تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 6

هوية الکتاب

بسم الله الرحمن الرحیم

تحفة العلیة

في شرح خطاي بالحیدریة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3454 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 125 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الاصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3454 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 125 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الاصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقيق المخطوطات

وحدة تحقيق الشروحات (13)

تحفة العلیة

في شرح خطاي بالحیدریة

لأفصح الدین محمد بن حبیب الله بن احمد الحسني الحسیني

من اعلام القرن الثامن الهجري

الجزء السادس

تحقیق

السید علي الحسني الکربلائي

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Inahj.org@gmail.com

ص: 4

ومن كتاب له عليه السّلام إلى جرير بن عبد الله البجلي، لما أرسله إلى معاوية:

روى أنّ جريراً أقام عند معاوية حين أرسله عليه السّلام حتّى أتّهمه الناس.

وقال: قد وقّتّ لجرير وقتاً لا يقيم بعده إلَّا مخدوعاً أو عاصياً. وأبطئ حتّى أيس منه. فكتب إليه بعد ذلك هذا الكتاب. فلمّا انتهى إليه أتى معاوية فأقرأه إيّاه وقال: يا معاوية إنّه لا يطبع على قلب إلَّا بذنب ولا يشرح إلَّا بتوبة، ولا أظنّ قلبك إلَّا مطبوعاً، أراك قد وقفت بين الحقّ والباطل كأنّك تنظر شيئاً في يد غيرك.

فقال معاوية: ألقاك بالفصل في أوّل مجلس إنشاء الله. ثمّ أخذ في بيعة أهل الشام فلمّا انتظم أمره لقي جريراً وقال له: الحق بصاحبك وأعلمه بالحرب. فقدم جرير إليه عليه السّلام.

والكتاب هذا.

أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَأحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ: فصل الأمر وقطعه وخُذْهُ بِالأَمْرِ الْجَزْمِ ثُمَّ خَیِّرْهُ بَیْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ: يكون فيها ذليلا مهاناً مقهوراً، وفي ذكر الإجلاء والإهانة على التقديرين تخويف وتهديد وإشعار بأنّه عليه السّلام في الأمرين ظاهر ظافر، وله غالب قاهر لعله يتذكَّر أو يخشی.

فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ: أمره على تقدير اختياره للحرب أن يرميه بالإعلام بها ويلقى الوعيد بإيقاعها من قبله عليه السّلام ويجهر له بذلك من غير مداهنة ومداراة كقوله تعالى «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ»(1)وإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ والسَّلاَمُ.

ص: 5


1- سورة الأنفال: الآية 58

ملتقط من كتاب كتبه إلى معاوية جواب کتابه إليه؛ وصورة كتاب معاوية: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلَّا هو: أمّا بعد فإنّ الله اصطفى محمّداً بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واجتبي له من المسلمين أعواناً أیّده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم وأنصفهم لله ولرسوله الخليفة من بعده وخليفة الخليفة من بعد خلیفته والثالث الخليفة عثمان المظلوم؛ فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت؛ عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك البجر وفي تنفّسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء. وفي كلّ ذلك تقاد کما یقاد الجمل المخشوش حتّى تبایع وأنت کاره؛ ثمّ لم يكن لك لأحد منهم حسداً مثل ما منك لابن عمّك عثمان وكان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته وصهره فقطعت رحمه وقبّحت محاسنه وألَّبت عليه الناس وبطنت وظهرت حتّى ضربت إليه آباط الإبل وقيدت إليه الخيل العتاق، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقتل معك في المحلَّة وأنت تسمع في داره الهايعة لا تردع عن نفسك فيه بقول ولا فعل، واقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان من أمره مقاما تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانية لعثمان والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين إيواؤك قتلة عثمان فهم عضدك، وأنصارك ويدك وبطانتك وقد ذكر لي إنّك تَنَصَّلُ من دمه فإن كنت صادقا فأمكنّا من قتلة عثمان نقتلهم به ونحن من أسرع الناس إليك، وإلَّا فإنّه ليس لك، ولأصحابك إلَّا السيف والَّذي لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال، والبرّ والبحر حتّى يقتلهم الله أو لنلحقنّ أرواحنا بالله. والسلام. ثمّ دفع الكتاب إلى أبي مسلم الخولانيّ فقدم به الكوفة فكتب عليه السّلام جوابه: من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي

ص: 6

سفيان أمّا بعد فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما أنعم الله عليه من الهدى والوحي؛ فالحمد لله الَّذي صدّقه الوعد وتمّم له النصر ومکَّن له في البلاد وأظهره على أهل العداوة والشَّنآن من قومه الذين وثبتوا به وشنعوا له وأظهروا له التكذيب وبارزوه بالعداوة وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه، وأَلبّوُا عليه العرب، وجامعوه على حربه وجهدوا عليه وعلى أصحابه كلّ الجهد وقلَّبوا له الأمور حتّى ظهر أمر الله وهم کارهون.

وكان أشدّ الناس عليه أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلَّا من عصم الله منهم.

یا بن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً، ولقد أقدمت؛ فأفحشت إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تبارك وتعالى في نبيّه محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفينا فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر أو كداعي مسدّده إلى النضال، وذكرت أنّ الله اجتبي له من المسلمين أعواناً أيّدهم به فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام وكان أفضلهم في الإسلام کما زعمت وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصدّيق وخليفة الخليفة الفاروق، ولعمري إنّ مكانهما في الإسلام لعظيم، وأنّ المصائب بهما لجرح في الإسلام شدید یرحمها الله، وجزاهما بأحسن ما عملا. غير أنّك ذكرت أمراً إن تمّ اعتزلك كله وإن نقص لم يلحقك ثلمة، وما أنت والصدّيق فالصدّيق من صدّق بحقّنا، وأبطل باطل عدوّنا، وما أنت والفاروق فالفاروق من فرّق بيننا وبين أعدائنا.

وذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثاً؛ فإن يك عثمان محسناً فسيلقى ربّاً غفوراً لا يتعاظمه ذنب يغفره، ولعمري إنّي لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر؛ إنّ

ص: 7

محمّداً صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمّا دعا إلى الإيمان بالله، والتوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق ما جاء به فلبثا أحوالاً وما يعبد الله في الربع ساکن من العرب غيرنا ثمّ يتّصل به.

قوله: فأراد قومنا إلى قوله: نار الحرب؛ ثمّ يتّصل به أن قال: وكتبوا علينا بينهم کتاباً لا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يناکحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتّى يدفع إليهم النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيقتلونه ويمثّلوا به فلم يكن نأمن فيهم إلَّا من موسم إلى موسم؛ ثمّ يتّصل به قوله: فعزم الله إلى قوله: بمكان أمن. ثمّ يتّصل به أن قال: فكان ذلك ما شاء الله أن يكون؛ ثمّ أمر الله رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالهجرة ثمّ أمره بعد ذلك بقتل المشركين؛ ثمّ يتّصل به قوله: فكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أحمرّ البأس إلى قوله: أُخّرت ويتّصل به أن قال: والله وليّ الإحسان إليهم والامتنان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات فما سمعت بأحد هو أنصح لله في طاعة رسوله ولا أطوع لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في طاعة ربّه ولا أصبر على الأذى والضرار حين البأس ومواطن المكروه مع النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من هؤلاء النفر الَّذين سمّیت؛ كذلك وفي المهاجرين خیر کثیر تعرفه جزاهم الله بأحسن أعمالهم.

ثمّ ما أنت والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتیب درجاتهم وتعریف طبقاتهم هيهات؛ لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخّر حيث أخّرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر، وإنّك لذهّاب في التيه روّاغ عن القصد لا ترى غير متجار لك لكن بنعمة الله أُحدّث؛ ثمّ يتّصل به أوّل الكلام المذكور في كتابه إلى معاوية وهو من محاسن الكتب؛ إلى قوله عليه السّلام: توکَّلت.

ص: 8

ثمّ يتّصل به قوله من ذلك الكتاب: وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي؛ إلى آخره. ثمّ يتّصل به قوله: ولعمري. إلى آخر، وهذا خبط عجيب من السيّد رضي الله عنه مع وجود كتبه عليه السّلام في كثير من التواريخ ولنرجع إلى الشرح فنقول: أنّه عليه السّلام أجاب عن كلّ فصل من کلام معاوية بفصل وهذا الفصل يشتمل على ذكر بلائه وبلاء من يقرب إليه من بني هاشم وفضيلتهم في الإسلام والكفر في جواب تفضيل معاوية لغيره عليه حيث قال في صدر كتابه في ذكر محمّد صلَّی الله عليه وآله وسلَّم: واجتبي له من المسلمين أعوانا أيّده بهم؛ إلى قوله: والثالث الخليفة المظلوم عثمان، وصدر هذا الفصل من قوله: ولعمري إنّي لأرجو. إلى قوله: الأوفر.

إيماء إلى أنّه أفضل الجماعة لأنّ النصيب الأوفر من الثواب إذا كان على قدر الفضيلة كان مستلزما للأفضليّة.

وقوله: إنّ محمّداً؛ إلى قوله: ومنيّته أُخّرت؛ شرح لفضيلته وفضيلة أهل بيته، وتقرير لما أشار إليه من دعوى الأفضليّة وهو يجری مجری قياس ضمير من الشكل الأوّل(1)، وتقريرها أنّ هذه الحال المشروحة من كوننا أوّل آمن بالله، وصدّق ما جاء به وعبده، وصبر على بلائه ومجاهدة أعدائه مع رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الصبر المشروح إلى الغاية المذكورة، وقد سبقت منّا الإشارة إلى أنّه عليه السّلام أوّل من عبد الله تعالى مع الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم هو وخديجة ومن لحق بهم من المسلمين، وأنهم بقوا على ذلك عدّة سنين يتعبّدون

ص: 9


1- قياس الضمير من الشكل الأول: هو من القياسات المنطقية ضمن الأشكال الأربعة، والقياس: قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر، ومعناه المركب التام الخبري، فيعم القضية الواحدة والأكثر، ولا يسع المقام لتفصيل أكثر؛ يُنظر المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: ص 225

بشعاب مكَّة وغيرها سرّاً، وكانت المشركون يبالغون في أذاهم، وقيل: إنّ المشركين بعد ظهور النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالنبوّة لم تنكر عليه قريش حتّى سبّ آلهتهم فأنكروا عليه وبالغوا في أذاه وأغروا به صبيانهم فرموه بالحجارة حتّى أدموا عقبه وبالغوا في أذى المسلمين؛ فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالخروج إلى الحبشة فخرج في الهجرة إليها أحد عشر رجلاً منهم عثمان بن عفّان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وخرجت قريش في طلبهم ففاتوهم فخرجوا في طلبهم إلى النجّاشي فلم يمكَّنهم منهم ولم يزالوا يبالغون في أذى الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويعملون الحيلة في هلاكه، وروى أحمد في مسنده(1)عن ابن عبّاس قال: إنّ الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهد وا باللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى لوقد رأينا محمّدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلا نفارقه حتّى نقتله.

قال: فأقبلت فاطمه علیها السّلام حتّى دخلت عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرته بقولهم وقالت له: لو قد رأوك لقتلوك وليس منهم رجل إلَّا وقد عرف نصيبه من دمك؛ فقال: يا بنيّتي أريني وضوءا؛ فتوضّأ ثمّ دخل عليهم المسجد. فلمّا رأوه غضّوا أبصارهم ثمّ قالوا: ها هو ذا، ها هو ذا ثمّ لم يقم إليه منهم أحد فأقبل صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتّى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال: شاهت الوجوه. فما أصاب رجلاً منهم شيء منه إلَّا قتل يوم بدر کافرا. فذلك معنى قوله:

ص: 10


1- يُنظر مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 303

«فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَاً واجْتِيَاحَ»: أهلاك: «أَصْلِنَا وهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وفَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِيلَ»: الأفعال القبيحة «ومَنَعُونَا الْعَذْبَ»: طيب العيش بين الأهل والوطن:

«وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ واضْطَرُّونَا»: الجؤونا «إِلَی جَبَل وَعْرٍ»: صعب استعار لفظ الأحلاس لإلزامهم الخوف وإشعارهم إيّاه ملاحظة لمشابهته بالحلس في لزومه بهم.

«وأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ»: وجه هذه الاستعارة ملاحظة لشبهها بالنار في الأذى وإفتناء ما يقع فيها. ورشح بذكر الإيقاد.

فأمّا قوله: واضطرّونا إلى جبل وعر، وقوله: وكتبوا علينا بينهم كتاباً؛ فروى أنّه لما أسلم حمزة وعمر وحمى النجّاشي من عنده من المسلمين وحامي أبو طالب عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فشا الإسلام في القبائل فاجتهد المشركون في إطفاء نور الله واجتمعت قريش وأتمر بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاهدون فيه أن لا ينكحوا إلى بنى هاشم وبنى عبد المطَّلب ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يتبايعوا منهم فكتبوا بذلك وثيقة وتوافقوا عليها وعلَّقوها في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم، فلمّا فعلوا ذلك انحازت بني هاشم، وبنو عبد المطَّلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه؛ وخرج من بنى هاشم أبو لهب وظاهر المشركن. وقطعوا عنهم المیرة والمارّة، وحصروهم في ذلك الشعب في أوّل سنة سبع من النبوّة فكانوا لا يخرجون إلَّا من موسم إلى موسم حتّى بلغهم الجهد،

وسمع صوت صبيانهم من وراء الشعب من شدّة الجوع فمن قريش من سرّه ذلك ومنهم من سائه فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتّى أوحى الله إلى رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنّ الأرضة قد أكلت صحيفتهم ومحت منها ما كان فيه ظلم وجور وبقى منها ما كان ذكر الله.

ص: 11

فأخبر بذلك عمّه أبا طالب فأمره أن يأتي قريشا فيعلمها بذلك فجاء إليهم، وقال: إنّ ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فإن كان صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن

كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه؛ فقالوا: قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسقط في أيديهم، وعرفوا

أنّهم بالظلم والقطيعة فذلك معنى قوله: واضطرّونا إلى جبل وعر إلى آخره.

«فَعَزَمَ اللهُ لَنَا»: أي أراد لنا الإرادة الجازمة منه، واختار لنا.

«عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ والرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ»: أي أن نحمي حرمته أن تتهتّك، وكنّى عن حماها بالرمي من ورائها.

«مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الأَجْرَ وكَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الأَصْلِ»: أي كنّا بأجمعنا نذبّ عن دين الله ونحمي رسوله فكان من آمن منّا يريد بذلك الأجر من الله، ومن

كان حينئذ على كفره كالعبّاس وحمزة وأبي طالب عى قول فإنّهم كانوا يمنعون عن رسول الله مراعاة لأصلهم.

«ومَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ»: خال «مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ»: جملة حالية: أي كنّا على تلك الحال من الذبّ عن دين الله حال ما كان من أسلم من قريش عدا بنى هاشم، وبنى عبد المطَّلب خالين ممّا نحن فيه من البلاء آمنين من الخوف والقتل فمنهم من كان له حلف وعهد من المشركين يمنعه، ومنهم من كان له عشيرة يحفظه، وبذلك يظهر فضله عليه السّلام، وفضيلة بني هاشم، وبنى المطَّلب، وبلاؤهم في حفظ رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم.

(1)«فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ وكَانَ رَسُولُ اللهِ ص إِذَا احَمْرَّ الْبَأْسُ»: كنّاية

ص: 12


1- ورد في بعض متون النهج: أَوْ عَشِيَرةٍ تَقُومُ دُونَهُ

عن شدة الحرب أذا الناس فيها مستلزم لظهور حمرة الدماء وسيجيء في أواخر الكتاب مزيد تقرير لهذا.

«وأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ والأَسِنَّةِ فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بن عبد المطلب»: قتله عتبة بن ربعة «يَوْمَ بَدْرٍ»: اسم بئر سمّيت بحافرها.

وذلك أنّه لمّا التقى المسلمون، والمشركون ببدر برز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد وطلبوا المبارزة فخرج إليهم رهط من الأنصار. فقالوا: نريد أكفائنا من المهاجرين فقال رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلّم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا عليّ؛ فبارز عبيدة وهو أسنّ القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة وبارز عليّ الوليد؛ فقتل عليّ وحمزة قرينهما واختلف عبيدة وعتبة بضربتين فكلاهما أثبت صاحبه وأجهز حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة؛ فجاء به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد قطعت رجله ومخّها يسيل فقال: يا رسول الله ألست شهيداً قال: بلى فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيّاً يعلم أنّي أحقّ بما قال فيه حيث يقول:

ونسلمه حتّى نصرّع حوله ٭٭٭ ونذهل عن أبنائنا والحلائل

«وقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ»: قتله وحشيّ في وقعة أحد بعد وقعة بدر في سنة ثلاث من الهجرة وكان سببها أنّه لمّا رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكَّة وجدوا العير الَّتي قدم فيها أبو سفيان موقوفة في دار الندوة؛ فحشر أشراف قريش ومشوا إلى أبي سفيان فقالوا: نحن طيّبوا الأنفس بأن يجهّز بربح هذه العير جيشاً إلى

ص: 13

محمّد فقال أبو سفيان: أنا أوّل من أجاب إلى ذلك ومعي بنو عبد مناف؛ فباعوها وكانت ألف بعیر فكان المال خمسین ألف دينار فسلَّم إلى أهل العر رؤس أموالهم وعزلت الأرباح وبعثوا الرسل إلى العرب يستنفرونهم فاجتمعوا في ثلاثة ألف فيهم سبعمائة درع ومائتا فرس وثلاثة ألف بعیر، وباتت جماعة بباب رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم.

ورأى في نومه كأنّه في درع حصينة وكأنّ سيفه ذو الفقار قد انفصم، وكأنّ بقرا ينحر وكأنّه مردف كبشاً فقال: أمّا الدرع فالمدينة والبقر يقتل بعض أصحابه وانفصام سيفه مصيبة في نفسه والكبش كبش الكتيبة يقتله الله؛ فكان المصيبة أن رماه عتبة بن أبي وقاص بحجر فدقّ رباعيّته وهشم أنفه وكلَّم وجهه. وقيل: الَّذي فعل ذلك عمرو بن قميئة وكان ذلك اليوم صعباً على المسلمين، وروى أنّ هنداً قامت في ذلك اليوم في نسوة معها تمثّل بقتلى المسلمين وتجدع الآذان والأنوف حتّى اتّخذت منها قلائد، وبقرت عن كبد حمزة، ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ومنه سمّى معاوية ابن آكلة الأكباد.

«وقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ»: وكانت هذه الوقعة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة وكان من سببها أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعث الحرث بن

عمیرة الأزدي إلى ملك بصرى فلمّا نزل موتة عرض له شر حبيل بن عمرو الغساني فقتله ولم يقتل له رسول قبل ذلك. فشقّ عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

ذلك فندب المسلمين وعسكر في ثلاثة آلاف وقال: أميركم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل؛ فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلاً، وأمرهم أن يأتوا مقتل الحرث بن عمیرة ويدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلَّا قتلوهم، فسمع العدوّ بهم فجمعوا لهم وجمع لهم

ص: 14

شرحبيل أكثر من مائة ألف فمضوا إلى موتة فوافاهم المشركون فأخذ اللواء زيد فقاتل حتّى قتل ثمّ أخذه جعفر فقاتل حتّى قطعت يداه، وقيل: ضربه رجل من الروم فقطعه نصفین فوجد في أحد نصفيه أحد وثمانون جرحاً، وسمّاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذا الجناحین يطیر بهما في الجنّة لقطع يديه يومئذ.

«وأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ ولَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ ومَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ»: إشارة إلى نفسه، وفيه من البلاغة يظهر للمتأمل الصادق

إذ لكلّ أُمّة مدّة مربوطة به فإذا جاء أجلهم فا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ولمّا أشار إلى دليل أفضليّته، وأهل بيته أردفه بالتعجّب من الدهر حيث انتهى في إعداده وفعله إلى أن صار بحيث يقرن في الذكر والمرتبة من ليس له مثل سابقته في

الفضيلة الَّتي لا يتقرّب أحد إلى الله بمثلها فقال: «فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي ولَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ ولَا أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ»: أراد بالمدّعى معاوية وبما لا يعرفه ما عساه يدّعيه من الفضيلة في الدين والسابقة في الإسلام وقوله: ولا أظنّ الله يعرفه نفى ظنّ معرفة الله لذلك المدّعى لأنّه لمّا نفى لذلك المدّعى فضيلة يعرفها نفى أيضاً

عن نفسه طريق معرفة الله لها، وهو إشارة إلى أنّه لا وجود لتلك الفضيلة وما لا وجود له امتنع أن يعرف الله تعالى وجوده، ولمّا أشار إلى أفضليّته وعدم الفضيلة

لمنافره حسن إردافه بحمد الله فقال:

«والْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»: والاستثناء هنا منقطع لأنّ الدعوى ليست من جنس السابقة، ثم أخذ تبين الجواب عن سؤاله فقال:

«وأَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ ولَا إِلَی غَیْرِكَ»: فكَّر عليه السّلام في أمرهم فرأى أنّه لا يسعه

ص: 15

تسليم المعترفين بذلك إلى معاوية، ولا إلى غيره وذلك من وجوه: أحدها: أنّ تسليم الحقّ إلى ذي الحقّ عند المنافرة؛ إنّما يكون بعد تعيين المدّعى عليه، وثبوت الحقّ عليه، وإنّما يكون ذلك بعد مرافعة الخصمين إلى الحاكم وإقامة البيّنة بالدعوى أو الاعتراف من المدّعى عليه، ومعلوم أنّ معاوية ومن طلب بدم عثمان لم يفعل شيئا من ذلك، ولذلك قال عليه السّلام لمعاوية في موضع آخر: وأمّا طلبك إليّ قتلة عثمان فادخل فبما دخل الناس فيه؛ ثمّ حاكمهم إليّ أحملك وإيّاهم على الحقّ الثاني: أنّ القوم الَّذين رضوا بقتله أو شركوا في ذلك كانوا على حدّ من الكثرة وفيهم المهاجرون والأنصار كما روى أنّ أبا هريرة وأبا الدرداء أتيا معاوية فقالا له: علام تقاتل عليّاً وهو أحقّ بالأمر منك لفضله وسابقته فقال: لست أقاتله لأنّي أفضل منه ولكن ليدفع إليّ قتلة عثمان؛ فخرجا من عنده وأتيا عليّاً؛ وقالا له: إنّ معاوية يزعم أنّ قتلة عثمان عندك وفي عسكرك فادفعهم إليه فإن قاتلك بعدها علمنا أنّه ظالم لك. فقال عليّ: إنّي لم أحضر قتل عثمان يوم قتل ولكن هل تعرفان من قتله فقالا: بلغنا أنّ محمّد بن أبي بكر وعمّار والأشتر وعدّي بن حاتم وعمرو بن الحمق وفلاناً وفلاناً ممّن دخل عليه؛ فقال عليّ: فامضيا إليهم

فخذوهم؛ فأقبلا إلى هؤلاء النفر وقالا لهم: أنتم من قتلة عثمان وقد أمر أمیر المؤمنن بأخذكم قال: فوقعت الصيحة في العسكر بهذا الخبر فوثب من عسكر عليّ أكثر من عشرة ألف رجل في أيديهم السيوف وهم يقولون: كلَّنا قتلته. فبهت أبو هريرة وأبو الدرداء؛ ثمّ رجعا إلى معاوية وهما يقولان: لا يتمّ هذا الأمر أبدا؛ فأخبراه بالخبر، وإذا كان القاتلون والمتعصّبون لهم بهذه الكثرة فكيف يمكنه عليه

السّلام تسليمهم وتمكین أحد منهم.

ص: 16

الثالث: أنّه كان في جماعة الصحابة المشهود لهم بالجنّة من يرى أنّ عثمان كان يستحقّ القتل بأحداثه كما روى نضر بن مزاحم أنّ عمّارا في بعض أيّام صفّین قام

في أصحابه وقال: امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان؛ فإن قال هؤلاء الَّذين لا يبالون لو سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين لم قتلتموه. فقلنا: لأحداثه.

وإن قالوا: ما أحدث شيئاً وذلك لأنّه كان أمكنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدمت عليهم الجبال؛ فإذا اعترف مثل هذا الرجل على

جلالته بالمشاركة في قتلهم وعلَّل ذلك بأحداثه احتمل أن يقال: إنّه عليه السّلام فكَّر في هذا الأمر فرأى أنّ هذا الجمع العظيم من المهاجرين والأنصار والتابعین لا يجوز أن يقتلوا برجل واحد أحدث أحداثا نقموها عليه جملة المسلمون وقد استعتب مراراً فلم يرجع فأدّى ذلك إلى قتله، ولم يسعه تسليمهم إلى من يطلب بدمه لما يستلزمه ذلك من ضعف الدين وهدمه؛ ثمّ أقسم عليه السّلام مهدّدا له

بمن طلب من القوم إن لم يرجع عن ضلالته إلى طريق الحقّ عن طرق الباطل وينزل عن خلافه أن يكونوا هم الطالبون له.

«ولَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ »: جهلك «وشِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ»: منصوب على أنه به ثان لتعرف بمعنى تعلم.

«لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ ولَا بَحْرٍ ولَا جَبَلٍ ولَا سَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ وزَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ والسَّلَامُ لأَهْلِهِ»: مراد بالزور المصدر لذلك أفراد

الضمیر في لفنائه ويحتمل أن يريد الزائرين وأفرد الضمیر نظراً إلى إفراد اللفظ وبالله التوفيق.

ص: 17

من عبد الله عليّ أمیر المؤمنین إلى معاوية بن أبي سفيان سلام على من اتّبع الهدى فإنّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلَّا هو أمّا بعد فإنّك رأيت من الدنيا وتصرّفها بأهلها فيما مضى منها، وخیر ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد

الصادقون فيما مضى منها، ومن يقس الدنيا بشأن الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً. واعلم يا معاوية أنّك قد ادّعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في البقيّة ولا في الولاية ولست تقول فيه بأمر بیّن يعرف لك فيه أثر ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ولا عهد تدّعيه من رسول الله صلَّى الله عليه - وآله وسلَّم.

«وكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا »: استفهم عن كيفية صنعته عند مفارقته نفسه لبدنه استفهام بنبيه له على غفلته عما ورائه من أحوال الآخرة وتذكیر له بها وأستعار الجلابيب للذات الحاصلة له في دنياه بمتاعها وزينتها ووجه الاستعارة كون تلك اللذات ومتعلقاتها احوال ساترة بينه وبین أدراك ما ورائه من أحوال الآخرة مانعة له من ذلك كما يستر الجلباب ما ورائه ورشح الاستعارة بذكر التكشف ولفظ ما هو مجمل بينه بقوله من دنياه مع

سائر صفاتها.

«قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا»: أسند إليها التبهّج مجازاً إذ الجاعل لها ذات تبهّج ليس نفسها بل الله تعالى قوله: «وخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا»: مجاز في الإفراد والتركيب أمّا في

الإفراد فلأنّ حقيقة الخدعة أن يكون من إنسان لغیره فاستعملها هاهنا في كون الدنيا بسبب ما فيها من اللذّات موهمة لكونها مقصودة بالذات وأنّها كمال حقيقيّ مع أنّها ليست كذلك وذلك يشبه الخدعة، وأمّا في التركيب فلأنّ كونها موهمة

لذلك ليس من فعلها بل من أسباب أخرى منتهى إلى الله سبحانه وكذا في قوله:

ص: 18

«دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وقَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وأَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا»: فإنّ الدعاء والقود والأمر بها حقائق معلومة لكن لمّا كانت تصوّرات كمالها أسباباً جاذبة لها أشبهت تلك التصوّرات الدعاء في كونها سبباً جاذباً إلى الداعي؛ فأطلق عليها لفظ الدعاء، وكذلك أطلق على تلك التصوّرات لفظ القود والأمر باعتبار كونها أسباباً مستلزمة لاتّباعها كما أنّ الأمر والقود يوجبان الاتّباع، وأمّا في التركيب فلأنّ تلك التصوّرات الَّتي أطلق عليها لفظ الدعاء والقود والأمر مجازاً ليس فاعلها وموجبها هو الدنيا بل واهب العلم، ولمّا كانت إجابة الدنيا واتّباعها وطاعتها

معاصي يخرج الإنسان بها عن حدود الله ذكرها في معرض توبيخه وذمّه.

«وإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ مَجِنٌّ»: تذكير بقرب اطَّلاعه على ما يخاف من أهوال الآخرة والوصول إليه اللازم عن لزوم المعاصي وهو في معرض التحذير له والتنفیر عن إصراره على معصية الله بادّعائه ما ليس له: أي يقرب أن يطَّلعك مطَّلع على ما لا بدّ لك منه ممّا تخاف من الموت وما تستلزمه معاصيك من لحوق العذاب، وظاهر أنّ تلك أمور غفلت عنها العصاة

في الدنيا ما داموا في حجب الأبدان؛ فإذا نزعت عنهم تلك الحجب اطَّلعوا على ما قدّموا من خیر أو شرّ وما أُعدّ لهم بسبب ذلك من سعادة أو شقاوة كما أشار إليه سبحانه بقوله «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا»(1)الآية وقد مرّت الإشارة إلى ذلك غيره مرّة. وذلك المطَّلع والموقف هو الله سبحانه، ويحتمل أن يريد به نفسه عليه السّلام على سبيل التوعيد له والتهديد بالقتل المستلزم لذلك الاطَّلاع إن دام على غيّه، وظاهر أنّ تلك الأمور الَّتي تقف عليها لا ينجيه منها منج. ثمّ أردف ذلك التوبيخ والتهديد بالغرض له منهما وهو أمره بالتأخّر

ص: 19


1- سورة آل عمران: الآية 30

عن أمر الخلافة؛ ثمّ أردف ذلك بما يستلزم التخويف والتهديد فقال: «فَاقْعَسْ»: تأخر «عَنْ هَذَا الأَمْرِ وخُذْ أُهْبَةَ الْحِسَابِ»: والاستعداد له بعدّته وهي طاعة الله وتقواه ومجانبة معاصيه.

«وشَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ»: وكنّى بالتشمير عن الاستعداد أيضاً، وما نزل به إمّا الموت أو القتل وما بعده تنزيلاً لما لا بدّ من وقوعه أو هو في مظنّة الواقع منزلة الواقع، ويحتمل أن يريد الحرب الَّتي يريد أن يوقعها به، ثمّ نهاه عن تمكین

الغواة من سمعه قال:

«ولَا تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ»: وكنّى به عن إصغائه إليهم فيما يشیرون به عليه من الآراء المستلزمة للبقاء على المعصية؛ إذ من شأن الغاوي الإغواء، والغواة كعمرو بن العاص ومروان ومن كان يعتضد به في الرأي.

«وإِلَّا تَفْعَلْ»: أي لم تفعل ما أمرك به «أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ»: ما تركت مِنْ نَفْسِكَ: ومعقول أغفلت ضمیر ما ومن نفسك بيان لذلك الضمر وتفسر له. وإغفاله لنفسه تركه إعدادها بما يخلصه من أهوال الحرب وعذاب الآخرة وهو

ملازمة طاعة الله واقتناء الفضائل النفسانيّة، ويفهم من ذلك الإعلام الَّذي توعّد به الإعلام بالفعل فإنّ مضايقته بالحرب والقتال يستلزم إعلامه ما أغفل من نفسه من طاعة الله المستلزمة للراحة.

«فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ»: والترف مستلزم لتجاوز الحد الذي ينبغي تركه وذلك الحد فضيلة تحت العفة.

«قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الدَّمِ والرُّوحِ»: أي في القرب يستلزم وصفه بكلّ الرذائل المستلزمة أضدادها من

ص: 20

الفضائل. ثمّ أخذ في استفهامه عن وقت کون بني أُميّة ساسة الرعيّة وولاة أمر الأُمّة استفهاما على سبيل الإنكار لذلك والتقريع بالخمول والقصور عن رتبة الملوك والولاة فقال:

«ومَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ»: يقال سست الرعية أي ملكت أمرهم.

«ووُلَاةَ أَمْرِ الأُمَّةِ بِغَیْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ»: والقدم السابق كناية عن التقدّم في الأمور والأهليّة لذلك، ونبّه بقوله: بغير قدم سابق على أنّ سابقة الشرف، والتقدّم في الأمور شرط لتلك الأهليّة في المتعارف وهو في قوّة صغرى ضمير من الشكل الأوّل تقديرها: وأنتم بغیر قدم سابق، وتقدير الكبری: وكلّ من كان كذلك فليس بأهل لسياسة الرعيّة وولاة أمر الأُمّة. ينتج أنّكم لستم أهلا لذلك، وهو عين ما استنكر نقيضه. وظاهر أنّهم لم يكن فيهم من أهل الشرف أهل لذلك؛ ثمّ استعاذ من لزوم ما سبق في القضاء الإلهي من الشقاء تنبيهاً على أنّ معاوية في معرض ذلك وبصدده لما هو عليه من المعصية وتنفيراً له عنها فقال:

«ولَا شَرَفٍ بَاسِقٍ ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ وأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ الأُمْنِيِّةِ»: في غفلة الطمع.

«مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ والسَّرِيرَةِ»: كنّى بذلك عن النفاق ووجه التحذير ما يستلزمانه من لزوم الشقاء في الآخرة. وقد كان معاوية دعاه إلى الحرب وأجابه

بجواب مسكت وهو قوله:

«وقَدْ دَعَوْتَ إِلَی الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً»: نصب على الظرف «وأخْرُجْ إِلَيَّ وأَعْفِ الْفَرِيقَیْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا»: روي بالخطاب والغيب ونصب: أينا

ورفعه.

ص: 21

«الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ»: أراد من غلبت عليه الذنوب وغطت من يصير به الملكات الردية.

«والْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ»: وإنما جعل مبارزته له سبباً لعلمه بأنه مغطى على قلبه ووبصر بصيرته بحجب الدنيا، وجلابیب هیئاتها لما أنّ من لوازم العلم بأحوال الآخرة وفضلها على الدنيا الثبات عند المبارزة في طلبها وإن أدّى إلى القتل حتّى ربّما تكون محبّة القتل من لوازم ذلك العلم أيضاً وقد كان عليه السّلام يعلم من حاله أنّه لا يثبت له محبّة للبقاء في الدنيا فلذلك دعاه إلى المبارزة ليعلمه بإقدامه عليه، وفراره منه أنّه ليس طالبا للحقّ وطريق الآخرة في قتاله وأنّ حجب الشهوات الدنيويّة قد غطَّت عين بصيرته عن أحوال الآخرة وطلبها فکان فراره منه مستلزماً لعدم علمه بالآخرة المستلزم للرين على قلبه وعلامة دالَّة عليه، وفي ذلك تهديداً، وكذا في قوله:

«فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وأَخِيكَ وخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ»: ذكره في معرض التخويف والتحذير له أن يصيبه ما أصابهم إن أصرّ على المعصية.

وجدّه المقتول هو جدّه لأمّه عتبة بن أبي ربيعة فإنّه كان أبا هند، وخاله الوليد بن عتبة، وأخوه حنظلة بن أبي سفيان؛ فقتلهم جميعاً عليه السّلام يوم بدر فلذلك قال تذكرة إياه.

«وذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً ولَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِینَ ودَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِینَ»: وهو طريق الإسلام الواضحة كلّ ذلك في معرض التخويف والتحذير والتوبيخ بالنفاق. ثمّ أشار إلى الشبهة الَّتي كانت سبباً لثوران الفتن العظيمة وانشعاب أمر

ص: 22

الدين وهي شبهة الطلب بدم عثمان الَّتي كانت عمدته في عصیانه وخلافه فقال: «وزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَانَ ولَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً»: حاصله الجواب عنها بوجهين: أحدهما: أنّه عليه السّلام ليس من قتلة عثمان فلا مطالبة عليه وإنّما تتوجّه المطالبة على قاتليه وهو يعلمهم. الثاني: المنع بقوله: إن كنت طالباً؛ فإنّ إيقاع الشكّ هنا بأن يستلزم عدم تسليم کونه طالباً بدم عثمان؛ ثمّ عقّب بتخويفه بالحرب وما يستلزمه من الثقل إلى الغاية المذكورة وهاهنا ثلاثة تشبیهات: أحدها: المدلول عليه بقوله:

«فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ»: والمشبّه هاهنا نفسه عليه السّلام في حال كلامه هذا، والمشبّه به هو أيضاً نفسه لكن من حيث هي رأته رؤية محقّقة.

وتحقيق ذلك أنّ نفسه لكمالها واطَّلاعها على الأمور الَّتي سيكون كانت مشاهدة لها ووجه التشبيه بينهما بالقياس إلى حالتيها جلاء المعلوم وظهوره له في الحالتين. الثاني: قوله:

«تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالأَثْقَالِ»: ووجه الشبه شدّة تبرّمه وضجره من ثقلها کشدّة تبرّم الجمل المثقل بالحمل. وضجيجه كناية عن تبرّمه. واستعار لفظ العضّ لفعلها ملاحظة لشبهها بالسبع العقور، ووجه المشابهة استلزام تلك الأثقال للألم کاستلزام العضّ له.

«وكَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ»: والمشبّه هنا أيضاً نفسه والمشبّه به ما دلَّت عليه باء الإلصاق كأنّه قال: كأنّي متّصل أو ملتصق بجماعتك حاضر معهم.

«تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ: محلّ تدعوني النصب على الحال، والعامل ما في كان من معنى الفعل: أي أشبّه نفسي بالحاضر حال دعائهم له.

ص: 23

وجزعاً مفعول له «والْقَضَاءِ الْوَاقِعِ»: يجوّز بلفظ القضاء في المقضيّ من الأمور الَّتي توجد عن القضاء الإلهي إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

«ومَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ»: والمصرع هنا مصدر: أي جزعاً من مصارع يلحق بعضهم بعد بعض أو تلحقهم بعد مصارع آبائهم السالفة.

«إِلَی كِتَابِ اللهِ»: قد كان اطَّلاعه عليه السّلام على دعائهم له إلى كتاب الله قبل وقوعه من آياته الباهرة.

«وهِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ»: الواو في قوله: وهي للحال والعامل فيه تدعوني والكافرة الجاحدة الباهرة للحقّ من جماعته اشارة إلى المنافقين منهم وقد كان فيهم جماعة كذلك، والمبايعة الحائدة الَّذين تابعوه وعدلوا عن بيعته إلى معاوية.

وأعلم أولاً أن هذا الفصل ملتقط من كتاب كتبه عليه السّلام إلى زياد بن النضر الحارثي حين سرّحه على مقدّمته إلى الشام من النخيلة لمّا أراد الخروج من الكوفة إليها، وكان قد بعث معه شریح بن هاني، واختلفا فكتب كلّ منهما إليه يشكو من صاحبه فكتب عليه السّلام إليهما: أمّا بعد فإنّي ولَّيت زياد بن النضر مقدّمتي وأمّرته عليها، وشريح على طائفة منها أمير؛ فإن جمعكما بأس فزیاد على الناس وإن افترقتما فكلّ واحد منكما أمير على الطائفة الَّتي ولَّيته عليها. واعلما أنّ مقدّمة القوم عيونهم وعيون المقدّمة طلائعهم؛ فإذا أنتما خرجتما من بلاد کما ودنوتما من بلاد عدوّكما فلا تسكنا من توجيه الطلائع ونفّض الشعاب والشجر والخمر في كلّ جانب کیلا يغترَّكما عدوّ أو يكون لهم كمين ولا تسيرا الكتائب إلَّا من لدن الصباح إلى المساء إلَّا على تعبية فإن دهمكم دهم أو غشیکم مکروه کنتم

ص: 24

قد تقدّمتم في التعبية. ثمّ يتّصل بقوله: فإذا نزلتم.

إلى قوله: أو أمن؛ ثمّ يتّصل بقوله: وإيّاكم والتفرّق؛ فإذا نزلتم فانزلوا جميعا وإذا رحلتم فارحلوا جميعاً وإذا غشیکم الليل فنزلتم فحفّوا عسکرکم بالرماح والترسة، ورماتکم تكون ترستکم ورماحكم، وما أقمتم فكذلك فافعلوا کیلا يصاب لكم غفلة، ولا يلقى لكم غرّة فما من قوم يحفّون عسكرهم برماحهم وترستهم من ليل أو نهار إلَّا كأنّهم في حصون، واحرسا عسکر کما بأنفسكما وإیّاکما أن تذوقا النوم حتّى تصبحا إلَّا غرارا أو مضمضة؛ ثمّ ليكن ذلك شأنكما ورأيكما إلى أن تنتهيا إلى عدوّ کما وليكن عندي كلّ يوم خبر کما ورسول من قبلكما فإنّي ولا شيء إلَّا ما شاء الله حثيث السير في آثارکما. وعليكما في حربكما بالتؤدة(1)وإیّاکما والعجلة إلَّا أن تمکَّنکما فرصة بعد الإعذار والحجّة، وإيّاكما أن تقاتلاً حتّى أقدم عليكما إلَّا أن تبدئا أو يأتيكما أمري إن شاء الله، ولنرجع إلى الشرح فأقول:

العين: الجاسوس، وطليعة الجيش: الَّذي يبعث ليطَّلع على العدوّ. ونفض الشعاب؛ استقرائها والخمر ما وراك من شجر أو جبل ونحوهما والكمين: الواحد أو الجمع یستخفون في الحرب حيلة للإيقاع بالعدوّ والكتيبة: الجيش، وتعبيته جمعه وإعداده والدهم العدد الكثير.

والترسة: جمع ترس وكرر اللفظ الأعنف النهي عن تستر الكتائب وهما يفيدان الحصر أما الأولى فيفيد حصره في حالة التعبئة وفي هذا الكتاب من تعليم كيفية الحرب أمور كلية عظيمة النفع يستلزم استعمالها بالظفر بالعدو، وتفصح عن تكذيب من أدعى أنه لا علم له بالحرب کما حكاه عليه السلام عن قریش

ص: 25


1- التؤدة: والتؤاد من التؤدة، تقول: أتأد وتوأد وهو التمهل والتأني والرزانة؛ يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 8 ص 97

فيما مضى وفي هذا الفصل جمل منها قوله:

«فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّكم(1)فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ»:موضع جيشكم «فِي قُبُلِ الَأشَرْافِ أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ»: والأشراف: جمع شرف بفتح الراء وهو المكان العالي.

وقبلها بضمّتين أو ضمّة وسكون هو قدّامها، وسفح الجبل: أسفله حيث يسفح فيه الماء.

«أَوْ أَثْنَاءِ الأَنْهَارِ»: جمع ثني وهو منعطفها «كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً ودُونَكُمْ مَرَدّاً»: عوناً عن علة ذلك أي يكون هذه الأماكن حافظة لكم من ورائكم مانعة من العدان يأتيكم من تلك الجهة وبذلك كانت معينة.

«ولْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ»: بفتح الباء مصدر قابل وبكسرها القوم المقاتلون «مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَیْنِ»: يعني أن يكون مقاتليهم من وجه واحد فأن لم يكن فمن وجهين بحيث يحفظ بعضهم ظهر بعض والمقابلة على هذه الطريقة تستلزم القاء على الجمعية من وجوه كثيرة فمستلزمة للتفرق والضعف.

«واجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ»: جمع رقيب وهو الحافظ «فِي صَيَاصِي الْجِبَالِ: في صياصي الجبال»: أعاليها «ومَنَاكِبِ الْهِضَابِ»: جمع هضبة وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض.

«لِئَلَّا يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ»: يخافون منه، أو يأمنون على غرّة وغفلة من الاستعداد له.

«واعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَوْمِ عُيُونُهُمْ وعُيُونَ الْمُقَدِّمَةِ طَلَائِعُهُمْ»: جواسيسهم

ص: 26


1- ورد في نسخة: أَوْ نَزَلَ بِكُمْ

الطليعة قطعة من الجيش يبعث ليطلع العدو ورائهم مما يشعر بهجوم العدو وقربه.

«وإِيَّاكُمْ والتَّفَرُّقَ فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً وإِذَا ارْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً»: وسره ظاهر.

«وإِذَا غَشِيَكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً»: اجعلوها مستديرة علیکم.

«ولَا تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّا غِرَاراً»: قليلاً من النوم «أَوْ مَضْمَضَةً»: تحريك الأجفان أي لا يستغرقوا في النوم کما يفعله المطهن(1)وسر ذلك لحراسته والتحفظ لخوف هجوم العدو على العزة وحال النوم به وبالله التوفيق.

روى أنّه عليه السّلام بعثه من المدائن في ثلاثة ألف وقال له: امض على الموصل حتّى توافيني بالرفّة. ثمّ قال له اتّق الله. الفصل. فخرج حتّى أتى الحديثة وهي إذ ذاك منزل الناس إنّما بنا الموصل بعد ذلك محمّد بن مروان. ثمّ مضوا حتّى لقوه عليه السّلام بالرفّة. والعشيّ.

ولمّا كان معقل بن قیس متوجّه للسفر إلى الله تعالى في جهاد أعدائه أمره بتقواه الَّذي هو خير زاد في الطريق إليه فقال:

«اتَّقِ اللهَ الَّذِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ ولَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ»: فيه فوائد: إحداها: جذبه إلى التقوى بالتخويف من لقاء الله.

الثانية: تسهيل الجهاد عليه فإنّه لمّا كان معتقداً أنّ الجهاد طاعة مقرّبة إلى الله

ص: 27


1- المطهن: الذي يمد حاجبيه: يُنظر: مطه يمطه، أي مده. ومط حاجبيه، أي مدهما وتكبر. وهناك وجه أخر للمعنى: أي لا تستغرقوا في النوم كما يفعله القارّ المطمئنّ؛ الصحاح اللجوهري: ج 3 ص 1160

تعالى أشعره بوجوب لقائه ليستعدّ بتلك الطاعة الَّتي هو بصددها لما يضطرّ إليه من لقائه.

الثالثة: أنّه اراد أمر تقوى الله وخوّفه بضرورة لقائه تعالى ليكون أسرع إلى ما يأمره به وينهاه عنه.

«ولَا تُقَاتِلَنَّ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ»: فأن قتال غير المقاتل ظلم.

«وسِرِ الْبَرْدَيْنِ»: طرفي النهار«وغَوِّرْ بِالنَّاسِ»: أي أنزل بهم في الغابرة وهي الظهيرة لما يستلزمه المقاتلة من شدة الخوف والمتاعب فيه «ورَفِّهْ»: خفف «فِي السَّیْرِ»: ليلحق الضعيف القويّ ولا يظهر التعب على الناس لحاجتهم إلى فضل القوّة واستجمامها.

«ولَا تَسِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَهُ سَكَناً»: ومناماً يستراح فيه من المتاعب «وقَدَّرَهُ مُقَاماً لَا ظَعْناً»: أطلق على الظرف مجازاً اسم المظروف «فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ

ورَوِّحْ ظَهْرَكَ»: أي خيولك وأبلك.

«فَإِذَا وَقَفْتَ»: أي مع عدوا «حِینَ يَنْبَطِحُ»: يتسع «السَّحَرُ »: قبيل الصبح «أَوْ حِینَ يَنْفَجِرُ الْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ»: لأنها مضنة طيب السير.

«فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً»: ليكون نسبة الطرفین في الرجوع إليه والاستمداد بسماع أوامره على سواء «ولَا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ»: تغلقه أي دنّوه قريباً يشعرهم بإرادة إيقاع الفتنة ليكون أعذر عند الله وإلى القوم في دعائهم إلى الحقّ.

«ولَا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ»: أراد تباعداً يشعر بخوفه ورهبته

ص: 28

من عدوّه لئلَّا يطمع فيه.

«حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي»: غاية هذين النهّيین «ولَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ»: بغضهم «عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ »: إلى الإمام الحق «والإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ»: ذلك فيكون قتالهم على ذلك الوجه لغير الله بل بمجرّد الهوى والعداوة فيخرج عن كونه طاعة وبالله التوفيق.

هما زیاد بن النضر وشريح بن هاني، وذلك أنّه حين بعثهما على مقدّمة له في اثني عشر ألفاً التقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام فكتب إليه يعلمانه بذلك؛ فأرسل إلى الأشتر فقال له ما قال: إنّ زياد بن النضر وشريحاً أرسلا إليّ يعلماني أنّهما لقيا أبا الأعور في جند من أهل الشام بسور الروم فنبّأني الرسول أنّه تركهم متوافقين فالتجئ لأصحابك التجاء فإذا أتيتهم فأنّبئهم، فأنت عليهم.

وإيّاك أن تبدء لقوم بقتال إلَّا أن يبدؤك حتّى تلقاهم وتسمع منهم ولا يجر منّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرّة، واجعل على میمنتك زياداً وعلى میسرتك شريحاً وقف من أصحابك وسطاً ولا تدن منهم دنّو من يريد أن ينشب الحرب ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتّى أقدم عليك فإنّي حثيث السير إليك إنشاء الله أما بعد.

«فأني أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فَاسْمَعَا لَهُ»: أمر أميركما فيما يراه أصلح.

«وأَطِيعَا له»: في ذلك ليكون به نظام أمورهم في لقاء عدوّهم المستلزم لظفرهم.

«واجْعَلَاهُ دِرْعاً ومَجِنّاً»: في الحرب «فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخَافُ وَهْنُهُ»: ضعفه فيه «ولَا

ص: 29

سَقْطَتُهُ»: زلته في الرأي «ولَا بُطْؤُهُ عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ»: وأولى بالرأي من الأفعال «ولَا إِسْرَاعُهُ إِلَی مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ»: أولى بالتدبير وأقرب إلى الخير بل يضع كلّ شيء موضعه. ولفظ الدرع والمجنّ مستعاران باعتبار وقايتهما لهم من شرّ عدوّهم کما يقي الدرع والمجنّ صاحبهما وبالله التوفيق.

روى أنّه عليه السّلام كان يوصي أصحابه في كلّ موطن يلقون العدوّ فيه بهذه الوصيّة.

«لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ»: حينئذ «عَلَى حُجَّةٍ»: ثابتة وهي قوله تعالى «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1)وظاهر أنهّم بغاة على الإمام الحقّ فوجب قتالهم وتركهم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم بيانها من وجهين:

أحدهما: أنّهم إذا بدؤا بالحرب؛ فقد تحقّق دخولهم في حرب الله وحرب رسوله القوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «حربك يا عليّ حربي»(2). وتحقّق سعيهم في الأرض بالفساد بقتلهم النفس الَّتي حرّم الله ابتداء بغير حقّ وكلّ من تحقّق دخوله في ذلك دخل في عموم قوله تعالى «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(3).

الثاني: أنّ البادي بالحرب معتد ابداً. وكلّ معتد كذلك فيجب الاعتداء عليه

ص: 30


1- سورة الحجرات: الآية 9
2- اوائل المقالات الشيخ المفيد: ص 285؛ والشريف المرتضى في الانتصار: ص 479؛ جمل العلم والمعلم: ص 45؛ رسائل الشريف المرتضى: ج 1 ص 283؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد: ص 226، وفي الخلاف: ج 5 ص 335؛ والقاضي ابن البراج في جواهر الفقه: ص 259؛ الخلاف للصيمري: ج 3 ص 210؛ ومعظم من روی يروي بزيادة يسيرة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم (وسلمك سلمي)
3- سورة المائدة: الآية 33

لقوله تعالى «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ»(1)الآية فوجب الاعتداء عليهم إذا بدؤا بالحرب.

(2)«فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً»: أي مولَّياً هارباً «ولاَ تُصِيبُوا مُعْوِراً»: وهو الَّذي أمكنته الفرصة في قتله بعد انكسار العدوّ كمعور من الصيد. وقيل: أراد بالمعور المريب، وهو الَّذي وقع فيه الشكّ أنّه محارب أم لا: أي لا تقتلوا إلَّا من علمتم أنّه محارب لكم.

«ولَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ»: وهذه الأمور الأربعة المنهيّ عنها هاهنا هي من أحكام الكفّار حال الحرب. ففرّق عليه السّلام بين هؤلاء البغاة وبينهم فيها وإن أوجب قتالهم وقتلهم، ويلحق بذلك من أحكامهم ما نقله نضر بن مزاحم تماما لهذا الفصل بعد قوله: ولا تجهزوا على جريح: ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سرّاً ولا تدخلوا داراً إلَّا بإذن ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم. ثمّ يتّصل بقوله:

«ولَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى»: والمراد بذلك أن لا تثیروا شرورهنّ بأذى «وإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى»: أي ضعيفات القدر عن مقاومات الرجال وحربهم، وسلاح الضعيف والعاجز لسانه «و»: ضعيفات «الأَنْفُسِ والْعُقُولِ»: أي لا قوّة لعقولهنّ أن يرين عدم الفائدة في السبّ والشتم وأنّه من رذائل الأخلاق وأنّه يستلزم زيادة الشرور وإثارة الطبائع الَّتي يراد تسکينها وكفّها.

ص: 31


1- سورة البقرة: الآية 194
2- ورد في متون النهج: وتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ

«إِنْ كُنَّا»: أن مخففة من المثقلة «لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ»: الحجر «أَوِ الْهِرَاوَةِ»: العصا «فَيُعَیَّرُ بِهَا وعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ»: من أولاده فيه تنبيه على الكفّ عنهنّ لأنّه إذا أمر بالكفّ عنهنّ حال كونهنّ مشركات ففي حال إظهارهنّ الإسلام أولى، والواو في وإنهنّ للحال وإن كان الرجل إلى آخره.

تنبيه على ما في أذاهنّ من المفسدة وهي الشبهة اللازمة لفاعله في حالتي حياته وبعد وفاته، وذلك تنفيرٌ عن أذاهنّ في معرض النهی عنه وتناولها بالفهر والهراوة كناية عن ضربها بها وبالله التوفيق.

«اللهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ»: روی أنّه عليه السّلام كان إذا اشتدّ القتال ذكر اسم الله حين يركب. ثمّ يقول: الحمد لله على نعمه علينا وفضله العميم، سبحان الَّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. ثمّ يستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول: اللهم أليك أفضت القلوب خرجت إليه عن كلي شيء ووصلت إليه.

«ومُدَّتِ الأَعْنَاقُ وشَخَصَتِ الأَبْصَارُ ونُقِلَتِ الأَقْدَامُ وأُنْضِيَتِ»: هزلت

«الأَبْدَانُ اللهُمَّ قَدْ صَرَّحَ»: ظهر «مَكْنُونُ الشَّنَآنِ»: العداوة «وجَاشَتْ مَرَاجِلُ الأَضْغَانِ اللهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا وكَثْرَةَ عَدُوِّنَا وتَشَتُّتَ»: تعرق «أَهْوَائِنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وبَیْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وأَنْتَ خَیْرُ الْفاتِحِینَ».

ثمّ يقول: سيروا على بركة الله. ثمّ يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلَّا الله والله أكبر يا الله يا أحد يا صمد یا ربّ محمّد بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله العليّ العظيم إيّاك نعبد وإيّاك نستعين الَّلهمّ كفّ عنّا أيدي الظالمين فكان

ص: 32

هذا شعاره بصفّين.

ولمّا كان مراده عليه السّلام جهاداً خالصاً لله وعبادة له، ومن كمال العبادات أن تشفع بذكر الله وتوجيه السرّ إليه؛ إذ كان ذلك هو سرّ العبادة وفائدتها لا جرم كان دأبه في جهاده التضرّع والالتفات إلى الله بهذا الفصل وأمثاله مع ما يستلزمه من طلب النصر والإعداد له؛ فأشار بإفضاء القلوب إلى الإخلاص له في تلك الحال، وبمدّ الأعناق، وشخوص الأبصار إلى ما يستلزمه الإخلاص من الهيئات البدنيّة، وبنقل الأقدام، وإنضاء الأبدان إلى أنّ ذلك السفر، وما يستلزمه من المتاعب إنّما هو لوجهه وغاية الوصول إلى مرضاته، وأشار إلى علَّة قتالهم له في معرض الشكاية إلى الله تعالى وهى تصريحهم بما كان مستقرّاً في صدورهم في حياة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من العداوة والبغضاء وجيش أضغانهم السابقة بمّا فعل بهم ببدر واحد وغيرهما من المواطن. فلفظ المراجل مستعار ووجه المشابهة غليان دماء قلوبهم عن الأحقاد كغليان المراجل، ولفظ الجيش ترشيح. ثمّ لمّا كانت غيبة النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفقده هو السبب الَّذي استلزم تصريح الشنئان وظهور الأضغان وكثرة العدوّ وتفرّق الأهواء لا جرم شکى إلى الله من تحقّقها وما يستلزمه من هذه الشرور. ثمّ سأله أن يحكم بينه وبينهم بالحقّ اقتباساً من القرآن الكريم، لما أنّ إيقاع الحكم الحقّ بينهم يستلزم نصرته عليهم وظفره بهم؛ إذ كان هو المحقّ في جهاده وبالله التوفيق.

«لَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ»: رجعة «ولَا جَوْلَةٌ»: دورة «بَعْدَهَا حَمْلَةٌ»: أي إذا رأيتم في فرارکم مصلحة في خدعة العدوّ کالجذب له بذلك حيث يتمکَّن منه ويقع الفرصة فتكرّوا عليه حينئذ فلا تشتدّنّ عليكم الفرّة، ووجه الشدّة هنا أنّ الفرار بين العرب صعب شديد لما يستلزمه من العار والسّبة. فأشار إلى وجه

ص: 33

تسهيله عليهم بأنّه إذا كان بعده كرّة فلا بأس به لما فيه من المصلحة، ويحتمل أن يريد أنّكم إذا اتّفق لكم إن فررتم فرّة عقّبتموها بكرّة فلا تشتدّنّ عليكم تلك الفرّة فتنفعلوا وتستحيوا فإن تلك الكرّة كالماحية لها. وفيه تنبيه على الأمر بالكرّة على تقدير الفرّة، وكذلك قوله: ولا بجولة بعدها حملة.

ويحتمل أن يريد فلا تشتدّنّ عليكم فرّة من عدوّكم بعدها كرّة منه عليكم فإنّ تلك الكرّة لمّا كانت عقيب الفرّة لم تكن إلَّا عن قلوب مدخولة ونيّات غير صحيحة، وإنّما قدّم الفرّة في هذا الاحتمال لأنّ مقصوده تحقير تلك الكرّة بذکر الفرّة، وكان ذكرها أهمّ فلذلك قدّمت، وكذلك قوله: ولا جولة بعدها حملة.

ثمّ أمرهم بأوامر:

«وأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا»: وهو كناية عن الأمر بفعل ما ينبغي أن يفعل. ولفظ العطاء مستعار لما تصل إليه السيوف من الأفعال الَّتي ينبغي أن تفعل بها.

«ووَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا»: اتّخذوا مصارع جنوبهم أوطانا لها، وهو كناية عن الأمر بالعزم الجازم على القتل في سبيل الله والإقدام على أهوال الحرب، إذ كان اتّخاذ المصارع أوطانا للجنوب مستلزما لذلك العزم والإقدام وروي: ووطَّئوا بالياء.

«واذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَی الطَّعْنِ الدَّعْسِيِّ»: منسوب على الدعس وهو الأثر.

«والضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ»: الشديد أي حثوها على الطعن الذي يظهر أثره أي أحملوها على ذلك وابعثوها بالدواعي الصادقة الَّتي فيها رضي من تذکَّر ما وعد الله عباده الصالحين.

ص: 34

«وأَمِيتُوا الأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ»: أكثر طرداً «لِلْفَشَلِ»: ويكثروا الصياح من علاماته وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. ثمّ أقسم بما يعتاده من القسم البارّ أنّ القوم لم يسلموا بقلوبهم حين أظهروا الإسلام في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بألسنتهم، ولكنّهم استسلموا خوفاً من القتل فقال: «فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَسْلَمُوا ولَكِنِ اسْتَسْلَمُوا وأَسَرُّوا الْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ»: وذلك إشارة إلى المنافقين من بني أُميّة كعمرو بن العاص ومروان ومعاوية وأمثالهم، وروى مثل هذا الكلام لعمّار بن یاسر رضي الله عنه وبالله التوفيق.

روى أنّ معاوية استشار بعمرو بن العاص في أن يكتب إلى عليّ كتاباً يسأله فيه الشام فضحك عمرو وقال: أين أنت يا معاوية من خدعة عليّ قال: ألسنا بنی عبد مناف قال: بلى ولكن لهم النبوّة دونك، وإن شئت أن تكتب فاكتب.

فكتب معاوية إليه مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة: أمّا بعد فإنّي أظنّك لو علمت أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا، لم يحبّها بعض على بعض، وإنّا وإن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما يندم بها على ما مضى ونصلح به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن لا يلزمني منك طاعة ولا بيعة وأبيت ذلك عليّ فأعطاني الله ما منعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنّك لا ترجو من البقاء إلَّا ما أرجو ولا أخاف من القتل إلَّا ما تخاف، وقد والله رقّت الأجناد وذهبت الرجال وأكلت الحرب العرب إلَّا حشاشات أنفس بقيت، وانّا في الحرب والرجال سواء، ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل إلَّا فضل لا يستذلّ به عزیز ولا يسترّق به حرّ والسلام.

