الماديّة مُقَارَبَةٌ نَقْدِيَّةٌ فِي الْبِنْيَةِ والمَنْهَج
العتبة العباسية المقدسة
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
سلسلة مصطلحات معاصرة 16
الماديّة
مُقَارَبَةٌ نَقْدِيَةٌ فِي الْبِنْيَةِ و المَنْهَج
نبيل علي صالح
الكتاب: الماديّة: مُقَارَبَةٌ نَقْدِيَةٌ فِي الْبِنْيَةِ و المَنْهَج
تأليف: نبيل علي صالح
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
العتبة العباسية المقدسة
الطبعة: الأولى 2018م - 1439ه
محرر الرقمي: محمد رضا پيش بين
ص: 1
بسم الله الرّحمن الرّحیم
ص: 2
هويّة الكتاب
الكتاب: الماديّة: مُقَارَبَةٌ نَقْدِيَةٌ فِي الْبِنْيَةِ و المَنْهَج
تأليف: نبيل علي صالح
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
العتبة العباسية المقدسة
الطبعة: الأولى 2018م - 1439ه
ص: 3
ص: 4
مقدمة المركز ... 7
أوّلاً _ مقدّمة البحث ... 9
الفصل الأول: معنى المصطلح و دلالات المفهوم ... 11
الجذر اللغويّ ... 12
2. التعريف الاصطلاحيّ ... 17
3. امتداد مصطلح «الماديّة» و تجلّياته عبر التاريخ ... 22
سيرورة التفكير الطبيعيّ (المادّي) عند اليونانيّين القدماء: ... 24
الفصل الثاني: التطور التاريخي للفكر المادي ... 27
الماديّة (الفكر الماديّ) في العصر الحديث: .... 35
أسبابُ (و ظروف) نشوء «الماديّة»، و أهمّ المنظّرين لها ... 43
القسم الأول _ أسباب فكريّة بدوافع دينيّة: ... 46
القسم الثاني _ أسباب موضوعيّة بدوافع معرفيّة (استطلاعيّة): ... 49
الفصل الثالث: أهمّ المنظِّرين للمادّة و الفلسفة المادّيّة ... 53
1- طاليس (624-546) ق.م: ... 55
2- هيراقليطيس (540- 480) ق.م: ... 56
3- أنكساغوراس (500-428) ق.م: ... 57
4- ديموقريطس «ديمقريطس» (460-370)ق.م: ... 58
5- أبيقور «إبيقور» (341-270) ق.م: ... 59
6- فرانسيس بيكون (1561-1626) م: ... 61
ص: 5
7- باروخ أو بنديكت سبينورزا (1632-1677) م: ... 62
8- تشارلز روبرت داروين (1809-1882) م: ... 63
9- جون ستيوارت میل (1803-1873)م: ... 65
10- لودفيغ فيورباخ (1804-1872) م: ... 67
12- نيتشه (1844-1900) م: ... 72
13- برتراند رسل (1872-1970) م: ... 74
14- أنطونيو غرامشي (1897-1937) م: ... 75
15- جان بول سارتر (1905-1980) م: ... 76
16- ألبير كامو (1913-1960) م: ... 78
17- هيلاري بُوتنام (1926-2016) م: ... 79
18- شبلي شميل (1850-1917) م: ... 80
19- حسين مروة (1908-1987) م: ... 82
20- مهدي عامل (1936-1987) م: ... 84
21- الياس مرقص (1924-2004) م: ... 86
الفصل الرابع: المادية و العقل (ماهية الإدراك العقلي) ... 93
تعريف العقل في المعجم الوسيط: ... 96
الاتّجاهات المعاصرة للماديّة العلميّة ... 112
برهان حدوث المادّة: ... 139
خاتمة البحث: ... 148
قائمة بأهم مراجع الدراسة ... 154
ص: 6
تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، و تهدف الى درس و تأصيل و نقد مفاهيم شكلت و لما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.
وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات و المفاهيم الأكثر حضوراً و تداولاً و تأثيراً في العلوم الإنسانية، و لا سيما في حقول الفلسفة، و علم الإجتماع، و الفكر السياسي، و فلسفة الدين و الاقتصاد و تاريخ الحضارات.
أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:
أولاً: الوعي بالمفاهيم و أهميتها المركزية في تشكيل و تنمية المعارف و العلوم الإنسانية و إدراك مبانيها و غاياتها، و بالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، و التعرف على النظريات و المناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.
ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات و المفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما و أن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم و الوقوف على مقاصدها الحقيقية.
ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق و الغرب، و ما يترتب على هذا التوظيف من آثار
ص: 7
سلبية بفعل العولمة الثقافية و القيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية و الإسلامية و خصوصاً في الحقبة المعاصرة.
رابعاً: رفد المعاهد الجامعية و مراكز الأبحاث و المنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم و معناه و دلالاته الإصطلاحية، و مجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته و ارتباطه بالعلوم و المعارف الأخرى. و انطلاقاً من البعد العلمي و المنهجي و التحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين و الباحثين و المفكرين من العالمين العربي و الإسلامي.
* * *
تتناول هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة (مصطلحات معاصرة) مصطلح المادية Materialism في معناها اللغوي و الاصطلاحي و كذلك في دلالاتها الأنطولوجية و ظهوراتها التاريخية. و هو ما عبّرت عنه المذاهب الفكرية و المدارس الفلسفية و التيارات
السياسية التي ظهرت في الغرب ابتداءً من القرن التاسع عشر و حتى منتصف القرن العشرين و منها على وجه الخصوص ما عبّرت عنه الماركسية على المستويين النظري و التطبيقي.
و الله ولي التوفيق
ص: 8
«المادّة» أو «المادّيّة» أو «الأيديولوجيا الماديّة»، ثلاثة أسماء أو ثلاث كلمات تدلّ على معنىً فكريّ واحد، تتّفق في العمق المعياريّ العامّ، و مضمون المعرفة الذاتيّة، و تختلف بالتّطبيقات العمليّة و منهجيّة البحث التحليليّ على صعيد الوعي البشريّ و تمثّلات قناعاته الماديّة في العلم و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع البشريّ.
يقوم التفكيرُ المادّيّ أو «الفكر الأيديولوجيّ الماديّ» على قاعدة اعتبار «الحسّ» و «العيان» (المشاهدة بالعين و الإدراك بالحواسّ العضويّة المعروفة) أساس المعرفة البشريّة، بل وجوهرها الذاتي. و يعتبر (أتباع هذا الفكر الماديّ) أنّها (أي المعرفة) لا تُقوّم إلّا بالبيانات (و الأرقام) الماديّة، و المثيرات الحسّيّة و الشواهد التجريبيّة لإبراز وجهة نظر أو رأي ما حول أيّة ظاهرة فرديّة أو عامّة، ودعم اتّجاه أو سلوك ماديّ خالص.
و التفكيرُ المادّيّ قديمٌ قدم وجود الإنسان في الحياة، نشأ مع البذور الأولى للتفكير البشريّ.. أي منذ إنّ بدأ الإنسان ينظر بعينه، و يعاين بحواسّه، و يتأمّل ذاته و محيطه و كونه القريب و البعيد بعقله و مختلف الأدوات الماديّة التي توافرت له، اكتشافاً أو صنعاً و اختراعاً. لكنّ تمنطقه اللغويّ و البيانيّ بأفكار عقلية و معادلات فكريّة تحليليّة تعكس طبيعة (و آليّة) معاينته لواقعه الخارجيّ المرئيّ المحسوس..
ص: 9
أقول: هذا التمنطق البيانيّ تأخّر إلى زمن لاحق، أي حتّى ظهر مفكّرون و فلاسفة «ماديّون» في مختلف الحضارات البشريّة، خرجوا عن السّائد النمطيّ، و اعتقدوا بأنَّ ما لا نراه ليس موجوداً، و أنّ الموجود هو مُعايَنٌ و مقاس بأبعاد و أحجام و معايير ماديّة.
في هذه الورقة حول فكرة «الماديّة» _ التي تطوّرت لتصبح فلسفة و أيديولوجيا و مشروعاً سياسيّاً قامت عليه دول و حلف عسكريّ كبير ضمّ مجموعة بلدان تلوّنت بلون الفكرة الماديّة ذاتها _ سنحاول إيجاد قاعدة بيانات نظريّة معياريّة، حول معنى مصطلح «الماديّة» و تاريخ نشوئها، و أهمّ رموزها و شخصيّاتها، و خلفيّاتها العقليّة و العلميّة، مع مقاربة نقديّة لطروحاتها المفاهيميّة، بما يجعل منها (من هذه الورقة) مرجعيّة فكريّة في ذاكرتنا المعرفيّة، يمكن استعادتها، وتحديثها، و الإضافة إليها.
ص: 10
ص: 11
-معنی كلمة «ماديّ» في معاجم اللغة العربيّة:
كلمة ماديّ هي فاعل من «مدى». و جمعها: مادّات و موادُّ.
و أُصُولُ اشْتَقَاقِهَا:
مَدَدَ: هِيَ مادّةُ المداخل، مدّ، مَدَّدَ، مَدٌّ، مَدِيدٌ، مَمْدُودٌ، اِسْتَمَدَّ.. إلخ ..
-ماد: فاعل من مدَى.
مادّ: فاعل من مَدَّ.
و المادَّة: كلّ شيء يكون مَدَداً لغيره. و يقال: دعْ في الضَّرْع مادَّة اللبن، فالمتروك في الضرع هو الداعِيَةُ، و ما اجتمع إليه فهو المادَّة، و الأعْرابُ مادَّةُ الإسلام. و قال الفرّاءُ في قوله عزّ و جلّ: و البحر يَمُدُّه من بعده سبعة أَبحر؛ قال تكون مداداً كالمداد الذي يُكتب به. و الشيء إذا مدَّ الشيء فكان زيادة فيه، فهو يَمُدُّه؛ تقول: دِجْلَةُ تَمُدُّ تَيَّارنا و أنهارنا، و الله يَمُدُّنا بها. و تقول: قد أَمْدَدْتُك بأَلف فَمُدَّ. و لا يقاس على هذا كلّ ما ورد. و مَدَدْنا القومَ: صِرْنا لهم أَنصاراً و مدَدَاً و أَمْدَدْناهم بغيرنا. و حكى اللحيانيّ: أَمَدَّ الأمير جنده بالحبل و الرجال و أَغاثهم، و أمَدَّهم بمال كثير و أَغاثهم. قال: و قال بعضهم أَعطاهم، و الأوّل أَكثر. و في التنزيل العزيز: و أَمْدَدْناهم بأَموال و بنين. و المَدَدُ: ما مدَّهم به أو أَمَدَّهم؛ سيبويه، و الجمع أَمْداد، قال: و لم يجاوزوا به هذا البناء، و استَمدَّه: طلَبَ منه مَدَداً. و المَدَدُ: العساكرُ التي تُلحَق بالمَغازي في سبيل الله (1)
ص: 12
و المادّة بحسب أحدِ التّعريفات المعجميّة: هي كلّ جسْم له وَزن و امْتداد يَشْغَل حَيّزاً من الفَراغ، يَقبل التَّقسيم و يتّخذ أَشْكالاً مُخْتلفَة.
و مادَّةُ الشَّيْء هي أُصولُهُ و عناصرُه التي منها يتكوَّن، حسِّيَّةً كانت أو معنويّة، كمادَّة الخشب، و مادَّة البحث العلميّ.
و كلمة «ماديّ» هي اسم مفرد منسوب إلى مادّة و مادِّيَّة، و هو مقابل للروحيّ أو المعنويّ (غير المرئيّ بالوسائل الماديّة المعروفة). و غير المادِّيّ: بلا جسد أو جسم أو شكل أو أبعاد.. و يقال عن شخص ما إنّه ماديّ، في حال كونه مُتَشَبِّعاً بمَا هُوَ مَلْمُوسٌ و مَحسُوس و محسوب (1).
-في المعنى الاصطلاحيّ لكلمة «مادّة» أو «ماديّ»:
المعنى المصطلح عليه الصحيح لكلمة «الماديّة» هو كلّ ما اتّفقَ عليه المفكّرون و العلماء من آراء و طروحات تخصّ هذا المعنى «معنى المادّة» من أجل بناء معايير فكريّة عقليّة مشتقّة منها. و المعنى الاصطلاحيّ للمادّة هو تلك النظرة الحسّيّة إلى العالم بما فيه من مكوّنات و مخلوقات و موجودات. أو هي الطريقة (method) في فهم ظواهر هذه الحياة و الطبيعة المتنوّعة الهائلة القائمة، و إدراكها اعتماداً على مبادىء محدّدة مضبوطة، علميّاً و موضوعيّاً. و كذلك هي الطريقة لفهم كلّ ما يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة و الأنشطة الاقتصاديّة و النتائج العمليّة للفرد البشريّ في سياق تفاعله مع الحياة و المحيط الذاتيّ و الموضوعيّ. و تصحّ هذه النظرة (الماديّة) إلى العالم في جميع الظروف و الأحوال و المواقع، ما دامت تأخذ
ص: 13
بالمحدّدات الماديّة التي صيّرها أصحابها فلسفة ماديّة قائمة بذاتها. فهي أساس عدد من العلوم ذات الصلة بالفرد البشريّ. و هي بهذا تكون تفسيراً عامّاً للعالم، و نظرةً معرفيّة إليه كما هو، يجعل للأعمال العالميّة أساساً متيناً. و لهذا فهي تكون نظريّة. و موضوع هذا الدرس هو تحديد أساس النظريّة الماديّة (1).
و بشكل أكثر تحديداً، تعدّ المادّة _ من حيث هذا المعنى المحسوس _ من من مصطلحات علم الفيزياء و كذلك علم الكيمياء. و تعرَّفُ بأنّها كلّ ما له كتلة (أي يمكن وَزْنها مهما كانت خفيفة)، و يشكّل حجماً في الفراغ يمكن رصده (الحجم المرصود بمعنى له طول و عرض و ارتفاع و عمق)، يَقبل التَّقْسيم، و يتّخذ أشكالاً متعدّدة و متنوّعة مُخْتلفَة.
و هذا التعريف المدرسيّ (إذا صحّ التعبير)، كانَ مقبولاً قبولاً عامّاً في الفيزياء الكلاسيكيّة.. و عليه تكون كلّ المركّبات التي نراها في حياتنا، و كلّ العناصر المفردة هي أمثلة على المادّة. فالماء مثلاً، و هو عبارة عن مادّة سائلة، مؤلّفة من ذرّتي هيدروجين (H2) و ذرّة أوكسجين (o2) .. الماء مركّب ماديّ .. و الذهب أيضاً (عنصر صلب) هو أيضاً مادّة.
إنّ المادّة التي تكوّن عالمنا مصنوعة بشكل أساسيّ من جسيمات تدعى كواركات quarks يرتبط بعضها ببعض بجسيمات غرويّة، و هي المسمّاة تسمية مناسبة گليونات gluons، و قام الفيزيائيون بخطوات واسعة لفهم عمل الكواركات و الگليونات، لكنّ بقيت
ص: 14
بضعة ألغاز محيّرة تحتاج إلى حلّ. و تاريخيّاً اعتقد الإغريق القدامى إنّ الذرّات هي أصغر مكوّنات المادّة في الكون. ولكن في القرن العشرين تمكّن العلماء من تجزئة و فلق الذرّة، منتجين مكوّنات أصغر بكثير:
بروتونات protons و نترونات neutrons و إلكترونات electrons. و بعد ذلك تبيّن إنّ البروتونات و النترونات بدورها تتألّف من جسيمات أصغر عرفت بالكواركات quarks، المرتبطة بعضها ببعض بواسطة جسيمات «لاصقة»، سمّيت على نحو ملائم، گليونات. و هذه الجسيمات، كما نعرفها في الوقت الراهن، هي جسيمات أساسيّة حقيقةً؛ ولكن حتّى هذا التصوّر، فقد تبيّن أنّه غير مكتمل. و كشفت الطرائق التجريبيّة التي تنظر في أعماق البروتونات و النترونات عن أوركسترا سمفونيّة مخبّأة فيها تماما؛ إذ يتكوّن كلّ جسيم منها من ثلاثة كواركات و أعداد متغيّرة من الگليونات، إضافة إلى ما يسمّى بحراً من الكواركات، التي هي أزواج من الكواركات يصاحبها شركاؤها من المادّة المضادّة، هي الكواركات المضادّة، التي تظهر و تختفي باستمرار. و ليست البروتونات و النترونات الجسيمات الوحيدة المكوّنة من الكواركات في الكون، فقد استحدثت تجارب المسرّعات خلال نصف القرن المنصرم حشداً من جسيمات أخرى تحتوي على كواركات و كواركات مضادّة تسمّى معاً، إضافة إلى البروتونات و النترونات هادرونات hadrons
(1).
و المادّة يُمكن أن تكون في حالات مختلفة تحدّد هيئتها
ص: 15
و مظهرها، و حالات المادّة الطبيعيّة هي بشكل رئيسيّ أربعة أشكال أو أطوار، هي: الشكل الصلب، و السائل و الغازيّ و البلازما..
و هذا ينطبق على موادّ مثل الماء و الحديد و الزئبق و الرصاص و ثاني أكسيد الكربون و الأمونيا و غيرها من الموادّ و العناصر الطبيعيّة. في حين أنّه توجد بعض الحالات التي أُنتجت مخبريّاً و لا توجد طبيعيّاً، مثل الأمصال، و الموادّ المركّبة الطبيّة و غيرها. و إضافة إلى هذا، توجد بعض الحالات الطبيعيّة، و التي لا توجد إلّا في أماكن خاصّة، مثل نوى النجوم النيوترونيّة التي تكون المادّة فيها مسحوقة و شبه متلاشية بسبب الكثافة الشديدة للنجم، و هذه تشكّل حالة (أو هيئة أو تمظهر) جديد من المادّة (1).
..إذاً، يدور المعنى المصطلح عليه للمادّة _ في أحد تعابيره و معاييره و هو هنا المعيار العلميّ _ حول بنيتها الذاتيّة المعيَّرة و المحدّدة بأبعاد، و المُشَاهدة بآثارها و نتائجها كما قلنا. و أمّا الفكر المادّيّ فهو الفكر القائل بأنّ المادّة (ذات البنية المعياريّة المرئيّة و المحسوسة و القابلة للشهود العيانيّ) هي وحدها أساس الوجود و الكون و الحياة كلّه. و أنّ الفكر الماديّ له الدور و القيمة الأكبر للحصول على الثروة و موادّ الاستهلاك، مع إغفال للقيم الروحيّة و المبادئ الأخلاقيّة التي هي انعكاس للقاعدة الماديّة كما يزعم أتباع هذا الفكر.
و يطلق على مجموعة المحدّدات و المعايير الموضوعيّة (المحسوسة) «العقيدة الماديّة» أو مذهب «أصالة المادّة»، و هي
ص: 16
تعني الاعتقاد بالواقع الموضوعيّ الخارجيّ المرئيّ بأبعاده المقاسة و المحدّدة، في قبال النظرة (المثاليّة) لها كأمر ذهنيّ عرضيّ اعتباريّ غير عيانيّ، يقوم على إنكار أو رفض أن يكون للمادّة أيّ واقع خارجيّ عيانيّ، بل تعتبرها من مخترعات الذّهن و خيالاته و أوهامه.. و وفقاً لهذا المصطلح اجتمع الإلهيّون (من مسلمين أو غير المسلمين) مع الماديّين، إذ يؤمن جميعهم بأنّ الأصالة للمادّة، أي إنّ للمادّة واقعاً حقيقيّاً موضوعيّاً محدداً بزمان و مكان، و أنّها حقيقة عينيّة غير ذهنيّة، و ذات آثار محسوسة مشَاهدة، لكن يفترق الإلهيّون عن الماديّين في أنّ هذا الاعتقاد لا ينافي الاعتقاد بالله و الإيمان بالتوحيد، بل يكون (عالم الطبيعة) هو أفضل سبيل لمعرفة الله، و القرآن الكريم يعتبر الحوادث الماديّة آيات باهرة تقود للتعرفّ إلى الله تعالى.. و قد تستعمل كلمة الماديّة (و يراد بها) إنكار الوجود اللاماديّ، و حصر الوجود في العالم الماديّ، و القول إنّه لا وجود في الكون إلّا هو محكوم بقوانين المادّة و واقع في إطار الزمان و المكان و الحسّ البشريّ و ما عدا ذلك وهم (1).
الماديّة، اصطلاحاً، هي توجّه فكريّ و نزعة فلسفيّة، لم تتبلور في الفكر الفلسفيّ الغربيّ _ كتيار معرفيّ فلسفيّ رصين و معياريّ _ إلّا في مراحل زمنّية متأخّرة، بعد تراكمات فكريّة و إرهاصات فلسفيّة منذ أيام التراث اليونانيّ حتى نهضة أوروبا الحديثة خلال القرن السابع عشر.
و قد بلغت هذه الفلسفة ذروة تبلورها كنظريّة معرفيّة، في
ص: 17
الفلسفة الماركسيّة أو النزعة الفلسفيّة الماركسيّة التي صاغها كلّ من كارل ماركس و فريدريك (فريدرش) أنجلز الذي كان يرى أنّ «النظرة الماديّة للعالم هي النظرة للطبيعة كما هي، بدون أية إضافة خارجية» (1). أي إنّ المادية Materialism _ و هي ككلمة منسوبة للمادّة _ هي مقولة و نظرة فلسفيّة تعني الواقع العينيّ الموضوعيّ الذي يوجد مستقلّاً و منعكساً فيه (2).
و هكذا يعتبر أتباع هذا النهج أنّ الشيء الوحيد الذي يمكن القول بوجوده في الجوهر هو المادّة، و لا شيء سواها. فالمادّة الحقيقة المطلقة، و ما عداها عرضي ثانويّ، ناتج منها، و خارج من رحمها. فالأصالة للمادّة، و هي التي تحدّد مدارك الوعي و قنواته النظريّة في فهم الوجود الخاصّ و العامّ. بالتالي يتطوّر الوعي بتطوّر المادّة المحيطة بالإنسان. و هذا الوعي لا يُمكن تفسيره إلّا عن طريق التّغيّرات الفيزيوكيميائيّة في الجهاز العصبيّ للإنسان، و أمّا التفسيرات النفسيّة و الأخلاقيّة و غيرها من العوارض الروحيّة فهي _ بحسب أتباع هذه الفلسفة _ مجرّد أمور خياليّة، لا وجود لها، حيث لا أساس لها في البعد العضويّ الماديّ.
و أمّا الفلسفة الماديّة الماركسيّة التي تبلورت كأعلى مراحل الماديّة الفلسفيّة، فهي _ كما جاء في نصوص آبائها المؤسّسين _ (3) العلم الذي يقوم بدراسة القوانين الماديّة لتطوّر الطبيعة و المجتمع،
ص: 18
و هي العلم الذي يدرس ثورة الطبقات المضطَهدة المستغَلة، كما أنّها العلم الذي يصف لنا انتصار الاشتراكيّة في جميع البلدان، و أخيراً هي العلم الذي يعلّمنا بناء المجتمع الشيوعيّ (1).
و يمكن التمييز _ لدى أتباع المنهج الماديّ الماركسيّ _ بين نوعين أو شكلين من الماديّة، هما الماديّة الديالكتيكيّة و الماديّة التاريخيّة.
فالماديّة الديالكتيكيّة (الجدليّة) هي النّظرة العالميّة للحزب الماديّ الماركسيّ اللينينيّ، و توصف بأنّها ديالكتيكيّة (جدليّة) لأنّ نهجها للظواهر الطبيعيّة، و أسلوبها في دراسة هذه الظواهر، و تفهّمها هو أمر ديالكتيكيّ (جدليّ= صراعيّ)، بينما تفسيرها للظواهر الطبيعيّة، و فكرتها عن هذه الظواهر، يقوم على بعد و نظريّة ماديّة (2).
أوجد هذا الاتّجاه من الماديّة، و أعطاه معايير و انتظامات فكريّة فلسفيّة، كلّ من الفيلسوفين الماديّين «كارل مارکس» و «فریدریش انجلز» اللذين استفادا من التأسيس النظريّ لديالكتيك الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ المعروف «هيجل»، و من تنظيرات الفيلسوف الألمانيّ الآخر «فيورباخ» القائلة بالمذهب الطبيعيّ الذي كان ذروة التطوّر في الماديّة الميكانيكيّة آنذاك. و عن هذا يقول ماركس: «إنّ أسلوبي الديالكتيكيّ لا يختلف عن الديالكتيك الهيغليّ و حسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحول عمليّة التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة حتّى إلى ذات مستقلّة، إنّها خالق العالم الحقيقيّ، و يجعل العالم الحقيقي مجرّد شكل خارجيّ ظواهريّ
ص: 19
للفكرة. أمّا بالنسبة إليّ، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم الماديّ الذي يعكسه الدماغ الإنسانيّ و يترجمه إلى أشكال من الفكر» (1).
و اعتمدت الماديّة في تطوّرها _ كما زعمت _ على المكتشفات و الاختراعات العلميّة التي أعقبت الثورة الصناعيّة في الغرب، لذلك تجدها من أكثر النظريّات الفلسفيّة تأييداً للعلم، و تمسُّكاً بنظريّاته و حقائقه المعروفة، لكونها (أي الفلسفة الماديّة) تعتقد بأنَّ العلم يثبت فحوى مقولاتها و آرائها الفكريّة. فالعلم (بما هو تجارب ماديّة، أي ما اكتسب بملاحظة جادّة و تجربة موضوعيّة من حقائق أو قوانين أو قواعد لسلوك الظواهر الكونيّة من حيث حدوثها و تكرارها متعلّقة بجوانبها النظريّة و العمليّة لميدان معيّن و منهج معيّن معترف به و متّفق عليه عند أهل ذلك الاختصاص) (2) يلتقي مع أصل فكرة الماديّة التي تقول بأصالة الحسّ و التجربة، و تهدف إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة و محاولة تسخيرها لنفسه، و شاركت في تجميع المعارف العلميّة المختلفة لتشكّل صورة واقعيّة للعالم الماديّ.
و المادّيّة التاريخيّة، التي هي مذهب فلسفيّ و طريقة معرفيّة في فهم التاريخ امتداد لمبادئ الماديّة الديالكتيكيّة، تُعنى بدراسة
ص: 20
الحياة الاجتماعيّة، و تطبيق مبادئ هذه الماديّة على مختلف ظواهر الاجتماع البشريّ، و دراستها و تحليلها في ضوء قوانين المادة. و تتّجه هذه الماديّةُ التاريخيّة إلى تفسير التّاريخ (كفعلٍ بشريّ في البعد الزمانيّ) برأي أو وجهة نظر أو اتّجاه فكريّ واحد يُعتبر _ بحسب نظر أصحاب هذه المدرسة _ كالمفتاح السحريّ الذي يفتح أقفال كلّ شيء في الحياة و مختلف شؤونها و فواعلها و اتّجاهاتها الاجتماعيّة و السياسيّة و الاقتصاديّة (1).
و بناءً على معطيات هذه المدرسة و أفكارها، تُدرَس الظواهر الاجتماعيّة و الإنسانيّة في ضوء ما سمّي ب«مبادئ التحليل الماركسيّ» بصورة عامّة، و «مبادئ الماديّة الجدليّة» المعنيّة بظواهر الكون و الطبيعة بصورة خاصّة، فهى تستمدُ من المادّيّة الجدليّة مبادئها في تحليل الظواهر و الوقائع الاجتماعيّة، إذ تعتمد اعتماداً أساسيّاً على المقولات الثلاث الأساسيّة المتمثّلة بأنّ عمليّات التراكم الكميّة تؤدّي إلى تغيّرات كيفيّة، و أنّ التناقض بين مكوّنات الأشياء يعد الأساس في حركتها، و ما من شيء في الطبيعة و الحياة الاجتماعيّة إلّا يحمل في مكوّناته قدراً من التناقض، ينتج صراعاً مستمرّاً بينها، و أنّ هذا الصراع بين المكوّنات يؤدّي باستمرار إلى ما يعرف ب«نفي النّفي». فكلّ مرحلة من مراحل التطوّر تنفي بالضرورة المراحل السابقة، و لا يمكن إنّ تتعايش المراحل بعضها مع بعض إلا فتراتٍ مؤقّتة توصف بالتناقض، و لا يمكن أن يكون بينها أيّ وفاق أو استقرار.
بهذا المعنى، تكونُ المادّيّة التّاريخيّة نتاج تطبيق المنطق الجدليّ (منطق الصراع و التناقض) على حركيّة التطور التاريخيّ
ص: 21
للمجتمع، حيث يرى الماركسيّون أنّ البناء الفوقيّ للمجتمع (القوانين و الأخلاق و السياسات العامّة) ناتجٌ من البناء التحتيّ (و هو هنا الأسس و العلاقات الاقتصاديّة الماديّة).. بما يعني أنّ أخلاق المجتمع تتأثّر جوهريّاً بالعلاقات الاقتصاديّة و ما فيها من تعقيدات و شؤون و إشكاليّات (بل هي نتيجة لها).. (1).
و ما ينطبقُ في التحليل الماديّ التاريخيّ على مفهوم «الوعي الاجتماعيّ»، يندرج بدوره على دراسة الشخصيّة، فالإنسان دائماً ابن زمانه و مجتمعه و طبقته، فيتحدّد جوهر الشخصيّة و يتّضح تمام الوضوح بالمجتمع الذي تعيش فيه، و كلّ تشكيلة اجتماعيّة تضع قضية العلاقة بين المجتمع و الشخصيّة على نحو مختلف و تحلّها وفق نمط معيّن... (2).
إنْ وَضعَ تحقيبٍ زمنيّ أو تحديد مراحل زمنيّة مُعَيَّرة و مضبوطة بدقّة لسيرورة «الفكرة الماديّة» أو لتطوّرات حركة «الفلسفة الماديّة» عبر التاريخ، هو بحدِّ ذاته توثيق لتطوّر الفلسفة عموماً بجميع اتّجاهاتها و مذاهبها و تياراتها. لأنّ النظرة الماديّة أو الرؤية الماديّة للأشياء رافقت ظهور الفكرة الفلسفيّة منذ بداياتها الأولى، و ارتبطت بحريّة العقل في الوصول إلى المعرفة و محاولة إدراك الحقيقة من دون مرجعيّات فوقيّة أخرى. و لأنّ التراكم الفلسفيّ أيضاً كان
ص: 22
متداخلاً بعضه ببعض عبر مسيرة التاريخ خاصّةً في بداياته الأولى، و لم تظهر هناك حدود فاصلة واضحة و قائمة بذاتها بين الماديّة و غيرها من الأفكار و الفلسفات الأخرى إلّا في زمن متأخّر .. ففي السّابق _ و قبل ظهور معالم محدّدة للفلسفة الماديّة التي تمظهرت بأعلى مراحلها و أجلاها فى الفلسفة الماركسيّة _ كان الفكر الماديّ يسمّى بالفكر الوضعيّ أو الطبيعيّ و هو الفكر الذي ينظر إلى الحياة و الإنسان نظرة طبيعيّة قائمة على التجربة و الحسّ و النظر العقليّ فحسب.. بعيداً عن أيّة تفسيرات و معانٍ و فلسفات أخرى إلهيّة ميتافيزيقيّة حتّى انتزاعيّة وضعيّة.
فقد ظهرت الفلسفة في بلدان الشّرق القديم قبل حوالى ثلاثة آلاف سنة. منذ أن بدأ الإنسان يتأمّل ذاته و الآفاق من حوله، و يتفكّر في محيطه الكونيّ و الحياتيّ. كانت معطيات وجوده الموضوعيّ الخارجيّ تثير عنده أسئلة مفتوحة لا حدود لها، لم يكن يملك إجابات عنها، مع أنّه قدّم تفسيرات و تأويلات عقليّة شتّى لمظاهر تلك الوجودات و تنوّعاتها الهائلة.
برز في الفلسفة اتّجاهان رئيسان متضادّان و متناقضان هما الماديّة و المثاليّة في معرفة العالم و الوجود، ديالكتيكيّ ماديّ وضعيّ (وضعه الإنسان بمرجعيّة العقل و التفكير العقليّ و التجربة الحسيّة) و ميتافيزيقيّ (بمرجعيّة النصّ الدينيّ المقدّس).
طبعاً هذا التقسيم و الفصل بين رؤيتين هما أساساً رؤيتان و موقفان معياريّان متناقضتان (أو على الأقلّ غير متّفقتين في أصل الفكرة و آليّات تشكُّل الوعي) في البِنية و المنهج و آليّات
ص: 23
التفكير، ربّما لا يكون (هذا التقسيم) صحيحاً من الناحية المنهجيّة و التاريخيّة بسبب التّداخل و التشابك بين الرؤى و التفسيرات التي لم تكن مؤطّرة بمدارس تفكيريّة و مناهج فلسفيّة واضحة، حيثُ إنّ لكلّ مذهب فلسفيّ أو نظريّة معرفيّة رؤيتها الخاصّة بها، التي تعالج من خلالها مختلف الظواهر الخارجيّة.
ظهرتْ في بدايات التفكير الفلسفيّ الإنسانيّ، إرهاصاتٌ و بنيات أوليّة للتفكير الطبيعيّ الماديّ، إذا صحّ التعبير. و جاءَ ظهورها في بلاد اليونان (حيثُ كانَ شعبُ اليونان من أوائل الشعوب التي أبدتْ لوناً من ألوان الاستطلاع و الكشف و إثارة الأسئلة الإشكاليّة الذاتيّة و الموضوعيّة) (1) كعناوين عامّة و عريضة دونما تنهيج موصوف بتفصيل دقيق، و اشتهرت مقولات و أفكار معرفيّة لأكثر من فيلسوف إغريقيّ حول مواضيع وجوديّة و كونيّة تخصّ قضايا تفكيريّة كالتغيّر و الثبات و الحركة و الوجود و غيرها، خالفت آراء «مثاليّة» كانت تقول بالتجرّد و الثبات كفلسفة أفلاطون و غيره، اعتُبرت _ في نظر
ص: 24
فلاسفة الحركة الطبيعيّين الماديّين _ مجرّد اعتقادات و هميّة و خرافات أسطوريّة. و برز من هؤلاء «الماديّين» كلّ من الفلاسفة «هيراقليطس»، و «ديموقريطس» (ديموقريطوس) و «أبيقور»، و «طاليس»، كأحد الحكماء الطبيعيّين (الماديّين)، ممّن أرجعوا أصل الوجود إلى عناصر ماديّة طبيعيّة.
طبعاً، هذه الفلسفة الطبيعيّة الماديّة (فلسفة التغيّر) _ التي آمنت بالمرئي، و أعادتْ كلّ شيء إلى جذره الطبيعي (أي إلى القانون الطبيعي المادي) _ كانت هي الفكرة الفلسفيّة المسيطرة قبل سقراط، أي كانت محورَ التفكير الفلسفيّ منذ بدْءِ التفلسف و ظهوره كخطّ معرفيّ ممنهج و أصيل. و قد بدأ الفلاسفة قبل سقراط بالردّ على التساؤلات التي طرحها عن أصل الكون، و تغيّر ظواهر الطبيعة من حولهم، بالملاحظة و التأمّل العقليّ المجرّد غير التجريبيّ.. فقد اتّجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات التي تتعلّق بطبيعة العالم و تغيّر ظواهر و ثباتها.
ظهر بعد ذلك الفيلسوف المجدّد سقراط (1)، مُحدِثاً ثورة كبرى، فی نطاق الفلسفة و معناها و عملها. إذ صبّ اهتمامه على الإنسان، بدل الطبيعة. فكان يقول: «أيّها الإنسان: اعرف نفسك بنفسك». و نظراً لما قدّمه و أنتجه من معارف و نظريّات منطقيّة و فلسفية حول الذات الفرديّة (الفرد البشريّ)، و وجوده الطبيعيّ، قال عنه شيشرون: «... إنّه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، و أدخلها إلى صميم
ص: 25
المدن و البيوت» (1). و معنى هذا أنّ سقراط، اهتمّ بالسياسة و الأخلاق و الاقتصاد. بدلاً من البحث في الفلك و الطبيعة، مستخدماً منهج التهكّم و التوليد، مصطنعاً الجهل أمام محاوريه، الذين يدّعون المعرفة.
أمّا أفلاطون (و هو لم يكن ماديّاً بطبيعة الحال) _ فقد أضحت الفلسفةُ عنده متمحورةً حول البحث في معنى الوجود، و لا سيّما الوجود الحقيقيّ الثابت الذي لا يتغيّر، مستخدماً منهج الحوار السّقراطيّ. تميِّز الميتافيزياء الأفلاطونيّة بين عالمين: العالم الأول، أو العالم المحسوس، هو عالم التعدّدية، عالم الصيرورة و الفساد.. و هكذا ظهر في العصر اليونانيّ و الرومانيّ كثير من الفلاسفة الماديّين، أمثال ديمقريطس و أبيقور و لوكريتوس، يقرّرون أنّ الموجود ينحلّ إلى أجزاء لا تتجزّأ هي الذرّات، و الذرّات تنتقل في الخلاء. كذلك يرون أنّ كلّ موجود يخضع لقوانين ضروريّة، و الإنسان يندرج في هذا الوضع. و كان الهدف منه الصراع ضدّ الخرافات و ضدّ الخوف من الموت (2).
