ورد عن مولانا الرضا عليه السلام فى حكمة جعل الإمامة حيث قال: «... إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين»(3).

و كذلك ما ورد عنه عليه السلام: «اسمعوا و أطيعوا لمن ولّاه الله الأمر فإنه نظام الإسلام»(4).

ومنها: التوصية فى حفظ النظم و النظام و اُمور المسلمين، كقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «اُوصيكما وجميع وَلَدى و أهلى ومن بلغه كتابى بتقوى الله ونظم أمركم و صلاح ذات بينكم»(5).

وكقول رسول اللُّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من أصبح لا يهتمّ بأمور السلمين فليس بمسلم»(6).

ص: 165


1- جامع الأحاديث 44:13، ح 111.
2- الاحتجاج للطبرسى 134:1، منشورات دار النعمان - النجف.
3- الكافى 200:1، كتاب الحجّة، ح 1.
4- ميزان الحكمة 161:1. أمالى المفيد: 14، المجلس الثانى، ح 2.
5- نهج البلاغة: 421.
6- الوسائل 559:11، ب 18، فعل المعروف، ح 1. الكافى 163:2، ح 1.

ومنها: إيجاب الحذر والاحتياط و المراقبة بالنسبة إلى النظام كقوله تعالى:

وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسٰامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (1) ، والحذر فيها عن المنافقين لحفظ النظام.

و كقوله تعالى: وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاٰةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْرىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ إلى قوله عزّ و جلّ : وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ (2)الآية.

بناء على أنّ المراد من حذرهم غير الأخذ بالأسلحة، خصوصاً فى قوله: أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ بدعوى أنّ الوضع و الأخذ لا يجتمعان فى شىء واحد.

وكقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فى وصيّته للجيش: «واجعلوا لكم رقباء فى صياصى الجبال و مناكب الهضاب لئلّا يأتيكم العدوّ من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم، و إيّاكم و التفرّق»(3).

و كقوله عليه السلام عليه السلام أيضاً لزياد بن النضر حين أنفذه على مقدّمته إلى صفّين: «اعلم أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم، فإذا أنت خرجت من بلادك ودنوت عذوّك فلا تسأم من توجيه الطلائع فى كل ناحية وفى بعض الشِعاب و الشجر و الخمر

ص: 166


1- المنافقون: 4.
2- النساء: 102.
3- نهج البلاغة: 371 الكتاب 11.

وفى كلّ جانب»(1).

إلى غير ذلك من الاُمور الدالّة على أهمّية النظام بالعموم أو الخصوص.

ولعل أصحابنا الإمامية استفادوا من هذه الأخبار وجوب حفظ النظام عن الهرج و المرج، و أفتوا بوجوب الصناعات الدخيلة فى حفظ النظام كفاية.

قال الشيخ الأعظم قدس سره فى وجه وجوب الصناعات: إنّ وجوب الصناعات ليس مشروطاً ببذل العوض؛ لأنّه لإقامة النظام التى هى من الواجبات المطلقة(2).

وقال فى جامع المقاصد فى شرح قول العلّامة فى المتاجر: فمنه واجب: «كان عليه أن يدرج أيضاً مطلق التجارة التى بها يتحقّق نظام النوع، فإنّ ذلك من الواجبات الكفائية»(3).

وقال فى الرياض فى حرمة أخذ الاُجرة على ما يجب على الأجير وجوباً ذاتياً:

و اُخرج بالذاتى التوصّلى كأكثر الصناعات الواجبة كفاية توصّلاً إلى ما هو المقصود من الأمر بها، و هو انتظام أمر المعاش و المعاد، فإنه كما يوجب الأمر بها كذا يوجب جواز أخذ الاُجرة عليها؛ لظهور عدم انتظام المقصود بدونه مع أنّه عليه الإجماع نصّا وفتوى.(4)

فتحصّل أنّ المستفاد من مجموع الروايات و الفتاوى هو أهمّية حفظ النظام الإسلامى، وعليه ففى مقام التزاحم مع بعض المحرّمات يقدم وجوب حفظ النظام عليه، و يسقط المحرّم عن الفعلية بالتزاحم المذكور.

ص: 167


1- تحف العقول: 130، ط - منشورات الرضى.
2- المكاسب المحرّمة: 64، مسألة أخذ الاُجرة على الواجبات.
3- جامع المقاصد 6:4.
4- رياض المسائل 37:5، ط دار الهادى.

المقام الخامس: فى اتّخاذ العيون أو الإقدام على التجسّس:

1 - روى فى قرب الاسناد عن الريّان بن الصلت، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول:

«كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا وجّه جيشاً فأمّهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسّس له خبره». فالتج(1) مسّس فيه لكيفيّة عمل الأمير والاستخبارات الحربية.

2 - روى فى تهذيب تاريخ ابن عساكر عن بريدة أنّ النبى صلى الله عليه و آله و سلم بعث سرية و بعث معها رجلاً يكتب إليه بالأخبار(2).

3 - كان النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم يسأل عن المتخلّفين عنه فى غزوته.

4 - قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام فأنظر من لم يشهد المسجد فأحرق عليه بيته»(3).

ولكنه بصدد التفتيش عن المنافقين فى جماعة المؤمنين، ومحمول على ما إذا كان عدم شركتهم فى إقامة الصلاة موجباً للإخلال.

5 - لمّا حتم قضاء الله بفتح مكّة واستوسقت له، أمّر صلى الله عليه و آله و سلم عليهم عتاب بن اُسيد ... فلمّا وصل إليهم عتاب وقرأعهده...، وقال لهم:... فمن وجدته قد لزم الجماعة التزمت له حق المؤمن على المؤمن، ومن وجدته قد بعد عنها فتّشته فإن وجدت له

ص: 168


1- قرب الاسناد: 148، اصدار مكتبة نينوى.
2- تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 382:6.
3- أخبار القضاة لابن وكيع 12:3.

عذراً عذرته، و إن لم أجد له عذراً ضربت عنقه حكماً من الله مقضياً على كافتكم لاُطهّر حرم الله من المنافقين(1). و قد أسند التفتيش إلى الله و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بقوله حكماً من الله مقضياً على كافتكم، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّه منصوب خاصّ للنبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فإذا فعل ذلك ولم يردعه النبى صلى الله عليه و آله و سلم فهو فى حكم التقرير.

و لكنّه وارد فى خصوص التفتيش عن المنافقين فى جماعة المؤمنين.

6 - وكان من سيرته صلى الله عليه و آله و سلم أن يتفقّد أصحابه و يسأل الناس عمّا فى الناس و يحسّن الحسن و يقوّيه و يقبّح القبيح و يوهنه(2).

و فيه: أنّ السؤال عمّا يظهر فى جماعة المسلمين لا عمّا يكون مستوراً فيهم فلا يرتبط بالمقام.

7 - مرّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: «ما أرى طعامك إلّا طيّباً»، وسأله عن سِعره، فأوحى الله عزّ و جلّ إليه أن يدسّ [يدير] يده فى الطعام، ففعل فأخرج طعاماً رديّا، فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين»(3).

لا يقال: إنه لاختيار المتاع ولا يكون من موارد التجسّس.

لانا نقول: إنّ ذلك من النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم تجسّس عن وضع النشاط الاقتصادى فى النظام الإسلامى.

8 - كان النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم يحبس على التهمة(4).

ص: 169


1- بحار الأنوار 122:21-124.
2- بحار الأنوار 151:16.
3- الوسائل 209:12-210، ب 86، ما يكتسب به، ح 8.
4- عيون الأخبار لابن قتيبة 172:1.

9 - تكلّم طلحة و الزبير بعد البيعة، فبلغ ذلك عليّاً فدعا بهما، فأنكرا فلم يعجل عليهما و استأذناه إلى مكّة فلم يحبسهما وكان يعمل المراقبة فى أمرهما ولا يمضى على التهمة حتى ينكشف الغطاء(1).

و لعلّ عدم المضى على التهمة ممّا اقتضته المصلحة الخاصّة، و إلّا فقد مرّ أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم كان بحبس على التهمة.

10 - موثّقة زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: دخل رجل على علىّ بن الحسين عليهما السلام فقال: إنّ امرأتك الشيبانيّة خارجية تشتم عليّاً عليه السلام فإن سرّك أن اُسمعك ذلك منها أسمعتك، قال عليه السلام: «نعم»، قال: فإذا كان حين تريد أن تخرج كما كنت تخرج فعد فاكمُن فى جانب الدار، قال: فلمّا كان من الغد كَمَن فى جانب الدار وجاء الرجل فكلّمها فتبيّن منها ذلك فخلى سبيلها و كانت تعجبه(2).

تدلّ هذه الموثقة على جواز إعمال المقدّمات فى الاستخبارات.

11 - قال علىّ عليه السلام للنبىّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد استشارته صلوات الله عليه إيّاه فى قضية الإفك: «يا رسول الله النساء عليك كثيرة، سل عن الخبر بريرة خادمتها أى عائشة و ابحث عن سرّ خبرها منها»، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «فتوّل أنت يا علىّ تقريرها»، فقطع لها علىّ عليه السلام خشباً من النخل، وخلا بها يسألها و يتهدّدها ويرهبها(3).

ظاهر هذا النقل أنّ قضية الإفك مربوطة بما نسب إلى عائشة، وعليه فقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ جٰاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاٰ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ الآية(4)، نزل فى

ص: 170


1- الجمل: 437، ط - مؤتمر المفيد، وراجع: النصرة لسيّد العترة و المذكور فيهما مضمون العبارة.
2- الوسائل 425:14، ب 10، ما يحرم بالكفر، ح 7.
3- الجمل: 82 و 226. الإفك للعلّامة جعفر مرتضى: 180.
4- النور: 11.

حقّها.

ولكن هناك رواية من طرقنا انّها نزلت فى مارية القبطية وما رمتها به عائشة من أنّ إبراهيم ما هو إلّا ابن جريح، فبعث النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً فى تعقيب ابن جريح، و لمّا رأى ابن جريح أنّ عليّاً عليه السلام فى تعقيبه هرب وصعد فى تحلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولاله ما للنساء(1).

وكيف كان، فقد أورد العلّامة الطباطبائى إشكالات على روايات الإفك، سواء كانت من طرقنا أو من طرق العامّة، فراجع(2).

12 - أحمد بن محمّد، عن الحسين بن موسى بن جعفر عليهما السلام عن اُمّه قالت: كنت اغمز قدم أبى الحسن عليه السلام و هو نائم مستقبلاً فى السطح، فقام مبادراً يجرّ إزاره مسرعا فتبعته فإذا غلامان له يكلّمان جاريتين له وبينهما حاظ لا يصلان إليهما، فتسمّع عليهما ثمّ التفت إلىّ فقال: «متى جئت هاهنا»؟ فقلت: حيث قمت من نومك مسرعاً فزعت فتبعتك، قال: «ألم تسمعى الكلام»؟ قلت: بلى، جعلت فداك، فلمّا أصبح بعث الغلامين إلى بلد، وبعث بالجاريتين إلى بلد آخر فباعهم(3).

و الخبر يدلّ على جواز التجسّس فى مقام حفظ الأهل عن المفاسد وردعهم عنها.

13 - كان الخرّيت بن راشد الناجى أحد بنى ناجِية قد شهد مع علىّ عليه السلام صفّين فجاء إلى علىّ عليه السلام بعد انقضاء صفّين وبعد تحكيم الحكمين فى ثلاثين من أصحابه يمشى بينهم حتى قام بين يديه، فقال: و الله لا اُطيع أمرك ولا أصلّى خلفك و إنّى غداً لمفارق لك.

ص: 171


1- تفسير القمّى 99:2.
2- تفسير الميزان 104:15.
3- قرب الاسناد: 331، ح 1230، ط - مؤسّسة آل البيت:.

فقال له: «ثكلتك اُمّك إذا تنقض عهدك و تعصى ربّك ولا تضرّ إلّا نفسك، أخبرنى لمَ تفعل ذلك»؟ قال: لانك حكّمت فى الكتاب...

فقال له علىّ عليه السلام: «ويحك هلمّ إلىّ اُدارسك و اُناظرك فى السنن و اُفاتحك اُموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك، فلعلّك تعرف ما أنت الآن له منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عَم وبه جاهل»، فقال الخرّيت فإنّى غاد عليك غدا. فقال علىّ عليه السلام: «اُغدُ ولا يستهوينّك الشيطان...».

فخرج الخرّيت من عنده منصرفاً إلى أهله...

قال عبدالله بن قُعَين: فجعلت فى أثره مسرعاً... إلى أن قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه ؟ فقال: «إنا لو فعلنا هذا بكل من يتّهم من الناس ملأنا السجون منهم، ولا أرانى يسعنى الوثوب بالناس و الحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لى الخلاف»، قال: فسكتّ عنه وتنحّيت فجلست مع أصحابى هنيئة، فقال لى عليه السلام: «ادن منّى»، فدنوت فقال لى مسرّا: «اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل، فإنّه قلّ يوم لم يكن يأتينى فيه قبل هذه الساعة»، فأتيت إلى منزله فإذا ليس فى منزله منهم ديّار... فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لى حين رآنى: «أفَطِنُوا فأقاموا أم جَبنوا فظعنوا»؟ قلت: لا، بل ظعنوا، فقال: «أبعدهم الله كما بعدت ثمود... وسأكتب إلى من حولى من عمّالى فيهم»، فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمّال:

من عبدالله علىّ أمير المؤمنين إلى من قُرئ عليه كتاب هذا من العمال:

«أمّا بعد فإنّ رجالاً لنا عندهم تبعة خرجوا هُرّاباً نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك و اجعل عليهم العيون فى كل ناحية من أرضك ثمّ اكتب إلىَّ بما ينتهى إليك عنهم و السلام»(1).

ص: 172


1- شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 128:3-130، ط - دار الكتب العلمية.

14 - و كتب علىّ عليه السلام إلى كعب بن مالك: «أمّا بعد فاستخلف على عملك واخرج فى طائفة من أصحابك حتى تمرّ بأرض كورة السواد فتسأل عن عمّالى وتنظر فى سيرتهم فيما بين دجلة و العذيب، ثم ارجع إلى البهقباذات فتوّل معونتها واعمل بطاعة الله فيما ولّاك منها إلى أن قال: - و أعلمنى الصدق فيما صنعت»(1).

يدل الخبر على اتّخاذ العيون بالنسبة إلى العمّال.

15 - قال فى مصنف ابن أبى شيبة: إنّ أبا الجهم القرشى نقل عن أبيه، قال: بلغ عليّا منى شىء فضربنى أسواطا، ثم بلغه بعد ذلك أنّ معاوية كتب إليه، فأرسل رجلين يفتّشان منزله فوجدا الكتاب فى منزله، فقال (أبى) لأحد الرجلين و هو من العشير.

إنك من العشير فاستر علىّ ، قال: فأتيا عليّاً فأخبراه، فركب على، فقال لأبى: «أما أنّا فتّشناه عليك ذلك فوجدناه باطلاً»(2).

يدلّ الخبر على أنّ مجرّد احتمال الارتباط مع الأعداء و المخالفين للأدلّة الحقّة يكفى فى جواز التجسّس.

16 - كتب حاطب بن أبى بَلتَعَة إلى أهل مكّة يخبرهم بعزيمة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على فتحها، و أعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها الناس وتستبرهم، وجعل لها جعلاً على أن توصله إلى قوم سمّاهم لها من أهل مكّة و أمرها أن تأخذ على غير الطريق.

فنزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بذلك فاستدعى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له:

«إنّ بعض أصحابى قدكتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا، و قد كنت سألت الله أن يعمّى أخبارنا عليهم، و الكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق فخذ

ص: 173


1- تاريغ اليعقوبى 204:2-205، ط - دار صادر.
2- مصنّف ابن أبى شيبة 131:11-132.

سيفك و الحقها وانتزع الكتاب منها و خلّها، و صِر به إلىّ »، ثم استدعى الزبير بن العوام فقال له: «امض مع فى بن أبى طالب فى هذه الوجه»، فمضيا وأخذا على غير الطريق، فأدركا المرأة، فسبق إليها الزبير فسألها عن الكتاب الذى معها، فأنكرته وحلفت أنّه لا شىء معها وبكت، فقال الزبير: ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً فارجع بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لنخبره ببراءة ساحتها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «يخبرنى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنّ معها كتاباً و يأمرنى بأخذه منها، و تقول أنت انه لا كتاب معها»، ثمّ اخترط السيف و تقدّم إليها فقال: «أما و الله لئن لم تُخرجى الكتاب لاكشفنّك، ثم لأضربنّ عنقك»، فقالت له: إذا كان لا بدّ من ذلك فاعرض يابن أبى طالب بوجهك عنّى، فأعرض عليه السلام بوجهه عنها فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها. فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وصار به إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وفى نقل البيهفى(2) أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال حين بعث عليّاً و الزبير بن العوام:

«ففتّشوها فإنّ معها كتاباً إلى أهل مكّة»(3).

وكيف كان، يكفى فى صدق التفتيش و التجسّس خفاء ذلك عند غير النبىّ والوصى عليهما الصلاة و السلام.

17 - و يدلّ على اتّخاذ العيون أيضاً التوبيخات و التهديدات التى صدرت عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالنسبة إلى عمّاله. فإنّه حاك عن الاستخبارات التى تصل إليه من ناحية عيونه. ومن أمثلة ذلك:

أ) كتب إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: أمّا بعد يابن حنيف، فقد بلغنى أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان

ص: 174


1- الإرشاد للمفيد 56:1-57، ط - مؤسّسة آل البيت:.
2- كما نبّه على ذلك العلّامة الميانجى.
3- سنن البيهقى 147:9، ط - دار الفكر.

و تنقل إليك الجفان. وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفؤ، و غنيّهم مدعوّ(1).

ب) كتب إلى بعض عمّاله: أمّا بعد فقد بلغنى عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك وعصيت إمامك و أخزيت أمانتك، بلغنى أنّك جرّدت الأرض(2)، فأخذت ما تحت قدميك، و أكلت ما تحت يديك، فارفع إلىّ حسابك واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام(3).

ج) كتب إلى مصقلة بن هبيرة عامله على أردشير خرّة(4): أمّا بعد فقد بلغنى عنك أمر أكبرت أن اُصدّقه، إنك تقسّم فىء المسلمين فى قومك ومن اعتراك من السألة و الأحزاب و أهل الكذب من الشعراء كما تقسّم الجوز، فوالذى فلق الحبّة و برأ النسمة لافتّشن عن ذلك تفتيشاً شافياً فإن وجدته حقّاً لتجدّن بنفسك علىَّ هواناً فلا تكونن من الخاسرين أعمالا(5).

د) كتب إلى زياد بن أبيه لمّا كتب إليه معاوية يريد خديعته باستلحاقه: و قد عرفت أنّ معاو - ية كتب إليك يستزل لبّك(6)، و يستفلّ غربك(7)، فاحذره فإنّما هو الشيطان(8).

ه (كتب إلى أبى موسى الأشعرى عامله على الكوفة و قد بلغه عنه تثبيطه

ص: 175


1- نهج البلاغة: 416، الكتاب 45.
2- جرّدت الأرض: أخذت المحصول الزراعى.
3- نهج البلاغة: 412. الكتاب 40.
4- اردشير خرّة: بلدة من بلاد العجم.
5- تاريخ اليعقوبى 201:2-202.
6- يستزل: يطلب به الزلل و هو الخطأ، و اللبّ : القلب.
7- الغرب: الحدّة و النشاط، و يستفلّ غربك: يطلب إطفاء حدّتك.
8- نهج البلاغة: 415، الكتاب 44.

الناس عن الخروج إليه لمّا ندبهم لحرب أصحاب الجمل: أمّا بعد، فقد بلغنى عنك قول هولك وعليك(1).

التثبيط: أى الترغيب فى القعود و التخلّف، ولعلّ المراد من هو لك وعليك: أنّ ترغيبك الناس على القعود يكون بنفعك بحسب الظاهر، ولكنه يضرّ بك بحسب الواقع، ولعل الأشعرى أخفى ذلك عن علىّ عليه السلام، وبهذا الاعتبار يصدق على الاطّلاع عليه التفتيش و التجسّس.

و) كتب إلى المنذر بن جارود العبدى و قد خان فى بعض ما ولّاه: أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّنى منك، وظننت أنّك تتّبع هديه(2)، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رُقّى إلىّ (3) عنك لا تدع لهواك انقيادا(4)، ولا تبقى لآخرتك عتادا(5).

ولعل قوله عليه السلام: فإذا أنت فيما رقّى إلىّ عنك يدلّ على استخبار العيون.

ز) كتب إلى محمّد بن أبى بكر عامله على مصر لمّا بلغه توجّده من عزله بالأشتر عن مصر:

أمّا بعد، فقد بلغنى موجِدُتك من تسريح الأشتر إلى عملك، و إنّى لم أفعل ذلك استبطاء لك فى الجهد، ولا ازدياداً لك فى الجدّ، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لولّيتك ما هو أيسر عليك مؤونة وأعجب إليك ولاية(6).

و لا يخفى أنّ الغيظ ليس فى العلن، إذ هو لايناسب محمّد بن أبى بكر، وعليه

ص: 176


1- المصدر السابق: 453، الكتاب 63.
2- هديه: طريقه.
3- رُقّى إلىّ : أى رفع و انهى إلىّ .
4- لا تدع لهواك انقيادا: أى لا تدع الانقياد لهواك.
5- نهج البلاغة: 461، الكتاب 71.
6- المصدر السابق: 407، الكتاب 34،.

فالاستخبار عن أمر مستور فى الجملة.

ح) كتب أبوالأسود الدؤلى وكان خليفة عبدالله بن عبّاس بالبصرة إلى علىّ عليه السلام يعلمه أنّ عبدالله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يأمره بردّها فامتنع، فكتب يقسم له بالله لتردنها، فلمّا ردها عبدالله بن عبّاس، أو رد أكثرها، كتب إليه علىّ عليه السلام: أمّا بعد، فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همّك لما بعد الموت، والسلام.

فكان ابن عبّاس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتّعاظى بكلام أمير المؤمنين(1).

و قد نقل(2) أنّه عليه السلام كتب فى جواب أبى الأسود الدؤلى: فمثلك نصح الإمام و الامّة، و أدّى الأمانة، ووالى (ودل) على الحقّ ... فلا تدع إعلامى بما يكون بحضرتك ممّا النظر فيه للاُمّة صلاح فإنك بذلك جدير، و هو حقّ واجب لله عليك(3).

هذا الخبر يدل على قبول ورضى أمير المؤمنين عن استخبار خليفة عبدالله ابن عبّاس، و رغّبه فى ذلك، بل جعله أمراً لازما فعلى نوّاب المسؤولين أن يراقبوا أعمال المسؤولين و يخبروا بما أخطأوا.

ط) كتب علىّ عليه السلام إلى قثم بن العبّاس عامله على مكّة: أمّا بعد فإنّ عينى بالغرب كتب إلىَّ يعلمنى أنّه وجه إلى الموسم اُناس من أهل الشام العمى القلوب، الصمّ الأسماع، الكمه الأبصار، الذين يلبِسون الحقّ بالباطل... فأقم على ما فى يديك

ص: 177


1- تاريخ اليعقوبى 205:2.
2- كما نبّه على ذلك العلّامة الميانجى.
3- جمهرة رسائل العرب 588:1. نهج السعادة 324:5. العقد الفريد 355:4، ط - دار الكتاب. فتوح ابن أعثم 74:4.

قيام الحازم الصليب(1).

ى) روى ابن أبى الحديد عن كتاب الغارات: أنّ معاوية اختلق كتاباً نسبه إلى قيس بن سعد و قرأه على أهل الشام، فشاع فى الشام كلّها أنّ قيساً صالح معاوية، و أتت عيون علىّ بن أبى طالب إليه بذلك فأعظمه و أكبره و تعجّب له.. 0(2).

18 - ويدلّ على اتّخاذ العيون أيضاً ما ورد فى بعث النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم أفراداً لاستخبار حال الأعداء فى خارج البلاد الإسلامية ورصد تحرّكاكم العسكرية و أسرارهم، و هو كثير.

منها: ما رواه ابن هشام فى سريّة عبدالله بن جحش: أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، و كتب له كتاباً و أمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضى لما أمره به و لا يستكره من أصحابه أحداً... فلمّا سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه:

«إذا نظرت فى كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكّة و الطائف فترصد بها قريشاً وتعلم الناس أخبارهم»، فلمّا نظر عبدالله بن جحش فى الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثمّ قال لأصحابه: قد أمرنى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن أمضى إلى تحلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم يخبر.. 0(3).

يدل الخبر على اتّخاذ العيون بالنسبة إلى تحرّكات الأعداء.

و منها: ما رواه الواقدى فى غزوة بدر الكبرى ما ملخّصه: لمّا تحيّن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم انصراف العِير من الشام ندب أصحايه للعِير و بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم طلحة

ص: 178


1- نهج البلاغة: 406-407، الكتاب 33.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 62:6.
3- سيرة ابن هشام 252:2، ط - دار إحياء التراث العربى. وروى نحوه الواقدى فى المغازى 13:1.

بن عبيدالله وسعيد بن زيد قبل خروجه من المدينة بعشر ليال يتحسّسان خبر العِير حتى نزلا على كشد الجهنى بالنخبار، فأجارهما و أنزلهما، ولم يزالا مقيمين عنده فى خباء حتى مرّت العِير،... فنظرا إلى القوم وإلى ما تحمل العِير، وجعل أهل العِير يقولون: يا كشد هل رأيت أحداً من عيون محمّد؟ فيقول: أعوذ بالله، و أنّى عيون محمّد بالنخبار؟ فلمّا راحت العِير باتا حتى أصبحا، ثم خرجا وخرج معهما كشد خفيراً...

فخرجا يعترضان النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فلقياه بتربان... و قدم كشد بعد ذلك فأخبر النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم إجارته إيّاهما، فحيّاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، الخبر(1).

يدلّ الخبر على العامل النفوذى بين الأعداء، و على اتّخاذ العيون بالنسبة إلى تحركات الأعداء ولو فى اُمورهم الاقتصادية.

ومنها: ما فى صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بُسيسَة عيناً ينظر ما صنعت عِير أبى سفيان(2).

كذلك يدلّ الخبر على اتّخاذ العيون بالنسبة إلى تحرّكات الأعداء ولوكانت فى الاُمور الاقتصادية.

ومنها: ما رواه الواقدى فى غزوة اُحد: و بعث النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم عينين له أنسا ومؤنساً ابنى فضالة لملة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فأخبراه(3).

ومنها: ما رواه فى المغازى أيضاً فى غزوة اُحد: فلمّا نزلوا وحلّوا العقد واطمانوا، بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الحبّاب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر (قدّر و خمّن) ونظر إلى جميع ما يريد، وبعثه سرّاً، وقال للحبّاب: لا تخبرنى بين

ص: 179


1- المغازى 19:1-20.
2- صحيح مسلم 158:4، كتاب الامارة، ب 41، ح 1901، ط - مؤسّسة عزالدين.
3- المغازى 206:1-207.

أحد من المسلمين إلّا أن ترى فى القوم قلّة، فرجع إليه فأخبره خاليا(1).

قوله: إلّا أن ترى فى القوم قلّة: أى إلّا أن ترى فى العدو قلّة.

ومنها: ما رواه ابن هشام فى غزوة اُحد بعدما انصرفت قريش: ثمّ بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم علىّ بن أبى طالب، فقال: اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون فإن كان قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكّة، و إن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثمّ لاُناجزنّهم، قال علىّ عليه السلام: فخرجت فى آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنّبوا الخيل وامتطوا الإبل و وجّهوا إلى مكّة(2).

و منها: ما رواه فى التراتيب الإدارية عن الاستيعاب فى أخبار العبّاس بن عبدالمطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: أسلم العبّاس قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فكتب اليه: إنّ مقامك بمكّة خير(3).

و منها: ما رواه ابن هشام فى غزوة الخندق: فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ما اختلف من أمرهم، وما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا،... قال حذيفة: ثم التفت إلينا - رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثمّ يرجع ؟ فما قام رجل من القوم من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد، فلمّا لم يقم أحد دعانى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فلم يكن لى بدّ من القيام حين دعانى، فقال: يا حذيفة اذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئاً

ص: 180


1- المصدر السابق 207:1-208.
2- سيرة ابن هشام 100:3.
3- التراتيب الإدارية 363:1، بنقل كتاب ولاية الفقيه 559:2.

حتى تأنينا... الخبر(1).

وحاصله أنّه ذهب حذيفة واطلع على ما اطلع وأخبر به النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ومنها: ما رواه الواقدى فى غزوة الخندق من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم دعا خوّات ابن جبير، وقال: انطلق إلى بنى قريظة، فانظر هل ترى لهم غِرّة(2) أو خللاً من موضع فتخبرنى ؟(3)

ومنها: ما رواه الواقدى أيضاً من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث بريدة بن الحصَيب الأسلمى إلى بنى الصطلق ليخبره بخبر القوم(4).

ومنها: ما رواه فى مجمع البيان فى غزوة الحديبية من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعى، فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤىّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا جموعا وهم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: روحوا(5)، فراحوا(6).

ومنها: ما رواه فى تفسير نورالثقلين عن أمالى الشيخ بسنده عن الحلى، عن أبى عبدالله عليه السلام فى تفسير قوله عزّ وجلّ : وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً (7): وجّه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عمر بن الخطاب فى سريّة، فرجع منهزماً يجبّن أصحابه و يجبّنونه أصحابه،

ص: 181


1- سيرة ابن هشام 242:3-244.
2- الغِرّة (بالكسر): الغفلة.
3- المغازى 460:2.
4- المصدر السابق 404:1.
5- راح خلاف غدا، أى جاء وذهب فى الرواح أى العشىّ ، و قد يستعمل لمطلق المضى و الذهاب.
6- مجمع البيان 117:5.
7- العاديات: 1.

فلمّا انتهى إلى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلىّ عليه السلام: أنت صاحب القوم، فتهيّأ أنت ومن تريد من فرسان المهاجرين و الأنصار، فوجّهه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، وقال له: اكمن النهار و سر الليل، ولا تفارقك العين، قال: فانتهى علىّ عليه السلام إلى ما أمره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فسار إليهم، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم، فأنزل الله على نبيّه: وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً الى آخرها(1).

ومنها: ما رواه ابن سعد فى طبقاته، من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم أمر الناس بالتهيّؤ لغزو الروم، فلمّا كان من الغد دعا اُسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش إلى أن قال: - وخذ معك الأدلّاء، و قدّم العيون والطلائع(2) أمامك(3).

إلى غير ذلك ممّن أرسله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كعاصم بن ثابت، و بشر بن سفيان، و اُميّة بن خويلد إلى مكّة ليتجسّس له أخبار قريش(4).

هذه جملة من الآثار و النصوص الكثيرة الدالّة على مطلوبية اتّخاذ الجواسيس و التجسّس.

ص: 182


1- نور الثقلين 652:5.
2- الطلائع: جمع طليعة الجيش، مقدّمة الجيش، ومن يبعث قدّامه ليطّلع أخبار العدو و يتعرّفه.
3- طبقات ابن سعد 190:2.
4- راجع: التراتيب الإدارية 361:1-363، بنقل كتا ب ولاية الفقيه 564:2.

المقام السادس: فى النقباء و العرفاء:

ولا يخفى عليك أنّ النقيب على ما صرّح به أهل اللغة: هو شاهد القوم وضمينهم ومن يطلع عن أحوالهم.

قال فى الصحاح: والنقيب العريف، و هو شاهد القوم و ضمينهم(1)، والعريف:

النقيب، و هو دون الرئيس(2).

قال ابن الأثير: النقباء: جمع نقيب، و هوكالعريف على القوم المقدّم عليهم الذى يتعرّف أخبارهم و ينقّب عن أحوالهم، أى يفتّش(3).

و المحصّل من العبائر المذكورة أنّ شأن النقيب و العريف و إن كانلا يختصّ بالتفتيش، ولكنه كما صرّح فى النهاية لايخلو منه.

وعليه فما ورد فى الترغيب نحو جعل النقيب و العريف يدلّ على الترغيب نحو التفتيش فى الجملة، والروايات الواردة فى هذا المقام كثيرة، نذكر نبذة منها كما يلى:

1 - روى ابن هشام أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حين بايعه أهل المدينة فى العقبة الثانية قال لهم: أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيباً؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال

ص: 183


1- صحاح اللغة 227:1، مادة «نقب».
2- المصدر السابق 1402:4، مادة «عرف».
3- النهاية فى غريب الحديث و الأثر 101:5، ماد «نقب».

للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاءككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم و أنا كفيل على قومى» يعنى المسلمين، قالوا: نعم(1).

2 - روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ العرافة حق، ولا بدّ للناس من العرفاء، ولكن العرفاء فى النار»(2).

3 - روى فى الوسائل عن الصدوق بسنده عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام فى حديث المناهى، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من تولّى عرافة قوم اُتى به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله عزّ وجلّ أطلقه الله، و إن كان ظالماً هوى به فى نار جهنّم و بئس المصير»(3).

4 - روى فى الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا بدّ من إمارة ورزق للأمير، ولا بدّ من عريف ورزق للعريف...»(4).

وإلى غير ذلك من الأخبار المختلفة المرغّبة و المحذرة. فباعتبار ضرورتها فى إدارة المجتمع الإسلامى على الوجه الصحيح أمر مطلوب ومرغوب فيه، وباعتبار معرّضيتها للخطر و التعدّى محذور فيه، ولكنّ ذلك لا يختصّ بالعرافة، بل الأمر كذلك فى جميع المناصب العامّة، كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ مصلحة نصب النقباء و العرفاء واضحة؛ لأنّ الارتباط بين الناس وولانهم ورئيس الحكومة يصير قريبا بحيث يتمكّن الرئيس من الاطلاع عن مرؤوسيه و يتمكّن المرؤوسون من الارتباط مع رئيسهم، فلا تغفل.

ص: 184


1- سيرة ابن هشام 85:2 و 88.
2- سنن أبى داود 132:2، كتاب الخراج والامارة و الفىء، باب: فى العرافة.
3- الوسائل 136:12، ب 45، ما يكتسب به، ح 6.
4- دعائم الإسلام 538:2.

المقام السابع: الترغيبات العامة:

وهى كثيرة:

منها: ما فى نهج البلاغة من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وصّى جيشاً بعثه إلى العدو:

«واجعلوا لكم رقباء فى صياصى الجبال، ومناكب الهضاب؛ لئلّا يأتيكم العدؤ من مكان مخافة أو أمن. واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم، و إيّاكم و التفرّق»(1).

ومنها: ما رواه فى تحف العقول من وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لزياد بن النضر حين أنفذه على مقدّمته إلى صفّين:

«اعلم أنّ مقدّمة القوم عيونهم، و عيون المقدّمة طلائعهم، فإذا أنت خرجت من بلادك ودنوت من عدوّك فلا تسأم من توجيه الطلائع فى كل ناحية وفى بعض الشعاب(2) والشجر و الخمَر(3)، و فى كلّ جانب حتى لا يغيركم عدوّكم ويكون لكم

ص: 185


1- نهج البلاغة: 371، الكتاب 11. و الرقيب: الحارس الحافظ. الصياصى: الأعالى. المناكب: المرتفعات. و الهضاب: جمع الهضبة، و هو الجبل الذى لا يرتفع عن الأرض كثيراً مع انبساط فى أعلاه.
2- الشِعب: طريق الجبل، انفرج بين الجبلين.
3- الخمرَ: (بفتحتين) ما واراك من شجر وغيره، تقول: توارى الصيد عنى فى خَمَر الوادى، جاءنا على خَمَر، أى: فى سرّ و غفلة و خفية.

كمين إلى أن قال عليه السلام: واجعلوا رقبا كم فى صياصى الجبال وبأعلى الأشراف وبمناكب الأنهار يريئون لكم لئلّا يأتيكم عدؤ من مكان مخافة أو أمن»(1).

ومنها: ما رواه فى (المعيار و الموازنة) عن أمير المؤمنين عليه السلام فيما أمر به عبدالله بن بديل فى وقعة صفّين: «و أذكِ العيون نحوهم(2)، وليكن مع عيونكمن السلاح ما يباشرون به القتال، ولتكن عيونك الشجعان من جندك فإنّ الجبان لا يأتيك بصحّة الأمر، وانته إلى أمرى و مَن قِبلك بإذن الله، والسلام»(3).

و منها: ما رواه الطوسى فى الأمالى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيما أوصى به علىّ بن أبى طالب عليه السلام حين وجّهه فى سرية: اكمن النهار و سر الليل، ولا تفارقك العين»(4).

و منها: ما رواه الواقدى فى المغازى، عن النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم انه أوصى اُسامة بن زيد حين بعثه على رأس الجيش لغزو الروم: «وخذ معك الأدلّاء، و قدّم العيون أمامك و الطلائع»(5).

و منها: ما رواه القاضى النعمان بن محمّد فى الدعائم عن علىّ عليه السلام: انه رأى بعثة العيون و الطلائع بين أيدى الجيوش، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعث عام الحديبية بين يديه عيناً له من خزاعة(6).

و منها: ما رواه ابن أعثم فى فتوحه عن الإمام الحسين عليه السلام من كلام له لأخيه

ص: 186


1- تحف العقول: 131.
2- أذكى عليه العيون: أرسل عليه الطلائع و الجواسيس.
3- المعيار و الموارنة: 130-131.
4- بحار الأنوار 75:21. السيرة الحلبية 183:3.
5- المغازى 1117:3.
6- دعائم الإسلام 369:1. جامع أحاديث الشيعة 131:13.

ابن الحنفية: «و أمّا أنت يا أخى فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لى عيناً عليهم، ولا تخفِ علىّ شيئاً من اُمورهم»(1).

ومنها: ما رواه الآمدى فى الغرر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أقم الناس على سنتهم ودينهم، و ليأمنك بريئهم، وليخفك مريبهم، وتعاهد ثغورهم و أطرافهم»(2).

ومنها: ما رواه فى البحار عن علىّ عليه السلام فى كتابه إلى حذيفة حيما ولّاه المدائن:

بسم الله الرحمن الرحيم... و قد وليت اُموركم حذيفة بن اليمان و هو ممّن ارتضى بهَديهِ و أرجو صلاحه، و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، و الشدّة على مريبكم(3).

ومنها: ما رواه البلاذرى فى أنساب الأشراف أنّه كتب علىّ عليه السلام إلى أبى الأسود الدؤلى بعد ما أخبره بخيانة عامله: أمّا بعد فقد فهمت كتابك ومثلك نصح الإمام و الاُمّة، ووالى على الحقّ ، وفارق الجور، و قد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلىّ فيه من أمره، ولم اُعلمه بكتابك إلىّ فيه، فلا تدع إعلامى ما يكون بحضرتك ممّا النظر فيه للاُمّة صلاح، فإنّك بذلك محقوق، و هوعليك واجب، والسلام(4).

ومنها: ما فى نهج البلاغة من عهده للأشتر: وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك فى السرّ لاُمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، والرفق بالرعية(5).

ومنها: ما رواه فى الدعائم، حيث قال: وعن علىّ عليه السلام أنّه ذكر عهدا، فقال

ص: 187


1- الفتوح لابن أعثم 32:5. وقريب منه بحار الأنوار 329:44.
2- تصنيف غرر الحكم: 341، ط - مكتب الإعلام الإسلامى.
3- بحار الأنوار 87:2.
4- أنساب الأشراف 170:2، ط - موسّسة الأعلمى.
5- نهج البلاغة: 435، الكتاب 53.

الذى حدّثناه.: أحسبه كلام علىّ عليه السلام إلّا أنّا روينا عنه أنّه رفعه فقال: عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عهداً كان فيه بعد كلام ذكره، قال صلى الله عليه و آله و سلم: فيما ينبغى للوالى أن ينظر فيه من أمر كتّابه، (وكلائه و نوّابه ووزرائه): ثمّ لا تدع مع ذلك أن تتفقّد اُمورهم، وتنظر فى أعمالهم، و تتلطّف بمسألة ما غاب عنك من حالهم، حتى تعلم كيف حال معاملتهم للناس فيما ولّيتهم، فإنّ فى كثير من الكتّاب شعبة من عزّ و نخوات وإعجاب، و يسرع كثير إلى التبرّم بالناس، والضجر عن المنازعة، والضيق عند المراجعة، ولا بدّ للناس من طلب حاجانهم، فمتى جمعوا عليهم الإبطاء بها و الغلظة ألزموك عيب ذلك، فأدخلوا مؤونته عليك، وفى ذلك من صلاح اُمورك مع مالك فيه عند الله من الجزاء حظّ عظيم إنشاء الله(1).

ومنها: ما فى تحف العقول من عهده عليه السلام إلى الأشتر فيما ينبغى للوالى أن ينظر فيه من أمر جنوده: «ثمّ لا تدع أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة و القول بالحق عند الناس فيثبتون بلاءكل ذى بلاء منهم ليثق اُولئك بعلمك ببلائهم»(2).

ومنها: ما رواه فى الدعائم عن النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى عهده لأمير المؤمنين عليه السلام فيما ينبغى للوالى أن ينظر فيه من أمر جنوده، قال: واخصص أهل الشجاعة و النجدة بكل عارفة(3)، وامدُد لهم أعينهم إلى صور عميقات ما عندهم بالبذل فى حسن الثناء و كثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً وما اَبلَى فى كل مشهد، وإظهار ذلك منك عنه، فإنّ ذلك يَهزُّ الشجاع و يحرّضُ غيره.

ثم لا تَدَع مع ذلك أن تكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة و الصدق يحضرونهم عند اللقاء و يكتبون بلاءكل منهم حتى كانك شهدته.

ص: 188


1- دعائم الإسلام 350:1 و 365.
2- تحف المقول: 89.
3- العارفة: العطية، المعروف.

ثم اعرف لكل امرئ منهم ما كان منه. ولا تجعلن بلاء امرئ منهم لغيره، ولا تقصرن به دون بلائه، وكاف كلّ امرئ منهم بقدر ما كان منه، واخصصه بكتاب منك تهزّه به، وتنبّئه بما بلغك عنه، ولا بحملنك شرف امرئ على أن تعظّم من بلائه صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستخفّ ببلائه إن كان جسيما(1).

المقام الثامن فى دائرة التجسّس:

ولا يخفى عليك أنّ النظام الإسلامى يتكوّن من أركان:

منها: القوّة المقنّنة.

ومنها: القوّة القضائية.

ومنها: القوّة العاملة (التنفيذية).

ومنها: القؤة الدفاعية و الحربية بالنسبة إلى الكفّار و المنافقين و الناكثين.

ومنها: المراكز الثقافية من الجامعات و الحوزات العلمية و المؤسّسات الاقتصادية.

فعلى رئيس الحكومة أن يراقب مراقبة تامّة بالنسبة إلى جميع الأركان بنفسه أو بواسطة، حفظاً للنظام الإسلامى الذى قد عرفت أنّه من أوجب الواجبات، و أهمّ الاُمور.

و هذا أمر يحكم به العقل؛ إذ النظام الإسلامى لا يحفظ إلّا بالمراقبة، وكل ما لا يتمّ النظام إلّا به فهو واجب بالضرورة العقلية، فالمراقبة التامّة واجبة على رئيس الحكومة.

و هذا هو الواجب الذى لم يدعه النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم وهكذا وصيّه أمير المؤمنين عليه السلام كما يشهد له ما مضى من الآثار.

ص: 189


1- دعائم الإسلام 359:1.

و قد عرفت اتخاذه صلى الله عليه و آله و سلم العيون فى السرايا و الغزوات كالبسيسة فى بدر الكبرى، وأنساً ومؤنسا و الحبّاب بن المنذر فى غزوة اُحد، وحذيفة فى غزوة الخندق، وبريدة بن الخصيب الأسلمى فى غزوة المريسيع، و بسر بن سفيان فى غزوة الحديبية، وغيرهم فى غيرها من الغزوات و السرايا.

كما عرفت أيضاً اتخاذ علىّ عليه السلام ذلك بالنسبة إلى مخالفيه ممّن نقض عهده وحرب معه، ولذا كتب إلى قثم بن العبّاس عامله على مكّة: أمّا بعد فإنّ عينى بالمغرب كتب إلىّ يعلمنى انه وجّه إلى الموسم اُناس من أهل الشام إلى أن قال: فأقم على ما فى يديك قيام الحازم الصليب(1).

و كتب إلى عمّاله بعد هرب خرّيت أحد بنى ناجية نحو البصرة: أمّا بعد فإنّ رجالاً لنا عندهم تبعة خرجوا هرّاباً و نظنّهم خرجوا نحو بلاد البصرة، فاسأل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون فى كل ناحية من أرضك مّ اكتب إلىّ بما ينتهى إليك عنهم، والسلام(2).

وهكذا تشهد الآثار على أنّ القوّة التنفيذية العمّال كانوا مورد المراقبة، ولذا كتب علىّ عليه السلام إلى عمّاله بالتهديد و النصيحة بعد ما أخبرته العيون.

و قد مضى ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى عبدالله بن عبّاس و المنذر بن جارود و أبى موسى الأشعرى وزياد بن أبيه و عثمان بن حنيف ومصقلة بن هبيرة وكعب بن مالك، وغير ذلك.

وأيضاً تشهد الآثار أنّ القضاة و الشهود كانوا مورد المراقبة.

منها: ما ورد فى شريح من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا رأى انحرافه فى الحكم قال

ص: 190


1- نهج البلاغة: 407، الكتاب 33.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 128:3-130.

له: «هيهات يا شريح هكذا تحكم فى مثل هذا»(1)؟ ومنها: ما ورد عن النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه إذا جاءه المدّعى بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان، أين سوقكما؟ فيصفان، أين منزلكما؟ فيصفان، ثم يقيم الخصوم و الشهود بين يديه، ثم يأمر فيكتب أسامى المدّعى و المدّعى عليه و الشهود، و يصف ما شهدوا به، ثمّ يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، ثم يقول: ليذهب كلّ واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما و أسواقهما و محالّهما و الربض الذى ينزلانه فيسأل عنهما، فيذهبان و يسألان...(2) الخبر، و أيضاً تدلّ الآثار المرغّبة نحو النقابة و العرافة على جواز اطّلاع النقيب عن الأحوال الشخصية ليخبر من فوقه بها عند الحاجة، و هو أيضاً يرتبط بمصلحة النظام دون المصلحة الفردية.

و أيضاً كان النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام مترصّدين بالنسبة إلى الإشكالات و الشبهات التى ترد من ناحية الكفار و المنافقين حتى يدفعونها بالحكمة والموعظة الحسنة. وكذلك كانوا مراقبة بالنسبة إلى إفساد المفسدين.

وبالجملة، يجب مراقبة كل شأن من شؤون المجتمع الإسلامى الذى يكون له دخل تام فى حفظ النظام الإسلامى و الدولة الإسلامية، وتلك المراقبة تتوقّف على مقدّمات، منها التجسّس، وعليه فالتجسّس لازم بلا كلام فى النظام الإسلامى كما يشهد له سيرة النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم وعمل الوصى عليه السلام وما أوصيا به من رعاية ذلك، كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك عدم اختصاص موارد جواز التجسّس بالأمور المربوطة

ص: 191


1- الكافى 371:7، ح 8.
2- الوسائل 175:18، ب 6، كيفيّة الحكم، ح 1.

بالنظام، بل يمكن التعدّى عن تلك الموارد إلى موارد اُخر ممّا يكون المصلحة فيها أهمّ من مفسدة التجسّس، كما إذا توقّف حفظ نفس محترمة على التجسّس عن أحوال شخص آخر.

فالضابط هو تقديم الأهمّ عند تزاحم حرمة التجسّس مع مصلحة اُخرى، وعلى هذا فموارد الاستثناء لاتنحصر فى عدد معيّن. كما ذكر الفقهاء بعض تلك الموارد فى باب الغيبة كدفع الضرر عن النفوس، و تهذيب الروايات عن روايات الفسّاق والفجور، و حسم مادة الفساد كفساد المبتدعين الذين يخاف من إضلالهم الناس، ورد من ادعى نسباً ليس له، وحفظ الأعراض و الأموال الخطيرة، ونجاة المظلوم، وتربية الأهل و الولد، كما يشهد له خبر الحسين بن موسى بن جعفر عليهما السلام(1).

ص: 192


1- راجع: قرب الاسناد: 331، ح 1230.

المقام التاسع: فى ارتكاب مقدّمات الحرام لغرض التجسّس:

لا يخفى عليك أنّ حرمة التجسّس تصير شأنية لا فعلية عند تزاحمها مع الأهمّ ، فيجوز حينئذٍ التجسّس إذا كان للتجسّس مقدّمات محلّلة، و إلّا فلا يجوز التجسّس بارتكاب مقدّمات الحرام.

نعم، لو توقّف التجسّس المتوقّف عليه الأهمّ ، على ارتكاب المقدّمات المحرمة، فحرمتها أيضاً تصير شأنية، فيجوز ارتكابها حفظاً للأهمّ بحكم العقل.

و يؤيّد ذلك ما روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فى مخاطبته مع المرأة التى أخفت كتاب حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكّة فى عقيصتها: «أما و الله لئن لم تخرجى الكتاب لأكشفنك ثمّ لأضربن عنقك»(1)، بناءً على انحصار المقدّمة فى كشف المرأة بوسيلة الأجنى، وبناء على أنّ كشف المعلوم الإجمالى أيضاً تجسّس؛ لعلمه عليه السلام بالكتاب.

وما روى عنه عليه السلام فى اُمّ أنكرت بنوّة ولدها لتمنعه عن الإرث، أنّه قال: أين قنبر؟ فأجابه: لبّيك يا مولاى، فقال له: امض و أحضر الامرأة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فمضى قنبر و أحضرها بين يدى الإمام، فقال لها: ويلك لم جحدت ولدك ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بكرليس لى ولد، ولم يمسسنى بشر، قال لها: لا

ص: 193


1- الإرشاد 56:1.

تطيلى الكلام أنا ابن عمّ البدر التمام، وأنا مصباح الظلام، و أنّ جبرئيل أخبرنى بقصّتك، فقالت: يا مولاى أحضر قابلة تنظرنى، أنا بكر عاتق أم لا، فأحضروا قابلة أهل الكوفة، فلمّا دخلت بها أعطتها سواراً كان فى عضدها، وقالت لها: اشهدى بأنّى بكر، فلمّا خرجت من عندها، قالت له: يا مولاى إنّها بكر، فقالغ عليه السلام: كذبت العجوز، يا قنبر فتّش العجوز وخذ منها السوار، قال قنبر: فأخرجته من كتفها(1).

ومن المعلوم أنّ نظر القابلة إلى عورة المرأة المنكرة أو مسّها محرّم، وكذلك تفتيش قنبر بدن العجوز مع المسّ و النظر حرام، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التفتيش لا ينحصر فى نظر قنبر و مسّه بل يمكن بوسيلة المرأة الاُخرى، وأيضاً قوله: فأخرجته من كتفها لايدلّ على أنّ قنبر أخرجه، بل يحتمل أن يكون المخرج نفس القابلة.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ تحليل المحرّمات لا يجوز بمجرّد توقّف كل مقصود عليه كما شاع القول بأنّ الهدف يبرّر الوسائل، وبنى عليه المستكبرون من الكفّار، بل يختصّ التحليل بما إذا توقّف الأهمّ الذىِ لا يرضى الشارع بتركهكحفظ النظام الإسلامى أو الدين ونحوهما على ارتكاب بعض المحرّمات، لاكل مقصود ومطلوب ولو لم يكن بحيث لا يرضى الشارع بتركه، أو كانمن الأغراض الباطلة، فإطلاق القول المذكور أعنى الهدف يبرّر الوسائلممنوع جدّا و لو كان ارتكاب بعض المحرّمات فى صورة انحصار المقدّمات فى المحرمة موجباً لضعف دين المرتكب، فلا يجوز له ارتكاب ذلك، بل اللازم هو أن يحوّل ذلك إلى غيره من العيون.

ولو توقّف الغرض الأهمّ على التجسّس بالمقدّمة المحرّمة، فاللازم هو الاقتصار على مقدار الضرورة، فلا يجوز ارتكاب الزائد عليه؛ لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها.

ص: 194


1- مستدرك الوسائل 392:17-394، ب 17، كيفيّة الحكم، ح 7.

ولو توقّف الغرض الأهمّ على التجسّس بالمقدّمة المحرّمة، فأقدم على ارتكابها ثمّ بان عدم انحصار المقدّمة فى المحرمة، فلا يجوز له إدامة الارتكاب.

ولو علم بأنّ ارتكاب المقدّمة يوجب ضعفاً فى دينه، ولكن أمره به مَن فوقه رئيسه فلا يجوز له ارتكاب ذلك؛ لأنّ علمه حجّة عليه، بل لا يجوز لمن فوقه أمره بذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.

ثمّ إنه لا يجوز للعيون أن يخبروا الكفار بما علموا من أسرار النظام الإسلامى إلّا إذا اُكرهوا، فيجوز مع الإكراه ما لم يخف من إفشاء الأسرار على الإسلام والمسلمين، و إلّا فلا يجوز لأهمية حفظ الإسلام و المسلمين.

و إذا علم العين الأسير أنّه لا يتحمّل الضغط و أذية الكفّار فيفشى الأسرار التى خيف مع إفشائها على الإسلام و السلمين فهل يجوز له الانتحار فى تلك الصورة أعنى صورة تعرّض الإسلام و المسلمين للخطر، أو صورة الخوف على نفس النبى و الوصى عليهما السلام أو لا يجوز؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنّه يجوز دفعاً للخطر الأهمّ .

وثانيهما: أنّه لا يجوز؛ لحرمة قتل النفس، فعليه أن لا يفش ولايقتل نفسه، نعم إذا كان التكليف بعدم الافشاء تكليفاً لا يطاق فلا حسن لخطاب لا تفش، ومع سقوط خطابه يقدّم جانب الأهمّ الذى لا يرضى الشارع بتركه، و هو فى الحقيقة يصير من مصاديق الدفاع عن الإسلام، فافهم.

ص: 195

المقام العاشر: فى اختيارات العيون و دائرة عملهم:

ولا يخفى عليك أنّ الجواسيس مأمورون من ناحية الحاكم الشرعى أو القضاة، فلا يجوز لهم أن يتعدّوا عن موارد الرخصة، فإذا تعدّوا صاروا فاسقين.

فلا يجوز لهم الدخول فى دار بلا مجوّز شرعى، كما لا يجوز لهم التدخّل فى اُمور خارجة عن حدود اختياراتهم، فإذا كانوا مأمورين للاستخبارات الحربية فلا يجوز لهم التدخّل فى الاُمور الاقتصادية ونحو ذلك.

وبالجملة، شأنهم هو الاستخبار فى دائرة المأذون فيه ولا يجوز التجاوز عنها، كما لا يجوز لهم تعزير المسلم المتّهم من دون مجوّز شرعى من القاضى أو الحاكم الشرعى؛ لانه ظلم وتجاوز.

نعم، إذا توقّف حفظ النظام الإسلامى ودفع الفتنة على التعزير يجب على الحاكم أن يرخّص فيه، كما يجب على المتّهم إعلام ما عنده ممّا له مدخلية فى دفع الفتنة وحفظ النظام الإسلامى.

ولا ينافى ذلك ما ورد من منع الضرب كخبر الوشاء، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لعن الله من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه»(1).

وكصحيح الحلى عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ أعتى

ص: 196


1- الوسائل 11:19، ب 4، قصاص النفس، ح 3.

الناس على الله عز و جلّ من قتل غير قاتله، ومن ضرب من لم يضربه»(1).

لأنّ هذه الروايات منصرفة عن صورة التزاحم وعروض العناوين الثانوية كحفظ النظام.

و يويّده ما رواه فى المغازى: انه بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام فى مئة رجل إلى حئ سعد بفدك، وبلغ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنّ لهم جمعاً يريدون أن يمدّوا يهود خيبر، فسار الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الهَمَج ماء بين خيبر وفدك، فأصاب عينا، فقال: ما أنت ؟ هل لك علم بما وراءك من جمع بنى سعد؟ قال: لاعلم لى به، فشدّوا عليه، فأقرّ انه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرضى على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم ؟ قال: تركتهم، و قد تجمّع منهم مئتارجل و رأسهم وبربن عُلَيم.

قالوا: فسر بنا حتى تدلّنا، قال: على أنّ تؤمنونى، قالوا: إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم آمناك، و إلّا فلا أمان لك، قال: فذاك، الحديث(2).

و القضية فى واقعة ولم يعلم أنّ الشدّة من الضرر أو التهديد و التضييق.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ سنخ عملية المراقبة يختلف بحسب اختلاف الأقوام والأفراد، فمراقبة الكفار مقرونة بالشدّة و الغلظة و الخشونة بعكس مراقبة العمّال والقضاة و أفراد الأمّة الإسلامية، فإنّها مقترنة باللطف و الكرامة كما قال الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ (3).

فلا يجوز إعمال سنخ المراقبة للكفار مع العمال و القضاة و أفراد الاُمّة الإسلامية إلّا عند الضرورة، فيجوز مع حكم الحاكم الإسلامى أو القاضى، كما عرفت.

ص: 197


1- المصدر السابق: ح 1.
2- المغازى 562:2. الاستخبارات و الأمن 344:3.
3- الفتح: 29.

ولذلك يلزم النظر إلى أعمال المراقبين من قبل جمع آخر، حتى لا يتجاوزوا عن حدود و دائرة اختيارانهم. وهكذا يلزم أن يعيّن لهم حدود عملية المراقبة و كيفيّتها من الحاكم أو القاضى؛ لئلّا يدخل أحد منهم فيما لا يجوز له. ومع محدودية العملية بالحدود الشرعية فلا يجوز تفويض الأمر إليه ولا ترخيصه المراقب فيما يراه كما هو المرسوم فى استخبارات الحكومات الاستكبارية والاستبدادية.

ثمّ اعلم أنّه لا حجّيّة فى الإقرار والاعتراف الحاصل بالتعزير فيما لايفيد العلم، كما هو ظاهر الأصحاب، ويشهد له الأخبار:

منها: صحيحة سلمان بن خالد قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب، فجاء بها بعينها، هل يجب عليه القطع ؟ قال: «نعم، ولكن لو اعترف ولم يجىء بالسرقة لم تقطع يده، لأنّه اعترف على العذاب»(1).

ولعل مفروض الرواية هو صورة عدم احتمال كون المال فى يده من غير جهة السرقة، ولذلك عمل بالرواية جماعة بخلاف الحلّن و المتأخّرين من جهة احتمال كون المال فى يده من غير جهة السرقة(2).

وكيف كان، فالرواية تدلّ على عدم اعتبار اعتراف من اعترف بالتعزير.

ومنها: خبر أبى البخترى عن أبى عبدالله عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «من أقرّ عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه»(3).

لا يقال: إنّ مورد الأخبار المذكورة هو الحدود، فلا تدلّ على عدم حجّية الإقرار والاعتراف فى غيرها.

لأنّا نقول: عموم التعليل المستفاد من قوله «لأنّه اعترف على العذاب» يكفى

ص: 198


1- الوسائل 497:18، ب 7، حدّ السرقة، ح 1.
2- انظر: جواهر الكلام 525:41.
3- الوسائل 497:18، ب 7، حدّ السرقة، ح 2.

للتعدّى عن مورد الحدود.

هذا مضافاً إلى عموم قوله عليه السلام: «رفع... وما استكرهوا عليه»(1) بناءً على عدم اختصاصه بالأحكام التكليفية.

ثم لا يذهب عليك أنّ موارد تجويز الحاكم للتعزير تختصّ بحفظ النظام ورفع الفتنة أو إحقاق حقّ من حقوق عامّة الناس.

و أمّا التعزير للإقرار بالزنى أو اللواط أو شرب الخمر ونحوها من المعاصى التى تكون من حقوق الله تعالى المحضة فلا يجوز، ولا يكون اعترافه موضوعاً للأثر، بل اللازم على المسؤولين هو ستر المعاصى فيما إذا لم يلزم منه الإفساد و الإخلال بالنظام.

ثم إنّ دائرة استخبارات العيون فى الإسلام كما تدلّ عليه بعض الأخبار لا تنحصر فى الجوانب السلبية، بل اللازم هو أن يخبروا بحسن عمل العمّال و الولاة والمجاهدين وغيرهم، حتى يجزوا بأحسن الجزاء، بل اللازم فى زماننا هذا الاشراف على المجالات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و غيرها، حتى لا يضعف النظام الإسلامى فى قبال الأنظمة الاستكبارية، ولا يتأخّر عن سائر الدول فى المجالات المختلفة.

وعليه فقد اتضحت سعة دائرة أعمال و اختيارات العيون وعدم اختصاصها بالسلبيات، فالتفتيش له معنى خاصّ ، و هو التفتيش عن الموارد السلبية و المحرّمات، ومعنى عام بحيث يشمل التفتيش عن الايجابيات و المحسنات، وما سبقت إليه يد الأعداء من الاكتشافات و التحقيقات و المنتوجات ونحوها، ومقتضى وجوب حفظ النظام هو التفتيش عن كليهما؛ لدخلهما فى حفظ النظام واستحكامه.

لا يقال: التفتيش عن حسنات الأشخاص مع كراهتهم عن كشفها محرّم؛

ص: 199


1- مستدرك الوسائل 423:6، ب 26، ح 1.

لكونه غيبة.

لأنّا نقول: التفتيش عن المحسنات لا حرمة له وإشاعتها ليست غيبة؛ لأنّ الغيبة منصرفة إلى العيوب، ولا تشمل الكمالات و المحسّنات.

نعم، لوكانت الإشاعة موجبة لإيذاء صاحبها المسلم فلا يجوز من جهة حرمة الإيذاء.

لا يقال: إنّ التفتيش عن التحقيقات و الاكتشافات ينافى حقوق أصحابها؛ لاختصاصها بهم.

لأنّا نقول: بناء على تعلّق الحق بها لا يجوز ذلك فيما إذا كان له احترام كالمسلم، و أمّا الكفّار الحربيّين وغير المعاهدين فلا حرمة لهم.

نعم، لو امتنع المسلم عن بذل التحقيقات و الاكتشافات، وكان رفع ضرورة النظام أو الحرج النوعى موقوفاً على الاطلاع عليها جاز للحاكم أو القاضى الترخيص فى كشفها، فلا تغفل.

ص: 200

المقام الحادى عشر: فى مواصفات العيون:

و قد عرفت دلالة الأخبار على أوصافهم، كالشجاعة و الأمانة و القول بالحقّ والصدق و الوثوق و الوفاء وغيرها.

ومن المعلوم أنّ هذه الأوصاف تكون من الأوصاف المقوّمة فى العيون الإسلامية؛ إذ لا يتمكّن الجبان من الإتيان بالأخبار الصحيحة، كما لا اعتماد على صدق من لم يكن من أهل الصدق و القول بالحقّ ، ولا اطمئنان بغير الأمين فى حفظ الأسرار وعدم إشاعتها وعدم التعاون مع الأعداء و المخالفين.

فاللازم هو انتخاب أشخاص يتّصفون بالأوصاف المذكورة ونحوها، و إلّا لا يتمكّنون من النهوض بأعباء هذه المسؤولية، ولا يمكن الاعتماد و الركون إليهم.

قال النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم: «استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها»(1).