ص: 35

فلمّا قرء عليّ عليه السّلام کتابه تعجّب منه ومن كتابه ثمّ دعا عبد الله بن أبي رافع کاتبه وقال له: اكتب إليه: أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنّك لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يحبّها بعض على بعض وأنا وإيّاك في غاية لم نبلغها بعد.

«وأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ»: الفصل وأعلم أنه عليه السّلام قد أجاب عن أمور أربعة تضمّنها كتاب معاوية:

أحدها: أنّه استعطفه إلى البقيّة واستدرجه لوضع الحرب بقوله: إنّك لو علمت. إلى قوله: ما بقي وفيه إشعار بالجزع من عضّ الحرب والخوف من دوامها فأجابه عليه السّلام بقوله: وأنا وإيّاك في غاية لم نبلغها بعد، ويفهم منه التهديد بقاء الحرب إلى الغاية منها وهي الظفر به وهلاکه وهو مستلزم لتخويفه والتهويل عليه، ومنع ما طلب من وضع الحرب.

الثاني: أنّه سأل إقراره على الشام مع نوع من التشجّع الموهم لعدم الانفعال والضراعة، وذلك في قوله: وقد كنت سألتك الشام إلى قوله: أمس.

وقوله: فإنّك لا ترجو. إلى قوله: ما نخاف.

إشارة إلى كونهما سواء في رجاء البقاء والخوف من القتل، ومقصود ذلك أن يوهم أنّه لا انفعال له عن تلك الحرب أيضاً.

وقوله: وأنا أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس.

أي من طلب إقراره على الشام، وذلك أنّه عليه السّلام حين بويع بالخلافة كان معاوية سأل منه إقراره على إمرة الشام، ونقل عن ابن عبّاس أنّه قال له

ص: 36

عليه السّلام: وله شهرا وأعز له دهراً؛ فإنّه بعد أن يبايعك لا يقدر على أن يعدل في إمرته ولا بدّ أن يجور؛ فتعز له بذلك. فقال عليه السّلام: كلَّا وما كنت متّخذ المضلَّين عضدا. وروى: أنّ المغيرة بن شعبة قال له عليه السّلام: إنّ ذلك حقّ الطاعة والنصيحة، وأقرَّب معاوية على عمله، والعمّال على أعمالهم حتّى إذا أتتك طاعتهم وتبعة الجنود استبدلت أو ترکت؛ فقال عليه السّلام: حتّى أنظر فخرج من عنده؛ ثمّ عاد إليه من الغد فقال: إنّي أشرت عليك أمس برأي، وإنّ الرأي أن تعاجلهم بالنزع فيعلم السامع من غيره ويستقلّ أمرك ثمّ خرج من عنده. فجائه ابن عبّاس؛ فأخبره بما أشار إليه المغيرة من الرأيين؛ فقال: أمّا أمس فقد نصحك وأمّا اليوم فقد غشّك، وقد كان الرأي الدنياويّ الخالص في حفظ الملك ذلك لكنّه عليه السّلام لمّا لم يكن ليتساهل في شيء من أمر الدين أصلاً وإن قلّ وكان إقرار معاوية، وأمثاله على الأعمال يستلزم العدول في كثير من تصرّفاتهم عن سبيل الله لا جرم لم ير إقراره على العمل، ومنعه ما سأل.

ولمّا كان منعه أوّلاً اسأل منعاً خالصاً لله عن مشاركة الهوي، والميول الطبيعيّة لم يكن سؤاله ثانياً، واستعطافه إيّاه مقرّباً له إلى إجابته خصوصاً، وقد أخذت تلك الحروب الشديدة من العرب ما أخذت، وقتل من المهاجرين، والأنصار وسائر العرب من قتل، بل أجابه بعين ما أجابه أوّلاً من الردّ، والمنع في قوله: فلم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس؛ إذ العلَّة في المنع قائمة في كلّ حين وزمان وهي المحافظة على دين الله.

«وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ»: بقيت الروح «بَقِيَتْ»: وفيه حفظ الرجال، والتبقية على الأجناد لحفظ الإسلام وتقويمه أمر واجب فلا جرم استعطفه واستدرجه إلى التبقية عليهم والتنبيه على ذلك بقوله:

ص: 37

قد والله إلى قوله: بقيت؛ فأجابه عليه السّلام بقوله: «ألا ومن کًلّمَ (1)الحق فإلى النار»: وهو كبری قیاس حذفت صغراه للعلم بها، وتقديرها: أنّ هؤلاء الأجناد الَّذين قتلناهم إنّما قتلهم الحقّ: أي كان قتلهم بحقّ لبغيهم وتقدير هذه الكبرى: وكلّ من قتله الحقّ فمصيره إلى النار فينتج أنّ مصير من قتل من هؤلاء إلى النار. ثمّ هذه النتيجة تنبيه على الجواب وهي في قوّة صغرى قياس ضمير تقدير کبراہ: وكلّ من كان من أهل النار فلا يجوز التبقية عليه ولا الأسف لفقده.

الرابع: أوهم بقوله: وإنّا في الحرب والرجال سواء، على أنّه ممّن لا ينفعل عن هذه الحروب وإن اشتدّت، وأنّ الضعف والهلاك إن جرى فعلى العسکرين. وفيه نوع تخويف، وتهويل فأجابه عليه السّلام بقوله:(2)«وأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَي عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِینِ ولَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ

عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الآخِرَةِ»: ويفهم من ذلك أنّه يقول: بل أنا أمضى في أمري وأولى بالغلبة لكوني على بصيرة ويقين، وحينئذ تكذب المساواة بينهما لكون المتيقّن أرجح في فعله من الشاكّ، ووجه كون الثاني جواباً أنّه يقول: إنّ أهل الشام يطلبون بقتالهم الدنيا، وأهل العراق يطلبون بقتالهم الآخرة وليس أهل الشام بأحرص على مطلوبهم من الدنيا من أهل العراق على مطلوبهم من الآخرة، ويفهم من ذلك أنّه يقول: بل أهل العراق أحرص على الآخرة من أهل الشام على الدنيا لشرف الآخرة ولتيقّنهم حصولها، وانقطاع الدنيا وشكّ أهل الشام في حصولها كما قال تعالى «فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ» وحينئذ تكذب المساواة في الحرب والرجال لشرف أهل الآخرة على

ص: 38


1- كَلَّمَ الحق: بمعنى ثّلَمَ: فنقص منه
2- ورد في بعض متون النهج: أَلاَ ومَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلیَ الْجَنَّةِ ومَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلیَ النَّارِ

أهل الدنيا ولكون الأحرص أولى بالغلبة والقهر.

الخامس: أنّه نبّه بقوله: ونحن بنو عبد مناف. إلى آخره على مساواته له في الشرف والفضيلة وهو في قوّة صغرى قياس ضمير من الأوّل وتقدير كبراه: وكلّ قوم كانوا من بيت واحد فلا فضل لبعضهم على بعض ولا فخر. فأجابه عليه السّلام بالفرق بينهما بعد أن سلم له الاشتراك بينها في كونهما من بنی عبد مناف وذكر الفرق من وجوه خمسة بدء فيها بالأمور الخارجة أوّلا من کمالاته وفضائله ورذائل خصمه متدرّجاً منها إلى الأقرب فالأقرب قال عليه السلام: «وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ ولَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ ولَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ولَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ»: هذا شرفه من جهة الآباء المتفرّعين عن عبد مناف، وذلك أنّ سلك آبائه عليه السّلام أبو طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف، وسلك آباء معاوية أبو سفيان بن حرب بن أُميّة بن عبد مناف، وظاهر أنّ كلّ واحد من أولئك الثلاثة أشرف ممّن هو في درجته من آباء معاوية. وقد ذكرنا طرفاً من فضلهم على غيرهم.

الثاني: شرفه من جهة هجرته مع الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم وخسّة خصمه من جهة كونه طليقاً وابن طليق قال:

«ولَا الْمُهَاجِرُ»: یعنی نفسه القدسية «كَالطَّلِيقِ»: والطليق: من يؤسر ثم یُمن عليه فيطلق(1)وهذه فضيلة وإن كانت خارجيّة إلاَّ أنهّا تستلزم فضيلة نفسانيّة وهي حسن الإسلام والنيّة الصادقة الحقّة.

«ولَا الصَّرِيحُ»: الخالص النسب: «كَاللَّصِيقِ»: هو من ينسب إلى قوم ولم يكن

ص: 39


1- والطليق: الأسير يطلق عنه إساره؛ يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 5 ص: 105

منهم إشارة إلى شرفه من جهة صراحة النسب وخسة خصمه من جهة كونه دعي.

الرابع شرفه من جهة كونه محقاً فيما يقوله ويعتقده، ورذيلة خصمه من جهة کونه مبطلاً؟ فقال: «ولَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ»: وهذان الاعتباران أقرب لكونهما من الكمالات والرذائل الذاتيّة دون ما قبلهما.

الخامس: شرفه من جهة كونه مؤمناً والمؤمن الحقّ هو المستكمل للكمالات الدينيّة النفسانيّة، وخسّة خصمه فقال:

«ولَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ»: أي خبيث الباطن مشتملاً على النفاق والرذائل الموبقة. وظاهر أنّ هذين الاعتبارين أقرب الكمالات والرذائل إلى العبد، وإنّما بدء بذكر الكمالات والرذائل الخارجيّة لكونهما مسلَّمة عند الخصم وأظهر له وللخلق من الأمور الداخلة.

ثمّ لمّا ذكر الرذائل المتعلَّقة بخصمه أشار إلى كونه في أفعاله ورذائله خلفاً لسلف سقط في النار فقال: «ولَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»: ثم رتّب ذمّه على ذلك.

في قوّة کبری قیاس استغنی بمفهومها عن صغراه.

وتقديرها: فأنت خلف تتبع سلفاً، وكلّ خلف تتبع في أفعاله ورذائله سلفاً هوى في نار جهنّم فهو كذلك، وكلّ من كان كذلك فبئس به.

السادس: أنّ معاوية لمّا أكَّد ما به علَّق من المساواة في الفضل في قوله: ولیس لبعضنا على بعض فضل واستثنى من ذلك فقال: إلَّا فضلاً لا يستذلّ به عزیز ولا يسترقّ به حرّ. أشار عليه السّلام إلى كبرى هي كالجواب لذلك وهو قوله:

ص: 40

«وفِي أَيْدِينَا بَعْدُ»: أي بعد ما ذكرت من الفضائل.

«فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ ونَعَشْنَا»: أنهضنا ورفعنا «بِهَا الذَّلِيلَ»: وظاهر ان هذا الفصل الذي حصل في هذا البطن من هاشم هو سبب أذلا لهم الأعزاء وإنعاشهم وتقويتهم الأذّلاء واسترقاقهم الأحرار، وذلك فضلٌ غريب عنه بنو أُميّة وغيرهم؛ فإذن قوله: ولیس لبعضنا على بعض فضل إلَّا فضل لا يستذّل به عزيز إلى آخره قول باطل؛ ثمّ أردف هذه الفضيلة بذکر رذيلة لخصمه بالنسبة إلى فضيلة شملت كثيراً من العرب، وتلك هي دخولهم في الإسلام لا لله بل إمّا لرغبة أو رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم إلى الله وحصل المهاجرون والأنصار على ما حصلوا عليه من الفضائل المسعدة.

«ولَمَّا أَدْخَل اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً»: فوجاً بعد فوج «وأَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمَّةُ طَوْعاً وكَرْهاً كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وإِمَّا رَهْبَةً عَلَى حِینَ فَازَ أَهْلُ

السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ»: ثمّ لمّا أظهر هذه القرون من فضائله ورذائل خصمه نهاه عن أمرين: أن لا يتبع الهوى وكني عنه بقوله:

«فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً»: والثاني: «ولَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا»: وهو كناية عن النهي عن انفعاله عنه.

وفتح باب الوسوسة عليه، وهذا النهي يفهم منه أنّه قد جعل للشيطان في نفسه نصيباً وله عليه سبيلاً وأنّ ذلك النهي في معرض التوبيخ له على ذلك وبالله التوفيق.

أقول: روى أنّ ابن العبّاس كان قد أخبرّ ببني تميم حين، ولَّى البصرة من قبله عليّه السّلام للَّذي عرفهم به من العداوة يوم الجمل لأنّهم كانوا من شيعة طلحة

ص: 41

والزبير وعائشة؛ فحمل عليهم ابن عبّاس؛ فأقصاهم وتنکَّر عليهم وعيّرهم بالجمل حتّى كان يسمّيهم شيعة الجمل وأنصار عسكره وهو اسم جمل عائشة وحزب الشيطان.

فاشتدّ ذلك على نفر من شيعة عليّ عليه السّلام من بني تميم منهم حارثة بن قدامة وغيره؛ فكتب بذلك حارثة إليه عليه السّلام يشكو إليه ابن عبّاس. فكتب عليه السّلام إلى ابن عبّاس: أمّا بعد فإنّ خير الناس عند الله غداً أعلمهم بطاعته فيما عليه وله وأقواهم بالحقّ وإن كان مرّاً؛ ألا وإنّه بالحقّ قامت السماوات والأرض فيما بين العباد؛ فلتكن سريرتك فعلاً؛ ولیکن حكمك واحداً؛ وطريقتك مستقيمة.

«واعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ»: كناية عن إثارة الفتنة وكثرتها لأن مهبط إبليس ومستقره محل لذلك وأراد مهبط من الجنة.

«ومَغْرِسُ الْفِتَنِ»: وجه الاستعارة كونها محلَّاً ينشأ فيه الفتن الكثيرة كما أنّ مغرس الشجر من الأرض محلّ لنشؤه ونمائه، قال بعضهم: وفي قوله: مهبط إبليس نوع لطف فإنّ الوهم الَّذي هو إبليس النفس العاقلة إذا انفرد بحكمه عن تدبيرها العقليّ وخرج عن موافقة العقل العمليّ فيما يراه ويحكم به فقد هبط من عالم الكمال وموافقة العقل، وتلقّى أوامره العالية الَّتي هي أبواب الجنّة إلى الخيبة السافلة، ومشاركة الشهوة والغضب في حكمه بأصلحيّة الآراء الفاسدة، ولمّا أحاط القضاء الإلهيّ بما يجري من أهل البصرة من نکث بيعته عليه السّلام ومخالفته وكانوا ممّن عزلوا عقولهم عن الآراء المصلحيّة رأسا وهبط إبليس وجنوده بأرضهم فأروهم الآراء الباطلة في صور الحقّ فلحقوا بهم فكان منهم ما كان ونزل بهم ما نزل من سوء القضاء ودرك الشقاء فكانت بلدتهم لذلك مهبط

ص: 42

إبليس ومغرس الفتن الناشئة عن وسوسته وآرائه الفاسدة؛ ثمّ أمره أن يحادثهم بالإحسان إليهم فقال:

«فَحَادِثْ أَهْلَهَا»: أي اصقلهم «بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ واحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ»: استعار العقدة لما ألزمهم به من المخالفة بالغلظة عليهم وكثرة الأذى لهم، ووجه المشابهة كون ذلك الخوف ملازماً لهم معقوداً بقلوبهم کالعقدة للحبل ونحوه، ورشّح بلفظ الحلّ وكنّی به عن إزالة الخوف عنهم وغرض هذه الأوامر أن لا ينفر قلوبهم منه وتثور أضغانهم فيعاودوا الخروج عن طاعته وإثارة الفتن.

ثمّ أعلمه بما يريد إنكاره عليه ممّا بلغه من تنمّره له وهو نكير الأخلاق بغيرها قال:

«وقَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيِمٍ وغِلْظَتُك عَلَيْهِمْ»: ثم أردف ذلك بذكر أحوال لهم يجب مراقبتهم وحفظ قلوبهم لأجلها، استعار له النجم من حيث كون السيد الجماعة قدوة يهتدون به ويقتدن برأيه في المصلحة كالنجم ورشح بذکر المغيب والطلوع.

«وإِنَّ بَنِي تَمِيِمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ»: أي سيد «إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ»: أ ي قام مقامهم «وإِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ»: حقد فِي «جَاهِلِيَّةٍ ولَا إِسْلَامٍ»: ويحتمل وجهين:

أحدهما: أنّه لم يسبقهم أحد إلى الثوران والأحقاد وحيث كانوا في جاهليّة أو إسلام لشرف نفوسهم وقلَّة احتمالهم للأذى، وذلك أنّ المهين الحقير في نفسه لا يكاد يغضب ويحقد ممّا يفعل من الأذى، وإن غضب في الحال إلَّا أنّه لا يدوم ذلك الغضب ولا يصير حقدا.

الثاني: يحتمل أن يريد أنّهم لم يسبقوا بشفاء حقد من عدوّ وذلك لقوّتهم ونجدتهم.

ص: 43

«وإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً»: قرابة « مَاسَّةً» قريبه «وقَرَابَةً خَاصَّةً»: قيل: تلك لاتّصالهم عند إلياس بن مضر لأنّ هاشم ابن عبد مناف بن قصیّ بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لویّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن حزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وتميم ابن مراد بن طانجة بن إلياس بن مضر، وزاد ترغيباً في مواصلتهم ومداراتهم بكون صلة الرحم مستلزمة للأجر في الآخرة، وتركها مستلزم للوزر فقال: قيل: تلك لاتّصالهم عند إلياس بن مضر لأنّ هاشم ابن عبد مناف بن قصیّ بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لویّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن حزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وتميم ابن مراد بن طانجة بن إلياس بن مضر، وزاد ترغيباً في مواصلتهم ومداراتهم بكون صلة الرحم مستلزمة للأجر في الآخرة، وتركها مستلزم للوزر فقال:

«نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا ومَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا»: والأصل مؤزورون فقلَّب ليجانس قوله: مأجورون. وفي الحديث لترجعنّ مأزورات غير مأجورات.

ثمّ أردف ذكر تلك الأحوال الَّتي يقتضي الرفق بهم بالأمر بالتوقّف والتثبّت فيما يجري على يده ولسانه من فعل هو خير أو شرّ فقال:

«فَأُرْبَعْ»: توقف «أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللهُ فِيمَا جَرَى عَلَى لِسَانِكَ ويَدِكَ مِنْ خَیْرٍ وشَرٍّ»: لأنّ التثبّت في الأمور أولى بإصابة وجه المصلحة، وأراد بالشرّ ما يجريه على رعيّته من عقوبة فعليّة أو قوليّة.

«فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ»: كالتعليل لحسن أمره له بالتثبّت في ذلك لأنّه لمّا كان والياً من قبله فكلّ حسنة أو سيّئة يحدثها في ولايته فله عليه السّلام شركة في إحداثها. إذ هو السبب البعيد لمسبّبها القريب، وأبو العبّاس كنية عبد الله بن

ص: 44

العبّاس، والعرب تدعو من تكرمه بالكنى قال: أكنّية حين أناديه لا كرمه، ولمّا كان عليه السّلام قد استصلحه للولاية ورآه أهلا لها أمره أن يلازم ظنّه الصالح فيه ولا يكشف عن ضعف ذلك الرأي وعدم مطابقته فيه بسوء صنيعه بقوله: «وكُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ ولَا يَفِيلَنَّ»: ولا يضعفن «رَأْيِي فِيكَ والسَّلَامُ».

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ»: جمع دهاقين يحتمل الصرف(1)وعدمه.

«أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ(2)وقَسْوَةً»: غلظة القلب «وَغِلظة واحْتِقَاراً وجَفْوَةً ونَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ ولَا أَنْ يُقْصَوْا»: سعدوا «ويُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّینِ تَشُوبُهُ»: يختلطه «بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ ودَاوِلْ لَهُمْ بَیْنَ الْقَسْوَةِ والرَّأْفَةِ وامْزُجْ لَهُمْ بَیْنَ التَّقْرِيبِ والإِدْنَاءِ والإِبْعَادِ والإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ»: توضيح هذا الكلام وتنقيح هذا المرام بأن يقال: المنقول أنّ هؤلاء الدهاقین كانوا مجوساً ولمّا شكوا إليه غلظة عامله فکَّر في أمورهم فلم يرهم أهلاً للإدناء الخالص لكونهم مشركين ولا إقصائهم لكونهم معاهدين فإنّ إدنائهم وإكرامهم خالصاً هضم ونقيصة في الدين، وإقصائهم بالكليّة ينافي معاهدتهم.

فأمره بالعدل فيهم ومعاملتهم باللين المشوب ببعض الشدّة كلّ في موضعه، وكذلك استعمال القسوة مرّة والرأفة أخرى والمزج بين التقريب والإبعاد لما في طرف اللين والرأفة والتقريب من استقرار قلوبهم في أعمالهم وزراعاتهم الَّتي بها صلاح المعاش وما في مزاجها بالشدّة والقسوة والإبعاد من کسر عاديتهم ودفع شرورهم وإهانتهم المطلوبة في الدين، واستلزم ذلك نهيه عن استعمال الشدّة والقسوة والإبعاد في حقّهم دائما واللين والرأفة والإدناء خالصا، واستعار لفظ

ص: 45


1- يحتمل الصرف: لأنه معرب
2- في متون النهج: غِلْظَةً

الجلباب لما أمره بالاتّصاف به وهو تلك الهيئة المتوسّطة من اللين المشوب بالشدّة بين اللين الخالص والشدّة الصرفة، ورشّح بذكر اللين وبالله التوفيق.

ابن سميّة أُمّ أبي بكره، وروي أنّ أوّل من دعاه ابن أبيه عائشه حين سئلت لمن يدعى، وكان كاتباً لمغيرة بن شعبة ثمّ كتب لأبي موسى ثمّ كتب لابن عامر ثمّ کتب لابن عبّاس، وكان مع عليّ عليه السّلام فولَّاه فارس، فكتب إليه معاوية يهدّده.

فكتب إليه: أتوعّدني وبيني وبينك ابن أبي طالب أما والله لئن وصلت إلىّ لتجدني أحمز ضرابا بالسيف.

وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة: وعبد الله عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وکرمان.

«وإِنِّي أُقْسِمُ بِاللهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِیراً أَوْ كَبیِراً لأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً»: الشدة الحملة «تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ»: المال

«ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الأَمْرِ»: حصره «والسَّلَامُ».

حاصل الفصل تحذیر زیاد من خيانة مايليه من مال المسلمين ووعيده إن وقعت منه بالعقوبة عليها.

وکنّی عنها بالشدّة ووصف شدّة تلك الشدّة باستلزامها أمورا ثلاثة فيها سلب الكمالات الدنيويّة والأُخرويّة: أحدها: نقصان ماله وقلَّته. والثاني: نقصان جاهه. وكنّى عنه بقوله: ضئيل الأمر وهما سالبان للكمال الدنيويّ.

الثالث: ثقل ظهره بالأوزار والتبعات. وهو دالّ على سلب کماله الأُخرويّ.

ص: 46

فإن قلت: كيف يريد ثقل الظهر بالأوزار وليس ذلك بسبب شدّته عليه السّلام وإنّما الأوزار من اكتساب نفسه.

قلت: إنّ مجموع هذه الأمور الثلاثة وهي سلب ماله وجاهه مع ثقل الظهر بالأوزار حالة يدعه عليها وهي حالة مخوفة مكروهة خوّفه بها. ولا شكّ أنّ تلك الحالة من فعله وإن لم يكن بعض أجزائها من فعله، أو نقول: الثلاثة أحوال متعدّدة والحال لا يلزم أن تكون من فعل ذي الحال، ويحتمل أن يكون ثقل الظهر كناية عن التضعّف وعدم النهوض بما يحتاج إليه ويهمّه: أي يدعك ضعيف الحركة في الأمور، والله أعلم.

«فَدَعِ الإِسْرَافَ»: وهو رذيلة الإفراط من فضيلة الاقتصاد المتوسّط بينه وبين الإجحاف بالنفس والإصرار بها.

«مُقْتَصِداً»: أوسط الأمور والأمر بترك الإسراف مستلزم للأمر بهذه الفضيلة لأنّ الأمر بالشيء على حالة أمر بتلك الحالة أيضاً.

«واذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً»: أي أذكر في حاضر أوقاته مستقبلها من يوم القيامة فإنّ في ذلك زجراً للنفس وانکساراً عن الإشراف على الدنيا والاشتغال بها.

«وأَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ»: وهو تفسير للاقتصاد في تناول الدنيا وحفظها.

«وقَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ»: وهو يوم القيامة وما بعد الموت.

وفيه استدراج الإنفاق المال في سبيل الله فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ إسلاف ما لا يحتاج إليه من فضول المال في سبيل الله وتقديمه لما يحتاج إليه في وقت حاجته من

ص: 47

أكبر المصالح المهمّة.

ثمّ استفهم على سبيل الإنكار عن رجائه أن يؤتيه الله ثواب المتواضعين حال ما هو مكتوب في علمه من المتكبّرين تنبيهاً منه على أنّ ثواب كلّ فضيلة إنّما ينال باکتسابها والتخلَّق بها لا بالكون على ضدّها بقوله:

«أَتَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِینَ وأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ»: فمن الواجب إذن التخلَّق بفضيلة التواضع لينال ثوابها.

ولن يحصل التخلَّق بها إلَّا بعد الانحطاط عن درجات المتكبّرين فهو إذن من الواجبات، وكذلك استفهمه عن طمعه في ثواب المتصدّقين حال اقتنائه للمال وتنعّمه به ومنه الضعيف والأرملة بقوله: «وتَطْمَعُ وأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ: متنعم فِي النَّعِيمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ والأَرْمَلَةَ»: المرأة التي لا زوج لها «أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِینَ»: فإنّ ثواب كلّ حسنة بقدرها ومن لوازمها، وجزاء كلّ حسنة بحسبها ومن لوازمها. ونبّه على ذلك بقوله:

«وإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وقَادِمٌ عَلَی مَا قَدَّمَ والسَّلَامُ».

فإنّ ثواب كلّ حسنة بقدرها ومن لوازمها، وجزاء كلّ حسنة بحسبها ومن لوازمها، ونبّه على ذلك بقوله: وهو خبر في معنى النهي، ولفظ ما في الموضعين مهمل يراد به المطالب الدنيويّة، ونبّه بقوله: ما لم يكن ليفوته.

على أنّ ما يحصل من مطالب الدنيا أمر واجب في القضاء الإلهيّ وصوله إلى من يحصل له فهو كالحاصل فلا ينبغي أن يشتدّ فرحه عند حصوله، وبقوله: ما لم يكن ليدركه على أنّ ما يفوت منها فهو أمر واجب فوته فالأسف عليه ممّا لا يجدي نفعاً بل هو ضرر عاجل. ثمّ خصّصه بالخطاب على سبيل الوصيّة وفصّل

ص: 48

له مما ينبغي أن يسرّ وتأسف عليه بقوله:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ ويَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ»: وهو خبر في معنى النهي، ولفظ ما في الموضعين مهمل يراد به المطالب الدنيويّة، ونبّه بقوله: ما لم يكن ليفوته.

على أنّ ما يحصل من مطالب الدنيا أمر واجب في القضاء الإلهيّ وصوله إلى من يحصل له فهو كالحاصل فلا ينبغي أن يشتدّ فرحه عند حصوله، وبقوله: ما لم يكن ليدركه، على أنّ ما يفوت منها فهو أمر واجب فوته فالأسف عليه ممّا لا يجدي نفعاً بل هو ضرر عاجل. ثمّ خصّصه بالخطاب على سبيل الوصيّة وفصّل له مما ينبغي أن يسرّ وتأسف عليه بقوله:

«وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ ولْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا ومَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً»: لما عرفت من وجوب فنائها وكون القرب منها مستلزماً للبعد عن الآخرة.

«ومَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ»: لا تحزن «عَلَيْهِ جَزَعاً»: وكأني بك تقول: كيف قال: عليه السلام: ما نلت من آخرتك ومعلوم أنّه لا ينال شيء من الآخرة إلَّا بعد الموت.

أقول: يحتمل وجهين: أحدهما لا يسلم أم مطالب الآخرة لا تحصل إلا بعد الموت فأن الكمالات النفسانية من العلوم والأخلاق الفاضلة والفرح بها من الكمالات الأخروية وأن كانت الإنسان في الدنيا الثاني أنه يحتمل أن يريد فليكن سرورك بما نلت من أسباب آخرتك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه وكذلك ما بين ما ينبغي أن يكون همه متوجهاً إليه بقوله:

ص: 49

«ولْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ»: من أحوال الآخرة من سعادة دائمة يسعى في تحصيلها أو شقاوة لازمة يعمل للخلاص منها وبالله التوفيق.

في بعض أيام مرضه، قال قبيل موته لما ضربه بن ملجم لعنه الله على سبيل الوصية: وسيأتي شرح حال مقتله ووصيّته في فصل أطول من هذا وأليق بذکر الحال عنده إنشاء الله.

«وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً»: أوّل مطلوبي بلسان الشريعة كما سبق بیانه.

«ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه واله وسلم، فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ»: وقد علمت أنّ من سنّته وجوب اتّباع كلَّما جاء والمحافظة عليه فإذن المحافظة على كتاب الله من الواجبات المأمور بها بالالتزام وظاهر أنّ إقامة هذين الأمرين مستلزم للخلوّ عن الذمّ.

«أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَیْنِ»: لفظ العمود مستعار لهما ملاحظة لشبههما بعمودي البيت في كونهما سببين الإسلام وعليها مداره کالبيت على عمود الدين.

«وخَلَاكُمْ ذَمٌّ»: كالمثل أي وقد أعذرت وسقط عنك الذمّ؛ ثمّ نعي نفسه إليهم، وأشار إلى وجه العبرة بحاله بذكر تنقّلها وتغيّرها في الأزمان الثلاثة بقوله:

«أَنَا بِالأَمْسِ صَاحِبُكُمْ»: الَّذي يعرفونه بالقوّة والشجاعة وقهر الأعداء وعليه مدار أمور الدنيا والدين.

«والْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ»: أي محل غيره «وغَداً مُفَارِقُكُمْ»: ثمّ أردف ذلك ببيان

ص: 50

أمره مع قاتله على تقديري فنائه وبقائه.

«إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا «أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»(1)واللهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ ولَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ»: وصدقه في ذلك ظاهر فإنّه عليه السّلام كان سيّد الأولياء بعد سيّد الأنبياء ومن خواصّ أولياء الله شدّة محبّة الله والشوق البالغ إلى ما أعدّ لأوليائه في جنّات عدن ومن كان كذلك كيف يكره وارد الموت الَّذي هو باب وصوله إلى محابّه وأشرف مطالبه الَّتي قطع وقته في السعي لها وهي المطالب الحقّة الباقية وكيف ينكره وهو دائم الترصّد والاشتغال والذكر له. ثمّ شبّه نفسه في هجوم الموت عليه ووصوله بسببه إلى ما أُعدّ له من الخيرات الباقية بالقارب الَّذي ورد الماء قال:

«ومَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ»: من يكون بينه وبين الماء ليلة «وَرَدَ»: دخل الماء: ووجه الشبه استقرا به لتلك الخيرات ووثوقه بها واستسهاله بسببها آفات الدنيا وشدائد الموت کما يستسهل القارب عند وروده الماء ما كان يجده من شدّة العطش وتعب الطريق، وفيه إيماء إلى تشبيه تلك الخيرات بالماء. وكذلك شبّه نفسه بالطالب الواجد لما يطلبه، ووجه الشبه کونه قرّا عینا بما ظفر به من مطالبه الأُخرويّة كما يطيب نفس الطالب للشيء به إذا وجده، وظاهر أنّ طيب النفس وبهجتها بما تصيبه من مطالبها ممّا يتفاوت لتفاوت المطالب في العزّة والنفاسة، ولمّا كانت المطالب الأُخرويّة أهمّ المطالب وأعظمها قدرا وأعزّها جوهرا أوجب أن يكون بهجة نفسه بها وقرّة عينه بما أصاب منها أتمّ كلّ بهجة بمطلوب. ثمّ اقتبس الآية في مساق إشعاره بوجدان مطلوبه منبّها بها على أنّ مطلوبه في الدنيا لم يكن إلَّا ما

ص: 51


1- سورة النور: الآية 22

عند الله الَّذي هو خير لأوليائه الأبرار من كلّ مطلوب: فقال عليه السلام:

«وطَالِبٍ وَجَدَ وما عِنْدَ الله»: خير للأبرار وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه ها هنا زيادة أوجبت تكرره.

أعلم أن هذه الوصية رويت هذه الوصيّة بروایات مختلفة بالزيادة والنقصان وقد حذف السيّد منها فصولاً ولنوردها برواية يغلب على الظنّ صدقها: عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: بعث إليّ بهذه الوصيّة أبو إبراهيم عليه السّلام. هذا ما أوصى به وقضى في ماله عبد الله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنّة ويصرفني به عن النار يوم تبيّض وجوه وتسوّد وجوه، إنّ ما كان لي بينبع من مال يعرف لي فيها وما حولها صدقة، ورقيقها غير أبي رباح وأبي يبر وعتقاء ليس لأحد عليهم سبيل. فهم موالي يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهاليهم. ومع ذلك ما كان بوادي القرى کله مال بني فاطمة رقيقها صدقة وما كان لي لبني وأهلها صدقة غير أنّ رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم، وما كان لي بادنية وأهلها صدقة، والقصد کما قد علمتم صدقة في سبيل الله وإنّ الَّذي كتبت ومن أموالي هذه صدقة واجبة بيكَّة حيّا أنا كنت أو ميّتا ينفق في كلّ نفقة أبتغي بها وجه الله في سبيل الله وجهة ذوى الرحم من بني هاشم وبني المطَّلب والقريب والبعيد، وإنّه يقوم بذلك الحسن بن عليّ يأكل منه بالمعروف، وينفقه حیث یرید الله في كلّ محلَّل لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إنشاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله من الملك، وإنّ ولد عليّ أموالهم إلى الحسن بن عليّ وإن كانت دار الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه فإن باع فإنّه يقسمها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثا في سبيل الله، ويجعل ثلثا في بني هاشم وبني المطَّلب، ويجعل الثلث في آل أبي طالب وأنّه

ص: 52

يضعهم حيث يريد الله؛ ثمّ يتّصل بقوله: وإن حدث بحسن حدث، وحسين حيّ فإنّه إلى حسين بن عليّ وإنّ حسيناً يفعل فيه مثل الَّذي أمرت به حسناً، له مثل الَّذي كتبت للحسن وعليه مثل الَّذي على الحسن؛ ثمّ يتّصل بقوله: وإنّ الَّذي لبنی فاطمة. إلى قوله: وتشريفاً لوصلته. ثمّ يقول: وإن حدث بحسن وحسين حدث فإنّ للآخر منهما أن ينظر في بني عليّ فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته منهم فإنّه يجعله إليه إنشاء وإن لم ير فيهم بعض الَّذي يريد فإنّه يجعله في بني ابني فاطمة ويجعله إلى من يرضى بهديه واسلامه وأمانته منهم، وإنّه شرط على الَّذي جعله إليه أن يترك المال على أصوله وينفق من ثمره حيث أمره الله من سبيل الله ووجوهه وذوي الرحم من بني هاشم وبنى المطَّلب والقريب والبعيد، وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى إلى آخره؛ ثمّ يقول: ليس لأحد عليها سبيل هذا ما قضى علىّ أمواله هذه يوم قدم مسکن ابتغاء وجه الله والدار الآخرة لا يباع منه شيء ولا يوهب ولا يورث والله المستعان على كلّ حال، ولا يحلّ لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيّر شيئا ممّا أوصيت به في مال ولا يخالف فيه أمري من قريب ولا بعيد وشهد هذا أبو سمر بن أبرهة وصعصعة بن صوحان وسعيد بن قيس وهيّاج بن أبي الهيّاج، وكتب عليّ بن أبي طالب بیده لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين.

ولنرجع إلى شرح باقي الكتاب بعون الملك الوهاب:

هذا ما يولجني: يدخلني. والأمنة: الأمن. وحرّرها: جعلها حرّة.

وأكثر هذه الوصيّة واضح عن الشرح غير أنّ فيها نکتا: الأولى: جواز الوصيّة والوقف على هذا الوجه، وتعليم الناس كيفيّة ذلك. الثانية: قوله: يأكل منه بالمعروف:

ص: 53

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ فِي مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ لِيُولِجَهُ: ليدخله بِهِ الْجَنَّةَ ويُعْطِيَهُ بِهِ الأَمَنَةَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ

يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ»: أي على وجه الاقتصاد الَّذي يحلّ له من غير إسراف وتبذیر ولا بخل وتقتير.

«ويُنْفِقُ فِي الْمَعْرُوفِ»: أي في وجوه البرّ المتعارفة غير المنكرة في الدين.

«فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وحُسَیْنٌ حَيٌّ قَامَ بِالأَمْرِ بَعْدَهُ وأَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ»: يحتمل أن به أمره عليه السلام: وقيامه به تنفيذه وإجراؤه في موارده، ويحتمل أن یرید به جنس الأمور الَّتي أُمر بالتصرّف فيها وبها والضمير في بعده للحسن وفي أصدره للأمر الَّذي يقوم به.

وأمّا الضمير الَّذي في مصدره فيحتمل وجهين: أحدهما: عوده إلى الحسن، وتقديره وأصدر الحسين الأمر كإصدار الحسن له وقضى في المال كقضائه.

والمصدر بمعنى الإصدار كقوله «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(1)أي إنباتا، ويحتمل أن يكون المصدر محلّ الإصدار: أي وأصدره في محلّ إصداره.

ويحتمل أن يعود إلى الأمر الَّذي وصيّ به عليه السّلام ويكون المعنى ووضع كلّ شيء موضعه.

«وإِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ وإِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَی ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وقُرْبَةً إِلَی رَسُولِ اللهِ ص وتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ

وتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ».

ص: 54


1- سورة نوح: الآية 17

«ويَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ ويُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وهُدِيَ لَهُ»: كناية عن عدم إخراجه بيع أو هبة أو بوجه من وجوه التمليكات.

«وأَلَّا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً»: والحكمة في ذلك وجهان:

أحدهما: أنّ الأرض قبل أن تشكل غراساً ربّما يموت فيها ما يحتاج إلى أخلاف فينبغي أن لا يباع من فسيلها شيء حتّى تكمل غراسا وثبت بحيث لا يحتاج إلى شيء.

الثاني: أنّ النخلة قبل أن يشكل أرضها تكون بعد غیر مستحكمة الجذع ولا مشتدّة فلو قلع فسيلها من تحتها ضعف جدّا حتّى لا تكاد نتجت فأمّا إذا قویت واشتدّت لم يكن عليها بقلع فسیلها كثير مضرّة وذلك حين يشكل أرضها ويتكامل غراسها وتلتبس على الناظر حسب ما فسرّه السيّد رضي الله عنه.

«ومَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اللَّاتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وهِيَ مِنْ حَظِّه»: کنّی بالطواف على إمائه عن نكاحهنّ وكنّ يومئذ سبع عشرة منهنّ أَمّهات الأولاد أحياء معهنّ أولادهنّ، ومنهنّ حبالى، ومنهنّ من لا ولد لها فقضى فيهنّ إن حدث به حادث الموت أنّ من كانت منهنّ ليس لها ولد ولا حبلى فهي عتيق لوجه الله لا سبيل لأحد أي يلزمه بحسب ثمنها من حصته وتتعلق عليه.

«فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ»: لا سبيل لأحد عليها.

«قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ»: العبودية «وحَرَّرَهَا»: أعتقها «الْعِتْقُ»: أو قضاؤه عليه

ص: 55

السّلام بكون أُمّ الولد الحيّ محسوبة من حظَّ ولدها وتعتق من مات ولدها من إمائه بعد موته بناء على مذهبه عليه السّلام في بقاء أُمّ الولد على الرقّ بعد موت سيّدها المستولد قال: السيد رضي الله عنه.

فالودية السنبلة وجمعها: ودي.

وقوله: حتى تشكل أرضها غرساً هو من أفصح الكلام والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتی کراها الناضر على غير الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها.

ومن هذه الوصية يعلم جواز وصية الوقف على هذا الوجه وتعليم كيفية ذلك وبالله التوفيق.

مائتان وسبع وستون: وصيته صلوات الله كتبها لعامله على الصدقات. ومن وصيّه له عليه السّلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وإنما ذكرنا منها جملاً هاهنا ليعلم بها انه عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات وإنما ذكر منها جملاً ها هنا ليعلم بها أنه كان يقيم عماد الحق، ويشرع أمثلة العدل: في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها: واعلم أنّ الرفق بالرعيّة وإن كان من أهمّ المطالب للشارع صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم لاستلزامه تألَّف قلوبهم واجتماعها عليه وعلى ما جاء به من الحقّ إلَّا أنّه هاهنا أهمّ والحاجة إليه أشدّ، وذلك أنّ الغرض هنا أخذ بعض ماهو أعزّ المطالب عند الناس من أيديهم وهو المال ومشاركتهم فيه فقلوبهم هنا أقرب إلى النفار ممّا يدعون إليه من سائر التكاليف وهم إلى المداراة والرفق أشدّ حاجة فلذلك أكَّد عليه السّلام وصيّة العامل بالرفق بهم والمساهلة منهم حفظاً لقلوبهم. وفي الوصيّة مواضع:

ص: 56

«انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»: أي معتمداً عليه غير مشرك في تقواه غيره ولا موجّه نیّته في انطلاقه إلى سواه لأنّ حركته هذه حركة دينيّة من جملة العبادات فيجب توجيهها إليه بالإخلاص.

«ولَا تُرَوِّعَنَّ»: راعه أفزعه مُسْلِماً: حال من الضمير في عليه «ولَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ

كَارِهاً»: أي لا تختار شيئا من إبله أو ماشيته وهو كاره لاختياره، وروى ولا يجتازنّ بالجيم: أي ولا يمرّنّ على أرض إنسان ومواشيه وهو كاره لمرورك عليها.

«ولَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَدِمْتَ»: دخلت «عَلَى الْحَيِّ»: القبيلة «فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ»: فأن من عادة العرب ان يكون مياههم بارزة من بيوتهم.

«مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ»: لما في ذلك من المشقّة عليهم والتكلَّف له.

«ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ»: بالسكون «والْوَقَارِ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ولَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ»: أي لا تنقصها «ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ

وَلِيُّ اللهِ وخَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ للهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ

إِلَی وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ وإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ»: أي قال لك نعم «فَانْطَلِقْ»: أذهب.

«مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ»: بظلمه «أَوْ تُرْهِقَهُ»: تكلفه عسراً.

«فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ»: والكلام في قوة صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل يستلزم حسن هذا النهي.

وتقدير كبراه: وكلّ من كان أكثر المال له فهو أولى بالتصرّف والحكم والمال

ص: 57

فيلزم أن لا يصحّ تصرّف غيره فيه ودخوله إلَّا بإذنه.

«فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ»: متغلب عليه ولا عنيف به الذي ليس له الرفق بالأنعام ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها «ولَا تَسُو أَنَّ»: تُحزن «صَاحِبَهَا فِيهَا»: أدبه عليه السلام بهذا الكلام بما ينبغي أن يفعله في حقهم ما يستلزم المصلحة وعلمه أسباب الشفقة عليهم من الأفعال، كالسّكينة والوقار والقيام فيهم من الأقوال کالسلام وأداء الرسالة وأحوال الأقوال كإتمام التحية والرفق في القول ومن النزول كان لا يخيف المسلم ولا يتوعده ولا يعسفه ولا يرهقه عسراً ولا يدخل ابله ولا ماشيته من غير إذنه ولا يدخلها دخول.

(1)بضرب ونحوه لما في ذلك كله من أذى صاحبها وتنفير قلبه المضاد المطلوب الشارع.

«واصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَیْنِ»: أي أقسمه قسمين «ثُمَّ خَیِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَن اخْتَارَهُ(2)فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ مَّ اخْلِطْهُمَا»: ثم اخلطها: وفي النسخ اخلطها.

«ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ»: تعليم لكيفيّة استخراج الصدقة الَّتي في الإبل والماشية، وهو أن يفرّق الإبل والماشية عند اختلاط الكلّ فرقتين ثمّ يخيّره فإن اختار قسما فلا ينازعه فيه وليس له أن يستأنف فيه نظراً آخر، وكذلك يقسّم الصدع الباقي بنصفين ولا يزال يفعل كذلك حتّى ينتهي أحد الصدعين إلى مقدار الواجب من حقّ الله تعالى في ذلك المال أو فوقه

ص: 58


1- ورد في بعض متون النهج هذه الزيادة ببعض المفردات «مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ ولاَ عَنِيفٍ بِهِ ولاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً ولَا تُفْزِعَنَّهَا ولَا تَسُو أَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا»
2- ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيِنْ ثُمَّ خَيْرِّهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ

بقليل فيؤخذ منه مقدار الواجب أو دونه بيسير فيتمّم ويجعل لربّ المال اختیار أحد الصدعين والإقالة إن استقال من أخذ تلك القسمة تسکيناً لقلبه وجبراً من تنقّص ماله.

«ولَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً»: هو الذي جاوز في السن النازل «ولَا هَرِمَةً» كبير السن «ولَا مَكْسُورَةً»: التي إنكسرة أحد قوائمها «ولَا مَهْلُوسَةً»: التي قد هلسها المرض وذهب لحمها والهلاس الشدة.

«ولَا ذَاتَ عَوَارٍ»: أي معينة، مراعاة لحقّ الله تعالى وجبراً لحال مصارفه وهم الأصناف الثمانية الَّذين عدّدهم الله تعالى في كتابه الكريم من الفقراء والمساكين وغيرهم. وقيل الظاهر من كلامه عليه السّلام أنّه كان يأمر بإخراج كلّ واحد من هذه الأصناف المعيّنة من المال قبل أن يصدع نصفين

«ولَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ به»(1): أي لا توكل بحفظها وسوقها إلا من يثق بدينه وامانته أتقاء من نفسه بحفضه.

«رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَی وَلِيِّهِمْ»: يعني نفسه المقدسة عليه السلام «فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ ولَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً»: لله ولرسوله أي على ما يقوم عليه.

«وأَمِيناً حَفِيظاً غَیْرَ مُعْنِفٍ ولَا مُجْحِفٍ»: أجحف به ذهب أي غير الذي يسوق المال سوقاً عنيفاً تذهب بلجمه «ولَا مُلْغِبٍ: اللغوب»(2): أي المتعب

«ولَا مُتْعِبٍ»: وذلك من الأمور اللازمة في حفظ الواجب في حقّ الله تعالى.

ص: 59


1- ورد في بعض متون النهج: بِدِينِهِ
2- اللغوب: بضمتين التعب والاعياء: مختار الصحاح: ص: 307 لمحمد بن أبي بكر الرازي

«ثُمَّ أُحْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ»: أي أنحدر بها إلينا.

«نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ»: أمره أن يحمل إليه ما يجتمع معه ولا يؤخّره لأمرين:

أحدهما: الحاجة إلى صرفه في مصارفه.

الثاني: الخوف من تلفه بأحد أسباب التلف قبل الانتفاع به.

ثم عاد إلى الوصيّة بحال البهائم بقوله:

«فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ»: أمره أَلَّا يَحُولَ بَیْنَ نَاقَةٍ وبَیْنَ فَصِيلِهَا ولَا يَمْصُرَ: تميًيز وتخصّصها به دون صواحباتها لأنّ ذلك ممّا يضرّ بنا.

لا تحلب «لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا ولَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً»: تميًيز وتخصّصها به دون صواحباتها لأنّ ذلك ممّا يضرّ بنا.

ولْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ: مما يقل منه ضرب الركوب.

وبَيْنَهَا: وهو أيضاً من الشفقة الطبيعية ولْيُرَفِّهْ عَلَی اللَّاغِبِ ولْيَسْتَأْنِ: ليرفق.

بِالنَّقِبِ: البعیر الذي رق أخفافه لكثرة المشي والظَّالِعِ: طلع البعیر غمز في مشيته ولْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ ولَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الأَرْضِ إِلَی جَوَادِّ الطُّرُقِ(1)ولْيُمْهِلْهَا فِي السَّاعَاتِ: ساعات الرواح للغاية التي ذكرها وهي أن يأتي بحال السمِن والراحة.

ولْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ: المياه القليلة والأَعْشَابِ: جمع عشب وهي البنات حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللهِ بُدَّناً: سمانًا مُنْقِيَاتٍ: التي من سّمنها يصير لها غَیْرَ مُتْعَبَاتٍ ولَا

ص: 60


1- ورد في بعض متون النهج: ولْيَرُوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ

مَجْهُودَاتٍ: التي أجهدت أو تعبت.

لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه - وآله - وسلم: أنما قال ذلك وأن كان أمراً معلوماً من حاله عليه السّلام لأنّه لمّا بالغ في الوصيّة بحالها فربّما سبق إلى بعض الأوهام الفاسدة أنّ ذلك لغرض يختصّ به يخالف الكتاب والسنّة.

ثمّ رغَّبه في ذلك بكونه أعظم لأجره عند الله وأقرب لهداه ورشده لطريق الله بقوله:

فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لأَجْرِكَ: لكونه أكثر مشقّة وأكثريّة الثواب تابعة لأكثريّة المشقّة.

وأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ: لسلوكه في ذلك عى أثره عليه السّلام واقتدائه بهداه الَّذي لم يكن عارفا به. إِنْ شَاءَ اللهُ: ذكره للتبرك.

آمُرُهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وخَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لَا شَاهِدَ غَیْرُهُ ولَا وَكِيلَ: ولا حفيظ دُونَهُ: أعلم أنه أمره عليه السّلام بأوامر بعضها يتعلَّق بأداء حقّ الله تعالى وبعضها يتعلَّق بأحوال الرعيّة والشفقّة عليهم لغاية نظام حالهم وتدبير أمورهم. فالَّذي يتعلَّق بحقّ الله تعالى أمران:

أحدهما: أن يتّقيه فيما يسرّ من أموره ويخفي من أعماله وهى التقوى الحقّة المنتفع بها.

وقوله: حيث، إشارة إلى موضع أسرار العمل وإخفاء الأمور. وأتی بقوله: لا شهید غيره ولا وكيل دونه في معرض الوعد له والتخويف باطَّلاعه تعالى على سرائر العباد وخفيّات أعمالهم وتولَّيه لها دون غيره. ونبّه بكونه هو الشهيد

ص: 61

دون غيره على عظمته مع الردّ لما عسى أن يحكم به الوهم مطلقا من أنّ السرائر والأمور الخفيّة لا يطَّلع عليها غير من هي له.

الثاني: أن يوافق في طاعته لله تعالى بين ما أظهره وما أبطنه، ويخلص أعماله الظاهرة من الرياء والسمعة، وذلك قوله: وآمُرُهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيمَا

أظَهَرَ: من حاله التخَالِفَ إِلَی غَیْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ: و [ما] في فيما بمعنى: الَّذَي ويحتمل أن تكون مصدريّة. وفيما ظهر: أي للناس من طاعة الله.

ثم رغيب فيما أمره به من عدم اختلاف السريرة والعلانية والفعل والقول بقوله:

ومَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وعَلَانِيَتُهُ وفِعْلُهُ ومَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى الأَمَانَةَ: الَّتي كلَّفها عباده على ألسنة رسله وأئمّة دينه، وظاهر كون ذلك مستلزماً لثواب الله والأمن من سخطه.

وأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ: وجه الملازمة ظاهر وأما ما يتعلق بأحوال الرعية والشفقة عليهم فمنه ما يتعلق بحال أرباب الأموال التي يتسحق عليهم، وجه الملازمة ظاهر وأمّا ما يتعلَّق بأحوال الرعيّة والشفقّة عليهم فمنه ما يتعلَّق بحال أرباب الأموال الَّتي يستحقّ عليهم الصدقة، ومنه ما يتعلَّق بأرباب الصدقة المستحقّين لها: أمّا الأوّل فقوله:

وآمُرُهُ أَلَّ يَجْبَهَهُمْ: يزجرهم ولَا يَعْضَهَهُمْ: لا يرميهم ببهتان وكذب.

ولَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ: أي وأن لا ينقبض عنهم ويترفّع عليهم تفضيلا لنفسه بالإمارة. وانتصب تفضيلاً على المفعول له.

ص: 62

فَإِنَّهُمُ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ والأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ: قياس ضمير من الشكل الأوّل يستلزم حسن الانتهاء عمّا أمر بالانتهاء عنه ووجوبه، والمذكور في قوّة صغرى، وتقدير الكبرى: وكلّ من كان أخا في الدين وعونا على استخراج الحقوق فيجب أن لا يفعل في حقّه شيء ممّا أمرت بالانتهاء عنه، وأمّا أنّهم الأعوان على استخراج الحقوق فلأنّ الحقوق المطلوبة منهم إنّما تحصل بواسطتهم، وحصولها منهم إنّما يتمّ بالشفقّة عليهم وأن لا يفعل معهم شيء ممّا نهی عنه عليه السّلام فإنّ كلّ تلك الأمور ممّا ينفّر طباعهم ويشتّت نظام شملهم ومنه يكون قلَّة مال الصدقة المستحقّة عليهم، ويحتمل أن يدخل في هؤلاء الجند أيضاً، وأمّا ما يتعلَّق بالمستحقّين للصدقة فأن يوفّيهم حقوقهم منها، وأشار إلى الحجّة على وجوب ذلك عليه بقوله: وإِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وحَقّاً مَعْلُوماً وشُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ وإِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ: الحجة على وجوب وهو في قوّة صغرى ضمير من الشكل الأوّل، وتقدیر کبراہ: وكلّ من كان له نصیب مفروض وحقّ معلوم في شيء.

فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ: وله شركاء فيه بصفة الفقر والمسكنة وهو مستوف لحقّه منه فواجب عليه أن يوفّی شرکاؤه حقوقهم: أمّا الصغرى فظاهره. وأمّا الكبرى فأشار إلى بيانها بقياس آخر من الشكل الأوّل مرکَّب من متّصلين. فأشار إلى الصغرى بقوله والکبری:

وإِلَّا فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وبُؤْسَي لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللهِ الْفُقَرَاءُ والْمَسَاكِينُ والسَّائِلُونَ والْمَدْفُوعُونَ والْغَارِمُونَ وابْنُ السَّبِيلِ: وصار تقدیر القياس وإن لا توفّهم حقّهم فإنّك ممّن خصومه أكثر الناس: أي الفقراء والمساكين وسائر الأصناف يوم القيامة، وكلّ من كان خصومه أكثر الناس وهم الأصناف

ص: 63

المذكورة فبؤساً له عند الله يوم القيامة، وينتج متّصلة مركَّبة من مقدم الصغرى وتالي الكبرى وهي إن لا توفّهم حقوقهم فبؤساً لك، وهو في معرض التهديد والتنفير له عن ظلمهم والاستبداد عليهم بشيء من الصدقة، وشركاء عطف على قوله: حقّاً معلوماً. وأهل المسكنة صفة له، وبؤساً نصب على المصدر. وأمّا الأصناف المستحقّين للصدقات فهم الثمانية المعدودة في القرآن الكريم بقوله «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ» إلى قوله «وَابْنِ السَّبِيلِ»(1)فأمّا الفقير فقال: ابن عبّاس وجماعة من المفسرين: إنّه المتعفّف الَّذي لا يسأل، والمسكين هو الَّذي يسأل وعن الأصمعي أنّ الفقير هو الَّذي له ما يأكل والمسكين هو الَّذي لا شيء له، وأمّا العاملون عليهم فهم السعاة في جباية الصدقات. ويعطيهم الإمام منها بقدر أجور أمثالهم، وأمّا المؤلَّفة قلوبهم فكانوا قوماً من أشراف العرب يتألَّفهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مبدأ الإسلام ويعطيهم سهماً من الزكاة ليدفعوا عنه قومهم ويعينوه على العدوّ کالعبّاس بن مرداس وعيينة بن الحصن وغيرهما ثمّ استغنى المسلمون عن ذلك عند قوّتهم، وأمّا في الرقاب: أي في فداء الرقاب. فقال ابن عبّاس: يريد المكاتبين وكانوا يعطون سهماً ليعتقوا به، وأمّا الغارمون فهم الَّذين لزمتهم الديون في غير معصية ولا إسراف، وأمّا في سبيل الله فهم الغزاة والمرابطون، وأمّا ابن السبيل فهو المنقطع به في السفر ويعطى من الصدقة. وإن كان غنيّاً في بلده. وقد ذكر عليه السّلام هاهنا في معرض إيجاب الشفقّة والرحمة له خمسة وهم الفقراء والمساكين ويدخل فيه السائلون ثمّ المدفوعون ويشبه أن یرید بهم العاملين عليها وسمّاهم مدفوعين باعتبار أنّهم يدفعون لجباية الصدقات أو لأنّهم إذا أتوا إلى من لا زكاة عليه فسألوه هل عليه زكاة أم لا دفعهم عن نفسه.

ص: 64


1- سورة التوبة: الآية 60

ذكرهم هنا بهذا الوصف لكونه وصف ذلّ وانقهار وكونه عليه السّلام في معرض الأمر بالشفقّة عليهم.

وقيل أراد بهم الفقراء السائلين لكونهم يدفعون عند السؤال. ثمّ الغارم وابن السبيل. وإنّما ذكر هؤلاء الخمسة أو الأربعة لكونهم أضعف حالاً من الباقين.

«ومَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ ولَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ ودِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ والْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وأَخْزَى»: يشبه أن یکون کبری قياس ضمیر احتجّ به في معرض الوعيد والتخويف من الخيانة على لزوم الذلّ والخزي له في الدارين على تقدير أن لا يوفّيهم حقوقهم وتقدير القياس وإن لا توفّهم حقوقهم تكن مستهينا بالأمانة راتعا في الخيانة غير منزّه نفسك ودينك عنها، وكلّ من كان كذلك فقد أحلّ بنفسه في الدنيا الذلّ وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وروى أخلّ بنفسه: أي ترك ما ينبغي لها، وروي أحلّ نفسه: أي أباحها. والذلّ على هاتين الروايتين مبتدأ خبره في الدنيا، والخيانة أعمّ من الغشّ وهی رذيلة التفريط من فضيلة الأمانة. والغشّ رذيلة تقابل فضيلة النصيحة وهما داخلتان تحت رذيلة الفجور «وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ وأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ والسَّلَامُ»: تنبيه على عظم الخيانة هنا.

إذ كانت خيانة كلَّيّة عامّة الضرر لأكثر المسلمين، ومستلزمة لغشّ الإمام الَّذي هو أفضل الناس وأولاهم بالنصيحة فإذا كان مطلق الخيانة ولو في حقّ أقلّ الخلق وأحقر الأشياء منهيّاً عنها ويستحقّ العقاب والخزي عليها فبالأولى مثل هذه الخيانة العظيمة وكلّ ذلك في معرض الوعيد والتنفير عن الخيانة والاستهانة بالأمانة وبالله التوفيق.

ص: 65

هذا الفصل من العهد ملتقط من كلام طويل ومداره على أمور: الأوّل: وصيّته محمّداً بمكارم الأخلاق في حقّ رعيّته، وذكر أوامر: أحدها قوله: «فَاخْفِضْ لَهُمْ

جَنَاحَكَ»: وأصله أنّ الطائر يمدّ جناحيه ويخفضهما ليجمع فراخه تحتها إيهاما للشفقّة عليها. فاستعمل كناية عن التواضع الكائن عن الرحمة والشفقّة كما قال تعالى «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(1)وقد بيّنا أنّ التواضع ملكة تحت فضيلة العفّة.

«وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ»: كناية عن الرفق في الأقوال والأفعال وعدم الغلظة عليهم والحفاوة في حقّهم في كلّ الأحوال. وهو قريب من التواضع.

«وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ»: كناية عن لقائهم بالبشاشة والطلاقة من غير تقطيب وعبوس. وهو من لوازم التواضع أيضاً.

«وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ»: اللحظة أخفّ من النظرة، وهو كناية عن الاستقصاء في العدل بينهم في جليل الأمور وحقيرها وقليلها وكثيرها.

«حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ولَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ»: بيان وجه الحكمة في أمره بالمساواة بينهم في اللحظة والنظرة على حقارتهما.

فإن قلت: فلم خصّص العظماء بالطمع في الحيف والضعفاء باليأس من العدل.

قلت: لأنّ العادة أنّ الولاة والأمراء إنّما يخصّصون بالنظرة والإقبال بالبشاشة الأغنياء والعظماء دون الضعفاء وذلك التخصيص مستلزم لطمعهم أن يحاف لهم،

ص: 66


1- سورة الحجر: الآية 88

والإعراض عن الضعفاء مستلزم لليأس من العدل في حقّهم. والضمير في قوله: عليهم. يرجع إلى العظماء الثاني: الوعيد للعباد بسؤال الله لهم عن صغير أعمالهم وكبيرها قال:

«فَإِنَّ اللهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِیرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ والْكَبِیرَةِ والظَّاهِرَةِ والْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ»: قيل المراد الظلم يحتمل أن يكون قد سميّ ما يجازيهم به من العدل ظلما مجازا لمشابهة الظلم في الكميّة والصورة كما سميّ في القصاص اعتداء كقوله «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(1)ثمّ نسب إليه فعلهم فصدق إذن أفعل التفضيل باعتبار كونهم بدؤا بالمعصية.

«وإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ»: ثم اعلمهم بما ينبغي لهم من استعمال الدنيا والتنبيه على كيفيّة استعمالها الواجب بقوله: «واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُتَّقِینَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وآجِلِ الآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ولَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي

آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ»: يقال خطبت المرأة عند زوجها أي لها دولة الخطوة المنزلة الشريفة.

«وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِیرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ولَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ»: وصف المتّقين فيها ليقتدوا، وخلاصة حالهم المذكورة أنّهم أكثر فایدة من أهل الدنيا إذ حصلوا من اللذّة في دنياهم على أفضل ما حصل لأهلها من لذّاتهم بها مع زيادة الفوز الأكبر في الآخرة بما

ص: 67


1- سورة البقرة: الآية 194

وعد فيها المتّقون، واعلم أنّ الَّذي يشير إليه من عاجل الدنيا في حق المتّقين الَّذين شاركوا أهلها فيها وحظوا به منها ممّا حظى به المترفون وأخذه الجبابرة المتكبّرون هو ما حصلوا عليه من لذّات الدنيا المباحة لهم بقدر ضرورتهم وحاجتهم کما روى عنه في صفتهم بلفظ آخر: شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباحهم في الدنيا ما كفاهم وبه أغناهم قال الله عزّ اسمه «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(1)الآية سكنوا من الدنيا بأفضل ماسكنت وأكلوها بأفضل ما أكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون وشربوا من طيّبات ما يشربون ولبسوا من أفضل ما يلبسون وتزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون وركبوا من أفضل ما يركبون أصابوا لذّة الدنيا مع أهل الدنيا وهم فيها جيران الله يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون لا يردّ لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيبا من لذّة. فأمّا وجه كونهم أكلوها على أفضل ما أكلت وسكنوها بأفضل ما سكنت فلأنّهم استعملوها على الوجه الَّذي ينبغي لهم وقد أمروا باستعمالها عليه وظاهر أنّ ذلك الوجه أفضل الوجوه، وأمّا أنّهم شاركوا أهل الدنيا في طيّباتها فظاهر، بل نقول: إنّ لذّتهم بما استعملوا منها أتمّ وأكمل، وذلك أنّ كلّ ما استعملوه منها من مأكول ومشروب ومنکوح ومركوب إنّما كان عند الحاجة والضرورة إليه، وقد علمت أنّ الحاجة إلى الشيء كلَّما كانت أشدّ وأقوى كانت اللذّة به عند حصوله أتمّ وأعلى وذلك من الأمور الوجدانيّة. فثبت إذن أنّهم حظوا منها بما حظى به المترفون وأخذوا منها أخذة الجبابرة المتكبّرين مع ما فضّلوا به من الحصول على آجل الآخرة الَّذي لم يشاركهم أهل الدنيا فيه كقوله تعالى «وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ

ص: 68


1- سورة الأعراف: الآية 32

مِنْ نَصِيبٍ»(1)وأمّا الزاد المبلَّغ لهم إلى ساحل العزّة وحضرة الجلال فهو التقوى الَّذي اتّصفوا به کما قال تعالى «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(2)وقد علمت معنی کونه زادا غير مرّة واستعار للتقوى والطاعة لفظ المتجر باعتبار کون الغاية المقصودة منها استعاضة ثواب الله المشبه للثمن، ورشّح بذكر المربح: أي المكسب للربح، وذلك باعتبار زيادة فضل ثواب الله في الآخرة على ما بذله العبد من نفسه من العمل.

وقوله: أصابوا لذّة زهد الدنيا. إشارة إلى بعض مايزود به من اللذّات في الدنيا وهو لذّة الزهد. إذ كان لهم بطرح الدنيا عن أعناق نفوسهم ووصولهم بسببه إلى ما وصلوا إليه من الكمالات العالية ابتهاجات عظيمة أجلّ وأعلى ممّا يعده المترفون والمتكبّرون لذّة وخيراً.

وهم الَّذين يحقّ لهم أن يتكبّروا على المتكبّرين؛ إذ كان الكمال الَّذي به تكبّر المتكبّرون أمرا خاليا ضعيفا بالقياس إلى الكمال الحقّ الَّذي حصل عليه هؤلاء.

وقوله: وتيقّنوا أنّهم جيران الله غدا أي يوم القيامة، وهو إشارة إلى جهة فرحهم بجوار الله والتذاذهم به المضاف إلى ما أصابوه من لذّة زهد الدنيا وتلك الجهة هي ما حصلوا عليه من اليقين بالله والوصول التامّ إليه بعد مفارقة الأبدان، وذلك معنی جواره.

وقوله: لا تردّ لهم دعوة. إشارة إلى بعض فضائلهم الَّتي انفردوا بها أيضاً المتفرّعة على کمال نفوسهم وكرامتهم عند الله اللازمة عن لزوم طاعته وهو كونهم

ص: 69


1- سورة الشورى: الآية 20
2- سورة البقرة: الآية 197

مجابي الدعوة مع ما شاركوا غيرهم فيه من تمام اللذّة في الدنيا وانفردوا به من تمامها في الآخرة.

الرابع: تحذيرهم من الموت وقربه وتنبيههم على غايته قال:

«فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللهِ الْمَوْتَ وقُرْبَهُ وأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ»: يعني أنّ ذلك الأمر قد يكون خيراً خالصاً دائماً وقد يكون شرّاً خالصاً دائما لتشتدّ الرغبة وتقوى في إكمال العدّة المستلزمة لتحصيل ذلك الخير ولدفع ذلك الشرّ، ثمّ نبّه على أنّ ذلك الخير الَّذي يأتي به الموت هو الجنّة وذلك الشرّ هو النار وأنّ المقرّب إلى كلّ منهما والمستلزم للحصول عليه هو العمل له بقوله: «فَإِنَّهُ»: الموت «يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ

وخَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَیْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَیْرٌ أَبَداً»: يعني أن ذلك الأمر قد يكون خيراً خالصاً وإيماً وقد يكون شر ثم أشار إلى أن ذلك الخير الذي يأتي به الموت هو الجنة وذلك الشر هو النار وأن المقرب إلى كل منهما والمستلزم للحصول عليه هو العمل له بقوله:

«فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَی الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا ومَنْ أَقْرَبُ إِلَی النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ»: الموت جمع طريدة وهي ما يطرد من صيد.

«إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ والدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ»: فيه تنبيه على أنّ هذا الأمر المستعقب لإحدى هاتين الغايتين العظيمتين، وهو الموت لا بدّ من لقائه ليتأكَّد الأمر عليهم بالاستعداد له. واستعار لهم لفظ الطرداء ملاحظة لشبههم بما يطرد من صيد ونحوه ولشبههه بالفارس المجدّ في الطلب الَّذي لا بدّ من إدراكه الطريدة، وظاهر أنّه ألزم لكلّ أمرء من ظله؛ إذ كان ظلّ المرء قد ينفكّ عنه حيث لا ضوء والموت

ص: 70

أمر لازم لا بدّ منه.

وقوله: والموت معقود بنواصیکم؛ كناية عن لزومه وكونه لا بدّ منه من اقتضاء: أي مشدود ومربوط بنواصيكم وذلك الربط إشارة إلى حكم القضاء الإلهي به وكونه ضروريّاً للحيوان، وإنّما خصّ الناصية لأنّها أعزّ ما في الإنسان وأشرف، واللازم لها أملك له وأقدر على ضبطه؛ ونحوه قوله تعالى «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ» واستعار لفظ الطيّ لتقضّي أحوال الدنيا وأيّامها الَّتي يقطعها الإنسان وقتاً فوقتاً ملاحظة لشبه أحوالها بما یطوی من بساط ونحوه، وظاهر أنّ ذلك الطيّ من خلفهم خلفاً خياليّاً بالنسبة إلى ما يستقبلونه من أحوالها بوجوه هممهم؛ ثمّ لمّا كرّر ذكر الموت وأكَّد لزومه بطيّ الدنيا رجع إلى التحذير من غايته بقوله: «فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وحَرُّهَا شَدِيدٌ وعَذَابُهَا جَدِيدٌ»: وصف أوصافها ليشتدّ الحذر منها وهي بعد قعرها، وممّا ينبّه علیه ما روى أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سمع هدّة فقال: لأصحابه: «هذا حجر ألقي من شفير جهنّم فهو يهوى فيها منذ سبعين خريفاً والآن حين وصل إلى قعرها»(1)، وكان ذلك إشارة إلى منافق مات في ذلك الوقت، وعمره سبعون سنة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

وشدّة حرّها كقوله تعالى «قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا»(2)وحدّة عذابها كقوله تعالى «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ»(3).

ص: 71


1- الكامل لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج 2 ص 247؛ شرح النهج: لأبن ميثم البحراني: ج 3 ص 364؛ عوالي الئالي لابن أبي جمهور الإحسائي: ج 1 ص 280؛ في التخويف من النار: لعبد الرحمن بن أحمد الحنبلي البغدادي الدمشقي: ص 47
2- سورة التوبة: الآية 81
3- سورة النساء: الآية 56

«دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ ولَا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ»: لقوله تعالى «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ٭ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ»(1).

«ولَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ»: لقوله تعالى «فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ»(2)وقوله «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ» إلى قوله «مَاكِثُونَ»(3).

«وإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللهِ وأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا»: أمر لهم بالجمع من شدّة الخوف من الله وحسن ظنّ به وهما بابان عظيمان من أبواب الجنّة كما علمته فيما سلف؛ ثمّ أشار إلى أنّهما متلازمان بقوله:

«فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً للهِ»: أراد أنّ مقدار حسن ظنّ العبد بربّه مطابق وملازم لمقدار خوفه منه وإنّ زيادته مع زيادته ونقصانه مع نقصانه.

واعلم أنّه عليه السّلام لم يجعل أحدهما علَّة للآخر بل هما معلولا علَّة واحدة مساوياً بها وهي معرفة الله.

ثمّ لمّا كانت معرفة الله تعالى مقولة بحسب الشدّة والضعف كان حسن الظنّ به ورجاؤه وشدّة الخوف منه أيضاً ممّا يشتدّ ويضعف بحسب قوّة المعرفة وضعفها إلَّا أنّ كلّ واحد منها يستند إلى ضعف من المعرفة واعتبار خاصّ يكون هو مبدأ القريب أمّا في حسن الظنّ والرجاء فأن يلحظ العبد من ربّه ويعتبر جميع أسباب نعمه على خلقه حتّى إذا علم لطائفها في حقّهم ممّا هو ضروريّ لهم كآلات

ص: 72


1- سورة المؤمنون: الآية 107 - 108
2- سورة الأنعام: الآية 44
3- سورة الزخرف: الآية 77

الغذاء، وما لهم إليه حاجة كالأظفار، وما هو زينة كتقويس الحاجبين واختلاف ألوان العينين، وبالجملة ما ليس بضروريّ علم أنّ العناية الإلهيّة إذا لم يقصر في أمثال هذه الدقائق حتّى لم يرض لعباده أن يفوتهم الموائد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقتهم إلى الهلاك الأبديّ بل إذا أراد اعتبارا في هذا الباب علم أنّه تعالى هيّأ لأكثر الخلق أسباب السعادة في الدنيا حتّى كان الغالب على أكثرهم الخير والسلامة سنّة الله الَّتي قد خلت في عباده وعلم أنّ الغالب في أمر الآخرة ذلك أيضا لأنّ مدبّر الدنيا والآخرة واحد وهو اللطيف بعباده وهو الغفور الرحيم، وحينئذ تكون الملاحظات والاعتبارات مستلزمة لحسن الظنّ وباعثة على الرجاء، ومن هذه الاعتبارات النظر في حكمة الشريعة وسببها ومصالح الدنيا، ووجه الرحمة على العباد بها، وبالجملة أن يعتبر صفات الرحمة واللطف. وأمّا في الخوف فأقوى أسبابه أن يعرف الله تعالى وصفات جلاله وعظمته وتعالیه وسطوته واستغناه، وأنّه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع، وكذلك سایر اعتبارات الصفات الَّتي يقتضى العنف وإيقاع المكاره کالسخط والغضب، ولذلك قال تعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1)وقال صلىَّ الله عليه - وآله - وسلم: «أنا أخوفكم لله»(2).

وبحسب اشتداد المعرفة بتلك الاعتبارات یکون حال الخوف واحتراق القلب؛ ثمّ يفيض أثر ذلك على البدن فيحصل التحوّل والصغار والغشية والزعقة والرعدة على الجوارح فيكفّها عن المعاصي ويقيّدها بالطاعات استدراكاً لما فرّط منه في الصفات فيفيد قمع الشهوات وتكدير اللذّات، ولاحتراق القلب

ص: 73


1- سورة فاطر الآية 28
2- أحياء علوم الدين للغزالي: ج 12 ص 4؛ جواهر الحسان في تفسير القرآن (تفسير الثعالبي: ص 578؛ وشرح النهج لابن میثم البحراني: ج 4 ص 427

بالخوف يحصل له ذبول، وذلَّة يفارقه معها كثير من الرذائل کالكبر والحسد والحقد والبخل وغيرها. ثمّ إنّ الجمع بينهما يستلزم كثيرا من الفضائل، وذلك أنّ معرفة الله تعالى واليقين به إذ حصل هيّج الخوف من عقابه والرجاء لثوابه بالضرورة، وهما يفيدان الصبر إذ حفّت الجنّة بالمكاره فلا صبر على تحمّلها إلَّا بقوّة الرضا، وحفّت النار بالشهوات فلا صبر على قمعها إلَّا بقوّة الخوف، ولذلك قال عليّ عليه السّلام: من اشتاق إلى الجنّة سلَّي عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات. ثمّ يؤدّی مقام الصبر إلى مقام المجاهدة والتجرّد لذكر الله ودوام الفكر فيه وهي مؤدّية إلى کمال المعرفة المؤدّي إلى الأُنس المؤدّي إلى المحبّة المستلزمة لمقام الرضا والتوكَّل، إذ من ضرورة المحبّة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته. ولمّا ثبت أنّهما معلولا علَّة واحدة ثبت أنّهما متلازمان وليسا بمتضادّين وإن ظنّ ذلك في ظاهر الأمر بل ربّما غلب أحدهما على الآخر بحسب غلبة أسبابه فيشتغل القلب به ويغفل عن الآخر فيظنّ أنّه يعانده وينافيه، ولذلك أتی علیه السّلام هنا بأن المقتضية للشكّ في استطاعتهم للجمع بينهما؛ ثمّ نبّهه على إحسانه إليه بتوليته أعظم أجناده ليتبنى عن التذكير بتلك النعمة ما يريد أن يوصیه به فقال:

«واعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي»: جمع جند «فِي نَفْسِيِ أَهْلَ مِصْرَ»: بدل من أعظم ثم نبه على ما ينبغي له يقوله:

«فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ»: جدير «أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ»: الأمّارة فيما تأمر به من السوء والفحشاء وسائر مناهي الله إلى ما يحكم به العقل والشرع من طاعته.

«وأَنْ تُنَافِحَ»: يخاصم «عَنْ دِينِكَ »: ويجاهد شياطين الأنس والجن عنه «ولَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ ولَا تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ»: أي لا تجعل الله ساخطاً «فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً»: عوضاً «مِنْ غَیْرِهِ، ولَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَیْرِهِ»:

ص: 74

احتجاج على وجوب مراعاة رضاه تعالى دون غيره بقياس ضمير من الأوّل المذكور في قوّة صغرى. وتقدير الكبری: وكلَّما كان في الله خلف عن غيره وليس في غيره خلف منه فالواجب اتّباع رضاه وأن لا يسخط برضا غيره.

«صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ»: المعين «لَهَا»: واللام للتخصيص عنها بغيرها فأنها أسم من كل شغل وأولى.

(1)«واعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شْيَءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ»: والمراد أنّ الإنسان إذا حافظ على صلاته وأتی بوظائفها في أوقاتها يوشك أن يكون على غيرها أولى بالمحافظة وإذا تساهل فيها فهو في غيرها أكثر تساهلا، وذلك أنّها عمود الدين وأفضل العبادات کما روى عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وقد سئل عن أفضل الأعمال فقال: «الصلاة لأوّل وقتها»(2)، وقال صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم: «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فمن تمّت صلاته سهل عليه غيرها من العبادات ومن نقصت صلاته فإنّه يحاسب عليها وعلى غيرها»(3). واعلم أنّه ذكر أمر الصلاة في هذا العهد بكلام طويل هدّه السيّد رحمه الله وفيه بيان حال الصلاة ولواحقها وأوّله أنّه قال: وانظر إلى صلاتك كيف هي فإنّك إمام لقومك إن تتمّها أو تخفّفها. فليس من إمام يصلَّى بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلَّا كان عليه ولا

ص: 75


1- ورد في بعض متون النهج: ولاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ ولاَ تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاِشْتِغَالٍ
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 374؛ سنن الترمذي: ج 1 ص 111؛ غريب الحديث: لأبن قتيبة الدينوري ج 1 ص 83؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 1 ص 189؛ السنن الكبرى لاحمد بن الحسين البيهقي: ج 1 ص 434؛ سنن الدارقطني: ج 5 ص 336؛ والدعوات (سلوة الحزين): ص 28
3- سنن النسائي: ج 1 ص 144؛ المقنعة للشيخ الصدوق: ص 73؛ منتهى المطلب للعلامة الحلي: في ج 1 ص 193؛ عوالي الليالي لأبن أبي الجمهور الأحسائي: ص 318

ينقص من صلاتهم شيء وإن تتمّها بحفظ فيها یکن لك مثل أجورهم ولا ينقص به ذلك من أجورهم شيئا. وانظر إلى الوضوء فإنّه من تمام الصلاة تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا، واغسل وجهك، ثمّ يدك اليمنى، ثمّ اليسرى، ثمّ امسح رأسك ورجليك فإنّي رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يصنع ذلك.

واعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان. ثمّ ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ولا تعجّل بها قبله لفراغ ولا تؤخّرها عنه لشغل فإنّ رجلا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن أوقات الصلاة فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أتاني جبرئیل فأراني وقت صلاة الظهر حين زالت الشمس وكانت على حاجبه الأيمن، ثمّ أراني وقت العصر وكان ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ صلَّى المغرب حين غربت الشمس، ثمّ صلَّى العشاء الأخيرة حين غابت الشمس، ثمّ صلَّى الصبح فأغلس بها والنجوم مشتبكة»(1). فصلّ بهذه الأوقات والزم السنّة المعروفة والطريق الواضح. ثمّ انظر رکوعك وسجودك فإنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان أتمّ الناس صلاتهم وأخفّهم عملا فيها، واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك فمن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع. أسأل الله الَّذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا وإيّاك ممّن يحبّ أن يرضى حتّى يعيننا وإيّاك على شكره وذكره وحسن عبادته وأداء حقّه وعلى كلّ شيء اختار لنا في دينناً ودنياناً وآخرتناً.

«ومن هذا العهد أيضاً فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وإِمَامُ الرَّدَى ووَلِيُّ النَّبِيِّ وعَدُوُّ النَّبِيِّ»: أراد بالأولين نفسه القدسية وبالآخرين معاوية ولَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه - وآله - وسلم «إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً ولَا مُشْرِكاً أَمَّا الْمُؤْمِنُ

ص: 76


1- الغارات لمحمد الثقفي: ج 1 ص 249؛ الأمالي للشيخ المفيد: ص 268؛ وكذلك الأمالي للشيخ الطوسي في أماليه: ص 30؛ وشرح نهج البلاغة: لأبن ميثم البحراني: ج 4 ص 249

فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ وأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللهُ بِشِرْكِهِ» ما دام مشركاً متظاهراً وخاف لظهور الإسلام وغلبة المسلمين واتفاقهم على مجانبته ومعاداته وعدم ألإصغاء إلى ما يقول:

ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ عَالِمِ اللِّسَانِ: يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ»: ووجه المخافة منه أنّ مخالطته لأهل الإسلام مع إظهاره له يكون سبباً لإصغائهم إليه ومجالستهم له والاغترار بما يدّعيه من صدق صداقه.

وعلمه اللسانيّ وقدرته على الشبه المضلَّة وتنميتها بالأقوال المزّوقة يكون سبباً لانفعال كثير من عوامّ المسلمين وفتنتهم عن الدين واعلم أن هذا الفصل متصل بقوله: حدثنا من فضل الصلاة وأوله: وأنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم وسرّکم علانيتكم.

ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم إنّه لا يستوي. إلى قوله: تنكرون؛ ثمّ يتّصل به یا محمّد بن أبي بكر اعلم أنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته وإنّي أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيتك وعلى أيّ حال كنت عليه: الدنيا دار بلاء ودار فناء، والآخرة دار الجزاء ودار البقاء؛ فاعمل لما يبقى واعدل عمّا يفنی، ولا تنس نصيبك من الدنيا: إنّي أوصيك بسبع هي جوامع الإسلام: أخش الله عزّ وجلّ في الناس ولا تخش الناس في الله، وخير العلم ما صدّقه العمل، ولا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف أمرك وتزوغ عن الحقّ وأحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك وأكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة وأصلح للرعيّة، وخض الغمرات إلى الحقّ ولا تخف في الله لومة لائم وأنصح المرء إذا استشارك واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم جعل الله مودّتنا في الدين وخلَّتنا إيّاكم وخلَّة المتّقين وأبقى لكم حتّى يجعلنا بها

ص: 77

إخواناً على سرر متقابلين.

أحسنوا أهل مصر موازرة أميركم وأثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيّكم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أعاننا الله وإيّاكم على ما يرضيه.

والسلام علیکم ورحمة الله وبركاته.

قوله: واخش الله في الناس أي فيما تفعله بهم من شر تعصيه به ولا تخش الناس في الله أي لا تخف أحداً منهم ولا تراقبه فيما تفعله من طاعة الله فيعتدل عن طاعته لخوفك منهم وبالله التوفيق.

واعلم أن هذا الكتاب ملتقط من كتاب ذكر السيّد منه فصلاً سابقاً، وهو قوله: فأراد قومنا إهلاك نبيّنا، وقد ذكرنا کتاب معاوية الَّذي هو هذا الكتاب جواب له، وذكرنا الكتاب له بأسره هناك، وإن كان فيه اختلاف ألفاظ يسيرة بين الروايات.

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللهِ مُحَمَّداً لِدِينِهِ؛ وتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَقَدْ خَبَّأَ» ستر «لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً»: استعار الجني لما ستره الدهر في وجود معاوية من العجب ثم فسره فقال:

«إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللهِ تَعَالَی عِنْدَنَا ونِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَی هَجَرَ أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَی النِّضَالِ»: اعلم أن وجه العجب ها هنا أنّه أخبر أهل النبيّ بحال النبيّ وما أنعم الله به عليه من اصطفائه له لدينه وتأييده بأصحابه مع علمهم البالغ بحاله وكونهم أولى بالإخبار عنها. وضرب له في ذلك مثلين:

ص: 78

أحدهما: قوله: كناقل التمر إلى هجر، وأصل هذا المثل أنّ رجلا قدم من هجر إلى البصرة بمال اشتری به شيئا للربح فلم يجد فيها أكسد من التمر فاشتری بماله تمرا وحمله إلى هجر، وادّخره في البيوت ينتظر به السعر فلم يزدد إلَّا رخصا حتّی فسد جميعه وتلف ماله فضرب مثلاً لمن يحمل الشيء إلى معدنه لينتفع به فيه، ووجه مطابقة المثل هنا أنّ معاوية حمل الخبر بما أخبر به إلى معدنه الَّذي هو أولى به منه كحامل التمر إلى معدنه. وهجر معروفة بكثرة التمر حتّى أنّه ربما يبلغ خمسين جلَّة بدينار ووزن الجلَّة مائة رطل، فذلك خمسة ألف رطل ولم يسمع مثل ذلك في بلاد أخرى.

ثم شبّه بداعي مستندّة أولى به منه کما يدعوا الإنسان مسدده، واستناده في الرمي إلى المراماة، ومسدده أولى بأن يدعوه إليه، ولما كان معاوية اقتصّ حال أصحابه وذكر الأفضل؛ فالأفضل منهم تعرّضاً بأفضليّتهم عليه لعدم مشاركتهم له في الفضل أجابه بأنّ ذلك التفضيل والترتيب إنما يتمّ أولاً، فإن تمّ فهو بمعزل عنك.

إذ ليس لك نصيب ولا شرك في درجاتهم ومراتبهم وسابقتهم في الإسلام فيكون إذن خوضك فيه خوضاً فيما لا يعنيك، وإن نقص فليس عليك من نقصانه عار ولا يلحقك منه وهن. فخوضك فيه أيضاً فضول.

وإلى ذلك أشار عليه السلام بقوله:

«وزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الإِسْلَامِ فُلَانٌ فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ»: ثم استفهم على سبيل الاستحقار والإنكار عليه أن يخوض على صغر شأنه وحقارته في هذه الأمور الكبار بقوله:

ص: 79

«ومَا أَنْتَ والْفَاضِلَ والْمَفْضُولَ والسَّائِسَ»: المدبر للأمور «والْمَسُوسَ ومَا لِلطُّلَقَاءِ وأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ والتَّمْيِيزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِینَ وتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وتَعْرِيفَ

طَبَقَاتِهِمْ»: والمنقول أنّ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم حين فتح مكة قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم قالوا خير أخ کریم وابن أخ كريم قال أذهبوا فأنتم الطلقاء وقد كان فيهم معاوية وأبوه سفيان فهو طليق وابن طليق.

«هَيْهَاتَ» استبعاد لأهليّته لمثل هذا الحكم وترتیب طبقات المهاجرين في الفضل.

ثمّ ضرب له في حكميه ذلك مثلين:

أحدهما: قوله: «لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا»: (ها) راجعة إلى القداح وأصله أنّ أحد قداح الميسر.

إذ كان ليس من جوهر باقي القداح؛ ثمّ أجاله المقصر خرج له صوت يخالف أصواتها فيعرف به أنّه ليس من جملتها فضرب مثلاً لمن يمدح قوماً ويطريهم ويفتخر بهم مع أنّه ليس منهم الثاني قوله: «وطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا»: فضرب لمن يحكم على قوم وفيهم وهو من أراذلهم، وليس للحكم بأهل بل هم أولى منه؛ إذ شأن الأشراف أن يكونوا حكَّاما. ومراده أنّ معاوية ليس من القوم الَّذين حكم بتفضیل بعضهم على بعض في شيء، وليس أهلا للحكم فيهم.

«أَلَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ»: استفهام على سبيل التنبيه له على قصوره عن درجة السابقين والتقريع له على ادّعائه لها: أي أنّه فليترفّق بنفسك ولا يكلَّفها عليه وليقف بها عن مجاراة أهل الفضل حال ظلعك.

إشارة إلى مرتبة النازلة إلى حرى القدر بها أن يكون نازلة عن مراتب السابقين

ص: 80

وقد أمره بالتأخّر فيها والوقوف عندها تقريعاً وتوبيخاً بها؛ فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ ولَا ظَفَرُ الظَّافِرِ(1): في قوّة احتجاج على وجوب تأخّره بحسب هذه المرتبة بقياس ضمير من الشكل الأوّل، والمذكور في قوّة صغراه وتقديرها: فغلب المغلوب في هذا الأمر الكبير ليس عليك منه شيء، وتقدير الكبرى وكل من كان كذلك فيجب تأخّره عنه واعتزاله إيّاه وإلَّا لكان سفيها بدخوله فيما لا يعنيه.

«فإِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ كبير الذهاب»: والتوغَّل في الضلال عن معرفة الحقّ.

«رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ»: أي كثير العدول عن العدل والصراط المستقيم في حقّنا وعن الفرق بيننا وبينكم ومعرفة فضائلنا ورذائلكم؛ ثمّ نبّهه على وجه الفرق بينهم وبين من عداهم من المهاجرين والأنصار بذکر أفضليّة بيته الَّتي انفردوا بها دونهم في الحياة وبعد الممات بعد أن قرّر أنّ لكلّ من الصحابة فضلا لتثبت الأفضليّة لبيته بالقياس إليهم، وذلك قوله:

«أَلَا تَرَى غَیْرَ مُخْبِرٍ لَكَ ولَكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً»: منصوب على الحال وذو الجار مقدر وهو هو عليه السلام أي لا تعلم ولا يتخذ في هذه الحال أن قوماً.

«مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ اسْتُشْهِدُوا»: فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَی «ولِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِیرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ أَولَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ولِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وذُو الْجَنَاحَیْنِ»: وشهیدهم الَّذي أشار إليه عمّه حمزة بن عبد المطَّلب رضي الله عنه وأشار إلى وجه أفضليّته بالنسبة إلى سائر الشهداء من وجهين:

ص: 81


1- ورد في بعض متون النهج: وتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ

أحدهما: قوليّ وهو تسميته الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم سيّد الشهداء.

والثاني: فعليّ وهو أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خصّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه في أربع عشرة صلاة، وذلك أنّه كان كلَّما كبّر عليه خمسا حضرت جماعة أخرى من الملائكة فصلَّى بهم عليه أيضا، وذلك من خصائص حمزة رضي الله عنه وشرف بنی هاشم في حياتهم وموتهم، ومنه أفضليّتهم لما فعل ببعضهم من التمثيل به کما فعل بأخيه جعفر بن أبي طالب من قطع يديه فسمّاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك الاعتبار ذا الجناحين والطيّار في الجنّة. ومن المنقول عن عليّ عليه السّلام من الشعر فيه والفخر إلى معاوية:

وجعفر الَّذي يضحى ويمسي ٭٭٭ يطير مع الملائكة ابن أُمّي

وقد ذكرنا مقتلهما وقاتلها من قبل. ثمّ أشار إلى أنّ له فضائل جمّة تعرفها فيه قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذانهم، وإنّما ترك تعدیدها في الفخر بها قال:

«ولَوْ لَمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً»: یعنی بالذاكر نفسه وإنّما نکَّره ولم يأت بالألف واللام ولم ينسبه إلى نفسه لأنّ في ذلك صريح الدلالة على تزكيته لنفسه.

«تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِنَ ولَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ»: استعار المجّ لكراهيّة النفس لبعض ما تكرّر سماعه وإعراضها عنه فإنّها تصير كالقاذف له من الأُذن کما يقذف الماجّ الماء.

«فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ»: أي فدع عنك أصحاب الأغراض والمقاصد المفسدة ولا تلتفت إلى ما يقولون في حقّنا كعمرو بن العاص، ويحتمل أن تكون

ص: 82

الإشارة إليه بعينه على طريقة قولهم: إيّاك أعني فاسمعي يا جارة. واستعار لفظ الرميّة، وكنّي بها عن الأمور الَّتي تقصدها النفوس وترميها بقصودها، ونسب الميل إليها لأنّها هي الجاذبة للإنسان والمائلة الحاملة على الفعل.

«فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا»: تنبيه من وجه آخر على أفضليّتهم من جهة اختصاص الله سبحانه إيّاهم بالنعمة الجزيلة، وهى نعمة الرسالة وما يستلزمه من الشرف والفضل حتّى كان الناس عيالا لهم فيها، إذ كانت تلك النعمة ولوازمها إنّما وصلت إلى الناس بواسطتهم ومنهم. وأكرم بها فضيلة وشرفا على سایر الخلق. وهذا التشبيه في قوّة صغرى من الشكل الأوّل في معرض الافتخار والاحتجاج على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعارضهم في شرف أو يفاخرهم وينافسهم في فضيلة وبواسطته فلا ينبغي لأحد من الناس أن يعارضه في فضل أو يجاريه في شرف، ويجوّز المَجَاز(1)، يقال: فلان صنيعة فلان. إذا اختصّه لموضع نعمته كقوله تعالى «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي»(2).

«لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا ولَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وأَنْكَحْنَا فِعْلَ الأَكْفَاءِ ولَسْتُمْ هُنَاكَ»: امتنان في معرض الافتخار أيضاً.

وعاديّ منسوب إلى عاد قوم هود، والنسبة إليه كناية عن القدم، ووجه الامتنان هو أنّهم لم يمتنعوا على فضلهم عليهم من خلطهم إيّاهم بأنفسهم في مناكحتهم، وفعل الأكفاء منصوب على المصدر عن فعل مضمر.

وقوله: هناك كناية عن مرتبة الكفاءة في النكاح: أي ولستم أهلا لتلك المرتبة،

ص: 83


1- بمعنی يجوز اللفظ على نحو المجاز لا على نحو الحقيقة
2- سورة طه: الآية 41

والواو في ولستم للحال والعامل خلطناکم. ثمّ أشار إلى بيان ما ادّعاه من نفی كونهم أهلا لمخالطتهم بالمقابلة بين حال بنی هاشم وحال بني أُميّة ليظهر من تلك المقابلة رذيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بني أُميّة بإزاء فضيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بني هاشم قال:

«وأَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ ومِنَّا النَّبِيُّ ومِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ»: أبو جهل بن هشام. وقيل: ابو سفیان وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» الآية(1)قيل نزلت في المطلبين ببدر، وكانوا عشرة وهم:

أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحرث، والحرث بن عامر، وأبيّ بن خلف، وزمعة بن الأسود؛ فذكر النبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم بفضيلته وهي النبوّة وذكر أبا جهل برذيلته وهي تكذيبه أنما جعله منهم لاشتراكهم في الشرك ومقابلة الإسلام في أوله.

«ومِنَّا أَسَدُ الله»: وهو حمزة بن عبد المطَّلب وسمّاه رسول الله صلَّى الله عليه - وآله وسلَّم بذلك لشجاعته وذبّه عن دين الله.

«ومِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلَافِ»: هو أسد بن عبد العزّى والأحلاف هم عبد مناف وزهرة وأسد وتیم والحرث بن فهر، وسمّوا الأحلاف لأنّ بني قصيّ أرادوا أن ينتزعوا بعض ما كان بأيدي بني عبد الدار من اللواء والنداوة والحجابة والرفادة وهي كلّ شيء كان فرضه قصيّ على قريش لطعام الحاجّ في كلّ سنة ولم يكن لهم إلَّا السقاية فتحالفوا على حربهم وأعدّوا للقتال ثمّ رجعوا عن ذلك ناكصين وأقرّوا

ص: 84


1- سورة المزمل: الآية 11

ما كان بأيديهم.

«ومِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»: الحسن والحسين عليهما السّلام.

«ومِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ»: وقيل: هم صبية عقبة بن أبي معيط حيث قال: له ولك ولهم النار.

وقيل: هم ولد مروان بن الحكم الَّذين صاروا أهل النار عند البلوغ وكانوا صبية حين أخبر عليه السّلام بذلك.

«ومِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ»: فاطمة عليها السّلام «ومِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ»: وهي أُمّ جميل بنت حرب عمّة معاوية كانت تحمل حزم الشوك فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لتعقره.

وعن قتادة أنّها كانت تمشي بالنميمة بين الناس فتلقى بينهم العداوة وتهيج نارها كما توقد النار بالحطب فاستعير لفظ الحطب لتلك النميمة للمشابهة المذكورة.

«فِي كَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وعَلَيْكُمْ»: أي هذا الذي ذكرناه من فضائلنا ورذائلكم قليل في كثير ممّا لنا من الفضائل وعلیکم من الرذائل. قال: عليكم من الرذائل. لأنّ الأمور بثمراتها وما تستلزمه وثمرة الرذائل على الشخص مضرّتها وتبعاتها.

«فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وجَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ»: فيه إشارة إلى أنّ شرف بيته لا يختصّ بالإسلام فقط فإنّ شرف بنی هاشم في الجاهليّة أيضاً مشهور ومکارم أخلاقهم لا يدفعها دافع، وقد نبّهنا على ذلك في المقدّمات، وكما نقل عن جعفر بن أبي طالب لمّا أسلم قال له النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ الله شكر لك

ص: 85

ثلاث خصال في الجاهليّة فما هي قال: يا رسول الله ما زنیت قطَّ لأنّي قلت في نفسي: إنّ ما لا يرضاه العاقل لنفسه لا ينبغي أن يرضاه لغيره تكرّماً، ولا كذبت كذبة قطَّ تأثّما، ولا شربت الخمر قطَّ تذممّا لأنّه يذهب العقول»(1).

«وكِتَابُ اللهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ»: ذهب وتفرق. «عَنَّا»: أي يوجب لنا تصریح حكمه ويجمع لنا ما شذّ عنّا من هذا الأمر وسبلنا وهو قوله تعالى «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(2)ووجه الاستدلال أنّه عليه السّلام من أخصّ أولى الأرحام بالرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكلّ من كان كذلك فهو أولى به وبالقيام مقامه مع کمال استعداده لذلك أمّا الصغرى؛ فظاهرة، وأمّا الكبرى فللآية.

الثانية: وهي قوله تعالى «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» الآية(3)، ووجه الاستدلال أنّه عليه السّلام كان أقرب الخلق إلى اتّباع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأوّل من آمن به وصدّقه وأفضل من أخذ عنه الحكمة، وفصل الخطاب کما بیّناه، وكلّ من كان كذلك فهو أولى بخلافته والقيام مقامه فيما جاء به الآية؛ فظهر إذن أنّه عليه السّلام أولى برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبمنصبه تارة من جهة قرابته وتارة من جهة طاعته واتّباعه.

وإلى ذلك أشار بقوله:

ص: 86


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 4 ص 441؛ كذلك شرح النهج لقطب الدين الراوندي: ص 78
2- سورة الأنفال: الآية 57
3- سورة آل عمران: الآية 68

(1)«فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلیَ بِالْقَرَابَةِ وتَارَةً أَوْلیَ بِالطَّاعَةِ»: ثم الجمهم بلجام لا الزام بقوله:

«ولَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه - وآله - وسلم فَلَجُوا»: ظفروا «عَلَيْهِمْ فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ»: أي بالمهاجر «فَالْحَقُّ

لَنَا دُونَكُمْ وإِنْ يَكُنْ بِغَیْرِهِ فَالأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ»: وصورته أنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة لأنفسهم وقالوا للمهاجرين: منّا أمير ومنكم أمير. احتجّت المهاجرون عليهم برسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم وأنّهم من شجرته الَّتي أشار إلى کون الأئمّة منها بما رووه عنه من قوله: الأئمّة من قريش؛ فسلَّموا لهم ذلك وغلبوا عليهم؛ فلا يخلو ذلك الغلب إمّا أن يكون لكونهم؛ أقرب إليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الأنصار أو لغير ذلك، فإن كان الأوّل فأهل بيته أولى بذلك الحقّ لأنّهم أقرب إليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ممّن عداهم وهم ثمرة تلك الشجرة وغايتها وإن كان بغيره فحجّة الأنصار قائمة ودعواهم للإمامة باق، إذ لم يكن ما رووه من الخبر دافعا لقولهم إلَّا من جهة كونهم من قريش الموجب لهم لقربهم وبعد الأنصار عنه وقد فرض أنّ جهة الأقربيّة غير معتبرة هاهنا.

ثم أجابه عمّا ادّعاه بزعمه من حسده عليه السّلام لسایر الخلفاء وبغيه عليهم بقوله:

«وزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ

ص: 87


1- وهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی: «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» سورة الأنفال: الآية 75، وقَوْلُهُ تَعَالَی: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» سورة آل عمران: الآية 68

فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ؛ (وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا)(1)»: تقرير هذا الجواب أنّه لا يخلو إمّا أن تكون هذه الدعوى صادقة أو كاذبة فإن كانت صادقة کما زعمت فليست جنایتي عليك حتّی یکون عذري عنها إليك بل ذلك فضول منك وخوض فيما لا يعنيك، وأكَّد ذلك بالمثل. والبيت لأبی ذويب وأوّله: وعيرها الواشون أني أحبها ويضرب لمن ينكر أمراً ليس منه في شيء ولا يلزمه انكاره؛ ثم اجابه عما أدعاه توبیخاً له وعضاضة من منصبه وهو قوده إلى البيعة للخلفاء قبله کما یعاد الجمل المخشوش قهراً وكرهاً وذلالاً.

بقوله: «إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ»: أي الذي جعل في خشاش وهو يدخل في أنفه البعير.

(2)«ولَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ»: قلت عليه السّلام تلك الدعوى وبيّن أنّ ذلك ليس ذمّاً له بل مدحاً، ولا فضيحة بل على مدّعيها، وأشار إلى كونها مدحا وليست ذمّا بقوله:

«ومَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكَّاً فِي دِينِهِ ولَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ»: وجه ذلك أنّه عليه السّلام لمّا كان ثابتاً على اليقين التامّ في علومه مبرّء عن الريب والشبهة في دينه فكان ذلك هو الكمال الحقّ والفضل المبين الَّذي لا نقصان معه لم يكن عليه غضاضة في ظلم غيره له ولم يلحقه بذلك نقصان ولا ذمّ بل كان انفراده بالثبات على الدين الخالص مع الاجتماع على ظلمه فضيلة تخصّه فیکون ذكرها مستلزما لمدحه وتعظيمه، وكذلك ليس في ذكرها فضيحة

ص: 88


1- ما بين هلالين عجز بيت من الشعر وصدره: وعيّرها الواشون أنّي أُحبّها ٭٭٭ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
2- ورد في بعض متون النهج: حَتَّى أُبَايِعَ

عليه، إذ الفضيحة هي إظهار عيب الإنسان ونقصه وحيث لا عيب فلا فضيحة وأمّا أنّها فضيحة لمعاوية فلظهور نقصانه في عدم الفرق بين ما يمدح به ويذمّ.

«وهَذِهِ حُجَّتِي إِلَی غَیْرِكَ قَصْدُهَا ولَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ لي»: أي حجّتي هذه على كوني مظلوماً في أخذي لبيعة لست أنت المقصود بها إذ لست في هذا الأمر في شيء فتخاطب فيه بل القصد بها غيرك، وأراد الَّذين ظلموا وإنّما ذكرت لك منها بقدر ما دعت الحاجة إليه وسنح لي أن أذكره في جوابك ثم أشار إلى جواب ما أدعاه عليه في أمر عثمان في قوله: «ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وأَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ»: مع إنكاره علیه ما سبق من الكلام فإنّ فيه إرشاداً عظیماً لوضع الكلام مواضعه، وتنبيه على أنّه لا يجوز أن يخوض الإنسان فيما لا يعنيه. وقرب رحمه منه لكونه من بني أُميّة، وحاصل جوابه أنّه عکَّس علیه ما ادّعاه وبيّن أنّه هو الَّذي كان عدوّه وخاذله فإنّه عليه السّلام كان ناصره ومعرض نفسه للذبّ عنه ثم استفهم فقال: أيّهما كان أعدى عليه وأهدی كمقاتله: أي إلى وجوه قتله من وراء الجند استفهام توبيخ له.

(1)«أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصَرْتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ»: طلب قعوده في بيته «واسْتَكَفَّهُ»: طلب كفه ودفعة أراد بمن نفسه القدسية وذلك أن عثمان كان متّهماً له عليه السّلام بالدخول في أمره. فلمّا اشتدّ عليه الحصار بعث إليه وعرض عليه نصرته.

فقال: لا أحتاج إلى نصرتك لكن اقعد عنّي وكفّ شرّك. وذكر نفسه بصفة بذل النصرة ليظهر خروجه ممّا نسب إليه من دمه وهو في قوّة صغرى قياس ضمير تقديرها: إنّي بذلت له نصرتي وتقديرها: أني قد بذلت له نصرتي لغيره

ص: 89


1- ورد في بعض متون النهج: فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وأَهْدَى إِلیَ مَقَاتِلِهِ

نصرته فليس من شأنه أن يتّهم بخذلانه وينسب إلى المشاركة في دمه، وأشار إلى دخول معاوية في دمه بقوله:

«أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ»: تأخر عن نصرته.

«وبَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ»: وذلك أنّه بعث حال حصاره إلى الشام مستصرخاً بمعاوية فلم يزل يعده ويتراخي عنه لطمعه في الأمر إلى أن قتل. وذكر القدر ونسبة القتل إليه هاهنا مناسب لتبرّيه من دمه، والكلام أيضاً في قوّة صغری قیاس ضمیر احتجّ به على أنّ معاوية هو الساعي في قتله، وتقديرها أنّك ممّن استنصره واستعان به فسوّفه وقعد عنه وبثّ المنون إليه وعوّق وعنه وثبّط عن نصرته، وأشار إلى ذلك بعد أن رد دعواه عن نفسه بقوله: «كَلَّا»: بقوله(1)«واللهِ لقد علم الْمُعَوِّقِیَن»: المنافقين مِنْكُمْ «وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ»(2): لا تحصرون القتال في سبيل الله «إِلاَّ قَلِيلاً»: مقصوده کلاَّ: أي كلاَّ لم أكن أنا أعدى عليه ولا أهدى لمقاتله منك. وتقدير الكبری: وكلّ من كان كذلك فهو أولى بالنسبة إلى دمه والسعي في قتله. والآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يثّبطون أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عنه.

«ومَا كُنْتُ لأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً»: إشارة إلى ما عساه كان سبا لتوهّم كثير من الجهّال أنّه دخل في دمه وهو إنكاره عليه ما كان نقمه الناس عليه من أحداثه الَّتي أشرنا إليها قبل، وبيان أنّ ذلك ليس ممّا يعتذر عنه لأنّ ذلك كان إرشادا له وهداية فإن يكن ذلك هو الَّذي توهّمه ذنباً إليه فلا منی علیه فربّ ملوم لا ذنب له وأنا ذلك الملوم، إذ لم يكن ما فعلته ذنباً وهذا معنى قوله:

ص: 90


1- ورد في بعض متون النهج: واللهِ قَدْ يَعْلَمُ الله
2- سورة الأحزاب: الآية 18

«فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وهِسدَايَتِي لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ»: يضرب مثلا لمن يبالغ في النصيحة حتّى يتّهم أنّه غاش.

وأول البيت:

وكم سقت في آثاركم من نصيحة ٭٭٭ وقد يستفيد الظنّة المتنصّح

«ومَا أَرَدْتُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ»: أي إصلاح ذات البین بقدر الاستطاعة؛ ثم أجاب عن وعيده له بالحرب التي كنى

بالسيف عنها مذكر له بقوله: «وذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي ولأَصْحَابِي(1)إِلاَّ السَّيْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ»: كناية عن أنّ وعيده لمثله عليه السّلام من أبلغ الأسباب المستلزمة لأبلغ عجب.

إذ كان الضحك بعد البكاء إنّما يكون لتعجّب بالغ غريب وهو كالمثل في معرض الاستهزاء به وقيل: معناه لقد أضحك من سمع منك هذا تعجّباً بعد

بكائه على الدين لسوء تصرفك فيه يا معاوية.

«مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الأَعْدَاءِ نَاكِلِینَ وبِالسَّيْفِ مُخَوَّفِینَ»: استفهام له عن وقت وجدانه لبني عبد المطَّلب بصفة النكول عن الحرب والخوف من

السيف استفهام إنكار لوقت وجدانهم كذلك في معرض التنزيه لهم عن الجبن

والفشل.

«لَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ»: تنبيه لا بأس بالموت إذ الموت نزل وهذا مثل تضرب للوعيد بالحرب واصله أن حمل بن زيد رجل من قشیر أغیر على إبل

ص: 91


1- ورد في بعض متون النهج: عِنْدَكَ

في الجاهليّة في حرب داحض والغبراء واستنقذها وقال: لبّث قليلاً يلحق الهيجا حمل.

وقيل: أصله أنّ مالك بن زهير توعّد حمل بن بدر:

فقال حمل هذا البيت:

لبّث قليلاً يلحق الهيجا حمل ٭٭٭ ما أحسن الموت إذ الموت نزل

فأرسل مثلاً. ثم قتل مالكا، فظفر أخوه قيس بن زهیر به وبأخيه حذيفة ففتلهما وقال:

شفيت النفس من حمل بن بدر ٭٭٭ وسيفي من حذيفة قد شفاني

ثم شرع في المقابلة بالوعيد بالسير الشديد إليه في الجيش العظيم، ووصفه بأوصاف تزلزل أركان العدوّ من شدّة الزحام وسطوح القيام.

فقال: عليه التحية والإكرام.

«فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ ويَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ، وأَنَا مُرْقِلٌ»: متسرع نَحْوَكَ «فِي جَحْفَلٍ»: جيش عظيم«مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ والتَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِيدٍ زحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ»: مرتفع غبارهم مُتَسَرْبِلِینَ: لا بسین سَرَابِيلَ الْمَوْتِ: ثيابه

كناية إمّا عن الدرع أو العدّة الَّتي يلقون بها الموت ويخوضون في غمراته، وإمّا عن ملابسهم من الثياب أو الهيئات والأحوال الَّتي وطَّنوا أنفسهم على القتل فيها

كالأكفان لهم.

ص: 92

«أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ»: وإنّما كان أحبّ لكمال يقينهم بما هم عليه من الدين الحقّ وثقتهم بالوعد الإلهيّ الصادق.

«وقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ»: إشارة إلى أولاد من كان من المسلمين مع النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوم بدر.

«وسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ»: آثار «نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ»: حنظلة بن أبي سفيان «وخَالِكَ»: وليد بن عتبة «وجَدِّكَ»: وجدّك عتبة بن ربيعة إذ هو أبو هند أُمّ معاوية «وأَهْلِكَ» «وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ»(1): كنّى بالظالمين في الآية عن معاوية وأصحابه.

وجميع ما ذكره من أوصاف الجحفل وما يصحبه من الذرّية البدريّة والسيوف الهاشميّة والتذكیر بمواقعها بمن وقعت به من أهله ووعيده أن يصيبه منها ما أصابهم من أبلغ ما يعدّ به الخطيب للانفعال والخوف وبالله التوفيق.

«وقَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ»: بدء في هذا الفصل بوضع ذنوبهم وتقريرها عليهم ليحسن عقيبها العفو أو المؤاخذة واستعار لفظ الحبل لبيعتهم إيّاه، ولفظ

الانتشار لنكثهم. وجه الاستعارة الأولى كون البيعة سبباً جامعاً لها وناظماً لأمورهم ومتمسّكاً يوصل إلى رضاه الله كالحبل الناظم لما يربط به، ووجه الثانية ظاهر.

«وشِقَاقِكُمْ»: خلا فكم: «مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ»: فيه تنبيه على علمهم بما فعلوه وتعهّدهم لفعله ليتأكَّد عليهم الحجّة. ثمّ لمّا قرّر ذنوبهم أردفها بذكر أمور قابلها بها كرماً فقال: «فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ ورَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ»: ورضيت عنه ثمّ أردف ذلك بوعيدهم بكونه مستعدّاً لقتالهم وإيقاعه

ص: 93


1- سورة هود: الآية 83

بهم وقعة يستصغر معها وقعة الجمل إن لو عادوا إلى الفتنة ثانياً فقال: «فَإِنْ خَطَتْ»: تجاوز «بِكُمُ الأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ»: المهلكة «وسَفَهُ الْآرَاءِ»: ضعفها «الْجَائِرَةِ»: المائلة عن الصواب «إِلَی مُنَابَذَتِي وخِلَافِي»: وعدتم إليه «فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ

جِيَادِي»: الأفراس العربية.

«ورَحَلْتُ رِكَابِ»: شدّدت الرحل عليها كنى بتقريب جياده وترحيل ركابه عن كونه مستعداً للكرة عليهم ويكفي ذلك في وعيدهم على خلافه لأنه مجرد خلافهم عليه ولا يستلزم وجوب إيقاع الواقعة بهم لاحتمال أن ترجع وتتوب بوعيده أو يعلمهم بتقاته على الاستعداد لحربهم والإيقاع بهم فلذلك قال:

«ولَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَی الْمَسِیرِ إِلَيْكُمْ لأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ»: كناية عن غاية شدّة إيقاعه بهم ووجه تشبيه وقعة الجمل بالنسبة إليها باللعقة هو الحقارة والصغر جعل الشرط في وعيده بالإيقاع بهم أن يلجأ إلى المسیر إليهم، ومحاربتهم وذلك بأن يعلم أن الأمر لا يستقيم إلا بالإيقاع بهم فيحمله ضرورة حفظ الدين على ذلك ثم لما توعدهم بما يخشى من الوعيد أردفه بما يرجي معهم من ذكر اعترافه بفضل ذي الطاعة وبحق ذي النصيحة إلى غیر بقوله:

«مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ ولِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَیْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَی بَرِيٍّ ولَا نَاكِثاً إِلَی وَفِيٍّ»: لئلَّا تشتدّ عليهم وطأته فيئسوا من رحمته فيشتدّ نفارهم منه، ويكون ذلك داعية فسادهم وبالله التوفيق.

هذا الفصل المذكور أوله أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي وتستقبح موازرتي وتزعمني متجبّراً وعن حقّ الله مقصّراً.

ص: 94

فسبحان الله كيف تستجيز الغيبة وتستحسن العضيهة(1).

إنّي لم أُشاغب إلَّا في أمر بمعروف أو نهي عن المنكر ولم أتجبّر إلَّا على مارق أو ملحد أو منافق ولم آخذ في ذلك إلَّا بقول الله ورسوله «وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ»(2)وأمّا التقصير في حقّ الله فمعاذ الله جلّ ثناؤه من أن أُعطَّل الحقوق المؤكَّدة وأركن إلى الأهواء المبتدعة وأخلد إلى الضلالة المحیّرة. ومن العجب أن

تصف يا معاوية الإحسان وأن تخالف البرهان وتنكث الوثائق الَّتي هي لله عزّ وجلّ طلبت وعلى عباده حجّة مع نبذ الإسلام وتضييع الأحكام وطمس الأعلام والجري في الهوى والتهوّس في الردى.

«فَاتَّقِ اللهَ فِيمَا لَدَيْكَ وانْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ»: فقابلة بالشكر والطاعة «وارْجِعْ إِلَی مَعْرِفَةِ مَا لَا تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ: من وجوب طاعة الله ورسوله وطاعة الإمام الحقّ.

«فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ»: طاعة الله «أَعْلَاماً وَاضِحَةً»: استعار الأعلام لما يدلّ على الطريق إلى الله من الكتاب والسنّة القوليّة والفعليّة ومن جملتها أئمّة الحقّ والهدى فإنّهم أصل تلك الأعلام وحاملوها.

«وسُبُلًا نَیِّرَةً ومَحَجَّةً»: جادة «نَهْجَةً»: واضحة عنى بهما الطرق إلى الله المدلول عليها بأعلامها المذكورة.

«وغَايَةً مُطَّلَبَةً»: المطلوبة جداً من الخلق وهي وصولهم إلى حضرة قدس الله طاهرين مجرّدين عن الهيئات البدنيّة المستجمعين للكمالات الإنسانيّة النفسانيّة.

واعلم أنّ الطاعة اسم لقصد تلك الأعلام وسلوك تلك المحجّة طلبا لتلك الغاية.

ص: 95


1- العضة والعضة والعضيهة: الكذب والبهتان
2- سورة المجادلة: الآية 22

«يَرِدُهَا الأَكْيَاسُ»: في الخبر الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

«ويُخَالِفُهَا الأَنْكَاسُ»: وظاهر أنّ العقلاء هم الَّذين يختارون ورود تلك المحجّة ويقصدون أعلامها وأنّ أدنياء الهمم يخالفون إلى غيرها فيعدلون عن صراط الله

الحقّ ويحبطون في تيه الجهل، حول قوله: «مَنْ نَكَبَ»: مال وعدل «عَنْهَا جَارَ عَنِ الْحَقِّ وخَبَطَ فِي التِّيهِ وغَیَّرَ اللهُ»: بذلك «نِعْمَتَهُ وأَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ»: لمّا أشار عليه بما أشار وأوضح له سبل السلامة وما يلزم مخالفها من تغيیر نعمة الله وحلول نقمته أمره أن يحفظ نفسه بسلوك تلك السبل عمّا يلزم مخالفتها والعدول عنها من الأمور المذكورة فقال: «فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ»: أي أحفظ نفسك من بلاء الدنيا ونار

جهنم ثم أعلمه بأن الله بین له سبيل طاعته المأمور بسلوكها بقوله:

«فَقَدْ بَیَّنَ اللهُ لَكَ سَبِيلَكَ»: وهو في قوّة قياس صغرى ضمیر من الشكل الأوّل أوجب عليه به سلوكها وكلّ من بیّن الله له سبيله الَّتي أوجب عليه سلوكها فقد وجب عليه حفظ نفسه بسلوكها.

«وحَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ»: فحسبك ما تناهت بك إليه.

ثمّ فسّر ذلك الحيث الَّذي أمره بالوقوف عنده بقوله:

«فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَی غَايَةِ خُسْرٍ ومَحَلَّةِ»: منزله «كُفْرٍ»: أخبره أنّه قد أجرى إليها وكفى بها غاية شرّ. وإجرائه إلى تلك الغاية كناية عن سعيه وعمله المستلزم لوصوله إليها.

يقال: أُجرى فلان إلى غاية كذا: أي قصدها بفعله. وأصله من إجراء الخيل للسباق. ولفظ الخسر مستعار لفقدان رضوان الله والكمالات الموصلة إليه، وإنّما جعل تلك الغاية الَّتي أُجرى إليها منزلة كفر لأنّ الغايات الشرّيّة المنهيّ عن

ص: 96

قصدها من منازل الكفّار ومقاماتهم فمن سلك إليها قصدا وبلغها اختيارا فقد لحق منازل الكفر ومحاله.

«فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً»: أي أدخلتك في شرّ الدنيا والآخرة، وأراد نفسه الأمّارة بالسوء بما سوّلت له من معصية الله ومخالفة الإمام الحقّ، ويروى: قد أو حلتك: أي ألقتك في الوحل، وهو مستعار لما وقع فيه من المعصية والاختلاط

عن الجهل.

«وأَقْحَمَتْكَ غَيّاً»: أي أدخلتك في الغيّ والضلال عنفاً

«وأَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ»: الموارد المهلكة من الشبهات والمعاصي.

«وأَوْعَرَتْ»: صعبت «عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ»: مسالك الهدى وطرق الخیر لأنّ النفس الأمّارة بالسوء إذا أوردت الإنسان سبل الضلالة وسهّلت عليه سلوكها بوسوستها وتحسينها للغايات الباطلة لزمه بسبب ذلك البعد عن طرق الهدى ومسالك الخير،

واستصعاب سلوكها، وبالله التوفيق والعصمة.

موضع وقيل اسم بلد عند انصرافه من صفین: كأنه لمَعّْ من الكتاب المبین على نفسه القدسية أن حان وقت اتصاله بحضرة الجلال وقرب أون سعته سلسال الوصال من كأس الأفضال فنظم كما هو دأبه الحَسن غرر درر الكلام وَصيته

لمن قال النبي عليه الصلاة والسلام في حقه أن «ابني هذا سيد اللهم أني أحبه فأحبه»(1)وعنونها بأنها من أب ووصه بسبع صفات وذلك قوله:

ص: 97


1- مناقب الأمام أمیر المؤمنین عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ص 244؛ كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 82؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3 ص 106؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 249؛ الأحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 1 ص 208؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 159؛ وفي جميعاً ورد الحديث بلفظ مختصر

«مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ»: على الوقف ولذلك قربه بقوله:

«الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ»: يعنى هذه الوصية من والد سيبقى عن قليل وأنه مقر بتغیر الزمان وانقضائه واختلاف أحواله وفنائه.

«الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ الْمُسْتَسْلِمِ للدهر»: الذي ادبر عمره وانقاد للحوادث الدهر.

«الذام لِلدُّنْيَا»: وأهلها الذين اشتدوا إليها وإلى عمارتها.

«السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى»: الذي يسكن دار قوم كانوا فيها وتركوها لغيرهم.

«والظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً»: أي الراحل عن هذه الدنيا عن قريب وقوله غداً كناية عن القريب ثم وصف الموصي بأربعة عشرة صفة، وفي كل واحد من هذه الدنيا عن قريب وقوله غداً كناية عن القريب ثم وصف الموصي بأربعة عشر صفة وفي كل واحد من هذه الصفاة، والأوصاف قبلها بصیرة لمن استبصر وعبرة لمن اعتبر فقال عليه السلام:

«إِلَی الْمَوْلُودِ الْمَؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ»: أي كثير الأمل لما يدركه من طيب العيش في الدنيا إذ هي دار البلاء والبتلاء.

«السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ»: ووصفه بهذه الأوصاف والله اعلم بعد الصفات المذكورة لتصیر نصيباً لعينه المكحل بمثله إلا مِثله لاقتفاء أثره ومزيد ترفيه إلى معارج القدسية ومن نضر إلى من كان نجماً سطع من أفق سماء النبوة والولاية لا يحجبه غيم ما هو رأس كل خطيئة من محبة الدنيا وزينتها قال: في معناه أن رجا أن يعمر الدين فلا يدركه إذ لا يجد له ناصراً أو يسلك طريق والده بأن يعيش مثله أو بعضه ويقتل أيضاً.