ص: 26
ص: 27
ينقسم التراث أو التاريخ الثقافيّ و الحضاريّ الغربيّ _ بحسب التحقيب الزمنيّ الذي وضعه فلاسفة التفكير الغربيّ _ إلى ثلاث مراحل أساسيّة، الأولى منها، هي مرحلة العصور القديمة (عصر الإغريق اليونانيّين حيث الفترة الذهبيّة للفلسفة و العقل و تمتد من هم 500 ق.م، حتّى عام 400 للميلاد الذي تبنّى فيه الرومان الدين المسيحيّ. و المرحلة الثانية الأطول و هي مرحلة العصور الوسطى، و تبدأ من تاريخ سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب حتّى فتح إسطنبول إيذاناً بسقوط الحضارة الرومانيّة البيزنطيّة في الشرق على يد السلطان محمد الفاتح في عام 1453م. و هي كانت مرحلة ظلاميّة على الغرب عموماً. و المرحلة الثالثة المسمّاة (مرحلة العصور الحديثة) و تبدأ من منتصف القرن الخامس عشر حيث تفجّرت معالم النهضة الأوروبيّة (مع الدعوة إلى إحياء الفلسفة و العلوم اليونانيّة)، مروراً بعصر الأنوار في القرن الثامن عشر، حتّى العصر الحاليّ.
يعدّ مصطلح العصور الوسيطة أو القرون الوسطى مصطلحاً غربيّاً بامتياز، لا علاقة لنا نحن (في اجتماعنا العربيّ و الإسلاميّ)، به لا تأسيساً و لا نحتاً فكريّاً. حيثُ ظلّت (تلك العصور الوسطى) تُعْتَبر _ بالنسبة إلى الفكر الأوروبيّ و مؤرّخيه على الأقلّ _ عصوراً مظلمة بكلّ معنى الكلمة، انحدرت فيها البشريّة الأوروبيّة _ إذا جاز التعبير _ لأدنى غرائزها و وعيها، حيث سادت فيها الكنيسة (بتعاليمها و قدادستها) في أكثر تجليّاتها رجعيّة (1)، معبّرة عن نفسها خصوصاً
ص: 28
بمحاكم التفتيش التي وقفت متصديّة لكلّ فكر حرّ و لكلّ محاولة لأنسنة الأفكار و الصعود و الارتقاء بالمجتمعات، فكان إنّ حُرّم الفكر الحرّ، و حُظر أيّ تجديد في المفاهيم. لكنّ الإرادة البشريّة و الحضور العقليّ و رفض البقاء في سجون الفكر القروسطيّ، دفع العقلاء مجدّداً إلى تسليط الضوء العقليّ على العصر الإغريقيّ في محاولة لإعادة لإعادة اكتشافه، فتراكمت التطوّرات و تفجّرت ينابيع المعرفة فلسفات إنسانيّة راقية بايعت العقل مرجعيّة للتجديد و الإصلاح الدينيّ.
و بالاستطراد قليلاً، يمكن القول إنّ اهتمامَ الغرب في العصور الوسيطة كان منصبّاً على الدين و الوحي و التقاليد الدينيّة الموروثة من عهود سابقة، و كانت الثقافة و العقل آخر اهتمامات النخب المفكّرة و هي نخب الدين من رجالات الإكليروس القروسطيّ ممّن كانت لهم آراء و توصيفات و نصوص و مفاهيم مقدّسة حول مختلف شؤون الناس الخاصّة و العامّة، كانوا يمنعون انتهاكها بحجّة الحافظ على قدسيّتها و عذريّتها التاريخيّة إذا صحّ التعبير، بل كانوا يعاقبون عليها أشدّ ألون العذاب و أقساها حتّى اشتهرت عنهم محاكم التفتيش الصوريّة التي أسهمت في دفع الناس إلى ترك الدين، و الابتعاد عن طقوسه و تعاليمه، و السير وراء فلسفات وضعية، و تبنّي رؤى مجتمعيّة مغايرة للدين، صاغتها عقول رواد التنوير الأوروبيّ في ردِّ معرفيّ عقليّ على ترّهات و أباطيل الأفكار الكنسيّة المتخلفة.
ص: 29
من هنا حاول فلاسفة العصر الوسيط، و مفكّروه الكبار من مسيحيّين و مسلمين، القيام بما يمكن القيام به من عمليّات فكريّة و اجتهادات عقليّة للتوفيق بين مرجعيّتين متصادمتين، مرجعيّة العقل و مرجعيّة النقل، بين العقل و النصّ، بين النسبيّ و المطلق. فبذلوا كلّ جهدهم، و صرفوا كلّ وقتهم، لتكييف النصّ الدينيّ مع التغيّرات و المستجدّات الحياتيّة، مجمعين على أنّ العقل و النقل، مصدران أساسيّان و ضروريّان للمعرفة.
و هكذا وجدنا _ مثلاً _ فيلسوفاً كبيراً كالفيلسوف النصرانيّ (المسيحيّ) القدّيس «أوغسطين» يبذل معظم جهوده للتوفيق بين فلسفة أفلاطون و فلسفة أفلوطين من جهة، و العقائد المسيحيّة من جهة أخرى، و الشيء نفسه فعله القدّيس «توما الأكوينيّ» حين انصرفَ بجهوده إلى التوفيق بين تعاليم أرسطو و عقائد المسيحيّة.. مثلما فعل الفلاسفة و الحكماء المسلمون في محاولاتهم التوفيق بيت حكمة الإغريق و نصوص القرآن.
و خلال هذه المرحلة لم تظهر معالم واضحة للفكر الماديّ، بل كانت أهمّ الأسئلة التي انشغل بها فلاسفة العصر الوسيط، في محاولتهم الإجابة عنها، متركّزة حول طبيعة العقل، و حدوده، و ماهيّة شروط المعرفة العقليّة ..؟!.. و تبيان أسباب وجود تعارض العقل مع النقل؟ و بأيّ منهما يمكن الأخذ، العقل أم النقل؟.
و على صعيد التّاريخ الإسلاميّ و الفلسفة «العربيّة - الإسلاميّة» (التي تعمّقت و تألّقت خلال فترة الجمود و الانحطاط الغربيّ - مرحلة العصر الوسيط)، فقد تمظهرت الفلسفة و الحضارة بأشكال دينيّة. أي إنّها ارتبطت بالتاريخ الدينيّ برغم احتكاكها و تفاعلها
ص: 30
الخصب و الثّريّ مع باقي الحضارات و الفلسفات الأخرى التي ظهرت على مسرح الأحداث، كحضارة اليونان التي كانت حضارة العقل، و حضارة الرومان التي كانت حضارة القانون.
و قد نجم عن هذه التفاعلات الحضاريّة، قراءات جديدة للمعرفة، و أسسها و أصولها، و عن دور الفرد البشريّ فيها، و معنى وجوده، و إرادته و مسوؤلّياته و حريّته.. و نحن نتحدّث هنا عن تطوّر فكريّ و عقليّ حدث في عمق التاريخ الإسلاميّ الذي يحيط النصّ بأحداثه من كلّ الاتّجاهات الفرديّة و العامّة، فمثلاً رأينا كيف تحدّثَ المعتزلة عن الحريّة عموماً، و خاصّة عن حريّة الإنسان و مسؤوليّته عن أفعاله، و أنّ العدالة الإلهيّة تقوم على حريّة هذا الإنسان، و تحكيم العقل، لأنّ الثواب الحقيقيّ العادل يقتضي حريّة الفعل و السلوك و المسوؤليّة الكاملة عنه.. كما نتحدّث عن الإضافة الفكريّة النوعيّة لابن خلدون حول «تاريخانيّة» الحدث، و تأثير الظروف الماديّة على الإنسان، و عن قربه من المعتزلة برغم أشعريّته، حيث وضع الأساس لما يقترب من علم تاريخ اجتماعيّ حقيقيّ، في ربطه المدنيّة و التمدّن بالعمران. كما نتحدّث عن الفيلسوف الفارابي و الحكيم ابن سينا اللذان اعتمدا في العمق على حكمة العقل، قبل ان يطوّرها ابن رشد إلى مقولة رائدة في وقته و هي: «إن العالم يتطوّر على أساس العقل ...». كما يمكن الحديث هنا عن منعطف أبي بكر الرازي الطبيب الحاذق و التجريبيّ، حيث إنّ ما يميّزه هو ظهور بعض الآثار «الماديّة» في فلسفته التي ظهرتْ في القرن العاشر الميلاديّ.. ثمّ طبقة ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ (القرن11م) و فخر الدين الرازي (القرن 13م).
ص: 31
و على الرغم من أنّ الفلاسفة العرب و الإسلاميّين عاشوا في ظلّ عدم القدرة على الفصل ما بين الفلسفة و اللاهوت، إلّا أنّه ظهرت لدى بعضهم أفكار و نزعات عقلانيّة (غير دينيّة) صرفة. فكان الكنديّ أوّل مفكّر عربيّ وضع قضية المعرفة في إطار يتجاوز معناها و مظهرها اللاهوتيّ..
كما ظهرتْ _ خلالَ هذه الفترة الزمنيّة _ شخصيّات كثيرة أخرى «قلقة شاكّة» _ إذا صحّ التعبير _ ذهبت أبعد مدىً من مجرّد اتّخاذ العقل كبديل للنصّ المنقول المتوارث، بل يمكن القول إنّها نهجت النهج الماديّ الصريح تقريباً، و أثارتْ كثيراً من الأسئلة و الإشكاليات اعترضت من خلالها على طبيعة المقدّس و النصّ الدينيّ الإسلاميّ، كانت تسمّى بالزنادقة أو الهراطقة، آمنت بأفكار مخالفة بل مناقضة لتوجّهات الدّين الإسلاميّ و تعاليمه، و مع أنّها لم تتحوّل إلى خطّ واضح و بارز على صعيد الاجتماع الدينيّ الإسلاميّ، فقد أثارت كثيراً من المخاوف لدى أئمة الدين الإسلاميّ و علمائه.
و مصطلح الزندقة أو الزنادقة، هو مصطلح عامّ كان يطلق على حالات عديدة، يعتقد أنّها أطلقت تاريخيّاً لأوّل مرّة من قبل المسلمين لوصف أتباع الديانات المانويّة أو الوثنيّة و الدجّالين و مدّعي النبوّة، و الذين يعتقدون بوجود قوّتين أزليّتين في العالم و هما النور و الظلام. ولكنّ المصطلح بدأ يطلق بالتدرّج على عموم أصحاب البدع و الملحدين، كما يطلق بعضهم على كلّ من يعيش ما اعتبره المسلمون حياة المجون من الشعراء و الكتّاب، و استعمل بعضهم تسمية زنديق لكلّ من خالف مبادئ الإسلام و تشريعاته الأساسيّة. و يعتبر ظهور حركة الزندقة في الإسلام من المواضيع
ص: 32
الغامضة التي لم يسلّط عليها اهتمام يذكر من قبل المؤرّخين بالرغم من قدم الحركة التي ترجع إلى زمن العباسيّين. و هناك كتبٌ تاريخيّةٌ تتحدّثُ بصورة سطحيّة عن أشهر الزنادقة و المحاربة الشّديدة التي تعرّضوا لها في زمن خلافة أبي عبد الله محمّد المهديّ، و من هذه الكتب كتاب «الفهرست» لابن النديم، و كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ، و كتاب مروج الذهب للمسعوديّ. و من الجليّ للمتتبّع لتاريخ تلك الحقبة الزمنيّة، أنّ يعي أنّ الذندقة أضحت تهمة التهم التي يرمى بها أحياناً أي مخالف للآراء السائدة (التقليديّة) في زمانه، دون النظر حتّى لجوهر الرأي (1).
و كان من أبرز رموز الزنادقة الذين ذكرهم ابن النديم في فهرسه (2) كلّ من: صالح بن عبد القدوس و أبي عيسى الورّاق، و ابن أبي العوجاء، و ابن المقفّع، و غيرهم.
و أمّا «الدّهريّون»، فهم أشخاص كانوا ينفون الخلق الإلهيّ، و يعتقدون بالخلق الطبيعيّ، أي الخلق الماديّ. و قد أطلقَ القرآنُ الكريم لقب أو مصطلح «الدهر» (3) على تلك القوّة التي يؤمنون بها، و التي يعتقدون بأنّها هي التي تِمُيْتُهم و تحييهم في دلالة على الخلق الطبيعيّ لا الإلهيّ.. كما أطلق عليهم علماء الكلام المسلمون مصطلح (الدهريّين)، يقول تعالى: (وَ قَالُواْ مَا هِیَ إِلَّا
ص: 33
حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَ نَحۡيَا وَ مَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُ) (1) (سورة الجاثية: (24). و قوله تعالى: (أَيَعِدُكُمۡ أَنَّكُمۡ إِذَا مِتُّمۡ وَ كُنتُمۡ تُرَابًا وَ عِظَٰمًا أَنَّكُم مُّخۡرَجُونَ) (سورة المؤمنون: (35).. و قوله تعالى: (وَ قَالُوٓاۡ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمًا وَ رُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقًا جَدِيدًا) (سورة الإسراء : 49).
و يُشتقّ المصطلحُ من كلمة «الدّهر»، حيث إنّ أتباع هذا النهج كانوا يرون أنّ الزمان (أو الدّهر) هو السّبب الأوّل للوجود، و أنّه غير مخلوق و لا نهائيّ. و أنّ المادّة لا فناء لها.
بما يجعلنا نفترض إمكانيّة أن نعتبر «الدهريّة» شكلاً قريباً من اعتقاد «اللادينيّة» و «الإلحاد» و الفكر الماديّ الذي كان ينتشر في كثير من حضارات العالم و أممه.. يبقى أن نقول هنا حول الدهريّين، أنّ ظهورهم سبق مرحلة ظهور الإسلام، و هم لم يتحوّلوا إلى نهج و خطّ فكريّ فاعل و مؤثّر في حركة التاريخ، بل بقي دورهم محدوداً وضعيف الأثر (2) حتّى خلال العصر الوسيط و ما بعده.
كلّ هذا كان يعني أنّ التّاريخ العربيّ و الإسلاميّ لم يكن تاريخاً ناصعاً مليئاً بقيم الدين و الإيمان بتعاليمه و مقدّساته الإسلاميّة،
ص: 34
و الاقتناع التامّ و المطلق بالشريعة التي جاء بها هذا الدين فقط. فقد وجدت في هذا التاريخ _ خاصّة في المرحلة الوسيطة غربياً و الذهبيّة إسلاميّاً _ الكثير من الشخصيّات الفكريّة و الفلسفيّة المعروفة التي شكّكت ليس في السلوكيّات و الأفعال، و إنّما في جوهريّة الدّين و أصل الخلق، بما يعني أنّها كانت ذات نهج فكريّ ماديّ طبيعيّ (تعيد الخلق لقوّة الطبيعة يعني المادّة). و قد لاحظنا إنّ كثيراً من المؤرّخين لم يسلّطوا الضوء الكافي على تلك الشخصيّات التي كانت بأغلبها تخفي قناعاتها خوفاً، و بعضها الآخر كان يُعلنها فتقتل و تحرق كتبها. لكنّ المفكّر المشهور «عبد الرحمن بدوي» حاول في كتابه المرجعيّ «تاريخ الإلحاد في الإسلام» من مصادر عدّة تجميع أفكار «الدهريّين» أقوالهم، و توثيق ما يمكن توثيقه من أخبارهم و حوادثهم، باعتبارهم جزءاً من هذه الحضارة العربيّة و الإسلاميّة الكبيرة و الغنية التي أثّروا فيها و تأثروا بها، و كوّنوا حالةً و حراكاً في داخلها تأثّر به ربّما، حتّى المدافعون عن الدين أنفسهم من شيوخه و المتكلّمين به، بحيث اضطرّتهم إلى تطوير أدواتهم و سبل مواجهتهم حتّى تتناسب قدر الإمكان مع العلم الحديث، و الفلسفة الوافدة، و روح العصر، ممّا وقع في مصلحة العامّة و أثرى حضارتهم.
مرّ الغرب الحديث بتجارب كبرى سياسيّة و اجتماعيّة كان من أبرزها حضوراً و تدفّقاً وجودةً و تأثيراً، تَفَجُّر النهضة العقليّة و الفكريّة في القرنين الخامس عشر، و السادس عشر. و قد أسهمت (تلك النهضة) في بروز تجارب غير معهودة من قبل بنيت على
ص: 35
قاعدة الحسّ و المعاينة و الاختبارات، كما أدّت تلك النهضة إلى نشوء نظريّات فكريّة و فلسفيّة جديدة، لم تكن لتأتي و تُبتكَر و تخليقها لولا التّحرّر من سُجون الكبت الفكريّ و الدينيّ الكنسيّ الذي كانت سيطرته مهولة على البشر و الحجر و الشجر.. و هذه الفلسفة الحديثة التي نشأت _ في واقع الأمر _ على يد كثير من فلاسفة الأنوار و الحداثة العقليّة، و بخاصّة «رونيه ديكارت»، بشكّه المنهجيّ، و حقائقه الثلاث (الله، و النّفس، و الجسم)، و تأمّلاته عن الكوجيطو (الكوجيتو)، و «فرانسيس بيكون» بدعوته إلى التخليّ عن الميتافيزيقا باعتبارها دراسة عقيمة و لا جدوى منها، و بدء الحديث عن خطوط المنهج التجريبيّ القائم على المشاهدة و الملاحظة و التجربة و الاستنتاج العلميّ الذي يأتي على هيئة قانون علميّ صريح و واضح. و هذه الفلسفة الحديثة أخذتْ عنواناً عريضاً لها، مارسته بقوّة و فاعليّة و هو عنوان النقد و الحفر الفكريّ المعرفيّ المعتمِد على العقل وحده. و بذلك قطعتْ صلتها بالفكر الفلسفيّ الميتافيزيقيّ السابق ذي الصبغة اللاهوتية، و الذي كان منشغلاً _ كما قلنا _ بمشكلة الوجود و الميتافيزيقا دونما التّطرّق و البحث لمشاكل الإنسان و حاجاته الدنيويّة و همومه و متطلّباته الأرضيّة.
و هكذا بدأت العقول و الأفكار الحديث تهتمّ بمشكلة المعرفة وخدمة الإنسان، التي كان ديكارت يقول عنها بأنّها معرفة مفيدة في الحياة، تجعل من أنفسنا سادة الطبيعة و ملاكها (1).
و بدءاً من القرن السابع عشر، ستّتخذ الماديّة اتّجاهاً ملحداً
ص: 36
واضحاً، يقوم على التعارض بين المادّة و الجوهر المفكر. و في نظريّة المعرفة ترد المعرفة إلى الحواسّ وحدها. و هي تتصوّر الكون على أنّه كلّ مؤلّف من أجسام ماديّة، فيه تجري أحداث الطبيعة وفقاً لقوانين موضوعيّة ضروريّة. و الزمان و المكان و الحركة تعدّ أحوالاً للمادّة. و كلّ ظواهر الوعي (الفكر) تتوقّف على التركيب الجسمانيّ للإنسان (1). و قد تجرّأ وقتها العديد من الكتّاب و الفلاسفة على طرح مفاهيم لا دينيّة، و الإعلان الصريح عن طبيعة أفكارهم و توجّهاتهم الماديّة الإلحاديّة المعادية للدين (أو للمثاليّة التجريديّة)، و نذكر منهم «لامتري» و «هولباك» و «هيلفيتيوس» و كلّ من «دولباخ» و «نيتشه». و قد صُنّفَتْ هذه النظريّات حينذاك بالميكانيكيّة، كما ستُصنَّف لاحقاً أفكار فويرباخ بالمقارنة مع المنظومة الجدلية للماركسيّة، لأنّها كانت تتجاهل مبدأ الفعل وردِّ الفعل، و لا تقرّ إلّا بما في الطبيعة من تغيّرات كمّيّة. و في القرن التاسع عشر، أدان الفيلسوف «أوجست كونت» الماديّة لأنّها _ على حدِّ زعمه _ تُنزِل الأعلى إلى الأسفل. لكنّنا نلاحظ _ في المقابل _ أنّ هذا المفهوم (أي الماديّة) قد ساد في فروع عدّة من العلم: كالبيولوجيا التي رفضت كل غائيّة، و أعادت تفسير كلّ شيء استناداً إلى مسبِّباته الفيزيائيّة و الكيميائيّة؛ أو كعلم النفس، حيث صار الوعي مجرّد ظاهرة طارئة، و صار النفسانيّ مجرّد اشتقاق لما يمكن مراقبته فيزيائيّاً (كبسيكولوجيا السلوك، على سبيل المثال) (2).
إذاً، لاحظنا إنّ فلاسفةَ الحداثة الغربيّة وقفوا عموماً موقفاً سلبيّاً
ص: 37
من الدين و لم يكونوا _ في غالبيّتهم _ مؤمنين به، و لا بوجود الإله الّذي جعَلوه معطىً مخلوقاً، و جعلوا الإنسان مجرّد كائن آليّ تحرِّكه غرائزه الوحشيّة المظلمة القابعة داخله كما يصوّره (داروين)، أو تدفعه القوانين الآليّة التي لا يمكن تجاوزها كما تصوّره الفلسفة الماديّة، بعد أن فعل ما فعل بهذا المخلوق الكريم قوَّض علاقته بخالقه، و جعلها علاقةَ تناقضٍ لا علاقةَ انسجامٍ، و علاقةَ صراعٍ لا علاقةَ عبوديّةٍ. و بسببٍ من هذه الثقافة التفكيكيّة، استشكل الفكر الغربيّ الحديث و المعاصر علاقةَ العقل الإنسانيّ بالدِّين الإلهيّ، و وصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر و التضادّ، بل التناقض، لكنّه انقسم في محاولة حلّه هذه المشكلة المفتعلة إلى اتّجاهين (1):
الاتّجاه الأوّل: اتّجاه (مادّي) صرف، حدّيّ و متطرِّف في تناوله للدين و معالجته للمسائل المرتبطة به سلباً أم إيجاباً. و كان هدفه متمحوراً حول القضاء على الدِّين من أساسه، و سحق مصدره جملةً و تفصيلاً، مع تأليهه للعقل الإنسانيّ. و هذا الاتّجاه و إن كان قد ضعف تأثيره الفكريّ في فكر السّواد الأعظم من الشّعوب الغربيّة، إلّا أنّ طروحاته ما زالت قائمة، و قد مثله لفيف من مشاهير الفلسفة الغربيّة باختلاف اتّجاهاتهم الفلسفيّة من وضعيّة و ماديّة تقليديّة و ماركسيّة.. فمنهم على سبيل المثال، «دولباخ»، و «نيتشه»، و «لاميتري»، كما مثّلهم لاحقاً فلاسفة كُثر، مثل «ماركس» و «لينين».. و غيرهم.
و لو استطردنا قليلاً هنا، في تحليل هذا الاتّجاه، فسنلاحظ أنّ ماديّة هؤلاء قد سلكت مسلكين مختلفين، و انقسم أتباعها إلى طائفتين:
ص: 38
الماديّة الميكانيكيّة (العلميّة): تقوم الرؤية الماديّة الميكانيكيّة (التقليديّة) على قاعدة أنّ كلّ حادثة أو واقعة خاصّة أو عامّة لا بدّ لها من سبب خارجيّ تسبب بها، أو علّة خارجيّة أحدثتها. فطبيعة هذه الفلسفة تستلزم وجود علّة من خارج الحدث الواقع.
و تاريخيّاً، أسند أتباع هذا المسلك نظريّتهم إلى الفيلسوف اليونانيّ «ديموقريطس»، و الذي تنسب إليه النظريّة الذريّة، و حاصلها أنّ المادّة عبارة عن جزيئات صلبة صغيرة لا تقبل التغيّر و لا الانقسام. فالمادّة الأوليّة هي مجموع تلك الذرّات الصلبة و الجواهر الفردة. و أمّا الظواهر الطبيعيّة _ ككون شيء إنساناً أو حيواناً أو نباتاً _ فهي ناتجة من انتقال تلك الجواهر الفردة من مكان إلى آخر. و يعتقدُ أصحابُ هذه الفلسفة بالإدراكات الصحيحة المطلقة، و أن أدوات الإدراك، كالحسّ، ليس لها دور إلّا كونها وسائل انتقال من الخارج إلى الذهن. و قد تبنّى هذا المنهج جلّ الفلاسفة الماديّين في القرن الثامن عشر الميلاديّ (1).
الماديّة الديالكتيكيّة (الجدليّة): و هي النّظريّة العامّة للحزب الماركسيّ اللينينيّ. و قد سمّيت بالماديّة لأنّ أسلوبها في النظر إلى حوادث الطبيعة، أو طريقتها في البحث و المعرفة هي ديالكتيكيّة، و لأنّ تعليلها حوادث الطبيعة و تصوّرها لهذه الحوادث، أي نظريّتها، هي ماديّة (2).
و هذه الفلسفة الديالكتيكيّة تختلف _ في العمق _ عن الرؤية أو الفلسفة الماديّة الميكانيكيّة (العلميّة) التي ترجع علّة الحدث
ص: 39
إلى داخل الذات، بينما تحيل الفلسفة الميكانيكيّة كلّها حدث أو صيرورة إلى سبب خارج الذات. و هذه النظريّة _ التي باتت مذهباً فلسفيّاً _ ادّعى أنصارها أنّها تنطبق على كلّ شيء، و على نطاق شامل. و قد أدّى ذلك، كما هو متوقّع، إلى قدر كبير من التفكير النظريّ الفلسفيّ، على الطريقة الهيجيليّة، حول مسائل كان من الأفضل تركها _ كما يقول الفيلسوف برتراندرسل (1) _ للبحوث العلميّة التجريبيّة. و يظهر أوّل مثال لذلك في كتاب إنجلز «ضدر دورنج /دوهرنج anti-duhring» الذي انتقد فيه نظريّات الفيلسوف الألمانيّ دورنج.
و لم يكتف ماركس (منظر الفلسفة الديالكتيكيّة الجدليّة و التاريخيّة) بتحديد موقف فلسفي و علميّ _ كما يُزعم _ من ظواهر الوجود و الحياة على الصعيد العلميّ، بل جرى توسيع نطاق مبادئها (الديالكتيكيّة) حتّى تشمل دراسة الحياة الاجتماعيّة، و تطبق هذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و مجمل فعليّات النشاط البشريّ الأخرى، أي على درس المجتمع، و على درس تاريخ المجتمع معيداً (ماركس) كلّ التطوّرات فيه إلى الجدل و الديالكتيك الذاتيّ الأساسيّ عندها و هو النشاط الاقتصاديّ. فالتطوّر السياسيّ، و الحقوقيّ، و الفلسفيّ، و الدينيّ، و الأدبيّ، و الفنيّ يرتكز _ كما يرى أنجلز _ على التطوّر الاقتصاديّ (2).
تاريخيّاً، ظهرت الفلسفة الديالكتيكيّة (الجدليّة) في القرن التاسع عشر، و تعاملتْ روادها مع الكون كلّه ماديٍّ متماسك و ديناميٍّ،
ص: 40
مؤكّدة تبادل التفاعل بين العناصر (حيث يصبح كلّ فعل سبباً بدوره، و العكس صحيح)، و حيث يؤدّي تراكُم التغيّرات الكميّة للحياة إلى تغيّرات نوعيّة في الوجود؛ ممّا يعني _ ضمن إطار ذلك _ التصوّر للواقع، الحلَّ المتدرّج للتناقضات الداخليّة كأساس للتاريخ.. من تصوّر كهذا جاءت الماديّة التاريخيّة كمفهوم (ماركسيّ) مطبَّق على التاريخ كتحصيل حاصل، و كإحدى النتائج الرئيسيّة للماديّة الجدليّة. لذلك نراها تركّز في أهميّة العامل الاقتصاديّ في الوجود الإنسانيّ (لأنّ ما يعرِّف بالإنسان عمليّاً هو ما ينتجه من أدوات كينونته)، و تؤكّد أنّ ما يميِّز التاريخ هو الصراع الطبقيّ، الناجم أيضاً عن العلاقات الاقتصاديّة بين البشر. لكن يبقى أنّ هذه البنية التحتيّة الاقتصاديّة لا تعيِّن تعييناً ميكانيكيّاً تطوّر البُنى الفوقيّة: فبالعكس، يجب التفكّر في تفاعلها المتبادل، و ذلك على الرغم من بقاء العامل الاقتصاديّ هو العامل الحاسم في نهاية الأمر (1).
الاتّجاه الثّاني: و هو الاتّجاه التوفيقيّ الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، لكنّه أقصى الطرف الثاني و هو الدِّين من ميدان المعرفة البشريّة، و ربطه بالوجدان القلبيّ المجرّد من معنى العقل و التعقُّل.
و قد بلّور هذا الاتّجاه الموقف العامّ للفكر الغربيّ المعاصر من الدِّين و الوحي. فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيّين مثل مفهوم الأدب و الفنّ القائم على معايير ذاتيّة ترفض إقامة البراهين العقليّة على صِدْقها، و يستحيل الإقناع بصِدْقها إقناعاً عقليّاً.
ص: 41
و قد ذهب إلى هذا الاتّجاه، كثيرٌ من الفلاسفة الغربيّين على اختلاف اتّجاهاتهم الفلسفيّة، فمنهم على سبيل المثال (1)، باسكال، و إيمانويل كانت (عمانوئيل كانط) و برتراندرسل، و جورج سنتيانا.
إذاً، يتّضحُ ممّا تقدّم أن هناكَ مراحلَ و أدواراً عدّة عبر التاريخ الإنسانيّ مرّتْ بها الفكرة الماديّة بتطوّرات عديدة مختلفة، حيث كانَ هناك فلاسفة تبنّوا الماديّة منهجاً حتّى في فترة ما قبل الميلاد (من دون أن يظهر هذا التبني كخط معرفي معياري رصين)، و تابعهم على هذا المنوال و الخط، فلاسفةٌ محدثون و معاصرون. و قد تميّزت الماديّة القديمة عن المعاصرة و الحديثة من حيث إنّ الفلاسفة القدماء كانوا يفسّرون الوجود الخارجيّ تفسيراً ماديّاً مطلقاً كانطباع من الحواسّ الماديّة. فالأشياء لها وجود خارجيّ مستقلّ عن إدراكنا لها، أو إنّ إدراكنا للأشياء لا يؤسّس وجودها بأيّة حال، و من ثَمّ فقد فُسِّرت الموجودات كلّها بالمادّة.. و أمّا الفلاسفة الماديّون في العصر الوسيط فقد قالوا بوجود علم فيزيائيّ أو وجود علم ميكانيكيّ تحديداً يدرس انتقال الأجسام في المكان، و وجود ديناميّة كونيّة للعلم الرياضيّ الذي أصبح نموذجاً للمعرفة أيضاً بالنسبة لكلّ العلوم بدءاً من هذه المرحلة.. و أمّا الفلاسفة المحدّثون فقد حاولوا إيجادَ رابطٍ بين الأشياء و بين إدراكنا لها ليخرجوا بنتيجة مُفادها: أنّنا لا ندرك سوى المحسوسات، و أنّ التجربة العقليّة هي أساس معرفتنا، و أنّ المحسوسَ هو الحقيقة، بما يعني أنّهم لم يجعلوا للعالم الخارجيّ وجوداً مُسْتقلّاً عن إدراكنا.
ص: 42
لم تأت فكرةُ «الماديّة» - كأيّ فكرة تفتّق عنها الذهن أو العقل البشريّ _ من فراغ، أو من إرهاصات ذاتيّة و مقدمات أوليّة، بل كانت لها ظروفُ نشأة، و مناخاتُ تفجّرٍ، و دوافعُ نفسيّةٌ و ماديّةٌ مجتمعيّةٌ و فكريّةٌ و تاريخيّةٌ أنتجتها تلك التفاعلات و السجالات مع المحيط الطبيعيّ و البشريّ، حتّى تحوّلت إلى فكرةٍ معياريّةٍ قائمة بذاتها، و مشروعٍ أيديولوجيّ و فكرة خلاصيّة تماميّة لدى أتباعها و أصحابها و مريديها خلال مراحل زمنيّة طويلة.
و قد قلنا سابقاً إنّ هذه الفكرة بدأتْ منذ أن بدأ العقلُ البشريّ يحتكُ و يتفاعل و بالتالي يفكّر و يتأمّل و يستنتج، محاولاً إيجاد إجابات ما (واضحة أو حتّى ضبابيّة قليلاً) عن كمّ كبير من الأسئلة المتراكمة في ذهنه التي أثارتها طبيعة وجوده الخاصّ و العامّ. و قد جاءت الإجابات _ في حالاتٍ كثيرة منها _ على شكل نصوص دينيّة ما ورائيّة، و هذا ما نجده من خلال ما وصلنا من آثار قديمة، أو ما كشفته التنقيبات الأثريّة من عادات و طقوس دينيّة للشعوب و الحضارات البشريّة التي كان الدينُ فيها المحور الرئيس الذي يدير حياة الناس و يمحور وجودهم الذّاتيّ و الموضوعيّ.
هذه النقاشات و الأفكار و الإجابات و التّراكمات الفكريّة عبر مراحل التاريخ حولَ قضايا الوجود و الإنسان و الحياة _ التي كانت تُطرح و تقدّم من خلال الكهنة و رموز الدين في تلك الأزمان _ تعطينا فكرة عن أنّ تفكير الإنسان القديم كان _ إلى حدود كبيرة _ تفكيراً خياليّاً أسطوريّاً قائماً على ما أسماه «اليونانيّون» ب«الميتوس»، كما كان تفكيراً شاعريّاً يعتمد على الخيال و المجاز الإحيائيّ.. ولكن في
ص: 43
العصور اللاحقة جاء تفسير تلك الظواهر بصيغ قريبة من العقل أو عقليّة تعتمد على البرهان الذهنيّ و المنطق الاستدلاليّ و «اللوغوس» في فهم الوجود و تفسيره.
طبعاً نحنُ في بحثنا هنا عن دوافع نشأة الفكر المادّيّ، و أسباب و ظروف تفجّر الماديّة كمنهج و نظريّة «للمعرفة» في التاريخ البشريّ، يجب أنْ نشير إلى نقطة مهمّة و حيويّة على الصعيد المنهجيّ و البحثيّ، و هي أنّ الخطّ العامّ للمسيرة التصاعديّة البشريّة منذ فجر الخليقة كان خطّاً مؤمناً بالدين و بوجود إله أو بوجود قوّة مدبّرة للكون و الحياة، فيما يعبّر عن الحالة الطّبيعيّة للفطرة البشريّة التي هي الإيمان بالإله أو بالله كخالق و واجب الوجود و علّة الخلق، في حين أنّ الإيمان بالمادّة كان هو الحالة الطّارئة، أو السّياق الاستثنائيّ في حركة التاريخ البشريّ.. و هذا ما أشار إليه الشهيد الشيخ مرتضى مطهري (رض) (أحد أبرز مفكّري المدرسة التجديديّة الحديثة في تاريخ الفكر الإسلاميّ الحديث و من نخبها) في بحثه المهمّ حول «الماديّة» (1)، مؤكّداً أنّ التساؤلَ عن الدوافع نحو الماديّة يفترض أنّ التّصوّر عن الطبيعة الإنسانيّة هي طبيعة موحّدة، و أنّ الماديّة هي خلاف الطبع و القاعدة الإنسانيّة. فيكون الاعتقاد بالله تعالى هو ما يمثّل صحّة الإنسان و سلامته في حين أنّ الاتّجاه الماديّ هو الحالة المرضيّة المنحرفة عن الصّحّة، و بالتّالي فإنّ الطّبيعيّ أن يبحثَ الإنسان عن علل الانحراف و المرض دون البحث عن علل السلامة، لأنّها توافق السير الطبيعيّ لنظام الخلقة.. و هذا ما يخالف النظريّات المطروحة في علم (تاريخ الأديان) الذي يبحث فيه الباحثون عن
ص: 44
علل الاتّجاه الدينيّ، و هو ما لا نرى فيه مجالاً للتساؤل، لأنّه الأمر الذي تدفع إليه الفطرة الإنسانيّة، و إنّما ينبغي البحث عن سرّ الاتّجاه اللادينيّ عند بعض الناس (الاتّجاه الماديّ).. على أنّه يجب الالتفات إلى أنّه مع الادّعاء بفطريّة الدين، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الدين عندما يطرح على الصعيد الفلسفيّ و العلميّ فإنّ التساؤلات و الإشكاليّات و الشكوك لن تُثار حوله، و أنّ مسألة الدين و إنْ كانت تؤيّدها الغريزة الفطريّة (و هي الفطرة التوحيديّة، أي الصفة الوجوديّة المميّزة لنوع الإنسان التي لها المكانة الخاصّة بين سائر الصفات الإنسانيّة من الفكر و الإرادة، و الاستعدادات المتقابلة)، إلّا أنّ هذه الإشكالات و الشبهات ينبغى أن يُرَدّ عليها بحلول من المستوى نفسه، و هي تعتبر أمراً طبيعيَّ الحصول إذا كانت دافعةً للتحقيق و البحث و الدقّة، لأنّ الشكّ في هذه الحالة سيكونُ مقدّمةَ اليقين و الاطمئنان، و إنّما يذمُّ الشكّ الذى يتحوّل إلى وسواس هدّام و شاغل للإنسان فكراً و عملاً. و لذلك فإنّ هذا البحث يوجّه إلى من لجأوا إلى الشكّ كملجأ أخير، كما نعتقد أنّ الماديّة و إن ادّعتْ لنفسها مذهباً قاطعاً و جازماً، و أنّ للمعرفة قيمتها الحقيقيّة عندها، إلّا أنّها في الواقع هي من مذاهب الشكّ، و هو مقصد نفسه الآية الكريمة: (وَ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ۖ وَ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡ_ًٔا) (النجم : 28).