نعم، الدرجات الزائدة على حدّ النصاب اللازم تكون من الشروط الكمالية، والنصاب اللازم يعرف بما لو لم يكن للزم الاخلال بالمسؤولية.

و بالجملة: عمل العيون عمل خطير وله مساس بالأعراض و النفوس، فلا يجوز استخدام من لا يكون واجداً للشرائط المذكورة، بل اللازم أن يكونوا ذوى فراسة ومهارة وحدّة حتى يصلوا إلى أعماق الاُمور ويواطنها.

ص: 201


1- الأصناف: 148. ماية المرتبة: 12. الاستخبارات و الأمن 217:3.

كما ينبغى أن يبذل الجهد فى استخدام من كان مهذباً من الحقد و الحسد والبغضاء و العداوة ومن الرذائل الأخلاقية ليكون فى عمله ناصحاً للإسلام والمسلمين.

ثم إنّ من كان أفضل فى الصفات المذكورة يجب ترجيحه على غيره، ومن لم تجتمع فيه الصفات المذكورة فهو متأخّر عن غيره ممّن تجتمع فيه الصفات. ولو لم يكن غير من لم تجتمع فيه الصفات، فيقتصر على من كان قوله أقرب للواقع، فمثلاً الثقة مقدّم على الشجاع ونحوه، فإنّ الموثّق يرشد إلى الواقع، والشجاع الذى يكذب لا يرشد غالباً إلى الواقع، فقول الموثّق أقرب إلى الواقع، اللّهمّ إلّا أن تكون قرينة فى بعض الموارد تدلّ على أنّ الشجاع قوله أقرب إليه، لكنّه تابع لوجود القرينة المذكورة.

لا يقال: إنّ الأخبار التى تأتى بها العيون تقع فى النهاية مورد التحقيق عند من هم أعلى رتبة منهم، فلا حاجة إلى كون العيون موثقين وواجدين للصفات المذكورة، ولذا كثيراً ما يستفاد من استخبارات الأعداء من الكفّار و الدول الأجنبية مع انّهم كفّار وغير موثقين.

لأنّا نقول: المعتبر هو الوثوق الخبرى لا المخبرى، و إذا لم يكن وثوق خبرى كانت مظانّ الاشتباه كثيرة حتى فيمن كانوا فوق العيون. والاشتباهات الكثيرة فى هزه المسؤولية الخطيرة مضرّة بالنظام الإسلامى. هذا مضافاً إلى أنّ عمل العيون له مساس بالأعراض و النفوس، ومقتضى الاحتياط فيها اعتبارالصفات المذكورة، ولا ينافى ذلك استفادة من كان فوقهم رتبة من أخبار غير الثقات و التشكيلات الاستخبارية مع انّهم غير واجدين للصفات المذكورة.

ص: 202

المقام الثانى عشر: فى كيفيّة الإخبار:

لا يخفى عليك أنّ كيفيّة الإخبار تكون مشروطة باُمور:

منها: أن لا يخبر العين بما اطلع عليه إلّا لمن كان مأذوناً؛ إذ الإخبار لغيره ربّما يوجب الضعف و الوهن أو إشاعة الفحشاء، فيحرم التخلّف عن مورد الإذن، و قد أمر النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم الحبّاب بن النذر قائلاً: «لا تخبرنى بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى فى القوم قلّة»(1).

وليس ذلك إلّا لكون الإخبار فى العلن يوجب ضعفاً ووهناً فى المجتع الإسلامى. وهكذا أمر النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم خوّات بأن يخبره دون غيره؛ حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«فانظر هل ترى لهم غرّة أو خللاً من موضع فتخبرنى»(2).

فالواجب على العيون هو التحفّظ عن غير المأذون فى إخبارهم و إلّا كانوا آثمين وفاسقين فى إيجاد الوهن و الضعف و إشاعة الفحشاء و الغيبة؛ لأنّهم خرجوا بذلك عن دائرة المشروع وابتلوا بحرمة الغيبة وإشاعة الفحشاء.

ومنها: أن يكمل الإخبار بجميع ما رآه لاحتمال دخله فى تصميم الوالى أو المسؤول، فلو أخلّ به كان مسؤولاً.

ص: 203


1- المغازى 207:1.
2- المصدر السابق 460:2.

ومنها: أن لايزيد فيما رآه، بل يخبر بما رآه على ما هو عليه.

ومنها: أن لا يهمل ما رآه من جهة القرابة أو المودّة أو غير ذلك.

ومنها: أن يعيّن الرئيات و المسموعات ولا يخبر بالمسموعات كالمرئيات، وهكذا يعيّن اليقينيات و الظنيات ولا يخلطهما.

ص: 204

المقام الثالث عشر: فى استخبار المسلم للأعداء:

ولا إشكال فى كون ذلك خيانة وعمل محرّم، كما دلّت عليه الآية الكريمة: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَخُونُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1). هذا مضافاً إلى أنّ اتّخاذ الكفّار أولياء وبطانة حرام كما يشهد له قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ (2).

ربّما يقال: إنّ التجسّس للأعداء ارتداد. ولكنّه ممنوع؛ لأنّ التجسّس للأعداء أعمّ من الارتداد، و يؤيّده إطلاق المؤمن على حاطب فى الآية الثانية مع أنّه تجسّس لقومه الكفّار، وعل أبى لبابة فى الآية الاُولى مع أنّه حين استفسر منه بنو قريظة ماذا يصنع رسول الله بهم ؟ أشار بيده إلى عنقه، أى انه سيضرب أعناقهم.

فالتجسّس المذكور لا يوجب خروج الجاسوس عن الإسلام و الإيمان، لإمكان أن يقصد بذلك النيل من مال ونحوه، لا الإعراض عن الإسلام، نعم هو حرام ويوجب استحقاق التعزير و هو الظاهر من عبائر الأصحاب.

قال الشيخ فى المبسوط: «و إذا تجسّس مسلم لأهل الحرب وكتب إليهم فاطلعهم على أخبار المسلمين لم يحل بذلك قتله؛ لأنّ حاطب بن أبى بلتعة كتب إلى

ص: 205


1- الأنفال: 27.
2- الممتحنة: 1.

أهل مكّة كتاباً يخبرهم بخبر المسلمين فلم يستحل النبىّ قتله، وللإمام أن يعفو عنه وله أن يعزّره؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم عفا عن حاطب»(1).

قال العلّامة فى القواعد: «ولو تجسّس مسلم لأهل الحرب وأطلعهم على عورات المسلمين لم بحل قتله، بل يعزّر إن شاء الإمام»(2).

ومثله فى إيضاح الفوائد(3)، وجامع المقاصد(4).

ربّما يستدلّ لجواز القتل بتقرير النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم لعمر بن الخطاب حيث قال: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فأجاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بوجود المانع، فإنّ هذا الجواب يشير إلى أنّه لولا المانع لاستحق القتل، وحيث إنّ تحقيق ذلك يحتاج إلى ملاحظة القصّة نذكرها ملخصاً كما يلى:

... فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له:

هل تعرف الكتاب ؟ قال: نعم، قال: فما حملك على ما صنعت ؟ قال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهممنذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته وكنت عريراً (غريباً) فيهم، وكان أهلى بين ظهرانيهم فخشيت على أهلى فأردت أن أتّخذ عندهم يدا، و قد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه و أنّ كتابى لا يغنى عنهم شيئا فصدّقه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وعذره، فقام عمر بن الخطاب وقال: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما

ص: 206


1- المبسوط 15:2. و مثله فى جواهر الفقه: 51.
2- قواعد الأحكام 111:1.
3- ايضاح الفوائد 379:1.
4- جامع المقاصد 437:3.

شئتم فقد غفرت لكم(1).

وغير ذلك من المصادر و المراجع الكثيرة التى استدلّ بها فى (الاستخبارات والأمن) على جواز القتل بدعوى أنّ عفوه صلى الله عليه و آله و سلم عنه بسبب سابقته و مشاركته فى بدر، وعدم اعتراضه صلى الله عليه و آله و سلم على عمر فى إرادة القتل، ممّا يوحى بأنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أقرّ عمر على إرادة القتل لولا وحود المانع و هو المشاركة فى بدر(2).

وهكذا استدلّ بها عليه فى (الاستخبارات العسكرية) بأنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أقرّ عمر على إرادة القتل لولا وجود المانع و هو شهود غزوة بدر، فهذه العلّة هى المانعة من قتل حاطب، فإذا لم تتوفّر هذه العلّة فى غيره كان قتل الجاسوس مشروعاً لا مانع منه، و هذه العلّة وهى شهود بدر لا تتوفر فى غير عصر النبوة، ولذا فإنّ الجاسوس المسلم الذى يفشى أسرار المسلمين للأعداء يقتل لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد فى الأرض، و ربّما كان بعمله هذا أضرّ على المسلمين من المحاربين أنفسهم(3).

ويشكل ذلك بأنّ تصديق النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم حاطب بن أبى بلتعة وقبول عذره قبل قول عمر، ممّا يشهد على أنّه لا يستحقّ القتل، فلا مورد للاستجازة فى القتل ممّن له أدنى معرفة، وعليه فقوله صلى الله عليه و آله و سلم: وما يدريك... إلخ ردع لعمر.

أمّا دعوى النفاق لحاطب، فإنّ سابقته فى بدر واعتذاره بما صدّقه النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم ينافيكونه من المنافقين.

لا يقال: إنّ نفى الصغرى لا ينافى تقرير الكبرى المطوية، فإنّ قول عمر مركب من صغرى مذكورة وهى أنّ حاطب منافق، وكبرى مطوية وهى أنّ المنافق يقتل، و الرسول العظيم ردعه فى الصغرى لا الكبرى، فهى تكفى فى إثبات جواز قتل

ص: 207


1- مجمع البيان 269:9-270، ط - المكتبة العلمية. الإرشاد 56:1-59.
2- الاستخبارات و الأمن 373:3-375.
3- الاستخبارات العسكرية: 230.

المسلم الجاسوس.

لأنّا نقول: الكبرى المطوية ليس أنّ الجاسوس المسلم يكون منافقا بل هى أنّ المنافق يقتل، ولا تنافى تلك الكبرى مع عدم صيرورة الجاسوس بنفس التجسّس من المنافقين، إذا كان له دواع اُخركدواعى حاطب بن أبى بلتعة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن فى مقام بيان الكبرى المطوية حتى يؤخذ بإطلاق بيانه.

وكيف كان، فالقصّة المذكورة لا تدلّ على جواز قتل الجاسوس المسلم بمجرّد استخباره للأعداء، كما لا تدلّ على عدم جواز قتله حتى فيما إذا كان معنوناً بعنوان المفسد فى الأرض ونحوه ممّا يجوز قتله، بناء على كون الافساد موضوعاً لجواز القتل كما يظهر من بعض الأصحاب فى بعض الموارد كاعتياد المولى قتل عبيده، وعليه بناء العقلاء.

و ممّا ذكر يظهر ما فى تمسّك الشيخ ومن تبعه رحمهم الله بقصّة حاطب على عدم جواز قتل الجاسوس المسلم من دون تفصيل فلا تغفل.

ثمّ لا فرق فى حرمة التجسّس للأعداء بدون واسطة أو بواسطة حكومة تابعة للكفّار كالحكومات الرائجة الإسلامية فى غير بلدنا.

ص: 208

المقام الرابع عشر: فى الجاسوس الكافر الغير الذمّى و من يلحق به:

ولا يخفى عليك أنّ الجاسوس الكافر سواء اختفى فى جماعة المسلمين أو استأمن ثمّ تخلّف و تجسّس للكفار محكوم بالقتل لانه حربى، ولا أمان له بعد التخلّف وصيرورته جاسوسا بل يجب قتله فيما إذا خيف على النظام الإسلامى من جهة إفشاء الأسرار وعورات المسلمين.

و يؤيّد ذلك:

1 - ما رواه البخارى، عن اياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: أتى النبى صلى الله عليه و آله و سلم عين من المشركين و هو فى سفر، فجلس عند أصحابه يتحدّث ثم انفتل، فقال النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم: «اطلبوه واقتلوه» فقتله (أبى) فنَفّله النبى صلى الله عليه و آله و سلم سَلَبه(1).

2 - وما رواه أبو داود من أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقتل فرات وكان عيناً لأبى سفيان، وكان حليفاً لرجل من الأنصار فمرّ بحلقة من الأنصار، فقال: إنّى مسلم، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله، إنّه يقول: إنى مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان»(2).

ص: 209


1- صحيح البخارى 31:4، ط - دار الفكر. الاستخبارات و الأمن 369:3.
2- سنن أبى داود 48:3، ط دار إحياء التراث. الاستخبارات و الأمن 370:3-371، و غيرهما من المصادر.

3 وخبر الدعائم، عن أبى جعفر عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فى حديث أنّه قال:

«والجاسوس و العين إذا ظفر بهما قتلا» كذلك روينا عن أهل البيت عليهم السلام(1).

4 - وما رواه الواقدى فى غزوة المريسيع لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بِبَقعاء أصاب عيناً للمشركين، فقالوا له: ما وراءك ؟ أين الناس ؟ قال: لا علم لى بهم إلى أن قال:

قال عمر بن الخطّاب: لتصدقن أو لأضربن عنقك، قال: فأنا رجل من بنى المصطلق تركت الحارث بن أبى ضرار قد جمع الجموع وتجلّب إليه ناس كثير وبعثنى إليكم لآتيه بخبركم وهل تحركتم من المدينة ؟ فأتى عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر فدعاه رسول الله إلى الإسلام وعرضه عليه، فأبى وقال: لست بمتّبع دينكم حتى أنظر ما يصنع قومى، إن دخلوا فى دينكم كنت كأحدهم و إن ثبتوا على دينهم فأنا رجل منهم، فقال عمر: يا رسول الله، أضرب عنقه ؟ فقدّمه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فضرب عنقه(2).

5 - وما رواه فى السيرة الحلبية من أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم أصاب عيناً للمشركين فسأله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عنهم فلم يذكر من شأنهم شيئا فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه، فضرب عنقه(3).

ثمّ لا يخفى عليك أنّه لو أسلم الجاسوس الكافر لا يجوز قتله لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، ولكن لا يرسل إن خيف عليه من إفشاء أسرار النظام الإسلامى حفظاً للنظام حتى يزول الخوف المذكور.

و يلحق بالجاسوس الكافر من كان جاسوساً من قبل البغاة الذين كانوا

ص: 210


1- دعائم الإسلام 398:1. مستدرك الوسائل 98:11، ب 39، جهاد العدو، ح 2.
2- المغازى 406:1. السيرة الحلبية 92:2، ط - دار إحياء التراث. الاستخبارات و الأمن 3: 271-272، و غيرها من المصادر.
3- السيرة الحلبية 92:2. الاستخبارات و الأمن 436:3.

كالكفار فى جواز مقاتلتهم؛ لأنّه من فئة البغاة 6 - وذكر المؤرّخون انه لمّا بلغ معاوية بن أبى سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة الناس ابنه الحسن عليه السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بنى القين إلى البصر ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن عليه السلام الاُمور، فعرف ذلك الحسن عليه السلام، فأمر باستخراج الحميرى من عند لحّام بالكوفة، فاُخرج و أمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القينى من بنى سليم، فأخرج وضربت عنقه(1).

7 - و يؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البلاذرى من أنّ نعيم بن هبير أخو مصقلة من شيعة علىّ عليه السلام... كتب إليه أخوه مصقلة: أن صر إلىّ فقد كلّمت معاوية فى تأميرك واختصاصك و وطأت لك عنده ما تحبّ ، و بعث بالكتاب مع نصرانى من نصارى بنى تغلب يقال له جلوان، فظهر على عليه السلام عليه وعلى الكتاب، ورفع إليه أيضاً أنّه يتجسّس، فأمر به فقطعت يده فمات(2).

ولعلّ المشديد المذكور لدفع الاخلال بالنظام.

ص: 211


1- بحار الأنوار 45:44. شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 31:16. الإرشاد 9:2، وغيرها من المصادر.
2- أنساب الأشراف 418:2. تاريخ الطبرى 130:5. بحار الأنوار 417:33.

المقام الخامس عشر: فى الجاسوس الذمّى:

ولا يخفى عليك أنّ الجاسوس الذمّى يخرج بفعل ما ينافى الأمان عن الذمّة، كإمداد المشركين فى الحرب و العزم على حرب المسلمين، سواء شرط ذلك فى عقد الذمّة أو لا، كما هو الظاهر من كلمات الأصحاب:

منها: ما فى المنتهى حيث قال: «الثانى: ما لا يجب شرطه، لكنّ الإطلاق يقتضيه، و هو أن لا يفعلوا ما ينافى الأمان من العزم على حرب المسلمين وإمداد المشركين بالمعاونة لهم على حرب المسلمين، لأنّ إطلاق الأمان يقتضى ذلك فإذا فعلوه نقضوا الأمان؛ لأنهم إذا قاتلونا وجب علينا قتالهم، و هو ضدّ الأمان، و هذان القسمان ينتقض العهد بمخالفتهما، سواء شرط ذلك فى العقد أو لم يشترط»(1).

ومنها: ما فى الرياض: «و زاد جماعة سادسا و هو أن لا يفعلوا ما ينافى الأمان مثل العزم على حرب المسلمين و إمداد المشركين، و إنّما لم يذكره الماتن هنا وكثير لأنّه من مقتضيات العقد، ولذا لم يجب اشتراطه فيه كما فى المنتهى و ينتقض بالإخلال به ولو لم يشترط فيه»»(2).

ومنها: ما قاله فى الجواهر فى ذيل عبارة صاحب الشرائع: «ويخرجون عن

ص: 212


1- منتهى المطلب 969:2، ط - حجرى.
2- رياض المسائل 481:7، ط - جماعة المدرّسين.

الذمّة بمخالفة هذين الشرطين أى قبول الجزية، و أن لا يفعلوا ما ينافى الأمان مثل العزم على حرب المسلمين و إمداد المشركين بلا خلاف أجده فيهما، و استدلّ للأوّل بقوله تعالى: حَتّٰى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ (1)، وللثانى بأنّه مقتضى الأمان، ولعلّه لذا لم يذكره كثير منهم»(2).

و إذا عرفت ذلك.

فإن قلنا بأنّ التجسّس للمشركين ممّا ينافى الأمان فهو كالعزم على حرب السلمين وإمداد المشركين، فبمجرّد ثبوت كون الذمّى عيناً للمشركين صار خارجاً عن الذمّة ويترتب عليه حكم الحربى كما هو المحكىّ عن الشهيدين فى الدروس واللمعة، فإنهما ذهبا إلى انتقاض العهد بذلك و إن لم يشترط فى العقد.

و أمّا إن قلنا بأنّ التجسّس للمشركين مثل إيذاء المشركين للمسلمين كالزنى بنسائهم و اللواط بصبيانهم و السرقة لأموالهم، فالتجسّس مثلها فى أنّه لو كان تركه مشترطاً فى عقد الذمّة كان فعله نقضا و إلّا فهم على عهدهم و يفعل بهم ما تقتضيه جنايتهم من حدّ أو تعزير، كما هو ظاهر الشرائع. ونسبه فى الجواهر إلى غير واحد.

والظاهر هو الأوّل كما أفاده الشهيدان عليهما الرحمة؛ لأنّه ينافى الأمان.

ولكن أورد عليه فى الجواهر: بانه ليس فى شىء من الأدلّة اعتبار ذلك فى عقد الذمّة، بل مقتضى الإطلاق خلافه، نعم لو اشترط فيه نقض بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، بل فى بعض الكتب دعواه. و هو إن تمّ الحجّة، لا ما قيل من كونه مقتضى الشرطية التى لم يقع التراضى إلّا عليها؛ إذ قد يقال: إنّ مقتضى الشرطية إلزامهم به إن لم يفوا به كما فى غيره من العقود لا انتقاض العهد به، إلّا أنّ الظاهركون

ص: 213


1- التوبة: 29.
2- جواهر الكلام 267:21.

عقد الذمّة ليس كغيره من العقود التى لاتقبل التعليق، بل هو ضرب من العهد، فيجوز حينئذ تعليق الأمان و الذمّة على ذلك كالوصية العهدية والامارة ونحوهما، وحينئذ يتّجه الحكم بالنقض مع فرض وقوع العقد على هذا الوجه(1).

ولا يخفى عليك أنّ التجسّس للمشركين أو إيواء عين المشركين ممّا ينافى الأمان، وليس مثل الشروط الخارجية، بل هما داخلان فى مفهوم الذمّة؛ إذ معنى الذمّة هو أن يلتزم بكونه فى ظل الدولة الإسلامية ولم يكن ممدّاً للكفّار الحربيّين.

والتجسّس أو الإيواء للعيون من مصاديق الإمداد للكفّار الحربيّين، كما لا يخفى.

وعليه فلا حاجة فى إثباتهما إلى دليل آخر. فما ذهب إليه الشهيدان من انتقاض عقد الذمّة به هو الأقوى، و إن لم نقل بذلك فى غيره من الاُمور كالإيذاء و السرقة، فتدبّر جيّدا.

ربّما استدلّ لذلك بما رواه أبوداود فى سننه من أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقتل فرات باعتباره عيناً لأبى سفيان وكان يعيش فى كنف المسلمين و يعتبر من رعايا الدولة الإسلامية وكان يعمل جاسوساً لعدوهم، فلمّا عرف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أنّه ينقل أخبار المسلمين إلى عدوّهم أمر بقتله بسبب تجسّسه على المسلمين، ولكن عندما أعلن إسلامه أمر رسول الله (عليه الصلاة و السلام) برفع القتل عنه، فهذا يدلّ على جواز قتل الجاسوس الذمّى. و هذا يدلّ بوضوح على أنّ التجسّس ينقض العهد و يستوجب القتل؛ إذ لم يرفع حكم القتل عن فرات إلّا بإعلانه الإسلام(2).

ولكن لم يعلم أنّه ممّن شرط عليه فى عقد الذمّة بأن لايفعل ذلك أو لم يشرط عليه، فالخبر ساكت عنه، فالأولى هو الإعتماد على ما ذكرناه من أنّ مثل التجسّس أو

ص: 214


1- المصدر السابق: 268.
2- الاستخبارات العسكرية: 237-238.

الإيواء ينافى عقد الذمّة و الأمان عرفا ولا حاجة إلى دليل خاصّ ، فلا تغفل.

ثم إنّ التجسّس يتحقّق بكشف بواطن الاُمور ولو من ملاحظة الجرائد الداخلية ونحوها وإخبارها إلى أعداء الإسلام.

ص: 215

المقام السادس عشر: فى إعطاء الأمان للجاسوس:

فهل يجوز إعطاء الأمان للجاسوس فى مقابل إخباره عن اُمور الأعداء، أولا يجوز؟ إن لم يترتب على الأمان مفسدة فلا إشكال فى ذلك، بل يجب ذلك فى بعض الموارد؛ لأهمّية ما عنده من الأخبار.

و يؤيّده ما رواه الواقدى عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال لليهودى: ما وراءك ؟ ومن أنت ؟ فقال اليهودى: تؤمنّى يا أبا القاسم و أصدقك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: نعم، قال اليهودى: خرجت من حصن النّطاة من عند قوم ليس لهم نظام إلى أن قال اليهودى: يا أبا القاسم، احقن دمى، قال: أنت آمن، قال ولى زوجة فى حصن النّزار فهبها لى، قال: هى لك(1).

و يؤيّده أيضاً ما رواه الواقدى أنّه بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عليّا عليه السلام فى مئة رجل إلى حئ سعد بفدك... فأصاب عينا، فقال: ما أنت، هل لك علم بما وراءك من جمع بنى سعد قال: لا علم لى به، فشدّوا عليه، فأقرّ أنّه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم و يقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم ؟ قال: تركتهم و قد تجمّع منهم مئتا رجل ورأسهم وبر بن عليم.

ص: 216


1- المغازى 647648:2. الاستخبارات و الأمن 28:3.

قالوا: فسر بنا حتى تدلّنا، قال: على أن تؤمنونى، قالوا: إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم آمناك و إلّا فلا أمان لك، قال: فذاك(1).

ثمّ لا يخفى عليك انه لا فرق فيما ذكر بين جاسوس الكفّار وبين جاسوس البغاة ممّن يستحقّ القتل، بل يجوز فى الجاسوس المسلم الذى لا يستحقّ القتل إعطاء الأمان من التعزير أو الحبس أو التبعيد ونحو ذلك فى مقابل إخباره عن اُمور الأعداء.

ص: 217


1- المغازى 562:2-563. الاستخبارات و الأمن 344:3.

المقام السابع عشر: فى تبادل الاطّلاعات:

فهل يجوز إعطاء اطّلاع وأخذاطلاع آخر؟ إن كان المتبادل أمر كالاكتشافات و التحقيقات و الصناعات ونحوهافلا إشكال فى تبادلها، و إن كان من أسرار النظام وعورات المسلمين فلا يجوز إفشاؤها للغير، ولو كانت فى مقابل أخذ الاطلاعات، اللهمّ إلّا أن يكونالمأخوذ فى حدّ من الأهميّة تسقط معه حرمة الإفشاء، ولكن يقتصر فى الإفشاء على مقدار الضرورة، فلا يجوز الأزيد من ذلك.

ثمّ إنه هل يجوز مبادلة الاطلاعات بالمال كأن تعطى الدولة الإسلامية مالاً فى قبال أخبار أسرار العدو أم لا يجوز؟ و الظاهر أنّه يجوز من دون فرق بين كون المبادلة صلحاً أو جعالة و إجارة وغير ذلك، لجواز الصلح و الإجارة و الجعالة فى مثلها.

نعم ربّما يناقش فى صحّة البيع بأنّ المعتبر فى البيع عند العقلاء هو كون البيع عينا فلا يعمّ المنافع، ولذا عرّفوه بتمليك عين بعوض، والإجارة بانّها تمليك منفعة بعوض، ومن المعلوم أنّ الاطلاع والاخبار عمل، فلا يعتبر المبادلة عليه بالبيع، نعم يجوز بمثل الإجارة ونحوها.

هذا إذا كان مورد المعاملة نفس العمل الخبرى، و أمّا إذا كتب ما اطلع عليه وصاركالاسناد وياعه فلا إشكال فى صحّة البيع أيضا لأنّ المكتوب عين كسائر الكتب.

ص: 218

وعلى ما ذكر يجوز شراء الاطّلاعات من الأعداء بالنسبة إلى أعدائهم، كالدول الاوربية بالنسبة إلى دولة أمريكا وبالعكس. كما يجوز سرقتها واستنقاذها من الحربيّين وغيرهم ممّن لا معاهدة بينهم وبيننا، لعدم حرمة أموالهم وحقوقهم، نعم مع وقوع المعاملة معهم فى ذلك يكون مقتضى عموم أدلّة وجوب الوفاء عدم جواز الإخلال بالمعاملة.

ص: 219

المقام الثامن عشر: فى الضمان:

وهنا مسائل:

الاُولى: إذا أخبر شخص من العيون من دون تحقيق أنّ الشخص الفلانى قال كذا وكذا مع أنّه لم يقل إلّا هزلاً، فإن اعتمد عليه المقام المسؤول من دون تحقيق و إحراز سوء النيّة فى موارد يحتاج فيها إلى إحراز ذلك، فأورد على ذلك الشخص خسارات مالية أو بدنية، فلا إشكال فى معصية العين؛ للتسامح فى الاستخبار، و معصية المقام المسؤول فى الإقدام من دون إحراز سوء النية، و أمّا الضمان فهو على المباشر العامد لا على العين لعدم التغرير، بل على المباشر؛ لقوّته على السبب، ولكونه عامداً و مختارا.

الثانية: لوكذب العين وخدع فى إخباره عمداً فاعتمد عليه القاضى لوثوقه به وأورد على المتّهم خسارات مالية أو بدنية، فالعين عصى فى كذبه وخداعه وتغريره والقاضى لم يعص، ولا غرامة عليه؛ لأنّه لم يتسامح بل عمل بالضوابط، بل العين غارّ و هو ضامن؛ لأنّ المغرور يرجع إلى من غرّه كما هو المشهور، وعليه بناء العقلاء فى معاملانهم وسائر أعمالهم إذا تضرّروا بواسطة تغرير الغير إيّاهم، فإنّهم يرجعون إلى الغارّ فيما تضرّروا و يأخذون منه مقدار الضرر الذى صار سبباً لوقوع المغرور فيه(1).

ص: 220


1- راجع: القواعد الفقهية للشيخ مكارم الشيرازى 292:2.

و يشهد له فى الجملة الأخبار الواردة فى موارد خاصّة، منها: الروايات الواردة فى رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور لو رجع عن شهادته وكذب نفسه.

كصحيح جميل بن درّاج عن أبى عبدالله عليه السلام فى شاهد الزور، قال عليه السلام: «إن كان الشىء قائماً بعينه رد على صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما اُتلف من مال الرجل»(1).

وصحيح محمّد بن مسلم عن أبى عبدالله عليه السلام فى شاهد الزور ما توبته ؟ قال:

«يؤدى من المال الذى شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا وآخر معه»(2).

وصحيح جميل بن درّاج عمّن أخبره، عن أحدهما عليهما السلام، قال فى الشهود إذا رجعوا عن شهادنهم و قد قضى على الرجل: «ضمنوا ما شهدوا به وغرموا، و إن لم يكن قضى طرحت شهادنهم ولم يغرموا الشهود شيئاً»(3).

ثم إنّ الظاهر من المختصر النافع هو وجوب شهرة شاهد الزور و تعزيره بما يراه الإمام حسماً للجرأة(4)، و يدلّ عليه موثّق سماعة وخبر عبدالله بن سنان أنّ : «شهود الزور يجلدون جلداً (حدّاً)، وليس له وقت، وذلك إلى الإمام، ويطاف بهم حتى يعرفهم الناس...»(5).

بل لو شهدوا بالزور بما يوجب القتل أو القطع، ثم بعد إجراء القتل أو القطع ثبت انّهم شهدوا زوراً كان القود على الشهود من غير خلاف، ولا ضمان على الحاكم

ص: 221


1- الوسائل 239:18، ب 11، الشهادات ح 2 و 3.
2- المصدر السابق: 238، ح 1.
3- المصدر السابق: ب 10، الشهادات، ح 1.
4- راجع: المختصر النافع: 419، ط - موسّسة البعثة.
5- الوسائل 243:18 و 244، ب 15، الشهادات، ح 1 و 2.

الآمر ولا حدّ على المباشر للقتل. نعم، لو علم مباشر القتل بأنّ الشهادة شهادة زور كان عليه القود دون الشهود؛ لأنّ المباشرللقتل حينئذٍ يكون قاصداً للقتل عدواناً و ظلما فيثبت عليه القود(1).

و يدلّ عليه روايات، منها: معتبرة مسمع كردين عن أبى عبدالله عليه السلام، فى أربعة شهدوا على رجل بالزنى فرجم ثم رجع أحدهم، فقال: شككت فى شهادتى، قال:

«عليه الدية»، قال: قلت: فإنّه قال: شهدت عليه متعمّدا، قال عليه السلام: «يقتل»(2).

و بقيّة الكلام فى محلّه.

الثالثة: لو أخطأ العين فى إخباره من دون عمد و تسامح، واعتمد عليه القاضى لوثوقه به من دون مسامحة، فأورد على المتّهم خسارات بدنية أو مالية، يقع الكلام فى أنّ الفمان على العين أو على القاضى أو على بيت المال ؟ والظاهر من كلمات الأصحاب هو ضمان العيون كما اُشير إليه فى المختصر النافع حيث قال فى رجوع الشهود: «ولو قالوا: أخطأنا؛ لزمتهم الدية»(3).

و يدلّ عليه: حسنة محمّد بن قيس، عن الباقر عليه السلام، قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام فى رجل شهد عليه رجلان بانه سرق، فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق وليس الذى قطعت يده، إنّما شبهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية، ولم يجز شهادتهما على الآخر»(4).

هذا مضافاً إلى دعوى صدق الغارّ على الجاهل كالعامد، فتأمّل؛ لعدم ثبوت صدق الغارّ على الجاهل، ولا أقل من الشكّ فلا يصحّ التمسّك به فى مورد المشكوك.

ص: 222


1- مبانى تكملة المنهاج 19:2، المسألة 23 و 157:1، المسألة 123.
2- الوسائل 240:18، ب 12، الشهادات، ح 3.
3- المختصر النافع: 419، ط - موسّسة البعثة.
4- الوسائل 242:18، ب 14، الشهادات، ح 1. جامع المدارك 157:6.

و أمّا القاضى الجامع للشراظ فليس عليه شىء؛ لانه محسن ولم يكن مقصّرا فى الاجتهاد. و أيضاً ليس الضمان فى عهده بيت المال؛ لاختصاص الدليل بالخطأ فى الحكم كما صرّح فى الجواهر: «بأنه لو أخطأ فأتلف بأن حكم لأحد بمال أو على أحد بقصاص أو نحو ذلك، ثمّ ظهر أنّ الخطأ فى الحكم ولم يكن مقصّراً فى الاجتهاد لم يضمن؛ لأنّه محسن، وكان على بيت المالبلا خلاف أجده فيه نصّاً وفتوئ.

قال أمير المؤمنين عليه السلام فى خبر الأصبغ (المروى فى الفقيه): «ما أخطأه القضاة فى دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين»»(1).

فلا إطلاق لدليل كونه فى عهدة بيت المال، ولو سلّم الإطلاق فيكفى فى تقييده حسنة محمّد بن قيس ونحوها. كما لا يخفى، فيدلّ على ضمان الشهود.

نعم، يختصّ الضمان بما إذا استند القاضى إلى الشهادة المخطئة، و إلّا إذا لم يكن كذلك بل استند إلى غيرها من القرائن فالنصوص منصرفة عنه؛ لاختصاصها بصورة الاستناد، ولا استناد فى هذا الفرض إلى العيون، بل يشمله دليل كون خطأ القاضى فى عهدة بيت المال.

بل يمكن أن يقال: إنّ اخبار العيون ليست فى جميع الموارد من باب الشهادة الاصطلاحية؛ إذ لاتنحصر فى المحسوسات أو الحدسيات القريبة إليهاحتى تكون من الشهادة، بل ربّما تكون من الحدسيات البعيدة أو التخمينيات أو المحتملات ونحوها من الأمور التى تكون خارجة عن الشهادة الاصطلاحية.

وعليه فلا يمكن الحكم بالضمان فى إخبار العيون عند الخطأ فى جميع الموارد، لا من جهة الشهادة لما عرفت، ولا من جهة التغرير لعدم وضوح صدقه فى مثل المفروض، بل لعدم جهل من إليه ينتهى الخبر بما إذا علم بأنّ الخبر من المحتملات أو

ص: 223


1- جواهر الكلام 79:40. الوسائل 165:18، ب 10، آداب القاضى، ح 1.

التخمينيات ونحوها.

لا يقال: ربّما يكون الخبر كالجزء الأخير للعلّة التامّة، فيصدق السبب على العين حينئذٍ.

لأنّا نقول: المباشر الملتفت هو السبب لكونه عالماً و مريداً لا العين، وحيث إنّ الضمان بالتسبيب خلاف القاعدة ويحتاج إلى إقامة الدليل فبعد عدم صحّة إسناد الفعل إلى السبب وإسناده إلى المباشر لا وجه لضمان العين(1).

وعليه فينحصر الأمر فى ضمان المباشر، فإن كان هو القاضى و أخطأ فى الحكم ففى عهدة بيت المال، و إلّا فلا دليل على كونه فى بيت المال لاختصاص الدليل بالقاضى، بل هو فى عهدة المباشر.

نعم، إن رأى الحاكم مصلحة فى جعل ضمان المباشر فى بيت المال فلا مانع منه.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الضمان فيما إذا أخطأ المتصدّى المجاز فى عهدة بيت المال؛ لانه خطأ الحكومة و خطأها يتدارك من بيت المال، وعليه فلا فرق بين المتصدّى والقاضى فى كون الخطأ فى عهدة بيت المال، فتدبّر.

الرابعة: إذا أخبر العين بما رأى، وكان مراعياً للشرائط فأرسل القاضى أو المتصدّى جمعاً من المأمورين للتحقيق، فخاف شخص من ذلك ومات، فهل هناك ضمان أم لا؟ وعلى الأوّل هل الضامن هو العين؛ أو القاضى أو المباشر أو بيت المال ؟ لا إشكال فى عدم ضمان العين؛ إذ لا تغرير ولا خدعة ولاكذب فى إخباره ولا تسبيب لكون المباشر مريداً و مختارا.

و أمّا القاضى أو المتصدّى فإن احتمل موت أحد فى سبيل التحقيق وجب عليه الأمر بالإقدام على وجه لا يلزم منه ذلك، فلو لم يقدم المباشر كذلك كان

ص: 224


1- انظر: مبانى تكملة المنهاج 257:2.

مقصّراً وضامنا نعم، لو لم يمكن التحقيق إلّا بالإقدام مع الاحتمال المذكور دار الأمر بين المتزاحمين فاللازم هو تقديم الأهمّ ، ومع وقوع الموت أو السقط أو خسارة اُخرى يحتمل أن يكون الضمان فى بيت المال بدعوى أنّ ذلك مستند إلى الحكومة وخسارات الحكومة قابلة للجبران من بيت المال، و أنّه لم يشمل المقام ما دلّ على أنّ خطأ القاضى فى بيت المال؛ لعدم خطأه فى الحكم حسب الفرض أو لعدم كونه قاضياً.

لا يقال: إنّ مقتضى صحيحة الحلى عن أبى عبدالله عليه السلام: «أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له»(1) وغيرها من الأخبار هو عدم الضمان أصلاً بناءً على إلغاء الخصوصية و أنّ المراد هو اتّفاق الموت بالعمل الحكومى.

لأنّا نقول: إنّ مورد الرواية هو ما إذا ثبت استحقاقه للحدّ و القصاص، فلا يشمل المقام الذى لا يثبت فيه استحقاق شىء، خصوصاً إذا كان الموت عارضاً على غير المتّهم.

هذا مضافاً إلى أنّ موجب القتل هو نفس القصاص أو الحدّ لا فعل المباشر، و إلغاء الخصوصية مشكل.

لا يقال: إنّ مقتضى صحيح الحلى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «أيّما رجل فزع رجلاً من الجدار أو نفر به عن دابّته فخرّ فمات فهو ضامن لديته، و إن انكسر فهو ضامن لدية ما ينكسر منه»(2) هو الحكم بضمان المباشر.

لأنّا نقول: مورد الصحيحة هو ما إذاكان العمل بقصد الإخافة مع عدم كونه موجباً للقتل عادة، فهو أجنبى عن المقام الذى لم يقصد المباشر ذلك فاتّفق

ص: 225


1- الوسائل 47:19، ب 24، قصاص النفس، ح 9.
2- المصدر السابق: 188، ب 15، موجبات الضمان، ح 2.

موته بذلك.

و بالجملة: فالضمان يكون على عهدة بيت المال فيما إذا كان الإقدام لازما ولو مع احتمال موت أحد أو فيما إذا لم يحتمل ذلك و اتّفق موت أحد، فضلاً عمّا إذا كانت الإخافة لازمة بنظر الحاكم أو القاضى.

و يؤيّده عموم قوله عليه السلام: «فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم» كما فى. صحيحة أبى بصير، فى رجل قتل رجلاً متعمّداً ثمّ هرب القاتل فلم يقدر عليه، قال عليه السلام: «إن كان له مال أخذت الدية من ماله و إلّا فمن الأقرب فالأقرب، و إن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم»(1). وصحيحة ابن سنان الدالّة على عدم بطلان دم امرئ مسلم، معلّلاً بأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام، كما ورد فى قضاء أمير المؤمنين عليه السلام «فى رجل وجد مقتولاً لايدرى من قتله»(2). وغير ذلك من الأخبار.

نعم، لو تقابل المتّهم و متعلّقوه مع المأمورين، فيما جاز لأفراد الحكومة التحقيق، وحدثت خسارة مالية أو بدنية أو موت أو سقط من جهة المقابلة، فلا ضمان له؛ لأنهم أقدموا على ذلك، فتدبّر.

ولو جاوز المباشر عن دائرة المجاز، فلا إشكال فى ضمانه و إن كان العمل ممّا يوافقه المتصدّى أو القاضى لو استجازه؛ لانه فعل ما ليس بمأذون فيه و إن كان موافقاً لرأيه، و مجرّد الموافقة لا يكفى فى رفع الضمان، ألا ترى أنّ قتل القاتل من دون إذن من الحاكم يوجب القصاص، فلا تغفل.

الخامسة: لو تعدّى المأمورون عن حدود أمر المتصدّى أو الحاكم وحدثت

ص: 226


1- المصدر السابق: 302، ب 4، العاقلة، ح 1.
2- المصدر السابق: 109، ب 6، دعوى القتل وما يثبت به، ح 1.

بسبب فعلهم خسارات مالية أو بدنية، كانوا ضامنين لها ولو لم يقصدوا تلك الخسارات. كذلك إذا تصدّى شخص لأمر خاصّ يعلم أنّه لا يليق لذلك. فحصلت الخسارة أو الجناية بسببه؛ لانه متعدّ بقبول المسؤولية مع علمه بعدم اللياقة، فالخسارات و الجنايات مستندة إليه لا إلى الحكومة، و مجرّد الإذن من الحاكم له ليس إذناً مطلقا، لأنّه إذن لمن يكون لائقاً به ولو بحسب الضوابط الظاهرية. والمفروض أنّه ليس كذلك، و اللياقة و لو كانت ظاهرية فهى حيثيّة تقييدية لا تعليلية، فالأوّل لا يصدر إلّا للائق و هو ليس بلائق، و إنّما كذب أو خدع فى إدراج نفسه فى اللائقين.

وعليه ففعله لا يسند إلى الحكومة؛ لعدم شمول الإذن له.

نعم، لو كان جاهلاً مركباً بعدم لياقته و أحرز التصدّى أنّه لائق و أذن له فى الفعل ففعل، فحصل بسببه خسارات مالية أو بدنية، ثم انكشف أنّه ليس واجداً للشرائط أمكن القول بأنّ الخسارات مستندة إلى الحكومة، لأنّه منصوب القاضى أو المتصدّى فى الفرض المذكور؛ إذ لا يتقيّد النصب بالواجدية الواقعية، بل تكفى الواجدية الظاهرية، فمع كشف الخلاف لا يرفع النصب السابق فى حال إيراد الخسارات.

نعم، يرتفع النصب من حين كشف الخلاف، و عليه فالخسارات فى عهد بيت المال، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الضمان على الجاهل المركب بدعوى أنّ جهله المركب لا يرفع الضمان و إن كان موجباً لعدم العصيان، فتأمّل.

السادسة: لو وردت على العيون فى طريق الاستخبار أو العمليات الاستطلاعية خسارات مالية أو بدنية فهل تكون تلك الخسارات على عهدة بيت المال أم لا؟ يمكن أن يقال: إنّ هذا الشغل من الواجبات التى تكون بطبعها فى بعض أقسامها ضررية كالجهاد و الدفاع، ولا معنى للضمان فى مثلها، فكما أنّ الخسارات الواردة فى

ص: 227

الجهاد و الدفاع و المرابطة ليست على عهدة بيت المال فكذلك فيها.

نعم، لو تسامح المتصدّى فيعدم تجهيزهم بجهاز لازم فأورد عليهم الخسارات كان ضامناً فى ماله؛ لاستنادها إلى تسامحه، بخلاف ما إذا لم يتمكّن من التجهيز من دون مسامحة.

وهكذا لو اشترط مع التصدّى فى عقد الاستخدام و الإجارة ضمان الخسارات، فلا إشكال فى كونها على عهدة بيت المال فيما إذا لم يكن هناك إفراط أو تفريط منهم، و إلّا فلا يكون الضمان على عهدة بيت المال؛ لاستناد الخسارات إليهم.

كما إذا كان سبب الخسارات بعضهم بالنسبة إلى بعض فهو ضامن لا غير؛ لاستناد الخسارات إليه كما لا يخفى.

هذا كلّه فى الخسارات التى تكون لازمة لهذا الشغل، و أمّا الخسارات التى لا ترتبط بهذا الشغل، بل تعرض أحياناً و اتفاقاً كبعض الأمراض و الآفات العامّة التى تعرض لجميع الأفراد، فهل يوجب عروضها فى حال المأمورية كونها على عهدة بيت المال أم لا؟ و الذى ينبغى أن يقال: إنّها لا تستند إلى الحكومة ومع عدم استنادها إليها لا وجه لكون ضمانها على بيت المال.

نعم، لو اشترط ضمانها مع المتصدّى فى عقد الإجارة و الاستخدام فلا إشكال فى كون ضمانها على الحكومة أيضا السابعة: لو أخطأ العين فى إخباره بالنسبة إلى أحد من المؤمنين ثم بان له ذلك، وجب عليه الدفاع عنه و السعى فى استخلاصه عمّا أوقعه فيه إخباره، وإعادة حيثيّته الاجتماعية فى المجتمع إن هتكت قضاءً لوجوب أداء حقوق الناس، ويجب عليه الاسترضاء والاستغفار إن كان ذلك أى الخطأ ناشئاً عن المسامحة.

ص: 228

المقام التاسع عشر: إمداد العيون و إعانتهم:

لا إشكال فى حسن إمداد العيون وإعانتهم فى طريق تحكيم النظامالإسلامى والدفاع عن حريم الإسلام، بل يجب ذلك كفاية إن كانوا محتاجين إلى اطلاع الأفراد و الأشخاص من عامّه الناس، أو كان المورد ممّا لن يطلع عليه العيون لو لم يخبرهم أحد من عامّة الناس وكان ممّا يهتمّ به.

ثمّ إنه تختلف أنواع الإمداد و الإعانة باختلاف الموارد و الأشخاص، ثملا يذهب عليك أنّه لا إشكال فى جواز أخذ الأجرة على الإمداد و الإعانة، و إن لم يجز ترك الإمداد لو لم يعط الاُجرة؛ لأنّ الوجوب الكفائى لا ينافى أخذ الأجرة، كما أنّ أخذ الاُجرة على الإخبار والاستخبار لا إشكال فيه ولو كان من الواجبات الكفائية؛ إذ لا يكون مشروطاً بقصد القربة والاتيان به مجّانا، فلا تغفل.

ص: 229

المقام العشرون: المحافظة على المستندات الاطّلاعاتية:

لا خفاء فى وجوب المحافظة على مستندات الاطلاعات إذا كانت من شؤون حفظ النظام ولزوم الدفاع عنها ولو بالوقوع فى الخطر وبذل النفس، لأهمية حفظ النظام الإسلامى، ولا ضمان للخسارات الواردة على المحافظين؛ لأنّ المحمافظة من الواجبات كالجهاد و الدفاع.

نعم، لا بأس بجعل الحاكم الشرعى شيئاً لهم أو لورثتهم من بيت المال إذا رأى مصلحة فى ذلك، هذا إذا لم يشترطوا الضمان فى عقد الإجارة و الاستخدام، و إلّا فالضمان على عهدة بيت المال بلاكلام.

ص: 230

المقام الواحد و العشرون: فى أخذ الاعترافات:

هل يجوز الإقدام على أخذ الاعتراف من الغمى عليه أو النائم، أولا يجوز؟ وعلى تقدير أخذ الاعتراف هل يكون حجّة أو لا يكون ؟ يمكن أن يقال: يجوز ذلك إن لم يستلزم ضرراً أو إيذاء أو تصرّفاً عرفياً فى بدنه، و أمّا مع الاستلزام المذكور فلا يجوز؛ لحرمة الإضرار و الإيذاء و التصرّف فى بدن الغير من دون رضاه.

نعم، إذا تزاحم مع الأهمّ ، أو حكم الحاكم بذلك جاز.

ثمّ على تقدير الاعتراف فى حال الاغماء أو النوم، فلا حجّية فيه؛ لانه لم يكن مع الإرادة والاختيار، نعم يمكن أن تفيد بعض الاعترافات من جهة الإشارات التى فيها، لإمكان تعقيب بعض الاُمور حينئذٍ حتى تنكشف الحقيقة.

و ممّا ذكر يظهر حكم الاعترافات التى تصدر أحياناً عن الأفراد و الأشخاص حال تنويمهم، وهكذا ما ربّما يوضع على بدن المنكِر ممّا يعين على اضطرابه الداخلى ويجعل ذلك قرينة على كذبه لا يكون حجّة شرعية؛ لاحتمال تداخل الاُمور، و مجرّد الاضطراب لا يكون شاهداً على كذبه.

ص: 231

المقام الثانى و العشرون: فى كتمان الأسرار:

لو وقع بعض العيون أسيراً بيد الأعداء وكان حاملاً للأخبار التى لو ظهرتوقع النظام فى خطر السقوط فهل يجوز لنا قتله، أو لا يجوز؟ يمكن أن يقال: إنه لو خيف على الإسلام و المسلمين من ذلك، فإن أمكنه كتم الأسرار فيجب عليه، و إن لم يقدر بحيث يكون التكليف به خارجاً عن طاقته، فإن أمكن إيراد النقص على نفسه بحيث لايقدر على التكلّم و الإفشاء فهو، و إلّا فإن أمكن المقاتلة معهم حتى يقتل فهو، و إلّا فيجوز له الانتحار دفعاً للخطر المتوجّه إلى الإسلام والمسلمين، ومع إمكان إقدامه على ذلكلا يجوز لغيره قتله.

نعم، لو لم يقدم عليه، فإن أمكن إيراد النقص عليه بحيث لايتمكن من البقاء جاز ذلك بإذن الحاكم، و إلّا فمع توقف حفظ الإسلام على قتله لا يبعد أن يكون للحاكم الأمر بقتله؛ لأنّ الأمر يدور حينئذٍ بين المحذورين، وحيث إنّ حفظ الإسلام أهمّ فهو مقدّم عليه، كما يجوز قتل بعض المسلمين عند التترّس بهم، نعم هذا الفرض فيما إذا علم الخطر مع انحصار رفعه على ذلك، و إلّا فلو لم يعلم أو لم ينحصر طريقه عليه فلا يجوز، ولم أجد من تعرّض لهذه المسألة، فليتأمّل.

ص: 232

المقام الثالث و العشرون: فى سرقة المستندات و الاطّلاعات من الكفّار:

هل يجوز سرقة المستندات و الوثائق من الكفار فى الداخل أو الخارج لاستفادة الاستخبارات منها أم لا؟ يمكن أن يقال: إن كان الكفّار من الذميّين أو المعاهدين فلا يجوز ذلك؛ لأنّ أموالهم كأنفسهم مأمونة بعقد الذمّة وعقد المعاهدة، والمستندات و الوثائق من أموالهم، فلا يجوز ذلك ما داموا ثابتين فى عقد الذمّه و المعاهدة.

نعم، إذا نقضوا الذمّة أو المعاهدة فلا حرمة لمالهمكأنفسهم، و إذا لم ينقضوا العهد و الذمّة و المعاهدة ولكن عُلم انّهم استخبروا الاُمور بسرقة المستندات و المعلومات فى الخفاء كبعض السفارات الاوريية و الأمريكية فيجوز ذلك بمعاملة المثل معهم قضاءً لقوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (1)، إن لم نقل حصل النقض بذلك.

هذا كلّه فيما إذا لم يستلزم العناوين الثانوية، و إلّا فلا يجوزكما لا يخفى.

ص: 233


1- البقرة: 194.

المقام الرابع و العشرون: فى نشر المستندات الاطّلاعاتية و إفشائها:

لا يجوز لمسؤولى الاطلاعات وضع المستندات و الوثائق تحت اختيار غيرهم ممّن لا ربط له بها، لأنّه مضافاً إلى كونه إفشاء لعورات المسلمين يكون إشاعة للفحشاء فى بعض الأحيان و تضعيفاً للنظام تارة اُخرى، بل يجب سترها وحفظها فيما إذا كان ايقاؤها واجبا وفيما إذا لم يجب ايقاؤها يتخيّر بين الإبقاء و الستر وبين إفنائها.

و ممّا ذكر يظهر أنّ نشر المستندات المربوطة بالاطلاعات لا يجوز إلّا إذا كانت مصلحة أهمّ تقتضى ذلك، والله العالم.

ص: 234

المسألة الثالثة تحديد النسل و التعقيم

اشارة

يقع الكلام فى مقامات:

المقام الأوّل

إنّ التناسل و التكاثر فى الأولاد مطلوب فى نفسه، و يشهد له طوائف من الأخبار:

الطائفة الاُولى: الأخبار التى تدلّ على اختيار الوَلود وهى كثيرة الولد:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

«تزوّجوا بكراً ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميلة عاقراً؛ فإنّى اُباهى(1) بكم الاُمم يوم القيامة»(2).

ومن المعلوم أنّ الترغيب فى التزويج بالولود مضافاً إلى التعليل بالمباهاة - يدلّ على مطلوبية إكثار الولد.

ومنها: صحيحة عبدالله بن سنان، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا نبىّ الله، إنّ لى ابنة عمّ قد رضيت جمالها وحسنها ودنها، ولكنها عاقر، فقال: «لا تزوّجها؛ إنّ يوسف بن يعقوبلفى أخاه فقال: يا أخى، كيف

ص: 235


1- المباهاة: المفاخرة.
2- جامع الأحاديث 58:20.

استطعت أن تتزوّج النساء بعدى ؟ فقال: إنّ أبى أمرنى، وقال: إن استطعت أن تكون لك ذرّيّة تثقل الأرض بالتسبيح فافعل. قال: فجاء رجل من الغد إلى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال له مثل ذلك، فقال له: تزوّج سَوآء ولوداً؛ فإنى مكاثر بكم الاُمم يوم القيامة.

قال: فقلت لأبى عبدالله عليه السلام عليه السلام: ما السّوآء؟ قال: القبيحة»(1).

و هذه الصحيحة تدلّ على مطلوبية الإكثار من الولد من نواح مختلفة:

كالترغيب فى التزويج بالولود، و محبوبيّة تثقيل الأرض بالمسبّحين، وتعليل ذلك بمكاثرة الاُمم بهم يوم القيامة.

الطائفة الثانية: الأخبار التى تدلّ على الترغيب فى التزويج معلّلة ذلك بمحبوبيّة الإكثار من الأولاد:

منها: صحيحة ابن رئاب، عن محمّد بن مسلم أو غيره، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «تزوّجوا فإنى مكاثر(2) بكم الاُمم غداً فى القيامة، حتى أنّ السقط ليجىء محبنطِياً على باب الجنة، فيقال له: ادخل الجنّة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواى قبلى»(3).

قال فى معانى الأخبار: قال أبو عبيدة: المحبنطى بغير همزة: المتغضّب المستبطئ للشىء، والمحبنطئ بالهمزة: العظيم البطن المنتفخ... إلخ(4)؛ إذ التعليل يدلّ على مطلوبية التكاثر، وهكذا فى الخبر التالى.

ومنها: ما رواه فى الخصال فى حديث الأربعمئة عن علىّ عليه السلام: «تزوّجوا فإنّ

ص: 236


1- جامع الأحاديث 59:20-60.
2- كاثره: أى غالبه فى الكثرة و فاخره بكثرة المال أو العدد (المنجد فى اللغة: 674، مادة «كثر»).
3- من لا يحضره الفقيه 383:3.
4- معانى الأخبار: 291.

رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كثيراً ما كان يقول: من كان يحبّ أن يتّبع سنتى فليتزوّج؛ فإنّ من سنتى التزويج، واطلبوا الولد، فإنّى اكاثر بكم الاُمم غداً»(1).

والإطلاق فى قوله: «واطلبوا الولد» يشمل محبوبية الإكثار من الولد.

هذا، مضافاً إلى دلالة التعليل على مطلوبية الإكثار.

الطائفة الثالثة: الأخبار التى تدل على محبوبيّة الإكثار من الأولاد:

منها: ما رواه فى الكافى عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن محمّد بن مسلم، عن أبى عبدالله عليه السلام قال:

قال رسول الله عليه السلام: «أكثروا الولد اُكاثر بكم الاُمم غداً»(2).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن بعض أصحابه أنّه قال: قال علىّ بن الحسين عليهما السلام: «من سعادة الرجل أن يكون له ولد يستعين بهم»(3).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن بكر بن صالح، قال: كتبت إلى أبى الحسن عليه السلام: إنّى اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين؛ وذلك أنّ أهلى كرهت ذلك وقالت: إنه يشتدّ علىّ تربيتهم لقلّة الشىء، فما ترى ؟ فكتب عليه السلام إلىّ : «اطلب الولد فإنّ الله يرزقهم»(4).

ولكنه ضعيف؛ لجهالة بكر بن صالح.

الطائفة الرابعة: الأخبار التى تدل على مرجوحيّة العزل:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أنّه سئل عن العزل فقال:

ص: 237


1- جامع الأحاديث 8:20.
2- الكافى 2:6، ح 3.
3- المصدر السابق: ح 2.
4- المصدر السابق: ح 7.

«أمّا الأمة فلا بأس، و أمّا الحرّة فإنّى أكره ذلك، إلّا أن يشترط عليها حين يتزوّجها»(1).

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ من المحتمل أنّ الكراهة من جهة رعاية حقوق المرأة، كما يؤيّده ارتفاعها بالاشتراط عليها حين العقد، وعليه فلا تدلّ الكراهة على مرجوحية العزل من ناحية عدم إكثار الولد.

نعم، لو قلنا بأنّ حقّ المرأة الإكثار من الولد فتدلّ كراهة العزل فى النهاية على مطلوبية الإكثار.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة فى كتب العامّة و الخاصّة الدالّة على مطلوبية الإكثار من الولد.

لا يقال: تنافيها الروايات الدالّة على أنّ قلّة العيال أحد اليسارين و التى منها:

ما رواه فى الخصال عن أبيه، عن سعد، عن اليقطينى، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبى بصير و محمّد بن مسلم، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «حدّثنى أبى عن جدّى عن آبائه عليهم السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه فى مجلس واحد أربعمئة باب ممّا يصلح للمؤمن فى دينه ودنياه - إلى أن قال -: «قلّة العيال أحد اليسارين»(2).

و القاسم بن يحيى مجهول.

ومنها: ما رواه فى قرب الإسناد عن ابن طريف، عن ابن علوان، عن الصادق، عن أبيه عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «قلّة العيال أحد اليسارين»(3).

وابن طريف وابن علوان مجهولان.

ص: 238


1- جامع الأحاديث 213:20.
2- بحار الأنوار 99:10.
3- المصدر السابق 71:104.

ومنها: ما رواه فى العيون و الأمالى عن علىّ بن أحمد بن موسى، عن محمّد بن هارون الصوفى، عن عبيدالله موسى الرويانى، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسنى، عن أبى جعفر الثانى، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: «قلّة العيال أحد اليسارين»(1).

و محمّد بن هارون الصوفى وعبيدالله موسى الرويانى مجهولان.

وكيف كان، فوجه المنافاة هو أنّ هذه الروايات ترغّب فى تقليل العيال، فتنافى ما مرّ من الترغيب فى تكثير الأولاد. هذا، مضافاً إلى ما ذُكر فى صدر الرواية الاُولى من أنّ الإمام عليه السلام علّم أصحابه أربعمئة ياب ممّا يصلحللمؤمن فى دينه ودنياه.

وفيه:

أوّلاً: إنّ هذه الأخبار ضعيفة، ولا تقاوم الروايات الدالّة على محبوبيّة الإكثار.

و ثانيا: إنّ العيال أعمّ من الأولاد، فيقيّد إطلاقه بما مرّ من الأخبار الدالّة على محبوبيّة إكثار الولد.

وثالثأ: إنّ المستفاد منها ليس هو الترغيب فى التقليل، بل هو إرشاد إلى عسر كر العيال، ولا ينافى ذلك استحباب ذلك بمجاهدة و تحمّل مشاكلهم، كما أنّ إنفاق المحبوب أو إيثار المال مع الخصاصة مشكل وعسر ومع ذلك يكون مستحبّاً ومرغوباً فيه.

وبالجملة، تحمّل المشاكل فى سبيل نفقة العيال مرغوب فيه فى الأخبار، كقوله عليه السلام: «و الكادّ على عياله من حلّ كالمجاهد فى سبيل الله»(2).

إن قلت: إنكانت كثرة الولد مطلوبة فلِمَ جعلت فى بعض الأدعية - دعاءً على

ص: 239


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: 72.

الاعداء، كما جاء فى الحديث النبوى صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد ومن أحبّ محمّداً وآل محمّد العفاف و الكفاف، وارزق من أبغض محمّداً وآل محمّد كثرة المال والولد»؟!(1)

قال فى الحياة: و يستفاد من هذا التعليم اُمور:

منها: أنّ من يتّبع سيرة النبى صلى الله عليه و آله و سلم عليه أن لا يستكثر من الأولاد؛ حتى يتوفق لتأمينهم وتربيتهم وتعليمهم و تثقيفهم و تدريبهم و تعاهدهم وحفظ سلامتهم الجسمية واعتدالهم الروحى بإرواء روحهم من المحبّة و العطف و الحنان، فيقدّمهم إلى المجتمع أعضاء سالمين نشيطين مفيدين بنائين مطوّرين.

ومنها: طلب النبى صلى الله عليه و آله و سلم من الله تعالى أن يبتلى مبغضيه و مبغضى آله بكثرة المال و الولد.

ولعل هذا إشارة إلى تبعات النظام التكاثرى المبيد الذى لو توفق أهله لحل مشاكله يقعون فى شبكات استغلال من هو فوقهم من المتكاثرين ثمّ قال: - تنبيه: روى شيخنا الكلينى الحديث المذكور بإسناده فى الكافى وجاء فيه:

«و ارزق من أبغض محمّداً وآل محمّد المال و الولد» بدون كلمة «كثرة»، لكن المراد معلوم؛ إذ أصل المال و الولد غير مذموم، فالمقصود كثرتهما لا محالة(2).

قلت: إنّ كثرة المال أو الولد فى أيدى الكفّار وزر و وبال عليهم؛ فإنّهم لكفرهم وإعراضهم عن طريق الحقّ يستخدمون كل ما يجدونه من الأموال و الأولاد فى طريق أهدافهم، و صارت فى النتيجة موجبة لاستدراجهم نحو الضلالة والانحراف. فهذا الدعاء لاينافى محبوبيّة كثرة الولد للمسلمين؛ لأنها موجبة لمباهاه النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم وتقوية

ص: 240


1- المصدر السابق 67:72.
2- الحياة 276:4-277.

المسلمين، كما يدلّ عليه الأخبار الكثير الصحيحة المتّفق عليها. نعم، لو كان وضع المسلمين على نحو كانت الكر موجبة لاختلال أمرهم أو عروض مفاسد فلا يبقى رجحان الكثرة على الفعلية مادام الوضع المذكور باقياً.

هذا، مضافاً إلى ما فى دعوى صاحب الحياة من أنّ سيرة النبى صلى الله عليه و آله و سلم كانت على التقليل، كيف ؟! و قد أكّد صلى الله عليه و آله و سلم تمام التأكيد على الإكثار، ولعل عدم إكثاره من الولد ممّا يقتضيه التقدير الإلهى، و أيضاً كانت سير بعض ادائمّة عليهم السلام على الإكثار، فكيف لايؤخذ بها ويؤخذ بغيرها؟! على أنّ ما ذهب إليه من أنّ النظام التكاثرى يوجب الوقوع فى شبكات الاستغلال، فيه: أنّ المطلوب هو ما إذا لم يكن كذلك، ولا ملازمة بين النظام التكاثرى و الوقوع فى شبكات الاستغلال إذا تدبّر أولياء الاُمور وجهّزوا الأسباب و استخرجوا ما عندهم من الإمكانات التكوينية وغيرها.