ص: 98

«غَرَضِ الأَسْقَامِ ورَهِينَةِ الأَيَّامِ»: قد سبق وجه هاتین الاستعارتين «ورَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ»: الرُمية: الصيد، أراد أن كل حي في الدنيا يصطاده المصيبات.

«وعَبْدِ الدُّنْيَا»: يعني أن ابناء الدنيا كالعبيد لها إدلاء لشدائدها ومحنها، كالعبيد لأَحكام السادة.

«وتَاجِرِ الْغُرُورِ»: أي المنصرف في متاع الغرور يمكن أن يغره أن لم يحيط.

«وغَرِيمِ الْمَنَايَا »: الغريم المديون وسمي الموت بالمنية لأنه مقدر أي يطالب الحي في الدنيا أسباب الموت يموت فيه كل يوم عضوا من أعضائه إلى أن يفنى وأشار إلى هذا بجميعه المنية.

«وأَسِيرِ الْمَوْتِ»: أذلا يمكن دفعه لأنهم أسراؤه.

«وحَلِيفِ»: ملازم «الْهُمُومِ وقَرِينِ»: مصاحب «الأَحْزَانِ»: وجه امتثال هذه الاستعارة ظاهر مما سلف.

«ونُصُبِ»: هدف «الْآفَاتِ»: قريب مما تقدم «وصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ»: مصروعها أراد أن أهلها تضطرب أدامهم في بيداء الحیّرة والغفلة ومن لم تأخذ العناية الإلهية صبغته ألقي في نار جهنم «وخَلِيفَةِ الأَمْوَاتِ»: الخليفة من يجيء خلف الغیر يلزمه ما لزمه صاحبه ثم بین عذره في فراغه لوصية الغیر فقال:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ»: علمت «مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ»: هو مصدر جمع الفرس أذا أعتبر فارسه، وغلبته: استعارة للدهر ووجهها الأغرار والاستيلاء.

«وإِقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي»: أي الذي يكفني ويزجرني.

ص: 99

«عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ والِهْتِمَامِ»: أي الاعتماد «بِمَا وَرَائِي»: بل شغلني بي ثم استثنى على الانقطاع منها عى أنه قد وضح لديه لون الانقطاع والاشتغال بأمور نفسه التي هي موصلة إلى جنات النعيم ووصول الرب الكريم فقال عليه السلام.

«غَیْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِيِ فَصَدَقَنِي رَأْيِي وصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي»: أي ظهر أو بیَّن «فَأَفْضَى بِي»: وأوصلني

«إِلَی جِدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ»: أراد أنه يبین بحيث لا يحوم حوله مجلس على وجهه غبار الجفاء ولا هو كالغيب يرى فيه السراب الشراب.

«وصِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ»: لا يخلطه «كَذِبٌ»: وأن كان الأمر كذلك لكن.

«ووَجَدْتُكَ بَعْضِيِ»: في الخبر: أولادنا أكبادنا «بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي»: فيه إظهار غاية المحبة والعطوفة.

«حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِيِ فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي مُسْتَظْهِراً»: مستعيناً «بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ أَيْ بُنَيَّ ولُزُومِ أَمْرِهِ وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ»: استعار العمارة للقلب ملاحظة لشبه بالبيت وقيل الذكر الظاهر من ثناء أو دعاء والدرجة الثانية الذكر الخفي وهو الخلاص من الفتور والتقاء الشهود ولزوم

المسافرة الدرجة الثالثة الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق.

وإياك والتخلص من شهود ذكرك ومعرفة افتراء الذكر في بقائه مع ذكره.

«والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ»: حبل طاعته ثم رغبته في طاعته بقوله: «وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ»: أحكم «مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وبَیْنَ اللهِ»: أي لا سبب أوثق من ذلك ولا مساوي

ص: 100

له في الوثوق «إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ»: ثم فصله إلى أن عد نیفاً وعشرين وصاية: فقال: من غير عطف.

«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ»: أي اجعله حياً لأحوال لآخرة غير غافل عنها ومیتاً عن طمع الدنيا.

وقد قيل: قال لقمان لأبنه يا بني أوصيك بست خصال يدخل فيه علم الأولين والآخرين:

لا يشغل قلبك في الدنيا إلا بقدر مقامك فيها وأعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واطمع(1)ربك بقدر حوائجك إليه، وليكن شغلك في فكاك رقبتك من النار وليكن جرأتك على المعاصي بقدر صبرك على عقوبتها، وإذا أردت أن تعصي مولاك فاطلب مكاناً لا يراك.

«وقَوِّهِ بِالْيَقِینِ»: فان من على اليقين يرى ما لا يرى الشاك وبقدر ما ليس في قوته وفي خبر العلم حياة القلب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف ولكل وجهة.

«ونَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ»: قال بعض الحكماء الحكمة: شيء يجعل الله تعالى له للقلب فينوره حتى يفهم المشروعات، والمحظورات، ويعلم المعقولات والمستحيلات کما يثور البصر ورأي المحوسوسات وفي التنزيل «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(2)، قال بعض المفسرين الحكمة فعلة من الحكم

ص: 101


1- وأطمع ربك: بمعنی فاليكن طمعك فيما عند ربك من قبيل: قوله تعالى «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا» سورة الأعراف: الآية 56
2- سورة البقرة: الآية 269

والأحكام وأنه ينبئ عن التوثيق من قولهم نبأ محكم ومن ذلك حكمة اللجام فإذا الحكمة تنبئ عن الحالة كالقعدة والجلسة وهو أن يكون في حالة وثيقة من القول والفعل والاعتقاد ولا يرد عليه الانتقاض ولا يعتريه الأعراض مجلي بالحجة قوي بالدليل وقيل غير ذلك.

«وذَاللهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ»: وفي الخبر أنه خرج النبي صلى عليه وسلم فرأي الناس كأنهم یکشرون والكشر الضحك السهل قال: أما أنكم لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هادم اللذات قال: الداراني: نخاف العام أربعة أشياء الموت والقبر والقيامة والعرض.

ويحبها الخاص أما حبة العرض فطمعاً للوصلة.

«وقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ»: قيل تقرير الإنسان بالشيء جملة على الإقرار أي قرر قلبك بفناء كل ما سِوا الله حتى يقر ويعترف بذلك.

«وبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا»: أي عرفة الأمراض والأعراض التي تفجع وتوجع فأنها المانعة عما يفعل وققت عدمها.

«وحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ»: حملته «وفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي والأَيَّامِ»: أي حذر قلبك سرعة تقلب الليالي والأيام وبغيرها بينما تكون صحيح المزاج فإذا أنت مريض وبينما انت في غنی وسعة أذا دخل عليك الفقر والضيق وبینما انت حي فإذا الموت وذكر الله وأن يعتصم بحبل الله وقيل هو القرآن وقد سبق مثل ذلك في كلامه عليه السلام غير مرة قال عز من قائل «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ»(1)روي أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: التبس علي معنی

ص: 102


1- سورة آل عمران: الآية 103

آية من القرآن فسرها لي؟ وتلا هذه الآية فقال: ما هذه الآية الحبل الذي أمر الله بالاعتصام به وكان عليه السلام إلى جنبه صلى الله عليه [وآله] فوضع النبي يده على كتف أمير المؤمنين وقال: هذا حبل الله فاعتصموا به فولى الأعرابي وخرج يقول أمنت بالله وبرسوله واعتصمت بحبل الله فلقياه أعرابيان فسمعا منه هذه المقالة وضحكا منه ودخلا على رسول الله وذكر ما سمعا من الرجل فقال: النبي هو رجل من أهل الجنة فانصرفا إلى الرجل وقالا له ان لك عندنا بشارة ولنا عند ذنب فاغفر ذنبنا حتى نذكر بشارتك أن الرسول قال أنت من أهل الجنة، قال: الحمد لله فما ذنبكما قالا: رأيناك تتكلم بهذا الكلام ولم يكن شيئاً سمعناه کلان عندنا ضحكه: فقال: أن الله تعالى يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(1)تركتما رسول الله وجئتما إلي لأستغفر لكما اذهبا ان کنتما مؤمنيَّن بالله وبرسوله وتعتصمان بحبله غفر الله لكما فحبل الله هو حجة الله بعد رسوله ووصيه على أمته وحافظ سره، قرنا فقرنا إلى الأبد، وهو علي وأحد عشر من أولاده المعصومين عليهم السلام.

والقرآن وأن كان أيضاً سبباً بين الله وبين عباده، فهو كلام يحتاج منه إلى التأويل، فيفسر كل أحد على ما يؤدي إليه مذهبه، فلا بد له من مبين يثق بقوله الناس لعصمته.

«واعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِینَ وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِینَ وسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وعَمَّا انْتَقَلُوا»: بنوا الدور العاليات وعرشوا الجنات «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٭ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ٭ وَنَعْمَةٍ

ص: 103


1- سورة النساء الآية 64

كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ»(1).

«وأَيْنَ حَلُّوا ونَزَلُوا فَإِنَّكَ»: إذا نضرت كما أُمرت «تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ وحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ»: وإذا وجدتهم كذلك خطر ببالك انك عن قريب مثلهم فتبرد قينات الدنيا في نظرك فتتركها وتكون من المهتدين وإلى ذلك أشار بقوله:

«وكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ»: موضع إقامتك وهو القبر بما وعضتك به.

«ولَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ»: فأنك تكون حينئذٍ مفسداً واللح لا يحب المفسدين والنهي عن الشيء أمر بضده فيكون المراد هنا أمره ببيع الدنيا بالأخرة «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» صورة هذه المبادلة شبيهة بصورة البيع والشراء فاستعمل فيها على سبيل الاستعارة وقد سبق مثل ذلك.

«ودَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ»: فأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان أثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه»(2).

«والْخِطَابَ » أي المباحثة « فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ»: فأنه يفوت الوقت ولا يحصل الاسم «فأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ»: أي الظلال فيه ثم علله بقوله:

ص: 104


1- سورة الدخان الآية 25 - 27
2- سنن أبي داود: لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 2 ص 178؛ دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 96؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 1 ص 103؛ السنن الكبرى لأحمد بن حسين البيهقي: ج 1 ص 116؛ جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر في: ج 2 ص 63

«فَإِنَّ الْكَفَّ»: والإمساك «عِنْدَ حَیْرَةِ الضَّلَالِ خَیْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأَهْوَالِ»: وكما يستعلي الراكب على المركوب، وربما لا اختيار له يستعلي صاحب الأهوال عليها وهي غالبة عليه وهذا وجه هذه الاستعارة وقد قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «ان الشيطان ذئب الانسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعلیکم بالجماعة والعامة»(1).

«وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ»: قيل هو أسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع ونهی عنه من المحسنات والمتفجعات «تَکُنْ مِن أَهْلِهِ»: أي أن الناس لكم تبع وأن رجالاً يأتوكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خیری أي فمروهم بالخير.

«وأَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ ولِسَانِكَ»: أن قدرت فأن لم تستطع فبقلبك وذلك اضعف الإيمان.

«وبَايِنْ»: وباعد «مَن فَعَلَهُ»: المنكر «بِجُهْدِكَ»: قال عز من قائل «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(2)«وجَاهِدْ»: نفسك فِي معرفة الله: وعبادته واخلاقه ومقامات قربه وأحواله «حَقَّ جِهَادِهِ»: الذي أمر به على السنن رسله وأوليائه.

«ولَا تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ»: فان الجهاد في سبيل الله وعدم المبالات للوم اللئام فضل الله به أوليائه يؤتيه من يشاء.

ص: 105


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 233؛ مجمع الزوائد أورده الهيثمي: ج 2 ص 23؛ الترغیب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 219؛ تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) لأبن كثير: ج 2 ص 354
2- سورة هود: ص 113

«وخُضِ الْغَمَرَاتِ»: الشدائد «إِلْی الحَقِّ» أي قاصداً أليه.

«حَيْثُ كَانَ»: وفي الخبر «من جائه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة»(1).

«وتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ»: فأن رسول الله يمر بمجلسين فقال: «كلاهما على خير واحدهما افضل من صاحبه أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فأن شاء أعطاهم وأن شاء منعهم وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل فهم أفضل وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم»(2)«وعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبَرُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ»: استعار التعويد للصبر وکنی به عن اللزوم ملاحظة لشبهة به في أن كلاً منهما يجعل وسيلة دفع المكروهات وفي الخبر أن أعظم الجزاء مع عظم البلاء وأن الله تعالى إذا أحب قوماً أبتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط وللترغيب فيه قال عليه السلام:

«ونِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ»: أي هو محمود لدى الخَلق، ومشكور عند الْحَقِّ.

«وأَلْجِئْ»: أعد «نَفْسَكَ فِي الُأمُورِ كُلِّهَا إِلَی إِلَهِكَ»: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ»(3)، وإذا الجأت نفسك فيها كلها إليه تعالى.

«فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَی كَهْفٍ»: ملجأ عظيم.

ص: 106


1- سنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 100؛ جامع بیان العلم وفضله لأبن عبد البر: ج 1 ص 46: تفسير الرازي لفخر الدين الرازي ج 2 ص 180
2- مسند ابن المبارك لعبد الله بن المبارك: ص 42؛ سنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 100
3- سورة الطلاق: الآية 3

«حَرِيزٍ»: حافظ «ومَانِعٍ عَزِيزٍ»: منيع قوي لا يتطرق إلى سرادقات حفظه إقدام إلا من حفظه.

«وأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ»: ولا تسأل من غيره

«فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ والْحِرْمَانَ»: فكما أن من بيده شيء يتصرف فيه كما يشاء كذلك الله أن أراد أعطى، وأن أراد لا مانع لما أعطاه ولا راد لقضائه ولا معطي لما منعه.

«وأَكْثِرِ الِاسْتِخَارَةَ»: في أمر يخفى عليك فعله وتركه فأن من هم بأمر وكان لا يدري عاقبته ولا يعرف أن الخيرة في تركه أو الأقدام عليه فقد أمره رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم بأن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقول هو الله أحد فإذا فرغ دعا وقال: اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك فأنك تعلم ولا اعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب اللهم أن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله فقدره لي؛ ثم يسره لي وأن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في دني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وأجله فاصرفني عنه وأصرفه عني وقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به يا ارحم الراحمين.

قال: جابر کان رسول الله - وآله - وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها کما یعلمنا الستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن وقال إذا هم أحدكم بأمر فليصلي ركعتين ثم يسمي الأمر ويدعوا.

«وتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي ولَا تَذْهَبَنَّ»: أي تعرضن «عَنْكَ صَفْحاً»: أعراضاً أي أعرض يقال: ضربت عنه صفحاً إذا عرضته وتركته والأصل فيه أن من أعرض من

ص: 107

صاحبه ولاه صفحة عنقه وجهه ثم يذب إلى تفهمه وعدمه الأعراض عنه بقوله:

«فَإِنَّ خَیْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ»: وهذا مما هو نافع «واعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَیْرَ فِي عِلْمٍ لَا ينفع»: أي صاحبه غيره بل فيه مضرة فان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»(1)ويحتمل أن يقال: معناه لا خير في علم لا ينفع العالم بعد الانتقال وفي الخبر یوم القيامة یعنی ريحها والأصوب أن يقال: أي لا خير في علم لا ينفع ذلك من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها والأصوب أن يقال: لا خير في علم ذلك العلم صاحبه وبين ذلك بقوله:

«ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه»: أي لا يجب ولا يجوز الشروع فيه وما سوی الله العلوم الشرعية الحديثة والتفسير والفقه ومقدماتها وعلم الكلام بالنسبة إلى بعض الأذهان فأن الناس كما قال خير الناس صلى الله عليه [وآله] وسلم «معادن كمعادن الذهب والفضة»(2)وإنما جعلت معادن لما فيها من الاستعدادات المتفاوته فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن ومنها غير قابلة لها ولا يسع خلق المحصلين هذه اللقمة بم عقب ذلك وصيته فقال: «أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً ورَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً»: ضعفاً «بَادَرْتُ»: سارعت «بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ»: عملاً

ص: 108


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 305؛ سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني ج 2 ص 179؛ سنن الترمذي: ج 4 ص 138؛ المبسوط للشيخ الطوسي: ج 8 ص 165؛ السرائر لأبن أدرسي الحلي: ج 2 ص 114؛ الرسالة السعدية للعلامة الحلي: هامش: ص 6؛ الأمالي: للشيخ الطوسي: ص 377؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي في ج 4 ص 71
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 539؛ والكافي للكليني: ج 8 ص 177؛ والخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام إلا أن العامة روته عن النبي صلى الله عليه وآله؛ ورواه الشيخ الصدوق في من لا يحضرة الفقيه: ج 4 ص 380

بقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم: «من مات على وصية مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفوراً له»(1)«وأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا»: حسب ما يقتضيه المقام.

«قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِيِ أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى»: أراد أن غلبات الهوى «وفِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُور»: أي البعير الذي صار فحلاً صعباً لا يطاق ويُقع راكبه في المهلكة.

«وإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ»: الشاب «كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ»: کنی به عن كونه محلاً قابلاً للنصيحة والوصية.

«فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ»: يصير شديداً صلباً كالحجر الصلب يمر عليه الماء ولا يقف فيه وفيه إشارة إلى أن مرآة قلب القاسي لا يصقل بمصقال النصيحة فلا يرى فيها وجه ما ينبغي أن يفعل أو يترك والشيطان يوسوسه فيتبع الهوى ويضل عن سبيل الله وفي الخبر مثل ما ينبغي الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلاء والعشب الكثير وكانت منها أخذات أمسکت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تثبت کلاء فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلم وعُلم.

ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يبق لهدى الله الذي أرسلت به أنتهى وإنما

ص: 109


1- سنن أبن ماجة لمحمد بن یزید القزويني: ج 2 ص 901؛ الكامل لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج 5 ص 26؛ سنن ابن ماجة لعبد العظيم المنذري: ص 326

هو لقسوة قلبه.

«ويَشْتَغِلَ لُبُّكَ»: عقلك عما يليق بك بما لا يليق بك وإنما بادرتك بالوصية المذكورة «لتِسْتَقْبِلِ بِجِدِّ رَأْيِكَ»: تثبت قوته «مِنَ الأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وتَجْرِبَتَهُ»: ضمير هو فيهما عائد إلى الأمر وما قد كفاك مفعول به ليستقبل جعله كالصديق المستقبل في أن أنه يرغب فيه ويتوجه إليه.

«فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ وعُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ»: حاصلة أنك إذا قبلت قولي واقتفيت أثري حال في ساحته قلبك الرأي الزرين وتبين لك الأمور والأحوال فيجدب أليك أهداب المرام على ما أمره به الملك العلام وسنة سيدي الأنام عليه الصلات السلام ويتحصل لك ما يتحصل لأهل التجارب في الأعوام ولا يفتقر إلى التجربة ولا الاستغاثة بأهلها وعوفيت من علاج التجربة أي عنك علاج الجربة أستعير لاشتراكها في الإزالة.

«فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ»: الرأي «مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ واسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا فيه»: أي حصل لنا الاشتباه فيه وأما أذا كشفنا القناع عن وجه وأريناکه کما هو فلا يحوم حوله شأنه الالتباس ثم كرر بدأ الشفقة وعقبه بما یدل على کمال تجربته واطلاعه على الأحوال السالفة كما هي بقوله: «أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى

عُدْتُ»: تحسب ذلك «كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ»: أي بسببه قَدْ

«عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَی آخِرِهِمْ»: أي كشف لدى الغطاء عن وجوه أحوالهم فكما كان أحدهم يعلم ما صدر عنه وجرى عليه علمته كذلك، وهذا وجه التشبيه.

وكأني عملًا بقوله عز وجل «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ

ص: 110

فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ» الآية(1)وأشرقت قلبه من نور ربه فرأى بعين بصيرة أحوال الرجال السالفة كما كانت فرغبت نفسه القدسية عن قينات الدنيا ودانت إلى حضرة الجلال وسقيت كأس الوصال «فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ ونَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ»: بحيث لم يبق مع ورد يقيني شيء ما يثير الشك. وتحرك فيّ عرق الأبوة.

«فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نخِيلَهُ»: خلاصته «وتَوَخَّيْتُ»: طلبت «جَمِيلَهُ وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ ورَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي»: حملني على العناية «مِنْ أَمْرِكَ»: من ثنائك.

«مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ»: المشفق: أشفقت خفت ويوصف به الوالد لأنه يخاف على الولد «وأَجْمَعْتُ»: عزمت «عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ»: مفعول

رأيت ومن أدبك للتبین والواو للحال في «وأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ ومُقْتَبَلُ الدَّهْرِ»: محل تأثره: الجوهري: رجل مقتب الشباب أذا لم يبن في أثر كثير.

«ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ ونَفْسٍ صَافِيَةٍ»: بريئة من العيوب، لم يتكدر بتراب الأخلاق الذميمة وجه هذا الوصف ملاحظة شبهها بالماء الصافي في الصفاء وعدم التكدر أو بالذهب المصفى.

«وأَنْ أَبْتَدِئَكَ»: معطوف على أن يكون «بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ»: فأنه منبع عيون العلوم يجري منه إلى رياض أرباب الفهوم.

«وتَأْوِيلِهِ»: فيما يفتقر إلى التأويل وينبغي أن يحمل على ظاهره مثل قوله عز

ص: 111


1- سورة الأنعام: الآية 6

وجل «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ»(1)«اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(2)«ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ»(3)وكأني بك تقول: روي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أنه قال «نزل القرآن على خمسة أوجه: الحلال والحرام ومحکم ومتشابه وأمثال، فاحلوا الحلال وحرموا الحرام وأعملوا بالمحكم وأمنوا بالمتشابه واعتبروا بالمثال» فكيف أوله وقد نهي عن التأويل، وأمر بالإيمان بالمتشابه؟ فأقول وبالله التوفيق المراد بالمتشابه في الحديث المكتوم الذي لا يفسر(4).

وأعلم أن القرآن أما محکم معلوم بالمراد به من كل وجه وهو المقصود إليه مساق الكلام لأن المقصود من الكلام الأفهام وليخرج السامع م ظلمات الشك والشبهة إلى نور الحق واليقين وأستفيد به ما هو مفتقر إليه وليلزمه الحجة وأما متشابه مما لا يعلم مراده وأنه مذكور لمقاصد لم يوضع لها الكلام لأن للأفهام لا للإبهام ولكن الحكمة البالغة إلى أيرادها في التنزيل ولم يجد لها كتاباً في الحكمة من الحكماء ألا والخفي فيه أكثر من الظاهر.

ولذلك قل ما ينظر في كلام الفصحاء إلا والمحلى بالاستعارة والتشبيه أكثر وكذلك النكت السالفة.

وهذا ظاهر لمن تأمل وأما مكنون لا يعلمه إلا الله کالحروف المقطعة في أوائل السور ولما كان القرآن مائدة الله تعالى للأحمر والأسود والغني والزكي والصور

ص: 112


1- سورة الفجر: الآية 22
2- سورة الفتح: الآية 10
3- سورة الأعراف: الآية 54
4- البرهان: للزرکشی: ج 1 ص 454؛ الأمالي: للشيخ الطوسی: ص 357، الإرشاد القلوب: للحسن بن محمد الديلمي: ج 1 ص 78؛ مجمع البيان: للشيخ الطبرسي ج 1 ص 39

والألسن والطباع على غاية اختلاف أساليب الكلام ليحمل كل احد ما هو بصدده ولأن المعني لو صار الخلق فيه سواء ليتسنى لقدم الداعية إلى الذكر والبيان لتساوي الناس فيه فلاسم الداعية إلى التحفظ والذكر ألا لغرض البيان وذلك عند تفاصيل العقول وتفاوت الأوهام في إدراكه ولهذا كان الخبر الغريب والبيت النادر والكلام العجيب اشهر وإلى أقاصي البلاد أسير.

«وشَرَائِعِ الإِسْلَامِ وأَحْكَامِهِ وحَلَالِهِ وحَرَامِهِ»: الشريعة لغة مشرعة الماء وهي المورد الشاربة ثم ينقل إلى ما شرعه الله لعباده من الدين.

«لَا أُجَاوِزُ بِكَ إِلَی غَیْرِهِ»: فأن تعلمها واجب عليك وفي الخبر من طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد(1)الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب.

«ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِس عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ»: قيل اختلف من إيقاع الماضي موقع المضارع لحقق الوقوع وقد اخبر المخبر الصادق بأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجاری بهم تلك الأهواء کما بتجاري الكلب بصاحبه ولا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله.

«فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَی أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ»: أسلمه إلى عدو إذا تركه في أيديهم والهلكة فان الحقيق بالطبيب أن يداوي المريض وأن كرهه ولا تذهبن إلى أن الحسن عليه السلام کره تنبيهه عليه السلام فأنه كلام فرضی.

ص: 113


1- كمقلد: والقَلْدُ: ليُّ الشيءِ على الشيء؛ وسوارٌ مَقْلُودٌ وقَلْدٌ: مَلْوِيٌّ. والقَلْدُ: السِّوارُ المَفْتُولُ من فضة؛ لسان العرب لابن منظور: ج 3: ص 366

«ورَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ فيما يبتلى لِرُشْدِكَ»: راغب خلاف الغي وقال بعضهم الرشد بفتح السين أخص من الرشد بسكونها فأن الرشد يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد في الآخروية.

«وأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ»: سواء السبيل.

«فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ»: اوصيتك «وَصِيَّتِي هَذِهِ»: وما اعجب هذا الترتيب لجذب الموصي إلى الترغيب فأن الأوصاف المذكورة والقضايا السالفة إلى هنا مرغبات إلى قبول مايوصي به.

«واعْلَمْ، يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي»: إلي بمعنی من الابتدائية.

«تَقْوَى اللهِ»: قال: بعض المحققين هي على ثلاث أنواع تقوى اللسان: إثار ذكر من لم یزل ولا يزال على ذكر من یکن فکان وتقوى الأركان إيثار طاعة من لم يزل ولا يزال على خدمته من لم یکن فکان(1)، وتقوى الجنان إيثار محبة من لم يزل على محبة من لم یکن فکان ويحتمل أن يقال قوله: «والِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ»: عطف عليها تفسير لها كما قال: عمرو بن عبد العزيز: ليس التقوى النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن التقوى أداء ما أفترض الله تعالى وترك ما حرم الله تعالى فمن رزق بعد ذلك فضلاً فهو خير إلى خير وكلامه عليه السلام يشتمل المأمورات والمنهيات ومصداق ذلك أن أعرابياً أتي إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: دلني على عمل ان انا

ص: 114


1- بمعنی يجب طاعة من لم یزل ولا يزال وهو الله تعالى: ومن لم يكن فكان هي المخلوقات التي لو لا خلق الله تعالى لها لم تكن، فاستحق من لم يزل ولا يزال أن يعبده من لم يكن فكان بفضله ومنه وجوده تعالی

عملته دخلت الجنة؟ قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفس محمد بيده لا أزيد على هذا شيئاً ولا انقص منه فلما ولى قال: النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر»(1)«والَأخْذُ بِمَا مَضىَ عَلَيْهِ الَأوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ والصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا»: لم يتركوا «أَنْ نَظَرُوا لأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ»: ليعرفوا شأنهم وما يليق بهم.

«ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ»: النظر «إِلَی الأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا والإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا»: وعدم التفاتهم إليه بحثاً وهذا لأن طلب هذا المقدر من العلم فريضة على كل مسلم فرض عين ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص فالفقير الذي ليس عليه الصلاة والصوم من الأركان يجب عليه معرفة صحة الاعتقاد من كون الله وحده لا شريك له وهو حي قديم ازلي أبدي وغير ذلك مما ذكر تعلمه من العقائد في كتب الاعتقادات ويجب عليه ما يصح به الصوم والصلاة وما یفسد ما يجب عليه معرفة الحلال والحرام والخبيث والطاهر والوضوء والغسل والغني علم الزكاة والحج ويجب على التاجر تعلم علم ما يصح به العقود وما يسفدها وكذلك كل من عملاً يجب عليه تعلمه علم ذلك العلم واما تحصيل العلم بحيث يصير الرجل مجتهداً أو مفتياً ففرض كفاية لا فرض عين وإذا اوجد مجتهداً في بلد أو ناحية سقط الفرض عن الكل وأن لم يكن بكل ناحية أهل تلك الناحية حتى يصير وأحداً منهم مفتياً.

«فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ»: الاقتصار.

ص: 115


1- البخاري: ج 2 ص 109؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 343؛ عمدة القاري للعيني: ج 8 ص 241

«دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا كانوا»: أي متجاورة عن هذا النوع من العلم نبأ على أنك غصن من أغصان الدوجة النبوة ترى فيك ينبوع الاستعداد يفوز وانك وجدت من منصور على من لاقاه لم يصارع أحد قط في عالمي الصورة والمغني إلا صرعه.

«فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وتَعَلُّمٍ لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ»: معناه الوقوع في الهلاك أستعير للشبهة فأنها هلال القلب.

«وعُلَوِّ الْخُصُوصِيِّاتِ»: فأنها نتيجة عمل الشيطان وقد سمع صلى الله عليه [وآله] وسلم اصوات رجلين اختلفا في آية فخرج عليهم يعرف في وجهه الغضب فقال: أنما هلك من كان قبلكم باختلافهم وأعلم أن المخاصمة ممنوعة وأما المجادلة للإظهار الحق فمحمودة قال: عز شأنه «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(1)وبنی دعوة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم ثلاث مراتب كل فرقة بحسب ما يليق بها بالحكمة إيراد البراهين القاطعة لأهل الكمال کالاستدلال أبراهيم عليه السلام بأفول الكواكب على نقصها المنافي لهيئتها والموعظة الحسنة بالكلمات الخطابية المقنعة كقوله تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ»(2).

«وابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ»: فأنه ركن شديد لا يتغير وهو حسبك ونعم المعين.

«والرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ»: والحرص عليه «وتَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ»: وأحدهُ الشوائب وهي الأقذاء والأدناس.

«أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَی ضَلَالَةٍ»: فأن المرآة المصقلة ترى فيها الصور

ص: 116


1- سورة النحل: 125
2- سورة البقرة: الآية 258

وتصقيل القلب بما ذکر «فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وتَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وكَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ»: من طلبك المقصود بتفهم وتعلم.

«وإِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وفَرَاغِ نَظَرِكَ وفِكْرِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ»: أي تخبط مثل خبط الناقة التي بصرها ضعف تخبط إذا مشيت لا يتوفي ووجه الشبهة الخيط المطلق والعشواء نصب على المصدر على حذف المضاف منه.

«ولَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ»: خبط البعیر: الأرض بيده ضربها. «أَوْ خَلَطَ والإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ»: أفضل حينئذ إذ فيه تضييع أنفس شيء عنده ثم سجل الوصية بقوله: «فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي هذه»: ثم أعلمه بأن بيد الله زمام الأحياء والإماتة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال عليه السلام:

«واعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ وأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ»: مؤكدة لما قبلها جعله الموت والحياة بمنزلة الملوك ملاحظاً لشبههما به في التصرف فيه «وأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي»: رمز إلى الله النطف أموات ثم خلق فيها الحياة ثم خلق فيهم الموت عند قبض الأرواح ثم خلق فيهم الحياة في القبور للسؤال ثم يميتهم؛ ثم يحيهم في القيامة؛ ثم لا موت بعده أما خلود في الجنة، وأما خلود في النار، وخالف القدرية في هذه الجملة في مواضع منها قولهم أن الحياة تقتضي بنيَة وبلّه(1)، ومنها

ص: 117


1- وبَلَّةُ الشيء، وبَلَلَتُه: ثَمَرتُه: يُنظر تاج العروس للناس: ج 14 ص 69؛ والمعنى: أن الحياة يقضي وجودها ثمرة وهذا المعتقد عبروا عنه (والحياة تقتضي بنية وبلة) والقدرية: وهم فرقة من فرق المسلين الذي صار لهم اعتقاد خاطئ في تقدير الله تعالى لأحوال الدنيا وما فيها من أحوال العباد

أنكارهم سؤال القبر، وعذاب القبر وليس هذا موضع بسط الكلام في هذه المسائل المجاهدة والإيمان حياة القلب بنور الله الموافقة فيكون الموت فناء النفوس والحياة استلاء القلوب ولهذا أقالها لا يصح السماع إلا لمن كان نفسه ميتة، وقلبه حياً فالله تعالى يميت حياة نفوس العابدين ويحيى قلوب العارفين يحيى أحوال أهل الوصال ويميت أحوال أهل الفراق أموات إذاً أذكر؛ ثم أحي فكم أحي عليك وكم أموات «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ٭ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(1).

ليس من مات ما ستراح بميت ٭٭٭ إنما الميت ميت الأحياني

ثم أشار إلى أن توجه الدنيا إلى صاحبها بحسب تقديره يؤتها من يشاء وينزعها عمن يشاء وأشار إلى حكمة ذلك فقال:

«وأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ»: على حال من الأحوال «إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ والِابْتِلَاءِ والْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ»: من الحكمة والمصلحة فَإِنْ أَشْكَلَ: صار مشکلاً.

«عَلَيْكَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ»: مما لا تعلم «فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلًا»:

«أول»: نصب على الظرف وقيل حال والجملة بتمامها خبر أن ومن لم نذكر خلعت رفع جاهل للخبرية وفيه إيماء إلى قول الله تعالى «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ

ص: 118


1- سورة آل عمران: الآية 169 - 170

أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا»(1).

«ثُمَّ عُلِّمْتَ»: وفيه أشاره إلى أن بين زمان الإخراج والعلم التام آونة، ويختلف مراتب الناس في ذلك اختلافاً عظيماً بحسب اختلاف درجات الاستعدادات والقوى «ومَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ»: ما الأولى تعجبية والثانية موصولة.

«مِنَ الأَمْرِ ويَتَحَیَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ ويَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ»: بحسب کمال استعدادات وجذب العناية الإلهية إليك والأصل في ذلك أن الله تعالى خلق خلقه الثقلين من الجن والإنس في ظلمة النفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات المدرية والأهواء المضلة قال عز من قائل «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ»(2)فألقى عليهم من نوره ما يصيب من الشواهد والحجج وما أنزل إليهم من الآيات والنذر كما أشار إلى ذلك قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ»(3)ومن يشاء هدايته هو الذي اصابه ذلك النور فيخلص من تلك الظلمة وأهتدي، ومن لم يشأ هدایته بقي في ظلمات الطبيعة متحيراً متخبطاً في الظلماء کالأنعام بل أضل مثل حال الكفرة والمنهمكين في الشهوات المعرضين عن الآيات.

«فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ ورَزَقَكَ وسَوَّاكَ»: أي سوی مزاج بدنك بتسوية الطبائع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لم يتغير الترتيب الخارجي بل کما

ص: 119


1- سورة النحل: الآية 78
2- سورة البلد: الآية 4
3- سورة النور: الآية 35

جاء إلى قلبه المنير ألبسه لباس التقرير.

«ولْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ ومِنْهُ شَفَقَتُكَ»: أما التعبد والعبودية فأنهما غاية التذلل ولا يستحقها الأمن هو غاية الأفضال وهو الله تعالى، ولهذا نوعان محمود الحرص على معرفة الله ومذموم وهو على الدنيا بعض العارفين الحرص والطمع يجران إلى مساوئ الخلاق، وارتكاب المنكرات الحاجبة للمروآت.

وللشاعر في ذلك:

یا طالب الرزق في الآفات مجتهدا ٭٭٭ أقصر عنائك فأن الرزق مقسوم

ولا تحرصن على ما لست تدركه ٭٭٭ أن الحريص على الآمال محروم

وأما الشفقة بمعنى الخوف من الله فلما قال أهل المعرفة من أن الحريص على الآمال محروم وأما الشفقة بمعنى الخوف من الله؛ فلما قال أهل المعرفة من أن الخوف نار تحرق الوساوس والهواجس في القلب، وأما اختصاصه بالله فلأن الخوف کما قال بعض أهل الإشارة ضربان خوف من الحق وخوف من الخلق فالخوف من الحق تورث التهذيب والخلق تورث التعذيب، وفي الخبر إذا أقشعر جسد العبد من خشية الله تعالى تجانب عنه ذنوبه کما تتجانب من الشجرة اليابسة ورقها.

وقد وردت فيه أحاديث كثيرة ثم أعلمه بأنه لاحق باقتفاء نبيه في معرفة الله تعالى فأنه لم يعرفه غيره كما عرَفه ولم يعَرفه أحد كما عرفه بقوله وأعلم:

«واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ صلّى الله

ص: 120

عليه وآله وسلّم فَارْضَ بِهِ رَائِداً»: لغة من يجيء ويذهب لمصلحة القوم إذا أرسل في وقع طلب الكلاء استعير له صلى الله عليه [وآله] وسلم لما بينهما من الاشتراك في أعلام الضار والنافع كلٌ بحسب ما يليق به.

«وإِلَی النَّجَاةِ قَائِداً»: يعني أن استمسكت بذيله نجوت عن ضرر رجال أهل الأهواء في شأنه تعالى عن ذلك علواً كبيراً وإذا تمهدت ما ذكر في قلبك اليقظان.

«فَإِنِّي لَمْ آلُكَ»: لم اقصر لك «نَصِيحَةً»: تميز وقيل من الألوَّ بمعنى الاستطاعة والصحيح ما قلناه «وإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ وإِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي

لَكَ»: فأنه كان بمكان من العلم لم يتطرق إليه إقدام العقول أنهار الفظائل في الدنيا من تجوز فضائله ورياض التوحيد والعدل من بساتين خطبه ورسائله من فيه ما في جميع الناس وكلهم وليس في الناس ما فيه الحسن ثم نبهه على الاستدلال على أن الله واحد لا شريك له في الألوهية بقوله:

«واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُهُ ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وسُلْطَانِهِ ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ»: توضيح المرام في هذا المقام بأن نقول: العقلاء أنما أثبتوا للعالم صانعاً لأن حدوثه صح لهم بالدلائل له على كونه موجوداً وعلى ثبوته حاصلاً دليل من أفعال وصفات لأن كل ما يصح من الأفعال أما أن يقدر عليه القادر الممكن أو لم يقدر عليه إلا القادر لذاته فالأول يمكن إسناده إلى كل قادر فلا وجه لأثبات قادر بالذات لإيجاده، وأن لم يدخل تحت قدرته فأنه يصح أن يسند إلى الله وحده فأي حاجة إلى أثبات إله ثان قديم وإلى هذا أشار بقوله: تعالى «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ»(1)فأما من جوز له، أن يكون له تعالى

ص: 121


1- سورة المؤمنون: الآية 118

شريك، فالكلام معه بدليل التمانع عند المتكلمين وبين هذا الأول فرق واضح لأن الجواز والثبوت أمران متخالفان وذكر عليه السلام عل سبيل التقريب وجهاً آخر مما يمكن أن يكون طريقاً إلى الاستدلال على نفي شريك لله ثابت موجود يقال: لوكان للباري شريك لبعث رسولاً وأنزل كتاباً ونصب علماً معجزاً من أفعاله أو أنشاء خارق العادة ليدل على صحة ذلك على وجه لا يمكن رده إلى الله سبحانه فلما لم يكن من هاذين الوجهين دليل قاطع على ثان يشاركه تعالى علمنا أنه سبحانه واحد.

«ولَكِنَّهُ»: لم يكن ذلك فهو «إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ»: بقوله: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ»(1)«لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ ولاَ»: يخالفه لأن الملك عند أهل التحقيق هو القدرة علة الأبداع والإنشاء ومن سواه لا يقدر عليها.

«يَزُولُ أَبَداً»: لأن وجوده لذاته «ولَمْ يَزَلْ» لما ذكر «أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ وآخِرٌ بَعْدَ الأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ»: قد سبق منا کلام في تحقيق ذلك غير مرة فقال:

«عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ»: بل تاهت في فيفاء ربوبيته أنضار العقل، دون إدراكه طرق الفكر وأنحاؤه، لأنها موقوفة على إحصاء نعم الله تعالى على سبيل التفضيل «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(2).

«فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ»: منزلته «وقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وكَثْرَةِ عَجْزِهِ وعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَی رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ والْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ والشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ ولَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ»: وقد

ص: 122


1- سورة النساء: الآية 171
2- سورة إبراهيم: 34

تقرر في العقول أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فاسلك الطريق على ما هو بك حقيق ثم تنبه وجه الدنيا بعين بصيرته بأن شبه الدنيا لمن كان مغروراً بها بعامر خرج ساکنه إلى مرعا، ولمن أعتبر بها بحراث ترکه نازله إلى عامر فسل على هذا أشده المقام والارتحال وتصعب على الأول المفارقة والانتقال فقال: «يَا بُنَيَّ»: تصغير تعظیم.

«إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وحَالِهَا وزَوَالِهَا وانْتِقَالِهَا وأَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ ومَا أُعِدَّ لأَهْلِهَا فِيهَا وضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الأَمْثَالَ»: أي وصفت لأجلك في أحوال الدنيا

والآخرة الأمثال وتنبيهاً «تَعْتَبِرَ بِهَا وتَحْذُوَ عَلَيْهَا»: أي بقدر أمرك عليها ومن حملتها «إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا»: تلاها وخربها وعلمها «كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ»: جمع سافر بمعنى المسافر.

«نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ»: أي صعب عليهم المقام «جَدِيبٌ»: محدث.

«فَأَمُّوا »: قصدوا «مَنْزِلًا خَصِيباً»: محصباً «وجَنَاباً»: فنأ «مَرِيعاً»: كثير العشب ويقال مرع جناب القوم إذا كثر خصبه.

«فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ»: شدته وصعوبته «وفِرَاقَ الصّدِيقِ وخُشُونَةَ السَّفَرِ وجُشُوبَةَ المَطْعَمِ»: طعام جشب لا أدام معه «لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ ومَنْزِلَ قَرَارِهِمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً ولَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً ولَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا

قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وأَدْنَاهُمْ»: أقربهم.

«مِنْ مَحَلَّتِهِمْ ومَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَی مَنْزِلٍ جَدِيبٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهً إِلَيْهِمْ ولَا أَفْظَعَ»: أشد وأعظم «عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ

مَا كَانُوا فِيهِ إِلَی مَا يَهْجُمُونَ»: يدخلون «عَلَيْهِ ويَصِیرُونَ إِلَيْهِ»: أراد أن قوماً سطع

ص: 123

على سماء قلوبهم بتباشیر صبح الهداية، وإشراق لمعان برق العناية فهم بمعزل عن القرار في الدنيا والآخرة خير في نظرهم من الأولى فيشمرون عن ساق الجد ليجدوا أليهم الجد فهم حين حال الانتقال يطيرون من الفرح، لا يحزنهم الفزع الأكبر ولا يدهشهم الموت الأصغر وأن، وأن قوما ركبوا مراكب القوى في أبتداء الطبيعة ولم يقلدوا أعناق نفوسهم بقلائد أحكام الشريعة وغاصوا في بحار الشهوات وماتوا في مهالك الظلمات، وجعلوا قينات الدنيا مطلوبهم، ومحبوبهم فهم العاشقون لها وأنت خبير بأن العاشق أو أن الأبعاد عن معشوقه، والنفاق الساق بالساق ما یمر عليه من الم الفراق والأظهر في مثل هذا التشبيه أنه مركب ويأتي التفريق أيضاً بأن شبه.

بأن العالمين بها بالمسافرين والدنيا بالنسبة إلى اللبيب بمنزل حديث.

وعكس ذلك بالنسبة إلى الغمر وقطع المنازل بقطع المنازل والشدائد بالشدائد ثم أمر أن يجعل نفسه كالميزان في الاستقامة وإنما يكون كذلك إذا تدبر الأشياء وفصلها.

«يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وبَیْنَ غَیْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَیْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ واكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا»: وفي الخبر أن معاذ بن جبل سأل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم عن أفضل الأعمال قال: «أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله قال: وماذا یا رسول الله: أي ماذا أصنع؟ بعد ذلك قال: وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك»(1)وفيه فوائد جمة تظهر بالتأمل.

ص: 124


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 247؛ مجمع الزوائد للهثمي: ج 1 ص 61؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 32

وأراد بالعِير من قدم دائرة الإسلام وكيف لا وقد وصف الله سبحانه الكلمة من أصحابه صلى الله عليه [وآله] وسلم بقوله «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(1)وكان شدتهم على الكفار المجاهدة بالسنان واللسان.

«ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ»: لقوله صلى الله عليه [وآله] «لتقوا الظلم فأن الظلم ظلمات»(2)وعنه عليه السلام «الظالم له ثلاث: يقهر من دونه بالغلبة، ومن فوقه بالمعصية، ويظاهر الظلمة»(3).

«وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ»: فأن الإنسان عبيد الإحسان.

يقال: على وجهين أحدهما الإنعام على الغير يقال: يمكن رجع الثاني إلى الأول باعتبار أنه إحسان إلى نفس الفاعل.

روي أنه جاء احد إليه عليه السلام ليلة يسأله حاجة فقال: أطفي السراج یا غلام کي لا يرى في وجهه ذل السؤال: وعنه أنه قال: لأن أصنع صاعاً من طعام وأجمع عليه أخواني احب إلي من أن أعتق رقبة روي أن رجلاً رفع إلى الحسن عليه السلام رقعة فقال: «حاجتك مقضية فقيل له إلا تنضر في الرقعة قال: يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حين أقرأ الرقعة»(4).

«واسْتَقْبحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبحُهُ مِنْ غَيْرِكَ»: فعظ نفسك فأن اتعظت فعظ الناس.

ص: 125


1- سورة الفتح الآية 29
2- الكافي: للشيخ الكليني: ج 2 ص 509؛ السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 6 ص 93؛ فتح الباري: لابن حجر في ج 5 ص 73؛ وعمدة القاري: للعيني ج 12 ص 293
3- تفسير السمرقندي لأبو الليث: ج 2 ص 559؛ والطبقات الصوفية للسلمي ص 500
4- إحياء علوم الدين للغزالي: ج 10 ص 30؛ نظم درر السمطين للشيخ محمد الزرندي الحنفي في ص 19

«وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ»: ومن فعل غير ذلك فأنه أذن من الظالمين «ولَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ»: إظهاراً لفضلك فأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان أثمه على من أفتاه»(1).

«ولَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ»: نهی عن الشتم وغيره من الأمور المستقبحة بعض الحكماء اللسان قيمة الإنسان فمن قوّمه زادت قيمته.

وفي الخبر من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت والمعنى أن في ذلك أبرار المنكرات وإظهار المكروهات ثم أعلمه أن استعظام الرجل نسفه خطأ وعقبه بالأمر بالسعي في التكسب لنفسه وعياله على قدر الحاجة فقال:

«واعْلَمْ أَنَّ الإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ »: فأن الصواب التذلل والانكسار لأرباب الألباب.

«وآفَةُ الأَلْبَابِ»: فأن كمال العقل فيما يليق بذي العقل وهذا مما لا يليق بذي العقل به روي أنه عليه السلام اشتری لحما بدرهم فحمل في ملحفته فقيل له أحمل عنك يا أمير قال: «لا أبو العيال أحق»(2)وأعلم أن العبودية مبنية على ترك التكبر واستعمال التواضع لأن التكبر من صفات الربوبية والتواضع من نعوت العبودية وإذا أيقنت أن الحقيق بك التواضع.

ص: 126


1- سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني في: ج 2 ص 178؛ القاضي النعمان المغربي في دعائم الإسلام: ج 1 ص 96؛ فضل الله الراوندي في النوادر؛ وأبن عساكر الدمشقي في تاريخ مدينة دمشق: ج 52 ص 20
2- التواضع والخمول لابن أبي الدنيا: ص 136؛ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي: ج 2 ص 202؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 2 ص 489؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 13 ص 106؛ الكامل لابن الأثير: ج 3 ص 401

«فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ»: في عملك وکسبك فأنه يكسر العجب.

«ولَا تَكُنْ خَازِناً لِغَیْرِكَ»: بل أسع لنفسك وعيالك على قدر الحاجة ولا تطلب فوق الكاف فأنه عليك مضرة ولغيرك منفعة وقال: صلى الله عليه [وآله] وسلم: «أيها الناس أجملوا في الطلب فأنه ليس لعبد إلا ما كتب له»(1)قيل لحكيم رحمة الله أن فلاناً جمع مالاً كثيرا فقال: له هل أعد الحياة على قدر المال قيل لا قال: فلم يعمل شيئاً ما يصنع الموتی بمال.

«وإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ»: أي خشوعاً لربك وهو قيام القلب بين يدي الرب بهم مجموع فأن من خشع قلبه يقربه الشيطان ثم رغبة بالرغبة عن الدنيا وقنيباتها بقوله.

«واعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ»: قدامك «طَرِيقاً»: صراطاً «ذَا مَسَافَةٍ»: بعد «بَعِيدَةٍ»: وأصلها من السهم فكان الدليل إذا أصاب في فلاة أخذه التراب فسمه ليعلم أعلى قصد هوام، أم على حوزتهم كثير استعمالهم لهذه الكلمة حتى سموا البعد مسافة ووصفها بكونها بعيدة للتأكيد.

«ومَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ»: حكي أن الفضل بن عياض يصف القيامة ويبكي فقال: له بشر بن الحارث أن خوفي أشد من الصراط، صف لي كيف ذاك فأنتحب وقال: ويحك يا بشر هي: سبعة جسور الأول: منها مسيرة ثلاث الآف عام والثاني أطول منه ألف عام وكذلك الثالث والرابع إلى السابع، فيسأل العبد على أولها من الصدق والإخلاص بعد الإيمان فأن لم يوجد في عمله الرياء والشك والنفاق

ص: 127


1- إحياء علوم الدين للغزالي: ج 10 ص 16؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 19 ص 163

والعجب نجا، وإلا ردوا على الثاني، يسال من الوضوء والغسل، وعلى الثالث من الصلاة، وعلى الرابع من الزكاة، وعلى الخامس من الصوم، وعلى السادس من الحج وعلى السابع من بر الوالدين؛ فأن وجد كل واحد کاملاً وإلا رد في النار.

یا بشر إياك والغفلة وإنشاء:

ذا ما كنت متخذا وصيا ٭٭٭ فكن فيما ملكت وصي نفسك

ستحصد ما زرعت غدا وتجزي ٭٭٭ إذا وضع الحساب ثمار غرسك

وقد سبق منا کلام في جهة استعارة الطريق والإمام.

«وأَنَّهُ لَا غِنَى»: أي لا كفاية «بَكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ»: لطب «وقَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ»: قد سلف تحقيق معنى الزاد وإطلاق هذا الاسم عليه «مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ»: الحمل «وَبَالًا»: عذاباً

«عَلَيْكَ وإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ»: يجيء إليك وافياً «غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وحَمِّلْهُ»: الزاد.

«إِيَّاهُ وأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ واغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ»: طلب القرض منك فِي «حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ

عُسْرَتِكَ»: فيه ترغيب في الصدقة وإيماء إلى ما قبل من أنها ثمن يغم الجنان وأجره حدم من الولدان وفي الإنجيل:

«لا تجعلوا کنوزکم في الأرض حيث يفسدها السوس والدود ولا يمؤمن عليها نقب السارق ووصول أيدي القطاع ولاكن اجعلوها في السماء فأنه حيث تكون

ص: 128

کنوزکم تكون قلوبكم»(1).

وقوله: فلعلك تطلبه فلا تجد أشارة إلى قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «يأتي علیکم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها ويقول: الرجل لوجئت بها أمس لقبلتها فأما اليوم فلا حاجة لي بها»(2)والأخبار في الصدقة كثيرة وفيه ترغيب أيضاً في القرض الخالي عن الريح.

«واعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَؤُوداً»: قد سبق بيان معنی بیان معنى العقبة الكود.

«الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ»: أخف الرجل خفت حاله وهو الذي خف ظهره من الأوزار وأعباء الذنوب، والمثقل بخلافه وفيه إشارة إلى ما في الخبر من أن بين أيدينا عقبة كؤداً لا يجوزه إلا المخف «والْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالًا مِنَ الْمُسْرِعِ»: الحسن ما ظنكم بأقوام قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكله ولم يشبروا فيها شربة؛ ثم صرف بهم إلى النار يحتمل أن يكون أفعل بمعنى أضل بدليل قوله تعالى: «لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(3)هذا يومكم الذي كنتم توعدون وأمثاله الناطقة بطيب احواله أريت؛ أن من حرر قلبه عن الأغيار بقلبه، وعلق الإحساس خواطر لبه ورأي من المخلوقين کشف طوارق كربه ولم يرجع الأبعد اليأس من الخلائق إلى ربه لا والله وكيف كان ومرتع ذلك رياض الوصال ومرجع هذا أشد السلاسل

ص: 129


1- عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري: ج 2 ص 295
2- مسند ابن الجعد: لعلي بن الجعد بن عبيد الجوهري؛ فتح الباري لابن حجر: ج 3 ص 233؛ عمدة القاري للعيني: ج 8 ص 271؛ السنن الکبری للنسائي: ج 2 ص 40؛ وتاريخ مدينة دمشق لأبن عساكر الدمشقي في ج 13 ص 466
3- سورة الأنبياء: الآية 103

والأغلال ولله درر من قال من أعرض عن الأسباب ولم يعرج عن الاستقامة بالأحباب، ولم ينفو باعتضاده وإستشاده إلى الأصحاب كفي له المهمات وخير له الخيرات ويكتسيه الآفات، ومن لم يتساو عنده الاحظار ولم يسقط عن قلبه الدنيا الوزن والمقدار لم يزل في سجن حرصه وفي أسر نفسه، وفي رق شهوته وفي ذل طمعه وعلم تقاصر رتبته وخساسة منزلته وبُعده من الله في خصائص حفظه وعصمته، ويحتمل أن يكون على ظاهره فأنه يضل جنسها إلى أولياته وأعدائه. وفي الخبر والذي نفیسي بيده لو تعلمون ما أعلم من أي عقاب الله للعصاة وشدة مناقشته يوم الحساب للفناء وكشف السرائر بل كان يذكر ذلك لهم حتی یبکوا ولا يضحكوا؛ فأن البكاء شجرة ثمرة حياة القلب الحي بذكر الله واستشعار عظمته وهيبته وجلاله والضحك نتيجة القلب الغافل عن ذلك بالحقيقة حث الخلق على طلب القلب الحي، والتعوذ من القلب الغافل.

«وأَنَّ مَهْبِطَها»: هبوطها: «بِك لَا مَحَالَةَ»: مصدر في موضع الحال.

«عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ»: فأن المكلف أما شقي أو سعيد فأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين وأما الذين شقوا ففي النار دائمين وإذا علمت ما تلوت عليك.

«فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ»: طلب صلاح نفسك «قَبْلَ نُزُولِكَ»: في العقبة «ووَطِّئِ الْمَنْزِلَ»: اتخذه وطناً في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

«قَبْلَ حُلُولِكَ»: بثمن الأعمال الرضية، والأخلاق الزكية، وقبل وطي المنزل أي جعله وطناً أي ليناً «فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ»: مسترضأ.

«ولَا إِلَی الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ»: رجوع بني أدم في ممر الليل والنهار في أحال منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتيه بغتة فمن يزرع خير يحصد سعادة ومن يزع شر

ص: 130

يحصد ندامة فلكل زارع مثل ما زرع.

ولم أرى كالأيام للمرأ واعظاً ٭٭٭ ولا كصروف الدهر هادياً

لعمرك ما يدري الفتی تتقی ٭٭٭ أذا هو لم يجعل الله واقيا

واحسن فأن المرء لا بد میت وأنك مجري بما كنت ساعياً ثم أحصى ألاء الله ونعمائه التي انعمها عليه وعلى غيره ليشكرها، ويصرف جميع الجنان والجوارح والأركان فيما خلقت لأجله فقال:

«واعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ»: ما خزنة الله فيها من الأرزاق ويقال للغيوب الخزائن لغموضها، واستتارها عن الناس وجعل الفصل مصدرا بهذا الكلام ليكون في قلبه ما يذكره بعد في معرض الأحكام.

«قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وتَكَفَّلَ لَكَ بِالِإجَابَةِ»: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»(1).

«وأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْ حَمَكَ»: «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ»(2)«ولْمَ يْجَعَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ مَنْ يْحَجُبُكَ عَنْهُ»: لا كملوك الدنيا فأنهم يجعلون حجاباً وينصتون، وذلك لقصورهم، وتصويرهم في شأنهم وتخيلهم ما ليس لهم من رفعة مكانهم.

«ولَمْ يُلْجِئْكَ إِلَی مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ»: بل ينزل ملك عن الله تعالى كل ليلة

ص: 131


1- سورة البقرة: 186
2- سورة النور: الآية 118

إلى سماء الدنيا؛ حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: عن الله تعالى «من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وفي رواية ثم يبسط يديه يقول «من يقرض غير ظلوم ولا جهول حتى يتفجر الفجر»(1).

واعلم أنه لما ثبت بالقواطع العقلية والنقلية أنه تبارك وتعالى منزه عن الجسمية والتحيز والحلول أمتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه بل المعني به على ما ذكره أهل الحق دنو رحمته ومزید لطفه على العباد وإجابة دعوتهم وقبول معذرتهم کما هو دأب الملوك والكرماء والسادة الرحماء أذا نزلوا بقرب محتاجين ملهوفين فقرأ مستضعفين

«ولَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ»: بل كل وقت تاب العبد فيه توبة نصوحاً تاب الله عليه.

ص: 132


1- حيث يروي القوم في مصادرهم ما هو بعيد عن الله تعالى؛ وقد يخفى عليهم قول النبي صلى الله عليه وآله؛ فعن علي عليه السلام: قال: «ستكون عني رواة يروَّون الحديث، فاعرضوه على القرآن، فإن وافق القرآن فخذوه، وإلا فدعوه»، يُنظر: الكافي للشيخ الكليني: ج 1 هامش ص 66؛ المقنعة للشيخ الصدوق مجملاً في: هامش ص 312؛ کنز العمال للمتقي الهندي: ج 1 ص 176؛ وعن ابن عساكر في تهذیب تاریخ دمشق حديث آخر عن علي عليه السلام؛ حول عرض الحديث على القرآن؛ وفي مثل حديث نزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا؛ نجد الخلاف واضح وذلك لقوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» والعجيب أن رواة هذا الحديث، ومصادره ليس بالقليل مع صریح مخالفته للقرآن، فقد روي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه کما ورد في المُصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 10 ص 444؛ وكذلك ورد في مسند أحمد بن حنبل في مسنده: ج 2 ص 265؛ وفي سنن الدارمي: ج 1 ص 347؛ وعلل بعضهم الحديث بأن النازل هو أمر الله تعالى فقالوا: ينزل ربنا بمعنی ینزل أمره، وهو حسن بعض الشيء ولاكن لا يغطي زيف الحديث، مع مخالفته للنص من قوله تعالى {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سورة الشورى: الآية 11، فتأمل

وفي الخبر أن يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وبسط اليد كناية عن قبول التوبة هذا على تقدير لم يمنعك من التوبة وقيل معناه لم يمنعك من الرزق بل العبد يذنب والله يعطي والإساءة من التوبة نقصها.

«ولْمَ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ»: العقوبة «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»(1).

«ولَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ»: أي لم يكشف مساوئك عند الخلق لما يكشف مساويك عند الخلق لما كشفت مساوئك للخالق وأعلم أن الله تعالى يغفر الذنوب ويستر العيوب ویکشف الكروب ويكفي الخطوب كل ذلك فظلاً وإنعاماً ولطفاً وإكراماً.

(2)«ولْمَ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الِإنَابَةِ»: الرجوع کما شدد التوبة على بني إسرائيل.

«ولَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ»: أي لم يستقص في حسابك بالدم.

«ولْمَ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ»: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»(3)«بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ»: ورجوعك عنه.

«حَسَنَةً وحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً»: أي عدها سيئة واحدة.

«وحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً»: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»(4)في الحُسن

ص: 133


1- سورة النحل: 61
2- ورد في بعض متون النهج: بِكَ أَوْلیَ
3- سورة الزمر: الآية 53
4- سورة الأنعام: الآية 160

کما أعطى إلى السلطان عنقود عنب يعطيه ما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها في القبح فمن كفر خُلد في النار فأنه ليس أقبح من الكفر كمن ساء إلى سلطان بقصد قتله ومن فعل معصية عُذب بقدرها کمن أساء إلى آحاد الرعية.

«وفَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ»: التوبة حيث شات تأتي لك أنی شأت قبل أن يعز عز ويرى بأس الله لقوله تعالى «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا»(1).

(2)«فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وإِذَا نَاجَيْتَهُ»: ناجی الله أي تضرع وتحنن بالدعاء وقيل المناجاة رفع الحاجات بلسان العجز واضطراب.