إِنّ البحثَ الجدّيّ في تحديدِ أسباب نشوء فكرة «الماديّة» _ التي هي أساساً نوعُ من الشكّ و اللا يقين في البحث عن المعنى و الغاية _ متعدّد الاتّجاهات و الدوافع، و له قنوات و انطباعات شتّى.. فهناك من يؤمن بالمادّة تقليداً و عادة أو عرفاً، و هناك من يؤمن بها عن حالةِ قناعةٍ فكريّة أو قناعة فلسفية و علميّة، وهناك من اندفع للإيمان
ص: 45
بها كردّ فعل على واقع دينيّ رثّ و متخلّف يحمّله مسؤوليّة الفشل الحضاريّ لمجتمع أو أمّة.. وووإلخ.. ولكنّنا هنا سنحاول تركيز البحث في هذه النقطة فكرياً و عقليّاً و فلسفيّاً نبتعدُ بموجبه عن الذاتيّ لندخل في صُلب الموضوعيّ قدر المستطاع (1).. و الموضوعيّ هنا هو دراسة السبب المعرفيّ بعيداً عن النتيجة و الغاية المبتغاة، و التي هي نقد الفكرة الماديّة كفكرة دخيلة على الفطرة الإنسانيّة.
انطلاقاً ممّا تقدّم أعلاه، يمكنُ تقسيم أسباب نشوء الماديّة (أو أسباب ترك الدين) و دوافعها، و الاتّجاه نحو تبنّي الفكر الماديّ، إلى عدّة أقسام، مع ملاحظة أنّ عواملَ النشوء تتداخل و الدوافع الذاتيّة و الموضوعيّة تتشابك بعضها مع بعض:
الواضح من دراسة تاريخ الفكرة و الفلسفة الماديّة، أنّ كثيراً من المفكّرين الماديّين لهم موقف فكريّ حقيقيّ من موضوع الدين كإشكاليّة معرفيّة قارّة، حيث لم يتمكّنوا _ بحكم ما توفّر بين أيديهم من اطّلاعات و معارف نظريّة و اجتهادات فكريّة _ من حسم المسألة الدينيّة في وعيهم، لناحية الاقتناع من عدمه، خصوصاً مع تفجُّر كمّ كبير من الأسئلة و الاستفسارات «المنطقيّة ظاهريّاً و غير المتماسكة بنيويّاً» حول موضوع الدين ذاته، تثار في وجه الفكر الدينيّ و علمائه و نخبه المفكّرة، كشكوك و شبهات لم يتمكّن (رموز الدين ذاتهم) ربمّا من الردّ عليها منطقيّاً و عقلانيّاً، أو إيجاد حلول لها، لتكون دافعة للعلماء و محرّضة للعقول على بذل مزيد من الجهود في
ص: 46
البحث و التمحيص و التحقيق و التدقيق. و في اعتقادي أنّ الّذي أسهم (و يسهم) بصورة أكبر في تركيز الشكّ و توُّسع مَديات الفكر و الوعي المادّيّ لدى الماديّين الفكريّين _ إذا صحّ التعبير _ هو وجود عدد كبير من رجالات الدين _ من كلّ الأديان و المذاهب و الانتماءات الدينيّة _ قدّموا (و يقدّمون) الدين بأبشع الصفات و الممارسات، و يفسّرون النصوص الدينيّة بطريقة أسطوريّة خرافيّة، بل و يسهبون في شرح معطيات الدين بطرائق متخلفة (ساذجة) لا يمكنُ إنّ يتقبّلها عقلُ طفل، بعيدة عن معنى الغائيّة و الحكمة و العلم، و غير مقبولة في عالم اليوم، عالم القدرات الذاتيّة المفتوحة، و التواصل الواسع اللا محدود، و العلم المتجذّر، و المكاشفة و الحداثة العقليّة و التقنيّة، يعني أنّهم يقفون ما ليس لهم به علم كما تقول الآية: (وَ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ۖ وَ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡ_ًٔا) (النجم : 28).
بمعنى إنّ طرائقَ (و أساليب) عرض الدين _ الذي كانَ متنُه بسيطاً، ثمّ أضحت حاشيته ضخمة جدّاً نتيجة الشرح و التعديل و التفسير و التأويل _ كانت (في كثير من معانيها و أساليبها و أدواتها حتّى رموزها) خاطئة في الصميم، في الفكر و السلوك و الدعوة و الشرح.. و يزداد الموضوع تعقيداً مع تفتُّح الوعي البشريّ، و نضجِ الحياةِ الإنسانيّة، و توسّع التفاعلات الحضاريّة و الفكريّة و الفلسفيّة، و تطوّرات الحضارات البشريّة بعد فتوحات العقل و العلم الحديث. فما كان مقبولاً بالتسليم (و تحييد التفكير العقليّ)، لن يكون مقبولاً حتّى مع توافر كثير من الشروحات و الأدلّة و التأويلات العقليّة و المحاكمات المنطقيّة.
ص: 47
أصلاً لا يجب إنّ يؤاخذ الإنسان على ما يسأله و يستشكل حوله، و يستفسر عنه حتّى لو بلغ مداه حدّ إثارة الريبة و الشكّ و اللا يقين في مواضيع الوجود و الماهيّة و أصل الخلق و الإله، لأنّه (كمخلوق بشريّ أودع الله فيه العقل كأمانة) مفطورٌ على البحث و المعرفة و حبّ السؤال و الاستطلاع، و هذا من أهمّ دوافع اكتشاف وسائل عيشه و استقراره الحضاريّ و المجتمعيّ. أي إنّ الإنسان الشّاكّ بأيّ شيء، و السائل عن أيّ شيء حتّى عن الدين و الخالق و أفعاله و صفاته، و طبيعة وجوده وووإلخ، يجب أن لا يتهّم أو يلام، بل يلام من يواجهه _ و هم كثيرون في مجتمعنا الدينيّ _ بأجوبة خرافيّة غير منطقيّة بعيدة روح الحبث و معايير المحاكمات العقلانيّة و المنطقيّة.. و يلام أيضاً من يعطي تصوّرات (طوطميّة سحريّة خرافيّة) غير ذات معنى عن السؤال الدّينيّ، أيّاً كانت نوعيّته، كما كانت تفعل الكنيسة و رجالاتها، و كما كان يفعل أيضاً _ و ما زال يفعل _ كثير من فقهاء الإسلام الوعظيّين الإخباريّين. حتّى إنّ الإسلام نفسه حمّل مسؤوليّة من يدعون إلى الله، أن تكون دعوتهم مقرونة بالحكمة و المسؤوليّة و الموعظة الحسنة، و الحكمة هنا تعني التوازن و الوعي، و وضع الأمور في نصابها و موازينها العادلة الصحيحة.. بحيث يتمكّنون من الإجابة عن الأسئلة الاستطلاعيّة و التأمليّة الأساسيّة لأيّ إنسان يتأمّل و يبحث و يدقّق و يشكّ.
و هل الدّين غير السّؤال و البحث عن المعنى الوجوديّ و الطبيعيّ؟.. فالدّين لا يقفل عقولَ الناس على السؤال، على عكس ذلك، دعا الإسلامُ _ كرسالة هداية و تأمّل عقليّ _ الإنسانَ إلى أنْ يشكّ في كلّ شيء، بحثاً عن الحقّ و الحقيقة، حتّى إنّه لم (و لا)
ص: 48
يؤاخذ الإنسان الشاكّ في وجود الله تعالى، و في الرسول و الرسالة، ما دام هدفَه و غايته الوصول إلى الحقيقة و النتائج الحاسمة، و ليس الشكّ لغاية الشكّ.
يريدُ الإنسانُ (أي إنسان) أن يبحث عن معنى لوجوده، و عن غايه له، و هو لا يستطيعُ العيش من دون «روحنة» هذا الوجود و عقلنته و وعيه. و حيثُ إنّ الأسئلة تتّسع و تزدادُ مع تقدّم حياته العمليّة فكراً و عقلاً، فقد يجد إجابات ما في الدين، أو في غيره. قد يتقبّل إجابات الدين عمّا نسمّيه ب«أسئلة الخلق الأولى» (من أنا ؟! ما هي الروح؟! من أين جئتُ؟! و إلى أينَ المسير؟! و ما الغاية من وجودي؟! ما الموت؟! ماذا بعد الموت؟!.. ووو.. إلخ)..
و عندما يعجزُ الدينُ _ أيّ دينٍ _ عن تقديمِ إجابات شافية و كافية و منطقيّة على تلك الأسئلة التأمليّة الكثيرة، ترضي فضول الإنسان، و تلبّي حاجته الداخليّة في بحثه عن استقرار المعنى في عمق روحه المتفجّرة بأسئلة شتّى، فقد يبحث (بل سيبحث) هذا الإنسان عن مواقع أخرى قد يجد عندها، غذاءه الفكريّ، و ما يسدّ ثغراته المعرفيّة خصوصاً مع وجود القابليّة و الاستعداد الذاتيّ، و توفّر مُناخات خارجيّة تحرّض و تثير. و من هذه العوامل التي نعتقد أنّه كان له دور كبير في اتّباع المنهج الماديّ أو اللاديني، هو التأثّر السلبيّ بالدِّين الكنسيّ أو بالمفهوم الكنسيّ للدين، و الذي أقامت الكنيسة أصوله على الخصومة بين الدِّين و العقل عن سوء (أو عن حسن) نيّة (و غالباً عن حسن نيّة)، و يشهد لذلك التاريخ الكنسيّ الأسود _
ص: 49
إذا صحّ التعبير _ في حربه الشعواء و ظلمه الفادح للعلم و العلماء، و لكلّ من تجرّأ على الإشارة بشيء من التفكير المنطقيّ لمسلَّمة مسلّمات الكنيسة الدينيّة القروسطيّة .. فالمقالات الفكريّة التي كانت تدعو إلى فصل الدِّين عن العقل، جاءت بمجملها ردّ فعل على تخلّف الفكر الكنسيّ و ابتذالاته، و انحداره الحضيضيّ _ إذا جاز التعبير _ إلى أدنى المستويات المجتمعيّة إسفافاً و تفاهةً، فقد صادر هذا الفكر المنحطّ العقلَ البشريّ في تلك الفترة، و احتكرَ مجالات المعرفة، و أقامَ اعتقاداته و قناعاته على تفكيك الوحي عن العقل، حتّى أصبحت كلمة «الدِّين» _ بسبب هذا الشؤم الكنسيّ _ في عصور الغرب الحديثة تعني: عداوة كلّ تفكير. لكنّ فلاسفة الغرب المعادين و المهمّشين للدِّين وقعوا في خطأ منهجيّ فادح، و ذلك بتعميمهم الموقف الكنسيّ على كلّ الأديان الأخرى، و هم لم يتأمّلوا و لم يخبروا من الأديان إلّا النصرانيّة، و لم يعرفوا الدِّين النصرانيّ إلّا من رجال الكنيسة (1).
و هكذا بقي رجالات الكنيسة (الكهنة و مجمل الأكليروس الكنسيّ التقليديّ المعروف) المصدرَ الوحيدَ للمعرفةِ لمراحلَ زمنيّة طويلة، امتدّت قروناً منذ بدايات القرن الخامس الميلاديّ حتّى نهايات القرن الرابع عشر الميلاديّ.
و خلال هذه الفترة الطويلة الممتدّة في الزمن الغابر المحكوم من قبل رجال الكنيسة، انغلقت الأفكار، و تجمّدت الرؤى، و تكلّست المعارف و الرؤى الكنسيّة، و ظلّت المفاهيم التي يتحرّك
ص: 50
الناس على أساسها بعيدة عن نور الشمس، و الهواء الطلق، و تفتح الحياة في تسارع مستجدّاتها و تطوّراتها الهائلة، فمسيرة العقل البشريّ تتقدّم ، و الكنيسة بآرائها و مفاهيمها بقيت جامدة مسجونة على مقولات عفا عليها الزّمن، و لم تستطع مواكبة تلك التطوّرات الهائلة، فكان من الطبيعيّ أن تُكسر القيود و يفِرّ النّاس من معتقلات القداسة الكنسيّة المزيّفة، لتلبية حاجتهم و متطلّبات وجودهم عن غير طريق الكنيسة، مستجيبين في ذلك لنداء العقل و التّفكير الحرّ الذي بدأ يتحرّك بقوّة لبناء معايير صحيحة للاجتماع البشريّ بعيدة عن الكنيسة (و الدين عموماً) التي أساء رجالاتها للدين ما يمكن أن نطلق عليه الإساءة الكبرى، عندما دفعوا الناس _ حتّى من من أتباعهم و الدائرين في فلكه _ لترك الدّين، و الانطلاق لتنظيم حياتهم و منهجتها على أسس و معايير أخرى جديدة غير دينيّة.. و لنا أن نتخيّل حجم الضغوط غير المسبوقة التي ظلّت تمارسها الكنيسة القروسطيّة حوالىَ تسعة قرون من الزمن على (رعاياها) و مجتمعاتها التي كانت مملوكة لها، بما دفع الناس للسير عكس نداء فطرتها التي تميل لعالم الكمال المطلق ..!!. و ازداد الوضع تردّياً مع إعطاء طابع معرفيّ فلسفيّ (علميّ) للفكرة الماديّة خاصّة في القرن التاسع عشر مع اتّساع نطاق الحداثة العلميّة و ظهور الآثار الإيجابيّة للعقلانيّة الوضعيّة العلميّة في حياة الناس و المجتمعات الغربيّة، فكان ظهور الماديّة كمدرسة معرفيّة، بما قطع علاقة الإنسان بالحقيقة المطلقة، و أطلق العنان للمادّة و اختيار العلم بدلاً عن الدين..
و هذا يعطينا فكرة عن أمرين، أولّهما، حجم الدمار النفسيّ و الفكريّ
ص: 51
الذي تسبّب به استبداد الكنيسة في تاريخها الطويل، و ثانيهما، مسؤوليّتها عن إخراج الماديّة في أوروبا من حيّز الكمون التساؤليّ و إثارة السؤال، إلى حيّز المفهوم و الطرح الفكريّ (و الرؤية المعرفيّة الصلبة و المتماسكة نظريّاً)، و تمهيد الطريق أمام تحوّل «الماديّة» إلى مدرسة معرفيّة يتبعها الكثيرون. و هذا البعد المعرفيّ أو «الابستمولوجيّ» في تمتين الصلة بالمادّة و الفكر المادّيّ، يأتي على خلفية أنّ التفسير المادّيّ للظواهر سهل (كما يقول عبد الوهاب المسيري) (1)، و يمكن الحصول بشكل سريع على المعلومات عن العالم المادّيّ و قياسها و معلوماتها، و التّرابط المادّيّ بينَ الظواهر أمر يمكنُ رصده بشكل موضوعيّ محسوس و حركة المادّة نتيجتها مباشرة.
ص: 52
ص: 53
يَقع كثير من الأخطاء الفكريّة في تقدير قناعات الفلاسفة و معتقداتهم الفكرية و معرفتهم، خاصّة على صعيد التصنيف الثنائيّ المعروف، ماديّ (ملحد بالله)، أو مؤمن (معتقد بالله). و قد أفرزتْ لنا عصور التنوير كثيراً من الفلاسفة العقلانيّين ممّن اعتُبروا ماديّين، مع أنّهم لم يكونوا ملحدين، و المشكلة هنا كانت تنبع من اعتبار إيمان هؤلاء مثل إيمان باقي أفراد الشعب أو الجماهير. فكثير من هؤلاء (مثل فولتير وروسو و كانط و ديدرو) كانوا مؤمنين بوجود إله (قوّة عاقلة تتحكّم بالكون و الحياة و الوجود) ولكنّ قناعاتهم لم تكن قناعات بسيطة ساذجة، بل أسّسوها على العقل و التفكير و التأمّل و إثارة الأسئلة الباحثة عن إجابات عقلانيّة رصينة. كانوا _ على عكس العامّة _ يعبدون إلهاً فوقيّاً (مفارقا) متعالياً و غير معروف، إلهاً مفرغاً من الشحنة الإيمانيّة اللاهوتيّة التقليديّة المعروفة لدى النسُّاك و الكهنة و عموم الناس. حيث كان هؤلاء الناس (و الأصوليّون تحديداً منهم) يؤمنون بإله قريب تجسّد عندهم في المسيح.
ولكن برغم ذلك فقد لمعتْ أسماء كثيرة في عالم الفكر المادّيّ، يمكن توثيقهم فيما يلي بحسب سيرورتهم الزمنيّة منذ فجر الحضارة الإغريقيّة إلى عصرنا هذا، مع ملاحظة أنّنا وضعنا معياراً لمن سيجري تدوينه أو توثيقه تحت صفة «منظّر»، و هو أن يكون له شأنٌ فكريّ حيويّ و أثر منتج فلسفيّ معياريّ رصين في البناء المعرفيّ و المنهجيّ الماديّ:
ص: 54
هو طاليس الملطيّ، فيلسوف ماديّ. و عالم فلك و رياضيّ و حكيم يونانيّ. و من أوائل الفلاسفة في التاريخ الذين آمنوا بالمعاينة و المشاهدة الماديّة. أي إنّه أعطى القيمة الكبرى (في نظريّة المعرفة) للتجربة من خلال ملاحظاته المتعدّدة و استنتاجاته النظريّة.
اكتشف عدداً من النظريّات الهندسيّة. رفضَ الأخذ بالخرافات و الأساطير، و هو أحد الحكماء السبعة الذين اشتهروا في العصر اليونانيّ كما جاء في كلّ المؤلّفات التي تحدّثت عن سيرته و مناقبه و إبداعاته الفكريّة و العلميّة.
كان طاليس (أبو الفلسفة كلّها) فلكيّاً، و قد أدهش «ملاطيا» عندما ذكر لهم أن الشمس و الكواكب (التي ينبغي عليهم أن لا يعبدوها كآلهة) ليست سوى كرات من النار (1).. و قد اتّفق مؤرّخو الفكر الفلسفيّ على اعتبار طاليس أوّل فيلسوف في تاريخ الإنسانيّة.
انتقل طاليس بالفكر الإنسانيّ من المرحلة الأسطوريّة إلى مرحلة التفكير العقلانيّ المنظّم (من الميتوس إلى اللوغوس). تعلّم الهندسة من خلال زيارته لمصر و بابل، و اشترك مع قومه في قتال الفرس.
صاغ تصوّراً فلسفيّاً شاملاً عن الكون، لا يخلو من بقايا أسطوريّة قديمة، وصلَ من خلاله إلى تحديدٍ أوليّ في معرفة الوجود، ردّ فيه الموجودات إلى الماء، فاعتبره الجوهر الأوحد في الكون، منه تتولّد الأشياء و تعيش عليه. كما وحّد طاليس بين الآلهة، أو على الأقلّ،
ص: 55
جعل زيوس فوق الآلهة جميعاً، فالعالم مملوء بالآلهة، على حدّ تعبير طاليس، و الله هدف المادّة الحية (1).
يقول الفيلسوف الألمانيّ نيتشه عن طاليس: «إنّ طاليس أوّل فيلسوف في التاريخ لأنّه قال بثلاث حقائق:
1- حديثه عن أصل الأشياء أو عن الأصل الذي تصدر عنه جميع الأشياء.
2- كان كلام طاليس عن هذا الأصل خالياً من الأساطير.
3- قوله: إنّ كلّ الأشياء تساوي الواحد، و إن لم يكن هذا واضحاً في كلامه.
كما حاول تحديد الأفلاك السماويّة بالنسبة للأرض، فجعل النجوم أقربها إلى الأرض، ثمّ القمر و بعده الشمس (2).
فيلسوف «طبيعيّ - ماديّ» إغريقيّ، وُلد في عصر ما قبل سقراط. لقب بالفيلسوف الباكي، لأنّه كتب بأسلوب غامض و يغلب عليه طابع حزين. تأثّر بأفكاره بعض الفلاسفة اليونان الذين جاؤوا بعده، كسقراط و أفلاطون و أرسطو. من أبرز أفكاره أنّه يقول بالحركة الدائمة (التغيّر الدائم) و عدم الثبات، و أنّ كلّ شيء في حالة سيلان دائم، و أنّ النار هي الجوهر الأوّل، و منها نشأ الكون. وضع كتاباً وحيداً، لم يصلنا منه غير شذرات. و لا يعرف المؤرخّون عن حياته إلّا القليل (3).
ص: 56
التزم هيراقليطس بفكرة التغيّر الوجوديّ و الحياتيّ، في حين انساق أسلافه من الفلاسفة السابقين وراء نظريّة الثبات في هذا الوجود، معتبراً أنّ فكرة الثبات بحدّ ذاتها، و هم، و هي لا تمثل شيئاً من ذلك، و لا ينبغي لأحد أن يرغب في وجود عالم راكد. فحيثما تكن هناك حياة فإنّها تحيا على تدمير شيء آخر. فالنار تحيا بموت الهواء، و الهواء يحيا بموت النار؛ و الماء يحيا بموت الأرض، و الأرض تحيا بموت الماء (1). أيّ إنّ كلّ شيء ضدّه و يحتويه كما يقول هيراقليطس. لأنّ كلّ شيء حين يتغيّر، يتغيّر من ضدّ إلى ضدّ، فلا بدّ له إذاً من أن يكون حائزاً قبلاً الشيء الآخر لكي يمكن هذا التغيّر أن يحدث (2).
كان اهتمام كلّ الفلاسفة الذي جاؤوا قبل سقراط _ و منهم الفيلسوف أنكساغوراس _ منصبّاً على فهم أصل العالم و الوجود و الحياة، و محاولة فهم تركيبها، و ماهيّة المبدأ و الأصل (أي العلّة). كما برز أيضاً في فكرهم حجج أساسيّة حول التمييز بين الوحدة و الكثرة، إضافة إلى إمكانيّةِ التغييرِ (3).
انطلق الفيلسوف «أنكساغوراس» من فكرة تحليل العقل و الجزئيّات للوصول إلى المبادئ في سياق رفضه لفكرة التغيير
ص: 57
المطلق. و يعد كتاب أنكساغوراس «في الطبيعة» من أهمّ ما تركه هذا الفيلسوف اليونانيّ. و قد أشار أفلاطون لهذا الكتاب في محاورة الدفاع. إذ فسّر فيه الاختلاف و الذرّات من خلال علّة غير ماديّة، و هذه العلّة هي ما سمّاها أنكساغوراس العقل (1).
فيلسوف يونانيّ. كانَ غنيّاً و محبّاً للسفر. اهتمّ بعلم الفلك و الرياضيّات، و تعلّمها من علماء مصر. كان ديموقريطس أحد فلاسفة الطبيعة الأوائل الذين حاولوا إعادة الكون إلى جوهر واحد أو مبدأ واحد، فهو يفسّر عمليّة الكون و الفساد تبعاً لنظريّته الذريّة. و برأيه أنّه باتّحاد الذرّات ينشأ الكون (2)، و بافتراقها يفسُد و يزول. ألّف الفيلسوف الذرّيّ ديمقريطس، كثيراً من الكتب، تحدّث في بعضها عن الأخلاق، و في بعضها الآخر عن العلم الطبيعيّ، و ألّف في الطبيعة و الرياضيّات و الأدب (3).
اعتقد ديمقريطس بأنّ الأرض دائرية، و أنّ الكون ليس أكثر من ذرّات دقيقة في حالة فوضى، و من ثمّ أخذت تتصادم بعضها ببعض، فتلتقي و تتجمّع معاً في صورة كبيرة. و هذا التصوّر الميكانيكيّ للذرّات يشمل الأرض و كلّ شيء. آمن ديموقريطس بوجود عوالم
ص: 58
عديدة، منها ما هو في حالة نموّ، و منها ما اندثر و تلاشى، و منها دون شمس أو قمر، و بعضها له شموس و أقمار عديدة، و أنَّ كلّ العوالم لها بداية و نهاية. كما يرى أنّ العوالم ممكن أن تتعرّض للدمار، و ذلك من خلال اصطدام بعضها ببعض (1).
حكيم و فيلسوف ماديّ «إلحاديّ» يونانيّ، و صاحب مدرسة فلسفيّة سمّيت باسمه (الفلسفة الإبيقوريّة)، تقوم على نهائيّة الطبيعة و المادّة. عاش في فترة العصر الهيلينيّ. كتب حوالىَ ثلاثمائة منجز، لم يصلنا منهم إلّا بعض الأجزاء و الرسائل، و معظم ما وصلنا من هذه الفلسفة (الإبيقوريّة) مستمدّ من التابعين لها، و بعض المؤرّخين، و من أهمّها رسالته إلى «هيرودوت» في الطبيعيّات، و رسالة موجّهة إلى «فيتوكليس» في الآثار العلويّة، و رسالة موجّهة إلى «ميناقايوس» الأخلاق؛ و مئة و إحدى و عشرون فكرةً هي ملخّص المذهب. و قد لخّص كتاب التاريخُ الفلسفيّ، الفلسفةَ الإبيقوريّة في ثمانية مفاهيم، هي: لا تخف من الآلهة _ لا تخف من الموت _ لا تخف من الألم _ عش ببساطة _ ابحث عن المتعة بحكمة _ اعقد صداقات و ابحث عن أصدقاء و كن حسن المعاملة لأصدقائك _ كن مخلصاً في في حياتك و عملك _ ابتعد عن الشهرة و الطموح السياسيّ (2).
طبعاً كان «أبيقور» ينكر تدخُّل الآلهة في شؤون العالم، و ينطلق من الاعتراف بخلود المادّة، التي تملك مصدراً داخليّاً للحركة. و قد
ص: 59
أحيا أبيقور المذهب الذرّيّ عند ليوكيبوس و ديمقريطس مضيفاً تغييراته الخاصّة. فقد أدخل فكرة «الانحرافات» الآنيّة (المشروطة بظروف داخليّة) للذرّات عن مسارها، لكي يفسّر إمكان تصادم الذرّات المتحرّكة في الفضاء الحاوي بسرعة متساوية. و هذا أساس نظرة أعمق للتداخل بين الضرورة و الصدفة، و خطوة للأمام مقارنةً بالحتميّة الآليّة عند ديمقريطس.. و أبيقور حسّيّ في نظريّة المعرفة، فالأحاسيس صادقة بذاتها لأنّها تنطلق من الواقع الموضوعيّ: أمّا الأخطاء فتنشأ عن تفسير الأحاسيس، و ليست عن الأحاسيس الماديّة التي لا تخطئ أبداً بنظر أبيقور (1).
كان أبيقور يعتبر أنّ آيةً الفلسفة هي الوصول إلى الحياة السّعيدة و المطمئنة، و هذه الحياة المطمئنة السعيدة و الرغيدة لها خاصّتان أو ميزتان و عنوانان هما: «Ataraxia»، و تعني الطمأنينة، و السلام، و التخلّص من الخوف، و «Aponia» و تعني غياب الألم، و الاكتفاء الذاتيّ محاطاً بالأصدقاء. كان يقول: «إنّ السعادة و الألم هما مقياس الخير و الشرّ، و إنّ الموت هو نهاية الجسد و الروح، و لهذا لا ينبغي أن نرهبه، و إنّ الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، و إنّ الكون لا نهائيّ و أبديّ، و أنّ أحداث الكون تعتمد بالأساس على حركات و تفاعلات الذرّات في الفراغ» (2).
ص: 60
فيلسوف إنكليزيّ، آمن بالمنهج الحسّيّ التّجريبيّ، و بناء عليه قاد ثورةً علميّةً عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على معايير المنهج الحسّيّ. و كان يقول _ ردّاً على تعاليم و علوم القرون الوسطى الكتبية (النّصّية) التي وقف ضدّها _ أنّه «يجب إنّ ندرسَ العلم في كتاب الطبيعة الكبير» (1). و هو كتاب لا يدرس و لا يقرأ بحسب بيكون إلاّ باعتماد «الملاحظة و التجربة»، الملاحظة بالعين و أدوت المشاهَدة، و التجريب بالمختبرات و القوانين العلميّة.
كان بيكون يؤكّد أنّ الإنسان هو الموكَّل بالطبيعة و المفسّر لها، و هو بهذه الصفة لا يملك أن يفعل أو يفهم إلّا بالقدر الذي تتيحه له ملاحظته التي قام بها لنظام الطبيعة، سواء كان ذلك في الواقع أو الفكر. و ليس بوسعه أن يعرف أو يعمل أكثر من ذلك (2). و هذه الملاحظة هي أساس معرفة هذا الإنسان. إنّها معرفة تُحصّل _ كما سَلَفَ القَول _ بالتجربة الحسّيّة (و بالنظرة العينيّة المادّيّة للأمور) التي تعملُ على إثرائها بالملاحظات الدقيقة و التجارب العمليّة في المختبرات، ثمّ يأتي دور استخراج النتائج منها بحذر و على مهل، و لا يكفي عدد قليل من الملاحظات لإصدار الأحكام، كما لا يكفى دراسة الأمثلة المتشابهة، بل تجبُ دراسة الشواذّ من الأمور الجوهريّة في الوصول إلى قانون عامّ موثوق به.
كما انتقدَ بيكون المنطقَ القياسيّ الأرسطيّ كاشفاً عن عجزه
ص: 61
و لا جدوائيّته، و مؤمناً بالقدرة اللانهائيّة للعلم المادي و قوانينه على كشف الحجب، و تحسين حياة البشر.
فيلسوف هولنديّ من فلاسفة القرن السابع عشر الذي اتّسعت فيه فلسفة العقل و العقليّين. كان يعتقد بأنّه لا يوجد في الكون سوى حقيقة واحدة خالدة، و هي عبارة عن قانون عامّ شامل لا ينقص و لا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبّر عن نفسه، و يفصح عن حقيقته، إلّا بواسطة الأجسام الماديّة، فاتّخذ من تلك المادّة التي تملأ جوانب الكون، قوالب و أشكالاً لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس. و المعرفة عند «سبينوزا» هي الإدراك الصحيح، و لذلك فهو يبدأ بالبحث في أنواع الإدراك و هي تتمثّل في أربعة (1):
الإدراك الشائع.
الإدراك النابع من الخبرة.
الإدراك الذي يرجع إلى معرفتي أنّ شيئاً ما ينتج من شيءٍ آخر لكن دون معرفة السبب.
الإدراك النابع من معرفة الأشياء انطلاقاً من ماهيّتها.
فرّق سبينوزا بين الجوهر أو الوجود غير المشروط و عالم الأشياء أو الأحوال النهائيّة الفرديّة و كلاهما جسمانيّ و مفكّر. إنّ الجوهر واحد في حين أنّ الأحوال متعدّدة إلى ما لا نهاية. و العقل اللانهائيّ
ص: 62
يستطيع أن يدرك الجوهر اللانهائيّ في جميع أشكاله و مظاهره. غير أنّ العقل الإنسانيّ النهائيّ لا يدرك ماهيّة الجوهر كشيء لانهائيّ إلّا فى مظهرين: ك«امتداد»، و ك«فكر». و هاتان صفتان ملازمتان للجوهر. و تعاليم سبينوزا فيما يتعلّق بصفات الجوهر ماديّة على وجه العموم، غير أنّها ميتافيزيقيّة نظراً لأنّه لا يعدّ الحركة صفة من صفات الجوهر. و كان لسبينوزا تأثير قويّ في ماديّة القرنين السابع عشر و الثامن عشر الميتافيزيقيّة، و أثّر تفكيره الحرّ الدينيّ في تطور الإلحاد. و قد أثنى أنجلز ثناءً كبيراً على آراء سبينوزا الفلسفيّة، فكتب: «إن أكبرَ ثقةٍ في فلسفة العصر أنّها _ ابتداءً من سبينوزا إلى الماديّين الفرنسيّين العظام _ قد أكّدت تفسير العالم من العالم نفسه، و تركت تأويل التفاصيل للعلم الطبيعيّ في المستقبل» (1).
مؤلّفاته الرئيسيّة:
- البحث اللاهوتيّ السياسيّ.
- علم الأخلاق.
عالم تاریخ طبيعيّ و جيولوجيّ بريطانيّ. نشأ في عائلة علميّة. يُعدّ من أشهر علماء علم الأحياء. ألّف عدّة كتب في ما يخصّ هذا الميدان، لكنّ نظريّته الشهيرة واجهت انتقادات حادّة، خاصّة من جانب رجال الدين في جميع أنحاء العالم. اكتسب داروين شهرته كمؤسّس النظرية التطوّر المعروفة، و التي تنصّ على أنّ كلّ الكائنات
ص: 63
الحيّة _ على مرّ الزمان _ تنحدر من أسلاف مشتركة. و قام باقتراح نظريّة تتضمّن أنّ هذه الأنماط المتفرّعة من عمليّة التطوّر ناتجة من عمليّة وصفها بالانتقاء (الانتخاب) الطبيعيّ، و كذلك الصراع من أجل البقاء له تأثير الاختيار الصناعي المساهم في التكاثر الانتقائيّ للكائنات الحيّة نفسه.
اعتمد داروين على ما كتبه لامارك في كتابه «فلسفة الحيوان» سنة 1809م، الذي بيّن فيه تأثير الظروف المحيطة _ و ما ينجم عنها من آثار _ في إحداث انحرافات عن الطريق المعتاد للطبيعة. كما اعتمد على تشارلز ليل في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» سنة 1833م. اعتمد داروین (دارون) على الكتابين، وراح يقوم بالتجارب العديدة، و يسجّل المشاهدات الدقيقة عن أحوال الحيوان و النبات في مختلف المناطق التي زارها ممّا أدّى به إلى الأخذ بفكرة «التحوّل» البطيء في أنواع الحيوان و النبات (1). حيث أقام في كتابه «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعيّ (أو حفظ الأجناس المنفصلة في الصراع من أجل الحياة 1859م)، أقام القضايا الأساسيّة لنظريّة التطوّر.
و بعد ما نشر داروين كتابه عن «أصل الأنواع» اهتزّ العالم القديم و رجال الدين الأفاضل اهتزازاً كبيراً، حيث لم يكن هذا الكتاب مجرّد عرض لفكرة غامضة عن تطوّر الأنواع العليا من أنواع سفلى، ولكنّه جاء مفصّلاً و حافلاً بالأدلّة عن حقيقة عمليّة التطوّر بواسطة الانتخاب الطبيعيّ أو بقاء الأجناس المفضّلة في تنازع البقاء (2).
و يمكن القول إنّ ما توصّل إليه داروين من أفكار تطوّريّة،
ص: 64
جعلته يرفض المثاليّة و اللاهوت الدينيّ التقليديّ السائد، ليتحوّل إلى الفكرة الطبيعيّة، و ينهج طريق الإلحاد. و ربّما أسهمت أعمله و تحقيقاته العلميّة _ و تأسيسه للعلم الطبيعيّ _ في التمهيد لظهور الماديّة الجدليّة.
فيلسوفٌ و منطقيٌ و اقتصاديّ إنجليزيّ، من دعاة الوضعيّة و مذهب المنفعة. كانَ في الفلسفة من أتباع هيوم و بركلي و كونت. بحث في الماديّة و المثاليّة على أنّهما قطبان «ميتافيزيقيّان»، فاعتبر المادّة قوة دائمة للإحساس، بينما الروح قوّة دائمة للشعور. و ذهب إلى أنّ الأشياء لا توجد خارج إدراكها الحسّيّ. إنّما يدرك الإنسان «ظواهر» (إحساسات) فحسب، و لا يمكنه أنّ يتجاوزها. و في المنطق كان ميل نموذجاً للداعين للنزعة الاستقرائيّة الخالصة. فقد أنكر الاستنباط كمنهج لاكتساب معرفة جديدة، و بالغ بدور الاستقراء. و قد طوّر ميل منهج البحث الاستقرائيّ في الروابط السببيّة (حيث وضع له لوائح و قوانين تضبط إجراءه حتّى يؤدّي إلى المعرفة العلميّة، و هذه القوانين أو اللوائح هي: منهج الاتّفاق _ منهج الافتراق _ منهج التّغيّرات المساوقة _ المنهج المشترك «للاتّفاق و الافتراق» _ منهج البواقي). و في علم الأخلاق تأثر «ميل» بالمذهب النفعيّ عند «بنتام». و في الاقتصاد السياسيّ استعاض عن نظريّة القيمة عند ريكارد و بالنظريّة الساذجة عن الثمن و التكاليف؛ كما دافع عن نظريّة مالتوس في السكان (1).
ص: 65
مؤلفاته الرئيسيّة:
- نظام المنطق (1843)م.
- مبادئ الاقتصاد السياسيّ (مجلدان) (1848)م.
- مذهب المنفعة (1864) م.