وعليه، فالدعاء عليهم بكثرة الولد لا يستلزم عدم مرغوبية نفس كثرة الولد عند النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم، بل هو من جهة أنّ الكثرة فى حقّ الأعداء تكون وزراً و وبالاً عليهم. و ربّما جاء فى بعض الأدعية الدعاء عليهم بالعقم لكى يسلم المسلمون من تجاوزهم و أذيّتهم كما جاء فى الصحيفة السجادية: «اللّهمّ أفلل بذلك عدؤهم (أى أعداء آل محمّد عليهم السلام) إلى أن قال عليه السلام: - اللّهمّ عقّم أرحام نسائهم و يبّس أصلاب رجالهم، واقطع نسل دوابّهم و أنعامهم»(1).

و ممّا ذكر يظهر الجواب عمّا روى عن مولانا الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: مرّ جعفر عليه السلام بصيّاد فقال: «يا صيّاد، أىّ شىء أكثر ما يقع فى شبكتك ؟ قال: الطير الزّاق، قال: فمرّ و هو يقول: هلك صاحب العيال، هلك صاحب

ص: 241


1- الصحيفة السجادية الكاملة: من دعائه 7 لأهل الثغور: 27.

العيال(1). و الزّاق: هو الطائر الذى له فرخ يطعمه بمنقاره، و إنّما صار صيداً لكونه بصددجمع الأشياء لفرخه.

إذ أنّه عليه السلام بقوله: «هلك صاحب العيال، هلك صاحب العيال» يكون فى مقام إبراز رقته و ترحّمه على صاحب العيال، وليس فى مقام مذمّة كثرة العيال أو كثرة الولد.

لا يقال: ينافى ذلك الآيات الكريمة الدالّة على مذمّة حبّ النسوان و الولدان والشهوات و التفاخر بكثرة الأولاد.

لأنّا نقول: المذمّة فى هذه الآيات على الحب الإفراطى و التفاخر الجاهلى الرائجين بين أهل الدنيا، ولا ينافى ذلك مطلوبية الإكثار من الولد لاُمور دينية و معنوية؛ كالمباهاة بهم يوم القيامة، أو الغلبة بهم على الكفّار، أو تثقيل الأرض بالمسبّحين.

لا يقال: إنّ القرآن الكريم عبّر عن الأولاد بالفتنة و العدو، فكيف يكون الإكثار من الأولاد أمراً مرغوباًفيه ؟! لأنّا نقول: إنّ الأولاد فى أنفسهم ممّا من الله تعالى بهم على العباد، كما يدلّ عليه مثل قوله تعالى: وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ (2)، ولكنّ الوالدين فى معرض الامتحان بهم، والآيات تدلّ على الأمرين: امتنانه تعالى بإعطائهم، وتحذير الناس من الجاذبة العمياء الموجودة فيهم الموجبة لخروج الوالدين عن الطريق الحق. ولا منافاة بين الأمرين.

وهكذا الأمر فى مثل الآيات الدالّة على النهى عن الإلهاء بالأولاد، فإنّ مثل

ص: 242


1- بحار الأنوار 72:104.
2- نوح: 12.

قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ (1) لا ينافى مطلوبية الإكثار من الأولاد فى نفسه.

فتحصّل إلى حد الآن: أنّ الإكثار من الأولاد أمر مرغوب فيه من حيث ذاته، ولا يُعدل عن ذلك إلّا بعروض العناوين الثانوية، كما إذا كان الزمان على نحو يضطرّ الإنسان فى تحصيل العيشة إلى المعصية؛ فإنّ فى هذا الزمان حلّت العزوبة وسقطت كر الأولاد عن الرجحان، كما روى أنّه يأتى على الناس زمان لا تتال المعيشة فيه إلّا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة(2).

ولذا قال فى المستند: «والظاهر نقص الرجحان بما إذا ضيقت معه المعيشة»(3).

وهكذا لوكانت الكثرة موجبة للمرض أو اختلال أمر الوالدين أو أمر الأولاد أو اختلال أمر المجتمع سقطت الكثرة عن الرجحان ما دام كذلك.

ص: 243


1- المنافقون: 9.
2- انظر: مستدرك الوسائل 387:11، ب 51 من جهاد النفس، ح 19.
3- المستند للنراقى 466:2.

المقام الثانى

إنّ مفاد الروايات السابقة هو استحباب التوالد و التناسل و التكثّر لا وجوبهما، كما يشهد له تعليله صلى الله عليه و آله و سلم بأنّى اُباهى أو اكاثر يوم القيامة، أو تعليله صلى الله عليه و آله و سلم بانه موجب لثقل الأرض بالتسبيح، ونحوهما ممّا لا يستفاد منه إلّا المحبوبيّة.

هذا، مضافاً إلى جواز العزل كما تدلّ عليه النصوص الصحيحة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم أيضاً قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العزل، فقال: «ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء»(1).

ومنها: موثّقة عبدالرحمان بن أبى عبدالله قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العزل، فقال: «ذاك إلى الرجل»(2). وغير ذلك من الأخبار.

فهاتان الروايتان وغيرهما تشمل بإطلاقها ما إذا انجرب إلى ترك الإيلاد رأسا فضلاً عمّا إذا انجرّ إلى عدم الإكثار، غايتها هو كراهة ذلك جمعاً بينها وبين صحيحة محمّد بن مسلم حيث قال عليه السلام فيها: «... فأمّا الحرّة فإنّى أكره ذلك»(3). و يؤيّد الكراهة الاصطلاحية رفعها بالاشتراط عليها حين التزويج معها؛ إذ لوكان المراد من الكراهة هو الحرمة لا يجوز اشتراطه فى ضمن العقد؛ لانه شرط يخالف الكتاب

ص: 244


1- الكافى 504:5.
2- الكافى 504:5، ح 1.
3- الوسائل 106:14، ب 76 من مقدّمات النكاح، ح 1.

والسنّة، ولذلك ذهب المشهور إلى جواز العزل على كراهة. على أنّه لو سلّمنا حرمة العزل فلا إشكال فى جوازه بالاتّفاق مع رضاية الزوجة أو الاشتراط معها فى العقد، ومن المعلوم أنّه شاهد عدم وجوب التوالد و التناسل؛ فإنه يشمل ما إذا انجرّ إلى ترك الإيلاد فضلاً عمّا إذا انجرّ إلى عدم الإكثار.

هذا، مضافاً إلى أنّ ترك التزويج ليس بحرام ولو انجرّ إلى عدم الإكثاركما لا يخفى.

فتحصّل: أنّ الإكثار من الأولاد ليس بواجب كما لا يكون أصل طلب الأولاد واجباً، بل هو أمر راجح مؤكد مرغوب فيه. نعم ينبغى أن لا يرغب عنه بمجرّد بعض الاُمور الواهية، وعلى الدولة الإسلامية أن تسوق الناس نحو ماساق إليه النبى الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم. نعم لو عرض الاضطرار أو الضرورة فلا مانع حينئذٍ من المنع الموقّت، ولكن فلتطلب الدولة الحيلة لرفع الاضطرار و الضرورة عند الإمكان، و أن تعود إلى الحث على الترغيب فى الإكثار كما رغّب النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم إليه.

ثم إنّ مقتضى الإطلاقات هو شمول الترغيبات المذكور لجميع طوائف المسلمين من دون اختصاص بقوم دون قوم؛ إذ المستفاد من الروايات هو الترغيب فى الإكثار حتى تحصل كثرة الاُمّه الإسلامية وغلبتها على سائر الأمم، وحملها على فرقة محقّة من الاُمّة الإسلامية غير ظاهر. نعم تنصرف عن مثل النواصب و أعداء آل محمّد عليهم السلام؛ إذ لا مباهاة ولا فخر بإكثارهم.

تنبيه: و هو أنّه عند عروض العوارض الموجبة للمنع عن الإكثار فلتكن الدولة الإسلامية ناظرة إلى أنّ المنع عن الإكثار فى منطقة فى صورة ما لو لم يوجب تقليل المحقّين وتكثير المخالفين للإسلام فى تلك المنطقة، و إلّا فالواجب هو الإكثار فى تلك الناطق لئلّا يغلب الباطل على الحقّ و إن لم يكن ذلك خالياً عن العوارض؛ لأفسدية غلبة الباطل على الحقّ بالنسبة إلى سائر العوارض، فلا تغفل.

ص: 245

المقام الثالث

إنّ المنع عن انعقاد النطفة لا مانع منه ما لم يوجب ارتكاب حرام؛ لما عرفت من عدم وجوب التوالد و التناسل و التكثّر. ولا فرق فيه بين كون المنع المذكور بالعزل خارج الرحم، أو بالإفراغ فى مثل كيس عادم المنافذ، أو بشرب دواء يمنع أصل الانعقاد، أو بنصب وسيلة تمنع وصول منىّ الزوج إلى بيضة المرأة، أو بسدّ الأنابيب موقّتاً بحيث يمكن الإعادة.

نعم، لو احتاج نصب الوسيلة إلى لمس غير الزوج أو نظره فلا يجوز ذلك لحرتهما، كما تدلّ عليه النصوص، كصحيحة أبى حمزة الثمالى عن أبى جعفر عليه السلام، قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيها البلاء فى جسدها إمّا كسر و إمّا جرح فى مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟ قال: «إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت»(1).

وموثّقة سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن مصافحة الرجل المرأة، قال: «لا بحل للرجل أن يصافح المرأة إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها؛ اُخت أو بنت أو عمّة أو خالة أو بنت اُخت أو نحوها، و أمّا المرأة التى يحلّ له أن يتزوّجها فلا

ص: 246


1- المصدر السابق: 172، ب 130 من مقدّمات النكاح، ح 1.

يصافحها إلّا من وراء الثوب، ولا يغمزكفّها»(1).

نعم، إذا كان انعقاد النطفة موجباً لعروض المرض أو شدّته وكانت مضطرّة إلى علاج الرجل جاز الرجوع إليه ولوكان مستلزماً للنظر أو اللمس؛ لأنّها مضطرّة إلى العلاج فى هذه الصورة، فيجوز اللمس و النظر عند الاضطرار.

ص: 247


1- المصدر السابق: 151، ب 115 من مقدّمات النكاح، ح 2.

المقام الرابع: فى تعقيم المرأة أو الرجل

إن كانت العملية الطبية بنحو توجب العقم الدائم فيهما فلا إشكال فى كون ذلك نقصاً فى البدن، والنقص ضرر، والإضرار بالبدن كالإضرار بالغير محرّم بالنصّ المتّفق عليه المروى عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال فى تعليل ممانعته من إضرار سمرة على الغير -:

«فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وتخصيص ذلك بنفى الضرر فى حدود القوانين الشرعية كوجوب الوضوء والصوم الضررى، لا شاهد له.

كما أنّ دعوى انصرافه إلى خصوص ما كان وارداً على الغير بقرينة مورد حديث سمرة الذى كان يورد الضرر على الرجل الأنصارى.

مندفعة؛ بأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد.

و ايضاً دعوى الانصراف من جهة أنّ الإنسان بطبيعته يدفع الضرر عن نفسه، فيختصّ نفى الضرر بنفى التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعى يستوجب له، كما عن بعض الأعلام.

ممنوعة؛ لأنّ الإنسان كثيراً ما يقدم على الضرر على نفسه.

هذا، مضافا إلى أنّ نفى الحكم الشرعى يشمل بإطلاقه نفى إطلاق سلطنة

ص: 248


1- الكافى 292:5، ح 2.

الإنسان على نفسه؛ لأنّه أيضاً من الأحكام.

و أمّا الاستشهاد بقوله عليه السلام فى مكاتبة محمّد بن الحسين المرويّة بسند صحيح إلى أبى محمّد عليه السلام فى رجل كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء فى غير هذا النهر و يعطل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: «يتّقى الله، و يعمل فى ذلك بالمعروف، ولا يضرّ أخاه المؤمن»(1)؛ لتقيّد إطلاق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ضرر ولا ضرار» بالإضرار بالغير.

ففيه: أنّه لا وقع له؛ لأنّ قوله عليه السلام: «ولا يضرّ أخاه المؤمن» مصداق من مصاديق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ضرر ولا ضرار»، والمصداق لا يقيّد المطلق.

هذا، مضافاً إلى انّهما مثبتان، والتقييد بين المثبت و النافى.

و ربّما يؤيّد التقيّد بما رواه فى الكافى عن علىّ بن محمّد بن بندار، عن أحمد بن أبى عبدالله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبدالله بن مسكان، عن زرارة، عن أبى جعفر عليه السلام قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق وكان طريقه إليه فى جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجىء و يدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصارى، فقال له الأنصارى: يا سمرة، لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن فى طريق و هو طريفى إلى عذقى.

قال: فشكا الأنصارى إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فأتاه فقال له: إنّ فلاناً قد شكاك وزعم أنّك تمرٌ عليه وعل أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله، أستأذن فى طريقى إلى عذقى ؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: خل عنه ولك مكانه عذق فى مكانكذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك اثنان، قال: لا اُريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال: فلك

ص: 249


1- الوسائل 343:17، ب 15 من إحياء الموات، ح 1.

عشرة فى مكان كذا وكذا، فأبى، فقال: خل عنه ولك مكانه عذق فى الجنة، قال: لا اُريد.

فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إنك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

قال: ثمّ أمر بها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقلعت، ثمّ رمى بها إليه، وقال له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: انطلق فاغرسها حين شئت»(1).

بتقريب: أنّ الرواية حاكية عمّا أفاده النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى قصّة سمرة، وحيث كانت القضية واحدة فقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «على مؤمن» يقيّد إطلاق ما رواه فى الكافى عن زرارة:

«فإنّه لا ضرر و لا ضرار»، وعليه فلا يبقى إطلاق.

ويمكن أن يقال: إنّ الرواية ضعيفة لجهالة بعض أصحابنا، فلا تصلح للتقييد، مضافاً إلى أنّ القضية طبيعية، ومقتضاها هو عموميّتها حتى للإضرار بالنفس؛ فإنّه أيضاً إضرار وضرر على المؤمن كما أنّ الإضرار بالغير ضرر على المؤمن.

اللّهمّ إلّا أن يقال بالانصراف، فتأمّل.

لا يقال: إنّ الالتزام بإطلاق «لا ضرر ولا ضرار» حتى بالنسبة إلى الإضرار بالنفس مشكل؛ إذ لا يمكن الالتزام بحرمة إضرار الإنسان بماله، فإذا لم يكن الإضرار بالمال محرّماً فالإضرار بالنفس أيضاً كذلك.

لأنّا نقول: أوّلاً: إنّ الإضرار بالمال كالإضرار بالنفس محرّم؛ قضاءً لإطلاق دليل الضرر، مضافاً إلى حرمة تضييع المال وحرمة الإسراف.

وثانياً: إنّ تخصيص العامّ فى مورد لا يوجب الإشكال فى حجّية مدلوله فى البواقى، وقياس الإضرار بالنفس على الإضرار بالمال لا وجه له، بل هو باطل؛ لأنّه

ص: 250


1- الكافى 294:5. ورواه فى الوسائل 341:17، ب 12 من إحياء الموات، ح 3، مع اختلاف يسير.

إسراء حكم من موضوع إلى آخر من دون دليل.

و يؤيّد حرمة الإضرار بالنفس تسليم الأصحاب بحرمة الإضرار بالنفس ووجوب دفعه.

قال شيخنا الأنصارى قدس سره على المحكى - فى رسالة «لا ضرر» ما لفظه: نعم قد استفيد من الأدلّة العقلية و النقلية تحريم الإضرار بالنفس(1).

و استدلّ شيخ الطائفة على المحكى - بوجوب دفع المضارّ عن النفس فى موارد مختلفة:

منها: الخوف من عروض المرض عند ترك أكل الميتة(2).

والظاهر من المحكئ عن اُصول «الغنية، فى مسألة أنّ الأصل فى الأشياء الحظر أو الإباحة - هو وجوب دفع الضرر المحتمل عقلاً، ويكون الإقدام عليه قبيحاً محظوراً عليه(3).

إلى غير ذلك من العبارات الدالّة على أنّ حرمة الإضرار بالنفس من المسلّمات عند الأصحاب. نعم لا تكشف هذه الكلمات عن غير المستندات الموجودة فى المقام، كالأدلّة العقلية و النقلية.

مفاد «لا ضرر ولا ضرار»:

وحاصل الكلام فيه: أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فإنه لا ضرر ولا ضرار» تعليل، فيعمّ ولا يختصّ بمورد دون مورد، ومقتضى التعميم هو نفى كل سبب من أسباب الضرر، بتقريب: أنّ الضرر اسم مصدر و اسم جنس، والنفى متعلّق بالجنس، ومقتضاه هو نفى جنس الضرر شرعاً، ومن المعلوم أنّ الضرر معلول لعلل وعوامل مختلفة، وعليه

ص: 251


1- رسالة «لا ضرر» ضمن رسائل فقهية: 116.
2- المبسوط 285:6.
3- انظر: الغنية 416:2.

فنفى المعلول نفى لجميع أنحاء علله وأسبابه، سواء كانت تلك العلل هى الأحكام الشرعية التكليفية، أو الوضعية الثبوتية أو العدمية، كعدم جعل حقّ كحق الشفعة أو حقّ الخيار أو غيرهما من العوامل، فيدلّ إطلاق نفى المعلول شرعاً فى حوزة الإسلام بدلالة الاقتضاء على نفى العلل و العوامل و سدّ جميع موجبات الضرر، فيرجع نفى الضرر إلى محكومية الإطلاقات و العمومات الضررية، وإلى النهى عن إيراد الضرر على النفس وعلى الغير، وإلى تدارك الضرر يجعل الخيار فيما إذا كان اللزوم ضررياً.

وبالجملة، فنفى الضرر شرعاًينتهى فى المآل إلى النفى و النهى و التدارك و الحكم السلطانى وغير ذلك بحسب اختلاف الموارد، كما أنّ قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1) يدلّ على نفى جعل السلطة فىِ الأحكام الإسلامية وعلى النهى عن إيجاد السلطة.

وكيف كان، فهذا المعنى فى حديث «لا ضرر» أولى ممّا ذهب إليه شيخنا الأعظم من أنّ المراد هو نفى الحكم؛ لأنّ استعمال عنوان الضرر وإرادة الحكم منه يحتاج إلى عناية؛ إذ عنوان الضرر غير عنوان المضرّ، والمنفى هو عنوان الضرر لا عنوان المضرّ أى الحكم.

كما أنّ هذا المعنى أيضاً أولى ممّا ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ المراد هو نفى الحكم بنفى الموضوع الضررى كالوضوء الضررى، فإنه أيضاً خلاف الظاهر؛ لأنّ الضرر عنوان غير عنوان المضرّ و الضارّ و الضائر، فالمنفى هو نفس الضرر الذى هو النقص لا المضرّ الذى هو المنقّص كالوضوء الضررى.

هذا كلّه بالنسبة إلى كبرى حرمة الضرر و الإضرار، فلا وجه للخدشة فيها بعد وضوح ما عرفت.

ص: 252


1- النساء: 141.

كما لا وجه للمناقشة فى صغراها بدعوى: «أنّ الإقدام على التعقيم إذا كان عن داعٍ عقلائى كما إذاكان لها أو لهما غرض أهمّ عندهما من مسألة توليد النسل بكثير، مثل أن يكون الزوجان ممّن يحملان السلاح ويقومان فى صفّ الحرب النظامى أمام أعداء الإسلام و المسلمين و المستضعفين، أو أن يكونا من أقدم علماء العلوم الطبيعية الذين وقفوا أنفسهم على خدمة أبناء البشر أو خصوص الاُمّة الإسلامية، ولا سيّما إذا كانت هذه العملية بعد تولّد عدد من الأولاد وقضاء وطرهم من هذه الناحية إلى غير ذلك - فالظاهر أنّ الإقدام إلى عملية التعقيم الدائم أيضاً لا يعدّ من مصاديق الإضرار». انتهى.

وذلك لأنّ الدواعى العقلائية لا تخرج التنقيص عن كونه ضرراً، ألا ترى أنّ كسر باب الغير لإنقاذ الغريق ونحوه أمر عقلائى بل واجب شرعى ومع ذلك لا يوجب ذلك خروجه عن كونه ضرراً على صاحب البيت ؟! ولذا يجب ضمانه، بل يكون بابه من باب التزاحم بين الأهمّ و المهمّ ، فيقدّم الأهمّ و هو حفظ النفس على حرمة الإضرار بالغير(1). وفى المقام أيضاً إن كانت المشاركة فى الحرب لازمة ومتوقفة على التعقيم بحيث لا محيص عنه فهو أهمّ ، ومع أهمّيته يجوز الإقدام على ذلك، بل ربّما يكون واجباً فيتحمّل النقص و الضرر من جهة الأهمّ ، وليس معنى ذلك

ص: 253


1- وهكذا يصدق الضرر فى المعاملات التى ينفق لأجلها للسفر وغيره لتحصيل النفع ولم يحصل الانتفاع، مع أنّ . الإنفاق للسفر وقع لداع عقلائى و هو التجارة. يل يمكن أن يقال: إنّ مع النفع أيضاً يصدق الضرر على ما ينقص بالإنفاق فى تحصيله، و لكنّه يجبر بالنفع و يتدارك به. فالباب باب التزاحم، فالذى يدعو إلى تحمّل الضرر إن كان أهمّ كان هو المقدّم، و إلّا فلا مجال لتقديمه، فالتجارة و الكسب أمر يتقدّم على تحمّل نفقات العبارة ولو لم تكن فائد؛ إذ لولا التجارة لاختلّت الاُمور. و هذا الأمر يترجّح بالنسبة إلى الضرر المالى فى بعض الأحيان قبال النفقات اللازمة مع عدم الفائدة.

عدم وجود النقص و الضرر بمجرّد وجود الأهمّ ، وعليه فلا يجوز الإضرار بالنفس لمجرّد بعض الدواعى العقلائية مع عدم أهميّتها بالنسبة إلى الإضرار بالنفس.

هذا، مع الغمض عن إمكان منع توقف المشاركة فى الحرب ونحوها على التعقيم؛ إذ يمكن المنع من انعقاد النطفة بالطرق المختلفة الاُخرى.

و بالجملة، لا ينتفى الضرر بوجود دواع عقلائية، بل هو متحقّق وكائن، فإن كان الضرر منهيّاً عنه فلا يجوز ارتكابه إلّا بعروض الأهمّ ، كمعالجة المرض مع انحصارها فى ذلك، أو كالوقاية من حدوث المرض الذى يكون أضرّ على الحامل، وغير ذلك من الضرورات و المصالح التى تكون لازمة الاستيفاء عند الشارع.

ثمّ إنه ربّما استدلّ للمنع عن التعقيم بمثل ما ورد فى النهى عن الإخصاء كخبر سعيد بن المسيّب يقول: سمعت سعد بن أبى وقاص يقول: رد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على عثمان بن مظعون التبتّل، ولو أذن له لاختصينا(1).

وكخبر ابن مسعود قال: كنا نغزو مع النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم وليس لنا نساء فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصى ؟ فنهانا عن ذلك(2).

وكخبر ابن عبّاس قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم العزوبة فقال: ألا أختصى ؟ فقال له النبى صلى الله عليه و آله و سلم: «ليس منّا من خصى و اختصى»(3).

وكخبر عبدالله بن جابر عن عثمان بن مظعون قال: «قلت لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول الله، أردت أن أسألك عن أشياء، فقال: وما هى يا عثمان ؟ قال: قلت: إنى أردت أن أترهّب، قال: لا تفعل يا عثمان؛ فإنّ ترهّب أمّتى القعود فى المساجد وانتظار

ص: 254


1- الإسلام و تنظيم الاُسرة 456:2. صحيح البخارى 118:6-119، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتّل و الخصاء، ط - دار الفكر.
2- صحيح البخارى 118:6، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتّل و الخصاء.
3- مجمع الزوائد 254:4.

الصلاة بعد الصلاة، قال: فإنى أردت يا رسول اللّه أن أختصى، قال: لا تفعل يا عثمان؛ فإنّ اختصاء اُمّتى الصيام» الحديث(1).

بدعوى أنّه لا وجه للمنع إلّا لكونه موجباً للتعقيم.

ولكنه مدفوع: بأنّ الإخصاء يوجب إزالة الشهوة أصلاً بحيث لا يقدر على الجماع وسائر الاستمتاعات الاُخرى. و هذا بخلاف التعقيم؛ فإنّه لا يوجب إلّا سلب القابلية عن الاستيلاد، فالمنع عن الأشدّ لا يكون مستلزماً للمنع عن الأخفّ ، كما لا يخفى.

ثمّ إنه بناء على ممنوعية التعقيم الدائم لا فرق فيه بين أن يكون مستلزماً لإجراء عملية جراحية أو لا يكون، كما إذا أمكن ذلك بشرب دواء أو توجيه أشعّة كهربائية أو غير ذلك؛ لأنّ كلّ هذه الصور تعقيم وضرر على البدن.

ثمّ إنه قد عرفت أنّه عند تزاحم ضرر أقوى مع ضرر التعقيم تسقط حرمة التعقيم، ولكن اللازم فى هذا التقديم هو أن يكون رفع الضرر الأقوى أو دفعه متوقّفاً على التعقيم، وإلّا فلا تسقط حرمة التعقيم، كما لا يخفى.

و إذا كان العمل موجباً لنقص الجنين، فهل يجوز التعقيم فيما إذا لم يمكن النع عن انعقاد النطفة إلّا بذلك أو لا يجوز؟ يمكن أن يقال: لا يجوز ذلك لأنّ الضرر لا يصدق إلّا فيما إذا كان الموجود كاملاً، و أمّا إذا وجد من أوّل الأمر ناقصاً بطبع خلقته فلا يصدق عنوان الضرر عليه؛ إذ الضرر هو النقص الوارد على الكامل، ولذا لا يقاس المورد بما إذا كان حفر البئر فى دار موجباً لإضرار الجار فى ملكه وكان عدم الحفر موجباً لضرر صاحب الدار؛ فإنّ الضرر صادق فى الطرفين فيقدّم الأقوى على الأضعف، بخلاف المقام إذ الضرر لا

ص: 255


1- التهذيب 190:4، ب 46 من ثواب الصيام.

يصدق بالنسبة إلى الجنين؛ لما عرفت، ومع عدم صدق الضرر على الطرف الآخر لا يتزاحم الضرران. ومقتضى القاعدة هو تحريم التعقيم فى هذه الصورة.

نعم، لقائل أن يقول: إنّ نفى الضرر فى مثله إمّا معارض بنفى الحرج فيما إذا كان الولد الناقص الخلقة حرجاً عليه، فمع التعارض يتساقطان ويرجع إلى أصالة الإباحة، و إمّا مزاحم بنفى الحرج فالحكم هو التخيير لو لم يكن راجح بينهما، ومع ترجيح أحدهما فالمقدّم هو الراجح.

بل يمكن أن يقال: إنّ الضرر مزاحم بالضرر المالى فيما إذا كان الولد العليل مستلزماً للمخارج الكثيرة. اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الضرر البدنى أهمّ من الضرر المالى، فتأمّل.

وكيف كان، يتمّ ذلك لو اُحرز وجود الحرج أو الضرر بقيام العلم أو العلمى على وجوده، و أمّا مع عدم العلم بذلك فلا وجه لرفع اليد عن التكليف المعلوم باحتمال المعارض أو المزاحم.

ثمّ إنه بناءً على حرمة التعقيم من جهة كونه ضرراً بدنياً، هل يجوز إغلاق أنابيب الحمل مع احتمال عوده بالعملية الجراحية كما احتمله الأخصّائيّون فى هذا المجال بنسب مئوية معيّنة - أو لا يجوز؟ يمكن أن يقال: إن كان احتمال العود غير معتنى به فلا يجوز؛ لأنّه حينئذٍ مطمئنّ بالضرر، و إلّا فمقتضى الأصل هو الجواز؛ لأنّ مع الشكّ فى صدق الضرر لا يجوز التمسّك بعموم نفى الضرر؛ لأنّه تمسّك بالعامّ فى الشبهات الموضوعية، ومقتضى الأصل هو الجواز، ولا دليل فى المقام على اجتناب الظنّ بالضرر أو خوفه؛ إذ لزوم اجتناب خوف الضرر أو الظنّ به محتاج إلى الدليل. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يكفى.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ حكم العقل فيما إذا كان المحتمل مهما لا فى كل مورد،

ص: 256

إلّا أن يقال: إنّ العقم من تلك الموارد.

نعم، لا يحرز الحكم العقلى فى مثله إذاكان له من الولد بحدّ الكفاية وكان الزائد غير مرغوب فيه؛ فإنّ الحكم العقلى يختلف باختلاف القيود و الأوصاف، ألا ترى أنّ العقل بحكم بقبح الكذب لكن إذا انضمّ إلى ذلك مصلحة من المصالح العقلائية لايحكم بقبحه بل بحكم بحسنه ؟! اللّهمّ إلّا أن يصطاد من الموارد المختلفة التى يسقط الوجوب فيها باحتمال الضرر كالصوم و الوضوء وغيرهما - حكم كلّى تعبّدى، فتأمّل.

ثمّ إنه هل يجوز التعقيم مع كونه ضرراً بالفعل - باحتمال كون الحمل موجباً للضرر البدنى بالنسبة إلى الاُمّ أو لا يجوز؟ الظاهر أنّه لا يجوز ذلك؛ لأنّ ضرر التعقيم فعلى، ولا يرتكب الضرر الفعلى لدفع الضرر الاحتمالى. اللّهمّ إلّا أن يكون المحتمل ضرراً على النفس فيجب ارتكاب التعقيم دفعاً للهلاك، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (1).

ثمّ إنّ فى كل مورد جاز التعقيم لا يجوز الإقدام عليه من دون رضاية من يريد التعقيم؛ لأنّه تصرّف فى بدن الغير من دون رضاه وإذنه و هو محرّم.

ص: 257


1- البقرة: 195.

المقام الخامس

هل يجوز الإقدام على إعدام النطفة المنعقدة أو لا؟ استدلّ للحرمة بروايات:

منها: ما رواه فى الكافى عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن رفاعة قال: «قلت لأبى عبدالله عليه السلام: أشترى الجارية، فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح فى رحم فتسقى دواء لذلك فتطمث من يومها، أفيجوز لى ذلك وأنا لا أدرى من حبل هو أو غيره ؟ فقال) لى): لا تفعل ذلك. فقلت له: إنه إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذى يعزل، فقال لى: إنّ النطفة إذا وقعت فى الرحم تصير إلى علقة ثمّ إلى مضغة ثم إلى ما شاء الله، و إنّ النطفة إذا وقعت فى غير الرحم لم يخلق منها شىء، فلاتسقها دواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذى كانت تطمث فيه»(1).

وقوله عليه السلام: «لا تفعل» فى جواب السؤال عن جوازه وهكذا قوله فى الذيل:

«فلا تسقها...» يدلّان على حرمة ذلك فى صورة احتمال الحبل فضلاً عن العلم به، واكد ذلك ببيان الفرق بين النطفة الواقعة فى الرحم وبين النطفة المعزولة فى خارج الرحم؛ بأنّ الاُولى مبدأ الخلق و صيرورتها علقة ثمّ مضغة ثم إلى ما شاء الله، بخلاف الثانية.

ص: 258


1- الوسائل 582:2، ب 33 من الحيض، ح 1.

ومنها: ما رواه فى الفقيه بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبى عمير، عن محمّد بن أبى حمزة وحسين الرواسى جميعاً، عن إسحاق بن عمّار، قال: «قلت لأبى الحسن عليه السلام: المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقى ما فى بطنها، قال: لا. فقلت: إنّما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة»(1).

يدلّ الخبر على حرمة إسقاط النطفة بشرب مثل الدواء، واكده فى الذيل بقوله عليه السلام: «إنّ أوّل ما يخلق نطفة»، حيث بيّن الفرق بين النطفة الواقعة فى الرحم و الواقعة فى غيره بكون الاُولى مبدأ للخلق. و لعلّ المستفاد من التعليل المذكور هو عدم جواز إعدام النطفة التى ركبت فى خارج الرحم ووضعت فى ما يسمّى بالرحم الاصطناعى وشرعت فى التكامل؛ لعموم التعليل، و إذا ركّبت النطفة ولم توضع فى الرحم الطبيعى أو الاصطناعى جاز إعدامها؛ لأنّها متوقّفة عن السير و التكامل، والذى يستفاد من التعليل هو ممنوعية إسقاط النطفة السائرة و الآخذة نحو التكامل.

وكيف كان، فمقتضى الإطلاق عدم الفرق بين أن تكون النطفة المستقرّة عن حلال أو حرام، و بين أن يكون إقرار النطفة حلالا أو لم يكن؛ فإنّ ما بعد الإقرار يشمله إطلاق الدليل، كما لا يخفى.

ص: 259


1- المصدر السابق 15:19، ب 7 من أبواب القصاص، ح 1.

المقام السادس

إنّه لا يجوز إسقاط الجنين فى أىّ مرحلة كان؛ بدليل الأخبار الدالّة على حرمة إسقاط النطفة الواقعة فى الرحم، فإنها تدلّ على حرمة إسقاط الجنين بطريق أولى.

هذا مضافاً إلى صحيحة أبى عبيده عن أبى جعفر عليه السلام فى امرأة شربت دواء وهى حامل لتطرح ولدها فألقت ولدها، فقال: «إن كان عظماً قد نبت عليه اللحم وشق له السمع و البصر فإنّ عليها ديته تسلّمها إلى أبيه، و إن كان جنيناً علقة أو مضغة فإنّ عليها أربعين ديناراً أو غرّة (أى العبد و الأمة) تسلّمها إلى أبيه. قلت: فهى لا ترث من ولدها من ديته ؟ قال: لا؛ لأنّها قتلته»(1).

و هذه الرواية بضميمة الأخبار الدالّة على أنّ القتل من الكبائر - تدلّ على حرمة إسقاط الجنين من حين كونه علقة وحتى بلوغه المراتب الاُخرى.

لا يقال: إنّ بعض فقراتها ليس معمولاً به.

لأنّا نقول: لا يضرّ ذلك بسائر فقراتها، فقوله عليه السلام: لا ترث معلّلاً بانّها قتلته معمول به، و هو كافٍ للاستدلال.

ويشكل ذلك: بأنّ صدق القتل بنحو الحقيقة منوط بولوج الروح، فلابدّ من

ص: 260


1- الكافى 344:7، ح 6.

التخصيص لصورة ولوح الروح.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ تطبيق القتل على مثل العلقة و المضغة فى الرواية - مع أنّ المعلوم عدم ولوج الروح فيهما - دليل على أنّ المراد من القتل معنى يعمّ مورد السؤال.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ القتل بهذا المعنى لا يكون من الكبائر. وعليه فدلالة الرواية على الحرمة التكليفية فى جميع موارد الإسقاط غير واضحة.

ولقائل أن يقول: إنّ تنزيل سائر الموارد من الإسقاط بمنزلة القتل يكفى للدلالة على أنّ الإسقاط ذنب عظيم.

و ربّما يستدلّ بالأخبار الدالّة على وجوب تأخير رجم الزانية الحامل إلى أن تضع ما فى بطنها؛ لظهورتلك الأخبار فى أنّ الوجه فىِ التأخير هو لزوم حفظ الجنين، مع أنّ المعلوم هو لزوم المبادرة إلى إجراء الحدود، كما ورد عنهم عليهم السلام بانه: «ليس فى الحدود نظر ساعة»(1).

ومن جملة تلك الأخبار موثّقة عمّار الساباطى، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن محصنة زنت وهى حبلى، قال: «تقرّ حتى تضع ما فى بطنها وترضع ولدها، ثم ترجم»(2).

ومرسلة المفيد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لعمر و قد اُتى بحامل قد زنت فأمر برجمها، فقال له علىّ عليه السلام: «هب لك سبيل عليها، أىّ سبيل لك على ما فى بطنها و الله يقول: وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ؟» فقال عمر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن، ثم قال: فما أصنع بها يا أبا الحسن ؟ قال: «احتط عليها حتى تلد، فإذا

ص: 261


1- الوسائل: 336:18، ب 25، الحدود و التعزيرات، ح 1.
2- المصدر السابق: 380، ب 16، حدّ الزنا، ح 4.

ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدّ عليها»(1).

هذا كلّه مضافاً إلى إشعار أدلّة جعل الدية على إسقاط النطفة وما بعدها بالحرمة التكليفية و إن أمكن انفكاك الدية عن الحرمة كالكفّارة.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاق فى الروايات هو عدم الفرق فى الحرمة بين رضاية الزوجين بالإسقاط وعدمه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المحرّم هو الإسقاط، و أمّا تقوية الجنين أو إيجاد تغيير فيه من جهة الذكورة و الاُنوثة أو غيرهما فلا دليل على حرمتها ما لم يؤد إلى الإضرار بالحمل أو الحامل.

ص: 262


1- المصدر السابق: ب 16، حدّ الزنا، ح 7.

المقام السابع: فى فروع الحمل و الإسقاط

الأوّل: إذا كان الحمل موجباً لخوف موت الحامل فلا يجوز الحمل و إن أمر به زوجها؛ لقوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (1).

الثانى: إذا حملت المرأة ثمّ خافت من الموت من جهة إدامة الحمل، فإن كان قبل ولوج الروح جاز لها الإسقاط؛ لتزاحم وجوب حفظ النفس مع حرمة الإسقاط، و أهمّية وجوب حفظ النفس بالنسبة إلى حرمة الإسقاط.

و إن كان ذلك بعد ولوج الروح ففى المسألة قولان:

أحدهما: إنّه لا يجوز الإسقاط بوجه؛ لأنّ حفظ النفس لا يجوز بقتل نفس اُخرى، والمفروض أنّ الجنين نفس إنسانية ولا فرق فى ذلك بين الكبير و الصغير والجنين وغيره، كما هو مقتضى الروايات المانعة عن قتل الغير بالتقيّة و الضرورة والاضطرار، كقوله عليه السلام: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة...»(2)؛ اذ لا خصوصية للتقيّة فى ذلك.

...

هذا مضافاً إلى إمكان أن يكون المراد من التقيّة هو معناها الأعمّ ، و هو حفظ النفس من كلّ شرّ ومكروه فتأمّل - كما قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره: إنّ التقيّة أعمّ

ص: 263


1- البقرة: 195.
2- الوسائل 483:11، ب 31، الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، ح 2.

لغة؛ فإنّها بمعنى التجنّب و التحذر و المخافة، فصدقت على التحرّز من كل مكروه و شرّ - ثمّ قال: - فلا وجه لتقييد عمومات التقيّة بخصوص ما ذكر (من تقيّة المخالفين) بمجرّد كون مورد بعض الأخبار ذلك مع إمكان حملها على التفسير بالمصداق كما هو شائع ثم قال: - ومضافاً إلى روايات فيها صحاح قال: التقيّة فى كل ضرورة(1).

فمع شمول أخبار التقيّة للمقام بالإطلاق أو إلقاء الخصوصية لا مجال للرجوع إلى قاعدة التزاحم أو بناء العقلاء، بل لا مورد لهما مع أخبار التقيّة؛ إذ القاعدة تصلح للرجوع إليها إذا لم يرد دليل فى موردها، وهكذا لا يصحّ الرجوع إلى بناء العقلاء على فرض تسليم وجوده؛ لأنّ البناء مردود بالأخبار الدالّة على المنع عن حفظ النفس بقتل نفس محترمة، فتدبّر جيّداً.

و ثانيهما: إنه يجوز الإسقاط. و استدلّ له بوجوه:

منها: إنّ المسألة تكون من باب الدفاع، فيجوز للاُمّ الدفاع عن نفسها بالإقدام على إسقاط جنينها كما يجوز لها الدفاع عن نفسها إذا خافت من هجوم الغير؛ لعدم الفرق بين هجوم العامل الخارجى وهجوم العامل الداخلى.

و يشكل ذلك: بأنّ فرض الهجوم فى الحمل مع عدم حركة إرادية من الجنين كما ترى، فلا يقاس المقام بباب الدفاع.

هذا مضافاً إلى أنّ دفاع الاُمّ معارض بدفاع الحمل؛ إذ لوليّه أن يدافع عنه بمنع الاُمّ من الإسقاط، فافهم.

ومنها: إنّ المسألة من باب التزاحم؛ إذ دار الأمر بين ارتكاب محرّم و هو قتل النفس و بين ترك واجب و هو حفظ نفسه وعدم تعريضه للهلاك، فمقتضى حكم العقل عند التزاحم و دوران الأمر بين المحذورين وعدم ترجيح أحدهما على الآخر هو

ص: 264


1- المكاسب المحرّمة 150:2.

التخيير، وعليه فالحامل تتخيّر بين حفظ نفسها بإسقاط الولد وإعطاء الدية، وبين الكفّ عن الإسقاط و تحمّل الموت(1).

ويشكل ذلك: بما عرفت من حكومة أدلّة التقيّة على دليل حفظ وجوب النفس، فالتزاحم فرع وجود الملاك فى الطرفين، ومع حكومة تلك الأدلّة فلا ملاك لوجوب حفظ نفسها فى هذه الصورة حتى يلزم التزاحم(2).

ص: 265


1- راجع مبانى تكملة المنهاج 13:2. صراط النجاة 332:1.
2- هذا مضافاً إلى إمكان منع حرمة ترك حفظ النفس لحفظ الغير مستدلّا عليه بما حكى عن بعض التواريخ (انظر: المستطرف منكل فن مستظرف، لشها ب الدين محمّد بن أحمد بن أبى الفتح، المولود سنة 790 ه -، و المتوفى سنة 850 ه، الباب الثالث و الثلاثون) «عن حذيفة العدوى أنّه قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لى فى القتلى ومعى شىء من الماء و أنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له: أسقيك ؟ فأشار إلىّ أن نعم، فإذا برجل يقول: آه، فأشار إلىّ ابن عمّى أن انطلق إليه واسقه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك ؟ فأشار إلىّ أن نعم، فسمع آخر يقول: آه، فأشار إلىّ أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّى فإذا هو قد مات. ولكن يرد عليه: أوّلاً: إنّ هذه القصّة لا تصلح للاستناد؛ لأنّها وقعت - على الظاهر - بعد النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى حوالى سنة 13 من الهجرة؛ لأنّ قصّة اليرموك واقعة فى تلك السنة على ما يستفاد من الكامل فى التاريخ لابن الأثير 410:2، و البداية و النهاية لابن كثير 4:7. و تاريخ الطبرى 335:2، فلا استناد لها إلى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم. و ثانياً: إنّها ضعيفة السند، فلا تكون مورد الاعتماد. وثالثاً: إنّ خصوصيات أحوالهم من جهة أنّهم عالمون بموتهم أو بحياتهم أو غير ذلك غير واضحة. و رابعاً: إنّها لا تنهض لتخصيعى الآية الكريمة وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ، فتأمّل جيّداً. ولو سلّمنا صحّتها و دلالتها على جواز ترك حفظ النفس لحفظ الغير فهو لا ينافى دعوى التخيير -

و القول بأنّ دليل نفى الحرج حاكم على دليل عدم التقيّة فى الدم و إن كانت النسبة بينهما هى العموم من وجه؛ لأنّ عدم التقيّة فى الدم أعمّ من أن يلزم الحرج فى تركه(1).

لا ترجيح له من دعوى العكس؛ فإنّ قوله عليه السلام: «و إذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة»(2) من العناوين الحاكمة. هذا مضافاً إلى أنّ نفى الحرج يدلّ على جواز ارتكاب الدم أو تقديم نفى الحرج على حرمة ارتكاب الدم فيما إذا كان الشرّ و الضرر متوجّهين إلى الغير بالطبع، لا فى مثل المقام الذى وقع الطرفان فى الشرّ و الضرر بطبعهما ويكون الضرر متوجّهاً إليهما معاً؛ فإنّ الرفع فى مثله بالنسبة إلى أحد الطرفين خلاف الامتنان على الاُمّة، و أيضاً نفى الحرج كنفى الضرر، فلا يشمل الأحكام الواردة مورد الضرر والحرج كالجهاد.

وفى المقام يكون تحمّل الضرر بعدم إراقة دم الغير حكماً وارداً مورد الضرر، فلاتشمله أدلّة نفى الحرج. وأيضاً لو قدّم نفى الحرج على نفى التقيّة فيما إذا بلغت الدم لا يبقى مورد لنفى التقيّة وصار قوله عليه السلام: «إذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة» لغواً، فلا تغفل.

وعليه، فمع حكومة أدلّة التقية لا ملاك فى وجوب حفظ النفس حتى يرجع الأمر إلى الدوران بين المحذورين.

ومنها: إنّ مقتضى الأدلّة الدالّة على الحلّية عند الاضطرار كقوله تعالى:

ص: 266


1- كما فى المكاسب المحرّمة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس سره 155:2.
2- الوسائل 483:11، ب 31، الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، ح 2.

فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع عن اُمّتى... وما اضطرّوا إليه...»(2) - هو رفع الحرمة عن الإسقاط من باب الاضطرار، و الأصحاب عملوا بأدلّة الاضطرار فى مثل أكل الميتة، فلِمَ لايجوز التمسّك بها فى مثل المقام ؟! هذا مضافاً إلى تأييد ذلك بوجوب أكل الأب الغذاء المختصّ به دون أهله وولده فيما إذا توقّف حفظ حياتهم على أكل الغذاء المذكور.

ويشكل ذلك: بأنّ جواز قتل النفس بأدلّة الاضطرار ممّا لا يلتزم به أحد، ولذلك لا يفتىِ أحد بجواز قتل إنسان عند الاضطرار إلى أكل لحمه.

هذا مضافاً إلى أنّ الاضطرار كما يكون للاُمّ كذلك يكون للولد، فلوليّه أن يمنع الاُمّ من الإسقاط حتى يحفظ حياة الولد، ولو سلّم إطلاق أدلّة الاضطرار يقيّد بما ورد فى التقيّة من انّها ما دامت لم تبلغ الدم.

و أمّا التأييد بالمثال المذكور ففيه: أنّه أجنبىّ عن المقام؛ لأنّ عامل الموت فى الثال ليس هو الأب بل مات الأهل و الولد بسبب الجوع الوارد بالعوامل الطبيعية، و هذا غير إسقاط الجنين؛ فإنّ موت الجنين حصل بسبب مباشرة الاُمّ أو تسبيبها.

ومنها: إنّ بناء العقلاء فى أمثال المقام على التخيير، ألا ترى أنّ الاُمّ إذا اُلقيت فى البحر و تعلّق بها ولدها ودار أمرها: بين نجاة نفسها بغرق ولدها، وبين نجاة ولدها بغرق نفسها، وبين غرقهما، فهى ملومة إن اختارت الأخير، كما لا إشكال فى عدم كونها ملومة إذا اختارت أحد الأوّلين من نجاة نفسها بغرق ولدها أو بالعكس ؟! و هذا يكشف عن التخيير العقلائى فى مثل تلك الموارد.

ص: 267


1- المائدة: 3.
2- الوسائل 295:11، ب 561، جهاد النفس، ح 1.

و فيه:

أوّلاً: إنّ فرض تعلّق الغير بها يوجب دخول المسألة فى باب الدفاع؛ فإنّ من تعلّق به الغير له أن يدافع عن نفسه، والمقام كما عرفت - لا يكون من باب الدفاع؛ لعدم تعلّق اختيارىّ فيه، فالأنسب هو التمثيل بما إذا اُلقيت اُمّ مع وجود ولدها الرضيع فى صدرها فى البحر.

وثانياً: إنه لو سلّم اتصال البناء المذكور إلى زمان المعصوم فلا اعتبار به بعد رع الشارع عنه، والمفروض أنّ حفظ النفس بقتل نفس اُخرى ممنوع شرعاً بمثل أدلّة التقيّة؛ لتحديد وجوب حفظ النفس فيها بما إذا لم تبلغ الدم، فجواز إهلاك الاُمّ ولدها للتخلّص من الهلاك فى غاية الإشكال.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ تلك الأدلّة منصرفة عمّا إذا دار الأمر بين حفظ أحدهما وهلاك كليهما.

ولكن يدفعه: أنّ هذه الصورة أيضاً حفظ نفس بقتل نفس اُخرى، فيشملها الردع الشرعى، ولا يمنع عن الشمول انطباق عنوان آخر و هو الحفاظ على النفسين من الهلاك.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى حكم الحامل.

و أمّا حكم الطبيب فهو أشكل؛ لأنّ الاضطرار و الدوران للحامل لا للطبيب، و جواز المعالجة لا يوجب جواز قتل النفس لحفظ النفس؛ لانصراف أدلّة جواز المعالجة عن مثله.

نعم، لو قلنا بجواز الإسقاط للاُمّ حفظاً لنفسها وكان الطبيب أيضاً مقلّداً لمن يقول بجواز ذلك جاز له الإسقاط، كموارد القصاص؛ فإنّ القصاص كثيراًما لا يجرى بيد أولياء الدم بل يأتى به الجلّاد بإذن الحاكم، فالقتل و إهدار النفس إذا كان حقّاً جاز للغير الذى - يراه جائزاً أيضاً بشرائطه.

ص: 268

وممّا ذكر يظهر انه لا وجه للتفصيل بين الاُمّ و المعالج كما يظهر من بعض أجوبة الاستفتاءات للسيّد الخوئى قدس سره(1).

وهكذا لا حاجة إلى الحيلة بأن نهلك الاُمّ ولدها ثم يخرجه المعالح، مع أنّ ذلك لا يمكن فى جميع الموارد.

ثمّ إنّ للدوران بين حفظ نفس الاُمّ وبين حفظ نفس ولدها صوراً:

أحدها: ما إذا علمت الاُمّ بموت نفسها أو موت ولدها.

و ثانيها: ما إذا خافت الموت على نفسها وعلى ولدها.

وثالثها: ما إذا علمت موت نفسها وخافته على ولدها.

ورابعها: ما إذا خافت الموت على نفسها وعلمت موت ولدها.

و حينئذٍ نقول: إنه إن قلنا بأنّ المقام من موارد التزاحم فلا إشكال فى الأولى والثانية؛ لأنّ الأمر فيهما يدور بين المحذورين ولا ترجيح.

و أمّا بالنسبة إلى الثالثة فجواز الإسقاط أوضح؛ لأنّ الأمر يدور بين الموت القطعى و الموت الاحتمالى، ولا إشكال فى تقديم القطعى على الاحتمالى.

و أمّا بالنسبة إلى الرابعة فالأمر بالعكس، فلا يجوز الإقدام على الإسقاط.

و أمّا إن قلنا بحكومة أدلّة التقيّة لمثل المقام بناء على إطلاقها أو إلقاء الخصوصية - فالصورتان الاُولى و الرابعة واضحتان؛ لأنهما تحفظان النفس بقتل النفس فلا يجوز.

و أمّا الثانية و الثالثة فتكونان من موارد الشبهة الموضوعية؛ لعموم المنع عن إراقة دم الغير. نعم، حيث كانت الشبهة فى الدماء و النفوس محكومة بوجوب الاحتياط فيها كانتا ملحقتين بالموارد المعلومة، وعليه فلا فرق بين الصور الأربعة.

ص: 269


1- المسائل الشرعية 309:2، السؤال: 37.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه إذا قلنا بالتزاحم و إفادة التخيير للاُمّ فلو زاحم الاُمّ ولىّ الجنين فاللازم هو الترافع إلى الحاكم، و هو ينظر فإن رجح عنده طرف بالنسبة إلى الآخر فهو، و إلّا فمقتضى القاعدة عند التشاحّ وعدم الترجيح هو القرعة؛ لأنها لكلّ أمر مشكل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه إذا دار الأمر بين حفظ نفس الاُمّ وهلاك التوأمين أو أزيد وقلنا بالتزاحم فلا يبعد القول بعدم جواز الإسقاط للاُمّ ؛ لأنّه حفظ نفس واحدة بإهلاك النفسين، و هو مرجوح.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين نجاة شخص من الموت وتأخير موت آخر كما إذا كانت معيّتهما موجبة لموتهما، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر نجا أحدهما و اُخّر موت الآخر - فإن لم يكن موته مسبّباً عن الانفصال فلا إشكال فى الجواز، و أمّا مع كونه مسبّباً عن الانفصال فحكمه حكم ما مرّ، و مجرّد التأخير لا يوجب تفاوتاً فى الحكم.

الثالث: إذا اقتضت ضرورة المعالجة إسقاط الجنين، فإن أمكن تأخير المعالجة فاللازم هو التأخير، و إلّا فمع عدم ولوج الروح فى الجنين يجوز الإسقاط عند الاضطرار إلى المعالجة؛ لمثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع... وما اضطرّوا إليه»(1)، و أمّا مع ولوج الروح فلا يجوز؛ لما عرفت مفصّلاً.

الرابع: إن علمت الحامل أنّ الجنين لو بفى لمات بمجرّد الولادة، فهل يجوز إسقاطه قبل ولوج الروح أو لا يجوز؟ يمكن أن يقال: مقتضى إطلاق أدلّة حرمة إسقاط الجنين هو عدم الجواز فى هذه الصورة، فضلاً عمّا إذا ولجت الروح فيه.

هذا مضافاً إلى أنّ إسقاط الجنين خوفاً عليه من الموت إسراع فى إعدامه.

ص: 270


1- الوسانل 295:11، ب 56، جهاد النفس، ح 1.

الخامس: إن علمت أنّ الجنين صار معلولا وناقص الخلقة فلا يجوز لها إسقاطه؛ لإطلاق أدلّة حرمة إسقاط الجنين. هذا مضافاً إلى أنّه قتل نفس محترمة إن كان الإسقاط بعد ولوج الروح.

و الاستدلال بنفى الحرج اللازم من إبقاء الجنين و تولّده مع ما فيه من المعلولية المقتضية للمعالجة الصعبة و الاتّفاقات الكثيرة - ممنوع:

أوّلاً مضافاً إلى منع الحرج فى أكثر الموارد -: بأنّ أدلّة نفى الحرج لا تشمل الحرج المتوجّه إليه بالطبع كما أنّ أدلّة نفى الضرر لا تشمل الضرر المتوجّه إليه بالطبع، فلا يجوز لمن توجّه إليه الحرج أو الضرر بالطبع الأوّلى أن يسوق الضرر أو الحرج إلى الغير؛ لأنّ القاعدتين للامتنان على الاُمّة، وإيراد الضرر أو الحرج المتوجّهين إليه على الغير خلاف الامتنان على الاُمّة.

و ثانيا: إنّ الحرج التقديرى والاستقبالى لا يمنع الحرمة الفعلية، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الحرج يحرز بوجود العلم أو العلمى فى المستقبل، و هو كافٍ ، بل الضرر غالباً يكون متوجّهاً إليه فى الاستقبال، نعم يلزم أن لا يطول الزمان.

ويمكن أن يقال: إنّ الحرج الاستقبالى و إن صار فى حكم الفعلى بعد العلم بوجوده فى الآتى إلّا أنّه لا فاعلية له بالنسبة إلى رفع الحكم الفعلى.

وثالثأ: إنّ الحرج لا يجوٌز القتل، ألا ترى أنّ الآباء والاُمّهات وغيرهم ربّما بلغوا من الكبر إلى حدّ يلزم منه الحرج و الضرر، فهل يلتزم أحد بجواز قتلهم ؟! ولعل تقديم حرمة إسقاط الجنين على حرمة تأخير إجراء الحدود مع أهمّيته شاهد على أهمّية حفظ نفس الجنين، فلاترفع اليد عن وجوب حفظ نفس الجنين بمثل الحرج و الضرر والاضطرار.

السادس: لوكان الجنين معتلاً بعلّة بحيث لا يمكن له أن يتطوّر ويبلغ مرحلة ولوج الروح فيه، فلقائل أن يقول: بأنّ تعليل حرمة إسقاط النطفة فى صحيحة رفاعة

ص: 271

- بأنّ النطفة إذا وقعت فى الرحم تصير إلى علقة ثم إلى مضغة ثمّ إلى ما شاء الله...

إلخ - يدلّ على أنّ حرمة الإسقاط إنما هى فى النطفة التى تقع فى مسير التكامل إلى حدّ الإنسانية لا النطفة التى تكون كالغدد ولا تصل إلى ذلك الحدّ. وعليه فإسقاط ما لا يمكن أن يقع فى مسير التكامل إلى حدّ الإنسانية وولوج الروح فيه لا بأس به؛ كما إذا كان الجنين بصورة حيوان، أو كما إذا لم يكن للجنين رأس، ونحو ذلك.

نعم، إذا اُحرز ولوج الروح فى المعلول فلايجوز إسقاطه ولو بلغ فى المعلولية ما بلغ وكان حرجاً على اُمّه و أبيه.

ص: 272

المقام الثامن: فى أحكام الدية

وهنا فروع:

الأوّل: إنه إذا أفزع شخص غيره فى حال الجماع بحيث يعزل وجب عليه عشرة دنانير، بلا خلاف ظاهر.

كمايشهد له معتبرة ظريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه أفتى: «فى منىّ الرجل يفزع (يفرغ) عن عرسه فيعزل عنها الماء ولم يرد ذلك نصف خمس المئة؛ عشرة دنانير» الحديث(1).

وظاهر الكلمات أنّ دية تضييع النطفة على من أفزع مجامعاً تختصّ بصورة العمد و الالتفات، و أمّا إذا حصل الفزع بفعل الغير من دون عمد و التفات فلا.

ولكنه محل تأمّل؛ لأنّ قوله: «يفزع» بصيغة المجهول أعمّ من صورة العمد والالتفات، فالحكم الوضعى ثابت بالإطلاق و إن لم يفعل حراماً.

ثم إنه يقع الكلام فى أنّ الرواية هل تشمل الزوجة إذا أفزعت الرجل بحيث صار موجباً للعزل أم لا؟ ربّما يقال: بانّها منصرفة عن هذه الصورة؛ لأنّ قوله: «عن عرسه» ظاهر فى أنّ المفزع هو شخص ثالث. اللّهمّ إلّا أن يتعدّى عن موردها بتنقيح المناط القطعى.

ص: 273


1- المصدر السابق 238:19، ب 19، ديات الأعضاء، ح 1.

ولو افزع رجل من يريد العزل فلا تكون الرواية شاملة له؛ لتقييدها بقوله:

«و لم يرد ذلك»؛ إذ ظاهره أنّ المشار إليه بقوله: «ذلك» هو العزل، وعليه فمن أراد العزل لا يكون داخلاً فى الرواية.

الثانى: إنه إذا عزل الزوج عن زوجته اختياراً بلا إذن منها، قيل: يلزمه عشرة دنانير مستدلّا بانه مفوّت كغيره. ولكنه كما ترى؛ إذ لا دليل لذلك، والرواية الواردة فى الإفزاع لا تشمل المورد المذكور، وكراهة الزوجة لذلك لا توجب الدية، كما لعلّه يدلّ عليه موثّق محمّد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: «لا بأس بالعزل عن المرأة الحرّة إن أحبّ صاحبها، و إن كرهت ليس لها من الأمر شىء»(1).

والاستيلاد حقّ الزوج، كما يدلّ عليه قوله تعالى: نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ (2)؛ فإنّ المستفاد منه هو أنّ زوجة كل رجل حرث ومزرعة له، وأمر الزرع و الحرث فيها بيده، فإن شاء الاستيلاد فليس للزوجة الممانعة، و إن شاء العزل فليس للزوجة أيضاً الممانعة، ولا دليل على ثبوت هذا الحق للزوجة، كما لا يخفى.

الثالث: إنّ إسقاط النطفة المستقرّة فى الرحم يوجب عشرين ديناراً، وإسقاط العلقة يوجب أربعين ديناراً، وإسقاط المضغة يوجب ستّين ديناراً، وإسقاط العظم يوجب ثمانين ديناراً، و إسقاط الجنين الكامل قبل ولوج الروح يوجب مئة دينار، وإسقاط الجنين بعد ولوج الروح يوجب ألف دينار.

و قد دلّت الروايات(3) على ذلك، والتى منها: ما رواه فى الكافى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه جعل دية الجنين مئة دينار، وجعل منىّ الرجل إلى أن يكون جنيناً

ص: 274


1- المصدر السابق 105:14، ب 75، مقدّمات النكاح، ح 4.
2- البقرة: 223.
3- انظر: الوسائل 237:19، ب 19، ديات الأعضاء.

خمسة أجزاء، فإذا كان جنينا قبل أن تلجه الروح مئة دينار؛ وذلك إنّ الله عزّ و جلّ خلق الإنسان من سلالة وهى النطفة فهذا جزء، ثمّ علقة فهو جزءان، ثم مضغة فهو ثلاثة أجزاء، ثم عظما فهو أربعة أجزاء، ثمّ يكسى لحماً فحينئذ ثمّ جنيناً فكملت له خمسة أجزاء؛ مئة دينار. والمئة دينار خمسة أجزاء؛ فجعل للنطفة خمس المئة عشرين ديناراً، وللعلقة خمسى المئة أربعين ديناراً، وللمضغة ثلاثة أخماس المئة ستّين ديناراً، وللعظم أريعة أخماس المئة ثمانين ديناراً. فإذا كسى اللحم كانت له مئة دينار كاملة، فإذا نشأ فيه خلق آخر و هو الروح فهو حينئذٍ نفس، فيه ألف دينار دية كاملة إن كان ذكراً، و إن كان اُنثى فخمسمئة دينار... الحديث(1).

ولا كلام فيه بالنسبة إلى ولد الحلال، و إنّما الكلام فى دية ولد الزنا؛ فإن قلنا بنفى النسب شرعاً فى الزنا فلا يوجب إسقاط جنين الزنا دية جنين ولد الحلال و إن كان الإسقاط حراماً؛ لعدم تبعيّته للمسلم، نعم لوبلغ و أظهر الإسلام فلا خلاف فى كون ديته دية مسلم.

و إن قلنا بعدم نفى النسب شرعاً فى الزنا فمقتضى القاعدة أنّ ولد الزنا ولد لهما شرعاً ولغة وعرفاً؛ فإنّ الولد كما فى التنقيح - ليس له اصطلاح حادث فى الشرع و إنّما هو على معناه اللغوى، ولم يرد فى شىء من رواياتنا نفى ولديّة ولد الزنا(2)، فيترتّب عليه ما يترتّب على ولد الحلال.

والتحقيق: هو عدم ثبوت دليل على نفى النسب شرعاً و إن كان ظاهر المحكئ من كلمات القدماء هو نفى النسب شرعاً؛ وذلك لأنّ ما استدلّ له غير تامّ ؛ إذ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» بقرينة الروايات المتعدّدة - حكم

ص: 275


1- الكافى 342:7، ح 1.
2- التنقيح 70:3.

ظاهرى لاحكم واقعى، فلا يصحّ الاستدلال به على نفى ولديّة ولد الزنا. وإليك جملة من هذه الروايات:

منها: ما رواه فى الوسائل عن التهذيب بإسناده عن محمّد بن على بن محبوب، عن علىّ بن السندى، عن صفوان، عن إسحاق بن عمّار، عن سعيد الأعرج، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: قلت له: الرجل يتزوّج المرأة ليست بمأمونة تدّعى الحمل، قال:

«ليصبر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن الكافى عن أحمد، عن علىّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن الحسن الصيقل، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: سمعته يقول: وسئل عن رجل اشترى جارية ثمّ وقع عليها قبل أن يستبرئ رحمها، قال: «بئس ما صنع! يستغفر الله ولا يعود. قلت: فإنه باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها، ثمّ باعها الثانى من رجل آخر ولم يستبرئ رحمها فاستبان حملها عند الثالث، فقال أبو عبدالله عليه السلام:

الولد للفراش وللعاهر الحجر(2)».