«عَلِمَ نَجْوَاكَ»: سرك ثم أمره بأمور أبرزها في معرض الأخبار وجعلها واقعة للاهتمام بشأنها فقال:

«فَأَفْضَيْتَ»: انتهيت.

«إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وأَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ»: أي أظهرت له حال نفسك يقال: بث الخبر وأبثّه بشره.

«وشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ واسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ»: جمع الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس لشدته.

«واسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ»: فاستعينوا بالله من استعان بغير الله في طلب فأن ناصره عجز وخذلان.

ص: 134


1- سورة غافر: الآية 85
2- ورد في بعض النسخ: وبَابَ الِاسْتِعْتَابِ

«وسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَیْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الأَعْمَارِ وصِحَّةِ الأَبْدَانِ وسَعَةِ الأَرْزَاقِ»: فأنها نعم جليلة والمعطي بها هو الله الجليل ثم زاد في عد نعمه عليه فقال:

«ثُمَّ جَعَلَ الله فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ»: جعل الأدعية كالمفاتيح فأنها تفتح بها أبواب الرحمة کما يفتح بالمفاتيح أبواب الخزائن فاستعار له لفظ المفاتيح وجعل استفتاحه بالدعاء كاستفتاح الخزائن متى شاء من يديه مفاتيح الخزائن فالاستعارة في المصدر التصريحية وفي الفعل التبعية.

«فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ واسْتَمْطَرْتَ»: طلبت المطر «شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ»: جمع شؤب وهو الدفعة من المطر وغيره.

«فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ»: فلو غير العبد نیته لا يستجيب دعوته وفي الخبر يستجاب العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: «يقول العبد قد دعوت وقد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»(1).

«ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ»: وفي الخبر افضل العبادة انتظار الفرج أي افضل الدعاء أن تستبطأ الإجابة فينتظر الداعي الفرج والإجابة فيزيد في خضوعه وخشوعه وعبادته التي يحبها الله تعالى وأعلم أن تأخير الإجابة أما لأنه لم يأتي وقتها فأن وقتها لكل شيء وقتاً وأما أنه لم يقدّر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطي عرضه في الآخرة وأما أن

ص: 135


1- فتح الباري لابن حجر: ج 11 ص 119؛ وكذلك في تحفة الأحوذي: للمباركفوري: ج 9 ص 233؛ وأيضاً في تفسير (أبن كثير) لابن کثیر: ج: 1 ص: 225

يؤخر القبول ليلح ويبالغ فيها فأن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء وفي كلامه عليه السلام تنبيه على أن الداعي ربه ينبغي أن يكون على يقين بأن الله تعالى يجيبه وذلك لأن رد الدعاء أما لعجز في أجابته وأنه تعالى جلا جلاله عالم كریم قادر لا مانع من الإجابة واعلم أن الداعي بلا عمل کالرامي بلا وتر.

ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تؤتياه»: أي تعطاه «وأُوتِيتَ خَیْراً مِنْهُ عَاجِلًا»: في الدنيا «أَوْ آجِلًا»: في الآخرة «أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَیْرٌ لَكَ»: أرد أن الله سبحانه عالم بما يليق بعبده يسأل شيئاً ويصرف عنه للذي هو خير له «فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ»: فلم تأته لذلك وإذا تبينت أن الدنيا وقيانها في معرض الزوال وينبغي على صاحبها الوبال إذا امسك أو صرف في غير وجه الله کما نبه عليه، عليه السلام في الخطب السابقة ثم نبه على شأنه ليسعى إلى رفعة مكانه ويرغب عن الدنيا وفيناتها وينظر بعين البصيرة عقباتها فقال:

«فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ ويُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ»: أي لا يجلس على وجه بقائه غبار الفناء ولا يحوم حوله شائبة الوبال بخلاف قينات الدنيا فأنها تفنى ويبقى على صاحبها الوبال إذا أمسك أو صرف في غير وجه الله كما نبه عليه عليه السلام في الخطب السابقة ثم نبهم على شأنه ليسعى إلى رفعة مكانه ويرغب عن الدنيا وقيناتها وينظر بعين البصيرة عقباتها فقال:

«واعْلَمْ(1)أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا ولِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ ولِلْمَوْتِ لاَ لِلْحَيَاةِ»: هذه اللامات لامات العاقبة.

«وأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ»: يقال: هو على قلعة أي رحله وهذا منزل قلعة بالضم

ص: 136


1- ورد في بعض متون النهج: يَا بُنَيَّ

أي ليس بمستوطن.

«ودَارِ بُلْغَةٍ»: البلغة ما تبلغ به العكس أي يكتفي ودار بلغة أي الدنيا تبلغ منها إلى الآخرة «وطَرِيقٍ إِلَی الآخِرَةِ»: قد سبق وجه استعارة الطريق له.

«وأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ»: مطروده والطرد الأبعاد والطريدة ما طردت من صيد وغيره.

«الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ»: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»(1)والهارب ما أعدى مراكب القوى في بيداء المعصية ونام على وسائد الغفلة وترك زمام أمره في يد الشيطان فيتباعد عن الله المنان ويفر عن الموت.

«ولَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ»: وهم الذين طهرهم الله عن الأرجاس والأدناس لا يفرون عن الموت بل يفرون من الناس إذا الموت حسر يوصل الحبيب إلى الحبيب کما سبق ذلك مثل.

«ولَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وأَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وبَیْنَ ذَلِكَ»: والتحديث شيء فيغير عما حرمت به، أراد أن الشخص يفعل معصيته ثم إلى التوبة له انشراح صدره في الجملة بملاحظة مضرتها ووبالها؛ ثم الشيطان يوسوس ويغفل عن ذلك.

«فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ»: إشارة إلى قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «أن المؤمن إذا أذنب كانت نکته سوداء في قلبه فأن تاب واستغفر صقل قلبه وأن زاد زادت حتى تعلوا قلبه فذلكم الران الذي ذكر الله تعالى «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ

ص: 137


1- سورة النساء: الآية 78

مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1)وتوضيحه أن المعني القصد الأول في التكليف بالأعمال الظاهرة فالأمر بمحاسنها والنهي عن مقابحها هو ما يكتسب النفس منها من الأخلاق الفاضلة، أو الصفات الذميمة، فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة ما فأن التحقق وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس مصقولة صافية وأن أنهمك فيه وأصر عليه زاد الأثر وقسا في النفس وأستعلى عليها وصار من أهل الطبع وذلك الأثر المستعلي ما عبر عنه تعالى بقوله: «بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ»(2)أي غلب واستولى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من الذنوب وشبه النفس باقتراف الذنوب بالنكت السوداء من حيث أنهما يضادان الجلا والصفا.

«يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ»: فأن الذاكر لا يستمر على الركون إلى الشهوات ويستعلي عما يجب عليه من التزود لدار القرار وأنشد الإمام زين العابدین علیه السلام:

فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها ٭٭٭ ويا أمناً من أن تدور الدوائر

على خطر تمسي وتصبح لاهياً ٭٭٭ أتدري بماذا لو عقلت بخاطر

تخرب مايبقى وتعمر فانياً ٭٭٭ فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر(3)

ص: 138


1- سورة المطففين: الآية 14: والحديث ورد في مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 297؛ المستدرك اللحاكم النيسابوري: ج 2 ص 517؛ السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 10 ص 188؛ شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 5 ص 440؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 3 ص 656
2- سورة المطفيين: الآية 14
3- الصحيفة السجادية: ص 505

«وذِكْرِ»: وأكثر «مَا تَهْجُمُ»: تدخل: «عَلَيْهِ وتُفْضِيِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ»: أهبتك «وشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ»: ظهرك شبه أخذ الأهبة للموت بالمشدد ظهره بأهبته السفر فأستعار في المصدر ثم سري في الفعل وهو كناية عن كمال الأخذ.

«ولَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ»: يغلبك.

«وإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وتَكَالُبِهِمْ»: تواثبهم «عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ»: خبرك «اللهُ عَنْهَا»: دنيا إنما هذه الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(1).

ونَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا»: يعني أخبرتك بفنائها وروي نعت أي كشفت والفاعل حينئذ هو الله «وتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا»: عيوبها «فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ»: صائحة «وسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ»: مفقودة للصيد هذا تشبیه بليغ ولقد احسن بهذا التشبيه في مقام التوبيخ ثم بين وجه التشبيه بقوله:

«يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا ويَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا ويَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا»: والهریر کما عرفت صوت الكلب دون نباحه، من قلة صبره أما أستعمل في المطلق مجازاً أو استعير للصوت الصادر من أهل الدنيا لذي المخاصمة والمناقشة وأكل ما حقیقته عزيز عليهم، والمراد به أكل المال.

«نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ»: ذات عقال: «وأُخْرَى مُهْمَلَةٌ»: أي أهل الدنيا بعضها بمنزلة الكلاب والذئاب لحرصها وقلة حياتها وبعضها كالنعم وهي الإبل والبقر والغنم

ص: 139


1- سورة الكهف: الآية 46

ويقال: للمواشي النعم أذلاء إذا كان فيها بعير وعقل البعير أن يثنی وظیفه مع ذراعه فیشدهما جميعاً في وسط الذراع وذلك الحبل هو العقال جعل أهل الدنيا على نوعين معقلة هذا الضرب وأخرى مهملة ثو وصفها فقال: «قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا»: أي لم تجد عقلاً لأنفسها كأنها ضلت عنه «ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا»: أي دخلت في موضع تجهيلها.

«سُرُوحُ عَاهَة»: آفة سرج الماشية رعت بالغداة.

«بِوَادٍ وَعْثٍ»: سهل كثير الدهس تغيب فيه الأقدام ويشق المشي فيه.

«لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا ولَا مُسِيمٌ»: راع «يُسِيمُهَا»: يرعاها، شبه أهل الدنيا بالنعم على تلك الصفات في أنه يرعى أياماً قليله من مزرع الدنيا ويترك عنان الطبيعة في يد الهوى ويعرض عن ذكر المولى؛ فأن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ينزل عليه وفد الشدائد ومع ذلك فلا يتركها ولا ينظر إلى مال حاله وأحواله الآخرة وأهواله كالسائمة بها وإلى ذلك أشار بقوله: «سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وغَرِقُوا فِي

نِعْمَتِهَا واتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ ولَعِبُوا بِهَا ونَسُوا مَا وَرَاءَهَا رُوَيْداً»: نصب على المصدر أي أمهلوا وارفعوا.

«يُسْفِرُ الظَّلَامُ»: ينكشف ويتجلى إذا حان أوانه يريد فيها في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أذا أخرج يده لم يكد يراها لكن ترتفع تلك الظلمات وتزول، تأتيك الشبهات بإشراق صبح یوم وأي يوم، «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا»(1)

ص: 140


1- سورة آل عمران: الآية 30

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» على أنفسهم «أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(1).

«كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الأَظْعَانُ»: أن مخففة من الثقيلة أي نحن مسافرون:

«كأن يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ»: أراد أن العبد يسرع إلى فناء الفناء والمسرع إلى الشيء يوشك أن يلحق به فيوشك أن يكون العبد كذلك وأشار إلى المقدمة أولاً بقوله:

«واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وإِنْ كَانَ وَاقِفاً»: قد سبق وجه استعارة المطية: لليل والنهار.

«ويَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً»: ساكناً من الدعة وهي الراحة وقد مر أيضاً وجه إطلاق المسافة والقطع وأما المقدمة الثانية فلأن كل ما هو آت فهو قريب إلا أن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد؛ ثم أحكم أركان ما بناه في ساحة خاطرة من الرغبة عن الدنيا والانهماك في طلبها والاعتصام بحبل الأمل ثم احكم أركان ما بنا في ساحة خاطرة من الرغبة عن الدنيا والانهماك في طلبها والاعتصام بحبل الأمل فقال:

«واعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ ولَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ»: لا تتجاوز أبداً وقت موتك.

«وأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ»: أما الأول فلأن الشخص بحسب الخيال يأمل أشياء كثيرة من المال وغيره دائماً وقد لا يقع ذلك أصلاً وأن حصل فعدم الزوال وأمله محال وأما الثانية فلقوله عز من قائل «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً

ص: 141


1- سورة الشعراء: الآية 227

وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(1).

«فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ»: أي هون وسهل.

«وأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ»: أي الاكتساب أما لأول أي لا تتجاوز عما يفتقر أليك وكل من کسب يدك ولا تطلب الزيادة.

«فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَی حَرَبٍ»: أخذ المال من الغير وتركه بلا شيء على وجه السلب وفيه مفاسد كثيرة دنيوية وآخروية وفي الخبر من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فأنه يطوقه يوم القيامة سبع أرضين، أما الطوق التقليد وأما طوق التكليف.

«ولَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ»: كل ما يطلبه «ولَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ»: ممنوع الرزق أراد بسلب الكل، كل سلب مجازاً فتأمل «وأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ خساسة.

«وإِنْ سَاقَتْكَ إِلَی الرَّغَائِبِ»: جمع الرغيبة وهي العطاء الكثير.

«فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ»: لن تأخذ العوض «بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً»: من ارتكاب الحساسة هو مثل أراقة ماء الوجه بالسؤال وفي الخبر لأن لأحدکم جبلة فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبتاعها؛ فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، ندب إلى ترك السؤال: «ولَا تَكُنْ عَبْدَ غَیْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ

اللهُ حُرّاً»: يعني أن السائل مغلوب والمسؤول عنه غالب عليه كما أن السيد غالب عبده وهو مغلوب في تحت تصرفه روي أنه عليه السلام سمع يوم عرفة رجلاً

ص: 142


1- سورة الأعراف: الآية 34

يسال الناس فقال: أفي هذا اليوم وفي هذا المكان يسأل غير الله فحققه بالدرة ومقصوده أن السؤال من غير الله منكراً لا سيما في يوم الحج الأكبر وفي مكان يجتمع فيه وفد الله وزوار بيته ثم أستفهم عل سبيل الأنكار ليتقرر ما أمره في قلبه مزید القرار فقال:

«ومَا خَیْرُ خَیْرٍ»: أي خير خير «لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ»: وأي «يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بعُسْرٍ»: ولك أن تلبسه بصورة البرهان فتقول سلوك سبيل المتعال وفراغ البال والاعتراض عن السؤال وفي هذا الكلام ترغيب في ترك السؤال وأن السؤال مع الحرص يفضي إلى الشقاوة لا إلى السعادة، وأن السائل يقصد اليُسر بعبارات رائقة أنيقة أشارة إلى أن بني آدم مجبولون على حب المال والسعي في طلبه، وأن لا يشبع منه إلا من عصمه الله تعالى ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه، وقليل ما هم هذا ما سنح لي في ابتداء النظر واعلم أن بني آدم مخلوقون من التراب، ومن طبيعة القبض والتبين فيمكن زالته بأن يمطر الله سبحانه، وتعالى عليه السحائب من غمائم توفيقه فيمر حينئذ الجلال الزكية والخصال المرضية، والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا فمن لم يتداركه التوفيق ويترك الحرص لم يزدد إلا حرصاً وتهالكاً على جمع المال.

«وإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ»: موارد «الْهَلَكَةِ»: أي أحذر أن يلقيك الطمع في الهلاك وإياك أخص بهذه الوصية فهذا تقدير الكلام وأمثاله وإلا يخاف السير السريع ولما كان من حسن التعليم والتأديب أن يقدم الأسهل فالأسهل لأجرم أخر عليه السلام ندبه إلى التوكل عما ندبه إليه سالفاً مشيراً غلى صعوبة هذه المرتبة بقوله:

ص: 143

«وإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وبَیْنَ اللهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ»: نصيبك «وآخِذٌ سَهْمَكَ»: نصيبك قال: صلى الله عليه [وآله] وسلم «أن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله»(1)«وإِنَّ الْيَسِیرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ»: بغیر واسطة ذي نعمة «أَكْرَمُ وأَعْظَمُ مِنَ الْكَثِیرِ مِنْ خَلْقِهِ وإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ»: فلأن فيه البركات تجذب إلى الطاعات وتبعد عن الشهوات ثم يصقل المرآة وما من الخلق فيها الآفات لا يخلوا عن الشبهات وتجذب إلى الشهوات وفي الخبر أن رجلاً دخل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية فلما رأت أمرئته قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى الثور فسخرته؛ ثم قالت أرزقنا فنضرت فإذا الحقة قد امتلأت وذهبت إلى الثور فوجدته ممتلياً فرجع الزوج قال أصبتم بعدي شيئاً؟ قالت نعم من ربنا وقام إلى الرحى فذكر ذلك إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: «ما أنه لو لم يرفعها لم يزل تدور إلى يوم القيامة»(2).

وتَلَافِيكَ: تداركك مَا فَرَطَ: قصر مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ: أسهل مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ: فيه ترغيب إلى السكون ومثل هذا الكلام الصادر عنه عليه السلام من جوامع الكلم وجواهر الكلم الحكم ولا يعرف ما تحت كلامه من بحار المعاني إلا خواص العلماء.

وحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ: صار مثلاً والمراد هنا أن ما في القلب، أريد أن لا يطلع عليه غيره مما سوى الله العالم بخفيات الصدور وجب أن يحفظ اللسان

ص: 144


1- السُنة لأبن أبي عاصم في السنة: 117؛ أوصحيح ابن حبان: ج 1 ص 31؛ مورد الضمآن للهيثمي: ج 3 ص 421؛ مجمع الزوائد: للهيثمي: ج 4 ص 72؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 8 ص 430
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 513؛ مجمع الزوائد لهيثمي: ج 10 ص 256؛ تفسير ابن 513؛ كثير: ج 4 ص 410؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 2 ص 170

فأنها آلة تلف الإنسان ومظهر مکنون الجنان وحفظ ما في يدك من التوكل على الله وترك السؤال والتعظم في أعين النساء والرجال وعلو الشأن والحال.

(1)أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَیِرْكَ: من المال من أهل العوانة في الحفظ والمضراب في الطلب.

ومَرَارَةُ الْيَأْسِ خَیْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَی النَّاسِ: فأنها مرارة اليأس واحدة وفيه مرارات كثيره.

والْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَیْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ: الحرفة بكسر الراء الصناعة وبضمها الحرمان والفقر وكلا المعنين مناسب هنا فأن الكاسب حبیب الله وأن أولم في الدنيا فإيلامه قليل بالنسبة إلى إيلام الفاسق في العقبي وهو ظاهر وأما الحرمان فهو كذلك أيضاً، هذا والفقر مع العفة ينبوع المكرمات في الدار الآخرة قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «في الدينا أربع: موسع عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، وهو الغني الصالح الشاكر، ومقتور عليه في الدنيا مقتور عليه في الآخرة وهو الكافر الفقير، وموسع عليه في الدنيا مقتور عليه في الآخرة وهو الكافر الغني، ومقتور عليه في لدنيا موسع عليه في الآخرة وهو المؤمن الفقير الصابر»(2)وفي الخبر أن أطيب ما أكل الرجل من کسبه.

«والْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ»: يريد أن المرء يرى ما يوضع في صندوق قلبه وحسنه وقبحه ولا يبرزه مالم يبرز له أن الصواب إبرازه وإظهاره وعن الحسن عليه

ص: 145


1- ورد في بعض متون النهج: وحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ
2- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 164؛ وفي مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 32 بعبارة مختصرة؛ المستدرك للحاكم النيسابوري ج 2 ص 87؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 235؛ مورد الضمآن للهيثمي: ج 1 ص 133؛ صحيحة ابن حبان: ج 14 ص 45

السلام قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «لسان الحكيم من وراء قلبه»(1).

«ورُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ»: لقصوره فيه أو لتقصيره في البحث عن عاقبته وأهل الدنيا كذلك إلا من عصمه الله وقليل ما هم «مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ»: من الإهجار وهو الإفحاش في المنطق إشارة إلى ما قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه کثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به»(2).

«ومَنْ تَفَكَّرَ»: في الأمور من حيث الصدور وعدمه «أبْصَرَ»: يبصر البصيرة الصواب عن غيره بحسب قوته العاقلة ولأن في كل جديد لذة أظهر عليه السلام هذه النصائح في صور الأخبار إيماناً بشأنهما.

«قَارِنْ أَهْلَ الْخَیْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ»: يعني أن مقارنتهم مؤثر في المقارن تكون كتكونهم وتلونه کتلونهم وفيه إشارة إلى قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «هم القوم لا يشقى جليسهم»(3)وقيل معناه أن المقارن تعد في الألسن منهم.

«وبَايِنْ»: باعد «أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ»: أي تبعدهم وتميز منهم خلاصة الكلام أن مجالس أهل الخير يكسبه وقد يرتقي على معارج القدس ويرتع في رياض الأنس ألا يرى أن من عقد منطقه كيف فتح الله عليه أبواب فتوحه، ومن قارن بيضاء سماء الولاية وأقتبس الأنوار من مكنونها، كسا الله بنوره مهجته، وتقارن أهل

ص: 146


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 311؛ الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا ص 220؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي ج 4 ص 266
2- میزان الاعتدال للذهبي ج 1 ص 21؛ وكذلك في الميزان: ج 3 ص 325؛ لسان الميزان لابن حجر: ج 1 ص 36؛ أرشاد القلوب للحسن بن محمد الديلمي: ج 1 ص 104
3- أرشاد القلوب لابن أبي عاصم ص 59؛ فتح الباري لأبن حجر: ج 11 ص 179؛ صحيحة ابن حبان لأبن حبان: ج 3 ص 140؛ شرح السير الكبير للسرخسي: ج 1 ص 18؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 3 ص 538؛ الفتوحات المكية لابن عربي في ج 1 ص 713

الشر تأخذ منه اعمال الشر سراعاً لأن عليها بواعث الطبع وهم شياطين الأنس يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ومن هذا القبيل كثير لا يحصى ولا يستقصى.

«بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ»: فأن في الحديث أن من أكل لقمة من الحرام لا تقبل صلواته أربعين ليلة.

«وإيما لحم نبت من الحرام فالنار أولى به»(1).

«وظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ»: لأنه أشد للظالم عذاباً وعن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم خبراً عن الله تعالى «اشتد غضبي على من ظلم أحداً لا يجد ناصراً غيري»(2).

(3)«إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً»: أي إذا كان الرفق في الأمر غير نافع فعليك بالخرق وهو العجلة وإذا، وإذا كان الخرق أي العجلة غير نافع فعليك بالرفق والمراد بذلك أن يستعمل كل واحد من الرفق والخرق في موضعه فأن الرفق إذا استعمل في غير موضعه كان خرقاً والخرق إذا استعمل في غير موضعه كان رفقاً، وقريب من هذا المعنى قوله عليه السلام:

«رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً والدَّاءُ دَوَاءً ورُبَّمَا نَصَحَ غَیْرُ النَّاصِحِ وغَشَّ»: خان «الْمُسْتَنْصَحُ»: أي الذي طلب منه النصح أراد أن الشخص ينبغي أن ينضر إلى قول

ص: 147


1- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني: هامش ص 400؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 5 ص: شرح ص: 23
2- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 405؛ مجمع الزوائد للهيثمي ج 4 ص 206؛ المعجم الصغير للطبراني: ج 1 ص 31؛ ربیع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري: ج 3 ص 308
3- ورد في بعض متون النهج: أَفْحَشُ الظُّلْمِ

القائل لا إلى ذاته ثم يعمل بمقتضاه فلو نصح عدو له فليقبل.

«وإِيَّاكَ والِاتِّكَالَ»: الاعتماد «عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى»: الحمقى فأن الأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء وهو تقدیر شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وضن ويكون عن رؤية وبناء على أصل لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له قال عز من قائل: «أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى»(1)«فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ»(2)«وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا»(3)، فلن يعتمد كامل العقل عليها.

«والْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ»: وفيه مبالغة لطيفة فأن العقل على ما قاله أهل العلم جوهر مضیئ خلقه الله تعالى في الدماغ، وجعل نوره في القلب يدرك الغايات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة، وأقول هذا قريب مما قاله أهل التفسير من أن العقل نوع علم يستبان به العواقب ويترك به القبائح وفيه ترغيب إلى حفضها لما فيها من المنافع الكثيرة.

«وخَیْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ»: فأنه جالب إلى الزهد في شجرة ثمرتها الويل والمضرة وهي جمع المال من الحرام والحلال.

«بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً»: أي قبل أن يفوت فيصير غصة لك وحسرة عليك.

«لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ»: فأن من طلب شيء لم يكتب القلم الإلهي له لا

ص: 148


1- سورة النجم: الآية 24
2- سورة البقرة: الآية 93
3- سورة الجمعة: الآية 7

يصيبه وفي الخبر كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.

«ولَا كُلُّ غَائِبٍ يَؤُوبُ»: فأن من الغائب من أثبت في اللوح المحفوظ عدم رجوعه فينبغي للعاقل أن لا يحزن على ما فاته من الدنيا.

«ومِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ ومَفْسَدَةُ الْمَعَادِ»: أي إفساد المرجع فأن الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قيلاً كأن الخروج عنه أم كثير ويضاده الصلاح وظاهر أنهما بالنسبة إليهما فساد فأن الصلاح في ادخار الزاد ليوم المعاد، وقد رَغبنا عليه السلام في هذا مراراً كثيرة.

«ولِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَك»: فيه إشارة إلى الإيمان بالقدر روي ان شيخاً قام إليه عليه السلام بعد انصرافه من صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر فقال: الشيخ عند الله أحتسب عنائي ما أدري لي من الأجر شيئاً فقال: مه أيها الشيخ عظم الله أجركم في المسير وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصورون ولم تكونوا في شيء من حالكم مكرهين ولا إليها مضطرين فقال: الشيخ کيف والقضاء والقدر ساقانا فقال: ويحك لقد ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم يأتي لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمی من الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها أن الله أمر تحذيراً ونهي تحديداً أو كلف يسيراً لم يعص مغلوباً ولم يطع مكرماً ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً ولم يخلق السموات والأرض وما بينها باطلاً ذلك ضن الذين كفروا فويل للذين كفروا من

ص: 149

النار فقال: الشيخ ما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما قال: هو: الأمر من الله تعالى والحكم ثم تلا قوله تعالى «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»(1).

«التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ بنفسه»: وماله أراد أن العبد في الدنيا تاجر وهو في محل الخطر بنفسه وماله فلا تغفل لمحة من حاله فأن المشتري بأحواله عالم ولا يقبل إلا الجيد من أعماله وأقواله: «أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ»(2).

«ورُبَّ يَسِیرٍ»: قليل «أَنْمَى مِنْ كَثِیرٍ»: وهو ما كسبه العبد بوجه جميل ويصرفه فيما يرضى به الجليل فأنه أكثر بركة من مال أُخذ بوجه غير شرعي وصرف فيما ليس بمرضي.

«لَا خَیْرَ فِي مُعِینٍ»: ناصر «مَهِینٍ»: بفتح المين الذليل وبضمها المذل؛ فأن الذليل لا يقدر على ما يريد والمذل نصره لا يفيد فلا خير بالقياس إلى المستعين، وفي هذا تنبيه على ان الملتجئ أن ينظر بعين اليقين شان الملتجئ بالنسبة إليه ولا يتكل على ظاهر حاله عليه والمعين المذل من أعانة في أمر الدنيا.

«ولَا فِي صَدِيقٍ ظَنِینٍ»: بالطاء المتهم وبالضاد التخيل وكلاهما فلأنه يبخل بما يليق بحال الشخص وقد يلقى إلى التهلكة وسلب الخيرية للمبالغة.

«سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ»: ما بمعنى المدة قال: أبو عبيدة القعود البعير يقتعده الراعي في كل حاجة استعار القعود للدهر وهي ملاحظة لشبهة به من حيث أن كلاً منهماً توصل إلى المطلوب ورشحها بالمساهلة وهي كناية عن أخذ

ص: 150


1- سورة الاسراء: الآية 23
2- سورة البقرة: الآية 16

الوسط في الأمور لا الإسراف ولا التقتير وأمثال هذه الكلمة من جوامع الكلم وهي خزائن كنوز المعاني والقوة البشرية لا يفي بإحصائها واستقصائه.

«ولَا تُخَاطِرْ بِشَيْءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ»: فأنها مذمومة شرعاً وعقلاً أذا الاتكال على الرجاء من بضائع النوكي.

«وإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ»: أي أحذر أن يغلب اللجاج وإياك أخص بهذه النصيحة فتدبرها وأكثر ما يقال للفرس الجموح إذا أغبر فارسه ووجه الاستعارة أفضاء كل منهما بصاحبه إلى مكروه، واللجاج التمادي والعناد في تعاطي الفعل المرحوم عنه وهي تورث العداوة وغيرها من المضرات ثم أمره بمكارم الأخلاق لا يؤتى إلا من خص بمزيد الآلاء من الأخلاق منها الصلة قال عليه السلام:

«احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ»: قطعه.

«عَلَى الصِّلَةِ»: كناية عن الإحسان وغيره من أنواع البر فكان الشخص بالبر قد وصل ما بينه وبين القاطع من علاقة المحبة وقد ورد فيه أحاديث كثيرة.

مثل قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم لا «يدخل الجنة قاطع»(1)«لا يحل للمرء أن يهجر أخاه فوق ثلاث وعند ثلاث»(2).

ص: 151


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 170؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 80؛ سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 12 ص 382؛ السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي في ج 7 ص 27؛ فتح الباري لابن حجر في ج 10 ص 347؛ مسند أبي يعلى الموصلي في ج 13 ص 385
2- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 8 ص 445؛ المصنف لأبن أبي شيبة الكوفي: ج 6 ص 94؛ شعب الأيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 2 ص 75

«وعِنْدَ صُدُودِهِ»: أعراضه «عَلَى اللَّطَفِ والْمُقَارَبَةِ»: قريب مما قبله فإن الإنسان عبيد الإحسان، والتعبير بهذه العبارة أشاره إلى أن ذلك وإن كان ثقيلاً إلا أن فيه أثراً جميلاً.

«وعِنْدَ جُمُودِهِ»: بخله وجه الاستعارة أن كلاً منهما سبب عدم ما يراد من أمطار الفيض.

«عَلَى الْبَذْلِ وعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّینِ وعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ»: أراد أن الحَسن حسَن الخُلق، قال عليه السلام: فأن الخلق في الجنة لا محال وأياكم و. وسوء الخُلق فأن سوء الخُلق في النار لا محال.

روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى صلوات الله عليه: يا عيسى أو صيتك بأربع أشياء إذا انت فعلتهم أثبت لك جناحين من ذهب تطير بهما مع الملائكة في الجنة:

كن حليماً في الأرض كالأرض يعصى عليها ولا تبتلع أحداً، مؤاتياً كالماء يسيل حيث يسال، وكن شفيقاً كالشمس تضيء البر والفاجر وكن متواضعاً كالنوم يخفض رأسه ولا يرفعه وعنه عليه السلام: «أن حُسن الخلق يذيب الذنوب کما يذيب الماء الملح»(1)والله در من قال:

يامن بذل بحسن خُلقه ٭٭٭ حُسن الفتى في حَسْن خُلقه

فالحُسْن في خُلق الفتى ٭٭٭ فيه دلائل طيب عرقه(2)

ص: 152


1- الحديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ الغازي لداوود بن سليمان: مسند الإمام الرضا: ص 65، باختلاف يسير؛ وأورده محمد السبزواري في: معارج اليقين في اصول الدين: ص 290
2- لم أعثر على مصدر للقائل ولعله من المصنف

«حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ»: أي سيسلك ذلك السبيل الجيد حتى تصير كالعبد وسيء الخلق كالسيد؛ ثم نبه على أن لذلك أهل ومقام ومن يجاوز عنه تلام فقال عليه السلام:

«وإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَیْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَیْرِ أَهْلِهِ»: لأنه يتلوا عليك مذامه فتورث المعاداة بينكما.

«لَاتَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ»: لأنه يتلوا عليك مذامه فيورث المعاداة بينكما «وامْحَضْ»: أخلص «أَخَاكَ النَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً»: اعلم أن النصيحة لا تكون قبيحة فأنها الأمر بالأقبال على إتيان صحاح الأعمال، وبيان تبع الدنيا وبرهان شري العقبي والاطلاع على حفظ الطرائق لاقتباس أنوار الحقائق فلا يكون قبيحة ولاكن ربما يستقبحها السامع ويستقلها لصعوبتها، وقيل معناه أخلص نصيحته بسبب فعل حَسَنْه كانت تلك النصيحة، أم سبب خصلة قبيحة(1).

«وتَجَرَّعِ الْغَيْظَ»: قد عرفت وجه استعارة التجرع لكظم الغيظ «فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً ولَا أَلَذَّ مَغَبَّةً»: عافية وفي الخبر من كظم غيظاً وهو يقدر على أتقاده ملأه الله تعالى أمناً وإيماناً «ولِنْ»: من اللين «لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِینَ لَكَ»:

ص: 153


1- والظاهر من سياق العبارة أن معناه فالتكن الأفعال الحسنة لصديقك هي في الحقيقة نصيحة عملية، وأن المؤمن يصمت بلسانه وتتكلم عنه أفعاله كما أوصى الأمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام «كونوا لنا دعاة صامتين» شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 2 ص 506؛ دعائم الإسلام كذلك للقاضي النعمان: ج 1 ص 57

يا طالب الرزق السني بقوة ٭٭٭ هيهات أنت بباطل مشغوف

أكل العقاب بقوة جيف الفلا ٭٭٭ ورعي الذباب الشهد وهو ضعيف(1)

«وخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ»: بالأفضال عليه «فَإِنَّهُ أَحْد الظَّفَرَيْنِ»: فأن الظفر أما بالسنان وأما بالإحسان حكي أن ذي القرنين قال لأستاذه أرسطو طاليس: أنصح لي قال ملكت البلاد بالفرسان فاملك القلوب بالإحسان.

«وإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ»: أي ندم «يَوْماً مَا»: من الأيام أراد أن رعاية الصلة واجبة بقدر الإمكان فأتها تجري ينبوع المحبة والعرب تقول للقطيعة: يئس قال الشاعر:(2)

فلا توبسوا بيني وبينكم الثرى ٭٭٭ فإن الذي بيني وبينكم مثري

«ومَنْ ظَنَّ بِكَ خَیْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ»: من صدقت فلاناً نسبته إلى الصدق ووجدته صادقاً أي لو قال أني أضن بك خيراً فلا تكذبه في ضنه فأن من شأن المؤمن أن لا يكذب ولا تكذب ويحتمل أن يكون من صدق فعله ويكون كناية أي أعمل كما ضنه ولا تضنن به.

«ولَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا»: استناداً.

«عَلَی مَا بَيْنَكَ وبَيْنَهُ»: من الأخوة والمحبة.

ص: 154


1- اختلفوا في قائل البيتين: وقيل هي لأبي العلاء المعري: كما قاله: كمال الدين دميري في حياة الحيوان الكبرى: ج 1 ص 490
2- الشاعر هو: جرير يُنظر الأمالي لإسماعيل بن القاسم القالي: ج 1 ص 94

«فَإِنَّهُ»: الشأن «لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَن أَضَعْتَ حَقَّهُ»: فأنه يورث الشحناء ويستر الصداقة والأخوة والمحبة والناس في ذلك على مراتب كثيرة وقيل معناه أن الأخوة يقتضي أن لا يضيع حقه فإذا ضيعته فكأنه لم يكن أخاك.

«ولَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ إليك»: أي أكثرهم شقاوة وتعباً بسببك فجد في المعاملة معهم وسط الإسراف والتقتير والأهل يقال: لأهل الرجل وأهل الدار وهنا شامل لهما وفيه إشارة إلى مذمة من يدع أهله في ورطة الوحشة والمجاهدة بدفع الصعاب.

وإرادة أن يرتقي إلى معارج القدس، وهو غافل عن أن المجاهدة الموصلة تجلية لمراء الفؤاد، بصقالة محبة الخلق بعد انقطاع أسباب تعلق الخلق.

«بِكَ ولَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فَيْكَ»: أي لا تطلب مودة من يكره محبتك فأنه مذلة عليك ولا تغفل عن قوله، وإياك أن ذلك في غير موضعه كيلا يتوهم أن هذا الكلام منافٍ للأمر بالصلة في ذلك المقام فأنه عليه السلام يضع الهناء مواضع النقب(1).

«ولَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ عَلَى مقَاطِعَتِكَ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ ولَا تَكُونَنَّ عَلَى الإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الإِحْسَانِ»: فأن في هذه الحال لا يشد الرجل حبل الوصال إلا بتعسر وقد يعتق عتق البعد على أن اللائق بحال الأدنى أن لا يصل إلى الأعلى كالرعية والسلطان.

ص: 155


1- والنُّقْبُ والنُّقَبُ: القِطَعُ المتفرّقَةُ من الجَرَب، الواحدة نُقْبة؛ وقيل: هي أَوَّلُ ما يَبْدُو من الجَرَب؛ قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ: مُتَبَذِّلاً، تَبدُو مَحاسِنُه ٭٭٭ يَضَعُ الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ: يُنظر لسان العرب لابن منظور: ج: 1 ص 766

«ولَا يَكْبُرَنَّ»: ولا يعظمن «عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ ونَفْعِكَ»: حكي أن ظالماً يظلم على ضعيفاً أعواماً فلما طال ظلمه قال المظلوم للظالم: أن ظلمك علي قد طاب بأربعة أشياء: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والديان يحكم بيننا.

وفي الخبر أن العبد إذا ظُلم فلم ينصره ولم يكن له من ينصره رفع طرفه إلى السماء فدعا الله تعالى قال: جل جلاله لبيك عبدي أنصرك عاجلاً وآجلاً.

«ولَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ»: فأن من ساء من أسره باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وأعلم أنه عليه السلام اقتبس النور من مشكاة النبوة فرأى به بعین بصيرته ما كان وما سيكون من الأحوال والأطوار فنظم درر هذه النصائح في النظام لنصيحة الأنام وأن خاطب فلذة كبده عليه السلام.

«واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ ورِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ»: قيل آتيه متعلق بقوله ورزق يطلبك فأما الرزق فمن شرط وصوله إليك أن تطلبه فأن لم تطلبه لا يصل إليك بل يفوتك.

أقول: وإلا ظهر أنه على الأعم، أي هذا الرزق وهو ما للإنسان، ما أن ينتفع به ليس لغيره منعة منه، وأن لم تكن طالباً له، صرت مطلوب رزقك.

قال: بعض أهل المعرفة: أفضل المقامات في التوكل أن يشتغل بالله ولا يهتم لرزقه لأن العبد لو هرب من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه ولما بين الرزق والطالب استعار الطلب له.

«مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ»: التواضع «عِنْدَ الْحَاجَةِ»: ابو علي الروزناري رحمه الله قال

ص: 156

في معنى قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه»(1)لأن المرء بثلاثة اشياء بقبله ولسانه وبدنه، فإذا تواضع بلسانه ويده ذهب ثلثا دينه، ولو اعتقد له بالقلب بعد اللسان والبدن ذهب كل دينه.

«والْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى»: فأن الجافي حينئذٍ ينسى الله ويجري على خلاف ما أمر الله به ويكسر قلب الفقير ولا يشكر اللطيف الخبير.

کما ورد: «كان الله تعالى في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه»(2)كذا قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

«إِنَّمَا لَكَ مِنْ الدُنْيَا مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ»: وما زاد عليه فعليك عن بعض أهل المعرفة أنه قال: الدنيا لعب وما فيها لعب والمشغول بها لا عب لاهي وكل لاهي ساهي وكل ساهي طاغي وكل طاغي في النار قال الله تعالى «فَأَمَّا مَنْ طَغَى ٭ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(3).

«وإِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَی مَا يفلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ»: فات وخرج من يدك.

«فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ»: فيه تنبيه على أن الفائت من يدها لا يجزع عليها وهذا يليق بحاله وأن خرج عليها لألفتها ومحبتها وأستدل عليه السلام عليه بقياس شرطي متصل تقريره لو كان الخارج لائقاً بالقلق لكان غير الواصل حقيقاً

ص: 157


1- نهج البلاغة: الخطبة: 228: ص 508؛ يُنظر: المبسوط للسرخسي: ج 16 ص 111؛ تحف العقول لأبن شعبة الحراني: ص 8 باختلاف يسير
2- يُنظر: السنن الكبرى للنسائي: ج 4 ص 309؛ وكذلك في المعجم الأوسط للطبراني: ج 1 ص 63؛ ومثله: في المعجم الكبير للطبراني: ج 5 ص 118؛ وعلل الدارقطني للدار القطني: ج 10 ص 186
3- سورة النازعات: الآية 37 - 38

به أيضاً وأنت مقربان غير الواصل ليس بحقيق لأن كلاً منهما ليس بيده زمام التصرف فلا يخلوا الاضطراب عليه عن التعسف وإلى وجه الملازمة أشاره بقوله:

«اسْتَدِلَّ»: أي طلب الدلالة.

«عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ الأُمُورَ أَشْبَاهٌ»: أي يتشابه يشبه بعضه بعضاً وذو الجزع جزع على الفائت لعمى قلبه حكي: أنه سرق مال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اللهم أن كانت حَملّتْه على أخذها حاجة فبارك له فيها وأن حَملّتْه جرأة على الذنب فأجعله أجر ذنوبه والبصير يقول:

لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ٭٭٭ فليس ينقصها التبذير والسّرف

فإن تولَّت فأحرى أن تجود بها ٭٭٭ فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف(1)

«ولَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلَّا إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآدَابِ: بسبب عقله وهو نور في القلب يفرق الحرق عن الباطل.

«أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(2).

«اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وحُسْنِ الْيَقِینِ»: العزائم جمع عزيمه وهي توطين النفس على الصبر وعقده عليها، والصبر ذبح النفس بشفرة الرضا ولا يكون إلا بملاحظة فوائده مثل ما روي عنه عليه السلام عن النبي صلى الله

ص: 158


1- البيتان: لخلف بن خليفة: عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري في: ج 3 ص 44
2- سورة الأعراف: الآية 179

عليه وآله وسلم «الصبر ثلاث صبر عن المصيبة، وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائمه كتب الله تعالى له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله تعالى له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين، قال: والتخوم منتهى كل كورة»(1).

«مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ»: الطريق المستقيم «جَارَ»: مال عن الصواب والرشد أراد أنهما واحد روي عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم خطاً قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه وقرأ «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(2)الآية ولا تغفل عن تفضيل سبق.

«والصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ»: يعني ينبغي أن يكون الصاحب مناسباً لك في حسن السيرة وسداد الطريق أي لا يصاحب من يشك صحبه بسوء أخلاقه.

«والصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ»: أي إذا غاب عنك حفظ عينك وصدق وده لك ومن لا، هو: منافق.

ص: 159


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 91؛ عوالي الئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 115؛ فتح الباري لابن حجر: ج 11 ص 261؛ ربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري: ج 3 ص 93؛ أرشاد القلوب للحسن بن محمد الديلمي: ج 1 ص 128
2- مسند أبي داوود الطيالسي: ص 33؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 6 ص 343؛ السنن الكبرى للنسائي: ج6 ص343؛ صحيح ابن حبان: ج 1 ص 180

«والْهَوَى شَرِيكُ العمى»(1): أي عمى القلب بسبب الهوى يلقى في جب الغوى فيكون شريكاً له وفيه تنبيه على ترك متابعة الهوى فأما من خاف مقامه ربه نهى النفس عن الهوى فأن الجنة هي المأوى وفي تركه مراتب كثيرة ومفاوز بعيده.

«ورُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ»: وذلك لأن القرب من الشخص وبعده عنه بحسب المحبة وعدمها فرب بعيد بحسب النسب يكون قريباً منه، ويجالسه ويصاحبه لما بينهما من المودة ورب قريب يكون بعيداً عنه لما بينهما من العداوة ويختلف الناس في ذلك اختلافاً شديداً.

«والْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ»: لأنه يقال لكل متباعد وهو متباعد وفيه اشارة إلى الشخص المحسود المتباعد عنه ولو كان بين أقربائه فهو غريب.

«مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ طريق»: مَذْهَبُهُ «ومَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ»: أي من تجاوز ما يليق بحاله وما في معه وإسراف صادق عليه مذهبه.

«وأَوْثَقُ»: أحكم «سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وبَیْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ»: وقد عرفت أنها هي التقوى، وإنما كان أوثق لأنه لا يكسره فأس الأجل ولا يتطرق إليه الخلل وفي المار على الصراط من الزلل ويذهب عنه الخوف والوجل قال عز وجل «لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(2)

«مَنْ لَمْ يُبَالِكَ»: لم يلتفت إليك «فَهُوَ عَدُوُّكَ»: إي إذا صدر عنك ما يقضي الالتفات لما مر.

«قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً»: وذلك إذا كان الطمع هلاكاً وقد عرفت أن الطمع

ص: 160


1- ورد في بعض متون النهج: والهوى شريك الْعَنَاءِ
2- سورة الأنبياء: الآية 103

المهلك ماذا(1)«لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ»: أي كل ما يستحي منه يظهر للعقول الناقصة بل لا بد من الوسيلة فأن فعل الشيطان يتزين القبيح ويقبح الحسن ويشد أرجل النفوس بالرسن(2).

قال عز من قائل «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(3)وهو هو وأهل بيته عليهم السلام ولله در من قائل(4):

«ولَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ»: توجد وتدارك يعني أن الشخص قد يتمكن من العقل بحسب الوقت فإذا فات فقد لا يتيسر له.

«ورُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِیرُ قَصْدَهُ وأَصَابَ الأَعْمَى رُشْدَهُ»: استعار الأعمى للجاهل ملاحظة لشبهه به وذلك بحسب الأسباب وإرادة رب الأرباب.

«أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ»: أراد أن العبد حقيق بأنه لا يفعل الشر ويسعى في الخير وليس مقصود الأمر به مؤخراً وفي الحديث(5)أن للشيطان لمة بأن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشكر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم(6).

ص: 161


1- ورد في بعض متون النهج: إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلاَكاً
2- الرسن: الحبل، وجمعه الأرسان، والمرسن: الأنف، وجمعه المراسن: العين للخليل الفراهيدي: ج 7 ص 242
3- سورة المائدة: الآية 35
4- القائل هو: الناشئ الصغير: مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 398
5- الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله
6- سنن الترمذي: ج 4 ص 288؛ تفسير الرازي: ج 5 ص 5؛ تفسير القرطبي: ج 3 ص 329

«وقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ»: تساوي «صِلَةَ الْعَاقِلِ»: فأن صلة الجاهل مضاد وفي قطيعتها منافع وإذا أردت الاطلاع على تفاصيلها فاستخرج من نفسك شعر إذا كنت ذا عقل صحيح فلا یکن عسير بك لا من كان ذا عقل فذوا الجهل إن عاشر وصحبته تدك عن عقل وتغر بك بالجهل.

«مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ ومَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ»: أمن الزمان كناية عن قضاء الوطر فيه، واتكاله عليه وخيانته عن كونه سبباً لزواله وإعظامه عن جعله طرفاً للمرغوبات وإهانته عن إزالته، وفيه استعارة وإسناد عقلي يظهر بالتأمل وقد سبق مثله غير مرة.

«لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ»: من الصواب قريب من قوله ليس كل عورة تظهر.

«إِذَا تَغَیَّرَ السُّلْطَانُ تَغَیَّرَ الزَّمَانُ»: أي أحوال أهله فإن السلطان كما قال: الوراق أول أركان الزمان وهو: الذي يؤمن جوره ویهاب عدله ویرجی فضله فإذا جلا عن هذه الخصال فهو مسلطاً وقد قيل إذا فسد غلب الصغار على الكبار والمماليك على الأحرار واللئام على الكرام.

«سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ»: فأنها محفوفة واللصوص كثيرة ولذا قال عز من قائل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).

«وعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ»: كناية عن أنه ينبغي أن يعلم الشخص أولاً حال من يصحبه ويقرب منه فأن كان حقيقاً بالرفاقة والمصاحبة قرب وإلا بعد والحمل على الظاهر فيهما ظاهر.

ص: 162


1- سورة المائدة: الآية 35

«إِيَّاكَ»: أحذرك «أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وإِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَیْرِكَ»: فأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضْحكَ به الناس ويل له ويل له»(1).

قال أبو حامد كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً ولا يؤذي قلباً ولا يفرط فيه فأن كنت أيها السامع تقتصر عليه أحياناً وعلى الندور(2)، فلا حرج عليك فيه ولكن من الغلط أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة ويواظب عليه ويفرط فيه؛ ثم يتمسك بفعل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وهو كمن يدور مع الزنوج أبداً لينظر رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أذن لعائشة وهو يلعبون في النظر إليهم(3).

«وإِيَّاكَ ومُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ»: مائلات «إِلَی أَفْنٍ»: نقص «وعَزْمَهُنَّ إِلَی وَهْن»: ضعف لنقصان عقولهن.

«واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ»: من الخروج عن البيت «إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ»: وأما المنع في الجملة فلا وأنت خبير باختلاف مراتب النساء في ذلك.

ص: 163


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 435؛ سنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 67؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7 ص 22، السنن الکبری للنسائي: ج 6 ص 343؛ تخريج الأحاديث والآثار للزليعي: ج 1 ص 446؛ موارد الضمآن للهيثمي: ج 5 ص 411؛ تاریخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 2 ص 45
2- بمعنى إلا ما ندر من أمر المزاح وليس بشكل دائم متواصل
3- فتح الباري لابن حجر: ج 10 ص 436؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 9 ص 25. أقول: هذا ضعيف مرسل و، علاوة على ذلك فالحديث ساقط لا عبرة فيه لمخالفته کتاب الله في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» سورة المؤمنون: الآية 3

«ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ»: فأنهما مظنة الفتنة بل قد یکون الثاني أشد من الأول.

«وإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَیْرَكَ فَافْعَلْ»: فأن النساء خلقت من ضلع آدم وتطرق الشيطان إليهن أسهل وأكثر والأولى بهن الستر في جلباب الحجاب.

«ولَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ»: أي لا تجعلها مالكة «مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ»: تعدی «نَفْسَهاَ»: کیلا يضيق عليك الأيام ولا تنزع عنك زمام الأحكام وقد علله ذلك بقوله: «فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ»: هي ريحانه تشم لو خليت وظعنها لفسدت أيضاً بل من شأنها أن يتزين بها في بعض الأوقات كذلك المرأة لا يليق أن يترك بحالها لا سيما إذا اشتهر جمالها.

«ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ»: القهرمان الذي إليه الحكم في الأمور والمرآة قهرمانة فلا ينبغي أن يجعل مالكة أمرها.

«ولَا تَعْدُ »: أنت «بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا»: أي لا تتجاوز بإكرامها نفسها حتى تكرم غيرها بشفاعتها.

«ولَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا»: فأنها لقصور عقلها إلى طريق تتكسر الأمر في يديك.

«وإِيَّاكَ والتَّغَايُرَ»: التكلف في الغيرة «فِي غَیْرِ مَوْضِعِ غَیْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَی السَّقَمِ والْبَرِيئَةَ إِلَی الرِّيَبِ»: جمع دَنيَّة بمعنى الشك أراد أن من غار في موضعه وهو أمور الدين قوي في شأنه اليقين ومن تغاير في فتات الدنيا يتبدل في شأنه الاعتقاد بالشك في أنه هل بحب الدنيا أم لا وذلك ظاهر.

ص: 164

«واجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى»: أجدر «أَلَّا يَتَوَاكَلُوا»: أوكل بعضهم الأمر إلى البعض.

«فِي خِدْمَتِكَ»: فأن الخادم مستسلم أمر المخدوم لا الخادم فلا يتمشى الأمر حينئذ.

«وأَكْرِمْ عَشِرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِیرُ وأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِیرُ ويَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ»: أمر بإكرام العشيرة وهي أهل الرجل الذي يتكرم بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد وشبه بالجناح من حيث أنهم ممهدون له بالنسبة إلى الطائر وذلك ظاهر وفي ضمنه تشبيهاً آخر يظهر بالتأمل وباليد، لأنهم يحتاج إليهم في أمره کهي في فعله وذلك الإنسان مدني الطبع يحتاج إلى تمدن وأراد أن تبرز عطوفة الأبوة لاشتداد الرغبة إلى قبول ما في هذه الوصية فقال:

«اسْتَوْدِعِ اللهَ»: أي أستحفظه «دِينَكَ ودُنْيَاكَ واسْأَلْهُ خَیْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ والآجِلَةِ والدُّنْيَا والآخِرَةِ»: تفسر لهما إِنْ شَاءَ اللهُ.

وكان قد حيل كثيراً من أهل الشام وغيرهم فأوقع الأكثرين منهم بالشبهة وأضل الآخرين بالتقليد والإغواء لجهلهم وكانوا على فطرة الإسلام أشار عليه إلى ذلك بقوله:

«وأَرْدَيْتَ»: أهلكت «جِيلاً»: جماعة مِنَ النَّاسِ كَثِیراً «خَدَعْتَهُمْ ببِغَيِّكَ»: بجهلك وضلالك يقال خَدعْه الخدعة أي أضله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم.

«وأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ»: شبههم بمن يلقى في بحر الاضطراب وعد الاستقرار والثبات ورشح الاستعارة بالإلقاء وهو كناية عن إضلالهم.

ص: 165

«تَغْشَاهُمُ»: تصيبهم «الظُّلُمَاتُ»: ظلمة الشبهة وظلمة الجهل وظلمة التقليد.

«وتَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ»: أي يلطم به بعضها بعضا.

«فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ»: أي أعدلوا عنهم بجب التوجه إليه وهو سبيل الاقتداء لسنته وسنة الرسول وأدخال الأعناق في ربقته متابعته ومبايعته.

«ونَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ» أي رجعوا والنكوص الأحجام عن الشيء «وتَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وعَوَّلُوا»: اعتمدوا «عَلَى أَحْسَابِهِمْ»: أحساب الجاهلية وكان كثير من الصحابة والتابعين لما سمعوا من معاوية أنه يطلب دم عثمان أتبعوه وتابعوا استوصوا به في المحاربة فلما فكروا واستبصروا تركوا معاوية فذلك قوله تعالى عليه السلام.

«إِلَّا مَنْ فَاءَ»: رجع «مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ»: جمع بصيره وهي الحجة كقوله تعالى «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»(1)«فَإِنُّهَمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ»: وأنك على الباطل وعلى شفا جرف هار «وهَرَبُوا إِلَی اللهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ»: معاونتك.

«إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ»: وهو المحاربة مع الله ورسوله إذ هو أخو رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ونفسه وابن عمه وربيبه، خليفة لله ورسوله في الأرض ومن حارب الله رسوله فأن له نار جهنم.

«وعَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ»: وهو الصراط المستقیم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.

فَاتَّقِ اللهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ»: أي أتقي بحسب الجنان وقد سبق مراتب التقوى

ص: 166


1- سورة القيامة: الآية 14

فأن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من سره أن يمد الله في عمره ويوسع عليه في رزقه فليتق الله»(1)«وجَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ»: قودك ولا يغرنك الدنيا.

«فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ والآخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ والسَّلَامُ»: لأنها آتية لا ريب فيها وكل آت فهو قریب فتزودوا الزاد ولا ينبغي الفساد.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ»: أي من يعينه إلى هنا ويخبره عن أحوال أهلها والعين الديدان والجاسوس والشام من الجانب المتصل بالمغرب.

«كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهً إِلَی الْمَوْسِمِ»: معْلّمهَم الذي كانوا يجتمعون فيه.

«أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْعُمْيِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الأَسْمَاعِ الْكُمْهِ الأَبْصَارِ»: وصف عليه السلام أهلها لقلة نظرهم وتفكرهم بعمى القلب لكثرة تغافلهم عن العمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وبالضم لعدم سماعهم قول الحق وبالعمى لعدم رؤية ظاهر الحق كقوله عز وجل «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ»(2).

«الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ»: أي يطلبون الدين وحفظه الذي هو الحق باتباعهم معاوية وهو الباطل قال عز وعلا: «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»(3).

قال: قتادة الباطل هو الشيطان والحق أن تأتي من وجهه قال: تعالى «وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا»(4).

ص: 167


1- لم أعثر على مصدر لهذا الحديث
2- سورة البقرة: الآية 18
3- سورة فصلت: الآية 4
4- سورة البقرة: الآية 189

«ويُطِيعُونَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»: أي يطيعون معاوية في الخروج عن ربقة متابعة الإمام الحق والخروج عليه.

«ويَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ»: الدر اللبن يقال: في الدم لا در دره أي لا كثر خيره وجعل الدنيا بمنزلة الناقة وفائدتها القليلة كالدر ووجه الشبهة فيهما ظاهر وقد سبق مثل هذا الكلام أي يقولون نحن عساكر الإسلام وه یریدون بذلك خير الدنيا وعاجلها والآجل ضد العاجل.

«ويَشْتُرَونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الَأبْرَارِ الْمُتَّقِنَ»: أي بمثله «فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ»(1)«قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا»(2)«خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا»(3).

«ولَنْ يَفُوزَ بِالْخَیْرِ إِلَّا عَامِلُهُ ولَا يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلَّا فَاعِلُهُ»: جری يتعدى إلى مفعولين وفاعله أقيم مقام الفاعل وجزأ الشر مفعول ثاني أي متابعة معاوية شر ولا ينال به رضى الله، والفاعل للشر يستحق النار أما الأولى؛ فلما مر غي مرة من أنه عليه السلام كان على الصراط المستقيم، وهو الخير وخلافه الشر ومصداقه ما روي أبو نعيم أنه قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «لو أستخلفتموه وما أراكم فاعلين لوجدتموه هادياً مهدياً»(4)وأمثاله وأما ثانياً فلأنه عصيان الله ورسوله «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ»(5).

ص: 168


1- سورة البقرة: الآية 16
2- سورة النساء الآية 167
3- سورة النساء: الآية 119
4- مناقب آل أبي طالب لأبن شهر آشوب: ج 2 ص 280؛ شرح النهج لأبن ابي الحديد المعتزلي: ج 6 ص 52؛ الأصابة لابن حجر: ج 4 ص 468؛ وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني في ج 1 ص 84؛ وفي جميعها اختلاف يسير
5- سورة الجن: الآية 23

«فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ الْحَازِمِ»: من يضبط الأمر ويأخذه بالثقة «الصَّلِيبِ: الشديد «والنَّاصِحِ اللَّبِيبِ»: أي أدم على ما أمرتك العمل به وأمضت حكم يديك عليه وأقم قيام الجازم كقوله تعالى «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(1)«التابع لشلطانه «التَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ «الْمُطِيعِ لإِمَامِهِ»: حتى يقاتل لأجلك جنداً لله وأنت تبقى في كنف حفظ الله.

«وإِيَّاكَ ومَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ»: فأنه قبيح وليس بدأب العاقل بل من أمارات الجاهل.

«ولَا تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ بَطِراً: البطر»: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها قال تعالى «بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ»(2)«ولاَ عِنْدَ الْبَأْسَاءِ»: الشدة «فَشِلًا»: ضعفاً.

حربه من عزله بالأشتر: عن مصر.

ثم توفي الأشتر في توجهه إلى مصر قبل وصوله إليها: تسکینا لحزمه وإظهاراً لمزيد شفقته وعطوفته عليه فبدأ بالوصف بالجد التام وذلك في قوله:

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ»: إرسال «الأَشْتَرِ إِلَی عَمَلِكَ وإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ»: التسريح.

«اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجَهْدَ»: بفتح الجيم وضمها.

«ولَا ازْدِيَاداً لَكَ فِي الْجِدِّ»: أراد أني لم أرسل الأشتر إلى مصر لقصور فيك والاستبطاء.

ص: 169


1- سورة نوح: الآية 17
2- سورة الأنفال: الآية 47

الاستزادة وهي أضرب من الشكاية والعتب.

«ولَوْ نَزَعْتُ»: سلبت «مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ»: ولايتك «لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسُرَ»: لجعلتك والياً لما هو ايسر «عَلَيْكَ مَئُونَةً وأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلَايَةً»: أي أكثر أعجاباً إليك أمارة فيه إظهار المحنة والعطوفة؛ ثم أبرز سبب إبراز الأشتر بقوله:

«إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلًا لَنَا نَاصِحاً»: منجزاً فعلاً أو قولاً صلاحاً.

«وعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً»: عاتباً منتقماً لنا من عدونا، ونقمت على الرجل عتبت عليه، ونقمته كرهته.

«فَرَحِمَهُ اللهُ»: ثم أشار إلى فضيلته ومكانه منه عليه السلام.

«فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ»: استوفي أيام عمره «ولَاقَى حِمَامَهُ»: قدر موته.

«ونَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ»: لأنه أحد قصب السبق في مضمار الشجاعة من الأسوق(1).

نصرة لأسد الله في رميته.

خاضت الفرسان فيها دماء أقرانها ٭٭٭ وأضمرت الحرب فيها شواظ نيرانها

وتعاطى الشجعان فيها كاسات ٭٭٭ الحمام فمالت بصاحبها وسكرانها

وقصته مشهورة بين أرباب التواريخ.