- و ربّما يكون كتابه حول «أسس الليبراليّة السياسيّة» (1)، من أهمّ المؤلّفات التي كتبها. و يحتوي الكتاب على وجهات نظر و آراء الفيلسوف «ستيوارت مل» فيما يخصّ نظريّة المنفعة و الحريّة. حيث توضح أطروحته (نظريّة المنفعة) خصائص الكتابة عنده. فالمبدأ الذي يتعلّق بمعنى المنفعة، هو قضية تعبّر عن موقف «بنتام» العمليّ في أنّ العقيدة التي تأخذ المنفعة كأساس للأخلاق _ أو أعظم قدر من السعادة _ ترى أنّ الأفعال تكون صواباً بقدر ما تزيد السعادة، و تكون خاطئة بقدر ما تنتج ما هو عكس السعادة، و هذا ما تدافع عنه أطروحته في نظريّة المنفعة.
و في هذا القسم من الكتاب وُضع مبدأ بالغ الأهميّة لنظريّة مل السياسيّة، و هو الاعتقاد بأنّ «المنفعة» هي المعيار الأوّل لجميع القيم.
أمّا أطروحته عن الحريّة فهي تأكيد بليغ لمبدأ لمبدأ هو أحد الأسس الحقيقيّة للسعادة الاجتماعيّة. و يظهر هنا تعاطف مل و احترام الشخصيّة الآخرين، فالحريّة ليست مجرّد تعبير سلبيّ، بل هي مثل أعلى إيجابيّ. و المواطن الذي ينشأ في جوّ من الحريّة، و يحترم الآخرين، يتقبل الآراء المخالفة و المناوئة لمعتقداته، و هذا المواطن هو القادر على أن يحيا حياة إنسانيّة رفيعة.
ص: 66
فيلسوف و عالم اجتماع ألمانيّ ماديّ. درس اللاهوت، و قدّم دروساً حول تاريخ الكنيسة التي اعتبرها لاحقاً مجرّد سفسطة فتوقّف عن الحضور إليها. انتقل لدراسة الفلسفة في برلين، حيث أخذ عن هيغل و شلايرماخر و مارهنك، و نال شهادة الدكتوراه من جامعة «ارلانغن». عاش في إحدى قرى بافاريا و انشغل بالكتابة، و اهتمّ أيضاً بمواضيع تتّصل بالنقد الدينيّ، كانت منطلقاً لكتابه حول جوهر المسيحيّة. و كانت كتاباته كلّها تأكيداً لاهتماماته الدينيّة التي لازمته طوال حياته و التي وضعته في مرتبة أعلى من معظم الفلاسفة المحدثين كما يتّضح من كتاباته عن الإنجيل و عن رعاة الكنيسة و خاصّة مارتن لوثر. و لم يتعمّق أحد من فلاسفة عصره في الوضع الحاليّ للدين بالفاعليّة نفسها كما تعمّق فيه فيورباخ؛ فهو ضمن القلّة الذين تحدّثوا أو كتبوا عن الدين بأسلوب راقٍ. و رأى فيه إبرازاً للحاجة الإنسانيّة و تعبيراً عن حزن الروح. و انتهج فرويد فيما بعد هذا النهج و الفكر و طوّره (1).
تطوّرت آراء فيورباخ حول الموقف من الدين من أفكار الهيغليّين الشبان إلى الماديّة. و قد أثّر إعلانه الماديّة و دفاعه عنها تأثيراً عظيماً على معاصريه. و كتب أنجلز عن أثَرِ كتاباته: «كانت الحماسة عامّة و صرنا جميعاً فيورباخيّين دفعة واحدة» (2). و كان المذهب الطبيعيّ في دراسة الإنسان سمة مميّزة لماديّة فيورباخ التي كانت نتيجة
ص: 67
للظروف التاريخيّة في ألمانيا ما قبل الثورة، و كانت تعبّر عن المثل العليا للديمقراطيّة البورجوازيّة الثوريّة.
أكّد «فيورباخ» الرابطة بين المثاليّة و الدين. و انتقدَ بشكلٍ حادّ الطبيعة المثاليّة للجدل الهيغليّ. و قد فتح هذا الطريق إلى الاستفادة من المضمون العقليّ للفلسفة الهيغليّة، و ساعد في هذا الصّدد على تشكيل الماركسيّة. ولكنّ فيورباخ نفسه في الحقيقة قد نحا جانباً ببساطة فلسفة هيغل، لهذا أخفق في أن يلاحظ إنجازها الأساسيّ، و هو الجدل. و قد كانَ المضمون الأساسيّ لفلسفة فيورباخ إعلان الماديّة و الدفاع عنها.
و هنا تبدّى المذهب الطبيعيّ في دراسة الإنسان في مشكلة جوهر الانسان و مكانته في العالم، حيث يوجد في مكان الصدارة. ولكنّ فيورباخ لم يتابع السير على خطّ ماديّ متماسك في هذه المسألة لأنّه كان يعتبر الانسان فرداً مجرّداً، ككائن بيولوجيّ بحت. و في نظريّة المعرفة طبّق فيورباخ تطبيقاً متماسكاً التجريبيّة و الحسّيّة. و كان يعارض اللاأدرية معارضة حازمة. و لم ينكر في الوقت نفسه أهميّة الفكر في المعرفة، و حاول أن يتناول الموضوع في علاقته بنشاط الذات، و أعلن بعض الافتراضات بشأن الطبيعة الاجتماعيّة للمعرفة و الوعي الإنسانيّين (1).
اعتبر فيورباخ أنّ الدّينَ مقترنٌ بالرؤية (أو النظرة) المحدودة، و الكسل، و الاسترخاء و انعدام القدرة على الإبداع. يقول في كتابه
ص: 68
«جوهر الدين» (1): كلّما كانت رؤية الإنسان محدودة، و كلّما جهل بالتاريخ و الطبيعة و الفلسفة، ارتبط أكثر بدينه. و لهذا السبب فإنّ الإنسان المتديّن لا يشعر بحاجة إلى الثقافة. لماذا لم يكن لدى اليهود فنّ أو علمٌ، مثلما كان لدى اليونان؟ لأنّهم لم يشعروا بأيّ حاجة لهذه الأشياء. فبالنسبة إليهم فإنّ هذه الحاجة كان يشبعها إلههم يهوة. في الإله كلي العلم يرفع الإنسان نفسه خارج حدود معرفته؛ و في الإله كليّ الحضور، يرفع نفسه خارج حدود نقطة ارتكازه المحليّة؛ و في الإله الخالد يرفع نفسه خارج حدود زمانه. إنّ الإنسان المتديّن سعيد في مخيّلته، فلديه كلّ شيء ضمنيّا، و كلّ
ممتلكاته محمولة، في خياله.
مؤلّفاته الرئيسيّة:
- في نقد الفلسفة الهيغليّة (1939)م.
- جوهر المسيحيّة (1841)م.
- الموضوعات الجارية لإصلاح الفلسفة (1842) م.
- أسّس فلسفة المستقبل (1843)م.
فيلسوف و اقتصاديّ و مفكّر ماديّ ألمانيّ، ذاع صيته بحكم أنّه كان أوّل من وضع المباني الفكريّة و الفلسفيّة للفلسفة الماديّة الماركسيّة.
ص: 69
انحدر ماركس من أسرة يهوديّة، تحوّلت إلى البروتستانيّة. امتهن الصحافة و برع في علم الاجتماع، و كان مؤرّخاً و مؤسّساً للاشتراكيّة الثوريّة في العالم. و يعد من أبرز مؤسّسي منهج الفكر الماديّ، و الشيوعيّة العلميّة، و فلسفة الماديّة الجدليّة، و الماديّة التاريخيّة، و الاقتصاد السياسيّ العلميّ، و زعيم (معلّم) البروليتاريا العالميّة.
تأثّر ماركس بقوّة _ خلال مراحل دراسته و حياته الجامعيّة _ بالفلسفة الهيغليّة (نسبة إلى الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ جورج فريدريش هيغل)، و هي الموجة أو الموضة الفكريّة التي كانت سائدة آنذاك في أروقة الفكر و الثقافة الغربيّة. ثم اشتغل بالصحافة، و بعدها سافر إلى باريس، و تعرّف عن قرب إلى أفكار كبار الاشتراكيّين الفرنسيّين كسان سیمون و شارل فورييه، و غيرهما. و هناك في باريس قابل من سيصبح رفيق دربه و نظيره الفكريّ و السياسيّ، الفيلسوف فريدرش إنجلز الذي كان أبوه يملك مصانع في ألمانيا و مانشستر. و كان انجلز يدير المصنع الأخير، ممّا أتاح له أن يُطلع ماركس على مشكلات العمل و الصناعة في إنجلترا. و قد نشر ماركس «البيان الشيوعيّ» عشيّة ثورة 1848م، و شارك بنشاط في الثورة، في فرنسا و ألمانيا (1).
و يمكن القول هنا إنّ فكر ماركس و وعيه المعرفيّ الفلسفيّ تشكّل بفعل عدّة مؤثّرات، منها ارتباطه بالراديكاليّين الفلسفيّين، و المذهب الهيجليّ المثاليّ حيث كان الأمر المهمّ عنده هنا هو النسق الكليّ لا الفرد. أي النسق أو النظام الاقتصاديّ الذي هو ما ينبغي التصديّ له لا الشرور أو الأضرار الجزئيّة. كذلك كان هيجل هو الأصل الذي
ص: 70
استمدت منه نظرة ماركس التاريخية إلى التطور الاجتماعي. فهذه النظرة التطورية ترتبط بالجدل (الديالكتيك) الذي اقتبسه ماركس بلا تغيير عن هيغل. و بناءً عليه، استعاض ماركس عن الروح (الحامل الفكريّ عند هيغل) بأساليب الإنتاج، و عن المطلق بالمجتمع اللا طبقي. أيّ إنّه صاغ عدّة أدوات نظريّة و تحليليّة، و جملة من المفاهيم في إطار نقده للمجتمع الرأسماليّ الذي عاش فيه، و دعوته إلى الثورة البروليتاريّة بُغية التحوّل إلى الإشتراكيّة، و سعيه إلى تأكيد أنّ هذا التحوّل حتميّة تاريخيّة إضافة إلى كونه ضرورة. كما وظّف مفهوم الجدل و الماديّة الجدليّة لكي يقدّم تصوّراً ماديّاً للتاريخ الإنسانيّ بعيداً عن الدين و معناه الروحيّ و العمليّ، و شرح مفهوم الاغتراب (الاستلاب) الاقتصاديّ، الذي يؤدّي بدوره إلى اغتراب اجتماعيّ و سياسيّ للإنسان وفقاً لأطروحته. و سُمّي هذا التصوّر الفكريّ الذي توصّل إليه ماركس مع رفيقه أنجلز بالماركسيّة، و هي صفة أطلقها عليه خصومه (و ليس أتباعه) من أنصار باكونين، لمّا دبّ النزاع بين الفريقين.
لقد حلّل ماركس الدين أو الظاهرة الدينيّة انطلاقاً نقد من فيورباخ للدين، و كان يقول إنّ الدين لا يعيش في السماء بل على الأرض، و هذا المنطلق جعل ماركس يتخطّى نقد الدين في حدّ ذاته، و يتوصل بسرعة إلى نقد المجتمع و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة، و يعنى بتعرية الصلات المعقّدة بين الظروف الاجتماعيّة و الأفكار الدينيّة لعصر معيّن (1).
يقول: «الدين هو تأوّهات المخلوق المضطهد و سعادته المتخيّلة
ص: 71
الرسم روح عالم بلا روح و قلب عالم بلا قلب. و نقد الدين هو نقد هذا الوادي من الدموع المليئ بالزهور الخياليّة، و الذي يمثّل الدين الهالة الضوئيّة التي تحيط به. و نقد الدين يقتطف هذه الورود الخياليّة التي يراها المضطهد في القيد (الجنزير) الذي يكبّله، ولكن لا يفعل النقد ذلك ليحرم الرجل المضطهد من سعادته برؤية الزهور الخياليّة، و إنّما يفعل ذلك ليمكّن الانسان من التخلّص من القيد (السلسال) الذي يكبّله حتّى يستطيع الحركة بحريّة ليقتطف الزهور الحقيقيّة» (1).
و على الرغم من أنّ نظريّة كارل ماركس عُرفتْ و نُوقشتْ في روسيا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فنادراً ما نجد استعمال لفظ «ماركسيّة» للدلالة على مذهبه و آرائه. و لا نجد اللفظ في كتابات بليخانوف الذي صار ماركسيّاً بعد أن كان شعبيّاً، بل يقول مثلاً: «الجزء الفلسفيّ التاريخيّ من مذهب ماركس». و إنّما بدأ يظهر استعمال اللفظ «ماركسيّة»؛ فى كتابات الروس خلال التسعينيّات من القرن التاسع عشر (1890 و ما يليها) (2).
ألّف ماركس العديد من الكتب، منها: «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسيّ»، «نظريّات فائض القيّمة»، «بيان الحزب الشيوعيّ»، «بؤس الفلسفة»، «الأيديولوجيا الألمانيّة»، «أطروحات حول فيورباخ»، و «المسألة اليهوديّة»، و «حول الدين» بالاشتراك مع أنجلز.
فيلسوف ألمانيّ، كانت حياته مليئة بالتقلّبات الفكريّة و العمليّة. و هو صاحب فلسفة القوّة. و برغم إيمانه بمبدأ القوّة، فقد وصفه
ص: 72
برتراندرسل بأنّه امتلك نزعة إنسانيّة أرستقراطيّة بالمعنى الحرفيّ للكلمة. حيثُ كانَ أول ما يحرص على تأكيده هو علوّ الإنسان الأفضل، أي الأوفر صحّة و الأقوى شخصيّة. و أدّى هذا بنيتشه إلى إبداء الاهتمام بالصلابة في مواجهة البؤس. حيث يمكن القول إنّ أعماله عموماً مستوحاة في المحلّ الأوّل من المثل العليا اليونانيّة في عصر ما قبل سقراط، و خصوصاً في إسبرطة، و قد استحدث في كتابه الأوّل «ميلاد التراجيديا» (1872)، التمييز المشهور بين الحالتين الأبولونيّة و الديونيزيّة للروح اليونانيّة (1).
و برغم وصفه بالإنسانيّة، كان نيتشه ماديّاً ملحداً، بل تمادى في نزعته الإلحاديّة، و قرّر أنّ الإنسان في لحظةِ تعاسة من حياته اخترع خرافةً أسماها (الله)، و ظلَّ منذ ذلك الحين مكبّلاً بقصّة من خلقه هو، إلّا أنّه ليس من إله غير الإنسان لو وأتته الشجاعة على أن يعرف قدره. و لذلك أعلن في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت» موتَ الإله، إذ يقول: «جمیع الآلهة قد ماتت، أو بأنّ الله قد مات» (2). و عنده أنّ العبوديّة تخصّ «جوهر الثقافة»، على حين أن الاستغلال «يرتبط بجوهر كلّ شيء حيّ». أعاد نيتشه تقدير مبادىء الأيديولوجيّة البورجوازيّة الليبراليّة و معاييرها الفلسفيّة العقلانيّة، و علم الأخلاق التقليديّ، و الدين المسيحيّ. و اعتبر أنّ هذه المسائل إنّما تضعف إرادة الصراع، و أنّها غير قادرة على سحق الحركة الثوريّة الصاعدة. و اقترح صراحة أن تحلّ محلّها المبادىء اللا إنسانيّة و غير الديمقراطيّة.
میّز نیتشه تمييزاً صارماً بين الأيديولوجيا المخصّصة لتغذية روح
ص: 73
الخنوع بين الشعب العامل «أخلاق العبيد»، و الأيديولوجيا التي ترمي إلى تربية «فريق من السادة»، «أخلاق السادة». و عن هذه دافع النزعة الفرديّة الجامحة في القانون و الاخلاق. و فلسفة نيتشه هي فلسفة الإراديّة، حيث عارض إرادة الفعل. و اعتبر «الصراع من أجل الوجود» (الذي كبر و تضخّم فأصبح «إرادة القوة») القوّة الدافعة الكليّة للتطوّر. و قد وضع نيتشه أسطورة «العود الأبديّ لجميع الأشياء» مقابل النظريّة العلميّة للتّقدّم.
و في السياق نفسه، كان نيتشه يعتبر أنّ الغاية من الإنسانيّة هي خلق الإنسان الأعلى. و من أجل هذا كان لا بدّ للقيم الجديدة التي نضعها من أن تكون عاملة على إيجاد هذا النوع، مهيّئة لظهوره (1).
أعماله الرئيسيّة:
- ميلاد التراجيديا (1872)
- هكذا تكلّم زرادشت(1883)
- فيما وراء الخير و الشرّ (1886)
فيلسوف و عالم منطق و رياضيّ و مؤرّخ و ناقد اجتماعيّ بريطانيّ، أعلن رفضه للدين، و مشى في طريق الإلحاد و الماديّة انطلاقاً من رؤيته العلميّة و التشكيكيّة. كان «راسل» _ في مراحل مختلفة من حياته _ ليبراليّاً و اشتراكيّاً و داعية سلام، إلّا أنّه أقرّ أنّه لم يكن أيّاً من هؤلاء بالمعنى العميق. آمن بالفلسفة التحليلة، و امتاز بغزارة الإنتاج و خاصّة في مجالات الميتافيزيقيا و المنطق و فلسفة الرياضيّات
ص: 74
و فلسفة اللغة و القيم و نظريّة المعرفة. تُوفيّ «راسل» عن عمر ناهز سبعة و تسعين عاماً (1).
منظّر ماركسيّ و مؤسّس الحزب الشيوعيّ الإيطالي. لعب غرامشي دوراً بارزاً في كشف النزعة الآليّة و الأساس الأيديولوجيّ لما تسمّيه العقيدة الماركسيّة ب«الانحراف اليمينيّ». و قد انتشرت كتاباته لدى بعض الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا خلال العقد الثاني من القرن العشرين.
دخل غرامشي السجن، و كتب هناك أغلب تأمّلاته و فلسفته و افكاره الناضجة، و نشرت فيما بعد تحت عنوان «دفاتر السجن الأولى» و «دفاتر السجن الثانية».. و لعلّ أبرز ما ورد فيها نظرته للمجتمع الإيطاليّ، و تفكيره في النظريّة الماركسيّة و عوامل التغيير للواقع، و أحكامه في الأدب و النقد و تربية الأجيال.
درس غرامشي مشكلات الماديّة التاريخيّة، و شغف بعلم الجمال، و علم الاجتماع، و تاريخ الفلسفة.. و كان لدراسته في تاریخ الثقافة الإيطاليّة و نقده للكاثوليكيّة أهميّة كبيرة. و كانت له رؤيته النقديّة لواقع المثقّفين حيث ميّز بين المثقّفين من الناحية الوظيفيّة، و قسّمهم إلى جماعتين: فهناك أولاً المثقّفون المحترفون «التقليديّون» «intelellectuals-traditional» كالأدباء، و العلماء، و غيرهم، ممّن تحيط بهم هالة من الحياد بين الطبقات، تخفي وضعهم الحقيقيّ الناشئ في النهاية عن علاقاتهم الطبقيّة السابقة
ص: 75
و الراهنة، كما تخفي تعلّقهم بالتكوينات الطبقيّة التاريخيّة المختلفة. و هناك ثانياً المثقّفون «العضويّون» «intelellectuals-organic» ذلك العنصر المفكّر و المنظّم في طبقة اجتماعيّة أساسيّة معيّنة. و لا يتميّز هؤلاء المثقّفون العضويّون بمهنهم، التي قد تكون أيّة وظيفة تتميّز بها الطبقة التي ينتمون إليها، بقدر ما يتميّزون بوظيفتهم في توجيه أفكار و تطلّعات الطبقة التي ينتمون إليها عضويّاً (1). و قناعته هذه جاءت على خلفيّة القناعات الصلبة للحزب الثوريّ الذي هو وحده القادر على تكوين تلك الطبقة الجديدة من المثقّفين العضويّين المرتبطين بهموم الناس وقضايا العمال و الفلّاحين. و هم الذين يمكن أن يشكّلوا هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسماليّة. و من هنا نستطيع القول إنّ غرامشي هو الوحيد الذي اعتقد بأهميّة المثقّفين و دورهم في التغيير، إذ كان يؤمن بأنّهم قادرون على صنع المعجزات، إذا ما التزموا بقضية الشعب الأساسيّة التزاماً عضويّاً و حيويّاً. يقول غرامشي: «إنّ البورجوازيّة تخشاهم، و تعرف أنّ نفوذهم كبير، و لذلك تحاول أن تشتريهم بأيّ شكل» (2).
فيلسوف و كاتب فرنسيّ. و هو داعية لما يسمّى ب«الوجوديّة المُلحدة». تشكّلت آراؤه تحت تأثیر هوسرل و هايدغر، كما يوجد ارتباط وثيق بين فلسفته و مذهب «كيركغارد»، بجانب أنّ مذهب
ص: 76
فرويد في التحليل النفسيّ كان له تأثير كبير فيه أيضاً. كان يؤكد حالة العبثيّة و اللا معنى و الطريق الإلحاديّ، و هنا يقول: «كلّ موجود، وُجد بلا مبرر، و يستمرّ في الحياة من خلال الضعف، و يستمرّ عن طريق المصادفة» (1).
إذاً تتميّز فلسفته بنزعتها العبثيّة المتمركزة في الإنسان وحده و الذاتيّة، فهو يتصوّر الإنسان على أنّه «كائن لذاته»، منه تشتقّ أشكال الوجود مثل «الوجود في ذاته» (أي العالم الموضوعيّ) و المكان و الزمان، و الكمّ و الكيف، و لما كان العالم الموضوعيّ لا عقلانيّاً و محدّداً فهو عكس النشاط الإنسانيّ الذي هو حرّ و لا يعتمد على القوانين الموضوعيّة. و مثل هذا المفهوم للحريّة (و جوهره قائم على مبدأ «الإنسان هو ما يصنعه بنفسه») يشتمل على فلسفة الأخلاق السارتريّة. و يبذل سارتر في عديد من مؤلّفاته جهوداً ضائعة لإثبات صحّة الوجوديّة مستعيناً في هذا بالفلسفة الماركسيّة. و كانَ سارتر من بين صفوف حركة المقاومة الفرنسيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، و هو يشنّ نضالاً مُثمراً ضدّ إحياء الفاشيّة و من أجل السلام، كما أنّه عضو مجلس السلام العالميّ (2).
من أهمّ مؤلّفاته:
الوجود و العدم (1943)م.
الوجوديّة نزعة إنسانيّة (1947)م.
نقد العقل الجدليّ (1960)م.
ص: 77
فيلسوف و كاتب فرنسيّ، و ممثّل للوجوديّة الملحدة. و تقوم فلسفته _ كما نقرأها من خلال كتبه، خاصّة كتابيه «أسطورة سيزيف» و «المتمرّد»، على فكرتين رئيسيّتين هما العبثيّة و التمرّد.
و يتّخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود. و كامو يرى أنّ الشقاء بلا جدوى قدرٌ محتوم للإنسان عموماً. أي قُدّرت عليه (على الإنسان) الحياة بلا طائل، الأمر الذي يدفعه إلى الفرار إمّا إلى موقف شوبنهاور (حيث تكون الحياة عبثيّة بلا معنى، لا يقضى عليها إلّا بالموت الإرادي أو بالانتحار)، و إمّا إلى موقف الآخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة، و هذا هو الانتحار الفلسفيّ. و يقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه، و يحاول أن يتجاوز نفسه في نطاق ما يؤدّي إلى نفيه، و إمّا إلى موقف التمرّد على اللا معقول في الحياة، مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق و معانقين للعدم، فإذا متنا متنا متمرّ دين لا مستسلمين.
و كما هو واضح، تشبّعت آراء كامو _ في مجال الأخلاق _ بالتشاؤم المتطرّف، فالإنسان عنده هو دائماً في «حالة عابثة»، و يواجهُ «مواقف عبثية» (الغيرة و الطموح و الأنانيّة و الحسد). و أمّا التمرّد فهو ليس نزعة عبثيّة كما يراها كامو، و إنّما هي حالة تكامل للذات، حتّى لو كانت بلا معنى (1). كما أنّه مقدّرٌ على المرء أن يقوم بنشاط لا معنى له و لا هدف و لا غاية. و تتجلّى فى أعمال كامو النزعة الفرديّة و النزعة اللا عقلانيّة بصورة متطرّفة للغاية.
ص: 78
و من أشهر أقواله: «لا أبغضُ العالم الذي أعيش فيه، ولكن أشعر بأنّني متضامنٌ مع الذين يتعذّبون فيه... إنّ مهمّتى ليستْ أنْ أغيّر العالم فأنا لم أعط من الفضائل ما يسمح لي ببلوغ هذه الغاية، ولكنّني أحاول أن أدافع عن بعض القيم التي بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها و يصبح الإنسان غير جدير بالاحترام» (1).
فيلسوف و رياضيّ أمريكيّ يعدّ من أهمِّ الفلاسفة المعاصرين (من ذوي النزعة العلميّة الماديّة). اهتمّ بمواضيع الرياضيّات و المنطق و الفلسفة، و اشتغل على فلسفات الذهن و اللغة و العلوم، و فلسفة المنطق و الرياضيّات. و عرف عنه جذريّته المنطقيّة، و صرامته النقديّة التي دفعته إلى ممارسة النقد لكثير من أفكاره، بل العمل على تجديدها، حتّى تغييرها.
درس «بوتنام» الرياضيّات و الفلسفة في جامعات بنسلفانيا، ثمّ تابع دراسة الفلسفة في جامعة هارفارد ثمّ جامعة كاليفورنيا، و في عام 1951 حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة و الرياضيّات.
درّس بعدها مادة الرياضيّات، ثم درّس الفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من عام 1961 إلى 1965، فالمنطق الرياضيّاتيّ و الفلسفة بجامعة هارفارد إلى حين تقاعده عام 2000. و هو عضو في جمعية الرياضيّات و الفلسفة، و هي أقدم الجمعيّات الأدبيّة الأميركيّة.
رفض هذا الفيلسوف التجريبيّ الرياضيّ (الماديّ) دعوى
ص: 79
المُماثَلة بين الذهن و الدماغ، بين الحالات الذهنيّة و الحالات الدماغيّة، حيث عرض _ في هذا الاتّجاه _ دليلاً قائماً على قابليّة التحقُّق المتعدّد لخصائص ما هو ذهنيّ. كما تبنّى عدّة نزعات، منها النزعة الواقعيّة، النزعة الواقعيّة الباطنيّة، و في نهاية المطاف، تبنّى الرؤية التعدّديّة للفلسفة، فدأب على طرح الكثير من المشكلات الفلسفيّة، بوصفها لا تزيد على كونها التباسات لغويّة يخلقها الفلاسفة باستخدام لغة عاديّة خارج سياقها الأصليّ (1).
لهيلاري بوتنام العديد من الكتب و الدراسات الفلسفيّة، منها:
- فلسفة المنطق 1971م. (Philosophy of logic).
- العقل، الحقيقة و التاريخ 1981م. (Reason، Truth، and History).
- الواقعيّة بوجه إنسانيّ 1990م (Realism with a Human Face).
- الفِعْلانيّة: سؤال مفتوح 1995م (.Pragmatism: An Open Question)
- التنوير و الفِعْلانية 2001 (Enlightenment and Pragmatism).
و من المنظّرين العرب للفلسفة و الفكر الماديّ:
هو من رموز أعلام النهضة العربيّة التي تفجّرت خلال نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين و أحد طلائعها، مع بدايات تعرُّف مجتمعاتنا العربيّة (من خلال كثير من الدارسين و المثقفين و رجال الدين) و اصطدامها بالثقافة و الاجتماع المدنيّ الغربيّ المتطور.
ص: 80
نشأ شميّل منذ بداياته الأولى على الفكر الماديّ الماركسيّ، ليكون لاحقاً أحد روّاد هذا الاتّجاه الفكريّ العلمانيّ الملحد، و ربّما من أبرز دعاته و أهمّ مشاهيره الذين أسهموا في رسم المشهد الفكريّ و الثقافيّ في النهضة العربيّة و تشكيله.
تخرّج شبلي شميل في الكليّة البروتستنتيّة (الجامعة الأمريكيّة) في بيروت، ثمّ توجّه إلى باريس لدراسة الطبّ، ثمّ استقرّ في مصر، أقام في الاسكندريّة، طنطا، ثمّ القاهرة.
أصدر مجلّة (الشفاء) سنة 1886م، و كان أوّل من أدخل نظريّات داروين على العالم العربيّ من خلال كتاباته في المقتطف، ثمّ مؤلّفه (فلسفة النشوء و الارتقاء). كما أصدر هو و «سلامة موسى» صحيفة أسبوعيّة اسمُها «المستقبل» سنة 1914م، لكنّها أغلقت بعد ستة عشر عدداً.
دافع «شميّل» بقوّة عن نظريّة التطوّر، كأحد مباني فلسفة المادّة التي آمن بها، معتبراً أنّ المادّة وحدها أصل الكون و منها تتكوّن كلّ الكائنات. و لم يقبل بأيّة علّة أخرى مفارقة للمادّة يعلّل بها الوجود، كما يظهر في كتابه «فلسفة النشوء و الارتقاء». و كان يقول: «إنّ الموجود في الطبيعة لا يُسلّم بشيء غريب عنها، فاعل فيها أو مفعول عنها» (1).
كانَ من العلامات الأخلاقيّة المعروفة. دافع عن العلمانية كنظام سياسي، اذ كان يرى أنّ الوحدة الاجتماعيّة، ضرورة أساسيّة لتحقيق إرادة شعبيّة عامّة، تستلزم الفصل بين الدين و الحياة السياسيّة على
ص: 81
اعتبار أنّ الدين كان عامل فرقة. و الجدير ذكره هنا أنّ اعتناق شميّل للنظريّة الداروينيّة مكّنه امتلاك منهج نقديّ سلّط من خلاله السهام على العالم الشرقيّ مستبدلا بهذا الأخير العالم الغربيّ الأوروبيّ الحديث في أيديولوجيّته الفكريّة و الدينيّة و السياسيّة القائمة على العلوم (1).
من مؤلّفاته:
- «فلسفة النشوء و الارتقاء».
- «مجموعة مقالات». ممّا نشره في المقتطف و الهلال.
- «المعاطس». رسالة.
- تحقيق لكتاب (فصول أبقراط).
- تحقيق لكتاب (أرجوزة لابن سينا).
مفكّر ماركسيّ، و أحد أبرز رموز الماديّة الفكريّة العربيّة. تقلّب في قناعاته و انتماءاته الفكريّة و السياسيّة، فبعد أن بدأ رجل دين دارساً للفكر الإسلاميّ في النجف الأشرف (إحدى حواضر الفكر و الفقه الإسلاميّ)، انتقل للفكر الماديّ، مؤمناً و باحثاً و منظّراً و سياسيّاً، ليكون عضواً في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ سابقاً.
ألّف كتباً عديدة، و قد انكبّ جيلٌ واسع من الشباب العربيّ على دراسة تلك الكتب التي كان من أهمّها و أوسعها انتشاراً كتابه حول «النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة»، الذي أثار بعد
ص: 82
صدوره نقاشاً واسعاً و جدلاً كبيراً في مختلف أروقة الثقافة و السياسة العربيّة، و بين صفوف المثقّفين و الشارع الدينيّ العربيّ و الإسلاميّ. ترأّس «مروة» تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من عام 1966 حتّى شباط 1987 (تاريخ اغتياله). كان عضواً في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الأبحاث و الدراسات الاشتراكيّة في العالم العربيّ.
درس حسين مروة التاريخ العربيّة بشكل واسع، و استلّ منه حوادث واقعيّة و وقائع تاريخيّة ماديّة بهدف تأييد طرحه و رؤيته المنهجيّة القائمة على النظريّة الماديّة بشكلها الجدليّ الديالكتيكيّ،
متخطّاً في هذا الوعي السلفيّ التقليديّ الساذج في فهم التاريخ و مختلف طبقات التراث الدينيّ الإسلاميّ المتراكمة عبر العصور، كما انطلق في عمليّة قياس و إسقاط على الحاضر لإخراج تلك الأحداث و إعادة إنتاجها مجدّداً بعيداً عن الصور الماورائيّة و المشهديّات الغيبيّة، بحيث تقوم على البعد التاريخيّ الماديّ، و دور الفعل و الإرادة البشريّة في الفعل و الإنجاز و الحضور. و هذه المعرفة للتراث هي «المعرفة التي تجيئنا من الكيفيّة الواقعيّة التاريخيّة التي تكوّنت عناصر التراث في بيئتها الاجتماعيّة وفقاً لفعل القوانين التي تنظّم حركة صيرورتها، بعمليّة ليست خارج التاريخ، بل هي جوهر حركة التاريخ» (1).
استمرّ مروة في ممارسة عمله الفكريّ و السياسيّ حتّى حدث اغتياله من قبل جماعات إسلاميّة متطرّفة في عام 1987م.
ص: 83
من مؤلّفاته :
- النزعات الماديّة في الإسلام (ثلاثة أجزاء).
- تراثنا كيف نعرفه.
- دراسات نقديّة في ضوء المنهج الواقعيّ.
اسمه الحقيقيّ حسن عبدالله حمدان. مفكّر ماركسيّ لبنانيّ. كان أحد رموز العقل الفكريّ الماديّ في عالم الثقافة العربيّة. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون الفرنسية.
انتسب عامل إلى الحزب الشيوعيّ اللبناني منذ عام 1960م، و مارس فيه عضويّة حزبيّة و سياسيّة إلى أن انتُخِب في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ في المؤتمر الخامس للحزب عام 1987م.
و تعتبر الفترة من عام 1968 إلى عام 1976 من الفترات الفكريّة و السياسيّة الغنيّة و الحيويّة في حياة المفكّر مهدي عامل، حيث بدأ فيها ممارسة مشروعه الفكريّ، و انطلق كاتباً باللغة العربيّة، في وطنه، موظّفاً تراكمه المعرفيّ في دراسة واقع بلده الاجتماعيّ دراسة علميّة، محاولاً تقديم فكر نهضويّ عربيّ قائم على العلميّة و الموضوعية، مبتعداً عن القولبة، و تكرار المقولات و المفاهيم الجاهزة و المعلّبة. و يبدو أنّ مهدي عامل قد أدرك متأخرك ربّما، خطورة ما كان يشرّحه فكريّاً و معرفيّاً، حيث جرت تصفيته في بيروت (عام 1987م)، بعدما درس أسباب الحرب الأهليّة اللبنانيّة، و هزّ (و مسّ بقوة) ثوابت النظام الطائفيّ اللبنانيّ. و يقول عامل عن هذا النظام الطائفيّ الذي أعمل فيه النقد المعرفيّ من خلال كتابه «في
ص: 84
الدولة الطائفيّة» حيث يؤكّد ضَرورة التمييز في حركة التاريخ بين مجراها الموضوعيّ و أشكال الوعي الأيديولوجيّ التي فيها تتحقّق. لذا يجب التمييز، في تلك القوى الاجتماعيّة (الواعية)، بين الموقع الفعليّ الذي تحتلّه في حقل الصراع الطبقيّ، في مناهضتها الهيمنة الفاشيّة الطائفيّة، و بين الشكل الأيديولوجيّ من الوعي الذي فيه هذه الهيمنة، و الذي هو، عند بعضها، شكل طائفيّ... (1).
و اشتغل عامل على تعرية النصّ من تكلّفه التاريخيّ و رهاناته اللا موضوعيّة، معتبراً أنّ «أول فعل للنقد، هو إسقاط الحصانة عن النصّ. ليس من نصّ مقدّس، و لتكن اللعبة مكشوفة. لكنّ النصّ يراوغ، و النقد يراوغ حتّى يضع النقدُ النصّ في موقعه، في حقل الصراع الطبقيّ..» (2).
من مؤلّفاته:
- مقدّمات نظريّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكيّ في حركة التحرّر الوطنيّ.
- أزمة الحضارة العربيّة أم أزمة البرجوازيّات العربيّة.
- النظريّة في الممارسة السياسيّة
- بحث في أسباب الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
- مدخلٌ إلى نقض الفكر الطائفيّ.
- القضية الفلسطينيّة في أيديولوجيا البرجوازيّة اللبنانيّة.
- في الدولة الطائفيّة.
- هل القلب للشرق و العقل للغرب.
ص: 85
مفكّر ماركسيّ، من مدينة اللاذقيّة الساحليّة الواقعة شمال غرب سوريا. حصل على إجازة في العلوم البيداغوجيّة (التربويّة التعليميّة) في عام 1952م من جامعة بروكسل الحرّة. مارس الياس مرقص تعليم الفلسفة معظم عمره. و خلال خدمته العسكريّة الإلزاميّة تعرّف الياس مرقص إلى ياسين الحافظ و الذي سيترك أثراً دائماً في حياة الرجلين، حيث سيتعرّف ياسين الحافظ من مرقص إلى الماركسيّة. بدأت علاقة الياس مرقص بالحزب الشيوعيّ السوريّ خلال دراسته في بلجيكا، و استمرّتْ بعد عودته إلى سوريا حتّى 1956م.. حيث طُرِدَ لمطالبته بالديمقراطيّة الحزبيّة و بسبب آرائه النقديّة المتعلّقة بالماركسيّة السوفييتيّة الستالينيّة.