ومنها: ما رواه فيه أيضاً عن الكافى بإسناده، عن أبى على الأشعرى عن محمّد بن عبدالجبّار، وعن حميد بن زياد عن ابن سماعة جميعاً، عن صفوان، عن سعيد الأعرج، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: سألته عن رجلين وقعا على جارية فى طهر واحد، لمن يكون الولد؟ قال: «للّذى عنده؛ لقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر»(3).

وغير ذلك من الأخبار.

فالمستفاد من هذه الروايات أنّ عند الشكّ فى نسب الولد يكتفى بالفراش فى

ص: 276


1- الوسائل 565:14، ب 56، نكاح العبيد و الإماء، ح 1.
2- المصدر السابق: 568، ب 58، نكاح العبيد و الإماء، ح 2.
3- المصدر السابق: ح 4.

لحوق الولد بصاحب الفراش لا بالعاهر، و هذا لا يدلّ على أنّ مع العلم بكون الولد من الزانى ليس الولد ولداً له شرعاً؛ فهو حكم ظاهرى لا واقعى.

و قد يستدلّ على نفى النسب شرعاً بصحيح الحلى عن أبى عبدالله عليه السلام قال:

«أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراماً ثمّ اشتراها فادعى ولدها فإنه لا يورّث منه؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورّث ولد الزنا إلّا رجل يدّعى ابن وليدته»(1).

بدعوى: أنّ قوله عليه السلام: «ولا يورّث ولد الزنا» يشير إلى الحكم الواقعى من نفى النسب عن العاهر؛ فإنه كالصريح فى ولد الزنا الواقعى(2).

وعليه، فتطبيق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» على ولد الزنا الواقعى دليل على أنّ الراد من هذا القول هو الحكم الواقعى، فإذا كان حكماً واقعياً فهو يدلّ على سلب ولديّة ولد الزنا عن العاهر شرعاً.

وفيه:

أوّلاً: إنّ نفى الإرث عن ولد الزنا أعمّ من أن يكون الولد ولد زنا واقعاً أو ولد زنا باعتراف العاهر، وعليه فقوله عليه السلام: «و لا يورّث ولد الزنا» ليس بصريح فى ولد الزنا الواقعى.

و ثانيا: إنّ الظاهر من الصدر و الذيل من الرواية هو أنّ ولد الوليدة مورد النزاع بين المشترى وصاحب الوليده فادعى المشترى بانه الذى تكوّن من وقوعه عليها قبل الشراء، وادعى صاحبها أنّه ابن وليدته، فالولد محكوم بقاعدة «الولد للفراش» لصاحب الوليدة، والوارث منه هو هو لا العاهر؛ لأنّه لا فراش للعاهر قبل الشراء،

ص: 277


1- المصدر السابق: 583، ب 74، نكاح العبيد و الإماء، ح 1.
2- المستمسك 259:14، ط - دار إحياء التراث.

فهو حكم ظاهرى لا واقعى.

وثالثاً: إنّ حمل الصدر على الحكم الواقعى و الذيل على الحكم الظاهرى يوجب الجمع بين إرادة الحكم الواقعى و الظاهرى فى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، و هو محال؛ لأنّ الشك موضوعاً أو مورداً - مأخوذ فى الحكم الظاهرى بخلاف الحكم الواقعى، والجمع بين أخذ الشكّ وعدمه مستحيل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ القضية واقعية حتى فى الموارد المشكوكة؛ فإنه بعد وجود الفراش كان الحكم الواقعى هو ثبوت الولد للفراش، و هذا الحكم جارٍ فى الموارد المشكوكة لا من باب أخذ الشكّ فى موضوعه أو مورده حتى يكون أصلاً أو أمارة، بل من باب جريان الحكم الواقعى و سريانه حتى فى حال الشكّ ، فتأمّل.

فانقدح أنّ دعوى نفى ولديّة ولد الزنا واقعاً غير ثابتة، و نفى الإرث لا يلازم نفى الولديّة شرعاً، ولذا يقوى حرمة النكاح بين ولد الزنا و المحارم، ولا يجوز الجمع بين الاُختين اللتين كلتاهما أو إحداهما من الزنا، وغير ذلك من الأحكام المترتبة على الولاده، وليس الوجه فى ذلك إلّا الولادة العرفية و الشرعية.

و أمّا ما ذهب إليه فى. المستمسك من الجمع بين نفى الولادة شرعاً وبقاء حرمة النكاح مدّعياً بأنّ المستفاد من بعض الروايات ومن مذاق الشرع الأقدس إنّ حرمة النكاح تابعة للنسب العرفى؛ بدليل استنكار أن يكون أولاد آدم عليه السلام قد تزوّجوا أخوانهم، و أنّ تحريم النكاح من الأحكام الإنسانية لا من الأحكام الشرعية تعبّداً(1) - فكما ترى.

وعليه، فمقتضى القاعدة هو أنّ دية ولد الزنا دية ولد الحلال من دون فرق بين حال كونه جنيناً وغيرها؛ فإنه ملحق بأبيه، فإذا كان أبوه مسلما فهو محكوم بحكه فى

ص: 278


1- انظر: المستمسك 18:14.

الدية و إن كان من الزنا.

نعم، يمكن رفع اليد عن القاعدة المذكورة بدليل خاصّ ، و هو ما رواه فى التهذيب بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن عبدالرحمان بن حمّاد، عن إبراهيم بن عبدالحميد، عن جعفر عليه السلام، قال: قال «دية ولد الزنا دية الذمّى ثمانمئة درهم»(1).

ودعوى ضعف السند كما صرّح به المحقّق الحلّى فى الشرائع(2) - لعدم توثيق عبدالرحمان بن حمّاد فى كتب الرجال.

مندفعة بأنّه ممّن روى عنه ابن أبى عمير، و هو كافٍ فى الوثاقة؛ لأنّه لا يروى إلّا عن الثقة، هذا مضافاً إلى ما قيل من وروده فى أسناد كامل الزيارات، فتأمّل.

ولكن ثبوت الإسلام بإظهار الإسلام بعد البلوغ كما فى الجواهر - من ضرورة المذهب بل الدين، ومعه يندرج بذلك فى المسلمين و المؤمنين فى الديات وغيرها، وعليه فرفع اليد بمثل المعتبرة عن ذلك مشكل، كما أنّ إثبات دية الذمّى له قبل البلوغ مع كونه ملحقاً بأبيه بمقتضى ما عرفت من ولديّة ولد الزنا لوالده وعدم ثبوت نفيه عنه شرعاً مع عدم عمل الأصحاب به أيضاً لا قبل البلوغ ولا بعده - فى غاية الإشكال، فالأحوط التصالح، و بقيّة الكلام فى محلّه(3).

ثمّ إنّ دية ولد الزنا تدفع إلى الحاكم الشرعى فيما إذا كان الزنا من الطرفين؛ لأنّ ولد الزنا لا يورّث مطلقاً لا من طرف الزانى ولا من طرف المزنى بها، ولا من طرف من يتقرّب بالزانى ولا من طرف من يتقرّب بالمزنى بها، كما يقتضيه نفى

ص: 279


1- الوسائل 164:19، ب 15، ديات النفس، ح 3.
2- شرائع الإسلام 247:4، ط - النجف.
3- راجع مظان البحث فى الجواهر 33:43 و 158:42. التنقيح 7.:3. جامع المدارك 6: 179. المستمسك 259:14.

التوارث عنه مطلقاً بقوله عليه السلام: «لا يورّث ولد الزنا»، فيختصّ إرثه بالإمام عليه السلام؛ فإنه وارث من لا وارث له.

نعم، لو كان الزنا من طرف واحد تُدفع الدية إلى من لم يزنِ إن كان حيّاً، و إلّا فإلى من يتقرّب به.

ثمّ إنّ إسقاط الجنين إن كان بمباشرة الأب فلا يوجب إلّا الدية ولوكان بعد ولوج الروح؛ للنصوص الدالّة على أنّه: «لا يقاد و الد بولده» الحديث(1).

ص: 280


1- الوسائل 256:19، ب 32، القصاصى فى النفس، ح 1.

المقام التاسع

إنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ من ضرب حاملاً فأسقطت حملها فمات حين سقوطه فالضارب قاتل، وعليه القود إن تعمّد وقصد ذلك.

قال فى الجواهر: «يقتل الضارب إن كان عمداً؛ لتحقّق موضوع القصاصفيه و هو إزهاق الروح المحترمة، سواء كانت مستقرّة أو لا، خلافاً لبعض العامّة حيث حكم بانه إذا لم يتوقّع أن يعيش لا تكمل فيه الدية، (و) عن آخر فأوجب فيه الغرّه.

و هوكما ترى منافٍ لإطلاق الأدلّة التى مقتضاها القصاص مع تيقّن حياته وإزهاقها بالجناية»(1).

هذا مضافاً إلى مرسلة ابن فضّال، عن بعض أصحابه، عن أبى عبدالله عليه السلام قال:

«كل من قتل شيئاً صغيراً أوكبيراً بعد أن يتعمّد فعليه القود»(2).

وذهب فى مباتى تكملة المنهاج إلى أنّ الأقرب عدم القصاص وعليه الدية؛ من جهة عدم ثبوت القصاص و القود على من قتل صغيراً بل عليه الدية(3).

و أجاب عن العمومات و المطلقات بانّها قابلة للتخصيص. بصحيحة أبى بصير - يعنى المرادى - قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قتل رجلاً مجنوناً، فقال: «إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه (فقتله) فلا شىء عليه من قودولا دية، ويعطى ورثته ديته من بيت مال المسلمين. قال: و إن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده

ص: 281


1- الجواهر 381:43.
2- الوسائل 56:19، ب 31، القصاص فى النفس، ح 4.
3- مبانى تكملة المنهاج 71:2، 167، 417.

فلا قود لمن لا يقاد منه، و إنّ على قاتله الدية فى ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ويستغفر الله و يتوب إليه»(1).

بتقريب: أنّ الصحيحة و إن كان موردها المجنون إلّا أنّ قوله عليه السلام «فلا قود لمن لا يقاد منه» تطبيق للكبرى على الصغرى، فتدلّ على عدم القود على الصغير أيضاً.

و أمّا المرسل فهو و إن كان لا بأس بدلالته إلّا أنّه ضعيف سنداً من جهة الإرسال.

نعم، رواه الصدوق بسنده الصحيح عن ابن بكير عن أبى عبدالله عليه السلام، إلّا أنّه قال: «كل من قتل بشىء صغر أو كبر»(2). ولكنّه ضعيف دلالةً ؛ نظراً إلى أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «صغر أوكبر» هو أنّ الصغر و الكبر صفة للشىء الذى يقع به القتل، وعليه فالرواية أجنبية عن كون المقتول صغيراً أوكبيراً(3).

و فيه:

أوّلاً كما فى جامع المدارك -: إنّ هذا مبنىّ على إطلاق «من لا يقاد به»، ومن يقول بأنّ وجود قدر المتيقّن فى مقام التخاطب مانع من الإطلاق يمنع الإطلاق(4).

ولقائل أن يقول: إنّ هذا إشكال مبنائى، فلا يرد على من يقول إنّ القدر المتيقّن فى مقام التخاطب لا يمنع عن الإطلاق.

وثانياً كما فى جامع المدارك أيضاً -: إنّ لازم ما ذكر عدم القود لو قتل النائم؛ لأنّ النائم مع كونه نائماً لو قتل أحداً فى حال النوم لا قود عليه، ولا أظن أن يلتزم به، و هذه الصحيحة تدلّ على أنّ العاقل لا يقتل بالمجنون(5)،

ص: 282


1- الوسائل 51:19، ب 28، القصاصى فى النفس، ح 1.
2- المصدر السابق: 56، ب 31، القصاص فى النفس، ح 4.
3- مبانى تكملة المنهاج 71:2.
4- جامع المدارك 236:7.
5- المصدر السابق.

أضف إلى ذلك المصروع أو المغمى عليه أو الوالد فإنّهم لا يقادون. اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الإطلاق منصرف عن هذه الموارد، ولكنه لا وجه له ولا دليل على التخصيص فى جميع هذه الموارد، فعدم التزامهم بالإطلاق مع عدم وجه للانصراف وعدم إقامة دليل على التخصيص فى جميع الموارد شاهد صدق على عدم الإطلاق.

وثالثا كما أفاد اُستاذنا الأراكى قدس سره -: إنّ العلّية فى مثل المقام ليست على نحو العلّية المستفادة من اللام؛ ففرق بين قولنا: الخمر حرام لانه مسكر، وقولنا: الخمر حرام إذا كان مسكراً؛ إذ مفاد الأوّل أنّ ميزان الحرمة هو الإسكار فى أىّ موضوع كان، ومفاد الثانى أنّ وصف الإسكار متى تحقق فى موضوع الخمر يوجب ترتّب الحرمة عليه، ومتى لم يتحقّق فيه يوجب انتفاءها عنه من دون تعرّض لحال غير الخمر، وفى المقام تكون العلّية للحكم بالنسبة إلى الموضوع المذكور فى نفس القضية الشرطية و هو قتل المجنون عمداً من دون نهاجم على القاتل - بمعنى أنّ وجود تالى الأداة علّة لترتّب الحكم على هذا الموضوع، وعدمه علّة لانتفاء سنخ الحكم عن هذا الموضوع، من غير تعرّض بحال موضوع آخر أصلاً(1).

و عليه فعدم القود ممّن لا يقاد منه راجع إلى الموضوع المذكور فى القضية الشرطية و هو المجنون، فلا يتعدّى عنه إلى غيره، فلا تغفل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ لسان قوله عليه السلام: «فلا قود لمن لا يقاد منه» لسان كلّى.

فالجواب: هو عدم الالتزام بمقتضى الإطلاق.

وكيف كان، فلا وجه لرفع اليد عن العمومات بعد الشكّ فى إطلاق المخصّص، فلا تغفل.

ص: 283


1- راجع: كتاب الطهارة 9:1-10.

المقام العاشر

إنّ الحاكم الإسلامى له ولاية الاُمور، فإذا رأى لزوم تحديد النسل و أمر به يجب على الناس إطاعته؛ فإنّ قوام الولاية بالإطاعة بناءً على تماميّة أدلّة النيابة والولاية، ولا ينافى ذلك ما عرفت من مطلوبيّة كثرة التوالد و التناسل من حيث هى هى، بل لو رأى أنّ اللازم هو إغلاق أنابيب الحمل وجبت أيضاً إطاعته إذا أمر وحكم بذلك، ولا ينافى ذلك حرمة الإغلاق؛ إذ الحرمة مع القطع بالعناوين الطارئة وترجيحها عليها تسقط عن الفعلية.

نعم، يدور حكم الحاكم مدار المصالح و المفاسد الملزمة العارضة، فإذا تبدّلت عاد التحديد و التسديد إلى حكمهما، فيحكم الحاكم بنقض حكمه كما لا يخفى.

وبالجملة، مقتضى أدلّة النيابة العامّة هو ولاية الحاكم على الناس؛ قياماً للملّة وحفظاً للمسلمين ودفعاً للضرر المنفى فى حوزة الإسلام، فيجب أن يحكم بحسب تشخيصه فى الموارد اللازمة، كما يجب على الناس إطاعته والانقياد له، فافهم و اغتنم.

ص: 284

المسألة الرابعة تدليس الماشطة

تدليس الماشطة: المرأة التى - يراد تزويجها أو الامة التى يراد بيعها بستر عيبها واظهار ما يحسنها مما لم يكن فيها يقع الكلام فى امور:

الاول: فى كلمات الاصحاب: قال فى المقنعة وكسب المواشط حلال اذا لم يغششن و يدلسن فى عملهن فيصلن شعر النساء بشعور غيرهن من الناس ويوشمن الخدود و يستعملن فى ذلك ما حرّمه الله فان فعلن شيئاً من ذلك كان كسبهن حراما(1).

قال فى المقنع ولاباس بكسب الماشطة اذا لم تشارط وقبلت ما تعطى ولا تصل شعر المرأة بشعر امراة غيرها واما شعر المعز فلاباس بان يوصل بشعر المرأة(2).

وقال فى النهاية وكسب المواشط حلال اذا لم يغشش و لا يدلسن فى عملهن فيصلن شعر النساء بشعر غيرهن من الناس و يوشمن الحدود و يستعملن ما لايجوز فى شريعة الاسلام فان وصلن شعورهن بشعر غير الناس لم يكن بذلك باس(3).

قال فى السرائر فى عداد المحرمات وعمل المواشط بالتدليس بان يشمن الحدود

ص: 285


1- المقنعة: ص 588 ط جديد.
2- المقنعة: ص 22 على المحكى.
3- النهاية: ص 366.

ويحمرنها وينقشن الايدى والارجل ويصلن شعر النساء بشعر غيرهن وما جرى مجرى ذلك مما يلتبس به على الرجال فى ذلك(1).

قال فى الكافى لابى الصلاح الحلى فى عداد المحرمات ووشم وجوه النساء وتدليسس بزخرفة الأفعال(2).

قال فى المهذب فى عداد المحرمات عمل المواشط بالتدليس بان يشمن الخدود ويصلن شعر النساء بشعر غيرهن من النساء وما جرى مجرى ذلك ممايلتبس به على الرجال فى ذلك(3).

قال فى المراسم فى عداد المحرمات فاما كسب المواشط اذا لم يغششن... فحلال طلق(4).

قال فى الدروس فى عداد المحرمات و الغش الخفى كشوب اللبن بالماء وتدليس الماشطة لتزين الخد وتحميره و النفش فى اليد و الرجل قاله ابن ادريس ووصل شعرها بشعر غيرها(5).

وقال العلامة فى الارشاد فى عداد المحرمات وتدليس الماشطة.

وقال الاردبيلى فى شرح الارشاد المراد تدليس المرأة الى تريد تزويج امرأة برجل أو بيع امة بان يستر عيبها ويظهر ما يحسنها من تحمير وجهها ووصل شعرها مع عدم علم الزوج و المشترى بذلك و الظاهر انه غير مخصوص بالماشطة بل لو فعلت المرأة بنفسها ذلك كذلك بل لو فعلت أولاً لا للتدليس ثم حصل فى هذا الوقت المشترى أو الزوج فاخفاؤه مثل فعله ودليل التحريم كانه الاجماع وانه غش و هو

ص: 286


1- السرائر: ص 207.
2- ص 281.
3- المهذب 345:1.
4- جوامع الفقهية: ص 647.
5- ص 327.

حرام(1).

قال فى التذكرة الغش و التدليس محرمان كشوب اللبن بالماء وتدليس الاشطة وتزيين الرجل بالحرام.

قال الصادق عليه السلام: ليس منا من غشنا وقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لرجل يبيع التمر يافلان اما علمت انه ليس من المسلمين من غشّهم ونهى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ان يشاب اللبن بالماء للبيع ولاباس بكسب الماشطة اذا لم تفعل التدليس، قال سماعة سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرايس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها تضييق قال لابأس ولكن لاتصل الشعر بالشعر واذا لم يحصل تدليس بالوصل لم يكن به باس.

سئل الصادق عليه السلام عن القرامل التى يضعها النساء فى رؤوسهن يَصِلنَه بشعورهن فقال لاباس به على المرأة ما تزينت به لزوجها فقيل له بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة فقال: ليس هناك انما لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم التى تزنى فى شبابها فاذا كبرت قادت النساء الى الرجال فتلك الواصلة و الموصولة(2).

وقال فى القواعد فى عداد ما نص الشارع على تحريمه وتدليس الماشطة(3).

قال فى جامع المقاصد فى شرحه (وتدليس الماشطة) بتحمير الوجه وتزيين الخد ونقش اليد و الرجل ووصل الشعر ولو اذن الزوج فليس تدليسا(4).

قال فى الرياض: وتدليس الماشطة باظهارها فى المرأة محاسن ليست فيها من تحمير وجهها ووصل شعرها ونحو ذلك ارادة منها ترويج كسادها بلا خلاف بل عليه الاجماع فى بعض العبارات و هو الحجة مضافا الى عموم المعتبرة المتقدمة الناهية عن

ص: 287


1- مجمع الفائدة كتاب المتاجر: ص 12 على المحكى.
2- التذكرة. ج 1 ص 582.
3- ص 121.
4- جامع المقاصد: ص 204.

كل غش ومنه يظهر انسحاب الحكم فى فعل المراة ذلك بنفسها ولو انتفى التدليس كما لوكانت مزوجة فلاحرمة للاصل و الخبر لاباس على المرأة بما تزينت به لزوجها وفى آخر عن المرأة تحف الشعر عن زوجها قال: لابأس بل يستحب للزوج كما يستفاد من كثير من المعتبرة واعلم انه لابأس بكسبها مع عدمه للاصل واطلاق. المستفيضة منها لابأس بكسب الماشطة اذا لم تشارط وقبلت ما تعطى وما تصل شعر امراة بشعر امرأة غيرها.

و أما شعر المعز فلابأس بأن يوصل بشعر المرأة و يستفاد منه البأس مع الامرين وليحمل على الكراهة للاصل و قصور الرواية و اعميّة البأس من الحرمة مع احتمالها فى الثانى اذا كان فيه تعريض للشعر الى غير ذات محرم وعليه يحمل النهى عنه فى عدة من النصوص أو على الكراهة لما مرّ انتهى و الظاهر منه انه قائل بحرمة تدليس الماشطة و الكراهة مربوطة بكسب الماشطة فيما اذا شارطت ووصلت شعر المرأة بشعر المرأة فى غير مقام التدليس.

وقال فى الخلاف يكره للمرأة ان تصل شعرها بشعر غيرها رجلاكان أو امرأة ولابأس بان تصل شعرها بشعر حيوان آخر طاهر فان خالفت تركت الاولى ولاتبطل صلاتها وقال الشافعى متى وصلت شعرها بشعر غيرها وكذلك الرجل الا ان يصل بشعر مايؤكل لحمه قبل موته فان خالف بطل صلاته.

دليلنا على كراهية ذلك اجماع الفرقة وروى القاسم (القسم (بن محمد عن على قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق قال لابأس ولكن لاتصل الشعر بالشعر وروى ابن ابى عمير عن رجل عن ابى عبدالله عليه السلام قال: دخلت ماشطة على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال لها: لاتصلى الشعر بالشعر بعد كلام طويل.

والذى يدل على ان ذلك مكروه وليس بمحظور مارواه سعد الاسكاف قال:

ص: 288

سئل ابو جعفر عليه السلام عن القرامل التى تضعها النساء فى رؤسهن يَصِلنَه بشعورهن فقال:

لابأس به على المرأة ما تزينت به لزوجها قال: قلت بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة فقال: ليس هناك انما لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الواصلة التى تزنى فى شبابها فلما كبرت قادت النساء الى الرجال فتلك الواصلة و الموصولة(1).

قال فى الروضة وتدليس الماشطة باظهارها فى المرأة محاسن ليست فيها من تحمير وجهها ووصل شعرها ونحوه ومثله فعل المرأة له من غير ماشطة ولو انتفى التدليس كما لوكانت مزوجة فلا تحريم(2).

الثانى: ان الظاهر من الكلمات المذكورة ان تدليس الماشطة مما قام الاجماع على حرمته ولذلك نفى الخلاف فيه فى الجواهر و الرياض ومجمع الفائدة.

و يستفاد ايضا من الكلمات المذكورة ان تزيين الماشطة النساء لازواجهن جايز ولا حرمة فيه نعم يكره بعض الامور كوصل شعرهن بشعور غيرهن من النساء.

وكيف كان فقد استدل للاول بالاجماع وعموم نصوص الغش كما صرح به فى مجمع الفائدة حيث قال ودليل التحريمكانه الاجماع وانه غش و هو حرام وفى التذكرة حيث استدل للحرمة بعموم ليس منا من غشنا وفى الرياض حيث قال بعد نقل الاجماع و هو الحجة مضافا الى عموم المعتبرة المتقدمة الناهية عن كل غش و قد عرفت ظهوركلام من عد تدليس الماشطة فى عداد المحرمات فى ان جهة حرمته هو الغش لظهور مثل قولهم اذا لم يغششن أو ما جرى مجرى ذلك مما يلتبس به على الرجال فى ذلك.

ولقد افاد واجاد فى الجواهر حيث قال ولعل من الغش أو فى حكمه فى الحرمة و البيع وغيرهما تدليس الماشطة مثلا الامرأة على خطابها و الجارية على مشتريها

ص: 289


1- الخلاف: ج 1 ص 184 مسألة 234.
2- ج 1 ص 236.

باظهار حسن ليس فيها واخفاء قبحها كتحمير وجهها ووصل شعرها ونحو ذلك بلا خلاف اجده كما عن بعضهم الاعتراف به بل عن آخر الاجماع عليه و هو الحجة مضافا الى نصوص الغش(1).

اورد عليه أولاً بان مقتضى ادلة حرمة الغش كما سيجىء إن شاء الله تعالى هو حرمة المعاملة على المغشوش واما فعل مقدمة هذا الحرام كوضع الكتان فى محل رطب ليكتسب ثقلا حتى يبيعه فهو مقدمة شرطية للحرام لايحرم الأ على القول بحرمة المقدمة الشرطية للحرام مطلقا أو مع قصد الترتب ففيما نحن فيه لو كانت المدلسة نفس من يريد المعاملة كأن دلست المرأة التى تريد تزويج نفسها ومالك الامة التى يريد بيعها اياها كان ذلك من الاتيان بشرط الحرام بقصد ترتب الحرام عليه يبتنى حرمتها وعدم حرمتها على ما مرّ.

واما اذا كانت المدلسة غير من يريد المعاملة فان كان ذلك مع علمها بترتب الحرام على هذه المقدمة وكان من قصدها ذلك الترتب حرم فعلها من حيث صدق الاعانة على الاثم على عملها حينئذ واما مع عدم قصدها ذلك ولو فرض علمها بالترتب فلاوجه للحرمة الّا مع علمها بعدم وقوع الحرام فى الخارج بتركه فيجب الترك توصلاً الى دفع المنكر مع الامكان(2).

و ثانيا: بالاشكال فى حجية الاجماعات المنقولة باحتمال ان يكون مرادهم تحريم هذا الفعل من الماشطة اذا كان بقصد ترتب البيع و التزويج عليه فيكون التحريم من جهة كونه اعانة على الاثم بل لو فرض الاطلاق فى بعض معاقد اجماعاتهم امكن ان يكون حكم جملة منهم مستنداً الى عدم اعتبار قصد المعين ترتب المعان عليه على

ص: 290


1- ج 22 ص 113.
2- راجع تعليقة الميرزا الشيرازى قدس سره: ص 60.

فعله(1).

و ثالثاً: بان التدليس و الغش فى غير البيع و الشراء و التزويج ربما يكونان مطلوبين للعقلاء كتزيين الدور والالبسة و الامتعة لاظهار العظمة و الشوكة وحفظ الكيان وارائة انها جديدة(2).

ويمكن الجواب عن المناقشات المذكورة اما الاول فبأن اختصاص الغش بباب البيع و الشراء لاوجه له بعد اطلاق بعض الادلة كصحيحة هشام بن سالم عن ابى عبدالله عليه السلام قال: ليس منا من غشنا(3).

وعموم التعليل الوارد فى ثواب الاعمال عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم انه قال فى آخر خطبة خطبها بالمدينة ومن غش مسلما فى بيع أو شراء فليس منا و يحشر مع اليهود يوم القيامة لانه من غشّ الناس فليس بمسلم الى ان قال ومن بات وفى قلبه غش لاخيه المسلم بات فى سخط الله تعالى واصبح كذلك و هو فى سخط الله حتى يتوب و يرجع وان مات كذلك مات على غير دين الاسلام ثم قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: الا ومن غش مسلما فليس منا قالها ثلاث مرات الى ان قال ومن غش اخاه المسلم نرع اللّه منه بركة رزقه وافسد عليه معيشته ووكله الى نفسه(4).

لايقال ان تقييد الغش فى قوله ومن غش مسلما فى بيع أو شراء فليس منا يكفى فى تقييد المطلقات و تخصيص عموم التعليل الوارد فى الذيل لانا نقول لاوجه للتقيد بعد كونهما مثبتين لا المثبت و النافى هذا مضافا الى اظهرية التعليل فى التعميم لاسيما مع ما اردفه فى الذيل من قوله ومن بات وفى قلبه غش لاخيه المسلم الخ

ص: 291


1- راجع بلغة الطالب: ج 1 ص 83.
2- راجع مصباح الفقاهة: ج 1 ص 198.
3- راجع جامع الاحاديث: 359/17.
4- جامع الاحاديث: ج 17 ص 359.

وخبر الفقيه وقال عليه السلام: من غش المسلمين حُشر مع اليهود يوم القيامة لانهم اغش الناس للسلمين(1).

ومن المعلوم ان غش اليهود للمسلمين ليس مختصا بالغش فى البيع و المعاملة.

و صحيحة هشام بن سالم عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لرجل يبيع التمر: يا فلان اما علمت انه ليس من المسلمين من غشهم(2).

بناءعلى تعميم الذيل.

هذا مضافاً الى ما عرفت من تطبيق الاصحاب عنوان الغش على تدليس الماشطة و استدلال العلامة وغيره باطلاق ادلة الغش.

وعليه فلايبعد ان يقال ان نفس فعل الماشطة مع علمها بارادة المرأة للتزويج أو بارادة مالك الامة للبيع مصداق الغش ومحكوم بالحرمة ولايكون حرمته من باب الاعانة أو من باب الامر بالمعروف و النهى عن المنكر حتى يتوقف على القصد أو على انحصار وقوع الحرام فى فعلها وعليه فالغش صادق على فعل الماشطة كما يصدق ايضا على بيع مالك الامة أو تعريض المرأة نفسها للتزويج مع ارائة ماليس فيها.

واما الثانى فبان ظواهر الكلمات بل صريحها هو اتكائهم على الغش و التلبيس والتدليس لا الاعانة على الاثم أو على عدم وقوع المنكر وعليه فلامجال لحمل الاجماعات على ان مرادهم هو تحريم تدليس الماشطة من باب حرمة الاعانة على الاثم.

واما الثالث فبان اطلاق قولهم عليهم السلام ليس منا من غشنا أو من غش الناس فليس بمسلم منصرف عن مثل تزيين الدور والالبسة والامتعة المعدة للاستفادة منها بنفسه فلاوجه لجعل امثالها من موهنات الروايات فتدبّر جيّدا.

ص: 292


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 360.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 360.

وربما استدل لحرمة تدليس الاشطة بما يدل على المنع عن وصل شعر المراة بشعر غيرها من النساء بدعوى ان المراد من وصل الشعر فعل ذلك للتدليس روى فى الكافى عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد عن على بن احمد بن اشيم عن ابن ابى عمير عن رجل عن ابى عبدالله عليه السلام قال: دخلت ماشطة على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو اقمت عليه فقالت يا رسول الله انا اعمله الا ان تنهانى عنه فانتهى عنه فقال لها: افعلى فاذا مشطت فلاتجلى الوجه بالخرق) و فى نسخة التهذيب فلاتحكى) فانها تذهب بماء الوجه ولاتصلى الشعر بالشعر(1).

على بن احمد بن اشيم مجهول.

وروى فى الفقيه مرسلاً عنه عليه السلام لابأس بكسب الماشطة اذا لم تشارط وقبلت ما تعطى ولاتصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها فاما شعر المعز فلابأس بان يوصل بشعر المرأة الحديث(2).

والروى فى التهذيب عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن على قال:

سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق قال: لابأس ولكن لاتصل الشعر بالشعر(3).

روى صفوان عن القاسم بن محمد ولعل المراد من على هو على بن ابى حمزة البطائنى كما روى القاسم بن محمد الجوهرى عنه احيانا قال الشيخ عملت الطائفة باخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلى بن ابى حمزة انتهى.

وروى البزنطى وابن ابى عمير عن على بن ابى حمزة احيانا ولكنه محل تامل ونظر بعد انحرافه فى اواخر عمره نعم مارواه عنه الاجلة كالمذكورين لعله معتبر لان

ص: 293


1- جامع الاحاديث: ج 17 ص 370.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 371.
3- جامع الاحاديث: ج 17 ص 370.

الاجلة كانوا لا يروون عنه فى زمان الانحراف.

والمروى فى معانى الاخبار عن احمد بن محمد بن الهيثم العجلى رضى الله عنه قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان قال: حدثنا بكر بن عبدالله بن حبيب قال: حدثنا تميم بن بهلول عن أبيه عن على بن غراب قال: حدثنى خير الجعافر جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن على عن أبيه على بن الحسين عن أبيه الحسين بن على عن أبيه على بن ابى طالب عليهم السلام قال: لعن رسول الله عليه السلام النامصة و المنتمصة و الواشرة و المستوشرة و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة قال على بن غراب النامصة التى تتتف الشعر من الوجه و المنتصمة التى يفعل ذلك بها و الواشرة التى تنشر اسنان المرأة وتفلجها(1) وتحددها و المستوشرة التى يفعل ذلك بها و الواصلة التى تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها و المستوصلة التى يفعل ذلك بها و الواشمة التى تشم وشما فى يد المرأة أو فى شىء من بدنها و هو ان تغرزيديها (يدها خ ل) أو ظهركفها أو شيئاً من بدنها بابرة حتى توثّر فيه ثم تحشوه بالكحل أو بالنورة فيخضر و المستوشمة التى يفعل ذلك بها(2).

بكر بن عبداللّه بن حبيب وتميم بن بهلول مجهولان.

و يشكل ذلك اولاً بضعف الاخبار المذكورة اللهم الا ان يكتفى بجزم الصدوق عليه الرحمة فى الفقيه وثانيا بان سياق مرسلة ابن ابى عمير يقتضى الكراهة فان تجلية الوجه بالخرفة ليست بمحرمة جزما و سكوتها فى مقام البيان الظاهر من صدرها عن حرمة شىء من انواع التزبين يقتضى جواز الجميع(3).

وايضاً وحدة السياق فى مرسلة الفقيه تمنع عن ظهورها بالنسبة الى وصل

ص: 294


1- أى تشقها و تبسطها و تفرقها.
2- جامع الاحاديث: ج 17 ص 371.
3- تعليقة الميرزا الشيرازى: ص 61.

الشعر فى الحرمة فان المشارطة لا اشكال فى حليتها قال فى جامع المدارك واما مرسلة الفقيه فالظاهر حملها على الكراهة فى صورة المشارطة فان العمل المباح لا اشكال فى حلية اجرته و المشارطة فيه واخذ اجرة المثل مع عدم التعيين ووحدة السياق يمنع عن ظهورها بالنسبة الى وصل الشعر فى الحرمة(1).

ويمكن الجواب عن ذلك بان رفع اليد عن ظهور النهى فى شىء بقرينة خاصة به لايوجب رفع اليد عن غيره بل بقى على ظهوره ومقتضى ذلك هو عدم جواز حمل الروايات على الكراهة.

نعم يمكن حمل الروايات المذكورة على الكراهة بقرينة الروايات التى تدل على الكراهة أو على الجواز كخبر عبدالله بن الحسن المروى فى التهذيب عن أحمد بن محمد بن عيسى عن على بن الحكم عن يحيى بن مهران، عن عبدالله بن الحسن قال: سألته عن القرامل قال وما القرامل قلت صوف تجعله النساء فى رؤوسهن قال: ان كان صوف فلابأس وان كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة(2).

لظهور لا خير فيه فى كراهة وصل الشعر بالشعر.

وخبر سعد الاسكاف المروى فى الكافى عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن عبد الرحمن بن ابى هاشم عن سالم بن مكرم عن سعد الاسكاف قال.

سئل أبو جعفر عليه السلام عن القرامل التى تضعها النساء فى رؤوسهن يصلنه بشعورهن فقال: لابأس على المرأة بما تزينت به لزوجها قال: فقلت بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة فقال: ليس هنالك انما لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الواصلة التى تزنى فى شبابها فلما كبرت قادت النساء الى الرجال فتلك الواصلة و الموصولة(3).

ص: 295


1- جامع المدارك: ج 3 ص 33.
2- جامع الأحاديث: ج 17 ص 371.
3- جامع الاحاديث: ج 17 ص 94.

فان المستفاد منه ان وصل الشعر بالشعر للزينة جايز ومقتضى الجمع بينها ويين الاخبار السابقة هو حمل السابقة على الكراهة و حمل اللعن على بيان شدة الكراهة كما ان تزيين المرأة بنتف الشعر عن وجهها ليس بمحرم.

قال الشيخ الاعظم قدس سره ويمكن الجمع بين الاخبار بالحكم بكراهة وصل مطلق الشعر كما فى رواية عبدالله بن الحسن وشدة الكراهة فى الوصل بشعر الرأة وعن الخلاف و المنتهى الاجماع على انه يكره وصل شعرها بشعر غيرها رجلاكان أو امرأة واما ما عدا الوصل مما ذكر فى رواية معانى الأخبار فيمكن حملها ايضا على الكراهة لثبوت الرخصة من رواية سعد فى مطلق الزينة خصوصا مع صرف الامام للنبوى الوارد فى الواصلة عن ظاهره المتحد سياقها مع ساير ما ذكر فى النبوى ولعله اولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الامور فى انه لولا الصرف لكان الواجب اما تخصيص الشعر بشعر امرأة أو تقييده بما اذا كان هو وأحد اخواته فى مقام التدليس فلادليل على تحريمها فى غير مقام التدليس كفعل المرأة الزوجة ذلك لزوجها خصوصا بملاحظة ما فى رواية على بن جعفر عن أخيه عن المرأة تحف الشعر عن وجهها قال:

لاباس و هذه ايضا قرينة على صرف اطلاق لعن النامصة فى النبوى عن ظاهره بارادة التدليس أو الحمل على الكراهة(1).

وهنا فروع: منها انه قال الشيخ الاعظم قدس سره قد يشكل الامر فى وشم الاطفال من حيث انه ايذاء لهم بغير مصلحة بناء على ان لا مصلحة فيه لغير المرأة المزوجة الا التدليس باظهار شدة بياض البدن وصفائه بملاحظة النقطة الخضراء الكدرة فى البدن لكن الانصاف ان كون ذلك تدليسا مشكل بل ممنوع بل هو تزيين للمرأة من حيث خلط البياض بالخضرة فهو تزيين لا موهم لما ليس فى البدن واقعا من البياض

ص: 296


1- المكاسب: ص 21.

والصفاء نعم مثل نقش الايدى والارجل بالسواد يمكن ان يكون الغالب فيه ارادة ايهام بياض البدن وصفائه ومثله الخط الاسود فوق الحاجبين أو وصل الحاجبين بالسواد لتوهم طولهما و تقوّسهما(1).

وفيه اولا ان الايذاء لايلزم فى جميع الموارد لامكان استعمال بعض الواد المخدرة بحيث لايدرك الالم.

و ثانيا لا دليل على حرمة ذلك اذاكات مصلحة فيه كمصلحة ثقب الاذن.

وثالثا: ان انكاركون الوشم تدليسا فى المرأة التى تريد التزويج أو فى الامة التى تكون معدة للشراء كما ترى ولذا صرح فى المقنعة وغيرها بكون وشم خدودهن من مصاديق الغش و التدليس نعم لايكون التدليس المذكور فى الاطفال محرما إذ لم يكن ذلك لاجل اغواء الغير فى المعاملة و التزويج أو غيرهما ولو بواسطة شخص آخر فان الاطفال لم يكونوا فى معرض ذلك وادلة حرمة الغش و التدليس منصرفة عن امثال ذلك.

رابعا: ان الفرق بين الوشم ونقش الايدى والارجل بالسواد بان يكون الاول تزيينا و الثانى تدليسا غير ظاهر.

ومنها ان الشيخ الاعظم قدس سره صرح بان التدليس بما ذكرنا انما يحصل بمجرد رغبة الخاطب أو المشترى وان علما ان هذا البياض و الصفاء ليس واقعيا بل حدث بواسطة هذه الامورفلايقال انها ليست بتدليس لعدم خفاء اثرها على الناظر ثم تفرع عليه بقوله وحينئذ ينبغى ان يعدّ من التدليس لبس المرأة أو الامة الثياب الحمر أو الخضر الموجبة لظهور بياض البدن وصفائه و الله العالم.

اورد عليه فى مصباح الفقاهة تبعا للسيد و الفاضل الايروانى بان التدليس فى

ص: 297


1- المكاسب: ص 21 و 22.

اللغة عبارة عن تلبيس الامر على الغير أو كتمان عيب السلعة عن المشترى واخفائه عليه باظهاركمال ليس فيها.

واما ما يوجب رغبة المشترى و المخاطب فليس بتدليس ما لم يستلزم كتمان عيب أو اظهار ما ليس فيه من الكمال و الّا لحرم تزيين السلعة لكون ذلك سببا لرغبة المشترى ولحرم ايضاً لبس المرأة الثياب الحمر و الخضر الموجبة لظهور بياض البدن وصفائه بداهة كونه سبباً لرغبة الخاطبين ولا نظن ان يلتزم بذلك فقيه أو متفقه(1).

ولقد أفادوا وأجادوا و العجب من الشيخ قدس سره حيث انكركون الوشم تدليساً مع انه موهم لوجود كمال ليس فيه وجعل هنا ما يوجب رغبة الخاطب أو المشترى تدليساً وان علما عدم واقعية ذلك.

وكيف كان فمعنى التدليس ظاهر لغة وعرفا وليس كل ما يوجب ازدياد رغبة الخاطب أو المشترى مع وضوح ذلك للمشترى أو الخاطب بتدليس فلا تغفل.

ومنها: ان الظاهر من قوله عليه السلام فى مرسلة الفقيه «لاباس بكسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطى»، هو حرمة كسبها مع انتفاء القيدين أو أحدهما ولكن تحمل على الكراهة لان مقتضى القاعدة ان العمل المباح لا اشكال فى حلية اجرته والمشارطة فيه أو أخذ اجرة المثل مع عدم التعين ولا اظن ان يلتزم احد بالحرمة مع المشارطة أو عدم قبول ما تعطى فى المقام.

وعليه فالمكروه هو ما اذا اشترطت ولم تقبل ما تعطى.

ثم ان المراد من اعتبار القبول فى عدم الكراهة هل هو البناء على ذلك حين العمل أو القبول بعد العمل ذهب الشيخ الاعظم قدس سره الى الاول وقال و المراد بقوله عليه السلام اذا قبلت ما تعطى البناء على ذلك حين العمل و الأ فلا يلحق العمل بعد وقوعه

ص: 298


1- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 206.

مايوجب كراهته(1).

لان الكراهة كغيرها من الاحكام التكليفية حكم الاعمال قبل تحققها فكيف ان يترتب الكراهة على العمل بعد تحققه بالمناقشة فى الاجرة وعدم قبول ما يعطى.

أورد عليه فى مصباح الفقاهة بانه لاموجب لهذا التوجيه بعد امكان الشرط المتاخر وقوعه فلاغرو فى تأثير عدم القبول بعد العمل فى كراهة ذلك العمل كتاثير الاغسال الليلية فى صحة الصوم على القول به(2) هذا مضافا الى امكان ان يقال ان المكروه هو تعقب الاجارة بالتشاجر فعدم التشاجر و القبول بعد العمل يكشف عن عدم اتصاف المتقدم بعنوان المكروه.

وكيف كان فالمراد من الرواية كما فى تعليقة الايروانى ان الماشطة العاملة بالاجرة ينبغى لها ان نهمل ذكر اجرتها و ان عملت بالاجرة و يفوض التعيين الى اختيار المستاجر فما اختار هو كان ذلك اجرها وان نقص عن اجرة المثل و هذا مما لاينبغى التجافى عنه فلعل الشارع اراد تنزيه أولى المروة من التكلم و المعاملة على الامر الخسيس ووقاهم مع ذلك من باس الاجراء وسوء تقاضيهم بامر الاجراء بقبول ما يعطون وعدم مطالبة اكثر من ذلك وان كان مايعطون اقل بكثير من اجرة المثل(3).

و هذا هو الذى ذكره الشيخ الاعظم قدس سره بعنوان الاحتمال الثانى فالرواية محمولة على هذا الاحتمال أو على غلبة عدم نقص ما تعطى عن اجرة المثل للعمل فعليها ان لاتشارط وان تكتفى بما تعطى وكيف كان فالرواية تنافى موثقة مسعدة بن صدقة المروية فى الكافى عن على بن ابراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن

ص: 299


1- المكاسب المحرمة/ 22.
2- مصباح الفقاهة: ج 1 ص 200.
3- التعليقة: ص 19.

صدقة عن ابى عبدالله عليه السلام قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلايستعملن اجيراً حتى يعلم ما اجره الحديث(1).

حيث انها نهت عن الاستعمال بدون تعيين الاجرة ولكن مقتضى الجمع بينهما هو تقيد اطلاق هذه الرواية بمرسلة الفقيه بناء على الوثوق به بجزم مثل الصدوق أو العمل بها.

واما حمل الرواية على قصد العامل التبرع بعمله وقبول ما يعطى على وجه التبرع لئلا ينافى مع موثقة مسعدة بن صدقة فهو خلاف ظاهر المرسلة لظهور عنوان كسب الماشطة فى ان عملها بالاجرة لا التبرع.

ص: 300


1- الوسال: ج 13 ص 245.

المسألة الخامسة الترقيع

اشارة

زراعة الأعضاء أو ما يسمّى بالترقيع هى أن يؤخذ عضو من أعضاء الإنسان أو الحيوان ثمّ يوصل ببدن آخر بنحو من الأنحاء الرائجة.

و يقع الكلام فيه: من جهة أنّه هل يجوز للإنسان أن ينقص شيئاً من أعضائه وإعطاؤه للغير أم لا؟

أمّا أدلّة المانعين:

فقد استدلّوا للمنع بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ ذلك إضرار بالبدن، والإضرار حرام. فالبحث فى المقام يكون فى جهتين:

الأولى: فى الكبرى، و الثانية: فى الصغرى.

أمّا الجهة الاُولى: فقد استدل لها بروايات وبعض الآيات:

أمّا الروايات:

فمنها: موثّقة زرارة المروية فى الكافى: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد ابن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن عبدالله بن بكير، عن زرارة، عن أبى جعفر عليه السلام قال: «إنّ

ص: 301

سمرة بن جندب كان له عذق فى حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصارى بباب البستان، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصارى أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصارى إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فشكا إليه و خبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و خبّره بقول الأنصارى وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك فى الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم للأنصارى:

اذهب فاقلعها وارم بها إليه؛ فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

بتقريب أنّ قوله: «فإنه لا ضرر ولا ضرار» تعليل، و هو عامّ لا يختصّ بالمورد، ومقتضاه هو نفى كل ضرر و أسبابه.

بيان ذلك: إنّ الضرر اسم مصدر و اسم جنس، والنفى متعلّق بالجنس، ومقتضاه هو نفى جنس الضرر، والضرر معلول لعلل و أسباب مختلفة، فنفى المعلول نفى لجميع أنحاء علله، سواءكانت العلّة هى الأحكام الشرعية؛ فإنّ العمل بها ربّما يكون موجباً للضرر، أو إطلاقَ السلطنة على المال و النفس؛ فإنّه ربّما يؤدّى إلى الضرر، أو لزومَ بعض المعاملات، أو عدمَ جعل حق الشفعة، وغير ذلك.

فإطلاق نفى المعلول يدلّ بدلالة الاقتضاء على نفى العلل، فإنشاء نفى الضرر شرعاً من أساسه و أصله وجذوره يدلّ بدلالة الاقتضاء على أنّ الشارع سدّ جميع موجبات الضرر؛ سواء كانت من ناحية الشارع وإطلاق حكمه، أو من ناحية عدم جعل الحكم، أو من ناحية غير الشارع؛ سواء كان نفسه أو غيره.

و يرجع هذا النفى إلى محكومية الإطلاقات و العمومات الضررية، وإلى النهى عن إيراد الضرر على النفس وعلى الغير، وإلى تدارك الضرر بجعل الخيار فيما إذا

ص: 302


1- الكافى 292:5.

أوجب اللزوم الضرر. وبالجملة: نفى الضرر تشريعا ينتج النفى و النهى و التدارك، بل الحكم السلطانى فيما يحتاج نفى الضرر إليه.

و هذا أولى ممّا ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره من إرادة نفى الحكم من نفى الضرر؛ لأنّ استعمال عنوان الضرر وإرادة الحكم منه بحتاج إلى عناية؛ إذ الضرر غير عنوان المضرّ، والمنفى هو الضرر لا المضرّ؛ أى الحكم.

كما أنّ ما ذكر أولى أيضاً ممّا ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ المراد هو نفى الحكم بنفى الموضوع الضررى، كالوضوء الضررى، فإنّه خلاف الظاهر أيضاً؛ لأنّ الضرر عنوان غير عنوان المضرّ و الضارّ و الضائر، فالمنفى هو نفس الضرر الذى هو النقص، لا المضرّ الذى هو المنقّص، كالوضوء الضررى.

ثم إنّ الراد من «الضرار» هو المصدر، والمراد من كلمة «لا» فيه إمّا النهى؛ فهو ظاهر فى تحريم إيراد الضرر، سواء كان على الغير أو على نفسه، و إمّا النفى؛ فهو ظاهر فى نفى إيراد الضرر، فيدل بدلالة الاقتضاء على نفى أسبابه. ولعل الثانى أنسب بسياق نفى الضرر.

ثم إنّ المراد من الضرار هو الإصرار على الضرر، كما يشهد له تطبيق عنوان المضرّ على سمرة وكيف كان، فقوله: «فإنه لا ضرر و لا ضرار» يدلّ بعمومه وإطلاقه على عدم جواز إضرار الإنسان بنفسه، ولا فرق فى ذلك بين كون الراد من الضرر هو المختار، - أى نفس الضرر - أو الحكم، أو الوضوع الضررى لنفى الحكم، فإنّ إطلاق سلطنة الإنسان على نفسه من الأحكام، فنفى الحكم الضررى، أو نفى الحكم بلسان نفى الوضوع الضررى، يشمله أيضاً.

نعم، ربّما يدّعى: «أنّ مفاد الفقرة الاُولى أنّه لا يتوجّه إلى المكلّف فى محيط الشرع ضرر، فهى ناظرة إلى ورود الضرر عليه من الخارج، و منصرفة عن ورود

ص: 303

الضرر على الإنسان من ناحية نفسه، فلازمها أنّه لا يصل إلى الإنسان ضرر فى محيط القانون، فلم بحمل عليه ما يضرّ به، ولم يجوّز للغير إيراد الضرر عليه، و أمّا إضرار الإنسان بنفسه فهو خارج ومنصرف عنه. كما أنّ ظاهر المصدر فى الفقرة الثانية أيضاً هو الإضرار بالغير وإيراد الضرر عليه، فلا يعمّ إيراد الشخص للضرر على نفسه»(1).

ويمكن الجواب عنه: بانه لا وجه للانصراف بعد إطلاق النفى، وتخصيصه بالأحكام الشرعية لا شاهد له بعد عدم اختصاص النفى بضرر خاصّ ، فالضرر والإضرار منفيّان، أو منفى ومنهى، من دون تقييد بالغير.

وأيضاً لا وقع لما قيل من إنّ وجه الانصراف هو أنّ الإنسان بطبيعته يدفع الضرر عن نفسه؛ فيختصّ نفى الضرر بنفى التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعى يستوجب له(2).

لأنّ الإنسان كثيراً ما يقدم على إيراد الضرر على نفسه، فلا وجه لدعوى الانصراف. هذا مضافاً إلى أنّ نفى الحكم الشرعى يشمل بإطلاقه نفى إطلاق سلطنة الإنسان على نفسه؛ فإنه أيضاً من الأحكام الشرعية.

فتحصّل: أنّ عموم نفى الضرر و الضرار كافٍ للحكم بحرمة الإضرار بالنفس.

و منها: ما رواه المشايخ الثلاثة بطرق مختلفة، من قبيل ما رواه فى الكافى: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن محمّد بن أسلم، عن عبد الرحمان بن سالم، عن مفضّل بن عمر قال: قلت لأبى عبد الله عليه السلام: أخبرنى جعلت فداك! لِمَ حرّم الله تبارك و تعالى الخمر و الميتة و الدم ولحم الخنزير؟ فقال: «إنّ اللّه سبحانه

ص: 304


1- كلمات سديدة: 158.
2- قاعدة لا ضرر (للسيّد المحقّق السيستانى): 134-135.

و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم سواه رغبة منه فيما حرّم عليهم، ولا زهدا فيما أحلّ لهم، ولكنه خلق الخلق وعلم عز وجلّ ما تقوم به أبدانهم و مات يصلحهم، فأحلّه لهم و أباحه، تفضّلاً منه عليهم به تبارك و تعالى لمصلحتهم، وعلم ما يضرّ [هم] فنهاهم عنه و حرّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه له فى الوقت الذى لا يقوم بدنه إلّا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك...»(1)، وطرق الرواية كلّها مخدوشة؛ إمّا من جهة الإرسال، أو الجهالة، أو الضعف.

وسند الكافى موثّق إلّا من جهة محمّد بن أسلم و مفضّل بن عمر؛ فإنّ محمّد بن أسلم غير موثّق، والعجب من صاحب الوسائل أنّه ذكر مكان محمّد بن أسلم محمّد بن مسلم، ولم أره فى نسخة الكافى، و مفضّلَ بن عمر محل خلاف، و إن ذهب إلى توثيقه الوحيد البهبهانى و السيّد الخوئى و ملّا علىّ العليارى، و يؤيّده ما حكى فيه من عدوله عن الخطابية، وكونه من أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام.

وكيف كان، فقوله: «وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه» يدل على كبرى كلّية هى أنّه تعالى نهى عباده عمّا يضرّهم.

والظاهر من الرواية انه فى مقام إفادة وجه تحريم المحرّمات من دون تخصيصها بالمأكولات و المشروبات، و عليه فتطبيقها على موارد المأكول و المشروب لا يوجب تخصيصهافض بها، كما لا يخفى.

ومنها: ما رواه فى العلل: حدّثنا علىّ بن أحمد؛ قال: حدّثنا محمّد بن أبى عبد الله، عن محمّد بن إسماعيل، عن علىّ بن العباس، قال: حدّثنا القاسم بن الربيع الصحّاف، عن محمّد بن سنان: أنّ أبا الحسن علىّ بن موسى الرضا عليه السلام كتب إليه بما فى هذا الكتاب جوابكتابه إليه يسأله عنه: «جاءنيكتابك... إنا وجدنا كل ما أحلّ الله

ص: 305


1- الكافى 242:6.

تبارك و تعالى ففيه صلاح العباد وبقاؤهم، ولهم إليه الحاجة التى لا يستغنون عنها، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه، ووجدناه مفسداً داعياً الفناء والهلاك... فكيف أنّ الدليل على أنّه لم يحل إلّا لما فيه من المصلحة للأبدان و حرّم ما حرّم لما فيه من الفساد؟!»(1).

والرواية ضعيفة من جهة جهالة بعض رواتها وضعفه، ولكنها تدلّ على المدّعى؛ إذ الظاهر منها أنّ وجه تحريم الأشياء هو إفسادها.

لا يقال: ظاهر الإفساد هو ما ينتهى إلى الهلاك وفساد البدن فلا يعمّ ما دونه، كما تشهد له نسخة العلل حيث ضمّت إلى الإفساد قوله: «داعيا الفناء و الهلاك»، فلا يشمل كلّ ضرر لم يبلغ تلك المرتبة.

لأنّا نقول: قوله: «وجدناه مفسداً» فى توجيه جميع المحرّمات يأبى عن اختصاصه بالمهلكات و المفنيات؛ إذ ليس جميع المحرّمات كذلك، فيكون المراد من الإفساد هو الأعمّ من المهلكات، وعليه فقوله: «داعياً الفناء و الهلاك» باعتبار بعض المحرّمات، أو باعتبار العذاب الاُخروى المقرّر فى كلّ حرام، فلا تغفل.

ومنها: موثّقة طلحة بن زيد المروية عن الكافى فى البحار: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبى عبد الله، عن أبيه عليهما السلام قال: «قرأت فى كتاب لعلىّ عليه السلام أنّ رسول الله كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب: أنّ كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضاً بالمعروف و القسط بين المسلمين، فإنه لا يجار حرمة إلّا بإذن أهلهاه و أنّ الجاركالنفس غير مُضارّ ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة اُمّه و أبيه...»(2).

ص: 306


1- علل الشرائع: 592.
2- البحار 167:19.

بناءً على أنّ قوله: «غير مضارّ» يراد منه المعنى المفعولى، ويكون خبرا ثانياً لقوله: «الجار»، والمعنى أنّ الجار منزّل منزلة النفس، فهو لا يضارّ؛ أى لا يورَد عليه ضرر كما لا يورَد على النفس ضرر، فالرواية تدلّ على عدم جواز إيراد الضرر بالجار. و يستفاد منها أنّ حرمة إيراد الضرر على النفس أمر واضح مفروغ عنه حتى شبّه حكم الجار بها.

وفيه: أوّلاً: إنّ هنا احتمالات اُخر، ومعها لا تكون الرواية ظاهرة فى ذلك. وفى البحار: «غير مضاز» إمّا حال عن(1) المجير على صيغة الفاعل؛ أى يجب أن يكون المجير غير مضارّ ولا آثم فى حقّ المجار، أو من المجار فيحتمل بناء المفعول أيضا بل الأوّل بحتمل ذلك(2).

ولا يخفى عليك أنّه إن كان قوله: «غير مضارّ» حالاً من المجار و اُريد منه المعنى المفعولى، فإنه يفيد أنّ الجار فى حال عدم ورود الضرر عليه يكون كالنفس، و هو متقارب فى المعنى مع كون «غير مضارّ» خبراً ثانياً للجار.

وهكذا يكون الأمر إن كان حالاً من المجير و اُريد منه المعنى الفاعلى؛ لأنّه يفيد أنّ الجاركالنفس حال كون المجير غير ضارّ إيّاه.

فالصور الثلاث المذكورة تدلّ على عدم جواز إيراد الضرر عليه؛ لأنّ الجار كالنفس أو لصيرورته كالنفس.

و أمّا إذا كان قوله: «غير مضارّ» حالاً من الجار و اُريد منه المعنى الفاعلى، فهو يفيد أنّ الجاركأنفسكم تحفظ حقوقه ويكون فى أمان حالكونه غير مضارّ لكم، و إلّا فلا تشمله أحكام الإجارة؛ لتخلّفه بالإضرار، وعليه فهو أجنبى عن المقام من حرمة

ص: 307


1- كذا فى البحار، و الصحيح «من».
2- البحار 169:19.

إيراد الضرر على النفس، بل هو متعرّض لحدود الاستجارة و الإجارة وهكذا يكون الأمر إذا كان قوله: «غير مضارّ» حالاً من المجير و اُريد منه المعنى المفعولى؛ فإنه يفيد أنّ الجاركأنفسكم حال كون المجير لا يورَد عليه الضرر من ناحية الجار.

لا يقال: إنّ الذى يقتضيه ظاهر ألفاظ الحديث و التركيب الكلامى هو أنّ قوله: «غير مضارّ» خبر ثانٍ للجار و يراد منه المعنى المفعولى، وبقية الاحتمالات خلاف ظاهر الكلام.

لأنّا نقول: لا نسلّم ذلك بالنسبة إلى بعض الاحتمالات، كاحتمال كون قوله:

«غير مضارّ» حالاً من الجار مراداً منه المعنى الفاعلى؛ فإنه أيضاً يساعده ظاهر التركيب الكلامى، فيفيد أنّ الجار كأنفسكم مادام لم يكن ضارّاً لكم، وعليه فيحصل الإجمال، ولا يصحّ التمسّك بالرواية للمقام.

و ثانيا إنّ الحديث - كما فى كتاب كلمات سديدة - ظاهر فى التنبيه على أمر أخلاقى و استفادة من غريزة فطرية. وغاية مفاده أنّه كما أنّ الإنسان لا يرضى بإيراد الضرر على نفسه فينبغى ألّا يرضى بإيراده على جاره، من غير أن يكون فيه دلالة على أنّه لو رضى بإيراده على نفسه لارتكب معصية، بل هو لماكان فى فطرته وجبلّته أنّه لا يرضى بأن يضرّ نفسه، فهكذا عليه ألّا يرضى بإضرار جاره(1).

ويمكن أن يقال: إنّ أهمّية الحكم فى طرف الجار لا تناسب تعليله بأمر أخلاقى يجوز تركه، بل تعليل الحكم بذلك يشهد على أنّ حرمة إيراد الضرر على النفس أمر واضح و مفروغ عنه.

وثالثا إنه لو سلّم أنّ التركيب الكلامى ظاهر فى كون «غير مضار» خبراً

ص: 308


1- كلمات سديدة: 42.

للجار، فدلالة الحديث على حرمة إيراد الضرر على النفس متفرّعة على أنّ المراد نفس الإنسان، و أمّا إذا اُريد من النفس ما يفيد معنى «أنفسكم»، فغاية ما تدلّ الرواية حينئذٍ هو أنّ الجار بمنزلة «أنفسكم» فلا يورد عليه ضرر، أى أنّه كسائر المسلمين؛ فكما لا يجوز إيراد الضرر عليهم كذلك لا يجوز إيراده عليه، فلا يرتبط بالمقام الذى هو حرمة إيراد الضرر من النفس على النفس.

ومنها: الروايات الدالّة على أنّ كلّ ما أضرّ به الصوم فالإفطار واجب.

ففى الفقيه: قال الصادق عليه السلام: «كل ما أضرّ به الصوم فالإفطار له واجب»(1).

وفى الكافى: عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن عثمان، عن سلمان بن عمرو، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «اشتكت اُمّ سلمة - رحمة الله عليها - عينها فى شهر رمضان، فأمرها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن تفطر وقال: عشاء الليل لعينيك ردىء»(2). و ظاهر الأمر هو الوجوب.

وفيه أيضاً: عن علىّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن سماعة، قال: سالته [أى الإمام الصادق عليه السلام]: ما حدّ المرض الذى يجب على صاحبه فيه الإفطاركما يجب عليه فى السفر من كان مريضا أو على سفر؟ قال: «هو مؤتمن عليه مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، و إن وجد قوّة فليصمه، كان المرض ما كان»(3).

وما فى تفسير العيّاشى: عن أبى بصير، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن حدّ المرض الذى يجب على صاحبه فيه الإفطاركما يجب عليه فى السفر فى قوله: فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ ؟ قال: «هو مؤتمن عليه مفوّض إليه، فإن وجد

ص: 309


1- جامع الأحاديث 284:9.
2- الكافى 119:4.
3- المصدر السابق: 118.

ضعفاً فليفطر، و إن وجد قوّة فليمم، كان المريض على ماكان»(1).

وكذا ما فى الدعائم: من قوله: «روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: «حدّ المرض الذى يجب على صاحبه فيه عدّة من أيام اُخر كما يجب عليه فى السفر لقول الله عزّ وجلّ : فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ أن يكون العليل لا يستطيع أن يصوم، أو يكون إن استطاع الصوم زاد فى علّته وخاف منه على نفسه، و هو مؤتمن على ذلك و مفوّض إليه فيه، فإن أحسّ ضعفاً فليفطر، و إن وجد قوّة على الصوم فليصم، كان المريض [المرض - خ] ما كان»(2).