ص: 170


1- الأسوق جمع ساق، والأسوق تنسب إلى ساق السنبلة التي تحوية مئة حبة فاكثر؛ تفسیر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج 2 ص 316

«أَوْلَاهُ»: أعطاه «اللهُ رِضْوَانَهُ وضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ»: دعي عليه السلام له بالرضى الكسر ولما كان أعظم الرضى رضى الله تعالى خص لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله عز وجل «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ»(1)ثم أمرهم بمقالته مع معوية راعية آدابه وقواعده کما تقرر بعضها فيما سبق وذلك قوله:

«فَأَصْحِرْ»: أخرج إلى الصحراء «لِعَدُوِّكَ»: أي لمقاتلته وهو معاوية «وامْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ وشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ»: أي مع كل بيعته معاوية أو يكون معه من الناس وَشمره في أمره خف وشراراه «وَادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ»: إلى ما يتوصل به إلى الرب تعالى ويعتبر عن السبيل بالمحجة قال الله تعالى «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(2)«وأَكْثِرِ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ ويُعِنْكَ عَلَى مَا نَزَلَ بِكَ إنشاء الله»: فإن الله هو ذي العظمة والجلال مالك الأجلال والإذلال بیده زمام التصرف في ملكه وملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من أستعان به كفاه ومن ترکه جفاه «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3)وبالله التوفيق.

في بيان شأنه وشأن من كانوا في أوانه وإظهار حاله وإبراز أحوالهم وقد سبق كيفية قتله في الجملة.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ ومُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ»:

ص: 171


1- سورة الحديد: الآية 27
2- سورة يوسف: الآية 108
3- سورة آل عمران: الآية 26

قتل شهيداً او الشهيد الذي هو المحتضر تسميته بذلك الحضور والملائكة إياه إشارة إلى ما قال: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(1)«وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ»(2)أو لنهم يشهدون في تلك الحالة ما أعد لهم من النعيم أو لأنهم تشهد أرواحهم عند الله کما قال: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ٭ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(3)، وأما كان شهيداً لأنه قتل في مظلوماً ومن قتل مظلوماً فهوا شهید للخبر المشهور.

«فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُهُ»: ابن درید احتسبت بكذا أجراً عند الله والإسم الحسبة وهي الأجر.

«وَلَداً نَاصِحاً وعَامِلًا كَادِحاً وعاملاً كادحاً»: ساعياً مجداً.

«وسَيْفاً قَاطِعاً ورُكْناً دَافِعاً»: هذه المنصوبات على الحال جعله سيفاً من حيث أنه كان يهراق دماء الأعداء من النجاة حماة وكان يدفع بقدر الإمكان عنه عليه السلام مضرة الأعداء.

«وقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ»: حرکت «النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ»: أي اللحاق به «وأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ»: ما عانته «قَبْلَ الْوَقْعَةِ ودَعَوْتُهُمْ سِرّاً وجَهْراً»: مصدر في موضع الحال أي مسراً وجهراً «وعَوْداً وبَدْءاً»: بادياً «فَمِنْهُمُ الآتِي كَارِهاً»: لأنه كان يغلوا قدرة قلبه من الدنيا.

ص: 172


1- سورة فصلت: الآية 30
2- سورة الحديد: الآية 19
3- سورة آل عمران: الآية 169 - 170

«ومِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ» الذي يأتي بالعلل «كَاذِباً ومِنْهُمُ الْقَاعِدُ»: عن نصرته «خَاذِلًا»: والخذلان ترك من نظن به أن ينصر نصرته ثم أخذ يشتكي فقال:

«أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَی أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلًا»: أراد انکشاف الغم في هذه الدار والتمس أن يؤيده بالجنود الإلهية من الجبار ثم قال:

«فَوَ اللهِ لَوْ لَا طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ وتَوْطِينِي نَفْسِيِ عَلَى الْمَنِيَّةِ لأَحْبَبْتُ أَلَّا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْماً وَاحِداً ولَا أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً»: أراد أن أعلم أنهم على سواء الجحيم وليسوا على الصراط المستقيم وهم بصدد المكر والاغتيال جامعون ما يقتضي المنافرة منهم لكني أرى بعين البصيرة المآل ولا أبالي آلامهم ولا أحب أن أفارقهم لعي أشرب عدة الشهادة وأصل إلى زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

عن أنه عليه السلام كيف عاملهم.

«فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ»: إلى ذلك البعض «جَيْشاً كَثِیراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ»:

الإرسال.

«شَمَّرَ هَارِباً ونَكَصَ نَادِماً فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وقَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلإِيَابِ»: أي الرجوع قيل هي عند الزوال وقيل هو عند الغروب.

الجوهري تطفيل الشمس ميلها للغروب وقد طفل لليل إذا أقبل ظلامه(1).

«فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلَا ولَا»: أي حاربوا قليلاً والعرب يستعمل هذه الكلمة لأمر القليل يقال: قعد الخطيب بين الخطبتين کلا ولا أي زماناً قليلاً.

ص: 173


1- الصحاح للجوهري: ج 5 ص 1751

«فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ»: أي كوقوفه مؤكد لمضمون ما قد سبق من القلة «حَتَّى نَجَا جَرِيضاً»: مغموماً «بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ»: موضع الخنق من العنق.

«ولَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرُ الرَّمَقِ»: بقية الروح.

«فَلأْياً بِلأْيٍ مَا نَجَا»: أي بعد شدة وأبطأ ونصب بأيلا على الظرف ويفند ما الزيادة في الكلام أنها ما قيل أنه ما قيل أنه في حق معاوية.

«فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وتَرْكَاضَهُمْ فِي الضَّلَالِ»: أركضت الفرس استحبته ليعدوا ثم كثر قیل ركض الفرس إذا عدوا ليس بالأصل والصواب رکض على ما لم يسم فاعله والبركات من الاضطراب.

«وتَجْوَالَهُمْ»: تطوافهم «فِي الشِّقَاقِ»: الخلاف «وجِمَاحَهُمْ»: أسارعهم.

«فِي التِّيهِ»: التحير لا حظ الشقاق كأنه البيداء والتيه كالفيفاء وأوهامهم کالمراكب والركب نفوسهم الخبيثة يقول: لأخيه عقيل أترك قريشاً ومسارعتهم في الخصومة الشديدة معي فأن ذلك يعود إليهم بالمضرة.

«فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَبْلِي»: من حيث أن منشأ كل منهما العناد والحسد كانوا يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم.

«فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي»: قيل: دعاء عليهم والجواري جمع الجارية وهي النفس التي تجري، أي جزائهم وفعل بهم ما يستحقون عساكر لأجلي وبنيابتي، وكفاهم سرية تنهض إليهم.

وقيل: هذا إشارة إلى سرايا تهلك بني أمية بعده، وفي هذا الكلام مجازاً حسن فتأمل.

ص: 174

«فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي»: قطع الرحم يكون بالهجران ومنع البر قال: تعالى «وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ»(1).

«وسَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي»: أي سلبوني سلطاني وفي هذا من الكلام الذي يلاحظه فيها الكناية وقيل عني بأبن أمي رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم لأنها رتب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.

وكان في حجر أبي طالب ثم أجاب عما سال عنه بقوله:

«وأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي الْقِتَالِ فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ الْمُحِلِّینَ»: يعني قتال كل من أستحل المحاربة معي فالمحلون الذين أحلوا قتال أمير المؤمنين فأنه كان على الحق والمحارب على الباطل والمحاربة معه محمودة كدفع الصائل.

«حَتَّى أَلْقَى اللهَ»: أنا على ذلك حتى أموت ثم نبه على أنه عليه السلام كان متوكلاً على الله مفوضاً أمره إلى الله مؤيداً بجنود لا قبل لحاله معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله لو كان له عزة فهو من العزيز يرتد حزبه بتفرقه عنه بقوله:

«لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً»: عليه «ولَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً»: ضد الألسن وهي الوحدة مع غم ما كان إلا لأنه كان علي السلام ممن كحل عينيه بكحل البصيرة وثبت قلبه على الصراط لمستقيم على الوتيرة.

«ولَا تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِيكَ»: أراد نفسه القدسية ولم يقل ولا تحسبني محافظة لحسن الخطاب.

ص: 175


1- سورة محمد: الآية 22

«ولَوْ أَسْلَمَهُ»: عدله «النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً ولَا مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً»: ضعيفاً «ولَا سَلِسَ الزِّمَامِ لِلْقَائِدِ ولَا وَطِئَ الظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ الْمُقْتَعِدِ»: أقتعد البعير ركبه في كل حاجة وفي كل حال من هذه الأحوال إشارة إلى حال من أحواله عليه السلام فالأولى إشارة إلى غاية قوته وصبره لأن التضرع إظهار الضراعة قال: فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وكذا الثاني والفرق بينهما بان أكثر ما يستعمل الخشوع في الجوارح والضراعة قال تعالى: «فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ»(1).

وكذا الثاني والفرق بينهما بأن أكثر ما يستعمل الخشوع في الجوارح والضراعة أكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل إذا روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح وفي الثالثة إلى أن العاجز عن الدافع يفر وحاشاه أن يكون كذلك فأنه كان عليه السلام واحداً يعدل ألفاً تولى الحرب بنفسه النفيسة فخاض عمارها واصطلی نارها وأذكى أوارها وأحرى بالدماء أنهارها وفي الرابعة والخامسة إلى أن الضعيف تحت تصرف العالي لا يلوي عتقه عن ربقة حكمه ولوه.

كان من أرباب المعالي وكان عليه السلام بمعزل عن ذلك فأنه كان عليه سيفاً ذميماً وشجاعاً حامياً وفي كلامه عليه السلام من الاستعارات والترشيحات لا يخفى على الفطن المتأمل ولقد انصفت معاوية حين قال: لبشر بن أرطاة وقد أشتهر في الآفاق شجاعة تزهيداً في مبارزته عليه السلام:

فأنت له يا بسران كنت مثله ٭٭٭ وإلا فان الليث للضبع آكل

كأنك یا بسر بن أرطاة جاهل ٭٭٭ بشداته في الحرب أو متجاهل

ص: 176


1- سورة المؤمنون: الآية 76

متی تلقه فالموت في رأس رمحه ٭٭٭ وفي سيفه شغل لنفسك شاغل(1)

ثم استدر که ما يتوهم من كلامه السابق من أنه لم يكن يتضرر من مخالب الدهر أصلاً بقوله: «ولَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ»:

فَإِن تَسْأَلِيِنِيِ كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِيِ ٭٭٭ صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ صَلِيِبُ

يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ ٭٭٭ فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ

يعز من العز والكآبة: الحزن، والشماته: فرح العدوا بالبلاء النازل ولما كان عليه السلام شبيهاً للشاعر في تجرع مرارة الصبر من كاسات الزمان وكان كالجبل يتحمل ولم يبث الشكوى لشماتة الأعداء وسآمة الأحباء فقال: کما قاله وفي ذلك تنبيه وإرشاد فالصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له وبالله التوفيق.

«فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ والْحَیْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ»: سبحان أصله مصدر کغفران قال: تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون: وقال الشاعر:

أقول لما جائني من علقمة قيل في تقدير كلامه عليه أسبح الله تسبيحاً لما أمهل معاوية مع مراميه للبدع ومتابعته في الحيرة أي ما فيه مزال القدم والبعد عن ذي القدم.

«مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ»: جمع حقيقة وتستعمل تارة في الشيء الذي له ثبات

ص: 177


1- الأبيات لغلام في جیش معاوية: أسمه لاحق: کما ذكره جملة من الرواة کالموفق الخوارزمي في المناقب: ص 240؛ وعلي بن أبي الفتح الإربلي في: کشف الغمة في معرفة الأئمة: ص 251

ووجوده كقوله: صلى الله عليه [وآله] وسلم: «لكل حق حقيقة فما حقيقة أيمانك»(1)أي ما الذي بيني وبينك عن كون ما تدعيه حقاً وتارة في الاعتقاد وتارة في العمل وفي القول فيقال: لفعله حقيقة إذا لم يكن مرابياً فيه ولقوله حقيقة أذا لم يكن فيه مترخصاً ومتزايداً، وقيل الدنيا باطل والآخرة حقيقة تنبيهاً على زوال هذه وبقاء تلك وللحمل على كل هذه المعاني وجهة.

«واطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ»: جمع وثيقة وهي العهود الموثوقة أي المحكمة «الَّتِي هِيَ للهِ طِلْبَةٌ»: مطلوب من عبادة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2)«وعَلىَ عِبَادِهِ حُجَّة»: بم رد على معاوية محاجته الباطلة وهو: زمان أنه كان محصوراً لم ينصره بقوله:

«مَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وقَتَلَتِهِ فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ وخَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ»: وقد تبين لك منشأ إفساده ومعاداته له عليه السلام.

مشتمل على مدحته ومدحتهم وتنبيههم على أطاعتهم.

«مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِنَ»: صدّرَ عليه السلام أكثر كتبه بقوله من عبد الله أشارة إلى أن العبودية مرتبة عظيمة لا يعطيها الله تعالى إلا لمن يحب، إلا يرى أن الله تعالى حين أراد أن يُلبس بنيه حلة الشرف والكرامة نسب فضل العبودية إليه فقال: «أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ»(3)، وفيه إيماء إلى أن أرباب الألباب أن لا ينسوا

ص: 178


1- يُنظر: المصنف: لعبد الرزاق الصنعاني: باختلاف يسير: ص 129، وكذلك في منتخب مسند عبد بن حميد: ص 165؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 7 ص 362
2- سورة المائدة: الآية 1
3- سورة الكهف: الآية 1

الانكسار والخشوع في حضرة رب الأرباب ولا يغتروا بزينة الدنيا واستيلائهم عليها وذلك موافق لما في الكتاب ولا يغرنكم بالله الغرور.

«إِلَی الْقَوْمِ الَّذِينَ غَضِبُوا للهِ»: الجوهري: غضبت لفلان أذا كان حياً وغضبت به أذا كان ميتاً(1).

«حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ»: الله «وذُهِبَ بِحَقِّهِ»: هو العبادة.

«فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى الْبَّرِ والْفَاجِرِ»: الغاش «والْمُقِيمِ والظَّاعِنِ»: الراحل شكاية من أن الظلم صار عادة على كل حال سواء كان مؤمناً أو كافر في حضر أو سفر والسرادق هو فارسي معرب وليس في كلامهم أسم مفرد ثالثه الف وبعده حرفان قال تعالى: أحاط بهم سرادقها واستعار للجور مرشحة بالضرب تشبيهاً له في التقرر والثبات بشخص ضرب سرادقه.

«فَلَا مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ»: إيذان(2)بأن المؤمن اذا عمل حسنة فرح بذلك والراحة كل الراحة عاجلاً وآجلاً لمن أصطنع المعروف طوعاً ورغبتاً.

ص: 179


1- يُنظر: الصحاح: للجوهري: ج 1 ص 194
2- الإيذان: بمعنى الأعلام وبمعنى الأذن بحلوله أي الأحلام: والمعنى آخر أُذن لك أن تعلم. وهناك معنى آخر مقارب هو ما رواه الشهيد الأول في ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: ج 3 ص 197. قال: ثم الأذان لغة: الإعلام، ويقال: إيذان وأذين وفعله أذن يأذن، ثم آذن بالمد للتعدية، ويقال للمؤذن: أذين وقول عدي بن زيد: وسماع یأْذن الشيخ له ٭٭٭ وحديث مثل ماذي مشار یرید به استمع، لان الاستماع سبب في العلم، فيرجع إلى أذن بمعنی علم، ومنه قوله تعالى: «فأذنوا بحرب من الله ورسوله» الآية أي: اعلموا، ومن قرأ بالمد فمعناه: أعلموا من ورائكم بالحرب

«ولَا مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ»: راعى عليه السلام في ذلك المقام مبالغة لطيفة فقال: مثل هذا الكلام.

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللهِ لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ»: کنی بالنوم عن الغفلة.

«ولَا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ»: لا يتأخر ولا يجن عنهم.

«سَاعَاتِ الرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ»: وصفه عليه السلام بهذا الوصف الملائمته مع قوله عصوا الله إلى آخره.

«وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ»: لا ينصرف للتعريف والتأنيث، والمذحج أبو قبيلة من اليمن.

«فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ»: قيد طاعته بموافقة الحق ولم يطلقها لما لم يكن معصوماً وفيه تنبيه على أن طاعة الإمام واجبة على كل مسلم سواء أمره بما يوافق طبعه أو لم يوافقه بشرط أن لا يأمره بمعصية فأن أمره بها فلا يجوز طاعته ولكن لا يجوز له محاربة الإمام وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «لا طاعة في معصية أنما الطاعة في المعروف»(1)ثم وصفه بحمل رغبته ومودته إيام في استسلامهم لأمره وانقيادهم تحت حكمه فقال:

«فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ»: حد السيف.

ص: 180


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 94؛ سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجساني: ج 1 ص 591؛ سنن النسائي: ج 7 ص 160

«ولَا نَابِ»: من النبوة «الضَّرِيبَةِ»: المضروب بالسيف وإنما دخلته الهاء وأن كان بمعنى مفعول لأنه صار في عداد الأسماء كالنطحة(1)والإكليلة(2).

«فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ ولَا يُحْجِمُ ولَا يُؤَخِّرُ ولَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي»: يجب عليكم إطاعة أمري لقوله: «وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ»(3)، وقول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله ومن يطع الأمير فقد اطاعني ومن يعصى الأمير فقد عصاني»(4)الحديث ثم ذكر أنه عليه السلام ما أستخدم مالكاً الأشتر عنده واختياره لأمرين فقال:

«وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِيِ لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ»: وقد سبق بيان معنى النصيحة والكلام في شدة الشكيمة وبالله التوفيق.

ص: 181


1- النطحة: بفتح فسكون. المرة من النطح، الضرب بالرأس أو القرون؛ معجم ألفاظ الفقهاء لمحمد قلعجي: ص 482
2- وأما الأكيلة فهي المأكولة. يقال: هي أكيلة السبع. وإنما دخلته الهاء وإن كان بمعنى مفعولة لغلبة الاسم عليه، والأكيل: الذي يواكلك والأكيل أيضا: الآكل. قال الشاعر: لعمرك إن قرص أبي خبيب بطئ النضج محشوم الأكيل وأكلت الناقة أكالا، مثال سمع سماعا، فهي أكلة على فعلة. وبها أكال بالضم، إذا أشعر ولدها في بطنها فحكها ذلك وتأذت. ويقال أيضا: أكلت أسنانه من الكبر، إذا احتكت فذهبت. وفى أسنانه أكل بالتحريك، أي إيها مؤتكلة، وقد ائتكلت أسنانه وتأكلت؛ يُنظر: الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1625
3- سورة النساء: الآية 59
4- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 329؛ المصنف لأبن ابي شيبة الكوفي: ج 7 ص 566؛ السنة لأبن أبي عاصم: ج 9 ص 7؛ الكافي للشيخ الكليني: ج 4 ص 63؛ ودعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 342؛ الأمالي للشيخ الصدوق: ص 123 باختلاف يسير في بعظها

روي انه كتب إليه معاوية يعرض إليه الأموال والولايات وكتب في آخر كتابه شعراُ:

جهلت ولم تعلم محلك عندنا ٭٭٭ فأرسلت شيئا من خطاب ولا تدري

فثق بالذي عندي لك اليوم آنفا ٭٭٭ من العز والاكرام والجاه والقدر

فأكتب عهدا ترتضيه مؤكدا ٭٭٭ وتشفعه بالبذل مني وبالبر

فكتب إليه عمرو:

أبى القلب مي أن أخادع بالمكر ٭٭٭ بقتل ابن عفان أجر إلى الكفر

وإني لعمرو ذو دهاء وفطنة ٭٭٭ وليس أبيع الدين بالربح والوفر

فلو كنت ذا رأي وعقل وحيلة ٭٭٭ لقلت لهذا الشيخ إن خاض في الأمر

تحية منشو جليل مكرم ٭٭٭ بخط صحيح ذي بيان على مصر

أليس صغیر ملك مصر ببيعة ٭٭٭ هي العار في الدنيا على العقب من عمرو

فإن كنت ذا ميل شديد إلى العلا ٭٭٭ وإمرة أهل الدين مثل أبي بكر

فإن دواء الليث صعب على الورى ٭٭٭ فإن غاب عمرو زيد شر على شر

فكتب إليه معاوية بمنشور مصر، فكثر تفكره حتى ذهب نومه، وقال:

ص: 182

تطاول ليلي بالهموم الطوارق ٭٭٭ فصافحت من دهري وجوه البوائق

وأخدعه؟ والخدع فيه سجية ٭٭٭ أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق

أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة ٭٭٭ لشيخ يخاف الموت في كل شارق

فلما طلع الصبح شاور عنده وردان وقد كان عنه عاقلاً لم يعم عن بصيرته فقال: له مع علي الآخرة ومع معاوية الدنيا والحر تكفيه الإشارة، فتبسم عمروا

وقال:

يا قاتَلَ الله ورداناً وفطنتَهُ ٭٭٭ لقد أصابَ الذي في القلبِ وردانُ

لمّا تعرّضت الدنيا عرضت لها ٭٭٭ بحرص نفسي وفي الأطباع إدهانُ

نفسي تعفّ وأُخرى الحرص يغلبها ٭٭٭ والمرءُ يأكلُ تبناً وهو غرثانُ

أمّا عليٌّ فدين ليس تشرِكُه ٭٭٭ دنيا وذاك له دنيا وسلطانُ

فاخترت من طمعي دنيا على بصري ٭٭٭ وما معي بالذي أختارُ برهانُ

إنّي لأعرف ما فيها وأُبصره ٭٭٭ وفيَّ أَيضاً لما أهواه ألوانُ

لكنّ نفسي تُحِبُّ العيشَ في شرف ٭٭٭ وليس يرضى بذلّ النفسِ إنسانُ

فلما اختار الدنيا على الآخرة ذمه عليه السلام بقوله:

«فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً»: تابعاً «لِدُنْيَا امْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ»:جهله «مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ»: بحيث صار كونه على الباطل كنار على علم.

ص: 183

«يَشِینُ»: يعيب «الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ»: الكرم نقيض اللوم وقد كرم بالضم فهو كريم.

«ويُسَفِّهُ الْحَلِيمَ»: يجعله سفيهاً «بِخِلْطَتِهِ»: بمخالطته.

«فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وطَلَبْتَ فَضْلَهُ اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ»: الأسد «يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ»: الضرغام «ويَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ»: الكلب.

«مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِه» : ما دق عنقه شبه عليه السلام عمراً بالكلب لخبثه وحقارته وقلة قدره ولم يشبه بالثعلب وأن كان مكاراً الوجوه يظهر بالتأمل وكأني بك تقول شبه معوية بالليث أقول أقول شبهه في هذه الجهة المذكورة لا في الشجاعة.

«فَأَذْهَبْتَ»: أبطلت «دُنْيَاكَ وآخِرَتَكَ ولَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ»: من استعمال الدنيا كما هو حقها وإدخارها ليوم المعاد.

«فَإِنْ يُمَكِّنِّي اللهُ مِنْكَ ومِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا»: فيما يليق بكما.

«وإِنْ تُعْجِزَا»: كناية عن إفنائه(1)عليه السلام.

«وتَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا والسَّلَامُ»: وقد قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: «من حمى مؤمناً من منافق بعثه ملكاً يحمى لحمه يوم القيامة»(2)الحديث: وقد اشتهر لدى الرواة الثقات أنه قال: صلى اله عليه - وآله وسلم «هذا جبرائيل يخبرني أن السعيد كل السعيد من أحب علياً في الحياة وبعد موته

ص: 184


1- إفنائه بمعنى: إلحاق الفناء بهما وأنه غير عاجز عن ذلك
2- مسند احمد بن حنبل: ج 3 ص 441؛ سنن أبي داوود لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 2 ص 452؛ الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: في ص 183؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي ج 6 ص 109

والشقي كل الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد موته»(1)وبالله التوفيق.

إلى بعض عماله لم يروا أن هذا الكتاب إلى أي عامل ويمكن أن يكون العامل عبد الله بن العباس.

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَه فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وعَصَيْتَ إِمَامَكَ»: أراد نفسه القدسية.

«وأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ»: أظهرت فيها الخزي والهوان ثم فصل هذا الإجمال الموقظ عن سني الغفلة بقوله: «بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الأَرْضَ»: بالتخفيف أي أهلكت إسحارها وخربتها وتركتها لفضاء أجرد وهو الذي لا نبات فيه وبالتشديد للكسير.

«فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ»: أي صمتت إلى ملكك جميع ما وجدته على الأرض.

«وأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ»: أي انتفعت بجميع ما كان يقع في يدك من الزكاة والصدقات.

«فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ واعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ الله أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ»: أي أكتب جميع ما أخذت من الناس وأنهضه إلي حتى أحاسبك عليه ولا تدع حسابك إلى يوم القيامة فأنه غداً أشد.

ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله وهو عبد الله بن العباس:

وقد روي عليه السلام كان ولاه على البصرة فأخذ مالاً كثيراً وخرج إلى المدينة نحو بيته وكتب إليه عليه السلام أن اجعلني في حل من كذا فإن عيالي

ص: 185


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي: ص 83؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي الناباطي: ص 50؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 457

كثير ومغرم من مالك فنظم اللؤلؤ المكنون جواباً له فقال:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي»: أي جعلتك من خواصي بمكان الشعار من الجسد وبطانة الثوب خلاف طهارته وبطانة الرجل وليجته وأطيب الرجل جعلته من خواصك.

«وجَعَلْتُكَ شِعَارِي وبِطَانَتِي ولَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ»: أي أشد وثوقاً منك.

«فِي نَفْسِي لِمُوَاسَاتِي»: وهي المعاونة بالمال.

«ومُوَازَرَتِي»: وهو: بالبدن «وأَدَاءِ الأَمَانَةِ: إِلَيَّ»، عد عليه ما يقتضي ويليق به خلاف ما فعله ليلجمه بلجام الزام. س «فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ

كَلِبَ»: أشتد جوره وشتمه تشبيهاً بالكَلبْ الكَلب وقد سبق أن إسناد أمثال هذا إلى الزمان متعارف بين الفصحاء.

«والْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ»: اشتد غضبه.

«وأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ»: جعلها بمثابة الدار في الحفظ وخيل إليها بحرت، وروي حربت بمعنى هانت وذلت وعلى هذه الرواية جعلها بمنزلة الشخص.

«وهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ(1)قبلتْ»: قبلت على غفلة.

«وشَغَرَتْ»: ابعَدَتْ في الفساد ولم يدعوا جهداً فيه بل رفعوا في ذلك.

«قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ»: هذا مثل يضرب يصير حرباً بعد كونه سلماً

ص: 186


1- ورد في بعض متون النهج: فَنَكَتْ

والمجن الترس وكأن من ناصر لك عند لقاء العدو فضن بترسه فإذا تغير عليك وصار مع عدوك فقد جعل إليك ظهر ترسه.

وهذا جواب قوله: فلما رأيت الزمان وذكره قرابته وبنو عمه مرتين وثلاثا تواضعاً ووضعاً لقدر نفسه لعظمة الله، ولم يقل: فلما رأيت الزمان علي كلب قلبت لي ظهر المجن مراقبة لجانبه وحثا له على الوفاء وأنه عليه السلام أشفق عليه أكثر من شفقته على الأجنبي.

«فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِینَ وخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِینَ وخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِینَ فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ»: وساعدت «ولَا الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ»: ثم أومأ إلى ما يقتضي فعله كونه ولم يجزم به لعدم وقوعه نعم شبه بشخص موصوف بما يذكر في أنه يذهب على خلاف على الصواب لا على ما أمر به رب الأرباب ونطق به سيد أولي الألباب فقال عليه السلام.

«وكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ»: الدلالة الواضحة في قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٭ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1).

«وكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ»: أي تقصد غفلتهم عن غنمهم التي فاتت ورجعت إليهم.

«فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ»: الحملة.

«وعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ واخْتَطَفْتَ»: أسبلت لخاصة نفسك «مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ»: وفي

ص: 187


1- سورة الزلزلة: الآية 7 - 8

بعض النسخ «مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ»: أي الذي امر الله أن يصان لأجل المرأة الأرملة التي لا زوج لها.

«وأَيْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ»: الخفيف الوركين.

«دَامِيَةَ»: محرومة «الْمِعْزَى الْكَسِیرَةَ»: المكسورة وهي الشاة التي تدمى بعد أن خرجت وأن لم يسل الدم أي كما يختطف الذئب جلد شاة محرومة فهو عليها أجرء.

«فَحَمَلْتَهُ»: أخذت بالضعفاء. «إِلَی الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ»: لم يضيق صدرك بذلك. «بِحَمْلِهِ غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ: أي لا ترى في ذلك إثماً.

«مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَيْرِكَ»: كلام الوالد المشفق فخلط اللبس بالخشونة.

«حَدَرْتَ»: أرسلت « إِلَی أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وأُمِّكَ»: أي كنت فارغ القلب كأنك أدخلت على أهلك ميراثاً أصنته حلالاً من قريب لا كراهية فيه ثم تعجب وسبح الله كما يفعل المتعجب فقال:

«فَسُبْحَانَ اللهِ»: وفي فاء التفريع إشارة إلى أن التعجب ناشئ مما سبق «أَمَا تُؤْمِنُ

بِالْمَعَادِ»: تصدق بالمرجع إلى الله.

«أَومَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ»: حساب الآخرة أراد أن من كان له الإيمان بالمرجع إلى يوم القيمة وخاف مناقشة الحساب لا يفعل مثل ذلك فأن من لاحظ تلك الأهوال وسرعة الزوال لا يحوم حول مثل هذا المال وإجراء هذا الكلام على وجه التهديد فأن دأب البلغاء تنزيل الشيء منزلة عدمه أن لم يعمل بمقتضاه ثم بالغ في تهديده وتوبيخه بقوله:

«أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ ذوي الأَلْبَابِ»: وفيه من الزجر والصخر ما لا يخفى.

ص: 188

«كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وطَعَاماً وأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ» ولا يحل بمجرد التماسه المذكور حَرَاماً وتَشْرَبُ حَرَاماً: وكل ما يبتاع بهذا المال فهو حرام.

«وتَبْتَاعُ»: يشتري «الإِمَاءَ وتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْمُؤْمِنِينَ

والْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ وأَحْرَزَ»: حرس « بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَاتَّقِ اللهَ وارْدُدْ إِلَی هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَی اللهِ فِيكَ»: أي لا قيمنه كناية عن الجزاء والانتقام.

«ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ»: ثم مهد عذراً وقال لو أن الحسن والحسين فعلا مثل ذلك ما كانت أي مصالحه ومماثلة عندي لهما حتى أربح الباطل من مظلمتهما وذلك قوله:

«ووَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَیْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ»: صلح ومحبة «ولَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ»: أبطل

«الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا»: بكسر الائم التي توجد ظلماً وبفتحها المصدر ولقد صدق عليه السلام في ذلك فأن من تلألأ في ساحة خاطرة أنوار الأسرار الإلهية واتعلقت عليه أبواب الوسوسة الشيطانية لا يفرق في الأحكام بين قريب وبعيد وشريف ووضيع ولا ينحرف عن الصراط المستقيم صراط الله وقريب من ذلك ما روي ما روي في الخبر ((وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))(1)ثم

ص: 189


1- الطبقات الكبرى لأبن سعد: ج 4 ص 70؛ مسند ابن راهويه: ج 2 ص 336 وآخرون تناقولوا الخبر كما هو من دون الوقوف عى السند المبهم حيث إنهم يرويه عن شهاب عن عروة عن عائشة؟ وهنا استفهام لكل ذي فهم؟ كيف لنا أن نعرف من هو شهاب، ومن هو عروة، من دون ذكر أبيه أو لقبه، ومع النقص في السند فكل من لحق أخذ ممن سبق، والخبر هو بعينه خبر المخزومية التي سرقت، وأن الذي كلم النبي صلى الله عليه وآله؛ قد قاله في حق فاطمة، وأن الخبر من موضوعات عائشة، أو من أرتضى الفتنه، بن المسلمين، فنسب الحديث عن عائشة وأن كنت لا أُبرء عائشة عن مثل هكذا أحاديث ملفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله. أضف إلى ذلك؛ لو كان لبان عن غیر عائشة؛ من أهل بيت النبي صى الله عليه وآله، أو من غیر عائشة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله؛ فلم نعثر على مصدر واحد من مصادر الإمامية يروي الحديث لما فيه من إساءة لسيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله تعالى وسلامه عليها، وأن كان الحديث على وجه التشبيه، مبتدأ ب(لو) وهو حرف تمني يفيد النفي، وهذا بعيد كل البعد عن رسول الله عليه وآله، الذي لا ينطق عن الهوى فكيف بلفظ حديث بن التمني والتشبيه؟! غیر اللائقین ببضعته فاطمة صلوات الله تعالى وسلامه عليها

حلف بأن ذلك المال لو كان من ماله لما برَ له ميراثاً بل أنفقه في سبيل الله فقال:

وأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالِمَینَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي»: ثم كني عن ترك المعالجة والأمر بالسكينة بقوله:

«فَضَحِّ رُوَيْداً»: مثل أي لا تعجل وأرفق في الأمر «فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى»: غاية عمرك.

«ودُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى وعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ ويَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ»: إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن أصحاب الطغيان رب أرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا «وَلاتَ حِینَ مَناصٍ»: أي ليس وقت تأخر وفرار والمناص والملجأ والمفر أيضاً.

هو ربيب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم.

وكان عامله على البحرين فعزله، واستعمل نعمان بن عجلان الزرقي مكانه «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ونَزَعْتُ يَدَكَ»:

ص: 190

نزعتها وكففتها.

«بِلَا ذَمٍّ لَكَ ولَا تَثْرِيبٍ»: بغير «عَلَيْكَ»: ثم بالغ في تسليته مقسماً بقوله:

«فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ»: الأمارة «وأَدَّيْتَ الأَمَانَةَ فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ» متهم.

«ولَا مَلُومٍ ولَا مُتَّهَمٍ»: ذكره تأكيداً «ولَا مَأْثُومٍ»: بالغ عليه السلام في الجهات المقضية للعزل عنه لئلا يتقلب بالأولى يتصرف حالاً من الانقياد إلى الإفساد ثم بين سبب ذلك بقوله:

«فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِیرَ إِلَی ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ وأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ وإِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللهُ»: قد سبق تحقیق مثل هذه الاستعارة وجعل إقامة عمود الدين سبباً لذلك المسير إیماء إلى هذه الحقيقي الذي أتصف تنوعه سيداً أولي الألباب وترغيباً لذلك المسير إيماء إلى هذه الحقيقي الذي اتصف بنوعه سید أولي الألباب وترغيباً له إلى ترکه ما یستلذ به الملوك والله سبحانه أعلم.

بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وعَصَيْتَ إِمَامَكَ: أراد نفسه القدسية ثم بين ما وبخه عليه بقوله:

«أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ»: جمعته «رِمَاحُهُمْ وخُيُولُهُمْ»: أسناد مجازي لطيف.

«وأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اعْتَامَكَ»: اغتنمت الرجل اخترته، وهو قلب الاغتنام أي قسمت في المسلمين، وغنیمتهم التي هي لضعفائهم في الدين اختاروك سيداً لهم من أغراب قومك الذين لم يتهاجروا وليس لهم نصيب في الغنائم ثم

ص: 191

وعظه وهدده واعلمه حكم الفيء بقوله:

«مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ»: قد سبق الكلام في تحقق مفردات هذا القسم.

لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ: الذي نسب إليك الذي من القسمة المذكورة.

«حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً»: لتهوس علي وقيل لتجدن هو أنا على نسبتك وبعلك وبفعلك.

«ولَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ»: بأن تختار ضد ذلك.

«ولَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ فَتَكُونَ مِنَ الأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا أَلَا وإِنَّ حَقَّ مَنْ كان قِبَلَكَ وقِبَلَنَا عندنا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْءِ سَوَاءٌ يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ ويَصْدُرُونَ عَنْهُ والسَّلامُ».

صدر هذا الكلام بحرف التنبيه ليتنبه السامع ويستقر في قلبه والمقصود بیان حكم الفيء بأن من يرد على ذلك الفيء من العسكر له حق ومن يصدر ويروح عنه له حق أيضاً ولا فرق في الحكم بين الورود والرجوع والله سبحانه اعلم.

طلب اللحاق وأعلم أن جماعة أدعي فيه وكل واحد يقول:

أنه ولده فنسب إلى أبيه أذا لم يظهره أمره منهم، عبيد الله بن زياد وفي عهد عمر أدعي زياد أبن أبي سفيان وكان حينئذ فاجراً، وفي عهد كان يكتب إليه أنه أخوه وكان عثمان قد ولاه على موضع أظهر البيعة له عليه السلام فتركه على أمره فاستغواه معاوية وقال: بريدة بن المفزع الحميري لمعاوية لما لحق نسب زیاد بأبيه أي أبي سفيان:

ص: 192

ألا أبلغ معاوية بن حرب ٭٭٭ مغلغلة عن الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عف ٭٭٭ وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك من زیاد ٭٭٭ کرحم الفيل من ولد الأتان

(1)«أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ»: طلب زلة لبك.

«ويَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ»: سيفك فأن الذي مبناه على التزوير يراد يصير العقل کالبشير.

«فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ»: ثم بين كونه شیطاناً ووجه مشابهته به تقول:

«يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَیْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ»: أي يهون عليهم أمراً الأخوة ومن خلفهم يأمرهم بجمع المال والبخل به وعن إيمانهم أفسد عليهم أمر دينه بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة وعن شمائلهم بتجنب اللذات وتغليب الشهوات على قلوبهم وقبيل المعنى من قبل دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم أي يزين لهم الدنيا ويخوفهم بالفقر ويقول لهم لاجنة ولا نار ويثبطهم عن الحسنات ويحثهم على السيئات وإنما لم يقل من فوقهم لأن فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك ولم يقل من تحت ارجلهم لأن الإتيان منه يوحش وإنما دخل في القدام والخلف وعن اليمين والشمال لأن في الخلف والقدام معنی طلب النهاية وفي اليمين والشمال الانحراف ومن خلف وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يبصرون ثم بين غاية إتيانه بقوله:

ص: 193


1- وفي بعض متون النهج: وقَدْ عَرَفْتُ

«لِيَقْتَحِمَ»: يدخل «غَفْلَتَهُ ويَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ»: غفلته ثم بين منشأ ذلك النسب بقوله:

«وقَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ»: أي فجأة من غير تردد ولا تدبر.

«ونَزْغَةٌ»: إفساد ووسوسة «مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ ولَه يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ والْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ والنَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ» فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها وربِّ الكعبة، ولم تزل في نفسه كذلك حتی ادعاه معاوية.

قال السيد الرضي: رضي الله عنه.

قوله عليه السلام «الواغل»: هو الذي يهجم على الشَّرب: جمع شارب.

ليشرب معهم، وليس منهم، فلا يزال مدفَّعاً محاجزاً: مدافعاً.

والنوط المذبذب: هو ما يناط يعلق برجل الراكب من قدح أو ما أشبه ذلك فهو أبداً يتقلقل يتحرك إذا حث ظهره واستعجل سيره: يعني كما أن الواغل والنوط ليس لهما قرار وثبوت والمتعلق بها كذلك وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس ولله الحمد.

وأنضر أيها القائل لأدراك الكمال في هذا العتاب الشديد لأجل دعوة لم يكن فيها إلا الخير والملح والخل على ما روي.

«أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ»: وروي من قطان البصرة أي سكانها.

«دَعَاكَ إِلَی مَأْدُبَةٍ»: طعام «فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا»: ولم يفتش عنها والورع يقتضي خلاف ذلك.

ص: 194

«تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ»: أي يطلب لك من طيبات طعام الألوان.

«وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ»: جمع جفنة وكأني بك تقول أليس الرسول يقول: شر الطعام طعام الوليمة ومع ذلك يحكم بوجوب القبول فما وجه تعبيره عليه السلام على إتيانه بما كان واجباً عليه فأقول: الأعذار المسقطة للوجوب وندبه وهو أن يكون في الطعام شبهة أو تخص الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره إلا يليق به مجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو لتعاونه على الباطل أو يكون هناك منکر من خمر أو لهوا أو فرش حرير وصور حيوان غير مفروشة أو آنية ذهب أو فضة ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه، وقد أومأ عليه السلام إلى ذلك بقوله:

«ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَی طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ»: فقيرهم قال عز من قائل «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً»(1)أي فقراً «مَجْفُوٌّ»: من الجفاء يقال جفوت الرجل لا جفيت، وأما قول الزاجر فلست بالجافي ولا المجفي فإنما بناه على جفي فلما انقلبت الواو ياء فيما لم يسم فاعله بني المفعول عليه.

«وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ»: وقد حكم الرسول بأنه شر الطعام وذلك لأن الرياء شرك خفي ثم أمره بالتثبط في الإجابة بعد توبيخه بالأسرع بقوله:

«فَانْظُرْ إِلَی مَا تَقْضَمُهُ»: بأكله «مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ»: أي المأكل «فَمَا اشْتَبَهً عَلَيْكَ عِلْمُهُ»: بأنه طيب وجهه.

«فَأُلْفِظْهُ ومَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ»: وللسان أن تقول فما تقول، فيما قيل من أنه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم

ص: 195


1- سورة التوبة: الآية 28

فليأكل من طعامه ولا يسأل ويشرب من شرابه ولا يسأل فأقول لا تغفل عن أخيه المسلم فإن الظاهر من حال المسلم أن يتجنب الحرام فأمره بحسن الظن به وسلوك طريق النجاة والتواد فيتجنب عن إيذائه بسؤاله ثم نبه على أن المأموم أن يتابع إمامه في أقوله وأفعاله كي يرتقي إلى معارج الكمال وينال كمال الحال فقال:

«أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ ويَسْتَضِئُ بِنُورِ عِلْمِهِ»: ثم بين شأنه بقوله:

«أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ»: يريد نفسه «قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ ومِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ»: وفي بعض النسخ واعلم أن أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه بسد فورة جوعه بقرصيه لا يعلم الفلذة في حولية إلا في سنة أضحيته وكن بقدر وعلى ذلك فأعينوني بورع واجتهاد، والطمر الثوب البالي الخلق والجمع الأطمار والعرب لهم رداء وإزار ولذلك ثني والمراد بالورع هنا كف النفس عن المحارم وما يكدر أمره القلب لإكمال الورع وهو على ما قال حكيم: (هو الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل لحظة).

روي أن رجلاً قال: بين يدي رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: ما أشد الورع.

فقال صلى الله عليه [وآله] وسلم «مأ ايسر الورع إذا رابك شيء فدعه»(1).

قيل أراد بالاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة وفي أعينوني بورع

ص: 196


1- الحديث ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله، بل هو موضوع؛ وهو: لمحمد بن سیرین ويرفعه إلى أبي بكر، كما ذكر ذلك ابن عساكر الدمشقي في تاريخ: 53 ص 202؛ وأبن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار: ج 2 ص 403، الميداني في مجمع الأمثال: ج 1 ص 30

إشارة إلى أن ورع المأموم وسيلة رفع أركان دولة الإمام وسرد ذلك أن المأمومين الورعين يدعون للإمام فيستجيب لهم الملك العلام فينتظم من أمره ويرفع قدره أو نقول ذلك الورع جاذب العناية الإلهية إلى الإمام والمأموم أما المأموم فظاهر وأما الإمام فلأنه الهادي وفي الخبر يحصل له مثل ما للمهتدي ثم فصل أحواله تفصيلاً فقال:

فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً: ذهباً ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً: مالاً كثیراً «ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً»: فكيف ما فيه خلاف أهل الدنيا فأنه صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة هم الآمنون يوم القيامة وفي بيان زهده عليه السلام ترغيب له في الزهد الحقيقي وينبغي أن يكون الناصح لشخص موصوفاً به نصحه به شعر:

ما أقبح التزهيد من واعظ ٭٭٭ يزهد الناس ولا يزهد(1)

ثم أومأ إلى ما كان في يده وتركه أيضاً فقال:

«بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ»: أسم ناحية أفاء الله على رسوله من قرى اليهود فنزل قوله تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ»(2)أي اعطي فاطمة فدك فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياها وكانت في يدها إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فأخذت من فاطمة بعده عليه والقصة فيها طويلة وأشار إلى حصر ما في يده فيها بقوله:

ص: 197


1- البيت: لسلم بن عمرو؛ تفسير القرطبي: ج 1 ص 367
2- سورة الإسراء الآية 26

«مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ»: وأوقعت عليه الظل.

«فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ»: تجلب عليها.

«وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ»: هي نفوس أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

«ونِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ»: أي الحاكم القاضي إيماء إلى أنه أخذت من غير حق ثم أشار إلى أنه كحل عينه بأنوار اللاهية، وأشرقت أرض قلبه العلية بالتجليات السبحانية فيصير بمال مال الدنيا فتركه اختيارا بقوله:

«ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَیْرِ فَدَكٍ والنَّفْسُ مَظَانُّهَا»: جمع مضنة وهي الموضع الذي يضن.

«فِي غَدٍ جَدَثٌ»: قبر «تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وتَغِيبُ أَخْبَارُهَا وحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ والْمَدَرُ وسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ

الْمُتَرَاكِمُ وإِنَّمَا هِيَ»: النفس المذكورة المخبر عنها بما ذکر.

«نَفْسِيِ أَرُوضُهَا»: أذللها «بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَرِ»: لقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم: «إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: أني قد جعلت لكم نسباً وأنتم جعلتم نسبا، أني جعلت أكرمك أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم وأني أرفع نسبي يوم القيامة وأضع أنسابكم فأما المتقون فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(1).

ص: 198


1- شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: تفسير الرازي: لفخر الدين الرازي: ج 22 ص 11، وذكره الشيخ الطبرسي باختلاف يسير في تفسير مجمع البيان: ج 9 ص 230؛ الثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير القرآن: ص 88

«وتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ»: موضع الزلق والزلة فأنها جاذبة عن المهالك موصلة إلى ذلك ثم أشار إلى أنه عليه السلام نبذ قينات الدنيا ولذاتها وراء ظهره بالاختيار لا الاضطرار فقال: «ولَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَی مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ ولُبَابِ»: خالص «هَذَا الْقَمْحِ»: الحنطة «ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ»: جمع نسجه وهو الثوب المنسوج وكيف لا والحال أنه كان أماماً وكان الأنام وما لهم تحت يده زماماً.

الواسطي قال: رجل لعلي بن أبي طالب عليه السلام علمني کمال الحكمة قال: أن للدنيا عليك حقاً وللآخرة عليك حقاً فمن حق الدنيا أن لا تأخذ منها ما قدرت على أخذه ثم أومأ إلى أنه أستشار صفحة قلبه بالأنوار الإلهية وارتفعت عنه ظلمات الأرض الوهم والخيال التي هي أسباب مغلوبية الشخص وغالبية نفسه الأمارة بالسوء فقال:

«ولَكِنْ هَيْهَاتَ»: بعد «أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ ويَقُودَنِي جَشَعِي»: حرصي وقيل هو أشد الحرص «إِلَ تَخَیُّرِ الأَطْعِمَةِ»: ثم اشار إلى أن شأن الإمام أن يراعي حال المأمومين ويوافقهم بحسب الطاقة كما فعل الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال:

«ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ ولَا عَهْدَ لَهُ »: لا لقاء له بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً»:(1)هو: الذي لا يزال عظیم البطن من كثرة الأكل.

«وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى»: العرب(2)الجوع وروي لعل بالمدينة بينهما يتضور من سغبه أي يصبح من جوعه أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى إذا تحضرني في القيامة

ص: 199


1- والمبطان هو: كبير البطن، والمعنى للتشبيه وأنه عليه السلام يرفض أن يكون حاله كحال المبطان
2- في قول العرب: الغرثى الجائعة

وهو من ذكر وأنثى قوله بطون غرثى على الإضافة في هذه الرواية التي في الكتاب على الصفة والتنوين.

«وأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ»:

وحَسْبُكَ دَاًء أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ ٭٭٭ وحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

الحنين: الشوق وتوقان النفس والقد: جلد وكانت العرب تحرقه في الجدب يأكلونه ثم أومأ إلى أن من صار منزلاً للجذبات الإلهية يليق به أن لا يكتفي بأحكام في شأن حكام الدنيا بل يعمل ما يرفع به درجاته في العقبي فأستفهم على سبيل الأنکار فقال:

«أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِيِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ»: غلظه وخشونته ثم أشار إلى شأن الإنسان والفرق بينه وبين الحيوان فقال:

« فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ»: عن الوصول إلى الكعبة الحقيقية ونزل قينات الدنيا الدنية.

«كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا»: اللام في ليشغلني لام العرض وكاف في كالبهيمة محله النصب لا مصدر محذوف أي لم أخلق خلقة مثل خلقة البهيمة سواء كانت مربوطة أو مرسلة فالأولى بهما بالطرح إليها من العلف واشتغال البهائم تقممها أي: جمعها النبات في المرعى يقال: قمت الشاة من الأرض وأقمت أكلت من القمة يستعار فيقال: أقيم الرجل ما على الخوان إذا أكله كله ثم اشار إلى وجه الشبهة بقوله:

ص: 200

«تَكْتَرِشُ»: تجمع الكرش «مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا»: فإن من لم يلبس درع التقوى وآثر الحياة الدنيا فهو شبيه بالبهيمة في الجمع والغفلة.

أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً»: لاعباً «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ٭ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٭ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1)وفي عدة كل من لهذه الأوصاف تنبيه لأرباب الضلال وأصحاب الغواية.

«أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ»: استعير الحبل لما يتوصل به إلى الضلالة الأبدية وهي الأعمال الشرية ورشحها بالحر وكنى به عن كثرتها.

«أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ»: أي أجد طريق التحريم ثم أشار إلى أن قوته كانت من القوة الرحمانية لا من القوة الغذائية فأنه كان يأكل القليل من السويق، ويقلع بالخنصر باب الخيبر قال عليه السلام: «وكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ

ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ»: أعقده واعجزه «الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الأَقْرَانِ ومُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ»: ثم نبه على أن الحكم بأن القوة من الغذاء من الحكم الوهم والعقل الخالص يحكم بأن الله سبحان إذا أن أراد أن يلبس أحد أخلة القوة من غير أن يأكل غذا أرباب الترفيه فيفعل ولا مانع عنه ومثل ذلك بالأشجار ليدل من ذلك المرام لأولي الأبصار فقال عليه السلام:

«أَلَا وإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً»: مع أنه لا يسقي بالماء.

«والرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً والنَّابِتَاتِ الْغَذيَةَ»: بسكون الذال زرع لا يسقى إلا المطر، «أَقْوَى وَقُوداً وأَبْطَأُ خُمُوداً»: أقوى وقوداً أو أبطئ خموداً ضرب عليه السلام مثلاً نفسياً قدسي كشجرة برية ووجهه أنها اشد قوة من الحضرية مع أنها

ص: 201


1- سورة الزلزلة: الآية 6 - 8

لا شرب لها من يسقي الحظرية كذلك من أقدم سبيل المجاهدة وشرب سلسال المشاهدة يأكل قليلاً من خشن الطعام ويقدر على ما لم يحط به علماء الأنام وشجعان الإيام وما هو إلا بقوة القوة المتين والملك الحق المبين ثم زاد المرام توضيحاً بالنسبة والتمثيل بالنبات الغذية وأستجرح وجه الشبهة من نفسه الزكية ولعمري أنه عليه السلام ركض مراكب القوى والجوارح في مضمار الراضية والعبادة فأتاه الله خصائص يكاد يوصف بالتضاد وحلاوة بلطائف بجمع اسباب السعادة.

إذ أن هذه الشدة والبطش والغلظة والبأس والفذ والقط وشق الهام وحقه الأقدام من خشوعه وخضوعه راغباً وراهباً ويدرعه من الزهادة والعبادة بسربال سابغ ورداء سائل واتصافه برقة قلب وهموع طرف، وانسكاب دمع، وتأوه حزين، وإخبات منيب، وشعف عيشة وجشب غذاء، وتقلل قوت وخشونة لباس، وتطليق الدنيا وزهرتها، ومواصلة الأوراد، واستغراق الأوقات بها والإشفاق على الضعيف والرحمة للمسكين، والتحلي بخلال خير لا يتأتى إلا لمنقطع في كن جبل لا يصحب إنسا ولا يسمع من البشر حسا مع المبالغة في معاتبة نفسه على التقصير في الطاعة وهو مطيل في العبادة شعر صفات أمير المؤمنين أمير المؤمنين من أقتفى مدارجها أفنية ثواب ثوابه صفات جلاله ما اعتدى بلبانها سواه ولا جلب بغير جناية يقفوها طفلاً وكهلا وأنبعث معاني المعاني فهل ملأ إهابه مناقب من قامت به شهدت له بأزلافه من ربه واقترابه مناقب لطف الله أنزلها له وشرف ذكراه بها في كتابه؛ ثم أنه عليه السلام من أجل المقام ذكر من بين خصائصه قربه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم تنبيهاً على أن لا فرق بينمها في فيضان القوة الإلهية عليهما من غير أكثار في الطعام فقال عليه السلام:

ص: 202

«وأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ والذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ»: الصنو الغصن الخارج من أصل الشجرة هما صنوا دوحة ثم أستعير فقيل فلان صنو أبيه وقريب مما ذكره عليه السلام ما روي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال «أن علياً مني وأنا من علي فلا يؤدي عني إلا أنا أو علي»(1)ونحوهما كثير ثم أبرز شجاعته ووثوقه بالله وتوكل على الله فقال: «واللهِ لَوْ

تَظَاهَرَتِ»: تعاونت «الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا»: فأنه كان شديد القلب عند البأس والانهزام يكون بحسب الحين ثم أومأ إلى تأخيره في مبارزة معاوية وسائر أعدائه بسبب الموانع فقال:

«ولَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا وسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ والْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ»: تطهير الأرض كناية عن أهلاك معاوية وهو المشار إليه بهذا يقال عكسه الشيطان كما قال: لاحتنكن ذريته والركس رد الشيء مقلوباً قال الله سبحانه «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا»(2)أي ردهم إلى عقاب كفرهم وأراد معاوية عليه بالجسم المركوس أن الشيطان جعل معاوية مدبراً ودعاه إلى الارتداد.

«حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ: يقال أبدلني مجهودي حتى أتقي الحبوب من المدر وحتى اخرج المتدعين من بين المؤمن والمدرة واحدة وهي صغار

ص: 203


1- الأمالي للشيخ الصدوق؛ بزيادة بعض الصفاة والمناقب: ص 88؛ روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 101؛ وأسد الغابة لابن الأثير: ج 4 ص 27؛ الاصابة لأبن حجر: ج 4 ص 468؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 481. أما عبارة (لا يؤدي عني ألا أنا أو رجل من أهل بيتي فقد رواها الشيخ الصدوق في علل الشرائع: ج 1 ص 189؛ والقاضي النعمان في شرح الأخبار: ج 2 ص 179، وما زال الكثير من المصادر تركتها رعاية للأختصار
2- سورة النساء الآية 88

قطع اليابس الأزهري في قوله تعالى وحب الحصيد أي حب الزرع المحصود.

أبن عرفة أي ما تحصد من أنواع النبات والحب هو الحصيد وهذا هو الحصيد وهذا مثل ضربه لما ذكر به ثم أشار إلى تزهده في الدنيا فقال:

«إِلَيْكِ عَنِّي»: أي أبعدي عني «يَا دُنْيَا»: وهمي زينك إليك من قربي.

«فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ»: أي اذهبي حيث شئت، كانوا في الجاهلية يطلقون ذلك ونحوه، وأصله أن الناقة إذا رعت وعليها الحطام ألقي على غاربها لا أنها أذا رأت الحطام لم يهنئها شيء.

«قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ»: أنسللت خرجت والمخلب للطائر والسباع بمنزلة الظفر من الإنسان وفيه استعارة بالكناية وتخيل وترشيح يظهر بأدنى تأمل.

«وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ»: أي تركت زخارفك التي من أحبها فقد قيد قلبه وحقيقة هذا التركيب أقلت نفسي من حبالك فحذف المفعول.

«واجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَذاهِبِكِ»(1): وأعلم أنه عليه السلام جعل الدنيا مخاطبة بمنزلة ذوي العقول وعدمها ما تنفر السامع عنها لتنصره بعين القبول ويسلك مثل هذا من له درته في أساليب الكلام وفصاحته الفاظه وبلاغة معانيه فقال عليه السلام:

«أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ»: الدنيا كالهزل في عدم ترتيب الفائدة والاشتغال في زمن القليل.

« أَيْنَ الأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ»: تولدت الباء من الإشباع «بِزَخَارِفِكِ»: قد ذكرت

ص: 204


1- ورد في بعض متون النهج: مَدَاحِضِكِ

أن الزخرف في الأصل الذهب.

«فَهَا هُمْ»: ضمير الأمم «رَهَائِنُ الْقُبُورِ»: قد سبق وجه هذه الاستعارة واراد بهم تركوا مقيمين في قبورهم.

«ومَضَامِینُ اللُّحُودِ»: المضامين اللحود في الأصل ما في أصلاً الفحول ونهى عن بيع المضامين والملاقيح وذكره هنا مجاز ثم حلف لو كانت الدنيا قالباً حسيناً وروي كذا أيضاً لأقام عليها حد الله في حق عبادة غرتهم والفهم في المهالك فقال:

«واللهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وقَالَباً حِسِّيّاً»: وفي بعض النسخ حسناً وإنما خصص الشخص والقالب لأن غير المرئي والحسي خارج عن القوة البشرية.

«لأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالأَمَانِيِّ وأُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي

ومُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَی التَّلَفِ وأَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ»: القبر ومواضع الحساب والسقر.

«إِذْ لَا وِروْدَ»: إلى الدنيا «ولَا صَدَرَ»: الرجوع عن تلك الموارد «هَيْهَاتَ»: بعد كل من الورود والرجوع ثم ذمها بمذام أخرى فقال:

«مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ»: المكان الدحض الذي لا يثبت عليها القدم

«زَلِقَ ومَنْ رَكِبَ لَجُجَكِ»: جمع لجة البحر وهي معظمه.

«غَرِقَ ومَنِ أُزْوَرَّ»: أعرض «عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ والسَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ والدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ انْسِلَاخُهُ»: أراد بالمناخ هنا الموضع والانسلاخ بمعنى الذهاب أراد أن من تخلص من مخالب الدنيا ورأى بعين البصيرة أهوال العقبى لا يريدها كما لا يريد المرء يوماً قرب فيه زواله هذا على تقدير رجع

ص: 205

الضمير في انسلاخه إلى السالم ويحتمل رجوعه إلى اليوم ومعناه أن يوماً قرب فيه انتهاؤه بجعله في معرض النسيان ولا يقصد إليه للعمل فيه كذلك السالم يجعل الدنيا نسياً منسياً ولا يقصدها للادخار.

حكي أن محمد بن سلمان الهاشمي كنت إلى رابعة البصرية: أما بعد فأن الله تعالى أعطاني عن علة الدنيا في كل يوم ثماني ألف درهم وليس بمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصيرها لك ومثلها فأجاب أما بعد فأن الزهد في الدنيا راحة البدن والرغبة منها تورث الهم والحزن فهي زادك وكن بيد وكن وصي نفسك وضم الدهر واجعل قطرك الموت واعلم أن الله تعالى لو خولني إضعاف ما خولك ما سرني أن أشتغل عن الله طرفة عين فمن أراد أن ينجوا غداً من حساب الآخرة وأهوال القيامة فليختر العبادة والقناعة، فأن العابد القانع بمكان من الله تعالى ليس احد بمكانه ثم كرر أمره بالتباعد تنبيهاً على غاية بعد خاطره عليه السلام عنها فقال:

«اعْزُبِي عَنِّي»: ثم قسم بأنه لا ينقاد لاستقرار ما تنفر عنها بعد خاطره عليه السلام عنها فقال: «فَوَاللهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي ولَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي»: من الانقياد أرشاد العباد ثم قسم وعلقه بالمشيئة تأذيناً وإعلاماً للناس بذلك وتنبيهاً على أن الأنوار بمشيئة الله وإرادته فقال: «وأُيْمُ اللهِ يَمِيناً»: نصب على المصدر.

«أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ لأَرُوضَنَّ»: وذللن «نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ»: يرتاح ويبهر.

«مَعَهَا إِلَی الْقُرْصِ»: عهد إلى ما مر.

«إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً»: نصب على الحال.

«وتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً»: الآدام «ولأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ»: غار في الأرض.

ص: 206

«مَعِينُهَا»: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض.

«مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا»: أي لا تلين حتى استفرغ دموعي وارتقبها جميعاً يقال: استفرغت مجهودي في كذا أي بذلته واستفرغت الماء وأفرغت وصيته روي أبو ريحانه أنه قال: رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم حرمت النار على ثلاث أعين عين سهرت في سبيل الله وعين بكت ودمعت عن خشية الله وكف عن الثالثة ولم يذكرها وري عنه عليه السلام أنه قال: أمحوا الميثياب من العثرات بالمثلات من العبرات وكأني بك تقول: إذا البكاء لغران الذنوب، فما وجه بكاء المعصوم المنزه عنها، بل أن عصمته عن غبار الإثم.

أقول: سأل الجنيد رحمه الله هل للعارف أن يبكي قال: العارفون يبكون شوقاً إلى المحبوب، والمذنبون يبكون خوفاً من الذنوب ولذا قال: بعض العرفاء البكاء رشحات قراب القلوب عند حرارة الشوق والعشق.

شعر:

بكيت على سرب القطا إذ مررن بي ٭٭٭ فقلت ومثلي بالبكاء جدير

أسرب القطا هل من يعير جناحه ٭٭٭ لعلي إلى من قد هويت أطيرا(1)

ثم أشار إلى أن كثرة الأكل والشرب والنوم، شأن الأنعام ومن سلك هذا السبيل فأولئك كالأنعام.

فصدر عليه السلام الكلام بهمزة تقريراً لمدخولها وأنكار لأن ذلك شأنه فقال:

ص: 207


1- شرح ابن عقيل الهمداني: ج 1 ص 148

«أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ»: الأنعام التي ترعى بلا راعي.

«مِنْ رِعْيِهَا»: بكسر الراء النبات الذي يرعى وبفتحها المصدر.

«فَتَبْرُكَ وتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا»: نباتها.

«فَتَرْبِضَ ويَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ»: يرقد وينام ثم دعا له في مقام الزجر ترحماً وإشفاقاً فقال: «قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ»: سرت؛ قال: عز من قائل: كي تقر عينها وقيل معناه بردت فصحت وقيل بل لأن للسرور ودمعة قارة فلذلك قال: فيمن يدعي إليه أسجن الله عينيه.

«إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ »: المسترسلة «والسَّائِمَةِ

الْمَرْعِيَّةِ»: وفيه تنبيه لأرباب الأكل والشرب على أنهم كالبهيمة والسائمة وفي الخبر أنه قال صلى الله عليه [وآله] وسلم لا ((تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فان القلب يموت بها كالزرع إذا كثر عليه الماء))(1)ثم دعا لمن به فيما ذكر فقال:

«طُوبَى»: لنفس مبتدأ وخبر أي الحال المستطابة «لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا»: فأنه مقدم على سائر الطاعات.

«وعَرَكَتْ»: ذللت «بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا»: شدتها أي صبرت على الشدة واختيار العبارة المذكورة لأجل الكناية والتخيل والترشيح لما فيها من البلاغة.

«وهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا»: نومها «حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى»: النوم «عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا»: اتخذت الأرض فراشاً.

ص: 208


1- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 453؛ التخويف من النار لعبد الرحمن بن أحمد الحنبلي البغدادي الدمشقي: ص 24

«وتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ»: أي بین معر جماعة «أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وهَمْهَمَتْ»: صوبت «بِذِكْرِ رَبِّهِمْ

شِفَاهُهُمْ وتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ»: أي ذهبت ذهاب السحاب فأن الله قد وعد أن من تاب من ذنوبه فأنه تعالى يغفرها تفصيلاً، وأعلم أنه عليه السلام بعض عظماء أجراً المجاهدة وقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قيام الليل بمثل قوله تعالى يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فأن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فأن توضأ أنحلت عقدة؛ فأن صلى أحلت عقدة؛ فاصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان مثلت حالة من لم يتكاسل ولم ينم عن وظائفه التي تسرع به إلى مقام الزلفي وتبسطه إلى مقام السعادة العظمى فكلما همت النفس اللوامة بالسلوك يداركها التوفيق بالخلاص من نفس الشيطان في عقد نفس الأمارة بالسوء؛ فتصبح مطمئنة نشيطة القلب طيبة النفس ظاهراً في سيماها أثر السجود بحالة من أسره العدو ووسد على قفاه بربقة الأسر عقدة بعد عقدة استئنافاً وهو يجري الخلاص منه بلطائف حيلة مرة بعد أخرى حتى يتخلص منه بالكلية ويذهب سبيله بلا منازع ولا مخاصم بخلاف من أطاع الشيطان حتى تمكن من النفس الأمارة بضرب العقد على فاقة رأسه فهل يستويان «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)، وأعلم أن أسالك الناسك يتفكر في عجائب الملك والملكوت ويعرج إلى عالم الجبروت حتى ينتهي إلى سرادقات الجلال؛ فينفتح لسانه بالذكر ثم بدنه روحه بالتأهب والوقوف في مقام التناجي والدعاء وكان في دعاء رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم

ص: 209


1- سورة الملك: الآية 22

في الليل اللهم أجعل في قلبي وراً إلي وفي شعري وبشري طلب النور للأعضاء عضواً عضواً ومعناه أن يتجلى بأنوار المعرفة والطاعة ويتعزى عن ظلمة الجهالة والمعاصي لأن الإنسان ذو سهو وطغيان، رأى أن ظلمات الحيلة مفطورة عليه من فرقه إلى قدمه والأدخنة الثائرة من نيران الشهوات من جوانبه ورأي الشيطان يأتيه من الجهات الست بوساوسه وشبهاته ظلمات بعضها فوق بعض فلم ير للتخلص منها مساغات إلا بأنواره سادة لتلك الجهات فسأل الله سبحانه أن يمده بها ليستأصل شاقة تلك الظلمات إرشادا للأمة وتعليماً لهم ثم أقتبس عليه السلام من القرآن الكريم فقال مدحاً لهم وتعريضاً على مخاليفهم.

«أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1)وفيه أشارة إلى أنهم يستحقون من الفيوض ما لا يتناهى بخلاف الذين «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(2)وبالله التوفيق(3).

نصيحة له فصدره بما يجذبه إلى القبول فقال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ» أي أجعله كالأظهر لأجل نفسي.

«عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ»: تقويمه «وأَقْمَعُ»: السر «بِهِ نَخْوَةَ»: تكثر «الأَثِيمِ»: ذي أثم يعني معاوية شبهه بالحطب في أن كلا منهما سبب اشتعال النار وجعل أهلاك معاوية بمثابة الضرب بالمقمعة، «وأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ»: اللهاة اللحمة

ص: 210


1- سورة المجالدة: الآية 22
2- سورة المجالدة: الآية 19
3- ورد في بعض متون النهج: فَاتَّقِ اللهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ ولْتَكْفكَ أَقْرَاصُكَ لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُكَ

المشرفة على الحلق وقيل بل هو أقصى الفم استعير لثلمه في موضع المجاز.

«فَاسْتَعِنْ بِاللهِ عَلَی مَا أَهَمَّكَ»: حملك على الهم.

«واخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّینِ»: الصعب قبضته حشيش مختلط الرطب باليابس استعير هنا اللبن المخلوط ووجه الشبهة الاختلاط.

«وأرْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ»: المدارات «أَرْفَقَ»: أصلح وأصوب «واعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ»: الاعتزام لزوم القصد في العزيمة في الأمر بالجد.

«حِینَ لَا تُغْنِي عَنْكَ»: حين لا تعني ألا الشدة فيه تنبيه سلوك سبيل الرفق بقدر الإمكان وفي الخبر أن أفضل العباد عند الله منزلة يوم القيامة أمام عادل رفيق في الحديث أيضاً الرفق يمن والحرق شؤم وفيه أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يكون الخرق في شيء إلا شانه.

وجعل الرفيق رديفاً للعادل من باب التكمیل کما قال الشاعر:

حلَيِمٌ، إذا ما الحِلْم زَيَّن أَهلَه ٭٭٭ ممع الحِلْمِ، في عَيْنِ العَدُوِّ مَهيبُ(1)

(2)«واخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ(3)وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ»: أي تساهلًا ومدارتاً لهم تأكيداً لما قبله وقد سبق وجه هاتين الاستعارتين.

ص: 211


1- البيت: لكعبُ بنُ سَعْدٍ الغَنَوِيُّ: لسان العرب لابن منضور: ج 1 ص 328
2- ورد في بعض متون النهج: إِلاَّ الشِّدَّةُ
3- ورد في بعض متون النهج: وابْسُطْ لُهَمْ وَجْهَكَ

«وآسِ(1)بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ والِإشَارَةِ والتَّحِيَّةِ»: أي أصلح بينهم فيها ولا تخص بينهم کیلا يورث العدواة بينهم وقال: بعض الناس لعله عليه السلام قال: ساوي بينهم في اللحظة ومن واسی فقد ساوی؛ ثم بين غاية التخصيص فقال:

«حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَاَءُ فِي حَيْفِكَ»: ميلك وجورك «ولَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ»: والسلام فأن من رأى أم ميل الحاكم إليه وأن شأن عنده يطمع أن يؤتيه ما نفع له ولو كان مضراً على غيره وتتأس الضعيف من عدله له لذلك أيضاً كان بعض الأئمة إذا بعث عماله شرط عليهم أن لا تركبوا برذوناً ولا تأكلوا نقيّاً، ولا تلبسوا رقيقاً، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس. فإن فعلتم شيئاً من ذلك فقد حلّت بكم العقوبة. وبالله التوفيق.

ومن وصيّة له عليه السّلام للحسن والحسين عليهما السّلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله

«أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ»: وهي كما قال: بعض المحققين الاقتداء بالنبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قولاً وفعلاً فعلى هذا ما ذكر بعده تفصيل هذا الأجمال.

«وأَلَّا تَبْغِيَا»: تطلبا «الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا»: كما فعل عليه السلام روي أنه كان عليه السلام وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلى تشوقت هيهات هيهات قد ابنتك ثلاثاً لا رجعت لي فيك وسیجیئ في كلامه عليه السلام.

«ولَا تَأْسَفَا عَلَی شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا»: قد سبق بيان ذلك في مثل هذه الوصية.

ص: 212


1- آس يؤوس أوسا، والاسم: الإياس، وهو من العوض؛ العين للخليل الفراهيدي في العين: ج 7 ص 329، والمعنى أجعل فيما بينهم المساواة والعوض حتى في النظرة والتحية

«وقُولَا بِالْحَقِّ واعْمَلَا للآخرة»(1): أي قولاً ملتبساً بالحق والصدق ولو كان مراماً وأسمعوا إلى الطاعة التي هي وسيلة ثوب ثواب الآخرة واللام لام العاقبة لا الغرض فأن المأمور به في القرآن الكريم العمل بالإخلاص «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ»(2)وهو كما قال بعض المحققين أن لا تطلب بعملك شيئاً غير الله.

«وكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً»: لا معيناً فأن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من أعان ظالماً فقد ولى الإسلام وراء ظهره»(3).

ولِلْمَظْلُومِ عَوْناً»: معيناً فأن ذلك من كمال العقل ثم عمم الوصية فقال:

«أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِ بِتَقْوَى اللهِ ونَظْمِ أَمْرِكُمْ»: سلك مسلك الالتفات.

«وصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ»: أي الحال التي بين الرجل وأهله وما بين الرجلين أو القبيلتين والمراد هاهنا ما بين المسلمين.

والبين: الوصل کما قال تعالى «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ»(4).

«فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَیْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ»: يجوز أن يكون الذات عبارة عن النفس كأنه قال

ص: 213


1- ورد في بعض متون النهج: لِلَأجْرِ
2- سورة البينة الآية 5
3- الأحكام ليحیی بن الحسين: ج 2 ص 583؛ ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 274؛ وباختلاف يسير مثل «من أعان ظالما سلطه الله عليه» الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي في: ج 3 ص 1058
4- سورة الأنعام: الآية 94

صلاح نفس الرجل الذي ذب إليه الفساد بين الناس خير من كثير نوافل الصلاة والصوم ثم رعب إلى رعاية حال الايتام فقال: «اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ»: أي أتقوا الله في الإيتام سراً وجهراً.

فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ: أي أطعموهم كل يوم وأحسنوا إليهم كل ليلة ولا تغفلوا عنهم ساعة ويقال: فلا تغيباه عطائه أي لا تنسيا يوماً دون يوم بل تأتيا كل يوم ولما كان المطلوب الإحسان إليهم ذلك إلى الأفواه.

ولَا يَضِيعُوا: حقوقهم بِحَضْرَتِكُمْ: عندكم ثم أوصى للجار لاهتمام الشارع في شأنه فقال:

واللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ: فيه مبالغة لطيفة مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ: في الخبر لا تحتقرن جارة لجارته ولو فرش شاة وهو من النهي، وهو من النهي عن الشيء والأمر بضده کنایه عن التحاب والتواد كأنه قيل لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة والفرش عظم قليل اللحم والترغيبات في الإشفاق على الجار ودفع المضار عنهم كثيره مذكورة في كتب الأحاديث.

واللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْبِقُكُمْ: لا يغلبنكم بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ: ندبهم إلى العمل بما في القرآن لأنه هو المقصود بالذات والقراءة تابع وقد قال صلى الله عليه [وآله] وسلم المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به کالأترجة(1)، والمؤمن الذي لا يقرأ

ص: 214


1- الأترج الظاهر هو: فاكهة من صنف الحمضيات، المعروف في زماننا بالنارنج: ولغة: ترج: الأُتْرُجُّ، معروف، واحدته تُرُنْجَةٌ وأُتْرُجَّةٌ؛ قال علقمة بن عَبَدة: يَحْمِلْنَ أُتْرُجَّةً نَضْحُ العَبِيرِ بها ٭٭٭ كَأَنَّ تَطْيابَها، في الأَنْفِ، مَشْمُومُ: لسان العرب لابن منظور: ج 2 ص 218؛ نهاية الأرب للنويري: ج 11 ص 17، وجملة كبيرة من فوائد الأترج لم يسع المقام ذكره فمن شاء فليراجع

القرآن ويعمل به كالتمرة وسر ذلك أن الأترجة أفضل ما يؤخذ من الثمار في سائر البلدان وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها فمن ذلك كبر جرمها وحسن منظرها وطيب مطعمها ولين ملمسها يأخذ الأبصار صنعه ولو نافع لونها يسر الناضرين تتوق إليها النفس قبل التناول وغيرها يظهر بالتأمل الصادق بخلاف التمرة ثم أن كلام الله المجيد تأثير في باطن العبد وظاهره والعباد متفاوتون في ذلك فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القاري ومنهم من تأثر باطنه دون ظاهرة وهو المؤمن الذي لم يقرأه ويعمل به وأن الباطن أولى من الظاهر وأما الجمع بينهما فهو نور على نور. «واللهَ اللهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ»: قد سبق الكلام فيها وفي فضلها.

«واللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ»: أراد الكعبة «لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ»: أي لا تتركوه خالياً من الحج بقية عمركم.

«فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا يوم القيامة»: بل يدخلون النار بغير مناظرة ولا محاسبة وذلك من باب المبالغة والتشديد والإيذاء بعظمة شأن الحج وتغليظاً له على تركه، ومن الحديث ما روي عليه السلام عن رسول اله صلى الله عليه [وآله] وسلم أنه «من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً»(1)يعني أن وفاته على اليهودية والنصرانية سواء فيما فعله من کفران نعم الله ونزل ما أمر به والانهماك في معصيته.

«واللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ»: فانه قال: صلى

ص: 215


1- بدائع الصنائع لابي بكر الكاشاني: ج 2 ص 118؛ الفتوحات المكية لابن عربي: ج 1 ص 737

الله عليه [وآله] وسلم «افضل الأعمال الجهاد في سبيل الله»(1)وقال «من لقي الله تعالى بغير أثر من جهاد لقي الله تعالى وفيه ثلمة»(2)قال: بعض أهل المعرفة بياناً بيناً لقوله عليه السلام:

الجهاد على أربع اصناف جهاد مع الكافر الظاهر قوله تعالى «يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(3) وجهاد مع الكافر الباطن قوله عز وجل «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا»(4)وجهاد مع أصحاب الباطل بالعلم والحجة قوله عز من قائل «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5)وجهاد مع النفس الأمارة قوله تعالى «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(6)ثم أمر بما يبتني عليه الشرع وندبنا إليه الرسول فقال:

«وعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ والتَّبَاذُلِ وإِيَّاكُمْ والتَّدَابُرَ والتَّقَاطُعَ»: فأنكم مستوون في کونكم عبيد الله تعالى وملتكم ملة واحد فالتدابر والتقاطع منافية لحالكم فالواجب عليكم أن تكونوا أخواناً متواصلين متبادلين ومتآلفين قال: جل ذكره «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»(7)وقال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «لا

ص: 216


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 70؛ وسنن النسائي: للنسائي: ج 7 ص 154؛ السنن الكبرى كذلك للنسائي: ج 4 ص 431؛ فتح الباري لابن حجر: ج 2 ص 157؛ باختلاف يسير
2- سنن الترمذي: ج 3 ص 108؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري في: ص 331
3- سورة المائدة : الآية 54
4- سورة فاطر: لآية: 6
5- سورة النحل: الآية 125
6- سورة العنكبوت: الآية 69
7- سورة آل عمران: الآية 103

يحل لمسلم أن يهجر أخاه ثلاث فمات دخل النار»(1)وأعلم أنه عليه السلام اراد ما يكون بين المسلمين من غيب ووجد أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان ذلك في جانب الدين فأن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق فأنه صلى الله عليه [وآله] وسلم لما خاف علی کعب بن مالك وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوماً، وقد هجر نسائه شهراً.

«لَا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ»: فأن المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذي في أعلاها فنادوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: مالك؟ قال: يأتيهم ولا مد لي من الماء فأن أخذوا على يده أنجوه وأنجوا انفسهم وان ترکوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ثم أشار إلى مضرة من مضرات الترك بقوله:

«َيُوَلَّی عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَمَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ»: وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «لتدعّن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث علیکم عذاباً من عنده ثم لتُدعْن فلا يستجاب لكم»(2)وقد سبق من کلام في شرط الإيمان فلا تغفل ثم أشار إلى حکم قصاص جانبه بقوله:

«ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ

ص: 217


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 6 ص 95؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 392؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 8 ص 67؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 18 ص 315
2- مسند احمد بن حنبل: ج 5 ص 389؛ الترمذي في سننه: ج 3 ص 317؛ السنن الكبرى لاحمد بن الحسين البيهقي: ج 10 ص 93؛ شعب الإيمان للبهيقي ج 6 ص 84

قُتِلَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ»: كما هو دأب أقرباء الحكام فأنه قد يقتل بواحد قبيلة.

«أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي»: لقوله تعالى «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(1).

«انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ»: أمثلة جعله مثله.

«فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقُولُ إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُور»: وكأني بك تقول: فيما روي عن أنس بن مالك قال: قدم على النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم نفر من عكل(2)فأسلموا فاجتووا(3)المدينة فأمرهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا، فارتدوا وقتلوا رعاتها أو رعاءها وساقوها فبعث رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في طلبهم قافية فآتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم(4)حتى ماتوا(5).

فأقول: اختلوا في معنى الحديث فقيل كان هذا قبل نزول آية الحدود وآية

ص: 218


1- سورة المائدة: الآية 45
2- حي من بجيلة من قحطان، بطن من أثمار بن ارات من كهلان من الفحطانية، وقيل حي من قضاعة: کما ذكره الشيخ الطوسي في الخلاف: ج 4 هامش ص: 487
3- اجتووا وهو مشتق من الجوى داء في الجوف يحصل لعدم موافقة جو البلد للوافد إليه وقيل هو السل. تاج العروس 10: 79
4- ولم يحسمهم: بمعنى لم يحسم أمرهم بالقتل حتى ماتوا من حالهم هذا
5- وقد ذكر أغلب من تعرض لتعريفهم قصة ارتدادهم وسوقهم إبل الصدقة وقتل النبي لهم يقنظر: تاج العروس: ج 9 ص 277، الأنساب: 389؛ الخلاف للشيخ الطوسي: ج 4 هامش ص 487

المحاربة مع قطاع الطريق والنهي عن المثلة فهو منسوخ وفيه نزلت الآية وإنما فعل ذلك صلى الله عليه [وآله] وسلم قصاصاً ويقال: مثل بهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم مع نهيه عن المثلة لعظم جرمهم فأنهم جمعوا بين الارتداد ونبذ العهد والاغتيال وقتل النفس ونهب المال والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال يقال: مثلت الرجل أمثلة إذا قطعت أنفه أو أذنه أو ما أشبه ذلك والكلب العقور الذي يجرح كل أحد بأسنانه.

وروي لا تمثل وهو الأصل والتشديد للتنكير وروي الثقاة من أرباب التواريخ هكذا لما ضربه أبن ملجم لعنه الله، دعا الحسن والحسين عليهما السلام ثم نظر إليهما فقال: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا على شيء زوي عنكما، قولا بالحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع وأصنعا للآخرة وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً، أعملا بما في الكتاب ولا تأخذكما في الله لومة لائم ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال: حفظت بما أوصيت به أخويك قال: نعم قال: فأني أوصيك بمثله وأوصيك بتوفير أخويك لعظم حقهما عليك فلا توثق أمراً دونهما ثم قال: أوصيكما به فأنه شقيقكما وأثر أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه وقال: للحسن أوصيك يا بني بتقوى الله عز وجل وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بمحلهما فأنه لا صلاة إلا بطهور ولا تقبل الصلاة ممن منع الزكاة وأوصيك بعفو الذنب وكظم الغيض وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش فلما حضرة الوفاة أوصي وكانت وصيته: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَی بِه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوْصَ أَنَّه يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه أَرْسَلَه بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ

ص: 219

كُلِّه ولَوْ كَرِه الْمُشْرِكُونَ صَلَّى الله عَلَيْه وآلِه ثُمَّ إِنَّ صَلَاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي

للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ لَا شَرِيكَ لَه وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكَ يَا حَسَنُ وجَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِي ووُلْدِي ومَنْ بَلَغَه كِتَابِي بِتَقْوَى الله رَبِّكُمْ ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً ولَا تَفَرَّقُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَیْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ.

انْظُرُوا ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَصِلُوهُمْ يُهَوِّنِ الله عَلَيْكُمُ الْحِسَابَ، الله الله فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه - وآله - وسلم أَوْصَی بِهِمْ ومَا زَالَ رَسُولُ الله ص يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّه سَيُوَرِّثُهُمْ، الله الله فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ فَلَا يَخْلُو مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّه إِنْ

تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا وأَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِه مَنْ أَمَّه أَنْ يُغْفَرَ لَه مَا سَلَفَ الله الله فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا خَیْرُ الْعَمَلِ إِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ الله الله فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ رَبِّكُمْ الله الله فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّ صِيَامَه جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ الله الله فِي الْفُقَرَاءِ والْمَسَاكِينِ فَشَارِكُوهُمْ

فِي مَعَايِشِكُمْ الله الله فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُمْ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ رَجُلَانِ إِمَامٌ هُدًى أَوْ مُطِيعٌ لَه مُقْتَدٍ بِهُدَاه الله الله فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ فَلَا يُظْلَمَنَّ بِحَضْرَتِكُمْ وبَیْنَ

ظَهْرَانَيْكُمْ وأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ الله الله فِي أَصْحَابِ نَبِيِّكُمُ الَّذِينَ لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثاً ولَمْ يُؤْوُوا مُحْدِثاً فَإِنَّ رَسُولَ الله ص أَوْصَی بِهِمْ ولَعَنَ الْمُحْدِثَ مِنْهُمْ ومِنْ غَيْرِهِمْ والْمُؤْوِيَ لِلْمُحْدِثِ الله الله فِي النِّسَاءِ وفِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ

بِه نَبِيُّكُمْ ع أَنْ قَالَ أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَیْنِ النِّسَاءِ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ لَا تَخَافُوا فِي الله لَوْمَةَ لَائِمٍ يَكْفِكُمُ الله مَنْ آذَاكُمْ وبَغَى عَلَيْكُمْ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً كَمَا أَمَرَكُمُ الله عَزَّ وجَلَّ ولَا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ الله أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وعَلَيْكُمْ يَا بَنِيَّ بِالتَّوَاصُلِ والتَّبَاذُلِ والتَّبَارِّ وإِيَّاكُمْ والتَّقَاطُعَ والتَّدَابُرَ والتَّفَرُّقَ وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى ولَا

ص: 220

تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوَانِ واتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ حَفِظَكُمُ الله مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ أَسْتَوْدِعُكُمُ الله وأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ ورَحْمَةَ الله وبَرَكَاتِه».

وأسال الله سبحانه أن يوفقنا للعمل بما في وصيته عليه السلام.

«فَإِنَّ الْبَغْيَ والزُّورَ يُوتِغَان»: يغشيان «الْمَرْءَ(1)ويُبْدِيَانِ»: يظهران «خَلَلَهُ: عورته «عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ»: طلب تجاوز الاقتصاد وهو على ضربين محمود ومذموم وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع ومذموم وهو تجاوز الحق إلى الباطل أو ما يجاوزه إلى الشبه کما قال الحق بين والباطل بين ذلك أمور مشتبهات ومن زیغ حول الحمى فأشك أن يقع فيه ولأن البغي قد يكون محموداً أو قد يكون مذموماً قال: تعالى «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(2)والمراد هنا المذموم وقيل للكذب زور کونه مائلًا عن جهته ويحتمل أن يكون هذه کبری قیاس ضمير تقديره أنك موصوف بالبغي والزور، وكل من يتصف بهما فيكشف الغطاء عن قباحة فعله ويفتضح فأنت یا معاوية تكون كذلك.

أما الصغرى فظاهرة نقلاً وعقلاً وقد سبق بيان ذلك وأما الكبرى فلأنها أخبر بها الصادق المصدوق لكل غادر لواء يوم القيامة ما من ذنب أحذر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا ما يدخر له في الآخرة من البغي قطيعة الرحم أن الباطل کان زهوقا وأيضاً الحكمة الإلهية مانعة عن أن يكون الصادق والكاذب والباغي والمحق على واحد دائماً.

ص: 221


1- ورد بعض متون النهج فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ
2- سورة الشورى: الآية 42

«وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَیْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ» قدر «فَوَاتُهُ»: أي علمت أن لا عاقبة للبغي والزور فحقيق بك أن لا يلوي عنقك عن ربقة انقياد الإمام الحق حتی تنال سعادة الدارين ثم نبه على أن الخلافة حقه فقال:

«وقَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَیْرِ الْحَقِّ فَتَأَلَّوْا(1)عَلىَ اللهِ فَأَكْذَبُهَمْ»: أي طلب قوماً بعد قوم أمر هذه لأمة ولم يكن في الحق أن يطلبوه فتناولوا القرآن كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ»(2)فقالوا لمن نصبوهم من الأمراء أولي الأمر متحكمين على الله فأكذبهم الله بكونهم ظلمة أن لا يكون الولي من قبل الله ظالماً.

«فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ»: أي وحد عاقبة عمله جهده وروي يغتبط يتمنی مثل حال الرجل.

«ويَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ»: قوده «فَلَمْ يُجَاذِبْهُ»: يناع الشيطان قياده.

«وقَدْ دَعَوْتَنَا إِلَی حُكْمِ الْقُرْآنِ ولَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ ولَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا ولَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ والسَّلَامُ»: أما أنه لم يكن من أهل القرآن فلأنه لو كان من أهله لعمل به والقرآن ناهي عن البغي وأمر بمقابلة الباغي «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(3)من إطاعة الإمام وفي لسنا إلى آخره رد على معاوية وقلب ما جال في قلبه قال: عليه السلام قبلنا ما دعانا القرآن إليه من هذه الخبيثة لا من حيث أنه مطلوبك يقال: أجاب إليه كما قال الشاعر:

ص: 222


1- تَألَّوْا على الله حلفوا، من الألية وهي اليمين
2- سورة النساء: الآية 59
3- سورة الحجرات: الآية 9

وداع دعانا من يجيب إلى الندّى ٭٭٭ فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ما يدعوا الداعي وبالله التوفيق.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ»: مفعلة من الشغل أي الدنيا ذات شغل «عَنْ غَيْرِهَا»: ومعناه يشغل عن الآخرة فأنهما ضربان لا يجتمعان «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(1)«ولْمَ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا ولَهَجاً

بِهَا»: بكسر اللام الولوغ ويقال لهج به يلهج لهجاً أذا أعري به فتأثر عليه روي أن عیسی صلوات الله عليه قال: «مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر كلما زاد شرباً زاد عطشاً»(2).

«ولَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا»: وذلك لحرصه وتهالكه في مهالك لذاتها وشهواتها وفي الخبر قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: «الدنيا محفوفة باللذات والشهوات وعن الأخرة»(3)والسر في ذلك أن ميلان الطبيعة إلى المحسوسات واللذات.

«ومِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ»: الحرص والتعب في طلبها.

«فِرَاقُ مَا جَمَعَ ونَقْضُ مَا أَبْرَمَ»: سئل يحيى بن معاد أن أبن آدم قد يدري أن

ص: 223


1- سورة الشورى: الآية 20
2- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن قيم الجوزي: 288؛: مجموعة ورام لورام بن أبي فراس المالكي الاشتري: إحياء علوم الدين للغزالي: ج 9 ص 181،
3- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري في: ص 453؛ التخويف من النار لعبد الرحمن بن احمد الحنبلي: 24

الدنيا ليست بدرا قرار فلم يطمئن إليها قال: لأنه منها خلق فهي أمة وفيها نشأ فهي عينه.

«ولَوِ اعْتَبَرْتَ»: أيها العامل «بِمَا مَضَى»: بعين البصير وتقنت أنك قد سهوت في صرف ما مضى من عمرك في تحصيل قينات الدنيا.

«حَفِظْتَ مَا بَقِيَ»: منه من ذلك الصرف الفاسد المفسد وقد مر غير مرة أن ذلك بأمطار الهداية من سحاب العناية الإلاهية فيحيى أرض القلب بها وبالله التوفيق.

«مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ»: جمع مسلحة وهي: موضع السلاح.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَیِّرَهُ»: الوالي «عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ»: من نعم الله سبحانه من الأمارة عليهم وغيرها.

«ولَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً»: قرباً وتواضعاً.

«مِنْ عِبَادِهِ وعَطْفاً»: شفقه ورحمه.

«عَلَى إِخْوَانِهِ»: وقد أعجب ذکر عباده مع إخوانه من اكتحل عين قلبه بكحل البلاغة أشار عليه السلام إلى لو لوحظ الأمر وغيرهم مع مالك الملك فهو مالك لغيره وكلهم عبيد مقلد أعناقهم بقلائد العبدية والعبودية، وليجعل الحكام نصب أعينهم في سائر الأنام «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1)

ص: 224


1- سورة آل عمران: 26

وأن نسبوا إلى غيرهم فالمؤمنون كلهم أخوة کما بينها القرآن الكريم «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(1)فلا يليق بحال الملك أن ينكروا وأعلم أن ذلك صعب لا يتأتى إلا لمن جعل الله سبحانه حافظ عنایته لازمة فلذا قال أبو ذر یا رسول الله ألا تستعملني ضرب بيده على منكبه ثم قال: يا أبا ذر أنك ضعيف وأنها أمانة وانها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ثم نبههم على أنه لم يكن يمنع سراً عنهم إلا في حرب وحفظ السر في الحرب عن الجيش ينفعهم كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم إذا أراد غزوة وروي يغيرها وذلك قوله:

«أَلَا وإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ»: ثم أومأ إلى أنه عليه السلام لم یکن لا تطلب ليطلب رضاهم في كل شيء دنيوي إلا في حكم الشارع بقوله:

«ولَا أَطْوِيَ»: أي ولا أطلب «دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ»: يعني لا أشاوركم في أمر الدين من الحدود وأقامتهم وكيفية أحوال الشرع وأنا أحكم به على ما أمر الله ولا أنظر إلى رضاكم فيه وكرامتكم «ولَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ»: أي عن وقت حلوله ووجوبه.

«ولَا أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ وأَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً»: متساوین لا فرق بين الوضع والشريف.

«فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ للهِ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ»: فأنه سبحانه يرضى حينئذ من الوالي فيسير عليهم وعليهم سحاب الأنعام والملوك المحاربة يسلكون هذا المسلك أيضاً ثم اشار إلى حقه عليهم فقال:

ص: 225


1- سورة الحجرات: الآية 10

«ولِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ»: لقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «أن أمر علیکم عبد مخدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا»(1) فأن فيه حباً على السمع والطاعة في جميع الأحوال وفيهما اجتماع كلمة المسلمين فأن الخلاف سبب لفسادا أحوالهم في دينهم ودنياهم.

«وأَلَّا تَنْكُصُوا»: تتأخروا وترجعوا «عَنْ دَعْوَةٍ»: فأنه صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له»(2). کنی عن النقص وأتأخر بخلع اليد.

«ولَا تُفَرِّطُوا»: أي ولا تقصروا ولا تضيعوا فِي «صَلَاحٍ وأَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ»: الشدائد حتى تصلوا «إِلَی الْحَقِّ»: وهو: إعلاء أركان بنيان الإسلام.

«فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ»: الواجب وينحرفوا عن منهج الصواب «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ»: أذل «عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ»: مال عن الحق «مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ ولَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا»: عقوبة «رُخْصَةً»: مسامحة.

«فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللهُ بِهِ أَمْرَكُمْ»: وهو المجاهدة في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وبالله التوفيق.

«مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَی أَصْحَابِ الْخَرَاجِ».

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ»: أي لم يتفكر أحوال القيامة.

ص: 226


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 70؛ سنن النسائي للنسائي: ج 7 ص 154؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 4 ص 431؛ فتح الباري لابن حجر: ج 2 ص 157؛ باختلاف يسير
2- السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 8 ص 156؛ الكبائر للذهبي: ص 249؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 5 ص 110

لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا»: ما يحصنها ويحفظها من الهلاك بخلاف من يفكر ورأى بعين البصيرة أهواله؛ فأنه يأخذ عنان الطبيعة عن ند النفس الأمارة بالسوء ويسعى في مرضاة الرب سبحانه ثم أعلمهم قلة ما كلفوا به وكثرة ثوابه فقال:

«واعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ يَسِيرٌ»: أي العمل بظاهر الشرع قليل.

«وأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِیرٌ»: مقداراً أياماً وذلك ظاهر وقد سبق مثل ذلك في أثناء الخطب ثم رغبهم في ترك الظلم والبغي وأومأ إلى فائدته العظيمة بقوله:

«ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ والْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ»: فكيف وقد اجتمعا فعلى العاقل أن لا يحوم حولها وحتى لا يأخذه عقاب ويلبس ثواب الثواب.

«فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»: الأنصاف في المعاملة العدالة وذلك أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه ولا يبتليه من المضار إلا مثل ما يناله منه.

«واصْبِرُوا لِجَوَائِجِهِمْ»: يقال: معناه أنظروا بحوائجهم، يعبر عن الانتظار کما كان حق الانتظار أن لا ينفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر.

«فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ ووُكَلَاءُ الأُمَّةِ وسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ»: جمع سفير وهو الرسول المصلح بين القوم.

«ولَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ»: أي لا تغضبوا ولا تردوا أحداً بدفعه عن حاجته «ولَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ»: وروي لا تحشموا أي لا تقطعوا أحداً عن طلبته «ولَا تَبِيعُنَّ لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ ولَا صَيْفٍ ولَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا»: الجوهري: الأعتمال: الاضراب في العمل واستشهد بقول الشاعر:

ص: 227

إن الكريم وأبيك يعتمل ٭٭٭ إن لم يجد يوما على من يتكل(1)

(2)«ولاَ تَضِرْبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ ولاَ تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ»: عبر عن بالخاص عن العام مجازاً.

«ولَا مُعَاهَدٍ»: ذمي «إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً»: حدة وقوة وفيه مبالغة لطيفة ولأجل هذه المبالغة لم يقل ولا تأخذن ومصل وما عطف عليه بدل من أحد.

«عَلَيْهِ ولَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ»: أي عن أنفسكم.

«نَصِيحَةً ولَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِیرَةٍ»: سيرة أي لا تدخروا أحسن السيرة عن الحسد ونحوه قوله تعالى: «فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ»(3).

«ولَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً ولَا دِينَ اللهِ قُوَّةً»: وفي الخبر ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحفظها بنصيحة إلا لم يجد ريح الجنة.

«وأَبْلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ»: أي احملوا على أنفسكم في الجهاد البلاء شكراً لما يجب عليكم من نعم الله .

«فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا وعِنْدَكُمْ»: الاصطناع المبالغة في إصلاح الشيء.

ص: 228


1- الصحاح للجوهري: ج 5 ص 1775
2- ورد في بعض متون النهج: ولاَ عَبْداً
3- سورة النور: الآية 61

أَنْ نَشْكُرَهُ»: أي لأن نشكره.

«بِجُهْدِنَا وأَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا»: وأعلم ان نصرة العبد لله هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعايته عهود واعتناق أحكامه واجتناب نهيه قال: وليعلم الله «ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله»: فأنه عليه السلام بعد أن أضاف القوة إلى نفسه الزكية القدسية وغيرها خرج عن ذلك المقام وأبرز عجز العباد توقيراً للملك العلام وفي الخبر قال: صلى الله عليه [وآله] وسلم: لعبد الله ومثل هذا التركيب ليس بأس باستعارة لذكر المشبه والمشتبه ولا التشبيه الصرف لبيان الكنز هو من أدخال الشيء في جنس وجعله أحد أنواعه على التغلب ونحوه قوله تعالى لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فالکنز إذاً نوعان المتعارف وهو المال الكثير يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ وغير المتعارف وهو هذه الكلمة الجامعة الكثرة بالمعاني الإلهية كما أنها مجبولة على التوحيد الخفي لأنه إذا نفت الحيلة والحركة والاستطاعة عما من شأنه ذلك وأثبتت لله على سبيل الحصر وبإيجاده واستعانته وتوفيقه لم يخرج شيء من ملكه وملكوته وبالله التوفيق.

وبيان أوقاتها للمتآمرين على الكناية إذا اجمعوا.

«أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ»: أطلق على الصلاة مجازاً.

«حَتَّى تَفِيءَ»: نزول «الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ»: موضع الربوض قيل فيه إشارة إلى أن رحل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم كان طوله ذراعاً فلذلك الوقت المختار للظهر فأن رسول الله صلى وسلم أمر بأن صلوا الظهر كان الفيء ذراعاً إلى أن يكون ظل أحدكم مثله «وصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ والشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ

فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِینَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ»: أي قبل مغيب الشمس وهذه

ص: 229

كناية عجيبه أي صلواتهم هذه الصلاة والحال أن الشمس بيضاء له يصغر بعد ولم يرض بذلك حتى قال: وهي حية أي وللشمس قوة وزاد التعجيل بقوله: في عضو النهار أي يبقى كثير من النهار فقوله حية استعارة لطيفة كأنه شبه غروب الشمس بموتها واصفرارها بمرضها وبقائها على حالها من قبل بيضاء نقية قوية النور بحياتها.

«وصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِینَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ»: كذا ورد في الحديث الصحيح «ويَدْفَعُ الْحَاجُّ»: يعني بعد غروب الشمس ودخول الليل.

«وصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِینَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ»: أي تغيب الحمرة من ناحية المغرب «إِلَی ثُلُثِ اللَّيْلِ»: كذا ورد في الخبر.

«وصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ والرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهً صَاحِبِهِ»: وذلك إذا طلع الفجر الصادق ليكتب مرتين يكتبها ملائكة الليل والنهار.

«وصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ ولَا تَكُونُوا فَتَّانِینَ»: ولا تكونوا للناس فتنة بأن تطيلوا الصلاة إذا صليتم بالناس جماعة، فأما إذا صليتم فرادى فأطيلوها إذا شئتم وبالله التوفيق.

العهد الذي يكتب للولاة مشتق من عهدت إليه أي أوصيته.

كتبه للأشتر: النخعي قبيلة الأشتر من به انقلاب جفن عينه الأسفل والأشتر مالك وأبنه.

على مصر وأعمالها حين اضطراب أمر أميرها عليها محمد بن أبي بكر وهو اطول عهد كتبه وأجمع للمحاسن «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ

ص: 230

عَلِيٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ»: صدر العهد باسم الله تیماً ثم أشار إلى المقصود بهذا لينتقش صورة الأجمال في أذهان السامعين؛ ثم يستقر عروش التفصيل في منصته.

«مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ»: عهد فلان إلى فلان أي ألاقاه إليه وأوصاه بحفظه.

«حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ»: اعطاه ولاية مصر وأمارتها.

«جِبَايَةَ خَرَاجِهَا»: جبت الخراج جمعته، جباته وحياته بالفتح المرة الواحدة وبالكسر للهيئة والحالة نحو الجلسة وأعلم أن الخراج لا يؤخذ من أرض ذمي يؤدي جزيته والجزية يعطي عسكر الإسلام والقائمين مقام المهاجرين وإنما يؤخذ الخراج من أرض أخذت بالسيف فيوضع في بيت مال المسلمين وأرض الإمام تؤجر وجاز أن يسمي أجرتها بالخراج مجازاً «وجِهَادَ عَدُوِّهَا»: وبذل المجهود في أمره.

«واسْتِصْلَاحَ»: طلب صلاح «أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلَادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ وإِيْثَارِ طَاعَتِهِ واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وسُنَنِهِ، الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا

ولَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا»: شقاوة أبدية ابدية «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا»(1).

«وأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَه»: نصر دينه وعباده المؤمنين قال عز من قائل «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ»(2).

«وإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»: أعز دينه «وأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ»: من للتبعیض استعير الكسر لقهر النفس من حيث أيهما يعتبران المقهور والمكسور

ص: 231


1- سورة الفرقان: الآية 70
2- سورة الحج: الآية 40

ویزیلان قوتهما كل منهما بحسب ما يليق به «ويَزَعَهَا»: يكفها ويزجرها «عِنْدَ الْجَمَحَاتِ»: من الجموح جمع الجمحة وهي غلبة النفس إذا ركبت هواها ويعظم الثواب في رد ذلك.

«فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»: اللام للجنس كقوله: الدنيا وضرب من الدرهم ثم استثنى فقال: «إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ»: أي الأنفس من رحمه الله أي أنعم عليه بلطف يسمى عصمة قال: عز من قائل حكاية عن يوسف عليه السلام: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»(1)اعلم أن المفهوم من كلامه عليه السلام، أنه ولى الأشتر في مصر أربعة أشياء فقط وأمره بستة أمور وهي: أن يكون متيقناً مطيعاً لله متبعاً لأوامره ناصراً له تعالى قامعاً شهوته عن الحرام مانعاً نفسه من المعاصي فبهذا تتهيأ له تلك الأمارة وتتيسر له تلك الأشياء الأربعة التي جباية الخراج وجهاد الأعداء وإصلاح العباد والبلاد ثم حثه على اقتناء الأعمال الصالحة ودعاه إلى خصلة فخصلة فقال: ولا تتبع هواك وأنحل بنفسك من الدخول في الحرام، وأن يكون محباً للرعية رحيماً لطيفاً بهم لا مؤذياً إياهم، وأعف عنهم كثيراً، ولا تتكبر وأنصف على كل حال، ولا تظلم أحداً وأحب الحق والعدل ورضا عامة الرعية وأن يبعد ممن يعيب الناس، وأن يستر ما ظهر له من عيوب الناس، ولا يحقد على أحد، ولا يشاور البخيل والجبان ولا الحريص ولا يتخذ لنفسه وزير الأسرار قبله وأن یکن خاصته من لم يعاون الظالم والإثم، بل كان قابلاً بالحق صادقاً لا تمدحه بباطل ولا يجعل المحسن والمسيء عنده سواء ولنرجع إلى حل مفردات الكلام وأبراز ما قاله عليه السلام.

ص: 232


1- سورة يوسف: الآية 53

«ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ»: تعينك «إِلَی قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ»: جمع دولة وهي التي تتداوله الناس بعضهم بعضاً وفي أثر بعض.

«مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ»: أنظر بعين البصيرة حالك ومعاملتك معهم محمودة لا مذمومة.

«وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِینَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِینَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ»: اي ومن كان صالحاً وأن لم يظهر ذلك فأن الله يجزي ذكره بالصلاح على السنة العباد الصالحين وإنما يفسر بمقالة الصلحاء فيه لأنه عليه السلام أضافهم إلى الله على ألسن عباده «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ٭ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ٭ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ٭ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ٭ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ٭ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا»(1)، وقيل المراد العموم بذلك وقريب من ذلك ما روي أنه قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «أن الله أذا أحب عبداً دعا جبرائيل فقال: أني احب فلاناً فأحبه قال: فيحب جبرائیل ثم ينادي في السماء فيقولون أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبوا أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» الحديث(2).

ص: 233


1- سورة الآيات: 63 - 68
2- مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 412؛ والصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي الناباطي: ص 67؛ وعمدة القاري للعيني: ج 15 ص 132

«فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ»: فأن «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(1)«فَامْلِكْ هَوَاكَ»: أي أجعل النفس المائلة إلى الشهوة تحت تصرفك بلجام الرياضة والمجاهدة وسميت بذلك لأنها تهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية.

«وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ»: أي لا تضيعها في معصية ولا تخرجها من الطاعة.

«فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ»: وذلك سلوك طريق العدالة.

«وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ»: أي أجعل الرحمة شعار قلبك «والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ»: فأن من شأن الأمير العادل أن يكون كذلك قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»(2)، والراحمون يرحمهم الرحمن.

«ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً»: الكلب الضاري الذي يعود بالصيد والذئب الضاري الذي أعتاد أكل لحوم الناس وإذا اطلق فيقال: سبع ضار فعلى الأغلب لا يحمل إلا على الأسد عرفاً وذلك من قبيل التشبيه البليغ بين وجه الشبه فيه بقوله:

«تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ»: وما يشتركان فيه الاغتنام قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر»(3)ثم علل مدعاً بقوله:

ص: 234


1- سورة الكهف الآية 46
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 301؛ سنن أبي داوود لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 2 ص 465؛ سنن الترمذی ج 3 ص 216
3- سنن الترمذي: ج 2 ص 394؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 167

«فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»: أي لا يخلوا عنهما لأنهم أن كانوا مؤمنين فهم أخوة الدين لقوله عز من قائل: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(1)وأن كانوا غير ذلك فهم نظائر في الخلق وكل واحدة من هاتين الجهتين يقتضي الرحمة والشفقة لا الجور وقد قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «أرحموا من في الأرض»(2)أتي بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والناطق والبهْم والوحوش والطير كذا قال: بعض المحققين: وأعلم أنه عليه السلام أنما شبه المسلم بالأخ لينبه على المساواة وأن لا يرى احداً منهم على أحد من المسلمين فضلاً ومزية ويحب له ما يحب لنفسه وأضراره مما ينافي هذه الحالة وينشأ منه قطع وصلة الآخرة التي أمر الله تعالى بها أن توصل ومراعات هذه الشريطة أمر صعب لا ينبغي أن يستري بين السلطان وأدنى العوام وبين الغني والفقير والصعب والكبير والصغير ولا يتمكن من هذه الخصلة إلا من أمتحن الله قلبه بالتقوى وأخلص من الكبر والغبن والحقد ونحوها الإخلاص، لذلك أمر الله تعالى على متابعة الهوى، نسأل الله تعالى ان يوفقنا لهذه المرتبة العلية ثم أشار إلى أنهم لم يكونوا معصومين بل كانوا مذنبین کهؤلاء وهؤلاء، أرجوا أن يغفر الله لهم ومن يرحم یُرحم ارحموا من في الأرض یر حکم من في السماء قال عليه السلام: «يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ

والْخَطَأِ»: أي بما تتأتي وتتهيأ بالانفعال منهم من عمل غير حسن.

«فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ

ص: 235


1- سورة الحجرات: الآية 10
2- سنن الترمذي: ج 63 ص 217؛ عوالي اللئالي لأبن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 361؛ فتح الباري لابن حجر، وکلاً ذكره بزيادة بسيطة؛ السنن الكبرى لاحمد بن الحسين البيهقي: ج 9 ص 41

عَفْوِهِ وصَفْحِهِ»: من للتبعيض وقيل للتبيين والعفو أبلغ من الصفح لأن من أعراض صفحة وجهه عن مجرم ربما كان في قلبه شيء ولما كان عليه السلام في مقام جذبه إلى القبول لم يصرح بذنبه وبالغ في الأعراض حيث قال مثل الذي إلى صفحه ثم أومأ أتعاضاً عن سنة نسيانه بسبب الحكومة إلى ضعفه بالنسبة إلى من ولاه وضعف من ولاه بالقياس إلى الملك الحقيقي في مرآة قلبه معنى قوله عز من قائل «وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا»(1)وينتقش في لوح خاطره أن من شأن الضعيف الانكسار والإنقهار والترحم لا التبحر والظلم فأن الله هو المنتقم ذو القوة المتين فقال: «فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ ووَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ»: أي مسلط عليك وهو هو عليه السلام.

«واللهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ»: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(2)فكما أنت ترجوا الرحمة وأنا من الله كذلك، هو لا يرجوها منك.

«وقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ»: طلب منك كفاية أمرهم «وابْتَلَاكَ»: أختبرك «بِهِمْ ولَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحرْبِ اللهِ»: أي لا تبارز الله في معاصيه.

«فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ»: أي لا قوة لك على عقوبته وحذف النون من الأيدي لك لمضارعته للمضاف وقيل لكثرة الاستعال ويقال مالي بفلان بدان أي طاقة قال: جل ثناؤه «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ»(3)«ولاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ ورَحَمْتِهِ»: فحقيق بك أن ترحم على من دونك فان ذلك حادث للرحمة الإلهية.

ص: 236


1- سورة النساء الآية 28
2- سورة الفتح الآية 10
3- سورة الذاريات: الآية 47

«ولَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ»: لغرض دنیوي فأن ذلك من وساوس الشيطان.

«ولَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ»: أي لا تعرض بعمل عملته تعاقب عليه، قيل الأحسن في معناه أي لا تفرح بعقوبتك لأحد وأفرح بعفوك.

«ولَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ»: عقوبة وزلة وعصب وقيل أي لا تسرعن إلى حدة يقال: بدرت منه بوادر غضب أي سقطات وخطأ عندما أحتد.

«وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً»: سعة وفي الخبر أن الغضب من الشيطان وأن الشيطان خلق من النار وإنما يطفي النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ.

«ولَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ»: القول «إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ»: أبتدأ إفساد لم يكن فيه «ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ»: أي ضعف له وذلك من المهلكات وفي الخبر المهلكات هو متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن وذلك ظاهر لأن المعجب بنفسه متبع هواه.

«وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ»: أسم من قولك غيرت الشيء فيعتبر وفي كل واحد من هذه الأخبار مبالغة لطيفة ثم علمه إزالة ما عسى أن يجذب فيه سلطانه فقال:

«وإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً»: عظمة «أَوْ مَخِيلَةً»: كبرا «فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ»: العظم العظمة والعظم بقول أذا دخلت عليك عظمته بسبب فانظر إلى قدرة الله فوقك وعظم ملك الله فوقك.

وقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ»: النظر «يُطأمِنُ إِلَيْكَ»: يسلبك «مِنْ طِمَاحِكَ»: تكبرك وترفعك «ويَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ»: حدتك «ويَفِئُ: يفيء»: يرجع بعده «إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ»: وذلك ان

ص: 237

العبد أذا نظر ملکه ورآی بعين البصيرة أن لا ملك في الحقيقة إلا هو يسكت عن وصف الدعوى على الكمال خشي سطوات عقوبته عند أرتكاب مخالفته فيفنی عن التكبر ثم حذره عن التكبر فقال: «إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهً بِهِ فِي

جَبَرُوتِهِ»: المسامات مفاعلة من السمو وهو العلو أي أحذرك أن يتردى الكبرياء فأنه رداء الله قال: عز وعلا الكبرياء ردائي، والعظمة أزاري فمن نازعني واحد منهما أدخلته النار هذا في الآخرة وأما في الدنيا.

«فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِینُ كُلَّ مُخْتَالٍ»: قالت أسما بت عمیس سمعت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول: «بئس العبد عبد يختل ويختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد لهي ونسي المقابر والبلى وبئس العبد عبد غنا وطغى ونسي المبدأ والمنتهى وبئس العبد عبد نحل الدين بالشبهات بئس العبد عبد هوى يضله بئس العبد عبد رغب بذله»(1).

«أَنْصِفِ اللهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً»: ميل النفس مِنْ رَعِيَّتِكَ: أمره بسلوك سبيل العدل مرة بعد أخرى لما كان في شأنه من الاهتمام التام وعلل ذلك بقوله: «فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ»: ذلك اشارة إلى المصدر الذي يدل عليه أنصف.

«تَظْلِمْ»: عباده «ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ»: دون عباد ينتج وأن يفعل ذلك كان الله خصمك اما المقدمة الأولى فلأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه

ص: 238


1- سنن الترمذي للترمذي: ج 4 ص 50؛ التواضع والخمول لأبن أبي الدنيا: ص 255؛ والمعجم الكبير للطبراني : ج 24 ص 156؛ وشعب لإيمان أحمد بن الحسن البيهقي: ج 6 ص 287؛ الكامل لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج 4 ص 110

وأما الثانية فلمثل قوله: عليه الصلاة والسلام أن العبد إذا أظلم فلم ينتصر ولم يكن له من ينصره رفع طرفه إلى السماء فدعا الله تعالى قال: جل جلاله لبيك عبدي أنا ناصرك عاجلاً وآجلاً، أشتد غضبي على من ظلم أحد لا يجد ناصراً غيري، وأنت خير بأن نسبة الخصومة إلى الله مجازية باعتبار الغاية.

(1)«ومَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ»: أبطل «حُجَّتَهُ وكَانَ للهِ حَرْباً»: محارباً.

«حَتَّى يَنْزِعَ»: يرجع عن ذنبه «وْ يَتُوبَ ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِیرِ نِعْمَةِ اللهِ وتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وهُوَ لِلظَّالِمِینَ بِالْمِرْصَادِ»: الناظر على أفعاله وأعمالهم وفيه تنبيه على أنه لا ملجأ ولا مهرب منه روي عن وهب بن منبه أنه قال إذا أهتم الوالي بالجوار وقد عمل به أدخل الله النقص على أهل مملكته في الأسواق والأرزاق كذلك والزروع والضروع وإذا هم بالخير أدخله الله البركة على أهل مملكته كذلك.

«ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ»: بحيث لا تشديد ولا إهمال مطلقاً ومن ثم قيل ينبغي أن لا يكون الأمير ذات غل ودخل في قلبه من الرعية إذ لو كان أبتغي عيوبهم ويتهمهم بالمعايب فيتحسس احوالهم فيفسدهم فأن الإنسان قلما سلم من عيب شعر:

ولست بمستسق أخاً ٭٭٭ بملمة على شعب:

أي الرجال المهذب فلو عاملهم بكل ما قالوا وفعلوا لأسدت عليهم الأحوال بل ينبغي أن يستر عليهم عيوبهم ويعفوا عنهم.

ص: 239


1- ورد في بعض متون النهج: دُونَ عِبَادِهِ

«وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ»: فأنه أهم فائدة وأكثر عائدة «وأَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ»: يبطل «بِرِضَا الْخَاصَّةِ»: كناية عن الأغنياء والأشراف والعامة عمن دونهم وذلك أن العوام تباع للخواص.

«وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ»: يستر ويغفر «مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ»: ثم نبه على أن اللائق اتباع رعاية العامة وعد بعض مذمات الخاصة ترغیباً له في رعاية العامة فقال:

«ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ»: للوالي.

«فِي الْبَلَاءِ وأَكْرَهً لِلإِنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإِلْحافِ»: أكثر سؤلاً «وأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ

وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ»: استعار لهم عمود الدين لأنه يقوم بهم كما يقوم الخيمة بالعمود والعدة لأنهم أسباب الحرب.

«فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ ومَيْلُكَ مَعَهُمْ»: الصفو الميل فقوله ومیلك معهم من قبيل التفسير.

«ولْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وأَشْنَأَهُمْ»: ابغضهم «عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاس فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا»: أي بالستر وذلك لأن الوالي أقوى يداً ممن دونه فأن التجسس ربما فسد النظام وأفسد أمر الأنام.

«فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْیهِرُ مَا ظَهَرَ لَكَ واللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ

رَعِيَّتِكَ»: العورة الخلل کنی عن العيوب بالعورة إيذاناً بأن عيوب الناس كعورات مستورات فيحرم كشفها والريبة فيها كما يحرم کشف المخدرات عن سترها.

ص: 240

«أَطْلِقْ»: أنزل «عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ»: فأن الحسد كله مذموم ولما استعار العقد للحسد رشحه بالأطلاق.

«واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ»: دخل أي تسكين العادة وملاحظة المال.

«وتَغَابَ»: تغافل «عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ»: أي عن كل ما لا يكون واضحاً.

«ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهً بِالنَّاصِحِينَ»: تستعمل السعي في الجد في الأمر خيراً كان أو شراً قال جل وعلا «وَسَعَى فِي خَرَابِهَا»(1)«نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ»(2)والمراد هنا الشر وأما أن المبتاع خائن لا ناصح فلأنه ينبغي فساد حاله ويأمره بما يفضي إلى زواله بل ولأنه حينئذ سببه الشيطان وفي الخبر الإنائة من الله والعجلة من الشيطان وقد حدثنا النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم إلى الحد والثاني في الأمور ومن فوائده يميز الناصح عن غيره.

«ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ»: أي يميل بك عن الأفضال ويصرفك عن الإحسان والبذل.

ويَعِدُكَ الْفَقْرَ»: وذلك لأنه حينئذ يعد عمل الشيطان قال عم إحسانه «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا»(3).

«ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ»: يحملك على الضعف «عَنِ الأُمُورِ ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهً»: أشد الحرص «بِالْجَوْر فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ»: طبائع «شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ»: ومن أساء الضن بالله لا يصلح للمشورة بل المستشار

ص: 241


1- سورة البقرة: الآية 114
2- سورة التحريم: الآية 8
3- سورة البقرة: الآية 268

من له خصال عليه وجلال سنية.

«إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً»: روي بفتح الفاء وسكون الباء وكسر القاف وفتح الباء فعلى الأول معناه شر الوزراء من كان قبل زمان سلطانك وزيراً للحاكم الجائر فأنه يسعى في الفساد والإفساد بما صار طبيعة له ومن الظلم على العباد قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزيراً صدق أن نسي ذكره وأن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزيراً سوء أن نسي لم يذكره وأن ذكر لم يعنه وعلى الثاني معناه شر أولئك من يدعوك إلى الشر.

«ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً»: صاحب الأحكام السلطانية الوزراء قسمان تفويض وتنفيذ فالأول أن دستور الإمام من تفويض تدبير الأمور إلى رائیها وإمضائه إلى اجتهاده، وشرط الأئمة في هذه الوزارة التنفيذ وهي أن يكون النظر في الأمور مقصوداً على رأي الإمام وتدبيره، والوزير وسط بينه وبين الرعایا والولاة يؤدي عنه ما أمر وينفذ ما ذكر فلا يشترط فيه الجزية والعلم والإسلام والمعرفة بأمر الحرب، ويشترط فيه الأمانة والذكورة، وصدق اللهجة وقلة الطمع والذكاء والفطنة وأن يصلح ما بينه وما بين الناس من عداوة وشحناء، وأن لا يكون من أهل الأهواء؛ ثم نبه على طريق وجدان من هو لائق بكونه بطانة ووزيراً فقال: «فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ».

«خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ ونَفَاذِهِمْ ولَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ»: جمع الأصر وهو النقل.

«وأَوْزَارِهِمْ»: جمع وزر بمعنى الأثم وهنا من قبيل التفسير.

ص: 242

«وآثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ ولَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ»: وذلك واضح فأن من أتصف کمن أعان ظالماً على ظلمه لا وكيف لا والحال أنه قد يكون ذو الجهاد الأكبر فأن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر وإنما صار أفضل لأن جهاد العدو كان متردداً بين الخوف والرجاء لا يدري هل يغلب أو يغلب وصاحب السلطان مقهور في يده فإذا قال بين الحق وأمره ولم يعاون على أثمه فقد تعرض للتلف ثم مدحهم ترغيباً فقال:

«أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً»: فأن من يكون كذلك لا يكون له كثير طمع.

«وأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً»: لأن ميلهم إلى جانب الحق ورفع أركان الدين فإذا رأوا كذلك فقد ينصرك نصراً موزراً.

«وأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً»: رحمة «وأَقَلُّ لِغَیْرِكَ إِلْفاً»: مودة «فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ»: مجالسك «وحَفَلَاتِكَ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ»: أفضلهم وأكرمهم وأرضاهم «عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ»: أكثرهم قولاً «بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وأَقَلهُمْ مُسَاعَدَةً»: مواساة «فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا ذكَرِهً اللهُ لأَوْلِيَائِهِ»: فأن ذلك يدل على أنه كان أصلب في اليدين وأعرج على معارج اليقين وأصفی قلباً من بواقيهم ومن كان كذلك فهو بما ذکر جدير وحقيق.

«وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ»: نصب على الحال والعامل أقولهم.

«والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ»: فأن الإلصاق بهم والمجالسة معهم بجذب أهداب السعادة الأبدية والسيادة السرمدية إليك وفي المثل الغيب يتلون الغيب.

«ثُمَّ رُضْهُمْ»: أدبهم «عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ»: لا يمدحوك «ولَا يَبْجَحُوكَ»: لا يسروك «بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ»: التكبر «وتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ»: وذلك

ص: 243

وسيلة البعد عن الله لأنه منبت نبات البعض ومنبع ماء الغضب قیل الحكيم من المتكبر قال: الذي يحب المدحة من غير الفضل والأفضال ولا يرى إلا نفسه في كل الأحوال واعلم أن الثناء على الرجل مكروه سیما فاسقاً وقد روي أنس بم مالك أنه قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «إذا مُدح الفاسق غضب الرب تعالى وأهتز له العرش»(1)، وأنت خبير بأن اهتزاز العرش عبارة عن وقوع أمر عظیم وداهية دهناء لأن فيه رضا بما فيه سخط الله وغضبه بل يقرب أن يكون کفراً لأنه يكاد يفضي إلى استحلال ما حرمه الله تعالى وهذا هو الداء العضال لأكثر العلماء والشعراء والقراء في زماننا هذا وإذا كان هذا حكم في زماننا حکم من مدح الفاسق فكيف بمن مدح الظالم وركن إليه رکوناً وقد قال تعالى «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(2)الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومدا هنتم والرضى بأعمالهم والتشبه بهم والتزين بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم.

«ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِئُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ»: التسوية «تَزْهِيداً»: تقليل الرغبة «لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ فَيَ الإِسَاءَةِ»: وإذا ذلك ظاهر فأن المحسن لما رأی أن لا يشتري بسلعة بما في شأنه قل رغبته في إتيانه والمسيء يعكس ذلك.

«وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»: أي كلاً من المسيئين والمحسنين ما ألزم نفسه من الإحسان أو الإساءة هذا في أمر الدين وفيما سبق في أمر الدنيا فتدبر.

ص: 244


1- الغارات لابراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: ج هامش ص 132؛ فتح الباري: ج 10 ص 398 باختلاف يسير؛ وشعب الإيمان لاحمد بن الحسين البيهقي: ج 4 ص 230
2- سورة الآية 113

«واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى»: أكثر دعا «إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ»: المذكور من الإحسان وترك الاستكراه «أَمْرٌ يَجْتَمِعُ

لَكَ بِهِ»: الضمير أن لأمر.

«حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ»: يرغبك «يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا»: القطع فصل الشيء مدركاً بالبصرة والبصيرة، والمراد هنا الثاني أراد أن الرعية إذا أحسنوا الظن لوالي واعتقدوا أنه على نهج الصواب ومنهج سید أولي الألباب وأحسن الوالي الظن بهم بأن يعتقد أنهم اعتقدوا في شأنه ذلك ينظرون إليه بنظر القبول کما نظر أصحاب الرسول صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى الرسول ولا يفتقر إلى إثبات كل ما يقوله لهم ويبينه، وفي ذلك قطع نصب طويل، إذ أثبات جزئي ببينته متعسر والله سبحانه أعلم.

ثم أومأ إلى أن من أحق أن يحسن الظن به فقال: «وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ»: نعمتك «عِنْدَهُ»: وذلك لأنه لما كان حسن الظن متفزعاً على الإحسان فكلما كان الإحسان أكثر وأقوى كان المحسن إليه أولى بحسن الظن في شأنه.

(1)«ولاَ تَنْقُضْ سُنَّةً»: طريقة «صَالِحَةً عَمِلَ بَهِا صُدُورُ هَذِهِ الُأمَّةِ»: استعير النقص هنا من نقص الحبل والشعر والغزل وصدور جمع صدر استعير للمقدم من الصدر الذي هو الجارحة.

«واجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ»: المودة «وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ»: فأن ذلك سباق عليهم

ص: 245


1- ورد في بعض متون النهج: وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ

ويكون سبب التفرق ولَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ: المرضية.

«فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا والْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُثَافَنَة الْحُكَمَاءِ»: يقال: ثافنت الرجل: جالسته، واشتقاقه من ثفنة البعير وهي: ما يقع على الأرض، والحكماء فقد قيل العالم طبيب الدين أدوية الحق والصدق والتعطف والتصفح، وقيل العالم الذي يخلص الناس من أيدي الشياطين، وقيل العالم من لأن قلبه، وحسن خلقه ورق ذكره ودق فكره(1)ولا يطمع ولا يبخل وقيل غير ذلك شعر:

مصابيح الأنام بكل أرض ٭٭٭ هم العلماء أبناء الكرام

فلولا علمهم في كل واد ٭٭٭ كنوز البدر لاح با غمام

لكان الدين مُدرس كل حين ٭٭٭ كما درس الرسوم من الرهام

وقيل الحكيم الذي يطلب ما ينفعه ويترك ما يضره، وقيل الحكيم الذي يغضب على من عصي ولا يحقد على من جفا، وقيل الحكيم الذي كل أفعاله صواب ولا يدخل في اختياره خلل، ولا فساد وعن بعض أهل الشرع انه قال: ليس الحكيم الذي يجمع العلم الكثير لكن العلم الحكيم الذين يعرف صواب ماله وما عليه، وعن بعض أهل التحقيق؛ أنه قال الحكماء للأخلاق کالأطباء للأجساد قيل لعلم من الحكيم من تعلق بثلاثة فيها علم الأولين والآخرين قيل ماهي: قال: تقديم الأمر واجتناب النهي واتباع السنة شعر:

ص: 246


1- دق فكره بمعنى: كان دقيق الفكر

وكيف تريد أن تدعي حكيماً ٭٭٭ وأنت لكل ما تهوى ركوب

لعل العمر أكثره تو لي ٭٭٭ وقد قرب الردى فمتى تتوب

ولأن الحكيم اعلى مكاناً من العالم أمره عليه السلام بمدارسة العلماء و ملازمة الحكماء.

«فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ»: من الطرق والآداب ثم أشار إلى أن الإنسان خلق مدني الطبع خلق على مركز الاحتياج ومن ثم جعل الحكمة الإلهية أفراده على مراتب ودرجات وذلك قوله:

«واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ ولَا غِنَى»: أفراده على مراتب ودرجات وذلك قوله: واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ ولَا غِنَى.

«بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ»: وهم الذين اعدوا افراش النفوس في مضمار الدين واذهبوا غبار الشك عن وجه اليقين.

«ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ»: جمع كاتب «ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ومِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ والرِّفْقِ ومِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ»: عوامهم، الجزية من أهل الذمة تكبراً أو تكيفاً وتجبراً لمصلحة رأي لهم وللمسلمين واستعمال المدارات مع من يقر بالتوحيد وأن منكر النبوة محمد داعي إلى متابعته وقد ذكرنا أن حقيقة الخراج أنما يكون من الأرض التي أُخذت بالسيف والجور ويجوز استعماله في الأرض الثلث الآخر مجازاً وأرض الخراج الحقيقة يجوز يقبلها من شاء من المسلمين ومن أهل الذمة بما شاء ولذلك قال: ومنها أهل الجزية والخراج من

ص: 247

أهل الذمة، مسلمة الناس وقيل في الكلام تقديم وتأخير فقوله: من أهل الذمة متعلق بأهل الجزية بيان لم ويتعلق ومن مسلمة الناس بأهل الخراج يتبين لهم.

«ومِنْهَا التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ ومِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ» : وهم الفقراء «وكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ لَهُ سَهْمَهُ ووَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى الله عليه - وآله - وسلّم عَهْداً»: من الله «مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً»: صفة عهداً.

«فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ»: استعار لهم لفظ الحصون من حيث أنهم يحفظون هم عن أن يقعوا في موارد الهلكة بأعلام الأحكام ودعوتهم إلى أتباع أحكام سيد الأنام کما أن الحصون حافظ للمتحصنين عن سهام الألآم من الأعداء لكن بينهما بون(1)بعيد.

«وزَيْنُ الْوُلَاةِ»: الزين نقيض الشين فيكون من قبيل رجل عدل، الراغب: الزينة في الحقيقة ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو ما وجه شين، والزينة خارجة كالمال والجاه فأطلاق الزين عليهم نظراً إلى المعنى الأول ويحتمل أن يكون نظراً إلى المعنين الآخرين احتمالاً بعيداً يظهر بالتأمل.

«وعِزُّ الدِّينِ وسُبُلُ الأَمْنِ»: في أطلاقهما عليه رعاية مبالغة أيضاً.

«ولَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ»: فأنهم بهم تتبين الأحكام وتوضیح مناهج الحلال والحرام فأركان دور ملتهم لا يقوم إلا بهم وجوداً أنهم أيضاً.

ص: 248


1- بون: يقال: بينهما بون بعيد. والبوان: من أعمدة الخباء عند الباب، والجميع: الأبونة والبوائن: يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 8 ص 380

«لا ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ»: القوام النظام «ويَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ ويَكُونُ مِنْ وَرَاءِ

حَاجَتِهِمْ»: والسر في مشروعيته يحتمل أن يكون ذلك.

«ثُمَّ لَا قِوَامَ لَهِذَيْنِ الصِّنْفَیْنِ»: يعني عامة الرعية وجنودهم والصنف النوع الظرب وقيل المراد الجند والخراج والأول أصح واظهر.

«إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ والْعُمَّالِ والْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ويَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ ويُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأُمُورِ وعَوَامِّهَا»: فأن الوالي لا يسع نفسه بهذه الأمور لكن قد يكون شخص واحد مجمع الوصفين والثلاثة.

«ولَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ»: جمع المرفق في الأمور وهو: ما ارتفعت به أي انتفعت به:

«ويُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ ويَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مَا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ»: وقد عوضت غواص الفكر ف بحر كلامه عليه السلام هذا فاستخرجت منه در الاحتياج إلى الرسول هكذا الإنسان محتاج في تعينه إلى التمدن وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل الملائم بحسب الفصول المختلفة والسلاح الحامي عن السباع، والأعداء فأن كل ذلك مما يحصل بالصناعات ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها بل لا بد أن يجبر هذا لذاك، وذاك بخيوط للأخر وآخر يتخذ الابرة له إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع بدونها ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بمعاملات فيما بينهم ولا ينتظم عليه العدل والأنصاف ضابط لما حصر له من الجزيئات لئلا يقع الجور فيخيل أمر النظام لما حيل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه، ويغضب على من يزاحمه وذلك

ص: 249

القانون هو الشرع ولا بد له من شارع يقرره على ما ينبغي متميز عن الآخرين بخصوصه فيه من قبل الخالق، واستحقاق طاعة، وانقياد وإ لا لما قبلوه ولك أن تستخرج من هذا الكلام بيد التفكر إلى المعجزة وغيرها.

«ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ»: اعطائهم.

«ومَعُونَتُهُمْ»: وأنت خبير بأنه عليه السلام لم يرد السفالة بحسب المكان بل بحسب المكانة ومقابلها العدو علو الفضل والمجد وفي الخبر اليد العليا خير من اليد السفلى هي السائلة.

«وفِي اللهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ»: أشارة إلى أن كفيل لطف الله يتكفل أمورهم وعطاء فظل منه، ورحمةً يسعهم.

ثم أشار إلى ما يجب على الوالي من حقوقهم فقال:

«ولِكُلٍّ»: أي لكل واحد من طبقات الناس التي يجب حكومة الوالي.

«عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ فَوَلِّ مِنْ جُنوُدِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهِ ولِرَسُولِهِ

ولإِمَامِكَ وأَنْقَاهُمْ جَيْباً»: أي قلباً على التميز الجوهري: رجل ناصح الحسب أي أمين وهو للنهض حقيقة ووجه الشبهة أن كلاً منهما مخرج كل لما يليق به.

«وأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ ويَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ»: كلام حسن أي يجعل نفسه في راحة تمهید عذر الغير وروي، ويسرع إلى العذر أي اقامة الذر للمقصر ونحوه أو إلى قبول عذره؛ فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

«ويَرْأَفُ»: يرحم «بِالضُّعَفَاءِ ويَنْبُو عَلَى الأَقْوِيَاءِ»: أي يتجافي ويتباعد عليهم يقال: أنبيته ونبوت عليه أي دفعته عن نفسي.

ص: 250

«ومِمَّنْ لَا يُثِیرُهُ الْعُنْفُ»: أي على كل جند من لا يهيجه العنف ولا يزعجه ولا يظهر غضبه، وفيه إشارة الأمر بتولية من له رفق ومداراة مع المتولي عليه کما صرح به سابقاً.

«ولَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ»: إذ لو كان كذلك لا يتمشى أمور الولاية كما ينبغي وبالأخير يفقد الجزء الأعظم أعني السياسة «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ

والأَحْسَابِ»: من الإلصاق وروي کما ينبغي وبالأخير يفقد الجزء الأعظم أعني السياسة.

«وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ»: أي الشريفة «وأَهْلِ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ»: جمع سابقة وهي الخصلة من خصال الفضل يسبق به للإنسان فأنهم أولى وأحرى بالولاية ممن دونهم وذلك لأن دوحة المجد والسيادة عرفت فهم وذلك مانع من العدول عن العدل وأيضاً كأنهم يسمعون بأسماع القلوب ما قاله الصادق المصدوق ألا كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته أي مثل الراعي ووجه الشبهة حفظ الشيء وحسن التعهد لما استحفظه وفيه أن الراعي ليس مظلوماً لذاته وإنما أقيم ما أسترعاه المالك حفظ الرعية فيما يتعين عليه حفظ شراعهم والذب عنها لكل متصد لإدخال دخله فيها أو تحريف لمعانيها أو إهمال حدودهم أو تضييع حقوقهم وترك حماية من جار عليهم ومجاهدة عدوهم؛ فينبغي أن لا يتصرف في الرعية إلا بأذن الله ورسوله ولا يطلب أجرة إلا من الله كالراعي وهذا تمثيل لا يرى في الباب ألطف وأجمع ولا أبلغ منه ولا الجامعون بين الأحساب والأنساب أحرى بذلك فأن لم يكن فينبغي أن يعتبر الحسب وإلى ذلك أشار بقوله: «ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ»: هذه الواو للتفسير.

ص: 251

«والسَّخَاءِ والسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ»: المعروف يمكن أن يقال في تقديمه عليه السلام الشجاعة على السخاء وهي على السماحة إشارة إلى تقديم كل منها على الآخر في الاعتبار على تقدير عدمها.

«ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا»: أي كن رحیماً شفيقاً عليهم شفقة الأب والأم على ولدهما وضميرهم راجع إلى الطبقات ويحتمل احتمالا رجوعه إلى ذوي الأحساب ومن بعدهم.

«ولَا يَتَفَاقَمَنَّ»: اي ولا يعظمن فِي «نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ»: فأن ذلك من الشيطان فأنك أذا نظرت بعين البصيرة وجدت أن ما يترتب على ذلك في الدنيا والعقبي بالنسبة إلى المعاظم في نفسك أكثر وأكثر مراتب كثيرة.

«ولَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ»: تحفظهم «بِهِ وإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ»: قال: أنما كان داعية للتأكيد كما يقال رجل راوية للشعر والصحيح أنه من قولهم داعية اللبن لما يترك في الضرع ليدعوا ما بعده وفي الحديث دع دواعي اللبن.

«ولَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ»: دقيق «أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا»: عظيمها «فَإِنَّ لِلْيَسِیرِ»: أي القليل «مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ ولِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ ولْيَكُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ»: مساعداته قيل واساهم الأصل من الأسوة فأبدل من الهمزة واواً.

«وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ»: من كان خلفهم.

«مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ»: أي المتخلفون عن القتال: وهم النساء والصبيان وهو

ص: 252

جمع خالف أي متخلف من قوله تعالى: «فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ»(1)ويقال(2): الحي خلوف أي قد خرج الرجال وبقيت النساء.

«حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ»: وفي الميل والشفقة.(3)«ولاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ»: نصيحة الرعية لك.

«إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ»: بعطفهم ووثوقهم.

عَلَى وُلَاةِ الأُمُورِ وقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ»: أي الاستثقال الذي بسبب دولتهم فأن من سلك فعله أحد إلى من سواه وقيل البلاء السيء هاهنا.

(4)«ولاَ تُقَصَرِّنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ»: فان التقصير سبب للفتور وقد يؤدي إلى فتور أمور الجمهور ومن فعل فعلاً حسناً فجزاه الحاكم جمیلاً يشتعل نار الشوق فيه ومن رآه يحرص على ذلك، ولأجل ذلك قال عز من قائل من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله وقال صلى الله عليه - وآله - وسلم الحسنة يضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

«ولَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِیراً ولَا ضَعَةُ امْرِئٍ

ص: 253


1- سورة التوبة: الآية 83
2- القول: لأبن عرفه: يُنظر عمدة القاري للعيني: ج 4 ص 29
3- ورد في بعض متون النهج: وإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیِنْ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ
4- ورد في بعض متون النهج: وتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللهُ. ثُمَّ أُعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ولَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ

إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»: فأن الجزاء بقدر العمل وشرف العامل وصنعه بمعزل عن ذلك ومن فعل ذلك كان خارجاً عن طور العدل واقعاً في طريق الجور.

«وارْدُدْ إِلَی اللهِ ورَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ»: لتقلك وفي بعض النسخ بالطاء أي ما يهمك والطالع المهتم وقيل هو من طلع التغير أي غمر في مشيته وأطلعه غيره ثم بين ما أجمله بقوله:

«مِنَ الْخُطُوبِ»: الأمور العظام.

«ويَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الأُمُورِ»: بسبب اختلاف الآراء.

«فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ: اختلفتم فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(1)والرَّدُّ إِلَی الرَّسُولِ الَأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَیِرْ الْمُفَرِّقَةِ»: وصفوا السنة بالجامعة غير المتفرقة كقولهم ليلة قائم معنی کلامه عليه السلام ان اتبع ما حكم به العقل الخالص؛ فأن أشتبه عليك أمر من أمور الدين ولم يصل العقل إلى إدراكه وحده فأعتصم بالكتاب والسنة؛ فأن الله سبحانه أمرنا بذلك وحكم الآية الكريمة عام فلا محالة يقال بأن الرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه وإلى الرسول الأخذ بسنته إذ الرسول أنتقل من عالم الفناء إلى عالم البقاء ولا يمكن الرد إليه وسبب ورود الآية الكريمة أنه صلى الله عليه [وآله] وسلم بعث خالد بن الوليد إل سرية من سرايا حي من إحياء العرب، وكان معه عمار بن یاسر نسار خالد حتی دنا من القوم عرس فأتاهم النذير غیر رجل منهم وكان قد اسلم فأمر أهله

ص: 254


1- سورة النساء: الآية 59

أن يتهيؤوا للمسير ثم انطلق حتی أتی عسکر خالد ودخل على عمار فقال:

يا أبا اليقظان إني منكم، وإن قومي لما سمعوا بکم هربوا، وأقمت لإسلامي، أفنا فعي ذلك، أو أهرب کما هرب قومي؟ فقال: أقم فإن ذلك نافعك، فانصرف إلى أهله، وأمرهم بالمقام وأصبح خالد فغار على القوم، فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فأتاه عمار فقال: خل سبيل الرجل فإنه مسلم، وقد كنت أمنته وأمرته بالمقام، فقال خالد: أنت تجير علي وأنا الأمير؟ فقال: نعم أنا أجير عليك وأنت الأمير، فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، فأخبروه خبر الرجل، فأمنه النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، وأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه.

فأنزل الله هذه الآية أطیعوا الله في فرائضه وأطيعوا الرسول في سنته وقيل أطيعوا الله فيما أمر مجملاً وأطيعوا الرسول فيما أمر مفصلاً وأولى الأمر منکم. أبو هريرة والسدي في جماعة أمراء السرايا الذين يؤمرهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وخلفائه بعده مجاهد وعطاء في جماعة هم العلماء وكلاً القولين عن أبن عباس فأن تنازعتم في شيء أي اختلفتم في شيء من أمر الدين وأدعى أن كل واحد أن الحق هذه فردوه إلى الله والرسول في شيء من أمر الدين وأدعى أن كل واحد أن الحق هذه فردوه إلى الله والرسول حال حياته وإلى كتاب الله وسنة نبيه وأئمة الهدى من بعده.

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ»: یعنی یکون مرضياً عندهم ويرضى به كل من له الحكومة والمحك اللجاج محك.

ص: 255

«ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ»: لا بلغ المدى في الخطأ «ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ»: أي لا يعجز من الرجوع «إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ»: معناه أن حکم به بباطل في أمر ثم عرفه الحق في ذلك يرجع ويترك الباطل الذي كان قد حكم به ولم بغي بذلك.

«ولَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ»: أي لا يكون طماعاً وأشرفت عليه أطلعت عليه وهو أن يرفع بصرك نحوه ينظر إليه ويعلوا عليه ويبالغ في طلبه العلم ولا يكتفي بالقليل ثم أستعير للارتفاع المعنوي.

«ولَا يَكْتَفِي»: لا يقنع «بِأَدْنَى»: أقرب «فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ»: أبعده أي أذا أعرف شيأ من المسألة لا يرضى من نفسه الاقتصار عليه حي يفتش من تفريعاته يقف عند الشبهة حتى يعرف الحقيقة ويظهر الحق.

«وأَوْقَفَهُمْ»: أكثرهم توقفاً «فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ»: أكثرهم أخذا «بِالْحُجَجِ وأَقَلهُمْ تَبَرُّماً»: ملالاً «بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ وأَصْرَمَهُمْ

عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ»: بينة أي أقطعه وأمضاهم للحكومة وينبغي أن يكون القاضي «مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ»: لا يستحقه مدح «ولَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ»: أي لا تحمله على الميل عن الحق حرصه.

«وأُولَئِكَ قَلِيلٌ»: روى عنه عليه السلام أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله إلى اليمن قاصياً فقلت: «یا رسول الله ترسلني وأنا حديث سن، ولا علم لي بالقضاء فقال: أن تستهدي قلبك ويثبت لسانك إذا تقاضى إليك رجلان فلم يقض لأول حتى يسمع كلام الآخر فأنه أجرى أن يتبين لك القضاء قال: فما شكلت في قضاء بعد»(1).

ص: 256


1- يُنظر: شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج 2 ص 301؛ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي 402؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر يشوب: ج 1 ص 74

ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ: يذها ويبعدها أراد بها العلة الباطنية يعني الحرص وكثرة الطمع وإطلاقها عليه باعتبار أنه سبب فساد العمل كعلة بالنسبة إلى الأعضاء.

وتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ وأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَیْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ: الإعطاء.

اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ: وهو مصدر اغتياله إذا أخذه من حيث لم يدر.

فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً: تأكيد لجميع ما أمر به من قبل.

فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِیراً فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا: أما حال من الدين أو أخبر بعد خبر أستعير له الأشتر لأنه كان مغلوباً لهواهم کالأسير بالنسبة إلى من أسره.

«ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً»: مسامحة من غیر استحقاق.

«وأَثَرَةً»: أختياراً بالشهوة(1)«وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والْقَدَمِ فِي الإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ: لأعمالك أناة ويقال»: هو من أهل البيوتات أي أصيل في الخير وغريق في الصلاح.

«فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وأَصَحُّ أَعْرَاضاً»: جمع عرض وهو ما يمدحه به الرجل ويذم.

«وأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً وأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً ثُمَّ أَسْبِغْ »: أتمم «عَلَيْهِمُ

ص: 257


1- ورد في بعض متون النهج: فَإِنُهَّمَا جَمِاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ

الأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا»: خانوا «أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ»: أي تعهد «وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ

لأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ»: بعث وحث «لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأَمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»: أذا اطلعوا على ذلك «وتَحَفَّظْ مِنَ الأَعْوَانِ»: العنوان المتوسط بين الشين وجعل کناية عن من النساء واستعير للحرب التي قد تكررت والتحفظ تكلف الحفظ لضعف القوة الحافظة.

«فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَی خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ»: أن حرف الشرط يقتضي الفعل وارتفع أخذ عيونك فاعل ما اجتمعت والهاء عايدة إلى الجباية والجملة الفعلية صفة الجباية وجواب الشرط.

«اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ»: الأجماع «شَاهِداً»: علي جباية «فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ»: أعلمته وشهرته.

«بِالْخِيَانَةِ وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ»: ليكون غيره لغيرة «وتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ»: الخراج «وصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ»: غيرهم «ولَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ لأَنَّ النَّاسَ كُلهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وأَهْلِهِ ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ لأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ»: شرعاً «ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ ولَمْ «يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا»: من الزمان أو قليلاً من الأمر ولكل وجه «فَإِنْ شَكَوْا عِلَّةً»: في الزراعة «أَوْ ثِقَلًا»: زيادة على قدره «أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ»: نصيب من الماء «أَوْ بَالَّةٍ»: كناية عن الماء القيل قدر ما تنل به ويقال لا تبلك عينين بآلة أي لا يصيبك من ندی ولا خير.

ص: 258

«أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ»: بغيرها مما كانت يقال أجالتا لأرض إذا لم تحمل وتحول بنقل كأنها من الحال التي يمكن أن تزرع إلى غيرها والأرض المستوى التي ليست بمستوية لأنها استحالت عن الاستواء إلى العوج «اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ»: سترها وغلب عليها «أَوْ أَجْحَفَ بِهَا»: أهلكتها.

«عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ ولَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمُئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ»: أي التخفيف «ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ وتَزْيِینِ وِلَايَتِكَ»: أي بالآخرة يرجعون بفائدته عليك «مَعَ اسْتِجْلَابِكَ»: جلبك «حُسْنَ ثَنَائِهِمْ»: في بعض النسخ: نياتهم «وتَبَجُّحِكَ»: سرورك ««بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ»: ساعة وعمومه «فِيهِمْ مُعْتَمِداً»: حال من الكاف ««فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ»: لراحتك «لَهُمْ والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ

بِهِمْ»: أراد أنك عليهم من سحاب فيضك وعدلك سجال الأفضال غرست في رياض قلوبهم شجرة محبتك وزرعت في أراضي صدورهم حب الثناء عليك وحينئذ تتكل عليهم وحين الاحتياج تلتجي إليهم فيمدونك بالأموال والمهج.

فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ»: أي من بعد أن حدثت قلوبهم واعتمدت بما ذكر «احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ

مَا حَمَّلْتَهُ وإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ»: أي يفتقر أهل الأرض؛ بأن يطمع واليها على جمع المال ويظن أنه سيعيش ويبقى طويلاً ويطمع في البقاء ولا ينتفع بهلال من كان قبله من الولاة وأما من وفقه الله لرؤية حال الولاة السابقة وأنهم «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٭ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ

ص: 259

٭ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ٭ كَذَلِكَ»(1)«فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»(2)يرى بعين اليقين، ويعلم علم اليقين أن مثل الحياة الدنيا «أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا»(3)وواعظ نفسه المطمئنة يومأُ فيوماً بل الساعة يذكره ويقول له يا خاطب الدنيا الدنية أنها شرك الردي، وقرارة الاكدار، دار متی ما أضحكتك في يومها أبكتك غداً، بعداً لها من دار غاراتها لا تنقضي وأسيرها لا يقتدى بحلائل الاخطار فأقطع علائق حبها، وظلا بها بلق الهدی ورقاهة الأشرار فيبتغي إلى ذخيرة يوم المعاد وتخفيف الظلم، والتنقل على العباد.

«ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ»: أجعل والياً «عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ واخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الأَخْلَاقِ»: فأنه حقيق بالاعتماد وهو يكون «مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ»: البطر شدة المزح والنشاط وقد بطر بالكسر وأبطره المال والبطر أيضاً الخير وأبطره إذ هناء ومن المراد به الجمع وهو مفرد اللفظ وأن جاز الجمع قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ»(4)«مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ»(5).

«فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلأٍ»: فأن من يبطره الاکرام قد يجترئ على الإمام بحضرة جماعة من الأشراف العظام فيخالف وذلك يكون تنزيلاً من مرتبة وقد يفضي إلى عدم الاطاعة.

ص: 260


1- سورة الدخان: الآية 25 - 27
2- سورة الدخان: الآية الآية 29
3- سورة الكهف: الآية 45
4- سورة يونس: الآية 42
5- سورة الأنعام: الآية 25

ويكون ممن «لَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ وإِصْدَارِ»: اخراج «جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ»: أي على طريق الصواب «عَنْكَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ ويُعْطِي مِنْكَ »: مثلاً «ولَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ»: العقد الجمع بين أطراف الشيء ويستعمل ذلك في الأجسام ذلك في الأجسام الصلب كعقد الحبل وعقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيره أي يكون كيّساً متين الرأي ذكياً مخادعاً بقلب العدو من حال إلى حال.

(1)«ولاَ يْجَهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِ الُأمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَیْرِهِ أَجْهَلَ»: وذلك لحمقه «ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ واسْتِنَامَتِكَ»: استنام: سكن وأطمأن إليه «وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ

الْوُلَاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ التعرف»: والتضيع وحسن الخدمة.

«مِنَ النَّصِيحَةِ والأَمَانَةِ شَيْءٌ»: الفراسَة قوة الظن وحسن الظن في الأمور أسم من قولك تفرست فيه خيراً وهو متفرس أي ينظر ويتعرف ما عند فلان أي يطلب حتى عرفت، والتصنع تكلف حسن السمت والطريقة والعرب تقول: للرجل الجَلّد الرجل؛ فيجدون قوة صفته تلك وهي مراده وقوله فأن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم أي الرجال الجَلاد يطلبون «ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا «وُلُّوا»: أي تولوا «لِلصَّالِحِینَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ»: فاقصد.

«لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وأَعْرَفِهِمْ بِالأَمَانَةِ وَجْهاً»: أثراً ووجها منصوبان على التميز.

ص: 261


1- ورد في بعض متون النهج: لَكَ ولاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ

«فَإِنَّ ذَلِكَ»: المذكور من الأحسية: والمعرفية «دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ»: أي لأجله «للهِ ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ»: وليت أمراً تقلدته.

«واجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ»: أي أجعل لكل أمرٍ سيداً ورئيساً منهم «لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا ولَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا ومَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ

عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ»: تغافلت عَنْهُ «أُلْزِمْتَهُ»: أي الزمت ذلك العنف مهما للشرط وجوابه، الرمية والمقصود النهي عن التغافل وأعلم أن الالتزام ضربان الإلزام بالتسخير من الله تعالى وبالقهر من الإنسان والزام بالحكم والأمر ومبنى الكلام هنا على التشبيه البليغ وجعل المشبه به كل نوع من الإلزام له وجه.

«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَیْراً»: أي استوص نفسك بالبحار والضياع خيراً وأوص غيرك بهم خيراً أيضاً.

وأوصي واستوصي بمعنى إلا أن أوصي يكون للغير وأستوصي للنفس ومفعولاً أستوصی محذوفان والتقدير أستوصی نفسك خيراً ونحوه أباح وأستباح وقول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم «استوصوا انفسكم»(1)وهنا حذف المفعول الثاني أيضاً لأن ما بعده تفسير له.

«الْمُقِيمِ مِنْهُمْ والْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ»: أي المسافر به وهو مفتعل من قوله تعالى «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ»(2)«والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ»: أي المنتفع بعمل بدنه أي يؤخر.

ص: 262


1- لم يرد بالنص النبوي هذا «استوصوا أنفسكم» بل أن أصل الحديث «استوصوا بالنساء خيراً»؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 4 ص 184؛ السنن الکبری للنسائي: ج 5 ص 372؛ شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ص 193
2- سورة النساء: ص 101

«فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ»: المنافع «وجُلَّابُهَا»: جمع حالب «مِنَ الْمَبَاعِدِ»: المواضيع البعيدة.

«والْمَطَارِحِ»: جمع المطرح وهو الأرض البعيدة.

«فِي بَرِّكَ وبَحْرِكَ وسَهْلِكَ وجَبَلِكَ وحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ولَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا»: حيث للمكان كحين للزمان عد عليه ما يقتضي إلا شفاق عليهم وفيه تنبيه على أنهم يحتملون المشقة، ولو عامل معهم بخلاف ذلك لم يجؤا، ولم يعاملوا فشد على ذلك الملك بفساد الرعية «فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ»: أي التجار أولوا سلم.

«لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ»: داهيته.

«وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ»: حقده شبههم أولا يعدو دخل في معرض السلم والمصلح ثم جعلهم نفسهما في المبالغة في رعايتهم.

«وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ»: جوانبها ونواحيها مستعارة للأرض هنا من حاشية الثوب وطرفه ثم نبه على أنهم وأن كانوا واجب الرعاية لكن إذا صدر عنهم قبيح يجب على الوالي نهيهم بقوله:

«واعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وشُحّاً قَبِيحاً واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ»: أحتباساً من البيع المنافع مخصوصة، ولذلك عرفها، وهي في الحنطة والشعير، والتمر، والزبيب، والسمن، والملح لأن الاحتكار لا يكون في شيء سوى هذه الأجناس، وهو أن يشتري في وقت الغلاء ولا يبيعه في الحال بل يدخره لتغلوا.

«وتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ»: أي يجعل الحكم له فيها له لأنه يفعل خلاف ما أمرته.

ص: 263

«وذَلِكَ»: الاحتكار «بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ»: فأن الرعية يقنطون منهم ویليق بحال الولاة سلوك الطريق فيها سعة للرعية.

«فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ»: حذف المفعول لأنه معلوم وليلاً يتوهم الاختصاص.

«فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَنَعَ مِنْهُ»: قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «من أحتكر فهو خاطئ الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»(1)، وقال: «من أحتكر طعاماً أربعين يوماً یرید به الغلاء فقد برئ من الله وبريء الله منه»(2)«ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً»: فيه نوع من الجود يقال: سمح به: جاد به.

«بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ»: لا يهلك «بِالْفَرِيقَیْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ»: خالط «حُكْرَة»: بضم الحاء وكسرها أي الأحتكاراً.

«بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وعَاقِبْهُ»: من قبيل التفسير «فِي غَیْرِ إِسْرَافٍ ثُمَّ اللهَ اللهَ»: قد سبق بسيان أعرابه «فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ

«والْمُحْتَاجِینَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى»: ضد العمى «والزَّمْنَى»: جمع الزمن وهو المبتلى المعروف: «فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً»: سائلاً «ومُعْتَرّاً»: الذي يعترض ولا يسأل فيفحص عن أحوالهم ولا يغفل عن حالهم والغرض البينية على الثاني.

ص: 264


1- ورد مقدمة الحديث في أغلب المصادر: وهو (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) يُنظر: الكافي للشيخ الكليني في الكافي: ج 5 ص 165، التوحيد للشيخ الصدوق: ص 390، من لا يحضره الفقيه أيضاً للصدوق: ج 3 ص 226 وكذلك عين نص الحديث في سنن ابن ماجه: ج 2 ص 728، السنن الكبرى لاحمد بن الحسين البيهقي: ج 6 ص 30
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 33؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 2 ص 12؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 4 ص 100

«واحْفَظِ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ»: وفي شأنهم من الزكوات والصدقات.

«واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ»: جمع صاف وهي الأرض العتمة.

«فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ للِأَقْصَى»: لا بعد مِنْهُمْ «مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ»: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها قال تعالى «بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ»(1)«فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهً»: الحقير «لإِحْكَامِكَ الْكَثِیرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ»: أي لا تدهنه من مراعاتهم.

«ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ»: أي لا تكثر عليهم.

«وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ»: يزدريه وتحتقره.

«الْعُيُونُ وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ»: وقضا مهماتهم.

«ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ»: ليرعى جانب الحق ولا تكسر قلوبهم.

«فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ»: حتى يجعلها حاصلة «ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ»: بأبداع العذر «إِلَی اللهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَیْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الإِنْصَافِ مِنْ

غَيْرِهِمْ»: لأجل فقرهم ومسكنتهم.

«وكُلٌّ فَأَعْذِرْ»: فاعذر: أقم العذر «إِلَی اللهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ»: أي انت إذا قضيت الحقوق خرجت عن عهدة الجواب يوم الحساب وإلا لا، وفي الخبر «ما من مسلم يلي عشرة فما فوق ذلك إلا آتی یوم القيامة مغلولاً يداه إلى عنقه، فکه

ص: 265


1- سورة الأنفال: الآية 47

بره، أو أوبقه أثمه، أولاها ملامة وأوسطها ندامة وأخرى عذاب يوم القيامة»(1)وقوله: أولها ندامة اشارة إلى من يتصدى للولاية فالغالب أن يكون غير مجرب للأمور بنظر إلى ملذاتها ظاهره فيحرص في طلبها ويلزمه أصدقاؤه ويراعيهم ولا يلتفت إلى حال أكثر الرعية سيما الفقراء ثم إذا باشرها ولحقته تباعاتها وما يؤل إليه من وخامة عاقبتها يندم وفي الآخرة خزي ونکال.

«وتَعَهَّدْ»: راع ويحفظ «أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ»: أي الشيوخ الكبار الذين بلغوا في السن غاية يُرق لهم ويرحم.

«مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ»: قال: صلى الله عليه [وآله] وسلم «أنا وكافل اليتيم أو لغيره في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينمها شيئاً»(2)«من مسح راس یتیم لم يمسحه إلا الله كان له بكل شعرة يمر عليها یده حسنات ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين من أوي يتمياً إلى طعامه وشرابه أوجب الله له الجنة إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر »(3)وأما الشيوخ فقد قال صلى الله عليه [وآله] وسلم في شأنهم وندبنا في اکرمهم، ما أكرم شاب شيخاً من أهل شيبة إلا قيض الله له عند شيبته من يكرمه، أن من أجلال إكرام ذي الشيبة المسلم وغيرهما.

«وذَلِكَ»: المذكور من التعهد وغيره.

ص: 266


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 267؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5 ص 205 أبن الأثير في أسد الغابة: ج 2 ص 28 بلفظ مختصر
2- شعب الإيمان لاحمد بن الحسين البيهقي ج 6 ص 283
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 250؛ فتح الباري لابن حجر: ج 11 ص 127؛ عمدة القاري: للعيني: ج 22 ص 306

«عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ»: لحرصهم ومحبتهم الدنيا «والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ»: لأنه خلاف ما تدعوا إليه الطبيعة.

«وقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ»: حسبوها على إقامة العدل وهو حبس النفس عن الجزع «فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ»: حبسوها على إقامة العدل وهو حبس النفس عن الجزع.

«ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً»: من الأيام والساعات «تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ»: ولا تجعله مشغولاً بغيرهم.

وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً»: لا يختص ببعض دون بعض لئلا يحرم بعضهم.

«فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ»: ورفع مكانك «وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ»: قيل سموا بها بذوي علامة يعرفون بها وقيل لكونهم أرذل الناس.

«حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ»: التعتعه في الكلام التردد فيه من حصر وعی وتعتعت الرجل اقلعته وروي متعتع بكسر الباء وفتحها اسم الفاعل من الأول والمفعول من الثاني.

«فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقُولُ فِي غَیْرِ مَوْطِنٍ»: أي في غير موضع واحد.

«لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ»(1):

ص: 267


1- تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص 142؛ مجمع الزوائد للهيثمي ج 4 ص 179؛ وشرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي ص 190؛ وربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري: ج 3 ص 396

التقديس التطهير الإلهي المذكور في قوله تعالى ويطهركم تطهيراً دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة أي لن تطهرهم يد العناية الإلهية من الأخلاق الذميمة وفيه وعيد لهم أيضاً فأن ذوي أخلاق الشر يستحقون النار.

«ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ»: ضد الرفق «والْعِيَّ»: الجهل فأن ذلك الاحتمال من الخصال المرضية والحلال المستحسنة عند الله وعند الناس «ونَحِّ»: بعد «عَنْهُمُ الضِّيقَ»: البخل يقال: ضاق الرجل بخل والضيق الفقير وسوء الحال وحمله على هذا المعنى فيه احتمال وتوجيهه أن من ينتهي بالآخرة إلى ما ذكر فالمقصود النهي عن خلاف ما أمر به فيكون كالتأكيد له «والأَنَفَ»: الاستكشاف: نظراً إلى رفعه شأنك ودناءة شانه فأن ذلك من الوسوسة الشيطانية.

«يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ»: التعقيد «أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ»: فأن من دَق دقُ ومن يَرحم يُرحم من جاء فله عشر أمثاله ومن جاء بالسنة فلا يجزي إلا مثلها.

«ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وأَعْطِ»: وفي بعظ النسخ وأعظه «مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً»: مهيناً كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا وخامة يقال: هنوء فهوا هنيء قال: تعالى «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1).

«وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ»: إقامة عذر فأن ذلك لا يليق بالكريم.

«ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا»: يعجز «عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ»: يضيق «بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ»: أراد قضاء حوائج لا يفتح بها أنفس الأعوان ولا بد للحاكم أن يلتفت بنفسه إلى ذلك.

ص: 268


1- سورة الطور: الآية 19

«وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ»: وما هو حقيق له «فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ»: فأن لكل ما فيه ولا يؤخر فأن في التأخير آفات.

«واجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وبَیْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ»: جمع الميقات وذلك ما بحسب الوقت وهو أوقات الصلاة والمناجاة وأما بحسب التوجه إلى الله فأن كل وقت يكون كذلك فهو أفضل من غيره.

«وأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ وإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا للهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ»: والإخلاص «وسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ»: لكن الأوقات مختلفة بعضها.

«ولْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ للهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً»: يصب على الحال من الضمير المستكن في له والعامل فيها معنى الفعل الذي دل عليه اللام في له وفيه تنبيه على أن الفريضة ينبغي أن يكون في بيتك خاصة له برية من الرياء والسمعة ومن أول الأحرام إلى آخر السلام لا يلتفت إلى غير الله.

«فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ»: من للتبعيض أي بعض يديك والإعطاء هنا استعارة لشغلها بالصلاة من حيث أن كلاً منهما سبب للقرب.

«ووَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اللهِ مِنْ ذَلِكَ»: المذكور «كَامِلًا غَیْرَ مَثْلُومٍ»: منکسر «ولَا مَنْقُوصٍ»: الأول أشارة إلى تمام الأركان وعدد الركعات والثاني إلى مراعات الأبعاض والهيئات وللتعميم وجه وجيه.

«بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ»: نصب على الحال من قوله: ما تقربت والعامل فيها وقت وفيه إشارة إلى أن لك الاختيار في التطويل والتقصير بعد الرعاية المذكورة.

«وإِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً ولَا مُضَيِّعاً»: بالتقصير المخل

ص: 269

فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ ولَهُ الْحَاجَةُ وقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم حِینَ وَجَّهَنِي إِلَی الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ فَقَالَ «صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ وكُنْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِيماً»(1): مزيد على الجواب وأَمَّا بَعْدَ: أي بعد الاشتغال بما تقربت به إلى الله.

«فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ»: استتارك بالحجاب «عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ»: قطعة «مِنَ الضِّيقِ»: البخل فأن البخل کما قيل بيان حسب الأعراق وسوء الأخلاق وذلك شعبة منه ظاهر.

«وقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأُمُورِ»: فيه مبالغة لطيفة أي الاحتجاج سبب قلة العلم بالأمور ثم بين ذلك بقوله:

«والِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ»: احتجاب الولاة «يَقْطَعُ عَنْهُمْ»: عن الولاة «عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا»: ما حجبوا عنه «دُونَهُ»: وذلك يفضي إلى انقلاب الأحوال «فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِیرُ ويَعْظُمُ الصَّغِیرُ ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ» وذلك لأنهم كانوا محجوبين غير مشاهدين أحوال الرعية يكون عملهم بأحوالهم والمعلم قل ما يخلوا عن الغرض وذلك يفضيه إلى أن يقول غير ذلك بقوله: «ويُشَابُ»: يخلط «الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ»: ثم أشار إلى علة ذلك بقوله: «وإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ ولَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ»: علامات «تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ»: أي أنواعه ثم أشار إلى أن الولاة قسمان قسم تستحي به

ص: 270


1- الطبقات الکبری: لأبن سعد: ج 7 ص 40؛ ولكنه نسب قول النبي صلى الله عليه وآله هذا إلى عثمان أبن العاص وبالواقع هو من النبي إلى الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام؛ المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 140؛ ربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري: 539؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني

نفسه فيجود ولا يحتجب من الرعية ويعمل كما قاله النبي والوصي، وقسم يبخل محجوب وذلك سبب لقنوط الرعية عنه والمنع عن مسألتيه وذلك قوله تعالى على سبيل منع الجمع والخلو.

«وإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَیْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ»: جادت «نَفْسُكَ»: الثقات لطيفة «بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ»: أي لا يكون احتجابك «مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ

أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ»: أي تعطيه «أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ»: أي البخيل يمنع الحقوق.

«فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا»: قنطوا «مِن عَدِلْك»: وفي بعض النسخ بَذْلِكَ والثاني من الولاة قبيح.

«مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ»: شكاية «مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ»: وذلك لا يقتضي الاحتجاب والمحتجب من أمثال ذلك ليس بمعذور شرعاً ولا عقلاً «ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً»: أي أخص أصحابه مستعارة من بطانة الثوب وقد سبق كلام في بيان الخبر المذكور.

«فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ»: طلب الفضل «وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ»: فاقطع «مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ ولَا تُقْطِعَنَّ»: من الأقطاع «لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ»: خدمك «وحَامَّتِكَ»: قرابتك «قَطِيعَةً»: إقطاعاً فأن ذلك بجلب النخوة والترفع «ولَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ»: أراد الصنعة «تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا»: العقدة «مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ»: نصيب من الماء «أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ»: الذي ضربته «لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ»: أما الدنيا فلأنه يقع في السنة الرعية ويعيبونه، وأما في الآخرة فلأنه يهان به حين الحساب.

ص: 271

«وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ»: ولا ترجيح القريب لقربه على البعيد «وكُنْ فِي ذَلِكَ»: الفعل «صَابِراً مُحْتَسِباً»: طالباً للآخرة والثواب «وَاقِعاً ذَلِكَ»: الإلزام «مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ»: أي ولا فرق بين قريب وقريب في هذا الحكم.

«وابْتَغِ»: اطلب «عَاقِبَتَهُ»: ثوابه «بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ»: عاقبة «ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ»: لأنه سلوك الطريق المستقيم والمنهج القويم.

«وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً»: ميلاً عن الحق وجوراً في الحكم.

«فَأَصْحِرْ»: أظهر «لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ»: اصرف «عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ»: بأضهارك العذر «فَإِنَّ فِي ذَلِكَ»: الإصحار(1)«وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ

تَقْوِيمِهِمْ»: تأديبهم وإصلاحهم.

«عَلَى الْحَقِّ ولَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وللهِ فِيهِ رِضاً»: وهوما یکون فيه مصلحة دينية ويكون الصلح خيراً.

فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً»: راحة «لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ»: أحزانك فأن من أراد أن يحارب العدو ويعترض له أنواع وأصناف الغموم بحسب الأوقات حتى ترجع ويستقر في مكانه «وأَمْناً لِبِلَادِكَ»: فأن العسكر المنهزم كثيرهم بل أكثرهم يعتصمون برسن(2)السوق وبذلك يرتفع الأمن «ولَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ

عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ»: صالح وأظهر التقرب «لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ

ص: 272


1- ورد في بعض متون النهج: رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ
2- الرسن: الحبل، وجمعه الأرسان، والمرسن: الأنف، وجمعه المراسن: يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 2 ص 242

بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ»: فأن العداوة بين الملوك المتعادين حيلته وما بالذات لا يزول بالغير.

«وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَیْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً»: أسم لما يعقد كناية عن العهد «أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً»: شبه الذمة للالتباس کما يدفع اللباس مضرة الملوك المتعادين حلته وما بالذات لا يزول بالغير.

«فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ»: وأحفظ «ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ»: الجنة الترس وهنا كناية أي اجعل نفسك وقاية دون ما أعطيته من العهد.

«فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ»: أشد مبتدأ ثانٍ ومن تعظيم الوفاء خبره والمبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأول ومحل الجملة نصب لأنه خبر ليس ومحل ليس مع أسمه وخبره ورفع لأنه خبره خبر قوله: فأنه وشيء أسم ليس ومن فرائض لو كانت متأخراً لكان صفة لشيء والآن لما تقدم فهو حال كقول الشاعر:

لعزة موحشا طلل قدیم ٭٭٭ عفاها کل أسحم مستديم

والمراد أن الناس وأن الناس وأن كانوا مختلفين في الآراء كل يعمل بحسب رأيه إلا أنهم متفقون على أن نقض العهد قبيح والوفاء به حسن والأمر بوفاء العهد في التنزيل الكريم كثير وفي الخبر النبوي كذلك وقد ذكرت نبذ منهما فيما سبق ثم أشار إلى الكفار لا تعذرون فيما بينهم لما عملوا من سوء عاقبة الغدر وذلك قوله:

ص: 273

«وقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ»: يعني إبقاء العهد فيما بينهم لما علموا من سوء عاقبة الغدر وذلك قوله:(1)«فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِيَن»: أراد أن ذلك محفوظ عند المشركين «لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ»: استوبلوا من الوبال الجوهري: استوبلت البلد استوجهه وذلك أذا لم يوقفك في بدنك وإذا عرفت قباحة الغدر واتفاق الناس عليها.

«فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ»: معانهما واحد.

«ولَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ»: أي لا يخدعنك. «فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ»: بمخالفة أمره ونقض العهد؛ «إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ»: ذهب به إلى الفضاء «بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ»: کنی بالإفضاء عن الاشتهار وشبه العهد بما يذهب به إلى الفضاء في عدم الأحقاد والخفاء وذلك لم يكن إلا برحمته وفضل منه أذ ليس بواجب على الله اللطف.

«وحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَی مَنَعَتِهِ»: حفظه شبه بالجريمة في أن كلاً منهما سبب الحفظ فاستعير له أراد أن الله جعل عهده أمناً ليسكن برحمته إلى منعته ويقال فلان في عز ومنعة بالتحريك وقد يسكن.

عن السكيت: ويقال: المنعة جمع المانع مثل کافر وكفرة أي هو في عز ومنعة من عشيرته. «ويَسْتَفِيضُونَ إِلَی جِوَارِهِ»: أي يسلمون بالكسرة إليه والمستفيض الذي يسيل مثل إفاضة الماء وغيره وفاض الماء كثر حتى سال وقيل أي يفزعون إلى جوازه بسرعة وهو قريب مما ذكرناه، شبه العهد بالملك في أنه يفزع إلى جواره ليحفظ كذلك يفزع إلى العهد وجوازه.

ص: 274


1- ورد في بعض متون النهج: الْمُشِرْكُونَ

والاستفاضة ترشيح وإذا عرفت شأن العهد.

«فَلَا إِدْغَالَ»: فلا فساد «ولَا مُدَالَسَةَ»: أي لا تلبيس ولا مخادعة بقوله:

«ولَا خِدَاعَ فِيهِ»: من قبيل التفسير «ولَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ»: كناية عن أحكام أركانه وشبه ما يعرض له بالعلل في أن كلاً منهما سبب الفساد فأستعير لفظه.

«ولَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ»: الأحكام وقد سبق الكلام في بيان التوثقة ظاهر قول من يقول: أن العدو ونقضوا عهدك وهم على المحاربة بعد تأكيد العقد وقيل تعتمد على العدول عن الصواب.

«ولَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ: انکشافه وفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ

تَبِعَتَهُ»: عقوبته أراد أنك إذا ضاق عليك جهات عسكرك لا تنقض العهد لأجل سمعتهم فأن الصبر مفتاح الفرج والصبر على ضيق الدنيا خير من عقوبة العقبي.

«وأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ»: مطالبته ومؤاخذه عطف على غدر.

«لَا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ ولَا آخِرَتَكَ»: صفة لقوله طلبه أي لا يستقبلك دنياك فالمفعول محذوف: «إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ»: عقوبته.

«ولَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ ولَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا»: هذا في الدنيا.

«واللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»:

ص: 275

وإذا عرفت مضرة سفك الدما.

«فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ»: ملك «بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ»: السفك «مِمَّا يُضْعِفُهُ»: الملك «ويُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ ويَنْقُلُهُ ولَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ ولَا عِنْدِي فِي قَتْلِ

الْعَمْدِ»: وهو أن يقصد الفعل والشخص ويكون محضاً، وإلا فأن لم يقصد الفعل أو قصد ولم يقصد الشخص فخطأ فلو قصد أصابه أحد رَجُلين فخطأ وأن لم يكن محضاً فشبه العمد، وهو أن يقصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالباً وكثير من العلماء قالوا إذا ضربه عمداً بما يموت به غالباً فمات منه فهو عمد، فأن لم يمت به غالباً فمات منه فشبه عمد، وأشار إلى أن لا غدر بقوله: «لأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ»: أي في العمد القصاص «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)«وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَأٍ وأَفْرَطَ

عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ»: أفرط في الأمر أي جاوز فيه بالعقوبة عجلت بها فأن الزكاة الضربة بالكف مجموعة.

«فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ»: الضربة بالكف مجموعة.

«فَمَا ففَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلَا تَطْمَحَنَّ»: لا ترفعن «بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ»: تكبر ملكك.

«عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ»: فأنك تكون ظالماً وقد عرفت نبذاً من خطراته.

«وإِيَّاكَ والإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ الإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ»: المذكور من الاعجاب والثقة والمحبة.

ص: 276


1- سورة المائدة الآية 45

«مِنْ أَوْثَقِ»: أشد وأحكم.

«فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ»: يهلك ويبطل «مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ وإِيَّاكَ والْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ»: تكلف الزيادة «فِيمَا كَانَ

مِنْ فِعْلِكَ»: فأن الله سبحانه نهی عن ذلك «وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ»(1)«أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ

فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإِحْسَانَ والتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ والْخُلْفَ»: خلاف الوعد.

«يُوجِبُ الْمَقْتَ»: البغض والغضب «عِنْدَ اللهِ والنَّاسِ»: أما عند الناس فظاهر ويعلم بالوجدان وأما عند الله قَالَ اللهُ سبحانه: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(2)ضمير مقاتل فاعل أي أكبر المقت مقتاً وأضمر على شريطة التفسير وحسن أن كبر یکون مقتاً خبراً للقول لأنه بمعنى الذم تقديره قولكم ما لا تفعلون مذموم كقولك زيد نِعم الرجل رجلاً فزيد مبتدأ وما بعد الخبر وليس فيه عائذاً لأن معناه المدح والتقدير، زيد الممدوح ومقتاً نصب على الحال ومحل أن يقولوا رفع على الابتداء أي قولكم ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أو على إضمار مبتدأ أي هو أن يقولوا ثم نهی عن التعجيل بقوله:

«وإِيَّاكَ والْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا»: أوقاتها والتثبط فيها.

(3)«عِنْدَ إِمْكَانَهِا»: أي التهاون فيها والتكاسل عند أمكان تلك الأمور.

«أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ»: حقيقة «فَضَعْ

ص: 277


1- سورة المدثر: الآية 6
2- سورة الصف: الآية 3
3- ورد في بعض متون النهج: أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا

كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ وإِيَّاكَ والِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ»: التقدير أحذرك الأستيثار وإياك أعني بهذه الوصية وفي ذلك تحذير عن أخذ حق المسلمين كلهم لأجل نفسه خاصة فما موصولة والمبتدأ والخبر بعدها صلتها أي الناس فيه سواء.

«والتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ»: أي التغافل عن الذي وجب عليك أن يحفظ وقيل أي الذي جعل عنايتك عفوية وتری کل عين ناظرة وحرمه عليك لغيرك.

«فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَیْرِكَ وعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأُمُورِ»: فیری الحسنات والسيئات توحيله.

«ويُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ إمْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ»: أضافها إلى الأنف تأكيداً وحمت عن كذا حمته أذا أنفت منه.

«وسَوْرَةَ حَدِّكَ وسَطْوَةَ يَدِكَ»: جملتها «وغَرْبَ لِسَانِكَ»: أي حديه.

«واحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ»: منع «الْبَادِرَةِ»: النادرة الغضب عمداً أو خطأ وأصلها الحدة يقال: خشى عليك بادرته.

«وتَأْخِیرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ»: أراد أوان اشتعال نار الغضب يذهب زمام الاختيار من يدك ويسلط عليك القوة الغضبية.

ولَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ»: الكف «مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَی رَبِّكَ»: فأن ذلك أمانة القوة الغضبية إذ لا يثور من الدنيا وخضرتها والمقصود النهي عن ذلك في الأمور الدنيوية ولا يكون إلا فيها فأنه ثوران دم القلب أراد

ص: 278

الانتقام ولذلك قال: عليه السلام أتقوا الغضب فان جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه.

«والْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ»: حديث «عَنْ نَبِيِّنَا صلّى الله عليه وآله وسلّم أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي

عَهْدِي هَذَا»: أي أوصيت أليك في وصيتي هذا أو فائدة هذا العهد كانت عامة شائعة لجميع المسلمين وأن لم يكن إلاشتر عمل به فأنه توفي عن قليل بعد ذلك.

«واسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِيِ عَلَيْكَ لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا»: أرد أني قد خرجت عن العهدة فأن على التضحية لك وقد نصحت فلو ذهبت إلى غير هذا الطريق فلي عليك حجة ولا عذر على النصيحة لك ومن أجل عدم التعليم وقوله کیلا يكون ثمرة هذه الوصية فلو لم يوص بها كان له عذر الجهل عند تسرع نفسه إلى هواها.

«ولا يُوَفَقْ للخَیرِ إِلْا الله»: كثرة خيره «وتَعْالَی» عما يقول الظالمون في شأنه علواً كبيراً.

«وقد كان فيما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم في وصاياه تخصیصاً»: بالنصب وقع والظاهر الرفع.

«الصلاة والزكاة»: فأن اهتمام الشارع بشأنهما كثيراً.

وما ملكت إيمانكم»: ورغب إلى محافظته ومراعاته.

«فبتلك»: الوصية «أختم لك بما عهدت ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»: ومن

ص: 279

هذا العهد وهو آخره:

«وأَنَا أَسْأَلُ الله بِسَعَةِ رَحْمَتِه وعَظِيمِ قُدْرَتِه عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ»: مرغوب كل شخص: فأن يداه ملآی لا تغيظها نفقته سجا الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فأن لم يغض ما في يده.

«أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاكَ لِمَا فِيه رِضَاه مِنَ الإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْه»: زمن الحساب وإِلَی خَلْقِه: أراد أن يوفقني وأياك لما لا يؤاخذ به ولا يعتبر بسببه.

«مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وجَمِيلِ الأَثَرِ»: أي العمل.

«فِي الْبِلَادِ وتَمَامِ النِّعْمَةِ وتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ»: فإنما الأعمال بالخواتيم فأن مات الشخص على الإيمان والطاعة علم أن أعمال الصالحة مفيدة له وسبب لنجاته من النار وأن مات نعوذ بالله على الكفر والمعاصي، يتبين أن أعماله الصالحة صارت ضائعة غير مفيدة ولهذا لا يجوز لأحد أن يشهد بكون أحد من أهل الجنة أو من أهل النار أو من إلا ما جاء النص بأنه من أهل الجنة أو النار ولاكن من رأيناه مشتغلاً بالأعمال الصالحة نرجو له السعادة من غير أن نقطع ومن رأيناه مشتغلاً بالأعمال القبيحة يخاف عليه الشقاوة من غير أن يقطع.

«إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(1): لأن الدنيا کان سجن أولياء الله وقد استعد لأدراك أعماله وحلاله والرتع في رياض أنسه ولا يكون ذلك إلا بالأعمال السيئة والخصال العلية وقد كان عليه السلام يتلألأ وجه من كثرة عبادته ويثور باطنه ولذا قال

ص: 280


1- سورة البقرة: الآية 156

صلى الله عليه النضر ((إلى وجه عليه السلام عبادة))(1)ومعناه على ما قيل أنه عليه السلام كان إذا برز قال الناس لا إله إلا الله ما أشرف هذا الفتى لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى كانت رؤيته يحملهم على كلمة التوحيد.

والسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ الطَّيِّبِنَ الطَّاهِرِينَ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِیراً: وأعلم أنه عليه السلام ختم الوصية بما فيه جذب إلى ما عهد به ونبه على أن العمل بمقتضاها يحصل بالأمداد السماوي والإسعاد الإلهي ونبه أيضاً على أنه ينبغي أن ختم الكلام بدعاء الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم فأنه منشأ الخيرات ومنبع البركات والله الموفق.

ص: 281


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سلمان الكوفي: ص 199؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ص 579؛ المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي: ص 293؛ المناقب لابن المغازلي: ص 173؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3 ص 142

ص: 282

المحتويات

ومن كتاب له عليه السّلام إلى جرير بن عبد الله البجلي، لما أرسله إلى معاوية...7

ومن کتاب له عليه السلام إلى بعض عماله وهو عبد الله بن العباس:...187

ومن وصيّة له عليه السّلام للحسن والحسين عليهما السّلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله...214

ص: 283

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.