أسهم في إنشاء مجلّة الواقع الفصليّة، الفكريّة الثقافيّة، في بيروت 1980-1982م. و في إنشاء الشّهريّة (مجلّة الوحدة) التي صدرتْ عن المجلس القوميّ للثقافة العربيّة في باريس 1984م. إضافةً إلى تأليفه العديد من المؤلّفات المتعلّقة بالماركسيّة العربيّة، قام بنقد الفكر القوميّ العربيّ، يضاف إليها عمله في الترجمة، حيث ترجم العديد من الكتب من الفرنسيّة إلى العربيّة مع مقدّمة مطوّلة منه، و هي التي كانت توازي في أهميّتها الكتاب المترجم نفسه.
كتب الياس مرقص الكثير في مجال اختصاصه، و قصد بالفلسفة شيئين أساسيّين:
أوّلهما، نظريّة المعرفة، بما تنطوي عليه من رفض للأيديولوجيا، خاصّة حين يعتقد بعضهم أنّها تعادل الفكر (1). فالأيديولوجيا
ص: 86
الماركسيّة ليست، بوصفها كذلك، حاملة الحقّ، و لا الأيديولوجيا البورجوازيّة حاملة الباطل. و عليه، فقد قال «ليس ما ينقصنا هو الأيديولوجيا بل المنطق و المعرفة و الثقافة و الأخلاق، و... أيديولوجيا تحترم و تثمّن بالأساس المنطق و المعرفة و الثقافة و الأخلاق. الاقتصادية تتصوّر أنّ الإنسان جملة العلاقات الاجتماعيّة، هذا معناه علاقات الإنتاج، أي الطبقات، و هذا باطل. فكرة الاجتماع أكثر أساسيّة و أكثر شمولاً من فكرة الطبقات. الطبقات كفعليّة و راهنيّة و سياسيّة تسقط بسقوط فكرة الاجتماع. نظريّاً، صراع الطبقات يمكن أن يقود إلى مجتمع أرقى، و يمكن أن يقود إلى سقوط المجتمع و حسب. لا توجد حتميّة، توجد ضرورة يجب أن تُوعَّى، توجد ضرورة احتماليّة» (1).
و ثانيهما، هو تصوّر للإنسان و تاريخه و مصائره، و هذا مفقود في الفكر العربيّ المعاصر، في معظم الحالات. فلئن كانت ماركسيّة ستالين و آخرين قد أعطت صورة مغلوطة عن وحدة تاريخ الإنسان، فإنّ قسماً كبيراً من الفكر العربيّ تبنى، فعليّاً و عمليّاً، موقف نفي لهذه الوحدة. إذ هناك شرق و غرب، فكرة النوع الإنسانيّ ملغاة، أي ليس لها قيمة نظريّة و تاريخيّة «من المحال و العبث و الحماقة أن نخرج خارج تاريخ البشريّة، خارج مصائر الإنسان اليوم، هذا التاريخ الكونيّ لا يخرج: إمّا أن نصير ذاتاً و فاعلاً و صانعاً له و فيه، و إمّا أنْ نكون و أنْ نعود كما كنا قبل قرن مادّة و موضوعاً و سَماداً لتاريخ ننخلع عنه و ينخلع عنّا» (2).
خامساً - بين المادّة و الروح.. مقاربة نقديّة في الذات و الموضوع
ص: 87
تقتضي المقاربة النقديّة للمذهب الماديّ أو للفلسفة الماديّة معرفة بنية الفكرة المؤسّسة، و التأمّل في جذورها المعرفيّة، و تفكيكها إلى مادّتها الخام الأولى.
تنطلق الفلسفةُ الماديَّة في تفسير ظواهر الوجود و الحياة و الإنسان من نقطة مركزيّة يعتبرها أتباع هذا المنهج (حقيقة راسخة) هي أسبقيّة المادّة و الطبيعة على الإنسان و الروح، و أنّ كلّ ما في الوجود من مظاهر له خلفيّته الماديّة المحسوسة، فالإنسان موجودٌ مادِّيّ متجسّد، و كلّ فعاليّاته ترتكز على المعطيّات الماديّة الطبيعيّة البحتة.
و هذا الارتكاز على البعد الماديّ الطبيعيّ نجده ارتكازاً بنيويّاً أصيلاً في كلّ الفلسفات الماديّة (الماركسيّة و الداروينيّة و غيرها) التي تدور في إطار المرجعيّة الكامنة خصوصاً في الغرب، و هذا المفهوم (الطبيعة) هو تعبير مهذّب يحلّ محلّ كلمة «المادّة» .. و أمّا الفلسفة الماديّة فهي المذهب الفلسفيّ الذي يقبل المادّة فقط، باعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعيّة و البشريّة، و من ثمّ فهي ترفض الإله بوصفه شرطاً من شروط الحياة، و ترفض وجود وسائل للمعرفة خارج حيّز المادّة المشاهَدة و المعايَنة، كما أنّها ترفض الإنسان نفسه، إنْ كانَ متجاوزاً للنظام «الطبيعيّ/ الماديّ». و لذا فالفلسفة الماديّة تردّ كلّ شيء في العالم (الإنسان و الطبيعة) إلى مبدأ ماديّ واحد هو القوّة الدافعة للمادّة و السارية في الأجسام و الكامنة فيها، و التي تتخلّل في أثنائها و تضبط وجودها، فهي قوّة لا تتجزّأ و لا يتجاوزها شيء و لا يعلو عليها أحد، و هي النظام الضروريّ و الكليّ للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة و حسب، ولكنّه فوق الإنسان أيضاً.
ص: 88
و إن دخل عنصر آخر ماديّ على هذا المبدأ الواحد، فإنّ الفلسفة تصبح غير ماديّة (1).
طبعاً، نقدَ طروحات الفلسفة الماديّة و تفكيك مقولاتها المعرفيّة يحتاج إلى وقت طويل و صفحات أكثر، ولكنّنا هنا في هذا البحث، نبقى مؤطّرين و مقيّدين بعدد قليل من الصفحات، و لهذا سنحاول التركيز في معايير أساسيّة في بنية التفكير الماديّ الغربيّ، و خصوصاً موضوع الإدراك الماديّ، و أصل المعرفة و الإدراك، هل هو ماديّ بحت أم عقليّ روحيّ؟! و هل التجربة هي الأساس في عمليّة المعرفة و التطوّر المعرفيّ، و بالتالي بأيّ قانون ماديّ هي محكومة؟ هل هي محكومة بذاتها أم بقوانين عقليّة خارجة عنها؟ و ما هو دور قانون العليّة في ذلك؟ و هل هذا القانون العقليّ «البديهيّ» تجريبيّ أم هو مبدأ عقليّ لا حسيّ و فوق تجريبيّ؟
سنركز إجابتنا _ في سياق نقد النظريّة أو الفكرة الماديّة _ على هذا المحور (قبل الانتقال لمحاور نقديّة أخرى مهمّة تتعلق بأسس الفلسفة الماديّة الأخرى المتّصلة بالبعد الاقتصاديّ و لاجتماعيّ و الأخلاقيّ)، لأنّه الأساس الذي يقوم عليه مجمل البنيان الفلسفيّ الماديّ الذي يعتبر أنّ المادّة قديمة و هي علّة العلل، بل هي الحقيقة الوحيدة في هذا الكون، و أنّه لا حقيقة سواها، و هذا بلا شكّ، مصادرة على العقل و الحرّيّة العقليّة، و التطوّر العقليّ، و هو نوع من التضييق على العلم، و حصر لاشتغاليّته في نطاقي الحسّ و الاستقراء فقط.
ص: 89
المحور النقديّ الأول: ماهيّة الإدراك العقليّ عند الإنسان (النزعة العقليّة في مواجهة النزعة الحسّيّة):
احتلّ الكائنُ البشريّ الرتبةَ «النوعيّة» الأعلى، و موقع الصدارة الأوّل في درجات التطوّر الطبيعيّ،و سلّم المخلوقات و تصنيفات الكائنات الحيّة، و ذلك بالنظر إلى حيازته «العقل» و المواهب الكامنة و القدرات الذاتيّة و الامتيازات و الطاقات النفسيّة، و القابليّات العمليّة المختزنة في داخله، و التي جعلت منه «جرماً كبيراً» (1) في عالم الكينونة و الوجود، منتجاً للمعرفة، و صانعاً للأدوات، و مفجّراً للطاقات الطبيعيّة، و محقّقاً للإبداعات الحياتيّة العمليّة.. فالإنسان يمتلك مجموعة حواسّ و إدراكات ذاتيّة و حواس طبيعيّة خُلقت معه، كالسمع و البصر و الشمّ و التذوّق و غيرها، و هي حواسّ لا تختصّ بالإنسان وحده بل هي موجودة في باقي المخلوقات، ولكنّ ما يميّز الجنس البشريّ و الإنسان هنا عن باقي المخلوقات، هو أنّه «مخلوق عاقل»، أنعم عليه الخالق بنعمة «العقل» (الناقد و المبدع و المجدّد)، و امْتلاك المَقْدِرة على التفكير المنطقيّ السليم، و المحاكمات المنطقيّة، نتيجة امتلاكه لناصية اللغة التي هي وعاء التفكير، بما يعني إمكانيّة أن تكون حواسّه العضويّة مرهونة للعقل وحده، و معايَرة بأولويّاته و محدّداته و مختلف ضوابطه.
و لا تقتصر الموجوداتُ الذّاتيّة و القابليّات الإدراكيّة لهذا المخلوق على العقل فحسب، بل لديه أيضاً استجابات معنويّة و مشاعر و عواطف و أحاسيس يشعر من خلالها بالواقع الخارجيّ، يتفاعل معه، يتأثّر به، يميّز و يقارن، يفكّك و يركّب، يحلّل و يستنتج، و يتعقّل حركة ذاته و الخارج.. أمّا الحيوانات فهي تحسّ و تستشعر
ص: 90
غريزيّاً فقط، و لا تفكّر أو تتعقّل حركتها الذاتيّة الداخليّة، و ليست لديها معايير و استعدادات ذاتيّة مسبقة لإدراك وجودها الذاتيّ، و البيئة المحيطة بها إدراكاً عقليّاً.
إنّ حركةَ المعرفة الذاتيّة الإنسانيّة و الموضوعيّة الوجوديّة، ببعديها: الذرّيّ (الخلويّ: من الخليّة) و الكونيّ (المجرّاتيّ: من المجرّة)، انعقدت لمن يمتلك أدوات المعرفة و وسائلها و معاييرها المنطقيّة و حسب، و يستخدم طاقاته و عقله ليفكّر و يتدبّر و يتأمّل و يجرّب، و هو الإنسان صاحب هذا العقل الذي تفرّد بالمعرفة وحده دون غيره من الكائنات و المخلوقات المعروفة الأخرى كما قلنا.. لأنّها معرفة مرتبطة بالتأمّل و التفكّر و إعمال حركة العقل، و حيازة معادلات المنطق السليم، و قوانين العلم و قواعده و حقائقه و نظريّاته التی اكتشفها هذا العقل... و أمّا الإحساس، أو الشعور، و إنْ كان عاملاً مشتركاً بين الإنسان و الحيوان، فإنّ الحيوان قد يتفوّق على الإنسان في مسألة الإحساس ببعض ظواهر الحركة العامّة في الكون، كالصوت و الرؤية و الشمّ و غيرها.
من هنا كانَ للعقلِ هذا الدور الحيويّ و الأهميّة الوجوديّة الكبرى في حركة الإنسان و الحياة، خاصّة دوره النوعيّ على مستوى تأسيس معرفة إنسانيّة شاملة حيويّة و مفيدة عن الكون و الوجود و الإنسان و الحياة كلّها، في ما يمكن أن تعطينا _ كأفراد في المجتمع البشريّ الكبير _ دوافع قويّة للعمل و التطوّر، و مستلزمات أساسيّة و سبل عيش مثمرة للتحرّك الفاعل و المؤثّر و المنتج في جميع خطوط الحياة، و مواقعها، و امتداداتها الحاضرة و المستقبليّة.
و هكذا، دعا الدين (منذُ انطلاقته الأولى في حياة الإنسان) إلى ضرورة اتّباع طريق العقل، بوصفه (أي العقل) وسيلة أساسيّة من أجل الوصول إلى المعرفة المعتبرة القيّمة المفيدة للإنسان على
ص: 91
طريق تكامله الماديّ و المعنويّ، التي تنطلق في أجواء الحياة المتحرّكة من خلال ضوابط هذا العقل، و أحكامه، و معاييره، على أساس أنّه الأعظم في البراهين و النتائج و الحقائق.. ﴿وَ ٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ_ًٔا وَ جَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَ ٱلۡأَبۡصَٰرَ وَ ٱلۡأَفۡ_ِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ﴾ (النحل: 78) (1). و السمع و الأبصار، في هذه الآية، كناية عن الإدراكات الحسيّة الماديّة، بينما الأفئدة كناية عن العقل و الإدراكات الفكريّة المعنويّة الخارجة عن حدود المادّة و نطاقها، بحيث يتكامل الجانبان (الماديّ و المعنويّ) في الفعل الحياتيّ لتحقيق المعرفة الغائيّة المعتبرة.
و نحن عندما قلنا إنّ طريقَ العقل سبيل أساسيّ و معيار رئيسيّ للمعرفة (التي تُوصِلنا إلى حقيقة الإيمان) لم نقصد ترك الطرق و السبل و البراهين و الإثباتات الأخرى أو إهمالها، بما فيها السّير و التطلّع في الآفاق و في الأنفس (2)، و التّفكّر المتدبّر في الخلق و التأمّل في الوجود، لأنّ الأمر يتعلّق هنا بأهميّة الحديث عن العقل، و دوره الحيويّ في تأسيس المعرفة الإنسانيّة على مبانٍ معرفيّة راسخة و رصينة، و ذلك من خلال ضرورة ممارسة حركة الفكر و الواقع استناداً إلى معطيات السلوك العقليّ و المعرفيّ البرهانيّ و الاستدلاليّ، بقواعده المتعدّدة و أبعاده المتنوّعة.
ص: 92
ص: 93
ليس جديداً التطرّق لموضوع العقل، و محاولة التعرّف إلى معناه، في الفكر الإسلاميّ، فقد كان لهذا المفهوم مجالات بحث واسعة عند المسلمين في الفلسفة و علم الكلام و غيرهما من المعارف الفكريّة، جرى التوصّل من خلالها إلى نتائج عديدة، برزت فيها توجهات مختلفة و متنوّعه الاتّجاهات؛ إلّا أنّ التوجّه الأكثر رواجاً، و الذي يمكن القول إنّه يمثّل وجهة النظر الإسلاميّة التقليديّة المعروفة، هو ذلك الذي ينظر إلى العقل بوصفه فعلاً غريزيّاً فطريّاً "غير مكتسب"، و هو الذي يُكسِب الإنسان إنسانيّته. و هذا الفعل يُبنَى على وجود مسلّمات موجودة فيه لكونها «علماً ضروريّاً».
و اعتماداً على هذا العلم الضروريّ القائم يستطيع الإنسان بناء المعرفة التي توصف ب"المكتسبة"؛ ممّا يعني أنّ العقل ليس مفهومًا عضويّاً فيزيولوجيّاً، و إنمّا هو "فعل" و قدرة و طاقة تتطوّر بالعمل و الاكتساب و التجارب المعيشة.
أمّا بنية العقل في منظورها الإسلاميّ فهي تتألّف من العلم الضروريّ و القدرة على المعالجة (التحليل و التركيب و الحفظ و المقارنة).
لم ترد كلمة عقل في القرآن الكريم، بصيغتها أو بلفظها هذا (العقل)، ولكنّها وردت بعدّة ألفاظ لغويّة أخرى، منها عقلوه، تعقلون، يعقلون، نعقل، و يعقلها، اعقلها .. و هكذا. و بلغ عدد المواضع التي وردت فيها كلمة العقل في القرآن الكريم ما يقارب الخمسين موضعاً. و تشير غالبيّة تلك المواضع إلى أهميّة التمييز بين الحقّ و الباطل، و ضرورة إدراك الحقّ الباطل، على
ص: 94
حقيقتيهما، و ذلك خلال الدعوة العقليّة إلى التدبّر في الكون و الخلق، و التأمّل في الوجود، و التفكير في ملكوت السماء و الأرض، و مخلوقات الله الأخرى، يقول تعالى: ﴿كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 242). (وَ النُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل: 12).
و إذا أخذنا مرادفات العقل الأخرى، التي أشير إليها سابقاً، فإننّا نجد القرآن، قد تناولها بصيغ أخرى من قبيل: يتفكّرون، يتدبّرون، و الحكمة. و هذه بلا شكّ تؤكد الحاجة إلى الوعي و البصيرة، فيما يتعامل معه الإنسان ممّا يحيط به، و يتفاعل معه، و يتحرّك في ضوئه.
وردت لفظة «عقل» في كثير من المعاجم اللغويّة العربيّة، و بعدّة تصريفات منها: عاقلة، عقال، عاقول، عقول، و غيرها. و من المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، و الغلام أدرك و ميّز. و يقال: ما فعلت هذا منذ عقلت. و العاقل هو الشخص المدرِك. و من المعاني، أنّ العقل هو ما يقابل الغريزة، التي لا اختيار لها. و منه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. و منها ما يكون به التفكير و الاستدلال، و تركيب التصوّرات و التصديقات. كما أنّ من المعاني الواردة حول موضوع العقل، أنّه ما يتميّز به الحسن من القبيح، و الخير من الشرّ، و الحقّ من الباطل. كما أنّ معنى القلب، و الحصن، و الملجأ، كلّها من المعاني المعبّرة عن العقل، في بعض الاستخدامات.
ص: 95
تعريف العقل في المعجم الوسيط (1):
جاء في هذا المعجم، عقل الأمر: تدبَّره، فهمه و أدركه على حقيقته: _ ظنّ العاقل خير من يقين الجاهل _ (قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) _ (يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ).
عقل البعير و نحوه: ضمَّ رُسْغَ يده إلى عَضُدِه و ربطهما معًا:
- اعْقَلْهَا وَ تَوَكَّلْ [حديث].
عقل الغلام: أدرك و مَيَّز، بلغ سِنَّ الرُّشْد: - الصلاة فرض
عقّل الأب ابنه: جعله يفهم الأمورَ على حقيقتها و يتدّبرها: _ المصائبُ تُعقِّل النَّاسَ _ حاول تعقيل ابنَه الطائش.
ع ق ل: العَقْلُ الحِجر و النُّهى، و رجل عاقِلٌ و عَقُولٌ، و قد عَقَلَ من باب ضرب، و مَعْقُولاً أيضاً و هو مصدر، و قال سيبويه هو صفة، و قال: إنّ المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتّة. و العَقْل أيضاً الدية، و العقول بالفتح الدواء الذي يمسك البطن. و المَعْقِل الملجأ، و به سُمِّي الرجل. و مَعْقِلُ بن يسار من الصحابة رضي الله عنهم، ينسب إليه نهر بالبصرة، و الرطب المَعْقِلِيّ أيضاً. و المَعْقُلة بضمّ القاف الدية و جمعها مَعاقلُ، و العَقِيلَةُ كريمة الحيّ، و كريمة الإبل و عقيلة كلّ شيء أكرمه، و الدرّة عقيلة البحر، و العِقَالُ صدقة عام...الخ.
أمّا معجم ويبستر (Webster) (2) فقد أورد معاني عدّة لكلمة
ص: 96
«عقل»، تحت الكلمة الإنجليزيّة (Mind)، و من هذه المعاني: الذاكرة، التذكّر أو الاسترجاع. و قد تعني ما يفكّر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع. و من المعاني الواردة: أنّه يعني الإدراك، الشعور، الانتباه، الذكاء، الملاحظة. و قد قصرت بعضُ التعريفات في هذا القاموس العقلَ على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، ممّا يمكن تصنيفه على أنّه جزء من الشعور، إلّا أنّ تعريفاً آخر، يضيف الخبرة اللاشعوريّة، كعمل من أعمال العقل. و التعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هو: طريقة، و حالة، و اتّجاه للتفكير و الشعور، الذي يكون عليه الفرد. و قد وردت معانٍ مثل الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، كمعانٍ معبّرة عن العقل.
أمّا المعاجم المتخصّصة في التربية و علم النفس، فتعريف المصطلح فيها يتشعّب بين الذكاء، و الفهم، و القدرة العامّة، و القدرات المتخصّصة، إضافة إلى القدرات الشعوريّة و اللاشعوريّة.
لقد حاول العلماء و المفكّرون أن ينطلقوا، في فهم حقيقة العقل، من خلال المعنيين: الماديّ و الروحيّ، في ما يمتاز كلّ منهما بسمات خاصّة و خصائص عامّة استند إليها علماء المذهبين (المذهب الروحيّ و المذهب المادّيّ) في وعيهم لمعنى العقل، و حقيقته، و ماهيّة الإدراكات الحسيّة و المعنويّة المتنوّعة التي تلتقي لتؤسّس عمليّة التفكير و الاختزان على قواعد معيّنة خاصّة بهذا الطرف أو ذاك، لتخرج _ نتيجة المحاكاة _ على هيئة صيغة قانونيّة، أو جملة مفيدة، أو نتاج إنسانيّ معيّن.
و من هؤلاء العلماء الفلاسفة (فلاسفة العرب و الإسلام) الذين تناولوا العقل بالتعريف، الفارابيّ، و ابن سينا، و ابن رشد.. كان الفارابيّ
ص: 97
«أرسطيّ» المذهب و مشبّع بقوّة الأفلاطونيّة المحدثة، و بخصوص تعريفه للعقل، فيلاحظ أنّه ارتبط مع الفيلسوف الكنديّ، بتصوّر الاعتماد المباشر على العقل الفعّال (الصّادر الإلهيّ الأخير) و على ثلاث مراتب للعقول البشريّة: العقل بالقوّة، و العقل بالفعل، و العقل المستفاد. و العقل بالقوّة ينتقل بواسطة العقل الفعّال و مساعدته إلى مرتبة العقل بالفعل، و العقل المستفاد يتعامل بشكل محض مع المفاهيم التجريديّة التي توصّل إليها العقل بالفعل. مع الجدير بالعلم أنّ أنشطة المعرفة البشريّة مستمدّة من العقل الفعّال المبدع و هو أساس العقول. فالعقل ملكة، و به تحصل النّفس على معرفة بالحقائق المطلقة، و الذي نتلقّاه من الخارج كالهواء الذي نتنفّس. محدوديّة عقولنا بحاجة إلى إلهام من عقل مفارق كليّ غير متغيّر، و الذي سمّاه الفارابيّ بالعقل الفعّال (العقل الفاعل عن أرسطو).
و أمّا ابن سينا فكان يقول إنّ العقل عبارة عن العقل القدسيّ المتجرّد عن المادّة، و هو «كالعقل الهيولانيّ، يكون فيه شديد الاتّصال بالعقل الفعّال، كان كلّ شيء من نفسه. و أمّا القوّة النظريّة فهي قوّة من شأنها أن تنطبع بالصور الكليّة المجرّدة عن المادّة. فإن كانت مجرّدة بذاتها فأخذها لصورتها. و إن لم تكن فإنّها تصير مجرّدة بتجريدها إيّاها حتّى لا يبقى فيها من علائق المادّة شيء» (1). بينما يعرف ابن رشد العقل بأنّه عبارة عن «قوّة تجريد، من شأنه أن ينتزعَ الصور من الهيولى، و يتصوّرها مفردة، على كنهها، لا ظاهرها، و هناك صور عديدة للعقل، منها العقل بالفعل، و العقل بالقوّة، و العقل بالملكة» (2).
ص: 98
أمّا الفلاسفةُ الغربيّون فانقسموا (في هذا المجال) إلى صنفين أو فئتين، الأولى تعتقد بأصالة العقل في المستوى الروحيّ، و امتلاكه القدرة على إدراك مفاهيم الكون و حقائق الوجود ذاتيّاً و جوهريّاً دون الحاجة إلى اعتماد قضايا الحسّ و قوانين المادّة. و يأتي كلّ من الفيلسوفين («ديكارت» و «كانت») على رأس المنتمين لهذه الفئة.
أمّا الفئة الثانية فتقول إنّ الإنسان خُلق و ليسَ في ذهنه شيءٌ يذكر، بل إنّ صفحة ذهنه بيضاء لم تُخطّ فيها كلمة واحدة. أي إنّ الإدراك العقليّ ماديّ بالذات. و قد قال بذلك الفيلسوف الانكليزيّ المعروف «جون لوك» (1632-1704) الذي قسّم المعرفة إلى قسمين: معرفة وجدانيّة و تأمليّة (روحيّة)، و معرفة حسيّة ناشئة من وقوع الحسّ على المعنى المعلوم (1). و كان يعتقد بأنّ الذهن البشريّ لا يستقبل إلّا الإحساسات و الإدراكات الحسّيّة، أمّا مفاهيم «العلّة» و «السّببيّة» و «الجوهر» و «الأعراض» و «الأحوال» فلا يستقبلها الذهن من الخبرة، بل يتوصّل إليها عن طريق التركيب و الدمج بين ما تلقّاه من مدركات (2). و اشتهر «جون لوك» (زعيم الحسّیّين) بعبارته المشهورة: «إذا سألك سائل: متى بدأت تفكّر؟ فيجب أن تكون الإجابة: عندما بدأت أحسّ» (3).
كما استبعد ديفيدهيوم (تُوفيّ سنة 1777م) مفهوم المعرفة الفطريّة
ص: 99
(العلم الضروريّ) جملةً و تفصيلاً.. و كان يعمل جاهداً لأخذ المنطق الوضعيّ إلى نهايته؛ مبيناً أن مبادئ العقل و عمليّاته، هي بحدّ ذاتها ليست فطريّة، و إنمّا اكتسابيّة.. لكنّ إنكار «هيوم» أدّى إلى إنكار الرابطة الضروريّة بيّن السبب و المسبّب، و تحويلها إلى رابطة شكليّة ظاهريّة ناتجة من مجرّد الألفة و العادة.. و هو ما يؤدّي بالفكر الوضعيّ إلى نسبيّة مطلقة. فالعقل لم يعد ينطوي على مبادئ ثابتة، بل على مجموعة من القواعد المستمدّة من العادة و الألفة.
و قد عالج، بعد ذلك _ بعض المفكّرين المتخصّصين _ هذه المسألة من خلال البحوث و الدراسات العلميّة التجريبيّة التي أريد لها أن تصبغ الإدراك العقليّ بالصبغة المادّيّة البحتة من حيث المستويات الخاصّة في الأحداث و المعادلات الفيزيائيّة الكيميائيّة و الفيزيولوجيّة، بناءً على أنّ المادّة هي الحقيقة الوحيدة الواضحة في هذا الكون. و أنّ ما يكتسب في مجال الطبيعة و البشر و الحياة _ و ما ينتج منه من قوانين فيزيائيّة و رياضيّة و علميّة و اجتماعيّة _ يجب إنّ يقوم قائماً على الحسّ و التجربة فحسب، ليكون صادقاً و حقيقيّاً و فاعلاً و نافعاً.
ولكن يلاحظ على تلك المستويات التي ركّزت فقط في البعد الحسيّ و المادّيّ (العضويّ) في فهم ماهيّة الإدراك و معنى العقل و تعريفه، ما يلي:
أولاً: إنّ ادّعاء الفلسفة الماديّة، في البداية، أنّ المادّيّ هو ما تدركه الحواسّ، و أنّ ما لا تدركه غير ماديّ، و بالتالي غير موجود، هذا الادّعاء ناقضه التطبيقات العلميّة ذاتها، فمثلاً الذرّات و جزئيّاتها _ التي تقول العلوم الفيزيائيّة الذرّيّة بوجودها _ لا تُدرك بالحواسّ و الإدراكات الحسّيّة، و بعضها لا كتلة له، و حركة الذرّة لا تتبع نمطاً
ص: 100
محدّداً، و الثقوب السوداء تحطم قوانين الزمان و المكان. من هنا جرت إعادة تعريف الماديّ بأنّه كلّ شيء يوجد وجوداً موضوعيّاً؛ أي إنّه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على عقلنا أو وعينا به. و بهذا المعنى، فإنّ الفلسفة الماديّة لا يمكنها إنّ تستبعد العناصر غير الماديّة إنْ تجلّت موضوعيّاً في واقعنا (1).
ثانياً: إنّ معالجة مسألة الإدراك العقليّ _ في جوهره الفلسفيّ _ ليست من شأن أو اختصاص العلوم الماديّة فقط. لأنَّ العلمَ الماديّ ينحصر نشاطه الفكريّ و مجال اختصاصه العمليّ في نقطة مركزيّة واحدة أو في بؤرة محدّدة و معيّنة وحيدة، و هي أنّه يبحث _ من خلال قوانينه الخاصّة به، و مخابره، و أساليبه التجريبيّة، و وسائله العلميّة المعيارية الحسّية _ في ماهية الأشياء كما هي في الواقع، أو كما تظهر و تبدو في الواقع العينيّ التجريبيّ، و تظهر للإدراكات الخارجيّة، مع دراسة آثارها و نتائجها الظاهرة و المضبوطة بواسطة الحواسّ الماديّة، و تجارب المختبرات، و قوانين الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها من معايير العلوم الماديّة الحسّيّة. لذلك لا يمكن أنْ نثبت أحداث الأجهزة المتعلّقة بماهيّة التفكير و الإدراك (و ظواهرها المتنوّعة) استناداً إلى ما تقدّمه تلك العلوم من وسائل و أدوات و قوانين، على أساس أنّها هي نفسها الإدراكات التي نحسّها من تجاربنا في الواقع العامّ.. و إنّما الحقيقة التي لا يرقى إليها شكّ و لا جدال، هي أنّ هذه الأحداث و العمليّات الفيزيائيّة و الكيميائيّة و الفيزيولوجيّة، ذات صلة بالإدراك و بالحياة السيكولوجيّة للإنسان، و هي تلعب دوراً فعّالاً في هذا المضمار .. بمعنى أنّ العلم (بما
ص: 101
هو معادلات و قوانين و معايرات و قياسات و نظريّات و تجارب في مختبرات، تبحث في الجانب الحسّيّ التجريبيّ) لا يثبت ماديّة الإدراكات العقليّة، على أساس أنّ هناك فرقاً واضحاً بينَ كون الإدراك شيئاً تسبقه (أو تقارنه) عمليّات تمهيديّة في مستويات ماديّة عضويّة، و بين كون الإدراك بالذات ظاهرة ماديّة، و نتاجاً للمادّة في درجة خاصّة من النموّ و التطوّر و الحركة (1).
ثالثاً: هناك مجموعة من المفاهيم و المقولات و القضايا العقليّة لا تستند عمليّاً إلى الحسّ و المادّة و التجارب «المخبريّة» التحليليّة القياسيّة (معايرات و قياسات و نسب و معدلات) لإثبات مصداقيّتها و حقيقتها الخارجيّة، من قبيل مفاهيم و قضايا (العلّة و المعلول، الجوهر و العرض، الإمكان و الوجوب، الوحدة و الكثرة، الوجود و العدم، و ما إلى ذلك من تصوّرات تصديقيّة و مفاهيم فلسفيّة أخرى).. الأمر الذي يجعل النظريّة الحسيّة تُخفِق إخفاقاً ذريعاً في إرجاع جميع قضايا الإدراك الذهنيّ البشريّ و مفاهيمه و بديهيّاته إلى المادّة، لأنّ تلك المفاهيم هي مفاهيم «انتزاعيّة» أوليّة و ثانويّة، ينتزعها العقل البشريّ من خلال تأمّله و ملاحظته لحركة الواقع الكونيّ و الإنسانيّ، و على ضوء المعاني المحسوسة أيضاً.
رابعاً: عندما يقول أصحاب النظريّة الحسيّة عبارتهم التالية: «العقل ماديّ بالذات، و هو مادّة في إدراكه للوقائع كافّة».. هذه العبارة أو المقولة، هل هي (بحدّ ذاتها) معرفة أزليّة (أو أوليّة) حصل عليها الإنسان من دون الرجوع إلى تجربة سابقة، أم هي
ص: 102
ليست معرفة فطريّة (غير ضروريّة) بل هي تجريبيّة؟! فإذا كانتْ معرفة أوليّة سابقة على التجربة، فقد سقط المذهب التجريبيّ برمّته، و بطلتْ مزاعمه و أسانيده جميعها، و بالتالي ثبت وجود معلومات ذاتيّة و أفكار فطريّة أوليّة و إدراكات غير ماديّة سابقة على المادّة، في مستوى معنويّة العقل و روحانيّته. و أمّا إذا كانت هذه المعرفة تحتاج أساساً إلى تجربة كي تقرّر صحّتها و مصداقيّتها (الحقيقيّة)، فمعنى ذلك: أنّنا لا ندرك في بداية الأمر أنّ التجربة (و معايير الحسّ) مقياس منطقيّ، مضمون الصدق، فكيف يمكن البرهنة على صحّته (و اعتباره مقياساً) بتجربة، ما دامت (هذه التجربة) غير مضمونة الصدق بعد؟! .. بمعنى أنّ «التجربة لا تؤكّد مصداقيّة نفسها و قيمتها و فاعليتها»، فكيف بغيرها؟.. و بناءً على ذلك ستحتاج كلّ تجربة إلى تجربة أخرى، و هكذا دواليك، حتّى نصل إلى التسلسل، و التسلسل باطل و محال عقلاً؟! (1).
يضاف إلى ذلك أنّ المذهب التجريبيّ عاجز (في مستوى إيضاحه للإدراك العقليّ الماديّ) عن إثبات حقيقة المادّة بالذات. لأنّ العلماء لم يصلوا حتّى الآن، في جميع مستويات بحوثهم التجريبيّة و نتاجاتهم العلميّة (و تنوّعاتها و تفرّعاتها و اختصاصاتها الدّقيقة) إلى الدرجة التي تؤهّلهم لمعرفة حقيقة المادّة، و بيان جوهرها، و الكشف عنها بالذات. بل كلّ ما استطاعوا معرفته أساساً هو وجود مجموعة من الظواهر العرضيّة المختصّة بحركة المادّة في بعديها المتناهي في صغره (الذرّة و الخليّة) و المتناهي في كبره و ضخامته (المجرّة و الكون).. و لذلك فالحقائق الميتافيزيقيّة، و قولنا : «إنّ العقل جوهر
ص: 103
روحانيّ» في مستوىً ماديّ، ليسَ هو وحده المحتاج إلى البرهنة و المفتقر إلى الإثبات، بل المادّة هي نفسها بحاجة إلى إثبات صحّة مقولاتها و برهان حقيقة ادّعاءاتها.
خامساً: هناك جانبان يرتبطان بموضوع «ماديّة» الإدراك العقليّ، و حسّيّته، أو روحانيّته و معنويّته. و هما الجانب العلميّ و الجانب الفلسفيّ. و الملكات العقليّة الإنسانيّة تتّصل عمليّاً بالجانبين معاً.
أمّا الجانب الفلسفي فإنّه يتجلّى في نظريّة «الملكات و الإدراكات» التي تقسم العقل الإنسانيّ إلى قوى إدراكيّة، و ملكات ذاتيّة عديدة، من نشاط العقل و الذهن و فاعليتهما، كالانتباه و الذاكرة و التفكير و الإرادة و الصبر و العزيمة و غيرها. فهذه الفكرة تدخل في «النطاق الفلسفيّ لعلم النفس»، و هي ليست فكرة علميّة بالمعنى التجريبيّ العلميّ البحت. لأنّ التجربة (سواء كانت ذاتيّة كالاستبطان، أو موضوعيّة كالملاحظة العلميّة لسلوك «الغير» الخارجيّ) غير صالحة و غير مؤهّلة، علميّاً، للكشف عن تعدّد المَلَكَات أو وحدتها. و كثرة القوى العقليّة أو وحدتها، لا تقعان في ضوء التجربة مهما كان لونها و طبيعتها. أمّا الجانب العلميّ من مسألة المَلَكَات فيعني نظريّة التدريب الشكليّ في التربية، و هي تنصّ على أنّ المَلَكَات (و مجمل القوى الإدراكيّة) العقليّة يمكن تنميتها جميعاً، و بلا استثناء، بالتدريب في مادّة واحدة، و في نوع واحد من الحقائق. و قد أقرّ هذه النظريّة عدد من علماء النفس التربويّين المؤمنين بنظريّة المَلَكَات، التي كانت تسيطر على التفكير النفسيّ (السايكولوجيّ) إلى القرن التاسع عشر، افتراضاً منهم أن المَلَكَة
ص: 104
إذا كانت قويّة أو ضعيفة عند الشخص، كانت قويّة أو ضعيفة في كلّ شيء. و من الواضح أنّ هذه النظريّة داخلة في النطاق التجريبيّ لعلم النفس.
سادساً: «استحالةُ انطباع الكبير في الصغير». حيث إنّ الإدراكَ العقليّ يرتكز على الخصائص الهندسيّة للصورة المدرَكة، و المشتملة على طول، و عرض، و ارتفاع، و عمق.. ولكنّ هذه الخصائص الهندسيّة (و على أساس ظاهرة الثبات في الإدراك البصريّ للصور التي تنعكس في أذهاننا) ليست هي نفسها كما هي في الخارج، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما توصّل إليه العلم الحديث من إنّ الأشعة الضوئيّة تنطلق من المرئيّات إلى العين، ثمّ تنعكس منها على الشبكيّة (1).