لا مجال للمناقشة فى سند هذه الروايات بعد الوثوق ببعضها، فلا وجه للاكتفاء بذكر المرسلة فى هذا المقام والاستشكال عليها بكونها مرسلة.

وكيف كان، فربّما يقال: إنّ الروايات المذكورة تدلّ على إيجاب الإفطار الذى يساوق حرمة الصيام فى ما إذا كان الصوم مضرّاً بالمكلّف، و هو كافٍ فى إثبات أنّ الإضرار بالنفس حرام، ولذا صار سبباً لوجوب الإفطار.

هذا، واُورد عليه: بأنّ بعض الروايات تدلّ على سرّ حرمة الصيام على المرضى؛ و هو أنّ الله تعالى قد أهدى إلى عباده المرضى و المسافرين هدية الإفطار بقوله: فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ ، واكده بقوله:

يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (3) ، فإذا صام المريض فقد ردّ هدية الله تعالى ردّا عمليا فكان صيامه معصية؛ لكونه ردّاً لهديّة الله وكان الإفطار له واجبا وعليه فليس إيجاب الإفطار للمريض إذا أضرّ به الصيام دليلاً على حرمة إيراد الضرر بالنفس، بل إيجابه كإيجابه على المسافر بعينه.

ص: 310


1- جامع الأحاديث 286:9.
2- المصدر السابق.
3- البقرة: 185.

والروايات الواردة بهذا المضمون متعدّدة -، منها رواية يحيى بن أبى العلاء، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «الصائم فى السفر فى شهر رمضان كالمفطر فيه فى الحضر - ثمّ قال: - إنّ رجلاً أتى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول الله، أصوم فى شهر رمضان فى السفر؟ فقال: لا. فقال: يا رسول الله، إنه علىّ يسير، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ الله عزّ و جلّ تصدّق على مرضى اُمّتى ومسافريها بالإفطار فى شهر رمضان؛ أيحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه ؟!»(1).

فالحاصل: أنّ ظاهر الآية المباركة أنّ فرض المريض و المسافر هو «عدّة من أيام اُخر»، وعليه فلا أقلّ من احتمال أن يكون وجوب الإفطار المذكور فى مرسل الصدوق ناشئاً عمّا تضمّنته الآية الباركة لا عن حرمة الإضرار بالنفس، ومع هذا الاحتمال لا يتمّ الاستدلال به(2).

ولا يخفى عليك أنّ تعليق وجوب الإفطار على المرض المضرّ على النفس فى مقام التحديد - كقوله: «فإن وجد ضعفاً فليفطر»، أو قوله: «كل ما أضرّ به الصوم فالإفطار له واجب»، وغير ذلك - يدل على أنّ سبب الوجوب هو الإضرار بالنفس، وجعل السبب لوجوب الإفطار هديةَ الله تعالى هو خلاف ظاهر هذه الروايات. ولعلّ التعبير بالهديّة فى طول سببية الإضرار بالنفس يعنى: أنّ إيجاب الإفطار من جهة سببية الإضرار بالنفس هو من باب الهدية والامتنان على الأمّة، كما أن إيجاب الإفطار من جهة سببية السفر وكونه صعباً غالباً هو من باب الامتنان و الهدية.

فإذا عرفت أنّ مقتضى ظواهر الروايات هو جعل السبب لوجوب الإفطار هو كون الصوم محظوراً بنفسه، يُعلم أنّ الإضرار بالنفس محرّم. ولكنه بعد لا يخلو عن

ص: 311


1- الوسائل 124:7، ب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، ح 5.
2- كلمات سديدة: 45.

إشكال؛ فإنّ مقتضى هذا الاستدلال هو حرمة تحمّل الحرج النوعى فى السفر، و هو كما ترى.

ومنها: الأدلّة الواردة فى انتقال فريضة الوضوء إلى التيمّم إذا كان استعمال الماء مضرّاً ببدن المكلّف، بدعوى أنّ ذلك ليس إلّا لكون استعمال الماء - والحال هذه - حراماً تكليفياً.

ومن جملة تلك الأدلّة: صحيحة البزنطى عن الرضا عليه السلام فى الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: «لا يغتسل، و يتيمّم»(1)

و قد أورد عليه فى كتاب كلمات سديدة: بأنّ الرواية لا تدلّ على أزيد من انتقال الفرض معه إلى التيمّم، ولا ينبغى الريب فى أنّ منشأ هذا الانتقال هو وجود المرض أو الجرح و القرح أو الخوف على نفسه من البرد، و أمّا أنّ استعمال الماء - والحال هذه - حرام تكليفى فلا دلالة فيها عليه.

نعم، تدلّ معتبرة محمّد بن مسكين وغيره - المروية فى الوسائل عن الكافى: عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبى عمير، عن محمّد بن مسكين وغيره، عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه فمات، فقال:

«قتلوه! ألا سألوا؟! ألا يمّموه ؟! إنّ شفاء العىّ السؤال»(2) وغيرها - على التوبيخ الدالّ على المبغوضية، ولكنّها واردة فيما إذا انتهى استعمال الماء إلى الموت، فلا تدلّ على مبغوضية ما إذا انتهى إلى ما دونه من أقسام الضرر، فلعلّه لو كان ينتهى إلى مجرّد ضرر أو طول برء مرض الجدرى مثلاً، لمّا كان يوبّغ عليه أصلاً(3).

ص: 312


1- الوسائل 968:2، ب 5 من التيمم، ح 7.
2- المصدر السابق: 967، ح 1.
3- كلمات سديدة: 45.

ويمكن أن يقال: إنّ الرواية تدل على المبغوضية فيما إذا كان خائفاً من الموت.

وكيف كان، فمما ذكر يظهر ما فى كلام السيّد قدس سره فى العروة حيث قال: «إذا تحمّل الضرر وتوضّا او اغتسل... فإن كان الضرر فى استعمال الماء فى الوضوء أو الغسل بطل»(1)؛ لما عرفت من عدم تماميّه الأدلّة لإثبات الحرمة التكليفية.

و أمّا الاستدلال بقاعدة لا ضرر الدالّة على حرمة الإضرار ولو بالنفس، فهو و إن تمّ ولا يرد عليه ما فى التنقيح - من: «أنّ المحرّم فى قاعدة لا ضرر إنّما هو الإضرار بالغير، و أمّا الإضرار بالنفس فلم يقم على حرمته دليل؛ فلا مانع من أكل الطعام الذى يوجب المرض يوماً أو يومين أو أكثر، اللّهمّ إلّا أن يكون الإضرار بالنفس ممّا نقطع بعدم رضا الشارع به كقتل النفس أو قطع الأعضاء أو نحوهما»(2)، لما تقدّم من أنّ قاعدة لا ضرر تعمّ الإضرار بالنفس - ولكن الكلام فى المقام فى غير القاعدة من الأدلة.

ومنها: الأدلّة الدالّة على عدم وجوب الحجّ وعدم حصول الاستطاعة إذا استلزم السير إلى الحجّ مرضاً أو ضرراً بدنيا، حيث يقال: إنّ حرمة الضرر هى التى أوجبت انتفاء الوجوب وعدم حصول الاستطاعة، فإنه لو جاز له تحمّله لكان مستطيعاً ولوجب عليه الحجّ .

ومن جملة تلك الروايات: صحيحة هشام بن الحكم التى رواها فى الوسائل عن توحيد الصدوق قدس سره: عن أبيه، عن علىّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبى عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبى عبدالله عليه السلام - فى قوله عزّ و جلّ : وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (3) ما يعنى بذلك ؟ - قال: «من كان

ص: 313


1- العروة الوثقى 171:2، الطبعة الجديدة.
2- التنقيح 420:9.
3- آل عمران: 97.

صحيحا فى بدنه، مخلّى سَربُه(1)، له زاد وراحلة»(2)، وغير ذلك.

و أورد عليه فى كتاب كلمات سديدة بقوله: «إنّه لا يبعد أن يستفاد منها أن استلزام المسير لحصول ما يرفع الصحة أيضاً منافٍ لشرط الاستطاعة؛ بمعنى أنّه كما أنّ انتفاء الصحّة ووجود المرض من أوّل الأمر مانع صدق الاستطاعة، فهكذا استلزام السير إليه له، وعليه فلايجب الحجّ على من خلامن الصحّة بدءاً و مآلاً، إلّا أنّه إنّما هو لمكان إناطة صدق عنوان المستطيع به. و أمّا أنّ تحمّل الضرر حرام فلا دلالة بل ولا إشعار فى هذه الأدلّة به»(3).

ومنها: الروايات الواردة الدالة على النهى عن أكل الطين، بتقريب: أنّه لا وجه لحرمته إلّا لكونه مضرّاً بالبدن.

ومن جملتها:

1 - ما ورد فى الكافى: عن أحمد، عن علىّ بن الحكم، عن إسماعيل بن محمّد، عن جدّه زياد بن أبى زياد، عن أبى جعفر عليه السلام عليه السلام قال: «إنّ التمنّى عمل الوسوسة، و أكثر مصائد الشيطان أكل الطين؛ و هو يورث السقم فى الجسم و يهيّج الداء. و مَن أكل طيناً فضعف عن قوّته التى كانت قبل أن يأكله، وضعف عن العمل الذى كان يعمله قبل أن يأكله، حوسب على ما بين قوّته وضعفه وعذّب عليه»(4).

قال فى مرأة العقول: قوله عليه السلام: «إنّ التمنّى - أى تمنّى الاُمور الباطلة - من وسوسة الشيطان»، ويحتمل أن يكون اسم شيطان، انتهى.

ودلالة الرواية على حرمة أكل الطين الوجب للسقم واضحة، ولكن

ص: 314


1- أى الطريق يتتابع الناس فيه.
2- الوسائل 23:8، ب 8 من أبواب وجو ب الحج و شرائطه، ح 7.
3- كلمات سديدة: 46.
4- الكافى 266:6، ح 6.

الرواية ضعيفة.

2 - وفيه أيضاً: عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن إبراهيم بن حزم، عن طلحة بن زيد، عن أبى عبد الله عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام قال: من انهمك فى أكل الطين فقد شرك فى دم نفسه»(1). والانهماك - كما عن النهاية - التمادى فى الشىء و اللّجاج فيه(2)؛ أى إدامة الأكل.

3 - وفيه أيضاً: عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن علىّ ، عن هشام بن سالم، عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: «إنّ الله عزّ و جلّ خلق آدم من طين فحرّم أكل الطين على ذرّيّته»(3). والوجه المذكور فيه للحرمة لا ينافى أن يكون الإضرار أيضاً دخيلاً فى ذلك، اللّهمّ إلّا أن يقال: لا يستفاد من مجموع الأخبار إلّا دخالة المجموع، و هو غير نافع لإثبات مدخليّة الإضرار استقلالاً فى الحرمة.

4 - وفيه أيضاً: عن عدّة من أصحابنا، عن سهل، عن ابن فضال، عن ابن القداح، عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السلام فى رجل يأكل الطين، فنهاه وقال: لاتأكله؛ فإن أكلته و متّ كنت قد أعنت على نفسك»(4).

فإنّ قوله عليه السلام: «فإن أكلته...» تفريع على إطلاق حرمة أكل الطين، وليس بمقيّد للإطلاق بصورة الإضرار و الإعانة على النفس. و إن شئت فقل: إنّ الذيل حكمة الحكم لا علّته.

5 - وفيه أيضاً: عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلى، عن السكونى، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من أكل الطين فمات فقد أعان على

ص: 315


1- المصدر السابق 265، ح 3.
2- النهاية 274:5.
3- الكافى 265:6، ح 4.
4- المصدر السابق: 266، ح 5.

نفسه»(1). وغير ذلك من الأخبار الدالّة على حرمة أكل الطين.

و هذه الأخبار و إن دلّت على حرمة أكل الطين مطلقا ولكن لا تدل على أنّ الحرمة فى جميع الموارد ناشئة عن حرمة الإضرار؛ لأنّ الإضرار حكمة الحكم لا علّته، ولذا حرم أكل الطين ولو القليل منه المقطوع بعدم إضراره.

هذا مضافاً إلى أنّ صحيحة هشام دالة على أنّ وجه حرمة أكل الطين هو خلقة آدم من الطين، وكيف كان، فلا وجه لدعوى أنّ حرمة أكل الطين ليست إلّا للإضرار، مع ما عرفت من أنّه حكمة الحكم لا علّته، وأيضاً - مضافاً إلى كون قوله: «فإن أكلته و متّ كنت قد أعنت على نفسك» حكمة الحكم - لا وجه لما يظهر من محكى الرياض من استفادة التعليل العامّ من هذه الجملة.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ هذه الجملة وغيرها تدل على أنّ للإضرار مدخلية فى الحكم و إن لم تكن علّة بل كانت حكمة، ولكن حيث إنّ الحكمة كالعلّة فى التعميم لا التخصيص يمكن التعدّى و القول بحرمة كل ما يضرّ.

إلّا أنّه يشكل ذلك بأنّ الحكمة مشتركة بين الإضرار وما أشارت إليه صحيحة هشام..

ومنها: الروايات المستفيضة الدالّة على أنّه ليس للمؤمن إذلال نفسه.

ومن جملتها:

1 - ما ورد فى الكافى: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن اُموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أما تسمع لقول الله عزّ و جلّ : وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ

ص: 316


1- المصدر السابق: ح 8.

وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1) ؟!، فالمؤمن ينبغى أن يكون عزيزأ ولا يكون ذليلا، يعزّه الله بالإيمان و الإسلام»(2).

2 - وفيه أيضاً: عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن عبدالله بن مسكان، عن أبى بصير، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «إنّ الله تبارك و تعالى فوّض إلى المؤمن كل شىء إلّا إذلال نفسه»(3).

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على حرمة إذلال النفس، وهى بإطلاقها تشمل المقام، ولكن يمكن أن يقال: إنها أخصّ من المدّعى؛ إذ يمكن تقطيع بعض الأعضاء مع عدم لزوم الإذلال. نعم، كل مورد يستلزم ذلك فهو محكوم بالحرمة من جهة الإذلال.

ومنها: بعض الآيات الكريمة؛ كقوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (4)، بتقريب: أنّ أصل الهلاك - كما فى مجمع البيان - هو الضياع، ومن العلوم أنّ الإضرار بالنفس لمّا كان سبباً لتفويت كمال أمر وجودى فهو تضييع لذلك الأمر الوجودى. هذا مضافاً إلى انه لو سلّم ظهور «التهلكة» فى الفناء و الموت فيمكن إلغاء الخصوصية عن الهلاك ليشمل كل ضرر.

و أورد عليه فى كتاب كلمات سديدة بأنّ «الهلاك - فعلاً - ظاهر فى الفناء، فالآية ظاهرة فى تحريم إلقاء النفس إلى الفناء، ولا تعمّ مطلق الضرر وإلغاء الخصوصية عرفاً عن الهلاك و الفناء غير صحيح»(5).

ويمكن أن يقال: إنّ ملاحظة الروايات وتطبيق الآية عند الصدر الأوّل يشهدان

ص: 317


1- المنافقون: 8.
2- الكافى 63:5، ح 2.
3- المصدر السابق: ح 3.
4- البقرة 195.
5- كلمات سديدة: 47.

على كون التهلكة أعم من الموت و الفناء: منها:

1 - ما ورد فى الإفراط فى الإنفاق؛ كخبر حمّاد اللحّام عن أبى عبد الله عليه السلام قال:

«لو أنّ رجلاً أنفق ما فى يديه فى سبيل من سبيل الله ما كان أحسنَ ولا وفق؛ أليس يقول الله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ - يعنى المقتصدين -؟!»(1).

إذ الظاهر من التهلكة العارضة من الإفراط فى الإنفاق ليس هو الموت و الفناء، بل هو الابتلاء بضيق المعاش و الحاجة إلى الناس وضياع المعيشة.

2 - وما ورد فى التعرّض للسلطان الجائر، كخبر ثابت بن دينار الثمالى عن علىّ بن الحسين عليهما السلام: «و حق السلطان أن تعلم أنّك جعلت له فتنة، وانه مبتلى فيك بما جعله الله عزّ و جلّ له عليك من السلطان، و أنّ عليك ألّا تتعرّض لسخطه؛ فتلقى بيدك إلى التهلكة وتكون شريكاً له فيما يأتى إليك من سوء»(2).

ومن المعلوم أنّ التهلكة العائدة على الإنسان من جهة التعرّض للسلطان أعمّ من الموت و الفناء؛ إذ ربّما تكون بمثل التبعيد و الحبس و المصادرات ونحوها، و يؤيّد ذلك ما فى ذيله من إطلاق السوء.

3 - وما ورد فى ترك الإنفاقات فى الجهاد، كخبر البخارى، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم أبى عمران قال: غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمان بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس:

مَهٍ مَه(3)، لا إله إلّا الله، يلقى بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيّوب: سبحان الله! اُنزلت

ص: 318


1- الكافى 53:4، ح 7.
2- من لا يحضره الفقيه: 310.
3- مه: كلمة مبنية على السكون و هو اسم سمى به الفعل، ومعناه اكفف، لأنه زجر فإن وصلت نوّنت فقلت مهٍ مه. الصحاح 2250:6.

هذه الآية فينا معاشر الأنصار؛ لمّا نصر الله نبيّه و أظهر دينه قلنا: هلمّ نقيم فى اموالنا و نصلحها، فأنزل الله عزّ و جلّ : وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ... الآية، و الإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم فى أموالنا ونصلحها وندع الجهاد»(1).

ومن المعلوم أنّ التهلكة العارضة من ترك المقابلة مع الكفّار و الجهاد معهم لا تنحصر فى الموت و الفناء، بل ربّما لا تكون كذلك، بل هى سلطة الكفّار على المسلمين، وهى ليست بموت، ولكن هى نهلكة و أشدّ من الموت.

4 - وما ورد فى اليأس من رحمة الله تعالى، مثل ما روى عن البراء بن عازب فى هذه الآية: إنّ الرجل يصيب الذنب فيلقى بيديه ويقول: قد بالغت فى المعاصى، ولا فائدة فى التوبة؛ فييأس من الله؛ فينهمك بعد ذلك فى المعاصى. فالهلاك: اليأس من الله»(2).

وغير ذلك من الوارد التى تدلّ على أنّ الصدر الأوّل و الائمّة المعصومين: لم يقتصر فهمهم للتهلكة على خصوص الفناء و الموت، وعليه فدعوى ظهورها فى الموت و الفناء مع هذه التطبيقات كما ترى.

و لعلّه لذلك ذهب فى الميزان إلى التعميم حيث قال: التهلكة و الهلاك واحد، و هو مصير الإنسان بحيث لا يدرى أين هو - إلى أن قال: - والكلام مطلق اُريدَ به النهى عن كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط، كما أنّ البخل و الإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوّة وذهاب القدرة و فيه هلاك العدّة بظهور العدوّ عليهم، وكما أنّ التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر و المسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروّة(3).

ص: 319


1- تفسير القرطبى 361:2.
2- المصدر السابق: 362.
3- الميزان 64:2.

فالتمسّك بالآية الكريمة لحرمة الإضرار بالبدن - لأنّه ضياع للبدن - لا بأس به. اللهمّ إلّا أن يقال: كلّ ضرر و إضرار للبدن لا يصدق عليه ضياع البدن، نعم، يصدق ذلك فى الأجزاء الرئيسية، فتدبّر.

وكيف كان، فالآية تشمل صورة المظنة و الخوف للضياع و الفساد أيضاً؛ لأنّه لو كان الممنوع هو صورة العلم لزم الوقوع فى التهلكة كثيراً ما، وعليه فالممنوع هو كلّ ما يؤدّى إلى الهلاك ولو بالظن أو الخوف.

ومنها: إنّ الفطرة تقتضى دفع الضرر المحتمل، ألا ترى أنّ كلّ حى يدافع عن نفسه عند إدراك الخطر؟! فليس ذلك إلّا لكون ذلك جبلّياً و فطريا فمع اقتضاء الفطرة ذلك كيف يجوز الإضرار بالنفس ؟! وفيه: أوّلاً: إنّ الفطرة ثابتة بالنسبة إلى الضرر الوارد من الغير، و أمّا بالنسبة إلى إضرار الشخص بنفسه فهو أوّل الكلام، فتأمّل.

و ثانيا إنّ مجرّد كون شىء ممّا تقتضيه الفطرة و الجبلّة لا يلازم الحكم بحرمته، ألا ترى أنّ الفطرة تدعو الإنسان نحو الأكل أو النوم أو غيرهما ومع ذلك لا تكون تلك الاُمور واجبة ؟! كما تدعو الإنسان نحو ترك الزيادة فى الأكل و الشرب ومع ذلك ليس مطلق الزيادة محرّماً؟! و ثالثا إنّ هذه الفطرة ربّما تكون معارضة بما تقتضيه الفطرة فى جهة اُخرى، كفطرة حفظ الولد حيث دعت لإعطاء جزء من بدنه له لحفظه أو لراحته.

ومنها: حكم العقل بوجوب دغ الضرر المحتمل المهتمّ به، ولذا كان وحوب التفحّص و التحقيق فى الدين مبتنياً عليه فى علم الكلام.

و هو كافٍ فى عدم جواز الإضرار بالنفس شرعا؛ لأنّ كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

ومنها: الإجماع، كما ادّعاه بعض الأصحاب كصاحب الرياض على ما حكى

ص: 320

عنه، بل يظهر من محكىّ جملة منهم أنّ حرمة الضرر على النفس من المسلمات، كما تشهد له كلماتهم فى مسألة أنّ الأصل فى الأشياء الحظر أو الإباحة(1)، وفى مسألة البراءة والاحتياط فى الشكّ فى التكليف(2)، وفى مسألة حرمة تناول السموم القاتلة و الأشياء الضارّة(3).

و أورد عليه فى كتاب كلمات سديدة بأنّ من المحتمل جدّا بل لعلّه المظنون، أنّ مستندهم هو حكم العقل بلزوم التحرّز عن المضارّ، أو الأخبار الماضية وغيرها ممّا رواه فى المستدرك عن الدعائم وغيره، فراجع. فلا يكشف اتفاق كلمتهم عن مستند آخر غيرها، كما لا يمكن أن يكشف بنفسه عن رأى المعصوم عليه السلام، و قد عرفت الكلام عن قيمة هذه المستندات(4).

وكيف كان، فالإجماع محتمل المدرك، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ تسالم الأصحاب لا يضرّه وجود المدارك الاُخرى ولوكانت مورداً للمناقشة، فافهم.

هذا مضافاً إلى تماميّة بعض الأدلّة كقاعدة ففى الضرر مفاداً وسنداً كما عرفت.

فتحصّل: أنّ الكبرى ثابتة، فالإضرار بالنفس أو الغير محرّم فيما إذا كان الضرر معتنى به عند العقلاء، لاسيما إذا أوجب الضرر ضياعاً و هلاكاً أو إذلالاً، كما لا يخفى.

و أمّا الجهة الثانية - وهى الصغرى - فلا يخفى أنّ الضرر هو التنقيص فى البدن

ص: 321


1- كما عن اُصول الغنية بتقريب أنّ العلم حاصل بأنّ ما فيه ضرر خالص عن كل منفعة - يعنى عاجلة كانت أو آجلة - قبيح محظور الإقدام عليه.
2- بتقريب أنّ دفع الضرر المحتمل واجب عقلاً.
3- كما عن العلّامة 1 فى الإرشاد أنّه قال - فى عداد المحرّمات من الجامدات - و السموم القاتل قليلها و كثيرها، وما لا يقتل قليله يجوز تناول ما لا ضررفيه. ارشاد الأذهان 111:2.
4- كلمات سديدة: 51-52.

او المال أو الحال، و هو صادق على تنقيص شىء من الأعضاء، ولو كان ذلك لإعطاء الغير.

و اُورد عليه: بمنع صدق الضرر فيما إذا استهدف غرضاً عقلائياً من التنقيص؛ ألا ترى أنّ إعطاء المال فى مقابل الأعمال فى باب الإجارة أو إعطاءه لمجرّد الإحسان إلى المستحق لا يعدّ عند العقلاء إضراراً بالمال، مع أنّ إحراق المال أو إفنائه بنحو آخر بلا أى داعٍ عقلائى يصدق عليه الإضرار المالى بنفسه ؟! وهكذا نقول: شرب التتن مثلاً - مع العلم بترتّب بعض المضار عليه - إذا كان موجباً للإنعاش فى الجملة، لا يكون مصداقاً للإضرار، و إذا لم يكن له أى غرض عقلائى يكون إضراراً محضا و أيضاً إذا كان تناول الأطعمة و الأشربة شهوةً إليها والتذاذاً بها اوجب ذلك ألّا يكون الامتلاءُ منهما المضرّ به فى الجملة، أو ألمُ (1) المعدة الحاصل عقيبه، ضرراً ببدنه داخلاً فى عموم حرمة الإضرار.

وبعباره اُخرى: لو قُطع من شخص عضو أو أكثر من أعضائه بالقهر ولم يكن عن إذن منه ورضا، فإنّ هذا القطع يكون موجباً لإيراد النقص على بدنه، فيكون إضراراً به، و أمّا لو كان ذلك باختيار وإذن منه وطيب نفسه به لدواعٍ عقلائية، فلا يبعد دعوى منع صدقه بعد وجود هذه الدواعى؛ وذلك لأنّ كلّ من أذن بقطع عضوه للانتفاع به فى الترقيع فلا محالة يدعوه إلى هذا الإذن هدف مادى أو معنوى، والعقلاء لا يسلّمون لصدق الضرر و الإضرار على نقص المال أو البدن أو الحال إذا كان الإقدام عليه لغاية عقلائية؛ لانه يرجع فى الحقيقة إلى مبادلة عقلائية بين الغاية العقلائية والنقص الوارد على البدن أو المال، فكما أنّ مبادلة ماله بمال آخر أو إعطاء ماله مجّاناً لغاية مادية أو معنوية لا يوجب صدق الإضرار و الضرر عليه، فكذلك فى إعطاء

ص: 322


1- معطوفة على كلمة «الامتلاء» الواقعة اسماً ل - «يكون». وكلمة «ضررا» هى الخبر.

أعضاء البدن حرفاً بحرف.

ويمكن أن يقال: أوّلاً: إنّ الدواعى العقلائية لا تخرج التنقيص عنكونه ضررا، ألا ترى أنّ كسر الباب لإنقاذ الغريق ونحوه أمر عقلائى بل واجب شرعى ومع ذلك لا يخرج عنكونه ضرراً على صاحب البيت ؟! ولذا يجب ضمانه، فمجرّد صحّة الداعى لايكفى لمنع صدق الضرر.

و ثانيا: إنّ قياس المقام بباب المعاملات مع الفارق؛ لأنّ فى المعاملات كان إعطاء المال لأخذ المقابل، والمبادلة و المعاوضة مانعة من تحقق الضرر، ونفس قطع الأعضاء و التنقيص لا يقابله شىء، و إنّما المقابلة و المعاوضة لو صحّت كانت فى إزاء الأعضاء المقطوعة. هذا مضافاً إلى أنّ الأعضاء قبل الإبانة ليست بمال ولا تصلح للمقابلة و المعاوضة، بل بعد قطعها أيضاً لا تصلح للمعاملة شرعا، و إن اعتبر لها المالية؛ لكونها بعد الإبانة من النجاسات الذاتية، وهى مسلوبة المالية شرعاً ولوكانت لها فائدة عقلائية، على ما قرّرناه فى بيع الأعيان النجسة.

وثالثا إنّ قياس المقام بباب الإنفاقات و الصدقات أيضاً محلّ إشكال ونظر؛ لأنّ الإنفاقات و الصدقات تتحقّق بإعطاء الأعيان المملوكة المحلّلة، ولا محذور فيها بعد مندوبيّتها عرفاً وشرعا. و هذا بخلاف المقام؛ فإنّ قطع الأعضاء ضرر و محرّم، ولا يخرج عن الضرر بمجرّد قصد إعطائه للغير؛ لانه ليس من العناوين القصدية، ومع بقاء عنوان الضرر على القطع يكون القطع محرّماً و الحرام لا يصلح للمقرّبية.

نعم، لو قطعت الأعضاء بسبب من الأسباب القهرية، فإعطاؤها للغير حينئذ يشبّه بإعطاء الصدقات فى الجملة، ولكنه أجنبى عن المسألة.

ررابعا إنّ مجرّد الانتعاش فى شرب التتن أو الالتذاذ بالأطعمة و الأشربة عند الإكثار منها مع ترتب الضرر المهتمّ به، لا يفيد فى حلّية الشرب و الأكل؛ لأنّ مقتضى صدق الضرر المهتمّ به هو حرمة الشرب و الأكل ولو مع الانتعاش و الالتذاذ فالضرر

ص: 323

صادق، والانتعاش والالتذاذ يقعان بفعل المحرّم فى الفرض المذكور.

فتحصّل: أنّ الضرر صادق ولو مع وجود الدواعى العقلائية. وعليه، فالباب باب التزاحم مع وجود الدواعى العقلائية، فإن كانت الدواعى العقلائية من الواجبات وكان الترجيح مع الدواعى العقلائية التى ترجع إلى وجود مصالح تتزاحم مع مفاسد الضرر المحرّم، كان التقدّم معها، و إلّا فلا و إن كانت المصلحة فى نفسها ممّا تدعو العقلاء نحوها.

الوجه الثانى: إنّ قطع الأعضاء و الجوارح للترقيع تبتيك وتغيير لخلق الله، و هو محرّم؛ لقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّٰ إِنٰاثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّٰ شَيْطٰاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبٰادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ اَلْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطٰانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرٰاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً * أُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لاٰ يَجِدُونَ عَنْهٰا مَحِيصاً (1) والإناث - على ما فى بعض التفاسير -: اللّات و العزّى ومناة الثالثة الاُخرى وإساف و نائلة؛ كان لكلّ حئ صنم يعبدونه و يسمّونه اُنثى بنى فلان؛ وذلك إمّا لتأنيث أسمائها، أو لأنها كانت جمادات، والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لانفعالها(2).

و ربّما تُقرّب دلالة الآية: بأنّ قوله تعالى فى ذيل الآية الكريمة: وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطٰانَ وَلِيًّا... الآية، يدل على أنّ الاُمور المذكورة التى أوعد الشيطان أنّه يأمر الناس بها لابدّ وأن تكون أعمالاً محرّمة، ومن جملتها هو التبتيك و تغيير ما خلق الله عمّا هو عليه بحسب أصل الخلقة.

ص: 324


1- النساء: 119-121،.
2- تفسير كنز الدقايق 624:2.

و هذا صادق على قطع الأعضاء ولوكان لداعٍ عقلائى، كترقيع الغير به.

و قد استدلّ المحقّق الميرداماد قدس سره فى محكى شارع النجاة، والفيض القاسانى فى محكى الوافى، والسيّد حسن الصدر فى محكىّ ذكرى ذوى النهى، والسيّد جعفر آل بحر العلوم فى محكئ تحفة الطالب بالآية لحرمة حلق اللحى(1).

ولو شكّ فى صدق التغيير على أخذ شىء ينبت بعد الأخذ، كما فى أخذ اللحى ونحوها، فلا شبهة فى صدقه على قطع ما لا يرجى نباته، كما فى قطع الكلية و أخذ العروق و أمثاله.

و قد أورد عليه: بأنّ دلالة الآية الكريمة على حرمة التبتيك و التغيير فى خلق الله و إن كانت واضحة إلّا أنّه لا إطلاق لها؛ إذ الآية ليست فى مقام بيان أنّ الشيطان أراد مطلق التغيير ثم اللّه سبحانه ذمّ اتباعه فى مطلق التغيير، حتى تنفع للاستدلال بها فى مسألة اللحى و مسألتنا.

ويعتضد ذلك بأنّ مطلق التغيير فى خلق الله ليس بحرام، فهل يمكن القول بحرمة إيجاد التغيير فى الجمادات و النباتات و الحيوانات ؟! فلو كانت الآية مطلقة لزم تقييد الأكثر، و هو مستهجن.

ولا مجال لما يقال من أنّ الاستهجان ممنوع بعد بقاء الكثير تحت الآية الكريمة؛ كقطع الآذان و الأيدى و الأرجل، وقلع الأعين، وإزالة الحاجب، و تشقيق الشفة، وقطع الأنف وغيره.

وذلك لإمكان أن يقال: إنّ هذه الموارد ليست بكثيرة؛ لاندراجها تحت عنوان واحد و هو قطع أطراف البدن و تغييرها.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه الموارد - ولو لوحظت متعدّدة - تكون قليلة فى قبال

ص: 325


1- تحقيق در يك مسأله فقهى (بالفارسية): 105.

مطلق التغييرات الموجودة فى الحيوانات و النباتات و الجمادات التى لا تعدّ و لا تحصى لو لوحظت كل واحدة متعدّدة.

وعليه، فالمراد من التغيير هو التغيير الخاص الذى هو عبارة عن العمليات الشيطانية التى تنتهى إلى البدعة و الإغواء، كتشقيق آذان الأنعام وقطعها لتكون علامة على كونها محرّمة الأكل والانتفاع كما فعله بعض الكفّار فى بعض الحيوانات كالبحيرة والسائبة و الحامى؛ افتراءً على الله تعالى، كما اُشير إليه فى قوله تعالى: مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاٰ سٰائِبَةٍ وَ لاٰ وَصِيلَةٍ وَ لاٰ حٰامٍ (1)، أو كتغيير الفطرة بالإغواء.

قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ (2). فالخروج عنها هو تغيير فى الفطرة وموجب للخلود.

وكيف كان، فالآية تدلّ على حرمة تغييرات خاصّة إغوائية شيطانية، فلا تشمل مطلق الشقيق و القطع فى الأنعام، فضلاً عن غيرها، كيف ؟! و قد يكون ذلك مطلوبا كإشعار الهدى، بل هو عبادة وليس عملاً شيطانياً.

فالمراد من التغيير المنهى عنه و المذموم هو التغيير الخاصّ ، ولا إطلاق له فى موارده فضلاً عن غيرها، فلا يصحّ الاستدلال بالآية الكريمة للمقام؛ لكونها مجملة غير مطلقة، فلاتغفل.

و أمّا أدلّة المجوّزين:

فقد استدلّوا للجواز ببناء العقلاء على أنّ كل إنسان ولىّ نفسه، وله اختيار اُموره، و هذا هو الذى عبّر عنه بقاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم و أنفسهم».

ص: 326


1- المائدة: 103.
2- الروم: 30.

و هذه القاعدة العقلائية أمضاها الشارع فى ضمن الآيات و الروايات، من جملتها: قوله تعالى: اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1)، فإنّ الآية الكريمة و إن كانت فى مقام إثبات مقدّمية النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى الولاية على المؤمنين من أنفسهم، إلّا أنّه لا ريب فى دلالتها على أنّ للمؤمنين ولاية على أنفسهم.

نعم، كانت ولاية النبى صلى الله عليه و آله و سلم أشدّ وآكد.

ومن جملتها: قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ (2) بدعوى دلالتها على أنّ أمر نفسه بيده؛ إذ الشراء لا يكون إلّا مع الولاية على المبيع، و المفروض أنّ المبيع فى الآية هو النفس.

ومن جملتها: موثّقة سماعة المروية عن الكافى: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إنّ الله عزّ و جلّ فوّض إلى الؤمن اُموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أما تسمع لقول الله عزّ و جلّ : وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)؟! فالمؤمن ينبغى أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً يعزّه الله بالإيمان و الإسلام»(4). وغير ذلك من الشواهد و الأخبار.

وعليه، فيجوز للإنسان أن يقطع بعض أعضائه لترقيع الآخرين.

و يمكن أن يقال: أوّلاً: إنّ بناء العقلاء دليل لئى يقتصر فيه على القدر المتيقّن؛ و هو ما كان فى زمن الشارع مألوفاً و بمرآه، وتقطيع الأعضاء لترقيع الآخرين أمر مستحدث، و ليس له سابقة فى تلك الأيام حتى يكون مورداً لتقرير الشارع أو

ص: 327


1- الأحزاب: 6.
2- البقرة: 207.
3- المنافقون: 8.
4- الوسائل 424:11، ب 12، كراهة التعرض للذل، ح 2.

إمضائه، وما ورد فى أخذ السنّ من الميّت ضعيف.

و ثانيا إنّ ما استشهد به كقاعدة السلطنة أو قوله تعالى: اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ليس مشرّعاً و إن أفادت سلطنة الإنسان على نفسه فى الجملة؛ لأنهما تدلّان على أنّ الناس مسلّطون على أموالهم و أنفسهم فيما يجوز لهم ارتكابه، فموارد الجواز تحتاج إلى بيان شرعى، ولذا صرّح الفقهاء بعدم جواز ضرب العبيد و الإماء استنادا إلى قاعدة السلطنة على الأموال، فالقاعدة لا تدلّ بنفسها على جواز كلّ تصرّف، بل تدلّ على جوازه فى كل مورد ثبت جوازه و مشروعيّته من الخارج، والمفروض فى المقام أن مشروعيّة تقطيع الأعضاء أوّل الكلام.

ولعل موثّقة سماعة الدالّة على تفويض الاُمور كلّها إلى المؤمن عدا إذلال نفسه أيضاً كذلك؛ بأن يراد من الاُمور هى التى كانت مشروعة من الخارج، فتأمّل؛ لقوّة الإطلاق من جهة استثناء الإذلال.

وثالثا إنه لو سلّمنا إطلاق القواعد و الروايات، فلا مجال للأخذ بها بعد محكوميّتها بقاعدة الضرر.

فتحصّل إلى حدّ الآن: أنّ قطع الأعضاء للترقيع إذا كان ضرراً على البدن محرّم، ولا يخرجه عن كونه ضررياً وجود دواع عقلائية لذلك. نعم، لو زاحمه الأهمّ لجاز ذلك من باب تقديم قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ ، كتقديم حفظ الحياة.

فروع

الأوّل: هل يجوز أن يوصى شخص بإعطاء أعضائه بعد موته ليستفاد منها فى ترقيع بدن المحتاجين، أو لا؟ يمكن القول بالثانى؛ لأنّ الوصية ليست نافذة إلّا فيما يجوز له فعله فى زمن الحياة، كما قال تعالى: فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ (1)، وعليه فإذا كان شىء جائزاً له نفذت الوصية؛ لأنها إدامة لاختياراته فى زمن الحياة لما بعد وفاته، و أمّا إذا لم يكن الشىء جائزاً فى زمن الحياة فلا تكون الوصية نافذة.

ص: 328

الأوّل: هل يجوز أن يوصى شخص بإعطاء أعضائه بعد موته ليستفاد منها فى ترقيع بدن المحتاجين، أو لا؟ يمكن القول بالثانى؛ لأنّ الوصية ليست نافذة إلّا فيما يجوز له فعله فى زمن الحياة، كما قال تعالى: فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ (1)، وعليه فإذا كان شىء جائزاً له نفذت الوصية؛ لأنها إدامة لاختياراته فى زمن الحياة لما بعد وفاته، و أمّا إذا لم يكن الشىء جائزاً فى زمن الحياة فلا تكون الوصية نافذة.

وحيث إنّ إعطاء العضو فى زمان الحياة غير جائز لكونه ضرراً على البدن، فالوصية بإعطائه بعد وفاته غير جائزة؛ إذ لم يكن له فى زمان حياته اختيار إعطاء الأعضاء، بناءً على ما عرفت من حرمة الإضرارعلى النفس.

ويمكن أن يقال: إنّ الضرر على البدن من العناوين المخصوصة بحال الحياة؛ لعدم تحقق صدق ذلك العنوان بعد الموت بالنسبة إلى البدن الميّت الذى اختل من جميع الجهات، وعليه فإعطاء الأعضاء بعد الموت مشروع؛ لعدم بقاء عنوان المانع؛ إذ لولا المانع لكان إعطاء الأعضاء فى حال الحياة جائزا، فإذا ارتفع عنوان المانع بفى التقطيع على ما عليه ذاتاً من الجواز، فتشمله أدلّة الوصية إذا كان له دواعٍ عقلائية، ولا يلزم منه الإذلال، و إلّا فلا دليل على النفوذ و الجواز، بل يحرم إذلال النفس، كما دلّت عليه الأخبار المتضافرة.

ولا دليل على اعتبار المشروعيّة حال الإيصاء، بل اللازم هو المشروعيّة حال العمل بالوصية، كما أنّ القدرة شرط حال العمل لا حال تعلّق الخطاب.

لا يقال: نعم، ولكن مقتضى الأخبار الدالّة على أنّ حرمة الميّت كحرمة الحى(2) هو عدم مشروعيّة تقطيع الأعضاء بعد الموت أيضا؛ لأنّ تلك الأخبار واردة فى مورد قطع بعض الأعضاء، فالوصية بالتقطيع منافية لحرمة الميّت المسلم، ومع المنافاة لا تكون الوصية حال العمل مشروعة أيضا، فلا تكون نافذة.

ص: 329


1- البقر: 182.
2- راجع: جامع الأحاديث 496:26.

لأنّا نقول: إنّ التقطيع الممنوع بعد الموت هو التقطيع العدوانى، و أمّا التقطيع المأذون فيه بالوصية فالروايات منصرفة عنه، والتقطيع بالإذن و الوصية إذا فُرض له دواع عقلائية لا يكون منافياً لحرمة الميّت؛ ألا ترى أنّ وضع الرجل على رأس الغير خلاف حرمته، و أمّا مع إذنه بذلك لسبب من الأسباب العقلائية فلا يكون الوضع المذكور منافياً لحرمته.

والمناقشة فيه بأنّ حرمة الميّت إن كانت من باب الحقوق تسقط بالإذن والوصية، و أمّا إن كانت من باب الحكم الشرعى فالوصية يخلافها منافية لها.

غير سديدة بعد دلالة موثقة سماعة على أنّ الله تعالى فوّض إلى المؤمن اُموره كلّها إلّا الإذلال(1)؛ فإنّ مقتضى إطلاق تلك الموثّقة أن غير الإذلال يكون من حقوقه، والكلام فى الوصية بالتقطيع فيما إذا لم يستلزم الإذلال. هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من تشبيه حرمة الميّت بحرمة الحئ فى قوله عليه السلام: «حرمة الميّت كحرمة الحئ» هو مشابهة احترام الميّت حال الممات مع احترامه حال الحياة، و حيث إنّ احترامه حال الحياة من الحقوق، كان احترامه حال الممات أيضاً كذلك.

وعليه، فالظاهر أنّ للجواز وجهاً، سواء كانت حياة مؤمن متوقّفة عليه أو لم تكن، و إن كان الأحوط هو ترك الوصية بذلك أصلاً.

ولو شكّ فى جواز الوصية بذلك وعدمه فلا مجال للتمسّك بعموم أدلّة نفوذ الوصية بعد تعنونها بعدم كون الوصيّة وصية بالإثم؛ لأنّ التمسّك بها فى مورد الشكّ تمسّك بالعامّ فى الشبهات المصداقية.

ثم إنه لا يخفى عليك أنّ الأحكام الشرعية متعلّقة بالموضوعات العرفية غالباً؛ لأنّ الشارع المطهّر لم يتّخذ لإفادة مرامه غير المحاورات العرفية، وعليه فما لم يصدق

ص: 330


1- انظر: الوسائل 424:11، ب 12، كراهة التعرض للذل، ح 2.

الموضوع عرفاً لا تترتّب عليه أحكامه، والموت و الحياة فى المقام من الموضوعات العرفية، فإذا أوصى شخص بإعطاء أعضائه بعد موته لم يجز إعطاء أعضائه ما لم يصدق الموت. وبناءً على هذا، فلو صدق الموت عند الأطباء باختلال المخ و توقّف حركاته وعدم نفوذ الدم إلى عروقه ولكن لم يصدق ذلك عند العرف لعدم توقّف القلب بالمرّة، فلا تترتّب على اختلال المخّ آثار الموت؛ فلا يجوز إعطاء أعضائه للوصى قبل حدوث الموت العرفى، بل لو صرّح الموصى بإعطاء أعضائه عند اختلال المخ مع عدم توقّف القلب بالمرّة لايجوز الإعطاء؛ لأنّ إعطاء للأعضاء فى حال الحياة غير جائز، والوصية به وصيّة بالإثم، فلا تكون نافذة.

نعم، حيث تكون الحركة القلبية الطبيعية معياراً عند العرف لبقاء الحياة، فالحركة التى تدوم بتوسّط الآلات و الأدوات و الأجهزة الحديثة الموصولة بالمريض بحيث لو انفصلت عنه لاتدوم حركة قلبه، لا تفيد فى بقاء الحياة؛ فإذا علم أو وثق يتوقّف القلب كان محكوماً بالموت، سواء انفصلت الأدوات و الأجهزة أو لم تنفصل.

نعم، لو شكّ العرف فى أنّ القلب توقف أم لا، يمكن الاعتماد فيه على قول الأخصّائيين؛ فإنهم أهل الخبرة.

لا يقال: إنه مع الشكّ يجرى استصحاب الحياة.

لأنّا نقول: إنّ الاستصحاب جار فيما لو لم تكن أمارة ومع شهادة خبراء الطب لا مجال للاستصحاب.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ المرجعية إلى العرف فى تشخيص الموضوعات فيما إذا أحرزها العرف العام و إن لم بحرزها العرف الخاص، كما إذا حكم العرف العام بزوال الدم عن الثوب عند غسله بالماء، خلافاً للفلاسفة الذين لم يقولوا بالزوال لأنّ العرض لا ينفكّ عن العروض عندهم، و أمّا إذا لم يكن العرف فى أمر - كذلك - كما إذا توقّف الخ ولم يتوقّف القلب و شكّ فى تحقّق الموت وعدمه - فيمكن

ص: 331

الاعتماد على قول الخبراء فى تحقّق الموت وعدمه لو أخبروا جزماً عن وقوع الموت وعدم عود الحياة.

و يشكل ذلك: بأنّ الاعتماد على قول الخبراء فيما إذا اتّفق العرف و الخبراء فى مفهوم الموت و الشكّ فى تحقق مصداقه، وفيما نحن فيه لا يكون كذلك؛ لأنّ مفهوم الموت مختلف فيه بينهما، والقدر المتيقّن منه هو توقّف القلب و المخ وسكون النفس، وفى مثله لا تفيد شهادة الخبراء على تحقّق الموت؛ لأنّ الموت الذى يشهدون على تحقّقه هو توقّف المغ، و هو أوّل الكلام، فالمتبع فى مثله - ولو شهد الخبراء على تحقق الموت - هو الشك فى تحقّق الموت و احتمال بقاء الحياة فيجرى فيه الاستصحاب الحكمى لا الموضوعى؛ لأنّه من باب الشكّ فى الغروب و المغرب، و مقتضى الاستصحاب الحكمى هو عدم جواز قطع الأعضاء قبل توقّف القلب و المخ وسكون النفس.

نعم، لو قلنا بأنّ الموت و الحياة أمران واقعيّان، فلو جزم العرف بموت شخص وحكم الأطباء بحياته لما جاز دفن الشخص المذكور، وليس ذلك إلاّ لأنّ الموت أمر واقعى، و يترتّب حكم الدفن عليه لا على صدق مفهوم الموت عرفاً؛ و إلّا فهو معلوم الصدق عند العرف، ومن هذه الجهة لا يقاس المقام بباب صدق زوال الدم عرفاً مع حكم الفلاسفة ببقائه؛ فإنّ الموضوع فيه هو المفهوم العرفى من الدم لا واقع الدم.

وهكذا إذا أخبر الأطباء بوقوع الموت، لامن جهة أنّ مفهوم الموت صادق بل من جهة أنّ حقيقة الموت واقعة؛ لجواز الاعتماد عليهم - ولو شكّ العرف فيه - فإنهم أهل خبرة فى وقوع الموت وعدمه.

و يؤيّد ما ذكر من كونهما واقعيّين ما ورد فى الأخبار من لزوم تأخير الدفن فى موارد، كالغريق و المصعوق، وتخطئة العرف فى جزمهم بالموت؛ لقوله عليه السلام - بعد أمره بترك الميّت ثلاثة أيام قبل أن يدفن - فى الغريق و المصعوق: «فإنّه ربّما ظن أنّه قد مات

ص: 332

ولم يمت»(1)، أو قوله عليه السلام: «قد دفن ناس كثير أحياء ما ماتوا إلّا فى قبورهم»(2).

ولكن المسألة بعد لا تخلو عن الإشكال.

وكيف كان، فهذا كلّه فيما إذا أخبر الخبراء على وجه الجزم و اليقين بتحقّق الموت وعدم وجود الحياة.

و أمّا إذا احتمل أهل الخبرة وجود الحياة ولو كان الاحتمال ضعيفاً فى غاية الضعف، فلا يمكن الاعتماد على شهادتهم؛ لعدم تحقق الموت لا وجداناً ولا بشهادة أهل الخبرة.

ثم إنّ الأطباء فرّقوا بين موت المخّ و الإغماء، وقالوا: إنّ المخ فى الإغماء لم يمت، ولذا يمكن له العود فى الحركات و الأوامر، فإنّ الاختلال فى الإغماء فى سطح المخّ بخلاف موت المخ، فإنّ الاختلال فى أصله وساقه بحيث يقطع ارتباطه بالبدن و يشبه ما إذا قطع الرأس عن البدن.

ثمّ لو أوصى بإعطاء أعضائه فى إزاء أخذ مال، فهل تكون وصيّته نافذة أم لا؟ الأقوى هو الثانى بناءً على ما اخترناه فى بيع النجاسات الذاتية من عدم مشروعية جعلها مورد المعاملة؛ إذ المفروض أنّ الأعضاء بعد الإبانة صارت كالنجاسات الذاتية.

اللهمّ إلّا أن تكون الوصية منحلّة إلى أمرين: أحدهما إعطاء الأعضاء بعد الموت. وثانيهما أخذ الوجه فى مقابلها، فتكون الوصية نافذة فى الأوّل دون الثانى، فتأمّل.

الثانى: لا يجوز فى حال الحياة قطع الأعضاء التى يؤدى قطعها إلى الموت ولو

ص: 333


1- التهذيب 338:1، ب 13، ح 158.
2- المصدر السابق: ح 159.

كان لحفظ نفس الغير، سواء قلنا بجوازتقطيع الأعضاء أو لم نقل، وسواءكان مع إذن صاحب الأعضاء أو لم يكن.

وذلك لانه قتل للنفس المحترمة، و هو كبيرة، ولا يجوز ذلك كما نُصّ عليه فى الروايات:

منها: ما رواه فى الوسائل عن الفقيه بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن أبى ولّاد الحنّاط، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «من قتل نفسه متعمّداً فهو فى نار جهنم خالداً فيها»(1). ولعل التعبير بالخلود لكثرة طول عذابه.

قال الصدوق فى المشيخة: «وما كان فيه عن أبى ولّاد الحناط فقد رويته عن أبى رضى الله عنه عن سعد بن عبد الله، عن الهيثم بن أبى مسروق النهدى، عن الحسن بن محبوب، عن أبى ولّاد الحنّاط و اسمه حفص بن سالم مولى بنى مخزوم»، انتهى(2).

روى ابن أبى عمير عن الهيثم بن أبى مسروق النهدى قال فى حقّه النجاشى أنّه قريب الأمر، ولم يستثنه ابن الوليد، وفيه إيماء إلى وثاقته، وروى عنه كامل الزيارات، و أمّا بقيّة السند فهم ثقات، فالرواية موثّقة.

ومنها: ما رواه فى جامع الأحاديث عن عقاب الأعمال قال: حدّثنى محمّد بن موسى بن المتوكل رضى الله عنه قال: حدّثنى عبدالله بن جعفرالحميرى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبى ولّاد الحناط، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «من قتل نفسه متعمّداً فهو فى نارجهنم خالداً فيها»(3).

والظاهر أنّ المراد من أحمد بن محمّد هو أحمد بن محمّد بن خالد البرقى، و هو ثقة و إن أكثر الرواية عن الضعاف، فالرواية موثّقة، و لكنّها متحدة مع سابقتها و ليست

ص: 334


1- الوسائل 13:19، ب 5 من القصاص فى النفس، ح 1.
2- مشيخة من لا يحضره الفقيه 469:4.
3- جامع الأحاديث 130:26.

رواية اُخرى.

ومنها: ما رواه فى جامع الأحاديث عن الكافى، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان، عن معاوية بن عمّار، عن ناجية قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إنّ المؤمن يبتلى بكل بليّة و يموت بكل ميتة إلّا أنّه لايقتل نفسه»(1). إلّا أنّ ناجية غير موثّق.

و غير ذلك من الأخبار.

هذا مضافاً إلى الآيات الكريمة:

منها: قوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (2).

ومنها: قوله تعالى: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نٰاراً وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً (3).

قال فى آلاء الرحمن - بعد نقل الروايات -:

منها: عن العيّاشى عن أسباط بن سالم: سأل الصادق عليه السلام رجل عن ذلك، فقال:

«عنى بذلك الرجل من السلمين يشدّ(4) على المشركين وحده يجىء فى منازلهم فيقتل، فنهاهم الله عن ذلك»(5).

ومنها: أنّ المروى عن أبى عبد الله عليه السلام: «لا تخاطروا بأنفسكم فى القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه»(6).

ص: 335


1- المصدر السابق: 121.
2- البقرة: 195.
3- النساء: 29 و 30.
4- شدّ عليه: أى حمل عليه.
5- آلاء الرحمن فى تفسير القرآن 98:2.
6- المصدر السابق.

ومنها: عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فى حديث سأله فيه عمّن كان فى بَرد يخاف على نفسه إذا اُفرغ الماء على جسده، فقرأ صلى الله عليه و آله و سلم: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً (1). إلى غير ذلك.

أقول: ويمكن الجمع بين الروايات بأنّ المنهى عنه فى الآية هى المقدّمات والأفعال التى ينشأ عنها زهوق النفس، ولا مانع أيضاً من شمول الآية لقتل المسلم مسلما آخر بغير حق؛ فإنّ المنهى عنه هو قتل النفوس المضافة إلى جماعة المؤمنين الشاملة لنفس القاتل ونفوس غيره من المؤمنين، ولا حاجة فيما ذكرناه إلى الجمع بين الحقيقة و المجاز، لا فى الإضافة ولا فى المضاف إليه(2).

ولقد أفاد وأجاد. ومثله ما لو أمر جماعة المؤمنين بمراعاة عزّة نفوسهم؛ فإنه لا يختصّ بالآخرين، بل يشمل نفس مَن أعزّ الناسَ أيضا فتأمّل.

وكيف كان، فالمقصود من الآية - بشهادة الروايات - يعمّ قتل الإنسان نفسه، بل لعل تقطيع الأعضاء لا يجوز فيما إذا كان فيه مظنة الهلاك أو خوفه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ بناءً على عدم اختصاصه بالتهلكة اليقينية؛ بدليل أنّه لو اختصّت بها لزم الوقوع فى التهلكة كثيراً ما.

هذا مضافاً إلى أنّ النهى عن الهجوم على العدؤ الذى لا يُطاق دفعه لا يلزم الهلاك اليقينى، بل هو مظنة للهلاك.

على أنّ المخاطرة المنهئ عنها فى الأخبار هى إلقاء النفس فى الخطر، و هو لا يلازم الجزم بوقوع الخطر.

ويشهد لما ذكر أيضا: ما ورد فى المنع عن استعمال الماء مع الخوف على النفس،

ص: 336


1- النساء: 30.
2- آلاء الرحمن فى تفسير القرآن 98:2.

كمعتبر محمّد بن مسكين المروية فى الوسائل عن الكافى: عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبى عمير، عن محمّد بن مسكين وغيره، عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور(1)، فغسّلوه فمات. فقال عليه السلام: «قتلوه! ألا سألوا؟ ألا يمّموه ؟ إن شفاء العئ(2) السؤال»(3). ثم إنّ محمّد بن مسكين موثّق بالتوثيق العامّ ؛ لرواية ابن أبى عمير عنه.

ووجه الشهادة: إنّ من المعلوم أنّ الذين غسّلوه لم يعلموا بلزوم الموت، ومع ذلك وبّخهم الإمام عليه السلام، وليس ذلك إلّا لممنوعية إفراغ الماء مع الخوف.

الثالث: لا يخفى عليك - بعد ما عرفت أنّ الضرر و تنقيص البدن نقصاناً معتنى به محرّم - أنّه لا فرق بين كون الأعضاء من الأعضاء الرئيسية وبين غيرها؛ إذ الملاك هو حرمة الضرر، فلا وجه للتفصيل المذكور، كما يظهر من عبارة بعض الأعلام حيث قال: «هل يجوز قطع عضو من أعضاء إنسان حى للترقيع إذا رضى به ؟ فيه تفصيل:

فإن كان من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين و اليد و الرجل وما شاكلهما لم يجز، و أمّا إذاكان من قبيل قطعة جلد أو لحم فلا بأس به»(4).

نعم، من لم يتم عنده حديث لا ضرر أمكن له التفصيل بين ما يفسد البدن وغيره، كما يدل عليه خبر محمّد بن سنان، حيث كتب فيه علىّ بن موسى الرضا عليهما السلام:

«إنا وجدنا كلّ ما أحلّ الله تبارك و تعالى ففيه صلاح العباد و بقاؤهم، ولهم إليه الحاجة لا يستغنون عنها، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه، ووجدناه مفسدا داعياً الفناء و الهلاك - إلى أن قال - فكيف أنّ الدليل على أنّه لم يحلّ إلّا لما فيه

ص: 337


1- الجدر - بفتحتين -: جمع جدرة. البثور المرتفعة.
2- العى: من لم يهتد لوجه مراده.
3- الوساثل 967:2، ب 5 من التيمم، ح 1.
4- منهاج الصالحين 426:1، مسألة 40.

من المصلحة للأبدان و حرّم ما حرّم لما فيه من الفساد؟!»(1).

ولكنّ الخبر ضعيف. هذا مضافاً إلى تقيد الفساد بالفناء و الهلاك. اللهمّ إلّا أن يراد من الفناء و الهلاك الأعمّ من الموت، كما يشهد له جعل كل محرّم كذلك مع ما نرى أنّ كل محرّم لا يوجب الهلاك بمعنى الموت، و يويّده تعليل الذيل بمطلق الفساد، فافهم.

فتحصّل أنّ الضرر المعتنى به يحرم.

و أمّا بذل كلية واحدة هل يكون ضرراً أو لا؟ فقد ذكر بعض الأطباء أنّه ليس بضرر.

الرابع: هل يجوز للحئ تنقيص الأعضاء وتقطيعها لو توقف حفظ حياة مؤمن على بذل عضو من أعضائه أو لايجوز؟ ربّما يقال بالجواز بل الوجوب؛ لدوران الأمر بين حرمة الضرر ووجوب حفظ النفس، فيصير المورد من موارد التزاحم، وحيث إنّ حفظ النفس أهمّ فيقدّم جانبه.

و يستدلّ على أهمية حفظ النفس باُمور:

منها: أخبار التقية، بتقريب: أنّ التقية ثابتة فى كل شىء وجودياً كان أو عدميا كما نصّ عليه فى صحيحة الفضلاء: «التقيّة فى كلّ شىء يضطرّ إليه ابن آم فقد أحلّه الله له»(2)، وعليه فالتقية مقدّمة على كل واجب وحرام؛ فإنّ كل شىء يعمّهما.

وحيث إنّ كل واجب وحرام لا يخلو عن الملاك اللازم الرعاية، فتقديم التقيّة عليهما يكون من باب أهميتها عليهما.

ثمّ ذكر وجه هذه الأهمّية فى صحيحة محمّد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال:

«إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية(3)». ومثلها موثقة أبى

ص: 338


1- علل الشرائع: 592.
2- الوسائل 468:11، ب 25 من أبواب الأمر و النهى، ح 2.
3- المصدر السابق: 483، ب 31 من أبواب الأمر و النهى، ح 1.

حمزة الثمالى. فيدل مجموع هذه الأخبار على أنّ حفظ الحياة هو المجوّز لمخالفة كل حرام أو واجب، وعليه فحفظ الحياة واجب أهمّ و أولى بالرعاية من جميع الواجبات و المحرّمات، فلا محالة كلّما دار الأمر بين حفظ الحياة و حفظ واجب أو حرام آخر فالأهمّ هو حفظ الحياة.

ويشكل ذلك بأنّ ظاهر هذه الأخبار هو تشريع التقية لحفظ النفوس من تجاوز الأعداء ولا نظر لها بالنسبة إلى حفظ النفوس عمّا يعرضها بسبب العلل الطبيعية كالأمراض المهلكة. و يمكن أن يقال: إنّ ظاهر التعليل فى قوله عليه السلام: «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم» هو أنّ معيار. تقديم التقية حفظ النفوس ولا نظر فيه إلى أسباب هدمها، فلاتفاوت فى ذلك بين الأسباب الطبيعية وغيرها، فتأمّل.

لا يقال: إنّ التعليل بحفظ الدم لا يشمل دم الغير، وعليه فالمعيار مختصّ بحفظ دم الإنسان نفسه ولا يرتبط بحفظ دم الآخرين من المؤمنين، والمقام راجع إلى حفظ دم المؤمنين.

لأنّا نقول: إنّ التقية لحقن الدم لا تختصّ بالمتّقى، بل تشمل التقية لحفظ دم الآخرين، فلا وجه لتخصيص التحليل بدم المتّقى.

لا يقال: إنّ الدم أعمّ من قتل النفس، وعليه فيكون مفاد الرواية أنّ التقية إنّما شرّعت ليُحقَن بها الإنسان من الجرح و القتل ممّا فيه الدم، فإذا بلغت التقية الدم بالمعنى المذكور فلا تقية.

وعليه، فكل شىء يؤدى إلى الجرح و القتل لا يجوز، والمقام ممّا يؤدّى إلى الجرح؛ فإنّ تقطيع الأعضاء لا يمكن بدون الجرح و الدم كما لا يخفى. وعليه، فلا تصلح هذه الأخبار للاستدلال فى المقام.

لإمكان أن نقول: إنّ الدم فى هذه المقامات يستعمل كثيراً فى قتل النفس، كقوله عليه السلام: «وصارت البيّنة فى الدم على المدّعى عليه... واليميين على المدّعى؛ لأنّه

ص: 339

حوط يحتاط به المسلمون؛ لئلّا يبطل دم امرئ مسلم»(1).

أو «شهادة النساء... لا تجوز فى الطلاق ولا فى الدم»(2).

أو كقولهم: «عرض المسلم كدمه».

و غير ذلك من الموارد. فكثرة الاستعمالات تصلح لانصراف الدم إلى دم النفس لا للأعمّ من دم الجرح، فافهم.

ولو سلّم تماميّة الاستدلال بأخبار التقية من الجهات المذكورة، ف نسلّم تماميّتها من جهة الإطلاق؛ فإنّ قوله: «إنّما جعل التقية ليحقن الدم بها، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة» فى مقام بيان عدم جواز التقية بسفك دم الغير، فلا إطلاق لها من ناحية موارد جواز التقية من الأسباب القهرية العدوانية و الأسباب العادية الطبيعية.

ومنها: أخبار جواز الحلف كذباً لحفظ مال المسلمين، كموثقة إسماعيل بن سعد الأشعرى المروية فى الوسائل عن الكلينى: عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن إسماعيل بن سعد الأشعرى، عن أبى الحسن الرضا عليه السلام - فى حديث - قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك، فحلف. قال: «فلا جناح عليه». وعن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه. قال: «لا جناح عليه».

و سألته: هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله ؟ قال: «نعم»(3).