من هنا نجدُ أنّ إدراك العقل لماديّة الأشياء، كما هي بذاتها شكلاً و مقاسات، أمر مستبعد. لأنّ هذه الأشياء _ و معها جميع الصور المُدْرَكة _ لها صفات هندسيّة، و خصائص مكانيّة، و أبعاد ماديّة حسيّة محدّدة و معيّنة من الطول، و العرض، و العمق و الامتداد. لذلك يستحيل أن تنطبع (تلك الصور) في فكرنا و ذهننا كما هي في حقيقة الأمر لعدم التناسب المادّيّ.. كأن يدرك عقلك مثلاً طائرة أو سيارة أو حديقة، بوصفها نتاجاً مادّيّاً قائماً في عضو الإدراك المحدّد ضمن الجهاز العصبيّ، و هو أمر غير وارد بالمطلق. لأنّ العقل (مع إدراكه لحقيقة الأشياء كما هي بحجمها و أبعادها) سيظلّ يصدر أسئلته الفلسفيّة العميقة حول ماهيّة هذه الصورة العقليّة، و حول طبيعتها الذاتيّة، التي كوّنها الإحساس البصريّ مع أحاسيس
ص: 105
و حركات أخرى، و يسأل: أينَ هو المكان أو الحَيّز الذي توجد فيه تلك الصور؟ و أين يحتويها؟!! هل هي قائمة في عضو مادّيّ، أو في صورة ميتافيزيقيّة مجرّدة عن المادّة. ثمّ إنّ خلايا الإنسان تتجدّد بالكامل، كما ذكر العلماء، كلّ حوالَى عشر سنوات (1). لذلك من أين لنا أنْ نصدّق أو نؤمن بأنّ صورةً تمتدّ إلى كيلومترات عديدة يمكن إنّ تنطبعَ كما هي (بحجمها و امتدادها الطبيعيّ) على صفحة «وُريقيّة» صغيرة جدّاً من الذهن أو الدماغ ؟!..
و يجبُ ألّا ننسى هنا أنّ الصورة العقليّة و الإدراكات المتعلّقة بها تميل إلى الديمومة و الثبات، و لا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة عن الجهاز العصبيّ.. فمثلاً إذا جئنا بقلم كتابة، و وضعناه على بعد متر واحد منّا، انعكستْ عنه صورة ضوئيّة خاصّة، لها أبعاد محدّدة معروفة. و إذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه (عن القلم) و نظرنا إليه من على بعد مترين، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الأولى، مع إدراكنا لعدم تغيّر البعد المادّيّ للقلم (حجم القلم). بما يفيدنا بأنّ الصورة العقليّة للقلم _ التي نبصرها أمامنا _ تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر الصورة الماديّة المنعكسة. و هذا يبرهن بوضوح على إنّ العقلَ (أو الإدراك) ليس ماديّاً، و أنّ الصورة المدرَكة المنطبعة في الذهن هي صورة غير ماديّة (ميتافيزيقيّة).
ص: 106
و من الواضح أنّ هذا التفسير الفلسفيّ لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علميّ لها يمكن أن يقدّم في هذا المجال. فيمكنك أنْ تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الصورة المدركة _ في مظاهرها المختلفة _ يرجع إلى الخبرة و التعلّم، كما يمكنك أن تقول _ في ضوء التجارب العلميّة _ إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثّبات في مختلف مظاهره، و التنظيم المكانيّ للموضوعات الخارجيّة التي ندركها.
طبعاً هذا التفسير لا يعني حلّ المشكلة من الناحية الفلسفيّة، إذْ إنّ الصورة المبصرة (التي لم تتغيّر طبقاً للصورة الماديّة، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة أو بحكم تنظيمات مكانيّة خاصّة) لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعيّ، على مادّة الجهاز العصبيّ. لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين و الواقع، و تلك الصورة البصريّة ثابتة.
و هكذا نجد أنّ العقل، و إدراكاته المتعدّدة و المتنوّعة، ليسا ماديّين بالذات أو قائمين بالمادّة، بل إنّ الحياة الفعليّة (بما تتضمّنه من صور و أفكار و إدراكات) تتكامل في الحياة من خلال ممارسة حركة الفكر و الواقع، على صعيد الإنسانيّة المفكّرة. و ليست هذه الإنسانيّة المفكّرة شيئاً المادّة كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة نوعيّة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصل إليها الكائن الحيّ في حركيّة تطوّره و تكامله. فالمدرك و المفكّر هنا هو هذه الإنسانيّة اللاماديّة (الروحيّة)، و إنْ كان العضو الماديّ يهيّئ لها شروط الإدراك، للصلة الوثيقة بين الجانبين الروحيّ و الماديّ في الإنسان (1)
و قد حاول بعض الماديّين الإجابة عن هذا الدليل _ كما عبّرنا
ص: 107
سابقاً _ من خلال اعتقادهم التجريبيّ بأنّ ما نراه هو صورة صغيرة (مثل الميكروفيلم) توجد في الجهاز العصبيّ، ثمّ نحن نتعرّف إلى حجمها الواقعيّ بمساعدة القرائن، و قياس النسب (1).
ولكن يلاحظ على هذا الجواب ما يأتي:
ألف: هناك فرق واضح بين الحجم (و البعد) بوصفه بعداً ماديّاً، و بين طبيعة الرؤية، رؤية الصورة المكبّرة الحائزة و الممتلكة لهذا الحجم (و هو بعدٌ معنويّ في مستوى المادّة). أي إنّ معرفة حجم صاحب الصورة تختلف تماماً عن رؤية الصورة الكبيرة.
باء: لم تصل الأبحاث العلميّة، إلى درجة الحسم و القطع في ما يتعلّق بمسألة وعي حقيقة المادّة المدركة و معرفتها بالذات، بل كلّ ما هنالك هو وجود أبحاث تتمحور حول دراسة النتائج الخارجيّة، و الظواهر و الخصائص المختلفة المرتبطة بالمادّة من حيث العلاقة العرضيّة لا الذاتيّة الجوهريّة. و هذا أمر بحثيّ موجود في جميع العلوم الإنسانيّة النظريّة و التطبيقيّة.
جيم: لو سلّمنا جدلاً بأنّ الصورة المرئية التي نريد إدراكها صغيرة جدّاً، ثمّ قمنا بتكبيرها ماديّاً في الذهن من خلال القرائن و قياس النسب، فإنّنا سنبقى نتساءل عن ماهيّة احتواء الذهن على الصورة الكبيرة و انطباعها فيه.. بمعنى أنّنا سنجد دائماً في ذهننا صورة كبيرة، حيث سيتكرّر الدليل المذكور بعينه بالنسبة لهذه الصورة الذهنيّة و الخياليّة.
سابعاً: إنّ الإنسان يستطيع أن يدرك عمليّاً صورتين مرئيّتين
ص: 108
في آن واحد، بحيث يمكنه القيام بعمليّات المقارنة أو التماثل أو الاختلاف أو التساوي.. و ما إلى ذلك. فلو فرضنا أنّ للصورتين حيّزاً ماديّاً «ينتقش» في البدن، و أنّه يمكنُ إدراكهما عن طريق الارتسام أو الحلّ الخاصّ، فلازم ذلك أنْ يصبح _ كلّ جزء من جسم المدرك _ قادراً على إدراك تلك الصورة «المرسومة» فيه و حسب، و أن لا يكون له علم بالصورة الأخرى مع وجود عمليّات المقارنة بينهما (1). فأيّ قدرة مدركة تدركهما معاً، و تقيس إحداهما إلى الأخرى؟!. و لو فرضنا وجود عضوّ مادّيّ آخر يدرك الصورتين معاً، فسنتساءل، مرّة أخرى، عن ماهيّة هذا الإدراك الجديد؟! لأنّ لكلّ عضوّ مادّيّ آخر مستوىً مادّيّاً يدركهما معاً، و يقيس إحداهما إلى الأخرى؟! ثمّ إنَّ لكلّ عضو ماديّ أجزاءً. فإذا كان الإدراك عبارة عن «تجسيد» الصورة في محلّ ماديّ، فكلّ جزء منه يدرك تلك الصورة المرتسمة فيه، و بالتالي فإنّه لا تحصل أيّة مقارنة. إذاً لا بّد من أن نسلّم بوجود قوّة مدركة بسيطة تدركهما معاً، و بالتالي يثبت عدم انطباع الصورة في محلّ ماديّ، الأمر الذي يؤدّي إلى الإيمان بتجرّد الإدراك العقليّ و تجرّد النفس المدركة.
ثامناً: هناك قضية تتّصل بماديّة الإدراك العقليّ، و هي أنّ المادّة (و الإدراك العقليّ جزء منها) أزليّة .. ولكنّ العلم نفسه بات يشكّك اليوم بهذه الأزليّة، فالمادّة تتحوّل إلى طاقة و الطاقة تتحوّل إلى مادّة، و قابليّتها للتحوّل تعني أنّ بقاءها في هيئتها المعيَّنة كان معتمداً على ظروف خارجة عن ذاتها، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة. و من ثمّ فالمادّة ليست معتمدة في وجودها على نفسها، بما يعني
ص: 109
أنّها يستحيل أن تكون آليّة، فكلّ ما يتحلّل و يتحوّل فليس بأزليّ غير حادث، بل هو حادث غير أزليّ.
و علم الكونيّات استقرّ على هذه نظريّة «نظريّة حدوث المادّة» و عدم قدمها، من خلال ما توصّل إليه العلم الحديث من تفسير لنشأة الكون بناء على نظريّة «الانفجار العظيم» التي صمدت أمام جميع الاختبارات إلى وقتنا الحاضر، و حظيت بالقبول الواسع في تفسير بدء خلق الكون، و نفي أزليّته و تقرير أنّه حادث. حيث أقرّ أصحاب النظريّة بعدم أزليّة الكون، و أنّ للكون بداية بدأت من نقطة الصفر، و لو أصابوا في التعبير لقالوا من لا شيء، أي: من العدم.
نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ العقلَ Mind عبارة عن جوهر روحانيّ أو ملكة روحيّة بمستوى ماديّ متقدّم، تمثّل معياراً للتمييز و المقارنة بين الأشياء، و أداة معرفيّة أساسيّة يمكن أن يصل الإنسان عن طريقها إلى نيل مطالب و الوصول إلى غايات تعجز إدراكاته الماديّة الحسّيّة عن الوصول إليها . إنّه قدرة و طاقة ذهنيّة فائقة النوعيّة، منحها الله تعالى للإنسان، بها يميّز و يوازن و يحكم و يدرك الأشياء و الموجودات و سائر الكائنات الحيّة. الأمر الذي يوجب على الإنسانيّة كلّها أن تتحرّك بكل نشاط و فاعليّة على ضوء تكريم الله لها بميزة العقل و نعمة التفكير من أجل تحقيق غاية الخلق و الوجود الإنسانيّ.. (وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ الطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70 ).
و جاء في بعض الأحاديث ما يلقي ضوءاً على حقيقة العقل: «العقلُ عقلان، عقلُ الطبع و عقلُ التجربة، و كلاهما يؤدّي إلى
ص: 110
المنفعة» (1). و هو يكشف لنا عن عمق الشخصيّة النفسيّة الإنسانيّة التي يشكّلها أساسان نفسيّان يتحرّكان في داخل ذواتنا، و هما العقل الواعي (الشعور، التجربة)، و العقل الباطنيّ (اللاشعور، الطّبع).
فالأوّل مسؤول مسؤوليّة مباشرة عن سلوكيّات الإنسان و مختلف تصرّفاته الاختياريّة الحياتيّة، في ما ينتجه من أفعال و حركات و سَكَنَات في إطار الوعي و الصحوة و اليقظة، أيّ حال كونه متيقظاً بحواسّه و مداركه. أمّا الثّاني فهو مَلَكَة روحيّة، و ليس شيئاً ملموساً.. أي ليس له أيّ واقع ماديّ مشهود و معاين. بل يتكوّن من مجموعة من المكبوتات و الروحيّات المكنونة في أعماق نفس الإنسان، التي لا تظهر إلّا في حالات غياب سيطرة العقل الواعي (الشعور).
و يطلق اسم المكبوتات على جملة ميول الإنسان و أسراره و رغباته الخاصّة. أمّا الروحيّات فهي عبارة عن فطريّات إنسانيّة و دوافع مثلى كحبّ العلم و حبّ الخير و النفور من الشرّ، و كذلك العقد النفسيّة المختلفة كعقدة الكبر و العجب.
إذاً، عرفنا ممّا تقدّم أنّ نظريّة المعرفة في الإسلام تختلف عن نظريّة المعرفة الماديّة، ففي حين تتبنّى المدرسة الماديّة منهج «ماديّة الإدراك»، و معلوليّته لذاته، تتبنّى مدرسة الإسلام منهج المعرفة العقليّة دون ترك العلم و مقولاته و حقائقه الصحيحة القائمة على مبادئ العقل و العلّة و المعلول و غيرها، حتّى على نتائج المختبرات العلميّة الحسيّة.
وقد اتضح لنا - بالبرهان العقلي والفلسفي - عدم صوابية المنهج
ص: 111
الحسّيّ التجريبيّ في الوصول إلى الحقائق و المعارف المعتبرة دونما اعتماده على مبادئ العقل و بديهيّاته الفطريّة المعروفة و على رأسها مبدأ العلّيّة الذي هو بدوره شرط أساسيّ وجوهريّ للعلم بوجود واقع موضوعيّ خاصّ بهذا الحسّ أو ذاك، بل هو ما يكسبُ الإحساس بعده الحقيقيّ.
لا بدّ من أنْ نشير أخيراً _ في سياق ما تحدّثنا عنه في السابق حول تيّارات الفلسفة الماديّة _ إلى نشوء فروع عديدة منها (من الفلسفة الماديّة) خلال العقود القليلة الأخيرة، عملتْ على دراسة موضوع العقل و الإدراك العقليّ، و البحث عن ماهيّته، و محاولة إعطائه بعداً ماديّاً بحتاً، استدعتْ _ لدى فلاسفة غربيّين آخرين _ ردوداً بحثيّة عميقة أيضاً.
و قد نشأت هذه الفروع الفلسفيّة الجديدة على خلفيّة ما حقّقه العلم و البحث العلميّ الدقيق (علم التشريح البنيويّ) من اكتشافات مهمّة لإمكانات مذهلة خاصّة بتحديد خارطة المخّ البشريّ، و وظائفه المتعدّدة، و آليّاته المعقّدة، و التي ما زالتْ محاولةُ تعميق اكتشافها و تحديدها بدقّة أكبر، و طموح دراستها، من أكثر مواضيع العلم الطبيعيّ حيويّةً و فاعليّة، بحيث إنّها جعلتْ الحديث عن العقل _ ككيان مختلف عن الجسد _ أمراً يحتاج إلى مراجعة في نظر كثير من الفلاسفة.
تركّزتِ انشغالاتُ تلكَ الفروع الجديدة (التي كانَ منْ أبرز رموزها الفلاسفة: هربرت فیجل، آرمسترونج، جون سمارت، هيلاري بُوتنام،
ص: 112
ویلارد کواین، دانیال دینیت، دونالد دافيدسون و غيرهم) على دراسة طبيعةِ العقل و الأحداث و الوظائف و الخصائص الذهنية الخاصّة به، إضافة إلى الوعي، و علاقة ذلك كلّه، بالحالة الجسديّة الماديّة للدماغ تحديداً. حيث أجمعَ فلاسفة هذا المنهج و الاتّجاه الفيزيائيّ أو الطبيعيّ (الماديّ)، على أنّ العقلَ هو مجموعة من الخصائص الماديّة المنبثقة عن الدماغ، و أنّه ليس جوهراً منفصلاً، بل هو و الجسد جوهر واحد. و يتبنّى معظم هؤلاء الفلاسفة (فلاسفة العقل الحداثيّ) الرأي الفيزيائيّ سواء بشكل اختزاليّ أو لا اختزاليّ، محافظين بطرائقهم المختلفة، على أنّ العقل ليس شيئاً منفصلاً عن الجسد (1). و قد أثّرت هذه المناهج بشكل خاصّ على العلوم، و خصوصاً في علم الأحياء الاجتماعيّ، و علم الحاسوب، و علم النفس التطوّريّ، إضافة إلى مختلف مجالات العلوم العصبيّة. و تؤكّد الفيزيائيّة الاختزاليّة أنّ الحالات و الخصائص العقليّة يمكن تفسيرها دائماً عن طريق تقديرات علميّة للحالات و العمليّات الفيزيولوجيّة .. أمّا الفيزيائيّة اللا اختزاليّة فهي تناقش أنّه على الرغم من أنّ العقل ليس جوهراً منفصلاً، إلّا أنّ الخصائص العقليّة تابعة حتماً للخصائص الفيزيائيّة (بم هي مستويات مادّيّة)، أو أنّ الإسنادات و الألفاظ المستخدمة في التفسيرات و الأوصاف العقليّة تكون متلازمة، و لا يمكن اختزالها في اللغة و التفسيرات الدنيا لتفسير العلوم الفيزيائيّة. و ساعدَ تطوّر العلوم العصبيّة المستمرّ على توضيح بعض هذه المشاكل، إلّا أنّه على الرغم من ذلك تظلّ تلك المشكلات بعيدة عن الحلول. بالتالي لا تزال قضية فلسفة العقل إحدى القضايا التي
ص: 113
يستمرّ فلاسفة العقل الحداثيّ في إلقاء الأسئلة من أجل تفسير كلّ من الإمكانيّات الذاتيّة و الخصائص و الحالات العقليّة القصديّة، و ذلك بمصطلحات المذهب الطبيعيّ. إلّا أنّ الفيلسوف كارل بوبر، (1) أكّد أنّ الوضعيّين بنَوا نقدهم للواقعيّة العلميّة على مفهوم ضيِّق للحقيقة، حقيقة الأجسام و الحركات و الألوان و الأصوات المحيطة و المدركة إدراكاً مباشراً بواسطة الحواسّ.. إلا أنّه لم يعمد إلى مواجهة ذلك التصوّر بتصوّر مقابل للحقيقة يجعلها قائمة في النظريّات الفيزيائيّة المجرّدة، بل ذهبَ إلى القول بعدم قبول إضفاء الحقيقة على أيّة معرفة، سواء كانت حسّيّة أم نظريّة، قائلاً إنّ كلّ المعارف البشريّة في الظاهرات تقبل الدحض refutation، لكنّها لا تقبل البرهان؛ و إنّ نموّ المعرفة العلميّة ليس عمليّة تراكم متواصل للحقائق بقدر ما هو إزالة مطَّردة للأخطاء. و لوحظ أنّ عدم إضفاء الصدق على أيّ من المعلومات، كان الوسيلة التي اعتمدها بوبِّر لإلقاء الشكّ حول صدقيَّة المعلومات الأكثر شفافيّة لدى الوضعيّين، و هو يسخِّر المنطق الصوريّ لهذه الغاية، مثلما يسخِّر التطوّريّة الداروينيّة للهدف ذاته، الذي هو النيل من صفة الإطلاق في صحّة الأوصاف الناتجة من الملاحظات العيانيّة و الحسّية (2).
لكن في مواجهة ازدهار هذه النظرة الفلسفيّة الجديدة (النزعة الفيزيائيّة: Physicalism القائمة على قوانين الفيزياء
ص: 114
و معادلات الكيمياء) طرح مفكّرون و علماء و فلاسفة آخرون أسئلة و إشكاليّات فلسفيّة و نظريّة معياريّة كبرى أمامها .. فالوعي البشريّ، و جملة آرائنا و مشاعرنا و أحاسيسنا و قراراتنا المتنوّعة التي نجدها لدينا، ما زالت تمثّل الرقم الصعب في معادلة العقل و الجسد. حيث بقي من الصعوبة بمكان الإجابة عن السؤال الذي طرحه الفيلسوف الأمريكيّ «توماس ناجل»؛ و هو: كيف يبدو أن تكون خفّاشاً؟ فالإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة إلّا بأنْ يملك الإنسان الحالات العقليّة نفسها Mental States التي يشعر بها الخفّاش. و هو الأمر الذي لا يمكننا أيضاً رصده تجريبيّاً. بل إنّنا لا يمكن أن نصف وعي إنسان آخر بالشيء نفسه الذي نعيه نحن، فكلّ منّا عندما ينظر مثلاً إلى وردة تنشأ لديه حالات عقليّة خاصّة به، و هذه الكيفيّة الخصوصيّة هي ما يطلق عليه الكواليا qualia. و هناك أيضاً ما يسمّى بحجّة الزومبي. فإذا كانَ بإمكاننا أن نتخيّل الزومبي، أي جسد يخضع لكلّ القواعد الفيزيائيّة، لكن دون وعي، أي دون حالات عقليّة يعيها الإنسان، فإنّ هذا يعني أنّ تلك الحالات لها وجودها الخاصّ دون الجسد. و في المقابل يبقى تصوّر وجود العقل ككيان مستقلّ أمراً صعباً. فإذا كنا نعلم وفقاً للتجارب الحديثة أنّ ثمّة مناطق في المخّ يمكن _ من خلال استثارتها أو إتلافها _ الحصول على حالات عقليّة معيّنة أو التّأثير فيها، و ثمّة موادّ كيميائيّة (النّواقل العصبيّة) يمكن إذا زادت أو نقصت أن تؤثّر في حالاتنا العقليّة. أي إنّ تلك الحالات هي مرتبطة بلا شكّ بالحالات أو الأحداث العصبيّة، و بالتالي فلا حاجة إلى الاعتقاد
ص: 115
بوجود مستقلّ لها، بحسب أولئك الذين يعتقدون بأنّ تطوّر الدراسات العصبيّة سيكشف عن طبيعة تلك الحالات تماماً (1).
و إضافة إلى ما تقدّم، يمكن الإشارة هنا أيضاً (و لو سريعاً) إلى ما قدّمته أبحاث «الفيلسوف جول سيرل» في كتبه المتعدّدة، و أبرزها كتابه حول (العقل) (2). و قدّم فيه طروحات ثار من خلالها على المفاهيم القديمة، و استحدث معاني و مفاهيم جديدة للتفكير بها في قضايا الفلسفة المهمّة، معتبراً أنّ مفاهيم مثل (الماديّة، العقل، اليقينيّة، الموضوعيّة، الكليّة...) تأخذ معانيَ مختلفة عن السائد في السّجالات الفلسفيّة، معاني جديدة لابدّ من الانتباه لها، و إلّا فإنّ اللبس و سوء الفهم سيكون مصير كلّ الحوارات. و يلاحظ أنّه دائماً تأتي مفاهيم «سيرل» الجديدة متّصلة بنظرة علميّة حديثة من خلال اتّصاله بالمنجز العلميّ خصوصاً في علم الأعصاب و البیولوجیا الدقيقة. حيث يعتبر أنّ الوضع المثاليّ للبدء في الفلسفة البنّاءة هو البداية في دراسة طبيعة العقل الإنسانيّ. و أنّ السؤال المركزيّ للفلسفة في القرن الحادي و العشرين هو: كيف نفسّر وجود الإنسان البارز كشخص مسؤول واعٍ و حرّ و عاقل و ناطق و اجتماعيّ و سياسيّ في عالم مكوّن، وفق العلم، من جسيمات مادّيّة لا عقليّة؟ ما العلاقة بين الواقع الإنسانيّ و بقيّة الواقع؟ للإجابة عن هذه الأسئلة أكّد سيرل أنّه لا بدّ من دراسة العقل، لأنّ الظواهر العقليّة تشكّل الجسر الذي يربطنا بالعالم. كما أنّ ابتكار حقل العلم المعرفيّ الذي يهتم بدراسة طبيعة العقل علميّاً، جعل من الضروريّ إيجاد أساس فلسفيّ لدراسة العقل.
ص: 116
و في محاولاته للإجابة عن سؤال العقل، يشير «سيرل» إلى فشل التصوّر الثنائيّ للعقل و العالم، حيث كان يلجأ الكثير إلى التصوّر الأحاديّ: إمّا العقليّ «المثاليّون» و إمّا الماديّ. و الرأي الذي تقرّ به الماديّة هو: الواقع الوحيد الذي يوجد هو الواقع المادّيّ أو الفيزيائيّ، مؤكّداً أنّه إذا نظرنا إلى المادّيّة بمعنى خاصّ، يمكن القول إنّها أصبحت «ديناً» في هذه الأيّام، على الأقلّ بين المهنيّين في حقول الفلسفة و علم النفس و العالم المعرفيّ. و بهذا المفهوم فشلت الماديّة، بسبب أنّها واجهت دائماً الواقعة الواضحة و هي، أنّ الصيغ المختلفة للماديّة تتجاهل صفة عقليّة جوهريّة معيّنة للكون، و التي نعرف أنّها موجودة بصورة مستقلّة عن اعتقاداتنا الفلسفيّة. و الصفات التي يتجاهلونها عادة هي الوعي و القصديّة (1). يقول سرل: «نعلم بصورة مستقلّة أنّ ما تحاول الثنائيّة قوله صحيح، و أنّ ما تحاول الماديّة قوله صحيح. الماديّة تحاول أن تقول إنّ العالم يتشكّل من جزيئات في حقول الطاقة، و الثنائيّة تحاول أن تقول إنّ هناك صفاتٍ لا يمكن اختزالها و حذفها من العالم، أي الوعي و القصديّة بصورة خاصّة. ولكن إذا كانت كلّ منهما صادقة، يجب اكتشاف طريقة لصياغتهما معاً بصورة متّسقة، ولكن إذا لجأنا إلى المقولات التقليديّة، فإنّه ليس من السهل صياغتهما بصورة متّسقة» (2). و ينتهي سيرل إلى أنّ الميزة العامّة للعلاقة بين الوعي و الدماغ (و منه الحلّ العامّ لمشكلة العقل و الجسد)، ليس من الصعب صياغتها. حيث إنّ الوعي ينتج من عمليّات على المستوى الجسميّ في الدماغ، و يتحقّق في الدماغ كصفة هيكليّة، أو
ص: 117
ذات مستوى أعلى. لكنّ تعقيد الجهاز ذاته و الطبيعة الدقيقة لعمليّات الدماغ المرتبطة بها تبقى غير قابلة للتحليل بهذا الوصف.. الوعي هو جوهر معنى وجودنا بذاته، و إذا لم يدمّر ديكارت معنى الجملة يمكن أن نقول، جوهر العقل هو الوعي.
لقد حاول سيرل أن يعطي تفسيراً للعقل ينظر للظواهر العقليّة بوصفها _ كما يؤكّد (1) _ جزءاً من العالم الطبيعيّ، كما حاول أن يقدّم تصوّراً للعقل بجميع نواحيه (الوعي _ القصديّة _ الإرادة الحرّة _ السببيّة العقليّة _ الإدراك _ الفعل القصديّ... إلخ) طبيعيّ بهذا المعنى. أولاً : يعتبر الظواهر العقليّة كجزء من الطبيعة فقط، حيث علينا أن نفكّر بالوعي و القصديّة (الغائيّة) كجزء من العالم الطبيعيّ أيضاً، كما أنّ التخليق أو الهضم جزءان من الطبيعة. ثانياً: الآليّة التفسيريّة التي استعملها سيرل لتقديم تفسير سببيّ للظواهر العقليّة هي الآليّة التي تحتاج إلى تفسير الطبيعة عامّة.
المحور النقديّ الثاني _ الله (جوهرٌ و واجبٌ)، المادّة (ممكنٌ و عرضٌ):
الله علّة الحركة الجوهريّة:
عندما نتحدّثُ عن الفكر المادّيّ فنحنُ نقفُ في مواجهة رؤيةٍ لها أسس و مبادئ فكريّة و مبانٍ فلسفيّة، تلزم أتباعها بنظام فكريّ، محدِّد لطبيعة (و نوع) سلوكهم العمليّ في الحياة، و تحاول أن تبرهن الواقع الموضوعيّ بالتجربة و الأساليب العلميّة.
و بناءً على هذه الرؤية الماديّة يصبح الكونُ معلولاً لذاته الماديّة
ص: 118
(الأزليّة)، و ليس لأيّة علّة أخرى خارجة عنه، و هذه القاعدة تستتبع تفسيراً حسّيّاً للحياة و الإنسان و الوجود بكلّ مواقعه و امتدادته، انطلاقاً من الإدراك المادّيّ (الذي أثبتنا في المحور النقديّ الأوّل تداعي فرضيّاته البنائيّة القائمة على البعد التجريبيّ، و معاييره المستندة إلى الحسّ و الملاحظة العينيّة). و ينظر التفسير الحسّيّ بمنظار العدم و اللا جدوى، إلى قضايا الروح و المعنويّات و الأخلاقيّات الدينيّة.
و أمّا النظرة الدينيّة أو الرؤية الإلهيّة فهي تقوم _ في الجوهر _ على وجود علّة مستقلّة بذاتها، هي علّة الوجود بكليّته، و تسمّى واجب الوجود، هذه العلّة هي الله مطلق الكون و الوجود و الحياة. و على عكس المادّيّة ترى الإلهيّة أنّ المادّة حادثة غير أزليّة، و أنّ المطلق _ واجب الوجود _ هو الأزل و هو الوجوب الذاتيّ، و إليه تنتهي المادّة حدوثاً و بقاءً. كما تقول هذه المدرسة الإلهيّة إنّه من غير الممكن إثبات التجربة و الحسّ (و هو المنهج الذي تلتزمه المدرسة المادّيّة) إلّا بالمذهب العقليّ ذاته، الذي يقول بوجود مبادئ عقليّة ضروريّة مستقلّة عن التجربة (1). بل لا قيمة عمليّة للتجربة من دونها.
و يعني مبدأ العليّة _ و هو أحد أهمّ المبادئ العقليّة _ توقُّف كلّ موجود ممكن على علّة لوجوده و حدوثه، و هو من «البديهيّات العقليّة» التي يدركها العقل البشريّ بالفطرة. و ما نعنيه بالفطرة أنّ كلّ شخص يجد في عمق طبيعته الذاتيّة و صميمها ما يدفعه إلى تعليل الأشياء و الظواهر، و السعي لاكتشاف دوافعها و أسبابها. و هو مبدأ
ص: 119
ضروريّ لإعطاء العلم و قوانينه مصداقيّة و صحّة حقيقيّة. و لا يمكن الاستدلال على ردّه، و ذلك لأنّ الدليل علة للعلم بالشيء المستدلّ عليه، إذاً محاولة الاستدلال على ردّ مبدأ العليّة تنطوي على الاعتراف بمبدأ العليّة و تطبيقه.. و الخلاصة هنا أنّ مبدأ العلّة و المعلول ليس مبداً حسّيّاً، و لا تجريبيّاً، و لا يمكن نقضُه بأيّ دليل، و إنّما هو مبدأ عقليّ ضروريّ فوق الحسّ و التجربة، و ثابت بصورة متقدّمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الإنسان (1) .. و هذا المبدأ تخضع له كلّ الموجودات الممكنة و لا تستغني عنه. و علاقة العليّة (بين علة و معلول) يتوقّف عليها _ كما يقول الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضي الله عنه (2) _ إثبات الواقع الموضوعيّ للإحساس، و كلّ النظريّات أو القوانين العلميّة المستندة إلى التجرية، و جواز الاستدلال و إنتاجه، في أيّ ميدان من الميادين الفلسفيّة أو العلميّة. فلو لا مبدأ العلّيّة، و قوانينها، لما أمكن إثبات موضوعيّة الإحساس، و لا شيء من نظريّات العلم و قوانينه، و لما صحّ الاستدلال بأيّ دليل كان، في مختلف مجالات المعرفة البشريّة.
و لا تنبع الحاجة إلى علّة خارجيّة _ بالنسبة للحقائق الخارجيّة _ إلى حدوثها، و لا إمكان ماهيّاتها، بل السرّ كامن في كنهها الوجوديّ، و صميم كيانها (البنيويّ). فلأنّ حقيقتها الخارجيّة عين التعلّق و الارتباط، و التعلّق أو الارتباط، لا يمكن أن يستغني عن شيء يتعلّق به و يرتبط. و نعرف في الوقت نفسه _ طبعاً _ أنّ الحقيقة الخارجيّة، إذا لم تكن حقيقة ارتباطيّة و تعلّقيّة، فلا يشملها مبدأ
ص: 120
العلّيّة، إنمّا يحكم مبدأ العلّيّة على الوجودات التعلّقيّة، التي تعبّر في حقيقتها عن الارتباط و التعلّق (1).
إذاً هناك اختلاف بين رؤيتين (إلهيّة و مادیّة)، و هو اختلاف في البنية و الجوهر الذاتيّ و المنطلقات الأصليّة، مع اختلاف في المعطيات و النتائج و المآلات.
فعلى صعيد الاختلاف في ضوء الأصول و المنطلقات الجوهريّة: نلاحظ أنّ الرؤية المادّيّة تعتمد على المذهب الحسّيّ، أي على التجربة و المختبرات و المقايسة الماديّة المعياريّة بالنسب و القرائن المادّيّة (كما قلنا سابقاً)، و تحصر (هذه الرؤية) الوصول إلى المعرفة بالتجربة، و تصادر بقيّة المناهج و المعايير المعرفيّة. بينما المذهب الدينيّ أو الرؤية الدينيّة تتقوّم بالعقل و البديهيّات العقليّة و الأفكار الماورائيّة غير الخاضعة للحقيقة العلميّة.. و هنا يبين السيد الشهيد محمد باقر الصدر رضي الله عنه الآتي، مقارناً بصورة منهجيّة بين النظريّة الماديّة و الرؤية الإلهيّة (2):
1- إنّ المدرسة الماديّة تفترق عن المدرسة الإلهيّة في ناحية سلبيّة، أي: الإنكار لما هو خارج الحقل المعرفيّ.
2- إنّ الماديّة مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهيّة الاستدلال على الاثبات.
3- إنّ التجربة لا يمكن إنّ تعتبر برهاناً على النفي، لأنّ عدم وجدان السبب الأعلى في ميدان التجربة، لا يبرهن عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتدّ إليه يد التجربة المباشرة.
4- إنّ الأسلوب الذي تتّخذه المدرسة الإلهيّة للاستدلال على
ص: 121
مفهومها الإلهىّ هو الأسلوب نفسه الذي تثبت به علميّاً جميع الحقائق و القوانين العلميّة.
و تفترق الرؤية الماديّة أيضاً عن الرؤية الإلهيّة في المنطلقات التي تعتمد عليها كلّ واحدة في تفسيرها للوجود و الإنسان، و هي عبارة عن أربع ركائز (1):
(1) المساوقة: تذهب الماديّة إلى أنّ الواقعيّة مساوقة للوجود الماديّ، و بالتالي يكون كلّ ما وراء المادّة خارجاً عن وعاء الواقعيّة و حدودها، و غير قابل حتّى للتحقيق على مستوى الاحتمال و الثبوت.
و هذا بخلاف ما تذهب إليه الإلهيّة، من أنَّ الواقعيّة مساوقة للوجود السعي، و هو ما يشمل جميع مراتبه، الماديّة و المثاليّة و العقليّة و الواجبيّة. و هذا يبقى على مستوى التصديق الثبوتيّ، حتّى يجري الاستدلال عليه، على عكس الماديّة التي تخرجه عن موضوع الاستدلال، كما قلنا.
(2) الأزليّة: تحكم الماديّة على المادّة نفسها بالوجوب الذاتيّ، و يعني: عدم ترشّحها عن علّة تفيض عليها الوجود و تستند إليها حدوثاً و بقاءً، و هذا الاستغناء عن العلّة المُوجِدة، يلازم عدم مسبوقيّة وجودها بالعدم/ و هو معنى أزليّتها. بينما ترى الإلهيّة أنّ المحكوم عليه بالأزليّة و الوجوب الذاتيّ، ليس ذات المادّة، و إنّما موجود ما ورائيّ (غيبيّ) تنتهي إليه المادّة حدوثاً و بقاءً.
(3) السببيّة: تحدّد المادّيّة قانون السببيّة (المعلول يحتاج إلى
ص: 122
علّة) بالموجود الماديّ، و عليه يكون مناط الاحتياج إلى العلّة عبارة عن الظاهرة الماديّة، و مفاد القانون كالتالي: كلّ موجود ماديّ محتاج إلى علّة، أمّا مناط الاستغناء فلا يشمل إلّا المادّة نفسها. بينما الإلهيّة، ترفض تخصيص موضوع القانون بالظاهرة الماديّة، و ترى إمكانيّة توسعته بالنحو الذي يشمل ذات المادّة، و ماوراءها من الموجودات التي لا استقلاليّة لها.
(4) الفاعليّة: تفسّر الماديّة العلّة الفاعليّة ب«معطى التحرّك» بينما تفسّرها الإلهيّة ب«مَا مِنْهُ الوجود» و حينئذ يكون دورها عند الإلهيّ إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، بينما يقتصر دورها عند الماديّ على عمليّة التحريك و التأليف و الجمع بين أجزاء المادّة.
و أمّا على صعيد الاختلاف في المعطيات و بالتالي المآلات، تنتهي النظرة الإلهيّة حول الكون إلى النتائج التالية (1):
1- مجال البحث المعرفيّ حول الكون يتجاوز الظواهر الماديّة، ليصل إلى العوالم العليا، التي تنتهي إلى المبدأ الأوّل و صفاته، و أفعاله، و هو الله سبحانه و تعالى.