بدعوى أنّ مورد الروايات و إن كان هو التضرّر المالى للأخ المؤمن، ولكن نتعدّى إلى التضرّر العرضى و النفسى بطريق الأولوية، و يشهد له موثّقة السكونى عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن علىّ عليهم السلام: قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: اِحلف بالله

ص: 340


1- المصدر السابق 172:18، ب 3 من كيفية الحكم و أحكام الدعوى، ح 6.
2- المصدر السابق 259:18، ب 24 من شهادة النساء، ح 5.
3- المصدر السابق 162:16، ب 12 من الأيمان، ح 1.

كاذباً و نجّ أخاك من القتل»(1).

فالمستفاد من هذه الأخبار أنّ الجامع فى تسوبغ التقية فى ترك الواجب أو فعل الحرام إنّما هو الضرر المتوجّه إلى النفس أو الأخ المسلم فى شىء من المال أو العرض أو النفس. هذا مضافاً إلى دلالة خبر معمّر بن يحيى على أنّ الضرر المتوجّه إلى الأخ السلم أو المؤمن هو ممّا يوجب الضرورة على نفس الإنسان - حيث قال عليه السلام فى جواب سؤال السائل: إنّ معى بضائع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّار، فيحلّفونا عليها، فنحلف لهم ؟ فقال: «وددت أنّى أقدر على أن اُجيز أموال المسلمين كلّها و أحلف عليها؛ كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية»(2) - لتطبيق الكبرى المذكورة فى الذيل على موارد الضرر المتوجّه إلى الأخ المؤمن.

وكيف كان، فهذه الروايات تدل على جواز التقية فى ترك الواجب أو فى فعل الحرام للضرر المتوجّه إلى الغير، سواء كان مالياً أو بدنياً وعليه فلا مانع من رفع اليد عن حرمة الإضرار بالبدن للضرر المتوجّه إلى الغير.

و فيه: ما عرفت فى أخبار التقية من أنّ غاية الاستدلال بها هو جواز التقية فى ترك الواجب أو فعل الحرام عند تجاوز الأعداء، ولا إطلاق لها بالنسبة إلى الضرر المتوجّه إلى الأخ الؤمن بالأسباب الطبيعية، بل هذه الأخبار جاءت مندرجة تحت أخبار التقية لأنها بالحمل الشائع تقية.

ومنها: أخبار وجوب حفظ الماء خوفاً من العطش: كصحيصة عبد الله بن سنان، عن أبى عبد الله عليه السلام أنّه قال فى رجل أصابته جنابة فى السفر وليس معه إلّا ماء قليل و يخاف إن هو اغتسل أن يعطش، قال: «إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة،

ص: 341


1- المصدر السابق: 163، ح 4.
2- المصدر السابق: 165، ح 16.

و ليتيمّم بالصعيد؛ فإنّ الصعيد أحبّ إلىّ »(1).

و موثّقة الحلى قال: قلت لأبى عبد الله عليه السلام: الجنب يكون معه الماء القليل، فإن هو اغتسل به خاف العطش، أيغتسل به أو يتيمّم ؟ فقال: «بل يتيمّم»(2).

وموثقة سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون معه الماء فى السفر فيخاف قلّته. قال: «يتيمّم بالصعيد و يستبقى الماء؛ فإنّ الله عزّ و جلّ جعلهما طهورا؛ الماء و الصعيد»(3).

لا يقال: إنّ بعض الأخبار مختصّ بحفظ الإنسان لنفسه، وشمول قوله عليه السلام: «إن خاف عطشاً» لحفظ نفس الغير، مع أنّ السؤال عن خوف العطش على نفسه غير واضح.

لإمكان أن نقول: إنّ العبرة بإطلاق الجواب؛ فإنّ قوله: «إن خاف عطشاً» يشمل عطش الغير. هذا مضافاً إلى أنّ إطلاق السؤال وترك الاستفصال فى موثّقة الحلى و موثّقة سماعة يشهد للشمول.

إن قلت: إنّ هذه الأخبار واردة فى الطهارة المائية التى لها بدل وهى الطهاره الترابية، فجواز رفع اليد عن مثلها لا يسوّغ التعدّى عنها إلى ما لا بدل له كسائر الواجبات و المحرّمات.

قلت: لا مجال لاحتمال خصوصية كون الواجب ذا بدل فى ذلك مع الاتّفاق على وجوب إنقاذ الغريق ولو كان متوقّفاً على الحرام، كقطع الصلاة أو الدخول فى دار الغير؛ فإنّ مثلهما لا بدل له. فمنه يظهر أنّ معيار التقديم هو أهمية وجوب حفظ نفس الغير لاكون الواجب ذا بدل.

ص: 342


1- المصدر السابق 997:2، ب 25 من التيمم، ح 1.
2- المصدر السابق: ح 2.
3- المصدر السابق: ح 3.

وعليه، فهذه الأخبار تدلّ على وجوب حفظ نفس الغير ولوكان سبب الهلاك أمراً طبيعيا وذلك الحفظ يتحقّق برفع اليد عن الواجب، و هو الوضوء أو الغسل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مع خوف العطش يصدق عنوان فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1)، و معه فلا موضوع للغسل و الوضوء، ولا يكون من باب التزاحم و. تقديم وجوب حفظ النفس على وجوب الغسل أو الوضوء.

ولكنه كما ترى؛ لانه مع وجود الاء للوضوء أو الغسل ورويته لا يصدق عدم وجود الاء، فالتقديم من جهة التزاحم و أهمّية حفظ النفس، لا من جهة عدم موضوع الوضوء أو الغسل.

وحيث كان الوضوء أو الغسل لا موضوعيّة لهما، فيتعدّى منهما إلى كل واجب وحرام، فإذا توقّف حفظ النفس على ترك الواجب أو فعل الحرام أمكن القول بالجواز من جهة أهمّية حفظ النفس، ولكنه محل تأمّل؛ لأنّ التعدّى من الواجبات البدلية التى تكون هى مورد الروايات إلى غيرها بقرينة خارجية يختصّ بمقدار تدلّ عليه القرائن، و الاتّفاق على وجوب الإنقاذ و تقديمه على حرمة قطع الصلاة أو الدخول فى دار الغير لا يدلّ على. تقديم حفظ النفس على حرمة الإضرار بالبدن؛ لأنّ قطع الصلاة أو الدخول فى دار الغير ليس من هذا القبيل.

ومنها: الأخبار الدالّة على جواز شقّ بطن المرأة الميّتة لإخراج ولدها حفظاً لحياة الولد، أو على جواز تقطيع الولد الميّت وإخراجه من بطن المرأة الحيّة حفظاً لحياة الاُمّ :

كصحيحة على بن يقطين قال: سألت العبد الصالح عليه السلام عن المرأة تموت وولدها

ص: 343


1- المائدة: 6.

فى بطنها. قال: «يشقّ بطنها، و يخرج ولدها»(1).

والظاهر من قوله: «يشقّ بطنها» هو وجوب ذلك؛ لأنّ السؤال عن كيفيّة الحكم عند دوران الأمر بين المحذورين، فإن كان الحكم هو الجواز لما خصّصه بشق البطن، فحيث خصّصه به يظهر أنّ المتعيّن هو شق البطن. ولاينافيه قوله: «لا بأس» فى الرواية التالية؛ لانه من جهة إقدام الرجل فى مقابل النساء لا من جهة أصل القطع و الإخراج.

وخبر وهب بن وهب عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا ماتت المرأة وفى طنها ولد يتحرك فيتخوّف عليه؛ فشُقّ طنَها وأخرج الولد».

وقال فى المرأة يموت ولدها فى بطنها فيتخوّف عليها، قال: «لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطّعه و يخرجه إذا لم ترفق به النساء»(2).

والرواية و إن كانت ضعيفة و لكنّها - كما فى الجواهر - غير قادحة بعد الانجبار بعمل الأصحاب.

فهذه الروايات تدلّ على رفع اليد عن حرمة تشقيق بدن الميّت وتقطيعه فى مقابل وجوب حفظ النفس، مع أنّ تقطيع بدن الميّت وتشقيقه يوجب الدية، لو لم تدل الأخبار المذكوره على عدمها، و هذا حاك عن أهمّية حفظ النفس، فيستفاد منها أنّ مع تزاحم حرمة الإضرار بالبدن مع وجوب حفظ نفس الغير يلزم رفع اليد عن حرمة الإضرار.

و يشكل ذلك: بأنّ رفع اليد عن حرمة التقطيع فى الأموات يلازم رفع اليد عن حرمة الإضرار فى الأحياء، وإلغاء الخصوصية لا مجال له. هذا مع أنّ وجود الميّت فى

ص: 344


1- الكافى 155:3.
2- المصدر السابق: 206.

مورد الأخبار من أسباب موت الحئ، بخلاف المقام؛ فإنّ الحئ لا سببية له فى إزالة الحياة من الغير، بل إزالة الحياة من الغير مستندة إلى الأسباب العادية و الطبيعية، فتأمّل.

ومنها: ما يظهر للمتتبّع فى تضاعيف أبواب الفقه نصّاً وفتوى من تقديم حفظ النفس المحترمة على ارتكاب المحرّمات أو ترك الواجبات، وليس ذلك إلّا لأهمية حفظ النفس المحترمة بالنسبة إلى سائر الواجبات و المحرّمات، وبعض هذه الموارد كما يلى:

1 - جواز أكل الميتة حفظاً للنفس.

2 - جواز قطع المضطرّ للأكل بعضَ أجزاء بدنه ممّا لا يوجب الهلاك، معلّلاً بانه إتلاف بعض لاستبقاء الكل(1).

3 - جواز شرب الخمر أو البول عند الاضطرار إليهما(2).

4 - جواز غصب مال الغير لحفظ الإنسان إذا توقّف عليه، مع ضمان المثل أو القيمة(3).

5 - وجوب بذل الطعام على صاحب الطعام للمضطرّ إذا لم يكن نفسه مضطرّاً معلّلاً بوجوب حفظ النفس المحترمة عليه ولو لغيره، خلافاً للمحكىّ عن الخلاف و السرائر فلم يوجباه؛ للأصل، بعد منع كونه إعانة وعدم دليل يدل على وجوب حفظ نفس الغير مطلقا، حتى لو توقّف على بذل المال؛ إذ ليس إلّا الإجماع، و هو فى الفرض ممنوع، بل لعل السيرة فى الأعصار و الأمصار على خلافه فى المقتولين ظلما مع إمكان دفعه بالمال، وفى المرضى إذا توقّف علاجهم - المقتضى حيانهم بإخبار أهل

ص: 345


1- انظر: جواهر الكلام 442:36.
2- انظر: المصدر السابق.
3- اظر: المصدر السابق 292:31.

الخبره على بذل المال. قال فى الجواهر بعد نقل ما ذكر: إلّا أنّه لا يخفى عليك ما فى ذلك كلّه؛ ضرورة المفروغية عن وجوب حفظ نفس المؤمن المحترمة(1).

6 - وجوب شراء العلف لحفظ نفس الحيوان(2).

7 - وجوب الطبابة عيناً على الطبيب مع الانحصار مع أخذ الاُجرة(3).

8 - جواز قتل مباح الدم كالحربى للمضطرّ الذى يحتاج إلى لحمه، و يحلّ له منه ما يحلّ من الميتة(4).

9 - وجوب الدفاع عن الغير عند القدرة على الدفع عن غيره مطلقاً أو مع التقيّد بالأمن من الضرر(5).

10 - وجوب إنقاذ الغريق ونحوه كفاية أو عيناً عند الانحصار ولو توقف على ارتكاب الحرام أو ترك الواجبات، وغير ذلك من الموارد التى تدلّ على أهمية حفظ النفس وتقديم جانبه على المحرّمات و الواجبات.

و فيه: أوّلاً: إنّ هذه الموارد جملة منها مربوطة بمحافظة الإنسان على نفسه ولا يرتبط بالمقام.

و ثانيا إنّ جملة اُخرى منها و إن دلت على تقديم جانب حفظ نفس الغير ولكنّها مختصّة بتقديمه على الأموال، ولا يستفاد منها وجوب بذل الأعضاء لحفظ نفس الغير، بل يظهر من الجواهر خلافه، حيث قال: «لا يجوز للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطرّ و إن قطع بالسلامة، إلّا أن يكون المضطرّ نبيّا، فإنّه يجوز و إن قطع

ص: 346


1- المصدر السابق 432:36-433.
2- المصدر السابق 395:31.
3- العروة الوثقى - كتاب الإجارة، خاتمة، مسألة 17.
4- جواهر الكلام 442:36.
5- المصدر السابق 650:41.

بالسراية»(1).

و أيضاً قال: «لا يجوز للمضطرّ أن يقطع من غيره ممّن هو معصوم الدم اتّفاقا، كما فى السالك؛ إذ ليس فيه إتلاف البعض لإبقاء الكل، بل الظاهر ذلك و إن قطع بالسلامة المقطوع منه(2).

ومنها: بناء العقلاء و سيرتهم على لزوم حفظ نفس الغير بحيث لو أهمل من يقدر على حفظه استحقّ المذمّة، ولم يردع عنه الشارع. و هذه السيرة لا تختصّ ببذل المال ونحوه، بل هى قائمة أيضاً فى أنّهم يقتحمون الأخطار من أجل إنقاذ الغير، لاسيّما إذا كان بينهما قرابة. ألا ترى أنّ الاُمّ أو الأب أو الولد يذبّون عن ذويهم لإنقاذهم ولو كلّف الأمر اقتحام النار؟! بل ربّما علموا بأنّ الدخول فى النار ونحوها من المخاطر لا يخلو من الضرر ونقص البدن و مع ذلك يقدمون على إنقاذه، ولم يكونوا ملومين بل ممدوحين بذلك.

وعليه، فمع توجّه الخطر إلى الغير يجب على الإنسان حفظ نفس الغير، ولو أخلّ بذلك كان ملوماً ومذموماً عند العقلاء ولو لم يكن سبباً لتوجّه الخطر إلى الغير.

ودعوى أنّ السيرة المذكورة ثابتة فيما إذا لم يعلم بالضرر، ولا إشكال فيه؛ لأنّ مع عدم العلم بالضرر يكون من الشبهات الموضوعية فلا يحرم، و أمّا مع العلم بالضرر فهى غير ثابتة.

ممنوعة بانا نجد السير قائمة على دخول الإنسان فى المخاطر من أجل الحفاظ على ذويه من الأبناء و الآباء ونحوهما من الأقرباء الأدنين مع العلم بالنقص و الضرر، ومع وجدان هكذا سيرة كيف يمكن دعوى عدم الثبوت ؟!

ص: 347


1- المصدر السابق 442:36.
2- المصدر السابق: 442-443.

نعم، يمكن القول بأنّ السيرة حيث كانت دليلاً لبّياً فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، فيجوز تحمّل النقص فى ذوى الإنسان و أهله وعياله، كالأبناء و الآباء و الاُمّهات و الإخوان و الأزواج وغيرهم من الأقرباء الأدنين؛ فإنّ ضررهمضرره، فكما إنّ الإنسان يدفع الضرر الأكثر بتحمّل الضرر الأقلّ عند المعالجة و الأمراض، كذلك يدفع ضرر ذويه بتحمّل الضرر القليل أو الأقل و أمّا فى غيرهم فالسيرة مع العلم بالضرر غير ثابتة؛ إذ ليس ضررهم ضرره، فتأمّل.

لا يقال: إنّ السيرة فى المذكورين ليست على بذل الأعضاء؛ فإنّ ذلك أمر لا سابقة له فى تلك الأيام، فكيف يؤخذ بها؟! لجواز تحمّل الضرر ببذل الأعضاء.

لأنّا نقول: إنّ ثبوت السيرة على تحمّل الضرر لدفع الخطر كافٍ فى جواز بذل الأعضاء، ولا حاجة إلى ثبوتها فى خصوص بذل الأعضاء بما يكون متعارفاً فى زماننا هذا؛ إذ لا خصوصية فى مصاديق الضرر، فتحمّل الحرق و الكسر و الجرح لحفظ الأهل و العيال من خطر الموت مع الإمضاء الشرعى يسوّغ المقام؛ إذ الإمضاء تعلّق بتحمّل الضرر لحفظ الأهل لا بخصوص موارد الضرر.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ الإمضاء لو تعلّق بخصوص المذكورات أمكن إلغاء الخصوصية كما تلغى فى النصوص ومعاقد الإجماعات، فتدبّر.

بل يمكن أن يقال: إنّ المورد المذكور من موارد تزاحم الضررين، وبناء العقلاء فى مثله على اختيار الأقل منهما. وهكذا نقول فى نفى الحرج، فإنّ تحمّل الضرر حرج، وتحمّل فقدان الأولاد و الآباء والاُمّهات و غيرهم من الأهل أكثر حرجاً، فيختار أقلّهما حرجاً كما عليه بناءالعقلاء.

إن قلت: إنّ ما ذكرتموه جارٍ بعينه فى إخواننا المؤمنين؛ لأنّ مقتضى الاُخوّة الإسلامية هو أنّ المسلمين بعضهم أولياء بعض و اُمّة واحدة، فالضرر اللاحق

ص: 348

بالإخوان ضرر علينا، فإذا مرض أحدمم بمرض مهلك و أمكن لنا دفعه بتحمّل الضرر يتزاحم الضرران، ومقتضى بناء العقلاء على اختيار أقلّهما ضررا، و الأقل هو تحمّل النقص لرفع الأكثر و هو الهلاك، وبالجملة فحكمهم هو حكم الأقرباء الأدنين و الأهل و العيال.

قلت: بناء العقلاء ليس إلّا فى الأدنين من العشيرة و الخواص، والتوصية الشرعية بالاُخوّة الإسلامية بنفسها شاهدة على أنّ البناء المذكور ليس ثابتاً فى الاُخوّة و إنّما أراد الشارع أن يكون المسلمون بعضهم بالنسبة إلى البعض كالأهل.

ويالجملة: التوصية بأنّ المسلمين ينبغى أن يكونوا كذلك تغاير بناء العقلاء على المعاملة مع الآخرين معاملة العشيرة و الأدنين و الأهل و العيال.

إن قلت: تكفى التوصية الشرعية بالإيثار بالنسبة إلى جواز تحمّل الضرر ببذل الأعضاء للإخوان.

قلت: نعم، لو كانت التوصية المذكورة عامّه أو مطلقة بحث تشمل تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الآخرين، و أمّا إذا لم تكن كذلك فمقتضى أدلّة نفى الضرر هو عدم جواز تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الآخرين. و هذا بخلاف الأهل و العيال؛ فإنّ الأمر فيهم يرجع إلى تزاحم الضررين بالنسبة إلى فرد واحد، فيختار أقلّهما ضرراً.

إن قيل: إنّ عنوان ذوى الإنسان و خاصّته ممّن يكون ضررهم ضرراً لنا بحيث يرجع إلى تزاحم الضررين متفاوت فى الأقوام و الملل؛ إذ ربّما تكون الطبقة الاُولى كذلك و ربّما تكون أزيد و ربّما تكون أقلّ من ذلك.

قلت: فالمتّبع هو كون ضررهم معدوداً ضرراً لنا، و القلّة و الكثرة بحسب اختلاف الأقوام و الملل لا تنافيان ذلك، فتدبّر.

ثم بعد اللتيا و التى، يمكن أن يقال: إنّ عمومات إعانة المؤمنين كقوله عليه السلام: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه و هو يقدرعليه من عنده أو من عند غيره، أقامه

ص: 349

الله يوم القيامة مسوداً وجهه» الحديث(1)، أو عمومات الاستغاثة كقوله عليه السلام: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من سمع رجلاً ينادى يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2)، و إن أمكن المناقشة فى شمولها لبذل العضو لكن دعوى بناء العقلاء على عدم ملامة من أعطى عضوه فى سبيل نجاة الآخرين من الموت ولو لم يكن بينه و بينهم قرابة غير مجازفة، وعليه فدعوى انصراف حديث «لا ضرر» عن مثله غير بعيدة. فتحصّل أنّ إعطاء العضو لنجاة الآخرين من الموت جائز؛ لقيام بناء العقلاء على عدم كون الباذل ملوماً، ولم يُردع هذا البناء؛ إذ العمومات لا تكفى للردع، بل يحتاج الردع إلى التصريح و التنصيص. نعم، لا يكون ذلك واجباً عند العقلاء، بخلاف الأهل و العيال فإنّ ترك البذل لهم يوجب المذمّة و الملامة. و ممّا ذكر يظهر ما فى كلام صاحب الجواهر من منع بذل العضو للمضطرّ(3)، فتدبّر.

ص: 350


1- الوسائل 599:11.
2- المصدر السابق 591:19.
3- جواهر الكلام 443:26.

الخامس: ربّما يفصّل فى جواز إعطاء العضو بين ما إذا لزم منه محذور اختلاط المياه و الأنساب كما إذا كان العضو رحماً أو بيضة امرأة أو مشيمة أو خصية - فلا يجوز ذلك؛ إذ اختلاط الأنساب أمر مرغوب عنه فى الشريعة، وبين ما لم يلزم منه ذلك المحذور فيجوز.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المرغوب عنه فى الشرع هو اختلاط المياه، كما تشهد له أخبار العدّة، و هو لا يحصل بمجرّد انتقال هذه الأعضاء إلى الغير؛ لصيرورة هذه الأجزاء أجزاء لمن تنتقل إليه، فبعد صدق كونها أجزاء للغير فكل ما تولّده هذه الأجزاء إنّما هو من بدن المنقول إليه لا بدن المنقول منه، فلا مجال لتوهّم لزوم اختلاط المياه و الأنساب.

نعم، ربّما يقال: إنّ الأطباء يرون أنّ بيضة المرأة بالفعل حاملة لجميع ما يتولّد منها فى الآتى، و إنّما يصدر عنها ما يصدر بالتدريج مع عروض الموجبات الخاصّة، وعليه فيلزم اختلاط مياه صاحب هذه الأجزاء مع غيره ولو صارت أجزاء للثانى.

ولكن يمكن أن يقال أوّلاً: إنه مع معلوميّة صاحب البيضة لا يلزم اختلاط المياه. وثانياً: مع الجهل بصاحبها لا يلزم ذلك المحذور بعد حكم العرف بكونها من أجزاء الثانى؛ إذ الأحكام تابعة للموضوعات العرفية لا العرف الخاصّ كعرف الأطباء. نعم، ما لم تصر جزءاً للثانى فهى محكومة بجزئيتها للأوّل، وحينئذ يلزم المحذور من اختلاط المياه.

لا يقال: إنه فى صورة حكم الأطباء ببقاء بيضة المرأة اة على ما عليها لايحكم العرف بكونها من الثانى، والعرف متّبع فى صورة ما إذا جزم و خطّأ العرف الخاصّ كالثوب المتنجّس بالدم فإنّ عرف الفلاسفة مجكم ببقاء الدم ما دام اللون باقياً، و العرف يجزم بعدمه ولا يقبل حكم الفلاسفة.

لأنّا نقول: و فيما نحن فيه أيضاً كذلك؛ فإنّ بيضة المرأة بعد صيرورتها جزءاً

ص: 351

للثانى يجزم العرف بكون الولد من الثانى ولا يقبل قول الأطباء بانه من الأوّل.

لا يقال: إنّ دعوى الجزئية منظور فيها؛ لأنّ الأعضاء المبانة من الحىّ محكومة بكونها كالميتة، و هذه الأعضاء مع اتّصالها ببدن الغير لاتنقلب عمّا هى عليه من كونها من أعضاء الشخص الفلانى، بل هى باقية على ما هى عليه من جزئيتها للبدن المنقول منه، وإلحاقها بالثانى مسامحى، كما أنّ البساط المنخرق إذا اُصلح موضعه المنخرق بشىء من الريش و الصوف لا تعدّ الأشياء المزيدة أجزاء للبساط إلّا بالعرض و المجاز، بل هى باقية على كونها من الأجزاء المزيدة.

لأنّا نقول: إنّ قياس الأجزاء المتّصلة بالبدن بوصلة البساط قياس مع الفارق، لعدم الفعل والانفعال و التبديل و التبدّل فى مثل البساط، بل الأولى قياس المقام بترقيع الأشجار و الأزهار بلحاء من غيرها، فإنه بعد الترقيع و الامتصاص يصير اللحاء المذكور جزءاً للشجر الذى رقّع به. وهكذا إذا رقّعت أجزاء الغير ببدن إنسان وتقبّلها البدن و تكيّفت فيه بحيث يسرى فيها الدم و ينبت اللحم و يشتدّ العظم ويدرك الألم بإدخال الإبرة ونحوها، فهى تعدّ من أجزاء بدن المنقول إليه عرفاً.

ومع حكم العرف بأنّ الأجزاء الزيدة من أجزاء المنقول إليه لا مجال لاستصاب بقائها على جزئيّتها من بدن المنقول منه؛ لأنّ الأصل لا يجرى مع حكمِ العرف بجزئيّتها من المنقول إليه و جريانِ الأدلّة الدالّة على أحكام أجزاء بدن الثانى، وكونها أجزاء للأوّل فى السابق لاينافى جزئيّتها للثانى بالفعل.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ تقبّل البدن للأعضاء يحتاج إلى مرور مدّة حتى يجرى فيها الدم من بدن المنقول إليه و يوجب نبات اللحم و اشتداد العظم، فما لم يحصل ذلك لاتترتّب عليها آثار بدن المنقول إليه، بل يلزم أن تترتّب عليها أحكام الأجزاء المبانة من الحى من النجاسة إن انفصلت من الحئ أو انفصلت من الميّت قبل الغسل، و أمّا إذا انفصلت بعد الغسل فهى محكومة بالطهارة و إن لم تصر أجزاء للبدن الحئ، ولكن لا

ص: 352

يجوز الصلاة فيها إن كانت ممّا تحلّه الحياة كاللحم، دون ما لا تحله الحياة كالسن، كما هو مقتضى الجمع بين الأخبار؛ كصحيحة ابن أبى عمير عن أبى عبدالله عليه السلام عليه السلام فى الميتة أنّه قال: «لا تصل فى شىء منه ولا فى شسع»(1)، و رواية الحسين بن زرارة عن أبى عبدالله عليه السلام، قال:... سأله أبى و أنا حاضر عن الرجل يسقط سنه، فيأخذ سن إنسان ميّت فيضعه مكانه. قال: «لا بأس»(2) و بقيّة الكلام فى محلّه.

ومما ذكر يظهر حكم الترقيع فيما إذاكان ذلك من جنس مخالف؛ فانه بعد صيرورته عضواً لمن رقع به تترتب عليه أحكامه من جواز النظر وعدمه، وما لم يصر عضواً له بفى على حكمه السابق.

وهكذا يظهر حكم الترقيع فيما إذا كان ذلك من مسلم لكافر أو بالعكس، فلا تغفل.

السادس: إذا لم يوصِ الميّت بإعطاء عضوه، فهل يجوز لأوليائه الإذن فى ذلك أو لا يجوز؟ ربّما يقال: لا يجوز ذلك؛ لعموم أدلّة ثبوت حرمة الميّت كما إذا كان حيّاً؛ لقولهم عليهم السلام: «حرمة الميّت كحرمة الحئ»، فكما لا يجوز لأحد أن يتعرّض لشىء من أعضاء الحئ كذلك لا يجوز لأحد أن يتعرّض لشىء من أعضائه فى حال مماته، من دون فرق بين أوليائه و الأجانب.

و ربّما يستدلّ للجواز بإطلاق لفظ «الولى» فى النصوص على متصدّى اُمور الميّت من الأقرباء، كقوله عليه السلام: «يغسّل الميّت أولى الناس به، أو من يأمره الولى بذلك»(3).

ص: 353


1- الوسائل 249:3، ب 1 من لباس المصلّى، ح 2.
2- تهذيب الأحكام 78:9، ح 332.
3- الوسائل 718:2، ب 26 من غسل الميت، ح 2.

و كمرسلة ابن أبى عمير عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «يصلَى على الجنازة أولى الناس بها، أو يأمر من يحب»(1).

وكمرسلة جميل عن أحدهما عليهم السلام قال: «إذا مات ولى المقتول قام ولده من بعده مقامه»(2).

وكقوله تعالى: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً (3).

وعن علىّ عليه السلام انه كان يقول: «ولى الدم يفعل ما يشاء؛ إن شاء قتل و إن شاء صالح»(4).

بدعوى أنّ مقتضى مفاد كلمة «الولى» هو جواز التصدّى لاُمور الميّت بما يراه مصلحة له، فإذا رأى ولى الميّت مصلحة فى إعطاء أعضاء الميّت للترقيع فيجوز له ذلك؛ أخذاً بإطلاق لفظ «الولى».

وفيه: أنّ هذه النصوص مختصّة بموارد تجهيز الميّت وباب القصاص و الديات، ولا إطلاق فيها حتى يشمل سائر الموارد بإطلاقه؛ لأنها فى مقام بيان وجوب الاُمور المذكورة على الولى، أو أحقّيته من غيره فيها، كقوله: «الزوج أحق بها من الأب والولد و الأخ»(5)، أو فى مقام بيان قائم مقام الولى بعد موته، لا فى مقام جعل الولاية للولى فى مطلق الاُمور. نعم لو سلّمنا الإطلاق فهو قائم مقام الميّت فيما جاز له، فإذا جاز للميّت إعطاء عضوه للغير حفظاً لحياته كذلك يجوز للولى ذلك، ولكنه محدود بما

ص: 354


1- جامع الأحاديث 283:3.
2- المصدر السابق 91:26.
3- الاسراء: 33.
4- جامع الأحاديث 226:26.
5- المصدر السابق 195:3.

جاز للميّت، فلا يجوز التخطى عنه.

لا يقال: إنّ الإطلاق لو سُلّم معارض بما يدلّ على أنّ حرمة الميّت كحرمة الحئ.

لأنّا نقول: فكما أنّ الميّت فى حال حياته جاز له ذلك و لا يتنافى مع حرمته فكذلك الولى، فتأمّل، ولا أقلّ من الشكّ ، فلا يجوز التعدّى عن تلك الوارد ورفع اليد عن عموم لزوم مراعاة حرمة الميّت.

السابع: يجوز أخذ الأعضاء من الحربى حيّاً كان أو ميّتاً، أذن أو لم يأذن؛ إذ لا حرمة للحربى حيّا و ميّتاً، واختصاص أدلّة حرمة الميّت بالمسلم.

وعليه، فيجوز أخذ بعض أعضائهم عند معالجتهم فى حال الحياة أو بعد مونهم ما لم تعرض الطوارئ و العناوين الوهنة للإسلام و المسلمين.

و أمّا أخذ الأعضاء من المعاهد و الذمّى مع الإذن فلا إشكال، و أمّا بدونه فإن كان حيّاً فلا يجوز؛ لرعاية حرمتهم بعقد الذمّة، و إن مات جاز أخذ الأعضاء منه؛ لانقضاء مدّة عقد الذمه بالموت، إلّا أن يكون المشروط فى عقد الذمّه هو رعاية أبدانهم بعد الموت أيضاً فلا يجوز؛ لأنّ ذلك نقض لعهد الذمّة و المعاهدة، بل الأمر كذلك لوكان عقد الذمّة مبتنياً على الشرط المذكور.

و ربّما استدلّ لحرمة أخذ الأعضاء من جسد الذمّى ولو لم يشترط ذلك بإطلاق قول الصادق عليه السلام فى صحيحة جميل: «قطع رأس الميّت أشدّ من قطع رأس الحئ»(1).

و اُجيب عنه: بمنع الإطلاق والانصراف بعد كون الأصل فى الكفّار هو عدم الحرمة، وعروض حرمة الذمّى ما دام عقد الذمّة باقياً، فإذا ارتفع عقد الذمّة بالموت

ص: 355


1- الوسائل 249:19، ب 25 من ديات الأعضاء، ح 1.

عادوا إلى ما كانوا عليه من عدم الحرمة. هذا مضافاً إلى انه لو سلّمنا الإطلاق وعدم انصرافه عن الذمّى فإنه يقيّد بالإيمان و الإسلام؛ بقرينة سائر الأخبار المتقيّدة بالإيمان والإسلام، كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حرمة المسلم ميتاً كحرمته و هو حئ سواء»(1)؛ و قوله عليه السلام: «إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياءً »(2)، و قوله عليه السلام:

«أبى الله أن يظن بالمؤمن إلّا خيراً، و كسرك عظامه حيّاً و ميّتاً سواء»(3)، فإنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ الاحترام من خصائص الإيمان و الإسلام.

و يزيد على ذلك دلالة بعض الأخبار على مقدار دية قطع الرأس بما يظهر منه أنّ المراد من الميّت هو المسلم؛ فإنّ المئة دينار التى عيّنت لقطع الرأس فى صحيحة حسين بن خالد(4) هى دية جنين المسلم قبل ولوج الروح، ودية الكافر الذمى ليست بهذا المقدار؛ لأنّ ديته فى حال الحياة ثمانمئة درهم، كما نصّ عليه فى الأخبار، كصحيحة محمّد بن قيس عن أبى جعفر عليه السلام قال: «دية الذمّى ثمانمئة درهم»(5). ولا يمكن أن تزيد ديته فى حال الممات عن حال حياته، فذكر مئة دينار لدية قطع الرأس شاهد على أنّ المراد من الميّت هو الميّت المسلم الذى يكون فى حكم الجنين المسلم قبل ولوج الروح فى مقدار الدية.

فتحصّل: أنّه يجوز أخذ الأعضاء من جسد الذمّى بعد موته لو لم يشترط عدمه فى عقد الذمّة، لا سيّما إذا أذن وليّه بذلك.

الثامن: لايجوز العفو عن المجرم المسلم فى قبال إعطاء بعض أعضائه للترقيع؛

ص: 356


1- المصدر السابق: 251، ح 6.
2- المصدر السابق: 250، ح 3.
3- المصدر السابق: 251، ح 4.
4- المصدر السايق: 247، ب 24 من ديات الأعضاء، ح 2.
5- المصدر السابق: 161، ب 13 من ديات الأعضاء، ح 3.

قضاء لإطلاق أدلّة حرمة الإضرار.

كما لا يجوز تغريره بأخذ بعض أعضائه؛ لعدم الدليل على مشروعيّة التغرير بذلك، فمقتضى إطلاق أدلّة حرمة الإضرار عدم الجواز.

وهكذا لا يجوز تخليصه من الحبس بأخذ عضو من أعضائه.

التاسع: لا إشكال فى جواز ترقيع بدن الكافر بأعضاء الميّت الكافر، كما لا إشكال فى ترقيع بدن المسلم بأعضاء الميّت الكافر.

و أمّا ترقيع بدن الكافر بأعضاء الميّت المسلم فيما يجوز له البذل فربّما يقال بجوازه؛ لعدم دليل على المنع ما لم يوجب إذلالاً للمسلمين، و إلّا فلا يجوز.

ويشكل ذلك: بانه ينافيه النبوى الشربف: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)الذى يستدل به لعدم جواز تعلية بناء الكفار على بناء السلمين، كما فى المبسوط حيث قال: «ليس له [الذمّى] أن يعلو على بناء المسلمين؛ لقوله عليه السلام: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2).

وكما فى الجواهر حيث استدل له بانه موضع وفاق بين المسلمين على ما فى السالك و الرياض، و ادّعى عليه الإجماع كما فى المنتهى و التذكرة، و هو الحجّة بعد إمكان استفادته من قوله عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»، ومن قوله تعالى:

وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وغير ذلك ممّا دلّ على رجحان رفعة الؤمن وضعة الكافر فى جميع الأحوال(3).

ولا يخفى عليك ما فى الاستدلال بالنبوى المذكور لحرمة التعلية و الرفعة للكافر؛ لأنّ الظاهر منه هو بيان علو الإسلام فى الدليل و الحجّة بحيث لا يغلبه شىء

ص: 357


1- الجامع الصغير 123:1. كنز العمّال 66:1. الوسائل 376:17.
2- المبسوط 46:2.
3- انظر: جواهر الكلام 284:21.

من الأدلة و البراهين، ولا ربط له بعلو المسلمين على الكفّار.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ لازم علو الإسلام فى الدليل و المنطق هو علو المسلمين على غيرهم، ولكنه على فرض كونه لازماً بيّناً بالمعنى الأخصّ مخصوص بالاعتلاء الدليلى و البرهانى، ولا يرتبط بعلؤ الدار ونحوه.

نعم لا بأس بالاستدلال بإطلاق دليل حرمة الميّت المسلم كحرمة الحىّ فى المقام؛ إذ مقتضاه عدم جواز ترقيع أعضاء بدن المسلم ببدن الكافر؛ لأنّه خلاف احترامه؛ إذ ذلك يضاهى إلقاءه فى النجاسة و البالوعة، فتدبّر.

العاشر: إنّ المرتدّين فى حكم الكفّار؛ ولا حرمة لهم، بخلاف المحاربين من المسلمين أو المقتولين بالحدود الشرعية، فإنهم من المسلمين ولهم ما لهم، فلا يجوز التعرّض لأجسادهم بعد موتهم كما لا يجوز التعرّض لهم فى حياتهم، إلّا فيما رخّص فيه؛ وذلك لإطلاق أدلّة حرمة الميّت المسلم.

ودعوى الملازمة بين مهدورية دمائهم وعدم حرمتهم، مردودة بأنّه لا دليل لها، ولا يمكن الالتزام بها بعد ما نراه من وجوب الصلاة عليهم ودفنهم وغير ذلك.

ففى صحية هشام عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: قلت له: شارب الخمر و الزانى و السارق يصلى عليهم إذا ماتوا؟ فقال: «نعم»(1). وفى خبر السكونى عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: صلّوا على المرجوم من اُمّتى، وعلى القاتل نفسَه من اُمّتى، لا تدَعوا أحداً من اُمّتى بلا صلاة»(2).

الحادى عشر: لا بأس بتقطيع أعضاء الحيوانات بعد تذكيتها وترقيعها، وإنما الإشكال من ناحية الصلاة فيها لو كانت ممّا لا يؤكل، و لعلّه يرتفع بالاضطرار

ص: 358


1- الوسائل 814:2، ب 37 من صلاة الجنازة، ح 1.
2- المصدر السابق، ح 3.

و ضرورة المعالجة.

و أمّا إذا اُخذت الأعضاء من الحيوانات من دون تذكية أو اُخذت من نجس العين أو اُخذت من الحيوانات قبل مونها، فهذه الأعضاء محكومة بالنجاسة، ولا إشكال فى الترقيع بها إلّا من ناحية نجاستها، ولكنه يرتفع أيضاً بالضرورة والاضطرار إلى خصوصها للمعالجة.

نعم، هنا إشكال لا يختصّ بالحيوانات بل يجرى فى الأعضاء المأخوذة من الإنسان أيضاً، و هو أنّ أعضاء الميتة أو الأجزاء المبانة المحكومة بحكم الميتة لا يجوز الانتفاع بها ولو بمثل الترقيع بها؛ للمنع من مطلق الانتفاع بها.

و اُجيب عن ذلك: بأنّ مطلق الانتفاع ليس ممنوعاً، و إنّما الممنوع هو الاستعمالات المتعارفة الوقوفة على الطهارة و التذكية كالأكل. قال فى جامع المدارك:

«من جملة المحرّمات الميتات القابلة للذكاة من ذى النفس وغيره، ولا شبهة فى حرمتها والانتفاع بها فى الجملة. و أمّا حرمة جميع الانتفاعات؛ مثل تسميد الأرض أو تغذية الكلب، فتشكل استفادنها من الأدلّة. و بعبارة اُخرى: مثل اللحم الانتفاع التعارف منه أكله، كما أنّ المسكر الانتفاع المتعارف منه شربه؛ لا إشكال فى شمول دليل الحرمة للانتفاع المتعارف، و أمّا الانتفاع الغير المتعارت فشمول الأدلّة له محل إشكال، و إن كان يتراءى من رواية تحف العقول المذكورة فى المكاسب لكن الظاهر الانصراف، فلايخطر بالبال حرمة تعجين التراب بالخمر لسدّ الثقبة فى الدار، أو دفن الميتة تحت الأشجار الثمرة.

بل يشكل شمولها للانتفاع التعارف فى الأعصار المتأخرة الغير العارف فى الأعصار السابقة؛ كالانتفاع ببعض المسكرات فى عمل الجرّاحين لتخدير العضو أو

ص: 359

لمنع خروج الدم فى التزريقات»(1).

وتحقيق المسألة يتوقف على المراجعة إلى مداركها.

و قد ورد المنع من الانتفاع بالميتة فى عدّة روايات:

منها: موثّقة على بن أبى المغيرة المروية عن الكافى: عن محمّد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عاصم بن حميد، عن علىّ بن أبى المغيرة، قال: قلت لأبى عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، الميتة ينتفع منها بشىء؟ فقال:

«لا». قلت: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مرّ بشاة ميّتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها (بجلدها)؟! قال: «تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها، فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟! أى تذكّى»(2).

و منها: موثقة سماعة المروية عن التهذيب بإسناده عن الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا»(3).

والمراد من الحسن هو الحسن بن سعيد، و هو أخو الحسين بن سعيد، و هو ثقة، كما أنّ زرعة ثقة، وكان ممّن صحب سماعة، مّ إنّ إسناد الشيخ إلى الحسن بن سعيد صحيح كما فى المشيخة.

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على المنع عن الانتفاع بالميتة(4).

ص: 360


1- جامع المدارك 160:5.
2- الوسائل 1080:2، ب 61 من النجاسات، ح 2.
3- المصدر السابق، ب 49 من النجاسات، ح 2.
4- راجع: الوسائل 295:16.

ومقتضى هذه الأخبار هو المنع عن الانتفاع بالميتة و يمكن دعوى دلالتها على التعميم لا سيّما مع تعميم السؤال فى موثّقة على بن أبى المغيرة، ولعل هذا منشأ معروفية حرمة مطلق الانتفاع عند الأصحاب.

نعم لا إطلاق فى الرواية الثانية حيث إنّ السؤال عن الانتفاع بجلود السباع، والجواب ناظر إليه، وكيف كان فلا يعمّ الانتفاعات الغير المتعارفة و إن صارت متعارفة بعد صدور الرواية، ولو سلّم شمولها لمطلق الانتفاع ولا أقلّ من الشكّ فلا يعمّ . هو يعارضها ما رواه ابن إدريس نقلاً عن جامع البزنطى صاحب مولانا الرضا عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكون له الغم يقطع من أليَاتها وهى أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع ؟ قال: «نعم، يذيبها و يسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها»(1)، و غيره من الروايات الواردة فيجواز الاستفاده من أجزاء اليتة بناءً على عدم إعراض الأصحاب عن هذه الروايات الدالّة على جواز الانتفاع. ومن المعلوم أنّ الذوب و الاسراج لا خصوصية له، و إنّما المراد هو عدم الاستفادة منه فى الأكل و أمّا غيره ممّا لا يشترط فيه الطهارة و التذكية فلا مانع فيه. وعليه فيدور الأمر بين التصرّت فى هيئة الأخبار المانعة وحملها على الكراهة وبين تقييد الأخبار المانعة بما يشترط فيه الطهارة و التذكية كالأكل ونحوه، و أمّا غيره و إن كان متعارفاً فلا يحرم.

ولا يمكن الالتزام بالأوّل لانه خلاف الظاهر مضافاً إلى أنّه لم يقل أحد بكراهة أكل الميتة أو لبسها فيما يشترط فيه الطهاره و إن أمكن القول بكراهة الإسراج بها جمعاً بين ما رواه عن جامع البزنطى وصحيحة الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك، إنّ أهل الجبل تثقل عندهم إليات الغم فيقطعونها قال: هى حرام، قلت: جعلت فداك، فنصطبح بها؟ فقال: أما علمت أنّه يصيب اليد و الثوب

ص: 361


1- الوسائل 67:12، ب 6 من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

و هو حرام(1).

ومن المعلوم أنّ المراد من الحرام فى الذيل هو المكروه لأنّه من الضرورى عدم تحريم تنجيس اليد و الثوب فى الشريعة.

فلا محيص عن اختيار الثانى؛ لانه أنسب بالصناعة الفقهية لأنّ الجمع بين المطلق و المقيّد أمر عرفى لا يكون منافياً للأخذ بالظواهر فيحمل الأخبارالمانعة بعد التقييد على إرادة الانتفاع بالميّتة كما ينتفع من المذكى باستعمالها فى الأكل و غيره ممّا يشترط فيه الطهارة دون ما لا يشترط فيه الطهارة و التذكية جمعاً بين الأخبار.

هذا مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ الظاهر من قول السائل ينتفع بها أى هل ينتفع بها كالانتفاع بالمذكى.

ولذلك اختار السيّد الخوئى قدس سره هذا الجمع فى التنقيح(2)، ثمّ إنه لا يخفى عليك أنّه لا يصحّ الاستدلال لجواز الترقيع بالأجزاء المبانة بأنّ الترقيع بها الذى يوجب خروج العضو المبان عن كونه ميتة لصيرورته جزءاً وعضواً من موجود حئ يشمله لا محالة الأدلّة المبنية لحكم أعضائه وأجزائه فلا تعمّه أدلّة المنع ويكون باقياً على أصل الجواز.

لأنّ ملاك الجواز هو عدم عموم الأدلّة المانعة؛ لاختصاصها بالمتعارف من الانتفاعات ممّا يشترط فيه الطهارة.

ومع قطع النظر عن ذلك، يشكل ذلك بانه قبل صيرورتها عضواً أو جزءاً من الحئ تكون الأجزاء المبانة باقية على كونها ميتة، فنفس الترقيع بها انتفاع، فلو كان مطلق الانتفاع محرّماً كان لترقيع أيضاً محرّماً، و صيرورتها عضواً وجزءاً بعد ذلك لا

ص: 362


1- الوسائل 359:16، ب 30 من الذبائح، ح 2.
2- التنقيح 561:1.

ينفع فى رفع الحرمة عن الانتفاع بها قبل ذلك؛ لأنّها فى طول الترقيع كما لا يخفى.

ولو أبيت عمّا ذكر من عدم حرمة الانتفاع بها فيما لا يشترط فيه الطهاره والتذكية، فيجوز الترقيع بها فى المقام لضرورة المعالجة، كما سيأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

الثانى عشر: لا إشكال فى جواز الترقيع أو وجوبه على الطبيب عند توقف حفظ الحياة على ذلك، ولو كان ذلك ملازماً لترك واجب كوجوب دفن العضو؛ لأهمية حفظ الحياة.

و أمّا فى غير هذا المورد ممّا لا يتوقّف حفظ الحياة عليه فهل يجوز له ذلك مع مخالفة خطاب التكفين و الدفن أم لا؟ يمكن أن يقال: إنّ ذلك ممنوع لكونه موجباً لترك تكفين العضو ودفنه، وهما واجبان؛ فإنّ العضو ما دام يصدق عليه أنّه من الأجزاء المبانة من الحئ أو من أجزاء الميّت، يجب تكفينه ودفنه.

نعم، بعد صيرورته جزءاً للحىّ لا يبقى موضوع للدفن و التكفين كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: لو سُلّم وجوب التكفين و الدفن فى مثل المقام فالاضطرار إلى المعالجة يرفعهما، كما يرفع حرمة النظر و اللمس عند المعالجة لو توقفت على النظر.

ولذا استدل المحقق الحائرى قدس سره لرفع حرمة النظر و اللمس عند الاضطرار إلى المعالجة(1) بعموم رفع ما اضطرّوا إليه، وعموم الضرورات تبيح المحظورات، وصحيحة الثمالى عن أبى جعفر عليه السلام، قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء فى جسدها إمّا كسر و إمّا جراح فى مكان لا يصلح النظر إليه، ويكون الرجال أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له أن ينظر إليها؟ قال: «إذا اضطرّت إليه فيعالجها إن

ص: 363


1- تقريرات - النكاح: 71.

شاءت»(1)، فإنّها تدلّ على جواز رفع اليد عن الحرام باضطرار المريض إليه، وبذلك ترفع اليد عن إطلاق ما دلّ على عدم الجواز، كموثّقة السكونى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الصى يحجم المرأة، قال: «إن كان يحسن يصف فلا»(2)، من دون فرق بين كون الضرورة المسوّغة للنظر ممّا يلزم رفعها شرعاً، كما إذا كان مرض المرأة مؤدّياً إلى الهلاك أو المضرّة، وبين كونها ممّا لا يلزم رفعها شرعاً، كما إذا لم يكن كذلك بل كان تحمّله شاقّاً عليها؛ لصدق الاضطرار وترك الاستفصال فى الصحيحة، فكما أنّ الاضطرار إلى المعالجة يوجب رفع اليد عن الحرام كذلك يوجب رفع اليد عن الواجب و هو التغسيل و التكفين؛ لضرورة العلاج.

وكخبر علىّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن المرأة تكون بها الجروح فى فخذها أو بطنها أو عضدها، هل يصلح للرجل أن ينظر إليه يعالجه ؟ قال: «لا»(3). فأدلّة رفع الاضطرار و صحيحة الثمالى تدلّ على رفع الحرمة.

و توهّم أنّ الاضطرار إنما يوجب رفع الحكم عن المضطرّ دون غيره، فكيف يجوز للطبيب رفع اليد عن الواجب مع أنّ المضطرّ هو المريض لا الطبيب ؟! مدفوع: بما أفاده المحقّق الحائرى قدس سره من أنّ الاضطرار إنّما يوجب رفع الحكم عن خصوص المضطرّ فيما إذا لم يكن رفعه عنه متوقفاً عقلاً على رفعه عن غيره كما فى المقام، و إلّا فيكون دليل رفعه عن المضطرّ دالّا بدلالة الاقتضاء على رفعه عن ذلك الغير أيضاً؛ صوناً عن اللغوية(4).

هذا مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ الترقيع بالأعضاء لا ينافى وجوب التكفين

ص: 364


1- جامع الأحاديث 285:20.
2- المصدر السابق: 286.
3- المصدر السابق.
4- تقريرات النكاح: 10.

والدفن فى أكثر الموارد؛ لعدم احتياج الترقيع إلى مضى زمان ينافى الفورية العرفية.

على أنّ لقائل أن يقول: دليل التكفين و الدفن لئى، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، و هو ليس مثل القام.

ولكن يرد عليه: أنّ الدليل الاجتهادى موجود فى المقام و هو مرسلة ابن أبى عمير عن أبى عبدالله عليه السلام، قال: «لا يمسّ من الميّت شعر ولا ظفر و إن سقط منه شىء فاجعله فى كفنه»(1). وخبر عبد الرحمن بن أبى عبد الله، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الميّت يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يقلّم (ظفره)، قال: «لا يمسّ منه شىء؛ اغسله و ادفنه»(2). فيجب التكفين و الدفن بناءً على أنّ مرسلات ابن أبى عمير فى حكم المسانيد، كما هو الظاهر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الروايات المذكورة تدلّ على لزوم تكفين الأعضاء ودفنها؛ حتّى لا تصير منتنة ومندرسة بحيث تنافى احترام الميت، فتكون تلك الروايات منصرفة عمّا إذا كانت الأعضاء مورد الاستفادة كزماننا هذا. ويشهد لذلك ما رواه فى التهذيب عن محمّد بن يعقوب، عن صفوان بن يحيى، عن الحسين بن زرارة عن أبى عبدالله عليه السلام عليه السلام، قال:... سأله أبى و أنا حاضر عن الرجل يسقط سنه، فيأخذ سن إنسان ميّت فيضعه مكانه قال: «لا بأس»(3).

و هو يدلّ على جواز أخذ السن الذى هو عضو من الميّت لعلاج الأسنان، مع أنّ لازمه هو عدم الدفن.

فتحصل: أنّ الترقيع للترميم الذى اضطرّ إليه المريض جائز لضرورة المعالجة، إلّا أنّ ذلك فيما إذا كان أخذ الأعضاء جائزاً بمثل الوصية، فلا تغفل.

ص: 365


1- تهذيب الأحكام 323:1، ح 940.
2- المصدر السابق: ح 942.
3- تهذيب الأحكام 78:9، ح 332.

الثالث عشر: هل يجوزأخذ شىء فى قبال إعطاء العضو أم لا؟ ذهب بعض الفقهاء إلى صحّة بيعه وتمليكه، مستدلّا بأنّ الإنسان و إن لم يكن مالكاً لأعضائه و متعلّقات نفسه وبدنه ملكيةً اعتبارية عقلائية ضرورة أنّ أمرها و إن كان بيده بحكم الضرورة عند العقلاء أيضاً كما مرّ الكلام فيه إلّا انّها لا تعتبر من أملاكه كما يعتبر لباسه ونقوده و داره وفرشه ملكاً له، لكنه ليس قوام البيع الذى هو تمليك مال بعوض إلّا بأن يكون اختيار المبيع بيد البائع.

كما يظهر ذلك لمن تدبّر أمر الزكاة؛ فإنّ الظاهر أنّ الزكاة زكاة لا غير، فهى مال وليست ملكاً لأحد، والموارد الثمانية المذكورة فى الكتاب العزيز إنّما هى مصارف معيّنة لها شرعاً لا انّها أو بعضاً منها مالكة لها، ومع ذلك فلا ينبغى الشكّ فى أنّه إذا باع ولى الأمر الزكاة التى أخذها بما أنّه ولى أمر المسلمين فالبيع بيع حقيقة، بل وصحيح عرفاً وشرعاً.

فهكذا الأمر فى مسألة أعضاء الإنسان و متعلّقاته، فإنّها مال يُبذل مال آخر بإزائه، ويكون أمرها بيد صاحبه؛ فله أن ينقلها إلى الغير محّاناً، كما أنّ له نقلها إليه فى مقابل عوض، وحقيقة مثل هذا النقل هو البيع، ومقتضى إطلاق مثل قوله: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وسائر أدلّة صحّة البيع صحّته، فيصير العضو المذكور ملكاً للمشترى.

ثم قال:

إن قلت: إنّ أمر عدم ملكية الإنسان لأعضائه ملكية اعتبارية و إن كان كما ذكرت، إلّا أنّ هنا أدلّة خاصّة دلّت على اعتبار الملكية فى المبيع، ومقتضاها بطلان بيع الإنسان لأعضاء نفسه، و كفى فى ذلك النبوى المشهور: «لا بيع إلّا فى ملك».

قلت: لم نقف على النبوى المعروف بهذه العبارة بعد فحص أكيد، ولا على رواية اُخرى عن النبىّ أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام تفيد هذا المعنى.

ثم نقل أخباراً متعدّدة من طرق العامّة تدلّ على أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا بيع إلّا

ص: 366

فيما تملك» أو أنّ النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «ليس على رجل طلاق فيما لا يملك، ولا عتاق فيما لا يملك، ولا بيع فيما لا يملك»، قائلاً بأنّ المراد بها أن يعمد الإنسان إلى بيع الشىء قبل أن يصير ملكاً له ويدخل فى ملكه. واستشهد عليه بأمرين:

أحدهما: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ليس على الرجل...»، فإنّ التعبير به إنّما يناسب لو كان وقوع البيع يوجب عليه تكليفاً يؤخذ به، و هو لا يكون إلّا إذاكان بيعه عن نفسه، و إلّا فبيع ما ليس ملكاً له إذا كان بيع مال الغير ومن قبيل الفضولى فوقوع البيع إنّما يوجب وقوع التكليف على مالك المبيع، والبائع الفضولى أجنبى عن البيع لا يوقعه فى تكلّف أصلاً، بخلاف ما لو باع عن نفسه.

و قد وردت عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام فى باب بيع العينة بألفاظ أخر ما تدلّ على بطلان بيع العين قبل أن يملكها.

و ثانيهما: ذكر البيع فى عِداد طلاق ما لا يملك؛ فإنّ من الواضح أنّ اللكية المعتبرة فى الطلاق ليست ملكية اعتبارية، بل إنّما هى بمعنى كون أمر المطلّقة بيده؛ بأن تكون زوجة له حين وقوع الطلاق، ليتصوّر فيه مفهوم الطلاق.

فكما أنّ الراد بالملك فيه هو أن يكون مالكاً لأمرها بالفعل، فى قبال ما ليس أمرها بيده؛ كطلاق الأجنبية التى هى زوجة الغير، وكطلاق من يريد تزويجها قبل أن يتزوّجها.

فهكذا الكلام فى قوله: «لا بيع فيما يملك» أو «لا بيع إلّا فيما تملكه»، فيراد باللك فيه: أن يكون أمر المبيع بالفعل بيده ليكون له الآن التصرّت فيه بالبيع ونحوه.

و بعبارة اُخرى: يراد بالملكية أن يكون تحت اختياره وفى يده وسلطته، و هذا معنى حاصل للإنسان بالنسبة إلى أعضائه إلى أن قال: فهذه الأخبار إنّما هى بصدد النهى عن بيع الشىء قبل أن يدخل تحت يده واختياره، لا فى مقام اشتراط اللكية

ص: 367

الاعتبارية فى المبيع(1).

ويمكن أن يقال أوّلاً: إنا نمنع بناء العقلاء فى عصر الشارع على بذل الحى لأعضائه من جهة كونه مختاراً فى أمر أعضائه، و قد مرّ أنّ الأخذ بمثل قاعدة السلطنة ونحوها غير تام؛ لأنّها ليست مشرّعة، بل لو سلّم إطلاق القواعد و الأدلة مثل قاعدة السلطنة أو قاعدة تفويض الأمور إلى المؤمن إلّا الإذلال كما دلّت عليه موثقة سماعة(2) فهى محكومة بقاعدة لا ضرر.

و ثانيا: إنّ الأعضاء المبانة محكومة بالنجاسة الذاتية، و قد دلّ الدليل على عدم جواز بيع النجاسات الذاتية و إن كانت لها منافع شائعة، كقوله عليه السلام: «ثمن العذرة من السحت»(3). فالعذرة و إن كانت لها منفعة شائعة كالتسميد لكن لا يجوز بيعها وشراؤها، وحيث لا خصوصية للعذرة فكل نجاسة ذاتية تكون كذلك.

و ثالثا: إنّ الأجزاء المبانة و الميّتة ممّا يصرّح بعدم جواز بيعها؛ لقوله عليه السلام فى موثّقة أبى نصر البزنطى عن مولانا الرضا عليه السلام فى الأليات المقطوعة: «نعم، يذيبها و يسرج بها، ولا يأكلها، ولا يبيعها»(4)، ولقول الإمام الصادق عليه السلام فى موثّقة السكونى: «السحت ثمن الميتة»(5)، وغير ذلك من الروايات. وفى قبالها خبر محمّد بن عيسى، عن أبى القاسم الصيقل وولده؛ كتبوا إلى الرجل: جعلنا الله تعالى فداك، إنا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرّون إليها، وإنما علاجنا (غلافهاظ) جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز فى أعمالنا غيرها،

ص: 368


1- كلمات سديدة: 177-182.
2- الوسائل 424:11، ب 12 من الأمر و النهى، ح 2.
3- المصدر السابق 126:12، ب 40 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
4- المصدر السابق: 67، ب 6 من أبواب ما يكتسب به، ح 6.
5- الكافى 126:5.

فيحلّ لنا عملها و شراؤها وبيعها و مسّها بايدينا وثيابنا و نحن نصلّى فى ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك فى هذه المسألة، يا سيّدنا، لضرورتنا. فكتب: «اجعل ثوباً للصلاة». وكتب إليه: جعلت فداك، وقوائم السيوف التى تسمّى السفن نتّخذها من جلود السمك، فهل يجوز لى العمل بها ولسنا نأكل لحومها؟ فكتب عليه السلام: «لا بأس»(1).

ولكن الرواية ضعيفة من جهة جهالة أبى القاسم الصيقل، و القول بأن المخبر هو محمّد بن عيسى أبو القاسم الصيقل، غير سديد بعد رواية محمّد بن عيسى عن أبى القاسم الصيقل؛ فإنّ الظاهر منه أنّ الراوى للكتابة هو أبو القاسم، وعليه فأبو القاسم الصيقل روى كتابة أهل صنفه إلى الإمام لا كتابة نفسه وولده إليه، و إلّا لقال:

«كتبنا»، هذا مضافاً إلى أنّ الراوى لوكان محمّد بن عيسى للزم أن يقول: «كتبا» لا «كتبوا». هذا من جهة سند الرواية.

و أمّا من حيث مدلولها فلا تدلّ على المقصود؛ لأنّ مورد السؤال كما أفاد شيخنا الأعظم فى المكاسب عمل السيوف وبيعها وشراؤها، لا خصوص الغلاف مستقلّا ولا فى ضمن السيف على أن يكون جزءاً من الثمن فى مقابل عين الجلد، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد اليتة بجعله غمداً للسيف، و هو لا ينافى عدم جواز معاوضته بالمال(2).

والحاصل: أنّ مع احتمال أن يكون المبيع هو السيف و الغلاف تابع له بنحو الشرط، لا تصلح تلك الرواية للخروج بها عن تلك النصوص، وبقية الكلام فى محلة.

ص: 369


1- تهذيب الأحكام 376:6، ح 1100.
2- المكاسب للشيخ الأنصارى 32:1.

و عليه، فالاعضاء المبانة ممنوعة البيع بخصوصه شرعا فلا يجوز أخذ شىء بإزائها.

ورابعاً: إنا لا نسلّم عدم دخالة الملكيّه الاعتبارية فى حقيقة البيع بعد كونه تمليك عين بعوض لغةً وعرفاً، ولو سلّمنا ذلك فقد دلّت الروايات على اعتبارها:

فمنها: رواية سلمان بن داود المنقرى، عن جعفر بن غياث، عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: قال له رجل: أرأيت إذا رأيت شيئاً فى يدى رجل، أيجوز لى أن أشهد أنّه له ؟ فقال: «نعم».

قلت: فلعلّه لغيره ؟ قال: «ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد [ذلك] الملك: هو لى وتحلف عليه، ولا يجوز لك أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله ؟! ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق»(1).

والذى رواه فى الفقيه عن سلمان بن داود المنقرى فقد رواه عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن القاسم بن محمّد الأصبهانى، عن سليمان بن داود المنقرى المعروف ب «ابن الشاذكونى» على ما صرّح به فى المشيخة. والرواية ضعيفة بسبب جهالة جعفر بن غياث، و إن قلنا باتّحاد القاسم بن محمّد الأصبهانى مع القاسم بن محمّد الجوهرى كما فى رجال الأردبيلى. و كيف كان، فقوله عليه السلام: «و من أين جاز لك أن تشتريه» يدل على توقّف جواز الشراء على كون ذى اليد مالكاً وكون الشىء ملكاً له، ولايكفى مجرّد كونه تحت يده كما لا يخفى.

و منها: صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار المروية فى الكافى: عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسن أنّه كتب إلى أبى محمّد عليه السلام: رجل كان له قطاع أرضين،

ص: 370


1- من لا يحضره الفقيه: 328، ب 18 من كتاب الأحكام.

فحضره الخروج إلى مكّة، والقرية على مراحل من منزله، و لم يؤت بحدود ارضه (و لم يكن له من المقام ما يأتى بحدود أرضه خ الفقيه) وعرف حدود القرية الأربعة، فقال للشهود: اشهدوا أنّى قد بعت من فلان (يعنى المشترى خ الفقيه (جميع القرية التى حدّ منهاكذا و الثانى و الثالث و الرابع، و إنّما له فى هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشترى ذلك و إنّما له بعض هذه القرية (و إنّما له نصف هذه القرية خ الفقيه)، و قد أقرّ له بكلّها؟ فوقّع عليه السلام: «لا يجوز بيع ما ليس يملك، و قد وجب الشراء على البائع على ما يملك»(1).