2- الكون في نفسه، ليس قائماً بذاته، و لا يمتلك خصوصيّة الاستقلاليّة الوجوديّة المطلقة بل هو سنخ واقعيّة ارتباطيّة، و وجوده تعليقيّ.
3- ثمّ للكون و العالم مراتب متعدّدة تغاير الوجود المادّيّ في الحقيقة و الأحكام، و إن كانت جميعها تشترك في ضرورة انتهائها إلى سنخ حقيقة قائمة بذاتها، و هي الحقيقة الإلهيّة المطلقة،
ص: 123
التي تترشّح عنها تلك العوالم، و تفتقر إليها في التشكّل و الاستمرار. أمّا النظرة الإلهيّة حول الإنسان، فإنّها تنتهي إلى أهمّ نتيجتين:
1- تبعيّته لإرادة عليا، و افتقاره إليها، و عدم استقلاليّته عنها، قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر: 15) بالنحو الذي يحافظ على خصوصيّة كونه فاعلاً مختاراً.
2- مبدأه الحركيّ و الغائيّ عبارة عن كمال وجوديّ يفوق اللا متناهي، يجد معه هويّته و ذاته، و انتماءه الحقيقيّ، بحيث لا يطلب غیره؛ قال تعالى: «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ» (البقرة: 156).
و هذا كلّه بخلاف كا يقوله أصحاب النظرة الماديّة و أتباعها التي تؤمن بأنّ المادّة _ بظواهرها المتنوّعة _ هي الواقع الوحيد، و كلّ ما يدخل في نطاقها (من أفكار، و مشاعر، و تجريدات) ليس إلّا نتاجاً ماديّاً، و حصيلة للمادّة في درجات خاصّة، فأفكار الإنسان، و محتوياته الروحيّة، و الطبيعة التي يمارسها على أساس هذا المفهوم الفلسفيّ، ليستْ كلّها إلّا أوجهاً مختلفة للمادّة، و تطوّراتها و نشاطاتها (1).
لكنّ المادّة في عمقها ليست ساكنة أو ثابتة على بعد ماديّ، فهي تتحرّك دائماً، أي هي في حالة سيرورة مستمرّة كما يقول العلم ذاته (خاصّة ما بيّنه أينشتاين من أنّ المادّة هي نفسها الطاقة و الطاقة هي نفسها المادّة من خلال معادلته المشهورة، الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربّع سرعة الضوء). و الحركة (و هي الطاقة العميقة) بحسب مبدأ العليّة، تحتاج إلى علّة و فاعل مُوجِد
ص: 124
لها تتحرّك به و من خلاله.. فما هو سبب الحركة؟ هل هو سبب ذاتيّ في صميم المادّة و خاصّ بها؟ أم هو سبب آخر خارجيّ؟ و هل هو ما يمدّ المادّة بالتطوّر و السيرورة؟ هل سببُ الحركة يعود إلى تلك التناقضات الذاتيّة كما تقول نظريّة الجدل الديالكتيكيّ الماركسيّ التي تنصّ على أنّ التناقض و الصراع هو القوّة الداخليّة، الدافعة للحركة و الخالقة للتطوّر. فالحركة _ بحسب أنجلز (1) _ هي نفسها تناقض، و أبسط تغيّر ميكانيكيّ في المكان لا يمكن أن يحدث إلّا بواسطة كينونة جسم ما، في مكان ما، في لحظة ما، و في تلك اللحظة نفسها كذلك، في غير ذلك المكان، أي كينونته و عدم كينونته معاً في مكان واحد، في اللحظة الواحدة نفسها، فتتابع هذا التناقض تتابعاً مستمرّاً، و حلّ هذا التناقض حلّاً متواقتاً مع هذا التتابع، هو ما يسمّى بالحركة.. فما هي هذه الحركة؟ و ما سبب وجودها؟ و من مُوجِدها؟!
ماهيّة الحركة:
تعرّف الحركة بالمصطلح الفلسفيّ بأنّها «خروج الشيء من القوّة إلى الفعل على سبيل التدرّج».. و هذا التعريف يتكوّن من ثلاثة عناصر رئيسيّة هي:
أ) الخروج من القوّة.
ب إلى الفعل.
ج) على سبيل التدرّج.
و يقصد بالقوّة قابليّة الشيء و إمكانيّته. فإنّ قولنا: إنّ هذا الطفل
ص: 125
طبيب بالقوّة، يقصد منه أنّه قابل لأن يكون طبيباً، و ذلك ممكن و ليس بمحال. أو كقولنا: إنّ هذه البذرة شجرة بالقوّة، و نقصد بذلك أيضاً أنّها من الممكن أن تكون شجرة، أو إنّ لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة لاحقاً في المستقبل.
أمّا معنى الفعل فهو عبارة عن وجود الشيء حقيقة (1). و منه اشتقّت كلمة الفعليّة، و مثال ذلك قولنا: إنّ هذه الشّمعة مشتعلة بالفعل إذا كانت مشتعلة حال كلامنا عنها، حيث نراها متجسّدة بفعل الاشتعال أمام ناظرينا.
أمّا معنى قولهم: «على سبيل التدرّج» فهو أنّ هذا الانتقال من حال القابليّة إلى حال الفعليّة لا يكون دفعة واحدة و خارج إطار الزمن بل لا بدّ من أن يكون متدرّجاً في حصوله درجة درجة و مرحلة مرحلة.
و بهذا يمكننا القول: إنّ الخروج من حال العدم إلى حال الوجود لا يسمّى حركة و إلّا لزم وجود حالة ثالثة بين الوجود و العدم كما توهّمه بعضهم. و الحقيقة أنّ الوجود و العدم مفهومان لا يجتمعان (يثبتان) و لا يرتفعان (يسلبان) عن موضوع واحد من جهة واحدة.
و يمكننا إعادة صياغة تعريف الحركة على أنّها تحقّق قابليّة الشيء بالتدرّج.
و يصدق هذا التعريف على كلّ أنواع الحركة كالحركة في المكان و الحركة في الكيف و الحركة في الكمّ و الحركة في الجوهر الذي هو محلّ حديثنا.
أمّا معنى الجوهر، فيُعرّف بأنّه «الموجود لا في موضوع» على
ص: 126
العكس من العرض المعرّف بأنّه «الموجود في موضوع». و توضيح معنى العرض أولاً ضروريّ لفهم معنى الجوهر تبعاً.
إذاً فالعرض ماهيّة مستقلّة بحسب نفسها، و مفهومها، و ليست مستقلّة بحسب وجودها، إذ هو بحاجة في وجوده إلى الوجود في غيره. و مثال ذلك: اللون الذي يمتلك معنىً مستقلّاً بذاته عقلاً، إلّا أنّه في الخارج لا ينفكّ عن الحلول في جسم ما. أمّا الجوهر فهو الماهيّة المستقلّة مفهوماً و وجوداً. و في مثالنا السابق يكون الجوهر هو الجسم. و الجسم ذو معنىً مستقل و لا يحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره إذ هو مستقلّ بذاته، و العرض و الجوهر عنوانان عامّان أحد مصاديقهما اللون و الجسم تبعاً، و لهما مصاديق أخرى كثيرة (1).
و تؤكّد كلّ الدراسات العلميّة التي ارتكزت على حقائق شبه حاسمة أنّ المادّة حادثة و ليست أزليّة، فنظريّة الانفجار العظيم (big-bang)، أكّدت أنّ المادّة الأولى اتّسعت و امتدّت بسرعة كبيرة إلى ما لا نهاية، بعد مرورها بمراحل متعدّدة.. و تبعاً لذلك أشار العلماء إلى زمن بدء الكون بما يقرب من (12- 20 مليار سنة) حيث كانت المادّة قبل عمليّة البدء موجودة كلّها في حيّز (و فراغ متناهٍ في صغير) لا يتجاوز حجم جسيم البروتون الذي هو أحد مكوّنات الذرّة (وزن البروتون يعادل 1836 مرّة ضعف وزن الإلكترون.. و وزن الإلكترون يساوي إلى واحد مقسوم على واحد
ص: 127
و أمامه تسعة و عشرون صفراً من الغرام).. و هذا يدلّ على عدم أزليّة المادّة و بالتالي حدوثها، بمعنى أنّ بداية الزمان أمر لا مناص منه، هذا من جهة العلم و نظريّاته الحديثة و اكتشافاته و تطبيقاته التجريبيّة المذهلة.
أمّا من جهة الحركة الجوهريّة، فالأمر لا يختلف كثيراً عن المنحى السابق، فعالم الوجود المادّيّ في تطوّر و تجدّد و تغيّر مستمرّ، بمعنى:
كلّ متحرك حادث.
الكون متحرّك.
الكون حادث.
إنّ المقدّمة الأولى تثبت وجود زمان لم يكن فيه المتحرّك موجوداً، على أساس أنّ الحركة تعني الانتقال و السير من حدّ إلى آخر و من موقع أول إلى موقع ثانٍ.. و أمّا المقدّمة الثانية فهي معروفة و مثبتة لأنَّ الكون يساوي الحركة فقط.. إذن فقد وجد زمان لم يكن فيه الكون و العالم موجوداً، و هذا ما تؤكّده الدراسات العلميّة الحديثة.
لقد أظهرت نظريّة الحركة الجوهريّة عمق العلاقة العضويّة بين الحركة و المادّة و التجرّد (1)، و خاصّة فيما يتّصل بواقع عمق الأنا
[1]- كلمة المجرَّد و التي هي اسم المفعول من «التجريد»، تعني ما نزع عنه شيء، لكن في المسائل الفلسفيّة اصطلح على استعمال كلمة المجرّد فيما يقابل المعنى المادّيّ (الجسمانيّ) الذي له أبعاد مكانيّة و آخر زمانيّ.. بمعنى آخر: المجرّد مفهوم منتزع يطلق على الأشياء التي لا تخضع للمدركات الحسّية الماديّة في مستوى ارتباطها مع الواقع الخارجي، بحيث لا يتحقّق لها أيّ مصداق مادي ما، لكونها _ الأشياء المجرّدة _ فاقدة تماماً لخصائص و مميّزات الحالة الماديّة.. و بهذا المعنى لا يقبل الموجود المجرّد الانقسام، و بالتالي فنسبة المكان و الزمان إليه تكون مختلفة (عند حديثنا عن روح الإنسان مثلاً).
ص: 128
الذاتيّة للموجود الإنسانيّ مثلاً، على أساس أنّها تشكّل الأساس لتحقّق حركة المصداق الوجوديّ لها، من خلال مجموعة من الشروط و المقدّمات الأساسيّة للوصول إلى كمال فاقد للماديّات الأوليّة، و داخل في مستوى بعدي جديد متجرّد، و بصفات و شروط و خصائص أخرى جديدة تتناسب و المستوى الجديد.
و الروح _ كما أثبتت نظريّة الحركة الجوهريّة _ ليست إلّا نتاج الحركة الجوهريّة الاشتداديّة في عمق المادّة حيث أنّ المادّة تنتقل و تتبدّل من وضع أوّليّ إلى أوضاع أخرى. و نتيجةً لتأثير الحركة الجوهريّة فيها تتكامل و تصعد في مستويات مُتدرِّجة انتقاليّة متتابعة حتّى تصل إلى مرحلة تفقد فيها (هذه المادّة) خصائصها الماديّة و شروطها الجسمانيّة فتدخل في بعد جديد، يحتويها _ مفهوماً و ليس وقعاً _ و تتركّز في طاقة حيويّة تحرّك و توجّه في مستوى تصعيد و تركيز أعلى نحو الأمام..
أي إنّ المادّة في مسيرة تطوّرها و تكاملها، تمتدّ، فضلاً عن أبعادها الثلاثة التي نسمّيها بالأبعاد المكانيّة، و فضلاً عن البعد الزمانيّ الذي يمثّل مقدار الحركة الذاتيّة الجوهريّة، إلى بعد جديد، و هو بعد جديد مستقلّ عن الأبعاد الأربعة المكانيّة و الزمانيّة، و نحن إذ نسمّي هذا الامتداد بعداً فليس لأنّه نوع من أنواع الامتدادات، أو لأنّه مثل سائر الكميّات (الأشياء ذات المقدار) قابل للتجزئة العقليّة، بل المقصود هنا هو أنّ المادّة تعثر على اتجاه جديد تمتدّ فيه، ذلك الاتّجاه الذي تفقد فيه كلّ خصائص المادّة كليّاً » (1).
ص: 129
صحيح أنّنا لا نرى إلّا المادّة، و لم نستطع حتّى الآن أن نمتلك وسائل و أدوات عينيّة لاستكناه حقائقها كاملةً أو لتفسير ظواهرها، حيث يقتصر تعاملنا مع المحسوسات و الماديّات.. إلخ، لكنّ هناكَ فرقاً بين أن نلاحظ الشيء لنقف عنده، و أن نلاحظه بغية ملاحقته من قبلُ و من بعد، لنفكّر فيه، و نعي حقيقة ما وراءه، و ماذا هناك بعده.. فالمادّة البسيطة _ التي هي عنصر وحيد _ معدومة الحياة، لكنّها في مرحلة لاحقة عندما تتحوّل إلى مركّبات عديدة ذات عناصر مختلفة، تتفاعل فيما بينها (أجزائها) و تتكامل في حركتها، فتصبح على أثر ذلك، مستعدّة _ كما أسلفنا _ لتقبّل الطاقة الحيويّة الحياتيّة الأصليّة و ظهورها، و بالتالي حدوث الحياة، و ظهور خصائصها و شرائطها.. يقول كريسي موريسن في كتابه سرّ الخليقة: «إنّ المادّة لا تؤدّي عملاً إلّا إذا كان هذا العمل ضمن قانونها و نطاقها.. فالذرّات تقع تحت سيطرة قوانين جاذبيّة الأرض و التفاعلات الكيماويّة و تأثيرات الهواء و الكهرباء، لا تبتكر المادّة شيئاً بذاتها، إنّما الحياة هي وحدها التي تبتكر شيئاً جديداً في كلّ لحظة و تعرض بدائعها إلى عالم الوجود..» و «ليس للمادّة قدرة على الابتكار بحدّ ذاتها إنّما الحياة هي التي تبتدع في كلّ لحظة خطّة جديدة بديعة» (1). يقول تعالى: «مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَ قَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا» نوح: (13، 14).. إذاً هل هناك مانع يمنع من إمكانيّة تجرّد المادّة من مراحل تكاملها، و تحوّلها إلى كائن آخر جديد له خصوصيّة ذاتيّة و مستوى حركيّ محدّد و معيّن؟.. و هل هناك حدود فاصلة بين المستويين؟..
في الواقع: إنّ الحركة _ التي هي في الأساس سیر مُتدرّج من
ص: 130
القوّة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة _ تؤسّس من خلال حركة التكامل الممنوحة في الذات الجوهريّة، لحركات عارضة أخرى، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور مختلف أنواع الأجسام و تكوّنها على أساس هذا القانون (أي الحركة الجوهريّة).. من هنا نجد أنّ الروح هي أيضاً من حاصلات قانون الحركة. إنّ مبدأ تكوّن المادّة نفسها جسمانيّ، و للمادّة القدرة على أن تربيّ في أحضانها كائناً يتوافق مع ما وراء الطبيعة، بل ليس هناك حائل أو جدار بين الطبيعة و ما وراء الطبيعة، فليس ثمّة ما يمنع أنْ يتحوّل كائن مادّيّ في مراحل تطوّره و تكامله، إلى كائن غير ماديّ.. إنّ علاقة الروح بالجسد أشبه بعلاقة بعد ما بسائر الأبعاد.. يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر في هذا الصدد: «.. و هذه الحركة الجوهريّة هي الجسر الذي كشفه الشيرازيّ بين المادّة و الروح، فإنّ المادّة في حركتها الجوهريّة تتكامل في وجودها و تستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن ماديّتها ضمن شروط معيّنة و تصبح كائناً غير مادّيّ. أي تصبح كائناً روحيّاً، فليس بين المادّيّ و الروحيّ حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود و الروح بالرغم من أنّها ليست ماديّة ذات نسَب مادّيّة لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهريّة (1). لكنّنا نتساءل، كيف يمكن إظهار طبيعة العلاقة الكائنة بين متحركيّة البعدين الماديّ و الروحيّ؟.
إنّ الروح ليست من خصائص المادّة و آثارها، و إنّما هي كمال جوهريّ يتحقّق للمادّة، و تكون هي بدورها منشأ المزيد من آثار المادّة و تنوّع تلك الآثار. و بديهيّ أنّ هذا لا يقتصر على الإنسان
ص: 131
أو الحيوان بل هو عامّ و مطلق في كلّ حياة. بمعنى أنّ الحركة الجوهريّة لا تنشأ أصلاً من المادة نفسها، لأنّ الحركة (كلّ حركة) خروج الشيء من القوّة إلى الفعل (و القوّة لا تصنع الفعل _ الإمكان لا يصنع الوجود).. و لهذه الحركة الجوهريّة سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة، و الروح التي هي الجانب غير الماديّ في الإنسان نتيجة لهذه الحركة و الحركة نفسها هي الجسر بين الماديّة و الروحيّة.
بتلخيص ما تقدّم نقول: إنّ الوجود واحد لا يتجزّأ و لا يتعدّد، بل هناك انتقال لحركة الموجود في عمق وجوده من وضع إلى آخر، بحيث إنّه عندما تتكامل المادّة في ذاتها تتكوّن في داخلها درجة معيّنة من الوجود، تكون أكمل من سابقتها، بحيث تفقد خصائص و مزايا المادّة و الجسميّة، و تتحوّل عندئذ إلى لا ماديّة و لا جسمانيّة فتكون الخصائص الروحيّة و آثارها متعلّقة بتلك الدرجة من الوجود (1). أي إنّ المادّة فاقدة للحياة (للطاقة الحياتيّة) بذاتها، ثمّ تظهر حركة الحياة و تدبّ الروح في المادّة عندما تظهر في داخلها استعدادات و قابليّات لهذا الطور الجديد.
و الآن يمكن أن نتساءل: ما دامت الحركة الجوهريّة تسبّب عمليّة الحدوث و التغيّر المتدرّج في خطّ التكامل، فما هي العلاقة بينها و بين مسألة أصالة الحياة و الطاقة الحياتيّة؟ هل تمثّل الطاقة الحياتيّة البعد الآخر في مستوى أعلى متقدّم فيما يتّصل بتكامل المادّة بالذات؟ أم هي الحياة في استقلالها بذاتها بعيداً عن تأثيرات الداخل و الخارج؟ إذاً نحن الآن أمام ثلاثة احتمالات تساؤلية:
الأوّل: هل يمكن اعتبار الطاقة الحياتيّة مجرّد طاقة تتميّز
ص: 132
بخصائص و سمات محدّدة، تماماً كبقيّة الطاقات الأخرى المعروفة (ضوئيّة، نوويّة، .. ) و هي التي تعطي الحياة في حركة الإنسان و الوجود؟.
الثاني: هل هناك فرق و تمايز بين طاقة الحياة و بين الشيء الذي هو يمتاز بالحياة..؟! أي هل هناك استقلاليّة بين الطاقة و بين الشيء الذي أضيفت إليه في بعد معنويّ روحيّ متقدّم؟.
الثالث: هل الطاقة الحياة وحدها كمقدار ثابت و كميّة ماديّة انتقاليّة تكامليّة؟.
في الواقع، إنّ الكائنات الحيّة التي ظهرت، بل تدرّجت في ظهورها، منذ الآماد البعيدة، امتازت بخاصيّة التكيّف مع البيئة التي عاشت فيها، هذا التكيّف الذي هو في الواقع مجموعة من الآثار و الخاصيّات و الفاعليّات المتعدّدة التي يقوم بها الكائن الحيّ تجاه التغيّرات الحاصلة في المستوى الخارجيّ، و هذه «الفاعليّات» لا تحدث إلّا في الكائن الحيّ الذي يتمتّع بخاصيّة الحياة «الحركة».. و هذه الخصائص الفعليّة الموجودة في الكائن الحيّ و التي يفقدها الكائن الميّت، هي السبب الكامن وراء تجدّده و تكامله، حيث يزيد الكائن من طاقته، حتّى يصل إلى مرحلة للإبقاء على النوع عن طريق زواله هو و بقائه في الجيل الذي ينتجه .. و هذا الشيء _ بظروفه و امتداداته _ ينبئ بوجود هدف و غاية متقدّمين في الحياة، على أساس إرادة الحياة لهذه الكائنات التي تعرف طريق حركتها و وجهة سيرها نحو هدف التكامل اللازم و الخاصّ بها.. كلّ حسب إمكانيّاته و قابليّاته في قاموس الحياة.
ص: 133
ضمن هذا الإطار، أجرى الباحثون و العلماء تجارب مختلفة لإدراك حقيقة أصالة الحياة و الطاقة النفسيّة، و ظهر ذلك من خلال تجلّيات بحوثهم «أنّ طاقة الحياة تضاف على المادّة خلال مسيرة الطبيعة، و إنْ آثار الحياة تنشأ عن هذه الطاقة، ولكن ليست هي كلّ العلّة لتركيب أجزاء المادّة و جمعها و تحليلها و تأليفها، فتركيب أجزاء المادّة و جمعها و تحليلها و تأليفها شرط لازم من شروط ظهور آثار الحياة و لكنّه ليس شرطاً كافياً (1).. حتّى إنّنا نتصوّر أنّ نظريّة داروين النوعيّة تثبت هذه الأصالة للطاقة الحياتيّة لكونها أبرزت ظاهرة الانتقاء و الاصطفاء الطبيعيّ، و أظهرت التكيّف (تكيّف الكائن مع بيئته و مجاله الحيويّ الطبيعيّ) كقوّة ذات فاعليّة و هدفيّة في الحياة الحيّة.. و كأنّ هناك منهجاً تكامليّاً للإنسان و للطبيعة يسيران في وحدة للتحقّق و التجسيد. و قد يتساءل بعضهم: كيف و لماذا تسير هذه الكائنات في هذا الاتّجاه المتحرّك، و كأنّه مسبق في الوجود فعلاً؟. إنّنا نعتقد أنّ أصالة طاقة الحياة (حيث إنّ الحركة مظهر أساسيّ فعّال من مظاهر الطاقة)، تتميّز بوجود بعدين متكاملين:
الأوّل: البعد الماديّ: من خلال تركيز خصائص المادّة في مرحلة أدنى ثمّ حدوث التطوّر و التكامل في مراحل متقدّمة أعلى.
الثاني: البعد المعنويّ (الروحيّ): فيما وراء الطبيعة و المعرفة الماديّة، باعتبار أنّها _ المعنويّة _ ليست من خصائص المادّة، بل هي تظهر الحياة في المادّة لاحقاً. أي تتركّز طاقة الحياة الممنوحة في مرحلة عليا، في المادّة، لتظهر آثار الحياة عندما تستعدّ لتقبّل ذلك .. قال تعالى: «قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِیٓ أَعۡطَیٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَیٰ» [طه: 50] .
ص: 134
و قال تعالى: «ٱلَّذِی خَلَقَ فَسَوَّیٰ وَ ٱلَّذِی قَدَّرَ فَهَدَیٰ» [الأعلى:2، 3].
إنّ الفصل بين المادّة من جهة و طاقة الحياة _ في مظهرها الأعلى _ من جهة أخرى، سيوقعنا في قضايا فلسفيّة و طروحات خاطئة قال بها بعض الفلاسفة (كما ظهر لدى أفلاطون في نظريّته المسمّاة بنظريّة الاستذكار و هبوط النفس من عالم المجرّدات و المثل و التحاقها بالمادّة).. ثمّ إنّ العلم الحديث قد وصل إلى حدّ تأكيد استحالة الوصول إلى حالة الخلق في المادّة غير الحيّة، و تحويلها إلى مادّة حيّة متحرّكة من قبل البشر. حيث كان ظهور الإنسان العاقل المفكّر بين الحيوانات أمراً أخطر و أشدّ غموضاً من أن نتصوّره على أنّه نتيجة لما يطرأ من تحوّلات، و أن ليس لخالق يد في الأمر، و إلاّ فإنّ الإنسان ينبغي أن يكون آلة ميكانيكيّة تديره يد أخرى، فلنَر من الذي يدير هذه الآلة؟ و أيّ يد هذه التي تديره؟!.. «فالعلم التجريبيّ الحسيّ (القائم على المشاهدة و المعاينة و المقايسة و المعايرة فقط) لم يستطع حتّى الآن أن يصل إلى معرفة هذه اليد المدبرة و القوّة المحركة الأولى، ولكنّ الذي يسلّم به العلم هو أنّ هذا المدير و المدبّر و القويّ ليس تركيباً ماديّاً بالمعنى الذي نعرفه» (1).
نعم يمكن للعلماء أنْ يوصلوا قابليّة المادّة إلى مستوى الاستعداد لتقبل إفاضة الحياة، و ارتفاعها إلى درجة الكمال.. فالإنسان كما قيل: «فاعل الحركة لكنّه ليس فائضاً للوجود»، يقول تعالى: «أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ» [الواقعة:58، 59].. أي إنّ إفاضةَ الحياة و قبضها بيد الله، و قد يستطيع الإنسان أن يكتشف قوانين إفاضة الحياة و قبضها، و بها يستطيع أن يهيّئ في
ص: 135
المادّة القابليّة و الاستعداد لاستقبال الحياة أو طردها.. لكنّ هذا الأمر لا يعني _ كما ذكرنا _ أنّ هناك حجماً و مقداراً تشغله طاقة الحياة بخصائصها المختلفة، في خطّ التكامل عبر النقل و الانتقال في الطاقات.. الخ، لأنّ الحياة منذ أن نشأت على الأرض آخذة في التصاعد و الازدياد.
و لا شك في أنّ الحياة و الموت نوع من البسط و القبض، ولكنّه بسط و قبض ينبع ممّا هو فوق درجة وجود الطبيعة. إنّه قبض يأتي من الغيب و يعود إلى الغيب كما يقول العلّامة مطهري.. فالله تعالى هو منشئ الحركة (علّتها الجوهريّة)، و مانح الحياة و مبدأ الوجود و خالق المادّة، قال تعالى: «رَبِّیَ ٱلَّذِی يُحۡیِۦ وَ يُمِيتُ» [البقرة: 258] . و قال تعالى : «ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَ ٱلۡحَيَوٰةَ» [الملك: 2].
لكنّ الفلسفة المادّيّة، و تحديداً الماركسيّة دأبت على اعتبار أنّ الحركة معلولة لذاتها، و أنّ الواقع الموضوعيّ المادّيّ القائم لا يمكن أن يدرك إلّا عن طريق حركة التناقض (تطوّرات ذاتيّة المادّة و حركيّتها التناقضيّة) التي هي أساس الماديّة التاريخيّة، و أنّ هذا الاتّجاه هو وحده الاتّجاه الواقعيّ في مضمار البحث الفلسفيّ؛ لأنّه اتّجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعيّ للمادّة، و ليس للمسألة الفلسفيّة جواب إذا انحرف البحث عن الاتّجاه المادّيّ، إلّا المثاليّة التي تكفر بالواقع الموضوعيّ، و تنكر وجوده المادّة. فالكون إمّا أن يفسّر تفسيراً مثاليّاً لا مجال فيه لواقع موضوعيّ مستقلّ عن الوعي و الشعور، و إمّا أن يفسّر بطريقة علميّة على أساس المادّية الديالكتيكيّة .. يقول ستالين: «إنّ الديالكتيك _ خلافاً للميتافيزيّة _ لا يعتبر الطبيعة حالة سكون و جمود، حالة ركود و استقرار، بل يعتبرها
ص: 136
حالة حركة و تغيّر دائمين، حالة تجدّد و تطوّر لا ينقطعان، ففيها دائماً شيء يُولد و يتطوّر و شيء ينحلّ و يضمحلّ. و لهذا تريد الطريقة الديالكتيكيّة أن لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، و من حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة، بل أن ينظر إليها _ أيضاً _ من حیث حرکتها، من حيث تغيّرها و تطوّرها، من حيث ظهورها و إخفائها» (1). و يقول لينين: «فالديالكتيك هو إذاً _ في نظر ماركس _ علم القوانين العامّة للحركة، سواء في العالم الخارجيّ أم في الفكر البشريّ» (2). أي إنّ الطريقة الوحيدة لفهم العالم و الحياة في تطوّرها المستمرّ و تغيّرها الدائم هي الطريقة الديالكتيكيّة. و يقولون إنّها منهج فلسفيّ لفهم الواقع و معرفته معرفة حقيقيّة واقعيّة. و هي تقول إنّ كلّ شيء في العالم يوجد في تطوّر و تغيّر. كلّ شيء يجري، كلّ شيء يتغيّر، كما قال الفيلسوف اليونانيّ القديم هيراقليط. و يعرف لينين المادّة بأنّها مقولة فلسفيّة للدلالة على الواقع الموضوعيّ الذي أعطى للإنسان في إحساساته.. هي أيضاً ما يؤثّر فى أعضاء حواسّنا و يثير الإحساس؛ المادّة هي واقع موضوعيّ، أعطي لنا في الإحساس، و ما إلى ذلك (3).
لكنّ الإيمان بالحقيقة الموضوعيّة للمجتمع، و لأحداث التأريخ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادّيّ، فهناك واقع ثابت لأحداث التأريخ و كلّ حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلاً بشكل معيّن خارج شعورنا بتلك الأحداث، و هذا ما نتّفق عليه جميعاً. و ليس هو من
ص: 137
مزايا المادّيّة التأريخيّة فحسب، بل يؤمن به كلّ من يفسّر أحداث التأريخ أو تطوّراته بالأفكار، أو بالعامل الطبيعيّ، أو الجنسيّ، أو بأيّ شيء آخر من هذه الأسباب. كما تؤمن به الماركسيّة التي تفسّر التأريخ بتطوّر القوى المنتجة (1). فالإيمان بالحقيقة الموضوعيّة هو نقطة الانطلاق لكلّ تلك المفاهيم عن التأريخ، و البديهة الأُولى التي تقوم تلك التفسيرات المختلفة على أساسها. كما أنّ أحداث التأريخ _ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث الكون _ تخضع للقوانين العامّة التي تسيطر على العالم. و من تلك القوانين مبدأ العلّيّة، القائل: إنّ كلّ حدث، سواء أ كان تأريخيّاً أو طبيعيّاً، أم أيّ شيء آخر، لا يمكن أن يوجد صدفةً و ارتجالاً، و إنّما هو منبثق عن سبب. فكلّ نتيجة مرتبطة بسببها، و كلّ حادث متّصل بمقدّماته. و بدون تطبيق هذا المبدأ _ مبدأ العلّيّة _ على المجال التأريخيّ يكون البحث التأريخيّ غير ذي معنى. و هنا يكمن الفارق بين الرؤية الإسلاميّة و الرؤية الماركسيّة و باقي وجهات النظر التي تعلّل الحركة و تطوّراتها بقوانين الديالكتيك و نقض النقض. فالحركة ليست صراعاً بين فعليّات متناقضة دائماً، بل هي تشابك بين القوّة و الفعل، و خروج متدرّج للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن ندرك أنّ الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتيّاً عن السبب (الذي تسبّب بها)، و أن الوجود المتطوّر لا يخرج من الفعل إلّا لسبب خارجيّ (علّة فاعلة)، و ليس الصراع بين التناقضات هو العلّة الداخليّة لذلك، إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات و الأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها. فما دام الوجود المتطوّر في لحظة انطلاق
ص: 138
الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيّات، التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، و لم يكن في محتواه الدّاخليّ إلّا إمكان تلك الدرجات و الاستعداد لها، فيجب أن يوجد سبب لإخراجه من القوّة
إلى الفعل، لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخليّ إلى حقيقة (1). و بهذا نعرف أنّ قانون الحركة العامّة في الطبيعة يبرهن بنفسه ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها الماديّة، ذلك أنّ الحركة بموجب هذا القانون هي كيفيّة وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارة أخرى عن حركتها و تدرُّجها، و خروجها المستمرّ من الإمكان إلى الفعليّة. و قد انهارت لدينا نظريّة الاستغناء الذّاتيّ للحركة بتناقضاتها الداخليّة، التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها _ في زعم الماركسيّين _ إذ لا تناقض و لا صراع، فيجب أن يوجد التعليل، و أن يكون التعليل بشيء خارج حدود الطبيعة، لأنّ أيّ شيء موجود في الطبيعة فوجوده حركة و تدرّج، إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامّة، فلا يمكن أن نقف بالتعليل عند شيء طبيعيّ (2).
الإيمانُ بالله تعالى فطرة في ذات الإنسان، تولد معه في عمق كينونته، و هي لا تزال على صفائها و نقاوتها الأولى ما لم تتعرّض _ في سياق سيرورة الإنسان الوجوديّة _ للشكوك و الارتيابات و الاهتزازت الحياتيّة لأسباب ذاتيّة و موضوعيّة تنطلق أساساً من أسئلة مثارة حول أصل الخلق و علّته و معناه، و السبب الكامن وراءه. و حدوث هذا الشكّ (النسبيّ) أمر طبيعيّ في سياق الحركيّة البشريّة و التفاعلات
ص: 139
الإنسانيّة، ولكنّ الأمر غير الطبيعيّ هو بقاء المرء (الشاكّ و الباحث و السائل) واقفاً و متيبّساً عند لحظةِ الشّكّ دونما بحث جدّيّ عن معالجات جديّة و إجابات حقيقيّة موضوعيّة عمّا تطرحه _ حالة الشكّ _ من استفسارات و تساؤلات حول موضوع الخالق و الخلق و الإيمان.
و قد تصدّى العلماء و المتكلّمون المسلمون لمحاولات إثارة تلك الشكوك، (قبل أن تتوسّع رقعتها، و تتحوّل إلى ما يشبه الظاهرة الكلاميّة و الفكريّة القويّة و المتجذّرة في الوجدان العامّ)، و أبدعوا كثيراً من البراهين (1) حول مسألة وجود الله بالذات. و منها برهان الحدوث.
و جاءت فكرة هذا البرهان (برهان حدوث المادّة، و عدم قدم العالم) لدحض فكرة «أزليّة المادّة» التي طرحت من قبل أصحاب النظريّة الماديّة (في محاولة منهم لتثبيت فكرة قِدم العالم و عدم حدوثه)، من خلال الردّ على تلك المحاولات الفكريّة التي تنفي وجود الخالق الصانع، و تثير جملة شكوك حول علّة الخلق و الوجود و الكون، حيثُ تتمثّل النّظرةُ الماديّة في رفض وجود علّة للكون سوی المادّة، و التي انتهوا فيها إلى القول ب«أزليّة المادّة و قِدَمها».
و كان القرآن الكريم نفسه قد أشار في آيات عديدة _ فيما يتعلّق بإثبات وجود الله _ إلى هذا النمط من البراهين الكلاميّة «برهان الحدوث» من خلال دعوته الإنسان إلى ضرورة إمعان حسّه و نظره (و عموم إدراكاته) في آيات الله الكثيرة الحادثة كلّها، كدلائل على
ص: 140
أصل الخلق الإلهيّ.. يقول تعالى: «هَلۡ أَتَیٰ عَلَی ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡ_ًٔا مَّذۡكُورًا» [الانسان:1]. «ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٍ وَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّ..» [الطلاق: 12].
و تأتي هذه الآيات ليتمكّن هذا الإنسان من إدراك حدوث العالم ككلّ، (و بالتالي الوصول إلى حقيقة أنّه مخلوق و حادث و عرضيّ) و بالتالي أنّه معلول للعلّة الأولى (الله تعالى)، عن طريق إدراك حدوث أعيان الأشياء و تغييرها، كحدوث السحاب المسخّر بين السماء و الأرض، و كإنزال الماء من السماء، و إحياء الأرض بالنبات، كما في قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلاٰفِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ النّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيٰاحِ وَ السَّحٰابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [البقرة: 164].. و قوله تعالى: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا» [الحج: 46]. و الملاحظ أنّه في كلّ الآيات التي كان يتحدثّ القرآن فيها عن مسألة الحدوث، كانَ يختمُ الآيات بجملة «..إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [الرعد: 4]، «يتدبّرون»، «يتفكّرون»، في دلالة واضحة على أهميّة الإدراك العقليّ و النظر و المعاينة في الآفاق للوقوف على «حدوث الأعراض»، فالرياح أعيان، و تصريفها و حركتها أعراض لها، و كلاهما يدرك بالحسّ. كما في قوله: «فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ» [الطارق: 5-6]. و قوله: «أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ» [الطور: 35] ..
وصولاً بهم إلى أنّ الله تعالى هو علّة الكون، و هو واجب الوجود
ص: 141
و الأزليّ الخالق لكلّ شيء، يقول: «ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَیۡءٍ ۖ وَ هُوَ عَلَیٰ كُلِّ شَیۡءٍ وَكِيلٌ» [الزمر: 62].
كما وردت أحاديث كثيرة عن النبي الكريم (صلّی الله علیه و آله) و أهل بيته الطاهرين في موضوع حدوث الكون:
قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله): «الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين... كنت قبل كلّ شيء. و كوّنت كلّ شيء. و ابتدعت كلّ شيء» (1).
و قال الإمام عليّ (عليه السلام):
«الحمد لله الدالِّ على وجودِه بخَلْقِهِ، و بمُحْدَثِ خَلْقِه على أَزَلِيَّته» (2).
«لا يجري عليه السّكونُ و الحركةُ، و كيفَ يَجْرِي عَلَيْهِ ما هُو أَجراه و يَعُودُ فيه ما هو أَبداهُ و يحدُثُ فيه ما هو أَحْدَثَه» (3).
«يا من دلّ على ذاته بذاته» (4).
و قول الإمام الحسن بن علي (عليهما السّلام): «خَلَقَ الخَلْقَ فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابْتَدَعَ، و ابْتَدَعَ مَا ابْتَدَأَ» (5).
و قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر (عليهما السلام): «إنّ الله تبارك و تعالى لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء. و من زعم أنّ
ص: 142
الله تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر. لأنّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته و هويّته كان ذلك الشيء أزليّاً. بل خلق الله تعالى الأشياء كلّها لا من شيء...» (1).
و يروى عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه دخل عليه رجل، فقال: يا بن رسول الله، ما الدليل على حَدَث العالم؟ فقال الإمام (عليه السلام): «أنت لم تكن ثمّ كنت، و قد علمت أنّك لم تُكوِّن نفسك و لا كوّنك من هو مثلك» (2).
و كان للفلاسفة و المتكلّمين المسلمين صولات و جولات في إبراز هذا الموضوع البرهانيّ «الكلاميّ - الفلسفيّ»، حيث سعوا لإثبات الصانع عزّ و جلّ ببراهين عدّة كما أسلفنا، منها هذا البرهان «برهان الحدوث»، و عدم أزليّة المادّة، أي عرضها، و عدم جوهريّتها، و وجود بداية لها، حيث ما قبلها كانَ عدماً محضاً. و تختصر حقيقة هذا البرهان بقالب أرسطيّ: العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث. بما يعني أنّ للعالم و الكون (و الوجود كلّه) علّة أولى و خالقاً أزليّاً أخرج الكون و العالم من العدم إلى الوجود، و منحه صفةَ الحياة (الوجود) التي تظهر من خلال الحركة و السكون و الاجتماع و الاقتران (3)، و هي مظاهر واقعة للمادّة، و أعراض محدثة عليها، لأنّ العرض لا يكون
ص: 143
إلّا حادثاً فقط (1). و الحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلمّا اختصّ العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز، احتاج إلى موجد و افتقر إلى صانع، و هو الله تعالى.
حتّى على صعيد العلم التجريبيّ و النتائج العلميّة المختبريّة و التجريبيّة القائمة على الحسّ و الملاحظة و التجربة، فقد علمنا أنّ السّمات و الخصائص (أعراض المادّة و تحوّلاتها التي تظهر بها و عليها في مختلف مجالات وجودها) هي صفات و خصائص (طارئة) غير ذاتيّة، بل عرضيّة للمادّة الأصليّة، أو للواقع المادّيّ المشترك، خاصّة و أنّه يمكن سلب أيّة واحدة من تلك الصفات أو الخصائص عن المادّة، بما يعني نزع الأزليّة عنها، و بالتالي حدوثها. و عندما نقول: هذا الشيء «حادث»، معنی ذلك: أنّ هذا الشيء لم يكن ثمّ كان، أي: كان «معدوماً» ثمّ صار «موجوداً». و عندما نقول: هذا الشيء «قديم»، معنى ذلك: أنّ هذا الشيء موجود في الأزل، و لا بداية لوجوده، و هو «الموجود» الذي لم يسبقه «العدم» (2).
و يشير العلّامة الشيخ جعفر السّبحانيّ في موسوعته الكلاميّة و الفلسفيّة (الإلهيّات) (3) إلى أنّ الحدوث وصفٌ للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم. و هو على قسمين، الأوّل: الحدوث الزمانيّ و هو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزمانيّ كمسبوقيّة اليوم بالعدم في أمس، و مسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في أمس. و الثاني: الحدوث الذّاتي و هو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته، كجميع
ص: 144
الموجودات الممكنة الّتي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها، و ليس لها في ماهيّتها و حدّ ذاتها إلّا العدم، هذا حاصل ما ذكروه في تعريف الحدوث و تقسيمه إلى الزمانيّ و الذاتيّ و التفصيل يطلب من محلّه (1). ثمّ إنّ مرجع الحدوث الذاتيّ إلى الإمكان الذاتيّ، فالاستدلال بالحدوث الذاتيّ راجع إلى برهان الإمكان و الوجوب.
و قد ظهر أنّ هناك حدوثاً للحياة في عالم المادّة، فقد أثبت العلم بوضوح أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة، و لا تتحقّق في عالم الطبيعة عمليّة طبيعيّة معاكسةً لذلك، و معنى ذلك أنّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة و عند ذلك لن تتحقّق عمليّات كيميائيّة أو طبيعيّة، و يستنتج من ذلك: أنّ الحياة في عالم المادّة أمر حادث و لها بداية، إذ لو كانت موجوداً أزليّاً و بلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادّة، و انضباب ظاهرة الحياة المادّيّة منذ زمن بعيد. و إلى ما ذكرنا أشار «فرانك آلن» أستاذ علم الفيزياء (2)، من أن قانون «الترموديناميكا» أثبت أنّ العالم لا يزال يتّجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام، و لا توجد هناك طاقة مؤثِّرة العمليّة الحياة، فلو لم يكن للعالم بداية و كان موجوداً من الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمدٍ بعيدٍ، فالشَّمس المشرقة و النجوم و الأرض المليئة من الظواهر الحيويّة و عمليّاتها أصدق شاهد على أنّ العالم حدث في زمان معيَّن، فليس العالم إلّا مخلوقاً حادثاً (3).
ص: 145
و هذا يؤكّد عرضيّة المادّة، أي إنّ وجودها ليس نابعاً من تلقاء نفسها أو من ذاتيّتها. هو شيء خارجيّ عليها. أي منوط بغيرها. بمعنى أنّ لها بداية و لها نهاية. و العلوم التطبيقيّة كلّها (حتّى على مستوى قوانين علوم الطاقة و المادّة، و على رأسها قوانين الديناميكا الحراريّة) كلّها تقول بفناء المادّة، و تؤكّد انتهاءها و برودتها، بما يعني حدوثها و عدم أزليّتها، و أنّ الوجود طارئ عليها، و ليس ذاتيّاً فيها. و هذا ما يقصد من حدوث المادّة باختصار شديد.
و بشيء من الاختصار المنطقيّ، نقول:
يتشكل برهان الحدوث من مقدّمتين و نتيجة:
المقدّمة الأولى: العالم حادث.
المقدّمة الثانية: كلّ حادث يحتاج إلى مُحدِث.
النتيجة: العالم يحتاج إلى مُحدِث.
تتحدّث المقدّمة الأولى عن التغيّر (الحدوث) الذي يلفّ الكون و الوجود كلّه، و هذا ما جرى التوصل إليه علميّاً (تجريبيّاً) من قبل كلّ العلماء التجريبيّن ممّن عملوا على اكتشاف قوانين الطبيعة و قوى المادّة الطبيعيّة (المناطيسيّة و الكهربائيّة و الكهر و مغناطيسيّة و النوويّة) التي تتحكّم بالكون و الوجود و الحياة كما قلنا.
و تتحدّث المقدّمة الثانية، عن قاعدة عقليّة لا يمكن إثباتها تجريبيّاً، بل هي خارج اختصاص البحوث المادّيّة التجريبيّة، و هي تعتمد على البديهيّات العقليّة، و أساسها قانون «العلّيّة»، و هو قانون عامّ شامل، و يعتبر الأساس للحركيّة البشريّة و مختلف المساعي
ص: 146
و النشاطات و الفعاليّات العلميّة و العاديّة التي تقوم بها، و قد جرى بحثه في موضع سابق من هذا البحث.
و هكذا نصل إلى النتيجة العقليّة المتوخّاة و هي أنّ العالم مفتقر بذاته، و يحتاج إلى محدث له، و هو الصانع عزّ و جلّ، العلّة الأولى للخلق و الوجود و الحياة.
ص: 147
حین تتحدّثُ الفلسفات المادّيّة الغربيّة عن حيويّة التفكير المادّيّ، و علميّته، و رصانته، و أسبقيّة فكرة «المادّة» ذاتها، و تستغرق في شروحات أسباب رفض الدين و الأفكار الدينيّة و المثاليّة الدينيّة، نجدها تفشل فشلاً ذريعاً في تقديم طرح بديل عقلانيّ لجوانب أخرى تخصّ الطبيعة البشريّة في أصلها و بنيتها و جوهريّة وجودها الدائم، بحيث تتجاوز الطبيعة الماديّة، و ما بعد المادّة، و تتجاوز الذاتيّة الغرائزيّة لها.. و هي تفشل أيضاً في تقديم طرح حقيقيّ محمي من جهة العقل، يعطي للحياة معنى حقيقيّاً مرتبطاً بالكمال الوجوديّ النفسيّ و الروحيّ، و يستأصل من الأذهان فكرة العبث في الحياة و أفكار اللا جدوى و الفراغ و الضياع، و هي تعجز عن تقديم طرحٍ يحيي الآمال الحقيقيّة (لا المزيّفة) في نفوس الناس، و يشعل حماستهم الذاتيّة، و يبعث طموحهم العمليّ، و يعطيهم الشعور بالمسؤوليّة بعضهم تجاه بعض و غايتهم التكامليّة.. بحيث يكون هذا الطرح غير خاضع فقط للقوانين التي ترتبط بعالم الإنسان، حيث يبرز ذلك من خلال نشاط الإنسان الحضاريّ مثل: الاجتماع الإنسانيّ و الحسّ الخلقيّ و الحسّ الجماليّ و الحسّ الدينيّ.. و يرصد لنا الدكتور عبد الوهاب المسيريّ هذه المظاهر الإنسانيّة في كون الإنسان هو (1):
ص: 148
- كائن دائب التنقيب عن تساؤلات عما يسمّى العلل الأولى، و ليس عن معلولاتها و مآلاتها و حسب.
- كائن دائم البحث عن الغرض (و الهدفيّة و الغائيّة) من وجوده في الكون.
- كائن واعٍ بذاته، مدرك (بفطرته) لضرورة (روحنتها)، و مدرك أيضاً للكون، و قادر على تجاوز ذاته الماديّة.
- كائن صاحب إرادة حرّة (و عاقلة)، برغم الحدود الطبيعيّة و التاريخيّة التي تحدّه.
- كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقيّة غير نابعة من البرنامج الطبيعيّ/ الماديّ.
- كائن يطوّر و يبدع أنساق من المعاني الداخليّة و الرموز التي يدرك من خلالها الواقع.
- كائن متميّز فيه كلّ فرد بخصوصيّات لا يمكن محوها أو تجاهلها.
و نضيف إليه: كائن إنسانيّ يسعى لتحقيق ذاته و خصوصيّاته و فرديّته و مصالحه، و ليس تحقيقه لإرادة الجماعة و حسب، كما هي النظرة المادّيّة الماركسيّة التي أرادت أن يكون هذا الكائن مجرّد جزء من آلة يذوب بالاتّحاد مع العالم بواسطة العمل، ليفقد _ من خلال ذلك _ إرادته و وعيه و مسؤوليّته كرمى لعيون أدوات الإنتاج، و أرباب وسائل (و أدوات) الإنتاج.
و هذه كلّها لا يمكن للمادّة و التجارب المادّيّة الوصول إلى ماهيّتها و معرفتها بالذات، حتّى الإجابة عنها بالعرض، لأنّها قضايا
ص: 149
تتّصل بالمعنى و الغاية و المقاصد العليا (1)، تتّصل بالتكامل الروحيّ للإنسانيّة. و هو أمر لا صلة بينه و بين المادّة، سوى من جهة أنّ العلم (المادّيّ) قد يملك تطبيقات و وسائل حسّيّة يمكن أن تساعد في الوصول إليها.
إنّ النظرة الماديّة محدودة، لا تفكّر إلّا بالمادّة، فكراً و سلوكاً، و هي تربط الناس بأشكال و مظاهر شتّى من المادّيّات الحياتيّة، مبعدةً إيّاهم عن أصالتهم الروحيّة، و معنى وجودهم الأصيل. تربطهم بغايات مادّيّة محدودة و قاصرة، و تدفعهم ليتكيّفوا روحياً و فكرياً وفقاً لتطوّرات الإنتاج، و نوعيّة لقوى المنتجة، دونمّا إسهام في حلّ أصل مشكلة الاجتماع البشريّ القائمة على محاولة تقديم الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسيّ: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانيّة، و يمكنُ أن تسعد به في حياتها الاجتماعيّة، خاصّةً في ظلّ هيمنة الدوافع الذاتيّة و الشخصيّة على الإنسانيّة (كحبّ الذات، و الطمع، و الشهوة، و الملك، و حبّ الشهرة، و المتعة، و اللذّة، ووو إلخ)، و عدم قدرة الإنسان (العمليّة) على التحرّر منها في سياق بحثه عمّا يصلح له من قوانين و أنظمة اجتماعيّة يمكن أن تحقّق له السعادة الحياتيّة الحقيقيّة المنشودة؟!!
ص: 150
حقيقةً، من يقرأ تاريخ الحضارات و يتمعّن في أفعال و سلوكيّات الاجتماع البشريّ فيها، سيدرك أنّ مجمل هذه الحضارات البشريّة التي صنعها الإنسان، عجزت واقعيّاً _ برغم كثير ما حقّقته و أنجزته لراحة الإنسان ماديّاً _ عن وضع نظام قانونيّ يقاوم في الإنسان عبوديّته لشهوته، و يرتفع به إلى مستوى إنسانيّ أعلى فكراً و سلوكاً أخلاقيّاً، و يجعل البشريّة تعيش في مأمن من الحروب و الصراعات و الفوضى و القتل و الدمار بين كلّ وقت و آخر.
إنّ الإنسانيّة لن تتمكّن فكريّاً و عمليّاً من السير على طريق الخلاص و تنظيم دوافع الذات المهيمنة و المسبّبة أصلاً للأزمات و الصّراعات، ما دام التفسير المادّيّ المحدود للحياة طاغياً على حركة الفرد في وعيه و سعيه، فكلّ فرد في المجتمع (أيّ مجتمع) إذا آمنَ بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته الماديّة الخاصّة، و آمنَ أيضاً بحريّته في التصرّف بهذه الحياة و استثمارها، و أنّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلّا اللذة التي توفّرها له المادّة.. و أضاف هذه العقائد الماديّة إلى حبّ الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون و ينفذ أساليبهم كاملةً ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته و تسدّ عليه السبيل (1). و حبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزةً أعمّ منها و أقدم، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة و شعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته _ الذي يعني حبّه للذّة و السعاة لنفسه، و بغضه للألم و الشقاء لذاته _ هو الذي يدفع الإنسان إلى کسب معیشته، و توفير حاجياته الغذائيّة و الماديّة. و لذا قد يضع حدّاً
ص: 151
لحياته بالانتحار، إذا وجد أنّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته. و الواقع الطبيعيّ الحقيقيّ إذاً، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها و يوجهها بأصابعه هو: حبّ الذات، الذي نعبّر عنه بحبّ اللذّة و بغض الألم. و لا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة، في سبيل أنْ يلتذّ الآخرون و يتنعّموا إلّا إذا سلبت منه إنسانيّته، و أعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة و لا تكره الألم (1).
كذلك لن تتمكّن الإنسانيّةُ من صنع إنسان جديد مغاير لطبائعه و أمزجته و أهوائه، أي لن يكون بمقدورها و تبديل الإنسان الحاليّ بإنسان آخر لضمان السيطرة على تلك المفاهيم الماديّة المستحكمة (و ما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف و الأعمال) من أجل أن تتحقّق العدالة و إنسانيّة الإنسانيّة.. و لهذا لا بدّ من تقديم طرح فكريّ مفهوميّ يقوم على تنظيم هذه الطبائع و ربطها بغايات إنسانيّة نبيلة، و هذه توّفرها النظرة العلويّة، نظرة المعنى و الهدفيّة، أي النظرة الدينيّة المناقضة _ كما رأينا _ للنظرة و الفلسفة المادّيّة، و هي نظرة و فلسفة واقعيّة، تربطُ الإنسان بغاية و نموذج فعّال، و مثل أعلى مرتفع، و تُركّز التفسير الواقعيّ للحياة، بما يؤدّي إلى إشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدّمة تمهيديّة إلى حياة أخرويّة، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. و على هذا الطريق يجري العمل على تربية هذا الإنسان لتعميق الفهم المعنويّ الغائيّ لهذه الحياة. و هذا هو المعنى الحقيقيّ للدين في سعيه لتوحيد المقياس الفطريّ للعمل و الحياة،
ص: 152
و هو حبّ الذات و المقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل و الحياة، ليضمن السعادة و الرفاه و العدالة (1).
و هذا المثلُ الأعلى المرتفع (بتعبير الشّهيد السّيد محمد باقر الصّدر) هو الله تعالى مطلق الكون و الوجود و الحياة، و غاية الغايات. و الغايات بنفسها محرّكة للتاريخ، و هي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخليّ للإنسان، و هو المثل الأعلى الذي تتمحْور فيه كلّ تلك الغايات، و تعود إليه كلّ تلك الأهداف، فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشريّة صالحاً و عالياً و ممتدّاً تكون الغايات صالحة و ممتدّة، و بقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة و منخفضة أيضاً. و هذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامّة إلى الحياة و الكون، يتحدّد من قِبَل كلّ جماعة بشريّة على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة و الكون. على ضوء ذلك تحدّد مَثَلها الأعلى (2).
ص: 153
1. القرآن الكريم.
2. نهج البلاغة.
3. ابن سينا. «كتاب الشفاء». المؤسّسة الجامعيّة للدراسات و النشر و التوزيع، طبعة عام 1988م، بيروت/ لبنان.
4. ابن رشد. «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال». الطبعة الأولى 1997م، مركز دراسات الوحدة العربيّة.
5. أمين أحمد. «طريقنا إلى الحريّة، محاورة زكي نجيب محمود». عين للدراسات و البحوث الإنسانيّة و الاجتماعيّة، القاهرة/ مصر، الطبعة الأولى عام 1994م.
6. أحمد ثابت. «نقد النموذج الماديّ الغربيّ المعادي للتاريخ، في عالم عبد الوهاب المسيري: حوار نقديّ حضاريّ». دار الشروق، القاهرة/ مصر، الطبعة الأولى 2004م.
7. اسبينوزا، باروخ. «رسالة في اللاهوت و السياسة». ترجمة: حسن حنفي، دار التنوير، بيروت/ لبنان، طبعة عام 2005م.
8. إسلام عزمي. «مدخل إلى الميتافيزيقيا». مكتبة سعيد رأفت، القاهرة/ مصر، طبعة عام 1977م.
9. أنجلز، فريدريش أنجلز. «الماديّة التاريخية : رسائل حول المادية التاريخية 1890-1894». ترجمة: إلياس شاهين، دار التقدّم، موسكو، طبعة عام 1980م.
10. أنجلز، فريدريش. «ضدّ دوهرنك». ترجمة: محمد الجنديّ، دار التقدم، موسكو، طبعة عام 1984م.
11. ابن منظور، جمال الدين. «لسان العرب». المجلد: 12. دار صادر، بیروت/ لبنان، الطبعة الثالثة، 1993م.
12. الأهواني، أحمد فؤاد. «فجر الفلسفة اليونانيّة قبل سقراط». الهيئة المصريّة للكتاب، القاهرة/لبنان، طبعة عام 2009م.
13. بدوي. عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر. بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م.
14. بدوي، عبد الرحمن. «مدخل جديد إلى الفلسفة» . وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية عام 1979م.
15. برييه إميل. «تاريخ الفلسفة». المجلد الأول (العصور القديمة و الوسطى)، طبعة باريس 1935.
ص: 154
16. بيكون، فرانسيس. «الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة». ترجمة د. عادل مصطفى، رؤية للنشر و التوزيع، القاهرة/ مصر طبعة عام 2013م.
17. برتراند رسل. «تاريخ الفلسفة الغربيّة». ترجمة: زكي نجيب محمود، راجعه: أحمد أمين، ط: 2، لعام 1967م، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر بالقاهرة، الكتاب الأول: الفلسفة القديمة.
18. برتراند رسل. «حكمة الغرب: عرض تاريخيّ للفلسفة الغربيّة في إطارها الاجتماعيّ و السياسيّ». الجزء الأول، ترجمة: د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة: سلسلة كتب ثقافيّة شهريّة يصدرها المجلس الوطنيّ للثقافة و الفنون و الآداب - الكويت، (364)، حزيران 2009م.
19. بيغوفتش، علي عزت. «الإسلام بين الشّرق و الغرب». طبعة مؤسّسة العلم الحديث، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1994م.
20. بوليتزر، جورج. «أصول الفلسفة الماركسيّة». ترجمة: شعبان بركات. منشورات المكتبة العصريّة، صيدا/لبنان، طبعة بلا تاريخ.
21. البستانيّ، بطرس. «أدباء العرب في الأعصر العباسيّة». دار الجيل، بيروت/لبنان، طبعة: 4، عام 1998م.
22. بدوي، عبد الرحمن. «من تاريخ الإلحاد في الإسلام». دار سينا للنشر، القاهرة/مصر، طبعة ثانية سنة 1993م.
23. بيومي، أشرف. «الاتّجاه النقديّ في الفكر الفلسفيّ المعاصر». دار المعرفة الجامعية. مصر/القاهرة، طبعة: 2009م.
24. بدوي، عبد الرحمن. «مدخل جديد إلى الفلسفة». وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية عام 1979م.
25. بدوي. عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر. بيروت/ لبنان، طبعة أولى عام 1984م، الجزء الثالث.
26. بدوي، عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». الجزء الثاني، الناشر: ذوي القربي، الطبعة الثانية، 2008م، قم /إيران.
27. بروکلمان، کارل. «تاريخ الأدب العربي». تحقيق: عبد الحليم نجا، و رمضان عبد التواب، دار
المعارف، القاهرة/مصر، طبعة عام 1977م.
28. بُوتنام، هيلاري. «العقل و الصدق و التاريخ». ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، مراجعة: هيثم غالب
ص: 155
الناهي، المنظمة العربيّة للترجمة، الطبعة الأولى، لبنان، بيروت، طبعة عام 2012م.
29. بوبر كارل. «النفس و دماغها». ترجمة: د. عادل مصطفى، رؤية للطباعة و النشر، مصر/ القاهرة، طبعة عام 2012م.
30. بوبر، كارل. «أسطورة الإطار: في الدفاع عن العلم و العقلانيّة». ترجمة: يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، الكويت، العدد: 292، شهر إبريل/مايو 2003م.
31. بودون، ر. وبورّيكو، ف. «المعجم النقديّ لعلم الاجتماع». سليم حدّاد، مترجم، الطبعة الثانية، بيروت/لبنان، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدراسات و النشر و التوزيع، طبعة عام 2007م.
32. ،ثابت، أحمد. «نقد النموذج الماديّ الغربيّ المعادي للتاريخ، في عالم عبد الوهاب المسيريّ: حوار نقديّ حضاريّ». دار الشروق، القاهرة/مصر، الطبعة الأولى 2004م.
33. الجسر، نديم. «قصة الإيمان». بیروت، لبنان، منشورات المكتب الإسلاميّ، ط: 3، سنة النشر 1969م.
34. حمد، إنصاف. «المعرفة و التجربة: دراسة في نظريّة المعرفة عند ديفيد هيوم». منشورات وزارة الثقافة السوريّة، طبعة أولى عام 2006م، ص: 345.
35. الخطيب البغدادي. «تاريخ بغداد». دار الفكر، طبعة مصورة، بلا تاريخ.
36. ديورانت، ول. «قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي». ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت/لبنان. الطبعة السادسة عام 1988م.
37. دلّو، برهان الدّين. «جزيرة العرب قبل الإسلام». منشورات آنيب/الجزائر، و بيروت/دار الفارابي. ج: 1 و 2، طبعة عام 2004.
38. ديكارت، رينيه. «مقال عن النّهج». ترجمة: محمود الخضيريّ، مراجعة و تقديم: د. محمد مصطفى حلمي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة/مصر، طبعة عام 1985.
39. الدّعجانيّ، عبد الله بن نافع. «جدلية العقل و الدين بين الفكر الغربيّ و الدين الإسلامي». دار جداول للنشر، طبعة أولى عام 2013م.
40. السّبحانيّ، جعفر. «نظريّة المعرفة». بقلم: الشيخ. حسن محمد مكي العامليّ. الدار الإسلاميّة، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1990م.
41. السبحانيّ، جعفر. «الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل»، الدار الإسلاميّة، بيروت/ لبنان، طبعة أولى عام 1989م.
42. سعيد، حكيم محمد. «أعلام و مفكّرون: لمحات عن مشاهير العلماء و المفكّرين في عصور الإسلام
ص: 156
الذهبية»، ط 2، لعام 2000م، الأكاديميّة الإسلاميّة للعلوم، عمان/الأردن.
43. ستيس، والتر. «الدين و العقل الحديث». ترجمة و تعليق و تقديم: أ.د. إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة/مصر، طبعة عام 1998م.
44. ستيس، والتر. «تاريخ الفلسفة اليونانيّة». ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة، القاهرة/ مصر. بلا تاريخ.
45. ستالين، جوزيف. «الماديّة الديالكتيكيّة و الماديّة التاريخيّة». طبعة 2005م.
46. ستالين، جوزف. «الماديّة الديالكتيكيّة و الماديّة التاريخيّة» المكتبة الاشتراكيّة، تقديم: خالد بكداش، دار دمشق للطباعة و النشر، طبعة (إهداء) 2007.
47. ستالين، جوزيف. «آخر المؤلّفات.. حول الماركسيّة و فقه اللغة». طبعة باريس، 1953م.
48. ستيوارت ميل، جون. «أسس الليبراليّة السياسيّة». ترجمة و تقديم و تعليق: د. إمام عبد الفتاح إمام، د. ميشيل متياس، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 1996م.
49. سبينوزا، باروخ. «رسالة في اللاهوت و السياسة». ترجمة: حسن حنفي، دار التنوير، بيروت/لبنان طبعة عام 2005م.
50. سیرل، جون. «العقل». ترجمة: ميشيل حنا متياس، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، المجلس الوطنيّ للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، العدد: 343، أيلول 2007م.
51. شمس الدين، محمد مهدي. «مطارحات في الفكر الماديّ». تحقيق: محمد صادق الغريريّ، إشراف: سامي الغريريّ. طباعة: مؤسسة دار الكتاب الإسلاميّ، طبعة عام 2006م.
52. شميّل، شبلي. «فلسفة النشوء و الارتقاء». المجموعة، الجزء الثاني، دار نظير عبود، طبعة جديدة، بیروت/ لبنان، طبعة عام 1991م.
53. شالين، أوليفييه. «فرنسا في القرن الثامن عشر». دار بیلان، باريس/ فرنسا، طبعة عام 2006م.
54. الصدر، محمد باقر. «فلسفتنا». مؤسّسة دار التعارف للمطبوعات و النشر، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1992م.
55. الصدر، محمد باقر. «اقتصادنا». تحقيق المؤتمر العالميّ للإمام الشهيد الصدر، قم/ إيران، طبعة عام 2004م.
56. الصدر، محمد باقر. «المدرسة الإسلاميّة». الناشر: دار الكتاب المصريّ (القاهرة)، دار الكتاب اللبنانيّ (بيروت)، سنة النشر 2011م.
ص: 157
57. الصدر، محمد باقر . «المدرسة القرآنيّة». مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، طبعة ثانية عام 2013م.
58. صليبا، جميل. «من أفلاطون إلى ابن سينا». طبعة: 4، لعام 1951، دار الأندلس، بلا بلد نشر.
59. الطباطبائي، محمد حسين. «بداية الحكمة». دار المعارف الإسلاميّة، طبعة بلا تاريخ.
60. طارق، قصي. «أفلاطون». مجلّة دراسات دوليّة، العدد: 80، عام: 2006م.
61. عبود، علي. «الرؤية الكونيّة الإلهيّة: دراسة في الدوافع و المناهج». نور للدراسات و النشر، الطبعة الأولى عام 2012م. بلا بلد نشر.
62. عرابي، أسامة. «كارل بوبِّر، مدخل إلى العقلانيّة النقديّة». الناشر: المؤتمر الدائم للحوار اللبنانيّ، سلسلة قضايا معاصرة و شخصيّات، بلا تاريخ.
63. عامل، مهدي. «في الدولة الطائفية» دار الفارابيّ، بيروت/ لبنان، الطبعة الثالثة 2003م.
64. غادامير، جورج هانز. «بداية الفلسفة» ترجمة: علي حاكم صالح و حسن ناظم، طبعة أولى عام 2002م.
65. فيورباخ، ل. «أصل الدين». دراسة و ترجمة: أحمد عبد الحليم عطيّة، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت/ لبنان، طبعة أولى عام 1991م.
66. فروخ، عمر. «تاريخ الفكر العربيّ إلى أيّام ابن خلدون». دار العلم للملايين، بيروت/ لبنان، طبعة عام 1983م.
67. فضل الله، هادي. «مدخل إلى الفلسفة». دار المواسم، بيروت/لبنان، طبعة 2002م.
68. فيرنك، أندرو. «أوغست كونت و دين البشريّة». مطبوعات جامعة كامبردج، عام 2005م.
69. الفيروز آبادي، مجد الدين. «المعجم الوسيط». الطبعة الثامنة، مؤسّسة الرسالة، 2005، بيروت/ لبنان.
70. كرم، يوسف. «تاريخ الفلسفة اليونانيّة». القاهرة/ مصر، طبعة خامسة عام 1970.
71. كامو، ألبير. «الإنسان المتمرّد». ترجمة: نهاد رضا، منشورات عويدات، بیروت/ لبنان، طبعة ثالثة عام 1983م.
72. ل. لاندوا وأ. كيتايجورودسكي. «الفيزياء للجميع»، نشر في الاتّحاد السوفيتيّ السابق/موسكو، الترجمة العربيّة من «دار مير للطباعة و النشر» طبعة عام 1978.
73. لويس، جون. «مدخل إلى الفلسفة». ترجمة أنور عبد الملك، الدار المصريّة للكتب، القاهرة/مصر، طبعة عام 1957م.
74. مطهري، مرتضى. «الدّوافع نحو الماديّة». ترجمة: الشيخ محمد علي التسخيري، طباعة دار التعارف،
ص: 158
بيروت/لبنان، طبعة عام 1991م.
75. مجموعة من المؤلِّفين. «عبقريّة الحضارة العربيّة، منبع النهضة الأوروبيّة». ترجمة عبد الكريم محفوض، منشورات وزارة الثقافة السوريّة، دمشق: 1972م.
76. مجموعة من نخبة العلماء. «الله يتجلّى في عصر العلم». ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان، دار القلم، بيروت/لبنان، طبعة بلا تاريخ.
77. المسيريّ، عبد الوهاب. «قراءة في كتاب الفلسفة الماديّة و تفكيك الإنسان». دار الفکر، دمشق/سوريا، طبعة ثانية عام 2007م.
78. «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر، بيروت/ لبنان، طبعة أولى عام 1984م. الجزء الثاني.
79. المعجم الوسيط (الصادر عن مجمع اللغة العربيّة)، مدير النشر: عبد العزيز النجار، الطبعة الرابعة عام 2004م، مكتبة الشروق الدوليّة، القاهرة/مصر.
80. مرقص، إلياس. «الماركسيّة في عصرنا». بيروت/لبنان، دار الطليعة طبعة عام 1969م.
81. مرقص، إلياس. «نقد العقلانيّة العربيّة». دار الحصاد للنشر و التوزيع، 1997، دمشق/سوريا.
82. مروة، حسين. «تراثنا كيف نعْرفه». مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت/لبنان، طبعة 2، 1986م.
83. محمد بن بابويه (الشيخ الصدوق). «التوحيد». دار المعرفة للطباعة و النشر، بيروت/لبنان، طبعة بلا تاريخ.
84. محمد بن بابويه (الشيخ الصدوق). «علل الشرائع». دار المرتضى، بيروت/ لبنان، طبعة أولى عام 2006م.
85. مصباح، محمد تقي الدّين. «المنهج الجديد في تعليم الفلسفة». دار التعارف للمطبوعات، لبنان/ بیروت، طبعة أولى عام 1990م.
86. المجلسيّ، محمد باقر. «موسوعة بحار الأنوار»، دار إحياء الكتب الإسلاميّة، لبنان/بيروت، طبعة عام 1996.
87. المسيري، عبد الوهاب. «الفلسفة الماديّة و تفكيك الإنسان» دار الفکر، دمشق/سوريا، الطبعة الثانية عام 2003م.
88. مارکس، کارل. «رأس المال»، الجزء الأول، مكتبة النهضة المصريّة، طبعة عام 1947م.
89. الموسوعة العربيّة، المجلد الثاني عشر، التصنيف: الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد، النوع: إعلام
ص: 159
و مشاهير الناشر: هيئة الموسوعة السوريّة (رئاسة الوزراء السوريّة)، طبعة أولى عام 2009م.
90. الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء و الأكاديميّين السوفياتيّين، النسخة العربيّة، الطبعة الأولى، دار الطليعة - بيروت/لبنان، تشرين أوّل: 1974م.
91. «موسوعة الفلسفة». الجزء الثانى، المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م.
92. موسوعة اليهود و اليهوديّة و الصهيونيّة. الجزء الأول، دار الشروق الطبعة الأولى عام 1999م، القاهرة/ مصر.
93. النشار، علي سامي، (و آخرون). «ديموقريطس فيلسوف الذرّة، و أثره في الفكر الفلسفيّ حتّى عصورنا الحديثة». طبعة الهيئة العامّة المصريّة للكتاب، منطقة الاسكندريّة. عام 1998م.
94. نجيب محمود، زكي. «فلسفة سبينوزا». مجلّة الرسالة، العدد: 12، تموز/ يوليو 1933م - مجلّة الرسالة العدد: 15، أب/أغسطس 1933م.
95. نعمة، طلال. «إلياس مرقص: حوارات غير منشورة». المركز العربيّ للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة/ قطر، طبعة أولى، تشرين الثاني 2013م.
96. ابن النديم، محمد بن اسحاق. «كتاب الفهرست لابن النديم في أخبار العلماء المصنفين من القدماء و المحدّثين و أسماء كتبهم». مؤسّسة الفرقان للتراث الإسلاميّ، لندن/إنكلترا، طبعة عام 2009.
97. نصّار، ناصيف. «نحو مجتمع جديد». دار الطليعة، بيروت/ لبنان، طبعة عام: 1955م.
98. نجيب محمود، زكي. «فلسفة سبينوزا». مجلّة الرسالة، العدد: 12، تموز/يوليو 1933م- مجلّة الرسالة العدد: 15، أب/ أغسطس 1933م.
99. و يبستر. «قاموس و يبستر (إنكليزيّ - إنكليزيّ)». مكتبة لبنان ناشرون، طبعة عام 1993م.
100. ويلرايت، فيليب. «الفلاسفة قبل سقراط». نيوجرسي، طبعة 1966م.
101. وین، فرانسیس. «کارل ماركس، قصة حياة:
Karl Marx - A Life». ترجمة: د. سعدي عبد اللطيف، طبعة لندن عام 2012م.
ص: 160
31
المؤلِّف في سطور
نبيل علي صالح
نبذة علمية
. نبيل علي صالح: كاتب و باحث سوري، حاصل على الإجازة (بكالوريوس) في هندسة الطاقة الكهربائية. مهتم بقضايا النقد الفكري و التجديد الديني، و مختلف إشكاليات الثقافة العربية و الإسلامية. نشر (و ينشر) مقالاته و بحوثه في كثير من الصحف و المجلات و الدوريات العربية و الدولية، و في كثير من المواقع الإلكترونية. شارك في مؤتمرات (وندوات) فكرية و علمية عديدة.
. صدر له عدة كتب، نذكر منها:
. کتاب: «طيب تيزيني... من التراث إلى النهضة»،
. و كتاب: «العرب و التحديات المعاصرة (العولمة، الهويات الثقافية، مجتمع الثورة المعلوماتية)»،
. و كتاب: «المجتمع المدني الإسلامي.. هموم و قضايا معاصرة»،
. و كتاب: «العقلانية و الحوار من أجل التغيير»،
. و كتاب: «الحداثة و العقلانية و الانفتاح في فكر الشهيد الصدر و العلامة فضل الله».
ص: 161
هذا الكتاب
الماديّة
مُقَارَبَةُ نَقْدِيَةٌ فِي الْبِنْيَةِ و المنهج
تتناول هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة (مصطلحات معاصرة) مصطلح المادية Materialism في معناها اللغوي و الاصطلاحي و كذلك في دلالاتها الأنطولوجية و ظهوراتها
التاريخية. و هو ما عبّرت عنه المذاهب الفكرية و المدارس الفلسفية و التيارات السياسية التي ظهرت في الغرب ابتداءً من القرن التاسع عشر و حتى منتصف القرن العشرين و منها على وجه الخصوص ما عبّرت عنه الماركسية على المستويين النظري و التطبيقي.
المرکز الاسلاميّ للدراسات الاستراتيجية
http://www.iicss.iq
islamic.css@gmail.com
ص: 162