ورواها فى الفقيه عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه، عن محمّد بن الحسن الصفار أنّه كتب إليه فى رجل... إلخ، إلّا أنّ فيه: «فوقّع عليه السلام: لا يجوز بيع ما ليس يملك [بالباء]»(2).

ورواها فى التهذيب أيضاً بسند صحيح عن محمّد بن الحسن الصفار قال:...

وكتبت إليه: رجل... إلخ، إلّا أنّ الجملة الأخيرة فيه جاءت مطابقة لما رواه فى الفقيه فى قوله: «فوقع عليه السلام: لا يجوز بيع ما ليس بملك [بالباء]»(3).

والظاهر أنّ نسخة الفقيه و التهذيب أرجح من نسخة الكافى؛ إذ دخول الباء شائع فى خبر «ليس» ولكن دخول «ليس» على الفعل ليس بشائع.

ولا يخفى عليك أنّ الرواية تدل على اشتراط صحّة البيع و الشراء بالملك، فإنّ السائل بقوله: «و إنّما له بعض هذه القرية» ذكر أنّ البائع مالك لبعض القرية و أنّه باع جميع القرية مع أنّه ليس له إلّا بعضها، فأجاب الإمام عليه السلام بأنّ البيع صحيح فيما ملكه،

ص: 371


1- الكافى 402:7.
2- الفقيه: 375، ب 15 من كتاب البيع.
3- تهذيب الأحكام 276:6، ح 758.

لا فيما ليس يملك او لا يملكه، ومن الظاهر أنّ المستفاد منه هو اشتراط صحّة البيع بمالكيّة البائع ومملوكية المبيع، لا صرف كون العين تحت اختياره. هذا مضافاً إلى أنّ النسخة لو كانت «لا يجوز بيع ما ليس بملك بالباء» فالأمر أوضح؛ فإنه يفيد اشتراط الجواز بالملك، كما فى النبوى الشريف: «لا بيع إلّا فى ملك».

و منها: موثّقة إسحاق بن عمّار المروية عن التهذيب، عن الحسن بن محمّد ابن سماعة، عن علىّ بن رئاب وعبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح عليه السلام قال: سألته عن رجل فى يده دار ليست له، ولم تزل فى يده و يد آبائه من قبله، قد أعلمه من مضى من آبائه انّها ليست لهم، ولايدرون لمن هى، فيبيعها و يأخذ ثمنها؟ قال: «ما اُحبّ أن يبيع ما ليس له».

قلت: فإنه ليس يعرف صاحبها، ولايدرى لمن هى، ولا أظنّه يجىء لها ربّ أبداً. قال: «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له». قلت: فيبيع سكناها أو مكانها فى يده؛ فيقول لصاحبه: أبيعك سكناى وتكون فى يدك كما هى فى يدى ؟ قال: «نعم، يبيعها على هذا»(1).

إذ الظاهر هو اشتراط مملوكيّة المبيع للبائع فى صحّة البيع، لاكون المبيع تحت يده؛ و إلّا فهى تحت أيديهم و يجوز لهم التصرّف فيها، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى ظهور قوله عليه السلام: «ما اُحبّ أن يبيع ما ليس له» فى اشتراط الملكيّة و تعلّق الشىء بالمالك، لاكونه تحت يده واختياره.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم المروية عن التهذيب، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، وصفوان عن العلاء، جميعاً عن محمّد بن مسلم، عن أبى جعفر عليه السلام، قال: سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لى متاعاً لعلّى أشتريه منك

ص: 372


1- جامع الأحاديث 431:17.

بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله. قال: «ليس به بأس، إنّما يشتريه منه بعدما يملكه»(1). والمراد بالعلاء هو العلاء بن رزين؛ بقرينة الراوى و المروى عنه.

والستفاد من الرواية: هو اشتراط مملوكية المبيع ومالكية البائع فى صحّة البيع والشراء؛ لأنّ الظاهر من قوله: «بعدما يملكه» أنّ الاشتراء يتعلّق بالشىء بعد دخوله فى أملاكه و أمواله وصيرورته مالكاً له. وحمله على أنّ المراد أنّه بعد دخوله تحت اختياره خلاف الظاهر جداً.

ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العينة، فقلت: يأتينى الرجل فيقول: اِشتر المتاع واربخ فيه كذا وكذا، اُراوضه على الشىء من الربح فتراضى به، ثم أنطلق فأشترى المتاع من أجله لولا مكانه لم اُرده، ثم آتيه به فأبيعه.

قال: «ما أرى بهذا بأساً، لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك، و هذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعدما تأتيه و إن شاء رده، فلست أرى به بأساً»(2).

لظهوره فى اشتراط صحة البيع بدخول الشىء فى ملك البائع، فما دام لم يدخل الشىء فى حبالة أمواله ولم يصر البائع مالكاً إياه لا يجوز البيع، فقبل البيع حيث كان من أموال البائع فلا مانع من البيع؛ لتأخّره عنكونه من أمواله.

ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن أبى عبدالله عليه السلام فى رجل أمر رجلاً يشترى له متاعاً، فيشتريه منه. قال: «لا بأس بذلك؛ إنّما البيع بعدما يشتريه»(3).

فإنّ الظاهر منه أنّ البيع متأخّر عن الاشتراء، و هو تملّك المبيع بعوض.

ص: 373


1- المصدر السابق: 480.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: 481.

ومقتضى الحصر هو عدم جواز البيع فيما لم يتملّك شيئاً.

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على اشتراط صحّة البيع بمملوكية المبيع ومالكية البائع.

وحمل الأخبار المذكورة على أنّ المراد هو اشتراط صحّة البيع بكون المبيع تحت اختياره لا بكونه من أمواله وتحت حبالة ملكيّته، كما ترى بعد ما عرفت من الشواهد الدالّة على تعليق صحّة الاشتراط بمملوكية المبيع ومالكية البائع.

و الاستشهاد بروايات العامّة مع ضعفها و منافاتها مع ما ورد فى روايات الخاصّة - على أنّ المراد هو كونه تحت الاختيار، بعيد جدّاً.

و خامساً: النبوى الشريف: «لا بيع إلّا فى ملك» مشهور و معمول به كسائر النبويات المروية عن طرق العامّة، فلا حاجة إلى السند، اللهم إلّا أن يقال: استناد الأصحاب إليه غير محرز.

و سادسا: إنّ العمدة فى المنع هو الأخبار الدالّة على ممنوعية بيع الأعيان النجسة و الأجزاء المبانة، ومع الغمض عنها فمع كون الأجزاء المبانة ممّا لها فائده عقلائية يحكم العقلاء بكونها من الأموال لصاحبها، والمالية الاعتبارية تكفى فى صحّة البيع و إن لم يعتبروها قبل الإبانة بالفعل، فلا حاجة فى تصحيح البيع إلى إثبات كفاية كونها تحت اليد، والأخبار الدالّة على اعتبار مملوكيّة الشىء قبل البيع لا تدل على أزيد من كونه مالاً للبائع، و هو متحقّق فى الأجزاء المبانة.

و سابعاً: إنّ القول باشتراط الملكية الاعتبارية فى المبيع لا يلزم منه القول ببطلان بيع ولى الأمر لما أخذه زكاةً و خمساً، بعد إمكان القول بتملّك عنوان الفقراء للزكاة و عنوان السادة للخمس، وهكذا فإنّ الجهات العامّة التى عبّر عنها بالمصرف فى الزكاة أو الخمس تصلح للمالكيّة، ومع إمكان المالكيّة بالنسبة إلى الجهات العامّة لا ملازمة بين اشتراط الملكية الاعتبارية و القول ببطلان بيع ولى الأمر؛ إذ للولى ولاية

ص: 374

على الجهات العامّة، فله بيعها بعد تحقّق شرط صحّته من المملوكية و الملكية الاعتبارية.

وبالجملة، فبعد دلالة النصوص على عدم جواز بيع الأعيان النجسة و الأجزاء المبانة لا يصحّ بيع الأجزاء المبانة.

و أمّا قبل إبانة الأجزاء، فإنّها و إن كانت طاهرة ولكن لا يصحّ بيعها؛ لأنّ شرط صحّة البيع هو الملكية الاعتبارية، و هى مفقودة؛ إذ لا اعتبار للمملوكية فى أجزاء الحرّ.

فتحصّل: أنّه لا يجوز أخذ شىء فى قبال الأجزاء البانة مطلقأ، سواءكانت من الحئ أو الميّت، أوصى الميّت به أو لم يوص؛ لأنّ الوصية فى أمر غير مشروع غير نافذة. و أمّا بذل شىء لباذل العضو فيما جاز له ذلك بعنوان التكريم و الهبة من دون قصد المعاوضة فلا مانع منه. كما لا إشكال فيما إذا أعطى أحد لغيره شيئاً بداعى أن يأذن له فى الاستفادة من بعض أعضائه فيما إذا جاز له ذلك ولو بالوصية، ولا يجوز إعطاء شىء لأولياء الميّت بداعى أن يأذنوا فى ذلك، لعدم ولايتهم على ذلك. نعم لا بأس بإعطاء شىء يرفع يدهم عنه فيما إذا جاز التصرّف فى الميّت بجهة من الجهات.

الرابع عشر: فى صورة عدم اطمئنان الطبيب بنجاح عملية الترقيع فى بدن الريض، أو عدم اطمئنانه بسلامة بدنه من الضاعفات الحاصلة بعد ذلك كما فى ترقيع الكبد ونحوه ففى مثل هذه الصورة هل يجوز الترقيع أو لا؟ ولاكلام فى جواز أخذ العضو من الميّت فيما إذا أوصى الميّت ببذل عضوه ولو لمثل هذه الموارد، بناءً على جواز الوصية ببذل العضو ونفوذها، و إنّما الكلام فى التصرّف فى أبدان المرضى عند عدم الاطمئنان بنجاح عملية الترقيع فيها وسلامة البدن، فإن كان ذلك مع كونه اختباراً معالجه بالفعل للمريض أمكن القول بالجواز فيما إذا كانت المعالجة راجحة عند العقلاء، كما عليه بناء العقلاء. فلا وجه لما فى جامع

ص: 375

المدارك من التمثيل لعدم رجحان المعالجة عند العقلاء بما لو كان المظنون الضرر أو الموت بسبب المعالجة؛ مستشهداً بأنّ الأطباء المحتاطين لا يقدمون عليها(1).

وذلك لأنّ بناء العقلاء على المعالجة ولو مع احتمال ضعيف كافٍ فى الجواز، ولا يضرّه اجتناب جمع من المحتاطين من الأطباء.

و يؤيد ما ذكر خبر إسماعيل بن الحسن المتطبب قال: قلت لأبى عبد الله عليه السلام:

إنّى رجل من العرب، ولى بالطبّ بصر، وطى طبّ عربى، ولست آخذ عليه صفداً [عطاء].

قال: «لا بأس». قلت له: إنا نبطّ الجرح [أى نشقّه] ونكوى بالنار. قال:

«لا بأس».

قلت: ونسفى هذه السموم الاسمحيقون و الغاريقون.

قال: «لا بأس».

قلت: إنه ربّما مات ؟ قال: «و إن مات»(2).

نعم، إن كان ذلك لمجرّد الاختبار والارتقاء العلمى؛ فإن أوجب ضرراً على الغير فلا يجوز و إن لم يكن مهلكاً، و إلّا فمع إذن المريض وعدم الضرر و الهلاك لا وجه للمنع، كما لا يخفى.

الخامس عشر: ربّما يعرض عند الترقيع ما يؤدّى إلى فساد العضو، هل يكون الطبيب ضامناً لذلك أو لا؟ يمكن أن يقال: إنّ الطبيب بالنسبة إلى العضو المذكور ليس بضامن لو لم يفرّط

ص: 376


1- انظر: جامع المدارك 172:5.
2- روضة الكافى: 193.

ولم يتعدّ؛ لأنّه أمانة عنده، و الأمين لا يضمن إلّا بالتفريط و التعدّى و الخيانة والتقصير، والعوارض و الطوارئ لا دخل للطبيب فيها. نعم، لو فرّط أو تعدّى فهو ضامن. هذا كلّه بالنسبة إلى فساد العضو المرقّع به.

و أمّا بالنسبة إلى ضمان الطبيب حيال نفس المريض؛ فإن كان قد أخذ البراءة من المريض أو وليّه ولم يقصّر فى عمله فلا ضمان، كما تدلّ عليه معتبرة السكونى عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، و إلّا فهو له ضامن»(1)؛ حيث تدل الرواية - بحسب ظاهرها على أنّ البراءة موجبة لعدم الضمان، لا أنّ الضمان المحقّق من جهة الجناية يرتفع بالبراءة كما قيل؛ إذ مع تحقق الجناية بدون البراءة يكون تعلّق الضمان واضحاً، ولا يحتاج إلى الحكم بالضمان، فلا يكون لقوله عليه السلام: «و إلّا فهو له ضامن» - الظاهر فى حدوث الضمان وجه بل اللازم أن يقال: إنّ مع عدم أخذ البراءة لا رافع للضمان، فتدبّر جيّداً.

و أمّا إذا لم يأخذ البراءة و إن لم يقصّر، بل و إن أذن المريض أو وليّه، فهو ضامن؛ لإطلاق دليل الضمان، و اختصاص رفعه بصورة البراءة فى المعتبر المذكورة.

هذا مضافاً إلى ما جاء فى معتبرة السكونى من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ضمّن ختّاناً قطَع حشفة غلام(2)، بناء على حملها على ما إذا لم يأخذ البراءه و إن كان مأذوناً فيه بحسب الغالب.

ثمّ إنّ المراد من الولى هو الذى له تصدّى اُمور المريض؛ و هو فى الإنسان ولى شرعى من الأب و الولد وغيرهما من الطبقات إن كانوا، والحاكم الشرعى مع عدمهم، و عدول المؤمنين مع عدمه. ولعل الحاكم الإسلامى اذن للاطباء مع البرائة

ص: 377


1- الوسائل 195:19، ب 24 من موجبات الضمان، ح 1.
2- المصدر السابق.

اذناً عاما فى موارد فقدان الاولياء.

السادس عشر: إذا اختطف شخص إنساناً فشق بطنه وأخذ بعض أعضائه؛ فإن أوجب ذلك هلاك المختطَف جرى فيه القصاص، و إن لم يوجب ذلك هلاكه فلا إشكال فى حرمة الاختطاف، واستحقاق التعزير به إن لم يكن ذلك حرفته، و إلّا فربّما يقال: إنه مفسد فتترتب عليه أحكام المفسد. بل لعل الاختطاف المذكور سرقة للحرّ أو الحرّة، فيشمله خبر الثورى قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السلام عن رجل سرق حرّة فباعها. فقال: «فيها أربعة حدود، أمّا أوّلها: فسارق تقطع يده...»، وموثقة السكونى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اُتى برجل قد باع حرّاً فقطع يده(1). اللهم إلّا أن يقال:

بيع الحرّة و الحرّ له دخل فى الحكم بجريان أحكام السرقة، فتأمل.

وكيف كان، فشق البطن جناية الجائفة، وهى موجبة لاستحقاق ثلث الدية إن لم نقل باختصاصها بالرأس و الوجه وشمولها للبدن أيضاً كما هو المعروف، و أمّا إن قلنا باختصاصها بالرأس و الوجه فيجرى حكم القصاص، إلّا إذا رضى المجنى عليه بالدية.

و أمّا أخذ العضو؛ فإن كان ممّا فى الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية، و إن كان ممّا فى الجسد منه واحد فدية كاملة؛ لقول الإمام الصادق عليه السلام فى صحيحة عبدالله بن سنان: «ما كان فى الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية؛ مثل اليدين و العينين...»(2)وغيره، بناءً على كونه غير مختصّ بالأجزاء الظاهرية وإنما يعمّ و يشمل الأجزاء الباطنية، وكون ذكر اليدين و العينين ونحوهما من باب المثال، كما هو الظاهر.

و أمّا بناء على اختصاص الرواية بالأجزاء الظاهرية وعدم تقدير الدية فى

ص: 378


1- جامع الأحاديث 561:25.
2- الوسائل 213:19، ب 1 من ديات الأعضاء، ح 1.

العضو المأخوذ من الباطن ففيه الأرش و الحكومة، و هو أن يقوّم صحيحاً إن كان مملوكاً، و يقوّم مع الجناية وينسب إلى القيمة و يؤخذ من الدية بحسابه.

هذا مع قطع النظر عن مالية المأخوذ بعد الإبانة كالكلى ونحوها، و إلّا أمكن القول بضمان قيمتها مضافاً إلى الدية؛ فإنها بعد الأخذ مال، والواجب هو ردّه إلى صاحبه، فمع الإتلاف ولو بترقيعه فى بدن آخر فهو له ضامن بالإتلاف، وضمان الدية من جهة القطع، ومن المعلوم أنّ تعدّد الأسباب يقتضى تعدّد الضمان.

و إن رقّعه الآخذ فى بدنه، فهل يمكن القول بجواز أخذ عين العضو لبقائه، أو لا؛ لصدق الإتلاف بصيرورته جزءاً؟ وجهان. وبقية الكلام فىِ محلّه.

السابع عشر: إذا قلنا بجواز الوصية بإعطاء الأعضاء فلا دية على الآخذ؛ لإقدام الميّت على ذلك، ومع الوصية و الإذن لا يكون ذلك منافياً لحرمة الميّت.

و أمّا إذا لم يوص أو لم نقل بجواز الوصية، فهل يوجب أخذ عضو من الميّت لغرض الترقيع ديةَ العضو أم لا؟ ربّما يقال: الظاهر هو وجوب الدية؛ وذلك لتعليل ثبوت الدية بقطع رأس الميّت بحرمة الميّت فى حال مماته بمثل حرمته فى حال حياته؛ فكما أنّ الجناية عليه فى حال حياته توجب الدية فكذلك فى حال كونه ميّتاً.

و تشهد له صحيحة عبدالله بن سنان فى رجل قطع رأس الميّت، قال عليه السلام:

«عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته و هو حى»(1)؛ لتعليل الدية بالضابطة المذكورة.

و هذه العلّة المنصوصة كما تقتضى عموم حكم وجوب الدية فى شتّى أفراد الجنايات و أقسامها فهكذا تقتضى ثبوت حكم الدية، سواء كان ذلك بداعى التمثيل

ص: 379


1- المصدر السابق: 248، ب 4 من ديات الأعضاء، ح 4.

والتنكيل أو بداعى إرادة الانتفاع بعضوه فى الترقيع؛ إذ كلتا الحالتين مشتركتان فى أنّ الحرمة المجعولة للميّت تمنع عن جواز إقدام الغير على قطع عضو منه، وفى أنّها تقتضى ثبوت الدية على القاطع لمّا أقدم على هتك حرمته وقطع عضوه بلا إذن منه، ولا ما يقوم مقامه(1).

ومن المعلوم أنّ مجرّد جواز ذلك عند تزاحم الأهمّ لا يدفع العلّة لتشريع الدية، بل أخذ العضو عند التزاحم ينافى حرمة الميت المسلم و إن كان الأخذ جائزاً؛ كما إذا وضع الساقط من فوق رجله على رأس مؤمن؛ فإنه مع جوازه - لدفع الهلاك ونحوه ينافى احترام المؤمن. هذا مضافاً إلى ما قيل من أنّ التعليل غير ثابت بل لعلّه حكمة الحكم، و مقتضى إطلاق جعل الدية كافٍ فى إثبات الدية، فتأمّل.

نعم، إذا توقّف حفظ حياة مؤمن على أخذ عضو من ميّت مسلم أمكن التمسّك بالأخبار الواردة فى جواز تقطيع الولد وإخراجه من بطن اُمّه حفظاً لحياة اُمّه، أو شقّ بطن اُمّه حفظاً لحياة ولدها؛ بدعوى أنّ مقتضى إطلاقها هو عدم وجوب الدية. اللهمّ إلّا أن يقال باختصاصها بموردها من صيرورة الميت سبباً مقتضياً لموت الحئ.

لا يقال: إنّ جواز أخذ العضو شرعاً يستلزم عدم الدية.

لأنّا نقول: لا ملازمة بين رفع الحكم التكليفى ورفع الحكم الوضعى، ألا ترى أنّه يجوز عند الاضطرار أكل مال الغير ومع ذلك لا يرفع ضمانه ؟! فكل مورد يجوز فيه أخذ العضو من باب التزاحم وتقديم جانب الأهمّ ، ولم يرد فيه نصّ خاصّ ، لا وجه لرفع حكم الدية، وبقية الكلام فى محلّه.

الثامن عشر: هل يجوز ترقيع موضع القصاص بنفس العضو الذى قطع منه أو بغيره، أم لا يجوز؟

ص: 380


1- كلمات سديدة: 183.

ربّما يقال: إنّ المستفاد من الآيات و الأخبارتساوى الجناية و القصاص، بل ما دل على التساوى لعلّه آب عن التخصيص(1)، وعليه فالقصاص بمثل الجناية الواردة يكفى فى تحقق التساوى، ومعه لا مانع من ترقيع موضع القصاص بنفس العضو الذى قطع منه أو بغير العضو المذكور.

وإليه مال سيّدنا الإمام المجاهد قدس سره حيث قال: «لو قطع اُذنه فألصقها المجنى عليه والتصقت فالظاهر عدم سقوط القصاص. ولو اقتص من الجانى فألصق الجانى اُذنه والتصقت ففى رواية: قطعت ثانية لبقاء الشين، و قيل: يأمر الحاكم بالإبانة لحمله الميتة و النجس. وفى الرواية ضعف. ولو صارت بالإلصاق حيّة كسائر الأعضاء لم تكن ميتة و تصحّ الصلاة معها، وليس للحاكم ولا لغيره إبانتها، بل لو أبانه شخص فعليه القصاص لوكان عن عمد وعلم، و إلّا فالدية»(2).

و اُورد عليه أوّلاً: بأنّ المماثلة فى قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ تقتضى أن يجعل الجانى بلا اُذن مثلاً كما أنّ المجنى عليه يكون كذلك.

و فيه: أنّ المماثلة فى الاعتداء تعنى أنّ الجناية الواردة على شخص تقتضى إيراد مثلها على الجانى، و هو الذى عبّر عنه بالقصاص، و هذه المماثلة هى التى دلّت عليها الآية الكريمة ولا تدلّ على أكثر من ذلك، ولا تأمر بالمماثلة بين الجانى و المجنى عليه بعد القصاص.

ولعل هذا هو مراد السيّد المحقّق الخوانسارى قدس سره من قوله: إنّ المستفاد من الآيات و الأخبار تساوى الجناية و القصاص.

ص: 381


1- جامع المدارك 275:7.
2- تحرير الوسيلة: كتاب القصاص، باب قصاص ما دون النفس، مسألة 19.

و ثانيا: بأنّ ذلك و إن كان كذلك بحسب القاعدة الأوّلية، ولكن اللازم هو رفع اليد عنه بما رواه الشيخ فى التهذيب بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «إنّ رجلاً قطع من بعض اُذن رجل شيئاً، فرفع ذلك إلى علىّ عليه السلام فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من اُذنه فرده على اُذنه بدمه فالتحمت و برأت، فعاد الآخر إلى علىّ عليه السلام فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانية، و أمر بها فدفنت، وقال عليه السلام: إنما يكون القصاص من أجل الشين»(1).

بدعوى أنّ مقتضاها هو عدم جواز ترقيع موضع القصاص أو موضع الجناية ليبقى الشين، كما يشهد له عموم قوله عليه السلام: «إنما يكون القصاص من أجل الشين»، و هذا البقاء لا يتحقّق إلّا إذا منع عن الترقيع به وعن إعادته بعد الاستئصال.

وفيه: أنّ الرواية ضعيفة، ولعلّه من جهة عدم التوثيق الخاصّ للحسن بن موسى الخشّاب. ولكن الضعف ممنوع بعدما صرّح فى رجال النجاشى وغيره بانه من وجوه أصحابنا، مشهور، كثير العلم(2).

هذا مضافاً إلى ما عن البهبهانى فى التعليقة من أنّه روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى ولم يستثنه ابن الوليد.

على أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى روى عنه، مع أنّه بعّد البرقى عن قم لمكان نقله عن الضعفاء.

نعم، يرد على الرواية كما أشار فى جامع المدارك: أنّ لازم التعليل المستفاد من الخبر هو جواز جرح المجنى عليه للجانى ثانياً بل ثالثاً و أزيد مع الاندمال فى بدن

ص: 382


1- الوسائل 140:19، ب 23 من قصاص الطرف، ح 1.
2- رجال النجاشى: 42.

الجانى وعدم الاندمال فى بدن المجنى عليه لبقاء الشين، وهكذا عكس ذلك؛ فيجوز جرح الجانى لبدن المجنى عليه ثانياً بل ثالثاً و أزيد مع الاندمال فى بدن المجنى عليه وعدم الاندمال فى بدن الجانى لبقاء الشين. ولا أظنّ الالتزام به فى غير موردها؛ فلا يؤخذ بعموم التعليل؛ وذلك لأنّ غايته هو الحكم به فى مورد الرواية من منع المجنى عليه من إعادة اُذنه فيما إذا لم يتمكّن الجانى منها بناءً على ظهورقوله: «فأخذ الآخر ما قطع...» فى المجنى عليه، أو منع الجانى من ذلك بناءً على أنّ المراد من قوله:

«فأخذ الآخر ما قطع...» هو الجانى. وكيف كان فلا يتعدّى عن مورد الرواية إلى سائر الموارد.

هذا مضافاً إلى أنّ الرواية بناء على تسليم الأخذ بعموم التعليل لاتشمل ما إذا تمكّن كلّ واحد من المجنى عليه و الجانى من الترقيع، فيجوز لكلّ واحد منهما ترقيع اُذنه.

و ربّما يفصّل فى ذلك كما فى كلمات سديدة فتارة: تكون الجناية علّة تامّة لصيرورة المجنى عليه بلا هذا العضو إلى الأبد؛ كأن قطع اُذنه مثلاً و ألقاها إلى كلب أو هرّة فأكلها، أو أحرقها بالنار، أو دقّها وسحقها، أو قطعها فى برّ لا يمكن فيه عملية الترقيع. و لعلّه يلحق به ما إذا كانت عملية الترقيع أمراً مغفولاً عنه عند عامّة الناس الذين منهم المجنة عليه.

و اُخرى: لا تكون الجناية علّة تامّة؛ كأن أقدم على قطع اُذنه فى مستشفى، وذكر له أنّ طبيب عملية الترقيع موجود و هو نفسه يتحمّل مؤونته.

ففى الصورة الاُولى: للمجنى عليه بموجب أدلة القصاص أن يفعل ذلك بالجانى حتى تتحقّق المماثلة. فتجويز أن يرقع الجانى بذاك العضو القطوع عن بدن نفسه خلاف أدلّة القصاص، وبه يلحق مورد الغفلة العامّة.

و أمّا إذا كانت الصورة الثانية، فالحقيقة هى أنّ الجناية لم توجب إِلّا مجرّد قطع

ص: 383

عضو المجنى عليه، وإلا فصيرورته بلا ذاك العضو إلى الأبد كانت من آثار مسامحة نفسه لا من أعمال الجانى، فلا تقتضى أدلّة القصاص أن يمنع الجانى عن عملية الترقيع استناداً إلى حصول المماثلة فى الاعتداء و القصاص؛ فإنّ الاعتداء لم يوجب إلّا حدوث القطع، و أمّا بقاؤه فهو لا يستند إلى المعتدى بل إلى مسامحة المعتدى عليه، فلو أراد المجنى عليه قطعه ثانية لكان هواعتداء أزيد ممّا اعتدى عليه، وهكذا لو أراد أن يمنعه من الترقيع به إلى أن قال -: فتحصّل أنّ الحقّ هو التفصيل بين الموارد، و أنّ للمجنى عليه المنع من الترقيع أوّلاً ومطالبة قطعه بعد الترقيع ثانياً، إلّا أن تكون أسباب الترقيع معدّة له بلا أى مانع ولم يقدم عليه مسامحة، وحينئذ فلا حق له على الجانى بعد الاختصاص الأوّل أصلاً(1).

وأنت خبير بأنّ المماثلة فى الاعتداء ليست إلّا بإيراد مثل الجناية، كما نصّ عليه فى آية كيفيّة القصاص أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ ... (2).

و أمّا سائر الاُمور؛ فإن كانت راجعة إلى إيراد نقص فى البدن كإذهاب استعداده لتقبّل العضو فللمجنى عليه ذلك؛ لعموم جواز الاعتداء بالمثل، و إن لم تكن راجعة إلى ذلك كان ألقى المقطوع إلى حيوان فأكله، أو أحرقه بالنار، أو منع من إلصاق العضو، وغير ذلك من المحرّمات فإنه بعد وجوب دفن الأعضاء المبانة يكون الإلقاء والإحراق وكذلك منع الغير عن الإلصاق من المحرّمات، فلا تشملها آية المماثلة فى الاعتداء؛ إذ الجنايات و الجراحات قابلة للقصاص وليس المحرّمات، بل هى توجب العقوبة و المؤاخذة و التعزير و الضمان على حسب مواردها.

ص: 384


1- اُنظر: كلمات سديده: 186-188.
2- المائدة: 45.

ألا ترى أنّه إذا قطع شخص يد غيره ولاط به اقتصّ منه بقطع يده، ويجرى عليه حكم اللواط، ولا يفعل به اللواط؟! لتحقّق المماثلة مع ما فعله.

هذا مضافاً إلى انه فى حالة غفلة المجنى عليه عن عملية الترقيع لا سببية للجانى حتى يلحق بصورة ممانعته من الإلصاق.

وعليه، فلا وجه للتفصيل المذكور، مع أنّ الممانعة فعل محرّم لا يرتبط بالجناية الواردة على المجنى عليه.

فتحصّل: أنّه يجوز ترقيع العضو المقتصّ منه، كما يجوز للمجنى عليه الترقيع، إلّا أن يؤخذ بالرواية فى خصوص موردها، كما ادعى عليه الإجماع فى الرياض.

ومقتضى الأولوية هو جواز منع الجانى أيضاً من الترقيع مع عدم تمكّن المجنى عليه منه. نعم لو تمكّنا من ذلك لجازلكل واحد منهما الترقيع.

لا يقال: إنّ الترقيع للحانى ممكن فى مورد الرواية.

لأنّا نقول: الظاهر منه هو عدم تمكّن الجانى منه، ولعل وجهه هو أنّ عضوه المقطوع بأمر مولانا أمير المؤمنين عليه السلام صار مدفوناً. وكيف كان فيقتصر فى العمل بالرواية حينئذ على مورد قطع شىء من الاُذن فى المجنى عليه أو الجانى، و أمّا التعدّى منه إلى سائر الموارد فمحل إشكال ونظر، و لا أقلّ من الشكّ ، فمقتضى أصالة عدم جواز التعرّض للغير هو عدم جواز الممانعة، فتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما يقال: إنّ العضو المقطوع ميتة، وعليه لا تصحّ الصلاة فيها، فعلى الحاكم الشرعى أن يمنعه من الإلصاق.

لكن فيه أوّلاً: منع صدق الميتة بعد الترقيع وحلول الحياة فى العضو وصيرورته كسائر الأعضاء.

ثانيا: أنّ حمل الميتة فى مقام المعالجة جائز؛ لأنّ الضرورات تبيح المحذورات.

التاسع عشر: هل يجوز للمحدود ترقيع عضوه المقطوع بالحدّ، أم لا؟

ص: 385

فيه وجهان:

وجه الجواز: أنّ مقتضى القاعدة هو الاقتصار على المتيقّن بعد عموم حرمة التعرّض للغير، و المتيقّن هو مجرّد قطع العضو، والزائد عليه الذى هو المنع من الترقيع محرّم؛ لعموم دليل حرمة التعرّض للغير، ولا أقلّ من الشكّ ؛ فمقتضى استصحاب حرمة التعرّض له الثابتة قبل السرقة هو عدم جواز المنع من الترقيع.

ووجه المنع: هو قوله تعالى: اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اَللّٰهِ (1)، بدعوى أنّ المستفاد منه عرفاًبتناسب الحكم و الموضوع أنّ المأمور به هو الحصول على أثر القطع أعنى الانفصال، فكأنّ القطع بمنزلة المقدّمة للتوصّل إلى هذا الأثر؛ حتى يكون الأثر الباقى جزاءً ونكالاً.

كما لو أوقف عبده مثلاً على باب الدار ليمنع من دخول كلب فى داره، فإذا هجم كلب ودخل داره لغفلة العبد أو عجزه عن منعه فلا يصغى إلى دعوى أنّ المكلّف به هو ألّا يدخل الكلب، و قد دخل بالفرض، فليس على العبد الإقدام على إخراجه من الدار بعد أن دخل؛ وذلك لأنّ المفهوم من هذا التكليف فى العرف وعند العقلاء أنّ المكلّف به إنّما هو أن لا يكون كلب فى داره، والمنع من الدخول إنّما هو بمنزلة مقدّمة له، فإذا دخلها فعلى العبد التوصّل بأى وسيلة ممكنة إلى إخراجه منها.

ففيما نحن فيه أنّ الحد المأمور به هو أن يكون السارق مقطوع اليد وبلا يد، و القطع طريق إليه قد أمر الله تعالى به؛ و إلّا فالغاية منه هو الواجب، و هو المناسب لأن يكون نكالاً يتّعظ به غيره(2).

وفيه: أنّ الغاية من القطع المدلول عليها فى الآية المباركة هى الجزاء و النكال،

ص: 386


1- المائدة: 38.
2- كلمات سديدة: 190-191.

وهما حاصلان بمجرّد القطع، ولا دليل على أنّ المأمور به هو بقاء اثر القطع. ودعوى أنّ العرف يفهم ذلك لا شاهد لها، وقياس المقام بالثال المذكور مع الفارق؛ فإنّ المعلوم فى المثال هو عدم وجود الكلب فى الدار، بخلاف المقام فإنّ بقاء الأثر غير معلوم المطلوبية.

و ربّما يستدلّ لذلك بروايات:

منها: صحيحة محمّد بن قيس عن أبى جعفر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام فى السارق إذا سرق: قُطعت يمينه، و إذا سرق مرّة أخرى: قُطعت رجله اليسرى، ثم إذا سرق مرّة اُخرى سجَنه، وتركت رجله اليمنى يمشى عليها إلى الغاظ، و يده اليسرى يأكل بها و يستنجى بها، فقال: إنى لأستحيى من الله أن أتركه لا ينتفع بشىء، ولكنى أسجنه حتى يموت فى السجن...»(1).

بدعوى انّها ظاهرة الدلالة فى أنّ إجراء حدّ السرقة يؤدّى إلى ألّا يكون للسارق يد يمنى فى المرّة الاُولى، و ألّا يكون له رجل يسرى فى المرّة الثانية، و أنّه يترك له يده اليسرى لأن تكون هى التى يأكل بها، و رجله اليمنى لأن تكون هى التى يمشى عليها، ولذلك كان هو عليه السلام يستحيى من الله بعد ذلك أن يقطع له يداً أو رجلاً فيؤدى إلى ألّا ينتفع بشىء.

و بعباره اُخرى: قوله عليه السلام: «تركت رجله اليمنى يمشى عليها إلى الغاظ، و يده اليسرى يأكل بها و يستنجى بها» واضحة الدلالة على أنّ قطع الرجل يوجب أن يفوّت عليه المشى عليها، وقطع اليد يوجب فوت الأكل بها و الاستنجاء بها، وعلى أنّ إجراء حدّ القطع يوجب فيه هيئة أنّه لايكون له يد أو رجل(2).

ص: 387


1- الوسائل 492:18، ب 5 من حدّ السرقة، ح 1.
2- كلمات سديده: 191-192.

وفيه: أنّ الرواية ناظرة إلى حدّ السرقة بالحكم الأوّلى، ولا نظر لها إلى صورة ترميم بعض الأعضاء بالترقيع، خصوصاً مع عدم تعارفها، فلا إطلاق لها. وبالجملة:

حدّ السرقة يوجب كيفيّة مذكورة بالطبع الأوّلى، ولا ينافى جواز تغيّر وضع المحدود بالترقيع و إن كثرت الروايات الواردة فى ترتيب حدّ السارق و السارقة من قطع اليد أوّلاً، ثم قطع الرجل ثانياً، ثم الحبس الأبدى ثالثاً(1)، فتأمّل.

و منها: خبر محمّد بن سنان المروى فى العيون بأسانيده عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه من العلل: «و علّة قطع اليمين من السارق: لأنّه يباشر الأشياء غالباً بيمينه، وهى أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نكالاً وعبرة للخلق لئلّا يبتغوا أخذ الأموال من غير حلّها»(2).

بدعوى أنّ قوله عليه السلام: «وهى أفضل أعضائه و أنفعها له» ظاهر فى أنّ الإقدام على قطعها إنما هو لحرمانه من النفع العائد له من هذا العضو الأفضل. كما أنّ قوله:

«فجعل قطعها نكالاً وعبرة للخلق» إنّما يتأتّى إذا بقى عليها أثر القطع؛ و إلّا لما كان عبرة للخلق بل لخصوص من شهد مجلس القطع أو نقل له وحكى، لالجميع الخلق المعاشرين له.

وفيه أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة بمحمّد بن سنان، فتأمّل.

و ثانياً: أنّ المذكور فيها حكمة الحكم لا علّته، ولا مانع من تخلّف الحكة فى بعض الموارد بنحو الترقيع. هذا مضافاً إلى منع كثرة التخلّف؛ فإنّ آثار القطع لا ترتفع كلّيةً حتى تنتفى العبرة رأساً.

وثالثاً: أنّ القطع ولو لم يبقَ أثره يكون أيضاً عبرة للخلق بعد رؤية جماعة من

ص: 388


1- راجع جامع الأحاديث 543:25.
2- الوسائل 481:18، ب 1 من حدّ السرقة، ح 2.

المؤمنين ذلك وإخبارهم به، ولا يلزم فى العبرة و النكال بقاء الكيفية المذكورة، كما ان الله سبحانه وتعالى جعل جماعة من بنى إسرائيل ممّن اعتدوا فى السبت قردة عبر للموجودين وغيرهم ممّن سيأتى بعدهم من دون بقائهم على المسخ. قال تعالى:

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ * فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (1) ، و أكثر القصص القرآنية بهذا الشكل؛ فإنها راجعة إلى الأقوام الماضية ومع ذلك يكون فيها عبر للباقين كما لا يخفى.

ولكن الإنصاف أنّ الرواية انطبق فيها النكال و العبر على حرمان السارق، فى الآتى، من يده اليمنى التى يباشر بها الأشياء، إلّا أنّ الحكمة كالعلّة فى التوسعة لا فى التضييق، فلا تنفى القطع الذى لا تترتّب عليه الحكمة.

ومنها: ما رواه فى العلل عن محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن العبّاس بن معروف، عن علىّ بن مهزيار، عن الحسن بن سعيد، عن عثمان بن سعيد، عن سماعة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «أتى أمير الؤمنين عليه السلام برجال قد سرقوا، فقطع أيديهم، ثم قال: إنّ الذى بان من أجسادهم قد يصل إلى النار، فإن تتوبوا تجرّوها، و إلّا تتوبوا تجرّكم»(2).

ولعلّ كلمة «قد» هنا للتوقّع، كقولهم: «قد يقدم الغائب اليوم»، أو للتحقيق؛ كقوله تعالى: قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ... شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ (3).

بدعوى أنّ ظاهر قوله: «إنّ الذى بان...» هو مفروغية البينونة للدفن، وتوقّع دخول الأعضاء فى النار قبل دخول صاحبها بحيث إذا تاب جرّها و أخرجها

ص: 389


1- البقرة: 65-66.
2- علل الشرائع: 537.
3- البقرة: 144.

من النار، و إذا لم يتب جرّته هى إليها، و هذا لا يجتمع مع جواز ترقيعها؛ إذ فى صورة الترقيع لا تتقدّم على صاحبها فى الدخول إلى النار حتى يلحق صاحبها بها أو تتبع الأعضاء صاحبها.

ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو تقدّم الأعضاء على صاحبها فى يوم القيامة فى الدخول إلى النار، فمع التوبة تعود إلى صاحبها، ومع عدمها يلحق صاحبها بها.

و يؤيّد جواز الترقيع ما روى مرفوعاً عن علىّ عليه السلام من أنّه رقّع يد المقرّ بالسرقة بعد قطعها؛ وذلك بسبب إيمانه بالولاية(1)، فتأمّل.

ومثله مرسلة سعدان بن مسلم عن علىّ عليه السلام أنّه قال بعد قطع أيدى جماعة من السرّاق: «إن تتوبوا و تصلحوا فهو خير لكم يلحقكم الله بأيديكم فى الجنّة، و إن لا تفعلوا يلحقكم الله بأيديكم فى النار»(2).

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّه ليس للمحدود الترقيع، بل اللازم هو إبقاء موضع الحدّ على ماهو عليه.

لا يقال: إنه حكم أخلاقى، فلا يدل على الحكم الشرعى.

لأنّا نقول: إنّ التوبة من الأحكام الشرعية، مضافاً إلى أنّ الكلام ليس فى الحكم الأخلاقى، بل فيما اُشير إليه من: مفروغية البينونة بين الأعضاء وصاحبها، و تقدّم الأعضاء على صاحبها فى الدخول إلى النار، وإلحاق صاحبها بها أو بالعكس فى الآخرة، فإنّ هذه المعانى من التقدّم و الإلحاق لا تتناسب مع جواز الترقيع الذى يوجب معيّتهما فى الدنيا و الآخرة، فافهم.

هذا مضافاً إلى أنّ تجويز الترقيع ربّما يوجب نقض الغرض فيما كانغرض

ص: 390


1- انظر: بحار الأنوار 281:40.
2- جامع الأحاديث 545:25.

الشارع من قتلهم هو حسم مادة الفساد، كاللائط و سابّ النبىّ و الأئمّة عليهم السلام، ولعل الحكم بالحبس الأبدى، فيمن لم يقتل بضربه ضربةً بالسيف، من هذا الباب؛ كمرسلة محمّد بن عبدالله بن مهران، عمّن ذكره، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل وقع على اُخته. قال: «يضرب ضربة بالسيف».

قلت: فإنه يخلص.

قال: «يحبس أبداً حتى يموت»(1).

وكيف كان، فلا يترك الاحتياط بترك الترقيع فى المحدودين.

العشرون: هل للسارق اختصاص بأعضائه المقطوعة، أو لا؟ فيه وجهان:

وجه العدم: هو أنّ إيجاب القطع يدل على عدم انتساب العضو المقطوع منه إليه بحيث لا تبقى رابطة بينه وبين المقطوع منه، بل يقطع فى الله وفى سبيل إجراء أحكامه.

و يشهد له عدم استئذان الحكّام الشرعيين من ذوى الأعضاء المقطوعة فيما يرتبط باُمور الدفن وغيره، مع أنّ الاستئذان لوكان لازماً لبان وشاع، وحيث لم يكن كذلك علم أنّ العضو لم يختصّ بصاحبه بعد إجراء الحدّ.

ووجه ثبوت الاختصاص كما فى كلمات سديدة: أنّه لا يفهم من إيجاب قطعه عدم الاختصاص، إلّا أنّ الشارع طلب حصول الفصل بينه وبين صاحبه حتى يحرم النفع العائد منه إليه، ويكون عبرة لغيره من خلق الله، و هو لا يلازم بوجه انتفاء ذلك الاختصاص.

و قد عرفت أنّ مقتضى القواعد ثبوته و بقاؤه، وعليه فأمر عضوه المقطوع حدّاً إليه؛ يضعه تحت اختيار من أحبّ كيف أحبّ ، وليس لأحد أن يتعرّض للتصرّف فيه

ص: 391


1- جامع الأحاديث 373:25.

بلا حصول على إذنه، كما هو مقتضى العمومات(1).

و فيه أوّلاً: أنّ سيرة الحكّام الشرعيين على عدم استئذان المحدودين فى أمر أعضائهم تشهد على نفى حق الاختصاص؛ و إلّا لنقل ذلك وبان وشاع.

لا يقال: إنّ عدم استئذانهم من جهة عدم فائدة الأعضاء المقطوعة بحيث يعلم برضاهم فى دفنها.

لأنّا نقول: الفائدة و إن كانت مفقودة فى تلك الأعصار إلّا أنّ الدواعى الاُخرى - كدفن الأعضاء فى مقبرة العائلة وغير ذلك تكفى فى الاختصاص، ومع ذلك لم ينقل استئذان الحكّام منهم. و هذا شاهد على نفى الاختصاص مطلقاً بإجراء الحدود.

و ثانياً: أنّ مقتضى موثّقة سماعة هو مفروغية الفصل بين الأعضاء و ذويها للدفن، كما هو مدلول توقع دخولها فى النار، وعليه صارت الأعضاء مسلوبة الفائدة والمالية ومحكومة بالدفن، و هذا لا يجتمع مع حقّ الاختصاص، فتأمّل.

وكيف كان، فلا يترك الاحتياط بترك الاستفادة منها، فضلاً عن المعاملة عليها.

ص: 392


1- كلمات سديدة: 193-194.

المسألة السادسة تزيين الرجل بما يحرم عليه

يحرم تزيين الرجل بما يحرم عليه كما فى الشرائع ولكن جعل فى الجواهر ما يحرم عليه لبسه كالحرير و الذهب ونحوهما ضرورة كونه كغيره من المحرمات ثم قال:

وفى المسالك ان المراد تزيينه بما يحرم عليه من زينة النساء ثم اورد على المسالك بقوله بان المتجه حينئذ ذكر العكس ايضاً و هو تزيين الامرأة بما يحرم عليها من زينة الرجال مع انه قد توقف فى دليله بعض متاخرى المتأخرين(1).

واختار الشيخ الاعظم عنوان التزيين مع تعميمه للمرأة ايضاً حيث قال:

المسألة الثانية تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب حرام لما ثبت فى محله من حرمتهما على الرجال وما يختص بالنساء من اللباس كالسوار و الخلخال والثياب المختصة بهن فى العادات على ما ذكره فى المسالك وكذا العكس اعنى تزيين المرأة بما يختص بالرجال كالمنطقة و العمامة ويختلف باختلاف العادات(2).

أورد عليه فى مصباح الفقاهة بانه اتفق فقهائنا وفقهاء العامة و استفاضت الاخبار من طرقنا ومن طرق السنة على حرمة لبس الرجل الحرير و الذهب الأ فى

ص: 393


1- الجواهر 115/22.
2- المكاسب المحرمة 23.

موارد خاصة ولكن الاخبار خالية عن حرمة تزين الرجل بهما فعقد المسألة بهذا العنوان كما صنعه المصنف رحمه الله فيه مسامحة واضحة.

نعم ورد فى بعض الاحاديث «لا تختم بالذهب فانه زينتك فى الاخرة وفى بعضها الاخر جعل الله الذهب فى الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه و الصلاة فيه»(1) ولكن مضافا الى ضعف السند فيهما انهما لاتدلان على حرمة تزيين الرجل بالذهب حتى يشمل النهى غير صورة اللبس ايضاً بل تفريعه عليه السلام فى الرواية الثانية حرمة لبس الذهب على كونه زينة النساء فى الدنيا لايخلو عن الاشعار بجواز تزين الرجل بالذهب ما لم يصدق عليه عنوان اللبس.

الى ان قال وبين العنوانين عموم من وجه فان التزين قد يصدق حيث لايصدق اللبس كما اذا جعلت ازرار الثوب من الذهب أو من الحرير وكما اذا خيط بهما الثوب وكما تتعارف خياطة الفِراء بالحرير و الديباج وكما اذا صاغ الانسان اسنانه من الذهب.

و قد يصدق اللبس ولايصدق التزين كلبس الحرير و الذهب تحت ساير الالبسة(2).

و فيه أولاً ان بعض النصوص يدل على حرمة تزين الرجل بالذهب.

منها مارواه فى الكافى عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن غالب بن عثمان عن روح بن عبدالرحيم عن ابى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين عليه السلام «لا تختم بالذهب فانه زينتك فى الاخرة»(3).

لان التعليل يدل على ان التحلى به مخصوص بالاخرة فلاوجه

ص: 394


1- الوسائل 300/3.
2- مصباح الفقاهة 206/1.
3- الوسائل 299/3.

لتخصيصه باللبس.

ومنها مارواه فى قرب الاسناد محمد بن عبدالحميد وعبدالصمد بن محمد جميعاً عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: قال النبى صلى الله عليه و آله و سلم: اياك ان تتختّم بالذهب فانه حليتك فى الجنة الحديث(1).

ومنها مارواه على بن ابراهيم عن أبيه عن سلمان بن مسلم الخشاب عن عبدالله بن جريح عن عطاء بن أبى رياح عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال فى حجة الوداع أن من أشراط القيامة اضاعة الصلاة - الى أن قال - فعند ذلك تحلى ذكور امتى بالذهب ويلبسون الحرير و الديباج، الحديث(2).

ومنها مارواه فى آخر السرائر نقلاً من رواية جعفر بن محمد بن قولويه عن أبى بصير عن أبى عبدالله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يحلى أهله بالذهب ؟ قال: نعم النساء والجوارى، فأما الغلمان فلا(3).

هذا مضافا الى ان قوله فحرم على الرجال لبسه بعد اختصاص التزين بالذهب فى الدنيا بالنساء فى خبر النميرى.

يدل على ان حرمة اللبس من باب مصداق التزين نعم لاينافى دلالة الاخبار الاخر على حرمة اللبس ولو لم يكن تزيينا.

و ثانيا: ان هذه الاخبار مستفيضة وضعفها منجبر بالاجماع بناء على ما فى الجواهر فى كتاب الشهادات من دعوى الاجماع بقسميه على حرمة التحلى به(4).

ص: 395


1- الوسائل 303/3.
2- الوسائل 276:11.
3- الوسائل 412:3.
4- الجواهر: 54/41.

ولذلك استظهر فى المستمسك من الروايات المذكورة حرمة التزين(1).

ولعله المراد من قول الشيخ المفيد فى المقنعة ومعالجة الزينة للرجال بما حرّمه الله تعالى حرام(2).

نعم لم اجد شيئاً يدل على حرمة التزين بالحرير بل الممنوع هو لبسه.

وكيف كان فلا اشكال فى حرمة لبس الحرير و الذهب وايضاً يقوى القول بحرمة التزين بالذهب على الرجل وعليه فالمحرم فى الذهب هو العنوانان احدهما التزين وثانيهما اللبس وعليه فتخصيص الحرمة باللبس كما ذهب اليه فى مصباح الفقاهة أو تخصيص الحرمة بالتزين كما يظهر من الشيخ قدس سره تبعا للمحقق فى الشرايع كما ترى لان اللبس ايضاً محرم ولو لم يكن تزينا.

ص: 396


1- المستمسك 356/5 و 361.
2- المقنعة 590.

المسألة السابعة تشبّه الرجل بالمرأة و بالعكس

اشارة

ذهب مشهور الفقهاء إلى حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس، و ينبغى بحث أدلّة هذا الحكم مفصّلاً:

أدلّة الحرمة:

1 - ربّما يستدل له بالحديث النبوى المشهور المحكئ عن الكافى عن أبى على الأشعرى، عن محمّد بن سالم، وعن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن أحمد بن النضر، وعن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أبى القاسم، عن الحسين بن أبى قتادة جميعاً، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبى جعفر عليه السلام قال:... قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فى حديث: «لعن الله المحلل و المحلل له، ومن يوالى غير مواليه، ومن ادعى نسباً لا يعرف، والمتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال، ومن أحدث حدثاً فى الإسلام أو آوى محدثاً، ومن قتل غير قاتله، أو ضرب ضاربه»(1).

قال الملّا صالح المازندرانى: والمراد من المحلّل و المحلّل له: إمّا إنساء شهر المحرم وتحريم الصفر بدله، أو طلاق الرجل امرأته ثلاثاً فيتزوّجها رجل آخر على شريطة

ص: 397


1- الكافى 71:8، ح 27.

ان يطلقها بعد وطئها لتحل لزوجها الأوّل(1).

2 - والمحكى عن محمّد بن علىّ بن الحسين، عن أبيه، عن محمّد ابن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن أحمد بن أبى عبدالله، عن أبى الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علىّ ، عن آبائه، عن علىّ عليه السلام، أنّه رأى رجلاً به تأنيث فى مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: اخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يا مَن لعنه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، ثم قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال»(2).

3 - وفى حديث آخر: «اخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شىء»(3).

قال فى تاج العروس: «من المجاز (المؤنّث) من الرجال (المخنّث) شبه المرأة فى لينه ورقّة كلامه و تكسّر أعضائه»(4) انتهى.

وقال فى أقرب الموارد: «المؤنث نقيض المذكر و الرجل المشبه المرأة فى لينه و رقّة كلامه و تكسّر أعضائه»(5).

4 - والمروى فى كتاب فضائل الأشهر الثلاثة عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، - عن سعد بن عبداللّه، عن أبى الجوزاء المنبّه بن عبدالله، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن ثابت بن هرمز الحدّاد، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليه السلام: «يأتى على الناس زمان ترتفع

ص: 398


1- شرح اُصول الكافى 402:11.
2- الوسائل 255:14، ب 18، النكاح المحرّم، ح 9. علل الشرائع 328:2، باب نوادر العلل، ح 63.
3- الوسانل 255:14، ب 18، النكاح المحرّم، ح 10.
4- تاج العروس 158:5، مادة «أنث». ط - دار الهداية.
5- أقرب الموارد 21:1.

فيه الفاحشة - إلى أن قال: - و يتشبّه الرجال بالنساء و النساء بالرجال»(1).

و هذه الرواية و إن أمكن تصحيح سندها [فراجع الملحق]، إلّا أنّه لا إطلاق لها؛ لانه فى مقام بيان أحوال آخر الزمان، فتأمّل.

الملحق

قال النجاشى فى المحكى عنه: «أنّ منبّه بن عبدالله صحيح الحديث(2) و أنّ الحسين بن علوان عامّى وأخوه الحسن يكنى أبا محمّد رويا عن الصادق عليه السلام و الحسن أخصّ بنا و أولى»(3).

و قال ابن عقدة فى المحكى عنه: «أنّ الحسن كان أوثق من أخيه و أحمد عند أصحابنا»(4).

ثم إنّ عمرو بن ثابت هو عمرو بن أبى المقدام، روى عنه ابن أبى عمير وصفوان، كما فى جامع الرواة(5).

و قال فى محكى النجاشى فى سعد بن طريف: يعرف وينكر(6)، ولكن قال الشيخ فى رجاله: أنّه صحيح الحديث(7).

قال فى معجم الرجال: إنّ الظاهر وثاقة الرجل، لقول الشيخ: و هو صحيح

ص: 399


1- بحار الأنوار 303:96.
2- رجال النجاشى: 421. جامع الرواة 263:2.
3- جامع الرواة 247:1.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: 617.
6- المصدر السابق: 354.
7- رجال الطوسية 92. ط - منشورات الرضى.

الحديث، الى ان قال و لا يعارض ذلك قول النجاشى يعرف وينكر، وذلك لأنّ المراد بذلك أنّه قد يروى ما لا تقبله العقول العادية المتعارفة، و هذا لا ينافى الوثاقة ولا ما عن ابن الغضائرى من تضعيفه إيّاه، فإنّا قد ذكرنا أنّه لم تثبت صحّة نسبة الكتاب إليه، فلم يعلم صدور التضعيف منه.

وأيضاً فشهادة الشيخ وابن قولويه وعلى بن ابراهيم بن هاشم متبعة انتهى(1).

و لا يخفى أن ما ذكر فى توثيق رجال الحديث و إن كان بعضها لايخلو عن المناقشة ولكن يكفى بعضه الاخر للاعتماد إلاّ أنّه لا اطلاق للرواية لأنها فى مقام بيان أحوال آخر الزمان فلاتغفل.

5 - والمروى فى مجمع البيان عن أبى اُمامة عن النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه الملائكة... والرجل يتشبّه بالنساء و قد خلقه الله ذكراً، و المرأة تتشبّه بالرجال و قد خلقها الله اُنثى»(2).

6 - والمروى عن الخصال، عن أحمد بن الحسن القطان، عن الحسن بن علىّ العسكرى وعن أبى عبدالله محمّد بن زكريا البصرى، عن جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن جابر بن يزيد الجعفى قال: سمعت أبا جعفرمحمّد بن علىّ الباقر عليهما السلام يقول: «لا يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجال؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعن المتشبّهين من الرجال بالنساء ولعن المتشبّهات من النساءبالرجال»(3)، ولكنّه ضعيف.

7 - والمروى عن فقه الرضا عليه السلام: «قد لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم سبعة: الواصل شعره بغير شعره، و المتشبّه من النساء بالرجال، والرجال بالنساء»(4).

ص: 400


1- الرجال 69:8. ط - مدينة العلم.
2- المستدرك 203:13، ب 70، ممّا يكتسب به، ح 2.
3- المصدر السايق 246:3، ب 9، أحكام الملابس، ح 1.
4- المصدر السابق: ح 2.

ثمّ إنّ هذه الأخبار مع اعتبار بعضها و شهرة مضمونها كافية لحرمة التشبّه فى الجملة.

قال فى الجواهر: ولعل ما فى السند و المتن من القصور منجبر بفتوى المشهور(1).

و أورد عليه الشيخ قدس سره بأنّ فى دلالته قصور؛ لأنّ الظاهر من التشبّه تانث الذكروتذكّر الاُنثى، لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه.

المراد من التشبّه هو التأنّث و التذكّر:

1 - و يويد ذلك المحكئ عن العلل: أنّ عليّاً عليه السلام رأى رجلاً به تأنيث فى مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم - إلى أن قال: - «لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال»(2).

2 - وكذلك ما جاء فى رواية يعقوب بن جعفر الواردة فى المساحقة المروية فى الكافى، عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن علىّ بن القاسم، عن جعفر ابن محمّد، عن الحسين بن زياد، عن يعقوب بن جعفر، قال: سأل رجل أبا عبدالله أو أبا إبراهيم عليهما السلام عن المرأة تساحق المرأة، وكان متّكئاً فجلس فقال: «ملعونة الراكبة والمركوبة، وملعونة حتى تخرج من أثوابها الراكبة و المركوبة» - إلى أن قال: - فقال الرجل هذا ما جاء به أهل العراق، فقال: «والله لقدكان على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يكون العراق، وفيهنّ قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لعن الله المتشبّهات بالرجال من النساء، ولعن الله المتشبّهين من الرجالبالنساء»(3).

3 - وفى رواية أبى خديجة الروية فى الكافى، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد

ص: 401


1- جواهر الكلام 116:22.
2- علل الشرائع 328:2، باب نوادر العلل، ح 63.
3- الكافى 552:5، ح 4.

بن محمّد بن خالد، عن محمّد بن على، عن علىّ بن عبدالله وعبدالرحمن بن محمّد، عن أبى خديجة، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال، قال: وهم المخنّثون و اللّاتى ينكحن بعضهن بعضاً»(1).

4 - وفى المستدرك أيضاً عن كتاب عباد أبى سعيد العصفرى، عن العرزمى، عن ثوير بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جوير بن نعير الحضرمى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «لعن الله و أمّنت الملائكة على رجل تانث، و امرأة تذكرت»(2).

5 - وعن الجعفريات: أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمّد بن الأشعث، حدّثنا محمّد ابن بريد المقرى، حدّثنا أيّوب بن النجّار، حدّثنا الطيّب بن محمّد، عن عطاء، عن أبى هريره، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مخنّثين الرجال المتشبّهين بالنساء، والمترجّلات من النساء المتشبّهات بالرجال...(3).

ولعل وجه التأييد، أنّ تطبيق التشبيه عليهما ظاهر فى اعتبار قصد التانث، فلا يشمل مجرّد تلبّس كل من الرجل و المرأة بلباس الآخر من دون قصد التأنّث، ولعل وجه التعبير بالتأييد دون القرينة والاستشهاد - كما فى إرشاد الطالب - هو احتمال كون المذكور فى الروايتين أقوى مراتب التشبّه، لا تمام مراتبه(4).

وعليه فالدليل على اعتبار قصد التأنّث وبالعكس، هو الاستظهار الذى ذكره الشيخ من تشبّه الرجال بالنساء و بالعكس.

و أجاب عن التأييدات فى جامع المدارك بانه يمكن أن يقال الأخذ بالعموم،

ص: 402


1- المصدر السابق: 550، ح 4.
2- المستدرك 240:5، ب 37، أبواب الدعاء، ح 2.
3- المصدر السابق 461:3، ب 14، أحكام المساكن، ح 1.
4- إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب 117:1.

و تطبيق العامّ على بعض الأفراد لا يوجب التخصيص وقصور العامّ فى دلالته. هذا مضافاً إلى أنّ اختصاص رواية أبى خديجة المذكور فيها لعن رسول الله - بما ذكر - لا يوجب اختصاص ذلك الخبر بما ذكر(1).

و فيه: إنّ تقديم قوله: «و فيهنّ »، وهكذا قوله: «وهم المخنّثون»، يدل على الحصر، وحيث إنّ الجملة المذكورة بما لها من المعنى حصرت «فيهن»، فلا وجه لاختصاص ذلك بهذا الخبر دون غيره. وعليه فهذه الروايات مؤيّدة لما استظهر من عنوان التشبّه بالنساء وبالعكس، من أن يكون الغرض و الداعى منه هو التأنّث أو التذكر، و عليه فمطلق لبس لباس أحدهما ليس بمحرّم.

و بعبارة اُخرى: نعلم إجمالاً أنّ المتيقّن من صدور تلك الأخبار هو صورة القصد و أن يكون الداعى هو التانث وعكسه. و يؤيّد ما ذكر، فتوى الشيخ فى النهاية بجواز ارتداء الرجل ثوب المرأة فى صلاته(2)، ودعوى شهرة المطلق منها غير ثابتة.

أدلّة الكراهة و مناقشتها:

واستدل الشيخ الأعظم قدس سره لكراهة التشبّه ببعض الروايات:

منها: ما رواه عن الكافى، عنه (أى أحمد بن محمّد بن خالد)، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبى عبدالله عليه السلام قال فى الرجل يجرّ ثوبه، قال:

«إنى لأكره أن يتشبّه بالنساء»(3).

و منها: ما رواه فى مكارم الأخلاق عن أبى عبدالله عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبّه

ص: 403


1- جامع المدارك 35:3.
2- النهاية: 99.
3- الكافى 458:6، ح 12.

بالرجال فى لباسها»(1). بدعوى أنّ فيهما خصوصاً الاُولى - بقرينة المورد - ظهور فى الكراهة(2).

و فيه: منع؛ لأنّ الرواية الثانية ظاهرة فى الحرمة، إذ الزجر لا يستعملفى موارد الكراهة، هذا مضافاً إلى انّها مرسلة، و لأنّ الرواية الاُولى على فرض تماميّة الاستدلال بها وعدم كون المورد من موارد عدم قصد التشبّه و إن حصلت الشباهة بحسب الخارج، فغايته التخصيص فى المورد المذكور كما فى جامع المدارك(3).

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله: «إنّى لأكره» لا يساعد التخصيص؛ لظهوره فيالتعميم، لا فى إخراج مورد خاصّ ، فتأمّل.

أمّا الاختصاص بقصد التأنّث و التذكّر فيكفى ذلك لصرف النبوى عن ظاهره الذى هو الحرمة المطلقة، كما فى تعليقة الميرزا الشيرازى قدس سره.

اعتبار القصد فى التشبّه:

ثم إنّ المراد من كلمة التشبّه هو المماثلة و المجاراة، وهما ظاهرتان فى القصد عرفاً، كالتكلّم، و التفقّه، و الترحّم، والتعلّل، و إن لم يثبت لزوم القصد لغةً ، إذ فرّق بين الشبه و التشبّه؛ ولذلك قال فى المستمسك: ظاهر التشبّه فعل ما به تكون المشابهة بقصد حصولها(4).

و ممّا ذكر يظهر ما فى مصباح الفقاهة حيث قال: لا وجه لاعتبار القصد فى مفهوم التشبّه وصدقه، بل المناط فى صدقه وقوع وجه الشبه فى الخارج مع العلم والالتفات - إلى أن قال: - على أنّه قد أطلق التشبّه فى الأخبار على جرّ الثوب

ص: 404


1- الوسائل 355:3، ب 13، أحكام الملابس، ح 2.
2- المكاسب 175:1، ط - موسّسة تراث الشيخ الأنصارى قدس سره.
3- جامع المدارك 35:3.
4- المستمسك 394:5-395.

و التخنّث و المساحقة مع أنّه لا يصدر شىء منها بقصد التشبّه. ودعوى أنّ التشبّه من التفعّل الذى لا يتحقّق إلّا بالقصد، دعوى جزافية، لصدقه بدون القصد كثيراً(1)؛ لما عرفت من كفاية الظهور العرفى.

هذا، مضافاً إلى عدم وضوح بعض الأمثلة المذكورة من جهة عدم القصد، على أنّ استعمال التشبّه فى بعض الموارد مع عدم القصد لا ينافى الظهور العرفى، إلّا أن يكون استعمال الشارع ذلك فى الشباهة كثيراً، بحث يطمئنّ الإنسان بأنّ مراده من التشبّه هو الشباهة، ولكنه غير ثابت، ولو سلم ذلك، فانّ اللعن لمجرّد الشباهة لا يساعد عليه إذا لم يكن عن قصد وعن داعى التانث و التذكّر.

الخلاصة: فإذا عرفت ذلك، فجملة تشبّه الرجال بالنساء وبالعكس، ظاهرة فى التأنّث و التذكركما مرّ، ولا أقلّ من الشكّ فالقدر المتيقّن هو ذلك، فلا يدلّ على حرمة الأزيد منه؛ خصوصاً بعد عدم تماميّة الأخبار سنداً أو دلالةً ، و إنّما حصل العلم بصدورها إجمالاً، فاللازم هو الأخذ بالمتيقّن منها، ودعوى اشتهار المطلقات غير ثابتة.

و قد عرفت فتوى الشيخ بجواز صلاة الرجل فى ثوب المرأة فى حال الاختيار، وبه رواية(2). فليس ارتداء لباس المرأة مطلقاً محرّماً على الرجل و إلّا فلا يجوز الصلاة فيه كما لا يخفى. فالمحرّم هو خروج الرجال عن زىّ الرجولية و تشبّههم بالنساء و بالعكس، فلاتغفل.

نعم، ينبغى الاحتياط بترك ارتداءكل من الذكر و الاُنثى لباس الآخر، ولو من دون قصد أو داعى التانث أو التذكر.

ص: 405


1- مصباح الفقاهة 210:1.
2- جامع الأحاديث 349:3، ب 20، ح 1097.

وهنا فروع:

1 - منها: إنه بناءً على اعتبار القصد فى صدق التشبّه وأن يكون الداعى هو التانث و التذكّر، يسهل الأمر فى الخنثى، فإنه يجوز له أن يلبس لباس كل من الذكر و الاُنثى بلا قصد التشبّه كما يلبسهما الذكر و الاُنثى أحياناً، و إنّما الإشكال فيما إذا لم يعتبر القصد فى التشبّه و لم يعتبر كون الداعى هو التانث و التذكر، فإنه حينئذٍ يجب على الخنثى الاجتناب عن كلا اللباسين من باب العلم الإجمالى بحرمة أحدهما.

ولا يرفع الإشكال ما أفاده الشيخ الأعظم عليه السلام بقوله: بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبه(1). يعنى صورة علمه بأنّ هذا ليس لباسه بل لباس صاحبه، ولولاه لم يحصل عنوان التشبّه. وذلك كما فى تعليقة الايروانى قدس سره؛ لأنّ العلم إن كان دخيلاً فى تحقّق عنوان التشبّه فليس ذلك خصوص العلم التفصيلى، بل كفى العلم الاجمالى و هو حاصل، فإنّ الخنثى يعلم إجمالاً أنّ ارتداءه أحد اللباسين تشبّه، فيجب عليه من باب المقدّمة العلمية تركهما.

2 - ومنها: إنّ السيّد اليزدى قدس سره قال: مقتضى عموم النبوى حرمة التشبّه حتى فى غير اللباس أيضاً من سائر الهيئات، فيحرم على الرجل وصل حاجبيه بالوسمة، أو تحمير وجهه بالصبغ الذى تستعمله النساء، أو جعل شعر رأسه مثل النساء وهكذا. ولا بأس بالفتوى به و إن لم يقل به المشهور؛ لعدم القصور فى دلالة الرواية، وانجبار ضعف سندها بالشهرة(2).

وظاهره هو حرمة تزيين الرجل بمختصّات النساء، بل فى الدروس حرمة تزيين كل من الرجل و المرأة بزينة الآخر(3)، و قد خصّص فى

ص: 406


1- المكاسب: 175-176.
2- حاشية المكاسب: 17.
3- الدروس الشرعية 163:3.

القنعة(1) و النهاية(2) حرمة التزيّن بما يحرم عليه، فلا يشمل غير الذهب و الحرير.

وكيف كان فلا دليل على حرمة التزيين بغير الذهب و الحرير عدا الحديث النبوى الذكور.

ولكن مقتضى ما عرفت من اعتبار القصد و أن يكون الداعى من ذلك هو التانث و التذكر، هو عدم حرمة ذلك بمجرّد التزّين أو التشبّه، بل اللازم فى الحرمة هو أن يكون ذلك بذاك الداعى حتى يصدق التشبّه و التانث، فاللازم هو مراعاة الأمرين: القصد، و أن يكون الداعى هو التانث أو التذكّر و خروج كل واحد منهما عن زيّه ودخوله فى زىّ الآخر، و إن كان الأحوط هو ترك التزيين مطلقاً.

3 - ومنها: إنه ينقدح ممّا ذكر، أنّه يجوزلبس الرجل لباس المرأة وبالعكس لإراءته قضية أو حقيقة، كقضية الطفّ و إقامة التعزية لسيّدنا أبى عبدالله الحسين عليه السلام؛ لأنّ الداعى من التشبّه ليس هو التانث أو التذكر، فمقتضى الأصل هو الجواز؛ لقصور دليل الحرمة عن مثله بعد اعتبار الداعى المذكور آخذاً بظهور الجملة فيه مع تأييده بالروايات وكونه قدر المتيقّن.

قال فى المستمسك: لبس الرجل مختصّات النساء لا بقصد مشابهتهنّ ليس تشبّهاً بهن ولا منهياً عنه، بل يحتمل انصراف النصّ عن التشبّه اتّفاقاً فى مدّة يسيرة لبعض القاصد العقلائية(3).

و إليه ذهب المحقّق القمّى فى متفرّقات جامع الشتات أيضاً.

4 - ومنها: إنّ التشبّه هل يكون موقوفاً على وجود الناظر أو لا يكون ؟ يمكن أن يقال مقتضى الإطلاق هو الثانى، اللّهمّ إلّا أن يقال بانصراف الأدلّة

ص: 407


1- المقنعة: 590.
2- النهاية: 365.
3- المستمسك 395:5.

عن مثله، فيجوز بمقتضى الأصل، فتأمّل.

5 - ومنها: إنّ الألبسة التى سميت باسم الرجال أو باسم النساء ولكنها مشتركة بينهما، لا إشكال فى جواز لبسها كليهما؛ لعدم اختصاصها بواحد منهما، و مجرّد الاسم لا يكفى لشمول أدلّة الحرمة.

6 - و منها: إنّ الألبسة تختلف بحسب اختلاف البلاد، فاللازم هو مراعاة البلد الذى سكن فيه، فلو كان لباساً للاُنثى فى بلد ما، ولم يكن مخصوصاً بها فى بلده، لم يتحقّق التشبّه بلبسه ولو مع القصدكما لا يخفى.

7 - ومنها: إنّ مقتضى الروايات المذكورة حرمة التشبّه فى الفعل، ولكن هنا روايات اُخرى تدلّ على المنع من ترك الزينة حذراً من حصول الشباهة بالرجال منها:

أوّلاً: ما رواه فى مجالس المفيد عن المرزبانى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى المكّى، عن عبدالرحمن بن محمّد بن حنبل، قال: اُخبرت عن عبدالرحمن بن شريك، عن أبيه، عن عروة بن عبيدالله بن بشير الجعفى، قال: دخلت على فاطمة بنت علىّ بن أبى طالب و هى عجوز كبيرة وفى عنقها خرز وفى يدها مسكتان فقالت: «يكره للنساء أن يتشبّهن بالرجال» الحديث(1).

قال المجلسى: لعل مرادها بالتشبّه هنا ترك الحلى و الزينة(2).

والمسك - بفتحتين - الاسورة و الخلاخل.

ثانياً: ما رواه فى دعائم الإسلام عن علىّ عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «مر نساءَك لا يصلّين معطلات فإن لم يجدن فليعقدن فى أعناقهن ولو بالسير، ومرهن

ص: 408


1- مجالس المفيد (الأمالى): 94. ط - جماعة المدرّسين.
2- بحار الأنوار 177:41، ح 11.

فليغيّرن أكفهنّ بالحناء، ولا يدعنها لكيلا يتشبّهن بالرجال»(1).

ثالثاً: ما رواه فى مكارم الأخلاق عن جعفر بن محمّد عليهما السلام قال: «رخّص رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم للمرأة أن تخضّب رأسها بالسواد إلى أن قال: - و أمّا غير ذات البعل فلا تشبّه يده يد الرجال»(2).

إلّا أنّ هذه الروايات ضعيفة، ويمكن حملها على الكراهة بناءً على التسامح فى أدلّتها.

وكيف كان، فهذه الروايات أدخلت فى التشبّه الفرد الخفى الذى لا يكون داخلاً بنفسه مع قطع النظر عن هذه الروايات، لعدم القصد ولعدم الداعى، ولعل ذلك للتنبيه لفخامة أمر التشبّه عند الشارع، حتى أنّه لا يرضى حصول ذلك بترك ما اعتادت النساء عليه من الزينة بحيث تحصل الشباهة بالرجال ولو بدون القصد و الداعى المذكور، فكيف يرضى الشارع بالفعل أو الترك بقصد التشبّه مع كون داعيه هو التأنّث أو التذكر؟! ثم لا يذهب عنك أنّ استعمال التشبّه فى مثل هذه الأخبار فى المعنى من دون اعتبار القصد لا يكون دليلاً على عدم اعتبار القصد. فى كلمة التشبّه؛ لانه استعمال، والاستعمال بالعناية لا ينافى ما استظهرناه من اعتبار القصد، كما أنّ استعمال لفظة الإعانة فيما لم يكن عن قصد لا يدلّ على عدم اعتبار القصد فيها.

اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك الاستعمال كثيراً بحيث ينصرف إلى ذلك فى استعمالاته، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّ اللعن لا يناسب إرادة مجرّد الشباهة، ولو لم يقصدها ولم يكن الداعى هو التانث و التذكر.

ص: 409


1- بحار الأنوار 188:83، ح 17.
2- الوسائل 410:1، ب 52، آداب الحمّام، ح 2.

ص: 410

المسألة الثامنة التشبّه بالكفّار و التبعية لهم

اشارة

لا إشكال فى حرمة التشبّه بالكفّار و التبعيّة لهم إذا كان الداعى من ذلك هو الدخول فى زيّهم و الخروج عن زىّ المسلمين؛ لأنّه ارتداد عن ملّة الإسلام إن التفت إلى أنّه عدول عن الإسلام، و إلّا فاتّباعهم فى الاُمور بالداعى المذكور إثم كبير وجهل عظيم.

و يدلّ على حرمته آيات وروايات كثير، منها قوله تعالى: وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً (1).

بل التشبّه بهم و التبعية لهم من دون الداعى المذكور أيضاً محرّم؛ لأنّه مظانّ الضلالة و الفساد. و يدل على حرمته آيات وروايات:

كقوله تعالى: وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ (2).

وقوله عزّ و جلّ : قُلِ اَللّٰهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (3).

ص: 411


1- النساء: 115.
2- المائدة: 49.
3- يونس: 35.

وقوله تبارك و تعالى: وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوٰاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنٰاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (1). وغير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ التبعية لهم توجب الضلال و الفساد.

هذا كلّه فيما إذا قصد المشابهة و التبعية لهم فى الاُمور مطلقا و أمّا إذا لم يقصد التبعية و التشبّه بهم بل كان عمله شبيهاً بعملهم، فقد وردت روايات تدلّ على المنع، وهى طوائف:

منها ما ورد فى التكفير:

فقد روى فى الكافى بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان وفضالة جميعا عن زرارة، عن أبى جعفر عليه السلام قال: «ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس»(2).

والسند صحيح، و هو مطلق من جهة كون التكفير فى الصلاة أو غيرها.

اللهمّ إلّا أن يحمل بقرينة سائر الروايات على التكفير فى الصلاة، خصوصاً مع احتمال أن يكون التكفير اصطلاحاً فى وضع اليمنى على اليسرى أو بالعكس فى خصوص الصلاة.

وروى فى الخصال فى حديث الأربعمئة عن أبى، عن سعد، عن اليقطينى، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبى بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «حدّثنى أبى، عن جدّى، عن آبائه عليهم السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه فى مجلس واحد أربعمئة باب ممّا يصلح للمؤمن فى دينه و دنياه إلى أن قال: لا يجمع المسلم يديه فى صلاته و هو قائم بين يدى الله عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر يعنى المجوس»(3).

ص: 412


1- المؤمنون: 71.
2- الوسائل 1264:4، ب 15، قواطع الصلاة، ح 2.
3- الخصال: 622. بحار الأنوار 100:10.

والسند معتبر، و قد ذكرنا ذلك فى مسألة التصوير، فراجع(1).

وروى فى الخصال أيضاً عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطينى، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبى بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «... عن آبائه عليهم السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام... قال: لا يجمع المسلم يديه فى صلاته و هو قائم بين يدى الله عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر يعنى المجوس»(2).

والسند كما أشرت إليه معتبر.

وروى فى دعائم الأخبار عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: «إذا كنت قائماً فى الصلاة فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى ولا اليسرى على اليمنى؛ فإنّ ذلك تكفير أهل الكتاب...»(3).

و السند ضعيف.

وروى فى الكافى عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن حمّاد، عن حريز، عن رجل، عن أبى جعفر عليه السلام فى حديث: «لا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس»(4).

و هذه الروايات تدلّ على أنّ الشباهة فضلاً عن التشبّه بالكفّار فى التكفير فى الصلاة ممنوعة فى الشرع، ولعل التعبير بانه من صنع المجوس أو أنّه تشبّه بأهل الكفر يدل على عدم اختصاص المنع بخصوص التكفير، فيعمّ كل كيفيّة عبادية هى من مختصّاتهم.

و أورد عليه فى المعتبر: بأنّ الرواية ظاهرها الكراهية؛ لما تضمّنته من قوله أنّه

ص: 413


1- راجع ما نشرناه فى العدد السابع من المجلة فى موضوع التصوير، القسم الأوّل، الصفحة:.
2- الخصال: 622. بحار الأنوار 325:84.
3- بحار الأنوار 325:84.
4- الكافى 336:3، ح 9. الوسائل 1264:4، ب 15، قواطع الصلاة، ح 3.

تشبّه بالمجوس، وأمر النبى صلى الله عليه و آله و سلم بمخالفتهم ليس على الوجوب؛ لأنّهم قد يفعلون الواجب من اعتقاد الإلهيّة وانه فاعل الخير، فلا يمكن حمل الحديث على ظاهره، فإذن ما قاله الشيخ أبوالصلاح من الكراهية أولى(1). و لعلّ من هذه الجهة تردد فيه المحقّق فى الشرائع(2).

ولكن أجاب عن ذلك فى الجواهر: بأنّ التشبّه بالمجوس لا مانع من حرمته إلّا ما خرج بالدليل، أو يقال فى خصوص المقام: يحرم لأنّه وقع علّة للنهى الظاهر فى الحرمة.

ولكنه مع ذلك مال إلى الكراهة قائلاً:

إنّ النصوص ظاهرة فى الكراهة من جهة اشتمالها على التعليل الذى غالباً يذكر نظيره للمكروهات(3).

وتبعه فى المستمسك(4) وجامع المدارك(5) ومستند العروة، قال فى الأخير ما محصّله: ولكن ظاهر المشهور هو الحرمة، وحمل قولهم على حرمة التشريع من دون استناد إلى هذه الروايات خلاف استثنائهم صورة التقية؛ فإنّ من البيّن عدم انسحاب التقيّة فى موارد الحرمة التشريعية، فإنّها متقوّمة بالقصد، ولا معنى للتقيّة فيه؛ ضرورة أنّ المتكتّف لأجل التقية لايقصد التشريع بتكتّفه بل دفع ضرر المخالفين عن نفسه، فلو لم يكن العمل فى حدّ ذاته محرّماً ومبطلاً كان الاستثناء حينئذٍ منقطعا و إنّما يتّجه الاستثناء المتصل فيما إذا كان العمل فى نفسه كذلك، كبقيّة المنافيات من القهقهة ونحوها(6).

ص: 414


1- المعتبر فى شرح المختصر 257:2.
2- شرائع الإسلام 72:1. ط - انتشارات استقلال.
3- انظر: جواهر الكلام 18:11.
4- انظر: مستمسك العروة الوثقى 530:6.
5- انظر: جامع المدارك 403:1.
6- انظر: مستند العروه الوثقى 447:4.

وعليه فالتكفير يكون محرّما فى حدّ ذاته، فتعليل الحرام بالتشبّه ظاهر فى حرمته ولو فى خصوص المقام، وعليه فمقتضى الاحتياط هو ترك ما يكون شبيهاً بعبادانهم فى الصلاة، ولكن يشكل ذلك من جهة أنّ فهم الأصحاب ليس حجّة علينا، فتأمّل. و بقيّة الكلام فى محلّه.

ثم إنّ الحرمة أو الكراهة ثابتة ما دامت العلّة ثابتة، فإن لم تكن تلك العلّة باقية فى عصرنا فالحكم ببقاء الحرمة أو الكراهة مشكل، والمسألة تحتاج إلى تأمّل زائد.

و منها ما ورد فى تغيير الشيب:

روى فى الخصال عن محمّد بن جعفر البندار، عن مسعدة بن أسمع، عن أحمد بن حازم، عن محمّد بن كناسة، عن هشام بن عروة، عن عثمان بن عروه عن أبيه، عن الزبير بن العوام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود والنصارى»(1). والشيب بفتح فسكون: الشعر، وبياضه(2).

وروى أيضا فى الخصال عن أبى محمّد عبدالله الشافعى عن محمّد بن جعفر الأشعث، عن محمّد بن إدريس، عن محمّد بن عبدالله الأنصارى، عن محمّد ابن عمرو بن علقمة، عن أبى سلمة، عن أبى هريره قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود و النصارى»(3).

والستفاد منهما أنّ عدم التغيير تشبّه باليهود و النصارى، ومقتضى النهى المذكور هو الكراهة.

ولكن روى فى نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل عن قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود»، فقال عليه السلام: «إنّما قال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك و الدين

ص: 415


1- الوسائل 400:1، ب 41، آداب الحمّام، ح 8.
2- القاموس المحيط: 133، مادة «الشيب»، ط - مؤسّسة الرسالة.
3- المصدر السابق: 401، ح 9.

قلّ ، فأمّا الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ وما اختار»(1). وضرب بجرانه:

أى ثبت و استقرّ.

وظاهر الأخير أنّ المنع من الشباهة لتوهّم الضعف، ولا مجال لتلك الشباهة بعد قدرة الدولة الإسلامية، فليس المنع لمجرّد الشباهة.

ومنها ما ورد فى كنس الأفنية:

روى فى الكافى عن الحسين بن محمّد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان ابن مسلم، عن إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبدالله: «اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود»(2).

وروى أيضاً فى الكافى عن بعض أصحابنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود»(3).

ومقتضى تلك الروايات هو كراهة عدم نظافة فناء الدار من جهة أنّه تشبّه باليهود.

ومنها ما ورد فى عدم إطالة اللحية:

روى فى معانى الأخبار عن الحسين بن إبراهيم المكتّب، عن محمّد بن جعفر الأسدى، عن موسى بن عمران النخعى، عن عمّه الحسين بن يزيد، عن علىّ بن غراب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: حفّوا الشوارب، واعفوا اللحى، ولا تشبّهوا بالمجوس»(4).

وروى فى الوسائل عن محمّد بن علىّ بن الحسين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

ص: 416


1- نهج البلاغة: قصار الحكم، الحكمة 17. الوسائل 403:1، ب 44، آداب الحمّام، ح 1.
2- الكافى 531:6، ح 5. الوسائل 570:3، ب 9، أحكام المساكن، ح 1.
3- المصدر السابق: ح 4.
4- الوسائل 423:1، ب 67، آداب الحمّام، ح 3.

«حفّوا الشوارب، واعفوا اللحى، ولا تشبّهوا باليهود»(1).

قال فى الوافى. «الحفّ : الإحفاء؛ و هو الاستقصاء فى الأمر و المبالغة فيه، وإحفاء الشارب: المبالغة فى جزه. والإعفاء الترك، وإعفاء اللحى: يوفر شعرها، من عفى الشىء إذا كثر وزاد. قوله عليه السلام: واعفوا عن اللحى: أى لا تستأصلوها بل اتركوا منها ووفّروا، وقوله: ولا تتشبّهوا باليهود: أى لا تطيلوها جدّاً؛ وذلك لأنّ اليهود لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها. وذكر الإعفاء عقيب الإحفاء ثم النهى عن التشبّه باليهود دليل على أنّ المراد بالإعفاء أن لا يستأصل، و يؤخذ منها من دون استقصاء، بل مع توفير وإبقاء بحيث لا يتجاوز القبضة فيستحق النار»(2).

ثم إنّ النهى عن التشبّه سواء كان راجعاً إلى الحفّ و الإعفاء أو إلى خصوص الإعفاء لا يدلّ على الكراهة؛ لعدم حرمة ازدياد طول اللحية على القبضة، فلا تغفل.

وروى فى الوسائل أيضاً عن محمّد بن علىّ بن الحسين أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفروا شواربهم، وإنا نحن نجزّ الشوارب ونعفى اللحى، وهى الفطرة»(3). و الجرّ هو القطع.

ومنها ما ورد فى الألبسة و الأطعمة:

روى فى المحاسن عن أبيه، عن عبدالله بن المغيرة ومحمّد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبى عبدالله، عن آبائه عليهم السلام أنّ عليّاً عليه السلام كان لا ينخل له الدقيق، وكان علىّ عليه السلام يقول: لا تزال هذه الاُمّة بخير ما لم يلبسوا لباس العجم و يطعموا أطعمة العجم، فإذا فعلوا ذلك ضربهم الله بالذل(4).

ص: 417


1- المصدر السايق: ح 1.
2- الوافى 657:4-658، المجلد السادس.
3- الوسائل 423:1، ب 67، آداب الحمّام، ح 2.
4- المحاسن 440:2، ب 38، كتاب المآكل، ح 299، ط - دار الكتب الإسلامية.

قال الشيخ فى طلحة بن زيد: «كتابه معتمد»(1).

و نخل الدقيق: أى غربله و أخرج منه النخالة. والعجم خلاف العرب.

وروى فى المستدرك عن القطب الراوندى فى لبّ اللباب: «أوحى الله إلى نبىّ أن قل لقومك لا تطعموا مطاعم أعدائى، ولا تشربوا مشارب أعدائى، ولا تركبوا مراكب أعدائى، و لا تلبسوا ملابس أعدائى، ولا تسكنوا مساكن أعدائى، فتكونوا أعدائى كما كان اُولئك أعدائى»(2).

و فى الفقيه: وروى إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «أوحى الله عزّ و جلّ إلى نبىّ من أنبيائه: قل للمؤمنين لا يلبسوا لباس أعدائى، ولا يطعموا مطاعم أعدائى، ولا يسلكوا مسالك أعدائى، فيكونوا أعدائى كما هم أعدائى»(3).

و أفاد المحقّق الشعرانى فى توضيح الرواية:

«قوله: ولا تسلكوا مسالك أعدائى، قال ابن خلدون فى مقدّمة تاريخه: الفصل الثالث فى أنّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب فى شعاره و زيّه ومنطقه ومصادر أحواله وعوائده.

وقال فى هذا الفصل: انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زىّ الحامية وجند السلطان فى الأكثر؛ لأنّهم الغالبون لهم، حتى إذا كانت اُمّة تجاوز اُخرى ولها الغلب عليها فيسرى إليها من هذا التشبّه و الاقتداء حظّ كثير، كما هو فى الأندلس لهذا العهد مع اُمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبّهون بهم فى ملابسهم وشارانهم و الكثير من عوائدهم و أحوالهم حتى فى رسم التماثيل فى الجدران و المصانع و البيوت، حتى لقد يستثمر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنّه من علامات الاستيلاء و الأمر لله. انتهى.

أقول: ما أشبه حال بلاد الأندلس على عهد ابن خلدون بحال سائر بلاد

ص: 418


1- الفهرست: 86.
2- المستدرك 248:3، ب 10، أحكام الملابس، ح 4.
3- من لا يحضره الفقيه 263:1، ب 39، ح 20، ط - دار الأضواء.

المسلمين فى عهدنا! والمتفرنجة من الملاحدة فى بلادنا عوامل استيلاء النصارى عليهم و أكثرهم ضعفاء العقول و النفوس، سريع التأثّر لزىّ الغالب، سهل القبول لما يراد منهم، استخدمتهم النصارى لإفساد الحوزة، وقى الله من شرّهم.

ولا يدل هذا الحديث على حرمة التشبّه بهم مطلقا بل على أنّ المتشبّهين بهم غالباً من أعداء المسلمين و انّهم فى مظنة ذلك، و هو نظير ما ورد فى ذمّ بنى اُميّة؛ فإنّ الغالب عليهم عداوة أهل البيت عليهم السلام لا أنّ جميعهم كذلك، وليس مطلق من تشبّه بهم كافراً أو معادياً»(1).

ولا يخفى عليك أنّ لسان هذه الأخبار لسان الإرشاد إلى ما هو الواقع، وغاية ما تدلّ عليه هذه الروايات هو الكراهة؛ لوقوع تلك الاُمور فى معرض التأثّر بأفكار الأعداء ومقاصدهم بحيث يؤدى إلى الانقياد إليهم و إن لم يكن قصدهم ذلك، كما يقال:

لا تعاشر أهل الدنيا فتكون من أهل الدنيا كما هم أهل الدنيا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المرشد إليه أمر لا يتناسب مع الكراهة؛ لأنّ كون الشخص من أعداء الله من المبغوضات جدّا.

إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو من التأمّل؛ لورود مثل هذه التعبيرات فى بعض المكروهات، مضافاً إلى أنّ هذه الجمل مذكورة فى معتبرة طلحة بن زيد فى وجه ترك غربلة الدقيق، مع أنّ من المعلوم هو عدم حرمة ذلك، ولم أر من أفتى بحرمته.

نعم يمكن أن يقال: إنه يختلف باختلاف الموارد من الشدّة و الضعف و الكراهة والحرمة، فتأمّل.

ومنها ما ورد فى كراهة الاتّزار و التوشّح:

روى فى الكافى عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن علىّ بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبى بصير، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: «لا ينبغى أن تتوشّح بإزار

ص: 419


1- الوافى 11: ذيل صفحة 713-714، المجلّد العشرون.

فوق القميص وأنت تصلّى، ولا تتّزر بإزار فوقالقميص إذا أنت صلّيت؛ فإنه من زىّ الجاهلية»(1).

قال فى التذكرة: «ويكره أن يأتزر فوق القميص؛ لما فيه من التشبّه بأهل الكتاب و قد نهى النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم عن التشبّه بهم؛ لقول الصادق عليه السلام: لا ينبغى أن تتوشّح بإزار فوق القميص إذا صلّيت فيه فإنّه من زىّ الجاهلية، وليس بمحرّم؛ لأنّ موسى بن عمر بن بزيع قال للرضا عليه السلام: أشدّ الإزار و المنديل فوق فميصى فى الصلاة ؟ فقال: لا بأس به»(2).

وعن الذكرى: «إنّ فى الائتزار فوق القميص تشبّهاً بأهل الكتاب، و قد نهينا عن التشبّه بهم»(3).

و قال فى الجواهر: «ومن ذلك يعرف ما فى المدارك وغيرها تبعاً للمعتبر من نفى الكراهة... بل الظاهر كراهة التوشّح أيضاً لخبر أبى بصير.

ثم قال بعد نقل روايات تدلّ على أنّ التوشّح من عمل قوم لوط:

وكيف كان فالمراد بالتوشّح بالثوب كما عن بعض أهل اللغة و المصباح المنير:

إدخاله تحت اليد اليمنى و إلقاؤه على المنكب الأيسر كما يفعله المحرم»(4).

ومنها ما ورد فى الأكل عند أهل المصيبة:

روى فى الوسائل عن الفقيه محمّد بن علىّ بن الحسين، قال: قال الصادق عليه السلام:

«الأكل عند أهل المصيبة من عمل الجاهلية، و السنّة البعث إليهم بالطعام كما أمر به النبىّ صلى الله عليه و آله و سلم فى آل جعفربن أبى طالب لمّا جاء نعيه»(5).

ص: 420


1- الوسائل 287:3، ب 24، لباس المصلّى، ح 1.
2- تذكرة الفقهاء 504:2.
3- ذكرى الشيعة 148:1. ط - حجرى.
4- جواهر الكلام 238:8-240.
5- الوسائل 889:2، ب 67، أبواب الدفن، ح 6.

قال العلّامة قدس سره: «لا يستحبّ لأهل الميّت أن يصنعوا طعاما ويجمعوا الناس عليه؛ لأنّهم مشغولون بمصابهم، و لأنّ فى ذلك تشبّهاً بأهل الجاهلية على ما قال الصادق عليه السلام»(1).

ومنها ما ورد فى التصليب:

قال العلّامة قدس سره: «يكره التصليب فى الثوب؛ لأنّ عائشة قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان لا يترك فى بيته شيئاً فيه تصليب إلّا قضبه يعنى قطعه ولما فيه من التشبّه بالنصارى»(2).

وفى تاج العروس: «وثوب مصلّب كما عن المصباح أى فيه نقش كالصليب(3). وفى حديث عائشة أنّ النبى صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا رأى التصليب فى ثوب قضبه؛ أى قطع موضع التصليب منه. وفى الحديث: نهى عن الصلاة بالثوب المصلّب، و هو الذى فيه نقش أمثال الصلبان. وفى حديث عائشة أيضا: فناولتها عطافاً فرأت فيه تصليباً فقالت: نحّيه عنّى. وفى حديث اُمّ سلمة انّها كانت تكره الثياب المصلّبة»(4).

يستفاد من مجموع هذه الأخبار الكثير فى الموارد المختلفة: أنّ الإتيان بما يكون شبيهاً لما أتى به الكفّار ممّا هو من مختصّاتهم كان مكروهاً ومنهياً عنه فى الإسلام، ولعل الوجه فيه أنّ ذلك يوجب التبعية الفكرية شيئاً فشيئاً و إن لم يكن قصدهم ذلك، ونتيجتها الدخول فى زمرة الأعداء وسلب الاستقلال و المجد الإسلامى، كما اُشير إليه فى الروايات الدالّة على النهى عن لبس ملابس الأعداء وغيرها.

ص: 421


1- منتهى المطلب 466:1.
2- تكرة الفقهاء 506:2.
3- المصباح المنير 417:1، ماد «صلب». لكن الموجود فيه: «وثوب مصلّب: عليه نقش صليب».
4- تاج العروس 337:1-338، مادة «صلب».

و يؤيّد ذلك ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من أنّه: «مَن تشبّه بقوم أوشك أن يكون منهم»(1).

فروع:

الأوّل: إنّه لا يجوز لبس ما فيه نقش الصليب ونحوه بقصد التشبّه و التبهية؛ لما عرفت من منع الآيات عن تبعيّة الكفّار. نعم لو كان ذلك بقصد التزيّن لا التبعية و التشبّه فهو مكروه وينبغى أن يترك.

هذا إذا لم يتعنون بعنوان محرّم آخر، كتضعيف الدولة الإسلامية أو المجتمع الإسلامى أو ترويج المسيحية، و إلّا فيكون محرّما. كما أنّ حفظ الصليب ونصبه حرام؛ لوجوب إتلافه حسماً لمادة الفساد.

الثانى: إنّ قوله عليه السلام: «فيكونوا أعدائى كما هم أعدائى» بعد النهى عن لبس ملابس الأعداء و أطعمتهم وغيرها يدلّ على أنّ الممنوع هو الذى ينتهى إلى التبعية الفكرية، و أمّا الذى لا يكون كذلك كانتخاب الأحسن ممّا حقّقه الكفّار فى مختلف مجالات الحياة كالسيارات و الطائرات وغير ذلك من دون انجراره إلى التبعية المذكورة، فلعلّه غير مشمول للأخبار الناهية، بل اللازم على الدولة الإسلامية أن تدبّر الاُمور بنحو لايصير المسلمون ضعفاء ومحتاجين إلى الكفّار.

الثالث: إنّ الحكم تابع لبقاء الموضوع، فإن كان شىء فى زمان من مختصّات الكفّار ثم شاع ذلك بين المسلمين بحيث لا يختصّ بهم فلا يكون حكم التشبّه باقيا ولامنافاة بين أن يكون المسبّب فى ذلك مرتكباً للمعصية بفعله وبين أن يصير الفعل بعد الشيوع جائزا لعدم بقاء الموضوع، فلا تغفل.

ص: 422


1- بحار الأنوار 93:78، ح 106.

المسألة التاسعة التشبيب بالمرأة المعينة المؤمنة المحترمة

يقع الكلام فى مقامات:

الأول: فى معنى التشبيب قال فى تاج العروس وشبب بالمرأة قال فيها الغزل وحكى عن عبداللطيف ان التشبيب داخل فى النسيب و النسيب ذكر الغزل قال قدامة والغزل انما هو التصابى والاستهتار بمودات النساء وان التشبيب فهو الاشادة بذكر المحبوب وصفاته واشهار ذلك و التصريح به.

يستفاد من ذلك ان التشبيب هو رفع ذكر ثناء المحبوب وصفاته و اشهاره بكيفية الغزل و هو التمايل الى الصبوة و اللهو و اللعب واتباع الهوى بحيث لايبالى بما يفعل ويقول كما هو معنى التصابى والاستهتار وبالجملة هو المعاشقة و المحادثة مع النساء.

ولعل اليه ينظر ما حكى عن جامع المقاصد فى تفسير التشبيب من انه ذكر محاسنها واظهار شدة حها بالشعر انتهى.

ولقد افاد واجاد ولكن تقييده بالشعر وان وقع فى كلام بعض الفقهاء كالشيخ فى المبسوط و المحقق فى الشرايع ولكنه لا قرينة عليه من اللغة اللهم الا ان يحمل الغزل على الشعر و هو محل تامل لتعميم الغزل عند بعض اهل اللغة فتدبر.

ص: 423

الثانى: فى كلمات الاصحاب صرح جماعة بحرمة التشبيب.

قال الشيخ الطوسى قدس سره يرد شهادة من شبّب بامرأة ووصفها فى شعره فيما اذا كانت ممن لايحل وطيها(1).

قال العلامة فى القواعد وهجاء المؤمنين حرام سواء كان بشعر أو غيره وكذا التشبيب بامرأة معروفة محرمة عليه(2).

قال المحقق فى الشرايع ويحرم من الشعر ما تضمّن كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محللة له(3).

قال المحقق الكركى فى جامع المقاصد فى ذيل قول العلامة فى المتاجر و التشبيب بالمرأة. المعروفة المؤمنة المراد به ذكر محاسنها وشدة حبها ونحو ذلك بالشعر و يقال التنسيب ايضاً وانما يحرم بقيود:

الأول: كونها معينة معروفة وان لم يعرفها السامع اذ اعلم انه قصد معينة لما فيه من هتك عرضها اما اذا لم يقصد مخصوصة فلابأس.

الثانى: كونها مؤمنة فلايحرم بنساء اهل الحرب واما بنساء اهل الذمة فظاهر التقييد بالمؤمنة يقتضى الحل و الظاهر العدم لان النظر اليهن بريبة حرام فهذا اولى ونساء اهل الخلاف اولى بالتحريم لانهن المسلمات.

الثالث: كونها محرمة أى فى الحال وان لم يكن مؤبدا و لم يذكره المصنف فمتى انتفى واحد من الثلاثة لم يحرم فاذا شك فى حصولها لا يحرم الاستماع.

واما التشبيب بالغلام فحرام على كل حال لانه محض فحش مقرب للمفسدة(4).

ص: 424


1- المبسوط 228/8.
2- القواعد: 236/2.
3- الشرايع: 233/2.
4- جامع المقاصد 205/1.

وقال فى الجواهر ويحرم من الشعر وغيره ما تضمن كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محللة أو غلام بلا خلاف أجده بل الاجماع بقسميه عليه مضافا الى مافى الكتاب و السنة من تحريم ايذاء المؤمنين واغراء الفساق بالامرأة والولد الى ان قال قلت قد يقال بحرمته مع فرض تاذيها بذلك وهتك حرمتها(1).

الثالث: انه استدل على حرمته بلزوم تفضيحها وهتك حرمتها وايذائها واغراء الفساق بها وادخال النقص عليها وعلى اهلها ويشهد على ان ذلك تفضيح وهتك حرمة ونقص ان النفوس الابية ذوات الغيرة الحمية لاترضى بان يذكر ذاكر عشق بعض بناتهم أو اقربائهم ولوكن بعيدات.

وكيف كان فلا اشكال فى حرمة الامور المذكورة و يدل عليها الكتاب و السنة.

قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (2).

و تظافرت الاخبار على حرمة اهانة المؤمن و اذلاله و احتقاره منها صحيحة ابان بن تغلب عن ابى جعفر عليه السلام قال: لما اسرى بالنبى صلى الله عليه و آله و سلم قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك قال: يا محمد من اهان لى ولياً فقد بارزنى بالمحاربة وانا اسرع شىء الى نصرة اوليائى(3).

ومنها مرسلة ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبدالله عليه السلام قال: من استذل مؤمناً واحتقره لقلّة ذات يده ولفقره شهره الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق(4).

ص: 425


1- الجواهر 49/41-50.
2- الاحزاب: 58.
3- الوسائل 588/8.
4- الوسائل 591/8.

وغير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة فى أبواب احكام العشرة.

هذا مضافا الى ان المعاشقة مع غير المحللات مظنة الفساد و قد قامت الضرورة على حرمتها ولذا وجب النهى و الدفع عن المنكر حسماً لمادة الفساد.

اورد عليه شيخنا الاعظم قدس سره بان هذه الوجوه لاتنهض لاثبات التحريم مع كونه اخص من المدعى اذ قد لايتحقق شىء من المذكورات فى التشبيب بل و اعم منه فان التشبيب بالزوجة قد توجب اكثر المذكورات(1).

لعل مراده من الاخصية هو تشبيب مثل عجوزة التى لايرغب فيها اهل الفجور فانه حرام بدون وجود العناوين المذكورة وفيه انه لايخلو عن بعضها و هو الهتك و الايذاء اللهم الا ان يكون التشبيب بعنوان هزل ومزاح ولعله منصرف عن محل الكلام فلامورد لايتحقق فيه شىء من المذكورات.

نعم يمكن ان يكون المراد تشبيب المرأة الاجنبية من دون وجود شخص آخر حتى يلزم العناوين المذكورة ولكنه لايساعد التشبيب اللغوى فانه ليس باشادة ولا اشهار مع انك عرفت انهما دخيلان فى حقيقة التشبيب هذا مع انه لانسلم خلوه عن بعض العناوين المحرمة و القول بان انشاء الشعر فى محاسن امرأة بين النساء أو اقاربها العارفين بحالها وجمالها لايكون هتكاً غير سديد لان ذكر المحاسن بوسيلة الرجل الاجنى و المعاشقة مع المرأة فى حضور النساء هتك و إيذاء ونقص ولعل منشأ إنكار الهتك توهم ان التشبيب مجرد ذكر المحاسن مع انك عرفت معناه اللغوى وانّ المقصود هو المعاشقة مع الأجنبية.

فاتضح مما ذكر ان تشبيب المرأة الغير المحللة ملازم للامور المذكورة ومظنة للفساد فلا يصح دعوى اخصية العناوين المذكورة.

ص: 426


1- المكاسب المحرمة 22.

كما لايصح دعوى اعمية العناوين عن الحرمة بمعنى صدقها فى تشبيب الزوجة ومع ذلك لايكون محرما لان مع صدق اكثر العناوين المحرمة كيف لايكون محرما هذا مضافا الى ان تشبيب الزوجة المحللة خارج عن محل كلمات العلماء.

نعم يصح دعوى ان العناوين المذكورة لا تخصّص بالكلام لامكان تحققها من دون كلام شعرا كان أو غيره كالفعل الموهن وغيره و بهذا الاعتبار تكون هذه العناوين اعم من التشبيب ولا مانع منه اذ لايلزم فى حرمة التشبيب ان يكون عنوانا مساويا للمذكورات فكون التشبيب غير خال عنها كاف فى اثبات الحرمة وعليه فاعمية العناوين المذكورة بهذا المعنى لا تضرّ كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر ما فى دعوى ان النسبة بين التشبيب و العناوين المذكورة عموم من وجه لما عرفت من ان التشبيب لاينفك عن العناوين المذكورة حتى يمكن هذه الدعوى فلا تغفل.

ثم ربما يناقش فى حرمة الايذاء والاضرار بان مقتضى عموم ادلة حل الانتفاعات وسلطنة الناس على انفسهم جوازكل عمل يشتهيه وينتفع به وان استلزم ذلك ايذاء للغير أو اضراراً به كما ذكروا جواز تاجيج النار وان استلزم ذلك اضرارا للجار وجواز جعل الحمام أو الاخدود ونحوهما مما يتضرر به الجيران.

نعم لو لم يكن المقصود من فعله الا الايذاء والاضرار فلا اشكال ظاهرا فى حرمته كما تدل عليه الرواية الواردة فى سمرة بن جندب(1).

وفيه أولاً ان قاعدة السلطنة على النفس والاموال ليست بمشرعة بل تدل على سلطنة الانسان فيما يثبت جوازه من الشرع.

و ثانيا: ان مع الغمض عن ذلك وتسليم الاطلاق فهى كساير الاحكام محكومة

ص: 427


1- تعليقة الميرزا الشيرازى 62.

بقاعدة لاضرر وخصوصية مورد قاعدة لاضرر لاتوجب تخصيصها بذلك المورد اذ العبرة بعموم الوارد و الموارد المذكورة فى كلام بعض الفقهاء محل الكلام وعليه فكل فعل يوجب الضرر بالنسبة الى نفس الغير أو ماله أو عرضه فهو غير جايز فلاوجه لهذه المناقشة.

وثالثا لو قلنا بعدم الحكومة فمقتضى تعارض عنوان الضرر و الهتك مع قاعدة السلطنة وكون النسبة بينهما هو العموم من وجه هو الرجوع الى مقتضى الاصل و هو فى الاموال والاعراض و النفوس يقتضى الاحتياط فتأمّل.

ثم ان الشيخ قدس سره ذهب الى الاستدلال بوجوه اخرى.

منها عمومات حرمة اللهو و الباطل.

اورد عليه بان بعد الغمض عن صدق الصغرى لادليل على حرمة مطلق اللهو والباطل.

يمكن الجواب عنه بان المعاشقة مع الاجنبية من المصاديق الواضحة للهو والباطل وحرمة ذلك كحرمة اللهو المطرب مسلمة فى الفقه كما سيأتى إن شاء الله تعالى.

ومنها عمومات حرمة الفحشاء أورد عليه بان النسبة بين التشبيب و الفحشاء عموم من وجه لجواز إنفكاك التشبيب عن الفحشاء، والفحشاء عن التشبيب.

ويمكن الجواب بان التشبيب بالمعنى الذى ذكرناه وصار موضوعاً لكلمات الفقهاء لاينفك عن الفحشاء وعليه فالنسبة بينهما هى العموم و الخصوص كما لا يخفى.

ومنها ان ذلك مناف للعفاف الذى اشترط فى العدالة ولعل الاشتراط من جهة قوله عليه السلام فى صحيحة ابن ابى يعفور فى جواب سئوال السائل عن كيفية طريق معرفة العدالة ان تعرفوه بالستر و العفاف وكف البطن و الفرج و اليد و اللسان و يعرف

ص: 428

باجتناب الكبائر(1).

ناقش فى ذلك السيد قدس سره بانا لانسلم اعتباركل عفاف فى العدالة(2).

وفيه ان ترك التشبيب بالمعنى الذى عرفت من مصاديق العفاف المعتبر فى العدالة ولا اشكال فيه سواء قلنا باعتبار مطلق العفاف فيها أم لا.

ومنها فحوى ما دل على حرمة مايوجب ولو بعيدا تهييج القوة الشهوية بالنسبة الى غير الحليلة مثل ما دل على النع عن النظر لانه سهم من سهام ابليس والمنع عن الخلوة مع الاجنبية لان ثالثهما الشيطان.

اورد عليه الميرزا الشيرازى قدس سره بان النظر من اقوى افراد المهيج للشهوة فكيف يقاس عليه التشبيب مع كون المناط فيه اضعف منه فى الاصل هذا مضافا الى انه لم يثبتكون حرمة النظر من جهة كونه من اسباب تهييج الشهوة وماورد منكونه سهما من سهام ابليس لم استفد منه دلالة على ذلك(3).

يمكن ان يقال كما فى مصباح الفقاهة بانه ربما يكون تاثير الكلام اشد من تأثير النظر فاذا كان النظر سهما مسموما موثرا فى هدم الايمان وقلعه عن قلوب الناظرين فالتشبيب أولى بالتحريم.(4).

هذا مضافا الى دعوى الاجماع على حرمة كل ما يوجب تهييج الشهوة كما يظهر من الكلمات فى مسألة حرمة النظر الى الصبى و الصبية ان ترتب عليه ثوران الشهوة فراجع.

على أن بعض النصوص يؤيد ذلك مثل ما ورد فى العلل وعيون الأخبار عن

ص: 429


1- الوسائل 288/18.
2- التعليقة 17.
3- التعليقة 63.
4- مصباح الفقاهة 215/1.

محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتبه اليه من جواب مسائله وحرم النظر الى شعور النساء المحجوبات بالأزواج و الى غيرهن من النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعوا إليه التهييج من الفساد و الدخول فيما لا يحل و لا يحمل وكذلك ما أشبه الشعور(1).

ومثل ما ورد فى الخصال باسناده عن على عليه السلام فى حديث الاريعمائة قال: لكم اول نظرة الى المرأة فلا تتبعوها نظرة اخرى واحذروا الفتنة(2).

وعليه فلايبعد دعوى حرمة مظان تهييج الشهوة.

ومنها كراهة جلوس الرجل فى مكان المرأة حتى يبرد المكان ومنها الاستدلال برجحان التستر عن نساء اهل الذمة لانهن يصفن لازواجهن و التستر عن الصى المميز الذى يصف مايرى و النهى فى الكتاب العزيز عن ان يخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض(3).

والنهى عن ان يضربن بارجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن(4) الى غير ذلك.

أورد عليه الميرزا الشيرازى قدس سره بأنها احكام تنزيهية لايثبت بها الحرمة فيما نحن فيه ولو ثبت كون مناطها فيه(5).

فتحصل ان التشبيب بالمعنى الذى عرفته حرام لانه معنون بالعناوين المحرمة ومظنة للفساد فلايجوز فعله ولا اخذ الاجرة عليه و اما التشبيب بمعنى مجرد ذكر المحاسن فلاحرمة له فيما اذا لم يترتب عليه عنوان من العناوين المحرمة فلاتغفل.

ص: 430


1- الوسائل 141/14-140.
2- نفس المصدر.
3- الاحزاب 22.
4- النور 21.
5- التعليقة: 63.

وهنا فروع:

الأول: أنه هل يكون تشبيب المخطوبة قبل العقد محرما أم لا ذهب الشيخ الاعظم قدس سره الى عدم جريان اكثر ما ذكر فى تشبيبها بل مطلق من يراد تزويجها ومقتضاه هو عدم الحرمة ولكن مع ذلك استشكل فيه بقوله و المسألة غير صافية عن الاشتباه والاشكال.

ولعل وجه الاشكال ان عدم جريان اكثر ما ذكر لا يكفى فى رفع الحرمة مع صدق بعض العناوين الاخر على ذكر محاسنها و المعاشقة معها كالمنافاة للعفاف و تهييج الشهوة.

هذا مضافا الى اطلاق كلمات الاصحاب ومجرد جواز النظر فى حال ارادة التزويج لايستلزم جواز المعاشقة و تهييج الشهوة وغيرهما خصوصا ان جواز النظر يكون فى الجملة بمقدار ما يرتفع به الغرر و يستعلم به الحال و المدعى فى التشبيب جوازه مطلقا سواء كان قبل الاستعلام وفى حاله ويعده كما افاد الميرزا الشيرازى قدس سره(1).

الثانى: أنه هل يجوز تشبيب الزوجة أم لا ظاهر تقييد موضوع التشبيب الحرام بالمرأة الغير المحللة هو الجواز و يؤيده المحكى عن المبسوط وجماعة من الجواز بزيادة الكراهة.

ويمكن التفصيل بين ما اذا كان ذلك بين الزوج و الزوجة من دون اطلاع احد

ص: 431


1- نفس المصدر.

عليه فلا ريب فى جوازه لعدم انطباق العناوين المحرمة عليه بل لاوجه لكراهته، هذا مضافا الى ما عرفته من انه ليس بتشبيب لغة لعدم الاشهار والاستهتار المأخوذين فيه، و بينما اذا كان ذلك فى مرأى غيرهما فالوجه هو عدم الجواز اذا انطبق عليه بعض العناوين المحرمة.

قال السيد قدس سره: لو كان الوجه تهييج الشهوة لزم حرمة التشبيب بالحليلة ايضا اذا كان هناك اجنى يسمع.

ولعل مراد من جوز ذلك هو ما اذا كان مجرد ذكر المحاسن لا المعاشقة ولكن ذلك لايختص بالزوجة بل يجوز فى غيرها أيضاً فتأمّل.

الثالث: أنه هل يجوز تشبيب المرأة المبهمة بان يتخيل امرأة و يتشبب بها.

قال الشيخ الاعظم قدس سره: وظاهر الكل جوازه انتهى و هو كذلك لتقييد الموضوع بالمرأة المعينة ولكنه مشكل لعدم مدخلية المعروفية فى انطباق بعض العناوين المحرمة كتهييج الشهوة والاغراء الى الفساد و اللهو و الباطل و الفحشاء و المنافاة للعفاف نعم لا ايذاء ولا هتك اللهم الا ان يقال ان ابهام المرأة يوجب عدم ملازمة تشبيبها مع العناونين المذكورة فيمكن ان ينفك عنها فالاولى هو القول بالحرمة فيما اذا استلزم العناوين المذكورة و لو بعضها.

ومما ذكر يظهر حكم غير التشبيب من الكتب واشرطة التسجيل و الأفلام التى تصدق عليها التهييج والاغراء الى الفساد وغير ذلك من العناوين المحرمة فانها محرمة ولو لم تكن موردها مرأة معينة فلايجوز فعلها و لا بيعها مع كونها منشأ للفساد والفحشاء فلا تغفل.

الرابع: اذا شبب بامرأة معينة عند من لم يعرفها ذهب المحقق الكركى الى

ص: 432

الحرمة فيما اذا علم السامع اجمالا ان القائل قصد معينة.

واستشكل فيه شيخنا الاعظم قدس سره من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحريم وكذا اذا لم يكن هنا سامع.

وفيه انه لو كان الوجه فى حرمة التشبيب هو اللهو والالتهاء و الفحشاء وعدم العفاف فهذه العناوين صادقة على التشبيب المذكور من دون دخل لاحتمال مدخلية معروفيته عند السامع. كما افاده فى بلغة الطالب(1) بل يصدق الهتك فى بعض الفروض.

نعم لو لم يكن هنا سامع لايصدق الهتك بل لايصدق التشبيب اللغوى كما عرفت.

الخامس: ان الظاهر من بعض العبائر هو تقييد الموضوع بالمؤمنة وعلل بعدم احترام غير المؤمنة ذهب فى جامع المقاصد الى حرمة تشبيب نساء اهل الذمة فضلا عن نساء اهل الخلاف و استدل بفحوى حرمة النظر اليهن واستشكل الشيخ الاعظم قدس سره فيه بالنقض فان النظر الى نساء اهل الحرب ايضاً محرم مع ان المحقق جوز التشبيب بهن و المسألة مشكلة من جهة الاشتباه فى مدرك اصل الحكم انتهى ولا يخفى عليك ان المدرك ان كان هو الهتك والايذاء فهو بالنسبة الى نساء اهل الحرب غير جار اذ لا حرمة لهن واما بالنسبة الى اهل الذمة أو أهل المعاهدة فان كن آبيات عن ذلك فمقتضى عقد الذمة و المعاهدة هو مراعاة حقوقهن فلايجوز التعرض بالنسبة اليهن و الّا فلا حرمة لهن واما ان كان المدرك هو الفحشاء و المنافاة للعفّة و اللهو و التهييج ونحوه فهى صادقة ولو بالنسبة الى اهل الحرب فلاوجه

ص: 433


1- 89/1.

للتقييد بالايمان، فتأمّل.

السادس: انه لو علم اجمالا بالمرأة المشبب بها قال المحقق الايروانى لامجال للتوقف فى حرمة ذلك مع حصر الاطراف فان الوجوه المقتضية للمنع آتية هناك بل تسرى فى جميع اطراف الشبهة(1).

ومعلوم ان تشبيب المحصورة يوجب هتك الأزيد من نفر واحد والاغراء الى الازيد وهكذا فالحرمة فى هذه الصورة تصير اشد و اكثر.

السابع: ان ذكر محاسن الكريمات من آل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم واظهار الحب لهن خارج عن التشبيب اللغوى و العرفى ويكون من الممدوحات و الشعائر الاسلامية.

وهكذا تشبيب المرأة المبهمة ان اريد به المعانى العرفانية فان العناوين المحرمة غير صادقة عليه كما لا يخفى.

الثامن: لو اراد من ذكرها مجرد ان فى خلقه وخلقه بدائع معجبة وانه فى المرتبة الغاية من الحسن و المحبوبية وفى حركاتها جذابية الى النهاية من دون المعاشقة معها فلايصدق عليه الفحش و مخالفة العفاف الواجب ولا الهتك ولا الافتضاح ولا الباطل اذا كان له غرض عقلائى فى ذلك هذا مضافا الى انه ليس بتشبيب لغوى وعرفى وعليه فلاوجه للحرمة.

التاسع: ان التشبيب بالغلام محرم كما صرح به شيخنا الاعظم و حكى عن الشهيدين و المحقق الثانى وكاشف اللثام معللا بانه فحش فيشمل على الاغراء

ص: 434


1- التعليقة 20.

بالقبيح ولكن عن المفاتيح للفيض الكاشانى ان فى اطلاق الحكم نظرا.

وفيه ان المراد من التشبيب هو ذكر محاسنه و المعاشقة معه كما مر فى تشبيب المرأة فليس المقصود مجرد ذكر محاسنه حتى يرد عليه بانه باطلاقه لايصلح للحرمة ومما ذكريظهر ما فى تعليقة السيد قدس سره حيث منع من كونه فحشاء مطلقا نعم لو كان التشبيب باظهار التعشق به فهو حرام لما عرفت من ان المراد من التشبيب هو اظهار التعشق.

والعجب من مصباح الفقاهة حيث قال التشبيب بالغلام ان كان داخلا فى عنوان تمنّى الحرام فلا ريب فى حرمته لكونه جرأة على حرمات المولى والاّ فلاوجه لحرمته فضلا عن كونه حراما على كل حال بل ربما يكون التشبيب به مطلوبا ولذا يجوز مدح الابطال و الشجعان ومدح الشبان بتشبيههم بالقمر و النجوم ولاشبهة فى صدق التشبيب عليه لغة وعرفا(1).

و قد مر معناه اللغوى و هو ما يكون فيه التصابى والاستهتار و المعاشقة و يؤيده كلمات الاصحاب حيث استدلوا على حرمته بالعناوين المحرمة اذ مجرد المدح والتوصيف لايكون محرما ولعل منشأ توهم صدق التشبيب على مدح الابطال والشجعان هوكلام اقرب الموارد حيث اكتفى فيه بذكر المحاسن ووصفها ولكن عرفت تحقيق ذلك فراجع.

العاشر: ان استماع التشبيب محرم كما فى بلغة الطالب فيما اذا استلزم بالنسبة الى الستمع ايضا عنوانا من العناوين المحرمة واما مع عدمه فلاوجه

ص: 435


1- 220/1.

للحرمة(1).

واستدل المحقق الايروانى على حرمة الاستماع مطلقا بان التشبيب من دون مستمع لا يحرم فيكون الوجوه القاضية بالتحريم قاضية بحرمة عنوان منطبق على المركب من القول و السماع فكان كل منهما دخيلا فى تحقق الحرام فيحرم كل منهما فى عرض الاخر بلاترتب لحرمة السماع على حرمة القول كما فى الغيبة(2).

يمكن ان يقال ان التقيد بالسماع دخيل فى انطباق العناوين على القول لانفس السماع لان التقيد داخل فى المركب دون نفس القيد وعليه فلامانع من القول بحرمة التشبيب المتقوم بالسماع دون نفس السماع ما لم ينطبق عليه عنوان من العناوين المحرمة اللهم الا أن يقال ان صدق العناوين على التشبيب المتقوم بالسماع يلازم صدقها على نفس السماع ايضا فتأمّل.

الحادى عشر: ان تشبيب المرأة للرجل وان كان خارجاً عن معنى اللغوى للتشبيب ولكن محكوم بحكم تشبيب الرجل للمرأة بعد كونه معنوناً بالعناوين المحرّمة.

ص: 436


1- 89/1.
2- التعليقة 20.

الفهرس

الاستبعادات 7

خلاصة الكلام 8

تنبيهات 10

التنبيه الأول: ان التغرير و التسبيب لامورد لهما فى المقام 10

التنبيه الثانى: الراد من حرمة البيع فى المقام هل هو الحرمة التكليفية أو الوضعية ؟ 10

القسم الثالث من النوع الثانى: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً 20

بيع السلاح من أعداء الدين 20

مطلقات المنع 21

ببع غير السلاح من الادوات الاخرى 31

الفروع: 34

النوع الثالث: الاكتساب بما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء 44

الفروع 63

النوع الرابع: ما بحرم الاكتساب به لكونه عملاً محرماً فى نفسه 71

المسألة الاولى: التأمين 77

القسم الأول فى عدة مقامات:

المقام الأول: فى حقيقة التأمين 77

المقام الثانى: فى أنواع التأمين، 81

ص: 437

المقام الثالث: فى أركان عقد التأمين و شروطه 85

أركان عقد التأمين 85

شروط عقد التأمين 86

شرائط العامّة 87

المقام الرابع: فى لزوم عقد التأمين 90

المقام الخامس: فى الموانع 98

المقام السادس: فى ادراج التأمين فى المعاملات المتعارفة 115

احداها: الهبة بشرط التدارك أو الهبة المعوضة 115

ثانيتها: الصلح بشرط تحمل الخسارة 119

ثالثتها: الضمان العقدى 122

رابعتها: الجعالة 125

المقام السابع: فى أحكام عقد التأمين 127

المسألة الثانية: فى التجسّس و التفتيش 149

المقام الأول: فى معناه 149

المقام الثانى: فى اختلاف موارد التجسّس 153

المقام الثالث: فى حكم الاقساط المذكورة 154

المقام الرابع: فى أهميّة حفظ النظام 162

المقام الخامس: فى اتّخاذ العيون أو الاقدام على التجسّس 168

المقام السادس: فى النقباء و العرفاء 183

المقام السابع: الترغيبات العامّة 185

المقام الثامن: فى دائرة التجسّس 189

المقام التاسع: فى ارتكاب مقدّمات الحرام لغرض التجسّس 193

المقام العاشر: فى اختيارات العيون ودائرة عملهم 196

المقام الحادى عشر: فى مواصفات العيون 201

ص: 438

المقام الثانى عشر: فى كيفية الإخبار 203

المقام الثالث عشر: فى استخبار المسلم للاعداء 205

المقام الرابع عشر: فى الجاسوس الكافر الغير الذمّى ومن يلحق به 209

المقام الخامس عشر: فى الجاسوس الذمّى 212

المقام السادس عشر: فى اعطاء الامان للجاسوس 216

المقام السابع عشر: فى تبادل الاطلاعات 218

المقام الثامن عشر: فى الضمان 220

المقام التاسع عشر: امداد العيون واعانتهم 229

المقام العشرون: المحافظة على المستندات الاطلاعاتية 230

المقام الواحد و العشرون: فى اخذ الاعترافات 231

المقام الثانى و العشرون: فى كتمان الاسرار 232

المقام الثالث و العشرون: فى سرقة المستندات والاطلاعات من الكفار 2330

المقام الرابع و العشرون: فى نشر المستندات الاطلاعاتية وافشائها 234

المسألة الثالثة: تحديد النسل و التعقيم 235

المقام الأول: ان التناسل و التكاثر فى الأولاد مطلوب فى نفسه 235

المقام الثانى: استحباب التوالد و التناسل لا وجوبهما 245

المقام الثالث: الممانعة عن انعقاد النطفة

المقام الرابع: فى تعقيم المرأه أو الرجل 248

المقام الخامس: الاقدام على إعدام النطفة المنعقدة 258

المقام السادس: اسقاط الجنين 260

المقام السابع: فى فروع الحمل والاسقاط 263

المقام الثامن: فى أحكام الدية 273

المقام التاسع: فى أحكام قتل ولد الحامل 281

القام العاشر: فى ولاية الحاكم الاسلامى 284

ص: 439

المسأله الرابعة: تدليس الماشطة 285

المسألة الخامسة: الترقيع 301

ادلة المانعين 301

ادلة المجوّزين 326

الفروع 328

المسألة السادسة: تزيين الرجل بما يحرم عليه 393

المسألة السابعة: تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس 397

ادلة الحرمة 397

ادلة الكراهة و مناقشتها 403

اعتبار القصد فى التشبّه 404

الخلاصة 405

الفروع 406

المسألة الثامنة: التشبّه بالكفّار و التبعية لهم 411

ماورد فى التكفير 412

ما ورد فى تغيير الشيب 415

ما ورد فى كنس الافنية 416

ما ورد فى عدم اطالة اللحية 417

ماورد فى الألبسة و الأطعمة 418

ماورد فى كراهة الاتّزار و التوشّح 420

ماورد فى الاكل عند أهل المصيبة 421

ماورد فى التصليب 421

فروع، 422

المسألة التاسعة: التشبيب بالمرأة المعينة المؤمنة المحترمة 423

فروع 431

ص: 440

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.